بسم الله الرحمن الرحيم

( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )

التوبة : ١٢٢


كلمة الأُستاذ المحاضر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي تواترت نعماؤه ، واستفاضت آلاؤه ، والصلاة والسلام على سيّد أنبيائه وخاتم رسله أبي القاسم محمّد وآله الذين هم معجزة نبوته وآية رسالته صلاة دائمة لا نهاية لها.

أمّا بعد ، فقد سبرت هذا الجزء من كتاب « إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول » الذي قام بتحريره وترصيفه ولدنا الأعزّ العلاّمة الحجّة الثبت الشيخ محمد حسين الحاج العاملي حفظه اللّه وقد أودع فيه ما ألقيته على فضلاء الحوزة العلمية في قم المقدسة ، فوجدته كأجزائه السابقة وافياً للمراد ، بعيداً عن الإيجاز المخلّ ، والإطناب المملّ.

وجاءت هذه الأجزاء الأربعة على منوال واحد في حسن التعبير وروعة البيان ، وقد قام المؤلّف بهذا المجهود العظيم.

بعزمة دونها العيّـوق منزلـة

وساعد ليس تُثنيه الملمّات


فقد شمّر عن ساعد الجدّ ، وبذل غاية الجهد والكدّ ، وأسهر الناظر ، وأتعب الخاطر ، فجاء بصحيفة كاملة لدورة أُصولية ، بلغة واضحة ، تناسب لغة علم الأُصول ، فصار قدوة لأمثاله ، وأُسوة لأقرانه.

فجـزاه اللّه أحسـن الجزاء بما أسدى للمكتبة الإسلامية من خدمة كبيرة.

وأسأله سبحانه أن يرزقه خير الدنيا والآخرة ، ويوفقه لمزيد من العلم والعمل. وجعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه.

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق 7

١٢ محرم الحرام من شهور عام ١٤٢٤ هـ


كلمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمّد 6 وآله الطيّبين الطاهرين الذين هم أساس الدين وعماد اليقين صلاة دائمة زاكية غير منقطعة.

أمّا بعد ، فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا « إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول » أُقدمه للقراء الكرام عسى أن ينال الرضا منهم وقد اقتطفته من بحوث شيخنا الجليل والأُستاذ الكبير الذي كرّس نفسه للتدريس والتأليف وتربية جيل كبير من رواد العلم ، أعني : به شيخنا وأُستاذنا آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني ( مدّ اللّه في عمره الشريف ).

وهذا الجزء يحتوي على لبّ ما أفاده وألقاه في حوزة درسه على فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة وبه تتم دورة كاملة أُصولية ، وقد أشرف على ما كتبتُه ونسّقته فحظى بالرضا والقبول.


وحقيقة الأمر أنّي لم أكن أحلم ـ يوم حضرتُ مجلس درس شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله الوارف ـ بهذه النعمة العظمى التي لا تُنال إلا بهمة قعساء ، وجهود مضنية ، لكن سوابغ نعمه سبحانه ، وعميم فضله شملتني حتّى وفقتُ لتقديم موسوعة أُصولية تحتوي على أقوال المتقدّمين ، وأنظار المتأخرين للجيل الحاضر.

أشكره سبحانه على هذه النعمة الكبرى ، التي حباني بها ، وأسأله سبحانه أن يتقبله بقبول حسن ، ويرزقني حسن العاقبة.

محمد حسين الحاج العاملي

جبل عامل ـ جزين


الفصل الخامس

اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه؟

وقبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

١. المسألة أُصولية

البحث عن أحكام الضد مسألة أُصولية لوقوع نتيجتها في طريق الاستنباط ، لأنّه إذا ثبت اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه ، كالإزالة الواجبة بالنسبة إلى الصلاة ، تكون الصلاة منهيّة والنهي يوجب فسادَ متعلّقِه على القول بأنّ مثل هذا النهي يوجب الفساد فتُصبح الصلاة فاسدة ، كما أنّه على القول بعدم الاقتضاء يحكم بصحتها.

٢. المسألة عقلية أو لفظية

لو قلنا بأنّ المراد من الاقتضاء في عنوان البحث ( الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ) هو الملازمة بين إرادة الوجوب وإرادة النهي عن ضدّه ، تُصبح المسألة مسألة عقلية ، وأمّا لو قلنا بأنّ المراد من الاقتضاء هو دلالة الأمر سواء أكانت مطابقية أو تضمنية أو التزامية ، تكون المسألة لفظية أُصولية.


ومن هنا يعلم أنّ الجمع بين كون المسألة عقلية وتفسير الاقتضاء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية جمع غير صحيح ، فمن جعل المسألة عقلية ليس له إلا البحث عن وجود الملازمة وعدمه ، ومن جعل المسألة لفظية فعليه البحث عن كيفية الدلالة في مقام الإثبات.

٣. الضدّ العام والخاص

يُفسّر الضدُّ المطلق بالمعاند ، وهو إمّا ترك الشيء ـ كترك الإزالة ـ أو الشيء المزاحم للواجب كالصلاة بالنسبة إليها ؛ ويسمى الأوّل بالضدّ العام ، والثاني بالضد الخاص ، وكلّما أطلق الضد بلا قرينة ينصرف إلى الضد الخاصّ.

٤. محاور البحث

يتلخص البحث في هذا الفصل في محاور ثلاثة :

أ. حكم الضدّ العام.

ب. حكم الضدّ الخاص.

ج. الثمراث الفقهية للمسألة.

وإنّما قدمنا البحث عن الضدّ العام على الخاص ، لأنّ إقامة البرهان على اقتضاء الأمر النهيَ عن الضدّ الخاص مبني على اقتضائه النهيَ عن الضدّ العام.


المحور الأوّل : الضد العام

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العام أو لا؟

قد عرفت أنّ الاقتضاء إمّا بدلالة اللفظ ، أو بحكم العقل بالملازمة. فلنقدّم الكلام في دلالة اللفظ على البحث في حكم العقل بالملازمة ، فنقول :

إنّ دلالة الأمر على النهي عن الضدّ العام إمّا بالدلالة المطابقية ، أو بالتضمنية ، أو بالالتزامية.

أمّا الأُولى : فقد قالوا في بيانها ما يلي :

إذا أمر المولى بإزالة النجس عن المسجد فضده العام هو ترك الإزالة هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ النهي مطلقاً عبارة عن طلب الترك.

فعندئذ لو تعلّق النهي بترك الإزالة يكون مفادُه ، طلبَ تركِ تركِ الإزالة ، وهو نفس الأمر بالإزالة.

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه افترض أُموراً ، نحن أيضاً نفترض انّها صحيحة.

أ. انّ ضدّ الإزالة هو : ترك الإزالة.

ب : انّ مفاد النهي عن الشيء في عامة الموارد هو طلب الترك.

ج. انّ طلب ترك ترك الإزالة عبارة عن نفس الأمر بالإزالة.


نفترض انّ هذه الأُمور الثلاثة لا نزاع فيها وإنّما الكلام هل الأمر بالشيء يقتضي النهي الكذائي حتّى يكون النهي عين الأمر أو لا يقتضي؟ والمستدلّ لم يقم برهاناً على الاقتضاء ، ومن المعلوم أنّ الكلام ليس في عينية ، الأمر بالشيء مع النهي عن ترك الترك ، وإنّما الكلام في اقتضاء الأمر وانّه يتولّد منه ذلك النهي الكذائي.

وثانياً : لو افترضنا وجود النهي الكذائي فهو ليس عين الأمر بالإزالة مفهوماً ، نعم عينه مصداقاً ووجوداً ، ومحل النزاع هو الأوّل لا الثاني.

وثالثاً : أنّ الاستدلال مبني على أنّ مفاد هيئة النهي في عامة الموارد هو ( طلب الترك ) ، فإذا أُضيف إلى الضدّ العام ( ترك الإزالة ) يكون حاصل المجموع طلب ترك ترك الإزالة لكن مفهوم النهي هو الزجر عن الطبيعة ، لأنّ النهي مشتمل على هيئة ومادة ، فالهيئة تدلّ على الزجر ، والمادة تدلّ على الطبيعة فأين الدال على طلب الترك؟

هذا كلّه حول الدلالة المطابقية.

وأمّا القول بالاقتضاء بالدلالة التضمنية فهو يَكْمُنُ في تحليل قولنا : « أزل النجاسة » حيث إنّ الأمر عند القائل « طلب الشيء مع المنع عن تركه » بحيث يكون المنع عن الترك جزء مفاد الأمر.

يلاحظ عليه : بأنّ الأمر مشتمل على الهيئة والمادة ؛ والهيئة تدلّ على إنشاء البعث ، والمادة على الطبيعة ، فما هو الدالّ على المنع عن الترك؟

هذا كلّه حول الدلالة التضمنية.

وأمّا الدلالة الالتزامية فهي إمّا بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص بأن يكون


نفس تصور الوجوب كافياً في تصور المنع عن الترك ، وإمّا بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم بأن يكون تصور الطرفين والنسبة كافياً في التصديق بالاقتضاء والدلالة.

أمّا الأوّل فواضح الانتفاء ، إذ كيف يمكن ادّعاء الدلالة الالتزامية بهذا النحو مع أنّ الإنسان كثيراً ما يأمر بالشيء وهو غافل عن تركه ، فضلاً عن النهي عن تركه.

وأمّا الثاني فلو افترضنا وجود ذلك النهي بعد تصور الأُمور الثلاثة ، فهو إمّا لغو ، أو غير باعث على النحو الذي ذكرنا في وجوب المقدّمة ، إذ لو كان مطيعاً فلا حاجة إلى النهي عن الترك ، وإن كان عاصياً فلا يكون النهي عن الترك داعياً وباعثاً.

أضف إلى ذلك : انّ ملاك الأمر وجود المصلحة في الفعل وعدمها في الترك ، كما أنّ معنى النهي عن الشيء وجود المفسدة في الفعل وعدمها في الترك ، فلو تواجد الأمر والنهي في مورد واحد فمعنى ذلك وجود المصلحة في الفعل والمفسدة في الترك وهو أمر نادر.

هذا كلّه إذا قلنا بالدلالة اللفظية ، وأمّا القول بالدلالة العقلية فبيانه هو ادّعاء الملازمة بين الإرادتين ، فلو أمر بشيء فلا محيص من ظهور إرادتين في نفسه وهو إرادة فعل الشيء وإرادة ترك تركها ، وإثباتها دونه خرط القتاد ، بل ليس في لوح النفس الإرادة واحدة فتارة تنسب إلى فعل الشيء ، وأُخرى إلى ترك الترك.

إلى هنا تبيّن انّه لا وجه لادّعاء الاستلزام لا لفظياً ولا عقلياً ، فلنعطف عنان القلم إلى بيان حكم الضدّ الخاص الذي هو بيت القصيد في هذا الفصل.


المحور الثاني

حكم الضدّ الخاص

والكلام في المقام هو نفس الكلام في المقام السابق ، غير أنّ البحث فيه كان في الضدّ العام وفي المقام في الضدّ الخاص ، وانّ الأمر بالشيء كالإزالة هل يدل على النهي عن الضدّ الخاص كالصلاة؟ فلو قال المولى : أزل النجاسة عن المسجد أو أدِّ الدين العاجل ، فهل يلازم النهي عن الصلاة وأمثالها ممّا يمنع عن القيام بالواجب المضيّق أو لا.

وقد استدلّ القوم على الدلالة بوجهين :

الأوّل : انّ ترك الضد مقدمة لفعل الضدّ الأهم ، وهذا ما نسمّيه بمسلك المقدمية.

الثاني : وجود الملازمة العقلية بين الأمر بالأهم والنهي عن المهم ، وهذا ما نسمّيه بمسلك الملازمة.

ولنقدم البحث في الوجه الأوّل على الثاني ، فنقول :

إنّ مسلك المقدمية مبنيّ على أُمور ثلاثة :

١. انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر الأهم.

٢. انّ مقدّمة الواجب واجبة ، فيكون ترك الصلاة واجباً بهذا الملاك.


٣. انّ الأمر بالشيء أي الأمر بترك الصلاة بحكم انّه مقدمة يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيض الترك وهو فعل الصلاة.

فلو ثبتت هذه المقدمات تكون النتيجة هي النهي عن الصلاة التي هي ضدّ عام لتركها وضدّ خاص للإزالة.

وبما انّ المهم من هذه الأُمور الثلاثة هو الأمر الأول نقدّم الكلام فيه.


مسلك المقدّمية

استدلّ القائل بالمقدّمية بالنحو التالي :

إنّ توقّف الشيء على ترك ضدّه ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين وقضيتهما الممانعة بينهما ، ومن الواضح انّ عدم المانع مـن المقدمات.

وحاصل الاستدلال : انّ الصلاة مانعة عن الإزالة ، وعدم المانع من أجزاء العلة ، وجزء العلة ككلّ العلّة مقدّمة.

وقد ناقش صاحب الكفاية هذه المقدّمة بوجوه :

المناقشة الأُولى : بينهما كمال الملائمة لا المقدمية

إنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقّق بحيث لا منافاة أصلاً بين إحدى العينين وما هو نقيض الآخر ( كالإزالة وعدم الصلاة ) ، بل كان بينهما كمال الملائمة ، فإنّ إحدى العينين مع نقيض الآخر في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر. (١)

وحاصل المناقشة : انّ المعاندة بين العينين وكمال الملائمة بين إحدى العينين ونقيض الآخر يقتضي انّ الجميع في رتبة واحدة ، وما يكون في رتبة واحدة

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٠٦.


لا يمكن أن يعد إحداهما مقدّمة للآخر. (١)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني نقد هذه المقدمة ، وقال :

إنّ المانع هو ما يوجب المنع عن رشح المقتضي ، بحيث لولاه لأثر المقتضي أثره من إفاضة الوجود إلى المعلول فيكون الموجب لعدم الرشح والإفاضة هو وجود المانع ، وهذا المعنى من المانع لا يتحقّق إلا بعد فرض وجود المقتضي بما له من الشرائط فانّه عند ذلك تصل النوبة إلى المانع ويكون عدم الشيء مستنداً إلى وجود المانع ، وأمّا قبل ذلك فليس رتبة المانع ، لوضوح أنّه لا يكون الشيء مانعاً عند عدم المقتضي أو شرطه ، فلا يقال للبلّة الموجودة في الثوب أنّها مانعة عن احتراق الثوب إلا بعد وجود النار وتحقّق المجاورة والمماسة بينها وبين الثوب ، وحينئذ يستند عدم احتراق الثوب إلى البلّة الموجودة فيه.

ويترتب على ذلك عدم إمكان مانعية أحد الضدّين.

وذلك لأنّه لا يتصوّر المانعية للصلاة إلا بعد تحقّق أمرين متضادين :

١. وجود العلّة التامة الشاملة للمقتضي لتحقّق الصلاة في الخارج.

٢. وجود المقتضي والشرط للإزالة حتّى تكون الصلاة مانعة.

وذلك يستلزم وجود المقتضيين للضدّين ، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الضدّين ، كذلك لا يمكن اجتماع مقتضي الضدّين لتضاد مقتضيهما أيضاً ، وبعد عدم إمكان اجتماع مقتضي الضدّين لا يمكن كون أحدهما مانعاً عن الآخر. (٢)

__________________

١. ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني ناقش جواب المحقّق الخراساني كما ناقش السيد الإمام الخميني كلام المحقّق الاصفهاني ، وقد نقلهما شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة كما نقل نظره في كلام الإمام السيد الخميني ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « المحصول » لزميلنا السيد الجلالي المازندراني حفظه اللّه.

٢. فوائد الأُصول : ١ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.


ثمّ إنّ أساس الإشكالين السابقين من المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني كان مبنياً على تسليم كون عدم المانع مقدمة ولكن نوقش في خصوص كون عدم الضدّ مقدّمة لترك الضدّ.

وبعبارة أُخرى : كانت المناقشة في الصغرى مع قبول الكبرى ولكن الحقّ المناقشة في الكبرى وانّ عدم المانع على وجه الإطلاق من غير فرق بين المقام وغيره كعدم الرطوبة بالنسبة إلى الاحتراق ليس مقدّمة.

وذلك لأنّ الأصل في الخارج هو الوجود ، والعدم ليس له أيّ أصالة فيه وإنّما هو مفهوم ذهني يصنعه الذهن بتعمل ، مثلاً انّ الإنسان إذا دخل القاعة أملاً برؤية زيد ولم يره فيها ، فهو في الواقع لم ير شيئاً ولم يجد فيها شيئاً لا انّه يرى عدمه فيها ، لكن الذهن بالتعمل يصنع من هذا مفهوماً ذهنياً باسم العدم مع خلو صفحة الوجود عنه.

وعلى ضوء ذلك فلا معنى لجعل عدم المانع من أجزاء العلة ، إذ ليس له شأن التأثير أو التأثر ولا الموقوف ولا الموقوف عليه.

نعم لما كان وجود الضد مزاحماً لوجود الضد الآخر عُبِّر عن هذا التزاحم بأنّ عدم الضدّ شرط لوجود الضد الآخر ، وكم فرق بين القول بأنّ الضدّ مزاحم ، والقول بأنّ عدمه شرط.

وبعبارة أُخرى : انّ رطوبة الحطب أو القطن مانعة من تأثير المقتضي أي النار فيهما لا أنّ عدم الرطوبة شرط. فالأحكام كلّها للوجودات ( الرطوبة مانعة ) وينسب إلى الاعدام ( عدم الرطوبة شرط بالعرض والمجاز ) ، وإلى ذلك يشير المحقّق السبزواري في منظومته وشرحه ما هذا لفظه :


لا ميز في الاعدام من حيث العدم

وهو ، لها إذاً بوهم ترتسم

كذاك في الأعدام لا عليّة

وإن بها فاهوا فتقريبية

فلو قالوا : عدم العلّة علّة لعدم المعلول ، فهو على سبيل التقريب ، فانّ الحكم بالعلّية عليه ، بتشابه الملكات ، فإذا قيل : عدم الغيم علّة لعدم المطر ، فهو باعتبار انّ الغيم علّة للمطر ، فبالحقيقة قيل : لم تتحقّق العلّية التي كانت بين الوجودين ، وهذا كما تجري أحكام الموجبات على السوالب في القضايا ، فيقال : سالبة ، حملية ، أو شرطية ، متصلة أو منفصلة أو غيرها كلّ ذلك بمتشابه الموجبات. (١)

وعلى ضوء هذا يظهر ضعف ما أفاده المحقّق الاصفهاني حيث رأى أنّ لاعدام الملكات واقعية لكونها أمراً منتزعاً من الخارج فقال :

الاستعدادات والقابليات وأعدام الملكات كلّها ، لا مطابَق لها في الخارج ، بل شؤون وحيثيات انتزاعية لأُمور موجودة ، فعدم البياض في الموضوع ـ الذي هو من أعدام الملكات كقابلية الموضوع ـ من الحيثيات الانتزاعية منه « فكون الموضوع بحيث لا بياض له » هو بحيث يكون قابلاً لعروض السواد فمتمم القابلية كنفس القابلية حيثية انتزاعية. (٢)

وجه الضعف : انّ ما ذكره صحيح في الاستعداد والقابلية وحتى الإضافة فانّ القابلية في النواة والنطفة أمر تكويني موجود فيها دون الحجر ، وهكذا الإضافة كالأُبوّة والبنوّة ، فانّهما ينتزعان من حيثية وجودية من تخلّق الابن من ماء الأب ،

__________________

١. شرح المنظومة ، قسم الحكمة ، ص ٤٧ ، نشر دار العلم.

٢. نهاية الدراية : ١ / ٢٢٠.


فلكلّ واقعية بواقعية مبدأ انتزاعهما ، وأمّا الاعدام فليس لها واقعية سوى واقعية ملكاتها ، فالواقعية في عدم البياض هي لنفس البياض دون عدمه وفي عدم البصر لنفس البصر لا للعدم.

وما أفاده من أنّ متمّم القابلية كنفس القابلية مشيراً إلى أنّ « عدم المانع » متمم للقابلية ضعيف جداً ، فانّ قابلية الجسم لقبول البياض تامة لا نقص فيها ، وأمّا عدم قبوله له مع وجود السواد ، فليس لأجل نقص في القابلية ، بل لوجود التزاحم بين الوجودين ، فعُبِّر عن التمانع بأنّ عدم المانع شرط.

وعلى ما ذكرنا فالأولى رفض الكبرى على وجه الإطلاق لا قبولها والمناقشة في الصغرى.

وبذلك يظهر النظر فيما أفاده السيد العلاّمة الطباطبائي 1 حيث قال : ربما يضاف العدم إلى الوجود ، فيحصل له حظ من الوجود ، ويتبعه نوع من التمايز كعدم البصر الذي هو العمى المتميز من عدم السمع الذي هو الصمم ، وكعدم زيد وعدم عمر المتميز أحدهما عن الآخر. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ التميّز الذهني ، غير كون العدم ذا حظ من الوجود في الخارج ، فكلّ ما ذكره صحيح في الذهن لا في الخارج ، والكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل ، والتميز نوع ارتباط ذهني بين الأمرين الوجوديين فانّ العدم في عدم البصر ، عدم بالحمل الأوّلي ، لكنّه موجود بالحمل الشايع الصناعي.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني مناقشتين أُخريين حول المقدّمة الأُولى ، وإليك دراستهما.

__________________

١. نهاية الحكمة : ١٩.


المناقشة الثانية : قياس الضدّين بالنقيضين

إنّ المنافاة بين النقيضين كما لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين. (١)

هذه ، هي المناقشة الثانية التي وجّهها المحقّق الخراساني إلى المقدّمة الأُولى ، أعني : كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضد ، وتوضيحها كالتالي :

إنّ ارتفاع أحد النقيضين كرفع اللابياض ليس مقدمة لتحقّق النقيض الآخر ( البياض ) مع كمال المنافرة بين النقيضين ( البياض واللابياض ) ، بل رفع أحد النقيضين ملائم لثبوت النقيض الآخر.

فإذا كان هذا حال النقيضين فليكن حال الضدين أيضاً كذلك لوحدة الملاك وهو المنافرة بين العينين والملائمة بين أحدهما ورفع الآخر ، فلا يكون رفع البياض مقدمة لثبوت الضدّ الآخر.

وربما تقرّر المناقشة بوجه آخر وهو التمسّك بقانون المساواة ، بيانه :

إنّ النقيضين كالبياض واللا بياض في رتبة واحدة هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ الضدّين كالبياض والسواد في رتبة واحدة ، فينتج انّ اللا بياض في رتبة الضدّ الآخر أي السواد.

وذلك لأنّه لو كان اللا بياض في رتبة البياض ، وكان البياض في رتبة السواد ، تكون النتيجة انّ اللا بياض في رتبة السواد لقاعدة التساوي ، فانّ مساوي المساوي للشيء ، مساو لذلك الشيء. (٢)

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٠٧.

٢. المراد من المساوي الأوّل هو اللا بياض ومن الثاني البياض ، والمراد من الشيء هو السواد.


يلاحظ عليه : أنّ قانون المساواة إنّما يجري في المسائل الهندسية فيقال : انّ زاوية « أ » مساوية لزاوية « ب » ، وزاوية « ب » مساوية لزواية « ج » ، فينتج انّ زاوية « أ » مساوية لزواية « ج » ، وأمّا التقدّم والتأخّر والتقارن من حيث الرتبة فلا تعمّها القاعدة ، بل ثبوت كلّ تابع لوجود الملاك فيه وقد يوجد الملاك في أحد المساويين دون الآخر ، ولذلك قالوا : إنّ ملازم العلّة ليس متقدماً على المعلول رتبة مع أنّ العلّة متقدمة عليه كذلك وما هو إلا لأنّ ملاك التقدّم وهو نشوء المعلول عن العلّة موجود في العلة لا في ملازمها.

وعلى ذلك فلو كان البياض متحداً مع السواد رتبة لا يكون دليلاً على أنّ المتحد مع البياض ( اللا بياض ) متّحد مع السواد في الرتبة ، وذلك لفقد الملاك ، لأنّ اتحاد النقيضين في الرتبة لأجل انّه لولا الاتحاد يلزم ارتفاعهما وهو محال مثلاً إذا لم يصدق أحد النقيضين كالبياض فلو قلنا بأنّ النقيضين في رتبة واحدة فلابدّ أن يصدق اللابياض ، ولو نقل ، لا يلزم أن يصدق اللا بياض وعند ذاك يلزم ارتفاع النقيضين ، فظهر انّه لا محيص من القول بوحدة رتبة النقيضين وإلا يلزم ارتفاع النقيضين.

وهذا بخلاف اللا بياض والسواد فلا يلزم من القول بعدم الوحدة في الرتبة ، سوى ارتفاعهما وعدم صدقهما ولا محذور فيه.

المناقشة الثالثة : استلزامه الدور

هذه هي المناقشة الثالثة التي وجهها المحقّق الخراساني إلى كون الضدّ مقدمة للضدّ الآخر ، وبيّنها بالعبارة التالية :

لو اقتضى التضاد توقّفَ وجود الشيء على عدم ضدّه ، توقّفَ الشيء على


عدم مانعه ، لاقتضى توقّفَ عدمِ الضدّ على وجود الشيء ، توقّفَ عدم الشيء على مانعه ، بداهة ثبوت المانعية في الطرفين وكون المطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح. (١)

وربما يردّ الدور ـ بما في الكفاية ـ من أنّ توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر فعلي ، ولكن توقّف عدم الآخر على وجود واحد من الضدّين شأني ، مثلاً : انّ وجود السواد في محل متوقف فعلاً على عدم تحقّق البياض فيه ، وأمّا توقّف عدم الضدّ ( البياض ) على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي فلا دور.

أمّا كون التوقّف في جانب الوجود فعلي ، فلوضوح انّ توقّف وجود المعلول على جميع أجزاء علته ومنها عدم المانع فعلي ، لأنّ للجميع دخلاً فعلاً في تحقّقه ووجوده في الخارج ، وأمّا عدم الضدّ فلا يتوقّف على وجود الضدّ الآخر ، لأنّ عدمه يستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقّق المقتضي مع بقية الشرائط ليكون توقّفه عليه فعليّاً.

وقد أجاب عن الإشكال المحقّق الخراساني (٢) بأنّ الدور وإن ارتفع فعلاً لكن لم يرتفع شأناً ، لأنّ عدم الضدّ وإن كان موقوفاً عليه بالفعل ، لوجود الضدّ

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٠٧.

٢. لا يخفى انّ عبارة الكفاية في هذا المقام لا تخلو من إغلاق وغموض ، وذلك لأجل أمرين :

الأوّل : انّه فصل بين المبتدأ أعني قوله : « وما قيل في التفصي » والخبر أعني قوله : « غير سديد » بفاصل طويل يبلغ مقدار صفحة ، ومثل هذا يخل بالبلاغة.

الثاني : انّه أقحم بين الإشكال على الدور والإجابة عنه سؤالاً وجواباً تحت عنوان « إن قلت ، قلت » ، وزاد هذا تعقيداً على تعقيد.

وذكر شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ انّ السؤال قد طرحه تلميذه الشيخ عبد اللّه الكلبايكاني في درسه الشريف ، وأجاب عنه بما في الكفاية ، فمدّ اللّه عمر شيخنا الأُستاذ فقد أوضح ما في الكفاية بما لا مزيد عليه كما ترى.


الآخر ، ولكنّه أيضاً موقوف على وجود الضدّ الآخر شأناً ، بحيث لو وجد المقتضي للإيجاد يكون عدمه مستنداً إلى وجود الضدّ وهو أيضاً محال ، ضرورة استلزامه كون شيء مع كونه في مرتبة متقدمة فعلاً ، في مرتبة متأخرة شأناً.

تحليل المقدّمة الثانية من الاستدلال

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاص استدلّ بدليل ذات مقدّمات ثلاث :

الأُولى : انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، وهذا هو الذي تقدّم الحديث عنه.

الثانية : انّ مقدّمة الواجب واجب ، وقد مرّ الكلام فيه.

الثالثة : إذا كان ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم المقدّمة الأُولى ، وكان ترك الصلاة واجباً بحكم المقدّمة الثانية ، تصل النوبة إلى المقدّمة الثالثة وهي انّ الأمر بالشيء ـ وهو في المقام أمر مقدّمي ، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ـ يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيضه وهو هنا الصلاة ، فتكون الصلاة منهياً عنها.

وببركة هذه المقدّمات الثلاث يثبت انّ المولى إذا أمر بالإزالة فلا محيص له عن النهي عن الصلاة بحكم هذه المقدّمات.

أقول : إنّ المقدّمتين التاليتين كالمقدّمة الأُولى باطلتان.

أمّا الثانية فقد قلنا : إنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة مطلقاً من غير فرق بين المقام وغيره ، لأنّ الهدف من إيجاب المقدّمة هو إيجاد البعث والداعي في ذهن المخاطب ؛ وعندئذ فلو كان المخاطب قاصداً للإتيان بذيها ، فهو يأتي بالمقدّمة


بحكم العقل من دون حاجة إلى إيجابها ؛ وإن كان صارفاً عن إتيانه ، فلا يبعثه الأمر بالمقدّمة إلى امتثال ذيها لعدم ترتّب العقاب على تركها.

ومنه يظهر بطلان المقدّمة الثالثة وهو انّه إذا أمر المولى بترك الصلاة بحكم انّه مقدّمة فعليه أن ينهى عن ضدّه العام ـ أعني : ترك ترك الصلاة الذي هو مساو للصلاة ـ فانّ هذا النهي مثل الأمر بالمقدّمة إمّا لغو وإمّا غير باعث ، لأنّه لو كان ناوياً للإزالة فلا حاجة للنهي عن الصلاة ، وإن كان صارفاً عنها فلا يكون النهي عن الصلاة داعياً له إلى امتثال الإزالة.

وبذلك تمّ الكلام في المسلك الأوّل الذي أسميناه بمسلك المقدّميّة حيث إنّ المستدلّ يتطرق إلى مقصود عن هذا الطريق ، وبدوري أرفع آية الاعتذار إلى القرّاء الأعزاء من الإطناب في هذا البحث ، فانّ طبيعة البحث ألجأتني إليه.


المسلك الثاني : مسلك الملازمة

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام استدلّ بوجهين :

أحدهما : مسلك المقدمية وقد مضى الكلام فيه.

الثاني : مسلك الملازمة والاستدلال عن هذا الطريق مبني على أُمور ثلاثة :

أ : انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن ضدّه العام وهو ترك الإزالة.

ب : انّ الاشتغال بكلّ فعل وجودي ( الضدّ الخاص ) كالصلاة والأكل ملازم للضدّ العام ، كترك الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.

ج : المتلازمان متساويان في الحكم ، فإذا كان تركُ الإزالة منهياً عنه ـ حسب المقدّمة الأُولى ـ فالضدّ الملازم لها كالصلاة يكون مثلَه. فينتج انّ الأمر بالشيء ـ كالإزالة ـ مستلزم للنهي عن الضدّ الخاص.

يلاحظ على الأمر الأوّل بما مرّ من المنع عن اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه العام ، وانّ مثل هذا النهي المولوي لا يترتّب عليه أي أثر.

كما يلاحظ على الأمر الثاني بأنّه لا دليل على تساوي المتلازمين في الحكم ، إذ يمكن أن يكون الملاك موجوداً في أحدهما دون الآخر. بأن يكون ترك الإزالة حراماً ولا يكون ملازمة الصلاة حراماً لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.

نعم يجب أن لا يكون المساوي محكوماً بحكم مضاد لحكم المساوي ، فإذا


وجب الاستقبال إلى الكعبة لا يجوز أن يحرم الاستدبار إلى الجدي. نعم لا يجب أن يكون الاستدبار واجباً.

قد فرغنا عن الدليلين اللذين أُقيما على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص ، ولما كانت المقدّمة الأُولى للدليل الأوّل ، هو مقدمية ترك الضدّ ، لفعل الضدّ الآخر ، وقد عرفت بطلانه وكان للمحقّق الخوانساري تفصيلاً في المقام ، أحببت التعرّض له فأقول :

عود إلى مسلك المقدمية ثانياً

ذهب المحقّق الخوانساري إلى التفصيل بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم ، فذهب إلى توقّف الضدّ على ارتفاع الضد الموجود ولا يمكن ، فلو كان المحل أسود توقف عروض : البياض على ارتفاع السواد دونما إذا لم يكن أسود.

وأيّده المحقّق النائيني بقوله : إنّ المحل إذا كان مشغولاً بأحد الضدّين ، فلا يكون قابلاً لعروض الضدّ الآخر إلا بعد انعدامه ، ويكون وجوده موقوفاً على عدم الضدّ الموجود ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن شيء منهما موجوداً وكان المحل خالياً عن كلّ منهما ، فانّ قابليته لعروض كلّ منهما فعلية ، فإذا وجد المقتضي لأحدهما ، فلامحالة يكون موجوداً من دون أن يكون لعدم الآخر دخل في وجوده. (١)

يلاحظ على أصل الاستدلال بأنّ العدم أنزل من أن يكون موقوفاً عليه أو موقوفاً وحقيقة الأمر انّه يرجع إلى التزاحم بين الوجودين ، فعبّروا عن رفع التزاحم بأنّ ورود أحدهما يتوقّف على عدم الآخر ، ففيما كانت الفاكهة على الشجر سوداء ،

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٢٥٩.


وإن كان يمتنع عروض البياض عليها ، لكن لا لأجل كون عدم السواد مقدمة لعروض البياض ، بل لأجل التزاحم بين الوجودين فعبروا عن التزاحم بكون عدم السواد مقدمة لعروض البياض.

ويلاحظ على التأييد بأنّه أيضاً كأصل الاستدلال ، إذ لا نقص في قابلية الجسم ، بل هي كاملة سواء أكان الضدّ موجوداً أم لا ، وانّ عروض الضدّ لا يبطل القابلية للجسم ، وعدم قبوله لا للنقص في القابلية بل لأجل وجود التمانع بين الوجودين.

بحث استطرادي : إنكار المباح أو شبهة الكعبي

نقل الأُصوليون عن عبد اللّه بن أحمد الكعبي انتفاء المباح وانّ الأحكام تنحصر في الواجب والحرام قائلاً بأنّ ترك الحرام يتوقّف على فعل واحد من أفراد المباح فيجب بوجوبه بحكم كونه مقدّمة.

وما ذكره من الاستدلال مبنيّ على أُمور ثلاثة :

الأوّل : انّ النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العام ، فلو كان فعل الشيء حراماً كالكذب كان تركه واجباً ، وهذا نظير ما لو كان فعله واجباً ـ كالإزالة ـ كان تركه حراماً.

وبالجملة كما يتولد من الأمر بالشيء ، النهي عن الضدّ العام ، فهكذا يتولّد من النهي عنه ، الأمر بالضد العام.

الثاني : انّ الترك الواجب ( ترك الكذب ) يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية لاستحالة خلو المكلّف عن فعل من الأفعال الاختيارية.

الثالث : انّ مقدمة الواجب وهي الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الترك


الواجب واجبة فينتفي المباح.

يلاحظ على الأمر الأوّل : أنّه لا دليل إذا كان فعل الشيء حراماً أن يكون تركه واجباً لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام ، إذ هو لا يترتّب عليه أيّ أثر.

ويلاحظ على الأمر الثاني : أنّ الترك الواجب ( ترك الحرام ) لا يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية كالمباح ، وذلك لأنّ ترك الحرام مستند إمّا إلى فقد المقتضي الذي يعبر عنه بالصارف ، أو وجود المقتضي للضد الآخر. مثلاً : انّ ترك الكذب إمّا لأجل الصارف عنه خوفاً من اللّه سبحانه ، أو إلى وجود المقتضي للأضداد الأُخر كالأكل والشرب.

وعلى كلّ تقدير فالمقدّمة لترك الحرام ( أو للترك الواجب ) أحد الأمرين :

١. الصارف عن الحرام.

٢. وجود المقتضي لارتكاب الأكل والشرب وبالتالي لا يكون المباح مقدّمة.


المحور الثالث

في الثمرة الفقهية

قد عرفت أنّ الكلام في هذا الفصل يدور على محاور ثلاثة ، وقد مضى الحديث عن المحورين الأوّلين فلا نعود إليهما ، ولنركِّز على المحور الثالث وهو ثمرة البحث ، فنقول :

إنّ ثمرة البحث هي بطلان الصلاة وصحّتها على القول بالاقتضاء وعدمه ، فلو كان الأمر بالمضيَّق كالإزالة مقتضياً للنهي عن الموسَّع كالصلاة ، فالصلاة تكون محكومة بالبطلان ، ولو نُفِي الاقتضاء فلا تكون منهياً عنها وتكون صحيحة طبعاً.

نعم مجرّد ثبوت تعلّق النهي بالصلاة لا يكفي في استنتاج المسألة الفقهية بل يجب أن تُضم إليها مسألة أُصولية أُخرى ، وهي انّ النهي في العبادات موجب للفساد.

وعلى ضوء ذلك فاستنتاج البطلان موقوف على مقدّمتين : صغرى وكبرى.

فالصغرى أي تعلّق النهي يثبت في المقام.

وأمّا الكبرى فترجع إلى المقصد الثاني وهو انّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد.

وبذلك يعلم أنّ المسألة الأُصولية تارة تكون علّة تامّة لاستنتاج المسألة


الفقهية كما هو الحال في حجّية خبر الواحد ، وأُخرى تكون جزء العلّة كما في المقام حيث إنّ الصغرى على ذمّة هذا البحث والكبرى على ذمّة المقصد الثاني ، فبضم الأمرين يُستنتج الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ جماعة أنكروا الثمرة لوجهين :

الأوّل : انّ النهي ـ على فرض ثبوته ـ نهي غيري ، وهو لا يكشف عن وجوب المفسدة في المتعلّق فلا يكون ملازماً للفساد ، وإنّما يدلّ النهي على الفساد إذا كان كاشفاً عن وجود المفسدة في المتعلّق على نحو يكون مبغوضاً للمولى وهو من خصائص النهي النفسي لا الغيري كما في المقام. (١)

هذا من غير فرق بين كون النهي مستفاداً من مسلك المقدمية أو مسلك الملازمة.

أمّا الأوّل فهو واضح ، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة فيكون واجباً ويتعلّق به الأمر ، لكن الأمر بترك الإزالة أمر مقدّمي يتولّد منه نهي غيري آخر ، وهو النهي عن الصلاة بذريعة انّ الأمر بالشيء ( ترك الصلاة ) يقتضي النهي عن ضدّه العام أي النقيض وهو الصلاة.

وأمّا الثاني فقد عرفت أنّ استنباط النهي متوقّف على أنّ الأمر بالإزالة مقتض للنهي عن الضد العام ، أعني : ترك الإزالة ، وهذا النهي غيري يتولّد منه نهي آخر عن الصلاة لكونها ملازمة لترك الإزالة ، والمتلازمان متحدان حكماً.

ولعلّنا نرجع إلى الإجابة عن هذا الإشكال.

الثاني : ما ذكره بهاء الدين العاملي من أنّ التكليف لإثبات النهي عن

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٠٠.


الصلاة أمر لا طائل تحته ، إذ لا نحتاج في الحكم بفساد الصلاة إلى النهي ، بل يكفي عدم الأمر بالصلاة ، وهو أمر متفق عليه لظهور سقوط الأمر بالصلاة بعد الأمر بالإزالة ، فكون الصلاة غير مأمور بها يكفي في فسادها.

ثمّ إنّ القوم حاولوا الإجابة عن هذا الإشكال بوجوه ثلاث :

الأوّل : كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة ولا يلزم قصد الأمر ، وهذا ما أجاب به المحقّق الخراساني.

الثاني : كفاية قصد الأمر المتعلق بالطبيعة وإن كان الفرد المزاحَم فاقداً للأمر ، وهو المستفاد من كلمات المحقّق الثاني.

الثالث : تصحيح الأمر بالصلاة عن طريق الترتب.

وإليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر :

الأوّل : كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الصحّة ليست رهن تعلّق الأمر بالعبادة فقط ، بل الصحّة أعمّ من الأمر ، ويكفي فيها أيضاً وجود الملاك والرجحان الذاتي في العبادة ، إذ الفرد المزاحم من العبادة وغير المزاحم سيّان في الملاك والمحبوبية الذاتية ، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره وأمّا سقوط ملاكه ورجحانه الذاتي وكونه معراج المؤمن وقربان كلّ تقي فهو بعد باق عليه.

فإن قلت : إنّ العلم بوجود الملاك فرع تعلّق الأمر بالصلاة والمفروض سقوطه ، ومعه كيف يعلم الملاك وانّها صالحة للتقرب. وبعبارة أُخرى كما أنّ النهي يكشف عن عدم الملاك ، فكذلك الأمر يكشف عن وجوده ، ومع فقد الأمر فمن أين نستكشف وجود الملاك؟


قلت : إنّ المقام من قبيل المتزاحمين لا المتعارضين ، والملاك في كلّ من المتزاحمين موجود على نحو لولا التزاحم لكان الفرد الموسَّع مأموراً به ، وهذا معنى اشتماله على الملاك وإن لم يكن مأموراً به بالفعل ، حتّى أنّ المحقّق النائيني جعل قصد الملاك أقوى في حصول التقرب من قصد الأمر ، فقال : لم يدل دليل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة ، وأمّا تطبيقه على قصد الأمر فإنّما هو بحكم العقل ، وقصد الملاك لو لم يكن أقوى في حصول التقرب بنظر العقل من قصد الأمر فلا أقلّ من كونه مثله. (١)

الثاني : كفاية قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة

وهذا الجواب مستنبط من كلام المحقّق الكركي وإن لم يكن هو بصدد الإجابة على إشكال بهاء الدين العاملي لتقدّم عصره عليه.

وحاصل ما يستنبط من كلامه انّ البحث عديم الثمرة في المضيقين دون المضيّق والموسّع.

أمّا الأوّل كإنقاذ الغريقين اللذين أحدهما أهمّ من الآخر ، فإنّ الأمر بالأهم يوجب سقوط الأمر بالمهم مطلقاً عن الفرد والطبيعة ، إذ ليس لها إلا فرد واحد مزاحم بالأهم.

وأمّا الثاني فتظهر فيه الثمرة ، فأمّا إذا بنينا على عدم تعلّق النهي بالضد كما هو مفروض الإشكال فغايته انّه يوجب سقوط الأمر بالطبيعة المتحقّقة في الفرد المزاحم لعدم القدرة على الإتيان به شرعاً ، وهـو في حكم عـدم القـدرة عقلاً ، لا سقوط الأمر عن الطبيعة بوجودها السعيّ ، بل الأمر بها باق لعدم اختصاص

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٢٦٥ ؛ المحاضرات : ٣ / ٧١ ـ ٧٣.


تحقّق الطبيعة بالفرد المزاحم.

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ الفرد المزاحم وإن لم يكن من مصاديق الطبيعة المأمور بها ولكنّه من مصاديق مطلق الطبيعة ، وملاك الامتثال إنّما هو انطباق عنوان الطبيعة على الفرد الخارجي لا كون الفرد الخارجي بشخصه مأموراً به ، فهو مصداق الطبيعة وإن لم يكن مصداق الطبيعة المأمور بها.

وبعبارة أُخرى : انّ الثابت هو سقوط الأمر عن هذا الفرد فواضح ، لا سقوطه عن الطبيعة ، وذلك لأنّ الواجب الموسّع له أفراد غير مزاحمة وإنّما المزاحمة بين المضيق والفرد المزاحم من الموسع ، فيأتي الفرد بنية الأمر بالطبيعة باعتبار انّ لها مصاديق غير مزاحمة.

هذا هوالمستفاد من كلام المحقّق الكركي في « جامع المقاصد » في كتاب الدين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة يتصوّر على أقسام :

١. أن يكون وجوبها إنشائياً مادام الأهم غير مأتي به.

٢. أن يكون وجوبها فعلياً والواجب استقبالياً ، والمراد من الاستقبالي تعيّن الإتيان بالمهم بعد الإتيان بالأهم.

٣. أن يكون الوجوب والواجب فعليّين.

__________________

١. قال فيه : لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق إذ لا يمتنع أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلاً من الأمرين لكن أحدهما مضيق والآخر موسّع ، فإنّ قدّمت المضيّق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. ( جامع المقاصد : ٥ / ١٢ ). ولم نجد فيه عبارة تصلح سنداً لما ذكره شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في المتن ، وهو أعرف بمواقع كلمات الفقهاء.


لكن الأمر الإنشائي لا يمكن التقرّب به ، لأنّ المفروض عدم بلوغ إرادة المولى حدّ الطلب الجدّي.

وعلى الثاني لا يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم ، لأنّ المفروض انّ الطبيعة مقيدة بالزمان المتأخّر عن الإتيان بالأهم.

وأمّا الثالث وهو يستلزم أن يكون كلّ من الوجوب والواجب فعليين ، فهو يستلزم الأمر بالضدين.

فالإتيان بالمهم في الأمر المتعلّق بالطبيعة لا ينجع ، لأنّه بين كون الأمر إنشائياً أو الواجب استقبالياً وبين استلزامه طلب الضدين.

أضف إلى ذلك هو انّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود أو نفس الطبيعة باعثاً وداعياً بالنسبة إلى هذا الفرد أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم التكليف بالضدّين ، وعلى الثاني لا يصحّ الإتيان بهذا الفرد بنية الأمر المتعلّق بالطبيعة لافتراض عدم باعثيته له.

هذا فإذا كان الجواب الأوّل ـ أي إتيان الصلاة بملاكها أو إتيانها بلحاظ الأمر المتعلّق بالطبيعة ـ ناجعاً في إضفاء الصحة على الصلاة فهو ، وإلا فلابدّ من سلوك طريق آخر ، وهو تصوير تعلّق الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان أمر الأهم وهذا هو البحث المعروف بالترتب ، لترتب الأمر المتعلق بالمهم على عصيان الأمر الأهم.


الأمر بالضدين على نحو الترتّب

إنّ الترتّب من المسائل الشائكة التي تضاربت فيه الأقوال والآراء ، وبما انّها من أُمّهات المسائل الأُصولية التي يستنبط بها مسائل مختلفة كما سنشير إليها ، نقدم أُمّوراً قبل الخوض في صلب الموضوع.

الأوّل : الفرق بين التعارض والتزاحم

يستعمل لفظ التزاحم في هذا الباب ومبحث اجتماع الأمر والنهي ، فلابدّ من توضيح المراد في المقام فقط ، فنقول :

لا شكّ انّ التعارض والتزاحم يجمعهما وجود التنافي بين الدليلين وإنّما الاختلاف في مصبِّه ، فنقول :

إنّ التعارض عبارة عن تنافي الدليلين في الجعل والإنشاء بأن يستحيل من المقنن الحكيم ، صدور حكمين أو جعلين حقيقيين لغاية الامتثال فهو التعارض ويعرف بالتنافي بين مدلولي الدليلين في مقام الجعل والإنشاء.

مثلاً يستحيل على الحكيم أن يحرّم بيع العذرة وفي الوقت نفسه أن يبيحها فيقول : ثمن العذرة سحت ثمّ يقول : ولا بأس ببيع العذرة ، إذ لا تنقدح الإرادتان المتضادتان في نفس المقنن على وجه الجد ، فيُعلم كذب أحد الدليلين وعدم صدور واحد منهما في مقام التشريع.

ثمّ إنّ التكاذب بين الدليلين تارة يكون بالذات كما في المثال المذكور ،


وأُخرى بالعرض ، كما إذا ورد الدليل على وجوب صلاة الظهر وصلاة الجمعة في يومها ، فانّ الدليلين خاليان من التنافي في مقام الجعل ، إذ لا مانع من إيجاب صلاتين في وقت واحد يسع كلاً منهما لكن بعد ما علمنا أنّ الشارع لم يكتب يوم الجمعة على المكلّف إلا فريضة واحدة ، عرضهما التكاذب بالعرض.

نعم لا يشترط في التعارض التنافي في مقام الامتثال ، بل يمكن أن يكون المتعارضان ممكني الامتثال ، كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب الشيء والآخر على استحبابه أو إباحته ؛ كما يمكن أن يكون ممتنعي الامتثال ، كما إذا دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة والجامع بين عامة الأقسام وجود التكاذب في مقام الجعل والإنشاء.

وأمّا التزاحم فهو عبارة عن وجود التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال بمعنى عدم المنافاة في مقام الجعل والتشريع ، بل الحكمان في ذلك المقام متلائمان غير أنّ عجز المكلّف وقصور قدرته صار سبباً لحدوث التنافي بين الدليلين ، كما في قولك « انقذ أخاك » و « انقذ عمّك » فجعل الحكمين والأمر بإنقاذ كلا الشخصين ليس فيه أي تناف في مقام الإنشاء ، ولذلك لو ابتلى المكلّف بهما متعاقباً لا مجتمعاً تمكّن من الامتثال ، وإنّما التنافي في مقام الامتثال عندما ابتلي بهما جمعاً.

ومثله المقام فإذا قال المولى أزل النجاسة عن المسجد وقال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ ) (١) فليس هناك أيّ تناف بين الدليلين لا في مقام الجعل كما هو واضح لاختلاف الموضوعين ، بل ولا في مقام الامتثال ، كما إذا ابتلى بأحدهما بعد الآخر ، وإنّما التنافي فيما إذا ابتلى بهما معاً حيث يعجز عن القيام بالأمرين معاً.

__________________

١. الإسراء : ٧٨.


وهذا هو المسمّى بالتزاحم بمعنى انّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن الصرف في الآخر.

ثمّ اعلم أنّ تفسير التعارض والتزاحم على هذا النحو هو خيرة المحقّق النائيني وتلاميذ مدرسته ، وقد خالف في تفسيره المحقّق الخراساني وسيوافيك تفسيره في باب اجتماع الأمر والنهي عند الكلام في الأمر الثامن والتاسع من مقدّمات البحث.

الثاني : مرجحات التعارض غير مرجحات التزاحم

إذا كان التعارض يختلف بجوهره عن التزاحم فمرجّحات الأوّل غير مرجّحات الثاني ، أمّا الأوّل فبما انّ التعارض هناك يرجع إلى مقام الجعل والتشريع فتمييز الصادق عن الكاذب رهن المرجحات التي يذكرها الشارع لتلك الغاية وليس للعقل إليها سبيل ، وستوافيك تلك المرجحات في المقصد الثامن عند البحث عن التعادل والترجيح ، وأمّا مرجحات باب التزاحم فبما انّ التنافي خارج عن مصب التشريع ولا صلة له بالشارع وإنّما يرجع إلى قصور قدرة المكلّف عن الامتثال ، فللعقل سبيل إلى تعيين المرجّحات وهو تقديم الأهم بالذات أو بالعرض على غيره.

وعناوين تلك المرجّحات عبارة عن الأُمور التالية :

١. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

٢. تقديم المضيق على الموسع.

٣. تقديم الأهم بالذات على المهم.

٤. سبق أحد الحكمين زماناً.


٥. تقديم الواجب المطلق على المشروط.

وبما انّا قد استوفينا الكلام فيها ـ تبعاً لشيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في باب التعادل والتراجيح نطوي الكلام فيها وإن شئت فراجع « إرشاد العقول ». (١)

الثالث : في تعريف الترتّب

إنّ الترتّب عبارة عن تعلّق أمر فعلي بواجب أهم على وجه الإطلاق بلا تقييد بشيء وتعلّق أمر فعلي آخر بضدّه المهم مشروطاً بعصيان ذلك الأمر المتعلّق بالأهم على نحو الشرط المتأخر أو بالعزم على عصيانه ، وتظهر حقيقة الترتّب في المثالين الأخيرين.

أ. إذا كان الواجبان مضيّقين ، كما إذا قال المولى : انقذ ولدي فإن عصيت فأنقذ الأجنبي.

ب. إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً والآخر موسّعاً كما إذا قال : أزل النجاسة فإن عصيت فصلِّ.

فعلى كلا التقديرين يكون أحـد الأمرين مطلقاً والآخر مشروطاً بالعصيان.

الرابع : صحّة الترتّب وعدمها عقلي

البحث عن صحّة الترتّب وعدمها بحث عقلي لا دخالة للّفظ فيه وذكره في أبواب مباحث الألفاظ كذكر أحكام الملازمات في باب الأوامر مع أنّ البحث فيها عن الملازمة العقلية.

__________________

١. إرشاد العقول : ٢ / ٣١٠ ـ ٣١٤ ، من المباحث العقلية.


الخامس : الترتّب يكفي في وقوعه إمكانه

إنّ مسألة الترتّب من المسائل التي يكفي في وقوعها إمكانها ، وذلك لأنّه إذا ابتلى المكلّف في أوّل الظهر مثلاً بواجبين أحدهما مضيق والآخر موسّع ، فيدور الأمر لأجل رفع التنافي بين أحد الأمرين :

أ. إمّا رفع اليد عن نفس الأمر بالمهم مطلقاً والقول بسقوطه كما عليه شيخنا بهاء الدين العاملي حيث زعم انّ الأمر بالإزالة موجب لسقوط الأمر بالصلاة مطلقاً.

ب. رفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم بأن يُقيّد بعصيان أمر الأهم ، فلو كان تقييد الأمر بالمهم كافياً لرفع التنافي فلا وجه لرفع اليد عن أصل الأمر ، لأنّ الضروريات تتقدر بقدرها ، فمن صحّح الترتّب أخذ به ، ومن لم يصحّحه رفع اليد عن الأمر بالمهم أساساً.

السادس : الأمر بالمهم فعليّ كالأهم

إنّ واقع الترتّب يقوم على أساس توجه أمرين فعليين إلى المكلّف أحد الأمرين مطلق والآخر مشروط.

وبعبارة أُخرى ففي الوقت الذي يكون الأمر بالمهم ( الصلاة ) فعلياً يكون الأمر بالإزالة أيضاً فعلياً لم يَسقط بعدُ لا بالامتثال ولا بالعصيان ، فلأجل تصحيح الجمع بين الأمرين الفعليين يبقى الأمر بالأهم على إطلاقه ، ويُقيّد الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو يكون الأمر معه فعليّاً أيضاً. ولذلك لابدّ من الدقة في الشرط الذي يخرج الأمر بالمهم عن إطلاقه ويصيره مشروطاً مع كونه فعلياً أيضاً.


فالجمع بين هذه الأُمور :

أ : كون الأمر بالمهم مشروطاً.

ب : كون الأمر بالمهم فعلياً.

ج : كون الأمر بالأهم غير ساقط بعد.

أمر دقيق يحتاج إلى مزيد من النظر.

فالذي يمكن أن يجمع بين هذه الأُمور هو عبارة عن جعل الشرط ( العصيان ) بالنحو التالي :

جعل العصيان شرطاً للأمر بالمهم لكن على نحو الشرط المتأخر لا المتقدم.

والمراد من الشرط المتأخر للتكاليف هو ما يكون الشرط متقدماً لحاظاً ومتأخراً وجوداً ، وفي المقام انّ المولى يتصور عصيان العبد بالنسبة إلى الأمر بالأهم في المستقبل ، ففي ذاك الظرف الذي يكون العصيان متقدماً لحاظاً ومتأخراً وجوداً يأمر بالمهم ويقول : وإن عصيت فصلِّ.

فالشرائط الثلاثة الآنفة الذكر محقّقة :

١. انّ الأمر بالمهم مشروط بالعصيان بنحو الشرط المتأخر.

٢. كون الأمر بالمهم فعلياً لوجود شرطه وهو العصيان لكن بنحو الشرط المتأخر بمعنى تحقّقه لحاظاً لا خارجاً ، وإلا فلو تحقق خارجاً لسقط الأمر بالإزالة ولا يوجد في ظرف التكليف إلا الأمر بالمهم.

٣. والأمر بالأهم غير ساقط ، لأنّه إنّما يسقط بالطاعة أو بالعصيان الخارجي المتقدّم على الأمر بالصلاة والمفروض انتفاؤهما.

أمّا الامتثال فظاهر ، وأمّا العصيان فالمفروض انّه لم يتحقّق بعدُ كما هو


مقتضى أخذ العصيان على نحو الشرط المتأخر وجوده ، وبذلك يعلم سرّ أخذ الشرط على نحو الشرط المتأخر لا المتقدّم بوجوده ولا المقارن ، لأنّ العصيان المتقدم بوجوده يوجب سقوط الأمر بالإزالة وانحصار التكليف بامتثال الأمر المهم.

وأمّا العصيان المقارن فلأنّ الكلام في الأُمور التدريجية ولا يتصوّر فيها العصيان التدريجي ، بل في الأُمور الدفعية كعصيان الأمر بإنقاذ الولد شرطاً مقارنها للأمر بإنقاذ الأجنبي.

فكما يمكن أن يكون العصيان الخارجي شرطاً للأمر بالمهم لكن بنحو الشرط المتأخر يمكن أن يكون الشرط المأخوذ في المهم هو عزم المكلّف بالعصيان ، والفرق بين الأمرين واضح.

ففي الأوّل يكون الشرط هو العصيان الخارجي بوجوده المتأخر ومرجعه إلى لحاظ المولى العصيان شرطاً.

وأمّا الثاني فالشرط هو نية المكلّف وعزمه على العصيان ، ومن المعلوم أنّ التكليف بالأهم لا يسقط بالعزم والنية فيكون الأمران فعليين متجانسين.

وبذلك تختلف مسألة عزم العصيان مع العصيان المتقدم حيث إنّ الأوّل لا يوجب سقوط التكليف بالأهم بخلاف الثاني.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى تقرير الترتّب. وقد ذكر له تقريبات مختلفة نأتي بها واحد بعد الآخر.


التقريب الأوّل للترتّب

قد قرر صاحب الكفاية دليل جواز الترتّب بالنحو التالي :

إنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك أي بأن يكون الأمر بالأهم مطلقاً والأمر بغيره معلقاً على عصيان ذلك الأمر ( على نحو الشرط المتأخر ) أو البناء والعزم عليه بل هو واقع كثيراً عرفاً. (١)

نقد المحقّق الخراساني دليل القائل بالترتّب

إنّ المحقّق الخراساني نقد الدليل المذكور بما هذا بيانه :

إنّ ملاك الامتناع في الأمرين المطلقين متوفر في الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط ، فانّ ملاك امتناع الأمريـن العرضيين عبـارة عن استـلزامهما طلب الضدين ، فإذا قال : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ ، فمعنى ذلك طلب الضدّين مع عدم تمكين المكلّف من صرف القدرة إلا في امتثال أحد الأمرين.

فإذا كان هذا ( طلب الضدين ) هو الملاك في امتناع الأمرين العرضيين المطلقين ، فهو أيضاً موجود في الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط ، وذلك لأنّ الأمر بالمهم وإن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢١٣.


في رتبة الأمر بالمهم ، فانّ المفروض انّ الأمر بالأهم لم يسقط بعدُ لا بالامتثال ولا بالعصيان فيكون في رتبة الأمر بالمهم ، فيجتمع أمران فعليان في رتبة الأمر بالمهمّ وإن لم يكونا كذلك في رتبة الأمر بالأهمّ.

وبعبارة أُخرى : في المرتبة التي للأمر بالأهم دعوة إلى نفسه ليس للأمر بالمهم دعوة إلى امتثال نفسه ولكن في المرتبة التي للأمر بالمهم دعوة إلى متعلّقه فللأمر بالأهم أيضاً دعوة وطلب ، لافتراض انّه بعدُ لم يسقط ، لأنّ الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر.

هذا هو الإشكال الذي اعتمد عليه المحقّق الخراساني في نفي الترتّب ، والذي عاقه عن تصويبه هو اجتماع الأمرين في مرتبة الأمر بالمهم وإن لم يكن اجتماع في مرتبة الأمر بالأهم.

تحليل نظرية المحقّق الخراساني

إنّ الملاك في استحالة توجه أمرين مطلقين إلى المكلّف ليس هو طلب الضدّين ، بل طلب الجمع بين الضدّين ، فانّ طلب الضدّين إذا لم يكن هناك طلبُ جمع بينهما فلا مانع منه كما في الأمر بالسكون في ظرف والأمر بالحركة في ظرف آخر ، وإنّما الملاك في الاستحالة هو أن تكون نتيجة الأمرين هو طلب الجمع بينهما في زمان واحد ، وهذا الملاك موجود في الأمرين المطلقين دون المطلق والمشروط ، فهاهنا دعويان :

الأُولى : انّ نتيجة الأمرين المطلقين هي طلب الجمع بين الضدّين حيث يقول : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ صلاة الظهر ، فهو يطلب في زمان واحد صدور أمرين متضادين وهما بمعنى الجمع بين الضدين ، لأنّه جعَل ظرف امتثال


الأمر الأوّل ، نفس ظرف امتثال الأمر الثاني بشهادة انّه قال : وفي الوقت نفسه صلِّ.

الثانية : انّ نتيجة الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط هو طلب الضدين لا طلب الجمع بين الضدين ، وذلك لأنّه يطلب الإزالة بلا قيد وشرط كما هو مقتضى الإطلاق.

ولكن يطلب الصلاة في ظرف انصراف المكلّف عن امتثال الأمر بالإزالة ، فتكون النتيجة طلب الضدين لا طلب الجمع بينهما ، وإنّما يلزم طلب الجمع بين الضدّين لو طلب الأمر بالمهم حتّى في ظرف إرادته لامتثال الأمر بالأهم والمفروض خلافه.

وبعبارة أُخرى : انّ المولى يلاحظ انّ للمكلّف حالتين :

تارة يريد صرف قدرته في الأمر بالأهمّ ، وهذا هو الذي يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله.

وأُخرى لا يريد صرف قدرته فيه فلا يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله لبعض الملابسات ولكن يوجد في نفسه داع إلى امتثال الأمر بالمهم ، ولأجل رعاية كلتا الحالتين يأمر بالأهم وفي ظرف العصيان على نحو الشرط المتأخر يأمر بالمهم.

وبذلك يظهر انّ شيئاً من الأُمور التالية ليس مانعاً من توجيه أمرين إلى المكلّف على نحو الترتب.

١. اجتماع أمرين فعليين.

٢. كون الأمر بالأهم في رتبة الأمر بالمهم.

٣. استلزام اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم طلب الضدين.


فليس شيء من هذه الأُمور مانعة عن إنشاء أمرين أحدهما مطلق والآخر مشروط ما لم يكن هناك طلب الجمع بين الضدين ، وإنّما المانع هو الأمر الرابع أعني :

٤. استلزام توجه الأمرين طلب الجمع بين الضدين ، وهذا موجود في الأمرين العرضيين لا في الأمرين الطوليين.

ونزيد بياناً انّ مفتاح الترتّب كلمة واحدة ، وهي استلزام اجتماع الأمرين الفعليين هل هو طلب الضدين أو طلب الجمع بين الضدّين؟ فمن أحال فاعتمد على الأوّل مع أنّه ليس بمحال ، ومن جوزه فقد اعتمد على الثاني وانّ الترتب لا ينتهي إلى طلب الجمع بين الضدّين.

بذلك تقف انّ أكثر ما تداولته الألسن والرسائل والكتب حول الترتّب بحوث جانبية لا صلة لها بما هو مفتاح المسألة وحل معضلتها.

اعتراضات وأجوبتها

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما تبنَّى امتناعَ الترتّب وزعم أنّ لازمه طلب الضدّين ، أثار أسئلة أربعة وأجاب عنها على النحو الرائج في الكتب العلمية ، ونحن نذكر الأسئلة والأجوبة مع القضاء بين المعترض والمجيب.

الاعتراض الأوّل

لا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار حيث يعصي فيما بعدُ بالاختيار فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلا الطلب بالأهمّ ولا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار.


إجابة المحقّق الخراساني

أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ استحالة طلب الضدّين إنّما هي لأجل كون صدور نفس التكليف بهذا النحو من الحكيم الملتفت إلى امتناعه ، محالاً ، بمعنى أنّه لا تنقدح في نفس الحكيم إرادتان متضادتان متعلّقتان بأمرين لا يتمكن المكلّف من جمعهما ، وما هذا شأنه لا يفرَّق فيه بين سوء الاختيار أو حسن الاختيار ، فلا فرق بين قولنا : أزل النجاسة وإن عصيت فصلّ ، وقولنا : أزل النجاسة وإن سلمت على زيد فصلِّ ، وقد حقّق في محله انّ مرجع التكليف بالمحال إلى كون نفس التكليف محالاً ، فلا ينقدح في ذهن المولى إرادة جديّة متعلّقة بطيران زيد إذا كان فاقداً لأسبابه.

تحليل السؤال والجواب

إنّ المعترض يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال غير أنّ المكلّف لما كان مقصّراً في المقام ، وسبباً لهذا النوع من التكليف فلا مانع من تكليفه أخذاً بقولهم : الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار.

كما أنّ المجيب يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال ولكن يردّ على تجويز التكليف بغير المقدور حتّى ولو كان السبب هو المكلّف.

ونحن نقول : الحقّ مع المجيب فإنّ التكليف بغير المقدور تكليف محال ، وهو غير جائز في منطق العقل ، سواء أكان المكلّف مقصّراً أم لا ، غير أنّ الكلام في مقام آخر وهو فقدان الموضوع ( المحال ) في مبحث الترتب ، إذ غاية ما يترتب عليه هو طلب الضدّين وهو ليس بمحال وما هو محال أي طلب الجمع بين الضدّين فليس بلازم في المقام.


فالسائل والمجيب يبحثان عن أمر لا وجود له في المقام كما عرفت.

الاعتراض الثاني

إنّ قياس المقام بالأمرين العرضيين قياس مع الفارق ، فانّ كلاً من الأمرين العرضيين يطارد الآخر ، فإذا قال : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ ، فكلّ يدعو إلى بذل القدرة في متعلّقه ، وعندئذ تظهر المطاردة لوحدة القدرة وكثرة المقدور ، بخلاف الأمرين الطوليين ، أي إذا كان الأمر الثاني مقيداً بعصيان الأمر الأوّل ، فانّ الأمر المتعلّق بالمهم لا يطرد الأمر المتعلق بالأهم ، وذلك لأنّ دعوة الأمر المتعلّق بالمهم إلى امتثاله في ظرف عدم الإتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غير الأهم على تقدير إتيانه وإطاعة أمره.

وبعبارة أُخرى لو كانت دعوة الآمر المتعلق بالمهم شاملة لصورة إطاعة الأمر بالأهم يلزم المطاردة ، وأمّا لو اختصت دعوته بصورة عدم امتثاله فلا يكون هناك مطاردة.

إجابة المحقّق الخراساني

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :

الأوّل : انّ طرد الأمر المتعلّق بالمهم لا يختصّ بصورة إتيان الأمر بالأهم حتّى يقال : لا مطاردة عندئذ بين الأمرين ، بل يعمّ حتّى صورة عدم إتيانه.

الثاني : انّ المطاردة من جانب واحد وهو طرد الأمر المتعلّق بالأهمّ كاف في إبطال الترتّب.

أمّا الأوّل فانّ الأمر المتعلّق بالمهم يطارد الأمر الآخر حتّى في صورة عصيان


الأمر بالأهم وعدم الإتيان به ، وذلك لأنّ المطاردة لازم فعلية الأمر بالمهم ، وكلّ أمر فعلي يدعو إلى متعلّقه ولو في ظرف عدم الإتيان بالأهم والمفروض انّ الأمر المتعلّق بالأهم لم يسقط بعدُ ، وهو أيضاً فعلي فيلزم اجتماع أمرين فعليين كل يدعو إلى متعلّقه ، وهو نفس مطاردة الأمر بالمهم ، الأمرَ بالأهم.

والحاصل : انّ المعترض يركِّز في إنكار المطاردة على صورة إطاعة الأمر المتعلّق بالأهم ، ومن المعلوم أنّه ليس في هذه الصورة أيّة مطاردة ، ولكن المجيب يركز في إثبات المطاردة على صورة أُخرى ، وهي صورة عصيان الأمر المتعلّق بالأهم ووجه المطاردة فعلية كلّ من الحكمين لحصول شرط الفعلية وداعوية كلّ إلى متعلّقه.

أقول : هذا ، هو الإشكال المهم في الترتّب وهنا تُكْمنُ روح الترتب أو إنكاره ، ولابدّ من علاجه على وجه يقلع الشبهة عن الأذهان ، فنقول :

إنّ للأمر المتعلّق بالمهم في الصورة التي أشار إليها المحقّق الخراساني ( صورة عدم الإتيان بالأهم ) مفهومين :

الأوّل : بما انّه أمر فعلي يدعو إلى إيجاد متعلّقه لحصول شرط الفعلية ، وعندئذ يتبادر إلى الذهن وجود المطاردة بينه وبين الأمر بالأهم غير الساقط بعدُ ، وبما انّ الأمر بالأهم غير ساقط بعد يُستظهر منه وجود المطاردة ، وهذا هو الذي جرّ المحقّق الخراساني إلى القول بوجود المطاردة حتّى من جانب الأمر بالمهم ، ولكنّه غفل عن المفهوم الثاني للأمر بالمهم وهو :

الثاني : انّ الأمر بالمهم مع كونه فعلياً لا يأبى عن ترك امتثاله والاشتغال بالأهم حتّى في نفس هذه الحالة ، وهذا هو الذي يزيل المطاردة المتوهمة ، فالمحقّق الخراساني أخذ بالمفهوم الأوّل وغفل عن المفهوم الثاني.


وبعبارة أُخرى : انّ الأمر بالمهم وإن كان يدعو إلى إنجاز متعلّقه ولكنّه في حدّ نفسه يرخِّص ترك امتثاله والاشتغال بالأهم وبذلك تنثلم المطاردة المتوهمة.

هذا كلّه حول الجواب الأوّل.

وأمّا الجواب الثاني فهو انّ المحقّق الخراساني اكتفى في إبطال الترتّب بوجود الطرد من جانب واحد وهو الأمر بالأهم ، وأساسه ما مرّ من أنّ الأمر بالمهم وإن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود في مرتبة الأمر بالمهم فيجتمع أمران فعليان كما مرّ.

يلاحظ عليه بما مرّ من أنّ اجتماع أمرين فعليين كلّ يدعو إلى إنجاز متعلّقه إنّما يستلزم الامتناع بما إذا لم يكن لواحد من الأمرين مرونة وليونة وأمّا المقام فانّ الأمر بالأهم وإن لم يكن فيه مرونة وليونة لكنّ اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم ، لا يضرّ مادام الأمر الثاني يحتضن المرونة حيث إنّه في كلّ زمان ينسحب عن الساحة إذا أراد المكلّف امتثال الأمر المتعلّق بالأهم.

ونزيد إيضاحاً ونقول : إنّ مركز المطاردة الذي يعتمد عليه المحقّق الخراساني أحد المواضع الثلاثة :

أ. مقام الجعل والتشريع.

ب. مقام الفعلية.

ج. مقام الامتثال.

أمّا الأوّل فقد عرفت أنّ المورد من قبيل المتزاحمين ، والمتزاحمان متلائمان في مقام الجعل ولا تكاذب بينهما في تلك المرتبة ، فلا إشكال في جعل الإيجاب على إزالة النجاسة والصلاة وغيرهما من عشرات الموضوعات.


وأمّا الثاني : أي المطاردة في مرحلة الفعلية فلا شكّ انّ كلاً من الحكمين فعلي يدعو إلى إنجاز متعلّقه ، لأنّ الأوّل مطلق والثاني مشروط قد تحقّق شرطه.

لكن كلّ أمر يدعو إلى متعلّقه ولا ينظر إلى الأمر الآخر حتّى تكون النتيجة طلب الجمع ، وعلى فرض تسليمه في سائر الموارد ليس للأمر بالمهم إطلاق بالنسبة إلى صورة امتثال الأمر بالأهم.

وأمّا الثالث أي الامتثال ، ومن حسن الحظ عدم المطاردة فيه ، وذلك انّه لم يكن هناك صارف فالتأثير للأمر الأوّل ، وإن كان صارف فالتأثير للأمر الثاني.

فتبيّن انّه لا مطاردة في البين في أية مرحلة من المراحل الثلاث :

الاعتراض الثالث

كيف تنكرون الترتب مع أنّه واقع في العرف كثيراً؟

إجابة المحقّق الخراساني

يمكن الجواب عمّا يتراءى انّه من باب الترتّب بوجهين :

أ. أن يكون الأمر بالمهم بعد التجاوز عن الأمر بالأهم.

ب. أن يكون الأمر بالمهم إرشاداً إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض.

يلاحظ على الجواب الأوّل ـ أعني التجاوز عن الأمر بالأهم ـ : أنّه ماذا يريد من التجاوز؟ فهل يريد كونه منسوخاً والمفروض خلافه ، ولأجل ذلك كلّما رجع إلى امتثال الأمر بالأهم لكان مطيعاً.


أو يريد انّه عند الخيبة عن تأثير الأمر الأوّل دون سقوطه ، يأمر بالمهم ، فهو نفس الترتّب.

إلى هنا تمّت الاعتراضات التي طرحها المحقّق الخراساني وأجاب عنها ، وقد عرفت مدى صحّة الأجوبة.

الاستدلال على بطلان الترتّب بطريق الأن

وقد استدلّ المحقّق الخراساني على بطلان الترتّب من طريق الأن وقال : لو صحّ الترتّب للزم تعدّد التكليف ، ولو تعدد التكليف وعصى المكلّف كلا الأمرين يلزم أن يعاقب بعقابين ، ولكن التالي باطل لامتناع تعدّد العقوبة مع وحدة القدرة ، فكذا المقدم أي تعدد التكليف.

يلاحظ عليه : أنّ في تعدّد العقاب ووحدته قولين :

١. انّ تعدّد العقاب ووحدته تابع لتعدّد القدرة ووحدتها ، لا وحدة التكليف وتعدّده ، فلو كانت القدرة واحدة والتكليف متعدداً ، كما إذا تعدد الغريق وهو ترك نجاة الجميع لما كان عليه إلا عقاب واحد ، لاستقلال العقل بقبح تعدّده مع عدم تعدّد القدرة.

ولذلك أفتوا بتعدّد العقاب في التكاليف العرضية كالصلاة والصوم ، فلو تركهما ، يعاقب عقابين لتعدّد القدرة المستلزمة كون المخالفة لا عن عذر.

وهذا بخلاف التكاليف الطولية فلا يوجب تعدد التكليف فيها تعدد العقاب مع وحدة القدرة.

وعلى ضوء ذلك فالتكليف في الترتب متعدد وبما انّ القدرة واحدة فليس هنا إلا عقاب واحد.


٢. انّ تعدد العقاب ووحدته تابع لتعدد التكليف ووحدته عند المعصية ، فلو كان هناك غريقان وترك نجاة الكلّ ، يعاقب بعقابين وإن لم يكن له إلا قدرة واحدة ، ولا ينافي ذلك عدله سبحانه ، لأنّه كان في وسع العبد ـ مع تعدد التكليف ووحدة القدرة ـ الاجتناب عن مخالفة التكليفين عن عذر ، وذلك ببذل قدرته في إنقاذ واحد ، والاعتذار عن ترك الأمر الآخر بالعجز ، ومع أنّ هذا الباب كان مفتوحاً أمامه ، فقد ترك إنقاذ الغريقين بلا عذر ، فللمولى أن يؤاخذه ويقول :

لِمَ تركت إنقاذ زيد بلا عذر؟

لم تركت إنقاذ أخيه كذلك؟

فصار العبد التارك لكلا الأمرين مصدراً لمخالفة أمرين بلا عذر ، فيستحقّ عقابين.

وبعبارة أُخرى : انّه يجب على العبد إمّا الامتثال وإمّا الاعتذار ، فلو بذل قدرته في واحد يصحّ له الاعتذار عن عدم امتثال الآخر ، وأمّا إذا ترك الجميع فليس له ما يصرف عنه العقاب ، إذ لا امتثال ولا اعتذار.

إلى هنا تمّ التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني للترتّب كما تمّت مناقشاته وتحليلاته.

وهناك وجوه أُخرى لتقريب الترتب نذكرها تباعاً.

بيان للمحقّق الحائري في امتناع الترتّب

إنّ لشيخ مشايخنا المحقّق الحائري 1 تقريباً للقول بامتناع الترتّب ونقداً عليه ، ونحن نذكر إجمال التقريب ثمّ نذكر نظرنا فيه.

إنّ هنا مقدّمتين :


١. انّ الضدّين ممّا لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلاً ، وهذه المقدّمة تعود إلى المكلَّف.

٢. لا يصحّ للمكلِّف أن يطلب الضدّين في زمان واحد على وجه الإطلاق ، وهذه المقدمة راجعة للآمر.

وعلى ضوء ذلك فإمّا أن يكون الأمران المتعلّقان بإيجاد الضدّين مطلقين ، أو يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً.

والأوّل لا يلتزم به كلّ من أحال التكليف بما لا يطاق.

وأمّا الثاني ـ أي كون التكليف الثاني مشروطاً ـ فالشرط إمّا هو الترك الخارجي للأهم ، وبتعبير آخر العصيان الخارجي المتقدّم أو تصور المولى عصيان العبد ، بمعنى انّه يترك في علم اللّه.

والأوّل أي كون الشرط هو العصيان الخارجي خارج عن الترتّب ، لأنّ الأمر الأوّل يسقط بالعصيان الخارجي كما لو غرق الأهم دون المهمّ فلا يكون هناك أمران ولو طوليان ، فبقي كون الشرط هو العزم على العصيان أو العصيان على نحو الشرط المتأخر ، فعندئذ يسأل هل الشرط متحقّق أو لا؟ فعلى الثاني لا يكون الأمر بالمشروط فعلياً ، وعلى الأوّل ينقلب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق فتقع هذه الصورة في عداد الصورة الأُولى ، أي الأمرين العرضيين المطلقين.

يلاحظ عليه : نحن نختار الشقّ الأخير ، وانّ الشرط هو تصوّر العصيان من جانب المولى أو علمه سبحانه بعصيان العبد ، أو قول المولى : « إن كنت معرضاً عن امتثال الأمر الأوّل » ، أو : « كان في نفسك صارف عنه ». وعلى كلّ تقدير فالشرط


متحقق ، وانّ القضية الشرطية بعد حصول شرطها تنقلب إلى قضية مطلقة ، ومع ذلك كلّه فالأمر بالمهم على نحو لو انصرف من صرف القدرة في المهم وحاول أن يمتثل الأمر بالأهم لما منعه الأمر بالمهم ، فهذا النوع من التكليف وإن كان مطلقاً لكن لا يزاحم الأمر بالإزالة على وجه الإطلاق.

وقد تقدّم منّا انّ السبب لكون المطاردة من طرف واحد لا من طرفين ، هو اشتمال الأمر الثاني على شرط يوجد فيه مرونة بالنسبة إلى امتثال الأمر بالأهم.

على أنّ انقلاب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق ، ممنوع جدّاً كما بيّن في محله.


التقريب الثاني (١) لتصحيح الترتّب

نقل المحقّق الاصفهاني تقريباً عن بعض الأُصوليين ما هذا حاصله :

إنّ اقتضاء كلّ أمر لإطاعة نفسه ، في رتبة سابقة على إطاعته ، كيف لا وهي مرتبة تأثيره وأثره ، ومن البديهي أنّ كلّ علّة منعزلة في مرتبة أثرها عن التأثير وإنّما اقتضاؤها ، في مرتبة ذاتها المقدّمة على تأثيرها وأثرها ، ولازم ذلك كون عصيان المكلّف ـ وهو نقيض طاعته ـ أيضاً في مرتبة متأخّرة عن الأمر واقتضائه.

وعليه فإذا أُنيط أمر بعصيان مثل هذا الأمر ، فلا شبهة انّ هذه الإناطة تُخرج الأمرين عن المزاحمة في التأثير ، إذ في رتبة الأمر بالأهم ، لا وجود للأمر بالمهم ، وفي رتبة وجود الأمر بالمهم لا يكون اقتضاء للأمر الأهم. فلا مطاردة بين الأمرين ، بل كلّ يؤثر في رتبة نفسه على وجه لا يوجب تحيّر المكلّف في امتثال كلّ منها ولا يقتضي كلّ من الأمرين إلقاء المكلّف فيما لا يطاق ، بل كلّ يقتضي موضوعاً لا يقتضي غيره. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ التأخر الرتبي يحتاج إلى وجود الملاك في نفس الشيء وإلا فبمجرّد كونه مقارناً لما هو متأخر رتبة عن شيء لا يوجب اتّصافه بالتأخّر الرتبي والمقام من هذا القبيل ، لأنّ تأخّر الطاعة عن الأمر لا يوجب تأخّر العصيان عن الأمر ، إذ ملاك التأخّر موجود في الطاعة دون العصيان ، لأنّ الطاعة

__________________

١. مرّ التقريب الأوّل في كلام المحقّق الخراساني.

٢. نهاية الدراية : ١ / ٢٣٣.


أثر الأمر ومعلوله ، والمعلول متأخّر رتبة عن العلّة ، بخلاف العصيان ، فإنّه ليس أثرَ الأمر لأنّ أثر الأمر هو البعث والتحريك.

وقد سبق منّا انّ قانون المساواة إنّما يحتجّ به في المسائل الهندسية ، كمساواة الزوايا مثلاً وفي الزمانيات ، فلو كان زيد متأخراً عن عمرو تأخراً زمانياً ، وكان زيد وبكر من حيث الزمان متقارنين ، فيكون بكر أيضاً متأخراً عن عمرو.

وأمّا التأخّر العقلي الذي يعبر عنه بالتأخّر الرتبي فلا يكفي فيه المقارنة ، بل يجب أن يكون في المتأخر ملاك التأخر الرتبي ، ولذلك لا يكون ملازم المعلول متأخراً عن العلة تأخّراً رتبياً مع أنّ ملازم المعلول متّحد معه رتبة.

وثانياً : أنّ التزاحم والتضاد ليس في المعية العقلية حتّى يرتفعا بالتأخر الرتبي للأمر بالمهم ، بل موردهما هو المعية الزمانية ، إذ الزمان الذي يكون الأمر بالأهم فيه فعلياً يكون الأمر بالمهم فيه أيضاً فعلياً باعثاً ، فاللازم رفع التضاد في ذلك الظرف لا رفعه باختلاف الرتب.

والحاصل : انّ مجرّد تأخّر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بحسب الرتبة العقلية مع المعية في الاقتضاء بحسب الزمان لا يدفع المطاردة ، إذ مناط الاستحالة هي المعية الكونية في المتزاحمات والمتضادات لا في الرتب العقلية من المراتب الوجودية.

وهذا الإشكال يرد على أكثر من يحاول تصحيح الترتّب من طريق الاختلاف في الرتبة العقلية مع أنّه لا ينجع في رفع التضاد في زمان الامتثال.


التقريب الثالث لتصحيح الترتّب

ما نقله المحقّق الاصفهاني أيضاً وحاصله : انّ مرجع إطلاق الأمر بالأهم إلى سدّ باب عدمه من جميع الجهات حتّى العدم الآتي من قبل الأمر بالمهم فهو بإطلاقه يدعو إلى حفظه مطلقاً.

وأمّا الأمر بالمهم فلما كان مترتّباً على عدم الأهم وتركه ، فإطلاقه يقتضي سدّ باب عدمه من كل الجهات إلا في ناحية الإتيان بالأهم.

وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالمهم يقتضي سدّ باب عدمه في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق ولا منافاة بين قيام المولى بسدّ باب عدم الأهم مطلقاً ، وسدّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق ، فالأمر بالمهم وإن كان فعليّاً لكنّه حيث تعلّق بسدِّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق ، فلا محالة لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم المهم إلا في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق. (١)

توضيحه : انّ لكلّ شيء اعداماً من جانب فقد المقتضي وفقد الشرط ووجود المانع وهو الضدّ هنا ، والأمر بالأهم يقتضي سدّ كلّ عدم يتطرق إليه من أية جهة كان حتّى من جانب وجود المانع.

وأمّا الأمر بالمهم فهو يقتضي سدّ باب عدمه من جانب المقتضي ، ومن

__________________

١. نهاية الدراية : ١ / ٢٣٥.


جانب الشرط ، وأمّا من ناحية المانع ـ أعني : الأهم ـ فانّه يقتضي سدّ باب عدم المهم ، إلا فيما إذا كان سبب عدمه هو وجود الأهم فلا يقتضي عند ذلك سدّ عدمه ، فحينئذ لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم نفسه ، إلا إذا تطرق العدم إلى الأهم من باب الصدفة.

يلاحظ عليه : أنّ التزاحم بعد باق فنحن نفترض انّه تطرق العدم على الأهم من باب الاتفاق ، وعندئذ فهل الأمر بالأهم عندئذ ساقط أو لا؟ والأوّل خلاف المفروض والثاني يستلزم المطاردة حيث إنّ الأمر بالأهم يطلب قلب عدمه إلى الوجود مع التحفظ على عدم المهم لكون وجوده مانعاً مع أنّ الأمر بالمهم في هذه الحالة أي عند تطرق العدم إلى الأهم فعلي يطلب طرد عدمه إلى الوجود فتقع المطاردة بين الاقتضاءين.

ولعمري الحقّ انّ الترتّب أمر عرفي لا يتوقف على هذه الدقائق العقلية ، فالمهم ألاّ يكون نتيجته طلب الجمع بين الضدّين وإن كان نتيجته طلب الضدّين.


التقريب الرابع لتصحيح الترتّب

وهناك تقريب رابع ذكره المحقّق البروجردي ، وقد ركز على خلاف التقريبين السابقين على عدم التزاحم في المواضع الثلاثة : مقام الجعل والتشريع ، ومقام الفعلية ، ومقام الامتثال. وقد قرره تارة في هذا المبحث وأُخرى في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وإليك إجمال ما أفاد :

إنّه لا إشكال في أنّ التكليف بالمحال ، بنفسه محال ، فإنّ التكليف الحقيقي إنّما يصدر من المولى بداعي انبعاث المكلّف وتحرّكه نحو العمل ، فإذا كان نفس المكلّف به محالاً ، كالجمع بين السواد والبياض ، أو الصعود إلى السماء بلا وسيلة ، فلا محالة لا تنقدح الإرادة في نفسه جدّاً ، وإن تكلّم به فإنّما يتكلّم به لدواع أُخر.

ومثله إذا كان هناك تكليف وكان كلّ واحد منهما أمراً ممكناً ، والزمان لا يتّسع إلاّ لواحد منهما. فهذا أيضاً لا يصدر من المولى ، لا لأنّ المكلّف به أمر محال ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد منهما أمر ممكن ، وليس الجمع هو المأمور به حتّى يكون الامتناع لأجل طلب الجمع ، بل من جهة تزاحمهما في مقام التأثير وإيجاد الداعي ، فإنّ كلّ واحد من الضدّين ، وإن كان ـ بحياله ـ أمراً ممكناً ، لكن لمّا كان قيامه بهذا الواجب وذاك الواجب في زمان لا يسع إلا واحداً منهما ، أمراً غير ممكن ، كان صدور الطلب من المولى بهذا النحو ، أمراً محالاً بعد التفاته إلى الحال.


وأمّا إذا فرض البعثان غير متزاحمين في مقام التأثير ، بل كان تأثير أحدهما عند عدم تأثير الآخر وخلوّ الظرف من المزاحم ، فلا محالة ينقدح في نفس المولى طلب آخر يتعلّق بالضدّ ، إذ الفعل مقدور للمكلّف ، والأمر الأوّل غير باعث ولا داع ، والزمان خال عن الفعل بحيث لولم يشغله المهمّ ، لكان الزمان فارغاً عن الفعل مطلقاً ، فأيّ مانع من طلب المهم عند عدم تأثير الأهم وعدم باعثيته؟

وهذا التقريب جميل في بابه حقيق بالتصديق ، وقد أجال فكره في مجال التطبيق من دون أن يركز على الدقائق العقلية فيرفع التزاحم بجعل الأمرين في رتبتين ، وبالتالي لم تأخذه هيبة الأمر بالمهم وفعليته في ظرف فعلية الأمر بالأهم الذي صار سبباً لذهاب جمع من الأعاظم إلى امتناع الترتب ، منهم المحقّق الخراساني ومنهم سيدنا العلاّمة الحجّة الكوهكمري ، فقد شغلت بالهم فعلية الأمر بالمهم وقالوا بأنّ نتيجة فعلية الأمرين هي طلب الضدّين.

ونزيد بياناً انّ التلاؤم والتضاد ـ يعني الأمرين ـ أمر عرضي ، ومصبهما هو متعلّقات الأوامر ، وقد عرفت أنّ بين المتعلّقين كمال التلاؤم في المجالات الثلاثة ، والمهم هو مقام الامتثال فانّ تقييد أحد الأمرين بالعصيان يوجب التلاؤم بين الامتثالين.


التقريب الخامس لتصحيح الترتّب

وهناك تقريب خامس قام بتفصيله وتهذيبه وتشييد معالمه المحقّق النائيني آخذاً أصله من المحقّق المجدد الشيرازي ( ١٢٣٠ ـ ١٣١٢ هـ ) ثمّ من تلميذه السيد محمد الفشاركي ( المتوفّى ١٣١٥ هـ ) ( قدس اللّه أسرارهم ) وقد أطال الكلام في المقام ورتّب لإثبات الترتّب مقدّمات خمس ، ونحن نذكر من كلّ مقدمة ملخّصها.

المقدّمة الأُولى : هل الموجب للجمع إطلاق الخطابين أو نفسهما؟

لا إشكال في أنّ الذي يوجب وقوع المكلّف في مضيقة المحال واستلزام التكليف بما لا يطاق إنّما هو إيجاب الجمع بين الضدّين ، وعلى ذلك لا إشكال في سقوط ما هو منشأ إيجاب الجمع ليس إلا ، ولا يمكن سقوط ما لا يوجب ذلك ، وهذان الأمران ممّا لا كلام فيهما ، بل الكلام كلّه في أنّ الموجب لإيجاب الجمع بين الضدّين هل هو نفس الخطابين واجتماعهما وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما لمكان تحقّق شرطهما؟ أو انّ الموجب لإيجاب الجمع هو إطلاق كلّ من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر وعدمه.

فلو قلنا بأنّ الموجب لإيجاب الجمع هو إطلاق الخطابين يسقط الإطلاق ويبقى أصل الخطاب ويصحّ الترتب ولو قلنا بأنّ الموجب هو نفس الخطابين واجتماعهما وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما يسقط الخطابان من رأس وعليه


يبتني بطلانه.

ثمّ قال : ومن الغريب ما صدر من الشيخ حيث إنّه أنكر الترتّب في الضدين اللذين يكون أحدهما أهم ، ولكنّه في مبحث التعادل والترجيح التزم بالترتب من الجانبين عند التساوي وفقد المرجّح حيث قال في ذيل قوله : « إنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّية أحدهما » ما لفظه :

« لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكلّ منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطاً بالقدرة ، والمفروض انّ كلاً منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعيّن فعله ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال والعمل بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا تحكم به بديهية العقل كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ولا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلا تعيين الآخر عليه كذلك ». (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره في تبيين محل النزاع لا غبار عليه ، إنّما الكلام في عزو الترتب من الجانبين إلى الشيخ الأعظم 1 مع أنّ ما ذكره الشيخ لا صلة له بالترتّب المصطلح في المقام وذلك بالبيان التالي :

ذهب الشيخ إلى أنّ القول بحجّية الأخبار من باب الطريقية يستلزم السقوط وطرح كليهما ، وأمّا على القول بحجّيتها من باب السببية واشتمال العمل بكلّ واحد منهما على مصلحة ، فاللازم هو التخيير بين الخبرين ، وهذا الخطاب التخييري يستفاد من نفس الأمر بالعمل بخبر العادل ، أعني قوله : « صدق العادل » حيث إنّ العمل به في كلّ ، مع الأخذ بالآخر غير ممكن ، فيُقتصر في تقييد

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨.


الدليل بتركه حين الأخذ بالآخر ، فالحكم في الدرجة الأُولى هو الأخذ بهما ، ولمّا كان الأخذ بهما محالاً يقتصر في الأخذ بكلّ عند ترك الآخر.

وعندئذ يظهر الفرق بين المقامين ، بوجهين :

الأوّل : انّ التزاحم في مورد الترتّب وإن كان في مرحلة الامتثال لكن لا يعالج التزاحم فيها إلا بالتصرّف في مقام التشريع بتقييد خطاب المهم بعصيان الأهم ، وسيوافيك انّ الترتّب من المسائل التي يلازم إمكانُها وقوعَها ، فالدليلان بإطلاقهما يستلزمان التزاحم في مقام الامتثال ، ولا يعالج إلا بتقييد المهم بعصيان الأهم فيرتفع التزاحم في مقام الامتثال.

وأمّا التعارض في كلام الشيخ فلا يمكن علاجه بالتصرّف في مقام التشريع للعلم بكذب أحدهما ولكن لمّا كان كلّ واحد مشتملاً على المصلحة مع كذب واحد منهما يقتصر في ترك المصلحة ، بالأخذ بالآخر فيختصّ مورد العلاج بمقام الامتثال.

الثاني : انّ الأمر بالمهم في المقام في طول الأمر بالأهم ـ كما سيوافيك تفصيله ـ وهذا بخلاف الترتّب في كلام الشيخ فانّ كلاً من الدليلين في عرض الآخر غير انّه يتخير في العمل بواحد مع ترك الآخر ، فكيف يقاس هذا الترتب بذلك؟

الثانية : الواجب المشروط ( بعد حصول شرطه ) لا ينقلب إلى الواجب المطلق

إنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه لا ينقلب إلى الواجب المطلق ، فالحجّ واجب مشروط في حقّ الفقير والغني ، والمستطيع وغيره حتّى بعد حصول شرطه ، وبنى ذلك على أمرين :

أ. انّ الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية ، وهي الحكم على


عنوان له مصاديق محققّة ومقدرة وليست من قبيل القضايا الشخصية ، بل هي أحكام كلية.

ب. انّ كلّ شرط موضوع ( وربما يبالغ ويقول : وكل موضوع شرط ) وانّ الاستطاعة إن كانت بظاهرها شرطاً للوجوب لكنّها موضوعة للوجوب وكأنّه سبحانه يقول : الإنسان العاقل البالغ المستطيع يجب عليه الحجّ.

والحكم المجعول على موضوعه ، لا ينقلب عمّا هو عليه ، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعاً ، ولا الحكم عن كونه مجعولاً على موضوعه ووجود الشرط عبارة عن تحقّق موضوعه خارجاً ، وبتحقّق الموضوع خارجاً لا ينقلب الواجب المجعول من الكيفية التي جعل عليها ولا يوصف بالإطلاق بعد ما كان مشروطاً ، لأنّ انقلابه إلى الإطلاق يستلزم خروج ما فرض كونه موضوعاً عن كونه موضوعاً.

نعم لو كانت الأحكام الشرعية أحكاماً شخصية لصحّ ما ذكر. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ إرجاع عامّة الشروط إلى الموضوع مخالف لواقع الشروط فانّها حسب الواقع تنقسم إلى أقسام ونكتفي بذكر أقسام ثلاثة :

١. ما يكون قيداً للوجوب ومفاد الهيئة والحكم المنشأ ، المعبِّـر عن الإرادة ، كما إذا كان الشخص غير محب للضيف ولكن لو فاجأه الضيف لم يكن له بدّ من التكريم فيقول لعبده : إذا نزل بك الضيف فأكرمه ، فالوجوب معلّق على نزوله ، ولولاه فلا إرادة ولا وجوب بل ربما تتعلّق به الكراهة.

٢. ما يكون قيداً لمتعلّق الحكم ، كما إذا تعلّقت إرادة المولى على الصلاة في المسجد فيقول : صلّ صلاة الظهر في المسجد فالقيد ظرف للصلاة يجب تحصيله كتحصيلها.

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠.


٣. ما يكون قيداً للموضوع ، ككونه إنساناً عاقلاً بالغاً.

فإذا كانت القيود على أقسام ثلاثة فكيف نجعلها قسماً واحداً؟

وثانياً : أنّ ما ذكره من بقاء القضايا الكلية المشروطة على وصفها السابق مبني على القول بعدم انحلالها إلى أحكام جزئية وشخصية لهذا الفرد وذاك الفرد ، وإلا فلو ثبت الانحلال يكون الخطاب الشخصي إلى الفقير مشروطاً بالاستطاعة دون خطابه إلى الغني مطلقاً ، إذ يقبح أن يخاطب الغني السالم بأنّك إذا استطعت فحج ، مع علمنا وعلمه بأنّ المقتضي تام والمانع مفقود.

وثالثاً : أنّ رحى الترتّب لا تدور على بقاء الواجب المشروط بعد حصول شرطه على ما كان عليه ، بل تدور على أن يكون الشرط المأخوذ في موضوع الأمر بالمهم على وجه لا يقتضي طلب الجمع بين الضدّين وإن اقتضى طلب الضدّين. وعلى ذلك فلابدّ من التركيز على أنّ العصيان هل يقتضي طلب الجمع بين الضدين أو يقتضي طلب الضدّين؟ فعلى الأوّل يمتنع الترتّب ، وعلى الثاني يصحّ ، مثلاً لو كان الشرط هو امتثال الأمر الأهم على نحو الشرط المتأخر أي تصوّر الامتثال أو كان الشرط هو التسليم على زيد وافترضنا انّه سلم ، ففي هذا القسم لا ينجع الشرط في صحّة الترتّب ، سواء قلنا بأنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه باق على مشروطيته ، أو ينقلب إلى الواجب المطلق ، كما أنّه إذا كان الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر فهو نافع في رفع طلب الجمع ، من غير فرق بين بقاء الواجب المشروط بعد حصول شرطه على الشرطية أو لا ، فالواجب التركيز على دراسة واقعية الشرط وانّه هل يمنع عن طلب الجمع أو لا يمنع؟ لا على انقلاب الواجب المشروط إلى المطلق وعدمه.

فالمحقّق النائيني ـ مكان التركيز على هذا الأمر المهم الذي تدور عليه رحى


الترتّب ـ ركّز على قضية لا ينتفع بها في الترتب إلا على وجه بعيد كما سيوافيك.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني بحث في مقدّمة مستقلة ثالثة عن تقسيم الواجب المضيق إلى قسمين ، وأفاد انّ هذه المقدّمة ليست بمهمة في إثبات الترتّب ، ولأجل ذلك تركناها ونعرّج إلى المقدمة الرابعة في كلامه التي هي مقدّمة ثالثة في كلامنا وقد وصفها بأنّ رحى الترتّب تدور مدارها.

المقدّمة الثالثة : في أنّ الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم

إنّ السبب لوجود الخطاب في صورة خاصة أو في عامّة الصور هو التقييد أو الإطلاق ، فالتقييد آية وجود الخطاب في ظرف خاص ، والإطلاق آية وجود الخطاب في عامة الأحوال.

ثمّ إنّه 1 قسم الإطلاق إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : الإطلاق والتقييد اللحاظيان.

الثاني : نتيجة الإطلاق والتقييد.

الثالث : الإطلاق الذاتي.

وذكر انّ مصب الأوّل هو الانقسامات الطارئة على المتعلّق قبل تعلّق الحكم ، كتقييد الصلاة بالوضوء أو إطلاقها بالنسبة إلى جميع الأمكنة.

كما أنّ مصبّ الثاني هو الانقسامات اللاحقة بعد تعلّق الحكم كاختصاص وجوب الجهر أو القصر بالعالم دون الجاهل ، أو كاشتراك أحكام اللّه بين العالم والجاهل فانّ التقييد والإطلاق نتيجة دليل ثانوي يفيد الاختصاص أو التعميم ولا يكون الدليل الأوّل متكفلاً لا للاختصاص ولا للتعميم ، لأنّ المفروض انّهما من الأحوال الطارئة بعد تعلّق الحكم.


وإنّما المهم في المقام هو الإطلاق الذاتي ، والمراد وجود الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه وباقتضاء هويته الذاتية ، فالخطاب في قوله « أزل النجاسة » عام يشمل صورة الإزالة وعدمها ، نظير قولك : الإنسان موجود ، فالموضوع ذات الإنسان لا بوصف الوجود ، وإلا لانقلبت النسبة إلى الضرورة ؛ ولا بوصف العدم ، وإلا لانقلبت إلى الامتناع بل الماهية المعراة من كلّ قيد ومنه الوجود والعدم.

وفي المقام يتعلّق الوجوب بذات الإزالة لا بقيد الوجود الذي نعبر عنه بالامتثال ، ولا بقيد العدم الذي نعبر عنه بقيد العصيان ، فينتج انّ خطاب أزل النجاسة محفوظ في حالتي الوجود والعدم والامتثال والعصيان.

هذا كلّه حول الأمر بالأهم ، وأمّا الأمر بالمهم فنلفت نظرك إلى أمرين :

١. ما مرّ في المقدّمة الثانية من أنّ الشرط أي العصيان موضوع في الأمر بالمهم فمرجع قولك : « وإن عصيت فصلّ » إلى قولك : « أيها العاصي صلّ » ، ومن الواضح انّ الحكم لا يتكفّل حال موضوعه من وضع أو رفع ، بل هو حكم على تقدير وجوده ومشروط به.

وبعبارة أُخرى : قولك : « أيّها العاصي صلّ » بمعنى انّه إن وجد العصيان صدفة فصلّ وليس الأمر بالصلاة داعياً إلى إيجاد العصيان ، لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه.

إذا عرفت معنى الإطلاق في الأهم أي كونه محفوظاً في حالتي العصيان والامتثال ، وعرفت أنّ العصيان مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم من دون أن يكون للأمر دعوة إلى إيجاد موضوعه أي العصيان ، يظهر لك انّ الأمر بالصلاة في طول الأمر بالإزالة وذلك ببيانين :


١. انّ مقتضى الإطلاق الذاتي في الأمر بالأهم كونه محفوظاً في حالتي الامتثال والعصيان وداعياً إلى إيجاد متعلّقه في حالة العصيان أيضاً فيكون طارداً للعصيان ورافضاً له من أن يدخل في حوزة الأمر بالأهم.

وأمّا الأمر بالمهم فلا يدعو إلى حفظ العصيان وإثباته وإيجاده ، بل يدعو إلى الأمر بالصلاة لو تحقّق العصيان صدفة وعلى عفو الخاطر وما يشبه ذلك ، فيكون الأمر بالمهم غير مزاحم للأمر بالأهم.

٢. انّ خطاب الأهم في رتبة متقدمة على موضوع خطاب المهم وهو العصيان ، لما عرفت من أنّ العصيان كالطاعة متأخران عن الحكم ، والمفروض انّ العصيان موضوع في الأمر بالمهم فهو مقدّم على حكمه تقدّم الموضوع على حكمه ، فينتج تقدّم خطاب الأهم على خطاب المهم برتبتين.

وإن أردت تصويره فلاحظ العناوين التالية :

الأمر بالأهم علة فهو في رتبة متقدّمة.

العصيان في رتبة الإطاعة التي هي متأخرة عن الأمر.

العصيان موضوع في الأمر المهم وهو متقدّم على حكمه.

فيكون الأمر بالمهم متأخّراً عن الأمر بالأهم برتبتين. (١)

يلاحظ على هذه المقدّمة بطولها التي لخصناها في هذه السطور بوجهين :

الأوّل : انّ الطاعة وإن كانت متأخّرة عن الأمر بالأهم ، لأنّها أثرها ، والأثر كالمعلول يكون متأخّراً عن العلة رتبة ، إلا انّه لا دليل على تأخر العصيان رتبة عن الحكم ، لعدم وجود ملاك المعلولية في العصيان.

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٣٥٧ ـ ٣٦١.


نعم الطاعة والعصيان متأخران زماناً عن الأمر بالأهم ولكن الكلام في التأخّر الرتبي.

الثاني : انّ التأخّر الرتبي لا ينفع مالم يرفع فساد طلب الجمع بين الفعلين بشهادة انّه لو جعل الشرط في الأمر الثاني امتثال الأمر الأوّل على نحو الشرط المتأخر بأن يقول : « أزل النجاسة إن امتثلت فصلِّ » فلا يرتفع الفساد ، بل يلزم طلب الجمع بين الفعلين مع أنّ الأمر الثاني متأخّر عن الأمر الأوّل برتبتين.

والحاصل انّ التأخّر الرتبي مهما بذلت الجهود على إثباته لا ينجح ، فانّ التزاحم في مقام الامتثال ، والامتثال أمر زماني ولا يرتفع طلب الجمع إلا أن يكون زمان تأثير الأوّل مغايراً لتأثير زمان الثاني على النحو الذي عرفت في تقريب السيد المحقّق البروجردي.

المقدّمة الرابعة : في أنّ الخطاب الترتّبي لا يقتضي الجمع

هذه المقدّمة ـ كما قلنا سابقاً ويفصح عنوانُها ـ سيقت لإثبات أنّ الخطابَ الترتبيّ لا يقتضي إيجابَ الجمع ، وهي تحمل روح الترتّب ولها أهمية خاصة ، وقد فصّل المستدل الكلام في بيان مقصوده ، ونحن نقتصر على ما هو اللازم المؤثر في إثبات المدّعى.

إذا كان أحد الدليلين متعرّضاً لحال الدليل الآخر ، فإمّا أن يكون نفس الخطاب رافعاً أو دافعاً لموضوع الآخر ، وإمّا أن يكون امتثاله.

فإن كان الأوّل فهذا ممّا يوجب عدم اجتماع الخطابين في الفعلية ، ولا يعقل أن يكون كلّ من الخطابين فعليّاً ، لأنّ وجود أحد الخطابين رافع لموضوع الآخر فلا يبقى مجال لفعلية الآخر حتى تقع المزاحمة ، وهذا كما إذا ربح الرجل وكان عليه


دين من عام الربح ، فخطاب « أدّ دينك » ، رافع لموضوع خطاب الخمس الوارد في الآية المباركة ، وذلك لأنّ الخمس بعد المؤونة وأداء (١) الدين من المؤونة.

فإن كان الثاني ، أي كان أحد الخطابين بامتثاله رافعاً لموضوع الآخر ، فهذا هو محلّ البحث في الخطاب الترتّبي حيث يتحقّق اجتماع كلّ من الخطابين في الفعلية ، لأنّه مالم يمتثل خطاب الأهمّ لا يرتفع خطاب الآخر لعدم ارتفاع موضوعه بعدُ ، فيجتمع الخطابان في الزمان وفي الفعلية بتحقّق موضوعهما ، فيقع الكلام في أنّ اجتماع مثل هذين الخطابين يوجب إيجاب الجمع أو لا ، والحقّ أنّه لا يوجب لوجوه ثلاثة :

١. لو لزم إيجاب الجمع يلزم المحال في جانب المطلوب ، لأنّ مطلوبية المهمّ ووقوعه على هذه الصفة إنّما يكون في ظرف عصيان الأهم وخلوّ الزمان عنه ، بداهة أنّ ما يكون قيداً للطلب ( فإن عصيت فصلّ ) يكون قيداً للمطلوب ، فيكون الواجب « الصلاة بعد العصيان » ، كالحجّ بعد الاستطاعة ، فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في حال وجود الأهم وامتثاله ، يلزم الجمع بين النقيضين ، إذ يلزم أن يكون مطلوباً مقيداً بكونه بعد العصيان وفي الوقت نفسه مطلوباً ولو حال عدمه.

٢.لو لزم إيجاب الجمع لزم المحال في ظرف الوجوب ، لأنّ خطاب الأهمّ يكون من علل عدم خطاب المهم لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمع خطاب الأهم والمهم وصار المهمّ في عرض خطاب الأهمّ كما هو لازم إيجاب الجمع لكان من قبيل اجتماع الشيء مع علّة عدمه.

٣. البرهان المنطقي أيضاً يقتضي عدم إيجاب الجمع فانّ الخطاب الترتبي

__________________

١. الوسائل : الجزء ٦ ، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.


بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع ، بين النسبة الطلبيّة في جانب المهمّ والنسبة الفاعليّة في جانب الأهم ، فصورة القضية هكذا : إمّا أن يكون الشخص فاعلاً للأهم ، وإمّا أن يجب عليه المهم ومعه كيف يعقل إيجاب الجمع. (١)

يلاحظ على الوجه الأوّل ، منع كون العصيان قيداً للطلب والمطلوب ، وإنّما هو قيد للطلب دون المطلوب بشهادة أنّه لو تمكّن عن طريق الإعجاز الجمع بين الأهم والمهمّ لوقع المهمّ على وصف المطلوبية فما يظهر منه 1 من عدم كون المهم مطلوباً في غير صورة العصيان كما ترى.

وعلى الثاني ، أنّ ما ذكره من أنّ خطاب الأهم من علل عدم خطاب المهمّ لاقتضائه رفع موضوعه. لا يوافق جعل المقام من القسم الثاني ، أي كون أحد الخطابين بامتثاله رافعاً لموضوع الآخر ، فكيف يصحّ أن يقول إنّ خطاب الأهم من علل عدم خطاب المهم لاقتضائه رفع موضوعه.

والحقّ أن يقال : إنّ المحقّق النائيني أتعب نفسه الشريفة في ترتيب هذه المقدّمات لتصحيح الترتّب ، لكن تصحيحه واستنباطه ، لا يتوقّف على هذه المقدّمات المفصّلة ، وكان في وسعه أن يرد من أقصر الطرق وأسهلها كما عرفت منّا. شكر اللّه مساعي علمائنا.

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٣٥٧ ـ ٣٦١.


ثمرات بحث الترتّب :

الفروع الفقهية المترتّبة على صحّة الترتّب

إنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، ونحن إذا راجعنا الفقه نرى أنّ هناك أحكاماً شرعية أفتى بها العلماء ، ولا يصحّ الإفتاء بها إلا على القول بصحّة الترتّب ، وإليك بعض ما عثرنا عليه أو ذكره غيرنا :

١. المسألة المعروفة ، أعني : ما إذا رأى المكلّف نجاسة في المسجد وقد دخل وقت الصلاة ، فلا شكّ أنّه تجب المبادرة إلى إزالتها قبل أن يصلي مع سعة الوقت ، ومع الضيق يقدّم الصلاة ، ولكن لو ترك الإزالة مع سعة الوقت واشتغل بالصلاة عصى ، لأنّه ترك الأهمّ ، وإنّما الكلام في صحّة صلاته ، فتحكم بالصحّة على الترتّب. (١)

٢. إذا كان بدن المكلّف أو ثوبه نجساً ، ومن جانب آخر كان محدثاً وليس عنده من الماء إلا بقدر أحد الأمرين : رفع الحدث أو الخبث. فبما أنّ لرفع الحدث بدلاً وهو التيمّم ، يجب استعمال الماء في رفع الخبث ، فصار رفع الخبث أهمّ ، ورفع الحدث هو المهم. فلو عصى واستعمل الماء في رفع الحدث بالتوضّؤ أو الاغتسال ، فصحّتهما مبنيّة على القول بالترتّب ، أي توجّه الأمر إلى رفع الحدث

__________________

١. لاحظ العروة الوثقى ، كتاب الطهارة ، فصل « يشترط في صحّة الصلاة ... » المسألة الرابعة.


عند العزم على عصيان الأمر بالأهم. (١)

٣. إذا كانت وظيفة المكلّف التيمّم لضيق الوقت عن استعمال الماء ، ومع ذلك خالف فتوضّأ أو اغتسل ، فصحّة الوضوء أو الغسل مبنية على صحّة الترتّب أو الاكتفاء بالملاك. (٢)

٤. إذا كان وضوء الزوجة مفوِّتاً لحقّ الزوج ، مع سعة الوقت فتوضأت ، فصحّة وضوئها مبنيّة على صحّة الترتّب ، أو القول بكفاية الملاك ، كما هو الحال في عامة المسائل. (٣)

٥. لو انحصر ماء الوضوء بما يوجد في الآنية المغصوبة ، فإن اغترف منها مرّة واحدة ـ لأجل التوضّؤ ـ ما يكفيه للوضوء ، فيجب عليه الوضوء ، وإن عصى في الاغتراف ، ولا صلة للصحّة هنا بالترتّب ، لسقوط النهي عن الاغتراف بالعصيان ، وأمّا إذا كان بناؤه على الاغتراف تدريجياً ، فاغترف مرّة ما يكفيه لغسل الوجه ، فصحّة وضوئه بهذا الشكل ـ بأن يغترف مرّة أُخرى بعد غسل الوجه ، لغَسْل اليمنى ثمّ اليسرى ـ مبنية على صحّة الترتّب ، فانّ القدرة على كلّ غسلة من غسلات الوضوء حاصلة عند كلّ غسلة بالعصيان بالتصرّف في الآنية المغصوبة. (٤)

ونظيره الاغتراف من آنية الذهب أو الفضّة ، وليست القدرة الفعلية على

__________________

١. لاحظ العروة الوثقى ، كتاب الطهارة ، فصل في التيمم ومسوغاته ، في ذيل المسألة ٢٢.

٢. المصدر السابق ، المسألة ٢٩.

٣. لاحظ العروة الوثقى ، كتاب الطهارة ، شرائط الوضوء ، المسألة ٣٦.

٤. لاحظ فوائد الأُصول : ١ / ٣٧٨.


مجموع العمل قبل الشروع فيه شرطاً ، بـل تكفي القدرة عنـد كلّ جزء من أجزائـه.

٦. إذا توقّف حفظ نفس محترمة على ترك الصلاة أو قطعها ، فلو عصى واشتغل بالصلاة ، مبتدأ بها أو مستمرّاً فيها ، فالصحّة مبنية على صحّة الترتّب أو القول بكفاية الملاك. (١)

٧. إذا كان المكلّف في حال الصلاة فسلّم عليه شخص ، وجب عليه ردّ السلام ، ولو عصى واستمرّ في الصلاة ، صحّت لمكان الأمر الترتبي. (٢)

٨. لو شرع في اليومية مع سعة وقتها ، ثمّ ظهر له ضيق وقت صلاة الآية ، يجب عليه قطعها والاشتغال بصلاة الآية ، فلو لم يقطعها واستمرّ في الصلاة ، فالصحّة مبنية على القول بالترتّب أو كفاية الملاك. (٣)

ومثله كلّ صلاة موسّعة عارضت صلاة مضيّقة ، كالنافلة في وقت الفريضة مع ضيق وقتها.

٩. إذا وجب السفر في شهر رمضان بإيجاب أهم من صومه ، كسفر الحجّ ، فلو عصى ولم يسافر توجّه إليه الأمر بالصوم بحيث لو أفطر وجبت عليه الكفّارة ، كما يجب عليه الإتمام ولا يصحّ منه القصر ، فكأنّ المولى يقول : « سافر ، وأفطر ، وقصّر ، ولو عصيت فصم وأتمم ». (٤)

__________________

١. لاحظ العروة الوثقى ، فصل لا يجوز قطع صلاة الفريضة اختياراً ، المسألة ٤.

٢. لاحظ العروة الوثقى ، فصل في مبطلات الصلاة ، المسألة ١٦.

٣. العروة الوثقى ، فصل في صلاة الآيات ، المسألة ١٢.

٤. لاحظ فوائد الأُصول : ١ / ٣٥٧ ، وأجود التقريرات : ١ / ٣٠٢.


١٠. إذا زاحم الصوم ، حفظ نفس الغير أو عرضه أو زاحمه حفظ مال أهمّ في نظر الشارع من الصوم ، ومع ذلك صام ، فالصحّة مبنية على أحد الأمرين الترتّب أو القول بكفاية الملاك. (١)

١١. إذا كان اعتكاف الزوجة منافياً لحقّ الزوج ، أو اعتكاف المستأجر منافياً لحقّ الأجير ، فلو خالف وصام واعتكف ، فتصحيح العبادة بأحد الأمرين كما مرّ. (٢)

١٢. إذا كان عليه خمس من عام الربح الماضي ، وكان عليه دين حال ، فيقدّم الدين على الخمس ، فلو خالف ولم يؤدّ الدين يمكن القول بوجوب الخمس مترتّباً على العصيان. (٣)

١٣. لو صلّى العصر قبل الظهر في الوقت المشترك نسياناً فلا مانع من الإتيان بالظهر في الوقت المختصّ بالعصر.

فلو ترك الإتيان بالظهر في هذا الوقت واشتغل بصلاة أُخرى قضاءً فيمكن أن يقال إنّ اشتغال الذمّة بالواجب الفوريّ ـ أعني : صلاة الظهر ـ لا ينافي صحّة عبادة أُخرى مضادّة له بناء على تعلّق الأمر بالموسّع ـ أعني : صلاة القضاء ـ فعلاً أيضاً على الترتّب. (٤)

١٤. لو فرضت حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزوال ، فلو

__________________

١. لاحظ العروة الوثقى ، كتاب الصوم ، فصل في شرائط صحّة الصوم ، في ذيل قوله : « الشرط السادس ».

٢. لاحظ العروة الوثقى ، كتاب الاعتكاف ، فصل : يشترط في صحّته أُمور : السابع.

٣. لاحظ فوائد الأُصول : ١ / ٣٥٨.

٤. كتاب الصلاة للحائري اليزدي : ١٦.


فرض أنّه عصى هذا الخطاب وأقام ، فلا إشكال في أنّه يجب عليه الصوم ويكون مخاطباً به ، فيكون في الآن الأوّل الحقيقي من الفجر قد توجّه إليه كلّ من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ولكن مترتّباً ، فيكون وجوب الصوم أو وجوب التمام مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة. وكأنّه يقول : تحرم لك الإقامة ، وإن عصيت بنيّة الإقامة ، فصُم واتمم.

١٥. لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال ، فلو عصى ولم ينو الإقامة وجب عليه القصر وإفطار الصوم ، وكأنّه يقول : أقم وإن عصيت فقصّر وأفطر. (١)

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.


خاتمة المطاف

نظرية

الأمر بالأهم والمهم عرضاً لا بنحو الترتّب

إنّ سيّدنا الأُستاذ الإمام الخميني 1 لمّا لم يرتض بالترتّب على النحو الذي أقام دعائمه المحقّق النائيني ، سلك مسلكاً آخر في تصحيح الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم.

وحاصل النظرية : عبارة عن حفظ الأمر على الموضوعين بلا تقييد المهم بالعصيان ، وذلك بترتيب مقدّمات مفصّلة ، نذكر ملخّصاً منها :

الأُولى : الأحكام تتعلّق بالطبائع

إنّ الأحكام الشرعية تتعلّق بنفس العناوين الكلّية ، لا بها مع سائر الخصوصيات ، فانّ الطبيعي في الخارج لا ينفك عن الزمان والمكان وسائر الملابسات ، لكن المأمور به نفس الصلاة لا ضمائمها الكلّية ، وهكذا النواهي ، وذلك لأنّ المحصِّل للغرض هو نفس وجود الطبيعة دون الضمائم وإن كانت الطبيعة لا تنفك عنها.

وبذلك يُعلم أنّ مراد القائل بتعلّق الأحكام بالأفراد ليس هو المصاديق


الخارجية ، بل الضمائم والمشخّصات الكلّية ، فالوجوب في الصلاة يتعلّق بنفس الطبيعة لا بملازماتها ، كالصلاة في المساجد والبيوت والشوارع ؛ وقس على ذلك ، النواهي.

الثانية : الإطلاق : كون الطبيعة تمام موضوع الحكم

إنّ الإطلاق عبارة عن كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم ، ففي قولنا : اعتق رقبة « الرقبة » مطلق ومرسل عن القيد باسم المؤمنة ، فهي تمام الموضوع ، بخلاف المقيّد ، فالمطلق فيها جزء الموضوع.

وأمّا تفسير الإطلاق بلحاظ سريان الطبيعة في أفرادها وأصنافها بأن يلاحظ المولى الرقبة في ضمن المؤمنة والكافرة والعادلة والفاسقة وهكذا فليس بتام ، فما ربّما يفسر الإطلاق بكون الرقبة واجبة سواء أكانت مؤمنة أم كافرة وهكذا ، فهو إطلاق لحاظي غير ثابت ولا دليل عليه ، إذ يكفي بالاحتجاج بالمطلق جعله تمام الموضوع من دون لحاظ سيلانه أو سريانه في أصنافه ومصاديقه.

الثالثة : انّ الدليل غير ناظر لحال التزاحم

إذا تعلّق الحكم بنفس الإزالة فالمقنن في حال التقنين لا يلاحظ زمان تزاحمه بالصلاة وغيرها ، وذلك لأنّ الحكم المتعلّق بالصلاة متأخّر عن الحكم بوجوب الإزالة بمرحلتين ، وما يتأخّر عن الشيء بمرحلتين ، لا يصحّ أن يكون الحكم ناظراً إليه ، وذلك لأنّ الحكم بالإزالة متقدّم على تطبيق الحكم على الصعيد العملي ، أعني : مقام الامتثال ، كما هو متقدّم على حدوث التزاحم بينه وبين سائر الواجبات ، فيكون الحكم بالإزالة متقدّماً على التزاحم برتبتين ، فكيف يكون ناظراً لحال ما يتأخّر عنه برتبتين؟


أضف إلى ذلك انّ الأمر بالإزالة مشتمل على الهيئة والمادة ، والهيئة تدلّ على الوجوب والمادة على الطبيعة فليس هناك دالّ على صورة التزاحم.

الرابعة : ليس للحكم إلا مرحلتان

المعروف أنّ للحكم الشرعي مراتب أربعة :

الف : مرحلة الاقتضاء ، وهي مرحلة المصالح والمفاسد المقتضية لإنشاء الحكم.

ب : مرحلة الإنشاء ، وهي إنشاء الحكم على وفق المصالح والمفاسد بالإيجاب في الأُولى والنهي في الثانية.

ج : مرحلة الفعلية : وهي مرحلة بيان الحكم على المناهج المعروفة سابقاً ولاحقاً.

د : مرحلة التنجّز : وهي قيام الحجّة عند المكلّف على حكم المولى.

لكنّه 1 أنكر كون الأُولى والرابعة من مراحل الحكم ، قائلاً : بأنّ مرحلة الاقتضاء من مقدّمات الحكم لا نفسه ، كما أنّ مرحلة التنجّز مرحلة متأخّرة عن الحكم ، وهو حكم العقل بتنجّز الحكم على المكلّف وأثره استحقاق الثواب والعقاب ولا صلة للتنجّز بالحكم.

الخامسة : الخطاب الشرعي خطاب قانوني واحد

إنّ الخطابات الشرعية بل الأحكام مطلقاً ـ سواء أكان هناك خطاب أم لا ـ خطاب أو حكم واحد ، وهو بوحدته حجّة على عامّة المكلّفين ، فالحكم أو الخطاب واحد ، والمتعلّق كثير ، مثلاً ، قوله سبحانه : ( وَللّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ


الْبَيت ) (١) حكم واحد لا كثرة فيه وإن كان المتعلّق ( الناس ) فيه الكثرة لكن الحكم بوحدته بما انّه متعلّق بالناس حجّة على الجميع ، فكلّ فرد وقف على ذلك الحكم ، تتمّ الحجّة عليه لكونه من مصاديق الناس ، ولا حاجة لتكثير الحكم والخطاب حسب تعدد المكلّفين بأن يكون لكلّ فرد من أفراد المكلّفين حكم خاص أو خطاب كذلك.

ويشهد على ذلك الأُمور التالية :

١. قضاء الوجدان ، فانّ من يخاطب الجمع الكثير لإنجاز عمل فإنّما يدعوهم إليه بخطاب واحد ولا يدعو كلّ فرد بخطاب خاص لكفاية وحدة الخطاب مع تعدد المتعلّق مع كون كلّ مكلّف مصداقاً للمتعلّق ومخاطباً به بنفس الخطاب الواحد.

٢. لو صحّ انحلال الخطاب الواحد إلى خطابات في الجمل الإنشائية لصحّ في الجمل الإخبارية ، فإذا أخبر بأنّ القوم جاءوا ، والحال انّه لم يجئ منهم أحد ، فلو قلنا بالانحلال يلزم أن يحكم عليه بأنّه كذب حسب تعدد الأفراد مع أنّه لم يكذب إلا كذبة واحدة.

٣. لو قلنا بانحلال الخطاب يلزم خروج الكفّار والعصاة عن مصبِّ الخطابات ، وذلك لأنّ خطاب العاصي والكافر أمر قبيح لا يصدر من الحكيم ، فانّ من نعلم أنّه يعصي على وجه القطع والجزم لا نطلب منه شيئاً على وجه الجد ، مع أنّ العصاة والكفّار محكومون بالفروع ، كما أنّهم محكومون بالأُصول ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا إنّ الخطاب واحد وهو حجّة على الكلّ سواء أطاع أم خالف ، ولا يشترط في الخطاب القانوني إلا وجود جماعة ينبعثون من بعث المولى أو ينتهون

__________________

١. آل عمران : ٩٧.


من نهيه ، ولا يشترط انبعاث الكلّ أو انزجارهم.

وقد اشتهرت هذه المقدّمة عن سيّدنا الأُستاذ بأنّه يفرّق بين الخطابات الشخصية والخطابات القانونية ، وانّه لا حاجة في الخطاب القانوني إلى الانحلال في الخطاب والحكم. وعلى هذه المقدّمة تدور رحى النظريّة : اجتماع خطابين عرضيين في وقت واحد.

السادسة : انّ الأحكام غير مقيّدة بالقدرة

المعروف أنّ الأحكام الشرعية مقيّدة عقلاً بالقدرة ، وذلك لأنّ خطاب العاجز أمر قبيح ، بل أمر محال ، إذ لا تنقدح الإرادة في ذهن المولى الذي يعلم بعجز المخاطب.

هذا هو المعروف ، غير أنّ سيدنا الأُستاذ أنكر هذه المقدّمة وذهب إلى أنّه ليس للعقل التصرّف في حكم الغير والشرع غير العقل فلا تكون الأحكام مقيّدة بالقدرة.

فإن قلت : إنّ خطاب العاجز قبيح بل محال فكيف للشارع الأمر به أو الحكم عليه؟

قلت : فرق بين الخطاب القانوني والخطاب الشخصي ، فما ذكرته صحيح في الخطاب الشخصي ، إذ لا يصحّ خطاب العاجز مع العلم بعجزه ، بخلاف الخطابات القانونية فانّ الحكم فيها واحد والكثرة في المتعلّق ، وليس لكلّ فرد حكم وخطاب حتّى يطلب لنفسه التقيّد بالقدرة ، بل خطاب واحد متعلّق بالعنوان وهو حجّة على الجميع.

نعم يشترط في الخطاب القانوني وجود جماعة مستعدّة لامتثال أمر المولى


والانتهاء بنهيه حتّى لا يكون جعل الحكم لغواً.

فإن قلت : هذا يدلّ على أنّ الحكم الشرعي غير مقيّد بالقدرة عقلاً ولكن لا مانع من القول بتقيّد الأحكام بالقدرة الشرعية.

قلت : إنّ لازم هذه النظرية هو إجراء البراءة عند الشكّ في القدرة ، لأنّ مرجع الشكّ إلى الشكّ في وجود شرط التكليف ، والأصل عدم وجوده ، مع أنّهم لا يلتزمون بها عند الشكّ في القدرة ، بل الكلّ صائرون إلى القول بالاحتياط مع الشكّ فيها ، ولذلك لو شكّ في الاستطاعة أو بلوغ النتاج ، النصاب وجب الفحص ، ولا تجري البراءة.

السابعة : كلّ من الضدين أمر مقدور

إنّ المأمور به هو كلّ من الضدّين بما هو هو وذلك أمر مقدور ، وأمّا غير المقدور فهو الجمع بين الضدّين وهو ليس بمأمور به ، مثلاً : إذا زالت الشمس وقامت حجّة على إزالة النجاسة عن المسجد وقامت حجّة أُخرى على صلاة الظهر ، فهناك حجّتان تامتان قامتا على العبد كلّ يطلب نفسه ولا يطلب الجمع ، فقيامهما في هذه الحالة كقيام الحجّتين عند طلوع الفجر في شهر رمضان فكلّ حجّة في مفاده سواء أكانتا غير متزاحمتين كما في الصوم والصلاة أو متزاحمتين كما في الإزالة والصلاة.

هذا هو حال الشرع ، وأمّا العقل فإن رأى التكليفين متساويين في الأهمية حكم بالتخيير بين الأمرين ، فيكون في ترك الأمر الآخر معذوراً من دون أن يقيد أحد الأمرين بترك الآخر ، وأمّا لو كان أحدهما أهم من الآخر فيحكم العقل بتقديم الأهم على المهم على نحو لو اشتغل بالأهم يكون في ترك الآخر معذوراً


ولو اشتغل بالمهم فقد امتثل أحد التكليفين لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهم ، كما أنّه لو ترك اشتغاله بالأهمّ والمهمّ معاً فلا يكون معذوراً في ترك الأمرين.

إذا عرفت هذه المقدّمات السبع ، فقد استنتج 1 من هذه المقدّمات بقاء الحكمين أو الخطابين على الموضوعين من دون تقييد الأمر بالمهم بالعصيان ، وذلك لما مرّ في المقدّمة الخامسة من أنّ الخطابات الشخصية تختلف عن الخطابات القانونية ، فالخطاب الشخصي ناظر إلى صورة الابتلاء فلا محيص من تقييد الخطاب بالمهم بترك الأهم وعصيانه ، وأمّا الخطابات القانونية فبما انّ الخطاب واحد وهو غير ناظر إلى حالة التزاحم بحكم المقدّمة الرابعة فلا داعي لتقييد امتثال الأمر بالمهم بعصيان الأوّل.

فخرج بهذه النتيجة بقاء الحكمين والخطابين بحالهما عند الابتلاء بالتزاحم غاية الأمر للمكلّف تحصيل العذر في ترك أحدهما ، فلو امتثل الأمر بالأهم فقد حصّل العذر ، وإن امتثل الأمر بالمهم لم يحصّل العذر في ترك الأهم ، وإن عصى كلا الأمرين فلم يحصّل عذراً أبداً.

وبهذا تبين انّ الأهم والمهم نظير المتساويين في أنّ كلّ واحد مأمور به في عرض الآخر ، وهذان الأمران العرضيان فعليّان متعلّقان بعنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف ، إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الآخرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً ولا عقلاً ، بل تلك المطاردة لا توجب عقلاً إلا المعذورية العقلية في ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر في المتساويين وفي ترك المهم حال اشتغاله بالأهم. (١)

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٠٢ ـ ٣١٢.


نظرنا في المقدّمات والنتيجة

هذا ما أفاده سيدنا الأُستاذ 1 ـ شكر اللّه مساعيه ـ ولكنّ لنا في بعض المقدّمات والنتيجة نظراً نطرحه على صعيد البحث؟

١. انّ ما استدلّ على نفي الانحلال بأنّه لو صحّ الانحلال في الإنشاء لصحّ في الإخبار ، ولو صحّ في الإخبار يلزم أن يُحكم على القائل بأنّ النار باردة انّه كذب بعدد وجود النار في العالم ماضية وحاضرة ، غير تام ، وذلك إذ لا ملازمة بين الانحلال وتعدّد الكذب ، لأنّ الثاني من صفات الكلام المتفوَّه به ، فإذا كان ما تفوَّه به كلاماً واحداً وإن كان الموضوع وسيعاً فلا يلزم إلا كذباً واحداً ، فلو جاء القوم ولم يجئ واحد منهم لم يكذب إلا كذباً واحداً ، إذ لم يصدر منه إلا كلام واحد مع وحدة المجلس.

٢. انّ ما أفاده فـي المقـدّمة السادسة بـأنّ الأحكـام الشرعية غير متقيـّدة بالقدرة عقلاً وإلا يلزم تصرّف العقل في حكم الغير ، ولا شرعاً وإلا يلزم إجراء البراءة عند الشكّ في التكليف ، غير تام ، لأنّ موقف العقل في المقام موقـف الكشف لا التصرّف ، فإذا وقف العقل على صفات الشارع يستكشف بما انّه حكيم انّه لا يوجه الحكم إلا إلى القادر لا الأعم منه والعاجز ، فالأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة الشرعية دلّ على ذلك العقل دون أن يتصرّف في حكم الشرع.

ومع الاعتراف بأنّ الأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة فمع الشكّ في القدرة يجب الاحتياط ولا يجوز إجراء البراءة ، لما قلنا في محلّه من أنّ كلّ شرط لا يعلم وجوده وعدمه إلا بالفحص يجب الفحص عنه ، ولذلك يجب التفحّص عن


الاستطاعة في الحج ، والنصاب في الزكاة والقدرة في كلّ الأحكام ، وإلا يلزم تعطيل قسم كبير من الأحكام.

هذا كلّه حول بعض ما أفاده في المقدّمات.

وأمّا النتيجة التي استنتجها من هذه المقدّمات فهي مبنيّة على مقدّمتين :

المقدمة الأُولى : الإطلاق هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع من دون سريان حكمه إلى حالات الموضوع المختلفة.

المقدمة الثانية : انّ الدليل غير ناظر إلى صورة التزاحم.

فنقول : إنّ ما ذكره صحيح في عالم الإثبات دون الثبوت ، والدليل وإن كان غير ناظر إلى حالات المكلّف من الابتلاء والتزاحم إلا انّ المولى يمكنه التفطّن إلى صورة الابتلاء ، وعندئذ نسأل هل يرى المولى نوع المكلّف محكوماً بالحجّتين وملزماً بالعمل بهما أو لا؟ فعلى الأوّل يلزم التكليف بغير المقدور ، وعلى الثاني يلزم رفع اليد عن إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً.

وإن شئت قلت : إنّ الأحكام الشرعية متقيّدة بالقدرة بالمعنى الذي عرفت ، وعلى ضوء ذلك فلو سئل المولى عن انبساط طلبه وشموله لصورة التزاحم في حقّ نوع المكلّف ، لا شخصه حتّى يقال انّ الخطاب قانوني لا شخصي فامّا أن يجيب بالإثبات لزم الأمر بغير المقدور ، وإن أجاب بالسلب فمعنى هذا انّه رفع يده عن إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً ، وهذا ما يجرّنا إلى القول بعدم التحفّظ بالأمرين معاً.

والحاصل : انّه قد وقع الخلط بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، فما ذكره صحيح في مقام الإثبات ، فالدليل غير ناظر لصورة التزاحم والخطاب واحد


وليس هناك خطابات ، إلا انّ الكلام في مقام الثبوت وتوجّه المولى إلى أنّه ربّما يبتلي نوع المكلّف بالأمرين ، ومن المعلوم أنّ هذا الموقف لا يقبل الإهمال ، فإمّا أن يكون هناك إرادتان وحجّتان على المكلّف من دون رفع اليد عن أحدهما تخييراً أو تعييناً فيلزم الأمر بغير المقدور أو لا يكون إلا إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً فهو على جانب النقيض ممّا اختاره.


الفصل السادس

في جواز الأمر

مع العلم بانتفاء شرطه

هل يجوز أمر الآمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، أو لا؟

ظاهر العنوان يعرب عن أنّه من فروع مسألة « التكليف بما لا يطاق » فالأشاعرة على الجواز والعدلية على المنع ، وعلى كلّ تقدير ففي مرجع الضمير في قوله « بانتفاء شرطه » وجوه.

الأوّل : انّ الضمير يرجع إلى نفس الأمر ، والمراد من شرط الآمر هو علل وجوده ، فانّ الأمر ظاهرة كونيّة ولكلّ ظاهرة علّة ومن أجزاء العلّة هو الشرط. فيقع الكلام في جواز الأمر مع انتفاء شرط من شرائط علّة وجود الأمر. وأمّا علّة وجود الأمر فهو عبارة عن تصور الشيء ، والتصديق بفائدته ، والشوق المؤكّد إليه ، ودفع موانعه و ....

وعليه يكون المراد من الجواز هو الإمكان الوقوعي ، وأنّه هل يصدر الأمر من الآمر في هذا الظرف أو لا يصدر؟

والجواب هو عدم الجواز ، لأنّ صدور المعلول مع عدم العلّة التامّة أشبه بصدور المعلول بلا علّة ، وهو محال وقوعاً ـ وإن كان بالذات ممكناً ـ وهذا شأن


كلّ معلول ممكن بالذات ، ممتنع بعدم وجود علّته ، فيكون ممكناً بالذات ممتنعاً بالغير ، وهذا هو الذي يعبر عنه بالامتناع الوقوعي.

الثاني : انّ الضمير يرجع إلى الأمر مثل الاحتمال الأوّل ، لكن يراد من المرجع نفس الأمر ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه على نحو الاستخدام ، بأن يقال : هل يجوز أمر الآمر مع علم الآمر بانتفاء شرط الفعلية أو شرط التنجز؟ وهذا هو الذي اختاره المحقّق الخراساني وقال : إنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك حقيقة وقد يكون صورياً وربما يكون غير ذلك.

ويؤيد ذلك انّ القائلين بالجواز يستدلّون بأمره تعالى إبراهيمَ الخليلَ بذبح ولده إسماعيل مع علمه تعالى بفقدان شرط فعلية الأمر أو تنجّزه ، والشرط هو عدم النسخ ، وقد كان منتفياً والأمر منسوخاً ، وإلى هذا الاحتمال يرجع ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في تعليقته على الكفاية من رجوع الضمير إلى الامتثال. أي هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الامتثال؟ وهذا التعبير أفضل وأوضح من تعبير المحقّق الخراساني.

وقد سبق منّا القول بأنّ شرط فعلية الأمر هو بيان المولى والمفروض انّه سبحانه بيّن أمره للخليل ، وإنّما المنتفي هو شرط التنجز وهو عدم النسخ فهو شرط تنجز الأمر لا فعليته.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر انّ هذا الاحتمال يرفع النزاع من البين ويقع التصالح بين الجانبين فالقائل بالجواز يريد من الأمر بالشيء هو الإنشاء الصوري مع عدم بلوغ الأمر إلى مرحلة الفعلية والتنجّز ، كما أنّ القائل بالامتناع يريد من الأمر بالشيء هو الأمر به بعامّة مراتبه حتّى التنجز ، فعندئذ لا نزاع بين النافي والمثبت.


الثالث : ما اختاره سيدنا الأُستاذ 1 وهو انّ المراد الأمر بالشيء مع انتفاء شرائط المأمور به ، كما إذا أمر بالصلاة مع الطهارة وهو يعلم عدم تمكّن المكلّف منها ، ثمّ إنّه 1 قال بجوازه وذلك مستنداً بما اختاره في البحث السابق من وجود الفرق بين الخطاب الشخصي والخطاب القانوني حيث لا يصحّ توجيه الخطاب الشخصي إلى الفاقد بأن يقول لفاقد الماء والتراب ، صل مع الطهارة.

وأمّا الخطاب القانوني فيصحّ ، وذلك لأنّه ليس خطاباً شخصياً ، بل خطاباً لعامّة المكلّفين ، وهم بين واجد للشرط وفاقد له ، فيصحّ خطاب الجميع بالأمر وإن كان بعضهم فاقداً للشرط ، إذ عند الفقدان تصل النوبة إلى العقل فيعد العاجز معذوراً والواجد غير معذور.

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره لا ينطبق على المثال الذي طرحه كلّ من النافي والمثبت ، وهو أمر الخليل بذبح إسماعيل مع عدم شرطه ، إذ لم يكن الخطاب في هذا المورد إلا خطاباً شخصياً لا قانونياً.

أضف إلى ذلك ما ذكرناه سابقاً من أنّ الخطابات القانونية وإن كانت غير ناظرة إلى صورة التزاحم أو إلى صورة فقد المكلّف شرط المأمور به ، لكن عدم النظارة يختص بعالم الإثبات فالدليل في مقام الدلالة غير ناظر إلى صورة التزاحم وفقد الشرط.

لكن المولى سبحانه واقف باختلاف المكلّفين من حيث الشروط وأنّهم بين واجد لشرط المكلّف به وفاقد له وعندئذ فهل يبقى خطابه ـ عند التوجه إلى اختلاف المكلّفين في الشرط ـ أو لا؟ فعلى الأوّل عاد محذور التكليف بالمحال وعلى الثاني لا يكون للخطاب القانوني دور في المقام ، لأنّ الخطاب الشخصي أيضاً مثله.


ثمرة البحث

تظهر الثمرة في لزوم الكفّارة على من أفطر يوم شهر رمضان مع فقد شرط المأمور به في الواقع ، دون أن يكون المكلّف عالماً به ، كما إذا أفطر ثمّ بدا له السفر قبل الظهر أو مات أو مرض كذلك ، فعلى القول بصحّة التكليف تجب عليه الكفارة بخلاف القول بعدم صحّته ، لفقدان الشرط.

يلاحظ على الثمرة : أنّ الظاهر لزوم الكفّارة مطلقاً ، إذ ليست الكفّارة دائرة مدار وجوب الصوم وعدمه واقعاً حتّى يقال بأنّ المكلّف لم يكن مكلّفاً بالصوم لفقدان الشرط في الواقع به ، بل تدور على الإفطار بلا عذر والمفروض انّه أفطر بلا عذر ثمّ طرأ عليه العذر.


الفصل السابع

هل الأوامر والنواهي

تتعلّق بالطبائع أو الافراد؟

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : ليس النزاع في الدلالة اللفظية

إنّ النزاع لا يختصّ بالأمر والنهي باللفظ بل يعمّ الأمر بالجملة الخبرية أو النهي بمثلها ، كما يعمّ الأمر والنهي بالإشارة فيقع الكلام في الجميع فيما هو المتعلّق للأمر والنهي.

والذي يعرب عن عمومية محلّ النزاع ما نقل عن السكاكي من اتّفاق علماء العربيّة على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلا على نفس الماهية ، فلو كان النزاع في الدلالة اللفظية لكان اللازم عدم النزاع ، لأنّ المادة في الأمر والنهي هي المصدر المجرّد من اللام والتنوين فلا يدلّ إلا على نفس الماهية ، وهي المتعلّق للأمر ، فيجب على الأُصوليّين الاتّفاق على كون المتعلّق هو الطبيعة ، لكن وجود النزاع يُعرب عن كون محلّه أعمّ من اللفظ والفعل. ومن اللفظ أعم من الإنشاء والإخبار.


الثاني : ليس النزاع مبنيّاً على المسائل الفلسفية

إنّ في الفلسفة مسألتين هامّتين لهما تأثيران في سائر المسائل الفلسفية.

١. هل الأصل في الخارج ، والمنشأ للأثر هو الوجود أو حدّ الوجود وهو الماهية؟

وبعبارة أُخرى : هل المحصّل للغرض هو الوجود وتحقّق الشيء أو المحصّل هو الشيء لكن عند التلبّس بالتحقق؟

فربّما يقال بتعلّق الأمر بالفرد على القول الأوّل وبالطبيعة على القول الثاني.

٢. هل الموجود في الخارج هو طبيعي الشيء أو فرده؟ فعلى الأوّل يكون المتعلّق هو الطبيعة ، وعلى الثاني هو الفرد.

يلاحظ على كلا الأمرين : بأنّ المسائل الأُصولية مسائل عرفية ، وبتعبير آخر عقلائية لا صلة لها بالمسائل الفلسفية الدقيقة ، فانّ الحاكم في المسائل الفلسفية هو العقل الدقيق ، ولكن الحاكم في المسائل الأُصولية هو العرف الدقيق.

وعند ذلك لا وجه لابتناء البحوث الأُصولية على البحوث الفلسفية.

وبذلك يعلم أنّ ما أطنب به المحقّق الاصفهاني ( قدّس اللّه نفسه الزكية ) من أنّ النزاع مبني على أنّ الطبيعي بنفسه موجود أو هو موجود بوجود أفراده تبعيد للمسافة وخروج عن طور البحث في المسائل الأُصولية.

الثالث : ما هو المراد من الطبيعة؟

قد تطلق الطبيعة ويراد بها الماهية الحقيقية التي لو وجدت في الخارج لكانت من إحدى الحقائق الكونيّة وتكون داخلة تحت مقولة واحدة كالإنسان


الذي هو داخل تحت مقولة الجوهر.

وقد تطلق على العنوان المنتزع من حقائق متعددة داخلة تحت مقولات مختلفة ، كالصلاة التي هي ليست داخلة تحت مقولة من المقولات ، بل هي عنوان منتزع من حقائق متباينة كالقراءة التي هي من مقولة الفعل ، والجهر والمخافتة اللتين هما من مقولة الكيف ، والركوع والسجود اللذين هما من مقولة الوضع ، ولأجل ذلك توصف الصلاة ، بالماهية المخترعة وهي في الحقيقة عنوان منتزع من ماهيات وحقائق متباينة.

الرابع : ما هو المراد من الافراد في عنوان البحث؟

هذا هو بيت القصيد في المقام وهناك احتمالات :

١. المراد من الافراد هو المصاديق الخارجية من أفراد الطبيعة بحيث يتعلّق الأمر أوّلاً وبالذات بنفس الفرد لا على العنوان حتّى يكون مرآة لها.

يلاحظ على ذلك : أنّ الغرض من الأمر هو تحصيل ما ليس بموجود ، ولو تعلّق الأمر بالفرد الخارجي ، يلزم تحصيل الحاصل ، إذ بعد وجود الفرد الذي هو متعلّق الأمر لا معنى للبعث إليه ، فانّ ظرف الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الأمر لا تعلّقه.

٢. أن يراد من الفرد ، المشخّصات الكلّية والضمائم التي لا تنفك الطبيعة عنها فالمتعلّق والضمائم عناوين كلّية يتعلّق بهما الأمر أيضاً ، فبما انّ الطبيعة والمشخّصات عناوين كلّية والمفروض تعلّق الأمر بكليهما ، فيُصبح الفرد الخارجي مصداقاً للواجب بكلتا الحيثيتين : فيكون مصداقاً للطبيعة كما أنّه يكون مصداقاً للضمائم والمشخّصات والأعراض التي لا ينفك عنها.


وعلى ضوء هذا فالنزاع في أنّ المأمور به هو الطبيعي بما هو هو أو هو مع المشخّصات والأعراض الكلية.

فمن قال بالأوّل فقد جعل الواجب هو الحيثية الطبيعية ومن قال بالثاني جعل الواجب الحيثيتين الطبيعية والضمائم المقترنة بها.

فإذا فرضنا انّه توضأ بماء حار في البرد القارص ، فهل متعلّق الأمر هو نفس التوضأ بالماء ، أو أنّ متعلّقه هو الضميمة المقترنة بها كحرارة الماء؟ فلو افترضنا انّه قصد القربة في أصل الوضوء دون الوضوء بالماء الحارّ ، فعلى القول بأنّ متعلّقه هو الطبيعة يصحّ وضوؤه دون القول الثاني لأنّه لم يقصد القربة في الضمائم.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تفسير الفرد بهذا المعنى فقال ما هذا لفظه :

إنّ تشخّص الطبيعي بنفس وجوده ، وتشخّص الوجود بذاته ، وأمّا الأُمور الملازمة للوجود الجوهري خارجاًً التي لا تنفك عنه ، كأعراضه من الكم والكيف والأين والوضع وغيرها ، فهي موجودات أُخرى في قبال ذلك الموجود ومباينة له ذاتاً وحقيقة ، ومتشخّصات بنفس ذواتها ، وافراد لطبائع شتّى ، لكلّ منها وجود وماهية فلا يعقل أن تكون الأعراض مشخّصات لذلك الوجود لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخّص ، فلا يعقل أن يكون تشخّصه بكمه وكيفه وأينه ووضعه. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه خلط بين المصطلحين : مصطلح الفلاسفة وما اصطلح عليه الأُصوليون.

توضيح ذلك : قد كان الرأي السائد قبل الفارابي ( المتوفّى ٣٣٩ هـ ) على أنّ

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ١٩.


التشخّص بالاعراض وانّ الجواهر تتشخّص بالكم والكيف وسائر الاعراض ، فالإنسان الطبيعي بالبياض والسواد يتميّز عن الآخر ، كما أنّه بطول قامته وقصرها يتميّز عن الآخر وهكذا.

ولكن انقلب الرأي السائد في عصر الفارابي إلى يومنا هذا بأنّ تشخّص الإنسان بوجوده ، ومع قطع النظر عن الوجود فالإنسان كلّي ، وضم كلي ( العرض ) إلى كلي آخر لا يفيد التشخّص ، فإذاً التشخّص الخارجي ، يتحقق بنفس وجود الجوهر فله طبيعة ووجود ، كما أنّ للعرض طبيعة ووجوداً ، فالوجود هو الذي يضفي التشخّص على الجوهر وعلى العرض ، فتعيّن الجوهر بوجوده كما أنّ تعيّن العرض به ولا يتشخّص الجوهر لا بطبيعة العرض ولا بوجوده.

هذا هو مصطلح الفلاسفة المتأخرين عن الفارابي ولكنّ للتشخّص اصطلاحاً آخر عند الأُصوليين وهو مبنيّ على الفهم العرفي ، حيث إنّ تميّز فرد عن فرد آخر عند العرف بعوارضه واعراضه ككون زيد أبيض وأطول من عمرو الذي هو أسود وأقصر ، أو كون زيد ابن فلان وعمرو ابن فلان آخر ، فهذه الاعراض تميّز الجواهر بعضها عن بعض. وكلّ من المصطلحين صحيح في موطنه ، ففي الدقّة العقلية التشخّص مطلقاً بالوجود لا بالاعراض ولكن التشخّص بين الناس إنّما هو بالاعراض ولكل قوم مصطلحهم ومشربهم.

الثالث : ما اختاره سيدنا الأُستاذ 1 وهو انّ المراد من الافراد هو المصاديق المتصوّرة بنحو الإجمال كما هو الحال في الوضع العام والموضوع له الخاص فيكون معنى « صلّ » أوجد فرد الصلاة ومصداقها ، لا بمعنى انّ الواجب هو الفرد الخارجي أو الذهني بما هو كذلك ، بل ذات الفرد المتصوّر إجمالاً ، فانّ الافراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها كما انّ الطبيعة قابلة للتصوّر كذلك. (١)

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٤٣.


دليل القول المختار

إذا عرفت هذه الأُمور فالظاهر انّ المراد من الفرد هو المعنى الثاني ، وعلى ذلك فالأمر يتعلّق بنفس الطبيعة لا بالمشخّصات التي نعبّر عنها بالضمائم أو الجهات الفردية ، ودليله واضح وهو انّ البعث لا يتعلّق إلا بما هو دخيل في غرض المولى ولا يتعلّق بما ليس له دخل فيه ، ومن المعلوم أنّ المؤمِّن لغرض المولى هو نفس الطبيعة مع قطع النظر عن الضمائم والمشخّصات الفردية بحيث لو أمكن أن توجد الطبيعة مجرّدة عن الضمائم والمشخّصات لكان صالحاً للامتثال ، غير أنّ الطبيعة لا تتحقّق في الخارج بلا ضمائم.

أدلّة القول بتعلّقه بالافراد

استدلّ القائل بتعلّق الأوامر بالافراد بأُمور فلسفية غير مفيدة في المقام ، وإليك بيانها ضمن أُمور :

١. انّ الطبيعة ليست موجودة في الخارج وإنّما الموجود هو الفرد ، فكيف يكون ما ليس موجوداً في الخارج متعلقاً بالأمر؟

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بما ذكر غفلة عن تفسير قولهم : « الحقّ انّ الطبيعي موجود بوجود أفراده » وذلك لأنّ تحقق الفرد عين تحقّق الطبيعة وهي تتحقّق في ضمن كلّ فرد مع تكثّر الأفراد. فإذا كان في مجلس عشرة أشخاص فهناك طبائع كثيرة حسب تكثّر الأفراد ، فزيد إنسان تام كما أنّ عمرو إنسان تام آخر وهكذا ، والتفصيل في محلّه.

٢. قد اشتهر بين الفلاسفة أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي ، فهي لا موجودة ولا معدومة ، ولا مطلوبة ولا مبغوضة ، فإذا كان هذا مقام الطبيعة وشأنها


فكيف تكون متعلّقة للأمر وموضوعاً للبعث؟

يلاحظ عليه : بأنّ الاستدلال بهذه الكلمة المأثورة من الفلاسفة نابع من تفسير خاطئ لها فانّ المراد من سلب الوجود والعدم أو المطلوبية والمبغوضية عن الماهيّة هو عدم كون هذه الأُمور في مرتبة الماهية ، إذ لو كان الوجود أو العدم مأخوذين في مرتبتها لأصبحت واجبة الوجود أو ممتنعة فلا محيص عن توصيف الماهية بالإمكان بمعنى سلب الوجود والعدم عن حدّها وكونهما غير مأخوذين في تلك المرحلة ، وهكذا المطلوبية والمبغوضية فليستا في حد الماهية ، إذ لو كانت الأُولى مأخوذة لما صحّ السلب عنه في ظرف من الظروف ، وهكذا العكس.

ومع هذا الاعتراف تكون الماهية في مرتبة دون حدها موجودة معدومة مطلوبة ومبغوضة.

وإن شئت قلت : إنّ الماهية بالحمل الأوّلي ليست واجدة لهذه الأُمور بشهادة انّ مفهوم الإنسان غير مفاهيم هؤلاء ، وأمّا بالحمل الشائع الصناعي فلا شك انّ الإنسان موجود والعنقاء معدوم والصلاة مطلوبة وشرب الخمر مبغوض.

٣. انّ الطبيعي الصرف لا يقضي حاجة الإنسان وإنّما القاضي لها هو وجوده الخارجي ومعه كيف يكون الطبيعي الصرف متعلقاً للبعث والزجر؟

يلاحظ عليه : بأنّ المستدل خلط بين متعلّق البعث وما هو غاية البعث المفهومة من القرينة ، فالبعث يتعلّق بالطبيعي الصرف من كلّ قيد ولكن الغاية من البعث إليه هو إيجادها ، فإذا قال : إسقني ، فقد بعثه إلى السقي من دون تجاوز الطلب عن السقي إلى شيء آخر لكن الغاية هو إيجادها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما وقف على الاستدلال حاول أن يجيب عنه بالتفريق بين متعلّق الأمر ومتعلّق الطلب ، فقال : إنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة وأمّا


الطلب فهو يتعلق بوجودها وإليك نصّه ، يقول :

إنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الافراد هو انّ الطبائع بوجودها السعي بما هو وجودها ( قبالاً لخصوص الوجود ) متعلّقة للطلب لا أنّها بما هي هي ، كانت متعلّقة لها كما ربما يتوهّم فانّها كذلك ليست إلا هي ، نعم هي كذلك تكون متعلّقة للأمر فانّه طلب الوجود. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ كلامه مبني على أنّ الهيئة تدلّ على أخذ الوجود في متعلّق الطلب ، فإذا قال : اسقني ، فمعنى ذلك : اطلب منك وجود السقي ، لكنّه كلام غير تام ، لأنّ الهيئة وضعت للبعث أو الطلب المجرّدين عن الوجود.

فالأولى في الإجابة ما قلنا من أنّ البعث إلى الطبيعة لغاية الإيجاد ، فبما انّ المؤمِّن للغرض هو الوجود فهذا يشكِّل قرينة على أنّ البعث لتلك الغاية.

وربما يجاب عن الإشكال بأنّ الطبيعة تؤخذ مرآة للخارج شأن كلّ المفاهيم فإذا قال : اسقني ، فقد جعل السقي مرآة إلى الحيثية الوجودية والجهة العينية من الطبيعي فيطلب الطبيعي بما هو حاك عن الخارج ومرآة له.

يلاحظ عليه : بما سبق في مبحث الوضع من أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة إلى الافراد ، لأنّ اللفظ لا يحكي إلا عن معناه ، والمفروض انّ الخصوصيات الفردية خارجة عن الموضوع له ، فكيف تدلّ عليها الطبيعة؟ ومجرّد اتحاد الطبيعة مع المشخّصات الفردية لا يكون سبباً لحكاية الطبيعة عن الملازمات فلابدّ من إرادة المشخّص من لفظ ودالّ آخر ، والمفروض عدمه.

٤. انّ المتلازمين يجب أن يكونا متّحدين في الحكم ، فإذا تعلّق البعث بالطبيعة ، يجب أن يتعلّق بلوازمها وضمائمها.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.


يلاحظ عليه : ما مرّ في مبحث وجوب المقدمة من أنّ المتلازمين يجب أن يكونا غير متضادين في الحكم كأن يكون أحدهما واجباً والآخر محرّماً ، أمّا اتحادهما في الحكم فلا.

ثمرة البحث

تظهر ثمرة البحث في موارد نشير إلى موردين :

الأوّل : إذا توضأ في الصيف بماء بارد وقصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم ، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع يكفي وجود القربة في أصل التوضّؤ بالماء ، وأمّا لو قلنا بتعلّقها مضافاً إلى الطبائع بالافراد أي اللوازم والمقارنات يبطل الوضوء لعدم القربة فيها ، بل الغاية منها هو التبرّد.

الثاني : فيما إذا صلّى في دار مغصوبة فعلى القول بأنّ متعلّق الأمر والنهي هو نفس الطبيعة لا المشخّصات الفردية يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي ، لأنّ الصلاة تتشخّص تارة بالمباح وأُخرى بالمغصوب والكلّ من الملازمات المتّحدة معها في الوجود فلا يتجاوز الأمر عن متعلّقه إلى ملازماته ومتشخّصاته ، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الأمر بالأفراد حيث تكون الملازمات المتّحدة متعلقة للأمر فيلزم أن يتعلّق الأمر بنفس ما تعلّق به النهي وهو غير جائز.

وأورد عليه المحقّق الخوئي بما هذا حاصله : بأنّ الأمر على كلا القولين تعلّق بالصلاة أو بفرد ما منها ، ولم يتعلق بفرد ما من هذه الطبيعة وفرد ما من الطبائع الأُخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي ، وعلى ذلك فالقائل بتعلّق الأمر بالطبائع يدّعي تعلّقه بطبيعة الصلاة مع عدم ملاحظة أيّة خصوصية من الخصوصيات ، والقائل بتعلّقه بالافراد يدّعي انّه تعلّق


بفرد ما من أفرادها ، ولا يدّعي انّه تعلّق بفرد ما من أفرادها وفرد ما من الطبائع الأُخرى كالغصب أو نحوه ، فالخصوصيات من الاعراض خارجة عن مصب الأمر. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبني على تفسير الفرد بالمعنى الأوّل وانّ مدار القولين هو تعلّق الأمر بالطبيعي أو فرد ما من ذلك الطبيعي ، فعندئذ يصحّ ما يقول من أنّ المقصود من تعلّق الأمر بالفرد ، هو الفرد من طبيعي واحد لا الفرد من طبيعة أُخرى أيضاً كالغصب.

ولكنّك عرفت أنّ هذا التفسير تفسير خاطئ ، لأنّ الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الوجوب لا ظرف ثبوته وتعلّقه ، بل المراد من الفرد هو الضمائم واللوازم التي لا تنفك عن الطبيعة مطلقاً أو تقارنها أحياناً ، وعندئذ يقع البحث في أنّ متعلّق الأمر هو ذلك الطبيعي أو الطبيعي مع ضمائمه الكلية ولوازمه غير المنفكة عند التحقّق ، فعلى القول الأوّل ، يجوز اجتماع الأمر والنهي ، لأنّ متعلّق الأمر الحيثية الصلائية ومتعلّق النهي هو الحيثية الغصبية وكلّ ثابت على متعلّقه ، وهذا بخلاف القول بتعلّق الأمر بالفرد ، أي اللوازم والضمائم الكلّية ، فبما انّ الصلاة تارة تقام في مكان مباح وأُخرى في مكان مغصوب فالأمر يتعلّق بالصلاة في المكان المباح أو بالصلاة في مكان مغصوب ، فعندئذ تكون الحيثية الغصبيّة متعلّقة بالأمر كما تكون نفس الصلاة كذلك ، فيلزم من القول باجتماع الأمر والنهي اجتماعهما في عنوان واحد.

إلى هنا ظهر انّ الأمر كالنهي يتعلّقـان بالطبائع دون الخصوصيـات الفردية.

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ٢٠.


تكميل

للطبيعة أفراد لا حصص

إنّ الدائر في ألسن كثير من المحقّقين كالشيخ النائيني وضياء الدين العراقي والسيد الخوئي وجود الحصص للطبيعة ، والحقّ انّ للطبيعة أفراداً لا حصصاً ، وإليك التفصيل :

إنّ الكلّي ينقسم إلى كلي منطقي وطبيعي وعقلي.

أمّا الأوّل : فهو مفهوم الكلي في مقابل مفهوم الجزئي ، فالأوّل ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، والثاني ما يمتنع فرض صدقه كذلك.

وأمّا الثاني : فهو عبارة عن معروض الكلي أي المفهوم الذي يصدق عليه انّه كلي كالإنسان والحيوان والشجر ، فالطبيعي عبارة عن المفهوم الذي ينطبق عليه عنوان الكلي.

وأمّا الثالث : فهو عبارة عن لحاظ العارض والمعروض معاً ، أي الإنسان بما انّه كلي فعندئذ يطلق عليه انّه كليّ عقلي ، وليس للأوّل ولا للثالث موطن إلا العقل ، إنّما الكلام في الثاني أي ذات الطبيعي ، والحقّ انّه موجود في الخارج متكثّر بتكثّر الأفراد.

وذلك لأنّ مفهوم الإنسان لما كان معرىً عن كلّ قيد حتّى قيد كونه في الـذهن يتكثّر في الخـارج بتكثّر الأفـراد فلـو كان على أديم الأرض إنسـان واحد فهناك طبيعـة واحدة ، وإذا كـان عليه أفراد كثيرة فهنـاك طبائـع كثيـرة محققـة في


الخارج.

والذي يوقع الإنسان غالباً في الاشتباه هو الخلط بين ذات الطبيعي والطبيعي بقيد الكلية ، فالثاني غير موجود لأنّ ظرف الكلية هو الذهن دون الخارج ، بخلاف ذات الطبيعي فانّه معرّى عن كلّ قيد فيوجد في الذهن كما يوجد في الخارج ، فلو وجد في الذهن يوصف بالكلية ، ولو وجد في الخارج يتكثر بتكثر أفراده ، ولذلك اشتهر عن الشيخ الرئيس انّه قال : إنسانية زيد غير إنسانية عمرو وإنسانيته غير إنسانية بكر ، وكلّ واحد إنسان ، تام الإنسانية ، لأنّها تقبل الكثرة في الخارج.

وعلى ضوء ذلك فمثل الطبيعي إلى أفراده كمثل الآباء إلى الأبناء لا كمثل أب واحد إلى الأبناء ، وهذا ما يقال انّ الطبيعي واحد نوعي والفرد واحد شخصي ، فلو وجد فرد في الخارج فقد وجد الطبيعي بعامّة حقيقته وهو لا يمنع أن يوجد في ضمن فرد آخر بعامّة حقيقته ، وذلك لأنّه واحد نوعي فلا تمنع الوحدة النوعية عن الكثرة العددية.

ومن هنا يعلم أنّ كلّ فرد من أفراد الإنسان تمام الإنسان لا حصة منه ، كما أنّ كلّ فرد من أفراد الصلاة نفس الصلاة لا حصة منها ، فإذا كان الإنسان يقبل التكثّر حسب تكثّر الأفراد فلا معنى لكون الفرد حصة من الإنسان ، بل الفرد كلّ الإنسان ، لا جزء منه.

وأمّا من قال بأنّ الطبيعي واحد بالشخص وانّه موجود خاص جزئي ، فالأفراد تكون حصصاً بالنسبة إليه ، وبالتالي يكون كلّ إنسان ناقصاً في إنسانيته ، بل جميع الأفراد تشكل إنساناً تاماً ، وهذه هي نظرية الشيخ الهمداني الذي رآه الشيخ الرئيس في مدينة همدان وكان يقول : إنّ الطبيعي واحد بالشخص ، فألّف


رسالة مستقلة في ردّه وكان في التعبير بالحصة شيئاً من التأثر بتلك النظرية المردودة.

وقد اعتذر شيخنا الأُستاذ ( مد ظله ) عن الورود في هذه المسألة التي ليس لها مسيس بالمسائل الأُصولية وإنّما ألجأته إليه كثرة استعمال الحصة والحصص في كلمات المتأخرين من الأُصوليين.


الفصل الثامن

بقاء الجواز عند نسخ الوجوب

إذا استعقب وجوبَ الشيء نسخُه فهل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب أو لا؟ مثلاً إنّه سبحانه أمر المؤمنين إذا أرادوا النجوى مع رسول اللّه أن يُقدِّموا صدقة قبل نجواهم حتّى يُصان بذلك وقتُ النبي الثمين ، حيث كان الأكثر راغبين في النجوى والمسارّة مع النبي 6 في أُمور تافهة غير ناجعة ، فلأجل الحيلولة دون فوات وقت النبي أمرهم بإعطاء دينار ، وقد حكاه سبحانه في الذكر الحكيم بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ). (١)

ولمّا نُهوا عن المناجاة إلا بالصدقة ضنّ كثير من الناس بماله فلم يناجه أحد إلا علي بن أبي طالب 7 حيث تصدّق بدينار وناجى ، وبذلك امتحن المؤمنون امتحاناً في ذلك المجال. ولمّا حصلت الغاية المتوخّاة من فرض الصدقة وعلم أنّ الدينار عند الأكثر أثمن من وقت النبي فاجأهم النسخ بقوله سبحانه : ( أأشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدقات فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُون ). (٢)

__________________

١. المجادلة : ١٢.

٢. المجادلة : ١٣.


فعندئذ يقع الكلام في أنّه هل يبقى الجواز بعد النسخ على نحو يصحّ لمن يناجي النبي أن يدفع الصدقة قبل النجوى بنيّة العمل بالآية لا بنيّة مطلق الصدقة؟

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موضعين :

الأوّل : إمكان بقاء الجواز بعد النسخ وعدمه.

الثاني : الدليل على بقائه إذ ليس كلّ ممكن واقعاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استسهل البحث في المقام الأوّل وسلم إمكانه بعد نسخ الوجوب وقال : ضرورة انّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممكن. (١)

إذا عرفت هذا فلنبحث في الموضعين واحداً تلو الآخر.

الموضع الأوّل : إمكان بقاء الجواز

إنّ إمكان بقاء الجواز رهن ثبوت أمرين :

الأوّل : انّ الوجوب مجعول شرعي ومفاد للأمر ، وليس أمراً انتزاعياً من أمر المولى مع سكوته عن جواز تركه.

الثاني : انّ الوجوب مركب من أُمور ثلاثة : الجواز ، الرجحان ، اللزوم.

وعلى ضوء ذينك الأمرين فإذا نسخ الوجوب فيمكن أن يتعلق النسخ بالفصل الأخير ـ أي اللزوم ـ ويبقى الجواز والرجحان ضمن فصل آخر أي جواز الترك.

فإن قلت : إنّ بقاء الجنس مع ذهاب الفصل أمر غير ممكن فانّ الفصل

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٢٤.


علّة تحقق الجنس فالجنس حقيقة مغمورة ومبهمة لا تخرج من الإبهام إلا بفضل الفصل فالفصل والجنس متّحدان زماناً اتحاد المتقوم مع المقوّم ، وعندئذ كيف يمكن أن يبقى الثاني مع ذهاب الأوّل؟

قلت : ما ذكرته صحيح في عالم التكوين دون الاعتبار فلا مانع من قيام الجنس بفصلين متتاليين كالخيمة التي تقوم بدعامة بعد زوال دعامة.

ولكنّ الأمرين غير ثابتين.

أمّا الأوّل : فلأنّ الوجوب أمر بسيط ربما ينحل إلى المفاهيم الثلاثة ، فالجواز والرجحان والالزام يفهم من الوجوب عند التحليل ، فهذه المفاهيم الثلاثة تنضوي تحت لواء الوجوب انضواء الكثرات في الواحد البسيط.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوجوب ليس مفاد الأمر فانّ مفاده هو البعث ، وأمّا الوجوب والاستحباب فإنّما يستفاد من القرائن أو من حكم العقل ، فإذا أمر وسكت يحكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى ، لأنّه لا يترك أمر المولى بلا جواب.

كما أنّه إذا أمر ورخّص يستفاد منه الاستحباب ، فالوجوب والاستحباب مفاهيم انتزاعية من الأمر بالشيء حسب ظروف مختلفة.

فاتضح بذلك انّ إمكان البقاء رهن أمرين وكلاهما منتفيان ، لأنّ الوجوب بسيط ، وليس بمركب ، كما أنّ الوجوب والاستحباب ليسا من المجعولات الشرعية بل من المفاهيم الانتزاعية.

ثمّ إنّ للمحقّق الخوئي كلاماً في تفسير الوجوب والحرمة وهو انّ المجعول في الواجبات والمحرّمات ليس إلا اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته.


ورتب على ذلك أنّ الوجوب والحرمة ليسا مجعولين شرعاً ، بل منتزعان من اعتبار الشارع شيئاً في الذمة فينتزع منه الوجوب ، ومن اعتبار محرومية المكلف من الفعل فينتزع منه الحرمة ، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار ( اعتبار الشيء في ذمة الإنسان أو محروميته عن الشيء ) لا الوجوب والحرمة إلى أن قال : وعلى ذلك لا يعقل القول بأنّ المرفوع هو نسخ الوجوب دون جنسه ضرورة انّ الوجوب ليس مجعولاً شرعيّاً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ ما أفاده من أنّ الوجوب من الأُمور المنتزعة وإن كان صحيحاً لكن تفسير الوجوب بجعل الفعل في ذمة المكلّف والحرمة بحرمان المكلف عن الفعل تفسير غير تام وذلك لتغاير الاعتبار في المثالين التاليين :

أ. له عليه دين كذا أو له على زيد عمل يوم.

ب. أدِّ دينك أو اعمل في هذا اليوم.

فانّ الاعتبار في المورد الأوّل هو جعل الفعل في ذمّة المكلّف بخلاف الاعتبار في الثاني ففيه البعث إلى أداء الدين ، والعمل في اليوم ، فإرجاع أحد الاعتبارين إلى الآخر أمر غير تام.

وثانياً : أنّ الالتزام بكون الحرمة غير مجعولة وانّه ينتزع من حرمان المكلّف عن الفعل أمر لا يساعده الكتاب العزيز فانّ الظاهر منه إنشاء نفس الحرمة بالمصطلح الدارج فلاحظ الآيات التالية :

قوله تعالى : ( إِنّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ). (٢)

وقوله تعالى : ( وَأَحلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ). (٣)

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ٢٣.

٢. البقرة : ١٧٣.

٣. البقرة : ٢٧٥.


وقوله تعالى : ( قُلْ إِنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَن ). (١)

وثالثاً : لو صحّ ما ذكر فإنّما يصحّ في الأحكام الأربعة دون الإباحة ، إذ ليس فيه أيُّ واحد من الاعتبارين : اعتبار جعل الفعل في ذمة المكلّف أو حرمانه منه ، بل مفاده فسح المجال للمكلّف وكونه مخيّراً بين الفعل والترك إلا أن يكون كلامه في غير الإباحة.

إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل ، وقد عرفت عدم إمكان بقاء الجواز لفقد الشرطين ، فليس الوجوب أمراً مركباً ولا مجعولاً شرعياً.

وإليك البحث في الموضع الثاني وهو بحث افتراضي أي لو فرضنا إمكان بقاء الجواز نبحث في الدلالة عليه.

الموضع الثاني : فيما يدلّ على بقاء الجواز

لو افترضنا إمكان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، فيقع الكلام في فعلية الجواز وانّه هل هنا دليل على بقائه أو لا؟

ثمّ الدليل إمّا داخلي أو خارجي ، والمراد من الداخلي هو دلالة كلّ من الناسخ والمنسوخ على البقاء ، كما أنّ المراد من الخارجي هو الاستصحاب.

أمّا الأوّل فيستدلّ عليه بأمرين :

١. انّ القدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام ، وأمّا ما عداه فيؤخذ من دليل المنسوخ.

٢. انّ المقام نظير ما لو دلّ دليل على وجوب شيء ، ودلّ دليل آخر على عدم وجوبه ، كما إذا ورد أكرم زيداً وورد « لا بأس بترك إكرامه » ، فيحكم ـ

__________________

١. الأعراف : ٣٣.


بأظهرية الدليل الثاني ـ ببقاء الجواز والرجحان.

يلاحظ على الأوّل : أنّه ليس للأمر إلا ظهور واحد وهو البعث نحو المأمور به ، فإذا دلّ الناسخ على أنّ المولى رفع اليد عن بعثه فلا معنى للالتزام ببقاء الجواز والرجحان ، إذ ليس له إلا ظهور واحد لا ظهورات متعددة حتّى يؤخذ بالباقي.

وأمّا الثاني : فانّ قياس المقام بالدليلين المتعارضين قياس مع الفارق ، لأنّ استكشاف الجواز هنا إنّما هو لاتفاق الدليلين عليه ، وذلك لأجل تحكيم الأظهر ( لا بأس بترك إكرامه ) على الظاهر ( أكرم زيداً ) ، وأمّا المقام فليس من هذا القبيل بل هو من قبيل نفي الدليل الأوّل بالدليل الثاني.

وبكلمة مختصرة ليس هنا أيُّ دليل على بقاء الجواز ، أمّا المنسوخ فالمفروض ارتفاعه ، وأمّا الناسخ فالمفروض انّ مفاده منحصر في رفع البعث أو الوجوب ( على القول بكونه مدلولاً لفظياً لا إثبات أمر آخر ).

هذا كلّه حول القرينة الداخلية ، وأمّا القرينة الخارجية فليس هناك دليل إلا الاستصحاب بأن يقال كان التصدّق قبل النجوى جائزاً والأصل بقاؤه حتّى بعد النسخ.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، ولكن الجواز ليس حكماً شرعياً ، لأنّ المراد من الجواز في المقام هو الجواز الجامع بين الأحكام الأربعة ومن المعلوم أنّه أمر عقلي ينتزعه العقل من البعث إلى المأمور به الكاشف عن الإرادة الحتمية ، الكاشفة عن جوازه عند المولى فلا يكون عندئذ حكماً شرعياً قابلاً للاستصحاب.

وثانياً : انّ الاستصحاب في المقام أشبه بالقسم الثالث من أقسام


استصحاب الكلي ، لأنّ المتيقن هو الجواز في ضمن الوجوب ، والمفروض انتفاؤه ، فلو بقي الجواز فانّما يبقى ضمن إقامة فرض آخر كالاستحباب مكانه ، ومن المعلوم أنّ استصحاب الكلي بهذه الصورة غير جار لعدم اتحاد القضيتين.

فإن قلت : إنّ نسبة الوجوب إلى الاستحباب نسبة الشديد إلى الضعيف فيرجع الشك إلى انتفاء البعث الشديد من رأس أو تبدّله إلى فرد ضعيف كالاستحباب وقد استثناه بعضهم من هذا القسم.

قلت : ما ذكرته وإن كان صحيحاً عند العقل لكنّهما عند العرف متباينان.


الفصل التاسع

الواجب التخييري

عُرِّف الواجبُ التعييني بما لابدل له ولا يسقط بإتيان شيء آخر ، إذ لا بدل له ، بخلاف التخييري فللواجب بدل ويسقط بإتيان بدله ، وقد وقع في الشرع كخصال كفّارة الصوم ودية قتل العمد وغيرهما.

إنّما الكلام في بيان ما هو واقع الواجب التخييري حيث اختلفوا في المأمور به إلى أقوال :

١. ذهب أصحابنا وجمهور المعتزلة إلى أنّ كلّ واحد واجب على البدل ، وأيّاً منها أتى فقد أتى بالواجب لا البدل.

٢. ذهب الأشاعرة إلى أنّ أحد الأبدال واجب لا بعينه.

٣. انّ الواجب هو الجميع ويسقط بفعل البعض.

٤. انّ الواجب معيّن عند اللّه ولكن يسقط به وبالآخر وقد نُسِبَ هذان القولان إلى المعتزلة.

٥. ما يفعله المكلّف ويختاره هو الواجب عند اللّه فيختلف باختلاف المكلّفين. (١)

__________________

١. لاحظ القوانين : ١ / ١١٦.


شبهات مثارة حول تصوير الواجب التخييري

قد عرفت أنّ الأصحاب ذهبوا إلى أنّ الواجب كلّ واحد منها على البدل ، فقد طرأت هناك عدّة إشكالات نطرحها على طاولة البحث.

١. الإرادة والبعث لا تتعلّقان بالأمر المردّد

وحاصل هذا الإشكال : انّ الإرادة الفاعلية إنّما تتعلّق بالأمر المعيّن لا بالأمر المردد ، وهو أمر واضح ومثله الإرادة الآمرية فلا تتعلّق إلا بأمر معيّن ، ووجه ذلك انّ تشخّص الإرادة في كلا المقامين بالمراد.فإذا كان المراد مردداً لا تتعلّق به الإرادة ، وظاهر كون كلّ واحد واجباً على البدل ، تعلّق الإرادة بالأمر المردد ، ونظيره البعث ، إذ لا معنى للبعث إلى المردد.

٢. كيف يكون واجباً ويجوز تركه؟

وهذا هو الإشكال الثاني ، فانّ كلّ واحد من أطراف الواجب التخييري واجب ولكن يجوز تركه إلى بدل وهذا ينافي كون الشيء واجباً.

٣. وحدة العقاب مع كثرة الواجب

وهذا هو الإشكال الثالث حيث إنّه إذا ترك الكلّ يعاقب بعقاب واحد ، مع كون الواجب متعدداً.

هذه الأُمور هي التي دعت المتأخرين إلى البحث عن ماهية الواجب التخييري وواقعه حتّى يتيسر لهم الذب عن هذه الإشكالات.

وسنتناولها بالتفصيل واحداً تلو الآخر.


أمّا تعلّق الإرادة بالأمر المردد وهو المهم بين الإشكالات فقد أجيب عنه بوجوه.

١. نظرية المحقّق الخراساني

وحاصل هذه النظرية : انّ الواجب التخييري على قسمين :

فقسم منه يكون التخيير فيه تخييراً عقلياً ، والقسم الآخر يكون التخيير تخييراً شرعياً.

أمّا الأوّل : ففيما إذا كان الغرض واحداً يقوم به كلّ من الطرفين ، كما إذا كان الغرض هو إنارة الغرفة وهي تتحقّق بإسراج المصباح أو إيقاد النار في الموقد فيأمر المولى ويقول : اسرج المصباح أو أوقد النار.

فهاهنا غرض واحد يحصل بكلا الأمرين ، وبما انّ الواحد لا يصدر إلا من الواحد فلابدّ من القول بأنّ إنارة الغرفة معلولة للجامع بين الفعلين ، لامتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون الواجب هو الجامع ، فجعلهما متعلّقين للخطاب الشرعي كما عرفت تبيان انّ الواجب هو الجامع بين الاثنين. فعلى المكلّف إيجاده في الخارج لتحصيل الغرض الواحد ، وفي هذا القسم تتعلّق الإرادة بأمر معين وهو الجامع بين الفعلين.

وأمّا الثاني : أعني ما إذا كان التخيير شرعياً ، فهناك أغراض متعددة للمكلّف لكن بينها تزاحم في مقام الإتيان بأن تكون الأغراض غير قابلة للتحصيل والجمع فلا يمكن للمولى الأمر بتحصيلها.

فعندئذ يكون كلّ واحد واجباً لكن بنحو من الوجوب تَكشف عنه تبعاتُه وآثارُه ، أعني :


أ. عدم جواز ترك كلّ واحد إلا إلى الآخر.

ب. ترتّب الثواب على فعل الواحد منهما.

ج. العقاب على تركهما لا على ترك واحد منهما.

ففي هذه الصورة يكون الواجب كلّ واحد لكن بنحو من الوجوب يتفاوت سنخه مع وجوب الواجب التعييني.

فالصلاة والصوم في شهر رمضان واجبان تعيينيان والحمد أو التسبيحات واجبان تخييريان في الركعتين الأخيرتين.

لكن سنخ الوجوب في الأوّل غير سنخه في الثاني ، مع اشتراك الجميع في تعلّق إرادة مستقلة بكلّ واحد كتعلّق البعث المستقل بكلّ واحد.

إلى هنا تمّ تقرير نظرية المحقّق الخراساني. (١)

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استطاع أن يذب عن الإشكالات الثلاثة بما اختاره في حقيقة الواجب التخييري.

أمّا التخيير العقلي فلأنّ الواجب هو الجهة الجامعة التي تؤمّن غرض المولى فالواجب واحد والإرادة واحدة.

وأمّا التخيير الشرعي فلما كانت الأغراض متعددة ، وبتبعها تتعدد الإرادة ، وكلّ إرادة متعلّقة بموضوع خاص وهو محصّل لغرض خاص.

ومثلها البعث فليس هنا بعث متعلّق بالمردد ، بل لكلّ بعث خاص دون أن يكون هناك تردد في المتعلّق.

هذا كلّه حول الإشكال الأوّل الذي هو المهم.

__________________

١. لاحظ كفاية الأُصول : ١ / ٢٢٦.


وأمّا الثاني : أعني كون الشيء واجباً مع جواز تركه والإتيان بالآخر.

فقد أجاب عنه انّ هذا خصيصة نحو هذا الوجوب ، فانّ الوجوب على قسمين : تارة يكون الإتيان بأحد الفعلين لا يجزي عن الفعل الآخر كالصلاة والصوم في شهر رمضان ، وأُخرى يكون الوجوب على نحو لو أتى بواحد ممّا تعلّق به الوجوب يغني عن إتيان الآخر وذلك نتيجة تزاحم الأغراض وعدم اجتماعها.

وإلى ذلك يشير المحقّق الخراساني بقوله :

كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب يُستكشف عنه تبعاتُه من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر. (١)

هذا كلّه حول الإشكال الثاني.

وأمّا الإشكال الثالث : وهو أنّ تعدد الواجب يقتضي تعدد العقاب عند ترك عامّة الأطراف مع أنّهم اتفقوا على وحدة العقاب.

والإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّ تعدد العقاب إمّا لأجل تفويت المصلحتين الملزمتين أو لأجل مخالفة التكليفين الفعليين.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض عدم إمكان الجمع بين الغرضين وتنافيهما في مقام التأثير في الغرض ، فإذا كان كذلك فليس عليه إلا تحصيل غرض واحد وبفوته يستحقّ عقاباً واحداً.

وأمّا الثاني : فلأنّ الحكمين وإن كانا فعليين ولكن مخالفة التكليفين الفعليين إنّما توجب كثرة العقاب إذا لم يكتف المولى في مقام الامتثال بواحد منهما. ومع هذا التصريح لا ملاك لتعدد العقاب.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٢٦.


والحاصل : انّ الكبرى أي مخالفة كلّ حكم فعلي توجب العقاب ممنوعة ، وإنّما توجبه إذا لم يصرح المولى بأنّه يكفي إتيان واحد منهما ، ففي مثله لا يتعدد العقاب.

فاتّضح بما ذكرنا انّ نظرية المحقّق الخراساني خصوصاً في التخيير الشرعي نظرية صالحة لدفع الإشكالات الثلاثة ، والمؤثر في دفعها هو تعدد الغرض الموجب لتعدد الإرادة والتزاحم بين الأغراض في مقام الامتثال.

نعم يرد على هذه النظرية إشكالان يرجع أحدهما إلى التخيير العقلي والثاني إلى التخيير الشرعي.

أمّا الأوّل : أي التخيير العقلي ، فقد أسس نظريته على قاعدة : « لا يصدر الواحد إلا من واحد » وبما انّ الغرض واحد فلا يصدر إلا من واحد وهو الجهة الجامعة بين إيقاد النار وإسراج المصباح ولا يصدر من كلّ واحد منهما لاستلزامه صدور الواحد عن الكثير.

ولكن القاعدة صحيحة إلا أنّ تطبيقها على المورد تطبيق خاطئ.

أمّا صحّة القاعدة فتظهر بملاحظة أمرين :

الأوّل : انّ صدور شيء عن شيء رهن وجود صلة بينهما ، وإلا يلزم أن يكون كلّ شيء علّة لكلّ شيء ، وهذا ما يعبّر عنه في الفلسفة بقانون السنخية.

مثلاً انّ شرب الماء يزيل العطش دون أكل الخبز ، وهذا يدلّ على وجود صلة بين الأوّلين وعدمها في الآخر.

نعم السنخية المعتبرة هي سنخية ظلية لا سنخية توليدية ( انتاجية ) كالسنخية الموجودة بين المطر والندى.

الثاني : انّ مصب القاعدة هو المعلول البسيط من كلّ الجهات كالعقل


الأوّل فانّه عند الفلاسفة إنّي الوجود فلا يصدر إلا من سبب واحد ، فلو صدر من كثير يلزم أن يكون مشتملاً على أكثر من جهة حتّى تكون كلّ جهة سبباً لصدوره عن السبب المحتمل عليها أخذاً بما تقدّم من اشتراط السنخية بين العلة والمعلول ، وعندئذ ( تعدد السنخية والرابطة ) يلزم أن يكون الواحد كثيراً لكثرة الجهات وهذا خلف.

هذا إجمال ما عليه الفلاسفة في مفاد القاعدة وهو كما ترى يجري في المعلول البسيط من جميع الجهات ، وأين هذا من النور الصادر من إيقاد الموقد وإسراج المصباح؟ فهناك نوران مختلفان وإن كانا يتحدان في الاسم أي النور ، فإعمال القاعدة في المتكثّر بالذات إعمال لها في غير محلّه.

وقد استند المحقّق الخراساني إلى هذه القاعدة في محل آخر حيث قال : بوجود الجامع بين أفراد الصلاة الصحيحة ونستكشف وجود الجامع من وحدة الأثر ، فانّ اشتراك جميع الصلوات الصحيحة في الأثر كاشف عن وجود جامع بين الصلوات يؤثر الكلّ فيه بذاك الجامع ، مثلاً : النهي عن الفحشاء أثر واحد مشترك بين الجميع فيحكم بوحدة الأثر على وجود الجامع الذي هو المؤثر في ذلك الأثر وإلا يلزم صدور الكثير عن الواحد. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ الأثر واحد بالنوع ولكنّه متعدد في الخارج ومصب القاعدة هو الواحد الشخصي لا الواحد النوعي ، فكلّ من أقام صلاة صحيحة يترتب عليه النهي عن الفحشاء وهو في كلّ مورد يغاير الفرد الآخر في مورد آخر.

أضف إلى ذلك انّ أثر الصلاة متعدد لا واحد ، فأين قربان كلّ تقي ، من الناهية عن الفحشاء والمنكر؟ وأين كلاهما من عمود الدين؟ إلى غير ذلك.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٦.


هذا كلّه حول التخيير العقلي وأمّا التخيير الشرعي فقد بنى نظريته على أنّ الأغراض متنافية غير قابلة للجمع ، فعندئذ يتوجّه إليه السؤال الثاني وهو : انّ مصب التزاحم إمّا مقام الامتثال وإمّا ملاكات الأحكام :

أمّا الأوّل فلا تزاحم فيه ، إذ لا مانع من أن يقوم المفطر بعتق رقبة وإطعام ستين مسكيناً وصوم ستين يوماً.

وأمّا الثاني ـ أي التزاحم في مقام الملاكات ، أعني : التزاحم في المرتبة المتقدمة على الخطاب ـ فهو أيضاً منتف بشهادة انّه لو أفطر بالمحرّم وجب عليه الخصال جميعاً من دون أن يكون أيّ تزاحم بين الملاكات ، والظاهر انّ ملاك التخيير هو التسهيل على العباد ورفع الحرج عنهم لا التزاحم بين الملاكات كما يدور عليه كلام المحقّق الخراساني.

إلى هنا تمت نظرية المحقّق الخراساني نقلاً وتحليلاً.

٢. نظرية المحقّق النائيني

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواجب هو العنوان المردّد ، أعني : أحد الفعلين أو أحد الأفعال قائلاً : بأنّ الخصوصيات المعتبرة في الإرادة على قسمين ، فتارة تعتبر فيها لا لخصوصية كونها تكوينية ، بل لكونها إرادة ، فهذا النوع من الخصوصية معتبرة في التشريعية أيضاً ، وأُخرى يكون اعتبارها فيها لأجل كونها تكوينية فلا يعم التشريعية قطعاً.

وعلى ضوء هذا لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعية بالأمر الكلي بين الفردين بخلاف الإرادة التكوينية ( الفاعلية ) فانّها لكونها علّة لإيجاد المراد لا


تتعلّق إلا بالشخص لامتناع ايجاد الكلّي في الخارج إلا في ضمن فرده.

ثمّ قال : إنّ امتناع تعلّق الإرادة التكوينية بالمردّد وما له بدل من لوازمها خاصة ولا يعم التشريعية فانّ الغرض المترتب على كلّ من الفعلين ، إذا كان أمراً واحداً ، كما هو ظاهر العطف بكلمة « أو » سواء كان عطف جملة على جملة كما هو الغالب أو عطف مفرد على مفرد انّه حسب مقام الإثبات الموافق لمقام الثبوت يدل على أنّ هناك غرضاً واحداً يترتّب على واحد من الفعلين على البدل ، فلابدّ وأن يكون طلب المولى بأحدهما على البدل أيضاً لعدم الترجيح بينهما.

والحاصل : انّ امتناع تعلّق الإرادة بالمبهم والمردد من خصائص الإرادة التكوينية لكونها علّة للمراد ولا معنى لتعلّق العلّة بالكلي بخلاف الإرادة التشريعية. (١)

ثمّ إنّ هذه النظرية هي خيرة تلميذه المحقّق الخوئي في تعليقته على أجود التقريرات وفي محاضراته التي دوّنها بعض تلاميذه.

قال ما هذا حاصله :

الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة تحفظاً على ظواهر الأدلّة هو انّ الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ، وتطبيقه على كلّ منها في الخارج بيد المكلّف ، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية غاية الأمر انّ متعلّق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصّلة والجامع الحقيقي ، وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني ، فهذا هو الفارق بينها وتخيّل انّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما في المقام ، ضرورة انّه

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ١٨٣ ، ولاحظ فوائد الأُصول : ١ / ٢٣٥ فالتقريران يهدفان إلى أمر واحد في هذه الدورة وقال : والاختلاف بين التقريرين طفيف.


ليس له واقع موضوعي غير تحقّقه في عالم الانتزاع والنفس فلا يمكن أن يتعدّى عن أفق النفس إلى ما في الخارج ، ومن الواضح انّ مثله لا يصلح أن يتعلّق به الأمر ، خيال خاطئ جداً ، بداهة انّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً بل تتعلّق به الصفات الحقيقية كالعلم والإرادة وما شاكلهما فما ظنك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض. (١)

إنّ الأُستاذ والتلميذ قد نجحا ـ لو قلنا بصحّة المعنى ـ في الذب عن الإشكالات الآنفة الذكر ، أمّا تعلّق الإرادة بالفرد المردد مفهوماً فلأجل الفرق بين الإرادة الفاعلية والإرادة الآمرية. والامتناع من خصائص الإرادة الفاعلية دون الآمرية ، وأمّا ترك أحد الأطراف عند الإتيان بالآخر فذلك لازم كون الواجب أحد الأفعال لا جميعها.

وبه يُعلم دفع الإشكال الثالث ، لأنّ وحدة العقاب لأجل وحدة الواجب المتحقّق بإنجاز واحد من الأطراف.

نعم يرد على تلك النظرية انّها لم تتحفظ على ظواهر النصوص فانّ ظاهرها على أنّ الواجب هو نفس تلك العناوين لا العنوان المنتزع عنها باسم أحدهما ، فانّ العنوان المنتزع أمر عقلي ينتزعه من تعلّق الحكم بالعناوين الأصلية على وجه التخيير وإن كنت في شكّ فلاحظ الآيتين التاليتين.

قال سبحانه : ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغوِ فِي أَيْمانِكُمْ ولكن يُؤاخِذُكُم بِما عَقَّدْتُّم الأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشرةِ مَساكِينَ مِنْ أَوسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ). (٢)

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ٤٢ و ٤٤.

٢. المائدة : ٨٩.


فانّ المتبادر من الآية أنّ الواجب هو نفس العناوين لا عنوان أحدها ، ومثلها الآيات التالية :

( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقبة * وَمَا أَدْراكَ مَا الْعَقَبَة * فَكُّ رَقَبة * أَو إِطْعامٌ فِي يَوم ذِي مَسْغَبة * يَتيماً ذا مَقْرَبة * أَوْ مِسكيناً ذا مَتْرَبة ). (١)

فانّ المتبادر من الآيات انّ الواجب ، هو كلاً من الفك والإطعام في يوم ذي مسغبة لا عنوان أحدهما ، وهو 1 أبدع تلك النظرية ليتحفظ بها على ظواهر الأدلة ، ولكن كانت النتيجة هي العكس.

٣. نظرية المحقّق الإصفهاني

وللمحقّق الإصفهاني نظرية أُخرى ، حاصلها : أن يكون كلّ واحد منها واجباً تعيينياً ويكون الإتيان بواحد منهما في الخارج موجباً لسقوط الآخر أيضاً بحكم المولى إرفاقاً وتسهيلاً على المكلّفين.

هذا ما لخّصه تلميذه المحقّق الخوئي (٢) وإليك نصّ عبارة صاحب النظرية قال : يمكن أن يفرض غرضان ، لكلّ منهما اقتضاء إيجاب محصَّله ، إلا أنّ مصلحة الإرفاق والتسهيل تقتضي الترخيص في ترك أحدهما ، فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه ، ويرخِّص في ترك كلّ منهما إلى بدل ، فيكون الإيجاب التخييري ، شرعيّاً ، محضاً من دون لزوم الإرجاع إلى الجامع. (٣)

إنّ هذه النظرية قريبة من نظرية المحقّق الخراساني ـ وليست عينها ـ غير أنّ الأُستاذ علل عدم وجوب الإتيان بسائر الابدال لأجل التزاحم في الملاك ولكن

__________________

١. البلد : ١١ ـ ١٦.

٢. تعاليق الأجود : ١ / ١٨٢.

٣. نهاية الدراية : ١ / ٢٥٤.


التلميذ علله بالتسهيل والإرفاق.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تلك النظرية في تعاليق الأجود وفي المحاضرات بإشكالين :

الأوّل : انّه يستلزم تعدد العقاب عند عصيان الوجوب التخييري وعدم الإتيان بشيء من الفعلين ضرورة انّ الجائز هو ترك كلّ منهما إلى بدل لا مطلقاً.

الثاني : انّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في كلّ من الطرفين إلا بالأمر ، وحيث إنّ الأمر فيما نحن فيه تعلّق بأحد الطرفين أو الأطراف فلا محال لا نستكشف إلا قيام الغرض به. (١)

يلاحظ على الإشكال الأوّل : أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين :

١. تفويت المصلحتين الملزمتين.

٢. عصيان الخطابين العقليين المطلقين.

أمّا الأوّل : فهو خلاف الفرض ، لأنّ المفروض انّ المولى رخص في ترك أحد الغرضين لأجل التسهيل.

وأمّا الثاني : انّ عصيان الخطابين الفعليين المطلقين إنّما يُصحح تعدّد العقاب إذا لم يصرّح المولى بأنّه يجوز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر ، فانّ معنى ذلك انّ المطلوب الجدّي المصحح للعقاب هو واحد لا كثير ، ومعه كيف يوجب تعدد العقاب؟

وإن شئت قلت : إنّ دائرة التكليف لا تكون أوسع من الملاك اللازم تحصيلُه ، والمفروض انّ اللازم تحصيله هو أحد الملاكين لا كلاهما.

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ١٨٢ ؛ المحاضرات : ٤ / ٢٨.


وأمّا الإشكال الثاني : فظاهره انّه لا ملاك في كلّ واحد من أحد الأطراف ، بل الملاك في واحد منها غير معيّن ، وهذا خلاف فرض المحقّق الاصفهاني حيث قال : فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه قطعاً ، إذ لو لم يكن كلّ واحد منها مشتملاً على الملاك ، لما صحّ الأمر بأحدها.

نعم تعدّد الأمر لا يلازم تعدّد الغرض ، بل يجتمع مع وحدة الغرض ، المتحقّق بكلّ من الأطراف.

٤. نظرية بعض القدماء

إنّ الواجب هو الواحد المعيّن الذي يعلم اللّه انّ العبد يختاره.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ لازم ذلك عدم الاشتراك في التكليف وانّ تكليف من يختار العتق هو العتق وتكليف من يختار الصوم هو الصوم ، وهذا ممّا اتّفق العلماء على بطلانه.

وثانياً : أنّ لازم ذلك عدم العقاب على من ترك التكليف رأساً ، لأنّ الواجب هو ما يختاره العبد في علم اللّه ، فإذا لم يختر واحداً منهما كشف عن عدم موضوع للتكليف في علم اللّه ومع فقد الموضوع لا عقاب.

٥. ما هو المختار في تفسير الوجوب التخييري؟

هذا ما ذكره القوم في المقام وهناك نظرية خامسة هي أقرب إلى الواقع وما هو الدارج بين الموالي والعبيد في الواجبات التخييرية.

وحاصله : انّه إذا كان للمولى غرض واحد يتحقّق بأُمور متعددة وليس بينهما جامع أصيل كما في المثالين التاليين :


أ. إذا تخلّف السائق عن مراعاة قوانين المرور ، فيمكن للحاكم تأديبه بأحد أمرين :

١. الحكم عليه بتأدية غرامة نقدية.

٢. الحكم عليه بزجّه في السجن.

ب : من أفطر في شهر رمضان متعمداً فللمولى أن يوبخ المكلّف بأحد الأُمور الثلاثة المعروفة بخصال الكفارة.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

فبما انّ إيجاب واحد معيّن خال عن الوجه ، وكلّ منهما محصّل للغرض فعندئذ يخاطب المكلّف بإيجاب الجميع لكن على وجه التخيير لأجل وحدة الغرض ، وهذه النظرية تشارك نظرية المحقّق الخراساني من جهة ، وتفارقها من جهة أُخرى. أمّا المشاركة فهي إيجاب الجميع لكن على وجه التخيير. وانّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب.

وأمّا المفارقة فتفارقها بوحدة الغرض على هذه النظرية وكثرتها على نظرية المحقّق الخراساني.

وكلتا النظريتين تستمدان من أنّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب كالتعييني ولكن يفارق التخييريُ ، التعيينيَ باكتفاء المولى بالإتيان بأحد الأطراف في الواجب التخييري دون الواجبات التعيينية ، ويعود وجهه إلى وحدة الغرض في الأوّل وتعدّده في الثاني حسب ما بيّناه.

وأمّا على مختار المحقّق الخراساني فالاكتفاء في الأوّل بأحد الأطراف لأجل امتناع الجمع بين الغرضين في التخييري ، وإمكانه في الواجبات التعيينيّة.

وبذلك تقدر على الذبّ عن الإشكالات الثلاثة.


أمّا الإرادة فلم تتعلّق بالمراد ، بل تعلّقت بالمعيّن ، حيث إنّ المراد متعدد كالإرادة والمبعوث إليه متعدد كالمراد.

وأمّا الإشكال الثاني ـ أي جواز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر ـ فانّه مقتضى وحدة الغرض.

وأمّا وحدة العقاب عند ترك الجميع فلما عرفت من أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين وكلاهما منتفيان.

١. كون الغرض متعدداً والمفروض في المقام خلافه.

٢. مخالفة الخطابين الفعليين المطلقين ، وقد عرفت عدم كلّية هذه الضابطة في تعدد العقاب وإنّما هو إذا لم يكن هناك تصريح أو تلويح من المولى بكفاية أحد الأطراف دون الآخرين.

إلى هنا تمّ الكلام في الواجب التخييري.


التخيير بين الأقل والأكثر

لا شكّ في التخيير بين المتباينين أو الأُمور المتباينة كما في خصال الكفّارة ، إنّما الكلام في جوازه بين الأقلّ والأكثر كتخيير المصلّي بين تسبيحة أو ثلاث تسبيحات.

وجه الإشكال هو انّ المكلّف إذا أتى بالأقلّ يحصل الامتثال ويسقط الأمر ولا تصل النوبة إلى امتثال الأمر بالأكثر وبذلك يكون الأمر بالأكثر لغواً ، ولذلك حمل القائلون بكفاية التسبيحة الواحدة على أنّ الزائد أمر مستحبّ.

تصحيح التخيير بين الأقل والأكثر

ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل ، وانّ التخيير غير جائز في صورة وجائز في صورة أُخرى. فلو كان الغرض مترتباً على ذات الأقل ولو في ضمن الأكثر لامتنع التخيير بين الأقل والأكثر ، لأنّ الأقلّ حاصل مطلقاً قبل حصول الأكثر وكان الزائد على الأقل زائداً على الواجب.

وأمّا إذا ترتّب الغرض لا على مطلق الأقل ولو في ضمن الأكثر ، بل على خصوص الأقل الذي لم يكن معه الأكثر ، فعندئذ يحصل الامتثال بكلا الطرفين.

أمّا الأقلّ الذي لم يكن معه الأكثر فهو أحد الواجبين ، وأمّا الأكثر الذي في ضمنه الأقل فالغرض قائم بالأكثر لا بالأقل الذي في ضمنه ، لماعرفت من أنّ الأقل إنّما يحصِّل الغرض إذا انقطع عن الأكثر وصار فرداً مستقلاً ، وأمّا إذا انضمّ


إليه شيء فلا يكون مصداقاً للواجب.

ويمكن تصويره بالمثال التالي :

إذا أمر المولى برسم خط طولي إمّا متراً أو مترين ، فلو كان الغرض حاصلاً بمطلق الأقل سواء كان الأقل منفكّاً عن الأكثر أو في ضمن الأكثر ففي مثله لا يصحّ التخيير ، لأنّه إذا أتى بالأكثر فبالأقل الموجود في ضمنه يحصل الامتثال ويكون الزائد أمراً زائداً على الواجب.

وأمّا إذا ترتّب الغرض على الأقل التام المنفصل عن الأكثر ، أو نفس الأكثر دون الأقل الذي في ضمنه ، فعندئذ يصحّ الأمر بترسيم أحد الخطين ، فالمكلّف إمّا يأتي بالواجب الأقل أو يأتي بالواجب الأكثر وليس في ضمن الأكثر إلا ذات الأقلّ لا الأقلّ الواجب.

يلاحظ عليه : أمّا ما ذكره من المحاولة يخرج المورد من التخيير بين الأقل والأكثر فانّ البحث دائر على إمكان التخيير بين الأقل والأكثر لا بين المتباينين ، وما فرضه من جواز التخيير بين الأقل والأكثر فإنّما هو من قبيل المتباينين وإن كان في نظر العرف الساذج تخييراً بين الأقل والأكثر. إذ على ما فرضه يكون الموضوع أحد الأمرين :

أ. الأقل بشرط لا ، أي الخط الذي بلغ طوله متراً بشرط أن لا يَضمّ إليه الأكثر.

ب. الأكثر بشرط شيء ، أي ذات الأقل الذي يضاف إليه متر آخر ، ففي مثله يكون التخيير بين الأقل بشرط لا والأكثر بشرط شيء وهو خارج عن الموضوع.

نعم يصدق عليه عرفاً التخيير بين الأقل والأكثر.


ثمّ إنّه 1 استشكل على نفسه وقال :

إنّ ما ذكرته من المحاولة إنّما يصحّ إذا كان الأقل مندكّاً في الأكثر ولم يكن للأقل في ضمنه وجود مستقل.

وأمّا الأقلّ الذي يكون له وجود مستقل مطلقاً ـ سواء زيد عليه أم لا ـ غير مندك في ضمن الأكثر كالتخيير بين تسبيحة أو ضمن ثلاث تسبيحات أو التخيير بين نزح ٣٠ دلواً و ٤٠ دلواً ، ففي مثله يسقط الأمر بالواجب بالأقل مطلقاً ولا تصل النوبة إلى الامتثال بالأكثر.

وهذا نظير ما إذا خيره بين ترسيم خط طوله متر أو مترين بشرط تخلل العدم بعد رسمه متراً ، فعندئذ يحصل الامتثال بالأقل مطلقاً ولا تصل النوبة إلى الأكثر.

ثمّ إنّه 1 أجاب عن الإشكال بأنّ التخيير في مثل هذه الموارد إنّما يتحقّق إذا أخذ الأقل بشرط لا ـ أي عدم انضمام شيء إليه ـ والأكثر بشرط شيء ـ أي بشرط الانضمام ـ فعندئذ لو أتى بالأقل ولم ينضم إليه شيء يسقط الأمر بالأقل ، وأمّا إذا أضاف إلى التسبيحة الواحدة تسبيحتين أُخريين ، ففي مثله لا يسقط الأمر بالأقل ، لأنّ الأقل يفقد شرطه ، وإنّما يحصل بالأكثر.

يلاحظ عليه : بمثل ما ذكرناه في البحث السابق فانّ أخذ التسبيحة الواحدة بشرط لا ، والأكثر بشرط شيء ، يخرج المورد عن الأقل والأكثر ويدخله في التخيير بين المتباينين ، ومثله التخيير بين ثلاثين دلواً أو أربعين ، فإذا أخذ الثلاثين بشرط لا ، والعِدْل الآخر بشرط شيء ، فلا يكون فيه الأقل موجوداً في ضمن الأكثر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني عاد في آخر البحث إلى ذكر النتيجة ، فقال : إذا


كان الغرض الواحد مترتّباً على الأقل والأكثر فالواجب هو الجامع بين الفردين ، لما عرفت من امتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون التخيير عقلياً.

وأمّا إذا كان هناك غرضان مختلفان متزاحمـان فيكـون التخيير تخييراً شرعيـاً.

نعم لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ مطلقاً سواء أكان له وجود مستقلّ أو في ضمن الأكثر فالواجب يسقط بالأقل والزائد عليه مستحب لحصول الأقل مطلقاً قبل الأكثر. (١)

وقد عرفت عدم تمامية نظره ، فلاحظ.

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٢٨.


الفصل العاشر

الواجب الكفائي

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

١. لا شكّ في وجود الواجبات الكفائية بين العقلاء والشريعة الإسلامية المقدسة حيث إنّ الوالد يأمر أولاده بتنظيف البيت ، وشراء اللحم والخبز إلى غير ذلك من الأُمور ، فلو قام واحد منهم بهذا الواجب لسقط عن الجميع ، ولو عصوا يُعاقب الكلّ ؛ ونظيره ما في الشريعة من الأمر بإجراء الحدود والأمر بالمعروف وإقامة النظام فانّها واجبات كفائية. فلو قام واحد من المكلّفين بهذه الأُمور لسقط عن الجميع ، ولو عَصوا لعوقبوا.

٢. تقسيم الواجب إلى العيني والكفائي ، تقسيم للوجوب باعتبار إضافته إلى المكلَّف ، كما أنّ تقسيمه إلى التعييني والتخييري تقسيم له بالإضافة إلى المكلَّف به ، وذلك لأنّ التكليف من الأُمور ذات الإضافة ، فله إضافة إلى المكلِّف وفي الوقت نفسه إضافة إلى متعلّق التكليف الذي يطلق عليه المكلّف به ، كما أنّ له إضافة إلى المكلَّف الذي ربما يطلق عليه الموضوع في مصطلح المحقّق النائيني 1.

فباعتبار كون المكلَّف به واحداً أو متعدداً على وجه التخيير ينقسم الواجب إلى التعييني والتخييري ، كما أنّ باعتبار كون امتثال بعض مسقطاً عن الآخرين أو


غير مسقط ، ينقسم الواجب إلى العيني والكفائي.

وإن شئت قلت : إمّا أن يكون لصدور الفعل من مكلّف مشخص مدخلية في حصول الغرض أو لا ، بل الغرض يحصل بصدور الفعل من مكلّف ما ، فالأوّل هو الواجب العيني ، والثاني هو الواجب الكفائي. ولبّ الفرق بينهما يرجع إلى أنّ المكلّف في العيني آحاد المكلّفين مستغرقاً ، وفي الكفائي صرف المكلّف ، فالفـرق بين العيني والكفائي يرجع إلى جانب المكلَّف ، خلافاً للمحقّق البروجـردي حيث أرجع الفرق بينهما إلى جانب المكلّف به فقـال : إنّ متعلّق الكفائي هـو نفس الطبيعة ، كما أنّ متعلّق العيني هو الطبيعة بقيد مباشرة كلّ مكلف بالخصوص.

يلاحظ عليه : أنّ جعل متعلّق التكليف في الكفائي نفس الطبيعة وفي العيني الطبيعة بقيده صدورها من كلّ مكلف بالخصوص ، عبارة أُخرى عن لحاظ المكلف في العيني بصورة العام الاستغراقي وفي الكفائي بصورة العام البدلي.

٣. على ضوء ما ذكرنا عرف الواجب الكفائي بأنّه : عبارة عن الواجب الذي لو أتى به فرد من المكلّفين لسقط عن الباقي ، وإن تركه الجميع لعوقبوا ، فعندئذ يجري الإشكال المذكور في الواجب التخييري في المقام أيضاً حيث إنّ كلاً من الواجب التخييري والكفائي واضحان مفهوماً ولكن مبهمان كنهاً حيث إنّ مشكلة كيفية تعلّق الإرادة بالأمر المردد قائمة في كلا الواجبين ، وقد عرفت كيفية دفع الإشكال في الواجب التخييري.

وأمّا المقام فيقرر الإشكال بالنحو التالي :


إنّ المكلّف إن كان هو الفرد المردد يلزم تعلّق الإرادة والوجوب بالفرد المردد ، والإرادة لا تتعلّق بالمردد ، سواء أكانت فاعلية أم آمرية.

وإن كان هو جميع الأفراد فلماذا يسقط بفعل واحد منهم؟ وقد أجاب الأُصوليون عن الإشكال بنظريات :

النظرية الأُولى : تعلّق التكليف بعموم المكلّفين

إنّ الواجب الكفائي سنخ من الوجوب وله تعلّق بكلّ واحد ، بحيث لو أخلّ الكلّ بامتثاله لعوقبوا على مخالفته جميعاً ، وإن أتى به بعضهم لسقط عنهم ، وذلك لأنّه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد يحصل بفعل واحد صادر عن الكلّ أو البعض. (١)

وحاصل هذه النظرية : انّ الوجوب يتعلّق بعامّة المكلّفين فلا يكون متعلّق الإرادة والوجوب أمراً مردداً ، غير أنّ تعلّقه بالجميع على قسمين :

تارة يكون الغرض متعدداً ويتوقّف حصوله على قيام كلّ واحد من المكلّفين بالواجب كالصلوات اليومية ، فلا يسقط تكليف مكلّف ، بفعل مكلّف آخر ، وأُخرى يكون الغرض واحداً يحصل بقيام واحد منهم ، ومقتضى هذا ، سقوط الواجب بفعل أحد المكلّفين ، ومعاقبة الجميع حين تركهم.

هذا هو ما يركّز عليه صاحب الكفاية ، وكان الأولى أن يضيف إليه شيئاً آخر ويقول : الفرق بين الواجب العيني والكفائي أمران :

الأوّل : ما صرح به صاحب الكفاية من تعدد الغرض في العيني ووحدته في الكفائي.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٢٩.


الثاني : مدخلية قيام مكلّف خاص بالمأمور به في تحصيل غرض المولى في العيني دون الكفائي ، بل يكفي صدور الفعل عن أيّ واحد من المكلّفين ، كالصلاة على الميت.

فإن قلت : إذا كان الغرض واحداً حاصلاً بإنجاز فرد من المكلّفين فلماذا وجّه التكليف إلى عامّة المكلّفين؟

وبعبارة أُخرى : لو كان الغرض حاصلاً بفعل الواحد فلماذا وجّه التكليف إلى عامّتهم؟ وإن لم يكن حاصلاً إلا بفعل الجميع فكيف يسقط بفعل الواحد؟

قلت : نختار الشق الأوّل ، وهو انّ الغرض واحد يحصل بفعل واحد من المكلّفين ، لكن عدم تخصيصه بمكلف خاص لأجل رعاية أمرين :

أ. ما تقدّم من عدم مدخلية صدور الفعل عن مكلَّف خاص ، فلذلك لم يوجهه إلى واحد معيّن ، بل إلى الجميع.

ب. انّ توجيه التكليف إلى الجميع بهذا النحو يؤمِّن غرض المولى في الإتيان به ، إذ لو وجّهه إلى فئة خاصّة ربما يتساهلون في القيام بواجبهم لعذر أو لغير عذر ، بخلاف ما لو جعل التكليف في ذمة الجميع وحذّرهم من مخالفته فعندئذ لقام الأمثل فالأمثل بامتثال التكليف قطعاً.

سؤال وإجابة

فإن قلت : إذا كان الخطاب في الواجب الكفائي متوجّهاً إلى عامة المكلّفين فلماذا جعل سبحانه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي من الواجبات الكفائية على عاتق طائفة من الأُمّة ، لا على نفسها ، قال سبحانه :


( وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون )؟ (١)

قلت : أوّلاً : يحتمل أن تكون لفظة « من » نشأوية لا تبعيضيّة ، مثل قول القائل : « وليكن لي منك صديق » : أي كن صديقاً ، والمراد كونوا أُمّة يدعون إلى الخير.

وثانياً : نفترض انّ « من » تبعيضيّة ، لكن الآية ناظرة إلى حال الامتثال وتجسيد التشريع المتوجّه إلى الكل وانّه يكفي في تحقيقه قيام أُمّة من المسلمين بهذه الفريضة الحيويّة ، بشهادة انّ الأمر بالمعروف فُرض في بعض الآيات على قاطبة المؤمنين ، لا إلى لفيف منهم يقول سبحانه : ( وَالْمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَولياءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ). (٢)

ثالثاً : انّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مراتب :

مرتبة يشمل وجوبها عامّة المؤمنين وذلك كالإنكار بالقلب واللسان وإظهار الاشمئزاز بالوجه ، قال أمير المؤمنين 7 : « أمرنا رسول اللّه 6 أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة ». (٣)

ومرتبة منها تختص بأصحاب القدرة ، كقطع يد السارق ، وحدّ الزاني ، روى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه 7 قال : سمعته يقول : وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب على الأُمّة جميعاً؟ فقال : « لا » فقيل له : لم؟ قال : « إنّما هو على القوي المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيّ من أيّ ، يقول في الحقّ إلى الباطل ، والدليل على ذلك

__________________

١. آل عمران : ١٠٤.

٢. التوبة : ٧١.

٣. الوسائل : ١١ ، الباب ٦ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الحديث ١.


كتاب اللّه عزّوجلّ قوله ( ولتكن منكم أُمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) فهذا خاص غير عام ». (١)

وعلى ضوء هذا الحديث : انّ إجراء الحدود ، والأحكام التأديبية ، واجبة على عامّة القضاة والحكام لا على صنف منهم لكن على نحو لو قام واحد منهم بإجراء الحكم أو تصدّى أحد القضاة للقضاء في موضوع ، سقط عن الآخرين.

نقد النظرية والإجابة عنه

إنّ السيد الأُستاذ 1 تناول تلك النظرية بالنقد وقال : ما هذا حاصله :

كيف يتعلق الوجوب بعامّة المكلفين مع أنّ الواجب الكفائي على أقسام :

١. ما لا يقبل التعدد وما لا يمكن امتثاله إلا مرّة واحدة كقتل ساب النبي.

٢. ما يقبل التكثّر ، ولكن الفرد الثاني مبغوض ممنوع كمواراة الميت.

٣. ما يقبل التكثّر وليس الفرد الثاني مبغوضاً ، ولكنّه ليس مطلوباً أيضاً كتكفين الميّت ثانياً.

٤. ما يقبل التكثر ويكون مطلوباً كالصلاة على الميت.

أمّا الشقّ الأوّل ، فيمتنع بعث عامّة المكلّفين إليه ، لأنّه فرع إمكان التكثّر ، وأمّا الثاني والثالث اللّذان يقبلان التكثر لكن الفرد الثاني إمّا مبغوض أو غير مطلوب ، فبعث عامة المكلّفين إليه الملازم للتكثر إمّا نقض للغرض أو بعث إلى ما ليس بمطلوب.

__________________

١. الوسائل : ١١ ، الباب ٢ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الحديث ١.


وأمّا الرابع فإمكان بعث الجميع إليه وإن كان لا يُنكَر ، إلا انّ لازمه هو لزوم اجتماعهم في إيجاد صرف الوجود ، على نحو لو لم يحضر ، عُدّ المتخلف عاصياً لترك الأمر المطلق. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ دعوة عامة المكلّفين إلى إيجاد الطبيعة في الواجب الكفائي ليس مثل دعوتهم إلى إيجادها في الواجب العيني ، بأن يقوم كلّ مكلّف في زمان واحد بإيجادها حتّى يقال بأنّ الطبيعة ربّما لا يكون قابلاً للتكرار أو يكون قابلاً له ولكن يكون مبغوضاً ، أو غير مطلوب ، بل دعوة الجميع إلى إيجاد الطبيعة على نحو البدلية مثلها في الواجب التخييري الذي قد مرّ انّ الكلّ واجب على البدل ، فإذا قام أحد الأفراد بامتثال التكليف سقط الواجب ولا تصل النوبة إلى التكرار بأنواعه الثلاثة.

وقد عرفت أنّ النكتة لتوجيه الخطاب إلى عامّة المكلّفين مع أنّه يكفي في حصول الغرض قيام فرد منهم بالواجب ، هو أمران :

١. عدم قيام الغرض بقيام مكلّف خاص.

٢. التحفّظ عليه ، إذ احتمال التسامح وترك الامتثال أمر محتمل في فرد منهم ، لا في جميعهم.

وأمّا الصورة الرابعة التي يكون الفعل قابلاً للتكرار ومطلوباً ، لا يلازم كون المتخلّف عاصياً ، لأنّ الأمر وإن كان في الظاهر مطلقاً غير مقيد ، لكنّه بشهادة القرائن مقيّد بالبدلية ، ومعه لا يعد تركه عصياناً ، كأخذها في جانب المكلف به في الواجب التخييري.

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧.


النظرية الثانية : التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين

هذه هي النظرية الثانية التي تؤكد على أنّ التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين لا بعينه نظير الواجب التخييري ، غير أنّ الواحد لا بعينه في الواجب التخييري في ناحية متعلّق التكليف ، وفي الكفائي في جانب موضوعه ، وهذا واقع في العرف كما إذا أمر الوالد أولاده ، بقوله : فليقم واحد منكم بالعمل الفلاني. (١)

واختاره السيد الأُستاذ لكن بتفصيل خاص ، وهو انّ المكلّف أحد المكلّفين بشرط لا في الثلاثة الأُولى ، أعني : ما لا يقبل التكثّر ، أو يقبل لكن يكون مبغوضاً أو غير مطلوب ، أو أحد المكلّفين لا بشرط في الصورة الرابعة ، أعني : ما يقبل التكثر ويكون مطلوباً. (٢)

أقول : هذه النظرية لبعض القدماء من الأُصوليين. (٣) ولذلك تناولها السيد البروجردي بالنقد ، وقال : هل المراد من توجه التكليف إلى أحد المكلفين ، هو أحدهم المردد مفهوماً ، أو أحدهم المردد مصداقاً وخارجاً؟ أمّا الأوّل فهو غير قابل لتوجه التكليف إليه ـ كما هو معلوم ـ وأمّا الثاني فليس له مصداق في الخارج ، لأنّ كلّ فرد من آحاد المكلّفين فرد معين ، والوجود يلازم التشخّص والتعيّن ، فكيف يكون الفرد موجوداً ومع ذلك مردداً؟ (٤)

يلاحظ عليه : بأنّا نختار الشقّ الثاني ، وانّ المراد من قولهم بأنّ التكليف يتوجه إلى الفرد المردد ، هو ذات الفرد الخارجي ، ولكن ليس التردد قيداً له ، حتّى

____________

١. تعليقة العلاّمة الطباطبائي على الكفاية : ١٣٧ ، والمحاضرات : ٤ / ٥٣.

٢. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٦٧.

٣. انظر للوقوف على الأقوال : المعالم وتعليقة المشكيني على المقام.

٤. نهاية الأُصول : ٢٢٨.


يمنع تشخصه ، بل المردد عنوان مشير إلى أحد المكلّفين وانّه لا خصوصية لمكلف دون مكلف.

ولك أن تقول مكان الفرد المردد ، أحد المكلّفين ، وكلّهم مصاديق لهذا العنوان على نحو البدلية.

نعم يرد على تلك النظرية أنّه مخالف لظاهر الأدلّة في الواجب الكفائي فلاحظ.

النظرية الثالثة : تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين

إن هناك تكليفاً واحداً يتعلّق بمجموع المكلّفين من حيث المجموع ، فالمكلّف هو مجموع الأشخاص على نحو العام المجموعي ، غاية الأمر انّه يتحقّق فعل المجموع بفعل الواحد منهم وتركه بترك المجموع ، نسبه في حاشية القوانين إلى قطب الدين الشيرازي.

وأورد على هذه النظرية بأنّ المجموع أمر اعتباري لا وجود له في الخارج وإنّما الموجود ذوات الأفراد فلا معنى لتكليف المجموع. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره صحيح على الأُصول العقلية الفلسفية ، إذ لا وجود للهيئة الاجتماعية ، بل الوجود للأفراد ، وأمّا النظر إلى الموضوع من منظار العرف فللهيئة واقعية تصحّح تعلّق التكليف بها ، ولذلك نرى أنّ الأُمّة وقعت موضوعاً لأوصاف أو أحكام في القرآن والسنّة كما سيوافيك بيانه.

نعم يرد على تلك النظرية التي جعل المكلّف عنوان مجموع المكلّفين انّ لازمه لزوم اشتراك الجميع في التكليف لا سقوط التكليف بفعل واحد منهم ، لأنّ

____________

١. نهاية الأُصول : ٢٢٨.


المفروض هو توجّه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع لا إلى البعض ، وعندئذ كيف يسقط عن المجموع بفعل الواحد أوّلاً وعدم إمكان اشتراك المجموع في كثير من الواجبات الكفائية كغسل الميت ومواراته ثانياً؟

نعم يمكن إصلاح تلك النظرية ببيان آخر بأن يقال : انّ الفرق بين الواجبات العينية والكفائية هو انّ الأوّل يتعلّق بذوات الأفراد فكلّ فرد محكوم بحكم خاص غير حكم الفرد الآخر ، وأمّا الواجبات الكفائية فهي عبارة عن الأحكام التي تتعلّق بالأُمة وبالمجتمع ، فالمولى يطلب من المجتمع إقامة النظام وجهاد العدو ، وتجهيز الميّت والقضاء بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا كان المسؤول هو المجتمع فيجب عليهم تنظيم الأُمور من خلال تقسيم الوظائف فيما بينهم.

وهذه النظرية قريبة من النظرية الأُولى ، فانّ الأُولى تركّز على تعلّق الأحكام بذوات الأفراد ، وأمّا هذه النظرية فهي تركِّز على تعلّق الأحكام بذات المجتمع والأُمّة ، ومن الواضح انّ واقع الأُمّة بواقعية أفرادها ، نعم في مقام تعلّق الأمر يظهر التغاير بين الموضوعين.

وممّا يدلّ على إتقان تلك النظرية أنّ القرآن يخاطب الأُمّة مكان مخاطبة الأفراد ويقول : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّة أُخرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ). (١)

وفي آية أُخرى تعدّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وظائف الأُمّة المتمكنة لا الفرد المتمكن ، ويقول : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللّهِ عاقِبَةُ

__________________

١. آل عمران : ١١٠.


الأُمُور ). (١)

فجعل إقامة الصلاة وما تلاه في ذمّة الأُمّة المتمكّنة وهو روح الواجبات الكفائية.

هذا وقد بسط الكلام شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في تبيين هذه النظرية في موسوعته المسمّاة بـ « مفاهيم القرآن ». (٢)

النظرية الرابعة : تعلّق الوجوب بواحد معيّن

وحاصل هذه النظرية انّ التكليف منصبٌّ على واحد معيّن عند اللّه سبحانه ، فإن قام هو بالفريضة وإلا يسقط عنه بفعل غيره ، لأنّ المفروض انّ الغرض واحد ، فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

يلاحظ عليه : أوّلاً : ما هو السبب لتعلّق التكليف بشخص معين عند اللّه دون إعلامه.

وثانياً : انّه خلاف ظواهر الأدلّة فانّ التكليف إمّا متوجّه إلى عامّة المكلّفين استغراقاً ، أو إلى الفرد غير المعيّن أو مجموع المكلّفين.

إكمال فيه أمران :

١. ربّما يظهر من المحقّق الخراساني عند البحث فيما إذا دار أمر الواجب بين العينية والكفائية ، كون الواجب الكفائي من قبيل الواجب المشروط ، حيث قال في وجه الحمل على كون الواجب واجباً عينياً بأنّ الحكمة تقتضي كونه مطلقاً

__________________

١. الحج : ٤١.

٢. مفاهيم القرآن : ٢ / ١٩٨ ـ ٢٠٣.


سواء أتى به آخر أو لا. (١)

ومفاد ذلك انّ الواجب الكفائي مشروط بعدم إتيان الآخر به ، بخلاف العيني ، وهو كما ترى ، لأنّ الترك إمّا شرط للوجوب أو شرط للواجب. فعلى الأوّل يلزم على الجميع وجوب القيام بالفعل ، دفعة واحدة لحصول الشرط. وعلى الثاني يلزم عدم حصول الامتثال إذا أتى به الجميع لعدم الإتيان بالواجب مع شرطه.

وبما انّ هذه النظرية مستوحاة من عبارة الكفاية ولا نص عليها ، فلم نردفها بسائر النظريات.

٢. إذا قلنا بأنّ الواجب الكفائي ما له بدل فإذا قام أحد يسقط الحكم عن الأبدال الأُخر ، فالمقصود البدل الذي يكون مثل الأبدال الأُخر في توجّه الوجوب إليه ، فخرج وجوب أداء الدين عن التعريف فانّه وإن كان يسقط بأداء البريء ، لكنّه ليس بدلاً بهذا المعنى ، إذ ليس الأداء عليه واجباً وإنّما هو متبرّع له أن يؤدي وله أن لا يؤدي. (٢)

ثمرات البحث

ثمّ إنّه يقع الكلام في ثمرات الاختلاف في واقع الواجب الكفائي فنقول :

إنّ هناك ثمرات فقهية وكلامية على تلك النظريات ، وإليك الفقهية ثم الكلامية.

١. لو نذر أحد أن يعطي عشرة رجال لكلّ درهماً إذا أتى كلّ واحد منهم بواجب ، فلو قام الكلّ بالصلاة على الميّت ودفع الشخص لكلّ واحد درهماً ، فهل

__________________

١. الكفاية : ١ / ١١٦.

٢. الفصول : ١٠٧.


برَّ نذره أو لا؟ يختلف حسب اختلاف الأنظار.

أمّا على الأوّل فقد امتثل نذره ، لأنّ المفروض انّ الوجوب يتعلّق بآحاد المكلّفين فكلّ واحد من هذه العشرة كان مخاطباً بتجهيز الميّت والصلاة عليه غاية الأمر لو سبق أحد منهم إلى الواجب لسقط عن الآخر ، وأمّا إذا شارك الكلّ دفعة واحدة ، أو كان التكثّر والتعدد مطلوباً فقد أتى كلّ بواجبه ، فيكون إعطاء الدرهم إعطاءً لمن أتى بواجبه.

ويمكن أن يقال بصدق الطاعة والامتثال على النظرية الثانية أيضاً لما عرفت من أنّ متعلّق التكليف هو الفرد الخارجي أو الفرد الذي يصدق عليه عنوان المكلّف ، والمفروض انّ كلّ واحد من المصلّين مصداق للفرد ، وينطبق عليه عنوان المكلّف.

نعم على القول بأنّ المتعلّق هو المجموع فالوجوب تعلّق به لا بكلّ واحد من آحاد المكلّفين فليس هناك إلا امتثال واحد لا امتثالات.

ومثلها النظرية الرابعة فانّ التكليف تعلّق بفرد مشخّص عند اللّه فليس هناك إلا تكليف واحد ومكلّف معيّن والباقي من العشرة غير مكلّفين.

وحصيلة البحث : انّه إذا دفع لكلّ واحد من المصلّين درهماً فقد أبرّ نذره على النظريتين الأُوليين دون الأُخريين.

٢. جواز قصد الأمر لكلّ واحد من المكلّفين إذا كان المتعلّق قابلاً للتكرار ومطلوباً غير مبغوض كتحصيل علم الدين مع قيام عدّة معه بالتحصيل ، فعلى النظريتين الأُوليين يصحّ لكلّ واحد قصد الأمر لما عرفت من أنّ النظرية الثانية تتحد نتيجة مع الأُولى وإن كانت تختلف عنها في كيفية التحليل.

وأمّا الثالثة فالأمر متوجّه إلى المجموع وليس الفرد نفس المجموع ، فكيف


يتقرب بالأمر غير المتوجّه إليه؟ ومثلها النظرية الرابعة حيث إنّ المكلّف فرد معيّن عند اللّه ، لا كلّ من بلغ وعقل.

٣. إذا كان رجلان متيمّمين فوجدا ماءً لا يفي إلا بوضوء واحد منهما فهل يبطل تيمم كلّ منهما أو لا يبطل واحد منهما ، أو يبطل واحد منهما على البدل؟ فاختار المحقّق النائيني 1 الوجه الأوّل ، وذلك لأنّ بطلان التيمّم مترتّب على وجدان الماء ، المحقّق في ظرف القدرة على الحيازة ، فيبطل التيمّمان معاً ، وليس بطلانه مترتباً على الأمر بالوضوء حتّى يقال بوجود التزاحم في تلك الناحية حيث إنّ الأمر بواحد منهما بالتوضّؤ يزاحم الأمر بالآخر.

وفصّل تلميذه الجليل في التعليقة بين صورة سبق أحدهما إلى الحيازة وعدمه ، ففي الأُولى يبطل تيمم السابق فقط ويستكشف به عدم قدرة الآخر على الوضوء وبقائه على ما كان عليه من عدم وجدانه الماء ، وأمّا الصورة الثانية فيبطل كلّ من التيمّمين لتحقّق ما ترتّب عليه بطلانه وهو وجدان الماء ، فإذا تحقّق يترتّب عليه كلّ من الأمرين. (١)

وقال السيد الطباطبائي : إذا وجد جماعة متيمّمون ماءً مباحاً لا يكفي إلا لأحدهم بطل تيمّمهم أجمع إذا كان في سعة الوقت وإن كان في ضيقه بقى تيمّم الجميع. (٢)

أقول : إنّ المتبادر من قوله : ( فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً ) (٣) هو الوجدان العرفي الملازم مع التمكّن من استعماله بلا نزاع ، وعلى ذلك يختلف

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ١٨٩.

٢. العروة الوثقى : أحكام التيمم ، المسألة ٢٢.

٣. المائدة : ٦.


حكم الصور.

١. إذا تسابقوا عليه فسبق واحد منهم لحيازته بطل تيمّمه خاصّة ، لأنّه وجد الماء عرفاً متمكّناً من استعماله بالانتزاع دون الآخرين فانّهم وإن وجدوا ماءً ولكن غير متمكّنين من استعماله.

٢. تلك الصورة ولكن كان المسبوق قادراً على التغلّب فتسامح ، ففي تعليقة السيد الحكيم بطل تيممه أيضاً ، والحقّ صحته لما عرفت من أنّ المراد هو التمكّن العرفي بلا مغالبة ومصارعة ، والمفروض هنا عدمه.

٣. إذا وجدا ماءً مع الانصراف عن الحيازة فهل يبطل تيمم الكلّ لتحقّق شرط البطلان في كلّ واحد لصدق وجدان الماء والتمكّن منه بلا نزاع ، لأنّ المفروض انصرافهما عن حيازته؟


الفصل الحادي عشر

تقسيم الواجب إلى المطلق والمؤقّت

و

تقسيم المؤقت إلى الموسّع والمضيّق

قُسِّم الواجب إلى المطلق والمؤقّت ، والمطلق إلى فوري وغير فوري ، والمؤقّت إلى موسّع ومضيّق ، وإليك بيان كلا التقسيمين.

لا شكّ انّ الفعل لا ينفك عن زمان فالإنسان المادّي بما هو يعيش في عالم المادة لا يفارق فعلُه الزمانَ بل فعلُه يولِّد الزمان ، ومع ذلك كلّه فنسبة الفعل إلى الزمان على قسمين :

أ. تارة لا يكون للزمان تأثير في وصف الفعل بالمصلحة أو المفسدة وإنّما يكون الزمان ظرفاً للفعل ، وأُخرى يكون للزمان دور ـ وراء كونه ظرفاً للفعل ـ في وصف الفعل بالملاك ، ويكون له مدخلية في تحقّق الغرض ، وعندئذ ينقسم الواجب إلى مطلق ـ مرسل من مدخلية الزمان فيه ـ ومؤقّت قُيّد الفعل بالوقت والزمان.

ثمّ إنّ المطلق أي الواجب الذي لا دور للزمان فيه ، تارة يكون واجباً فورياً


لا يجوز تأخيره كصلاة الآيات ، وأُخرى يكون غير فوري كقضاء الفوائت الذي يجوز تأخيره.

كما أنّ المؤقت وهو الواجب الذي للزمان فيه دور ، تارة يكون مضيّقاً كصوم رمضان وأُخرى موسّعاً كالصلوات اليومية بالنسبة إلى أوقاتها.

فعلى ذلك فالمؤقت على قسمين : تارة يكون الوقت بمقدار الفعل لا أوسع ولا أضيق كصوم رمضان ، وأُخرى يكون الزمان أوسع من الفعل كالصلوات اليومية ، وأمّا عكس الثاني فغير صحيح أي كون الفعل أكثر من الزمان ، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق.

إذا عرفت تقسيم الواجب إلى المطلق والمؤقّت ، والأوّل إلى فوري وغير فوري ، والثاني إلى الموسّع والمضيّق ، فلنذكر أُموراً لها صلة بالمقام :

١. إذا وجبت الصلاة بين الزوال والمغرب فللطبيعة أفراد عرضية كالصلاة في المسجد أو البيت ، كما أنّ لها أفراداً طولية كالصلاة في الساعة الأُولى والثانية وهكذا ، فالتخيير بين تلك الأفراد تخيير عقلي لا شرعي فالعقل يخيّر بين هذه الأفراد في مقام الامتثال. نعم لو قال الشارع : صلِّ في المسجد أو في البيت أو في الوقت الأوّل أو في الوقت الثاني ، يكون التخيير شرعيّاً كخصال الكفّارة ، والمفروض انّه فرض الصلاة بين الحدين فقط.

٢. إذا أخر المكلّفُ الواجبَ الموسّع حتّى ضاق الوقت فلا يخرج الواجب عن كونه موسّعاً ولا يدخل في المضيّق ، نعم يكون مضيقاً بالعرض ، وعدم تأخيره لكونه مفوِّتاً للواجب لا لكونه مضيَّقاً بالذات.

٣. أشكل على الواجب الموسّع بأنّه ما يجوز تركه في بعض الأوقات ، فكيف يكون واجباً ويجوز تركه؟


يلاحظ عليه : بأنّ الواجب عبارة عمّا لا يجوز تركه بتاتاً ، والموسّع كذلك ، ولا ينافيه تركه في بعض الأوقات.

٤. عُرِّف الواجبُ المضيّق بأنّه عبارة عمّا يكون وقت الوجوب والواجب ( المكلّف به ) واحداً مع أنّ مقتضى القاعدة أن يكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب ولو بلحظة ، لأنّ الإتيان بالواجب انبعاث وهو معلول البعث والوجوب فيجب أن يكون الوجوب متقدّماً على الانبعاث تقدّمَ العلّة على المعلول فيكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب الذي يعبّر عنه بوقت الانبعاث.

يلاحظ عليه : بأنّ تقدّم العلّة على المعلول ترتبيّ لا زماني كتقدّم حركة اليد على حركة المفتاح ، وأقصى ما يمكن أن يقال انّه يجب تقدّم بيان الوجوب على زمان الواجب حتّى يتمكّن المكلّف من امتثاله ، وأمّا تقدّم زمان الوجوب على الواجب فليس بلازم.

هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد؟

هذه مسألة أُصولية يعبّر عنها تارة بما ذكر ، وأُخرى بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد.

وحاصله : انّه إذا مضى وقت الفعل هل الأمر الأوّل كاف في وجوب قضائه خارج الوقت أو يتوقّف على وجود أمر جديد وإلا فالأمر الأوّل قد سقط؟ قولان :

فمنهم من يقول بكفاية الأمر الأوّل في إيجاب القضاء ، ومنهم من يقول بلزوم أمر جديد متعلّق بالفعل خارج الوقت أيضاً.

وتحقيق المقام يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل : في مقام الثبوت.

الثاني : في مقام الإثبات.


أمّا الأوّل : فحاصله انّه لو قلنا بتعدّد المطلوب وأنّ إيجاد الفعل مطلوب وإيجاده في وقته مطلوب آخر فالقضاء بالأمر الأوّل ، وأمّا لو قلنا بوحدة المطلوب وانّ هنا مطلوباً واحداً وهو إيجاد الفعل في وقته ، فإيجاده خارج الوقت رهن أمر جديد.

وأمّا الثاني : أي البحث إثباتاً فهو فرع استظهار التعدد أو الوحدة من لسان الدليل ، فالحقّ انّ الدليل قاصر عن إفادة تعدد المطلوب ، فإذا أمر بالوقوف في عرفات من الزوال إلى الغروب فلو فات الموقف من المكلّف فإيجاب القضاء عليه بوقوفه فيها في خارج الوقت الذي يعبّر عنه بالوقوف الاضطراري يحتاج إلى الدليل ، وذلك لأنّ الأمر متعلّق بالمقيّد بالوقت ، فالواجب هو الفعل المحدد بالوقت فلا دلالة للأمر على إيجاب الفعل المجرّد عن الوقت.

نعم استثنى المحقّق الخراساني ممّا ذكرنا مورداً خاصّاً بالشروط الثلاثة :

١. أن يكون لدليل الواجب إطلاق بالنسبة إلى خارج الوقت.

٢. أن يكون التقييد منفصلاً لا متّصلاً.

٣. أن لا يكون في الدليل المقيّد إطلاق حاك عن كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة ( الركن ) وانّ المولى يطلبه مطلقاً متمكناً كان أو عاجزاً غاية الأمر إذا عجز المكلّف منه سقط وجوب الباقي ، فعندئذ يجب قضاء الفعل بنفس الأمر الأوّل ، قال :

نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله. (١)

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٣٠.


مثلاً إذا قال المولى : اغتسل من دون تحديد ، ثمّ قال في دليل آخر : اغتسل يوم الجمعة ، فلو افترضنا وجود الإطلاق في دليل الواجب والإهمال في دليل القيد بالنسبة إلى خارج الوقت ، فعندئذ يكون إطلاق دليل الواجب محكّماً خارج الوقت ، فعليه الغسل بعد غروب الجمعة.

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره خارج عن محل النزاع ، فإنّ البحث فيما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي بالنسبة إلى تعدد المطلوب أو وحدته ، وإلا فالمتبع هو الدليل الاجتهادي ، ولو افترضنا كون البحث في نطاق وسيع ، فعليه أن يطرح الصور الأربع في المقام :

أ. أن يكون لكلّ من دليلي الواجب والتوقيت إطلاق والمراد من وجود الإطلاق في دليل الواجب كونه بذاته مطلوباً ، سواء أُتي به في الوقت أو خارجه ، كما أنّ المراد من الإطلاق لدليل التوقيت كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة وانّه مطلوب في حالتي التمكن وعدمه.

ب. أن يكون كل من الدليلين مهملاً من هذه الناحية فلا يدلّ دليل الواجب على كون الفعل بذاته مطلوباً مع قطع النظر عن القيد كما لا يدلّ دليل التوقيت على مدخلية الوقت في أصل المصلحة وكونه مطلوباً في حالي التمكّن وعدمه.

ج. أن يكون لدليل الواجب إطلاق دون دليل التوقيت.

د. عكس الثالث.

أمّا الأوّل : فيؤخذ بإطلاق دليل التقييد لأظهريته من إطلاق دليل الواجب ، ويكون المراد انّ الوقت دخيل في أصل المصلحة لا في كمالها.

كما أنّ المرجع في الثاني هو الأُصول العملية لفقدان الدليل الاجتهادي ،


وسيوافيك ما هو المرجع من الأُصول ، وعلى الثالث يؤخذ بإطلاق دليل الواجب ويثبت تعدد المطلوب ويجب القضاء بنفس الأمر الأوّل.

وعلى الرابع يكون الأمر على العكس ، إذ إطلاق القيد يثبت كون الوقت دخيلاً في تمام مراتب مصلحة الواجب لا في بعضها.

وبعبارة أُخرى يكون إطلاق المقيَّد بياناً للمطلق ، فيؤخذ به لا بالمطلق فلا تتم مقدّمات الحكمة في جانب دليل الواجب.

والظاهر انّ محط النزاع هو الثاني لا الأوّل ولا الأخيران.

الأصل العملي في المسألة

إذا كان دليل الواجب أو دليل التوقيت مهملاً بالنسبة إلى خارج الوقت فما هو المرجع عند الشكّ؟

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المرجع هو أصالة البراءة وعدم وجوبها في خارج الوقت لا استصحاب وجوب المؤقت بعد انقضاء الوقت ، وذلك لعدم جريان الاستصحاب في المقام لعدم اتحاد القضيتين ، وذلك لأنّ الوقت إمّا قيد للموضوع ( الغُسْل ) أو للمحمول الوجوب ، وعلى كلا الفرضين فإبقاء الحكم بعد خروج الوقت قضية أُخرى غير القضية المتيقنة.

نعم يستظهر من الروايات الواردة في المستحبّات المقيّدة انّ القيد ليس ركناً بل يأتي بالمستحب خارج الوقت أيضاً كما إذا ورد بزيارة الحسين تحت السماء إذا لم يتمكّن منه لعذر أو لغير عذر فيجوز له الزيارة في البيت وغيره.

ثمرات القولين :

تظهر الثمرة في موارد نذكر منها ما يلي :


١. إذا ترك الواجب في وقته قطعاً ، فهل يجب عليه القضاء أو لا؟ يجب على القول الثاني دون الأوّل ، كما إذا لم يخرج الفطرة في وقتها المحدد ، أو تساهل في صلاة الخسوف والكسوف حتّى انجلى النيران ، فهل يجب القضاء أو لا؟

٢. إذا أتى بالواجب ولكن شكّ في صحّة العمل لأجل الشكّ في الشرائط وعدمها على النحو التالي :

أ. إذا توضّأ في الظلمة بمائع مردد بين كونه ماء مطلقاً أو مضافاً فشكّ في صحّة العمل بعد خروج الوقت.

ب. إذا صلّى على جهة ثمّ شكّ بعد خروج الوقت انّها كانت إلى القبلة أو لا.

ج. إذا توضّأ أو اغتسل والخاتم على اصبعه مع العلم بعدم تحريكه وقت العمل ، فشكّ بعد خروج الوقت في جريان الماء تحته وعدمه.

توضيحه : انّه لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل كاف في إيجاب القضاء ، فالعلم بالقضاء وإن لم يكن موجوداً في الصور الثلاثة ، لكن على القول بهذا الأصل ينقلب الشكّ في المقام ، إلى الشكّ في أصل الامتثال الذي يعبّر عنه بالشكّ في السقوط حيث بعد خروج الوقت يشكّ في أنّه هل امتثل ما علم اشتغال ذمته به ، يقيناً أو لا ، وبما انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، يحكم العقل بلزوم الاشتغال في حالة الشكّ.

وأمّا لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل غير كاف في إيجاب القضاء فلا يجب شيء خارج الوقت ، لأنّه لو علم قطعاً بعدم الامتثال في الوقت فلا يجب القضاء عليه خارج الوقت ، فكيف إذا شكّ في الامتثال؟ فعدم وجوب شيء بطريق أولى.

فإن قلت : المشهور عدم العبرة بالشكّ بعد خروج الوقت ، فلماذا لا يكون


هو المرجع بعد خروجه في هذه الصور الثلاث؟

قلت : إنّ القاعدة المزبورة راجعة إلى الشكّ في أصل الإتيان ، فلا يعتد به خارج الوقت ، وأمّا المقام فالشكّ إنّما هو في صحّة العمل المأتي به لا في إتيانه.

فإن قلت : إنّ مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة العمل ، وعليها ، فالوضوء في الصورة الأُولى والثالثة محكوم بالصحة ، مثل الصلاة في الصورة الثانية.

قلت : سيوافيك في محلّه انّ القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة حتى لا يكون حال العمل وحال الشكّ سيّان من حيث التذكر وعدمه ، وأمّا المقام فالحالتان متساويتان من حيث التذكر بشهادة انّه لو نبّهه إنسان حال العمل ، وسأله عن إطلاق الماء وعدمه ، أو جريان الماء تحت خاتمه وعدمه أو كون الجهة قبلة أو لا ، لأجاب بالشك وعدم الترجيح بواحد من الطرفين ، ومثله لا يكون مجرى للقاعدة ، لأنّ المتيقّن منها ما يكون حال العمل أذكر من حال الشكّ كما في روايات الباب ، فلاحظ.


الفصل الثاني عشر

الأمر بالأمر بفعل

هل هو

أمر بنفس الفعل؟

إذا أمر المولى فرداً ، ليأمر فرداً آخر بإنجاز فعل ، فهل الأمر الصادر من المولى أمر بذلك الفعل أيضاً أو لا؟ وإليك بعض الأمثلة :

١. إذا أمر سبحانه نبيّه أن يأمر الأُمّة بغضِّ الأبصار عن النساء الأجنبيات وقال : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُروجَهُمْ ) (١) ، هل ينحصر أمره سبحانه في الأمر بالنبي فقط ، أو يسري أمره إلى نفس الفعل ، أعني : غضّ البصر؟

٢. إذا أُمر أولياءُ الصبيان بأمرهم بالصلاة ، فهل يتلخص أمر الشارع في الأمر بالأولياء أو يسري إلى نفس الفعل أي الصلاة أيضاً ، فعندئذ تصبح صلاتهم ، شرعية؟

٣. إذا أمر الوالدُ ، الولدَ الأكبر بأمر الولد الأصغر ببيع الدار ، فهل يكون

__________________

١. النور : ٣٠


الأصغر مأموراً من جانب الوالد أيضاً ، أو لا؟ فلو باع الدار قبل أمر الولد الأكبر يكون بيعه صحيحاً لازماً أو لا؟ والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في مقام الثبوت

إنّ للمسألة صوراً ثلاث في عالم التصوّر :

الف : إذا تعلّق غرض المولى بإنجاز الفعل وكان أمر المأمور الأوّل طريقاً للوصول إليه ، على نحو لو كان المأمور الثاني حاضراً لدى المولى ، لأمره بالفعل مباشرة.

ب : إذا كانت المصلحة قائمة بمجرّد أمر المأمور الأوّل للثاني منهما من دون أن يكون إنجاز الفعل مورداً للغرض ، مثلاً إذا كان المأمور الثاني معروفاً بالتمرّد عن طاعة المولى ، فيأمر المولى أحد ملازميه بالأمر لغرض أن يقوم بفعل كذا ، فيكون تمام المصلحة قائماً بالإنشاء. وأمر المأمور الأوّل الثاني.

ج. إذا تعلّق الغرض بنفس الفعل لكن ـ بعد أمر المأمور الأوّل ـ فيكون كلا الشيئين متعلّقين للغرض.

فعلى الأوّل ، يكون الأمر بالأمر ، أمراً بنفس الفعل ، دون الصورتين الأخيرتين ، وذلك لأنّ الأمر الثاني إمّا تمام الموضوع كما في الصورة الثانية ، أو جزءه كما في الصورة الثالثة ، فلا يصحّ القيام بالفعل قبل ثبوت الموضوع كلّه أو جزؤه.

ثمرات المسألة

الثمرة الأُولى : إذا أمر الولي الصبي بالصلاة ، فهل تكون الصلاة مأموراً بها للآمر الأوّل ، أو ينحصر مفاد أمره بنفس الأمر بالثاني؟ مثلاً ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه قال : « إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين ،


فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين » فالحديث يدلّ على أنّه سبحانه أمر الأولياء بأمر الصبيان بالصلاة في سنين خاصّة ، فلو قلنا بأنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بنفس ذلك الشيء تقع صلاة الصبي متعلقاً بأمره سبحانه فتصبح صلاته وصومه ، شرعية يُكتفى بصلاتهم وصيامهم عند النيابة عن الغير كما يجوز الاقتداء بهم ، إلى غير ذلك من آثار الصحة ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّه ليس أمراً بالفعل ، بل أمر بالأمر فقط ، فلا يترتّب عليها آثار الصلاة الشرعية.

والظاهر هو الأوّل فانّ المتبادر عرفاً في هذه المواضع انّ أمر المولى طريق إلى قيام الصبي بالصلاة ، فلو قام بها من دون أمر الآمر الثاني لكان مثل ما إذا قام بعد أمره ، وهذا يكشف عن عدم مدخلية أمره ، فيكون أمره بالأمر أمراً بذلك الشيء.

كما أنّ أمر الإمام أولاده بالصلاة ، طريقي لا موضوعي ، فأولاد الإمام في خمس سنين ، وأولاد غيره في سبع سنين مأمورون شرعاً ، بأمر غير إلزامي لإتيان الصلاة.

وربّما تردّ الثمرة بأنّه لا حاجة في إثبات شرعية عبادات الصبي ، إلى هذه القاعدة المتمثلة في هذه الرواية لوجود روايات كثيرة في هذا المورد حيث حكم عليهم بالأمر بالعبادات المحمول على الاستحباب في سنين خاصة. (١)

يلاحظ عليه : أنّه لا مانع من إثبات المطلب من طريقين ، أحدهما ما أُشير إليه في الروايات ، وثانيهما هذه القاعدة.

__________________

١. الوسائل : ٦ ، الباب ٢٩ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ١ ـ ١٤.


إثبات شرعية عبادات الصبي بالعمومات

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على شرعيّة عبادات الصبي بالعمومات الواردة في الكتاب والسنة الشاملة للبالغ والصبي ، غاية الأمر انّ حديث الرفع ( رفع القلم عن ثلاثة ، ... الصبي حتّى يحتلم ) رفع الإلزام لا أصل الحكم ولا أصل المحبوبية ، لانّه حديث امتنان ولا امتنان في رفع الحكم غير الإلزامي ، فتكون عباداته شرعية. (١)

يلاحظ عليه بأمرين :

١. انّ القول بشمول الخطاب والعمومات لكلّ مميّز ، سواء أكان بالغاً شرعياً أم لا ، خرق للسنّة السائدة بين الأُمم والعقلاء ، فانّ مصبّ القوانين بين العقلاء في عامّة الحضارات هم البالغون لا غيرهم وإن كانوا مختلفين في حدّ البلوغ ولم يثبت انّ للشارع طريقة خاصّة تخالف طريقتهم.

وبعبارة أُخرى : انّ تعيين نصاب خاص لشمول القانون في المجتمعات الإنسانية ـ بلا فرق بين الدينية وغيرها ـ لقرينة على أنّ التشريع الإسلامي كسائر التشريعات ، رهن الوصول إلى ذلك النصاب غير أنّ الشارع قد حدّد النصاب ولم يفوضه إلى العرف والعقلاء ولكنّه لا يكون مانعاً ، عن انصراف العمومات والخطابات إلى البالغ ذلك النصاب.

فإن قلت : إذا كان غير البالغ غير مشمول للحكم ، فما معنى « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم » ، فانّ الرفع فرع الثبوت.

قلت : إنّ استعمال الرفع ـ وإن لم يكن الحكم ثابتاً ـ لأجل قابلية المميّز

__________________

١. مستمسك العروة الوثقى : ٨ / ٤٢٤ ، المسألة ٢ ؛ حقائق الأُصول : ١ / ٣٤٢.


للحكم عليه بشيء من الأحكام ، نظير رفع الحكم عن النائم بل في المجنون أيضاً بإلزام الولي بمراقبته ، فوجود المقتضي للإيجاب ، صار مصحّحاً للاستعمال.

٢. انّ المنشأ هو البعث نحو المطلوب وهو أمر بسيط دائر أمره بين الوجود والعدم وليس أمراً مركباً من أصل الحكم والإلزام حتى يرفع الثاني ويبقى الأوّل.

الثمرة الثانية

الثمرة الثانية ما مرّ في صدر البحث من أنّه لو أمر الوالد ولده الأكبر ، بأمر الولد الأصغر ، ببيع الدار ، فاطّلع الولد الأصغر قبل أمر الأكبر فباعه ، فلو قلنا بأنّ مثل هذا الأمر ، أمر بنفس الفعل يكون البيع صحيحاً لازماً دون ما لم نقل فيكون بيعاً فضوليّاً.


الفصل الثالث عشر

الأمر بعد الأمر

تأكيد أو تأسيس

إذا أمر المولى بشيء ، ثمّ أمر به ثانياً ، فهل هو تأكيد للأمر الأوّل ، أو إيجاب ثان غير الإيجاب الأوّل ويعبّر عنه بالتأسيس؟ هنا صور :

١. إذا قيّد الأمر الثاني بشيء يدلّ على التعدد ، كما إذا قال : صلّ ، ثمّ قال : صلّ صلاة أُخرى.

٢. إذا كان السبب للأوّل ، غيره للثاني ، كما إذا قال : إن ظاهرت فاعتق ، وإن أفطرت عمداً فاعتق.

٣. إذا كان أحد الأمرين خالياً عن ذكر السبب والآخر محفوفاً بذكر السبب فقط كما إذا قال : توضّأ ، ثمّ قال : إذا بُلت فتوضّأ.

٤. إذا كان كلّ من الأمرين خالياً من ذكره.

لا إشكال انّ الأمر الثاني في الصورة الأُولى يحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب ، وتعدد الواجب ، لمكان قيد « أُخرى » ، وأمّا الصورة الثانية فيحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب ، وأمّا تعدد الواجب ـ أي العتق وعدمه ـ فهو مبني على ما سيأتي في باب المفاهيم من التداخل في المسببات أو لا ، وانّه هل يمكن


امتثال وجوبين ، بفعل واحد أو لا؟

وأمّا الصورتان الباقيتان ، فإطلاق المادة وعدم تقييدها بقيد « أُخرى » يقتضي الحمل على التأكيد ، لامتناع تعلّق الوجوبين الكاشف عن الإرادتين ، بشيء واحد ، لأنّ تشخّص الإرادة في لوح النفس بالمراد فلا يعقل التعدد فيها مع وحدة المشخِّص ، هذا حول المادة ، وأمّا الهيئة فربما يقال بأنّها ظاهرة في التأسيس أي تعدد الوجوبين.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر بعد الأمر ظاهر في تعدد الطلب ، وأمّا إنّه طلبُ تأسيس أو طلبُ تأكيد فلا ظهور له في واحد منهما ، فيؤخذ بإطلاق المادة وانّ الموضوع هو نفس الوضوء الآبي عن تعلّق إرادتين به وتكون النتيجة هي التأكيد.

تمّ الكلام في المقصد الأوّل ( الأوامر )

وحان البحث في المقصد الثاني ( النواهي )


المقصد الثاني في النواهي

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في مادة النهي وصيغته

الفصل الثاني : في اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين

الفصل الثالث : في كشف النهي عن الفساد وعدمه

وفيه مقامان :

الأوّل : كشف النهي في باب العبادات ، عن الفساد

الثاني : كشف النهي في باب المعاملات عن الفساد



الفصل الأوّل

في مادّة النهي وصيغته

أسقط المحقق الخراساني البحث في مادّة النهي مع أنّها مثل مادة « الأمر » قابلة للبحث فيها من جهات شتّى ـ على ضوء ما مرّ في مادة الأمر ـ وخصَّ البحث بصيغة النهي التي تمثّلها لفظة « لا تفعل » مكان « إفعل » في جانب الأمر ، كما أسقط كثيراً من المباحث التي خاض فيها في صيغة الأمر نظير : دلالتها على الحرمة وعدمها ، واشتراط العلو أو الاستعلاء وعدمهما ، وظهورها في النفسي العيني التعييني وعدمه ، ودلالتها على الفور والتراخي وعدمه ، إلى غير ذلك من المباحث ، وإنّما ركّز في المقام على الأُمور التالية :

١. انّ مفاد هيئة النهي هو الطلب.

٢. انّ متعلّق الطلب ، هو الترك لا الكف عن الفعل.

٣. انّ النهي لا يدل على الدوام ، غير أنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها.

٤. إذا خالف النهي فهل يدلّ على إرادة ترك المتعلّق ثانياً أو لا؟

وإليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.


الف : مفاد الهيئة

ادّعى المحقّق الخراساني بأنّ مفاد الهيئة في كلا الموردين هو الطلب ، غير أنّه يتعلّق في الأمر بالوجود وفي النهي بالعدم.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ادّعاء محض والمتبادر منهما غير الطلب ، بل الهيئة في الأمر والنهي تدل على البعث أو الزجر ، حيث إنّ الصيغة تقوم مكان البعث أو الزجر بالفعل ، فانّ الإنسان يبعث غلامه بحركة الرأس ويزجره بالإشارة باليد ، فقام الأمر بالصيغة ، مكان البعث بالرأس ، والنهي بالصيغة مكان الزجر باليد.

ب : متعلّق الطلب

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المتعلّق في الأوّل هو الوجود وفي الثاني هو العدم.

لكنّه خلاف التحقيق ، لأنّ الصيغة مركّبة من هيئة ومادة ، والمادة لا تدلّ إلا على نفس الطبيعة ، فأين الدال على الوجود والعدم؟

نعم البعث أو الزجر ، لغاية الإيجاد ، أو الاستمرار على الترك وكون شيء غاية شيء ، غيرُ كونه مأخوذاً فيه وبذلك يسقط البحث عن كون المتعلّق هو الترك أو كف النفس ، وما حولهما من النقض والإبرام.

ج : عدم دلالتها على الدوام

ذكر المحقّق الخراساني بأنّ الصيغة لا تدلّ على الدوام والتكرار ، غير أنّ إيجاد الطبيعة يتحقّق بوجود فرد واحد ، وعدمها لا يكون إلا بعدم الافراد.

ما ذكره 1 ونسبه إلى أنّه مقتضى العقل ، منظور فيه ، بل مقتضى العقل انّ


الإيجاد والإعدام على نسق واحد ، لما حُقِّق في محلّه من أنّ الطبيعة تتكثّر حسب تكثّر الأفراد فزيد إنسان تام ، وبكر إنسان آخر ، وكلّ حائز تمام الإنسانية ، ونسبة الطبيعة إلى الافراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا الأب الواحد بالنسبة إليهم ، فإذا كانت الطبيعة متعددة الوجود حسب تعدد الأفراد ، تكون متعددة العدم كذلك.

نعم ما ذكره صحيح عرفاً ، فلا تكون الطبيعة معدومة ـ عنده ـ إلا بانعدام جميع الأفراد ، فلو نهى عن السرقة وشرب الخمر والغيبة ، فلا يصدق ترك الطبيعة إلا بترك جميع أفرادها وذلك لمناسبات مغروسة في ذهن المكلّف من أنّ النهي عن الشيء لغاية المفسدة الملزمة في كلّ فرد ، فلا يتحقّق الغرض الغائي ـ الاجتناب عن المفسدة ـ إلا بترك جميع الأفراد.

د. إذا خالف النهي

إذا خالف النهي ، فهل يدل على لزوم تركه ثانياً أو لا؟ والظاهر عدم الدلالة لسقوط النهي بالعصيان ، ولزوم امتثاله ثانياً يتوقف على الدليل ، بل إطلاق المتعلّق يدل على العدم ، وإلا لكان على المولى أن يقيّد ويقول : وإن عصيت فلا تفعل أيضاً.


الفصل الثاني

في اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

باعتبار عنوانين

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

الأوّل : الفرق بين الاجتماع الآمري والاجتماع المأموري

إنّ الأمر والنهي من المفاهيم ذات الإضافة ، فللأمر إضافة إلى الآمر ، وإضافة إلى المأمور به ، وإضافة إلى المأمور ، كما أنّ النهي له إضافة إلى الناهي أوّلاً ، وإلى المنهيّ عنه ثانياً وإلى المنهيّ ثالثاً ، فعندئذ فهنا صور ثلاث :

١. لو اتّحد الآمر والمأمور ، والناهي والمنهي في زمان واحد ، وكان بين المأمور به والمنهي عنه ، من النسب التساوي كأن يقول : أخرج من البيت في ساعة خاصّة ولا تخرج منه في نفس الساعة ، يسمّى الاجتماع آمرياً ، فإنّ الآمر هو السبب لاجتماع الأمر والنهي في شيء واحد في زمان واحد ، ويكون من قبيل التكليف المحال ، إذ لا ينقدح في ذهن الإنسان ، في زمان واحد إرادتان متضادتان طلبُ الخروج وعدمُه فهذا النوع من الطلب تكليف محال من شخص واحد في زمان واحد ـ بدل كونه تكليفاً بالمحال ـ حيث إنّ عدم إمكان امتثاله يرجع إلى عدم


القابلية في ناحية المكلّف به قبل أن يرجع إلى قصور قدرة المكلّف ، حيث لا يمكن الجمع بين الوجود والعدم.

نعم لو رجع عدم إمكان الامتثال إلى قصور قدرة المكلّف ، مع كون المكلّف به في نفسه أمراً ممكناً كما إذا قال : انقذ الغريقين مع عدم قدرته إلا على إنقاذ أحدهما ، يكون من قبيل التكليف بالمحال ، وإن كان مرجع ذلك ـ عند الدقّة أيضاً ـ إلى التكليف المحال ، لانّ المكلِّف إذا وقف على قصور قدرة المكلَّف كيف ينقدح في ذهنه إرادة إنقاذ الغريقين؟ لكن القضية شكلاً وصورة من قبيل التكليف بالمحال ، وحقيقة ومآلاً من قبيل التكليف المحال.

٢. تلك الصورة ولكن كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه ، هي التباين كما إذا أمر بالصلاة ونهى عن النظر إلى الأجنبية ، فهذا من الإمكان بمكان ولا يعدّ من باب الاجتماع حتّى لو نظر إليها حين الصلاة ، لا توصف الصلاة به ، لأنّ النظر قائم بالعين والصلاة قائمة بسائر الجوارح.

٣. نفس الصورة الأُولى ولكن كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه ، عموماً وخصوصاً من وجه ، كما إذا أمر بالصلاة ونهى عن الغصب ، فيقع الكلام في أنّه هل يصحّ للمولى أن يأمر بالأُولى على الإطلاق وينهى عن الغصب كذلك أو لا يصح؟ اختلف الأُصوليون على قولين :

١. يجوز ، لانّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فيخرج عن كونه تكليفاً محالاً ، كما هو واضح ، أوتكليفاً بالمحال ، لأنّ له المندوحة في إقامة الصلاة في غير المغصوب.

٢. لا يجوز ، لأنّ مفاد الإطلاق في الدليلين عبارة : صل ولو في الدار المغصوبة ، ولا تغصب ولو في حال الصلاة ، ولو أخذنا بكلا الإطلاقين يكون


الشيء الواحد ـ الصلاة في الدار المغصوبة ـ متعلّقاً للأمر والنهي ويكون من قبيل الاجتماع الأمري.

فقد ظهر ممّا ذكر انّ محل النزاع هو الصورة الثالثة ، وانّ أساس النزاع بين المجوّز والمانع هو كفاية اختلاف المتعلّقين في توجّه الأمر والنهي ، وعدم كفايته ، لأنّ مرجع الأخذ بالإطلاقين إلى الاجتماع الأمري وكون الشيء الواحد في مورد الاجتماع متعلّقاً للأمر والنهي فلاحظ.

الثاني : هل النزاع صغروي أو كبرويّ؟

هل النزاع في المسألة صغروي ـ كما ذهب إليه صاحب الكفايةـ أو كبرويّ كما هو اللائح من الكتب الأُصولية حيث يبحثون عن جواز الاجتماع وعدمه ولكلّ من القولين ، وجه.

أمّا كونه صغروياً فمن اعتمد ـ كالمحقّق الخراساني ـ في إقامة الدليل على الجواز وعدمه ، على أنّ تعدد العنوان ـ كالصلاة والغصب ـ يوجب تعدد المعنون كالحركة في الدار المغصوبة أو لا يوجب ، جعل النزاع صغروياً وانّه هل هنا اجتماع أو لا؟ وذلك لأنّه لو قلنا بأنّ تعدّد العنوان ، لا يحدث تعدّداً في المعنون ، يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، ولو قلنا : إنّ تعدّده يحدث تعدّداً في المعنون ، وانّ كلاً من الصلاة والغصب موجود بوجود خاص لا يلزم اجتماعهما في شيء واحد.

ويقرب من ذلك نظرية المحقّق النائيني حيث إنّه بنى الجواز وعدمه في المسألة على أنّ تركيب المادة والصورة ، أو تركيب المقولات بعضها مع بعض ، تركيب انضمامي أو اتّحادي ، فعلى الأوّل يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فلا


يلزم الاجتماع ، وعلى الثاني تلزم وحدة متعلّقهما فيلزم الاجتماع.

وبالجملة من بنى الجواز وعدمه على قضية « تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، أو لا » أو انّ تركيب المقولات بعضها مع بعض تركيب انضمامي أو اتّحادي ، فقد جعل النزاع صغروياً ، فالمجوز ينفي الاجتماع ، والمانع يثبته.

لكن جعل النزاع صغروياً ، يلازم القول بأنّ الأوامر والنواهي تتعلّق بالأفراد الخارجية ، مع أنّ المعروف بينهم ـ حتّى المحقّق الخراساني ـ انّها تتعلّق بالطبائع دون الافراد إذا فسّرت الأفراد ، بالمصاديق الخارجية ، وذلك لأنّ الخارج ظرف لسقوط الأمر لا ثبوته ، ولا محيص عن القول بكون النزاع كبرويّاً وانّ مصب النزاع عبارة عن الأمر التالي :

هل يجوز الأمر بشيء ، والنهي عن شيء آخر ، مع تصادقهما على مورد واحد ، أو لا؟ فالقائل بالجواز يقول : إنّ متعلّق الأمر هو حيثية الصلائية ، ومتعلّق النهي هو الحيثية الغصبية ، فالمتعلّقان مختلفان ، وتصادقهما على مورد لا يكون مانعاً عن حفظ الأمر والنهي المتعلّقين بشيئين مختلفين فيجوز اجتماع الأمر والنهي في المقام.

والقائل بالامتناع يقول : إنّ متعلّق الأمر والنهي وإن كان مختلفاً حقيقة ، لكن حفظ إطلاق الدليلين ، يستلزم وحدة متعلّق الأمر والنهي في النهاية ، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق « اقم الصلاة » هو وجوب إقامة الصلاة في عامّة الأماكن حتّى المكان المغصوب ، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله : « لا تغصب » هو تحريمه مطلقاً حتّى في الحالة الصلائية ، فلو صلّى في مكان مغصوب يلزم أن يكون العنوان الكلي ( الصلاة في الدار المغصوبة ) متعلّقاً للأمر والنهي بحكم حفظ الإطلاقين ، فيرجع الاجتماع المأموري إلى الاجتماع الأمري لاتّحاد الآمر والناهي ، والمأمور والمنهي ، والمأموربه والمنهي عنه فلا يجوز هذا النوع من الأمر والنهي.


الثالث : ما هو المراد من الواحد في العنوان؟

العنوان المعروف للمسألة هو قوله : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أو لا؟ فقد وقع الكلام في تعيين المراد من « الواحد » في التعريف.

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المراد هو الأعم من الواحد الشخصي والنوعي والجنسي وقال : المراد منه مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجاً تحت عنوانين ، بأحدهما كان مورداً للأمر ، وبالآخر مورداً للنهي فيعم الواحد الشخصي الذي له عنوانان كالصلاة في الدار المغصوبة ، والواحد النوعي مثل عنوان « الصلاة في المغصوب » والواحد الجنسي كالحركة المعنونة بالصلائية والغصبية ـ وأضاف ـ فخرج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنهي ولكن لم يجتمعا وجوداً ولو اجتمعا مفهوماً كالسجود للّه والسجود للصنم.

يلاحظ عليه : أنّ لازم ذلك إرادة معنيين من لفظ الواحد ، فتارة أُريد به مطلق الواحد ، ليشمل الواحد الشخصي والنوعي والجنسي ، وأُخرى أُريد به الواحد الشخصي فقط ليخرج السجود للّه والسجود للصنم ، حيث لا يجتمعان وجوداً في مصداق واحد.

والأولى أن يقال : انّ المراد من الواحد هو الواحد الشخصي فقط ، ويرجع النزاع إلى أنّ اجتماع العنوانين في واحد شخصي وتصادقهما عليه ، هل يمنع من الأخذ بالإطلاقين في الأمر والنهي معاً فيكون الحقّ مع الامتناعي ، فعندئذ لا محيص من الأخذ بأحد الإطلاقين ، إمّا الأمر بالصلاة ، أو النهي عن الغصب ففي مورد الصلاة في الدار المغصوبة ، إمّا أمر ولا نهي ، أو نهي ولا أمر أو لا يمنع فيكون الحقّ مع الاجتماعي.


الرابع : ما هو الفرق بين المسألتين؟

اختلفت كلمتهم في بيان الفرق بين هذه المسألة ، وما سيوافيك من البحث في دلالة النهي عن العبادات والمعاملات ، على الفساد وعدمها ، ففي بيان ما هو الفارق أقوال :

١. التمييز بالغرض

انّ الجهة المبحوث عنها في المسألتين هي التي تميّز إحدى المسألتين عن الأُخرى ، فانّ الجهة المبحوث عنها في المقام عبارة عن كون تعدد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا ، فعلى القول بالتعدّد ترتفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد ، لاستقرار كلّ حكم على موضوعه من دون سراية أحد الحكمين إلى موضوع الحكم الآخر ، وعلى القول بعدم التعدّد ، يتحد متعلّق كلّ من الأمر والنهي ، فيسري كلّ حكم إلى متعلّق الحكم الآخر ، فيعود البحث إلى السراية وعدمها تلو القول بأنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟

هذه من الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة ، بخلاف الجهة المبحوث عنها في الأُخرى فانّها ـ بعد تسليم توجّه النهي إلى العبادة ـ يقع الكلام في كون النهي موجباً للفساد أو لا ، فجهة البحث في الأُولى غيرها في الثانية.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تعدد الغرض يحكي عن وجود اختلاف جوهري بين المسألتين ، إذ لا معنى لترتّب أثرين مختلفين على المسألتين مع عدم اختلافهما في الذات والجوهر ، وعلى ذلك فيحصل التمايز الجوهري قبل الغرض والأثر.

وثانياً : أنّ ما ذكره مبني على كون البحث في المسألة صغروياً وإنّ تعدّد


العنوان هل يوجب تعدّد المعنون ، حتّى يكون متعلّق الأمر غيره في النهي أو لا؟ فيكون مرجع البحث إلى أنّه هل هنا اجتماع أو لا؟ ولكنّك عرفت أنّ البحث في المقام كبروي وانّ البحث إنّما هو في جواز الأمر بشيء والنهي عن شيء آخر ، متصادقين على مصداق واحد وعدمه ، ومرجع البحث إلى جواز الاجتماع وعدمه ـ بعد تسليم أصل الاجتماع في مصداق واحد ـ لا أصل الاجتماع وعدمه.

٢. التمييز بالموضوع

ذهب صاحب الفصول إلى أنّ المسألتين تتميّزان بالموضوع ـ ذكره عند البحث عن دلالة النهي المتعلّق بالعبادة ، على الفساد أو لا ـ وحاصل ما ذكره هو انّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو فيما إذا تعلّق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ، سواء أكان بينهما عموم وخصوص من وجه كما إذا قال : صلّ ولا تغصب ، أو عموم وخصوص مطلق كما إذا قال : أكرم الناطق ، ولا تكرم الشاعر ، وعلى كلّ تقدير ، فالموضوعان متغايران مفهوماً ، وأمّا النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد وعدمه ، ففيما إذا كان الموضوعان متّحدين حقيقة مختلفين بالإطلاق والتقييد ، كما إذا قال : صلّ ، ولا تصلّ في الحمام.

يلاحظ عليه : بأنّه لو انحصر وجه التمايز بين المسألتين بالتمايز في الموضوع لتوجّه إليه ، ما أورده المحقّق الخراساني عليه ، وحاصله : انّه لو كانت الجهة المبحوث عنها متعددة فلابدّ من عقد مسألتين وإن كان موضوعهما واحداً ، وإن كانت الجهة المبحوث عنها واحدة فلابدّ من عقد مسألة واحدة وإن كان الموضوع متعدّداً ، فلا دور لوحدة الموضوع وتعدّده.


٣. التمييز بالموضوع والمحمول

إنّ المسألتين تتميّزان موضوعاً ومحمولاً ، أمّا الأوّل فقد عرفته في كلام صاحب الفصول ، وأما الثاني فلأنّ المحمول في المقام جواز الاجتماع وعدمه ، وفي مسألة النهي عن العبادة ، هو دلالة النهي على الفساد وعدمه ، ومع الاختلاف الجوهري بين المسألتين في جانب الموضوع والمحمول ، لا وجه اشتراك بينهما حتّى يُسأل عن جهة افتراقهما.

نعم لو قلنا في المقام بالامتناع وانّه لابدّ من حفظ أحد الحكمين فقدّمنا النهي على الأمر ، يكون المورد من صغريات المسألة الآتية في دلالة النهي على الفساد وضعاً أو لا.

٤. التمييز بكون البحث عقلياً

الفرق بين المسألتين هو انّ ملاك البحث في المقام عقلي حيث يبحث في جواز الاجتماع وعدمه عقلاً ، وفي المسألة الآتية لفظي حيث يبحث في دلالة النهي على الفساد لفظاً.

يلاحظ عليه : مضافاً إلى أنّ البحث هناك لا يختصّ باللفظ ، بل يعمّ ما إذا كان الدالّ عليه ، هو الدليل اللّبي كالعقل والإجماع ، انّ مثل هذا الاختلاف لا يصير سبباً لتعدّدها ، لأنّ اختلاف طريق إثباتها لا يجعل المسألة الواحدة ، مسألتين.

الأمر الخامس : المسألة أُصولية

اختلفت كلمة علماء الأُصول في حقيقة هذه المسألة إلى أقوال :


١. مسألة أُصولية ، ٢. مسألة كلامية ، ٣. من مبادئ الأحكام ، ٤. مسألة فقهية ، ٥. من المبادئ التصديقية.

وإليك تبيين هذه الأقوال مع نقدها.

١. المسألة أُصولية

المشهور انّ هذه المسألة مسألة أُصولية لوجود ملاكها فيها وهو صحّة وقوع نتيجتها كبرى للاستنباط ، فانّها على القول بجواز الاجتماع يُستنبط منها صحّة الصلاة ، كما أنّها كذلك على القول بالامتناع مع تقديم جانب الأمر ، وأمّا على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي فيترتّب عليه الفساد.

هذا ولو قلنا بأنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه ، فالمسألة أُصولية أيضاً لما عرفت من أنّ البحث عن العوارض التحليلية بحث عن عوارض الموضوع ، والمراد من العوارض التحليلية هو تعيّنات الموضوع وتشخّصاته.

فانّ الفقيه عالم بوجود الحجّة بينه وبين ربّه ولكن لا يعلمها على وجه التحديد ، فالبحث في علم الأُصول بحث عن تعيّن الحجّة بخبر الواحد ونظائره ، ومثله المقام فالكلام في تشخيص ما هو الحجّة عند اجتماع الأمر والنهي فهل هناك حجّتان أو حجّة واحدة؟ وعلى الثاني فهل هي الأمر بالصلاة أو النهي عن الغصب؟

الإشكال على كون المسألة أُصولية

وقد أورد المحقّق النائيني على كون المسألة أُصولية بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على مجرّد القول بالامتناع ، بل القول بالامتناع يوجب دخول دليلي الوجوب


والحرمة في باب التعارض وإجراء أحكام التعارض عليهما. ويستنبط من ذلك حكم فرعي. (١)

توضيحه : انّ القول بالامتناع لا يكفي في إثبات فساد العبادة ، بل يتوقّف على أمر آخر وهو إعمال المرجّحات بتقديم جانب النهي على الأمر ، فعند ذلك تفسد العبادة أخذاً بأحد الدليلين ورفض الآخر ، فظهر انّ فساد العبادة ليس نتيجة مباشرة للقول بالامتناع ، بل لابدّ بعد القول به من إعمال قواعد التعارض وتقديم جانب النهي على جانب الأمر.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ كون المسألة أُصولية ليس رهن ترتّب الأثر على كلتا الصورتين : الإثبات والنفي ، بشهادة انّ حجّية خبر الواحد مسألة أُصولية يترتّب الأثر على واحد من طرفي القضية وهو كونه حجّة دون عدمها. وعلى ذلك فيكفي في عدّ المسألة أُصولية ترتّب أثر الصحة على القول بالاجتماع وإن لم يكن على القول بالامتناع أثر شرعي حسب افتراضه.

وثانياً : لا يشترط في كون المسألة أُصولية أن تكون المسألة سبباً تامّاً لاستنباط الحكم الشرعي ، بل ربّما يتوقّف استنباط الحكم الشرعي على ضم مسألة أُخرى إلى المسألة الأُولى حتّى يستنبط منها الحكم الشرعي وذلك كحجّية خبر الواحد التي لا يستنبط منها الحكم الشرعي ما لم تنضم إليها مسألة أُخرى باسم حجّية الظواهر.

وعلى ذلك فلا مانع من جعل المسألة أُصولية وان توقّف ترتّب الأثر ـ على القول بالامتناع ـ على إعمال قواعد التعارض.

وثالثاً : أنّ المتبادر من كلام المحقّق النائيني انّ المسألة من باب التزاحم على

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٣٣٤ ؛ فوائد الأُصول : ١ / ٣٩٩.


القول بالاجتماع ، ومن باب التعارض على القول بالامتناع ، ولكنّه رأي شاذ فإنّ الظاهر من الأُصوليين انّه على القول بالاجتماع لا تزاحم ولا تعارض ، وأمّا على القول بالامتناع فهناك تزاحم لا تعارض ، ولأجل ذلك يجب أن يلجأ الامتناعي إلى إعمال مرجّحات باب التزاحم لا التعارض ، وسيوافيك شرحه عند البحث عن الأمر الثامن للمحقّق الخراساني.

٢. مسألة كلامية

إنّ المسألة كلامية ، لأنّ الأمر والنهي من الأُمور الواقعية ، فالبحث هو عن جواز اجتماعهما وامتناعه.

وأورد عليه المحقّق النائيني بأنّ علم الكلام هو العلم المتكفّل لبيان حقائق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها ، وليس البحث في المقام عن جواز الاجتماع وامتناعه ، بل البحث عن وجود الاجتماع وعدمه. (١)

ولا يخفى ضعف الاستدلال والإشكال.

أمّا الأوّل : فلأنّ علم الكلام ، هو العلم الباحث عن ذاته سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، حتّى أنّ البحث عن النبوّات العامّة والخاصّة والإمامة والمعاد ، بحث عن أفعاله سبحانه ، وانّه هل يجب عليه بعث الأنبياء ، أو نصب الإمام أو احياء المكلّفين للجزاء أو لا؟ وأمّا البحث عن الجواز والامتناع ـ كما في كلام المستدل ، أو البحث عن حقائق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها كما في كلام المستشكل ـ فلا صلة لهما بعلم الكلام.

ولو أردنا جعلها في عداد المسائل الكلامية لوجب تغيير عنوان المسألة بأن

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٣٩٩.


نقول : هل يجوز على اللّه أن يأمر بعنوان وينهى عن عنوان آخر ، متصادقين في أمر واحد أو لا؟ ولكن الملاك في عدّ المسألة من مسائل علم ما ، هو العنوان الموجود في الكتب لا المحرّف منه.

٣. من مبادئ الأحكام

وربّما يظهر من بعض الأُصوليين انّها من مبادئ الأحكام حيث يبحث فيها عن أحوال الأحكام الخمسة وأوصافها ، فيبحث عن إمكان اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد أو لا ، وانّه هل هناك مطاردة بين الوجوب والحرمة أو لا؟

وأورد عليه المحقّق الخوئي : بأنّ مبادئ الأحكام راجعة إلى المبادئ التصوّرية أو المبادئ التصديقية ، وذلك لأنّه إن أُريد تصوّر نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المبادئ التصورية ( لعلم الفقه ) ، لأنّه لا يعني من المبادئ التصورية إلا تصوّر الموضوع والمحمول ( وهنا الأخير ).

وإن أُريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه ، وعلم الأُصول كلّه مبادئ تصديقية لعلم الفقه ، وبفضل هذه المسألة نجزم بحكم الصلاة في الدار المغصوبة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ مبادئ الأحكام من مصطلحات القدماء في خصوص علم الفقه ، والمراد منها لا هذا ولا ذاك ، بل شيء ثالث وهو البحث عن ماهية الأحكام الخمسة وملازماتها كالبحث في أنّ الوجوب والاستحباب بسيطان أو مركبان ، والبحث عن اقتضاء وجوب شيء وجوبَ مقدمته ، أو حرمته حرمتَها ، وفي المقام يعود البحث إلى استلزام وجوب الشيء عدمَ حرمته أو بالعكس فيما إذا

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ١٧٨ ـ ١٧٩.


تصادق العنوانان في مورد واحد ، فالبحث كلّه يرجع إلى الأحكام الخمسة بصور مختلفة ، فلو كان علم الفقه باحثاً عن عوارض فعل المكلّف التي هي الأحكام الخمسة فالمبادئ الأحكامية تبحث عن حالات تلك العوارض التي تعرض فعل المكلّف.

نعم يلاحظ على صاحب النظرية انّ الملاك في جعل المسألة من باب هو عنوانها المعروف في الكتب ، وليس هو إلا جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، دون مطاردة الوجوب الحرمة أو بالعكس ، فانّ البحث على هذا العنوان يوجب تغيير عنوان المسألة المعروفة من الكتب.

٤. مسألة فقهية

وجعل بعضهم مسألة جواز الاجتماع أو الامتناع من المسائل الفقهية قائلاً بأنّ البحث يرجع إلى صحّة الصلاة وفسادها عند الإتيان بها في المكان المغصوب.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره نتيجة المسألة وليس أصلها ، والمحمول في المسألة جواز الاجتماع وعدمه لا صحّة الصلاة وفسادها.

على أنّ نتيجة البحث لا تختص بباب الصلاة ، بل تعم الحجّ والاعتكاف وغيرها.

٥. من المبادئ التصديقية

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المسألة من المبادئ التصديقية ، وقد ذهب إليه عندما ردّ على أُصولية المسألة قائلاً : بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على القول


بالامتناع مباشرة ، بل يجب أن ينضم إلى القول بالامتناع شيء آخر وهو فرض المورد من باب التعارض وإجراء أحكامه على العبادة ، ويستنبط من الجميع حكم فرعي. والمسألة الأُصولية عبارة عمّا يستنبط بها حكم فرعي من دون حاجة إلى ضم نتيجتها إلى قاعدة أُخرى.

فإذن ليس للمسألة دور ، إلا أنّ القول بالامتناع يحقّق موضوعاً للتعارض ، كما أنّ القول بالاجتماع يحقق موضوعاً للتزاحم ، ومن المعلوم أنّ البحث عن أحكام التعارض والتزاحم مسألة أُصولية ، لكن البحث عن وجود التعارض أو التزاحم بحث عن المبادئ التصديقية. (١)

فالإنصاف انّ البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية لرجوع البحث فيه إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم. (٢)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ تسمية هذه المسألة بالمبادئ التصديقية تسمية خاطئة ، فانّها عبارة عن المقدّمات التي يتوقّف عليها الجزم بالنسب الموجودة في مسائل العلم ، كشعر امرئ القيس في علم النحو حيث يثبت به القواعد النحوية ، أو البراهين التي يتوقّف عليها إثبات النسبة في المسألة الهندسية ككون زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين.

فإذا كان هذا هو المراد من المبادئ التصديقية فليست هذه المسألة سبباً للإذعان بالنسب في المسائل الأُصولية ، بل هي من المبادئ التصوّرية لإثبات وجود موضوع المسائل وهو انّ المقام على الاجتماع ـ حسب فرضه ـ من باب

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٢. فوائد الأُصول : ١ / ٤٠٠.


التزاحم ، فعلى الفقيه أن يجري فيه قواعد التزاحم ، وعلى الامتناع من باب التعارض فعليه أن يجري مرجّحات التعارض.

وبالجملة : فالتزاحم والتعارض من موضوعات المسائل الأُصولية حيث إنّ كل واحد منها موضوع لأحكام خاصّة فللتزاحم حكم وللتعارض حكم آخر.

فنتيجة البحث في المقام تنتهي إلى إثبات التزاحم أو التعارض في المقام وهما من موضوعات المسائل الأُصولية التي لهما من الأحكام والمرجّحات ، وإثبات موضوع المسائل ، يعد من المبادئ التصوّرية للعلم لا التصديقية.

وثانياً : الظاهر أنّ القول بالاجتماع يخرج المسألة عن إطار التزاحم والتّعارض ، وأمّا القول بالامتناع في المقام فيدخل المسألة في باب التزاحم لا التعارض ، لأنّ المتزاحمين عبارة عمّـا إذا كان مورد كلّ دليل مشتملاً على مصلحة ملزمة والمقام كذلك حيث نعلم بوجود المصلحة الملزمة في جانب الفعل أي الصلاة ووجود المفسدة الملزمة للترك لأجل الغصب ، غير أنّ المكلّف بسوء الاختيار صار عاجزاً عن الجمع بين المصلحتين فأشبه بما إذا لم يتمكّن من إنقاذ الغريقين.

السادس : في عموم النزاع لأقسام الأمر والنهي

هل النزاع يختص بالايجاب والتحريم النفسيّين ، العينيّين ، التعيينيّين ، أو يعم الغيريّين والكفائيّين والتخييريّين؟ ذهب صاحب الفصول إلى الأوّل ، والمحقّق الخراساني إلى الثاني.

لا شكّ انّ كلاً من مادّة الأمر والنهي ، إذا أطلقت تنصرف إلى ما هو الشائع ، أي النفسي العيني والتعييني ، كما أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة في صيغة الأمر هو كذلك ، لأنّ غيرها في مقام الإثبات يحتاج إلى بيان زائد ، بخلافها ، وقد


مرّ توضيح ذلك في المقصد الأوّل عند البحث في دوران الصيغة بين هذه الاحتمالات.

إنّما الكلام في أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي ، هل يختصّ بما إذا كان الإيجاب والتحريم نفسيين أو عينيين أو تعيينيين ، أو يعمّها ومقابلاتها؟ الظاهر هو العموم ، لوجود ملاك البحث في عامّة الأقسام ، فالقائل بالامتناع يستدلّ بتضاد الوجوب والحرمة تارة ، وتضاد مبادئهما من الإرادة والكراهة ثانياً ، وإنّ تعدد العنوان ، لا يوجب تعدد المعنون ثالثاً ، وهذا النوع من الاستدلال جار في عامّة أقسام الأمر والنهي ، كما أنّ القائل بالاجتماع يستدلّ بأنّ متعلّق الأمر والنهي متغايران والتصادق في مورد لا يضر بتعدّد المتعلّق في مقام الإنشاء ، والفعلية ، من غير فرق بين أقسام الأمر والنهي ، ولإيضاح الحال نأتي بمثالين :

١. إذا أمر المولى بالصلاة والصوم تخييراً ، ونهى عن التصرّف في الدار ومجالسة الأشرار كذلك ، فالامتثال في جانب الأمر يحصل بإتيان واحدة منهما لكن المخالفة في جانب النهي تتوقف على مخالفتهما معاً ، وعلى ذلك لو صلّى في نفس الدار مع مجالسة الأشرار ، يقع الكلام في صحّة الصلاة والحال هذه وعدمها.

نعم لو صلّى فيها مع عدم مجالستهم ، أو صلّى في غيرها مع مجالستهم ، أو صام فيها بلا مجالسة ، أو صام مع المجالسة لكن في غيرها ، فقد أتى بالواجب دون الحرام ، لما عرفت من أنّ الحرام هو الجمع لا الواحد منهما.

٢. إذا أمر بالوضوء أو الغسل أو التيمم للصلاة ونهى عن التصرّف في دار معيّنة ، فتوضأ أو اغتسل أو تيمّم فيها يقع الكلام فيه كما في غيرها والأمر بها غيري ولكن النهي نفسي.


السابع : في لزوم أخذ عنوان المندوحة في النزاع وعدمه

هل يلزم أخذ عنوان المندوحة في عنوان النزاع أو لا يلزم؟ فيه أقوال :

١. عدم اعتباره في صحّة النزاع.

٢. اعتباره فيه كما عليه صاحب الفصول. (١)

٣. التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يعتبر ، وكبروياً فيعتبر.

٤. التفصيل بين كون الابتلاء بسوء الاختيار فلا يعتبر ، وما إذا حصل بدونه فيعتبر ، وعليه المحقّق القمي في قوانينه. (٢)

والحقّ هو الأوّل : على القول بكون النزاع صغروياً ، إذ لا دور لوجود المندوحة في أساس القولين ، وهو انّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أو لا؟ كما في تعبير المحقّق الخراساني ، أو تركيب المقولات تركيب اتحادي أو انضمامي ، كما في تعبير المحقّق النائيني.

وبعبارة أُخرى : هل الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية ـ لأجل انّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لأجل تركيب المقولات ، انضمامياً لا اتحادياً ، أو لا؟ ـ بناء على أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ، أو تركيب المقولات ، تركيب اتحاديّ ، والجزم بأحد الطرفين لا يتوقف على وجود المندوحة وعدمه في المورد ، فسواء أكان المكان منحصراً بالمغصوب أو متعدداً ، فالعقل إمّا يحكم بالوحدة أو التعدد.

نعم فعلية النهي تتوقّف على وجود المندوحة حتى لا يلزم الأمر بالمحال ، سواء أكان هناك أمر أو لا ، إذ لا يصلح النهي جداً عن المغصوب حتى يتمكّن

__________________

١. الفصول : ١٢٦.

٢. قوانين الأُصول : ١ / ٥٣ ـ ٥٤.


الإنسان من تركه فالمحبوس في مكان مغصوب ، مأمور بالصلاة ، وليس منهيّاً عن الغصب فعلاً وإن كان منهيّاً عنه إنشاء.

وبعبارة أُخرى : انّ صاحب الفصول خلط بين مقام التكليف المحال ، والتكليف بالمحال ، فلو كان متعلّق الأمر نفس متعلّق النهي ، يكون التكليف محالاً سواء أكان هناك مندوحة أم لا ، لاستحالة انقداح الإرادة والكراهة في النفس مع وحدة المتعلّق.

ولو تجاوزنا عن ذلك المحذور وقلنا بتعدّد المتعلّق وكان التكليف ممكناً ، يأتي الكلام في كون المكلّف به ممكناً ، وعندئذ يشترط وجود المندوحة ، وإلا فالتكليف وإن كان ممكناً ، لكن المكلّف به يكون أمراً محالاً ، لافتراض انحصار المكان بالمغصوب ، وبذلك يظهر صحّة قول المحقّق الخراساني وضعف قول صاحب الفصول.

وأمّا الثالث : أي التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يشترط وجود المندوحة ، وذلك لما في كلام المحقّق الخراساني من أنّ ملاك النزاع ، وصحته لا يتوقّف على وجود المندوحة ، لأنّ البحث يرجع إلى أمر تكويني وبحث فلسفي فانحصار المكان في المغصوب وعدمه ، لا يؤثر فيه.

وهذا بخلاف ما إذا كان البحث كبرويّاً فانّ تجويز اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد ، باعتبار انطباق عنوانين عليه فرع وجود المندوحة والتمكّن من إقامة الصلاة في غير المكان المغصوب ، وإلا فلو كان مضطرّاً فلا محيص من سقوط أحد الحكمين ، إمّا وجوب الصلاة أو حرمة الغصب ، فالتحفّظ على فعلية الحكمين يستدعي وجود المندوحة والسعة.

يلاحظ عليه : أنّ لزوم وجود المندوحة ليس من آثار اجتماع الحكمين


الفعليين في مورد واحد ، بل من آثار نفس النهي ، سواء أكان هناك اجتماع أم لا ، إذ التكليف مطلقاً مجرّداً أو مقروناً بآخر يطلب لنفسه الاستطاعة والقدرة كسائر الشرائط العامّة ، ومع عدمها ، يصبح التكليف تكليفاً بالمحال.

وأمّا القول الرابع : الذي هو قول المحقّق القمي فسيوافيك الكلام فيه في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة.

الثامن : صحّة النزاع على كلا الرأيين في متعلّق الأحكام

قد مرّ في المقصد الأوّل أنّ في متعلّق الأوامر والنواهي قولين :

١. تعلّقها بالطبائع والمفاهيم المجردة عن كلّ قيد.

٢. تعلّقها بالافراد.

وعندئذ يطرح السؤال التالي : النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، هل يطرح على كلا القولين أو لا؟

والجواب : هنا آراء وأقوال :

١. النزاع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالأفراد فلا مجال للبحث بل يتعيّن الامتناع.

٢. انّ القول بالجواز مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع ، والقول بالامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

٣. جريان النزاع على كلا الرأيين ، وهذا مذهب المحقّق الخراساني ، فلا القول بتعلّقها بالطبائع يلازم القول بالجواز ، ولا القول بتعلّقها بالأفراد يلازم القول بالامتناع.

أمّا الأوّل : فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ، فالامتناع هو


المتعيّن حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، وذلك لأنّ الطبيعتين وإن كانتا متغايرتين مفهوماً لكنّهما متحدتان وجوداً وخارجاً ، فيلزم أن يكون الشيء الواحد متعلقاً بحكمين متضادين.

وأمّا الثاني : فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، فالجواز لا غبار عليه ، حتى على القول بتعلّقها بالأفراد ، وذلك لأنّ الحكمين وإن تعلّقا بالفرد الخارجي لكنّه لمّا كان معنوناً بعنوانين يكون فرداً لكلّ من الطبيعتين ، ومجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد ، ويكون بما انّه فرد لهذا العنوان متعلّقاً للوجوب ، وبما انّه مصداق لعنوان آخر متعلّقاً للنهي ، فهو على وحدته وجوداً يكون اثنين لكونه مصداقاً للطبيعتين. (١)

يلاحظ على القولين الأوّلين : أنّهما مبنيّان على تفسير الفرد في متعلّق الأحكام ، بالفرد المنطقي وهو الجزئي الخارجي ، وعندئذ يصحّ القولان بأنّ النزاع في الجواز والامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالفرد ، فالقول بالامتناع متعيّن ، أو انّ الجواز مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، والامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

ولكنّك خبير أنّ الفرد بهذا المعنى ، لا يعقل أن يكون متعلّقاً للحكم ، لأنّه قبل الوجود لا يوصف بالفرديّة ، وبعده فهو ظرف سقوط الحكم بالطاعة أو بالمعصية ، بل المراد من الفرد في متعلّق الأحكام هو الفرد الأُصولي ، والمراد ، هو الطبيعة مع ملازماتها ومقارناتها ، والمراد من الملازمات هو ما لا يفارقها كالتأيّن بأين ، والتحيّن بالزّمان وغير ذلك ، كما أنّ المراد من المقارنات ما يصاحبها تارة ويفارقها أُخرى ، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة ، ويعبّر عن ملازمات الطبيعة

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.


ومقارناتها ، بالمشخّصات الفرديّة ، فلو قلنا بتعلّق الأحكام بها ، فبما انّها كلي كالطبائع فالواجب الأين الكلّي والزمان الكلّي ، وهكذا فيتأتى النزاع على كلا الرأيين ، لأنّ الفرد بهذا المعنى كالطبيعة في الكلية والشمول وصحّة تعلّق الأمر به.

بيان للمحقّق النائيني حول التفصيل

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قام بأمرين :

الف : فسّر الفرد ، على النحو الذي فسّرناه ، وفرّق بين الفرد في مصطلح المنطقيين ، والفرد في مصطلح الأُصوليين.

ب : قبل التفصيل الثاني وانّ جواز الاجتماع مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، والامتناع على القول بالافراد.

أمّا الأوّل : فقال : إنّ النزاع في أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة ، هل يتعلّق بمشخّصاتها الخارجية أو انّها من لوازم الوجود وخارجة عن حيّز الأمر؟

أمّا الثاني : فقال : فإذا بنينا على تعلّق الأمر بالمشخّصات سواء أكان الأمر بها استقلالياً أم تبعياً ، وكانت نسبة كلّ من المأمور به ، والمنهي عنه إلى الآخر نسبة المشخّصات ، فلا محالة يكون كلّ منهما محكوماً بحكم الآخر ، فيلزم منه اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد ، وأمّا إذا بنينا على خروج المشخّصات عن حيّز الطلب فلا يسري الأمر إلى متعلّق النهي ، ولا النهي إلى متعلّق الأمر ، فيكون القول بالجواز والامتناع مبنيّاً على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد بالضرورة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يتمّ لو أُريد من المشخّصات الفرديّة ما يعمّ

____________

١. أجود التقريرات : ١ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥.


الملازمات والمقارنات الاتفاقية كالغصبية بالنسبة إلى الصلاة ، وأمّا لو خصصناه ، بخصوص الملازمات ، أي ما لا ينفك وجود الطبيعة عنها ، كالزمان والمكان ، لا ما يصاحبه تارة ويفارقه أُخرى ، فلا تلزم وحدة المتعلّق ، لأنّ النهي تعلّق بالغصب ، لا الغصب المصاحَب بالصلاة اتفاقاً ، وهكذا الأمر تعلق بالصلاة ، لا الصلاة المقارنة بالغصب.

والذي يسهل الخطب هو أنّ المشخّصات الفردية غير داخلة في متعلّق الأوامر ، لأنّ المولى الحكيم لا يأخذ من متعلّق الحكم إلا ما هو دخيل في غرضه ، والدخيل فيه ، هو نفس الطبيعة ، لا ملازماتها ولا مقارناتها على نحو لو أمكن إيجادها مجرّداً عنها ، يعد ممتثلاً.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ ذكر لتعلّق الحكم بالفرد صوراً صحح النزاع في بعضها دون بعض ، وبما أنّ المبنى غير تام ، فلا يهمّنا بيان الصور المختلفة له.

التاسع : الفرق بين التعارض والتزاحم

إنّ كلمتي التزاحم والتعارض من الكلمات الدائرة على ألسنة الأُصوليين ، حيث يستعملون التزاحم في هذا المقام ( باب اجتماع الأمر والنهي ) والتعارض في باب « التعادل والترجيح » ، فإذاً يقع الكلام فيما هو الفرق بينهما.

والذي يزيد غموضاً في المقام هو أنّ الأُصوليّين ـ فيما إذا كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه ـ تارة يطرحونه في هذا المقام نظير صلّ ولا تغصب ، وأُخرى يعقدون له مبحثاً في باب التعادل والترجيح نظير : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق. حيث يتعارض الدليلان في العالم الفاسق ، وعندئذ يقع الكلام فيما هو الفرق بين المقامين وكيف تكون مسألة واحدة من مسائل هذا الباب والباب الآخر


الذي بينهما من البعد بعد المشرقين؟ فنقول :

إنّ المحقّق الخراساني بصدد الإجابة عن هذين السؤالين :

١. ما الفرق بين التزاحم والتعارض؟

٢. ما الفرق بين المثالين؟

وحاصل ما ذكره : انّه لو كان في كلّ من موردي الدليلين مناط الحكم وملاكه فهو من باب التزاحم ، وأمّا إذا كان المناط موجوداً في واحد منهما ، أو احتملنا انّ كلاً منهما فاقد للملاك ، فهو من باب التعارض ، هذا هو الذي تبنّاه وعقد لبيانه فصلين باسم التاسع والعاشر ، وكأنّ الأوّل بصدد بيان الموضوع وأقسامه ، والثاني في بيان ما يحرر به وجود المناطين وعدمه.

وإليك توضيح ما ذكره في الأمر الثامن برُمّته كي يتّضح للقارئ ما رامه صاحب الكفاية ، وأمّا التاسع فنضرب عنه صفحاً لما سيوافيك وجهه ، فنقول :

جعل المحقّق الخراساني الكلام في مقامين :

الأوّل : مقام الثبوت ، والمراد منه ملاحظة الموضوع مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به.

الثاني : مقام الإثبات ، والمراد منه ملاحظة الموضوع بعد تعلّق الحكم به.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذكر فيه صوراً ثلاثاً :

الأُولى : إذا كان الملاك موجوداً في مورد التّصادق منهما ، وقلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ، يكون المورد محكوماً بحكمين فعليّين ، فالصلاة في الدار المغصوبة والغصب بما انّهما واجدان للملاك فالاجتماعي يقول إنّه يكون محكوماً بحكمين بلا تريّث.


الثانية : تلك الصورة أي يكون مورد التصادق واجداً للملاكين ولكن لا نقول بجواز الاجتماع بل امتناعه ، فعندئذ يكون مورد التّصادق من باب التزاحم (١) ويؤخذ بمرجّحات بابه فيكون مورد التّصادق محكوماً بأقوى المناطين ، ولو لم يكن هناك مناط أقوى يرجع إلى حكم آخر غير الحكمين.

الثالثة : ما إذا لم يكن في مورد التّصادق ملاك ، فيخرج من هذا الباب ويدخل في باب التّعارض الذي يبحث عنه في المقصد الثامن من المقاصد الثمانية ، فعندئذ يؤخذ بالحكم الذي له مناط دون ما ليس له مناط.

وأمّا ما هو طريق كشف وجود المناط في حكم دون حكم؟ فهو ما سيوافيك في مقام الإثبات ، وحاصله : انّ مرجّحات باب التّعادل والتراجيح طريق إلى وجود الإحراز في المرَّجَّح دون المرجح عليه.

كما أنّه يحتمل أن يكون المورد فاقداً للملاك مطلقاً ، وعندئذ يطرحان ويرجعان إلى حكم آخر ، ولا تأثير في هذا المقام للقول بالجواز والامتناع لما عرفت من أنّ القولين من فروع القول بوجود الملاك في مورد التصادق والمفروض عدم اشتمال مورده على المناط.

هذا كلّه بيان الأحكام حسب الثبوت ، وإليك أحكامها حسب الإثبات.

ما هو المختار حسب الإثبات؟

قد عرفت أنّ صور البحث في مقام الثبوت ثلاثة ، وعندئذ يقع الكلام في بيان ما هو المختار على الإثبات أي بعد تعلّق الحكم بالموضوعين؟ فنقول :

__________________

١. والعجب انّ الشيخ الأنصاري ، جعل هذه الصورة من صغريات التعارض. لاحظ مطارح الأنظار : ١٢٤.


إنّ المحقّق الخراساني قدَّم حكم الصورة الثالثة أوّلاً ، وحذف بيان حكم الصورة الأُولى ، واقتصر على بيان حكم الصورة الثانية ، ونحن نشرح الجميع لكن على ضوء الكفاية بتقديم ما قدّمه فنقول :

الصورة الثالثة : عبارة عمّا إذا كان مورد الدليلين خالياً من الملاكين ، فيرجع إلى دليل آخر ، وأمّا إذا كان واحد منها خالياً عنه ، فعندئذ يؤخذ بما فيه المناط ، وطريق التعرّف عليه هو الرجوع إلى المرجّحات الواردة في باب التعادل والترجيح ، فيؤخذ بما هو المشهور أوّلاً ، ثمّ الموافق للكتاب ثانياً ، ومخالف العامّة ثالثاً ، وهذا النوع من البحث يرجع إلى باب التّعادل والترجيح.

وأمّا الصورة الأُولى : التي أحجم المحقّق الخراساني عن بيانها فنقول : إذا كان مورد التصادق واجداً لكلا الملاكين وقلنا بجواز الاجتماع وانّ كلّ حكم ثابت على متعلّقه من غير تجاوز عن موضوعه إلى موضوع آخر فلا كلام فيه ، وهذا هو الذي يتبنّاه الاجتماعي ويرى الساحة خالية عن التزاحم فضلاً عن التعارض ، وبما انّ المحقّق الخراساني لم يقل بجواز الاجتماع أسقط بيان حكم هذه الصورة.

الصورة الثانية : ما إذا كان مورد التصادق واجداً للملاكين ولكن قلنا بامتناع الاجتماع ، فالقائل لا محيص له إلا الأخذ بأقوى المناطين فانّه إذا كان هناك تزاحم بين المقتضيين يؤخذ بالأقوى مناطاً من غير فرق بين هذا الباب وسائر الأبواب حتّى إذا كان أقوى المناط مروياً بسند غير قوي يقدم على ما هو أضعف مناطاً وإن روي بسند قوي ، فلو ورد إنقاذ النبي بخبر الواحد وإنقاذ الولي بخبر أقوى منه ، فبما انّ إنقاذ النبي أقوى مناطاً يؤخذ به وإن كان السند غير قوي.

هذا ما أفاده في الكفاية ، ثمّ إنّه 1 أشار بالجملة التالية إلى صورة رابعة تعد من شقوق مقام الإثبات ومن فروع القول بعدم جواز الاجتماع حيث قال :


نعم لو كان كلّ منها متكفلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض فلابد من ملاحظة مرجّحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة. (١)

توضيحه : انّه إذا كان في مورد التصادق كلا المناطين يؤخذ بأقواهما ولكن فيما إذا لم يدل دليل خارجي على فعلية كلا الحكمين ، بل كان المورد قابلاً لحمل أحدهما على الفعلي والآخر على الاقتضائي ، وأمّا لو دلت القرينة على فعلية كلا الحكمين مع القول بامتناع الاجتماع فلا محالة يكون المقام مزيجاً من التزاحم والتعارض.

أمّا التزاحم فلما عرفت من وجود الملاكين ، وأمّا التعارض فلما عرفت من شهادة القرائن على فعلية الحكمين فعندئذ لا مناص في هذه المرحلة من إعمال مرجحات باب التعارض.

هذا إيضاح ما أفاده في الثامن.

يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بأُمور :

الأوّل : انّ ما ذكره في أوّل الفصل من أنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلا إذا كان في كلّ واحد من متعلّق الإيجاب والتحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق والاجتماع شيء لا مدخلية له في حقيقة البحث وإن كان له مدخلية في ترتب الأثر فانّ البحث في المقام يدور على أنّ تعدد العنوان موجب لتعدّد المعنون أو لا ، وهذا لا يتوقف على وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التصادق وعدمه.

نعم ترتّب الثمرة والقول بصحّة الصلاة على الاجتماع رهن وجود المناط في

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٤٢.


الموردين ، كما أنّ الحكم بصحّتها على القول بالامتناع وتقديم الأمر على النهي رهن وجود الملاك فيها ، وهذا هو الذي أشار إليه السيد المحقّق البروجردي ، فقال : إنّ صاحب الكفاية خلط بين الإمكان والامتناع كبروياً وبين ثمرة النزاع في الفقه فالقائل بالجواز يقول : إنّ اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي جهتين ممكن والقائل بالامتناع ينكره.

نعم تظهر الثمرة في الشرعيات في مورد يكون ملاك الحكم متحقّقاً في صور الاجتماع وهو أمر آخر وراء محل النزاع. (١)

الثاني : انّ الفرق بين التزاحم والتعارض ليس وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التزاحم وعدمه لهما في مورد التعارض ، بل الملاك هو ما سبق ذكره في مبحث الترتّب ، وهو انّه إذا كان التكاذب بين الدليلين في مقام الجعل والتشريع فهو من باب التعارض كما إذا قال : ثمن العذرة سحت ، لا بأس ببيع العذرة ، فلا يمكن جعل حكمين متضادين لموضوع واحد وهو ثمن العذرة.

وأمّا إذا كان بين الدليلين في مقام التشريع كمال الملائمة ولكن طرأ التزاحم في مقام الامتثال وهذا كقول القائل : انقذ النبي وأنقذ الإمام ، فلا نرى أي تكاذب بين الدليلين ، ولو كان هناك شيء من التدافع فإنّما هو لضيق قدرة المكلّف وبُعْد الغريقين مكاناً ، وإلا فلو كان الغريقان متقاربين أو كانت قدرة المكلّف أوسع فلا تزاحم.

الثالث : وهو ان عدّ قولنا : صلّ ولا تغصب من هذا الباب وقول القائل : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق من قبيل المتعارضين ليس لأجل وجود الملاك فيما يسمى بالتزاحم ، وعدمه فيما يسمّى بالتعارض ، وإنّما يعد العرف المورد الثاني من

__________________

١. لمحات الأُصول : ٢١٧.


التعارض دون الأوّل ، وذلك لأنّ كلاً من الدليلين في الأوّل غير ناظر إلى صورة الاجتماع ، بل الأمر تعلّق بطبيعة الصلاة والنهي تعلّق بطبيعة الغصب ، فلا يعد الدليلان عند العرف متعارضين ، لعدم الإشارة فيها إلى صورة التصادق ولو إجمالاً بخلاف الدليلين الآخرين ، أي أكرم كل فاسق وأكرم كلّ عالم ، أو قوله : أكرم العالم وأكرم الفاسق ، فإنّ في كلّ من لفظتي : « كل » و « اللام » إشارة إلى المصاديق الخارجية التي منها اجتماع الفسق والعلم في مورد واحد.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده سيدنا الأُستاذ في درسه الشريف حيث يقول : إنّ الميز بين البابين لبس بما ذكر ، إذ الميزان في عد الدليلين متعارضين هو كونهما كذلك في نظر العرف ، ولذا لو كان بينهما جمع عرفي خرج من موضوعه فالجمع والتعارض كلاهما عرفيان ، وهذا بخلاف المقام فانّ التعارض فيه إنّما هو من جهة العقل ، إذ العرف مهما أدق النظر وبالغ في ذلك لا يرى بين قولنا : صلّ ولا تغصب تعارضاً ، لأنّ الحكم على عنوانين غير مرتبط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الجمع أيضاً عقلي مثل تعارضه ، وعليه فكلّ ما عدّه العرف متعارضاً مع آخر وإن أحرزنا المناط فيهما فهو داخل في باب التعارض ولابدّ فيه من إعمال قواعده من الجمع والترجيح والترك ، كما أنّ ما لم يعده متعارضاً مع آخر وآنس بينهما توفيقاً وإن عدهما العقل متعارضين فهو من باب الاجتماع وإن لم يحرز المناط فيها. (١)

ثمّ إنّ الشيخ المحقّق المظفر ـ أتى بهذه المقالة ـ التي ذكرها السيد الأُستاذ ببيان مشروح ، وإليك ما ذكره ، فإنّه 1 عد ما جعل الملاك بين التزاحم والتعارض هو ما ذكرناه من وجود التكاذب في مقام التشريع في الثاني دون الأوّل ، قال :

إنّ العنوان المأخوذ في الحكم على قسمين :

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٨٣.


الأوّل : إذا أخذ العنوان في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميزات ، يكون في حكم المتعرض لحكم كلّ فرد من أفراده فيكون نافياً بالدلالة الالتزامية لحكم مناف لحكمه.

الثاني : أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد ، أي لم تلحظ فيه الكثرات والمميزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة ولا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأُخرى ، فيكون المطلوب في الأمر والنهي عنه صرف وجود الطبيعة.

فإن كان العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل ، فإنّ موضع الالتقاء يكون العام حجّة فيه كسائر الأفراد الأُخرى بمعنى أن يكون متعرضاً بالدلالة الالتزامية لنفي أي حكم آخر مناف لحكم العام بالنسبة إلى الأفراد وخصوصيات المصاديق.

وفي هذه الصورة لابدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع ، لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزامية في كلّ منها على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.

وإن كان العنوان مأخوذاً على النحو الثاني فهو مورد التزاحم أو مسألة الاجتماع ولا يقع تعارض بين الدليلين حينئذ ذلك مثل « صلّ » وقوله : « لا تغصب » باعتبار انّه لم يلحظ في كلّ من خطاب الأمر والنهي الكثرات والمميزات على وجه يسع العنوان وجميع الأفراد ، وإن كان نفس العنوان في حدّ ذاته وإطلاقه شاملاً لجميع الأفراد ، فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة للصلاة وامتثاله يكون بفعل أي فرد من الأفراد فلم يكن ظاهراً في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم


آخر في هذا المورد ليكون نافياً لحرمة الغصب في المورد.

وكذلك النهي يكون متعلّقاً بصدق طبيعة الغصب فلم يكن ظاهراً في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافياً لوجوب الصلاة. (١)

وفي الختام نقول : إنّ المحقّق النائيني جعل الفرقَ بين البابين ، هو انّ اجتماع المتعلّقين في باب الاجتماع ـ صلّ ولا تغصب ـ يكون على وجه الانضمام ، وفي باب التعارض ـ أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ـ يكون على وجه الاتحاد ، وقد عرفت أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي لا تندرج في صغرى التعارض لكون التركيب فيها انضمامياً. (٢)

يلاحظ عليه : أنّه إن رجع ما ذكره إلى ما ذكرناه فنعم الوفاق وإلا فالتفريق بما ذكره ليس أمراً واضحاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سوف يرجع إلى المسألة في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة بعد الفراغ عن مسألة امتناع الاجتماع فلاحظ. (٣) وكان عليه أن يقتصر بما أفاده في المقام.

العاشر : في ثمرات القولين

ذكر المحقّق الخراساني في المقام صوراً خمساً حسب القولين ، وإليك الإشارة إلى عناوينها :

١. إذا قلنا بجواز الاجتماع.

__________________

١. أُصول الفقه ، الطبعة المنقحة : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

٢. فوائد الأُصول : ١ / ٤٢٨.

٣. كفاية الأُصول : ١ / ٢٧٣.


٢. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر.

٣. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي والالتفات إلى الحرمة.

٤. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي ، مع الجهل بالحرمة تقصيراً ونسيانها كذلك.

٥. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي مع الجهل بالحرمة جهلاً عن قصور.

فنذكر هذه الصور وبيان أحكامها من حيث صحّة العمل وبطلانه عبادياً كان أو توصلياً.

الصورة الأُولى : إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فلا شكّ في صحّة العمل التوصلي ، وهكذا العمل العبادي ، لأنّه يأتي بالمجمع بداعي الأمر وإن كان عمله معصية أيضاً ، لأنّ الاعتبار إنّما هو بالأمر غير الساقط ، وإلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله : « لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز قطعاً ولو في العبادات وإن كان معصية للنهي أيضاً ».

وهذه الثمرة هي الثمرة المعروفة للمسألة اعتمد عليها الأُصوليون من سالف الأيام وكانت النتيجة صحة العبادة على القول بالاجتماع وبطلانها على القول بالامتناع.

غير أنّ كلاً من العلمين : المحقّق البروجردي ، والمحقّق النائيني ـ قدّس اللّه سرّهما ـ أشكلا على صحّة الصلاة ، بل مطلق العبادة على القول بجواز الاجتماع ، لكن كل ببيان خاص.

أمّا الأوّل فقال بأنّ العمل غير قابل للتقرب ، ومتعلّق كلّ من الأمر والنهي وإن كان متغايراً لكنّهما موجودين بوجود واحد ، فهو موجود غير محبوب ، بل


مبغوض فكيف يتقرب إلى المولى بأمر مبغوض؟!

وبعبارة أُخرى : انّ المكلّف بعمله هذا متمرد على المولى وخارج عن رسم العبودية وزيّ الرقيّة ، فكيف يتقرب إلى ساحته سبحانه ، بما يعدُّ مبعِّداً ولا يكون مقرِّباً؟!

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان القرب والبعد ، أمراً عقلائياً ، وكان العمل مزيجاً بالمحبوب والمبغوض ، فلا مانع من أن يتقرّب بحيثية دون الأُخرى ، نظير ما إذا أطعم اليتيم بمال حلال في دار مغصوبة ، فيعدّ لأجل الترحم عليه متقرباً ، وإن كان لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذن عاصياً ، غير متقرّب.

والذي يرشدك إلى وجود الفرق بين العملين : انّه لو غصب دار المولى ، وأكرم فيها ابنه ، وما لو غصبها وضرب فيها ابنه ، فلا شكّ انّ بين العملين بعد المشرقين ، وهذا آية إمكان التقرب ، بعمل متحد مع العمل المبغوض.

وأمّا الثاني فحاصل ما أفاده انّ الصلاة في الدار المغصوبة ليس مصداقاً للمكلّف به ، كما أنّه ليس واجداً للملاك.

أمّا الأوّل فلأنّ منشأ اعتبار القدرة نفس التكليف لا حكم العقل ، لأنّ الأمر هو جعل داع للمكلّف نحو المكلف به ولا يصح جعله داعياً إلا إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف ، فيكون متعلّق التكليف هو الحصة المقدورة عقلاً ، غير الممنوعة شرعاً ، فتخرج الحصة المحرمة تحت الأمر ، وعلى ضوء ذلك فالصلاة لما كانت ملازمة للمحرم فلا تكون مصداقاً للأمر ولا تكون مأموراً بها ، ولا يمكن الحكم بالصحة لأجل الأمر.

وأمّا عدم تصحيحها بالملاك ، فلأنّه إنّما يصحّ التقرب به إذا لم يكن ملازماً بالقبح الفاعلي وإلا فلا يكون صالحاً للتقرب ، والصلاة والغصب وإن كانا غير


متحدين إلا انّهما موجودان بإيجاد واحد ، فلا محالة يكون موجِدهما مرتكباً للقبيح بنفس الإيجاد ويستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقرّباً. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ المعروف بين المتكلّمين هو انّ الحاكم باشتراط التكليف بالأُمور العامّة من العقل والقدرة والعلم ، هو العقل دون ذات التكليف ، وما ذكره من « أنّ منشأ اعتباره القدرة نفس التكليف ، وذلك لأنّ الأمر جعل داع للمكلّف نحو العمل ، ولا يصحّ جعله داعياً إلا إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف » ، عبارة أُخرى عن حكم العقل بذلك ، وإلا فلو غضّ النظر عن حاكمية العقل ، فأيّ دليل يمنع عن كون الأمر داعياً إلى الأعم ممّا هو واقع في إطار قدرة المكلّف وما هو خارج عنه؟

وبذلك يعلم أنّ متعلّق الأمر هو مطلق الطبيعة ، لا الطبيعة المقدورة ، غير الممنوعة ، فيكون الفرد المحظور مصداقاً لها ، غير خارج عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لازم ذلك هو الخروج عن محلّ البحث ، فانّ المفروض اجتماع الأمر والنهي ، وتصادقهما على المصداق الخارجي ، وتخصيص المورد بالنهي فقط خلف الفرض.

وثانياً : انّ ما ذكره من كون المجمع فاقداً للملاك بحجّة أنّ موجد الصلاة والغصب مرتكب للقبح بنفس هذا الإيجاد ، « ويستحيل أن يكون العمل الصادر منه مقرِّباً » مبنيّ على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل ، وهو بعدُ غير ثابت ، لأنّ الصلاة في الدار المغصوبة نفسها في البيت ، وكون الفاعل مرتكباً للقبيح مقارناً للصلاة ـ كما هو المفروض ـ لا يجعل الصلاة فعلاً قبيحاً.

إلى هنا تمّ الكلام في الصورة الأُولى وإليك الكلام في الصورة الثانية.

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢١٩.


الصورة الثانية : القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر إلا أنّه لا معصية عليه ، والفرق بين الصورتين هو وجود المعصية في الأُولى دون الثانية ، لكون النهي حكماً اقتضائيّاً لا فعليّاً » وذلك لأنّ القائل بالامتناع يحمل أحد الحكمين على الاقتضائي والآخر على الفعلي ، وظاهر العبارة صحّة العمل عبادياً كان أم توصلياً.

لكن الموافقة معه مطلقاً مشكلة ، لأنّ الأخذ بالأمر لأجل كونه أقوى ملاكاً عن الحرام مختص بالصورتين التاليتين :

١. إذا لم يتمكن من الصلاة إلا في المكان المغصوب.

٢. إذا تمكن من الصلاة في المكان المباح لكن دار الأمر بين فوت الواجب ـ لأجل ضيق الوقت ـ وارتكاب الحرام فيقدم الأمر.

وأمّا إذا كان الوقت وسيعاً ، وكان هناك مندوحة ، فيؤخذ بالنهي دون الأمر لإمكان الجمع بين الامتثالين.

الصورة الثالثة : إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي لكونه أقوى ملاكاً مع الالتفات والعلم بالحرمة وإلى هذه الصورة أشار في الكفاية بقوله : « وأمّا عليه ( الامتناع ) وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر به مطلقاً في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له ، وأمّا فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة » وما ذكره هو المتعيّن ووجهه واضح.

الصورة الرابعة : إذا قلنا بالامتناع مع تقديم جانب النهي لكن المكلّف غير ملتفت إلى الحرمة تقصيراً أو نسياناً ، وإلى هذه الصورة أشار في « الكفاية » بقوله : أو بدونه ( الالتفات ) تقصيراً فانّه وإن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد


القربة وقد قصدها إلا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به أصلاً ، فلا يقع مقرباً وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عادة.

وحاصله : انّه يتمكن من قصد القربة ، لكن العمل غير صالح لأن يتقرب به ، ونزيد بياناً بأنّ الصحة رهن أحد أمرين : الأمر والمفروض كونه اقتضائياً ، والملاك وهو بعد غير معلوم ، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر والمفروض كونه إنشائياً ، ولأجل ذلك قال الفقهاء بأنّ المقصر والناسي خارجان عن قاعدة « لا تعاد » كما هما خارجان أيضاً عن حديث الرفع.

الصورة الخامسة : تلك الصورة مع الجهل بالحرمة قصوراً.

إذا قلنا بالامتناع وقدمنا النهي ولكن كان المصلي جاهلاً بالحرمة حكماً أو موضوعاً عن قصور ، فقد نسب إلى المشهور صحّة الصلاة في الدار المغصوبة إذا كان الجهل عن قصور ، والظاهر انّ قولهم لها لأجل قولهم بجواز الاجتماع ـ وسيوافيك انّ القول المشهور بين الإمامية من عصر الفضل بن شاذان ( المتوفّى ٢٦٠ هـ ) إلى الأعصار المتأخرة كالمحقّق الأردبيلي وتلميذيه هو القول بجواز الاجتماع ، غير أنّ المحقّق الخراساني لما قال بالامتناع حاول أن يصحح فتوى المشهور بالصحة على مختاره وحاصل ما أفاده من الفرق بين الجهل عن تقصير والجهل عن قصور يتلخص في النقاط التالية :

١. انّ صحّة العبادة رهن أمرين :

الف : قصد القربة.

ب : كون المأتي به صالحاً لأن يتقرّب به.

والأوّل مشترك بين الجاهلين فيقصدان القربة ، لكن الثاني كون المأتي به صالحاً للتقرب غير متحقّق في المقصّر ، لأنّ الجاهل لما كان كالعامد ، يعد عمله


تمرّداً وعصياناً للمولى والمفروض انّ الحكم بالحرمة فعلي ، لا اقتضائي ، ولكنّه متحقّق في القاصر ، لعدم فعلية النهي وكونه اقتضائياً ، فلا يكون المأتي به مبغوضاً فيصلح لأن يتقرب به ، وإلى ما ذكرنا أشار بقوله : وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً وقد قصد القربة فالأمر يسقط لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً.

٢. انّ سقوط الأمر لأجل حصول الغرض من الأمر ، وليس لأجل الامتثال ، لافتراض تقديم النهي على الأمر ، وذلك ( تقديم النهي ) لأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواقعية في المصالح والمفاسد ، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً والمفروض انّ مصلحة النهي ـ وإن لم يكن واصلاً ـ هو الأقوى فيكون العمل محكوماً بالحرمة لا بالوجوب ، ولأجل ذلك قلنا إنّه لا يصدق الامتثال نعم يسقط الأمر لأجل حصول الغرض. وإلى ما ذكرنا أشار بقوله : فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد.

٣. لو قلنا بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواصلة ، وانّه لا أثر للملاك الواقعي ، بل التأثير في التقديم والتأخير هو الملاك الواصل ـ وهو ما كان ملتفتاً إليه ـ ينقلب حكم الواقعة من النهي إلى الوجوب فيكون المورد ، امتثالاً للأمر المقدم ، دون النهي ، لكن الفرض غير ثابت عند الإمامية لاستلزامه نوعاً من التصويب وأن يكون حكم اللّه تابعاً لعلم المكلف.

وإلى ما ذكرنا أشير بقوله : لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح لكونهما تابعين لماعلم منهما ـ كما حقّق في محله ـ.

٤. يمكن أن يقال بحصول الامتثال في المقام حتّى بناءً على تبعية الأحكام


للملاكات الواقعية من المصالح والمفاسد ، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً ، وذلك لأنّ العقل لا يرى فرقاً بين هذا الفرد والفرد الآخر في الوفاء بالغرض من الأمر بالطبيعة ، وإلى ذلك أشار في « الكفاية » بقوله : مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك ـ كون المؤثر هو الجهات الواقعية لا الواصلة ـ بأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بفرض الطبيعة المأمور بها وإن لم يعمه بما هي مأمور بها ، لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضي ، فيكون المورد أشبه بما مرّ في الواجب الموسع المبتلى بواجب مضيق فيأتي بالموسع دونه ، فإنّ الفرد الموسع وإن كان فاقداً للأمر ، لكنّه لا لفقد المقتضي ، بل لأجل وجود المانع ، فيأتي به بنيّة الأمر المتعلّق بالطبيعة بما هي هي لا بما هي مأمور بها.

٥. ثمّ رتّب على ما ذكر بأنّه لو كان دليلا الحرمة والوجوب من قبيل المتعارضين وقُدّم دليل الحرمة ، فلا يكون مجال للصحة ، لفقدان الملاك حتى في الجهل عن قصور بخلاف ما إذا كانا من باب الاجتماع وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة ، فيمكن الحكم بالصحة في موارد الجهل والنسيان عن قصور لوجود الملاك وحصول الغرض كما في الفروض الثلاثة الأُولى وإمكان إتيانه بالأمر المتعلّق بالطبيعة كما في الفرض الرابع.

هذا إيضاح ما في « الكفاية ».

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ ، أورد على صاحب الكفاية بأنّ الجمع بين القول بالامتناع ، واشتمال الصلاة في الدار المغصوبة على الملاكين ، جمع بين المتضادين.

توضيحه : انّه لا شكّ في وجود التضاد بين ملاكي الغصب والصلاة ، فإن أمكن رفع التضاد بين الملاكين باختلاف الحيثيتين ، أمكن رفعه في الحكمين مع أنّ


القائل بالامتناع لا يلتزم به ، ولو قلنا بأنّ اختلاف الحيثيتين ، لا يرفع تضاد الحكمين لكونهما موجودين بوجود واحد فلا يرفع تضاد الملاكين. (١)

لكن لقائل أن يقول : إنّ اختلاف العنوانين لا يكون مصحِّحاً لتعلّق الوجوب والحرمة بالشيء الواحد وجوداً ، وإن جاز أن يكون مصحِّحاً لاجتماع الملاكين فيه ، وذلك لأنّ العنوانين وإن كانا مختلفين مفهوماً ، لكنّهما متّحدان وجوداً. ولازم اجتماع الحكمين المتضادّين ، طلب إيجاد شيء واحد وتركه ، وهو بمنزلة الأمر بالمحال. وهذا بخلاف الملاكين المختلفين في المصلحة والمفسدة ، فانّهما ليسا قائمين بالمكلّف به حتّى لا يصحّ توصيفه بالصلاح والفساد ، لأنّهما من الأُمور الخارجية الراجعة إلى نفس المكلَّف تارة ، ومجتمعه أُخرى. فالصلاة في الدار المغصوبة ذات صلاح وفلاح وهي التي تدفع الإنسان إلى ذكر ربّه ، الذي هو مفتاح كلّ خير. كما أنّها مبدأ فساد وشرّ ، لاستلزامها التعدّي على حقوق الغير الذي هو قبيح عقلاً ، ومستلزمة لرواج الفوضى في المجتمع واختلال النظام. ولا مانع من اجتماعهما لاختلاف محلّهما. وهو ـ دام ظلّه ـ صرّح بذلك في موضع آخر (٢) ، وبذلك صحّح كون الشيء الواحد مقرّباً ومبعداً ، حسناً وقبيحاً.

إذا عرفت هذه المقدمات يقع الكلام في أدلّة القائل بالامتناع ، وقد هذّبه المحقّق الخراساني في ضمن أُمور :

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٢٨٨.

٢. لاحظ تهذيب الأُصول : ١ / ٣١٦.


دليل القائلين بامتناع اجتماع الأمر والنهي

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها وأوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات أربع ، وإليك الإشارة إلى رؤوسها :

١. الأحكام الخمسة تضاد بعضاً بعض ، والمتضادان لا يجتمعان.

٢. الأحكام تتعلّق بالمصاديق والأفعال الخارجية لا العناوين الكلية.

٣. انّ تعدد العنوان كالغصب والصلاة لا يوجب تعدداً في المعنون.

٤. ليس للوجود الواحد إلا ماهية واحدة.

ثمّ إنّه 1 شرع ببيان هذه المقدّمات الأربع وخرج بالنتيجة التالية ، وهي امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين.

والحجر الأساس لاستنباط الامتناع هو الأوّليان من المقدّمات الأربع دون الثالثة والرابعة ، فانّ الثالثة أي إيجاب تعدّد العنوان تعددَ المعنون ـ على القول به ـ إنّما يختصّ بالعناوين الأصلية كالجنس والفصل دون الاعتبارية كالصلاة والانتزاعية كالغصب ، فانّ الصلاة كما سيوافيك أمر اعتباري يطلق على موجود متشكل من أجناس مختلفة كالكيف في القراءة والوضع في الركوع والسجود ، كما أنّ الغصب عنوان انتزاعي ينتزع من استيلاء الأجنبي على ملك الغير سواء كان بالكون فيه كالسكنى في بيت الغير ، أو بالحيلولة بينه وبين المالك وإن لم يتصرف فيه ، وعلى أيّ حال فالبحث في أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا ، مختص بالأُمور التكوينية ولا يعم الاعتبارية والانتزاعية.


كما أنّ المقدمة الرابعة خارجة عن محط البحث ، لأنّ البحث في أنّ للوجود الواحد ماهية واحدة لا غير يختص بالماهيات المتأصلة ، وأين هذا من الماهيات الاعتبارية والانتزاعية؟

فالمهم في المقام هو المقدّمة الأُولى والثانية ، وإليك تحليلهما.

تحليل المقدّمة الأُولى

قال المحقّق الخراساني في إثبات تلك المقدمة : إنّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان ، والزجر عنه في ذاك الزمان فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال ، بل من جهة انّه بنفسه محال ، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً. (١)

أقول : القول بأنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة ، رهن انطباق تعريف التضاد عليها مع أنّه غير منطبق عليها ، وقد عُرّف الضدّان بأنّهما أمران وجوديان لا يستلزم تعقّل أحدهما تعقّل الآخر يتعاقبان على موضوع واحد داخلان تحت جنس قريب ، بينهما غاية الخلاف.

والتعريف مشتمل على قيود خمسة وكلّ قيد يحترز به عمّا ليس واجداً للقيد.

١. أمران وجوديان ، خرج المتناقضان والعدم والملكة.

٢. لا يستلزم تصوّر أحدهما تصوّر الآخر ، خرج المتضائفان ، كالأُبوة والبنوة.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٤٩.


٣. يتعاقبان على موضوع واحد ، خرج ما يجتمع من الأعراض كالحلاوة والحُمْرة.

٤. داخلان تحت جنس قريب ، خرج المتماثلان لأنّهما داخلان تحت نوع واحد وإن كانا لا يجتمعان.

٥. بينهما غاية الخلاف ، خرج القتمة والحمرة.

إذا وقفت على تعريف التضاد فهلمّ معي ندرس انطباقَ تعريف التضاد على مطلق الأحكام أو خصوص الوجوب والحرمة وعدمه؟

فنقول : المراد من الوجوب والحرمة في اصطلاح الأُصوليّين هو البعث والزجر الإنشائيّان بلفظ : « افعل » أو « لا تفعل » والبعث والزجر من الأُمور الاعتبارية بقرينة إنشائهما باللفظ ، فإنّ الإنشاء يتعلّق بالأمر الاعتباري دون الأمر التكويني ، والإنشاء نوع مضاهاة لعالم التكوين مثلاً انّ الإنسان قبل الحضارة كان يبعث غلامه أو يزجره بيده ولما جلس على منصّة التشريع والتقنين أخذ ينشأ بلفظتي « افعل » و « لا تفعل » ما يضاهي البعث أو الزجر التكوينيين ، فالمنشأ بعث إنشائي قائم مكان البعث باليد ، والأُمور الاعتبارية خارجة موضوعاً عن تعريف التضاد.

فإن قلت : إنّ الوجوب والحرمة وإن كانا أمرين اعتباريين لكن منشأهما هو الإرادة ، ومن المعلوم انّ إرادة البعث تضادّ إرادة الزجر ، فلعلّ إطلاق التضاد على الأحكام باعتبار مباديها وهي الإرادة.

قلت : إنّ الإرادتين وإن كانتا غير مجتمعتين لكن عدم الاجتماع ليس لأجل التضاد لما قلنا من أنّ الضدّين عبارة عن الأمرين اللذين يكونان من نوعين داخلين تحت جنس قريب كالسواد والبياض ، إذ هما داخلان تحت الكيف المبصر


ولكن الإرادتين في الأمر والنهي ليستا من نوعين ، بل من نوع واحد ، غاية الأمر يختلفان باعتبار المراد.

فإن قلت : إنّ القول باجتماع الأمر والنهي يستلزم ما لا يمكن اجتماعهما ، سواء أكانا من الأُمور المتضادة أم من غيرها ، وذلك في مواضع ثلاثة :

١. في مقام الجعل حيث لا يمكن البعث إلى شيء في وقت ، والزجر عنه في نفس الوقت.

٢. في المبادئ حيث إنّ الأمر كاشف عن المحبوبية والمصلحة ، والنهي كاشف عن خلافها.

٣. في مقام الامتثال حيث إنّ بينهما مطاردة من حيث الامتثال والإطاعة ، فامتثال الأمر يكون بالإتيان بالمتعلق ، وامتثال النهي بتركه وليس بإمكان المكلّف الجمع بين الفعل والترك.

قلت : إنّ البحث منصبّ على مسألة وجود التضاد بين الأحكام وعدمه وأمّا البحث عن إمكان اجتماع البعث والنهي وعدم إمكانهما ، أو عن اختلاف المبادي وعدم إمكان اجتماعها ، أو المطاردة في مقام الامتثال فموكول إلى المستقبل وسيوافيك دفع هذه المحاذير.

تحليل المقدّمة الثانية

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه وهو واضح ، ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه ، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها والإشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها ، لا بما هو هو وبنفسه وعلى


استقلاله وحياله. (١)

ثمّ استنتج ممّا ذكره ما هذا لفظه : انّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً كان تعلّق الأمر والنهي به محالاً ، ولو كان تعلّقهما به بعنوانين وذلك لما عرفت من كون فعل المكلّف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنـه ، متعلّقاً للأحكـام ، لا بعناوينه الطارئة عليه. (٢)

أقول : إنّ في متعلّق الأحكام احتمالات نذكرها تباعاً :

١. الأحكام متعلّقة بالمفاهيم الذهنية المقيدة بكونها في الذهن.

٢. الأحكام متعلّقة بالأفعال الخارجية والموجودات العينية ، وهذا ما يعبَّر عنه بالوجود بمعنى اسم المصدر.

٣. الأحكام متعلّقة بإيجاد الطبائع في الخارج ، والذي يقال له الوجود بالمعنى المصدري.

٤. الأحكام متعلّقة بالطبائع المعراة من كلّ عارض ولاحق ، المنسلخة عن كلّ شيء لكن لغاية الإيجاد ، فالإيجاد غاية للبعث وليس متعلّقاً له.

٥. الأحكام متعلّقة بالعناوين بما هي مرآة للخارج وطريق إليه ، وليس مراد القائل بتعلق الأحكام بالخارج ، بتعلّقها به من دون توسيط عنوان مشير إليه.

هذه هي مجموع الاحتمالات التي تتصوّر في المقام.

أمّا الأوّل فهو غير صحيح بالمرة ، لأنّ المفاهيم بقيد كونها في الذهن غير قابلة للامتثال أوّلاً ، ولا تغني ولا تسمن من جوع ثانياً.

وأمّا الثاني فهو الذي بنى عليه المحقّق الخراساني نظرية الامتناع ، فهو أيضاً

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٤٩.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.


غير تام ، وذلك لأنّه إن أُريد من تعلّق الحكم بالخارج ، الفرد الخارجي من الصلاة بعد وجودها فهو طلب للحاصل ، وإن أُريد الفرد الخارجي قبل وجودها فليس له أيّة واقعية حتّى يتعلّق به الطلب ، وماله الواقعية هي العناوين الكلية التي لا يرضى القائل في المقام بتعلّق الأحكام بها.

وأمّا الثالث فهو الذي أوعز إليه المحقّق الخراساني عند البحث عن متعلّقات الأوامر في خاتمة كلامه.

فيرد عليه أمران :

أ. انّ دلالته على إيجاد الطبيعة فرع وجود دال عليه ، والدال منحصر في الهيئة والمادة ، والأولى وضعت للبعث نحو الطبيعة ، والثانية وضعت لنفس الطبيعة فأين الدال على إيجاد الطبيعة.

ب. لو افترضنا صحّة النظرية لكانت النتيجة هي جواز اجتماع الأمر والنهي ، لأنّ القول بتعلّق الأحكام بإيجاد الطبيعة عبارة أُخرى عن تعلّقها بالعناوين الكلية من دون فرق بين أن يكون العنوان هو الصلاة أو الغصب أو يكون العنوان إيجاد الصلاة وإيجاد الغصب فيكون متعلّق كلّ غير الآخر.

وأمّا الرابع فهو الحقّ الذي لا غبار عليه ، فانّ القوة المقننة تنظر إلى واقع الحياة عن طريق العناوين والمفاهيم الكلية وتبعث إليها لغاية الإيجاد أو الترك فيكون متعلّق كلّ من الأمر والنهي مفهوماً فاقداً لكلّ شيء إلا نفسه ، فعندئذ ترتفع المطاردة في مقام التشريع ، لأنّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي.

كما ترتفع المطاردة في مقام الامتثال ، لأنّه بوجوده الواحد مصداق للامتثال والعصيان لكن كلاً بحيثية خاصة.

وأمّا الخامس فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع ، فإن أُريد من المرآتية ، المرآتية


بالفعل ، فالمفاهيم الذهنية لا تكون مرآة للخارج بالفعل لعدم وجود المرئي ؛ وإن أُريد المرآتية الشأنية ، فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع ، وهو انّ المأمور به هو الطبيعة المنسلخة عن كلّ تعين وعارض سوى نفسها لكن الأمر بها لغاية الإيجاد أو لغاية الترك.

إلى هنا تمّ تحليل ما أرساه المحقّق الخراساني من الاستدلال على الامتناع ، وقد عرفت عدم تماميته ، فحان البحث في بيان أدلّة القائلين بالجواز.


أدلة القائلين بجواز الاجتماع

استدلّ القائل بالجواز بوجوه سبعة نذكرها واحداً تلو الآخر ، ولكن قبل الخوض في بيان هذه الوجوه نلفت نظر القارئ إلى نكتة ، وهي :

إنّ القائلين بالجواز على طائفتين :

فمنهم من يقول بأنّ الأحكام تتعلّق بالمصاديق الخارجية والأُمور العينية ، وعلى الرغم من ذلك فهو يقول بجواز الاجتماع لأجل انّ التركيب بين الصلاة والغصب انضمامي لا اتحادي وهذا يقرب ممّا ذكره الآخرون من أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون فالقول بالجواز لأجل انّ متعلق الأمر غير متعلق النهي في الخارج.

وهذا كالمحقق النائيني الذي تطرق إلى تثبيت الجواز عن طريق انّ التركيب بين المادة والصورة انضمامي لا اتحادي ، فخرج بالنتيجة التالية : انّ تركيب الغصب والصلاة تركيب انضمامي فالحيثية الصلائية غير الحيثية الغصبية.

ومنهم من يقول بأنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع بما هي هي ، وعندئذ يسهل له القول بالجواز ، لأنّ متعلّق الأمر في عالم الجعل والإنشاء غير متعلّق النهي ، وقد ذهب إلى هذا القول السيد المحقّق البروجردي والسيد الأُستاذ ( قدس سرهما ).

فعلى القارئ الكريم الالتفات إلى هذه النكتة في دراسة أدلّة القائلين بالجواز.

إذا عرفت ذلك فلنذكر تلك الوجوه :


الأول : دليل قدماء الأُصوليّين

إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص ، فخاطه العبد في ذلك المكان عدّ مطيعاً لأمر الخياطة ، ولذا لا يأمره بتجديد الخياطة ، وعدّ عاصياً للكون في ذاك المكان الخاص.

يلاحظ عليه : أنّ المثال خارج عن محط البحث فلأنّ الخياطة لا تختلط بالغصب ، لأنّ الأولى عبارة عن إدخال الإبرة في الثوب ، كما أنّ الثاني عبارة عن الكون في المكان الخاص فلا يعد إدخال الإبرة في الثوب غصباً ، إذ ليس فيه تصرف في المغصوب ، وليس التصرّف في الهواء تصرّفاً في المغصوب ، لأنّه ليس ملكاً لصاحب المكان.

الثاني : دليل المحقّق القمّي

استدل المحقّق القمي بوجه مفصل نذكره ضمن مقاطع.

قال : إنّ متعلّق الأمر طبيعة الصلاة ، ومتعلّق النهي طبيعة الغصب ، وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شيء واحد ولا يرد في ذلك قبح على الآمر ، لتغاير متعلق المتضادين فلا يلزم التكليف بالمتضادين.

فإن قلت : الكلي لا وجود له إلا بالأفراد ، فالمراد بالتكليف بالكلي هو إيجاد الفرد وإن كان على الظاهر متعلّقاً بالكلّي.

قلت : إنّ الفرد مقدّمة لتحقّق الكلّي في الخارج ، فلا غائلة في التكليف به مع التمكّن من سائر المقدمات.

فإن قلت : إنّ الأمر بالمقدّمة اللازم من الأمر بالكلّي يكفينا ، فإنّ الأمر بالصلاة أمر بالكون الكلي ، والأمر به أمر بالكون الخاص مقدّمة ، فهذا الكون


بعينه منهي عنه أيضاً بالنهي المقدّمي.

قلت : نمنع وجوب مقدّمة الواجب ، وعلى فرض الوجوب ، فالواجب هو فرد ما من الكون ، لا الكون الخاص الجزئي ، وإنّما اختار المكلّف مطلقاً الكون في ضمن هذا الفرد المحرّم.

نعم لو كانت المقدّمة منحصرة في الحرام ، كما إذا لم يتمكن إلا من الصلاة في الدار المغصوبة ، فنحن نقول بامتناع الاجتماع ، فلابدّ إمّا من الوجوب أو الحرمة. (١)

هذا ملّخص كلامه ، وحاصله :

١. لا مانع من اجتماع الحكمين لاختلاف المتعلّقين ، واجتماع الحكمين المتضادين في الفرد لا يضر ، لأنّ الفرد مقدمة لهما.

٢. لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب وحرمة مقدّمة الحرام ، فالكون حرام لا انّه واجب لاختصاص الوجوب بالمباح ، ويسقط وجوب المقدّمة بالمحرّم ، لكون وجوبها توصلياً.

٣. لو فرض انحصار المقدّمة بالحرام ، فلابدّ من القول بامتناع الاجتماع ، فلابدّ من تقديم الوجوب أو التحريم.

وربما ينسب إليه التفصيل بين كون الانحصار بسوء الاختيار وعدمه ، وانّه لا مانع من فعلية وجوب ذيها لكونه بسوء الاختيار ، دون ما لم يكن كذلك ولكنّه ليس في كلامه إشارة إليه ، ولعلّه ذكره في غير هذا المقام ، كما قال المحقّق المشكيني في تعليقته على الكفاية ، وستوافيك النسبة في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة

__________________

١. القوانين : ١ / ١٤١ ـ ١٤٢.


فانتظر.

يلاحظ عليه أوّلاً : بما في الكفاية من أنّ الفرد الخارجي نفس الطبيعي في عالم العين وإن كان غيره في عالم التصوّر ، ومع العينية كيف تتصوّر المقدّمية المستلزمة للاثنينية. وهي منتفية قطعاً.

وثانياً : انّ ما نسب إليه من فعلية وجوب ذيها مع تسليم حرمة المقدّمة غير تام ، لأنّه يستلزم التكليف بالمحال وهو غير جائز ، سواء أكان بسوء الاختيار أو لا.

وأمّا القاعدة المعروفة من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فليس بمعنى صحّة الخطاب بل بمعنى وجود الملاك.

وبعبارة أُخرى : لا ينافي ملاكاً وعقاباً لا خطاباً وحكماً ، فلو ألقى نفسه من شاهق فحال السقوط حرام ملاكاً لا خطاباً لامتناع الامتثال عندئذ.

الثالث : دليل المحقّق النائيني

إنّ المحقّق النائيني من القائلين بالجواز مع القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية ، غير أنّه يسعى ليثبت انّ متعلّق الأمر في الخارج غير متعلّق الأمر فيه ، ودليله مبني على مسألة فلسفية حول تركيب المادة والصورة ، فالحكماء على طائفتين ، فمنهم من يقول بأنّ التركيب اتحادي وليست هنا كثرة.

مثلاً الحيوان إذا وقع في مدارج الكمال يصير نفس الإنسان لا شيئاً منضماً إلى النفس الناطقة ونظيره : تركب الجسم من حيوان وصورة ، فانّ الهيولى في الماء نفس الصورة المائية كما أنّ الهيولى في النار نفس الصورة الخارجية.

ومنهم من يذهب إلى أنّ التركيب انضمامي وإنّ هنا كثرة باسم المادة والصورة كالحيوان بالنسبة إلى الناطق ، أو باسم الهيولى والصورة كما في الماء والنار


على القول بتركب الكل من الهيولى والصورة. وإلى كلا القولين يشير المحقّق السبزواري بقوله :

ان بقول السيد السناد

تركيب عينية اتحاد

لكن قـول الحكماء العظام

من قبله التركيب الانضمام

ثمّ إنّ المحقّق النائيني 1 برهن على مختاره ببيان مفصل نأتي بموجزه تحت أرقام رياضية حتى يسهل فهم مرامه.

١. انّ الصلاة الموجودة في المجمع لا تنقص عن حقيقة الصلاة بشيء ، إذا أتى بها في مكان مباح كما أنّ الغصب الموجود في المجمع لا تنقص من حقيقة الغصب بشيء كما إذا كان الغصب مجرداً عن الصلاة.

٢. انّ الصلاة من مقولة الوضع وعُرّف الوضع بأنّه نسبة حاصلة للشيء من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض والمجموع إلى الخارج ( أي الخارج عن ذلك الشيء ) كالقيام والقعود ، والاستلقاء والانبطاح وغيرها ، فالقيام مثلاً عبارة عن الهيئة الحاصلة من نسبة بعض أعضاء البدن إلى بعض كالرأس إلى أعلى والأقدام إلى أسفل ، والمجموع إلى الخارج ككونه مستقبلاً للقبلة ومستدبراً الجدي.

فعلى هذا فالصلاة مؤلفة من قيام وركوع وسجود ، وجلوس في التشهد كلّها حتّى مقولة الوضع ، وأمّا الهويّ إلى الركوع والسجود فإن قلنا بخروجها عن ماهية الصلاة فهو ، وإلا فما هو جزء للصلاة عبارة عن الأوضاع المتلاحقة والمتلاصقة ، فانّ الهويّ لاينفك عن الأوضاع المتبادلة ، فإذا شرع في الانحناء للركوع أو السجود إلى الأرض يتبدّل الوضع السابق إلى وضع لاحق ويستمر التبدّل إلى أن يصل إلى حدّ الركوع أو السجود.

كما أنّ الغصب من مقولة الأين ، وعرف الأين بأنّه هيئة حاصلة من كون


الشيء في المكان وليس مجرد نسبة الشيء إلى المكان ، بل الهيئة الحاصلة من كون المكين فيه ، فالصلاة في الدار المغصوبة لا تنفك عن كون الإنسان فيها ، فتحصل هيئة خاصة باسم الغصب.

إلى هنا تبيّن انّ الصلاة لا تجتمع مع الغصب في حال من الأحوال ، لأنّ الأولى من مقولة الوضع والثاني من مقولة الأين ، والوضع والأين من الأجناس العالية التي لا جنس فوقها وهي متباينات بالذات غير مجتمعات كذلك.

٣. هذا هو لبّ البرهان غير أنّ المستدل التفت إلى وجود الإشكال في الحركة في حال الهوي إلى الركوع والسجود ، فإنّ الحركة يجتمع فيها عنوان الغصب والصلاة مع كونها أمراً واحداً ، فهذا هو الأمر الثالث الذي حاول أن يثبت فيه انّ هنا حركتين ، لأنّ وحدة الحركة في المقام يتصور على وجهين وكلاهما باطلان.

أ. أن تكون الحركة جنساً وعنوانا الصلاة والغصب فصلاً.

ب. أن تكون الحركة عرضاً والصلاة والغصب عارضين لها.

أمّا الأوّل فغير صحيح بالمرة لاستلزامه أن يكون الشيء الواحد يقع تحت فصلين.

وأمّا الثاني فيستلزم قيام العرض بالعرض كما يستلزم تركب الأعراض مع انّها بسائط ، فلا محيص إلا عن الالتزام بأمر آخر وهو تعدّد الحركة الذي بيّنه في المقطع الرابع بقوله :

٤. قد حقّق في محله انّ الحركة لا تدخل تحت مقولة ، والمقولات وإن كانت عشرة ولكن الحركة لا تدخل تحت واحدة من هذه المقولات ، وهذا لا يعني انّ الحركة مقولة وراء المقولات العشرة تضاف إليها حتّى ينتهي عدد المقولات إلى إحدى عشرة مقولة بل الحركة في كل مقولة نفسها ، مثلاً :


إنّ التفاحة على الشجرة يطرأ عليها حالات مختلفة ، فتنقلب من البياض إلى الصفرة والحمرة ، ومن صغر الحجم إلى كبره.

فهناك حركتان حركة في الكيف وحركة في الكم والحركة في كلّ مقولة نفس تلك المقولة لا شيئاً وراء ذلك.

وعلى ضوء ذلك فالحركة في الدار المغصوبة ينطبق عليها الوضع والأين ، فهي مع الوضع وضع ومع الأين أين ، وبما انّهما من الأجناس المتباينة لا محيص إلا أن يقال انّ الصلاة مغايرة بالحقيقة والهوية للغصب ، وبالتالي الحركة الصلائية مغايرة للحركة الغصبية ، بعين مغايرة الصلاة والغصب ، ويكون في المجمع حركتان : حركة صلائيّة ، وحركة غصبيّة ، وليس المراد من الحركة رفع اليد ووضع اليد وحركة الرأس والرّجل ووضعهما ، فإنّ ذلك لا دخل له في المقام حتّى يبحث عن أنّها واحدة أو متعددة ، بل المراد من الحركة : الحركة الصلائيّة ، والحركة الغصبيّة ، وهما متعددتان لا محالة.

وإلى الأمر الثالث والرابع يشير المحقّق الخوئي في تقريراته عن أُستاذه ، فيقول :

فإن قلت : أليست الحركة الواحدة الخارجية يصدق عليها انّها صلاة كما يصدق عليها انّها غصب وعليه ، فلا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً ويكون كلّ منهما بالإضافة إلى الآخر لا بشرط.

قلت : ليس الأمر كذلك فانّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة أُخرى منضمة إليها ، أعني بها مقولة الأين ، ومن الواضح انّ المقولات كلّها متباينة يمتنع اتحاد اثنتين منها في الوجود وكون التركيب بينهما اتحادياً وما ذكر من صدقها على حركة شخصية واحدة يستلزم تفصّل الجنس الواحد ، أعني به :


الحركة بفصلين في عرض واحد وهو غير معقول.

هذه عصارة البرهان التي استللناها من كلا التقريرين : ( « فوائد الأُصول » للكاظمي و « أجود التقريرات » للخوئي ).

يلاحظ على الاستدلال بأُمور :

الأوّل : فلأنّ التأكيد على أنّ تركيب العنوانين تركيب انضمامي لا اتحادي يعرب عن اتّفاقه مع المحقّق الخراساني على أنّ الأحكام تتعلّق بالأفعال الخارجية ، ولما كانت نتيجة ذلك هو الامتناع لا جواز الاجتماع فانبرى إلى تصحيح الاجتماع بأن تركيب المقولتين انضمامي وكلّ مقولة بمعزل عن المقولة الأُخرى ، فتكون إحداهما متعلّقة بالأمر والأُخرى متعلّقة بالنهي.

ولكنّك عرفت أنّ الأحكام لا تتعلّق بالأفعال الخارجية لأنّها بعد الوجود ظرف السقوط ، وقبل الوجود ليس لها تحقّق في الخارج حتّى يتعلّق بها الحكم.

الثاني : انّ حديث التركيب الانضمامي والاتحادي من خصائص الوجودات الخارجية كالمادة والصورة أو الهيولى والصورة ، فمن قائل بأنّ المادة في مدارج حركتها تصير نفس الصورة من دون أن يكون بينهما اثنينية ، والتركيب بينهما اتحادي إلى آخر بأنّ المادة في مدارج حركتها تتشخص بالصورة وبينهما اثنينية والتركيب بينهما انضمامي.

وعلى كلّ حال فهذا البحث الفلسفي مختص بالموجودات الخارجية دون العناوين الاعتبارية كالصلاة أو الانتزاعية كالغصب.

أمّا الصلاة فهي عنوان اعتباري يعبر بها عن عدة مقولات متنوعة ومجتمعة فالصلاة تشتمل على الأذكار ، وهي بما انّها مشتملة على الجهر والإخفات من مقولة الكيف ، وعلى القيام والركوع والسجود فهي من مقولة الوضع ، وعلى الهوي فإن


قلنا بأنّ الواجب هي الهيئة الركوعية والسجودية وانّ الهوي مقدمة فهي من مقولة الوضع ، وإن قلنا : إنّ الواجب هو الفعل الصادر من المكلّف ، فيكون الهُويّ حركة في الوضع إلى أن تنتهي بترك الأوضاع المتلاحقة إلى حدّ الركوع والسجود.

وعلى ضوء ذلك تكون الصلاة أمراً اعتبارياً باعتبار إطلاقها على ما يشتمل على أزيد من مقولة وأمّا الغصب فهو أمر انتزاعي بشهادة انّه ينتزع من أمرين مختلفين في الماهية.

١. قد ينتزع من التصرف في مال الغير ، كلبس ثوب الغير.

٢. قد ينتزع من الاستيلاء على مال الغير بلا تصرف فيه ، كما إذا منع المالك من التصرف في ماله فيكون الغصب عنواناً انتزاعياً ، تارة ينتزع من التصرف في مال الغير ، وأُخرى من الاستيلاء على مال الغير وإن لم يتصرف فيه ، فمثل ذلك لا يكون داخلاً تحت مقولة وإنّما يكون أمراً انتزاعياً ، فحديث التركيب الاتحادي والانضمامي في المقام أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، وعلى ذلك فالغصب ليس من الماهيات المتأصلة ليستحيل اتحاده مع الصلاة خارجاً وانّه من المفاهيم الانتزاعية القابلة للانطباق على ماهيات متعددة ، وعليه فلا مانع من انطباقه على الصلاة.

الثالث : انّ القول بتعدّد الحركة وانّ الحركة الصلائية غير الحركة الغصبية يخالف الحس والوجدان ، إذ لا يصدر عن المصلي إلا حركة واحدة وعلى فرض صدور حركتين فالحركة الثانية أيضاً بما انّها تصرف في مال الغير توصف بالغصب أيضاً.

على أنّ استنتاج الحكم الشرعي من هذه المقدّمات الفلسفية المبتنية على مقدّمات غير واضحة لا يمكن الاعتماد عليه.


الوجه الرابع

ما ذكره بعضهم من أنّ الاجتماع لو كان آمرياً ومن قبل المولى ، لكان ذلك مستحيلاً ، لكنّه ليس في المقام كذلك بداهة أنّه مأموري ومن قبل نفس المكلّف بسوء اختياره ، فلا يكون هناك مانع عن الاجتماع.

يلاحظ عليه بوجهين :

١. انّ القائل بالامتناع يقول بأنّ الحكم بصحّة الاجتماع يؤول إلى الاجتماع الآمري ، لأنّ المفروض أنّ كلا من الخطابين ـ لإطلاق متعلّقه ـ يعمّ ما لو وجد كل في ضمن الآخر فيعود المحذور ، إذ لو كان لمقولة : « صلّ » إطلاق ، يعمّ ما إذا كانت متحدة مع الغصب ، للزم أن يكون المجمع واجباً وحراماً وهذا لا يمكن الالتزام به.

٢. لو افترضنا انّ الاجتماع مأموريّ ، فالإشكال غير مندفع أيضاً ، لأنّ التكليف بالمحال أمر قبيح من غير فرق بين سوء الاختيار وعدمه ، هذا وسيوافيك في الوجه الخامس دفع الإشكالين فانتظر.

الوجه الخامس للمحقّق البروجردي

وهذا الوجه ذكره المحقّق البروجردي 1 وأوضحه السيّد الإمام الخميني 1 وشيّد أركانه ، ودفع المحاذير المتوهمة شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ ، وحاصل الوجه هو :

إنّ الأحكام لا تتعلّق إلا بالطبائع دون المصاديق الخارجية ، وعندئذ لا مانع من تعلّق الأمر بحيثيته ، والنهي بحيثية أُخرى وعندما تصادفت الحيثيتان على شيء واحد ، لا مانع من أن يكون ذاك الشيء مصداقاً للمأمور به بحيثيته


ومصداقاً للمنهي عنه بحيثية أُخرى ، فالتضاد بين الأحكام على فرض صحته ، يرتفع باختلاف المتعلّقات ، وهذا هو حاصل النظرية وإجمالها ، وأمّا التفصيل فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه.

الثاني : دفع المحاذير المتوهمة على القول بالاجتماع في المراحل الثلاث : مرحلة التشريع ، مرحلة المبادئ ، مرحلة الامتثال ، وإليك الكلام في الأوّل.

المقام الأوّل : في إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه

إنّ النظرية تبتني على مقدّمات :

الأُولى : انّ أساس التشريع هو تعلّقه بالعناوين والطبائع دون المصاديق ، فالمشرِّع ينظر إلى واقع الحياة عن طريق متعلّقات الأحكام التي ليست إلا عنواناً كلياً ، قابلاً للانطباق على مصاديق كثيرة ، فيأمر بها ، لغاية الإيجاد ، كما يزجر عنها لغاية الانتهاء والترك ، وبما انّ هذه المقدّمة قد سبق ذكرها فلا نطيل الكلام فيها.

الثانية : إنّ الإرادة لا تتعلّق إلا بما هو دخيل في الغرض ، ثبوتاً وتتبعها دلالة الأمر إثباتاً.

أمّا الثبوت ، فلأنّ تعلّق الإرادة بما لا مدخلية له في غرضه ، أمر جزاف لا يحوم حوله الحكيم ، فلو كان لما هو الدخيل في الغرض ، لوازم وجودية ، أو أُمور مقارنة معه أحياناً فلا تتعلق بهما الإرادة ، وعلى ضوء ذلك ، فالأمر يتعلّق بالحيثية الصلائيّة دون الغصبية وإن قارنت معها أحياناً ، إذ لا مدخلية للثانية في حصول غرض المولى ، كما أنّه لو كان المحصِّل لغرضه شيء له أجزاء أربعة ، فلا تتعلق إرادته إلا بذات الأربعة بما هي هي وإن كانت تلازم الزوجية فاللوازم والمقارنات


خارجتان عن مصب الإرادة في الإرادة الفاعلية التكوينية ، ومثلها الإرادة الأمرية التشريعية حرفاً بحرف.

وأمّا الإثبات فلأنّ المفروض انّ المادة موضوعة لنفس الطبيعة بما هي هي ، فلا تدل إلا عليها ، وأمّا اللوازم والمقارنات ، فخارجتان عن حريم دلالة المادة اللفظية وإن كانت ربما تدلّ عليها بالدلالة الالتزامية التي هي دلالة عقلية فلا يتعلق بهما الأمر اللّهمّ إلا بدال آخر والمفروض عدمه ، ولذلك قلنا في محله انّ العام لا يكون مرآة للخاص ، لأنّه موضوع للجامع بين الأفراد ، لا له مع الخصوصيات ، ولذلك اخترنا عدم صحة الوضع العام والموضوع الخاص ، إلا على وجه ـ قد أوضحناه في محله ـ.

الثالثة : انّ الإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود ، وبعبارة أُخرى الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب ، تمام الموضوع للحكم لا بعضه وجزئه ، فيكون الحكم ، حاضراً بحضور موضوعه ، وهذا ما نسمّيه بالإطلاق الذاتي.

وأمّا الإطلاق اللحاظي ، أعني : تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع ، بلحاظ الحالات واحدة بعد الأُخرى حين الأمر حتّى يكون معنى قوله : « إن ظاهرت أعتق رقبة » هو عتقها سواء أكانت مؤمنة أم كافرة ، عادلة أو فاسقة ، عالمة أو جاهلة ، فممّا لا أساس له ، لما عرفت أنّ الإطلاق هو تسريح الموضوع عن القيد ، لا أخذه مع جميع القيود وبعبارة أُخرى هو : رفض القيود وتركها وعدم العناية بها ، لا جمعها وذكرها في الموضوع ولو بصورة القضية المنفصلة ، لعدم مدخلية القيود في الحكم حتّى تلاحظ وتؤخذ في الموضوع وعلى ضوء ذلك ، فمعنى الأمر بالصلاة على وجه الإطلاق هو كون الحيثية الصلائية تمام الموضوع للحكم ، وليس معناه هو


الأمر بها سواء أكانت مع الغصب أو لا ، بحيث يعد الغصب ، مأخوذاً في موضوع الأمر ولو على نحو القضية المنفصلة.

إذا عرفت هذه المقدمات : ظهر لك جواز الاجتماع ، لأنّ تمام المتعلّق للأمر ، هو الصلاة ، وتمامه للنهي هو الغصب ، وهما مختلفان مفهوماً وماهية ، وليس معنى الأمر بها هو الأمر باللوازم الوجودية أو الأُمور المقارنة لعدم مدخليتهما في الغرض المطلوب ، بالإرادة ثبوتاً ، وبالأمر إثباتاً ، فمعنى كون الصلاة مطلوبة مطلقاً ، ليس كونها مطلوبة مع الغصب ، حتّى يكون الثاني ، جزء المتعلّق ، بل المراد عدم أخذ أية خصوصية في المتعلّق ، وتصادقهما على مورد واحد لا يضر ، إذ لا إشكال في إمكان الشيء الواحد مصداقاً لعنوانين لكن بحيثيتين مختلفتين.

نعم غاية ما يمكن أن يقال : انّه يمتنع أن يكون اللازم محكوماً بحكم مضاد مع حكم الملزوم ، فإذا وجب إيجاد الأربعة ، لا يجوز تحريم إيجاد الزوجية ، وأمّا المقارن المنفك عنه أحياناً ، فلا يمتنع أن يكون محكوماً بحكم مضاد ، إذ في وسع المكلّف التفكيك بينهما كما هو الحال في المقام حيث إنّ الصلاة واجبة والغصب المقارن معها أحياناً حرام.

هذا هو حاصل النظرية بقي الكلام في المقام الثاني ، وهو دفع المحاذير في المراحل الثلاث على القول بجواز الاجتماع ، وإليك البيان :

المقام الثاني : دفع المحاذير

إنّ المحاذير المقصودة في المقام تدور على محاور ثلاثة :

١. في الجعل والتشريع.

٢. في مبادئ الأحكام ومقدّماتها.


٣. في مقام الامتثال والطاعة.

فلندرس الجميع واحداً تلو الآخر.

١. عدم المحذور في مقام الجعل

أمّا عدم المحذور في مقام الجعل والتشريع فلعدم التكاذب بين الحكمين ، إذ لا مزاحمة بين إيجاب الصلاة وتحريم الغصب لاختلاف المتعلّقين بالذات ، وتصادقهما في مورد ، لا يضرّ بصحّة التشريع وحفظ الإطلاقين في مورده ، لأنّ الواجب هو الحيثية الصلائية ، والمحرم هو الحيثية الغصبية ، ولا مانع من أن يكون شيء واحد مصداقاً للواجب والحرام بحيثيتين مختلفتين وبما انّا بسطنا الكلام فيه فلا نطيل.

٢. عدم المحذور في مبادئ الأحكام

إنّ الحبّ والبغض من مبادئ الأحكام فيأمر بإتيان المحبوب وينهى عن ممارسة المبغوض ، كما أنّ المصلحة والمفسدة من مباديها ، فيطلب ذات المصلحة ، وينهى عن ذات المفسدة ولو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو بعنوانين ، ربّما يتوهم أنّه يلزم أن يكون الشيء محبوباً ومبغوضاً ، وذات مصلحة ومفسدة ، وهي عين القول باجتماع الضدين.

يلاحظ عليه : بأنّ الإشكال مبني على كون الحبّ والبغض أو المصلحة والمفسدة من الكيفيات الجسمانية القائمة بالشيء الخارجي كالسواد والبياض ، فيمتنع وصف الشيء بهما ولو بعنوانين ، لكن الأمر ليس كذلك.

أمّا الحبّ والبغض ، ويقرب منهما الإرادة والكراهة فالجميع من الكيفيات


النفسانية ذات الإضافة ، فلها إضافة إلى النفس لقيامها بها ، وإضافة بالذات إلى الصورة العلمية من المحبوب والمبغوض ، والمراد والمكروه ، وإضافة بالعرض إلى مصاديقها وأعيانها الخارجية ، وعلى ضوء ذلك فلا مانع من اجتماع الجميع في شيء واحد ، لأنّه إذا اجتمعت حيثيتان في شيء واحد ، تشتاق النفس إليه لحيثية وتزجر عنه لأجل حيثية أُخرى ، فتكريم اليتيم في الدار المغصوبة محبوب من جهة ، إذ فيه ترويح لحال اليتيم ؛ ومبغوض لكونه تصرفاً في مال الغير ، ونقضاً للقانون ، ويقرب منهما ، كون الشيء الواحد مراداً ومكروهاً لجهتين.

وأمّا المصلحة والمفسدة فليستا من الأُمور القائمة بذات الشيء ، بل المصالح والمفاسد الفردية ، يرجع إلى حياة الشخص الفردية ، فلا غرو في أن يكون الشيء في حياة الإنسان ذا مصلحة باعتبار ، وذا مفسدة باعتبار آخر ، إذ ربما يكون الدواء الخاص مفيداً ومضرّاً باعتبارين ، ومنه يظهر حال المصالح والمفاسد الاجتماعية ، والإشكال نابع من تنزيل المصلحة والمفسدة ، منزلة الكيفيات الجسمانية القائمة بذات الشيء ، وقد عرفت أنّهما من الأُمور الإضافية والنسبية ولا مانع من كون الشيء ذا مصلحة ومفسدة باعتبارات مختلفة.

٣. عدم المحذور في مقام الامتثال

هذه المرحلة من المراحل الثلاث ، هي بيت القصيد للامتناعي ، وهو يعتمد في إبطال الاجتماع على هذا المحذور ، أكثر من المحاذير الأُخر ، وحاصله انّه لو قلنا بجواز الاجتماع يلزم أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه ومنهياً عنه ، أمّا على القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية فواضح ، إذ يلزم من تصحيح الاجتماع أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه ومنهياً عنه ، وكون متعلّق الأمر غير متعلّق


النهي لا ينفع في المقام بعد تحقّق العنوانين في شيء واحد ، فعندئذ تكون نتيجة تجويز الاجتماع هو التكليف بالمحال ، حيث يكلف بالإتيان والترك في آن واحد وإن كان لأجل عنوانين ، لأنّ تعدّد العنوان ، لا يجعل الشيء الواحد ، شيئين.

وأمّا على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، فكذلك لأنّ المولى وإن لم يلاحظ عند الأمر بالصلاة ، اقترانها مع الغصب الذي أسميناه بالإطلاق اللحاظي ، لكن حضور الحكم عند حضور الموضوع في كلّ الأمكنة والأزمنة أمر لا يُنكر ، وهذا هو المسمّى بالإطلاق الذاتي للدليل ، فعندئذ يسأل القائل بالاجتماع ، إذا حاول المكلف إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة فهل الحضور يختص بأحد الحكمين وهو نفس القول بالامتناع ، أو يعمّ الحضور لكلا الحكمين؟ ونتيجة حضور الحكمين وحفظ الإطلاقين في المورد هو اجتماع البعث والزجر بالنسبة إلى شيء واحد ، وليس هذا إلا التكليف بالمحال فالمكلّف بحكم إطلاق الأمر بالصلاة مبعوث إلى الفعل ، وبحكم إطلاق النهي عن الغصب مزجور عنه ، فهل هذا إلا الأمر بالمحال.

قلت : هذا الإشكال كما قلنا هو بيت القصيد في المقام ، فلو أتيح للاجتماعي حلُّه فقد حاز القِدْح المُعلّى فنقول :

لو كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به من قبيل اللوازم غير المنفكة كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، كان لما توهّم وجه ـ حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ـ إذ لا يعقل أن يكون اللازم محكوماً بحكم يضاد حكم الملزوم بأن يجب إيجاد الأربعة ويحرم إيجاد الزوجية ، وأمّا إذا كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به قبيل المقارن الذي في وسع المكلّف تفكيكه من المأمور به فلا يلزم من إيجاب الشيء ، وتحريم المقارن ، التكليف بالمحال ، لأنّ الحركة في الدار المغصوبة وإن


كانت واجبة من حيث كونها مصداقاً للصلاة ، ومحرمة من حيث كونها مصداقاً للغصب والمولى في وقت واحد ـ بحكم حفظ كلا الإطلاقين ـ يأمر بها وينهى عنها ، إلا أنّ إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة ليس واجباً تعيينياً ، بل هي إحدى المصاديق الواجبة التي يتخيّر المكلّف بينها عقلاً ولما كان هذا المصداق مقروناً بالمحذور ، فعلى المكلّف العدول إلى الفرد الخالي عنه ، وبهذا ينحل إشكال التكليف بالمحال ، من دون حاجة إلى تقييد أحد الإطلاقين بالآخر.

والحاصل : انّ المولى لو أمر بالصلاة في الدار المغصوبة على وجه التعيين يكون التأكيد على حفظ الإطلاقين موجباً للتكليف بالمحال ، ولكنّه لمّا أمر بها على النحو الكلي مخيّراً المكلّفة بين مصاديقه ، وكانت المصاديق بين مجرّد عن المحذور ، ومقرون به ، فعلى العبد ، أن يختار الأوّل دون الثاني.

١. فإن قلت : ما فائدة حفظ الإطلاقين في صورة التقارن بالمانع؟

قلت : أقل ما يترتّب عليه انّه لو صلّى فيها ، كان مطيعاً من جهة وعاصياً من جهة أُخرى.

٢. فإن قلت : قد سبق في بعض المقدّمات أنّه لا يعتبر قيد المندوحة فيما هو المهم في المقام أعني : أنّ تعدّد العنوان ، هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟

قلت : نعم لا تأثير لقيد المندوحة في المسألة الفلسفية ، أعني : كون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا.

وبعبارة أُخرى : قيد المندوحة غير مؤثر في مسألة « كون التركيب اتحاديّاً أو انضمامياً » ، وأمّا في رفع غائلة التكليف بالمحال فقيد المندوحة معتبر قطعاً ، وقد مرّ الكلام فيه تفصيلاً وصرّح به المحقّق الخراساني في الأمر السادس فلاحظ.

٣. فإن قلت : قد سبق انّ سوء الاختيار لا يكون مجوّزاً للتكليف بالمحال ،


وإنّ من ألقى نفسه من شاهق ، وهو في أثناء السقوط ، لا يكون مكلفاً بصيانة النفس ، لعدم التمكّن منه وإن كان بسوء الاختيار ، وقد مرّ انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، عقاباً وملاكاً ، لا خطاباً وحكماً.

قلت : ما ذكرته صحيح لكنّ المقام ليس من صغريات تلك القاعدة حتّى لا يصح خطابه ، بل هو في كلّ آن من الآنات قادر على ترك الغصب ، والإتيان بها في مكان مباح ، فهو أشبه بمن ألقى نفسه من شاهق ، لكنّه مزوّد بجهاز صناعي لو أعمله لهبط إلى الأرض بهدوء ، فعندئذ لا يسقط النهي لا ملاكاً ولا عتاباً ، ولا خطاباً ولا حكما. (١)

٤. فإن قلت : قد سبق في باب الترتّب أنّه لا يجوز خطاب المكلّف بأمرين متزاحمين من دون تقييد أحدهما بترك الآخر ، كأن يقول : انقذ هذا الغريق ، وانقذ ذاك الغريق ، مع عدم استطاعته إلا بإنقاذ أحد الغريقين ، وما ذاك إلا لكونه تكليفاً بالمحال ، وإن كان في وسع المكّلف تعذير نفسه بالاشتغال بإنقاذ أحدهما ، وإن ترتّب عليه غرق الآخر ، فمجرّد التعذير ، لا يسوِّغ التكليف بالمحال ، والمقام أشبه بذلك حيث إنّه مخاطب بخطابين غير قابلين للامتثال معاً ، لكن باب التعذير واسع ، بأن يصلي في مكان مباح ، فكما أنّ فتح باب العذر غير مسوِّغ لخطابين مطلقين ، فهكذا المقام.

قلت : الفرق بين المقامين واضح فلا يصحّ قياس أحدهما بالآخر ، وذلك لأنّ التكليف هناك متقدّم على التعذير ، فلا ينقدح في ذهن المولى إيجاب إنقاذ غريقين مع علمه بعدم قدرة المكلّف إلا بإنقاذ أحدهما ، وإن كان للعبد تعجيز

__________________

١. وقد اختلف تقرير شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة ، مع ما أفاده في هذه الدورة وما أثبتناه هو الموافق لتقريره أخيراً.


نفسه وتعذيرها بخلاف المقام فانّ المسوغ مقارن مع التكليف حيث إنّ الأمر بالصلاة في الدار المغصوبة ليس على النحو التعييني من أوّل الأمر.

٥. إن قلت : إنّ وزان الإرادة التشريعية كوزان الإرادة التكوينية ، أو إنّ وزان الإرادة الأمرية كوزان الإرادة الفاعليّة. فكما لا ينقدح في ذهن الفاعل ، إرادتان متضادّتان ، بأن يريد إيجاد الشيء في وقت ، وتركه وعدمه في نفس ذلك الوقت ، فهكذا لا ينقدح في ذهن الآمر إرادتان متضادّتان فيطلب الشيء ( الصلاة التوأمة مع الغصب ) في وقت ، وتركه في نفس ذلك الوقت.

قلت : إنّ قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية قياس مع الفارق ، فانّ الإرادة الفاعلية علّة تامّة لتحقّق المراد فلا يمكن اجتماع علّتين تامّتين ـ فضلاً عن كونهما متضادّتين ـ على شيء واحد ، وهذا بخلاف التشريعية فانّها ليست علّة تامّة لتحقّق المراد ، سواء أقلنا بأنّها تتعلّق بفعل الغير كما هو المعروف ، أو تتعلّق بالبعث والطلب كما هو المختار. وعلى كلّ تقدير فبما انّها ليست علّة تامّة لتحقق المراد ، بل أشبه بالداعي ، فلا إشكال في تعلّق إرادتين تشريعيتين بمراد واحد بعنوانين ولا يلزم من جعل الداعيين ، التكليفُ بما لا يطاق ، بل فائدة تعلّقهما انّه لو جمع بين المأمور به والمنهي عنه ، يكون مطيعاً من جهة وعاصياً من جهة أُخرى.

* * *

الوجه السادس : استكشاف جواز الاجتماع من عدم ورود النص على عدم جواز الصلاة في المكان واللباس المغصوبين ، مع عموم الابتلاء به في زمان الدولتين : الأموية والعباسية ، خصوصاً على القول بحرمة الغنائم التي كانوا يغنمونها عن طريق جهاد العدو ابتداءً الذي هو حق طلق للإمام العادل أو المعصوم.


والذي يوضح ذلك أنّ الشيخ الكليني نقل عن الفضل بن شاذان ـ الذي هو من أصحاب العسكريين مؤلّف كتاب الإيضاح وقد توفّي عام ٢٦٠ هـ ـ انّه قال : وإنّما قياس الخروج والإخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله الدار وصلاته جائزة. (١) وهذا يعرب عن كون المشهور لدى أصحاب الأئمّة هو الجواز ، وإلا لصدر النصّ عنهم : على المنع.

هذه هي الوجوه الستة التي استدل بها القائل بالاجتماع ، بقي في المقام وجه سابع وهو وجود العبادات المكروهة في الشريعة الإسلامية التي تلازم اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد كصوم يوم عاشوراء ، والصلاة في الحمام ، فقد اجتمع الاستحباب والكراهة في الأوّل ، والوجوب والكراهة في الثاني ، وإليك بيان هذا الوجه.

الوجه السابع : الاستدلال بالعبادات المكروهة

أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، وقد تعلّق النهي في الشريعة الإسلامية بالعبادات ، فلو كان التّضاد بين الأحكام مانعاً عن الاجتماع لما تعلّق النهي بصوم يوم عاشوراء ، أو بالنوافل المبتدئة في أوقات خاصّة فكلّ واحد منها بنفسه مأمور به وفي الوقت نفسه منهي عنه.

وقد أجاب المحقّق الخراساني عن الاستدلال بهذه الموارد إجمالاً بوجوه ثلاثة :

١. انّ الظهور لا يصادم البرهان فلو قام البرهان على الامتناع فلابدّ من تأويل ما يدلّ على الجواز.

__________________

١. الكافي : ٦ / ٩٤.


٢. انّ الاجتماعي والامتناعي أمام بعض الأقسام كالقسم الأوّل أو جميعها سواء ، حيث إنّ الأمر والنهي تعلّقا بعنوان واحد وهو صوم يوم عاشوراء ، ومن المعلوم أنّه غير جائز حتّى عند الاجتماعي.

٣. انّ الاجتماعي إنّما يقول به إذا كان هناك مندوحة والمورد المذكور خال عن هذا الشرط ، لأنّ صوم يوم الحادي عشر ، موضوع مستقل ، وليس بدلاً عن صوم يوم عاشوراء.

تقسيم العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة

ثمّ إنّه بعد ما فرغ عن الأجوبة الثلاثة حاول أن يجيب عن الاستدلال على نحو التفصيل ، فقال : إنّ العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما تعلّق به النهي بعنوانه وذاته ، ولا بدل له كصوم يوم عاشوراء أو النوافل المبتدئة في بعض الأوقات.

ثانيها : ما تعلّق به النهي كذلك ويكون له بدل كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها : ما تعلّق به النهي لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له (١) ، خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة بناء على أنّ النهي عنها لأجل اتّحادها مع الكون في مواضعها.

القسم الأوّل : النهي عن عبادة ليس لها بدل

ثمّ إنّه شرع بالإجابة التفصيلية فأجاب عن العبادة التي تعلّق بها النهي

__________________

١. الترديد لأجل احتمال جزئية الكون للصلاة كاحتمال خروجه عنها.


وليس لها بدل بأجوبة ثلاثة فقال :

الأوّل : انّ حقيقة النهي عن الصوم يرجع إلى طلب تركه لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك ذا مصلحة ، كالفعل ، فحينئذ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين ، والأصل فيهما هو التخيير لو كانا متساويين ، وإلا فيتعيّن الأهم وإن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمة ، بل الواجبات ، وأرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً كما يوجبها ما إذا كان مفسدته غالبة على مصلحته ، ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع فانّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية المتقرَّب به بخلاف المقام فانّه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً. (١)

وحاصل ما أفاده يعتمد على أُمور :

١. انّ الكراهة في المقام ليست كراهة مصطلحة وهي التي تنشأ من مفسدة في الفعل وحزازة فيه غالبة على مصلحته ، إذ لو كان كذلك لامتنعت الصحة ، مع انّها أمر اتفاقي ، بل هو بمعنى رجحان تركه مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبية. وبعبارة أُخرى النهي ناش من مصلحة في الترك ، لا من مفسدة في الفعل.

٢. انّ رجحان الترك وكونه محبوباً لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه كمخالفة بني أُمية ولأجل انطباقها عليه صار الترك ذا مصلحة كالفعل.

٣. انّ النهي عن الصوم ، يؤوّل إلى تعلّق الطلب بالترك ، فيخرج المورد عن صلاحية الاستدلال ، لعدم تعلّق النهي بالصوم أبداً ، بل تعلّق به الأمر فقط ، وفي

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦.


الحقيقة هنا طلبان ، يتعلّق أحدهما بالفعل والآخر بالترك فيكون من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لولا الأهمية ، وإلا فيقدم الأهم وإن كان المهم أيضاً يقع صحيحاً لرجحانه وموافقته للغرض ، وأرجحية الترك لا توجب منقصة في الفعل بل الفعل يكون ذا مصلحة خالصة وإن كان الترك لأجل انطباق عنوان عليه مثله.

الثاني : نفس ذلك الجواب غير أنّ العنوان الراجح ليس منطبقاً على الترك ، بل ملازماً معه كملازمة ترك الصوم مع التمكّن من إقامة العزاء على الحسين 7.

فإذا فرض أنّ الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل لا محالة يكون الترك أرجح منه ، ولا فرق بين العنوان المنطبق والملازم إلا أنّ الطلب في الأوّل يتعلّق بالترك حقيقة ، لاتّحاد العنوان مع الترك ، بخلاف الثاني فانّ الطلب يتعلّق بالعنوان الراجح الملازم حقيقة ، وبالترك بالعرض والمجاز ، إذ الملازم خارج عن حقيقة الترك ، فلا يتجاوز الطلب عن العنوان إلى الملازم.

الثالث : حمل النهي على الإرشاد إلى أنّ الترك أرجح من الفعل أو ملازم لما هو أرجح وأكثر ثواباً ، فيكون النهي متعلّقاً بالصوم حقيقة ، لا بالعرض والمجاز ـ كما في الوجه الثاني ، والكراهة في المقام ليس بمعنى المنقصة في الفعل ، بل بمعنى كونه أقلّ ثواباً.

ففي الكراهة اصطلاحان ، أحدهما وجود المنقصة ، والثاني كون العبادة ، أقلّ ثواباً ، وهذا هو المراد من قولهم : عبادة مكروهة.

هذا إيضاح ما في الكفاية.

يلاحظ على الجواب الأوّل : أوّلاً بأنّه إذا كان الفعل والترك متساويين في المصلحة فيصبح الفعل مباحاً لا انّه يكون كلّ منهما مستحبّاً ، ويشهد على ذلك


انّه لم يقل أحد من الفقهاء بأنّ النوافل المبتدئة في أوقات خاصّة مستحبّة فعلاً وتركاً ، أو الإفطار في يوم عاشوراء مستحب فعلاً وتركاً.

وثانياً : انّ تأويل قوله : « لا تصم يوم عاشوراء » ، الذي هو بمعنى الزجر عن الفعل ، إلى طلب الترك ، بحيث يصبح الترك كالفعل ، أمراً مستحبّاً ، أمر غير صحيح ، فأين الزجر عن الفعل الذي هو مفاد النهي من طلب الترك المقصود منه استحباب الترك.

ويلاحظ على الجواب الثاني : بأنّ إرجاع لا تصم يوم عاشوراء إلى طلب الترك وجعل الثاني كناية عن الدعوة إلى إقامة العزاء للحسين ، تأويل في تأويل ، مضافاً إلى أنّه يشترط في صحّة الكناية وجود الملازمة العقلية أو العرفية بين ذكر الملزوم وإرادة اللازم ، وهي مفقودة في المقام ، إذ ربّما صائم يقيم العزاء ، وربّما مفطر لا يقيمه ، فكيف يكون النهي عن الصوم المتأوّل إلى طلب الترك ، كناية عن إقامة العزاء؟!

نعم لا بأس بالجواب الثالث ، وهو كون النهي إرشاداً إلى أنّ الفعل أقلّ ثواباً من الترك المنطبق عليه عنوان المخالفة لأعداء الدين الملازم لما هو أرجح من الفعل على فرض صحته.

إلى هنا تمّ تحليل ما أفاده المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة ، وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخرى ربّما تصل مع الأجوبة لصاحب الكفاية إلى وجوه ستّة ، فنقول على غرار ما سبق.

الرابع : انّ السابر في الروايات التي جمعها الحرّ العاملي في الباب ٢١ من أبواب الصوم المندوب ، انّ يوم عاشوراء يوم حزن ومصيبة لأهل البيت وشيعتهم ، ويوم فرح وسرور لأعدائهم ، وقد صام ذلك اليوم آل زياد وآل مروان شكراً وفرحاً


وتبركاً ، فمن صامه يقع في زمرة من يصومه شكراً للمصيبة الواردة على أهل البيت وشكراً على سلامة أعدائهم.

فعند ما سأل الراوي عن صوم يوم عاشوراء ، قال ذلك يوم قتل فيه الحسين ، فإن كنت شامتاً فصم ثمّ قال : إنّ آل أُمية نذروا نذراً إنْ قتل الحسين أن يتخذوا ذلك اليوم عيداً لهم ، يصومون فيه شكراً ويُفرِّحون أولادَهم ، فصارت في آل أبي سفيان سنّة إلى اليوم ، فلذلك يصومونه ويدخلون على أهاليهم وعيالاتهم الفرح ذلك اليوم ، ثمّ قال : الصوم لا يكون للمصيبة ولا يكون إلا شكراً للسلامة ، وانّ الحسين 7 أُصيب يوم عاشوراء فإن كنت فيمن أُصيب به فلا تصم ، وإن كنت شامتاً ممّن سرّه سلامة بني أُمية فصم شكراً للّه تعالى. (١)

فعلى ضوء هذه الروايات فالمبغوض هو التشبّه ببني أُمية والانسلاك في عدادهم ولو في الظاهر ، فقد كانوا متبرّكين بهذا اليوم كما في الزيارة : « اللّهمّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أُمية وابن آكلة الأكباد » ، وكان صوم ذلك اليوم من مظاهر التشبّه على نحو لولاه لما توجّه إليه نهي ، وعندئذ يصبح الصوم مأموراً به ، لا منهياً عنه ، وإنّما المنهيّ عنه هو التشبّه والانسلاك في عدادهم في الظاهر ، فأين اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد؟

فإن قلت : النهي عن الصوم ، كناية عن النهي عن التشبّه يتوقّف على وجود الملازمة بين النهيين كما مرّ في الجواب الثاني للمحقّق الخراساني.

قلت : الملازمة هنا واضحة ، بعد شيوع عمل الأمويين والمروانيين في هذا اليوم وانّهم كانوا يصومون ذلك اليوم للتبرّك والفرح.

الخامس : ما أفاده المحقّق البروجردي من كون الصوم منهيّاً عنه ، وليس

__________________

١. الوسائل : ٧ ، الباب ٢١ من أبواب الصوم المندوب ، الحديث ٧.


بمأمور به ، ولو صام وإن كان صحيحاً لكن الصحة لا تكشف عن الأمر ، لاحتمال كونها لأجل الملاك. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحكم بالصحة جازماً فرع وجود الأمر ولولاه لما كان هنا كاشف عن الملاك قطعاً.

السادس : انّ متعلّقي الأمر بالصوم والنهي عنه مختلفان فالأمر تعلّق بنفس الصوم ، والنهي تعلّق بالصوم بداعي أمره الاستحبابي فلا يكون متعلّقه متحداً مع متعلّقه ليلزم اجتماع الضدين في شيء واحد ، والنهي ليس ناشئاً عن وجود مفسدة في ذات الصوم أو وجود مصلحة في تركه ـ كما عليه المحقّق الخراساني ـ بل هو ناش عن مفسدة في التعبد بهذه العبارة ( بقصد أمرها ) لما فيه من المشابهة والموافقة لأعداء الدين فالنهي مولوي حقيقي ناش عن المفسدة في التعبدي. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : نحن نفترض امتناع أخذ قصد الأمر في متعلّقه ـ وإن كان الحقّ خلافه ـ لكن متعلّق الأمر لباً وحسب حكم العقل ، هو إيقاع الصوم بقصد أمره وإلا يصبح الصوم واجباً توصلياً وهو خلف الفرض.

فإذا كان متعلّق الأمر هو الصوم بقصد العبادة ، وكان هو أيضاً متعلّقاً للنهي يلزم اتحاد متعلق الأمرين.

وثانياً : أنّ ما ذكره افتراض لا دليل عليه ، ولو انّه 1 اكتفى بما في آخر كلامه من أنّ النهي لأجل المشابهة والموافقة لأعداء الدين ، يكون أفضل ويرجع محصل مرامه إلى ما ذكرنا في الوجه الرابع.

__________________

١. نهاية الأُصول : ٢٤٣ ، والموجود في اللمعات التي هي تقرير لدرس السيد البروجردي غير ذلك ، ويقرب مما ذكرناه في الوجه الرابع فلاحظ.

٢. المحاضرات : ٤ / ٣١٧ بتلخيص.


القسم الثاني : النهي عن عبادة لها بدل

استدلّ المجوز بورود النهي عن العبادات التي لها بدل ، كالنهي عن الصلاة في الحمام مع تعلّق الأمر بالصلاة مطلقاً ، ولما كان المحقّق الخراساني قائلاً بالامتناع حاول أن يصحح النهي على وجه لا يصادم مختاره.

توضيحه : انّه لو قلنا بأنّ جواز الاجتماع يختص بما إذا كان بين المتعلّقين عموم وخصوص من وجه كالصلاة والغصب دونما إذا كان بينهما عموم وخصوص مطلق ، كالمقام ، يكون الاجتماعي وا لامتناعي أمام هذا القسم سواء ، فيجب على كلتا الطائفتين الإجابة عن الاستدلال ، وأمّا لو قلنا بجواز الاجتماع مطلقاً حتّى فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم مطلق ، فالاجتماعي في فسحة من الجواب ، بل له أن يتّخذ ذلك دليلاً على مدعاه.

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى الجواز مطلقاً من غير فرق بين العموم من وجه أو العموم المطلق ، ولذلك قال في المقام : نحن في فسحة من القسمين الأخيرين ( القسم الثاني والثالث ) ، لأنّا اخترنا الجواز كما تقدّم. (١)

وقال أيضاً : وهل يجري النزاع في الأخص المطلق ، كالأخص من وجه حسب المورد؟ الظاهر جريانه فيه ، ويلتزم الاجتماعي بالجواز في كلا الموردين ، فلو فرض أنّ خياطة الثوب تكون ذات مصلحة تامّة ملزمة وكانت تمام الموضوع لتلك المصلحة بلا مدخلية شيء وجودي أو عدمي فيها بأن يتعلّق الأمر بها بنفس ذاتها على الإطلاق أي بلا دخالة قيد فيها لا بمعنى السراية إلى الافراد.

ولو فرض انّ في خياطته في دار زيد مفسدة تامّة بحيث تكون الخياطة فيها

__________________

١. لمحات الأُصول : ٣٣٦.


تمام الموضوع للمفسدة ، فلابدّ أن يتعلّق النهي بها ، فلو خاط المكلّف الثوب في دار زيد أتى بمورد الأمر بلا إشكال لتحقق الخياطة التي هي تمام الموضوع بلا مدخلية أمر وجودي أو عدمي ، وأتى بمورد النهي الذي هو الخياطة في دار زيد وتكون تمام الموضوع للمفسدة والنهي ، فأصل الخياطة مأمور بها ، وهي مع التقييد الكذائي منهي عنها ، فهما مفهومان ، قد تعلّق النهي بأحدهما ، والأمر بالآخر ، وأخذ أحدهما في الآخر لا يوجب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بجهة واحدة ، واجتماعهما في الوجود بسوء اختيار المكلّف لا يوجب امتناعاً في ناحية التكليف. (١) وأشار السيد الأُستاذ إلى المسألة وذكر لكلّ من جريان النزاع فيها وعدمه وجهاً ولم يختر شيئاً وقال : والمسألة محل إشكال.

والكلام (٢) الحاسم في المقام : هو انّ النهي في المقام على أقسام :

١. أن يكون النهي إرشاداً إلى مانعية هذه الأُمور عن الصلاة وتقييدها بعدمها كما في النهي عن الصلاة فيمالا يؤكل والنجس والميتة ، فيكون النهي مقيِّداً لإطلاق ما دلّ على صحّة العبادة ، دالاًّ على الفساد في العبادات والمعاملات ، فهذا القسم خارج عن محط البحث.

٢. أن يكون النهي لبيان حكم تحريمي كالنهي عن الوضوء والغسل من الماء المغصوب ، فالنهي يدلّ على مبغوضية متعلّقه ( الوضوء بماء مغصوب ) ، ومعه يقيّد إطلاق الأمر بالوضوء ، إذ مقتضى النهي ، عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج وعدم جواز تطبيق الطبيعة المأمور بها ، عليه ، وهذا أيضاً خارج عن محط البحث ، إذ التقييد في هذين القسمين ممّا لا بدّ منه.

__________________

١. لمحات الأُصول : ٢٣٠.

٢. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.


٣. أن يكون النهي تنزيهياً ملازماً للترخيص في متعلّقه ، ففي مثل هذا لا وجه لتقييد إطلاق متعلّق الواجب ، لأنّه غير مانع عن إيجاد الطبيعة في مثل هذا الفرد ، غير أنّه يرى أنّ الأفضل هو غير هذا الفرد من أفراد الطبيعة.

وعلى ذلك لا مانع من اجتماع الأمر والنهي ، وقد عرفت أنّ الميزان في صدق التزاحم عدم التكاذب في مقام الجعل والتشريع ، والمفروض انّه كذلك ، إذ لا مانع من الأمر بالطبيعة على وجه الإطلاق ، ثمّ النهي التنزيهي عن قسم خاص منها ، ويكون النهي مولوياً تنزيهياً.

إجابة المحقّق الخراساني عن القسم الثاني

ثمّ إنّ المحقّق ، لما اختار امتناع الاجتماع ، حاول تأويل الاستدلال بهذا النوع من الاجتماع بحمل النهي على الإرشاد إلى انطباق عنوان قبيح على الفعل ، فقال : إنّ النهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل ، كما يمكن أن يكون لأجل وجه رابع. والفرق بين هذا الجواب وماسبق من الأجوبة الثلاثة انّ بناء الأجوبة الثلاثة على انطباق عنوان راجح على الترك أو ملازمته معه ، وأمّا هذا الجواب فالعنوان القبيح ( مكان الراجح في الثلاثة ) منطبق على الفعل ، وذلك لأنّ الطبيعة تارة تتشخّص بمشخّص غير ملائم لها كالصلاة في الحمام فانّه مركز الخبث والوسخ فلا يصلح أن يكون وعاء للمعراج ، وأُخرى تتشخّص بمشخّص شديد الملائمة معها كالصلاة في المسجد ، وثالثة تتشخّص بما لايكون معه شديد الملائمة ولا عدمها كالصلاة في الدار ، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيّتها فيه ، إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد ويكون أكثر ثواباً.

وهذا مراد مَن يفسر الكراهة في العبادة بكونها أقلّ ثواباً ، المدار في القلة


والكثرة هو نفس الطبيعة إذا تشخصت الطبيعة بما لا تكون معه شدّة الملاءمة ( كالصلاة في البيت ) ولا عدم الملاءمة ، فإن زاد ثواب الفرد على الثواب المرتب على الطبيعة الكذائية يكون مستحبّاً وإن نقص كان مكروهاً.

ولا يرد على هذا ، بأنّ لازمه وصف عامّة افراد الطبيعة بالكراهة إلا الفرد الأعلى ، لما عرفت من أنّ الميزان في التفضيل والتنقيص هو الطبيعة المتوسطة فالراجح عليها ، مستحبّ والمرجوح بالنسبة إليها ، مكروه.

القسم الثالث : تعلّق النهي بشيء خارج عن العبادة

إنّ للقسم الثالث ظاهراً وواقعاً ، فالنهي حسب الظاهر تعلّق بالعبادة وقال : صلّ ، ولا تصلّ في مواضع التهمة ، فصار كالقسم الثاني من حيث إنّ النسبة بين المتعلّقين ، هو العموم والخصوص المطلق ، وأمّا حسب الواقع فالنهي تعلّق بالكون في مواضع التهمة ، لأجل الصلاة أو غيرها ، فالكون إمّا من خصوصيات المأمور به أو من لوازمه ، والنسبة بين المتعلّقين هو العموم والخصوص من وجه كالصلاة والغصب ، وعلى هذا فالاجتماعي في فسحة من الإجابة ، بل يعدّ ذلك من دلائل رأيه.

وبما انّ المستدل ، استدلّ بظاهر الكلام وانّ العبادة في مكان خاص صارت متعلّقة للنهي دون خصوص الكون في المكان ، لزمت على الاجتماعي أيضاً ، الإجابة عن الإشكال.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر عن جانب الاجتماعي جوابين :

أحدهما : مبني على التصرف في متعلّق النهي.

ثانيهما : مبني على التصرف في مفهوم الحكم ومعناه.


أمّا الأوّل فبأن يقال انّ الأمر تعلّق بالعبادة ، والنهي لم يتعلق بها أبداً ، بل تعلّق بالكون فيها ولو نسب إلى العبادة فإنّما هو بالعرض والمجاز ، فالنهي المولوي تعلّق بالكون حقيقة وبالعبادة مجازاً.

وإلى هذا الوجه أشار في « الكفاية » بقوله : « فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة ، المتحدة مع ذلك العنوان أو الملازمة له ، بالعرض والمجاز وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان ».

أمّا الثاني ، فبحمل الأمر على الإرشاد ، إلى ما ليس فيه هذا النقص ولا مانع من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، إذا كان النهي إرشادياً.

وإلى هذا الوجه أشار في « الكفاية » بقوله : « ويمكن أن يكون النهي على الحقيقة إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد ممّا لا يكون متحداً معه أو ملازماً له ، إذ المفروض التمكّن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلاً ». (١)

وأمّا الإجابة عنه على القول بالامتناع فالعنوان الموجب للنقصان لا يخلو إمّا أن يكون ملازماً للصلاة ، أو عنواناً منطبقاً.

أمّا الأوّل فيمكن أن يقال بنفس الجواب المذكور على القول بالاجتماع ، غاية الأمر انّ الاجتماعي يقول به مطلقاً في العنوان المتحد والملازم ، والامتناعي يقول به ـ حسب أُصوله ـ في خصوص الملازم ، بأن يقول : انّ الأمر تعلّق بالعبادة والنهي تعلّق بالعنوان الملازم ، ولو نسب إلى العبادة ، فإنّما هو بالعرض والمجاز ولا مانع من اختلاف المتلازمين في الحكم إذا لم يكونا متساويين كالصلاة ، والكون في

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٥٩.


مواضع التهمة الملازم لعنوان قبيح.

وإنّما قلنا : إنّ هذا النوع في الجواب من الامتناعي يجري في العنوان الملازم دون العنوان المنطبق ، لأنّه لو تعلّق النهي بالعنوان المنطبق ، المتحد مع الصلاة يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو بعنوانين ، وهو خلاف المختار عند الامتناعي ، ولذا اقتصر بهذا الجواب في خصوص الملازم بخلاف الاجتماعي فانّه لقوله بالجواز ، لم يفرق بين الملازم والمنطبق.

أمّا الثاني ، فيحمل النهي على الإرشاد إلى أفضل الأفراد ، والتحرز ، عن الفرد الفاقد للفضيلة ، ولا مانع من الجمع بين الأمر والنهي الإرشادي وإن تعلّق بشيء واحد لكن بعنوانين.

وعلى كلّ تقدير فالصلاة على القولين صحيحة ، لأنّ النهي التنزيهي لا يوجب تقييد إطلاق دليل العبادة ، إذ معنى التنزيه هو الدعوة إلى العدول إلى الأفراد الأُخرى ، مع تجويز إيجاد الطبيعة بالفرد المنهيّ.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى أُمور ، أوضحها شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في الدورة السابقة وطوى الكلام فيها في هذه الدورة فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد محمود الجلالي. (١)

__________________

١. المحصول : ٢ / ٢٤٧ ـ ٢٥٠.


تنبيهات

١

في حكم الاضطرار إلى الحرام

إنّ لارتكاب الحرام صوراً أشار المحقّق الخراساني ـ في كفايته ـ إلى ثلاث منها :

الأُولى : إذا كان المكلّف متمكّناً من امتثال الواجب في غير المكان المغصوب ولكنّه أتى به فيه عن اختيار ، وهذه هي التي مضى الكلام فيها تحت جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين.

الثانية : إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن لا بسوء الاختيار كما إذا كان محبوساً في الدار المغصوبة فيقع الكلام في دخوله ، وبقائه ، وخروجه وحكم العبادة في هذه الحالات.

الثالثة : إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن بسوء اختياره ، كما إذا دخل أرض الغير للتنزّه وأراد الخروج فهو مضطر إلى التصرف في أرض الغير عند الخروج ، لكن الاضطرار طارئ عليه بسوء اختيار ، إذ لم يكن هناك أيُّ إلزام على الدخول ، ليضطرّ في ترك الغصب إلى الخروج الذي هو تصرّف فيه أيضاً ، فيقع الكلام في حكم الخروج تكليفاً أوّلاً ، وحكم الصلاة الواقعة حال الخروج وضعاً ثانياً ، وهذا هو المقصود من عقد هذا التنبيه ، وإليك دراسة القسمين واحداً تلو الآخر.


الاضطرار إلى ارتكاب الحرام من غير اختيار

إذا حبسه الظالم في مكان مغصوب ، فالاضطرار لا عن اختيار رافع للحرمة التكليفية دخولاً وبقاءً وخروجاً أخذاً بالأدلّة.

١. قال سبحانه : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلا وُسْعَها ). (١) فالآية دالة على أنّ الأحكام محدّدة بالقدرة والوسع ، فإذا كانت فوقها ، فليس هناك أي حكم للشرع.

٢. حديث الرفع ، روى الصدوق في خصاله عن شيخه أحمد بن محمد بن يحيى 2 عن يعقوب بن يزيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبد اللّه ، عن أبي عبد اللّه 7 قال : قال رسول اللّه 6 : « رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ... ». (٢) والرواية صحيحة ورواتها كلّهم ثقات ، وأحمد بن محمد بن يحيى العطار من مشايخ الصدوق ثقة بلا إشكال ، وعدم ورود التوثيق في حقّه في الكتب الرجالية لأجل انّ المشايخ فوق التوثيق أوّلاً ، والقرائن تشهد على وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى ثانياً ، لأنّ الشيخ الصدوق يروي عنه ويترضّى عليه ويقول 2 ، وإكثار الثقات النقل عنه ثالثاً ، فإنّ الثقة وإن كان يروي عن غير الثقة أحياناً ولكن كثرة النقل عن الضعيف كان من أسباب الجرح عند القدماء ، ولذلك أخرج الرئيس أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري محدّثين عظيمين من قم ـ أعني بهما : أحمد بن محمد بن خالد وسهل بن زياد الآدمي ـ وما هذا إلا لكثرة نقلهما عن الضعاف من دون أي غمز فيهما.

__________________

١. البقرة : ٢٨٦.

٢. الخصال : ٢ ، باب التسعة ، الحديث ٨.


في عبادة المحبوس المضطر

هذا كلّه حول الحكم التكليفي إنّما الكلام في الحكم الوضعي ، أي صحّة عبادته في الحالات الثلاث دخولاً وبقاءً وخروجاً.

فلو قلنا بجواز الاجتماع فالحكم بالصحة موافق للقواعد بشرط تمشي قصد القربة ، كما أنّه لو قلنا بالامتناع وقدّمنا الأمر على النهي فكذلك إنّما الكلام في القول بالعكس ، أي قلنا بالامتناع وقدّمنا النهي على الأمر ، فالتحقيق صحّة عبادة ذلك المضطر بغير سوء الاختيار.

لأنّ الاضطرار يرفع الحرمة التكليفية والعقوبة ، ولكن ملاك الوجوب ـ لو كان ـ يكون مؤثراً ، وذلك لأنّه لو كان الاضطرار بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة فانّ سقوط الخطاب لا يلازم الصحة ، لأنّه يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذلك الخطاب ومستحقاً عليه العقاب ، ولكن المفروض انّ الاضطرار لم يكن بسوء الاختيار ، بل فُرِض عليه ارتكابُ المحرّم من جانب القويّ القاهر وعندئذ فالحرمة ـ مع تقدّمها على الأمر عند الامتناعي ـ شأنية وملاك الوجوب باق مؤثر فيكون صحيحاً.

يقول المحقّق الخراساني : إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام إن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه ـ لو كان ـ مؤثراً له كما إذا لم يكن بحرام. (١)

فإن قلت : إنّ المانع عن تحقّق الوجوب ليس هو الحرمة الفعلية ، حتّى

__________________

١. قوله : « لو كان مؤثراً له » لفظة « كان » تامة فاعلها ضمير الملاك ، وقوله « مؤثراً » حال من ملاكه ومعنى العبارة : بعد سقوط التحريم يبقى ملاك الوجوب ـ لو كان ـ مؤثراً في الوجوب ومقتضياً له لسقوط ملاك التحريم من صلاحية المزاحمة له فيترتب على بقاء الملاك أثره فعلاً.


يصير ارتفاعها سبباً لتحقّقه ، بل المانع عن تحقّقه وتأثير ملاكه فيه ، هو أقوائية ملاك الحرمة ( أعني : المفسدة الداعية إلى جعلها ) من ملاك الوجوب ( أعني المصلحة الباعثة نحو الإيجاب ) فمادامت المفسدة باقية على قوتها لا مجال لتأثير ملاك الوجوب وإن كان هنا مانع عن فعلية الحرمة أيضاً. (١)

قلت : هذا ما ذكره السيّد المحقّق البروجردي لكن وجود المفسدة الأقوى من مصلحة الواجب ( كالصلاة ) عند الاضطرار أوّل الكلام ، لأنّ العلم بالملاك رهن وجود الحكم وفعليته ، ومع عدم الفعلية كما هو المفروض كيف نستكشف وجود المفسدة الأُقوى من مصلحة الواجب.

مثلاً انّ التصرف في مال الغير أمر قبيح عقلاً ، لأنّه يعدّ من شقوق الظلم والتعدي على حقوقه وأمواله ، ومن المعلوم أنّ استقلال العقل بقبح التصرف بمال الغير محدّد بصورة الاختيار ، والمفروض انّه مضطر غير مختار ، بل فُرِض عليه التصرف في مال الغير فيكون عمله فاقداً للمفسدة ولو كان هناك ذمّ أو عقاب فإنّما لحامله على الحرام.

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي قاس المقام بالخمر الذي اضطرّ إلى شربه فكما أنّ ارتفاع حرمته لا يصير شربه راجحاً أو واجباً ، فهكذا المقام.

فقال : مثلاً انّ الخمر مع كونه ذا مصلحة ومنفعة ، لكن لما كانت مفسدته راجحة ، وإثمه أكبر من نفعه ، صار حراماً لغلبة الملاك فلو فرضنا الاضطرار إلى شربه لمرض أو شبهه وارتفع الخطاب لأجله ، فلا يصير راجحاً أو واجباً بمجرده.

نعم لو حدثت في ظرف الاضطرار مصلحة أُخرى ملزمة أو راجحة على المفسدة صار الفعل لا محالة واجباً لكن هذا غير ما أفاده 1. (٢)

__________________

١. نهاية الأُصول : ٢٤٤ ، الطبعة الأُولى.

٢. لمحات الأُصول : ٢٣٩.


أقول : البحث في كلام المحقّق الخراساني مركّز على ما إذا كان هناك ملاكان ملزمان للوجوب والحرمة كالصلاة والغصب ، غير أنّ ملاك الغصب غلب على ملاك الصلاة فقدم النهي على الأمر ، فإذا زال النهي لأجل الاضطرار يكون ملاك الوجوب مؤثراً ، لأنّ انقلاب الحرمة الفعلية إلى الشأنيّة يكون كاشفاً عن ضعف الملاك في هذه الحالة.

وبذلك تظهر الحال في المثال الذي ذكره ، إذ ليس في شرب الخمر ، ملاك ملزم لا قبل الشرب ولا بعده ، حتّى يؤثر في الوجوب ، ولذلك لا يوصف به ، نعم لو طرأ ملاك ملزم كما أشار إليه في آخر كلامه كما إذا توقفت حياة الإنسان عليه ، يوصف العمل بالوجوب ويكون ملاكاً مؤثراً.

ثمّ إنّه 1 بين أقسام الاضطرار وعلاجه فمن أراد فليرجع إليه.

فإن قلت : لو كان النهي عن التصرف في المغصوب موجباً لتقيد الصلاة بقيد وجودي كلزوم كون الصلاة في مكان مباح أو بقيد عدمي كاشتراطها بعدم كونها في مكان مغصوب الذي مرجعه إلى مانعية الغصب لصحتها ، فعندئذ يكون المأمور به مقيداً بقيد وجودي ( إذا كانت الإباحة شرطاً ) أو عدمي ( إذا كان الغصب مانعاً ) ومع عدم إمكان تحصيله يسقط الأمر بالمركب لعدم إمكان تحصيله ، لا أنّ الواجب ينحصر في الباقي ويصحّ الإتيان به.

قلت : إنّ الأحكام الوضعية من الشرطية أو المانعية أُمور منتزعة من الأحكام التكليفية ، فلو كان الحكم التكليفي مرفوعاً بفضل القرآن والسنّة فلا يبقى لاحتمال الشرطية والمانعية في هذه الحالة مجال. فسعة الحكم الوضعي وضيقه تابع لسعة الحكم التكليفي وضيقه فبارتفاعه يرتفع الوضعي.

فالظاهر صحّة عامة عباداته إلا ما كان له بدل مباح ، فإذا دار الأمر بين


الوضوء بماء مغصوب أو التيمم بالتراب فالثاني مقدّم على الأوّل.

فإن قلت : على هذا يجب على المحبوس الاقتصار على الإيماء والإشارة بدلاً عن الركوع والسجود باعتبار انّهما تصرف زائد على مقدار الضرورة. (١)

قلت : ذهب جماعة إلى أنّه لابدّ في جواز التصرف في أرض الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار ، وإليه ذهب الشيخ المحقّق النائيني قائلاً بأنّ الركوع والسجود تصرف زائد عند العرف فيجب الاقتصار على الإيماء.

ولكن الصحيح ما اختاره تلميذه ـ أعني : المحقّق الخوئي ـ وحاصله : عدم الفرق بين كون المكلّف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة أو كونه على هيئات متعدّدة ، وذلك لأنّ كلّ جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه ، ومن الطبيعي أنّ مقدار أخذه المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله الهندسية من المثلث والمربع وما شاكلهما بداهة انّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته وأوضاعه ، ولا تختلف تلك النسبة زيادة ونقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه ، مثلاً إذا اضطر الإنسان إلى البقاء في المكان المغصوب لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه وان يكون راكعاً أو ساجداً ، فكما أنّ الركوع والسجود تصرف فيه فكذلك القيام والقعود ، فلا فرق بينها من هذه الناحية أصلاً.

حكم الاضطرار بسوء الاختيار

هذا هو الموضع الثاني الذي عقد لبيانه هذا التنبيه ، ويقع الكلام في موارد :

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ٣٥٥. ولاحظ جواهر الكلام : ٨ / ٣٠٠.


١. حكم الدخول.

٢. حكم الخروج تكليفاً.

٣. حكم العبادة حين الخروج وضعاً.

أمّا الأوّل فلا شكّ انّه أمر محرم ، لأنّه تصرّف في مال الغير بلا عذر فيكون محرماً ، إنّما الكلام في الأمر الثاني ، وهذا ما سندرسه.

الثاني : حكم الخروج تكليفاً

إذا توسط أرضاً مغصوبة بسوء الاختيار كأن دخل حديقة الغير للتنزّه وغيره ، ثمّ حاول أن يخرج ويترك الغصب ، فما هو حكم الخروج من حيث الحكم التكليفي؟

هناك أقوال :

١. انّ الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي وليس بواجب شرعاً ، وهو خيرة السيد البروجردي والسيد الأُستاذ قدس سرهما.

٢. انّه مأمور به شرعاً وليس وراء الأمر أي حكم شرعي ، وهو خيرة المحقّق الأنصاري والنائيني.

٣. انّه مأمور به شرعاً لكن مع جريان حكم المعصية عليه حيث إنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار ، اختاره صاحب الفصول.

٤. انّه واجب وحرام بالفعل ، وهو خيرة أبي هاشم الجبائي المعتزلي ( المتوفّى عام ٣٢١ هـ ) واختاره المحقّق القمي.

٥. انّه واجب عقلاً لدفع أشد المحذورين بارتكاب أخف القبيحين وليس محكوماً بحكم شرعي بالفعل. نعم هو منهي عنه بالنهي السابق الساقط


بالاضطرار ، وهذا خيرة المحقّق الخراساني وهو الأقوى.

٦. انّه مأمور به ومنهي عنه لكن بالترتّب فكأنّه قال : لا تغصب ، وهو يشمل الدخول والبقاء والخروج ، ثمّ قال : فإن عصيت فاخرج.

هذه هي الأقوال الستة فلندرس قول المحقّق الخراساني أوّلاً ، ثمّ بقية الأقوال ثانياً.

فقوله مركّب من أُمور :

١. واجب بالوجوب العقلي.

٢. ليس واجباً بالوجوب الشرعي.

٣. منهي عنه بالنهي السابق الساقط.

٤. انّ أثر النهي ـ وهو العقاب ـ باق.

وإليك دراسة الأُمور الأربعة :

أمّا الأوّل ، فلاستقلال العقل بوجوب الخروج والتخلّص ، لأنّه الطريق الوحيد للتخلّص من أشدِّ المحذورين بارتكاب أقلّهما ، فلو دار الأمر بين قليل العصيان وكثيره فالعقل يستقل بتقديم الأقل.

وأمّا الثاني ، أي ليس محكوماً بحكم شرعي من الوجوب ، وذلك لأنّه لو كان واجباً فإمّا أن يكون وجوبه نفسيّاً أو مقدّمياً.

أمّا النفسي فلم يرد في الشرع ما يدلّ على وجوب الخروج من المغصوب وإنّما ورد المنع عن التصرّف في المغصوب.

وأمّا الغيري فهو فرع القول بأنّ حرمة الشيء تلازم وجوب ضدّه العام ، أعني : تركه ، كحرمة الغصب الملازم لوجوب تركه ، فإذا وجب الترك تجب مقدّمته ، أعني : الخروج حيث إنّه مقدمة لترك الغصب ، أو يقال ـ كما يأتي عن


الشيخ ـ بأنّ حرمة البقاء الذي هو من مصاديق الغصب ، يستلزم وجوب تركه والخروج مقدّمة له.

ومن المعلوم أنّ المقدّمات ممنوعة لعدم دلالة حرمة الشيء على وجوب تركه حتّى تجب مقدّمته.

وأمّا الثالث ، أي كون النهي السابق ساقطاً فلأجل عدم إمكان امتثاله بعد التوسط ، فقوله : لا تغصب ، وإن كان قبل الدخول يعمّ الدخول والبقاء والخروج ، لأنّ الجميع من مصاديق الغصب ، لكنّه بعد الدخول ولو بسوء الاختيار لا يتمكن المكلّف من امتثال قوله لا تغصب المتمثّل في البقاء والخروج.

نعم ذهب العلاّمة الطباطبائي إلى تصحيح وجوب الخطاب ( لا تغصب ) ولو بعد ما توسط الأرض المغصوبة قائلاً : بأنّه يكفي في صحّة الخطاب ترتّب الأثر عليه وإن كان الأثر نفس العقاب ، ويكفي في القدرة ، القدرة على الامتثال في ظرف من الظروف ، والشرطان حاصلان والمكلّف كان قادراً على ترك التصرّف الخروجي قبل الدخول ، وهو يكفي في بقاء الخطاب حتى في صورة العجز عن الامتثال كما إذا توسّطها ، وفائدة الخطاب مع عجزه هي صحّة عقابه ومؤاخذته. (١)

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين الخطاب النابع عن الإرادة الجدّية في حال الاضطرار وبين قيام الحجة على المضطر في هذا الظرف ، والأوّل منتف ، لامتناع تعلّق الإرادة بفعل العاجز ، والثاني ثابت بلا كلام ، لأنّ القدرة قبل الدخول أتمّت الحجّة على العبد في جميع أحواله من الدخول والبقاء والخروج ، والقدرة في ظرف خاص إنّما تكفي في إتمام الحجّة حين المخالفة لا في توجّه الخطاب.

وأمّا الرابع ، فهو جريان حكم المعصية عليه وكونه معاقباً فقد علم ممّا ذكرنا

__________________

١. التعليقة على الكفاية : ١٤٣.


حيث إنّ القدرة في ظرف من الظروف ـ أعني : قبل الدخول ـ تصحح العقوبة على التصرّف الخروجي وإن لم يكن في ظرف العمل قادراً ، وقد عرفت فيما سبق أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكاً وعقوبة.

نعم ينافي الاختيار حكماً وخطاباً ولذاك قلنا بسقوط الخطاب السابق وبقاء الملاك ، أعني : العقاب وهو الرابع.

وبذلك يظهر الحال فيما أفاده السيد المحقّق البروجردي حيث قال : إذا سقط النهي فلا معنى للعصيان والمخالفة ومجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار لا يوجب المخالفة والعصيان ، مع عدم النهي الفعلي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ صدق العصيان ، ليس رهن النهي الفعلي ، بل يكفي في ذلك تمامية الحجّة عليه ولو قبل العمل ، فالساقط من شاهق عاص بسقوطه وإن لم يكن النهي فعلياً ، لتمامية الحجّة عليه ، فمن علم بنجاسة أحد الإناءين تمّت الحجّة عليه ولزمه الاجتناب مطلقاً ، ولو اضطرّ إلى أحد الأطراف لا يحل له الطرف الآخر وإن لم يكن العلم الإجمالي موجوداً لتماميّة الحجّة عليه قبل الاضطرار ، وهو كاف في إيجاب الاجتناب عن الإناء غير المضطر إليه.

فخرجنا بالنتيجة التالية : نظرية المحقّق الخراساني هي أقوى النظريات في المقام ، فلندرس سائر الأقوال على الترتيب المذكور في صدر البحث.

الأوّل : الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي فقط

ذهب السيد المحقّق البروجردي إلى أنّ الخروج حرام وليس بواجب ، أمّا أنّه حرام فلأنّ التصرّف في مال الغير ، بغير إذنه أو مع نهيه ، حرام وخروج عن طاعة

__________________

١. لمحات : ٢٤٢.


المولى ، من دون فرق بين التصرّف الدخولي والخروجي في نظر العقل فإنّه يرى جميع التصرفات ـ في كونها معصية وخروجاً عن رسم العبودية ـ متساوية.

وأمّا أنّه ليس بواجب ، فلأنّ وجوبه إمّا بالخصوص فلا دليل عليه ، وإمّا لكونه مقدّمة لترك الغصب الواجب ، فهو أيضاً مثله ، إذ لم يرد دليل على وجوب ترك الغصب وما ورد من أنّ الغصب مردود ، فإنّما تأكيد لحرمة الغصب. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ حرمة الخروج إمّا لأجل تعلّق النهي به بالخصوص ، أو لأجل انّه تصرّف في مال الغير ؛ أمّا الأوّل فهو دفع الفاسد بالأفسد ، لأنّ النهي عن الخروج بما هو هو يستلزم البقاء في المغصوب إلى آخر العمر وهو أشدّ محذوراً ، وأمّا الثاني فهو يستلزم التكليف بالمحال ، لعدم قدرته على امتثال ذلك النهي إلا أن يلتجئ إلى البقاء ، وهو أيضاً حرام.

فإن قلت : إنّ الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار.

قلت : قد سبق انّ القاعدة صحيحة ، ولكن المراد أنّه لا ينافي ملاكاً وعقاباً ، لا خطاباً وحكماً ، فهو معاقب إذ كان في وسعه امتثال هذا النهي الشامل للخروج أيضاً بترك الدخول ، لأنّه عصى ودخل فيعاقب على الخروج للنهي السابق الساقط لا أنّه مخاطب بالفعل بالنهي عن الخروج.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ 1 اختار نظرية السيد البروجردي واستدلّ عليه لكن بطريق آخر ، وهو ما اختاره من أنّ خطابات الشرع ، خطابات قانونية وليست خطابات شخصية ، ويكفي في صحّة الخطاب القانوني ، اجتماعُ الشرائط العامّة في كثير من المكلّفين لا في كلّ واحد ، بخلاف الخطاب الشخصي فانّه يشترط اجتماع الشرائط العامة في كلّ مخاطب بالخصوص.

__________________

١. لمحات : ٢٤٤.


توضيح ذلك : انّ الخطاب تارة يتعلّق بالعنوان الكلّي كالناس والمؤمنين ، وأُخرى بفرد معيّن ، ومعنى الخطاب في الأوّل جعل الحكم على العنوان الكلّي من دون لحاظ كلّ واحد واحد من الأفراد التي ينطبق عليها العنوان ، ويكفي في صحّة الخطاب وعدم لغويته ، اجتماع الشرائط في كثير من مصاديق العنوان ، لا في كلّ واحد ، بخلاف الخطاب الشخصي ، فانّ الصحّة فيه رهن اجتماع الشرائط في نفس المخاطب.

فإن قلت : إنّ العقل يتصرّف في الخطابات القانونية ، ويقيّدها بالقدرة ، فعندئذ يكون الخطاب القانوني ، كالخطاب الشخصي في اعتبار القدرة في كليهما.

قلت : ليس من شأن العقل ، التصرّفُ في إرادة الغير وخطابه ، غاية ما في الباب أنّ للعقل ، التعذير ، فإذا كان بعض المكلّفين فاقداً للشرط أو الشرائط يعدّه معذوراً في مخالفة التكليف من دون أن يتصرّف في إرادة المولى ، أو خطابه.

وعلى ضوء ذلك يكون الخروج محرّماً ومصداقاً للحكم الكلّي ، أعني : حرمة التصرّف في مال الغير المطلق الشامل للقادر والعاجز ، وأمّا التعذير فإنّما يصحّ إذا كان بغير سوء الاختيار ، دون ما إذا كان معه كما في المقام.

فخرجنا بالنتيجة التالية : من كون التصرّف « الخروج » حراماً لكونه مصداقاً لحرمة التصرّف في مال ، وانّ الخطاب أو الحكم شامل ، وإن كان عاجزاً ، إذ لا يشترط القدرة في كلّ واحد من الأفراد ، وأمّا التعذير فهو منتف لأجل سوء الاختيار. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : بالنقض بالخطاب الشخصي فإنّه مقيّد بالقدرة ، مع كون الخطاب أو الحكم مطلقاً ، فهل المقيّد هو المولى أو العقل؟ والأوّل منتف لإطلاق

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٤٠٤.


خطابه وكلامه ، والثاني يستلزم تصرّف العقل في إرادة المولى.

وثانياً : أنّ العقل لا يتصرّف في إرادة المولى وإنّما يكشف عن ضيق إرادته وعدم تعلّقها إلا بالقادر ، فكم فرق بين التصرّف في إرادة المولى وحمله على ما يحكم به العقل ، وبين كشف العقل عما في ضمير الجاعل وصميم ذهنه ، وهو انّ الطلب من العاجز ـ وإن كان بسوء الاختيار ـ غير صحيح ، لأنّه تكليف بالمحال.

وثالثاً : بما تقدّم في باب الترتب من أنّ الإجمال في مقام الثبوت غير ممكن ، فلو سئل المولى عن عموم حكمه للعاجز ، لأجاب بالنفي ، لأنّه تكليف بالمحال.

الثاني : الخروج واجب شرعاً

ذهب الشيخ الأنصاري وا لمحقّق النائيني إلى أنّ الخروج واجب شرعاً وليس وراء الوجوب حكم سواه ، واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة نقلها المحقّق الخراساني بصورة السؤال والجواب.

الأوّل : أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الواجب الأهم ، ومقدّمة الواجب ، واجبة ، فلا يكون منهياً عنه لامتناع الاجتماع.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :

أوّلاً : أنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة إذا كانت مباحة لا محرمة ، وكون الواجب أهمّ من المقدّمة المحرّمة وإن كان يوجب وجوبها إلا أنّه فيما إذا لم يكن بسوء الاختيار ، ومعه لا يتغير عمّا هو عليه من الحرمة والمبغوضية.

توضيحه : انّ المقدّمة المحرّمة على أقسام ثلاثة :

١. أن لا تكون المقدّمة منحصرة بالحرام ، بل كان معها مقدّمة مباحة ، وعندئذ لا توصف المقدّمة المحرمة بالوجوب لعدم الانحصار ، وبالتالي عدم


التوقف عليه.

٢. أن تكون المقدمة منحصرة به ، ولكن لم يكن الابتلاء بها عن سوء الاختيار ، فلو كان الواجب أهمّ من حرمة المقدّمة ليطرأ عليها الوجوب ، كالمحبوس في مكان مغصوب إذا أُطلق سراحه فيكون الخروج واجباً على فرض وجوب ترك البقاء.

٣. تلك الصورة ولكن كان الابتلاء بسوء الاختيار كما في المقام ، فلا توصف المقدّمة بالخروج شرعاً وإن كان الواجب أهمّ من المقدمة ، غير أنّ العقل يحكم بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين.

وثانياً : لو قلنا بوجوب المقدمة ( الخروج ) في هذه الحالة يلزم أن تكون حرمة الخروج ووجوبها ، معلّقة على إرادة المكلّف ، فلو لم يدخل ، يبقى الخروج على حرمته ، لكونه من مصاديق الغصب ؛ وإن دخل ، صار واجباً بحكم كونه مقدّمة للواجب. (١)

والأولى أن يجاب بأنّ أصل الدليل باطل ، لأنّه مبني على وجوب « ترك البقاء » الذي مقدّمته الخروج ، مع أنّ الحكم الشرعي في المقام هو حرمة الغصب ، لا وجوب ترك البقاء ، اللّهم إلا إذا قلنا بأنّه إذا حرم الشيء ( البقاء بما أنّه من مصاديق الغصب ) ، وجب تركه أخذاً بالقاعدة المعروفة من أنّ حرمة الشيء تستلزم وجوب ضدّه العام ـ أي الترك ـ وقد عرفت في مبحث الضدّ عدم صحته.

* * *

الثاني : انّ التصرّف في أرض الغير حرام دخولاً وبقاءً ، وأمّا التصرّف الخروجي فليس بحرام ، أمّا قبل الدخول فلعدم التمكّن منه ، وأمّا بعده فلكونه

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥.


مضطرّاً إليه لانّه سبب للتخلص ، فحاله حال من يشرب الخمر للتخلص عن الوقوع في التهلكة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :

١. بالنقض بالبقاء فانّه غير مقدور قبل الدخول ، مع أنّه حرام ، وبالنقض بالأفعال التوليدية ـ كالإحراق ـ المترتّبة على الأفعال المباشرية ـ كالإلقاء ـ فإنّ تركها بتركها وإيجادها بإيجادها.

٢. بالحل فانّ التصرّف الخروجي مقدور ، غاية الأمر انّه مقدور بالواسطة ، فتركه بترك الدخول ، والمقدور بالواسطة مقدور أيضاً ، وكون ترك الخروج بترك الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع لا يضرّ في صدق المقدورية.

وإلى هذا الوجه أشار بقوله : « ضرورة تمكّنه من ( ترك الخروج ) قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره ، وبالجملة كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً غاية الأمر يتمكّن من الدخول بلا واسطة ، ومن الخروج بالواسطة ، ومجرّد عدم التمكّن منه إلا بالواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً.

٣. انّ قياس الخروج بشرب الخمر لأجل التخلّص من الهلكة قياس مع الفارق ، لأنّ اضطراره إلى شرب الخمر لم يكن بسوء الاختيار ، كما إذا لسعه العقرب فاضطرّ إلى شرب الخمر بتجويز الطبيب ، بخلاف المقام.

وإلى هذا الوجه أشار بقوله : « ومن هنا ظهر حال شرب الخمر ... ».

ونشير في المقام إلى نكتتين :

الأُولى : انّ الاستدلال والإجابة مبنيّان على أنّ كلا ًمن الدخول والبقاء ، والخروج متعلّقات للحرمة بعناوينها ، فعندئذ يُوجَّه استدلال الشيخ بأنّه كيف يكون الخروج حراماً ، مع أنّه غير مقدور؟ كما يوجّه إجابة المحقق الخراساني بأنّه


مقدور بالواسطة.

ولكن الحقّ أنّ هنا حكماً واحداً متعلّقاً بموضوع واحد ، وهو حرمة التصرف في مال الغير إذا كان بسوء الاختيار ، فكلّ من الدخول والبقاء والخروج ، حرام لأجل انّها من مصاديق التقلّب في مال الغير والتصرّف فيه ، لا بما أنّه دخول ، أو بقاء ، أو خروج ، فوصف التصرّف بهذه العناوين إنّما هو من جانب المكلّف لا من جانب الشارع ، وعندئذ يسقط البرهان ، ومع سقوطه لا يبقى مجال للإجابة.

الثانية : انّ الشيخ شبّه المقام بمن يضطرّ إلى شرب الخمر للنجاة من الهلكة ولكنّه في غير موقعه ، إذ في مورد الخمر حكمان شرعيان.

أ. وجوب حفظ النفس من الهلكة.

ب. حرمة شرب الخمر.

فإذا كان الأوّل أهمّ في نظر الشارع يقدّم حكمه على حرمة المقدّمة ( الخمر ). بخلاف المقام ، إذ ليس فيه إلا تكليف واحد وهو حرمة التصرّف في مال الغير ، وأمّا وجوب التخلّص من الغير ، أو ردّه إليه ، أو الخروج من المغصوب فكلّها أحكام عقلية مشتقة من حكم الشارع بحرمة الغصب ، فليس في المقام حكمان شرعيان يكون أحدهما أهمّ من الآخر.

* * *

الثالث : كيف يكون مثل الخروج ممنوعاً عنه شرعاً ومعاقباً عليه عقلاً ، مع بقاء ما يتوقّف عليه ( ترك البقاء أو التخلّص من الغصب ) على وجوبه ، لوضوح سقوط وجوب ذي المقدّمة مع امتناع المقدّمة المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار ، والعقل قد استقل فانّ الممنوع شرعاً كالممنوع عادة أو عقلاً؟

أقول : هذا هو الوجه الثالث الذي استدلّ به الشيخ على وجوب الخروج ، وأساسه هو تسليم وجوب « ترك البقاء » أو « التخلّص من الغصب » ومع فرض


وجوب ذيها ، لا تعقل حرمة المقدّمة ، تنزيلاً للممنوع الشرعي منزلة الامتناع العقلي.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :

١. إنّما يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً إذا لم يكن هناك إرشاد من العقل إلى لزوم الأخذ بأقل المحذورين والخروج ليتخلّص عن أشدّهما ، ومع حكم العقل بالخروج ، لا يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً.

يلاحظ على هذا الجواب : هو وجود التناقض بين ايجاب ذي المقدّمة شرعاً ( وجوب التخلّص ) وتحريم مقدّمتها ، فانّ إيجاب ذيها ، يلازم إيجاب مقدّمتها ، أو لا أقل من عدم تحريم المقدّمة ، فإيجاب ذيها مع تحريم مقدّمته ممّا لا يجتمعان.

٢. انّ الخروج عن هذا المأزق ـ لا يصحّ إيجاب الشيء مع تحريم مقدّمته ، وانّ ارشاد العقل إلى الخروج غير كاف ـ كما يتحقّق بتحليل المقدّمة ( الخروج ) ، يتحقّق بنحو آخر أيضاً وهو سقوط وجوب ذيها ، أعني : « وجوب ترك البقاء » أو « التخلّص من الغصب » ، وبكلمة جامعة سقوط « حرمة الغصب » بعد الدخول للعصيان فانّه أحد أسباب سقوط التكليف ويتبعه عدم وجوب المقدّمة ، مع بقاء حكم العقل بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين كما حقّقناه.

إلى هنا تمّت دراسة القول الثاني ، وإليك دراسة القول الثالث وهو قول صاحب الفصول.

القول الثالث : مأمور به ، ومنهي بالنهي الساقط

ذهب المحقّق صاحب الفصول إلى قول ثالث مركّب من جزءين :


١. الخروج مأمور به وواجب شرعاً.

٢. انّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط.

فقد وافقه الشيخ الأنصاري في الجزء الأوّل ، كما وافقه المحقّق الخراساني في الجزء الثاني ، فلو كان هنا ردّ عليه من المحقّق الخراساني ، فلابدّ أن يتوجّه إلى الجزء الأوّل دون الثاني ولذلك ردّ على الأوّل بأُمور :

أ : ما قد مرّ في دراسة نظرية الأنصاري أنّه لا وجه لوجوب الخـروج شرعاً.

ب : انّه يستلزم اتصاف فعل واحد ( الخروج ) بعنوان واحد بالوجوب والحرمة.

فإن قلت : إنّه لا مانع من اجتماع حكمين مختلفين ، لاختلاف زمان تعلّقهما ، لأنّ زمان تعلّق الحرمة هو قبل الدخول ، وزمان تعلّق الوجوب بعد الدخول والتصرف في الأرض.

قلت : لا ينفع اختلاف زمان التعلّق ، مع اتّحاد زمان الفعل المتعلّق به ، وإنّما المفيد ، اختلاف زمان الفعل ولو مع اتحاد زمانهما ، فلو نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة ، وأمر يوم الخميس بصوم ذلك اليوم ، لزم التكليف بالمحال ، وإن كان زمان التعلّق مختلفاً ، بخلاف ما لو أمر ونهى ـ ولو في آن واحد ـ بصوم يوم الخميس ونهى عن صوم يوم الجمعة ، والمقام من قبيل القسم الأوّل ، لأنّ الدخول منهي عنه بالنهي السابق على الدخول ومأمور به بالأمر اللاحق بعد الدخول فزمان التعلّق وإن كان مختلفاً ، لكن زمان الفعل والامتثال واحد.

فإن قلت : إنّ النهي مطلق يعم الحالات الثلاث : الدخول والبقاء والخروج ، والأمر بالخروج مشروط بالدخول ، فلا منافاة بينهما.


قلت : كيف لا منافاة بينهما ، مع أنّ المأمور به ، قسم من المنهي عنه ، وشمول إطلاق المنهيّ عنه لخصوص الخروج بعد الدخول ، ينافي كونه واجباً بالخصوص.

هذا توضيح مقالة المحقّق الخراساني ، حول نقد القول الثالث لصاحب الفصول.

أقول : ما أفاده من أنّه لا دليل على وجوب الخروج حق لا غبار عليه ، إنّما الكلام فيما ذكره من امتناع كون الخروج محرّماً بالنهي السابق الساقط وواجباً بعد الدخول لاستلزامه طلب المحال. ذلك لأنّه إنّما يلزم طلب المحال لو كان النهي باقياً في ظرف امتثال الأمر بالخروج ، وأمّا إذا كان ساقطاً في نفس ذلك الظرف فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

وما ذكره من أنّ الميزان في الصحة والامتناع اختلاف زمان الفعل والامتثال ووحدتهما وإن كان صحيحاً ، لكن وحدة المتعلّق إنّما تكون سبباً للامتناع إذا كان كلا الحكمين باقياً إلى زمان الامتثال ، دونما إذا كان أحدهما ساقطاً بالعصيان ـ كما في المقام ـ أو بالنسخ كما في غيره.

والمقام نظير ما لو أمر يوم الأربعاء بصوم يوم الجمعة ، ونهى عنه يوم الخميس ، ومع ذلك نَسخ أحد الحكمين قُبيل ظرف الامتثال.

وجريان حكم المعصية ، ليس بمعنى بقاء الخطاب والحكم ، بل بمعنى انّه كان قبل الدخول قادراً على امتثال « لا تغصب » بأقسامه الثلاثة ، ولماعصى باختياره ، يعاقب على الخروج لأجل أنّه بالدخول ، أعجز نفسه عن امتثال الخطاب في مورد هذا المصداق ، وهذا غير بقاء الخطاب والحكم في حال الخروج.


فإن قلت : انّ الخروج إن كان مشتملاً على المفسدة امتنع تعلّق الأمر به ، وإن كان مشتملاً على المصلحة امتنع تعلّق النهي به.

قلت : قد مرّ أنّ المصالح والمفاسد ، ليست من الأعراض القائمة بالفعل حتّى يمتنع اجتماعهما في الموضوع كالبياض والسواد ، وإنّما هي جهات خارجية راجعة إلى حياة الفرد والمجتمع ، ولا مانع من أن يكون الشيء ذا مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أُخرى.

إلى هنا تبيّن حال القول الثالث ، فلندرس القول الرابع وهو قول أبي هاشم الجبائي والمحقّق القمي.

القول الرابع : انّه مأمور به ومنهيّ عنه

ذهب أبوهاشم الجبائي ( المتوفّى ٣٢١ هـ ) والمحقّق القمي ( المتوفّى ١٢٣١ هـ ) إلى أنّ الخروج مأمور به ومنهي عنه وكلاهما فعليان.

وقد استدلّ لهذا القول ـ كما نقله المحقّق الخراساني في آخر كلامه حول هذا القول ـ بأنّ الأمر بالتخلّص ، والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للتقييد عقلاً ، لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين ( التخلّص والغصب ).

إذ منشأ الاستحالة :

إمّا لزوم اجتماع الضدين ، وهو غير لازم مع تعدّد الجهة.

وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهو ليس بمحال إذا كان مسبباً عن سوء الاختيار.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه :


أوّلاً : من لزوم التقييد وتقديم أحدهما على الآخر ، فيما إذا تعدّد العنوان ، والجهة حقيقة ، كما إذا تعلّق الأمر بعنوان الصلاة ، والنهي بعنوان الغصب ، وإلا يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد وهو الفعل الخارجي لتعلّق الأحكام بالمصاديق دون العنوانين.

ثانياً : لو قلنا بالجواز هناك فلا نقول بالجواز في المقام لعدم تعدد الجهة ، وذلك لأنّ عنوان التخلّص ليس عنواناً تقييدياً حتّى يتعلّق الأمر به والنهي بالغصب وإنّما هو عنوان انتزاعي ، ينتزع من خروج الغاصب عن أرض الغير ، وهو علّة غائية وليس بموضوع للحكم ، كأنّ الشارع يقول أخرج لأجل التخلّص من الغصب فيلزم اجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد وهو الخروج.

وثالثاً : انّ التكليف بالمحال محال حتى وإن كان بسوء الاختيار ، وما ربّما قيل من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالمراد به انّه لا ينافي عقاباً وملاكاً ، لا انّه لا ينافي خطاباً وحكماً ، لوضوح قبح خطاب العاجز وإن كان السبب للعجز هو نفسه.

ورابعاً : انّ القاعدة لا صلة لها بالمقام ، وقد وردت في ردّ الأشاعرة حيث أنكروا القاعدة الفلسفية ، أعني : « الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، بأنّه يستلزم الجبر ، لأنّ تحقّق المعلول لو كان رهن وصوله إلى حالة الوجوب ، يخرج عن اختيار الفاعل ويستلزم الجبر.

فأُجيب بأنّ إيجاب المعلول ووصوله إلى حدّ اللزوم والوجوب لما كان باختيار الفاعل فلا يكون هذا النوع من الإيجاب والامتناع أمراً غير اختياري ، لأنّ الفاعل هو الذي أضفى على الممكن ـ عند إيجاده أو إعدامه ـ وصفَ الوجوب والامتناع باختياره فالفاعل ، فاعل موجِب ( بالكسر ) لا موجَب ( بالفتح ).


القول الخامس : ليس محكوماً بحكم فعلاً مع جريان المعصية

وهذا القول هو مختار المحقّق الخراساني وخيرة شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ وقد مرّ تفصيلاً فلا نعيده.

القول السادس : انّه منهي عنه ومأمور به بالترتّب

نقل السيد المحقّق البروجردي هذا الوجه في درسه الشريف ، وهو انّه منهي عنه ومأمور به بالترتّب ، فكأنّه قال : لا تغصب وهو يشمل الأقسام الثلاثة ، ثمّ قال : فإن عصيت بالدخول فأخرج.

يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين الترتّب والمقام ، وذلك : انّ في الترتّب أمرين يتعلّق أحدهما بالأهم والآخر بالمهم مقيّداً بعصيان الأوّل ولو تركهما يعاقب على كلا العصيانين.

وأمّا المقام فليس هنا إلا تكليف واحد وهو النهي عن التصرّف في ملك الغير ، بدون إذنه ، وأمّا الأمر بالخروج فهو حكم العقل ، ليدفع أشد المحذورين بأخفّهما ، دون أن يكون هنا حكم من الشرع متعلّق به.

تمّ الكلام في مسألة من توسط أرض الغير بلا إذن ، أو مع النهي ، في الموردين :

١. حكم الدخول ، ٢. حكم الخروج.

بقي الكلام في المورد الثالث وهو حكم العبادة حين الخروج ، وإليك دراسته :


المورد الثالث : حكم العبادة حين الخروج

إذا صلّى حال الخروج جامعة لسائر الشرائط فالمشهور هو القول بالصحّة عند ضيق الوقت والبطلان عند سعته.

ولكنّه لا ينطبق على القواعد ، لأنّه لو قلنا بجواز الاجتماع أو بالامتناع لكن قدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة هو الصحة مطلقاً ، ولو قدّمنا النهي فاللازم هو البطلان من دون فرق بين سعة الوقت وضيقه ، وعندئذ لا محيص من ذكر الصور المتصوّرة مع بيان مقتضى القاعدة فيها.

١. إذا قلنا بجواز الاجتماع وإمكان تمشّي القربة فالصلاة في الأرض المتوسطة مطلقاً دخولاً وبقاء وخروجاً صحيحة ، سواء كان بسوء الاختيار أو لا ، وإلى هذه الصورة أشار في الكفاية : « لا إشكال في صحة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع ».

٢. إذا كان الوقوع فيها لا بسوء الاختيار فالصلاة فيها صحيحة ، سواء أقلنا بجواز الاجتماع أم لا ، أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأجل سقوط النهي لأجل الاضطرار.

وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « وأمّا على القول بالامتناع فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا لسوء الاختيار ».

٣. إذا قلنا بالامتناع وكان الاضطرار بسوء الاختيار ، وقلنا بمقالة الشيخ من أنّ الخروج واجب ، وليس بحرام ، ولا يجري عليه حكم المعصية ، فالصلاة صحيحة لوجود الأمر وعدم النهي.

وإلى هذه الصورة أشار بقوله ومعه ( أي مع القول بالامتناع ) ولكنّها وقعت


في حال الخروج على القول بكونه مأموراً ، بدون إجراء حكم المعصية.

٤. إذا قلنا بالامتناع وقدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة الصحة ، وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي ... مع ضيق الوقت وأمّا السعة ففيها وجهان ».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المحقّق الخراساني حاول أن يطبِّق فتوى المشهور على التفصيل بين ضيق الوقت وسعته على هذه الصورة قائلاً :

بإمكان امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المباحة في سعة الوقت ، دون ضيقه بل ينحصر امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المغصوبة.

توضيحه : انّ مصلحة الصلاة في الأرض المغصوبة ـ على فرض تقديم الأمر على النهي ـ وإن كانت غالبة على ما فيها من المفسدة ، لكن الصلاة في غير تلك الدار خالية عن المفسدة ، فيكون أهمّ من الواجد لها ، وبما انّهما ضدّان يتوجّه الأمر الفعلي إلى الفاقد للمفسدة ، ويكون الواجد لها منهيّاً عنه ، بحجّة انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فتكون الصلاة في الأرض المغصوبة منهياً عنها ، ومحكومة بالبطلان لوجود النهي.

وهذا بخلاف الصلاة فيها مع ضيق الوقت فانّ انحصار الامتثال بالصلاة في الدار المغصوبة ينفي توجّه الأمر إلى الضدّ الأهم الفاقد للمفسدة ، فلا يكون هناك أمر بالضد الفاقد لها حتى يتولّد منه النهي عن الضد المهم.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من تقديم الأهم على المهم في باب التزاحم ، هو تقديم الأقوى ملاكاً ، على الأضعف ملاكاً ، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي والرعية ، فالعقل حكم بتقديم الأوّل ، وأمّا المقام فالمفروض أنّ الفردين ـ في سعة الوقت ـ متساويان في الملاك ، غير أنّ أحدهما يشتمل على المفسدة دون الآخر ،


والخلو عن المفسدة ، غير كون الخالي أهم من المشتمل عليها.

بل يمكن أن يقال : انّ المفروض هو تقديم ملاك الأمر على ملاك النهي وكون مصلحة الأوّل غالبة على مفسدة الآخر ، ولأجله لا تؤثر المفسدة لوجود المصلحة الغالبة ، وعندئذ تكون الصلاة في الدار المغصوبة ، مثل الصلاة في غيرها فلا مفسدة مؤثرة ، حتّى يجعل الفرد المشتمل عليها ، أضعف والخالي عن المفسدة أقوى.

٥. ويمكن أن يقال انّ تفصيل المشهور راجع إلى صورة خامسة لم يذكرها المحقّق الخراساني ، وهي إذا قلنا بالامتناع وكون الخروج منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط ، أو الحاضر وقلنا بتقديم ملاك النهي ، فالصلاة باطلة في سعة الوقت وضيقه ، لتقديم النهي على الأمر. وهذه الصورة لم يذكرها في الكفاية ، فإذا قدّم النهي تكون المفسدة غالبة على المصلحة ومن المعلوم انّها في سعة الوقت وأمّا في ضيقه ، فيقدّم الأمر ، لأجل قوله : « لا تسقط الصلاة بحال » فيقدّم على حرمة التصرّف في مال الغير لقوّة لسان دليل الأمر

وهذا بخلاف سعة الوقت ، إذ لا دليل ثالث حتّى يكون مؤثراً في تقديم الأمر على النهي فتكون التصرّفات المتّحدة مع الصلاة أمراً مبغوضاً ومنهيّاً عنه فلا أمر كما هو المفروض من القول بالامتناع وتقديم النهي.

حكم الخروج إذا تاب بعد الدخول

لو تاب العبد ـ بعد الدخول ـ وحاول أن يخرج من أقرب الطرق للتخلّص عن المعصية لا للتنزّه كالدخول ، فقد ذهب السيد البروجردي إلى عدم كونه منهياً عنه وصادراً عن معصية ، وذلك لأنّه إذا تاب عن تصرّفاته السابقة تكون تصرفاته


اللاحقة الاضطرارية بعد التوبة ، تصرفات غير مسبوقة بالمعصية المؤثرة ، فيصير حاله بالنسبة إلى التصرّفات الخروجية لأجل التخلّص كمن اضطرّ إلى الدخول ، فاختار الخروج ـ بعد رفع الاضطرار ـ للتخلّص من البقاء المحرم.

والحاصل : أنّ الخروج بما انّه من توابع الدخول فلو عدّ الدخول عصياناً وظلماً وتمرّداً على المولى تكون توابعه محكومة بحكمه ، وأمّا إذا تقلّب حكمه ـ بحكم انّ التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ـ فتكون توابعه أيضاً محكومة بحكمه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتصوّر فيما إذا عصى اللّه في حقوقه ، دونما إذا عصاه في حقوق الناس ، وأمّا إذا عصاهم وتجاوز على حقوقهم ، فلا تكفي التوبة والندامة مالم يُحصِّل رضاهم ، ومع تحصيله لا يبقى موضوع للبحث.

__________________

١. لمحات الأُصول : ٢٤٦ ؛ نهاية الأُصول : ٢٤٩.


التنبيه الثاني

قد ذكر المحقّق الخراساني في هذا التنبيه أُموراً ثلاثة :

١. لا تعارض ولا تزاحم بين خطابي : صلّ ولا تغصب على القول بجواز الاجتماع ، وأمّا على القول بالامتناع فهما من قبيل المتزاحمين يقدّم منهما الأقوى ملاكاً ، وليسا من قبيل المتعارضين كي يقدّم الأقوى دلالة ( الجمع الدلالي ) أو الأقوى سنداً ، وقد أفاض المحقّق الخراساني الكلام في ذلك في الأمر التاسع فلا وجه للتكرار هنا ، وقد أشبعنا الكلام فيه كما قلنا : إنّ التزاحم في مصطلح المحقّق النائيني ـ الذي اخترناه ـ غير المصطلح في لسان المحقّق الخراساني.

٢. لو قلنا بالامتناع ، وقدّمنا النهي فلا يلازم بطلانَ الصلاة في موارد الأعذار ، كما إذا صلّى في المغصوب جاهلاً به ، وقد أفاض الكلام فيه في الأمر العاشر ، وقد أوضحنا حاله.

وحاصل ما قلنا هناك : إنّه فرق بين أن يقول من أوّل الأمر « لا تصلّ في الدار المغصوبة » فيخرج الصلاة فيها عن إطلاق قوله : « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل » ، فلا تصحّ الصلاة عند طروء الأعذار كالنسيان ، لأنّ التقييد أو التخصيص آية عدم وجود الملاك في مورد فقد القيد أو في الخارج عن العام ؛ وبين أن يقول : « صلّ » و « لا تغصب » فالصلاة على الإطلاق وفي كلّ مكان ، مشتملة على الملاك ، مثل الغصب في كلّ مكان ، وعند ذاك يطرأ التزاحم على المقتضيين المؤثّرين عند الامتثال فيقدم الأقوى منهما ملاكاً ، لو كان الخطابان


متكفّلين لحكم فعلي وإلا فلابدّ من الأخذ بالفعلي منهما.

ويترتّب عليه أنّه لو لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثراً لها ، لاضطرار أو جهل ، أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثّراً لها فعلا.

نظير المقام :

١. إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى.

٢. أو لم يكن واحد من الدليلين دالاً على الفعلية.

وبالجملة : وزان المقام ـ تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب ـ وزان التخصيص العقلي الناشئ من تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً ، والتقديم مختص بما إذا لم يمنع مانع عن تأثير المقتضي للنهي عنه كما في مورد الاضطرار ، أو مانع عن فعلية التأثير كما في صورة الجهل والنسيان ، فعندئذ تصح الصلاة ـ مع الأمر ـ وأُخرى بملاكه.

٣. إذا قلنا بالامتناع ودار الأمر بين تقديم أحد الحكمين ، فهل يقدّم النهي أو الأمر؟ وقد ذكروا لتقديم النهي وجوهاً ثلاثة ذكرها المحقّق الخراساني ، وهذا هو اللازم بالبحث في المقام ، وإليك تلك الوجوه :

الأوّل : النهي أقوى دلالة من الأمر

إنّ هذا المرجّح ـ أقوائيّة الدلالة ـ مرجّح في مقام الإثبات والدلالة ، كما أنّ المرجح الثاني ـ أي دفع المفسدة المترتبة على النهي أولى من جلب المنفعة المترتبة على الأمر ـ مرجِّح في عالم الثبوت والملاك ، وكان على المحقّق الخراساني تقديم الثاني على الأوّل حفظاً للترتيب الطبيعي للبحث ولكنّه قدّم الأوّل ، أي عالم الإثبات على عالم الثبوت ، ونحن نتبع أثره حفظاً لنظام البحث.


وتقرر قوّة الدلالة بالنحو التالي :

إنّ دليل النهي أقوى دلالة من دليل الأمر ، لأنّ مفاد النهي شمولي بخلاف مفاد الأمر فانّه بدلي.

أمّا كون الأوّل شمولياً فلانحلال النهي بانحلال موضوعه إلى أحكام فيكون كلّ تصرّف عصياناً مستقلاً لا صلة له بالتصرّف الآخر ، وهذا بخلاف الأمر فانّه بعث إلى الطبيعة ويكفي في وجودها وجود فرد واحد.

وعلى ضوء ذلك يتعيّن التصرف في جانب الأمر بإخراج الصلاة في الدار المغصوبة من تحته وإبقاء الصلاة في غيرها تحته من دون تصرّف في جانب النهي.

وأورد على الاستدل بأنّه لا فرق بين الدلالة الشمولية والدلالة البدلية إذا كان الدال عليهما هو الإطلاق الذي هو نتيجة جريان مقدّمات الحكمة فلا وجه لترجيح إحداهما على الأُخرى ، فكما يصلح النهي للتصرّف في الأمر ويكون الشمول قرينة على تقييد الأمر وإخراج ذلك الفرد من تحته ، فهكذا الأمر يصلح للتصرّف في النهي ويكون طلب فرد ما ، قرينة على إخراج فرد ما من الصلاة ، من تحت النهي.

وردّ الإشكال بأنّ الدلالة البدلية هو مفاد الإطلاق حيث إنّ المولى أمر بالطبيعة دون أن يعيّن الخصوصية فيكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد ما ، وأمّا الدلالة الشمولية فليست مستندة إلى الإطلاق ، وذلك لأنّه لو كانت مستندة إلى الإطلاق لكان استعمال « لا تغصب » في بعض أفراد الغصب حقيقة ، لعدم جريان مقدّمات الحكمة لأجل القرينة ، فلا يكون هناك دالّ على الشمول ، وبالتالي لا يكون استعماله في بعض الأفراد استعمالاً له في غير ما وضع له. مع أنّ كون استعماله فيه حقيقة واضح الفساد.


بل الشمول مستند إلى دلالة العقل ، وهي انّ الطبيعة لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها ، فعندئذ تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية لقوّة الدلالة العقلية على الدلالة الإطلاقية.

ثمّ إنّ المحقق الخراساني نصر المستشكل الأوّل وردّ الإشكال عليه بما هذا توضيحه : إنّ دلالة النفي أو النهي على العموم والاستيعاب أمر لا ينكر إلا أنّ سعة العموم والشمول تابع لما يراد من مدخولهما ومتعلّقهما ، وعندئذ تختلف سعة الشمول حسب اختلاف المتعلّق.

فلو أُريد من المتعلّق الطبيعة المطلقة فيدل النفي والنهي على سعة دائرة الشمول ، وأمّا إذا أُريد من المدخول الطبيعة المقيّدة فيتوجه النفي والنهي على الطبيعة المقيّدة ، فالسعة والضيق في جانب النفي والنهي رهن سعة المتعلّق وضيقه وهما فرع جريان مقدّمات الحكمة فيه.

ويتّضح الأمران في المثالين التاليين :

١. لا رجل في الدار.

٢. لا رجل عادل في الدار.

فتجد أنّ النفي في الأوّل أوسع دائرة من النفي في الثاني ، ويعود ذلك إلى سعة المتعلّق وضيقه ، فإذا اتّضح ذلك ، نقول : إنّه لا فرق بين الدلالة البدلية والشمولية في الأقوائية ، لأنّ البدل كما هو نتيجة الإطلاق فهكذا الشمول هو نتيجة إجراء مقدّمات الحكمة ، حيث أخذ المولى الطبيعة المطلقة متعلّقة بالنهي من دون قيد ولو كان المراد هو الطبيعة المقيّدة لكان عليه الإتيان بالقيد.

هذا ما أفاده في الكفاية.


ثمّ إنّه 1 احتمل احتمالاً ضعيفاً أشار إلى ضعف الاحتمال بقوله : « اللّهم ». (١)

وحاصل الاحتمال : أنّ المخاطب في استفادة الشمول لفي غنى عن إجراء مقدّمات الحكمة ، وذلك لأنّ مكانة النهي والنفي في لغة العرب كلفظة كلّ في كلّ رجل ، فكما أنّ استفادة الشمول في الثاني غير موقوف على إجراء مقدّمات الحكمة في متعلّقه ( رجل ) بل السامع ينتقل إلى السريان والشمول لأجل لفظة كلّ ، فهكذا المقام ، حيث إنّ دلالة النفي والنهي على الشمول والاستيعاب تُغني المخاطب عن اجراء مقدمات الحكمة ، وهذا هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله :

اللّهمّ إلا أن يقال : إنّ في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق كما ربّما يدعى ذلك في مثل « كلّ رجل » وانّ مثل لفظة « كل » يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة ، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة. (٢)

ومع أنّ المحقّق الخراساني ـ حسب ما أفاده أخيراً ـ قوّى ( الأمر الثالث ) أي الإشكال ، على الإشكال ، لكنّه لم يقبل دليله من أنّه لو كان الشمول مستفاداً من الإطلاق لكان استعمال مثل « لا تغصب في بعض الأفراد حقيقة ... » بل اعترف بكونه حقيقة على جميع المباني ، سواء قلنا بأنّ الشمول مستند إلى مقدّمات الحكمة فواضح ، لعدم جريانها مع وجود القرينة ولا على القول بأنّ دلالته على الشمول بالالتزام أو بالوضع ، لأجل تعدّد الدال والمدلول بمعنى انّ الخصوصية مستفادة من القرينة لا من استعمال قوله : « لا تغصب » في بعض الأفراد كما سيوافيك

__________________

١. وقد أيّده المحقّق البروجردي في درسه الشريف ، لاحظ لمحات الأُصول : ٣٠٧.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٢٧٦.


توضيحه في فصل « انّ العام بعد التخصص حقيقة وليس بمجاز ».

وأنت خبير بضعف ما احتمله ، إذ لا فرق بين النفي والنهي ولفظة « كلّ » في أنّ استفادة السعة والضيق تابع لسعة المتعلّق وضيقه ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : انّه كان في وسع المكلّف تقييد المتعلّق في جانب النفي والنهي ، ومع التقييد تضيق دائرة الشمول ، والدالّ على عدم القيد هو الإطلاق بإجراء مقدّمات الحكمة ، فالاشكال على الاستدلال متوجّه.

نعم يرد على الاستدلال بأنّه انّما تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية إذا كانت الأُولى وضعية والثانية إطلاقية ، فإذا قال المولى : لا تكرم الفسّاق ، وقال : أكرم عالماً ، فبما أنّ دلالة الأوّل على الشمول بالدلالة اللفظية ، أعني : الجمع المحلّى باللام ، ودلالة الثاني على كفاية فرد من أفراد الطبيعة ، بالدلالة العقلية ، فلا مناص من تقديم الدلالة الوضعية على الدلالة العقلية عند التّعارض في العالم الفاسق ، لأقوائية الوضعية وعدم توقّف تمامية دلالتها على شيء ، بخلاف الدلالة العقلية ، فانّها فرع عدم ما يصلح للقرينيّة ، والوضعية صالحة لها ، وأمّا الشمولي والبدلي الإطلاقيان كما في المقام ، فكلّ منهما يصلح للتصرّف في الآخر ، فلا مرجّح للتقديم.

الثاني : دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة

وحاصل هذا الدليل أنّ في امتثال الأمر جلب المصلحة وفي مخالفة النهي وجود المفسدة ، فإذا دار الأمر بين كون شيء واجباً أو حراماً فقد دار الأمر بين حيازة المصلحة ودفع المفسدة ، فترك الفعل لأجل دفع المفسدة المحتملة أولى من امتثاله لجلب المصلحة المحتملة.


أقول : الدليل مؤلّف من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : فهي عبارة عن اشتمال الأمر على المصلحة دون أن يكون في تركه مفسدة ، واشتمال النهي على المفسدة.

وأمّا الكبرى : وهي أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة كذلك ، ولكن كلاً من الصغرى والكبرى ليسا بتامّين.

المناقشة في الصغرى

وقد ناقش المحقّق القمّي في الصغرى بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الواجب ولو كان معيّناً ليس إلا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة ، كما انّ الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه. (١)

وحاصل الإيراد : انّ الواجب يشتمل على المصلحة من دون أن يكون في تركه مفسدة والحرام على العكس.

يلاحظ على كلام المحقّق الخراساني بأنّ المراد من المصالح والمفاسد هو الأعم من الفردية والاجتماعية ، وعلى ذلك فربّما يكون في ترك الواجب مفسدة عظمى كما في ترك الجهاد فانّه يوجب الذُّلّ والهوان وسيطرة العدو على النفوس والأموال ، وأيّ مفسدة أعظم من ذلك؟!

قال أمير المؤمنين 7 : « فواللّه ما غُزِي قوم في عُقِرَ دارهم قط إلا وقد ذلّوا ». (٢) ، ومثله ترك الزكاة فانّ في تركها إيجاد الفوضى واتّساع دائرة الفتنة وفقدان

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٧٧.

٢. نهج البلاغة : الخطبة ٢٧.


الأمن المالي.

قال أمير المؤمنين 7 : « ما جاع فقير إلا بما متِّع به غني ». (١)

إلى هنا تبيّن أنّ الصغرى ليست بتامّة ، وانّ المفسدة موجودة في كلا الطرفين : فعل الحرام وترك الواجب ، والحقّ مع المحقّق القمي 1.

المناقشة في الكبرى

وحاصل الكبرى : انّ دفع المفسدة المتيقّنة والمحتملة أولى من جلب المنفعة المتيقنة والمحتملة ، وقد ناقشها المحقّق الخراساني بوجوه ستة نذكرها بتوضيح :

١. انّ الواجبات والمحرّمات ليست على وزان واحد فربّ واجب يكون في تركه أشد المجازات كالفرار من الزحف ، وربّ حرام لا يكون مثل ذلك كالنظر إلى الأجنبية ، فلو دار الأمر بين الفرار من الزحف ، والنظر إلى الأجنبية فلا يصحّ أن يقال : انّ ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فليس في المقام ضابطة كلية.

٢. انّ القاعدة أجنبية عن المقام ، فانّه فيما إذا دار الأمر بين الواجب والحرام [ الحتميّين ] كما إذا دار الأمر بين ركوب الطائرة المغصوبة ، والحجّ ، ففي مثله يرجع إلى القاعدة ، لا في المقام الذي ليس هنا إلا أحد الحكمين إمّا الوجوب أو الحرمة ، فلا موضوع للقاعدة. هذا حسب ما في الكفاية ، ولكنّه أوضحه في الهامش بقوله : إنّ الترجيح بهذه القاعدة إنّما يناسب ترجيح المكلّف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه لا المقام وهو مقام جعل الأحكام فانّ المرجع هناك ليست إلا حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة الأغراض ومخالفتها.

توضيح كلامه : أنّ ملاكات الأحكام على قسمين :

__________________

١. نهج البلاغة ، قصار الحكم ، برقم ٣٢٨.


أ. ملاك التشريع ومناط جعل الحكم فهو ينحصر بالحسن والقبح فيحكم بوجوب الأوّل وحرمة الثاني.

ب. المصالح والمفاسد التي ترجع إلى المكلفين. ولكلّ من الملاكين مقام خاص ، فلو كان الشك راجعاً إلى نفس الحكم الشرعي وما هو المجعول كما هو الحال في المقام حيث إنّ الشكّ مركز على أنّ المجعول في الصلاة في الدار المغصوبة هو الوجوب أو الحرمة ففي مثله لا يرجع إلى القاعدة ( دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ).

نعم لو كان الحكم الشرعي معلوماً ودار الأمر بين ترك الواجب وفعل الحرام ففي مثل ذلك يتمسّك بالقاعدة كما إذا دار الأمر بين الحجّ وركوب الطائرة المغصوبة ، فعندئذ يقال : « ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة ».

إلى هنا تمّت المناقشة الثانية ، وإليك سائر المناقشات التي أوردها في « الكفاية ».

٣. ولو سلّم فإنّما يجدي لو حصل القطع.

أي انّ مورد القاعدة فيما إذا قطع بالأولوية لا ما إذا ظن ، وليس في المقام أيُّ قطع بالأولوية ، لما عرفت من أنّه ربما يكون جلب المنفعة المحتملة أولى من دفع المفسدة كذلك.

٤. ولو سلّم انّه يجدي ولو لم يحصل اليقين فإنّما تجري فيما يكون العلم الواقعي فعلياً على كلّ تقدير ولا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعينيين لا فيما يجري كما في المقام لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته.

توضيحه : انّ مصب القاعدة هو ما إذا كان الحكم الواقعي المردد بين


الوجوب والحرمة فعلياً على كلّ تقدير ، بحيث نعلم أنّ المولى يطلب امتثاله ، ففي مثله لا موضوع للبراءة للعلم القطعي بوجود الحكم الفعلي على كلّ تقدير كما في المرأة المرددة بين كونها زوجة على رأس أربعة أشهر أو أجنبية ، فتصل النوبة إلى القاعدة فيؤخذ بما فيه دفع المفسدة ويترك ما فيه جلب المنفعة.

وأمّا المقام فتجري البراءة في أحد الطرفين ، أعني : الحرمة دون الوجوب محال ، أمّا عدم جريانها في جانب الوجوب للعلم القطعي بعدم سقوط وجوب الصلاة ، ولو في ضمن المكان المباح ، وأمّا جريانها في جانب الحرمة فبما انّه تُحتمل مساواة الملاكين ، فلا يكون هنا علم بالحرمة الفعلية ، لأنّ احتمال تساوي الملاكين يلازم احتمال عدم فعليتها فيصلح لأن تقع مجرى لها.

٥. ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشكّ في الأجزاء والشرائط فلا يلزم القول بالاشتغال في المقام فانّه لا مانع عقلاً إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً.

توضيحه : انّه لو قيل إنّ الأصل عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ـ ككون السورة جزءاً من الصلاة أو لا ـ هو الاشتغال وبطلان الصلاة بدونها ، لما كان دليلاً على القول بالاشتغال وبطلان الصلاة في المقام ، وذلك لوجود المقتضي للصحة في المقام وهو الأمر وليس المانع إلا الحرمة المرفوعة بأصل البراءة ، بخلاف الشكّ في كمّية الأجزاء والشرائط فلا علم بالصحة لاحتمال وجوب الشيء المشكوكة جزئيته.

وحاصل الفرق بين المقام : هو وجود العلم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء والشرائط في المقام وإنّما الشكّ في مانعية الغصب ، وهي مرفوعة بالأصل ، فالمقتضي موجود ، والمانع مرفوع.


وهذا بخلاف الشكّ في الجزئية والشرطية فليس هناك علم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء والشرائط ، بل يحتمل كون السورة جزءاً ، فيكون المأتي به ناقصاً من حيث كونه جامعاً للأجزاء والشرائط ، وتوهم أنّ أصل البراءة رافع للجزئية على فرض ثبوتها مدفوع بأنّ الرفع الظاهري لا ينافي الجزئية الواقعية على فرض ثبوتها في الواقع فتكون الصلاة ناقصة. فتأمّل.

فإن قلت : إنّ الشكّ في المانعية والجزئية من باب واحد ، فأصل البراءة رافع للمانعية والجزئية في الظاهر دون الواقع ، فلو كان المشكوك مانعاً واقعاً ، يكون المأتي به ناقصاً من حيث اقترانه بالمانع.

قلت : المفروض انّ المانع هو المبغوضية المحرزة لا المبغوضية الواقعية ، كما أشار إليه بقوله : « فانّه لا مانع عقلاً إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عقلاً أو نقلاً » ، فإذا لم تكن محرزة يكون عدم المبغوضية قطعياً ، بخلاف جزئية الجزء أو شرطية الشرط ، فالجزء بما هو جزء والشرط بما هو شرط مأخوذان في المتعلّق ، فأصالة البراءة لا تؤثر في انقلاب الواقع على فرض وجوده.

٦. نعم لو قلنا بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن الغلبة محرزة فأصالة البراءة غير مجدية ، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب ـ لو كان عبادة ـ محكّمة حتّى لو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط ، لعدم تأتي قصد القربة مع الشكّ في المبغوضية.

حاصله : انّ التفكيك بين المقام والشك في الجزئية والشرطية ، مبنيّ ـ كما تقدم ـ على أنّ المفسدة الغالبة المحرزة مانعة من الصلاة ، فعدم إحرازها يكفي في الحكم بصحّة الصلاة ، وعدم اقترانها بالمانع واقعاً ، وأمّا إذا قلنا بأنّ المفسدة بوجودها الواقعية الغالبة مانعة وإن لم يعلم بها المكلّف ، فعندئذ ، تكون النتيجة


معكوسة ، فلا يجدي الأصل في المقام وإن قلنا به في الشك في الجزئية والشرطية.

وذلك لأنّها لو كانت المفسدة الواقعية مطلقاً مانعة فبما أنّها محتملة في المقام ، فلا يتمشّى قصد القربة ، إذ كيف يمكن التقرّب القطعي بشيء يحتمل أن يكون مبغوضاً للمولى؟! فتكون أصالة الاشتغال محكّمة.

هذه هي الوجوه الستة التي أوردها صاحب الكفاية على القاعدة أوردناها بإيضاح لقصور عبارة الكفاية في المقام في إفادة المقصود.

المرجّح الثالث : الاستقراء

استدلّ القائل بتقديم جانب الحرمة بأنّ الاستقراء يشهد على أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب فيما إذا دار الأمر بين المحذورين وأشار إلى موردين :

١. أيّام الاستظهار ـ بعد تمام العادة وقبل العشرة ـ حيث أمر الشارع بترك العبادة مع أنّ الأمر يدور بين الوجوب والحرمة.

٢. إذا كان الإنسان محدثاً ، وابتلى بإنائين مشتبهين فقد أُمِر بإهراقهما والعدول إلى التيمم ، مع دوران الأمر بين وجوب الوضوء مقدّمة للصلاة وحرمة التوضّؤ بالماء النجس.

يلاحظ على الاستدلال :

إنّ الاستقراء كما يستفاد من تعريفه ، تصفح الجزئيات حتّى ينتقل الباحث منه إلى الحكم الكلّي وإفادته الظن أو القطع تابع لمقدار التتبع وكثرته ، وأمّا تتبع مورد أو موردين فلا يفيد الظن ، فكيف القطع؟! مضافاً إلى أنّ ترجيح جانب الحرمة في هذين الموردين ، لوجود دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي ذلك الجانب.


أمّا الأوّل : فلأنّ الاستظهار ـ أيّ ترجيح جانب الحرمة ـ لأجل الدليل الحاكم على أنّ الدم المشكوك ، دم حيض ، والدليل إمّا الاستصحاب ، أو قاعدة الإمكان وانّ كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض.

هذا كلّه حول المورد الأوّل ، وأمّا المورد الثاني أي عدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين فقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :

١. تقديم النهي فيه تعبّدي يختصّ بمورده

إنّ فرض المورد من قبيل دوران الأمر بين المحذورين إنّما يتم إذا قصد بالتوضّؤ بالماء الذي لم تحرز طهارته امتثالَ الأمر الواقعي فيوصف التوضّؤ بالحرمة التشريعية ، فيدور أمر الوضوء بين الحرمة لأجل التشريع ، والوجوب لكونه مقدّمة للصلاة.

وأمّا إذا توضأ بكلّ من الماءين رجاء ومن باب الاحتياط فلا يحرم ، وبالتالي يخرج المورد عن باب دوران الأمر بين المحذورين ، فتقديم النهي في هذه الصورة لأجل النصّ تعبديٌّ يختص بمورده.

٢. تقديم النهي لأجل عدم الابتلاء بالنجاسة

وحاصل الجواب انّه لو توضّأ بالماءين المشتبهين ربّما تحصل له الطهارة من الحدث ، في بعض الصور (١) ، لكنّه يبتلي بالنجاسة الخبثية القطعية ، والمقرر في محلّه انّه إذا دار الأمر بين الطهارة الحدثية والنجاسة في البدن أو الثوب ، تُقدّم الطهارةُ من الخبث على الطهارة من الحدث ، مثلاً إذا كان محدثاً وكان بدنه أو ثوبه الساتر

__________________

١. كما في الصورة الثانية في الصورة الآتية ، عن قريب.


أيضاً نجساً وكان الماء الموجود لا يكفي إلا لواحد منهما ، يُقدّم تطهير البدن والثوب على الوضوء والغسل ، وما هذا إلا لأنّ للطهارة من الحدث بدلاً وهو التيمم دون الأُخرى أي الطهارة من الخبث ، وقد قُرِّر في باب التزاحم أنّه إذا دار الأمر بين أمرين لأحدهما بدل دون الآخر يقدّم الثاني على الأوّل.

ومثله المقام فانّ الوضوء بماءين مشتبهين وإن كان ربّما يحصّل الطهارة من الحدث ولكنه يورث نجاسة البدن للقطع بنجاسة الأعضاء عند صبّ الماء الثاني إمّا بالماء الأوّل أو بالثاني ـ كما سيوافيك تفصيله ـ فعند الدوران تقدّم الطهارة من الخبث ، على الطهارة من الحدث ، فيترك الوضوء ويتيمّم ، فتقديم جانب النهي لأجل هذا الدليل المقرّر في محلّه لا من باب أنّه إذا دار الأمر بين الأمر والنهي يقدّم النهي مطلقاً مع غض النظر عن الدليل كما هو المدّعى.

هذا هو الجواب الواقعي ، وقد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : « من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً ... ».

دراسة أقسام التوضّؤ بماءين مشتبهين

ثمّ إنّ للتوضّؤ بالماءين المشتبهين صوراً ثلاثاً أشار إليها في « الكفاية » ، وإليك إيضاحها على ضوء ما في الكفاية.

الأُولى : ما أشار إليه بقوله : « أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضّأ من الإناء الثاني ، إمّا بملاقاته ، أو بملاقاة الأُولى وعدم استعمال مطهر بعده ».

توضيحها : إذا توضّأ بكلا الماءين من دون أن يتخلّل بين الوضوءين تطهير الأعضاء بالماء الثاني ، فعند صب الماء الثاني على الوجه يقطع بنجاسة الوجه واقعاً


تفصيلاً إمّا لأجل استعمال الماء الأوّل وعدم استعمال مطهر بعده ، أو باستعمال الماء الثاني.

نعم يحصل القطع بالنجاسة بصب الماء الثاني ، قبل انفصال الغسالة ، وقبل حصول تعدد الغسل فيما يحتاج إليه ، ثمّ يزيل القطع بها إلى الشك فيها ـ بعد الانفصال وحصول التعدد ـ لاحتمال كون الماء الثاني طاهراً فيحكم على العضو ـ بفضل الاستصحاب ـ بكونه نجساً ظاهراً فلا منافاة بين العلم بالنجاسة الواقعية ، ثم الظاهرية ، لتعدد زمان العلم والشك.

الثانية : ما أشار إليه بقوله : « ولو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى ».

توضيحها : انّ قوله « لو » في كلامه وصلية لا شرطية حاصله اشتراك الصورتين في العلم بالنجاسة الواقعية ، ثمّ الشكّ في بقائها ، والفرق بينهما هو انّه في الصورة الأُولى لا يطهر الأعضاء بخلاف هذه الصورة فانّه يطهرها ، وبالتالي يحصل العلم بالطهارة من الحدث في خصوص هذه الصورة كما أشرنا ، وذلك كما إذا توضّأ أوّلاً بأحدهما ثمّ غسل مواضع الوضوء بالماء الثاني ، ثمّ توضّأ بالماء الباقي في الإناء ، فعندئذ يحصل العلم بالنجاسة الظاهرية بحكم الاستصحاب ، وذلك لأنّه عند تطهير الأعضاء بالماء الثاني وصب الماء عليها قبل انفصال الغسالة الذي هو شرط التطهير بالماء القليل ، يحصل له العلم التفصيلي بالنجاسة ، إمّا لأجل استعمال الماء الثاني ، أو الأوّل ، واستعمال الماء الثاني وإن كان مطهراً لكن المفروض عدم حصول شرط التطهير ، أعني : انفصال الغسالة أو التعدد ، وبعد الانفصال يطرأ الشك في بقاء النجاسة ، لأنّه كما يحتمل أن يكون النجس هو الماء الثاني ، يحتمل أن يكون النجس هو الأوّل الذي ترتفع نجاسته باستعمال الماء الثاني وانفصال الغسالة ، وحيث إنّ الحالة غير معلومة يحكم


ببقاء ما علم عند الصب وقبل انفصال الغسالة ، فيكون العضو محكوماً بالنجاسة الظاهرية لأجل الاستصحاب. نعم يحصل العلم بالطهارة من الحدث ، مقرونة بالنجاسة الظاهرية.

الثالثة : ما أشار إليه بقوله : نعم لو طَهُرتْ على تقدير نجاستها بمجرّد الملاقاة بلا حاجة إلى التعدد ، وانفصال الغسالة ، كما لو كان كلّ منهما كرّاً ولكن كان أحدهما نجساً ، فلا يعلم تفصيلاً بنجاستها في وقت معين وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثانية إجمالاً ولا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكّمة.

توضيحها : انّه إذا كان الماء الثاني قليلاً يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين صب الماء الثاني وإن كان يطرأ الشكّ في ثباتها بعد انفصال الغسالة ، وأمّا إذا كان الماءان كرّين ولا يتوقف التطهير بهما على التعدّد أو انفصال الغسالة ، فلا يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين الملاقاة بالماء الثاني ، بل يعلم إجمالاً بأنّه صار نجساً إمّا بالملاقاة الأُولى أو بالثانية فلا مجال لاستصحابها.

وظاهر العبارة أنّ عدم جريان الاستصحاب لأجل عدم العلم تفصيلاً بنجاسة العضو في وقت معيّن ، بخلاف الصورة الأُولى والثانية ، حيث يعلم عند الصب وقبل انفصال الغسالة ، بنجاسة العضو ، فلو كان الاستصحاب غير جار في المقام تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة ، لأنّه مشكوك الطهارة والنجاسة ، فلو كان النجس هو الماء الثاني فهو نجس قطعاً ، ولو كان الماء الأوّل فهو طاهر كذلك ، وعند الجهل بحال الماءين ، يكون الملاقى مشكوك الطهارة والنجاسة فيحكم عليه بالطهارة حسب القاعدة.

يلاحظ عليه : بأنّ الظاهر انّه يحكم في الجميع بضد الحالة السابقة قبل توارد


الماءين عليه وبالتالي يحكم في المقام بنجاسة الأعضاء في عامّة الصور ، وذلك لأنّه يشترط في تأثير العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، بأن يكون الماء الطاهر ، مطهراً سواء تقدّم استعماله أو تأخّر ، والماء النجس منجِّساً كذلك ، وعندئذ يؤثر العلم الإجمالي ، لكن هذا الشرط موجود في استعمال الماء النجس دون استعمال الماء الطاهر واقعاً ، أمّا الأوّل فواضح فهو ينجس العضو سواء استعمله قبل الماء الطاهر أو بعده ، بخلاف الماء الطاهر فلو استعمله قبل الماء النجس ، لا يؤثر في العضو ، لأنّ المفروض طهارة العضو ، ولو استعمل بعد الماء النجس فهو وإن كان يؤثر في طهارة العضو لكن يكون محدثاً للتكليف على فرض دون فرض لا على جميع الفروض ، فالعلم بطروء الطهارة على العضو دائر بين كونه مؤثّراً وغير مؤثر ، محدثاً للطهارة ، وغير محدث ، فليس هنا علم بالطهارة المؤثرة المزيلة للنجاسة ، لاحتمال كون الطاهر هو الماء الأوّل ، بخلاف النجاسة فهناك علم تفصيلي بطروء النجاسة المؤثرة المزيلة للطهارة ، المشكوك بقاؤها فتستصحب.

ولذلك قلنا : إنّه يؤخذ بضد الحالة السابقة ، ومنه يعلم حال عكس المسألة ، أعني : إذا كان العضو نجساً واستعمل الماءان ، فيحكم بطهارة العضو بنفس البيان في المقام السابق ، فانّ الماء النجس غير مؤثر في كلتا الصورتين بل يؤثر استعماله إذا كان بعد استعمال الماء الطاهر ، وأمّا لو كان قبله فلا يؤثر في نجاسة العضو ، لأنّ المفروض كونه نجساً ، بخلاف الماء الطاهر فهو رافع للنجاسة ومؤثر في رفع النجاسة ، سواء استعمله قبل الماء النجس ، أو بعده.


التنبيه الثالث

هل تعدّد الإضافات كالإكرام المضاف إلى العالم والفاسق بالأمر بالأوّل والنهي عن الثاني كتعدّد العناوين والجهات أو لا؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل ، لأنّه لو كان اختلاف العناوين مجدياً مع وحدة المعنون كان تعدّد الإضافات مجدياً لأنّ المصالح والمفاسد تختلف حسب الإضافات والجهات وما يترآى من العلماء معاملة التعارض مع العموم من وجه ، لأجل البناء على الامتناع أو إحراز عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

ويظهر ذلك من الشيخ أيضاً قائلاً بأنّ العالم والفاسق طبيعتان متغايرتان فيلزم على المجوّز في مورد الصلاة والغصب ، التجويز فيهما.


الفصل الثالث

في كشف النهي عن الفساد (١)

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : قد اختلفت كلماتهم في عنوان الفصل فتارة يعبّرون عنه بقولهم :

هل النهي عن الشيء يقتضي فساده أو لا؟

وأُخرى :

هل النهي يدلّ على الفساد أو لا؟

والأوّل غير وجيه ، إذ ليس النهي مؤثراً في الفساد ، وإنّما هو دالّ عليه أو كاشف عنه ، والثاني منصرف إلى الدلالة اللفظية ، ولا يشمل استكشاف الفساد ، من الملازمة العقلية ، والأولى أن يعبّر بما صدّرنا به البحث من كشف النهي عن الفساد.

الثاني : يتبادر من عبارة « الكفاية » انّ المسألتين ( هذه المسألة والمسألة السابقة ) متحّدتان جوهراً ومختلفتان في الجهة المبحوث عنها ، فانّ جهة البحث في المقام هو دلالة النهي على الفساد ، وهي في المسألة السابقة ، هو انّ تعدد العنوان هل يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع أو لا؟

__________________

١. فيه مقامان : النهي عن العبادات ، والنهي عن المعاملات.


يلاحظ عليه : بأنّ المسألتين متميّزتان جوهراً قبل تميّزهما بالاغراض وجهـات البحث ، فأين قولنا : هل يجوز تعلّق الأمر والنهـي بشيئين مختلفين في مقـام التعلق ، ومتحدين في مقام الوجود ، أو لا؟ من قولنا : هل النهي يكشف عن الفساد أو لا؟ وقد مرّ أنّ لفظ الكشف جامع للدلالة اللفظية ، والملازمة العقلية.

هذا إذا قلنا بأنّ النزاع في المسألة السابقة كبروي ـ كما هو المختار ـ وأمّا إذا قلنا بأنّ النزاع فيها صغروي ـ كما هو مختار المحقّق الخراساني ـ بأن يقال : ـ بعد تسليم امتناع الكبرى ـ هل تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون أو لا؟ فهذا النوع من البحث غير ما هو المبحوث عنه في المقام.

والذي يعرب عن تمايز المسألتين بجوهرهما هو لزوم وجود الأمر في المسألة السابقة ، دون هذه المسألة ، بل يكفي وجود النهي سواء أكان معه أمر ـ كما في العبادات ـ أو لا كما في المعاملات.

نعم لو قلنا في المسألة السابقة بالامتناع ، وقدّمنا النهي على الأمر ، تكون نتيجة البحث في المسألة السابقة ، صغرى لهذه المسألة ، وأمّا لو قلنا بجوازهما ، أو قلنا بالامتناع لكن بتقديم الأمر على النهي ، فلا صلة بين المسألتين أبداً.

الثالث : انّ البحث في المسألة السابقة عقلي محض ، كما يعلم من براهين المجوّزين والمانعين ، وأمّا المقام ، فذهب المحقّق النائيني (١) تبعاً للشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار (٢) إلى أنّ البحث في المقام أيضاً عقلي ، كما أنّ المتبادر من المحقّق الخراساني أنّ البحث لفظي ، قال : لا يخفى انّ عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ إنّما هو لأجل انّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة. (٣)

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٤٥٥.

٢. مطارح الأنظار : ١٦١.

٣. كفاية الأُصول : ١ / ٢٨٣.


والأولى أن يقال : إنّ وصف البحث بأحد العنوانين ، تابع لكيفية البرهنة والاستدلال عليه.

فإن قلنا بدلالة لفظ النهي على الفساد ، فيكون البحث لفظياً ، وإن قلنا بوجود الملازمة العقلية بين الحرمة والفساد ، يكون البحث عقلياً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما استظهر كون النزاع لفظياً ، أورد إشكالاً ثمّ أجاب عنه ولما كان الإيراد والجواب مبهمين نأتي بتوضيحهما.

أمّا الإشكال فحاصله : انّ الملازمة بين الحرمة والفساد إما ثابتة أو لا ، فعلى الوجه الأوّل يكون النزاع عقلياً ، وعلى الوجه الثاني تكون الملازمة منتفية ، فلم يبق لكون النزاع لفظياً أو عقلياً ملاك.

وحاصل الجواب : انّ وجود الملازمة عبارة أُخرى عن دلالة النهي على الفساد عن طريق الدلالة الالتزامية وهي عند المنطقيين دلالة لفظية ، وإن كانت عند علماء البيان دلالة عقلية فالنزاع على القول بالملازمة لفظيّ أيضاً.

يلاحظ عليه : بأنّه لم يدفع الإشكال بحذافيره وإنّما دفعه عند وجود النهي اللفظي فصار البحث لفظياً حتّى على القول بالملازمة بين الحرمة والفساد ، ولكن المورد أعمّ ، إذ ربّما لا يكون لفظ في المقام وإنّما دلّ الإجماع على التحريم دون وجود أيِّ لفظ فالفساد ثابت ومتحقّق دون أن تكون هنا دلالة لفظيّة.

الرابع : لا شكّ أنّ المسألة أُصولية ، لأنّ نتيجة البحث تقع كبرى للاستنباط ، فلو قلنا بدلالة النهي على الفساد ، أو قلنا بالملازمة بين الحرمة والفساد أو بين النهي والفساد تكون العبادات والمعاملات المنهية فاسدة لا يترتّب عليها الأثر المقصود ، فإذا قال : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه » أو قال : « لا تبع ما ليس عندك » وقلنا بدلالة النهي على الفساد ، أو قلنا بالملازمة


العقلية ، تكون النتيجة فساد الصلاة والبيع ، فلا تكون الصلاة مسقطة للقضاء والإعادة كما لا يكون البيع سبباً لخروج المبيع عن ملك البائع ودخوله في ملك المشتري والثمن على العكس.

فإن قلت : قد مرّ في المقدّمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول أنّ الفرق بين القاعدة الأُصولية والقاعدة الفقهية هو أنّ المحمول في الثانية حكم شرعي ، نظير قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر » أو قوله : « لا تعاد الصلاة إلا في خمس » وأمّا المسألة الأُصولية فالمحمول فيها هو الحجّية وعدمها كالبحث عن حجية الخبر الواحد والإجماع والشهرة ، أو البحث عن الملازمات بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

وعلى كلّ تقدير فالمحمول إمّا حكم عقلائي كحجية الخبر الواحد أو عقلي كباب الملازمات.

وعلى ضوء ذلك فالمسألة في المقام قاعدة فقهية لأنّها تبحث عن فساد العبادة والمعاملة وعدمهما ، والفساد حكم شرعي كالصحة.

قلت : إنّ الفساد والصحّة من الأُمور الانتزاعية من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمه ، فهما حكمان وضعيّان منتزعان من قول الشارع « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » فيوصف عمل ناسي السورة بالصحّة ، بحكم الرواية ، كما يوصف بيع من باع من غير ملك بالفساد بفضل قوله : « لا تبع ما ليس عندك ».

وعلى ذلك فليس الفساد كالصحة من الأحكام الشرعية بل من الأحكام الوضعية المنتزعة.

نعم لو قلنا بأنّهما مجهولان فلا محيص عن كون المسألة فقهية.

الخامس : إنّ للنهي أقساماً وإنّ أيّ قسم من الأقسام مورد للنزاع ، والأقسام كالتالي.


ـ تحريمي وتنزيهي.

ـ نفسي وغيري.

ـ أصلي وتبعي.

وقد اختلفت أنظار الأُصوليين في تعيين محط النزاع ، فذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الجميع داخل في محطّ النزاع ، فقولنا : هل النهي يدل أو يكشف عن الفساد؟ يعم جميع الأقسام ، إمّا عنواناً أو ملاكاً ، كما سيتضح.

وذهب المحقّق النائيني إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي دون التنزيهي ، وبالنفسي دون الغيري ، ولم يذكر شيئاً حول الأصلي والتبعي.

والحقّ مع المحقّق الخراساني ، وإليك بيان كلامه :

إنّ النهي التحريمي داخل في محط النزاع ويشمله عنوان البحث ، وامّا النهي التنزيهي كالعبادة عند مطلع الشمس ومغربها فغير داخل في عنوان البحث ( هل النهي ... ) لانصراف النهي إلى التحريمي ولكنّه داخل فيه ملاكاً ، إذ لقائل أن يقول : إنّه يكفي عدم المطلوبية في الفساد وهو أمر مشترك بين التحريمي والتنزيهي.

كما أنّ النهي النفسي داخل في مصب النزاع ، وأمّا الغيري كالنهي عن الصلاة عند ابتلاء المصلي بوجوب إزالة النجاسة عن المسجد فهو على قسمين : غيري أصلي ، وغيري تبعي.

فلو قلنا بأنّ الملاك في تقسيم الأمر إلى الأصلي والتبعي إنّما هو مقام الإثبات والدلالة ، بمعنى أنّه إذا كان الوجوب مفهوماً بخطاب مستقل ومدلولاً بالدلالة المطابقية ، فالواجب أصلي ، وإن كان مفهوماً بتبع خطاب آخر ومدلولاً بالدلالة الالتزامية فالواجب تبعي ، فلو قلنا بهذا التفسير للأصلي والتبعي ،


فالغيري مطلقاً داخل في عنوان النزاع لشمول قوله : هل النهي يدلّ على الفساد للنهي المفهوم بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.

وأمّا لو قلنا بأنّ ملاك التقسيم إليها هو الثبوت لا الإثبات ، فلو كان الشيء متعلّقاً للإرادة على وجه الاستقلال عند الالتفات إليه بما هو عليه فهو أصلي ، وإن كان متعلّقاً بهاتبعاً لإرادة غيره من دون التفات إليه فهو تبعي ، فلو قلنا بهذا التفسير فالغيري التبعي بما انّه ليس مدلولاً للدلالة يكون داخلاً في محط البحث ملاكاً لاعنواناً.

هذا هو توضيح ما أفاده المحقّق الخراساني. (١)

يلاحظ عليه بأمرين :

الأوّل : أنّ القول بانصراف النهي إلى التحريمي وخروج التنزيهي عن مدلوله غير تامّ ، لأنّ الانصراف إمّا لكثرة استعمال النهي في التحريمي ، أو لكثرة وجوده ، وكلاهما منتفيّان ، فانّ النهي استعمل في التنزيه كثيراً وله مصاديق متوفرة ، فالتحريمي والتنزيهي أمام العنوان سواء.

الثاني : أنّه جعل الغيري التبعي تارة داخلاً في عنوان النزاع ، وأُخرى داخلاً فيه بملاك النزاع لا بعنوانه ، مع أنّ الأصلي أيضاً كذلك ، فلو فسّر الأصلي بما تعلّق به الخطاب على وجه الاستقلال ، فهو داخل في عنوان النزاع ، وان فسّر بما تعلّقت به الإرادة الاستقلالية وإن لم يتلفّظ به المولى ، فهو داخل في البحث ملاكاً ، اللّهمّ إلا أن يقال إذا كان الشيء متعلّقاً للإرادة الاستقلالية لا ينفك عن كونه متعلّقاً للنهي اللفظي مطلقاً ، فكأنّ الأصلي بكلا التفسيرين داخل في عنوان النزاع.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أخرج النهي التنزيهي عن محل النزاع قائلاً : بأنّ

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٨٤.


النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاق الأمر ، نعم لو تعلّق النهي التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه الفساد مجال من جهة انّ ما يكون مرجوحاً ذاتاً لا يصلح أن يتقرّب به ، إلا أنّ النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلّقة بالعبادات لم تتعلّق بذات العبادة على وجه يتّحد متعلّق الأمر والنهي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من عدم اقتضاء النهي التنزيهي فساد العبادة وإن كان حقاً ، لكنه لا يوجب خروجه عن محلّ النزاع ، إذ يمكن أن يتوهم أنّ النهي كاشف عن عدم المطلوبية أو الحزازة ، وهما لا يجتمعان مع التقرّب.

والحاصل : انّ كون الفساد على خلاف التحقيق أمر ، وكونه غير داخل في محط النزاع شيء آخر ، والكلام في الدخول وعدمه إنّما هو قبل التحقيق وبيان الحال لا بعده ، وما ذكره راجع إلى ما بعد التحقيق.

إلى هنا تمّ ما ذكره صاحب الكفاية والمحقّق النائيني ، بقي هنا أقسام لم يشر إليها المحقّق الخراساني وهي :

١. النهي الإرشادي.

٢. النهي التشريعي.

٣. النهي التخييري في مقابل التعييني.

أمّا الأوّل : فتارة يكون إرشاداً للفساد ، كقوله : « لا تبع ما لا يملك » ؛ وأُخرى يكون إرشاداً إلى المانعية ، كقوله : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه ». من غير فرق بين أن تفسّر المانعية بأخذ قيد عدمي في المأمور به ، أو بضدية الشيء المنهي عنه مع الصلاة وانّهما لا يجتمعان ، وبما أنّ النهي الإرشادي بكلا قسميه سواء كان

____________

١. الفوائد الأُصولية : ١ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦.


إرشاداً إلى الفساد أو إلى المانعية واضح الحكم فلا يكون داخلاً في محلّ النزاع.

وأمّا الثاني : أي النهي التشريعي فمفاده النهي عن الاعتقاد بكون شيء مأموراً به بالخصوص ، كما إذا صلّى في مكان خاص زاعماً بتعلّق أمر خاص به مع إطلاق الأمر فصار باعتقاده وعمله مشرّعاً ، فهل هو داخل في محلّ النزاع أو لا؟ اختار المحقّق القوجاني (١) الثاني قائلاً بأنّ مفاد النهي التشريعي هو البطلان فلا يتصوّر فيه النزاع.

يلاحظ عليه : أنّ غاية ما يدلّ عليه النهي التشريعي هو حرمة الإتيان بالعمل الناشئ منه ، أمّا الفساد فليس من المداليل الواضحة ، فيقع البحث عن دلالته على الفساد أو ملازمته معه عقلاً أو عدمها.

وأمّا الثالث : أي النهي التعييني والتخييري كما إذا قال : « لا تصلّ في الدار المغصوبة أو لا تجالس الفسّاق » فصلى فيها مع مجالستهم ، فالظاهر دخول القسمين في محلّ النزاع ، لكن المحرّم في الأوّل نفس العمل وفي الثاني الجمع بين العملين.

السادس : في تعريف العبادة والمعاملة

الغاية القصوى من عقد هذا الفصل ، هو استكشاف حال العبادة والمعاملة إذا تعلّق بهما النهي من حيث الصحّة والفساد ، فيلزم التعرّف على مفهوم العبادة والمعاملة.

امّا العبادة : فقد عُرّفت بوجوه ثلاثة ـ وراء ما عَرَّف به المحقّق الخراساني ـ وهي :

أ. ما أمر لأجل التعبّد به.

__________________

١. من تلاميذ المحقّق الخراساني 1 ومقرر بحثه وهو أُستاذ المحقّق المشكيني 1 توفّى سنة ١٣٣٣ هـ.


ب. ما تتوقف صحّتُه على نيّة القربة.

ج. ما لا يعلم انحصارُ المصلحة فيها في شيء.

وأورد عليها المحقّق الخراساني بأنّ الكلام في العبادة التي يتعلّق بها النهي ، والعبادة بهذه المعاني لا يتعلق بها النهي.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره يصحّ في التعريف الأوّل ، لأنّ ما أمر به يكون صحيحاً بالفعل ، فكيف يتعلّق به النهي ، بخلاف التعريفين الأخيرين ، فلا مانع من تعلّق النهي بما تتوقّف صحّته على الأمر ، ولكن لم يتعلّق به الأمر ، ومثله الثالث ، فلنرجع إلى ما ذكره المحقّق الخراساني من التعريف وقد عرفها بوجهين :

١. ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى ، موجباً بذاته للتقرّب من حضرته لولا حرمته كالسجود والخضوع له وتسبيحه وتقديسه.

٢. ما لو تعلّق به كان أمره عباديّاً لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربي ، كسائر أمثاله نحو « صوم العيدين » ، والصلاة في أيّام العادة. (١)

يلاحظ على التعريف الأوّل : بأنّه لو كان السجود عبادة ذاتية ، لما جاز أمر الملائكة بالسجود لآدم ـ كما قال سبحانه : ( وإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (٢) فآدم كان مسجوداً له ، لا قبلة ، ولا مسجوداً عليه ، كالتربة الحسينية إذ معنى ذلك انّه سبحانه أمر بعبادة غيره الذي هو يساوي الأمر بالشرك المنزّه عنه سبحانه ، يقول : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ). (٣) والفحشاء القبيح ، أو ما اشتد قبحه والمقصود به هنا هو الشرك.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٨٦.

٢. البقرة : ٣٤.

٣. الأعراف : ٢٨.


فالأولى أن يعرف بما ذكره ثانياً أعني : ما لو تعلّق به الأمر لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربي (١) ، خرج التوصليّات فانّها لو تعلّق بها الأمر يسقط مطلقاً قصد به القربة أو لا. هذا كلّه حول العبادة.

وأمّا المعاملة ، فقد أُريد منها في العنوان ، كلّ ما يكون قابلاً لوصفه بالصحة والفساد ، فيعمّ العقود والإيقاعات وغيرهما ، كالرضاع والاحياء من الموضوعات التي تارة يترتّب عليه الأثر المترتّب عنه ، وأُخرى لا يترتب لاختلال بعض الشرائط المعتبرة.

فخرج الأمران التاليان :

١. ما لا يترتّب عليه الأثر شرعاً مطلقاً ، كالغلبة في القمار.

٢. ما لا ينفك أثره عنه كالإتلاف بلا إذن ، لعدم طروء الفساد عليه.

السابع : في معنى الصحّة والفساد

ذكر المحقّق الخراساني في المقام أُموراً نشير إليها :

١. انّ الصحّة والفساد ، وصفان إضافيّان يختلفان حسب الآثار والأنظار ، فربّ شيء يكون صحيحاً بحسب أثر ، دون أثر كإفساد الصوم بما يوجب القضاء دون الكفّارة ، فهو صحيح بالنسبة إلى الكفّارة وفاسد حسب القضاء ، كما ربّما يكون صحيحاً في نظر فقيه دون فقيه آخر.

٢. انّ الصحّة في العبادة والمعاملة ، بمعنى واحد وهو التمامية ، وأمّا الاختلاف فيهما فإنّما هو فيما هو المرغوب منهما من الآثار ، حيث إنّ المطلوب في

__________________

١. انّ شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ قد اختصر الكلام في تفسير العبادة ، وله بحث ضاف حولها في مفاهيم القرآن ، لاحظ الجزء الأوّل : ٤٥٥ ـ ٤٦٨.


العبادة حصول الامتثال أو سقوط التّضاد والإعادة ، وفي المعاملة ترتّب الأثر المطلوب كالملكية في البيع ، فتوصف الصلاة بالصحة لهاتين الغايتين ، كما يوصف البيع بالصحة لتلك الغاية ( ترتّب الأثر ) وإلا فالصحة في الموردين بمعنى التمامية.

٣. إنّ اختلاف الفقيه والمتكلّم في صحّة العبادة ليس اختلافاً مفهومياً أو اختلافاً جوهرياً ، بل الصحّة عند الطائفتين بمعنى واحد وهو التمامية ، لكن ملاك التمامية عند المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً ، لاستحقاق المثوبة ، وملاكها عند الفقيه سقوط الإعادة والقضاء ، فكلّ ينظر إلى التمامية من منظاره الخاص ومطلوبه ، فالغاية عند المتكلّم هو تعيين موارد استحقاق المثوبة والعقوبة فيفسّر التمامية بموافقة الأمر ، أو الشريعة الملازم للامتثال الموجب عقلاً للمثوبة بخلاف الغاية عند الفقيه ، فهو بصدد تعيين موارد سقوط القضاء والإعادة فيفسّر التمامية بهما.

٤. انّ الأمر ينقسم إلى واقعي أوّلي وواقعي ثانوي وظاهري ، وقد اختلفت الأنظار في أنّ امتثال الأخيرين هل يجزيان عن امتثال الأمر الواقعي أو لا كالصلاة متيمّماً ، أو الصلاة بالطهارة الظاهرية؟

فلو فسّر الأمر في قوله : « امتثال الأمر ، يقتضي الإجزاء » بالأعم من الواقعي الثانوي والظاهري ، تكون النتيجة هو الإجزاء مطلقاً ، ولو فسّر بخصوص امتثال الأمر الواقعي ، تكون النتيجة عدم الإجزاء.

وربّما يكون الملاك عند المتكلّم ، موافقة مطلق الأمر ، وعند الفقيه هو خصوص موافقة الأمر الواقعي ، فيكون مجزئاً عند الأوّل دون الثاني ، وربّما يكون الملاك على العكس ، فيكون مجزئاً عند الفقيه دون المتكلّم ، وربّما يتفقان في الملاك ، فيخرجان بنتيجة واحدة.


فظهر انّه لا اختلاف في مفهوم الصحّة في الموارد التالية :

١. لا في العبادات ولا في المعاملات.

٢. ولا بين الفقيه والمتكلّم.

٣. ولا في مجال امتثال الأمر الواقعي الثانوي.

هذا توضيح ما في الكفاية :

يلاحظ عليه أوّلاً : بما قدمناه في مبحث الصحيح والأعم (١) أنّ تفسير الصحّة بالتمام ليس تفسيراً تاماً في عامة الموارد وذلك لأنّ الصحّة تستعمل في موردين :

١. الصحّة في مقابل المرض ، فيقال مصحّ لا مريض ، قال ابن فارس : الصحّة أصل يدل على البراءة من المرض والعيب وعلى الاستواء من ذلك ، والصحة : ذهاب السقم. وعند ذلك فالصحة كيفية وجودية في الشيء ملائمة لنوعه ، والمرض على خلافها. وبين المعنيين من التقابل تقابل التضاد.

٢. الصحّة في مقابل العيب ، فيقال صحيح لا معيب ، وإليه أشار ابن فارس في كلامه أيضاً فقال : البراءة من المرض والعيب ، فإذا كان الوجود تاماً حسب الخلقة النوعية يقال صحيح وإن كان ناقصاً يقال انّه معيب.

وبذلك ظهر أنّ الصحّة بمعنى التمامية في خصوص المورد الثاني ، أي إذا استعملت في مقابل المعيب ، فيكون وزان الصحيح والمعيب ، وزان التام والناقص ، وبين المعنيين تقابل العدم والملكة. وأكثر استعمال الصحّة إنّما هو في المعنى المقابل للمرض.

هذا حال اللغة : وأمّا اصطلاحاً فتطلق الصحّة تارة على الجامع للصفة

__________________

١. إرشاد العقول : ١ / ١٣٣.


المعتبرة في العبادة في مقابل الآخر إذا لم تكن كذلك. ككون القراءة صحيحة أو ملحونة ، فيكون بينهما من التقابل ، هو تقابل التضاد. وأُخرى على الجامع للأجزاء والشرائط وغير الجامع لهما ، فيكون بينهما من التقابل هو تقابل العدم والملكة. فالأوّل يناسب كون الصحّة في مقابل المرض ، والآخر كون الصحّة في مقابل المعيب.

وثانياً : إنّ وصف المركبات الانتزاعية بالصحة والفساد إنّما هو بالإضافة إلى أنفسها عند تحقّقها في الخارج ( وسيوافيك أنّ الصحّة والفساد من عوارض الماهية الموجودة لا بما هي هي ) فإن كانت جامعة لما يعتبر فيها فصحيحة وإلا ففاسدة لا بالإضافة إلى الآثار والأنظار.

الثامن : هل الصحّة والفساد مجعولان مطلقاً؟

هل الصحّة والفساد مجعولان مطلقاً أو ليس كذلك مطلقاً ، أو مجعولان في المعاملات دون العبادات ، أو الصحّة الظاهرية مجعولة دون الواقعية؟ وجوه واحتمالات ، فتارة يقع الكلام في العبادات ، وأُخرى في المعاملات.

نظرية المحقّق الخراساني حول الصحّة في العبادات

يظهر من المحقّق الخراساني في مجعولية الصحّة في العبادات ، التفصيل التالي :

أ. لو فسِّرت الصحّة والفساد وِفقَ مسلك المتكلّمين ( مطابقة المأتي به للشريعة ) فالصحّة والفساد وصفان اعتباريان ينتزعان من المطابقة وعدمها.

ب. ولو فُسِّرت الصحّة والفساد وفق مسلك الفقهاء ( ما كان مسقطاً للإعادة والقضاء ) فالصحة والفساد حكمان عقليان حيث يستقل العقل بسقوط


الإعادة والقضاء جزماً أو يستقل بعدمها.

وعلى ضوء ذلك فليست من الأحكام المجعولة مستقلة ولا من المجعولة تبعاً كما ليست أمراً اعتبارياً وانتزاعياً.

هذا كلّه حول امتثال الأمر الواقعي ، وأمّا امتثال الأمر الاضطراري (١) فقد ذكر هنا صورة واحدة وهي ما إذا لم يكن المأتي به وافياً لمصلحة الواقع وكانت المصلحة الفائتة لازمة الاستيفاء ، فلو كان الاستيفاء حرجيّاً يكون السقوط ( الصحّة ) مجعولاً ـ شرعاً ـ تخفيفاً ومنّة على العباد مع وجود المقتضي لثبوت الإعادة والقضاء ، كما ربّما يكون وجوب الإعادة والقضاء ( الفاسد ) مجعولين كذلك.

هذا خلاصة ما أفاده في « الكفاية » ويرجع حاصله إلى أُمور ثلاثة :

أ. الصحة والفساد في مسلك المتكلّمين اعتباريان انتزاعيان.

ب. وفي مسلك الفقهاء من الأحكام العقلية.

ج. وفي امتثال الأمر الاضطراري إذا كان الفائت لازم الاستيفاء ولكن حرجيّاً تكون الصحّة مجعولة شرعاً وإلا يكون الفساد مجعولاً. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الجمع بين الاعتباري والانتزاعي في الشق الأوّل على خلاف الاصطلاح ، فانّ الأمر الانتزاعي يُعدُّ من مراتب التكويني في بعض الموارد ، كما إذا كان المنشأ متحيثاً بحيثية وجودية ، كالفوقية المنتزعة من الطابق الثاني لكونه فوق الأوّل ، وهو تحته ، فلذلك قالوا إنّ الحقائق الخارجية إمّا جواهر ،

__________________

١. وقد أشار إليه بقوله : وفي غيره فالسقوط ربّما يكون مجعولاً ، والضمير يرجع إلى امتثال الأمر الواقعي الأوّلي ، فيكون المراد امتثال الأمر الواقعي الثانوي أي الاضطراري كالتيمّم.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٢٨٩.


أو أعراض أو انتزاعيات ، بخلاف الأُمور الاعتبارية فانّ قوامها بإعطاء حدّ التكوين لشيء آخر ، اعتباراً ، كإعطاء حد الرأس الذي شأنه الإدارة للرئيس ، فهو رأس اعتباراً ، والآخرون بمنزلة الأعضاء فأين الثاني من الأوّل؟!

وللبحث حول الأُمور الانتزاعية والاعتبارية مجال آخر والغرض أنّ الجمع بينهما خلاف الاصطلاح.

وثانياً : انّ الصحّة على مسلك المتكلّمين ليست من الأُمور الانتزاعية ولا الاعتبارية وإنّما هي من الأُمور الواقعية كسائر الواقعيات التي يدركها العقل ، فانّ حصول الامتثال بتطابق المأتي به للشريعة ، من الأُمور الواقعية كتطابق الخطين وتساويهما ، فالصحة عندئذ ليست أمراً انتزاعياً ولا اعتبارياً ولا مجعولاً بنفسه ولا مجعولاً بتبع أمر آخر ، ولا من الأحكام العقلية المستقلة كحسن الإحسان وقبح الظلم أو الملازمة بين الوجوبين ، بل واقعية يدركها العقل.

نعم ما أفاده من أنّ الصحّة على مسلك الفقهاء ، من الأحكام العقلية ، إذ هو الحاكم بسقوط الإعادة والقضاء إذا أتى بالمأمور على ما هو عليه ، وعدمه إذا لم يأت كذلك.

وثالثاً : أنّه 1 حكم بأنّ الصحّة والفساد مجعولين شرعاً فيما إذا كان المأتي به غير واف بمصلحة الواقع فيما كانت الإعادة أو القضاء حرجيّاً فيكون سقوطهما ( الصحة ) مجعولين وإلا كان ثبوتهما ( الفساد ) مجعولين ، مع أنّ الظاهر منه في مبحث الإجزاء ، أنّ الإجزاء وعدمه في الصورتين أمر عقلي (١) ، ومع ذلك يمكن تصحيح كونهما مجعولين لكن باعتبار منشأ انتزاعهما حيث إنّ العمل لا يوصف

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ١٢٩.


بالصحة ، إلا برفع اليد عن جزئية الجزء وشرطية الشرط ، كما لا يوصف بالفساد إلا بإثباتهما ، فالمجعول رفع الشرط أو الجزء أو إثباتهما ، فيتبعهما جعل الصحة والفساد.

إكمال

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاد في آخر التنبيه الذي عقده في ذيل الأمر السادس بأنّ الصحّة والفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين ، بل إنّما هي تتصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ معنى ذلك أنّ الموصوف بالصحّة والفساد هو العناوين الكلّية من الصلاة والبيع ، واتّصاف الفرد الخارجي منهما إنّما هو بانطباق المفهوم الكلّي عليه ، ولكنّه كما ترى ، لأنّ الصلاة الكلية لا توصف بالصحة والفساد ما لم تتحقّق في الخارج ، فانّ الأجزاء والشرائط بما هي هي لا توصف بالصحّة والفساد ، وإنّما توصف بأحدهما إذا انطبق عليها عنوان الصلاة في الخارج ، فإن كانت جامعة لهما فتوصف بالصحة ، وإلا فتوصف بالفساد. وسيوافيك الكلام في البحث التالي.

الصحّة في المعاملات

قد وقفت على نظرية الخراساني حول الصحّة في العبادات وتفاصيلها ، وأمّا الصحّة في المعاملات فأفاد في المقام كالتالي :

١. انّ الصحّة في المعاملات مجعولة ، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٩٠.


إنّما هو بجعل الشارع وترتيبه عليها ولو إمضاءً ، ضرورة انّه لولا جعله لما كان يترتّب عليه لأصالة الفساد.

٢. نعم صحّة كلّ معاملة شخصية وفسادها ليس إلا لأجل انطباقها على ما هو المجعول سبباً وعدمه كما هو الحال في التكليفية من الأحكام ، فاتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة ليس إلا انطباق ما هو الواجب عليه.

يلاحظ عليه بأمرين :

١. انّه سبحانه جعل البيع حلالاً ، فقال : ( وأَحَلَّ اللّهُ البيعَ ) (١) ، وجعل الصلح بين المسلمين جائزاً ونافذاً فقال 6 : « الصلح جائز بين المسلمين ». فمتعلّق الجعل في الآية والرواية ، هو الحلّية والجواز ، لا الصحة ، فلو قلنا بأنّه لا دور للشارع في مجال المعاملات ، فالمراد انّه أمضى الحلّية والجواز الرائجين بين العقلاء قبل الإسلام.

وأمّا الصحّة فإنّما يوصف بها العنوان إذا تحقّق في الخارج ، وانطبق عليه ما أمضاه الشارع بالحلّية أو الجواز.

والحاصل : انّ المحقّق الخراساني خلط بين متعلّق جعل الحلية والجواز ( وإن شئت قلت القانونية ) وبين متعلّق الصحّة ، فمتعلق الحلّية والجواز هو العناوين الكلية والمجعول فيها هو الحلّية والجواز ، ومتعلّق الصحّة هو المصداق الخارجي المنطبق عليه تلك العناوين.

وعلى ذلك فما هو المجعول شرعاً ولو إمضاء ، هو الحلّية والجواز ، لا الصحّة ، بل الصحّة والفساد تنتزع من انطباق تلك العناوين الحامل للأحكام على المصداق الخارجي ، وقد أشرنا إلى ذلك في الإكمال السابق.

__________________

١. البقرة : ٢٧٥.


التاسع : ما هو الأصل المعوّل عليه عند الشكّ؟

إذا ثبت عند المجتهد دلالة النهي على الفساد أو عدم دلالته عليه فهو في غنى عن طرح هذا البحث ، لعدم الحاجة إليه بعد وجود الدليل الاجتهادي على أحد الطرفين. وإنّما تصل النوبة إليه إذا قصرت اليدُ عن الدليل الاجتهادي ولم يثبت أحد الأمرين ، فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العملي عند الشكّ.

فنقول : تارة يتعلّق الشكّ بالمسألة الأُصولية ، وأُخرى بالمسألة الفرعية.

أمّا الأوّل : فلو كان مصب النزاع عقلياً ، أي في وجود الملازمة بين النهي والفساد عقلاً وعدمها ، فلا أصل هنا يعوّل عليه ، إذ ليست للملازمة ولا لعدمها حالة سابقة ، وعلى فرض وجودها لا شكّ في الحالة اللاحقة ، إذ لو ثبت الملازمة لكانت باقية قطعاً ، ولو ثبت عدمها فكذلك.

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّه إذا كان النزاع عقليّاً فليس هاهنا قضية متيقّنة أوّلاً ، وعلى فرض وجودها فليس هاهنا قضية مشكوكة.

أضف إلى ذلك أنّ الملازمة وعدمها غير قابلة للاستصحاب ، لأنّه يشترط فيه كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والملازمة تفتقد هذا الشرط.

هذا إذا كان مصبُّ النزاع في المسألة الأُصولية عقليّاً ، وأمّا إذا كان لفظياً ، أي في دلالة لفظ النهي على الفساد أو عدمه ، فالأصل وإن كان موجوداً ، أعني : أصالة عدم وضع النهي للفساد ولكنّها بالنسبة إلى إثبات أنّ النهي الموجود غير موضوع له مثبت ، وقد ثبت في محلّه انّ استصحاب النفي التام لا يثبت النفي


الناقص ، كاستصحاب عدم قرشية هذه المرأة عندما لم تكن موجودة وإثبات عدم قرشيتها بعدما وجدت ، لأنّ القضية المتيقّنة صادقة بانتفاء الموضوع ، والقضية المشكوكة لا تصدق إلا بعد وجود الموضوع وانتفاء محموله ، ومثله المقام حيث إنّ عدم دلالة النهي على الفساد لأجل عدم وجود الواضع والوضع ، فكان عدم دلالتها أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، والمقصود إثبات عدم الدلالة بعد وجود الواضع وثبوت الوضع وصدور النهي من المولى ، فالقضية المتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع ، والقضية المشكوكة ـ إن صدقت ـ صادقة بعد وجود الموضوع والاتصاف بعدم المحمول.

فثبت أنّه لا أصل مفيد إذا كان النزاع في المسألة الأُصولية ، إمّا لا أصل ـ كما إذا كان عقليّاً ـ أو هنا أصل ولكنّه مثبت كما إذا كان النزاع لفظيّاً.

إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية

إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية في باب المعاملات بأن شك في صحّة البيع وقت النداء ، أو صحة المضاربة مع شرط اللزوم ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل هو الفساد ، لأنّ مقتضى صحّة البيع مثلاً انتقال المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري والثمن على العكس ، فالأصل عدم حصول النقل والانتقال.

هذا في المعاملات ، وأمّا في العبادات فقد أفاد المحقّق الخراساني بأنّ الأصل هو الفساد ، لأنّ تعلّق النهي مانع عن تعلّق الأمر لامتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، فصوم يوم الفطر إذا كان منهيّاً عنه يمتنع أن يتعلّق به الأمر.


كلام للمحقّق الإصفهاني

وأورد عليه المحقّق الاصفهاني 1 بأنّه لا شكّ في المسألة الفرعية حتّى يؤسس الأصل في مقام الشكّ ، لأنّ الصحّة لو كانت بمعنى موافقة الأمر فلا شكّ في الفساد لعدم تعلّق الأمر بالعبادة مع تعلّق النهي بها.

وإن كان بمعنى موافقة المأتي به للمأمور به من حيث الملاك فهو قطعي الثبوت ، فالمنهي عنه مستجمع لجميع الأجزاء والشرائط الدخيلة في الملاك ، والشكّ في أمر آخر وهو إمكان التقرّب مع المبغوضية وعدمه ، ولا أصل يقتضي أحد الأمرين ، فكيف يقال الأصل الفساد؟ (١)

وحاصله : انّه لو كان ملاك الصحّة ، هو الأمر ، فالعبادة باطلة قطعاً بلا شكّ لعدم الأمر ؛ ولو كان ملاك الصحة هو وجود الملاك فهو صحيح قطعاً لكونه واجداً للملاك ، ولو طرأ الشكّ في الصحة لأجل إمكان التقرّب مع المبغوضية وعدمه فلا أصل يعيّن أحد الطرفين.

يلاحظ عليه أوّلاً : نختار الشقّ الثاني وهو انّ الصحّة تدور حول وجود الملاك في الصلاة ، والقول بأنّه قطعي الثبوت غيرتام ، إذ لو كان الشكّ في الصحّة لأجل ابتلاء العبادة بالمزاحم كابتلاء الصلاة بإزالة النجاسة عن المسجد ، فالقول بوجود الملاك القطعي صحيح ، وأمّا إذا كان الشكّ معلولاً لأجل النهي عن الجزء كقوله لا تقرأ العزائم في الصلاة ، أو الوصف كالنهي عن الصلاة متكتفاً ، فالقول بأنّ الملاك قطعي غير صحيح ، لاحتمال أن تكون الصلاة مقيّدة بغير العزائم والتكتّف ، والشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في كون الصلاة تامّة من حيث عدم

__________________

١. نهاية الدراية : ١ / ٣١٠.


المانع أو لا ، فعندئذ يكون الملاك أيضاً مشكوكاً.

وثانياً : لو افترض أنّ الشك في إمكان التقرّب مع المبغوضية وعدمه ، فقوله « لا أصل » غير صحيح ، لوجود الأصل وهو انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، فليس للمكلّف الاكتفاء بالصلاة مع سور العزائم أو التكتّف لاحتمال مانعيتها ، فيجب عليه الإعادة أخذاً بقاعدة الاشتغال. (١)

كلام للمحقّق النائيني

وقد فصّل المحقّق النائيني 1 بين ما إذا كان الشكّ في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية ، كما إذا شكّ في أنّه ركع أو سجد في الركعة الأُولى أو لا؟ فمقتضى القاعدة الأُولى فسادها مع قطع النظر عن القاعدة الثانية ( قاعدة الفراغ والتجاوز ).

وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكمية ، فالحكم بالصحّة والفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة أو الاشتغال عند الشكّ في الجزئية أو الشرطية أو المانعية.

وإن شئت قلت : الشكّ في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشكّ في مانعية المنهي عنه عن العبادة وعدمها ويندرج في مسألة الأقل والأكثر. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّ كلاً من الشقين خارج عن محطّ البحث ، أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية فلا نهي هناك حتّى يدخل في صلب الموضوع ، فمن يشكّ في أنّه

__________________

١. هذا وقد قرر شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ هذه المباحث على خلاف ما قرره في الدورة الثالثة ، فلو كان هناك خلاف بيننا وبين ما أفاده في تلك الدورة فهو راجع إلى اختلاف التقرير من جانب شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ.

٢. أجود التقريرات : ١ / ٣٩٤.


ركع أو سجد لا نهي هنا قطعاً حتّى يبحث في دلالته ، وأمّا إذا كانت الشبهة حكمية فالشكّ في الصحة وإن كان نابعاً من الشكّ في مانعية التكتّف أو لبس خاتم الذهب فبالتالي يدخل في مبحث الشكّ في المانعية الذي يبحث عنه في باب الاشتغال ، ولكنّه خروج عن نمط البحث في المقام ، فانّ البحث هنا مركّز على شيء واحد وهو دلالة النهي على الفساد وعدمها ، وإرجاع البحث إلى الشكّ في المانعية وإدخاله في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين خروج عن موضوع البحث.

كلام للمحقّق الحائري

قد فرّق شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري 1 بين كون النزاع لفظياً وكونه عقلياً ، إذ على الأوّل يرجع الشكّ إلى تقييد دليل العبادة بغير الخصوصية كالتختّم بالذهب والتكتّف ، ومعه إمّا تجري البراءة أو الاشتغال على الخلاف ، بخلاف ما إذا كان عقلياً ، وإنّما الشكّ في القرب المعتبر في العبادات هل يحصل بإيجاد العمل في ضمن فرد محرّم ، أو لا والأصل الاشتغال حتّى يحصل القطع. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره في الشق الثاني لا غبار عليه ، وقد أوضحناه عند نقل كلام المحقّق الاصفهاني حيث زعم « انّه لو كان مناط الصحة هو الملاك فيرجع إلى مبغوضية المنهي عنه وعدمها ولا أصل في البين » وقد عرفت أنّ الأصل هو انّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينة.

نعم يرد الإشكال على الشقّ الأوّل حيث أرجع البحث في المقام إلى الشكّ في تقييد العبادة بغير الخصوصية ( التكتّف مثلاً ) وقد عرفت أنّ هذا خروج عن

__________________

١. درر الأُصول : ١ / ١٥٥.


موضوع البحث ، بل البحث مركَّز على كون النهي مانعاً عن الصحّة أو لا ، لا كون النهي سبباً للشكّ في تقييد المأمور به بعدم المنهي عنه.

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ الأصل في العبادات المنهية هو الفساد ، إذ الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في حصول البراءة اليقينية ، ومعه تجب الإعادة والقضاء.

العاشر : في أقسام تعلّق النهي بالعبادة

إنّ النهي عن العبادة على أقسام :

١. إمّا يتعلّق بنفس العبادة.

٢. أو جزئها.

٣. أو شرطها الخارج عنها كالتستّر.

٤. أو وصفها الملازم لها.

٥. أو وصفها غير الملازم لها.

٦. أو يتعلّق بها لا بالمباشرة ، بل لأجل تعلّق النهي بأحد هذه الأُمور.

فقد قدّم المحقّق الخراساني البحث في تعلّق النهي بالجزء والشرط و ... ، ثمّ انتقل إلى البحث عن تعلّق النهي بنفس العبادة ، وبعد إنهائه استعرض مسألة تعلّق النهي بالمعاملات ، ونحن نقتفيه أيضاً فنقول :

١. إذا تعلّق النهي بالجزء

إذا تعلّق النهي بالجزء كالنهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة ، روى زرارة عن أحدهما 8 قال : « لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم ، فانّ السجود


زيادة في المكتوبة » (١) فقال المحقّق الخراساني : إنّ النهي يوجب بطلان الجزء لكن بطلانه لا يوجب بطلان العبادة إلا في صورتين :

١. إذا اقتصر على الجزء المنهي عنه لا مع الإتيان بغيره ممّا لم يتعلّق به النهي بأن يقرأ سورة أُخرى من العزائم.

٢. إذا استلزم الإتيان بجزء آخر ، محذوراً كالقران بين السورتين وقد نهي عنه ، روى الصدوق عن أبي جعفر 7 أنّه قال : « لا قرآن بين السورتين في ركعة ». (٢)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أورد على نظرية المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة. وحاصل الوجوه : انّ النهي عن الجزء ، مبطل للجزء والكلّ ، أي العبادة ، وإليك الوجوه :

الأوّل : انّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء ، وتكون نسبة العبادة إلى ذلك الجزء المنهي عنه « بشرط لا » لا محالة ، واعتبار العبادة « بشرط لا » بالنسبة إلى شيء ، يقتضي فساد العبادة المشتملة على ذلك الشيء لعدم كون الواجد من أفراد المأمور به ، بل المأمور به غيره ، فالآتي بالمنهي عنه غير آت بالمأموربه.

الثاني : انّه يعد زيادة في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحتها ، ولا يعتبر في تحقّق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من جنس إجزاء العمل ، نعم يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان المأتي به من غير جنسه.

__________________

١. الوسائل : ٤ ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ١.

٢. الوسائل : ٤ ، الباب ٨ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ١٢.


الثالث : انّه تعمّه أدلّة مبطلية مطلق التكلّم من غير تقييد بكلام الآدمي ، والقدر الخارج عن هذا الإطلاق هو التكلّم بالقرآن والذكر الجائزين ، ويبقى الذكر والقرآن المنهي عنهما داخلين تحت الإطلاق. (١)

والوجوه الثلاثة تهدف إلى أنّ بطلان الجزء موجب لبطلان الكلّ أي نفس العبادة ، فتارة من جهة فقدان وصف الصلاة ، أي اللا بشرط ، وأُخرى من جهة الزيادة ، وثالثة من جهة كونه تكلّماً غير جائز.

يلاحظ على الأوّل : أنّ حرمة جزء العبادة ليست إلا بمعنى حرمته في نفسه ، وحرمته كذلك تقتضي بطلانه وعدم حصول الامتثال به ، وأمّا تقييد العبادة بعدمه ، وكون نسبتها إليه ، على نحو « لا بشرط » فهو ممّا لا تدلّ عليه حرمة الجزء.

وإن شئت قلت : قولنا : « جزء العبادة » تعبير مسامحي ، فانّ الروايات الناهية عن قراءة سور العزائم في المكتوبة سلبت عنها وصف الجزئية ، وصارت قراءتها فيها ، كالنظر إلى الأجنبيّة في حال الصلاة ، فكما أنّ الثاني ، لا يبطل العبادة فهكذا قراءة العزائم ، وكون السورة المنهيّة من جنس سائر الأجزاء دون النظر لا يكون فارقاً ، بعد سلب عنوان الجزئية عنها بقوله « لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم ».

وبطلان الجزء [ الشأني ] في نفسه ، يلازم بطلان العبادة إذا اقتصر به ، وأمّا إذا قرأ سورة أُخرى ، كانت الصلاة واجدة للجزء لولا المحذور الآخر ، أعني : قران بين السورتين المنهي عنه كما مرّ.

ويلاحظ على الثاني : المفروض انّ المصلّي عالم بالحكم ، وانّ الشارع سلب عن العزائم عنوان الجزئية فيمتنع أن يقرأها بقصد الجزئية ، وإنّما يقرأها بعنوان انّه

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٣٩٧ ؛ فوائد الأُصول : ١ / ٤٦٥ ـ ٤٦٦.


قرآن ، فعندئذ كيف يكون سبباً للزيادة مع عدم قصد الجزئية؟ والتفريق بين ما كان من سنخ العبادة وغيرها باشتراط قصدها في الثاني دون الأوّل خال عن الوجه ، وذلك للفرق الواضح بين كون شيء جزءاً تكوينياً وكونه جزءاً اعتباريّاً ، فلو زاد في المركب الخارجي شيئاً عن سهو ، صدق انّه زاد فيه سواء قصد الجزئية أم لا ، وبين كونه جزءاً اعتبارياً للمركب الاعتباري الذي هو في الحقيقة أُمور مختلفة ، متفرقة ، من مقولات متشتّة ، يجمعها عنوان اعتباري آخر كالصلاة ، ففي مثلها ، تكون جزئية الشيء رهن القصد والاعتبار فلا يصدق انّه زاد في صلاته إلا إذا أتى بالجزء بما انّه جزء منه ، والمفروض خلافه. نعم لو أتى بالجزء بما انّه جزء للصلاة وانّه لا فرق بين العزائم وغيرها صدقت الزيادة.

فإن قلت : إنّ الإمام عدّ السجود لأجل قراءة العزائم زيادة في المكتوبة كما مرّ ، مع أنّه لم يقصد كونه جزءاً من الصلاة ، وهذا دالّ على التفصيل بين ما يكون من جنس المزيد عليه وما ليس كذلك.

قلت : لعلّ المراد كون السجود ماحياً للهيئة الصلائية المعتبرة فيها كالأفعال الكثيرة المبطلة ، بما هي ماحية لها ، وإلا فالاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وإطلاقها على السجود في مورد لا يكون دليلاً على صحّة إطلاقها على غيره إذا لم يقصد كونه من الصلاة.

وعلى الثالث ، فانّ المحرّم هو التكلّم بكلام الآدمي لا مطلق التكلّم حتّى يخصص بالقرآن والذكر الجائزين ويبقى القرآن والذكر المحرّمين تحته ، ويدلّ على ذلك لسان الروايات.

روى أبو بصير عن الصادق 7 : « ان تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد الصلاة ». (١)

__________________

١. الوسائل : ٤ ، الباب ٢٥ من أبواب القواطع ، الحديث ١ و ٢ و ٤.


أضف إلى الجميع أنّ المسألة أُصولية ، لا فقهية ، فيجب تحليلها على غرار سائر المسائل الأُصولية بأن يركّز على البحث في الملازمة أو دلالة النهي على الفساد ، وأمّا تحليله بفقدان الوصف أو الزيادة ، أو بكونه تكلّماً فهو يناسب المسائل الفرعية.

٢. إذا تعلّق النهي بالشرط

إذا تعلّق النهي بالشرط ـ كالتستر بالحرير ـ فهل يوجب فساد العبادة أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين أن يكون الشرط عبادة ، كالطهارات الثلاث فانّ فسادها يوجب فساد المشروط ، وما لا يكون عبادة كالتستر فانّ النهي يجتمع مع الصحة لعدم لزوم قصد القربة حتّى لا تجتمع مع الحرمة.

يلاحظ عليه : أنّ الشرط غير العبادي إذا كان متقدّماً على المشروط صح ما ذكره كغسل الثوب النجس بالماء المغصوب ، والصلاة فيه بعد جفافه وأمّا إذا كان الشرط مقارناً مع الصلاة كالتستر ، فانّ النهي عنه كاشف عن مبغوضيته وعدم إمكان التقرّب بالصلاة المتّحدة مع الشرط المبغوض.

وبعبارة أُخرى : انّ هنا ـ مشروطاً كالصلاة ـ وقيداً كالثوب المنسوج من الحرير ـ وتقيداً وهو الإضافة الحاصلة بين الستر والصلاة ، وذات القيد أي نفس الثوب وإن كان خارجاً عن الصلاة ، لكن التقيّد داخل فيها ، فالأمر يتعلّق بالصلاة التي تكون العورة فيها مستورة ، فإذا كان الشرط أي التستّر محرماً ، يمتنع تعلّق الأمر الصلائي به ولو بانبساط الأمر ، وقد اشتهر قولهم : « تقيّد جزء وقيد خارجي » فالتستّر جزء من الصلاة داخل فيها وإن كان نفس الستر خارجاً فالأمر النفسي المتعلّق بالمشروط ، يتعلّق بالشرط أيضاً والنهي مانع عن تعلّقه به.


فإن قلت : إذا كان التقيّد أمراً ذهنياً ، فلا يكون متعلّقاً للأمر النفسي ولو بانبساطه إلى الأجزاء والشروط.

قلت : المراد من كونه أمراً ذهنياً أنّ وجوده ليس من سنخ الجواهر بأن يكون عيناً من الأعيان ، وإلا يلزم أن تكون المعاني الحرفية كلّها أُموراً ذهنية فاقدة للواقعية ، مع أنّها من مراتب التكوين ، ولذلك يمكن أن يقال انّ التستّر ، كالتعمم والتقمّص من مقولة الجدة وله واقعية كسائر الأعراض النسبية.

فإن قلت : ما الفرق بين الجزء والشرط حيث إنّ بطلان الجزء بما هو هو لا يوجب بطلان الكل ، بخلاف الشرط فانّ مبغوضية « الشرط » أي « التستّر » توجب بطلان العبادة؟

قلت : الفرق واضح فانّه ليس للجزء المنهي أيُّ دور في قوام الصلاة وانّما هو فعل زائد في الصلاة موصوف بالحرمة ، بمعنى أنّه لا يسري بطلانه إلى الكلّ إذا استدركه بإتيان فرد منه غير ممنوع ، بخلاف الشرط فانّ له دوراً في الصلاة ، لأنّه من توابع الصلاة ومكمّلاً لها حيث لا تصحّ الصلاة بلا تستر.

٣. إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم

إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم كالجهر بالقراءة في الصلوات النهارية ، فهل يدلّ على فساد القراءة أو لا؟

وربّما يفسّر الوصف اللازم بما لا ينفك عن الملزوم ، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، لكن التفسير خاطئ من وجهين :

١. انّ الجهر ليس من اللوازم غير المنفكّة ، لإمكان القراءة بالمخافتة.

٢. لو كان الوصف ممّا لا ينفك ، يمتنع تعلّق الوجوب بالملزوم والحرمة


باللازم لاستلزامه طلب الضدّين ولذلك قيل بأنّ اللاّزم وإن كان لا يجب أن يكون محكوماً بحكم الملزوم لكن يجب أن لا يكون محكوماً بحكم يضادّ حكم الملزوم كما في المقام.

بل المراد من اللازم مالا يمكن سلبه مع بقاء موصوفه ، وفي المقام تنعدم القراءة الشخصية مع انعدام وصفها ، نعم يمكن إيجاد قراءة أُخرى في ضمن صنف آخر.

وإن شئت قلت : أن لا يكون للموصوف وجود مغاير للوصف حيث إنّ الجهر من كيفيّات القراءة وخصوصياتها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ النهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن القراءة لامتناع كون القراءة التي يجهر بها مأموراً بها مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً.

وما ذكر مبنيّ على مختاره في باب تعلّق الأحكام فانّ التحريم عنده يتعلّق بما هو مصداق الجهر خارجاً ، والمفروض انّه متّحد وجوداً مع القراءة ، ولو تعلّق بها الأمر ، يلزم أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به النهي لحديث اتحادهما في الخارج وهو محال ، ولازم ذلك خروج القراءة عن تحت الأمر فيكون ما أتى به غير مأمور به ، وما هو المأمور به ، غير مأتي به ، وهذا هو الوجه لفساد القراءة ـ عند المحقّق ـ لا ما ذكره بعض الشرّاح من « أنّه لا يمكن عند العقل أن يكون أحد المتلازمين واجباً والآخر حراماً » لما عرفت من عدم صحّة تفسير اللازم في المقام بما ذكر.

وأمّا تفسير الفساد ، بامتناع التقرّب بهذه القراءة المنهية ، أو استلزام النهي كون القراءة فاقدة لوصفها الشرعي ، أعني : المخافتة ، كلّها خروج عن محط البحث ، لأنّ البحث أُصولي ، لا فقهي ، وما ذكر من الوجهين يناسب كون البحث


فقهياً.

لكن الظاهر عدم اقتضاء النهي الفساد ، لما عرفت من أنّ متعلّق الأحكام هو العناوين الفعلية ، والمصاديق ليست متعلّقة للأحكام ، وإنّما هي مصاديق لما هو الواجب ، والقراءة والجهر من المفاهيم المختلفة فلا يسري الحكم المتعلّق بالجهر إلى القراءة وهكذا بالعكس.

٤. إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق

إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق ، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة حيث إنّ الصلاة عبارة عن الأذكار والأفعال ، والغصب ، هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً ، وهما في الخارج حقيقتان مختلفتان ، بل ربّما يحصل الاستيلاء بلا تصرّف في مال الغير ، كما إذا منع المالك من التصرّف في ماله ، وسلب سلطانه عنه من دون أن يتصرّف في الدار ، فعندئذ عدم استلزام النهي ، فساد الموصوف واضح لا يحتاج إلى البيان ، وأمّا فسادها لأجل عدم حصول التقرب وغيره فهو خارج عن محط البحث.

٥. إذا تعلّق النهي بالعبادة لأجل أحد هذه النواهي

إذا تعلّق النهي بالعبادة وكان النهي ناجماً من تعلّق النهي بالجزء ، أو الشرط وغيرهما فهو على قسمين ، فتارة يكون النهي عن الجزء والشرط واسطة في العروض فيكون حكمه ، حكم الواسطة ، وأمّا إذا كان النهي عن أحد هذه الأُمور واسطة في الثبوت ، يدخل في باب النهي المباشر عن العبادة الذي سوف يوافيك حكمه.

وجهه ، انّه إذا كانت الواسطة ، واسطة في العروض ، كقولك جرى الميزاب ،


فإنّ جريان الماء واسطة لنسبته إلى الميزاب ، فلا يكون ذو الواسطة ( الميزاب ) موصوفاً حقيقة بالجريان وإنّما ينسب إليه مجازاً وبالعرض ، بإعطاء حكم الحالّ للمحلّ ، فيكون النهي الناجم من هذه النواهي ، المتعلّق بنفس العبادة ، نهياً مجازيّاً لا حقيقياً ، فلا يزيد حكمه على حكم الواسطة.

وإذا كانت الواسطة ، واسطة في الثبوت كوساطة النار لعروض الحرارة على الماء ، يكون ذو الواسطة ( الماء ) موصوفاً بالحرارة حقيقة ، لا مجازاً ، فيكون النهي المتولّد من هذه النواهي نهيّاً حقيقياً متعلّقاً بالمباشرة بالعبادة فيدخل في قسم النهي عن ذات العبادة الذي سيوافيك بيانه.

ثمّ إنّ هذه الأقسام الخمسة متصوّرة في النهي عن المعاملة ، فتارة يتعلّق النهي بجزء المعاملة ، وأُخرى بشرطها وهكذا ... ، ولكنّها فروض لا مصداق لها في الخارج وكلّها مبتنية على كون أسماء المعاملات ، أسماء للأسباب المركّبة ، لا للمسببات البسيطة كالملكية في البيع.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى ما هو المقصود من عقد هذا الفصل ، أعني :

١. تعلّق النهي بنفس العبادة.

٢. تعلّق النهي بنفس المعاملة.

فيقع الكلام في مقامين.

الأوّل : تعلّق النهي بالعبادة

إذا تعلّق النهي بالعبادة ، فهو إمّا مولوي ، وإمّا إرشادي. والمولوي إمّا ذاتي أو تشريعي ، فتصير الأقسام ثلاثة ، وإليك بيان أحكامها :


١. النهي التحريمي المولوي الذاتي

إذا تعلّق النهي التحريمي المولوي الذاتي بذات العبادة كصلاة الحائض في قوله 6 : « دع الصلاة أيّام أقرائك ». (١) وصوم يوم الفطر في قوله : « نهى رسول اللّه 6 عن صيام ستة أيام يوم الفطر ، ويوم النحر ... ». (٢)

أو بذات العبادة ، ولكن بواسطة النهي عن وصفه كصوم الوصال في قوله : « لا وصال في الصوم » (٣) فهل يدلّ النهي على الفساد أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الدلالة واستدلّ بالبيان التالي :

إنّ الصحّة إمّا بمعنى مطابقة الأمر للشريعة كما عليه المتكلّمون أو بمعنى سقوط الإعادة والقضاء.

فعلى الأوّل الصحة فرع الأمر ، ومع النهي عن ذات الشيء لا يتعلّق به الأمر.

وعلى الثاني فسقوط القضاء والإعادة فرع تمشّي قصد القربة ، ومع الحرمة الذاتية كيف يتمشّى قصدها؟!

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على نفسه إشكالاً حاصله :

إنّ النهي في الموارد المذكورة ليس نهياً تحريمياً ذاتيّاً وإنّما هو نهي تحريمي تشريعي ، وذلك لأنّ متعلّق النهي الذاتي إمّا العبادة الشأنية ، أو العبادة الفعلية.

وإن شئت قلت : إمّا ذات الفعل بلا قصد القربة ، أو هو مع قصد القربة.

فالأوّل ليس عبادة فلا يوصف فعلها بالحرمة ، كما إذا علّمت الحائض إقامة

__________________

١. مسند أحمد : ٦ / ٤٢ و ٢٦٢ وفي المصدر « حيضك ».

٢. الوسائل : ٦ ، الباب ١ من أبواب الصوم المحرم ، الحديث ٤.

٣. الوسائل : ٦ ، الباب ٤ من أبواب الصوم المحرم ، الحديث ١.


الصلاة من حضرها من النساء.

وعلى الثاني ، أي ما يكون متعلّق النهي العبادة الفعلية والتي تعلّق به الأمر بالفعل فلا يخلو إمّا أن يقصد الأمر الواقعي أو الأمر التشريعي.

فالأوّل أمر غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بالمحرّم ذاتاً ، وعلى الثاني تكون الحرمة تشريعية لا ذاتية ، ومعه يمتنع أن يتعلّق به نهي ذاتي لامتناع اجتماع المثلين.

وإلى هذه القضية المنفصلة أشار المحقّق الخراساني بقوله : « وعدم القدرة عليها مع قصد القربة ( إذا قصد الأمر الواقعي ) إلا تشريعاً ( إذا قصد الأمر التشريعي ) وبالنتيجة يصبح النهي تشريعيّاً لا ذاتياً » والكلام في النهي الذاتي.

ولتوضيح الحال نذكر صلاة التراويح التي نهي عن إقامتها جماعة.

فإن أتى بها بلا قصد الأمر الواقعي فلا تكون محرّمة ، وإن أتى بها بقصد الأمر الواقعي فهو غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بها مع النهي.

وإن أتى بها بالأمر التشريعي بأن ادّعى انّ الشارع أمر بصلاة التراويح جماعة فتصبح العبادة حراماً تشريعياً ويمتنع أن يتعلّق بها نهي ذاتي لامتناع اجتماعهما.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الإشكال بوجوه أربعة :

أوّلاً : نختار الشق الأوّل وانّ المراد من العبادة ، العبادة الشأنية ، أعني : الفعل الذي لو تعلّق به الأمر يكون عبادة وإن لم يتعلّق به الأمر الفعلي كصوم يوم العيدين فانّ فيه تلك القابلية ، أعني : لو تعلّق به الأمر يكون عبادة فالإتيان به والحال هذه حرام ذاتي ، فسقط قول المعترض « من أنّه بدون قصد القربة ليس بحرام ».

وثانياً : نختار الشق الثاني أي كون متعلّق النهي العبادة الفعلية ولكنّها


ليست رهن أمر فعلي ، بل ربّما تكون عبادة ذاتية كما في نهي الحائض عن السجود للّه فتكون عبادة محرّمة ذاتاً بلا حاجة إلى الأمر.

وثالثاً : نمنع ما قاله من أنّه : « إذا قصد الأمر التشريعي يصير حراماً تشريعيّاً ويمتنع تعلّق النهي الذاتي به لاستلزامه اجتماع المثلين ، وذلك لاختلاف متعلّق الحرمتين ، لأنّ النهي الذاتي تعلّق بذات الفعل والحرمة التشريعية تتعلّق بعقد القلب بأنّه ممّا أمر به الشارع مع أنّه لم يأمر به.

ورابعاً : نفترض أنّ النهي ليس ذاتياً بل نهي تشريعي فيكون دالاً على الفساد ولا أقلّ يدلّ على أنّها ليست بمأمور بها وان عمّها إطلاق دليل الأمر أو عمومه ... فيخصص به ( النهي ) أو يقيد. (١)

يلاحظ على الأوّل بأنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً في تعريف العبادة وقد قلنا بصحّة التعريف في أوائل البحث ، لكن عنوان البحث ، أعني قولهم : « هل النهي عن العبادة يدلّ على الفساد أو لا » ناظر إلى العبادة الفعلية لا الشأنية.

ويلاحظ على الثاني بأنّه مبنيٌّ على وجود العبادة الذاتية كالسجود للّه ، وقد عرفت ضعفها ، لأنّه يستلزم أن يكون أمر الملائكة بالسجود لآدم أمراً بالشرك ، وهو فحشاء ، واللّه سبحانه لا يأمر بالفحشاء أتقولون على اللّه ما لا تعلمون.

ويلاحظ على الثالث بأنّ تصوير النهيين : الذاتي والتشريعي والقول باختلاف متعلّقها صحيح على القول بإمكان التشريع وراء البدعة ، وأمّا على ما حقّقناه من امتناع التشريع بالمعنى الرائج عند العلماء وهو عقد القلب بوجوب شيء يعلم بعدم وجوبه شرعاً ، فهو غير متصوّر. إذ كيف يتأتّى عقد القلب بما

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦. قوله « فيخصص به أو يقيّد » ناظر إلى قوله : إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه ولا صلة له بقوله : « نعم لو لم يكن النهي عنها إلا عرضاً ».


يعلم خلافه؟!

نعم الذي يتصوّر هو البدعة ، وهو القيام العملي بنشر البدع بين الناس والقول بأنّها من الشارع ، وهو غير التشريع.

وأمّا الرابع فهو عدول عن القول بالحرمة الذاتية وتسليم للحرمة التشريعية.

هذا كلّه حول ما ذكره المحقّق الخراساني وما يرد عليه.

والذي نقول به : إنّ النهي في هذه الموارد وما شابهها ليس نهياً ذاتيّاً كالنهي عن الخمر والقمار كما يدّعيه المحقّق الخراساني ، ولا نهياً تشريعيّاً كما كان يدّعيه المستشكل ، بل النهي في هذه الموارد إرشادي إلى فساد العبادة وعدم تحقّقها والذي يدلّ على ذلك هو فهم العرف في امتثال الموارد.

مثلاً إذا كان العنوان موضوعاً لحكم ولم يكن العنوان مطلوباً بالذات وإنّما أمر به لأجل مصالح تترتّب عليه ، غير أنّ المأمور جاهل بتركيب العنوان وأجزائه وشرائطه وموانعه ، فعندئذ كلّما يصدر من الآمر أمر أو نهي فكلّها تحمل على الإرشاد إلى أجزاء الموضوع وشرائطه وموانعه ، فإذا قيل : « دع الصلاة أيّام أقرائك » فهو إرشاد إلى أنّ الحيض مانع عن صحّة الصلاة فلا يحصل ما هو المطلوب.

والحقّ انّ المحقّق الخراساني ومن سار على نهجه أطنبوا الكلام في المقام مع انتفاء الموضوع وهو تعلّق الحرمة الذاتية بالعبادة.

بقي الكلام في القسمين الآخرين ، وإليك الكلام فيهما.

الثاني : النهي المولوي التشريعي

إذا أوجب الإنسان على نفسه شيئاً لم يوجبه الشرع أو حرّم عليها ما لم يُحرّمه


فأتى به أو تركه بنيّة أمره ونهيه ، يكون الفعل والترك حراماً تشريعياً لا ذاتياً ، فالفعل والترك ربّما لايكون واجباً ولا حراماً بالذات ، لكن ادّعاء تعلّق الأمر أو النهي به شرعاً ، يصيِّره حراماً تشريعياً ، ويحكم عليه بالفساد ، سواء أقلنا بأنّ الصحة رهن الأمر ، فالمفروض انّه لا أمر له ـ وإلا لم يكن حراماً تشريعاً ـ أو رهن الملاك والمفروض عدم العلم به ، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر والمفروض عدمه. وعلى ذلك حمل النواهي المتعلّقة بصوم يوم العيدين ، وصلاة الحائض وصومها ، وقد مضى انّ الظاهر انّها من قبيل القسم الثالث الذي سيوافيك. ولعل منه ، النهي عن إقامة صلاة النوافل في ليالي رمضان بالجماعة.

ثمّ أشار في « الكفاية » إلى قسم من النهي وأسماه بالعرضي ، وهو النهي المتولّد من الأمر بالشيء المقتضي للنهي عن ضده ( الصلاة ) عرضاً ، فهذا النهي بما انّه عرضي ، لا يوجب الفساد ، إذ ليس هنا إلا واجب واحد ، وهو الإزالة ، ونسبة النهي إلى ضده ، أعني : الصلاة ، نسبة مجازية.

الثالث : النهي الإرشادي

قد عرفت أنّه إذا أمر المولى بعنوان طريق لإحراز المصالح ، فالأوامر والنواهي المبيّنة ، لإجزائه وشرائطه وموانعه ، نواهي إرشادية إلى بيان الأجزاء والشرائط والموانع ، وربما يكون المرشد إليه هو الكراهة كما في النهي عن الصلاة في الحمام ، وفي البيت وهو جار للمسجد ، فانّ المتبادر ـ بعد الإجماع على الصحة ـ هو الإرشاد إلى الكراهة.

وربّما يكون النهي المتعلّق بالعنوان ، إرشاداً إلى كونه فاسداً كما في النهي عن صوم العيدين.


المقام الثاني

دلالة النهي على الفساد في المعاملات

قد عرفت حكم النهي عن العبادة ولم يذكر له المحقّق الخراساني إلا قسماً واحداً وهو تعلّق النهي المولوي التحريمي بذات العبادة ، وقد أضفنا إليه قسمين آخرين وهو تعلّق النهي التشريعي بالعبادة ، أو النهي الإرشادي إلى الفساد ، وقد أشرنا إلى أنّه ليس للقسم الأوّل مصداق في الفقه ، وانّ دلالة النهي على الفساد في القسمين الأخيرين واضحة.

وأمّا المعاملات فقد ذكر له المحقّق الخراساني أقساماً خمسة أنكر دلالة النهي فيها على الفساد إلا في القسم الرابع والخامس ، وإليك الإشارة إلى أقسامها :

١. إذا تعلّق النهي بنفس المعاملة بما هو فعل مباشري كالعقد وقت النداء.

٢. إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة بما هو فعل بالتسبيب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر فالمنهي عنه هو مالكيته المتحققة بالبيع.

٣. إذا تعلّق النهي بالتسبيب بها إليه وإن لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام ، وهذا كالتسبب إلى الطلاق بقوله : أنت خليّة ، ومثل المحقّق البروجردي بالظهار ، فانّ التلفّظ بلفظة ( ظهرك كظهر أُمّي ) ليس بحرام ، كما أنّ مفارقة الزوجة مثله ، فالمبغوض هو تحصيل المسبب بذلك السبب.

٤. رابعها أن يتعلّق النهي بما لا يكاد يحرم مع صحّة المعاملة مثل النهي


عن أكل الثمن والمثمن في بيع المنابذة ، أو بيع شيء كالخمر.

٥. ما يكون ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد وخص الدلالة على الفساد بالعقود والإيقاعات لا مطلق المعاملات كالنهي عن غسل الثوب النجس بماء مضاف.

وهناك قسم سادس لم يتعرّض له المحقّق الخراساني وهو :

٦. إذا ورد نهي ولم يعلم أنّه من مصاديق أيِّ قسم من الأقسام الخمسة.

وإليك دراسة الكل.

أمّا القسم الأوّل فإنّ تعلّق النهي بالفعل المباشري أي صدور العقد وقت النداء لكونه مانعاً من درك الفريضة لا بمضمونه ، فهو لا يلازم الفساد.

يلاحظ عليه بوجهين :

١. لا معنى لتعلّق النهي بنفس التلفّظ بالعقد مع كونه غير مبغوض ، بل النهي تعلّق في الواقع بالاشتغال بغير ذكر اللّه ، ولما كان البيع من أغلب ما يوجب الاشتغال بغيره ، خصّ بالذكر وقيل ( وَذَرُوا البَيْعَ ).

٢. انّ النهي في المقام لما لم يكن ناشئاً عن مفسدة موجودة في المتعلّق لا في لفظه ولا في معناه ، بل كان لأجل كونه مفوّتاً للمصلحة فيكون النهي في الواقع تأكيداً للأمر بإتيان الواجب لا شيئاً زائداً ، وكان الأمر ( فَاسْعَوا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) في المقام والنهي ( وَذَرُوا البَيْعَ ) وجهين لعُملة واحدة فتارة يعبر عنه بالأمر به وأُخرى بالنهي عمّا يزاحمه.

والأولى أن يمثّل بإجراء العقد مُحْرِماً ، لنفسه أو غيره.

وأمّا القسم الثاني ، أي تعلّق النهي بمضمون المعاملة ( المسبّب ) بما هو فعل تسبيبي لا مباشري. وقد ذهب الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني إلى عدم دلالته على الفساد ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه النهي هو كونه مبغوضاً ، وأمّا كونه فاسداً فلا ، بشرط أن لايكون النهي إرشاداً إلى الفساد ، ولم يكن لسانُه لسانَ تقييد العمومات


والمطلقات.

وذهب المحقّق النائيني إلى دلالته على الفساد بالبيان التالي :

يشترط في صحّة المعاملة أُمور :

١. أن يكون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكم المالك.

٢. أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر لتكون له السلطنة الفعلية على التصرّف فيها.

٣. أن لا يكون لإيجاد المعاملة سبب خاصّ.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا تعلّق النهي بالمسبب وبنفس الملكية المنشأة كالنهي عن بيع المصحف ، كان النهي معجزاً مولوياً للمكلّف ورافعاً للسلطنة عليه ، فلا يكون المكلّف مسلّطاً على المعاملة في حكم الشارع ويترتب على ذلك فسادها.

ثمّ إنّه 1 استشهد على ما رامه بأنّ الفقهاء حكموا بفساد البيع في الموارد التالية لأجل فقدان هذا الشرط أي ما يكون محجوراً عن التصرّف فيها.

١. الإجارة على إنجاز الواجبات المجّانية ، لأنّ العمل لوجوبه عليه ، خارجة عن سلطانه ومملوك للّه.

٢. بيع منذور الصدقة فانّ النذر يجعل المكلّف محجوراً عن التصرّف المنافي.

٣. شرط حجر المشتري عن بيع خاص كما إذا باع الدار ، وشرط على المشتري عدم بيعه من زيد ، فيبطل لو باعه ، لحجر المكلّف حسبَ ما التزم في هذا النوع من التصرّف فيترتّب عليه الفساد. (١)

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥.


يلاحظ عليه : أنّ الشرط الثاني لصحّة المعاملة عبارة عن عدم كون البائع محجوراً شرعاً كالسفيه ، وعدم كون مورد المعاملة متعلّقاً لحقّ الغير كالعين المرهونة التي تعلّق بها حقّ المرتهن أو ورثة الميّت ، وكأموال المفلّس التي تعلّق بها حقّ الديّان.

وأمّا ما ادّعاه من أنّ شرط صحّة المعاملة اشتراط كون التصرّف حلالاً وغير حرام ، فلم يقم عليه دليل ، فإذا كان التصرّف مبغوضاً ، لا لأجل تعلّق حق الغير به ، ولا لأجل كون المتصرّف محجوراً ، بل لنهي الشارع عن التصرّف كالنهي عن بيع المصحف فلا دليل على كونه شرطاً في الصحّة ، نعم هو حرام لكن ليس كلّ حرام باطلاً.

ثمّ إنّ الموارد التي استشهد بها على ما ادّعى من الشرط مورد نظر :

أمّا الأوّل ، أعني : فساد الإجارة على الواجبات المجانية ، فإنّما هو لأجل تعلّق غرض الشارع بتحقّقها في الخارج بالمجان لا لكون العمل مملوكاً للّه سبحانه أو كون الأجير محجوراً عن التصرّف ، وذلك فان أريد من كونه مملوكاً للّه تكويناً فالكون وما فيه حتّى أفعال الإنسان مملوك للّه سبحانه مع أنّه يجوز عقد الإجارة على فعله.

وإن أريد كونه مملوكاً للّه تعالى اعتباراً وبالتقنين والتشريع ، فاللّه سبحانه فوق هذا وفي غنى عن كونه مالكاً قانوناً بعد كونه مالكاً حقيقة.

وأمّا قوله سبحانه : ( فَأَنَّ لِلّهِ خُمْسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (١) فاللام للاختصاص لا للملكية ، وعلى فرض كونها للملكية بعد كونه سبحانه مالكاً لأجل اقترانه بمالكية الرسول وذي القربى ، فعبّر عن الأوّل بلفظ الأخيرين وهذا

__________________

١. الأنفال : ٤١.


ما يوصف في علم البديع ، « بالمشاكلة » ، نظير ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرينَ ). (١)

وأمّا الثاني ، أعني : بيع المنذور ، فهو بين صحيح وفاسد فانّ تعلّق النذر بالفعل ، أي الالتزام بأن ينذر للّه سبحانه ، فلو لم يفعل فقد حنث نذره ولكن المنذور باق على ملكه له أن يبيع ويهب ، وهذا ما يعبّر عنه بنذر الفعل. وان تعلّق النذر بالنتيجة أي التزم أن يكون قطيع الغنم صدقة إذا قضيت حاجته ، فبعد القضاء تكون العين خارجة عن ملك الناذر ولا يجوز له البيع لعدم كونه مالكاً وهذا ما يعبّر عنه بنذر النتيجة.

والحاصل : انّه إذا كان النذر نذر فعل فالمعاملة صحيحة وليس عليه إلا كفّارة الحنث ، وإن كان نذر نتيجة فالبيع باطل لعدم كونه مالكاً للعين عند البيع لدخولها في ملك المنذور له.

وأمّا الثالث : أعني إذا شرط في البيع ، عدم بيعها من زيد فالظاهر انّه لو باعه منه صحّ البيع وللبائع الأوّل خيار تخلّف الشرط.

فقد تحصّل من ذلك انّه لم يقم دليل على أنّ جواز التصرّف في المبيع من شروط الصحّة أوّلاً وإنّ ما رتّب عليه من المسائل الثلاث لا تصلح للاستشهاد ـ كما عرفت ـ ثانياً.

إكمال : الاستدلال بصحيحة زرارة

ربّما يستدلّ بصحيحة زرارة على الملازمة الشرعية بين النهي المولوي التحريمي والفساد نظير الملازمة المستفادة من قوله 7 : « إذا قصّرتَ أفطرتَ » (٢)

__________________

١. الأنفال : ٣٠.

٢. الوسائل : ٥ ، الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ١٩.


وإليك الرواية.

عن زرارة ، عن أبي جعفر 7 قال : سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيّده ، فقال : « ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما » قلت : ـ أصلحك اللّه ـ إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابَهما ، يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا تُحِلُّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر 7 : « إنّه لم يعص اللّه ، وإنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز ». (١)

وجه الاستدلال : انّ ظاهر قوله : « إنّه لم يعص اللّه ... » أنّه لو كان هنا عصيان بالنسبة إليه تعالى كان فاسداً والمراد من العصيان هو العصيان التكليفي ، وبما انّه لم يكن هناك عصيان بالنسبة إلى اللّه سبحانه لم يكن فاسداً.

فعلى ظاهر هذا الحديث كلّ ما تعلّق به النهي التحريمي فهو يدلّ على فساد متعلّقه إذا أتى به.

ثمّ إنّ هناك سؤالاً آخر وهو أنّه كيف فرّق الإمام بين عصيان اللّه وعصيان السيد ، وقال : « إنّه لم يعص اللّه وإنّما عصى سيّده » مع أنّ عصيان السيّد يلازم عصيانه سبحانه ، لانّه تعالى أمر العبد بإطاعة مولاه. وعدم التصرّف في شيء إلا بإذنه ، فإذا خالف مولاه وسيده فهو في الحقيقة خالف أمر اللّه تعالى ، فكيف فرَّق بينهما في الحديث؟

أقول : إنّ الجواب عن الاستدلال بالحديث أوّلاً ، والإجابة عن وجه التفريق بين العصيانين ثانياً يظهر بالبيان التالي :

فإنّ الاستدلال بالحديث على أنّ العصيان يلازم الفساد في النهي التحريمي ، مبنيّ على تفسير العصيان في الرواية بالعصيان التكليفي ، أي ما

__________________

١. الوسائل : ١٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ١.


يستلزم العقوبةَ والمؤاخذةَ في الآخرة ، وحينئذ يدلّ على أنّ كلّ مخالفة شرعية للحكم التحريمي في مورد المعاملات ، يوجب الفساد ويثبت مقصود المستدل ، كما يوجب طرح السؤال عن التفريق بين العصيانين.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد من العصيان في المقام هو العصيان الوضعي ، أي كون الشيء موافقاً للضوابط أو مخالفاً لها ، فعندئذ يسقط الاستدلال أوّلاً ، ولا يبقى مجال لطرح السؤال ثانياً.

توضيحه : انّ في مورد العصيان احتمالات :

١. أن يكون المراد منه في كلا المقامين ، العصيانَ التكليفي المستتبع للعقاب.

٢. أن يكون المراد منه في كلا الموردين ، العصيانَ الوضعي المستتبع للفساد قطعاً.

٣. أن يكون المراد من العصيان في الأوّل ، العصيان الوضعي ؛ ومن الثاني العصيان التكليفي.

٤. أن يكون عكس الثالث.

وبما انّ التفريق بين العصيانين خلاف الظاهر فيحمل على معنى واحد ، وبذلك يبطل الاحتمالان الأخيران المبنيّان على التفريق بين العصيانين ، ولكن الظاهر من الرواية والرواية التالية هو العصيان الوضعي الذي يراد منه كون الشيء غير موافق للقانون والضابطة الشرعيّة.

والدليل على ذلك أنّ الإمام أبا جعفر 7 فسّر العصيان في رواية أُخرى بالنكاح في عدّة وأشباهه الذي يكون نكاحها على خلاف الشريعة وقوانينها ،


وإليك الرواية :

روى زرارة عن أبي جعفر 7 قال : سألته عن رجل تزوّج عبدُه امرأةً بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، قال : ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما ... » فقلت لأبي جعفر 7 : فإن أصل النكاح كان عاصياً ، فقال أبو جعفر 7 : « إنّما أتى شيئاً حلالاً وليس بعاص للّه وإنّما عصى سيده ولم يعص اللّه إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه من نكاح في عدة وأشباهه ». (١)

ترى أنّ الإمام يفسّر العصيان ـ المنفي في المقام ـ بما حرّم اللّه عليه من النكاح في العدة ، فتكون النتيجة أنّ الإمام ينفي العصيان الوضعي في المورد من غير تعرّض للعصيان التكليفي ، ومن المعلوم أنّ العصيان الوضعي يلازم الفساد ، لأنّ كون العمل غير موافق للضابطة عبارة أُخرى عن عدم إمضاء الشارع له ، وهو لا ينفك عن الفساد ، بخلاف العصيان التكليفي الذي نحن بصدد بيان حكمه فلا يلازم الفساد.

وإن شئت قلت : إنّ صحّة نكاح العبد تعتمد على دعامتين :

الأُولى : كون المنكوحة محللة النكاح ولا يكون بينها وبين الزوج ما يحرمه عليه من النسب والرضاع والمصاهرة.

وبعبارة أُخرى : أن لا يكون ممّا حرّم اللّه نكاحه في قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ... ). (٢)

والمفروض تحقّق هذا الشرط.

الثانية : صدور العقد من العبد عن رضا المولى ، والمفروض انتفاء هذا

__________________

١. الوسائل : ١٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.

٢. النساء : ٢٣.


الشرط ، فنكاح العبد جامع للشرط الأوّل دون الشرط الثاني ، فإذا حاز الشرطَ الثاني يكتمل الموضوع ويصحّ.

وبعبارة ثالثة : انّ نكاح العبد عقد فضولي صدر من أهله ووضع في محله ، ولكنّه يفقد شرطاً من شروط الصحّة الوضعية ، فإذا حاز شرطها يحكم عليه بالصحة.

وبذلك تحيط بالاجابة عن كلا الأمرين :

أمّا الاستدلال فقد عرفت أنّه مبنيّ على تفسير العصيان بالحرمة التكليفية التي هي محلّ البحث والنقاش ، ولكن المراد من العصيان هو الوضعية ، فالعصيان الوضعي يلازم الفساد ، لا العصيان التكليفي الذي هو المدّعى.

وأمّا الثاني فانّ الملازمة بين عصيان السيّد وعصيانه سبحانه إنّما هو في مرحلة الحرمة التكليفية ، والمفروض أنّها غير مطروحة.

وأمّا الحرمة الوضعية أي كون العقد مشروطاً برضا المولى فهو من خصائصه حيث أعطى له سبحانه تلك الخصيصة فله أن يجيز وله أن لا يجيز.

وما ذكرنا من الجواب هو أوضح ما يمكن أن يقال :

وربّما يظهر من تقريرات سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي ارتضاؤه لهذا الجواب. (١)

تذنيب : في ملازمة النهي للصحّة

قد عرفت أنّ الأُصوليين ركّزوا على البحث في دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته ، ولكن أبا حنيفة وتلميذيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ،

__________________

١. لاحظ لمحات الأُصول : ٢٥٩.


وحُكي عن فخر المحقّقين أيضاً انّ النهي يدل على الصحّة مكان دلالته على الفساد ، وهذا من غريب الدعاوي حيث يجتني الصحة من النهي مكان اجتناء المشهور الفساد منه.

ثمّ إنّ ما ذكره أبو حنيفة وتلميذاه من البيان غير موجود بأيدينا ولكن المحقّق القمي نقل في المقام بيانين ... نذكر كلّ واحد على وجه الإيجاز.

الأوّل : المنهي عنه هو الصوم الشرعي لا اللغوي

ليس المراد دلالة النهي على الصحـة بالدلالـة المطابقيـة أو التضمنيـة ، إذ ليست الصحة نفس مفاد النهي لا عينـاً ولا جزءاً ، بل المراد انّـه يستلزم الصحـة ، فقول الشارع « لا تصم يوم النحر » وللحائض « لا تصل » يتضمن إطلاق الصوم على صومها والصلاة على صلاتها ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فلو لم يكن مورد النهي صحيحاً لم يصدق تعلّق النهي على أمر شرعي فيكون المنهي عنه مثل الإمساك والدعاء ونحو ذلك وهو باطل إذ نحن نجزم بأنّ المنهي عنه أمر شرعي. (١)

وحاصل هذا الاستدلال : انّ المنهي عنه إمّا الصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي أو بمفهومهما اللغوي ، والثاني غير منهيّ عنه ، والأوّل يلازم الصحة ، فإذا تعلّق النهي بالصوم الشرعي فقد تعلّق بالصوم الصحيح ، لأنّ كلّ صوم شرعي صحيح ، وهذا ما قلنا من أنّ النهي يدلّ على الصحة.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر غير دائر بين شيئين ، بل هناك أمر ثالث يعد قسماً من الشرعي ، وهو انّ الأمر تعلّق بالصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي ، لكنّه أعمّ من الصحة والفساد ، فالصلاة غير الصحيحة والصوم الفاسد كلاهما من العبادات

__________________

١. القوانين : ١ / ١٦٣.


الشرعية الفاسدة ، فلو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ فهو واضح ، لأنّ الفاسد أيضاً أمر شرعي فاسد ، وأمّا لو قلنا بكونها موضوعة لخصوص الصحيح ، فاستعمال هذه الألفاظ في القسم الفاسد يكون مجازاً ولا مانع منه بعد قيام القرينة على الفساد.

الثاني : الحرمة الذاتية لاتتعلّق بالفاسد

هذا هو البيان الثاني لإثبات أنّ النهي يلازم الصحّة يقول : إنّ النهي عن شيء كالأمر إنّما يصحّ بعد كون المتعلّق مقدوراً ، ومن المعلوم أنّ النهي لا يتعلّق بالعبادة الفاسدة ، إذ لا حرمة لها فلابدّ أن يكون متعلّق النهي هو الصحيح ولو بعد النهي فلو اقتضى النهي الفساد يلزم أن يتعلّق النهي بشيء غير مقدور.

وبعبارة أُخرى لو كان النهي سبباً للفساد لزم أن يكون النهي سالباً للقدرة ، والتكليف الذي يجعل المكلّف عاجزاً عن الارتكاب يكون لغواً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الاستدلال في مجال العبادات أوّلاً والمعاملات ثانياً ، أمّا في الأوّل فقد أجاب عنه بالبيان التالي :

« أمّا العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى فمع النهي عنه يكون مقدوراً ، كما إذا كان مأموراً به وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به ، فلا يكاد يقدر عليه إلا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد وهو محال ، وقد عرفت أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهياً عن العبادة بمعنى انّه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلا بقصد القربة ». (١)

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٠٠.


وحاصل بيانه : انّ العبادة على قسمين امّا الذاتي فلا تتغيّر ولا تتبدّل أوصافها فهي عبادة بالذات قبل النهي وبعد النهي ولا يؤثر النهي في حالها.

وأمّا العبادات المجعولة التي قوام عباديتها بتعلّق الأمر بها ، فهي تنقسم إلى عبادة فعلية وعبادة شأنية أو بالتالي إلى صحيحة فعلية وصحيحة شأنية.

والمراد من الأُولى ما يكون متعلّقاً للأمر بالفعل.

كما أنّ المراد من الثانية ما لو تعلّق به الأمر لكان أمره عبادية ولما سقط إلا بالقصد ، فالقسم الأوّل لا يقع متعلّقاً للنهي ، لأنّ العبادة والصحّة الفعلية والصحّة عبارة عمّا تعلّق به الأمر ، وما هو كذلك يمتنع أن يقع متعلّقاً للنهي والمفروض انّه تعلّق به النهي.

والقسم الثاني ، أي العبادة الشأنية يقع متعلّقاً للنهي ويكشف عن صحّة المتعلّق لكن صحّة شأنية ، وهو غير مطلوب المستدلّ فانّه يريد أن يستدلّ بتعلّق النهي على الصحّة الفعلية دون الشأنية ، ولكن النهي لا يكشف إلا عن الصحّة الشأنية ، أي ما لو تعلّق به الأمر يكون أمره عبادياً وفعله صحيحاً.

فما هو المطلوب أي الصحّة الفعلية لا يعطيه النهي وما يعطيه النهي ، أي العبادة الشأنية ليس هو المطلوب.

إجابة المحقّق الخراساني في مورد المعاملات

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال في مجال المعاملة بالنحو التالي قال : والتحقيق في المعاملات انّه كذلك إذا كان في السبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت


المعاملة مؤثرة صحيحة ، وأمّا إذا كان عن السبب فلا لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً. (١)

وحاصله انّ النهي عن السبب لا يكشف عن الصحّة ، لأنّ حرمة السبب عبارة عن حرمة التلفّظ به في حال النداء والإحرام ، وهو مقدور مطلقاً قبل النهي وبعده ، نعم يكشف النهي عن الصحّة فيما إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة ، أي تملّك الكافر المصحفَ والعبدَ أو تعلّق النهي بالتسبب ، فانّ النهي كاشف عن كون المعاملة المنهية مؤثرة في حصول السبب وهو آية الصحة.

يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين العبادات والمعاملات فانّ الأُولى مخترعات شرعية بخلاف الثانية فانّها مخترعات عقلائية ، وقد تحقّق الاختراع والتسمية بالبيع والإجارة وغيرها قبل بزوغ شمس الرسالة ولم يتصرف الشارع فيها إلا بإضافة شرط أو جزء أو بيان مانع ، فعلى ذلك فأسماء المعاملات اسم للصحيح عند العرف والعقلاء ونهي الشارع دليل على أنّ المعاملة مؤثرة في حصول هذا النوع من الصحّة ، أي الصحّة العرفية ، ومن المعلوم أنّ الصحة العرفية لا تثبت مطلوب المستدل فانّه يريد أن يستدل بالنهي على الصحة الشرعية لا العرفية وبينها من النسب عموم وخصوص مطلق أو من وجه ، فكلّ صحيح عند الشرع صحيح عند العقلاء دون العكس ، فالبيع الربوي صحيح عند العقلاء وليس كذلك عند الشرع.

وبعبارة أُخرى فأقصى ما يدل عليه النهي تأثير المعاملة في الصحة العرفية ، وهي ليست بمطلوبة ، وإنّما المطلوب دلالة النهي على الصحّة الشرعية.

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠.


فروع فقهية

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تعرض في تقريراته إلى بعض المسائل التي لها صلة بالموضوع ونحن نقتفيه :

١. إذا تعلّق النهي بالإيجاب دون القبول فهل تسري الحرمة إلى القبول أو لا؟ كما إذا كان الموجب محرماً دون القابل؟ الظاهر ، لا لعدم الملاك إلا إذا لوحظت المسألة من باب الإعانة على الإثم ، وهو خارج عن محط البحث ، قال في « الجواهر » : ذهب جماعة إلى اختلاف حكم المتعاقدين في البيع وقت النداء إذا كان أحدهما مخاطباً بالجمعة دون الآخر ، فخصّوا المنع بمن خوطب بالسعي وحكموا بجواز البيع من طرف الآخر ، نعم رجّح جماعة آخرون عموم المنع من حيث الإعانة بالإثم. (١)

٢. إذا كانت المعاملة باطلة من جانب واحد كما إذا كانت غررية من جانب الموجب دون القابل ، فهل يسري الحكم الوضعي إلى الطرف الآخر ، أو لا؟ الظاهر نعم ، لأنّ مفاد المعاملة أمر بسيط لا يقبل التبعض ، فالملكية المنشأة إمّا موجودة أو لا. فعلى الأوّل يلزم صحة المعاملة في كلا الجانبين ، وهو خلاف الفرض ، والثاني هو المطلوب.

٣. لو كان لنفس الإيجاب أثر مستقل وإن لم ينضم إليه القبول لترتب عليه ، كما إذا كان الموجب أصلياً دون القابل ، فما لم يردّ القابلُ الحقيقي لما كان له حق التصرف في المبيع ، لأنّه أثر للايجاب الكامل ، وهو محقّق وليس أثراً لمالكيّة القابل حتّى يقال بأنّها غير متحقّقة بعده. (٢)

__________________

١. الجواهر : ٢٩ / ٢٤١.

٢. مطارح الأنظار : ١٧١.


ثمّ إنّ الثمرات الفقهية لمسألة النهي عن العبادات والمعاملات متوفرة في الفقه ، وقد ذكر شيخنا الأُستاذ ـ مد ظلّه ـ قسماً منها في الدورة السابقة ولم يتعرض لها في هذه الدورة ( الرابعة ) وأحال إلى كتاب المحصول الذي هو تقرير لدروس الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة الثالثة من دورات أُصوله بقلم زميلنا السيّد محمود الجلالي المازندراني ـ حفظه اللّه ـ فمن حاول الاطلاع فليرجع إليه.



المقصد الثالث

المفاهيم

١. مفهوم الشرط

٢. مفهوم الوصف

٣. مفهوم الغاية

٤. مفهوم الحصر

٥. مفهوم اللّقب

٦. مفهوم العدد



المقصد الثالث

المفاهيم

وقبل الدخول في صلب المقصود نقدّم أُموراً :

الأوّل : المنطوق والمفهوم من أوصاف المدلول

يوصف المدلول ، بالمنطوق تارة وبالمفهوم أُخرى ، يقال : مدلول منطوقي ومدلول مفهومي ، كما توصف الدلالة بهما أيضاً ويقال دلالة منطوقية ، ودلالة مفهومية ، فيقع الكلام في أنّهما من أوصاف المدلول أو الدلالة ، والظاهر انّهما من أوصاف المدلول فانّ المعنى إذا دلّ عليه شيء ، فإمّا أن يفهم من منطوق اللفظ وحاقِّه فهو مدلول منطوقي ، أو يفهم لا من منطوقه وحاقه فهو مدلول مفهومي ، فعندئذ ينقسم المعنى المدلول إلى منطوق ومفهوم.

وبما انّ المدلول هو المعنى الذي دلّ عليه اللفظ الدالّ فتنقسم الدلالة أيضاً ـ باعتبار المدلول ـ إلى منطوقية ومفهومية.

وإن شئت قلت : إنّ ما يدلّ عليه اللفظ ينقسم إلى ما يسمّى بالعرف بما يُنْطَق وإلى ما يُفْهم ، ووصف الدلالة بهما ليست بنفسهما ، بل بعناية انتزاعهما من المدلول ثمّ وصفها بهما. فإذا كان المدلول منطوقياً توصف الدلالة أيضاً بها ، وإذا كان مفهومياً توصف بها أيضاً.


نعم ، ليس المنطوق ولا المفهوم من أوصاف المعنى بما هو هو ، بل من أوصاف المعنى إذا وقع في إطار الدلالة حتى صار مدلولاً ، وهذا بخلاف الكلية والجزئية فانّها من صفات المعنى بما هو هو ، وإن لم يقع في إطار الدلالة.

ومن هنا يعلم أنّ أوصاف المفهوم على قسمين ، قسم وصف له بما هو هو ، كما مثّلنا بالكلية ، وقسم وصف له بما انّه مدلول بإحدى الدلالات فلاحظ.

الثاني : تعريف المفهوم

عرّف الحاجبي ( المتوفّى ٦٤٢ هـ ) المفهوم ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق والمنطوق ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق.

ثمّ إنّ العضدي ( المتوفّى ٧٥٧ هـ ) شارح مختصر الحاجبي قال بأنّ المراد من الموصول ( ما ) هو الحكم ، فهو إن كان محمولاً على موضوع مذكور فهو منطوق ، وإن كان محمولاً على موضوع غير مذكور فهو مفهوم. ثمّ قال : إنّ قوله : « في محلّ النطق » إشارة إلى المنطوق بما انّ الموضوع مذكور فيه ، كما أنّ قوله : « لا في محل النطق » إشارة إلى المفهوم لعدم ذكر الموضوع في محله. (١)

يلاحظ على ذلك التفسير بأنّ الفارق بين المنطوق والمفهوم ليس هو ذكر الموضوع في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، بل الموضوع مذكور في كلتا القضيتين ، وإنّما الاختلاف في وجود القيد في المنطوق وعدمه في المفهوم وبالتالي اختلاف القضيتين في الكيف أي الإيجاب والسلب ، فإذا قلنا : إن سلّم زيد أكرمه ، فالموضوع هو زيد لكنّه في صورة التسليم يحكم عليه بالإكرام ، وفي صورة عدمه بعدمه.

__________________

١. منتهى الوصول والأمل المعروف بمختصر الحاجبي : ١٤٧ ، ونقل الشيخ الأعظم كلام العضدي في مطارح الأنظار : ١٧٢ ، الطبعة الحجرية.


ولمّـا كان هذا التفسير من العضدي غير صحيح عاد المحقّق البروجردي إلى تفسير كلام الحاجبي بنحو آخر وقال : ما هذا خلاصته : انّ ما يفهم من كلام المتكلّم قد يكون على نحو يمكن أن يقال انّه نطق به على نحو لو قيل للمتكلّم : أنت قلت هذا؟ لايصحّ له إنكاره.

وقد يكون على نحو لا يصحّ أن ينسب إليه بأنّه نطق به وللمتكلّم إمكان الفرار منه ونفي صدوره عنه ، فإذا قال : « إذا جاءك زيد أكرمه » فعدم ثبوت الإكرام عند عدم المجيء وإن كان مفهوماً منه لكن للمتكلم إمكان الفرار منه وإنكار انّه مراده ، والمداليل المطابقية والتضمنية والالتزامية للجمل ممّا لا يمكن للمتكلّم أن ينكر القول بها بعد إقراره بنطقه بالكلام ، ولأجل ذلك جعلوها من المداليل المنطوقية.

وببيان آخر : انّ المنطوق ما نطق به المتكلم بلا واسطة كما في المدلول المطابقي أو مع الواسطة كما في الأخيرين ، والمفهوم عبارة عمّا لم ينطق به لا بلا واسطة ولا معها ولكن يفهم من كلامه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ هذا التفسير أيضاً كالتفسير السابق ، وذلك لأنّه لم يبين ضابطة لما يُنطق به المتكلّم ولما لم يُنطق به ، بل اكتفى بأنّ المداليل الثلاثة يعدّ ممّا ينطق بها وغيرها ممّا لا ينطق بها ، وذلك لأنّ الملاك في النطق وعدمه لو كان سرعة التبادر إلى الذهن فرب مفهوم أسرع تبادراً من المنطوق خصوصاً إذا كان المفهوم مفهوم الموافقة ، كالنهي عن الشتم والضرب المتبادر من النهي عن التأفيف وتبادره أسرع من تبادر جزء المعنى الذي ربما يكون مغفولاً عنه ، وعندئذ يطرح السؤال : كيف يكون النطق بالكل ( المدلول المطابقي ) نطقاً بالجزء ( الدلالة التضمنية ) ولا يكون النهي عن التأفيف نطقاً بالنهي عن الضرب والشتم؟

__________________

١. نهاية الأُصول : ١ / ٢٦٣.


ولو كان الملاك كون المنطوق ممّا سيق لأجله الكلام دون المفاهيم فهو أيضاً كالشقّ السابق ، إذ ربما يكون المفهوم ممّا سيق لأجله الكلام ويتعلّق الغرض من الكلام إفادة المفهوم.

أضف إلى ذلك ، إذا كانت الدلالة التزامية من المداليل المنطوقية فلا يبقى للمدلول المفهومي شيء ، سوى الدلالات السياقية الثلاثة كما سيوافيك.

وعلى كلّ حال فتعريف الحاجبي بكلا التفسيرين غير خال عن الإشكال.

تعريف المحقّق الخراساني للمفهوم

عرّف المحقّق الخراساني المفهوم بأنّه حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيةُ المعنى الذي أُريد من اللفظ بتلك الخصوصية ، فالمفهوم حكم غير مذكور لا أنّه حكم لغير مذكور. (١)

إنّ ما أفاده في ذيل الكلام هو الذي أشرنا إليه في نقد كلام العضدي وقلنا : إنّ الموضوع مذكور ، والاختلاف في الحكم رهن الاختلاف في الشرط ، فعند وجوده يترتّب عليه الجزاء ، وعند عدمه يرتفع.

ثمّ إنّ مراد المحقّق الخراساني من المعنى في لفظ « خصوصية المعنى » هو العلية ، والمراد من الخصوصية كونها منحصرة ، ومعنى العبارة : انّ المفهوم رهن كون القيد علّة منحصرة.

ولا يخفى انّ ظاهر العبارة انّ هنا شيئين :

١. المعنى وهو العلّية.

٢. الخصوصية وهي الانحصار.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٠١.


ولا يخفى انّ الخصوصية جزء من المعنى لا زائد عليه ، فمعنى قولنا : إن سلّم زيد أكرمه ، هو انّ التسليم علّة منحصرة دلّ عليها الهيئة الشرطية ، فإذا ارتفعت العلّة المنحصرة ارتفع المعلول.

وكان على المحقّق الخراساني أن يعرّفه بتعريف أسهل وهو : حكم إنشائي أو إخباري لازم للمعنى المراد من اللفظ.

الثالث : حصر المداليل في المنطوق والمفهوم

إنّ ظاهر كلمات القوم حصر المداليل في المنطوق والمفهوم ولا ثالث له ، والمراد من المنطوق ما نطق به المتكلّم باعتبار كون اللفظ مرآة للمعنى ، وينحصر في الدلالة المطابقية والتضمنية باعتبار انّ النطق بالكل ، نطق بالجزء ، كما أنّ المراد من المفهوم هو الدلالة الالتزامية ، أي لازم المعنى ، من غير فرق بين لازم المفرد ، أو لازم الكلام.

نعم ظاهر كلام المنطقيين ، انّ تقسيم الدلالة إلى مطابقية أو تضمنية أو التزامية من خصائص المفردات والكلمات ، لا الكلام والجمل ولكنّ الأُصوليين عمّموها إلى الكلام أيضاً ، فيجري فيه ما يجري في المفرد ، مثلاً إذا قال : الشمس طالعة ، فقد أخبر بالدلالة الالتزامية عن أنّ النهار موجود.

والذي يعرب عن كون موضوع التقسيم عند أهل الميزان هو المفرد ، تعبير التفتازاني في « التهذيب » والسبزواري في منظومته.

قال الأوّل : دلالة اللفظ على تمام ما وضع له ، مطابقة ، وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج التزام.

وقال الحكيم السبزواري :


دلالة اللفظ بدت مطابقة

حيث على تمام المعنى وافقه

وماعلى الجزء تضمنا وُسِم

وخارج المعنى التزام إن لزم

ونظير ذلك ، تقسيم اللازم إلى البيّن وغير البيّن ، وكلّ منهما إلى الأخص والأعم فانّ المتبادر ، هو تقسيم العرض ( المفرد ) إلى تلك الأقسام قال التفتازاني في « التهذيب » : وكلّ من العرض الخاص والعام إن امتنع انفكاكه عن الشيء فلازم بالنظر إلى الماهية والوجود ، بيّن يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم أو من تصوّرهما والنسبة بينهما بالجزم باللزوم وغير بيّن بخلافه.

توضيحه : انّهم قالوا :

١. اللازم البيّن بالمعنى الأخص هو ما يكون تصوّر الموضوع كافياً في تصوّر اللازم ، كالأعمى بالنسبة إلى البصر. واللازم غير البيّن بخلاف حيث لا يكفي تصوّر الموضوع ، في تصوّر اللازم.

٢. اللازم البيّن بالمعنى الأعم وهو ما يكون تصوّر الموضوع غير كاف في تصور اللازم ، بل يحتاج إلى تصوّر الطرفين ولحاظ النسبة ثمّ الجزم باللزوم ، وهذا كالزوجية بالنسبة إلى الأجداد القريبة ، فانّ الإنسان لا ينتقل من مجرد تصوّر الموضوع إلى اللازم والحكم بالملازمة.

٣. اللازم غير البيّن بالمعنى الأعم ، وهو ما يحتاج وراء تصوّر الأُمور الثلاثة إلى إقامة البرهان على الملازمة ، وهذا كالحدوث بالنسبة إلى العالم الذي يحتاج بالجزم بالنسبة إلى برهان ، نظير قولنا : العالم متغير ، وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث.

ولكنّ الأُصوليين ، قالوا بجريان مثل ذلك في لوازم الكلام والجمل ، وانّه أيضاً ينقسم إلى أقسام ثلاثة ، فلوازم المعنى مفرداً كان المعنى أو كلاماً ، بيّناً كان


اللازم أو غير بيّن من أقسام الدلالة الالتزامية.

فاتّضح بذلك انّ المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية ولا ثالث. لأنّ المداليل لا يخلو إمّا أن تكون مطابقية أو تضمنية أو التزامية ولا رابع. والأوّلان يشكّلان المداليل المنطوقية ، والأخير ـ بعرضها العريض ـ كما عرفت يشكّل المدلول المفهومي.

فإن قلت : ما تقول في المداليل السياقية أهي مداليل منطوقية ، أو مفهومية ، أو لا هذه ولا تلك بل هي أُمور برأسها ، يجمع الكل انّها دلالات سياقية ، فعندئذ تنثلم كلية القضية المذكورة ، أعني : المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية؟

قلت : ذهب المحقّق البروجـردي إلى أنّهـا دلالات منطوقيـة بأنّ المنطـوق منقسم إلى الصريح وغير الصريح ، والثاني ما دلّ عليه اللفظ بدلالة الاقتضـاء والتنبيه والإشارة ، لأنّ ما يدلّ عليه إن كان غير مقصود للمتكلّم فهو المدلول عليه بدلالة الإشارة كدلالة الآيتين ( البقرة : ٢٣٣ ، الأحقاف : ١٥ ) على أقلّ الحمل.

وإن كان مقصوداً بأن كان صدق الكلام أو صحته يتوقّف عليه فهو المدلول بدلالة الاقتضاء ، نحو رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ والنسيان ونحو : ( اسأل القرية ) (١) فانّهما يدلاّن على مقدّر مصحّح الكلام.

وإن اقترن بالحكم ما فهم منه العلية فهو المدلول عليه بدلالة الإيماء والتنبيه ، كما لو قال السائل : واقعت في نهار رمضان ، فأجيب « كفّر » ، فإنّ اقتران الجواب بسؤال السائل يفهم منه ، عليّة الوقاع للكفّارة.

__________________

١. يوسف : ٨٢.


وأقول : يمكن عدّها من الدلالات الالتزامية حيث إنّ الجميع من لوازم المعنى ، سواء كان مقصوداً أو لا.

وقد خصّ المحقّق النائيني المفهوم باللازم البيّـن بالمعنى الأخص ، وجعل الدلالات الثلاث من اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ وأسماها دلالة سياقية ، وظاهره انّها ليست منطوقية ولا مفهومية.

وجود اصطلاحين في لفظ المفهوم

وممّا يجب إلفات نظر القارئ إليه انّ في إطلاق لفظ « المفهوم » اصطلاحين مختلفين :

١. الاصطلاح العام : وهو يعمّ جميع المداليل الالتزامية للمفرد والكلام ، البيّن وغير البيّن حتّى الأقسام الثلاثة التي أسماها المحقّق النائيني بالسياقية.

٢. الاصطلاح الخاص : وهو ما يبحث عنه هنا من ثبوت الحكم عند ثبوت القيد وارتفاعه عند ارتفاعه ، والمقصود في المقام هو الثاني ، ولعلّ النسبة بين الاصطلاحين هي العموم والخصوص المطلق.

الرابع : مسلك القدماء والمتأخّرين في استفادة المفهوم

ذهب السيّد البروجردي إلى أنّ مسلك القدماء في استفادة العموم من القضايا ، يختلف مع مسلك المتأخرين ، فإنّ دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها ليست دلالة لفظيّة ، بل هي من باب بناء العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير ، على كونه صادراً لغاية ، وكون الغاية المنظورة منه ، غايته النوعية العادية ، والغاية المنظورة عند العقلاء من


نفس الكلام ، حكايته لمعناه ، ومن خصوصياته ، دخالتها في المطلوب ، فإذا قال المولى : إن جاءك زيد فأكرمه ، حَكَمَ العقلاءُ بمدخلية مجيء زيد في وجوب إكرامه قائلاً بأنّه لولا دخله فيه لما ذكره المتكلّم ، وكذا سائر القيود ، وعلى ذلك فاستفادة المفهوم ليست مبنيّة على دلالة الجملة على الانتفاء عند الانتفاء ، بل مبني على أنّ الأصل في فعل الإنسان أن لا يكون لاغياً ، بل يكون كلّ فعل منه ، ومنه الإتيان بالقيد صادراً لغايته الطبيعية وهو دخله في الحكم.

وأمّا مسلك المتأخّرين فهو مبنيّ على دلالة الجملة وضعاً أو إطلاقاً على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم فيرتفع الحكم بارتفاعه ، وعلى ذلك يكون البحث عند القدماء عقلياً ، وعند المتأخّرين لفظيّاً. (١)

إنّ ما نسبه سيّدنا الأُستاذ إلى القدماء لم أقف عليه صريحاً في كتب القدماء إلا في الذريعة للشريف المرتضى ، قال : استدلّ المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء. (٢)

منها : انّ تعليق الحكم بالوصف لو لم يدل على انتفائه إذا انتفت الصفة لم يكن لتعليقه بالصوم معنى وكان عبثاً.

ومع ذلك فقد استدلّ بأُمور أُخرى غالبها يرجع إلى التبادر أو قياس الوصف بالاستثناء ، أو قياس الوصف بالشرط ، ولذلك استدلّ المخالف بالوجوه التالية أيضاً :

١. انّ تعليق الحكم بالسوم يجري مجرى الاستثناء من الغنم ، ويقوم مقام قوله : « ليس في الغنم إلا السائمة ، الزكاةُ » فكما أنّه لو قال ذلك لوجب أن تكون

__________________

١. نهاية الأُصول : ٢٦٥.

٢. يريد بالمخالف ، القائل بالمفهوم.


الجملة المستثنى منها بخلاف الاستثناء ، فكذلك تعليق الحكم بصفة.

٢. انّ تعليق الحكم بالشرط لمّا دلّ على انتفائه بانتفاء الشرط ، فكذلك الصفة ، والجامع بينهما انّ كلّ واحد منهما كالآخر في التخصيص ، لأنّه لافرق بين أن يقول : في سائمة الغنم الزكاة ، وبين أن يقول : فيها إذا كانت سائمة الزكاة.

٣. ما روي عن عمر بن الخطاب : أنّ يعلى بن منبه سأله ، فقال له : ما بالنا نقصر ، وقد أُمنّا؟ فقال له : عجبتُ ممّا عجبتَ منه ، فسألتُ عنه رسول اللّه 6 فقال : « صدقة تصدق اللّه بها عليكم ، فاقبلوا صدقته » فتعجبهما من ذلك يدلّ على أنّهما فهما من تعلّق القصر بالخوف أنّ حال الأمن بخلافه. (١)

هذا هو نصّ المرتضى من أعيان أئمّة الأُصوليين من الشيعة ( المتوفّى عام ٤٣٦ هـ ) وإليك نصاً آخر من أحد أئمّة الأُصوليين من السنّة ألا وهو أبو الحسين محمد بن علي بن طيب البصري المعتزلي ، المتوفّى في نفس السنة التي توفي فيها المرتضى ، فانّه ذكر ما ذكره المرتضى بصورة أُخرى ، واستدلّ على وجود المفهوم بالقضايا الشرطية ، قال : الدليل على أنّ الشرط يمنع من ثبوت الحكم مع عدمه على كلّ حال انّ قول القائل لغيره ( أدخل الدار إن دخلها عمرو ) معناه انّ الشرط في دخولك هو دخول عمرو ، لأنّ لفظة إن موضوعة للشرط ، ولو قال له : « شرط دخولك الدار دخول عمرو » علمنا أنّه لم يوجب عليه دخول الدار مع فقد دخول عمرو على كلّ حال ، فكذلك في مسألتنا. (٢)

ترى أنّه يستدلّ بالتبادر.

ثمّ قال : ويدلّ على أنّ المعقول من الشرط ما ذكرنا ما روي من أنّ يعلى بن

__________________

١. الذريعة إلى أُصول الشريعة : ١ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

٢. المعتمد : ١ / ١٤٢.


منبه سأل عمر بن الخطاب : ما بالنا نقصر وقد أُمنا؟ فقال : عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألت رسول اللّه 6 فقال : صدقة تصدق اللّه بها عليكم فأقبلوا صدقته ، فلو لم يعقل من الشرط نفي الحكم عمّا عداها لم يكن لتعجبهما معنى.

كما أنّ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي ( المتوفّى ٤٧٦ هـ ) مؤلف « التبصرة في أُصول الفقه » استدلّ ببعض هذه الوجوه مثلاً ، قال : روي أنّ ابن عباس خالف الصحابة في توريث الأُخت مع البنت واحتجّ بقوله تعالى : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ، وهذا تعلّق بدليل الخطاب. وانّه لما ثبت ميراث الأُخت عند عدم الولد ، دلّ على أنّها عند وجوده لا تستحقه. وهو من فصحاء الصحابة وعلمائهم ، ولم ينكر أحد استدلاله ، فدلّ على أنّ ذلك مقتضى اللغة. (١)

ترى أنّهم يستدلّون بالتبادر تارة ، وبالمقايسة ثانياً ، وليس في كلامهم شيء من بناء العقلاء على أنّ للقيد دخلاً ، كما ليس في كلامهم ما يدلّ على أنّ البحث منعقد على حجّية بناء العقلاء.

نعم كان لسيد مشايخنا المحقّق البروجردي 1 اطلاع واسع على كلمات الأُصوليين قدمائهم ومتأخريهم ، ولعلّه وقف على ما لم نقف عليه.

الخامس : النزاع صغروي لا كبروي

إنّ النزاع في باب المفاهيم على مسلك المتأخّرين صغروي ومرجعه إلى دلالة القضية الشرطية الوصفية بالوضع أو الإطلاق على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم ، وعدم دلالتها ، فلو ثبت الانحصار ، ودلّ على المفهوم ، يكون

__________________

١. التبصرة في أُصول الفقه : ٢١٩.


حجّة بلا كلام ، بخلاف ما إذا لم يثبت ، فالنزاع في دلالة القضية على الانحصار ، وبالتالي في وجود المفهوم للقضية وعدمه ، الذي هو نزاع صغروي. وإلا فلو ثبت انّ للقضية مفهوماً فهو حجّة بلا كلام.

وأمّا على مسلك القدماء فقد استظهر السيّد البروجردي بناءً على أنّ النزاع كبروي ، أنّ البحث في حجية بناء العقلاء ، لأنّه قد استقر بناؤهم على حمل الخصوصيات الموجودة في الكلام على كونها صادرة عنه بداعي غايتها النوعية ، وانّ الغاية النوعية هي دخلها في المطلوب ، وهذا البناء من العقلاء موجود والكلام في حجّيته.

يلاحظ عليه : أنّه يمكن أن يكون النزاع على مسلك القدماء ـ لو ثبت ـ أيضاً صغرويّاً وهو النزاع في تفسير مقدار المدخلية في الحكم ، فهل على نحو لو ارتفع ارتفع ، الحكم مطلقاً ولا ينوبه شيء آخر ، حتّى يكون سنخ الحكم مرتفعاً أيضاً كشخص الحكم أو ليس كذلك.

فإذا قال الإمام : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء » فهل مدخلية الكرّية على نحو ، يدور سنخ الحكم مدارها فيثبت بثبوتها وينتفي بانتفائها؟ أو ليس كذلك وإنّما يرتفع شخص الحكم ، دون سنخه لإمكان إقامة علّة قيد آخر مكانه ككونه جارياً ، أو كون السماء ماطرة عليه عند ملاقاته بالنجاسة ، فالنزاع في مقدار المدخلية ، فلو ثبت مقدارها فبناء العقلاء حجّة لكونه بمرأى ومسمع من الشارع.

السادس : في مفهوم الموافقة

الفرق بين المفهوم المخالف والموافق هو انّ الحكم في القضيتين لو كان


مخالفاً بالنفي والإثبات ، فالمفهوم مخالف ، ولو كان موافقاً فالمفهوم موافق ، فإذا قال سبحانه : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُف ) فهو يدلّ على حرمة الضرب والسب ، فالحكم منطوقاً ومفهوماً هو الحرمة ، والقضية سالبة بخلاف ما إذا قال : إن سلّم زيد أكرمه ، فالمنطوق قضية موجبة ، والمفهوم قضية سالبة.

السابع : في الشرط المحقّق للموضوع

النزاع في وجود المفهوم أو حجّيته فيما إذا شملت القضية على أُمور ثلاثة متغايرة :

١. فعل الشرط.

٢. الموضوع ، أو الفاعل

٣. الجزاء.

فيحكم على الموضوع أو الفاعل بالجزاء عند وجود الشرط ، وبعدمه عند عدم الشرط ، وأمّا إذا كان فعل الشرط ، محقّقاً للموضوع لا أمراً زائد عليه ، كما إذا قال : إن رزقت ولداً فاختنه ، فإنّ رزق الولد ، ليس شيئاً زائد على وجود نفس الولد ، ففي مثله ، تكون القضية خالية عن المفهوم لعدم الموضوع ، لا لوجود الموضوع وعدم الشرط.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في صلب الموضوع ، والكلام فيه ضمن فصول :


الفصل الأوّل

مفهوم الشرط

هل الجملة الشرطية ، تدلّ على الثبوت لدى الثبوت والانتفاء عند الانتفاء ، أو لا؟ والقائل بالدلالة ، إمّا يدّعيها عن طريق الوضع وان هيئة الجملة الشرطية وضعت لذلك ، أو يدّعيها عن طريق الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وانّ الاقتصار على بيان شرط واحد ، مع كونه في مقام البيان ، شاهد على أنّه السبب المنحصر ، أو يدّعيها عن طريق الانصراف.

ثمّ إنّ القول بالدلالة على المفهوم فرع ثبوت أُمور ثلاثة :

١. وجود الملازمة بين وجود الشرط والجزاء ، وعدم كون القضية من قبيل القضايا الاتفاقية ، مثل قولك : خرجت فإذا زيد بالباب ، فانّ المفاجأة بوجود زيد ، لدى الخروج قضية اتفاقية دون وجود أيّة ملازمة بين الخروج والمفاجأة لوجوده. (١)

٢. انّ التلازم من باب الترتّب ، أي كون الشرط علّة للجزاء ، فخرج ما إذا كان هناك تلازم دون أن يكون ترتّب علّـيّ كقولك : كلّما قصر النهار طال الليل ، أو كلّما طال النهار قصر الليل ، فانّ طول الليلة عند قصر النهار ، معلولين لعلّة

__________________

١. خرج قولهم : « إذا كان الإنسان ناطقاً ، فالحمار ناهق » لوجود الملازمة الاتّفاقية وإن لم يكن بين الحكمين ، رابطة علّية أو معلولية.


ثالثة دون أن يكون الأوّل علّة للثاني.

٣. كون الترتّب بنحو العلّة المنحصرة ، وعدم وجود علّة أُخرى تقوم مقام العلّة المنتفية ، ولعلّ ظهور القضية في الأوّلين ممّا لا ريب فيه ، إنّما الكلام في ثبوت الأمر الثالث وقد استدل عليه المحقّق الخراساني بوجوه خمسة وناقش في الجميع.

ونحن نذكر الجميع ، مع بعض الملاحظات في كلام المحقّق الخراساني.

الأوّل : التبادر

المتبادر من الجملة الشرطية ، كون اللزوم والترتّب بين الشرط والجزاء ، بنحو العلّة المنحصرة.

وناقش فيه المحقّق الخراساني بوجهين :

١. انّ التبادر آية الوضع ، أي وضع الجملة الشرطية على ما كون الشرط علّة منحصرة ، ويترتّب على ذلك انّه لو استعملت في غير العلة المنحصرة صار مجازاً وهو كما ترى ، إذ لا يرى في استعمالها في غير المنحصرة عناية ورعاية علاقة ، بل إنّما تكون إرادته كإرادة الترتّب على العلة المنحصرة بلا عناية ، فلا ترى أي عناية في قوله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » مع أنّ الكرّيّة ليست علّة منحصرة للعاصمية ، بل ينوب عنها كون الماء جارياً ، أو ورود المطر عليه عند ورود النجاسة على الماء.

٢. عدم صحّة التمسك بمفهوم كلام المتهم في المحاكمات والمخاصمات وأنّ له أن يعتذر بخلو كلامه عن المفهوم ، مع أنّه لو كان موضوعاً له ، لم يصحّ الاعتذار.


الثاني : الانصراف

وحاصل هذا الوجه : انّ المطلق ينصرف إلى أكمل أفراده ، فإذا كان السبب دالاً على الترتّب العلّي فهو ينصرف إلى أكمل الأفراد ، وهي العلّة المنحصرة.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين : أحدهما صغروي والآخر كبروي.

أوّلاً : بمنع كون العلّة المنحصرة ، أكمل في العلّية ـ من غيرها إذ عدم قيام شيء آخر مقامه ، أو قيامه ، لا يؤثر في شؤون العلية وواقعها.

وثانياً : لو افترضنا انّ المنحصرة أكمل أفراد العلّة ـ فلا وجه لانصراف المطلق إليه ، لأنّ الانصراف معلول أحد أمرين :

كثرة الاستعمال ، أو كثرة الوجود. وكلاهما منتفيان في العلّة المنحصرة.

الثالث : التمسّك بالإطلاق

وقد قرره المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :

الأوّل : الانحصار مقتضى إطلاق أداة الشرط

إنّ أداة الشرط أو هيئة الجملة الشرطية موضوعة لمطلق اللزوم الترتّبي إلا أنّ له فردين :

١. اللزوم الترتّبي بنحو الانحصار.

٢. اللزوم الترتّبي لا بنحو الانحصار.

ومن المعلوم أنّ المتكلّم بالقضية الشرطية لم يستعمل صرف الشرط أو هيئة الجملة الشرطية في الجامع ، أعني : اللزوم الترتبي بما هو هو ، بل أراد منه أحد


الفردين ، فمقتضى مقدمات الحكمة حملها على الفرد الذي لايحتاج إلى بيان زائد ، أعني : العلّة المنحصرة لا على الفرد الآخر ، أي العلّة غير المنحصرة ولو أراد الثاني لقيّده.

ثمّ إنّ المستدل قاس المقام بما إذا دار الأمر بين الواجب النفسي والغيري ، فانّ الضابطة هي حمل الصيغة على الأمر النفسي دون الغيري ، وذلك لأنّ النفسي هو الواجب على الإطلاق بلا قيد ولكن الثاني هو الواجب لغيره ، أو إذا وجب الغير فمقتضى مقدّمات الحكمة حمله على ما يكون المطلق وافياً ببيانه كالنفسي دون الفرد الآخر الذي يحتاج وراء المطلق إلى وجود قيد آخر.

وقد أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :

الأوّل : انّ الإطلاق والتقييد من شؤون المعاني الاسمية التي تقع في أُفق النفس ، فيلاحظها تارة مطلقة وأُخرى مقيدة.

وأمّا المعاني الحرفية كمعنى « إن الشرطية » أو هيئة الجملة الشرطية فكلّها معان حرفية آلية فلا توصف بالإطلاق ولا التقييد ، إذ لا يمكن لحاظها على وجه الاستقلال حتّى توصف بأحدهما.

الثاني : وجود الفارق بين المقيس والمقيس عليه ، وحاصله : انّ المطلق أو الجامع بين الفردين كاف في بيان الواجب النفسي ، وليس كذلك في بيان الواجب الغيري ، وذلك لأنّ النفسي هو الواجب على كلّ حال بخلاف الغيري فانّه واجب إذا وجب الغير ، فإذا تمت مقدّمات الحكمة يحمل المطلق على النفسي لعدم حاجته إلى بيان زائد.

وهذا بخلاف اللزوم الترتّبي فانّ له فردين وكلّ فرد يتميّز عن الفرد الآخر بقيد زائد على اللزوم الترتّبي ، أعني : الانحصار وعدم الانحصار.


يلاحظ على نقد المحقّق الخراساني بوجوه :

أوّلاً : أنّ ما ذكره هنا في وصف المعاني الحرفية يغاير مختاره في مقدّمات الكتاب عند البحث عن المعاني الاسمية والحرفية ، فقد ذهب هناك إلى وحدة المعنى الاسمي والحرفي جوهراً وان الاستقلالية والآلية من طوارئ الاستعمال وعوارضه ، فعندئذ تصبح المعاني الحرفية كالاسمية مصباً للإطلاق ، إذ ليس الآلية جزءاً ، كما أنّ الاستقلالية ليست جزءاً بل ذات المعنى عارية عن الآلية والاستقلالية.

ثانياً : سلمنا انّ الآلية جزء للمعنى الحرفي ولكن كون الشيء مفهوماً آلياً ليس بمعنى كونه مغفولاً عنه من رأس حتّى يمتنع التقييد ، بل انّ كثيراً من القيود في الكلام يرجع إلى المعاني الحرفية ، فقولك : ضربت زيداً في الدار ، فالظرف قيد للنسبة ، أي كونه في الدار.

ثالثاً : انّ التفريق بين المقيس والمقيس عليه غير تام إذا قصرنا النظر إلى مقام الثبوت ، فكما أنّ العليّة التي هي المقسم ينقسم إلى قسمين منحصرة وغير منحصرة وكلّ من القسمين يتميز عن المقسم بقيد زائد وإلا عاد القسم مقسماً ، فهكذا الواجب فانّه بما هو هو مقسم والنفسي والغيري من أقسامه ، ومن واجب القسم أن يتميز عن المقسم بقيدين ، وإلا عاد القسم مقسماً ، فالواجب النفسي ما وجب لنفسه أو ما وجب على كلّ تقدير ؛ والواجب الغيري ما وجب لا على كلّ تقدير ، بل إذا وجب الغير (١) ، فأصبح كالعلّة المنقسمة إلى المنحصرة وغير المنحصرة.

والأولى أن يُردّ الاستدلال بوجه حاسم ، وهو انّ قوام الإطلاق كون المتكلّم

__________________

١. نعم قد ذكرنا في أوائل مبحث الأوامر انّه إذا دارت صيغة الأمر بين النفسي والغيري يحمل على الغيري بالبيان المذكور في محله.


في مقام البيان بالنسبة إلى نفي القيد الزائد ، إلا أنّ احتمال دخالة القيد الزائد يتصوّر على وجهين :

١. دخله في الموضوع بنحو الجزئية والشرطية ، كما إذا قال : اعتق رقبة ، فاحتمال دخالة الإيمان مدفوع بالإطلاق ، وذلك لأنّ المتكلّم إذا صار بصدد بيان الموضوع كلّه كان عليه أن يقيد الرقبة بالإيمان ، فإذا خلا كلامه عن ذلك القيد يحكم عليه بعدم الدخالة.

٢. دخله في الموضوع لا بصورة الجزئية ، بل لكونه نائباً عن الموضوع ومؤثراً مثله ، كما إذا احتملنا انّ لوجوب تكريم زيد سببين أحدهما تسليمه ، والآخر إحسانه ، فإذا قال المولى : زيد ـ إن سلّم ـ أكرمه ، فمقتضى الإطلاق كون التسليم تمام الموضوع كالرقبة في المثال السابق ، وأمّا كونه سبباً منحصراً لا ينوب عنه شيء آخر فلا يثبته الإطلاق إلا أن يكون المتكلّم بصدد بيان هذه الجهة أيضاً وهو نادر.

فإذا قال الصادق : الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء ، فمقتضى الإطلاق كون الكرّيّة تمام الموضوع للعاصمية وليس لها شرط ولا جزء وراء الكرّيّة.

نعم وأمّا كون الكرّيّة سبباً منحصراً ـ مضافاً إلى أنّه سبب تام ـ فهو يحتاج إلى كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى هذه الجهة ، أي وراء جهة كونه سبباً تامّاً وأنّى يمكن إحرازه ، وهذا هو الإشكال المهم في المقام ، وهو يرد على عامّة التقريرات الثلاثة للإطلاق ، ولكن المحقّق الخراساني أشار إليه في التقرير الثاني من التقريرات الثلاثة للإطلاق.

الثاني : الانحصار مقتضى إطلاق فعل الشرط

هذا هو التقرير الثاني للإطلاق ، والفرق بين التقريرين واضح ، فإنّ مصب


الإطلاق في التقرير الأوّل هو مفاد « إن الشرطية » أو هيئة الجملة الشرطية ، بخلاف هذا الوجه فانّ مصبه هو فعل الشرط ، أعني قوله : « سلم » في قوله : « إن سلم زيد أكرمه ».

وحاصل هذا الوجه : انّه لو لم يكن منحصراً لزم تقييد تأثيره بما إذا لم يقارنه أو لم يسبقه شرط آخر ضرورة انّه لو قارنه أو سبقه شرط آخر لما أثّر وحدة كما في عاصمية الكر فانّه إنّما يؤثر إذا لم يكن ماء جارياً عن مبدأ وإلا فلا يكون مؤثراً مع أنّ قضية إطلاقه أنّه مؤثر مطلقاً ، قارنه شيء أم لم يقارنه ، سبقه شيء أم لم يسبقه. (١)

يلاحظ عليه : بما مرّ في نقد الوجه الأوّل من التقرير للإطلاق ، وهو انّ الإطلاق رهن كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى القيد الذي يراد نفيه ، فلو كان القيد مؤثراً في نفس الموضوع جزءاً أو شرطاً فينفى دخله بالموضوع في الإطلاق.

وأمّا إذا كان القيد المحتمل غير مؤثر في الموضوع ، بل يحتمل أن يكون ذلك القيد سبباً مستقلاً للحكم وراء السبب الموجود في المنطوق بأن يكون للعاصمية سببان :

١. الكرّيّة.

٢. جريان الماء متّصلاً بالنبع.

فنفي الشك الثاني النابع عن احتمال تعدّد السبب ، وعدمه ، فرع كون المتكلّم في مقام البيان من هذه الجهة أيضاً وأنّى لنا إثبات ذلك.

وبتعبير آخر : انّ نفي الشكّ في وحدة السبب وعدمها ، رهن كون المتكلّم يكون في مقام بيان أمرين :

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٠٦.


١. بيان كمال السبب وعدم نقصه.

٢. بيان وحدة السبب وعدم تعدّده.

والسائد على المتكلّمين في مقام الإطلاق هو الأوّل ، وأمّا كونه واحداً لا متعدّداً فخارج عن مصب الإطلاق غالباً ، إلا أن يحرز انّه أيضاً في مقام البيان لهذه الجهة.

إلى هنا تمّ بيان التمسّك بالإطلاق لإثبات الانحصار بوجهين.

بقي الكلام في الوجه الثالث للإطلاق ، وهو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : « وأمّا توهم انّه قضية إطلاق الشرط ... » وإليك بيانه :

الوجه الثالث : التمسّك بإطلاق الشرط بتقريب انّ مقتضى إطلاقه ، انحصارُه كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر كون الوجوب تعيينياً لا تخييرياً. (١)

وهذا الوجه ليس شيئاً جديداً وإنّما أخذ من الأوّل شيئاً ومن الثاني شيئاً آخر ولفّقهما وصار بصورة تقريب ثالث للإطلاق المفيد للانحصار ، فقد أخذ من التقريب الثاني كون مصب الإطلاق هو الفعل لا مفاد هيئة الجملة الشرطية ، كما أخذ من التقريب الثاني التشبيه غاية الأمر شبّه المقام بتردد صيغة الأمر بين التعييني والتخييري ، وقد شبّه المقام في التقريب الأوّل بتردّد الصيغة بين النفسي والغيري ، وإليك توضيحه :

إذا كانت العلّة والمؤثر على قسمين : قسم منحصر يؤثر مطلقاً سواء أكان هناك شيء آخر أو لا ، وقسم غير منحصر وإنّما يؤثر إذا لم يكن هناك مؤثر آخر متقدّم عليه ، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان واقتصر على بيان مؤثر واحد ، فمعناه انّه يؤثر مطلقاً حتّى وان تقدّم عليه شيء ، إذ لو لم يكن كذلك لزم المتكلّم تقييد

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٠٦.


تأثيره بما إذا لم يكن هناك شيء آخر ، فسكوته دليل على أنّه من قبيل القسم الأوّل ، نظير الواجب التعييني والتخييري حيث إنّ المتكلّم إذا اقتصر على بيان واجب واحد فمعناه انّه واجب مطلقاً أتى بشيء آخر أو لا ، وإلا كان عليه تقييد وجوبه بما إذا لم يأت بشيء آخر ، فإذا سكت فهو دليل على أنّه واجب تعييناً ، إذ لو كان واجباًتخييرياً كان عليه بيان العِدْل.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ بيان الجامع بين المنحصرة وغير المنحصرة ، وبين الواجب التعييني والتخييري كاف في بيان الشق الأوّل من الشقين ـ أي العلّة المنحصرة والواجب التعييني ـ وليس بواف لبيان الشقين الآخرين : غير المنحصر ، والتخييري.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا البيان ، ما هذا حاصله :

إنّ الفرق بين المقيس والمقيس عليه ظاهر فانّ التعيين والتخيير وصفان داخلان في ماهية الوجوبين ، وكأنّهما بالنسبة إلى الوجوب فصلان منوِّعان فكلّ من التعييني والتخييري نوع من الوجوب.

حيث إنّ الوجوب التعييني وجوب على كلّ تقدير أتى بشيء أو لا ، بخلاف الثاني فانّ التخييري وجوب على تقدير عدم الإتيان بشيء آخر.

وهذا بخلاف الانحصار وعدمه فانّهما غير داخلين في ماهية العلّة ، فانّ تأثير العلّة المنحصرة مثل تأثير غير المنحصرة من دون تفاوت بينهما ثبوتاً في نحو التأثير ، بل الانحصار وعدمه من المشخصات الصنفية حيث يكون الفرق بين العلّة المنحصرة وغيرها كالفرق بين الإنسان الأبيض والأسود.

ويترتّب على ذلك الفرق هو انّ بيان الجامع كاف لبيان الفرد من الواجب التعييني ، وليس كذلك في مورد العلة المنحصرة ، ووجهه هو انّ الاختلاف في القسم الأوّل يعود إلى مقام الثبوت ، لما عرفت من أنّ نسبة الوجوب التعييني و


التخييري كنسبة نوع إلى نوع كالإنسان بالنسبة إلى الفرس ، فإذا أطلق ولم يذكر عدلاً يحمل على بيان خصوص الوجوب التعييني ، وإلا يلزم أن لا يكون في مقام البيان ، بل في مقام الإهمال والإجمال وهذا خلاف المفروض.

وهذا بخلاف العلّة المنحصرة وغير المنحصرة ، لأنّهما لمّا كانا في مقام الثبوت محددين جوهراً وإنّما الاختلاف في مقام الإثبات إذا أُطلق ولم يقيد بشيء يكون الكلام مجملاً لا محمولاً على الفرد المنحصر ، وإلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله : واحتياج ما إذا كان الشرط متعدداً إلى ذلك إنّما يكون لبيان التعدّد لا لبيان نحو الشرطية فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف كان هناك شرط آخر أم لا ، حيث كان مسوقاً لبيان شرطيته بلا إهمال ولا إجمال بخلاف إطلاق الأمر فانّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني فلا محالة يكون في مقام الإهمال والإجمال. (١)

يلاحظ عليه : أنّ هذا البيان مع طوله غير واف في التفريق ، لأنّه إذا افترضنا انّ نسبة التعيين والتخيير إلى الوجوب نسبة الفصلين المنوعين إلى الجنس ، ونسبة الانحصار وغير الانحصار إلى العلّة نسبة المصنّفات ، ومع ذلك فكلّ من المشبه والمشبه به يشتركان بوجود الاختلاف في الثبوت والإثبات وإلا لأصبح القسم مقسماً ، وذلك لأنّ الواجب التعييني ثبوتاً يختلف مع التخييري ، فالأوّل هو الواجب مطلقاً سواء أتى بشيء أو لا ، والثاني واجب فيما إذا لم يأت بشيء ، فكما أنّ هذه القيود معتبرة في مقام الثبوت ليجعلها نوعين من الوجوب ، فهكذا معتبرة في مقام الإثبات ، لأنّ الإثبات هو المعبر عن الثبوت بالتمام ، فإذا كان القيد مأخوذاً في الثبوت يكون مأخوذاً في مقام الإثبات ، وعندئذ لا معنى للقول بأنّ بيان

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٠٧.


الجامع كاف في إثبات أحد النوعين دون النوع الآخر ، لما عرفت من أنّ النوعين يتميزان ثبوتاً وإثباتاً بقيدين ، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد من النوعين لا ثبوتاً ولا إثباتاً ، وكون المتكلّم في مقام البيان لا يُلزمنا بالأخذ بالوجوب التعييني ، بل يمكن أن يكشف ذلك عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان ، بل هو في مقام الإهمال والإجمال ، بحجة انّ المتكلّم لم يشر إلى أحد القيدين المتنوعين.

ومنه يظهر حال العلّة المنحصرة وغير المنحصرة فهما متميزان في مقام الثبوت بقيدين كما أنّهما متميزان في مقام الإثبات بقيدين أيضاً ، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد الفردين لا في مقام الثبوت ولا في مقام الإثبات.

فإن قلت : قد تقدّم في الجزء الأوّل في مبحث دوران أمر الصيغة بين النفسي والغيري والتعييني والتخييري ، والكفائي والعيني انّه يحمل على النفسي والتعييني والعيني.

قلت : ما ذكرناه هناك مبني على بيان آخر مذكور في محله ، لا على هذا الأصل الذي بنى عليه حمل الأمر على التعييني. (١)

إلى هنا تمّت الوجوه الخمسة التي ذكرها المحقّق الخراساني وهناك وجه آخر ، وهو الوجه السادس : الذي سمعناه من السيد المحقّق البروجردي في درسه الشريف عام ١٣٦٧ هـ وحاصله :

إنّ مقتضى الترتّب العلّي على المقدّم ، أن يكون المقدّم بعنوانه الخاص علّة ، وهو محفوظ عندما كانت العلّة منحصرة ولو لم يكن كذلك لزم استناد الثاني إلى الجامع بينهما لامتناع استناد الواحد إلى الكثير ، وهو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه. (٢)

__________________

١. إرشاد العقول : ٣ / ٣٤١ ، طبعة بيروت.

٢. نهاية الدراية : ٣٢٢.


ثمّ إنّا وقفنا على ذلك التقريب في تعليقة المحقّق الاصفهاني ، ولعلّ البيانين من قبيل توارد الخاطرين أو انّ المحقّق المحشّي أخذه من السيد المحقّق البروجردي ، وذلك لأنّ السيد البروجردي قال : عرضت ذلك التقريب على المحقّق الخراساني ، فأجاب عنه بالنحو التالي :

إنّ المفهوم رهن الظهور العرفي ، والظهور العرفي لا يثبت بهذه المسائل الفلسفية البعيدة عن الأذهان العرفية ، وأنّى للعرف دراسة هذا الموضوع « انّه لو كان للجزاء علل مختلفة يجب أن يستند إلى الجامع وحيث إنّه خلاف ظاهر القضية فهو مستند إلى شخص الشرط وتصير نتيجته انّه علة منحصرة ».

السابع : ما ذكره المحقّق النائيني على ما في تقريراته ، وحاصله :

إنّ الشرط المذكور في القضية الشرطية إمّا أن يكون في حدّ ذاته ممّا يتوقف عليه عقلاً ، وجود ما هو متعلّق الحكم في الجزاء ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، وعلى الأوّل لا يكون للقضية مفهوم لا محالة ، كما في قولنا : إن رزقت ولداً فاختنه ، وبما انّ كلّ قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية يكون مقدّمها وجود الموضوع ، وتاليها ثبوت المحمول له ويكون التعليق عقلياً لايكون هناك مفهوم.

وأمّا القسم الآخر في أنّ الحكم الثابت في الجزاء ليس بمتوقّف على وجود الشرط عقلاً ، فلا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً بالإضافة إلى وجود الشرط ، أو يكون مقيّداً به ، وبما انّه رتب في ظاهر القضية على وجود الشرط ، يمتنع الإطلاق فيكون مقيّداً بوجود الشرط وبما انّ المتكلّم في مقام البيان قد أتى بقيد واحد ولم يقيده بشيء آخر ، سواء أكان التقييد بذكر عدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو ليكون قيد الحكم في الحقيقة مركباً من أمرين ، كما في قولنا : إذا جاءك زيد وأكرمك فأكرمه ، يستكشف من ذلك ، انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية


الشرطية ، وبالجملة فكما أنّ إطلاق الشرط وعدم تقييده بمثل العطف بالواو ، يدلّ على عدم كون الشرط مركباً ، كذلك إطلاقه وعدم تقييده بشيء مثل العطف ، يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية. (١)

يلاحظ عليه : ـ مضافاً إلى أنّه ليس تقريباً جديداً ، بل هو نفس التقريب الثالث للمحقّق الخراساني للإطلاق ـ وجود الفرق الواضح بين كون الشرط ذا جزء وبين كونه ذا عدل ، فلو تعلق الشكّ بالأوّل لكان مقتضى الإطلاق هو كونه تاماً في السببية والشرطية لا ناقصاً ، وأمّا إذا تعلّق الشكّ بأنّ له عدلاً أو لا فلا يكفي الإطلاق ، وقد عرفت فيما سبق انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع لا انّه لا موضوع له بغير ما ورد في متعلّق النص.

فلو شككنا في أنّ للكرّيّة شرطاً أو لا ، يتمسّك بإطلاق الدليل ، وامّا أنّ له عدلاً أو لا ، كجريان الماء وإن لم يكن كرّاً فلا يدلّ على نفيه.

إلى هنا تمت أدلّة القائلين بالمفهوم ، وقد عرفت أنّ الأدلّة غير وافية.

نظرية المحقّق البروجردي

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي فصل في القضايا المشروطة بين كون سوقها لأجل إفادة كون المشروط علّة للجزاء ، وسوقها لأجل إفادة انّ الجزاء ثابت للمشروط بهذا الشرط ، فالأوّل كقول الطبيب : إن شربت السقمونيا فيسهل الصفراء.

والثاني : كقوله 7 : إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء.

فإن سيقت لإفادة العلّية فلا مفهوم لها ، لأنّ المتكلّم لم يأت في كلامه بقيد زائد ، بل أفاد انّ السقمونيا مثلاً علّة لإسهال الصفراء.

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤١٨.


وبالجملة كلّما كان إتيان الشرط لإفادة علّيته للجزاء ، ولا يكون فيه قيد زائد لا يكون له مفهوم.

وإن سيقت على النحو الثاني ، يكون له مفهوم إن تم ما ذكر من أنّ القيود الزائدة في الكلام تفيد دخالتها على نحو ينتفي الحكم عند انتفائها.

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره 1 نقض لما أبرمه في السابق ، وهو انّ غاية ما يدلّ عليه أخذ القيد في الكلام ان له دخلاً فإذا ارتفع ارتفع شخص الحكم ، وأمّا أنّه لاينوب هنا به شيء آخر فلا يدلّ عليه إلا أن يكون المتكلّم في مقام البيان لهذه الجهة. اللّهمّ إلا إذا كان التفصيل على مبنى القوم كما يعرب عنه قوله ـ إن تمّ ما ذكر ـ.

ما هو المختار في المقام؟

قد عرفت عدم كفاية التقريبات السبعة لإثبات كون الشرط سبباً منحصراً للجزاء و ـ مع ذلك ـ يمكن القول بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في موردين :

الأوّل : إذا كان الشرط من الأضداد التي لا ثالث لها ، وبالتالي لا يكون للموضوع إلا حالتين لا غير ، وإليك بعض الأمثلة :

١. السفر والحضر فيها من الأوصاف التي تعرض الإنسان ولا ثالث لهما ، إذ الإنسان الذي هو الموضوع إمّا حاضر أو مسافر ، فإذا قال : إذا سافرت فقصِّر أو إذا سافرتَ فأفطر ، يفهم منه انّ التقصير والإفطار ، من أحكام المسافر دون الحاضر ، فهو يتم ويصوم. والمراد من الحاضر ، هو المتواجد في الوطن بما هو هو مع قطع النظر عن العوارض ككونه مريضاً ، أو شيخاً مطيقاً.


٢. انّ الاستطاعة والعجز من الأضداد التي لا ثالث لها ، والإنسان الذي هو الموضوع ، إمّا مستطيع أو غير مستطيع ، فإذا قال : « إن استطعت فحجّ » يدلّ بمفهومه على سلب الوجوب عن غيره. إذ لو كان الحكم ثابتاً عند وجود الشرط وعدمه ، يكون التعليق لغواً ، ولا يتصور فيه قيام سبب آخر مكان الشرط المنتفي ، إذ المفروض انّهما من الأضداد التي لا ثالث لهما.

٣. انّ الظلم والعدل من الأضداد التي لا ثالث لهما ، فإذا قال : « ليس لعرق ظالم حق » (١) فالوصف يدلّ على أنّ عرق غير الظالم له حقّ ، فلو كان الحكم عاماً ، للظالم والعادل يلزم اللغوية ، ولذلك فرّع الفقهاء على القول بالمفهوم في الحديث فروعاً :

١. ما لو زرع أو غرس المفلس في الأرض التي اشتراها ولم يدفع ثمنها ، وأراد بائعها أخذها ، فإنّه لا يقلع زرعه وغرسه مجاناً ولا بأرش ، بل عليه إبقاؤه إلى أوان جذاذ الزرع ، وفي الغرس يباع ويكون للمفلس بنسبة غرسه من الثمن.

٢. لو انقضت مدّة المزارعة ، والزرع باق. ولم يعلما تأخّره عن المدّة المشروطة وقت العقد ، فإنّ الزرع حينئذ لا يقلع أيضاً ، لأنّه ليس بظالم ، نعم يجمع بين الحقّين بالأُجرة. والفرق أنّ المشتري دخل على أن تكون المنفعة له مباحة بغير عوض ، بخلاف العامل.

٣. لو أخذ الشفيع الأرض بالشفعة بعد زرع المشتري. ونظائر ذلك كثيرة. وادّعى بعضهم الإجماع أيضاً على العمل بمفهوم الحديث هنا ، وإن منع من العمل بمفهوم الوصف. (٢)

__________________

١. صحيح البخاري : ٣ / ١٤٠ ، كتاب المزارعة.

٢. تمهيد القواعد : ١١٢.


الثاني : إذا كان المتكلّم بصدد بيان حكم الموضوع بعامة صوره ، كما إذا سئل السائل وقال : ما هو الماء الذي لا ينجس ، حيث تعلّق السؤال بعاصمية مطلق الماء ، سواء أكان ماء غدير ، أو بئر ، أو جار ، أو غير ذلك فإذا أُجيب بأنّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء ، بقيد انّ السبب المنحصر للعاصمية ، هو الكرية على نحو لو دلّ الدليل على عاصمية ماء المطر أو الجاري المتصل بالنبع ، أو الماء الواقع تحت المطر عند إصابة النجاسة ، لوقع التعارض بين المفهوم والدليل الدالّ على عاصمية غير الكرّ بخلاف ما إذا سئل عن عاصمية ماء خاص ، كما إذا سئل عن ماء الغدير الذي تلغ فيه الكلاب ، فأجيب : الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء ، فانّ السؤال والجواب قرينة على أنّ السؤال تعلّق ببيان ما هو العاصم للماء الخاص وهو ماء الغدير ، فيكون الجواب مشيراً إلى الموضوع الذي جاء في سؤال السائل ، فعاصمية ماء الغدير وعدمها تدور مدار الكرّيّة وعدمها ، من دون نظر إلى عاصمية مطلق الماء الذي يعم ماء البئر والجاري وما يقع عليه المطر.

هذه هي الضابطة ومع ذلك فاستنباط المفهوم وعدمه من القضية رهن قرائن أُخرى أيضاً ربما تؤيد اشتمالها عليه ، هذا وانّ الإمام الصادق 7 استدلّ على حرمة لحم الشاة التي ذبحت ولم تتحرك وأُريق منها دم عبيط بمفهوم كلام الإمام علي 7.

ففي صحيحة أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه 7 عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط فقال : لا تأكل انّ عليّاً 7 كان يقول : إذا ركضت الرِّجْلُ أو طرفت العين فكُلْ. (١) فكلام علي 7 إنّما يدلّ على الحرمة

__________________

١. الوسائل : ١٦ ، الباب ١٢ من أبواب الصيد والذباحة ، الحديث ١.


بمفهومه لا بمنطوقه ولولا كون المفهوم حجّة ، كيف استدلّ الإمام به على حرمة أكله.

فعلى المستنبط أن يتحرى في القرائن الحافّة حتى يعرف موقف المتكلم من الكلام.

ثمّ إنّ نفاة المفهوم استدلوا بوجوه ذكرها في « الكفاية » ونحن في غنى عن دراستها ، إذ لم نقل بدلالة القضايا الشرطيّة على المفهوم مطلقاً ، حتّى ندرس أدلّة المخالف ، بل ألمعنا إلى مواضع خاصّة لا أظن انّ المخالف ينفي وجود المفهوم فيها فلنرجع إلى البحث في تنبيهات الفصل التي عقدها المحقّق الخراساني.


تنبيهات

التنبيه الأوّل

المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لاشخصه

إنّ نزاع المثبت والنافي للمفهوم إنّما هو في انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط وعدم انتفائه ، لا انتفاء شخصه ضرورة انتفائه بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده ، والنزاع في اشتمال القضية على المفهوم فرع ثبوت مرحلتين للحكم :

١. شخص الحكم الذي ينتفي قطعاً بانتفاء شرطه باتفاق من المثبت والنافي.

٢. سنخ الحكم ونوعه الذي يحتمل الانتفاء وعدمه.

فلو كان للجزاء مرحلة واحدة من الحكم وهو شخص الحكم لما يبقى وجه للنزاع ، لأنّه منتف على كلّ حال ، سواء قلنا باشتمال القضية على المفهوم أو لا.

توضيح المقام رهن بيان أمرين :

١. ما هو الفرق بين سنخ الحكم وشخصه؟

٢. لماذا لا يجري النزاع إذا لم يكن للجزاء إلا مرحلة واحدة وهو شخص الحكم؟

أمّا الأوّل فبيانه : انّه إذا قلنا : زيد ـ إن سلّم ـ أكرمه ، فهناك حكمان :


الف : الوجوب الجزئي المتعلّق بإكرام زيد بقيد تسليمه.

ب : الوجوب الكلّي المتعلّق بإكرام زيد ، غير مقيّد بتسليمه ، بل يعمّ تلك الحالات وسائر حالاته ، كما إذا لم يسلم ، ولكنّه أطعم اليتيم وغير ذلك.

ونظيره قوله 7 : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء » ، فهناك مثل السابق ، حكمان :

١. إنشاء العاصمية للماء بقيد كونه كرّاً.

٢. إنشاء العاصمية له غير مقيد بالكرية بل يعمّ تلك الحالة وسائر الحالات الطارئة له ، ككونه جارياً ، نابعاً من الأرض ، أو ماء بئر فالحكم الجزئي المقيّد بالشرط ينتفي بانتفاء شرطه عقلاً ، لأنّ المعلّق ينتفي بانتفاء المعلّق عليه ، فلو لم يسلِّم أو لم يكن كرّاً ، فالإنشاء المقيّد بهما ، بكونه منتفياً بالاتّفاق ، سواء قلنا بالمفهوم أو لا.

والذي يصلح للنزاع هو البحث في انتفاء سنخ الحكم ونوعه ، أي وجوب الإكرام غير المقيد بالتسليم ، أو إنشاء العاصمية غير المحدد بالكرّيّة ، فهل يحكم بانتفائه كانتفاء شخص الحكم ـ كما عليه القائل بالمفهوم ـ أو لا يحكم عليه بل يحتمله الانتفاء وعدمه؟

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أنكر وجوب سنخ الحكم ونوعه ، وراء شخص الحكم وانّه لا يعقل لسنخ الحكم وراء شخصه مفهوم معقول ، فقال ما هذا حاصله : إنّا لا نتعقّل وجهاً معقولاً لسنخ الحكم لوضوح أنّ المعلّق في قولك : إن جاءك زيد فأكرمه هو الوجوب المحمول على إكرامه ، والتعليق يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه فما فرضته سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق ، موضوعاً ومحمولاً فهو شخصه لا سنخه ، إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد


بما هو هو وإن كان مختلفاً معه في الموضوع كإكرام عمرو أو محمولاً كاستحباب إكرام زيد ، فلا معنى للنزاع في أنّ قوله : إن جاءك زيد فأكرمه يدلُّ على انتفائه أو لا يدلّ. (١)

يلاحظ عليه : أنّ سنخ الحكم متّحد مع شخصه موضوعاً ( زيد ) ومحمولاً ( وجوب الإكرام ) لكن يختلف في الشرط فهو شرط لشخص الحكم دون سنخه لكن اتحادهما ليس بمعنى كونهما متساويين كالإنسان ، والحيوان الناطق بل اتحادهما كاتحاد الكلي ومصداقه ، والطبيعي وفرده ، فالوجوب المنشأ بقيد التسليم وجوب جزئي ، والوجوب المنتزع عنه غير المقيد بالشرط ، كلي يعم الفرد المنشأ ، وغيره.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني وهو انّ مدار النزاع هو إمكان اشتمال القضية وراء شخص الحكم على سنخه ، حتّى يحكم على السنخ أيضاً بالانتفاء كالشخص كما عليه القائل بالمفهوم أو لا يحكم عليه ، بل يكون الانتفاء والبقاء احتمالين متساويين وأمّا لو اشتملت القضية على الحكم الجزئي ، ولم يكن فيها صلاحية للحكم الكلي وسنخه ، فارتفاع الحكم وعدم ثبوته ، عند انتفاء القيد ليس من باب المفهوم ، بل لأجل عدم القابلية في المحل ، وذلك فيما إذا وقف داره للفقراء أو أوصى بتمليك ماله لهم ، أو نذر كونها لهم ـ إذا قضيت حاجته الشرعية ـ أو حلف بالتمليك لهم فانّ سلب الملكية عن الأولاد الأغنياء ، ليس من باب المفهوم ، بل من باب عدم وجود المرحلتين للملكيّة الشخصية والسنخيّة سنخ الحكم ، وذلك : لأنّ المال الخارجي إذا صار وقفاً أو نذراً أو وصية فقد صار ملكاً أو وقفاً لهؤلاء ،

__________________

١. نهاية الأُصول : ١ / ٢٧٣.


ولا يتصور عندئذ ملكية كلية ، للمال ، حتّى يبحث عن ارتفاعها ـ عند ارتفاع الفقر ـ وعدمه ، لأنّ المال الواحد ، لا يصلح أن يكون وقفاً أو ملكاً إلا لواحد ، وعندئذ يكون الارتفاع عن غير مورده عقلياً لا من باب المفهوم ، ففرق بين إنشاء وجوب الإكرام وانشاء الملكية ، إذ يصحّ إنشاء وجوبين طوليين أحدهما في ظرف التسليم وثانيهما في ظرف آخر ، وهذا بخلاف إنشاء الملكية للعين فلا يمكن نقلها مرّتين تارة للأولاد الفقراء ، وأُخرى لأولاده الأغنياء.

ومنه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني في تمهيد القواعد حيث زعم انّ انتفاء الحكم في هذه الموارد من باب المفهوم فقال : لا إشكال في دلالة الشرط والرهن في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان ، كما إذا قال : وقفت هذا على أولادي الفقراء ، أو إن كانوا فقراء ، ونحو ذلك. (١)

إشكال وإجابة

أمّا الإشكال فقد حكاه الشيخ الأنصاري في تقريراته عن بعضهم ، وقال : وقد يستشكل في المقام ( مطلق القضايا الشرطيّة ) نظراً إلى أنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الإنشاء الخاص ، الحاصل بذلك الكلام دون غيره فأقصى ما تفيده الشرطية انتفاء ذلك وأين ذلك ، من دلالته على نوع الوجوب؟! (٢)

وإلى هذا الإشكال يشير في « الكفاية » بقوله : إنّ المناط في المفهوم هو سنخ الحكم لا نفس شخص الحكم في القضية ، وكان الشرط في الشرطية إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فغاية قضيتها انتفاء ذاك

__________________

١. تمهيد القواعد ، القاعدة ٢٥ ، ص ١١٠.

٢. مطارح الأنظار : ١٧٧.


الحكم بانتفاء شرطه لا انتفاء سنخه. (١)

ثمّ إنّه أجاب بأنّ الخصوصـية غير مأخوذة في المستعمل فيه وذلك لوجهين :

١. الخصوصية الإنشائية كالخصوصية الاخبارية غير مأخوذة في المعنى ، مثلاً كلمة بعت وقعت لنسبة البيع إلى المتكلم ، وأمّا كونه موجداً للبيع أو حاكياً عنه في الخارج فهو يستفاد من القرائن ويعد من طوارئ الاستعمال.

٢. انّ اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالية في الأسماء ليس جزءاً للمعنى الموضوع له والمستعمل فيه ، وإنّما تعرضه الآلية عند الاستعمال كما يعرضه الاستقلال عنده.

يلاحظ عليه : أنّه لو كان الإشكال هو ما يتبادر من ظاهر « المطارح » و « الكفاية » من أنّ الجزاء مقيّد بالشرط حيث إنّ الظاهر انّ الشرط ، شرط للحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فبانتفاء الشرط ينتفي شخص الحكم دون سنخه ، فيصح الذب عنه بما اختاره المحقّق الخراساني من أنّ الخصوصيات غير مأخوذة لا في الإخبار ولا في الإنشاء ، لا في الأسماء ولا في الحروف.

وأمّا لو قرر الإشكال حسب ما قرره السيد المحقّق البروجردي في درسه الشريف ، ويستفاد من بعض مواضع المطارح أيضاً ، وهو انّ شأن صيغة الأمر في جانب الجزاء هو إيجاد البعث والوجوب ، فإذاً المنشأ أمر جزئي ، لا نوعي فليس هنا دال على سنخ الوجوب ، فعندئذ لا يصلح ما في « الكفاية » ردّاً له.

توضيحه : انّ القول بالمفهوم فرع تصوّر وجود حكمين في جانب الجزاء.

أ. سنخ الحكم ونوعه.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣١٠.


ب. شخص الحكم وجزئيّه.

وهذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان الجزاء جملة خبرية كما إذا قال : إن جاء زيد فيجب إكرامه ، فقال : إن جاء زيد فإكرامه واجب ، فالجزاء يمكن أن يكون حكاية عن حكم جزئي مقيّد بالمجيء وعن حكم غير مقيّد به.

وأمّا إذا كان الجزاء جملة إنشائية من شأنها إيجاد المعاني في عالم الاعتبار فليس هناك وراء شخص الحكم حكم آخر ، لأنّ المفروض انّ شأن الجملة الإنشائية إيجاد المعنى لا حكايته عن الخارج والإيجاد نفس الوجود وهو نفس التشخص ، فيكون الجزاء غير مشتمل على وجوب وراء شخصه.

وبعبارة أُخرى : انّ الجمل على قسمين : حاك عن الخارج كما يقول : زيد قائم أو يقول : يجب إكرامه أو إكرامه واجب بشرط أن يكون جملة خبرية غير مستعملة في الإنشاء موجد للمعنى على نحو ليس وراء عالم الإنشاء شيء يحكي عنه اللفظ فالمعنى الذي هذا شأنه يكون جزئياً شخصياً لا غير ولا يتصوّر فيه نوع المعنى وراء الشخص.

هذا هو الإشكال والأولى أن يجاب عن كلا التقريرين بجواب واحد ، وهو :

إنّ الوجوب وإن كان مقيّداً بالشرط ، أو انّ الشرط وقع شرطاً للحكم المذكور في الجزاء ـ حسب تقرير العلمين ـ أو انّ مفاد الجزاء معنى إيجادي وجزئي حقيقي حسب تقرير السيد البروجردي لكن تعلّق الوجوب بمادة الجزاء عند وجود الشرط تحكي عن مناسبة بين الشرط ( التسليم ) والجزاء ( الإكرام ) فإذا تمت دلالة القضية على انحصار العلّة ، دلّت على فقدان المقتضي للإكرام عند فقدان الشرط ، وهو نفس القول بالمفهوم ، لأنّ عدم المقتضي له ، يلازم عدم كونه مطلوباً ، لا بهذا الطلب المختص أو الجزئي ولا بطلب آخر.


ولك أن تقول : إنّ الهيئة وإن كانت جزئية لكن تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصية ، وجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعيّه ، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب.

جواب آخر :

ويمكن أن يقال : انّ الحكم الشخصي وإن كان جزئياً حسب أفراده ، ولكنّه حسب حالاته أمر قابل للتقييد ، مثلاً : إذا قلنا أكرم زيداً ، فالبعث وإن كان جزئياً لكنّه حسب حالاته قابل للتقييد كأن يقول : أكرم زيداً إذا كان عادلاً لا فاسقاً ، عالماً لا جاهلاً بإرجاع القيود إلى مفاد الهيئة وسوف يوافيك انّه لايشترط في جريان مقدّمات الحكمة كون الموضوع كلياً ذا أفراد ، بل يكفي كونه جزئياً ذا أحوال.

وعلى ضوء ذلك فالبعث الجزئي وإن كان متشخّصاً لكنّه قابل للتقييد بالتسليم كما يمكن أن يكون مطلقاً عنه.

فالبعث المقيد بالتسليم شخص الحكم فينتفي بانتفاء التسليم ولحاظه غير مقيد به هو سنخ الحكم ، فعندئذ انتفاء الحكم الشخصي لا يكون دليلاً على انتفاء سنخ الحكم ، بل يمكن أن يكون نفس الشخص باقياً ضمن شرط آخر.

نعم وصف البعث الجزئي باعتبار شخص الحكم ، وباعتبار آخر سنخ الحكم لأجل تقريب المطلب إلى الذهن ، وإلا فالأمر الجزئي ، بهما معاً.


التنبيه الثاني

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء

إذا ورد : إذا خفي الأذان فقصّر ، وورد أيضاً إذا خفيت الجدران فقصّر ، فلو قلنا بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم فلا تعارض بين الدليلين ويؤخذ بظهورهما في انّ كلّ واحد سبب تام ، وليس سبباً ناقصاً فيكفي خفاء واحد منهما في وجوب التقصير.

ولو قلنا بظهور الجملة الشرطية في المفهوم يقع التعارض بين مفهوم كلّ مع منطوق الآخر.

وذلك لأنّ مفهوم قوله : إذا خفي الأذان فقصّر : انّه إذا لم يخف الأذان لا تقصّر الصلاة ، سواء أخفيت الجدران أم لا ، فهذا المفهوم يعارض منطوق القضية الثانية التي تحكم بوجوب القصر عند خفاء الجدران.

ومثل القضية الأُولى القضية الثانية فانّ مفهومها انّه إذا لم تخـف الجـدران فلا تقصّر ، سواء أخفي الأذان أم لا ، فيعارض مفهومُها منطوق القضية الأُولى التي مفادها انّه إذا خفي الأذان ، فقصّر ، فلابدّ من علاج التعارض بين القضيتين.

وقد ذكر المحقّق الخراساني في رفع التعارض وجوهاً خمسة ، والمقبول منها هو الأوّل والثالث والبعيد هو الثاني ، والمردود هو الرابع والخامس. فنحن نذكر


المقبول أوّلاً ، ثمّ نذكر البعيد ، ثمّ المردود.

أمّا المقبول فوجهان :

١. تخصيص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر

وحاصل هذا الوجه : انّه يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر ، فإذا كان مفهوم قوله : « إذا خفي الأذان فقصّر » انّه إذا لم يخف الأذان فلا تقصر ، فيُخصّص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الأذان بقوله : « إذا خفي الجدران فقصّر » إذا لم تخف ومثلها ، القضية الثانية فمفهوم قوله : إذا خفيت الجدران فقصّر ، انّه إذا لم تخف الجدران لا تقصر ، فيُخصص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الجدران بقوله : « إلا إذا خفي الأذان » ، فتكون النتيجة كفاية خفاء واحد من الأمرين ، فكأنّه قال : إذا خفي الجدران أو الأذان فقصر ، فما في عبارة « الكفاية » من قوله : « عند انتفاء الشرطين » بمعنى كفاية انتفاء واحد من الشرطين وحاصل هذا الجمع ، هو عطف الجملة الثانية على الأُولى بلفظة « أو » العاطفة.

٢. تقييد منطوق كلّ بالآخر

وحاصل هذا الوجه : انّه يقيد إطلاق الشرط في كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر ، فيكون الشرط عندئذ هو خفاء الأمرين معاً ، فتكون النتيجة بعد التقييد هو انّه إذا خفيت الجدران والأذان فقصّر ، خلافاً للتصرف الأوّل فانّ النتيجة تكون « إذا خفي الأذان أو الجدران فقصّر ».

وإن شئت قلت : إنّ ظاهر القضية الشرطية ـ على القول بالمفهوم ـ انّ للشرط وصفين :

١. انّه سبب تام لاناقص.


٢. انّه سبب منحصر ليس له بديل.

فالتصرف في مفهوم كلّ بمنطوق الآخر بمعنى سلب الانحصار عن كلّ مع حفظ سببية كلّ ، للقصر ، كما أنّ التصرف في منطوق كلّ هو التصرف في تمامية السبب ، وانّ كلّ واحد ليس سبباً تاماً ، بل سبب ناقص لا يتمّ إلا بضمّ جزء آخر إليه.

وهذان الوجهان معقولان ، وأمّا انّ الترجيح بأي واحد منهما فهو رهن قرينة خارجية.

وذهب المحقّق النائيني إلى عدم الترجيح وبالتالي صيرورة القضيتين مجملتين ، فتصل النوبة إلى الأُصول العملية ، قال :

إنّ كلا من القضيتين ظاهر في العلّة المنحصرة ولكن تعدّدها ينافي ذلك ، فلابدّ إمّا من رفع اليد عن كونه علّة تامة وجعله جزء العلة فيكون المجموع من الشرطين علة تامة منحصرة ينتفي الجزاء عند انتفائهما معاً ، فتكون القضيتان قضية واحدة ، مثلاً يكون قوله : إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر بمنزلة قوله : إذا خفي الأذان والجدران فقصّر.

وإمّا من رفع اليد عن كونه علّة منحصرة مع بقائه على كونه علّة تامّة فيكون الشرط أحدهما تخييراً وتكون القضيتان بمنزلة قوله : إذا خفي الأذان أو خفي الجدران فقصّر ، ويكفي حينئذ أحدهما في ترتب الجزاء ، وحينئذ لابدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين : إمّا ظهور الشرط في كونه علة تامة وإمّا ظهوره في كونه علّة منحصرة.

وحيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر ولا أحدهما حاكماً على الآخر لمكان انّ كلا من الظهورين إنّما يكون بالإطلاق ومقدّمات الحكمة


كان اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الإجمالي من ورود التقييد على أحد الإطلاقين. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه إذا كان أحد الظهورين أقوى من الظهور الثاني فيؤخذ بالأقوى ويتصرف في الأضعف.

هذه هي الضابطة وأمّا تطبيقها على المقام ، فبيانه :

إنّ دلالة القضية الشرطية على السببية التامة أظهر من دلالتها على السببية المنحصرة ، والدلالة الأُولى مورد اتفاق إذا كان المتكلّم في مقام البيان ، بخلاف الدلالة الثانية فقد عرفت إنكار جمع المحقّقين لها ، والتصرف في مفهوم كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر تصرف في الدلالة الثانية ( أي دلالتها على انحصار العلّية والسببية في واحد من الشرطين ).

بخلاف التصرف في منطوق كلّ بالآخر فانّه تصرف في سببية كلّ للجزاء ودلالة القضية الشرطية للسببية التامة أقوى وأظهر من دلالتها على الانحصار ، ومع دوران الأمر بين أحد التقييدين يتصرف في الأضعف دون الأقوى.

أضف إلى ذلك انّا نعلم علماً وجدانياً بزوال الانحصار إمّا بزواله وحده أو في ضمن زوال الاستقلال ، فعند ذلك ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي ، وهو زوال الانحصار وشك بدوي وهو الشك في زوال الاستقلال.

وربما يؤيّد ما ذكرنا من أنّ اللازم رفع اليد عن الانحصار دون السببيّة بأنّ مصب التعارض وإن كان هو المفهوم من جانب والمنطوق من جانب آخر إلا أنّه يستحيل التصرف في المفهوم نفسه ، لأنّه مدلول تبعي ولازم عقلي للمنطوق ، فلابدّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض ، ولا يكون ذلك إلاّ

__________________

١. فوائد الأُصول للكاظمي : ١ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨.


بتقييد المنطوق ورفع اليد عن انحصاره ، دون كونه علة تامة ، لعدم الحاجة إلى التصرف في تمامية كل واحد من الشرطين بعد إلغاء الانحصار. (١)

يلاحظ عليه : كيف يقول باستحالة التصرف في المفهوم بحجّة انّه مدلول تبعي ولازم عقلي للمنطوق ، لأنّه إذا صار حجة فيكون كالمنطوق في قابلية كلّ للتقييد.

نعم صار المنطوق واسطة في الثبوت في ظهور هذه الحجة ، وعندئذ لا مانع بعد ظهورها أن يكون طرفاً للمعارضة بينه وبين المنطوق الآخر.

هذا كلّه حول الوجهين الأوّلين المقبولين ، وقد عرفت أنّ الجمع الأوّل أظهر من الجمع الثاني.

والقول بأنّ كلّ واحد سبب مستقل أظهر من القول بأنّهما معاً سبب مستقل.

بقي الكلام في الوجوه الثلاثة.

الثالث : رفع اليد عن المفهوم منهما

وحاصل هذا الوجه هو سلب المفهوم عن القضيتين وانّهما لا تدلاّن وراء المنطوق على شيء آخر حتّى يخصص منطوق كلّ بمفهوم الآخر.

يلاحظ عليه : أنّ إنكار الموضوع ليس علاجاً للمشكلة فانّ المفروض في البحث اشتمال القضيتين على المفهوم ولولا الاشتمال لما كان للبحث ملاك.

أضف إلى ذلك : انّ هذا ليس وجهاً مستقلاً ، بل يتحد نتيجة مع الوجه الأوّل ، غاية الأمر انّ القائل بالجمع الأول يقول بدلالته كلّ على المفهوم غاية الأمر

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥ ، قسم التعليقة.


يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر.

وأمّا القائل بهذا الوجه فهو ينفي أساس التعارض ، وهو الاشتمال على المفهوم ويأخذ بظهور كلّ قضية في استقلال سببها.

الرابع : جعل الشرط هو القدر المشترك

وحاصل هذا الوجه ، هو جعل الشرط القدر الجامع المشترك بين الخفاءين ، فليس الميزان خفاء الأذان بما هو هو ولا خفاء الجدران كذلك ، بل الميزان في وجوب القصر ، هو البعد عن الوطن أو محل الإقامة بمقدار خاص يلازمه خفاء الأذان والجدران ، فخفائهما أمارتان للموضوع أي الابتعاد بمقدار خاص وطريقان إليه ، وليس لهما موضوعيّة.

ثمّ استدلّ على ذلك بوجهين :

١. انّ وحدة المعلول ـ أي وجوب القصر ـ كاشف عن وحدة العلّة لامتناع صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير من دون جامع بينهما ، فهذه القاعدة تجرّ الباحث إلى القول بأنّ هنا علّة واحدة وهي البعد عن الوطن أو محل الإقامة للمعلول الواحد أي وجوب القصر.

يلاحظ عليه : أنّ مصب القاعدة على فرض الصحة هو الأُمور التكوينية لا الاعتبارية وفي التكوين ، الواحد البسيط الذي لا كثرة فيه ، كالعقل الأوّل بناء على كونه وجوداً بلا ماهية فهو لا يصدر إلا عن البحث البسيط وهو اللّه سبحانه ، وأين هذه الضابطة من الوجوب الاعتباري النوعي ( وجوب القصر ) الذي يتكثر بتكثر أفراده؟!

٢. انّ الشارع لمّا لم يجوز بالإفطار والتقصير في البلد حفظاً لكرامة الصيام


بين الحاضرين ، وكرامة الصلاة الرباعية بين الأهل والعيال وإنّما جوز إذا ابتعد المسافر عن البلد على قدر يلازمه خفاء الأذان والجدران.

وهذا الوجه لا بأس به غير أنّه يثير إشكالاً ، وهو كيف يكون خفاء الأذان والجدران أمارة على البعد المعين مع أنّ الأذان يخفى بكثير قبل خفاء الجدران ، فانّ خفاء الثاني يتوقّف على قطع طريق كثير.

ويمكن دفعه بأنّ الأمارة هي تواري المسافر عن البيوت لا تواريها عن المسافر كما في الحديث (١) ، ولمّا كان تواري المسافر عن البيوت غير معلوم للمسافر جعل تواري البيوت عن المسافر طريقاً إلى الطريق ( تواري المسافر عن البيوت ) والأمارتان الواقعيتان ( خفاء الجدران ، وتواري المسافر عن أهل البيوت ) متقاربتان جداً.

الخامس : رفع اليد عن مفهوم إحدى القضيتين

وحاصل هذا الوجه : انّه يرفع اليد عن خصوص إحدى القضيتين ويؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى ، وهذا هو المنقول عن ابن إدريس الحلي فزعم انّه يُلغى مفهوم قوله : « إذا خفي الأذان فقصّر » ويؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى ، فعندئذ يرتفع التعارض.

يلاحظ عليه : مع أنّه ترجيح بلا مرجح ، انّ التعارض باق على حاله أيضاً ولم يقلع من الأساس ، وذلك لأنّ القول بعدم اشتمال القضية الأُولى على المفهوم وإن كان يعالج التعارض في جانب مفهوم تلك القضية ، ولكنّه باق على حاله في الجانب الآخر ، فإذا كان مفهوم قوله : « إذا خفيت الجدران فقصّر » هو انّه إذا لم

__________________

١. الوسائل : ج ٥ ، الباب ٦ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٢.


تخف الجدران فلا تقصر ، وعندئذ يقع التعارض بين هذا المفهوم ومنطوق القضية الأُولى ، فعلى المفهوم لا يجوز القصر ، وعلى منطوق القضية الأُولى يجب القصر وبذلك ظهر انّ الطريق منحصر في الأوّلين ، أي إمّا تقييد مفهوم كل بمنطوق الآخر ، أو تقييد منطوق كلّ بالآخر ، فمقتضى الصناعة هو الأوّل كما عرفت ، غير أنّ الفتاوى على الثاني.


التنبيه الثالث

تداخل الأسباب والمسببات

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : قد جعل المحقّق الخراساني عنوان البحث في التنبيهين : الثاني والثالث أمراً واحداً ، وهو قوله : « إذا تعدّد الشرط واتحد الجزاء » وجعل وجه التمايز بينهما الغرض والجهة المبحوثة عنها ، فكأنّ الغاية من عقد التنبيه الثاني معالجة التعارض الواقع بين مفهوم كلّ قضية مع منطوق القضية الأُخرى ، ولكن الغرض من عقد التنبيه الثالث البحث عن تداخل الأسباب في مقام التأثير وعدمه ، وعلى فرض عدم التداخل ، البحث عن تداخل المسببات في مقام الامتثال وعدمه ، وعلى ذلك فالبحث في التنبيه الثاني لفظي وفي الثالث عقلي حيث يقع البحث تارة في أنّ كلّ سبب هل يقتضي مسبباً مستقلاً أو لا؟ فإذا قال : إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ، فهل يقتضي كلّ من البول والنوم مسبباً مستقلاً ، أي إيجاباً متعدّداً أو لا؟ وعلى فرض اقتضائه وجوباً متعدداً ، يقع الكلام في كفاية الوضوء الواحد لامتثال الوجوبين أو لا ، فيعبر عن الأوّل ( اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً وعدمه ) بعدم التداخل في الأسباب وتداخله كما يعبر عن الثاني ( كفاية وضوء واحد عن امتثال وجوبين أو لا ) بالتداخل في المسببات وعدمه.

والأولى تغيير العنوان ، ولذلك جعلنا العنوان عند تعدّد الشرط تداخل


الأسباب والمسببات لأنّ المسألتين متمايزتان جوهراً وذاتاً ، ومع هذا لا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض والمقاصد.

الثاني : قد ظهر ممّا ذكرنا المراد من تداخل الأسباب والمسببات فمرجع التداخل في الأسباب وعدمه إلى اقتضاء السببين وجوباً واحداً أو اقتضائهما وجوبين مختلفين ، فالأوّل هو التداخل في الأسباب والثاني هو عدم التداخل فيها.

ومرجع التداخل في المسببات وعدمه ـ بعد القول بعدم تداخل الأسباب وانّ كلّ سبب يقتضي إيجاباً مستقلاً ـ إلى لزوم تعدّد الامتثال وعدمه ويعبر عن الأوّل بعدم تداخل المسببات وعن الثاني بتداخلها.

وإن شئت قلت : إنّ مرجع التداخل السببي وعدمه إلى دعوى عدم اشتغال الذمة إلا بوجوب واحد أو بوجوبين ، كما أنّ مرجع التداخل المسببي وعدمه بعد القول بعدم التداخل في الأسباب إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكاليف والاشتغالات وعدمه ، فالتداخل في المسببات لا يعني تداخل الوجوبين ، بل المراد تداخلهما في مقام الامتثال ، وبذلك اتّضح انّ البحث في مورد الأسباب ـ تداخلاً وعدمه ـ يرجع إلى مقام الدلالة وظهور القضية في تعدد الوجوب وعدمه ، كما أنّ البحث في مورد المسببات ـ تداخلاً وعدمه ـ يرجع إلى مقام الامتثال وانّه هل يكفي الإتيان بفرد واحد في امتثال الوجوبين أو لا؟

الثالث : انّ النزاع في التداخل وعدمه فيما إذا كان الجزاء أمراً قابلاً للتكرار كالوضوء والغسل ، وأمّا لو كان غير قابل له كالقتل فيما إذا ارتد وزنى بالإحصان ، فهو خارج عن محطّ البحث.

الرابع : انّ الشرط للجزاء ـ وجوب الوضوء ـ تارة يختلف نوعاً كالنوم والبول بالنسبة إلى وجوب الوضوء ، ومسّ الميت والجنابة بالنسبة إلى الاغتسال ، وأُخرى


يتحد نوعاً ويتعدد مصداقاً ، كما إذا بال مرتين أو نام أو وطأ الحائض كذلك فيقع الكلام تارة في مقام الدلالة ، وأُخرى في مقام الامتثال ، فلو كان الكلام في الأُولى فيقال : هل ظاهر القضية الشرطية انّ كلّ شرط يطلب جزاء ـ وجوباً ـ خاصاً أو لا؟ ولو كان الكلام في مقام الامتثال فيقال ـ على القول بعدم التداخل في الأسباب ـ : هل يكفي الإتيان بمصداق واحد ، في امتثال الوجوبين أو لا؟

الخامس : انّ النزاع كما يجري في القضايا الشرطية ، يجري في القضايا الخبرية ، كما إذا قال : الحائض تغتسل ، والجنب يغتسل ، نعم يمكن إرجاع القضايا الخبرية إلى الشرطية بأن يقال : إذا حاضت تغتسل كما يمكن العكس.

السادس : انّ الأقوال في المسألة ثلاثة :

١. عدم التداخل مطلقاً ، وهو المشهور وإليه ذهب الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني ، إلا ما خرج بالدليل.

٢. التداخل مطلقاً ، وهو خيرة المحقّق الخونساري والسيد البروجردي.

٣. التفصيل بين اختلاف الشرطين ماهية أو اتحادهما كذلك وتعدّدهما مصداقاً ، فالأوّل ـ كما مرّ ـ كالنوم والبول ، والجنابة ومس الميت والزيادة والنقيصة في الصلاة فانّ زيادة الركوع ، غيرزيادة السجود ، وكذلك نقيصتهما ؛ وأمّا الثاني فمعلوم.

فذهب ابن إدريس إلى عدم التداخل في الأوّل ، والتداخل في الثاني ، ولذلك أفتى بعدم تكرر الكفّارة ، لو تكرر وطء الحائض.

السابع : انّ المحقّق الخراساني قد خلط بين البحثين : التداخل وعدمه في الأسباب ، والتداخل وعدمه في المسبّبات ولم يفصّل بينهما بالعنوان ، وقد أوجب


ذلك إغلاقا في فهم عبارات الكتاب.

إذا عرفت ذلك ، فلندخل في صلب الموضوع. اعلم أنّ التنبيه الثالث يقع في موضعين :

الموضع الأوّل

حكم الأسباب من حيث التداخل وعدمه

قد عرفت أنّ المقصود من تداخل الأسباب وعدمه ، هو اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً ، وعدمه. وبعبارة أُخرى : تأثير كلّ شرط في حدوث وجوب خاص ، غير تأثير الشرط الآخر فيه ، ولا ملازمة بين عدم التداخل في الأسباب ( وحدوث وجوبين مستقلين ) ، وبين عدم التداخل في المسببات ، أي عدم كفاية مصداق واحد في امتثال الوجوبين ، بل ربّما يمكن القول بعدم التداخل في الأسباب ، ومع ذلك يكتفى في امتثال السببين ، بالإتيان بمصداق واحد ، فلو مسّ الميت أو أجنب ، يكفي الاغتسال الواحد لامتثال وجوبين. نعم القول بعدم التداخل في المسببات فرع القول بعدم التداخل في الأسباب ، أي فرع القول بتعدّد الوجوب.

إذا عرفت ذلك فلنذكر دليل القائل بعدم التداخل :

إطلاق الشرط يقتضي عدم التداخل

استدلّ القائل بعدم التداخل في الأسباب ، ( اقتضاء كلّ شرط وجوباً مستقلاً ) بظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء ( الوجوب ) عند حدوث الشرط ، سواء أقلنا إنّه هو السبب أو كاشف عن السبب الواقعي ولازم ذلك تعدّد


الوجوبين.

وبعبارة أُخرى : انّ ظاهر كلّ قضية شرطية أنّه علّة تامة لحدوث الجزاء ، سواء أوجد الشرط الآخر أم لا ، وعلى فرض الوجود ، سواء وجد معه أو قبله ، أو بعده.

هذا هو دليل القائل بعدم التداخل فيها.

دليل القائل بالتداخل إطلاق الجزاء

فإذا كان ظهور كلّ من الشرطين في كلّ من القضيتين في الحدوث عند الحدوث دليل القائل بعدم التداخل ، فإطلاق متعلّق الوجوب وهو « الوضوء » أو « الاغتسال » دليل القائل بالتداخل ، لأنّ ظاهر إطلاق الجزاء ، انّ الوضوء مثلاً هو الموضوع التام ، ومن المعلوم أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن تقع متعلّقاً ، لوجوبين ، لاستلزامه اجتماع المثلين ، وهو محال كاجتماع الضدين.

فتلخّص انّ إطلاق الشرط وتأثيره في الحدوث عند الحدوث مطلقاً ، دليل القائل بعدم التداخل ، كما أنّ إطلاق الجزاء وانّ الموضوع لكلا الوجوبين ، هو الوضوء لا غير دليل القائل بالتداخل ولا يمكن الأخذ بكلا الظهورين ولابد من التصرف في أحدهما.

تخلّص القائل بالتداخل عن الإشكال

ثمّ إنّ القائل بالتداخل يتصرف في ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث ، بأحد الوجهين :

١. منع دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث ، بل على الثبوت


عند الحدوث ، أي ثبوت الوجوب ، أعمّ من كونه نفس الوجوب السابق أو الوجوب الجديد.

وهذا تصرف في ناحية الشرط ، ومنع دلالته على الحدوث عند الحدوث.

٢. أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط إلا أنّ الأثر وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأوّل ، وتأكّده عند الآخر.

وهذا تصرف في ناحية الجزاء وانّ الهيئة الجزائية لا تدلّ على الوجوب التأسيسي ، بل إذا سبقه شرط آخر ، يدل على الوجوب التأكيدي. (١)

هذان الوجهان ممّا اعتمد عليه القائل بالتداخل وتخلّص عن التعارض اللازم من الأخذ بالإطلاقين ، وإليك ما تخلّص به القائل بعدم التداخل في الأسباب.

تخلّص القائل بعدم التداخل عن الإشكال

وقد تخلّص القائل بعدم التداخل بوجهين آخرين :

١. الالتزام بأنّ متعلّق الجزاء وإن كان واحداً صورة ، إلا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشرط ، كصلاة الفجر ونافلته فهما واحدتان صورة ومختلفتان حقيقة. وعلى ضوء ذلك نقول الوضوء لأجل النوم غير الوضوء لأجل البول. (٢) وهذا تصرّف في الجزاء.

__________________

١. هذا الوجه هو الذي ذكره المحقّق الخراساني بعنوان ثالث الوجوه ، وكان الأولى أن يذكره بعد الأول ـ كما فعلناه ـ وأمّا ما ذكره بصورة الوجه الثاني ، فهو دليل القائل بعدم التداخل ، لا التداخل فقد أدخل في ضمن بيان دليل القائل بالتداخل ، دليل القائل بعدمه.

٢. وما في الكفاية في ذيل هذا الاحتمال من إمكان الاجتزاء بمصداق واحد ممّا لا حاجة إليه في المقام وإنّما يناسب مسألة تداخل المسببات مع أنّ الكلام في تداخل الأسباب.


٢. ما أشار إليه في ضمن النقض والإبرام وقال : « قلت نعم إذا لم يكن المراد بالجملة فيما إذا تعدد الشرط كمافي المثال هو وجوب الوضوء مثلاً لكلّ شرط غير ما وجب بالآخر ».

وحاصله : انّه يقيّد إطلاق الجزاء بقوله : « مرة أُخرى » وكأنّه يقول : « إذا نِمت فتوضّأ » وإذا بُلت فتوضّأ مرّة أُخرى ، ويكون الموضوع للوجوب الأوّل هو الطبيعة وللوجوب الثاني ، هو الفرد الثاني ، ويرتفع محذور اجتماع المثلين ، وهذا أيضاً تصرّف في الجزاء.

فظهر من ذلك ، انّ كلاً من القائل بالتداخل وعدمه قد لمس الإشكال وصار بصدد دفعه ، إمّا بالتصرف في جانب الشرط كما في الوجه الأوّل ، أو في جانب الجزاء هيئة أو مادة كما في الوجوه الثلاثة المتأخّرة ، إنّما الكلام في ترجيح أحد التأويلين بكلا شقيه على التأويل الآخر كذلك ، فنقول :

ترجيح ظهور القضية الشرطية على إطلاق الجزاء

ثمّ إنّ القائلين بعدم التداخل في الأسباب ، ذكروا لترجيح ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، الذي هو الأساس لعدم التداخل وجوهاً نذكرها تباعاً.

الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني تبعاً للشيخ الأعظم وقال : « لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء ، وظهور الإطلاق ، ضرورة انّ ظهور الإطلاق ، يكون معلّقاً على عدم البيان ، وظهورها ( القضية الشرطية ) صالح لأن يكون بياناً فلا ظهور للجزاء مع ظهورها فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلاً ، بخلاف القول بالتداخل. (١)

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣١٨.


توضيحه : انّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث بالدلالة اللفظية الوضعية ودلالتها عليه ، لا يتوقف على شيء آخر غير نفسها ، بخلاف دلالة الجزاء ( فتوضأ ) على وحدة متعلّق الوجوبين فانّه بالإطلاق وسكوت المتكلّم عن القيد مع كونه في مقام البيان ، فدلالته على وحدة الجزاء متعلّق على عدم البيان الدالّ على القيد ، وظهور القضية الشرطية ، في الحدوث عند الحدوث كاف ، لأن يكون بياناً وانّ متعلّق الوجوب في كلّ من القضيتين شيء غير الآخر ، وانّ المحكوم في كلّ فرد غير الآخر ، فعندئذ لا ينعقد الإطلاق في جانب الجزاء لوجود البيان فلا يُعدّ تقديم ظهور الشرط على الجزاء تصرّفاً فيه ، لعدم انعقاد الإطلاق.

يلاحظ عليه : أنّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث وإن كانت لفظية لكن دلالتها على أنّ الشرط في عامة الأحوال كذلك ، سواء سبقه الشرط الآخر أم قارنه أو تأخّر عنه ، إنّما هو بالإطلاق وسكوت المتكلّم مع كونه في مقام البيان ، فالمقام من قبيل تعارض الإطلاقين ، لا من قبيل تعارض الدلالة اللفظية مع الدلالة الإطلاقية ، فكما أنّ إطلاق الشرط يصلح لأن يكون قرينة على تقييد متعلّق الجزاء ، أي الوجوب ، وانّ المحكوم بالوجوب في الشرط الثاني غير الأوّل ، كذلك إطلاق الجزاء يصلح لأن يكون قرينة على أنّ الحدوث عند الحدوث فيما إذا تفرّد الشرط ، لا ما إذا سبقه الآخر أو قارنه ، فعندئذ يكون الوجوب مؤكّداً لا مؤسّساً لحكم جديد.

وبعبارة أُخرى : انّ دلالة القضية الشرطيّة على أنّ كلّ سبب تامّ للجزاء وتعلّق الوجوب ، وإن كان بالوضع ، لكن كونه كذلك في عامة الحالات سواء كان قبله أو معه شيء أو لا ، إنّما هو بالإطلاق ببيان انّه لو كان المؤثر هو الشرط ، بشرط أن لا يسبقه شيء أو يقارنه شيء ، لكان عليه البيان ورفع الجهل ، وحيث لم يبين


يؤخذ بالإطلاق ويقال : الشرط مؤثر في عامة الأحوال.

وهذا النوع من الإطلاق موجود في جانب الجزاء ببيان انّ الموضوع هو الطبيعة ، فلو كان الموضوع الطبيعة الموجودة في ضمن فرد آخر ، لكان عليه البيان وحيث لم يبين نستكشف انّ الموضوع هو الطبيعة ، ويستحيل تعلّق إرادتين مستقلتين بها.

فكما أنّ إطلاق القضية الشرطية صالح للتصرّف في جانب الجزاء بإضافة قيد عليه مثل « فرد آخر » عليه ، فهكذا إطلاق الجزاء صالح للتصرّف في جانب القضية الشرطية بأحد الوجهين الماضيين : الثبوت عند الحدوث ، أو الوجوب المؤكّد.

الثاني ما أفاده المحقّق الاصفهاني : انّ نسبة الصدر إلى الذيل نسبة ذات الاقتضاء إلى فاقد الاقتضاء حيث إنّ متعلّق الجزاء نفس الماهية المهملة ، والوحدة والتعدّد ، خارجان عنها ، بخلاف أداة الشرط فانّها ظاهرة في السببية المطلقة ولا تعارض بين المقتضي والاقتضاء. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من خروج الوحدة والتعدّد من مدلول الجزاء وإن كان صحيحاً لكن دلالة القضية الشرطية على السببية المطلقة ليس إلا كونه سبباً لحدوث الجزاء عند حدوث الشرط وهذا المقدار من الدلالة لا يكفي ، لأنّ كونه سبباً مطلقاً في جميع الأحوال ليس مدلول الدلالة اللفظية ، بل مدلول الدلالة الإطلاقية حيث إنّ المتكلّم لم يخص السببية بحال دون حال وعند ذاك تصبح السببية في عامة الأحوال مدلول الإطلاق ، فكيف يقدّم على إطلاق الجزاء؟

الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني وحاصله :

__________________

١. نهاية الدراية : ٣٢٦.


« إنّ ظهور القضية الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين ، وذلك لأنّه لا شبهة في أنّ القضية الشرطية ، كالقضية الحقيقية ، فكما أنّ قوله : « المستطيع يحجّ » عامّ لمن استطاع في كلّ وقت ، فكذلك قوله : « إذا استطعت فحجّ » عام لمن استطاع في وقت ولازم الانحلال ان يترتّب على كلّ شرط جزاء غير ما رتب على الآخر ، فيكون هذا قرينة للجزاء ويصير بمنزلة أن يقال : إذا بُلت فتوضأ وإذا نِمْت ثانياً فتوضأ وضوءاً آخر. (١)

وقد وصفه تلميذه في محاضراته بأنّه في غاية الصحة والجودة وانّه يتمّ ببيان أمرين :

أوّلهما : انّ القضية الشرطية ظاهرة في الانحلال وتعدد الطلب ، لأنّها ترجع إلى القضية الحقيقية ، ولا إشكال انّ الحكم في القضية الحقيقية ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة.

ثانيهما : انّ مقتضى تعدّد القضية الشرطية في نفسها ، تعدّد الطلب أيضاً ، فإذا فرض تعلّق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كلّ ، إيجادَ تلك الماهية ، فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها مرّتين فإذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلالية وتعدّد الطلب ، كان ظهور القضية في تعدّد الحكم لكونه لفظياً مقدماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب لو سلمنا ظهوره فيها ، ويكون مقتضى القاعدة عدم التداخل. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّه لو أُريد من الانحلال ، انحلالُ قضيّة واحدة إلى قضايا كثيرة حسب عدد الموضوعات ، على نحو ، لو افترضنا انّ عبر القرون ملايين من

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٤٩٤.

٢. المحاضرات : ٥ / ١١٨.


المسلمين لهم القدرة والاستطاعة لحجِّ البيت لتعلّق بكلّ إرادة وإنشاء وحكم مستقل ، وبالتحليل ، فلو أُريد من الانحلال هذا ، فنحن نمنعه لشهادة الوجدان على أنّ المولى إذا أنشأ إلزاميّاً على عبيده ، أو على من تحت يده فليس هنا إلا إرادة واحدة متعلّقة بالعنوان الكلي يتلقّاه كلّ منهم حجّة على نفسه دون أن يكون هنا انشاءات وإرادات.

وإن أُريد من الانحلال كون الحكم المتعلّق بالعنوان حجّة على كلّ منهم ، أو حجّة على ثبوت الحكم ، للموضوع كالقوم مهما وجد ، فهو صحيح ، لكن دلالته على ثبوت الحكم له ، في عامة الأحوال ، متقدماً ، أو متأخراً أو لاحقاً إنّما هو بالإطلاق وسكوت المولى عن القيد ، فعندئذ يكون ذلك الإطلاق نظير الإطلاق الموجود في الذيل.

الرابع : ما اعتمد عليه السيد الأُستاذ

إنّ العلل الشرعية في نظر العرف كالعلل التكوينية ، فكما أنّ كلّ علّة تكوينية تُؤثّر في معلول مستقل ، دون المعلول المشترك بينها وبين غيرها ، فهكذا العلل الشرعية يؤثر كلّ منها في معلول خاص.

مثلاً انّ كلاً من النار والشمس ، تُولّد حرارة خاصة ، لا حرارة مشتركة ، سواء أكانت النار متقدّمة على الشمس ، أو متأخّرة وهذا هو المرتكز في أذهان العرف ، فإذا سمع العرف الذي ارتكز في ذهنه ما لمسه وشاهده في العلل التكوينية ، قوله : إذا بُلْت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ، ينتقل ـ حسب الارتكاز السابق ـ انّ لكلّ من البول والنوم معلولاً مستقلاً ، وانّ وجوب الوضوء الناشئ من البول ، غير الوجوب الناشئ من النوم ، وظهور الصدر في هذا المعنى ليس


مستنداً إلى الإطلاق ، بل إلى الارتكاز الحاصل من ممارسة الأُمور التكوينية ، ويكون ظهوره أقوى من ظهور الجزاء في الإطلاق ، بل يصير مثل ذاك سبباً للتصرف في ذيل الجزاء على نحو يلتحم مع تعدّد الوجوب.

نعم قد مرّ منّا انّ قياس التشريع بالتكوين ، أو الاعتبار بالحقيقة ممنوع وانّ هذا سبب لأكثر المغالطات ، ولكن ما ذكرناه لا ينافي ذلك ، لأنّ كلامنا في المقام في فهم العرف ، الذي لا يدرك هذه الأُمور الدقيقة ، فارتكازه في الأُمور التكوينية وتلقّيه العلل الشرعية أسباباً وعللاً للأحكام كالتكوين ، يصير سبباً لانعقاد ظهور أقوى في جانب القضية الشرطية على نحو يقدم على ظهور الجزاء في الوحدة. (١)

ولعلّه إلى ما ذكرنا يرجع قول المحقّق الإصفهاني في بيان وجه عدم التداخل « انّ العرف إذا أُلقي إليه القضيتان ، فكأنّه يرى مقام الإثبات مقروناً بمقام الثبوت ويحكم بمقتضى تعدّد السبب بتعدّد الجزاء من غير التفات إلى أنّ مقتضى إطلاق المتعلّق خلافه ، وهذا المقدار من الظهور كاف في المقام ». (٢)

ترجيح إطلاق الجزاء على الشرط

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى ترجيح ظهور الجزاء في الوحدة على ظهور الشرط في تعدّد الوجوب قائلاً : إذا قال المولى : إذا بلت فتوضأ ، وقال : إذا نمت فتوضأ ، فإمّا أن يكون متعلّق الوجوب نفس الحيثية المطلقة ، أعني : طبيعة الوضوء ، أو شيء وراء ذلك. فعلى الأوّل لا يصحّ تعلّق وجوبين على أمر

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٤٤٤.

٢. نهاية الدراية : ٣٢٦.


واحد ، وعلى الثاني فلابدّ أن يقال : إذا نمت فتوضّأ وإذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر ، وهذا لا يصحّ من وجهين :

١. ربما يكون البول متقدّماً ، فعندئذ لا يصحّ أن يقال : إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.

٢. انّ هذا النوع من التقييد إنّما يصحّ إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى الآخر ، لا فيما إذا لم يكن كذلك كما في المقام. (١)

يلاحظ على الأوّل : أنّ القيد لا ينحصر بلفظة « آخر » بل يمكن أن يُقيّد الطبيعة بقيد آخر ، كأن يقال : إذا بلت فتوضّأ لأجل البول ، وإذا نمت فتوضّأ وضوءاً لأجل النوم.

يلاحظ على الثاني : بانّ المتفرقات في كلام إمام واحد بل الأئمة كحكم كلام واحد.

فتلخّص من هذا البحث الضافي ، تقدّم ظهور القضية الشرطية الدالة على تعدّد الوجوب على ظهور الجزاء في وحدة المتعلّق ، وتكون النتيجة هو عدم تداخل الأسباب وانّ لكلّ سبب تأثيراً.

بقيت هنا أُمور :

الأوّل : التفصيل بين كون الأسباب معرفات أو مؤثّرات

قد بنى فخر المحقّقين المسألة على أنّ الأسباب الشرعية هل هي معرفات وكواشف ، أو مؤثرات؟ وعلى الأوّل الأصل التداخل بخلافه على الثاني ، وحكاه الشيخ الأنصاريّ عن المحقّق النراقي في عوائده. (٢)

__________________

١. نهاية الأُصول : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ؛ لمحات الأُصول : ٢٩٣.

٢. مطارح الأنظار : ١٨٠.


قال العلاّمة في القواعد : لا تداخل في السهو وإن اتّفق السبب ، على رأي.

وقال فخر المحقّقين في شرحه : ذهب الشيخ في « المبسوط » إلى التداخل مطلقاً ... وذهب ابن إدريس إلى التداخل في المتّفق لا المختلف ، والتحقيق انّ هذا الخلاف يرجع إلى أنّ الأسباب الشرعية ، هل هي مؤثرات أو علامات. (١)

وقال أيضاً في باب غسل الجنابة والأسباب الشرعية علامات فلا يستحيل تعدّدها. (٢)

إنّ الفرق بين تداخل الأسباب وتداخل المسببات غير منقّح في كلمات القدماء ، بل عند بعض المتأخّرين كالمحقّق الخراساني فقد خلط بينهما في الكفاية. وأوّل من نقّحه ببيان رائق هو الشيخ الأنصاري (٣) والظاهر انّ كلام الفخر ناظر إلى التداخل في الأسباب وهذا هو الذي استظهره الشيخ أيضاً حيث قال : « ولا ينافي ذلك استدلالهم بأنّ العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع اجتماعها في شيء واحد » الظاهر في دعوى تداخل الأسباب. (٤)

وحاصل كلام فخر المحقّقين انّه لو كان كلّ من البول والنوم موضوعاً للحكم ، وعلّة وسبباً له فيطلب كلّ ، حكماً ومعلولاً ـ وجوباً ـ غير ما يطلبه الآخر ، لامتناع توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد.

وأمّا لو كان كلّ منها معرفاً لما هو الموضوع واقعاً ، فلا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد ، وذلك كمبطلات الوضوء فانّ الظاهر انّ الجميع حتى الريح كاشفة عن ظلمة نفسية يُذهبها الوضوء.

__________________

١. إيضاح الفوائد : ١ / ٢٤٥.

٢. إيضاح الفوائد : ١ / ٤٨.

٣. لاحظ المطارح : ١٨٠ ، في أوائل الهداية.

٤. مطارح الأنظار : ١٨٠.


يلاحظ عليه أوّلاً : بعدم الملازمة بين كون الأسباب الشرعية معرّفات وبين كونها معرّفات لشيء واحد ، إذ من المحتمل أن يكون كلّ كاشفاً عن سبب مستقل ، فيكون حكم المعرِّف ، حكم كونه موضوعاً وسبباً.

وثانياً : أنّ تعدد الأسباب الشرعية كما أفاده المحقّق الخراساني ، ليس إلا كالأسباب العرفية في كونها معرفات تارة ، ومؤثرات أُخرى.

أمّا السبب الشرعي فتارة يكون علّة للحكم الشرعي ودخيلاً في ترتّب الحكم الشرعي ، كما في قوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (١) ، وقوله : إذا شككت فابن على الأكثر ؛ وأُخرى كاشفاً عن السبب ، كعبور الحمرة إلى جانب المغرب ، الكاشف عن استتار القرص كاملاً.

ومثلها ، الأسباب العرفية فهي أيضاً على قسمين فتارة تكون علّة ـ كما في قولك : إذا طلعت الشمس كان النهار موجوداً ـ وأُخرى يكون أمارة على حدوث الموضوع وكاشفاً كما إذا قلنا : إذا كان النهار موجوداً كانت الشمس طالعة.

فليست الأسباب الشرعية ، معرفات مطلقاً ، ولا الأسباب العرفية عللاً مطلقاً بل ينقسمان إلى قسمين. (٢)

الثاني : التفصيل بين وحدة الأسباب جنساً وعدمها

وهناك تفصيل آخر لابن إدريس وهو التفصيل بين ما كان السبب من جنس واحد كتكرر وطء الحائض ، أو من أجناس متعددة كزيادة العمل والذكر في الصلاة ، فاختار في الأوّل التداخل دون الثاني.

__________________

١. الإسراء : ٧٨.

٢. لاحظ الكفاية : ١ / ٣١٨ ـ ٣١٩.


وقد ذكر ذلك التفصيل في ضمن مسألة « ومن سها فلم يدر أربعاً صلّى أم خمساً وتساوت ظنونه في ذلك فعليه سجدتا السهو » وقال ما هذا لفظه :

فإن سها المصلّي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّات كثيرة ، في صلاة واحدة ، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو ، أو سجدتا السهو عن الجميع؟

قلنا : إن كانت المرّات من جنس واحد ، فمرّة واحدة تجب سجدتا السهو ، مثلاً تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى ، وكذلك في باقي الركعات ، فانّه لا يجب عليه تكرار السجدات ، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب ؛ لأنّه لا دليل عليه ، وقولهم : : من تكلّم في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو (١) ، وما قالوا دفعة واحدة أو دفعات.

فأمّا إذا اختلف الجنس ، فالأولى عندي بل الواجب ، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو؛ لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس ، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ؛ لأنّ هذا قد تكلّم مثلاً ، وقام في حال قعود ، وأخلّ بإحدى السجدتين ، وشكّ بين الأربع والخمس ، وأخلّ بالتشهد الأوّل ، ولم يذكره إلا بعد الركوع في الثالثة ، وقالوا : : من فعل كذا ، يجب عليه سجدتا السهو ، ومن فعل كذا في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو ، وهذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر ، ولا دليل على تداخلهما ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من محقّق. (٢)

وحاصل كلامه : أنّه إذا كانت الأسباب الشرعية من نوع واحد يمكن التمسّك بإطلاق الجزاء وهو وجوب سجدتا السهو من دون تقييد بالمرّات ، وأمّا

__________________

١. الوسائل ج ٥ ، الباب ٤ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

٢. السرائر : ١ / ٢٥٨ ، باب أحكام السهو والشكّ في الصلاة.


إذا كانت الأسباب الشرعية من جنسين فليس هناك ما يمكن التمسّك بإطلاقه ، بل يجب امتثال كلّ على حدة ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان.

بل لقائل أن يقول انّ مقتضى الإطلاق في القسم الثاني هو عدم التداخل ، لأنّ مقتضى إطلاق قوله : إن تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو ، هو وجوبها ، سواء وجبتا لأجل فعل أو لا ، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله : « إن قمت مكان القعود فاسجد سجدتي السهو » ، هو وجوبها مطلقاً ، سواء وجبتا لأجل التكلّم أو لا ، فصارت النتيجة هي اجتماع وجوبين.

ومن هنا يعلم أنّ ما أورد عليه في « الكفاية » تبعاً لما في « مطارح الأنظار » لا صلة له بكلامه وقد نشأ من عدم الرجوع إلى نفس الكتاب ، فالأولى أن يقال : كما سيوافيك في الموضع الثاني أنّ الضابطة فيما إذا كانت النسبة هو العموم والخصوص من وجه هو التداخل إلا إذا قامت القرينة على عدمه ، ومن هذا الباب باب الديات والحدود والغرامات والخسارات والتأديبات ، لأنّ إيجاب سجدة السهو يعد تأديباً للمصلّي فمن كثر عليه الخطأ يكثر تأديبه ، فلأجل ذلك لا فرق بين كون الفعلين من جنس واحد أو غير جنس. (١)

__________________

١. وقد أورد شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة على التفصيل الذي عليه الحلّي ما هذا حاصله : ماذا يريد الفخر من الوحدة ، فهل يريد الوحدة النوعية كتكرر الوطء فهو وإن كان صحيحاً لكن المؤثّر هو الأفراد والمفروض انّها متعددة ، وإن أراد انّ الوحدة الحقيقية فهي غير صحيحة حسب المفروض.

هذا ما أفاده في الدورة السابقة ولكنّه ـ مدّ ظلّه ـ أفاد في هذه الدورة ـ الرابعة ـ بأنّ ما ذكرناه سابقاً وإن كان صحيحاً ، لكن ليس له ولا لما في المطارح والكفاية من الإشكال على الفخر ، صلة بكلامه فانّ كلامه يدور حول وجود الإطلاق في المتحد دون المختلف ، ومقتضى الإطلاق في الأوّل هو الاقتصار على المرّة بخلاف الثاني فترديد كلامه بين الوحدة النوعية أو الشخصية ، أجنبي عن مرامه ، فلاحظ.


الثالث : إذا شكّ في مقتضى الأدلّة الاجتهادية

إذا شكّ في مقتضى الأدلّة وانّ مقتضاها تداخل الأسباب ( وحدة الوجوب ) أو تعدّده ، فالأصل هو البراءة عن الوجوب الواحد الزائد.

نعم مقتضى الأصل في الموضع الثاني ، ( اجزاء الامتثال الواحد عن وجوبين ) أوّلاً ، هو الاشتغال للشك في سقوط الوجوب بالامتثال الواحد.

الرابع : فيما إذا تكرر الجزاء من دون ذكر السبب

إنّ محط البحث فيما إذا ذكر سببان لجزاء واحد كالنوم والبول للتوضّؤ ، وأمّا إذا تكرّر حكم واحد من دون ذكر السبب كما إذا قال : صم ، ثمّ قال بعد فترة : صم ، فهو خارج عن حريم النزاع ، وعندئذ يكون البحث مركّزاً على أنّ الأصل هو في الأمرين المتكررين هو التأسيس أو التأكيد ، وقد تقدّم في أواخر الأوامر (١) فلاحظ.

____________

١. لاحظ هذا الجزء ، ص ١٥٩.


الموضع الثاني

في تداخل المسببات وعدمه

قد عرفت أنّ البحث في التنبيه الثالث يقع في موضعين :

الأوّل : في تداخل الأسباب وعدمه.

الثاني : في تداخل المسبّبات وعدمه.

وقد عرفت أنّ النزاع الأوّل يرجع إلى اقتضاء كلا الشرطين وجوباً واحداً ، أو اقتضاء كلّ ، وجوباً خاصاً له ، فلو قلنا بأنّ مدلول القضية الشرطية هو الأعم من حدوث الجزاء ، أو ثبوته ، عند ثبوت الشرط ، فلازمه القول بالتداخل في الأسباب ، وأمّا لو قلنا بالحدوث لدى الحدوث ، فلازمه القول بعدم التداخل فيها ، وقد مرّ انّ الثاني هو المتعيّن عند العرف.

وأمّا النزاع الثاني ( تداخل المسببات وعدمه ) فيرجع إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكليف والاشتغال ، وعدم صدقه.

وبعبارة أُخرى : هل يكفي الإتيان بفرد واحد ـ مع تعدّد التكليف ـ فلازمه تداخل المسببات ، أو لا يكفي فلازمه عدم تداخلها؟

ومن هنا يظهر انّ البحث في تداخل المسببات وعدمه ، فرع القول بعدم تداخل الأسباب ، وتعدد الوجوب والتكليف ، وإلا فعلى القول بتداخل الأسباب ،


وانّه ليس في المقام إلا وجوب واحد فلا موضوع للبحث عن تداخل المسببات وعدمه ، لوضوح انّ التكليف الواحد ، لا يقتضي إلا امتثالاً واحداً ، ويكون الإتيان بفرد من أفراد الطبيعة ، مسقطاً قطعاً ، فالبحث في الموضع الثاني مبنيّ على ظهور القضية الشرطية في استقلال تأثير كلّ شرط ، وانّ أثر كلّ غير أثر الآخر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقام الثبوت ، أي إمكان تداخل المسببات وعدم إمكانه ، وأُخرى في مقام الإثبات ، وما هو مقتضى الأدلّة.

١. إمكان التداخل ثبوتاً وعدمه

ذهب الشيخ الأعظم إلى امتناع التداخل وقال : قد قرّرنا فيما تقدّم انّ متعلّق التكاليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة ، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير إلا أن يكون ناسخاً لحكم السببية. (١)

يلاحظ عليه : بما سبق في المقام الأوّل وهو انّ إيجاد التكثّر في جانب الجزاء ، لتصحيح تعلّق وجوبين بطبيعة واحدة ، رهن التصرّف في جانب الجزاء بأحد وجهين :

الأوّل : تقييد متعلّق الوجوب في إحدى القضيتين الشرطيتين بلفظة « آخر » فيكون وزانُ القضيتين وزانَ قولنا : إذا نمت فتوضأ وإذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.

الثاني : تعلّق كلّ من الجزاء ( وجوب الوضوء ) بشرطه بأن يقال : إذا بلت فتوضّأ وضوءاً مسبباً من النوم ، أو البول.

فما ذكره الشيخ إنّما يتمّ على الوجه الأوّل وتكون النسبة بين الموضوعين ، هو

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٨١.


التباين مثل ما إذا قال : أكرم الإنسان الأبيض ، وأكرم الإنسان الأسود ، فعندئذ يمتنع تداخل المسببين ، بل لابد من إكرام انسانين بلونين مختلفين.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المصحّح لتعلّق الوجوبين ، هو تقييد كلّ وجوب بسببه ، فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم من وجه.

ومن هنا يعلم أنّ النزاع في تداخل المسببات وعدمه يختصّ بما إذا كان بين متعلّقي الوجوبين ، من النسب الأربع ، هو العموم والخصوص من وجه أو المطلق دون التباين لعدم إمكان التداخل ، عندئذ ولا التساوي ، إذ لا موضوع للتداخل حينئذ.

ولقد أحسن المحقّق الخراساني في المقام حيث استدلّ على إمكان التداخل بما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه وقال :

« الذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة ، حسب تعدّد الشرط ( عدم التداخل في الأسباب ) إلا أنّ الاجتزاء بواحد ، لكونه مجمعاً لها كما في أكرم هاشمياً ، وأضف عالماً ، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ضرورة انّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق انّه امتثلهما ولا محالة يسقط بامتثاله وموافقته ، وإن كان له امتثال كل منهما على حدة ، كما إذا قال : أكرم الهاشمي بغير الضيافة ، وأضاف العالم غير الهاشمي.

٢. ما هو مقتضى الأدلة إثباتاً؟

إذا ثبت إمكان التداخل ثبوتاً ، يقع الكلام فيما هو مقتضى الأدلّة الاجتهادية إثباتاً ، فقد استدل القائل بعدم التداخل ولزوم تعدّد الامتثال بوجهين :


حجّة القائل بعدم التداخل

الأوّل : ما استدلّ به العلاّمة في « المختلف » ونقله السيد الصدر في شرح الوافية عن العلاّمة على ما حكاه الشيخ الأعظم في « المطارح » وقال :

إذا تعاقب السببان أو اقترنا فإمّا أن يقتضيان مسبّبين ، أو مسبّباً واحداً ، أو لا يقتضيان شيئاً ، أو يقتضي أحدهما شيئاً دون الآخر ، والثلاثة الأخيرة باطلة ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب ، أمّا الملازمة فلانحصار الصور في المذكورات ، وأمّا بطلان التوالي :

أمّا الأوّل ( من الثلاثة الأخيرة ) فلما عرفت سابقاً من أنّ النزاع المذكور مبني على خلافه ، [ لأنّ المختار في الموضع الأوّل هو عدم التداخل ].

وأمّا الثاني : فلأنّ ذلك خلاف ما فرضناه من سببيّة كلّ واحد منهما على ما يقتضيه الدليل.

وأمّا الثالث : فلأنّ استناده إلى واحد معيّن من السببين يوجب الترجيح بلا مرجّح مع أنّه خلاف المفروض من دليل السببيّة ، وإلى غير المعيّن يوجب الخلف المذكور.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره بطوله ، إنّما يناسب المقام الأوّل ، أي عدم تداخل الأسباب ، وانّ كلّ سبب يقتضي وجوباً مستقلاً ، ولا صلة له بالمقام أي تداخل المسببات وعدمه ، أي لزوم تعدّد الامتثال وعدمه.

اللّهمّ إلا إذا ضُمّ إليه أمر آخر ، وهو إن تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل الثاني ، ولذلك قام الشيخ بتهذيب الدليل وقال : واعلم أنّ محصل هذا الوجه ينحل إلى مقدمات ثلاث :


الأُولى : دعوى تأثير السبب الثاني.

الثانية : أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة : أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

فالقائل بالتداخل لابدّ له من منع إحدى المقدّمات المفروضة على سبيل منع الخلو. (١)

هذا وللقائل بالتداخل أن يمنع كلّية المقدّمة الثالثة ويفصِّل بين كون النسبة بين المتعلّقين هي التباين أو العموم والخصوص من وجه أو المطلق ، فعلى الأوّل تعدّد الأثر يقتضي تعدّد الفعل كما مثلنا ، بخلاف الثاني فيكفي في امتثال الأثرين ، امتثال واحد على ما عرفت.

الثاني : ما استدلّ به المحقّق النائيني وهو انّ الأصل عدم سقوط الواجبات المتعدّدة بفعل واحد ، ولو كان ذلك بقصد امتثال الجميع في غير ما دلّ الدليل على سقوطها به ، كما هو الحال في سقوط أغسال متعدّدة بغسل الجنابة ، أو بغسل واحد نوى به سقوط الجميع وكما في ارتفاع أفراد الحدث الأصغر بوضوء واحد.

وبالجملة الأصل العملي يقتضي عدم سقوط الواجبات المتعدّدة مالم يدلّ على سقوطها دليل بالخصوص.

نعم يستثنى من ذلك مورد واحد ، وهو ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً وخصوصاً من وجه كما في قضية أكرم عالماً وأكرم هاشمياً ، فإنّ إكرام العالم الهاشمي يكون مسقطاً لكلا الخطابين ، ولا يعتبر في تحقّق الامتثال إلا الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر. (٢)

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٨١ ، ولم نعثر على أصل الدليل في « المختلف » ولكن لاحظ : ١ / ١٩١ ـ ١٩٢ الطبعة الحجريّة.

٢. أجود التقريرات : ١ / ٤٣٢.


يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ البحث في المقام من التداخل وعدمه حول مقتضى الأدلّة الاجتهادية وليس الكلام في مقتضى الأُصول العملية ، فالاستدلال بالأصل مع إمكان الاستدلال بالدليل الاجتهادي ، غير تام.

وثانياً : أنّه لم يعلم الفرق بين المقام ومسألة العموم والخصوص من وجه الذي استثناه من الضابطة ، إذ لو كان المعتبر عند العقل في تحقّق الامتثال ، الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر خارجاً ، فيجب القول بالتداخل في المقام ، لأنّه ينطبق على الوضوء الواحد عنوان التوضّؤ المأخوذ في كلا الجزاءين ، إذ المفروض أنّ الجزاء عبارة عن قوله : « يجب عليك الوضوء الناشئ من جانب البول أو النوم ». فالتداخل عندئذ يكون مقتضى القاعدة من دون حاجة إلى دليل خارجيّ كما هو ظاهر كلامه.

حجّة القائل بالتداخل

احتجّ القائل بالتداخل بأنّه إذا كان ما به الامتثال مصداقاً لكلا العنوانين ، كالإكرام والضيافة ، يتلقّاه العرف امتثالاً بكلا الأمرين ، نظير ما إذا أمر الطبيب رجلاً سميناً بأكل الفاكهة مكان الطعام حتّى يخفّ وزنه ثمّ أمره بأكل فاكهة خاصة لتداوي مرض خاص فيه ، فإذا أكل تلك الفاكهة بدل الطعام أيضاً ، فقد امتثل كلا الأمرين الإرشاديين ، ونظيره الأمران المولويان.

هذه هي الضابطة في المقام إلا إذا قامت قرينة على تعدّد الامتثال ، كما في الأمثلة التالية :

١. إذا ورد النص على نزح سبع دلاء عند وقوع كلّ من الفأرة في البئر ، وبول الصبي الذي لم يبلغ فوقع كلّ بعد الآخر ، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة


واحدة ، بل يلزم نزح سبع دلاء أُخرى أيضاً ، وذلك لأنّ لوقوع كلّ منهما بعد الآخر تأثيراً خاصّاً في قذارة الماء ، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة واحدة ، بل يجب التكرار.

٢. إذا ظاهر وأفطر في شهر رمضان ، فلا يكفي تحرير رقبة واحدة في مقام التكفير ، وذلك لأنّ الغاية من إيجاب التكفير هو تأديب العاصي ، وهو لا يحصل إلا بالتعدّد ، ومنه يعلم حكم سائر الكفّارات.

٣. إذا أتلف ثوبين من صنف واحد ، فلا يجوز الاقتصار على دفع ثوب واحد ، لأنّ الغاية من الضمان هو جبر الخسارة الواردة على الطرف ، وهو رهن دفع ثوبين ، ومنه يعلم حكم الغرامات والخسارات والديات عامة.

٤. إذا نذر ذبح شاة لقضاء حاجة خاصة ، ثمّ نذر شاة أيضاً لقضاء حاجة ثانية فقُضيت له الحاجتان ، فلا يكفي ذبح شاة واحدة ، لأنّ لقضاء كلّ من النذرين شكراً خاصّاً.

وبذلك يظهر حال الحدود والتعزيرات ، فالأصل فيهما التعدد وإن كانت متماثلة.

بقي هنا أُمور :

بعض الفروع المترتّبة على مسألة التداخل وعدمه

نذكر في المقام بعض الفروع المترتبة على هذه المسألة وهي كالتالي :

١. إذا وجبت عليه الزكاة فهل يجوز دفعها إلى واجب النفقة إذا كان فقيراً من جهة الإنفاق؟ قال في « الجواهر » : لا يجوز لكونه ليس إيتاءً للزكاة ، لأصالة عدم تداخل الأسباب. (١)

__________________

١. الجواهر : ١٥ / ٤٠١.


٢. إذا اجتمع للمستحق سببان أو ما زاد ، يستحقّ بها الزكاة ، كالفقر ، و « الكتابة » و « الغزو » جاز أن يعطى بحسب كل سبب نصيباً ، لاندراجه حينئذ في الصنفين مثلاً فيستحقّ بكلّ منها. (١)

٣. إذا اجتمع سببان للخيار كالمجلس والعيب وخيار الحيوان ، فلا يتداخل السببان وفائدته بقاء أحدهما مع سقوط الآخر.

٤. لو تكرر منه وطء الحائض في وقت واحد كالثلث الأوّل ، أو في وقتين ، كما إذا كان الثاني في الثلث الثاني يقع الكلام في تكرر الكفّارة وعدمه. (٢)

٥. إذا وقعت نجاسات مختلفة في البئر لكلّ تقدير خاص ، فهل يجب نزح كلّ ما قدر أو لا؟ مبنيّ على التداخل وعدمه. (٣)

٦. إذا تغير أحد أوصاف ماء البئر ومع ذلك وقع فيه من النجاسات ما له مقدّر ، فهل يكفي نزح الجميع أو يجب معه نزح ما هو المقدّر؟ مبني على مسألة التداخل وعدمه.

٧. إذا مات وهو جنب ، فهل يكفي غسل واحد أو يجب الغسلان؟

__________________

١. الجواهر : ١٥ / ٤٤٧.

٢. الجواهر : ٣ / ٢٣٦.

٣. الجواهر : ١ / ٢٦٠.


السالبة الكلية ومفهومها

قد عرفت أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط فيعتبر في مفهوم القضية الشرطية أمران :

١. اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب.

٢. وحدة القضيتين موضوعاً ومحمولاً وقيداً.

مثلاً إذا قال القائل : « إن جاء زيد يوم الجمعة راكباً فأكرمه » يصير مفهومه إن لم يجئ زيد يوم الجمعة راكباً فلا تكرمه. فتجد انّ القضيتين تشتركان في الموضوع والمحمول وعامة القيود ، وتختلفان في السلب والإيجاب.

هذه هي الضابطة في أخذ المفهوم.

وعلى ضوء ذلك ينبغي إمعان النظر في مفهوم السالبة الكلية ، أعني قوله 7 : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء ». (١)

فهل مفهومه هو الموجبة الجزئية بمعنى إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ فينجسّه شيء ، أي بعض النجاسات على سبيل الإهمال ، فلا يكون المفهوم عندئذ دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس.

وعلى ذلك جرى الشيخ محمد تقي ( المتوفّى ١٢٤٨ هـ ) صاحب الحاشية على

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ٩ من أبواب طهارة الماء ، الحديث ١ و ٢ و ٦.


المعالم. (١)

أو أنّ مفهومه هو الموجبة الكلية بمعنى انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه كلّ شيء ، أي عامّة النجاسات ، فيكون المفهوم دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس ، وعليه الشيخ الأنصاري على ما في تقريراته. (٢)

استدلّ صاحب الحاشية بما اشتهر بين المنطقيّين بأنّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية ، وليس للمفهوم دور إلا أنّه نقيض المنطوق ، فإذا كان المنطوق سالباً كلّياً يكون مفهومه ، أي نقيضه موجباً جزئياً ، وتبعه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي على ما في تقريراته (٣) وسيدنا الأُستاذ الخميني. (٤)

والتحقيق أن يقال : انّ لفظ « شيء » في المنطوق يحتمل أحد أمرين :

١. أن يكون المراد منه هو معناه العام المتوغل في الإبهام.

٢. أن يكون المراد منه هو العناوين التي أُخذت في لسان الأدلّة موضوعة للحكم عليها بالنجاسة ، نظير قولنا : « الدم نجس » والبول نجس.

فإنّ قلنا بالأوّل يكون مفهومه قضية موجبة جزئية ، لوضوح انّ رفع السلب الكلي إنّما هو بالايجاب الجزئي ، فإذا قلنا : « لم يكن هناك شيء » يكفي في رفعه وجود شيء ما في المحل ، وأمّا لو قلنا بأنّ لفظة شيء أخذت مرآة إلى العناوين العشرة التي هي موضوعات للحكم عليها بالنجاسة ، فقولنا : « لم ينجسّه شيء » بمنزلة قولنا : « لم ينجسه الدم ولا البول ولا الكلب ولا الخنزير ولا الميتة ولا ... »

__________________

١. هداية المسترشدين : ٢٩١.

٢. مطارح الأنظار : ١٧٤.

٣. لمحات الأُصول : ٢٩٦

٤. تهذيب الأُصول : ١ / ٤٥٠.


فعند ذلك يكون مفهومها موجبة كلية ، أي إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه الدم والبول والكلب والخنزير والميتة ... الخ.

هذا هو مبنى القولين ومن المعلوم أنّ الحقّ هو الأوّل ، فانّ لفظة « شيء » مفهوم متوغّل في الإبهام ، فنفيه ـ كما في المنطوق ـ رهن نفي كلّ ما يصدق عليه شيء وإيجابه كما هو الحال في المفهوم بوضع شيء من الأشياء.

ثمّ إنّ الذي دعا الشيخ الأعظم إلى اختيار القول الثاني مع أنّه مخالف لما عليه المنطقيّون في باب التناقض ومخالف لما هو المتفاهم العرفي في هذه المواضع هو ما سبق منّا من أنّه يجب الاحتفاظ بعامة القيود الواردة في المنطوق ، وبما انّ الكليّة من إحدى القيود في المنطوق فيجب أن يحتفظ بها في المفهوم.

وعلى هذا المبنى تكون الكلية قيداً محفوظاً في جانبي المنطوق والمفهوم ويصبح المفهوم موجبة كلية.

وإلى ما ذكرنا يشير الشيخ بقوله : « ومن هنا ( لزوم حفظ القيود بتمامها في المنطوق والمفهوم ) يعلم صحّة ما أفاده بعض الأساطين من قوله 7 : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء » فانّ مفهومه انّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجسه كلّ شيء من النجاسات ، كما يعلم فساد ما قيل من أنّ لازم القضية المذكورة نجاسة الماء غير الكرّ بشيء من النجاسات ، وهو مجمل لا يفيد ولا يلزم منه النجاسة ، بكلّ شيء من النجاسات.

ثمّ رتّب الشيخ على مختاره وقال : إنّ ما دلّ على عدم نجاسة الماء المستعمل في الاستنجاء يعارض عموم المفهوم ، مثل ما دلّ على نجاسته إذا كان غالباً. (١)

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٧٨.


يلاحظ عليه : بأنّ الضابط ( أي الاحتفاظ بكلّ القيود الموجودة في المنطوق ) مختص بالقيود المذكورة في الكلام ، كالقيود المذكورة في المثال السابق يوم الجمعة راكباً ، دون القيود المستفادة من سياق الكلام كالاستغراق المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، أعني : « لم ينجسه شيء » ، ففي مثله لا يؤخذ القيد في جانب المفهوم ، فإذا قال : إن جاءك زيد لا تكرم أحداً ، يصير مفهومه إذا لم يجئ زيد فأكرم أحداً ، لا أكرم كلّ أحد ، وذلك لأنّ العموم كان مستفاداً من سياق الكلام ( وقوع النكرة في سياق النفي ) والمفروض انقلابه إلى سياق آخر ( إلى الإيجاب ) فكيف يمكن التحفّظ بهذا القيد في جانب المفهوم؟

وبعبارة أُخرى : انّ القيود على قسمين :

قيد مذكور في الكلام فلابدّ من أخذه في جانب المفهوم طابق النعل بالنعل.

وقيد مفهوم من سياق الكلام ، أي وقوع النكرة في سياق النفي والنهي ، فهذا النوع من القيد رهن حفظ السياق والمفروض انّ السياق يتغير في المفهوم ، ومعه كيف يمكن الاحتفاظ بهذا القيد؟!

وإن شئت قلت : إنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان القيد ، المفهوم منه العموم ، مجموعياً كان أو استغراقياً قابلاً للانتقال إلى المفهوم حتّى يكون الاستغراق الموجود في المنطوق مأخوذاً في المفهوم ، كما إذا قال : إن جاء زيد أكرم كلّ واحد ممّن معه ، فيكون مفهومه استغراقياً أيضاً ، وأمّا إذا كان العموم مستفاداً من سياق النفي ، فيكون قائماً بالسياق فإذا تبدل سياق النفي إلى الإيجاب ينتفي ما يدلّ على العموم فلا يمكن أخذه في المفهوم حتّى يكون إيجاباً استغراقياً ويكون مفهومه موجبة


كلية ، بل يتعيّن أن يكون موجبة جزئية.

ثمّ إنّ شيخنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) اقتصر على هذا القدر في دورتنا الرابعة ، وقد أفاض الكلام في ذلك في الدورات السابقة ، وبما انّ ما أفاده فيها طويل الذيل طوينا الكلام عنه ، فمن أراد فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد الجلالي. (١)

__________________

١. المحصول : ٢ / ٣٩٢ ـ ٣٩٦.


الفصل الثاني

مفهوم الوصف

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : في تعريف مفهوم الوصف

قد عُرِّف مفهوم الوصف بتعاريف نذكر منها ما يلي :

١. الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عام مقيّد بصفة خاصة ، وهو خيرة الآمدي.

وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنّه لا يشمل الوصف غيرَ المعتمد على موصوفه كقولنا : « أكرم عالماً » ، إذ ليس فيه إلا شيء واحد لا اسم انضم إليه وصفه.

٢. تعليق الحكم بالصفة حتّى يدلّ على انتفائه لدى انتفائها.

وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ التعليق يناسب مفهوم الشرط لا مفهوم الوصف.

قلت : وفيه تأمّل واضح ، لأنّ التعليق من العلقة وهي الرابطة ، فهي موجودة في القضايا الشرطية والحملية في كلّ بنحو.

٣. إثبات الحكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها يدلّ على انتفاء ذلك


الحكم عند انتفاء الصفة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه يرد عليه ما أورده الشيخ على تعريف الآمدي من عدم شموله للوصف غير المعتمد على موصوفه ، كما إذا قال : « أكرم عالماً » من غير فرق بين القول ببساطة المشتق وتركّبه.

أمّا على الأوّل فلا ذات مأخوذة مع بعض صفاتها ، وأمّا على الثاني فالذات غير مذكورة وظاهر التعريف كونها مذكورة.

اللّهمّ إلا أن يريد الشيخ من أخذ الذات ، الأعم من الأخذ لفظاً أو تقديراً لدى التحليل.

وعلى كلّ تقدير فحصيلة التعاريف عبارة عن دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن موضوعه عند انتفائه.

الثاني : تحديد محلّ النزاع

خصّ المحقّق النائيني محلّ النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف ، واستدلّ على ذلك بوجهين :

١. لو كان غيره داخلاً في محلّ النزاع لدخلت الجوامد فيه أيضاً بداهة انّه لا فرق بين الجامد وغير المعتمد من الوصف ، إلا في أنّ المبدأ في الجامد جعلي وفي غير المعتمد غير جعلي. وهذا لا يكون فارقاً بينهما في الدلالة على المفهوم وعدمها. (٢)

٢. انّ ذكر الموضوع بصورة الوصف غير المعتمد كالعالم لا يحتاج إلى نكتة

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٨٧ ؛ ولاحظ القوانين : ١ / ١٧٨.

٢. أجود التقريرات : ١ / ٤٣٣.


غير إثبات الحكم له ، لا إثباته له وانتفاءه عن غيره. (١)

يلاحظ على الأوّل : بوجود الفرق بين قولنا : إسق شجرة ، وقولنا : اسق عالماً ، فانّ الأوّل لا ينحل إلى ذات ووصف ، بخلاف الثاني فانّه ينحل إلى ذات وعلم ، فارتفاع الوصف والمبدأ الجعلي في الأوّل مساوق لارتفاع الذات ، فانّ رفع الشجرية رفع لتمام الموضوع ، وهذا بخلاف الثاني حيث تبقى الذات مع ارتفاع الوصف كالإنسان غير العالم. مضافاً إلى استدلال الفقهاء بآية النبأ على حجّية خبر الواحد تمسّكاً بمفهوم الوصف غير المعتمد على الموصوف ، وبعضهم بفهم أبي عبيدة (٢) من حديث : « ليّ الواجد بالدين يحل عرضه وعقوبته » (٣) ، انّ ليّ غير الواجد لا يبيح ، وهو أيضاً من قبيل الوصف غير المعتمد.

ويلاحظ على الثاني بأنّ التعبير عن الموضوع بالوصف العنواني مع إمكان التعبير عنه بغيره يشعر بمدخلية الوصف في ثبوت الحكم عند ثبوته وارتفاعه عند ارتفاعه ، فإذا قال : إن جاءكم فاسق بنبأ مكان : إذا جاءكم إنسان بخبر يفيد ، انّ للفسق مدخلية في عدم القبول ، وعندئذ يكون الإنسان تمام الموضوع ، والفسق قيداً زائداً أتى به لنكتة.

والحاصل : انّ المفهوم يدور حول وجود قيد زائد في الكلام ، والقيد الزائد في المقام هو أخذ الفسق أو العلم في الموضوع مع إمكان أخذ الإنسان موضوعاً ، لا الفاسق كما في الآية ولا العالم كما في المثال.

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥٠١.

٢. هو معمر بن مثنى المعروف بأبي عبيدة ( المتوفّى عام ٢٠٧ هـ ) أُستاذ أبي عبيد سلام بن قاسم مؤلف كتاب الأموال ( المتوفّى سنة ٢٢٥ هـ ) وهو بصري لا كوفي ، فما في القوانين انّه كوفي غير صحيح.

٣. الوسائل : ١٣ ، كتاب الدين ، الباب ٨ ، الحديث ٤.


الثالث : أقسام الوصف

إنّ النسبة بين الوصف والموصوف لا تخلو عن وجوه أربعة :

١. أن تكون النسبة بينهما هو التساوي ، كقولنا : الإنسان المتعجّب أكرمه.

٢. أن يكون الوصف أعمّ مطلقاً من الموضوع ، كالإنسان الماشي.

٣. أن يكون الوصف أخصّ مطلقاً من الموضوع ، كقولنا : الإنسان الكريم.

٤. أن تكون النسبة بينهما أعمّ من وجه ، كما في قولنا : « في الغنم السائمة زكاة ».

ثمّ إنّ القسمين الأوّلين خارجان عن محط البحث ، لأنّ الميزان في حجّية مفهوم الوصف ، هو بقاء الموضوع وارتفاع الوصف ، ففيما إذا كانت النسبة بينها هو التساوي أو كان الوصف هو الأعم ، ينتفي الموضوع بانتفاء الوصف أمّا لأجل التساوي لأجل كون الوصف أعمّ وانتفاءه يستلزم انتفاء الأخصّ ، فلا يبقى بحث في انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف.

ولكن القسم الثالث داخل في محلّ النزاع قطعاً ، فلو قال : أكرم إنساناً كريماً ، فعلى القول بالمفهوم يكون مفهومه انّه لا تكرم إنساناً لئيماً.

وأمّا القسم الرابع فله صورتان :

أ. أن يكون الافتراق من جانب الوصف مع بقاء الموضوع ، كما إذا قال : في سائمة الغنم زكاة ، فيكون مفهومه في معلوفة الغنم ليست زكاة.

ب. أن يكون الافتراق من جانب الموضوع بأن يرتفع الغنم ويحلّ مكانه الإبل ، وعندئذ يقع الكلام في أنّه هل يحتج بمفهوم قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة أو لا؟


فقد نسب إلى بعض الشافعية صحّةُ الاحتجاج وهو كما ترى ، لأنّه يشترط في صحّة الاحتجاج وحدة الموضوع في جانبي المنطوق والمفهوم ، والاختلاف في وجود الوصف وعدمه ، وأمّا إذا كان الموضوع مرتفعاً كالإبل ، فسائمتها ومعلوفتها خارجتان عن موضوع الكلام.

قال في « القوانين » : إنّ دليل الخطاب نقيض المنطوق ، فلمّا تناول المنطوق سائمة الغنم كان نقيضه مقتضياً لمعلوفة الغنم دون غيرها. (١)

نعم نقل عن بعض الشافعية انّه استدلّ بمفهوم قولنا : في الغنم السائمة زكاة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل ، ولعلّ وجهه هو إحراز انّ السوم يجري مجرى العلة المنحصرة فيثبت الحكم بثبوتها وينتفي بانتفائها ، غير أنّ الكلام في فهم العلّية المنحصرة ولعلّها إحدى العلل.

الرابع : ما هو المراد من الوصف؟

المراد بالوصف مطلق القيد الوارد في الكلام الأعم من الوصف الأُصولي ـ أي المشتق ـ أو الوصف النحوي التابع لموصوفه ، ولذلك يعمّ القيود الزمانية والمكانية.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في أدلّة القائلين في حجّية مفهوم الوصف.

__________________

١. القوانين : ١ / ١٨٦.


أدلّة القائلين بحجّية مفهوم الوصف

ذكر المحقّق الخراساني تبعاً للمحقّق القمي وغيره وجوهاً لإثبات حجّية مفهوم الوصف مع نقدها ، فنحن نقتفي أثر صاحب الكفاية.

١. التبادر

يتبادر من الهيئة الوصفية ، الانتفاءُ عند الانتفاء وهو آية الوضع.

يلاحظ عليه : أنّه يتبادر رفع الحكم الشخصي عند رفع الوصف ، وأمّا انتفاء أصل الحكم وسنخه بأن لا يخلفه شيء آخر فهو ممنوع ، وسيوافيك بأنّ القول بالمدخلية لا يلازم كونه دخيلاً منحصراً.

٢. لزوم اللغوية

لو لم يكن للوصف مفهوم يلزم اللغو في كلام الحكيم فلو لم يفد انتفاء الحكم عند انتفائه لعرى الوصف عندئذ عن الفائدة ولعدّه العقلاء مستهجناً ، مثل قولك : الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب مع أنّ مطلق الإنسان لا يعلمه.

يلاحظ عليه : أنّه إنّما يلزم لو لم يكن له دخل في الحكم أبداً ، وأمّا إذا كان له دخل ولو بنحو العلّة التامّة وإن كان يخلفه وصف آخر أحياناً فلا تلزم اللغوية وتخصيص ذاك الوصف بالذكر دون غيره لكونه مورد السؤال أو الابتلاء للمخاطب أو التأكيد ، نحو قولك : « إياك وظلم الطفل اليتيم » مع أنّ الظلم قبيح


على اليتيم وغيره ، لكن لمّا كان المخاطب مبتلى به خاطبه بقوله : إياك وظلم اليتيم.

وربّما يكون الوجه هو دفع توهم عدم الحرمة في مورد الوصف ، كقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَولادكُمْ مِنْ إِمْلاق ) (١) مع أنّ قتل الأولاد حرام ، سواء أكان لغاية الإطلاق أو لا.

وأمّا ما مثّل به المستدلّ فوجه الاستهجان فيه ، عدم مدخلية البياض في الحكم ، لا بنحو العلّة الناقصة ، ولا التامّة ولا المنحصرة ، بخلاف سائر الأمثلة.

٣. الأصل في القيد أن يكون احترازياً

احتجّ القائل بالمفهوم بما اشتهر في الألسن من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً ، ولعلّ هذا الدليل من أتقن أدلّة القائل بالمفهوم ، غير أنّه خلط بين القيد الاحترازي والقيد المفهومي ، والقيد الاحترازي عبارة عن مدخلية القيد في الحكم في مقابل القيد الغالبي ، وأمّا كونه دخيلاً على وجه الانحصار ولا يقوم مقامه شيء فهو ممّا لا يفهم من كون القيد احترازياً ، ولأجل إيضاح حال القيود في الكلام نقول : إنّ القيود الواردة في الكلام على أقسام ستة :

١. القيد الزائد ، كقولك : الإنسان الضاحك ناطق ، فانّ الإنسان ناطق ، سواء كان ضاحكاً أو لا. ومثله المثال السابق : الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب.

٢. القيد التوضيحي وهو القيد الذي يدلّ عليه الكلام وإن لم يذكر ، كقوله سبحانه : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتياتِكُمْ عَلى البِغاء إِنْ أَردن تَحَصُّناً ) (٢) ، فقوله : ( إِنْ أَردن تحصّناً ) قيد توضيحي ، إذ لا يصدق الإكراه إلا معه ويغني عن ذكره قولُه : ( ولا

__________________

١. الأنعام : ١٥١.

٢. النور : ٣٣.


تكرهوا ) ومع ذلك جيء به لنكتة خاصة ، كما هو الحال في كلّ قيد توضيحي في كلام البلغاء.

٣. القيد الغالبي : وهو القيد الوارد مورد الغالب ، ومع ذلك لا مدخلية له في الحكم ، كقوله سبحانه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتي في حُجُوركُمْ مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتي دَخَلْتُمْ بِهِنّ ) (١) ، فكونهن في حجور الأزواج قيد غالبي ، لأنّ المرأة التي توفّي عنها زوجها إذا تزوجت مرّة أُخرى تأتي مع أطفالها إلى بيت زوجها الثاني ، فلذلك تكون الربائب غالباً في حجر الزوج الثاني ، ولكن الربيبة محرمة سواء أكانت في حجره أم لا.

٤. القيد المحقّق للموضوع ، مثل قولك : إن رزقت ولداً فاختنه.

٥. القيد الاحترازي ، وهو القيد الذي له مدخلية في الحكم ولا يحكم على الموضوع بحكم إلا معه كالدخول في الآية المتقدّمة فانّ الدخول بالأُمّ شرط لحرمة الربيبة فلو لم يدخل بها وطلقها يتوقّف في الحكم. فلا يحكم عليه لا بجواز التزويج ولا بعدمه.

٦. القيد المفهومي : أو القيد ذات المفهوم ، وهو ما يدلّ على ثبوت الحكم عند وجوده وعدمه عند انتفائه ، وهذا النوع من القيد يُثبت أكثر ممّا يثبته القيد الاحترازي ، فانّ الثاني يثبت الحكم في مورد القيد ويسكت عن وجوده وعدمه في غير مورده ، ولكن القيد المفهومي يثبت الحكم في مورده وينفيه عن غيره.

إذا وقفت على أقسام القيد وآثاره المختلفة ، فاعلم أنّ أقصى ما يدلّ عليه القيد هو كونه قيداً احترازياً بالمعنى الذي مرّ عليك ، وأمّا الزائد عليه أي الانتفاء لدى الانتفاء فلا دليل عليه ، وإلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله : إنّ

__________________

١. النساء : ٢٣.


الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة الحكم في القضية مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد فلا فرق بين أن يقال جئني بإنسان أو بحيوان ناطق.

٤. فهم أبي عبيدة وهو من أهل اللسان

إنّ أبا عبيدة البصري فهم من قول النبي 6 : « لي ّالواجد يحل عقوبته وعرضه » ، انّ ليّ غير الواجد لا يحل عرضه ، وفهم أهل اللسان حجّة.

يلاحظ عليه : أنّ القول بالمفهوم في الحديث لا يخلو من إشكال ، لأنّ الليّ فرع الوجدان ، فإذا لم يكن واجداً فلا يطلق عليه الليّ ، مثل قولك : إن رزقت ولداً فاختنه ، ومثله التعبير عن اللي بالمطل ، ففي « مجمع البحرين » : المطل والليّ والتسويف ، التعلّل في أداء الحقّ وتأخيره من وقت إلى وقت ، وعلى هذا فليس للحديث مفهوم حتّى يبحث عن حجّيته وعدمه.

٥. لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد

لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد ، إذ لا تنافي بينهما إلا من جهة دلالة القيد على سلب الحكم عن غيره.

يلاحظ عليه : بمثل ما فسرنا به كون القيد احترازياً ، فانّ معنى حمل المطلق على المقيد في المورد الذي يجب الحمل ، هو تخصيص الحكم بالموضوع المقيّد ، وقصره عليه ، فكأنّ الحكم ورد على المقيد من أوّل الأمر ، وأمّا دلالته على ارتفاع الحكم عن مورد انتفاء القيد ، فلا وهذا بخلاف القول بالمفهوم فانّ معناه دلالة الوصف على انتفاء سنخ الحكم عن غير مورد الوصف ، وشتّان بين قصر الحكم على موضوع مقيد والسكوت عن انتفائه عن غير مورده ، وبين دلالة الشيء على


قصر الحكم على المقيد ودلالته على انتفائه عن غير مورده.

ومنه يعلم حال التخصيص فانّه كالتقييد في لزوم حمل العام على الخاص ، ودخالته في الحكم دون أن يدخل على أنّه يخلفه غيره.

٦. ظهور الجملة في مدخلية الوصف بما هو هو لا بجامعه

قد استند المحقّق الإصفهاني إلى الدليل التالي : وهو انّ ظاهر القضية الوصفية يقتضي كون الحكم مستنداً إلى نفس العنوان الوصفي دون غيره ، أعني : الجامع ، فلو فرض كونه علّة منحصرة ، لزم الأخذ بالظهور ، وإلا لزم استناد الحكم إلى الجامع بين ذلك الوصف والوصف الآخر ، وهو خلاف الظاهر. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ لزوم كون الحكم مستنداً إلى الجامع عند تعدد العلّة لقاعدة : « لا يصدر الواحد إلا عن واحد » أمر في غير محلّه ، لأنّ موردها هو المعلول التكويني لا المعلول الاعتباري ، أعني : الوجوب ، بل لا مطلق التكوين ، بل المعلول البحت البسيط الذي ليست فيه كثرة أبداً ، وأين ذلك ممّا نحن فيه؟ وعلى هذا فظهور القضية محفوظ وإن كانت العلّة غير منحصرة ، فالوجوب معلول لكلّ سبب بشخصه بلا حاجة إلى إرجاع السببين إلى الجامع ، لأنّ الأُمور الاعتبارية لا تخضع للقانون الفلسفي أعني : لا يصدر الواحد عن الكثير بل هنا يصدر الواحد عن الكثير.

وثانياً : أنّ البحث في المقام في الاستظهارات العرفية وهو غير مبنيّ على هذه التدقيقات الصناعية التي لا يلتفت إليها. وقد مرّ نظيره في مبحث المفهوم.

__________________

١. نهاية الدراية : ١ / ٣٣٠.


تفصيل المحقّق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل بين رجوع القيد إلى الحكم ورجوعه إلى متعلّقه وموضوعه ، فاختار الدلالة على المفهوم في الصورة الأُولى دون الصورة الثانية ، فقال : انّ التقييد إذا رجع إلى نفس الحكم كان لازم ذلك هو ارتفاعه بارتفاعه ، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة ، ففرض تقييد الحكم بشيء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه ، وأمّا إذا كان القيد راجعاً إلى الموضوع فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد ، ومن الضروري انّ ثبوت شيء بشيء لا يستلزم نفيه عن غيره ، وإلا لكان كلّ قضية مشتملة على ثبوت حكم على شيء دالاً على المفهوم ، وذلك واضح البطلان. (١)

وسوف يوافيك نفس هذا التفصيل من المحقّق الخراساني في « مفهوم الغاية » فانتظر.

إلى هنا تمّ ما عرفت من أدلّة القائل بالمفهوم ونقدها ، بقي هنا دراسة أدلّة النافي.

دراسة أدلّة النافي للمفهوم

استدلّ نفاة المفهوم للجملة الوصفية بوجهين :

الأوّل : ما نقله المحقّق القمي من قولهم : إنّه لو دل لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث وكلّها منتفية.

أمّا عدم الدلالة بالمطابقة أو التضمّن فظاهر وإلا لكان منطوقاً ، وأمّا

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٣٥.


الالتزام فلعدم اللزوم الذهني لا عقلاً ولا عرفاً.

وقد توقّف المحقّق القمي في المسألة واستظهر انّه لا يخلو من إشعار وذلك لأنّ التعليق بالوصف مشعر بالعلّيّة.

أقول : إنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّ المتبادر من قولهم : « مشعر بالعلّية » هو المدخلية ، وأمّا الانحصار فلا ، وقد أوضحه السيّد المرتضى في ذريعته بأنّ نيابة علّة مكان علّة أُخرى شائع في الشريعة الإسلامية حيث إنّ الشاهد الواحد والمرأتين يقومان مقام الشاهدين ، كما أنّ الشاهد الواحد مع اليمين يقوم مقام الشاهدين وأمثاله يصدنا عن القول بالملازمة الذهنية.

الثاني : الاستدلال بقوله سبحانه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاتي في حُجُوركم منْ نِسائِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهنَّ ). (١)

يلاحظ عليه : بأنّ القائلين بحجّية مفهوم الشرط والوصف خصّوا وجود المفهوم بما إذا لم يكن القيد وارداً على طبق الغالب ، ففي مثله يسقط الاستدلال بالآية وأمثالها.

ومثله قوله سبحانه : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذينَ كَفَرُوا ). (٢)

فالتقصير في الآية قيّد بالخوف من فتنة الكفّار ، وقد كان الضرب في الأرض يوم نزول الآية مقروناً بالخوف غالباً ، ولذلك كان القيد غالبياً.

وعلى كلّ تقدير فالضابطة هو عدم الاشتمال على المفهوم إلا إذا دلّت القرائن على كونه علّة منحصرة.

__________________

١. النساء : ٢٣.

٢. النساء : ١٠١.


الفصل الثالث

في مفهوم الغاية

البحث في دلالة الغاية يقع في موردين :

الأوّل : هل الغاية تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية بناء على دخول الغاية في المغيّى؟ أو عنها وعن مابعدها بناء على خروجها؟ فهذا النوع من البحث ، بحث في وجود الدلالة المفهومية وعدمها.

مثلاً إذا أمر المولى عبده بقوله : « سر من البصرة إلى الكوفة » فهل يدلّ على ارتفاع وجوب السير عن الكوفة ومابعدها ـ بناء على خروج الغاية ( الكوفة ) عن حكم المغيّى ( وجوب السير ) ـ أو عن ما بعد الكوفة فقط بناء على دخولها فيه؟ أو لايدلّ فهذا النوع من البحث بحث في وجود المفهوم للقضية.

الثاني : هل الغاية محكومة بحكم المغيّى أو لا؟

بمعنى أنّ السير في نفس الكوفة أيضاً متعلّق للوجوب ، أو خارج عنه ، وهذا بحث في سعة الدلالة المنطوقية.

وإليك الكلام في مقامين :

الأوّل : هل للقضية المغيّاة دلالة على المفهوم وارتفاع الحكم عن الغاية ومابعدها ، أو عن مابعدها فقط ، أو لا؟ هنا أقوال ثلاثة :


١. ذهب المشهور إلى الدلالة وانّ دلالة القضية المغيّاة على المفهوم أوضح من دلالة القضية الشرطية عليه.

٢. ذهب السيد المرتضى في الذريعة (١) والشيخ في العدّة (٢) إلى عدم الدلالة.

وفصّل المحقّق الخراساني بين كون الغاية قيداً للحكم وكونها قيداً للموضوع فتدل القضية على الارتفاع في الأوّل دون الثاني ، وإليك توضيحه :

إذا ورد قوله : « كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام » أو ورد « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » فالغاية ( حتّى تعرف ـ حتّى تعلم ) حسب القواعد العربية قيد ، للحكم ، أي كونه حلالاً أو طاهراً ، فيدلّ على ارتفاع الحكم عند حصول الغاية ( العلم والعرفان ) فلا حلّية ولا طهارة بعد انكشاف الواقع و « ليس وراء عبادان قرية » وذلك لوجهين :

١. انسباق ذلك من القضية.

٢. انّ مقتضى تقييد الحكم بالغاية ، هو ذلك ، أي ارتفاعه عند حصول الغاية وإلا لما كان ما جعل غاية له ، بغاية.

هذا كلّه حال ما إذا كانت الغاية ، غاية للحكم.

وأمّا إذا كانت الغاية غاية للموضوع ومحدّدة له ، كما إذا قال : سر من البصرة إلى الكوفة ، حيث إنّ الابتداء والانتهاء من خصوصيات السير ، وكأنّه قال : السير المقيّد من البصرة إلى الكوفة واجب ، وعندئذ حال الغاية حال الوصف في عدم الدلالة ، حيث إنّ إثبات الحكم لموضوع محدد ، لا يدلّ على انتفاء ذلك عن موضوع آخر.

____________

١. الذريعة : ١ / ٤٠٧.

٢. العدة : ٢ / ٢٤ ، ط الهند.


وبعبارة أُخرى : انّ السير المحدّد بالابتداء من البصرة ، والانتهاء إلى الكوفة تعلّق به الطلب ولا دلالة له إلا على ثبوت الحكم على المحدّد ، وأمّا نفيه عن غيره فلا دلالة له بوجهين :

١. عدم ثبوت الوضع لذلك.

٢. عدم قرينة ملازمة للقضية دلّت على اختصاص الحكم بالمغيّى وعدم ثبوته في غيره.

فإن قلت : لو كان الحكم ثابتاً لغير المغيّى ، فما فائدة التقييد بالغاية؟

قلت : إنّ الفائدة غير منحصرة بدلالتها على ارتفاع الحكم ، بل لها فوائد كسائر أنحاء التقييد على ما مرّ في مفهوم الوصف.

هذا وقد اختاره المحقّق النائيني (١) والمحقّق العراقي (٢) والسيّد المحقّق الخوئي (٣) كلّ بتعابير متقاربة.

هذا وإنّ تردد رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع أمر ذائع في الفقه ، مثلاً كون السفر سائغاً لا حراماً ، فهل هو قيد لوجوب القصر؟ فكأنّه قال : قطع المسافة الشرعية موجب للقصر إذا كان السفر سائغاً ، أو قيد للموضوع ، أعني : المسافة ، فكأنّه قال : قطع المسافة الشرعية إذا كان سائغاً موجب للقصر؟ فالسيد الطباطبائي في عروته على الأوّل ، والشيخ الأنصاري على الثاني. ولكلّ أثر شرعي خاص مذكور في محلّه.

أقول : إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني وإن كان صحيحاً إلا أنّ الكلام في

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٣٧.

٢. نهاية الأفكار : ١ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨.

٣. المحاضرات : ٥ / ١٣٧ ـ ١٤٠.


تمييز أحد الأمرين وليس هنا ضابطة تعيّن أحد الأمرين.

وقد حاول المحقّق الخوئي 1 أن يضع ضابطة لتمييز ما يرجع إلى الحكم ، عمّـا يرجع إلى غيره ، وحاصل ما أفاده في المقام وما أوضحه في « المحاضرات » : هو انّ الحكم ، أي الوجوب ، لو كان مستفاداً من الهيئة فالغاية تارة ترجع إلى المتعلّق وأُخرى إلى الموضوع ولا ترجع إلى مفاد الهيئة أي الحكم.

أمّا الأوّل : فمثل قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلى اللَّيْلِ ) (١) فانّ المتبادر أنّ الصيام محدد بالليل ، كأنّه يقول : « الصيام إلى اللّيل ، يجب ».

وأمّا الثاني ، فكقوله سبحانه : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (٢) ففيه أُمور ثلاثة :

١. الوجوب الذي هو مفاد الهيئة.

٢. الغسل ، وهو متعلّق الوجوب.

٣. الموضوع وهو اليد ، فالمتبادر من الآية كون الغاية قيداً للثالث ، كأنّه يقول : اليد المحدّدة بالمرافق ، يجب غسلها.

ونظير ذلك إذا قال : « اكنس المسجد من الباب إلى المحراب » ، فانّ المتبادر من الكلام كون الغاية قيداً للموضوع ( المسجد ) ، لا للوجوب ، ولا للكنس الذي يعبّر عنه بالمتعلّق.

ومثله قوله سبحانه : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَين ) فانّ المتبادر أنّ الغاية قيد للأرجل ، لا للوجوب ولا للغسل.

__________________

١. البقرة : ١٨٧.

٢. المائدة : ٦.


ففي هذه الموارد يكون حكمها حكم الوصف فانّ التقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف ، وقد عرفت أنّ التقييد بالوصف ساكت عن وجود الحكم وعدمه.

وأمّا لو كان الوجوب مستفاداً من غير الهيئة كالجملة الفعلية فهي على قسمين : تارة يكون متعلّق الحرمة محذوفاً ، كما في قولك : « يحرم الخمر إلى أن يضطرّ المكلف إليه » فانّ متعلّق الحرمة محذوف وهو شربه أو بيعه أو غير ذلك ، فالغاية فيها باعتبار حذف المتعلّق ، قيد للحكم ، فالحكم مرفوع عند طروء الاضطرار.

وأُخرى يكون مذكوراً كما إذا قال : « يجب الصيام إلى الليل » ففيه وجهان فيحتمل أن تكون الغاية قيداً للوجوب ، وكأنّه قال : « الصيام يجب إلى الليل » كما يحتمله أن تكون قيداً للصيام ، فكأنّه قال : « الصيام إلى الليل يجب » فعلى الأوّل تشتمل القضية على المفهوم دون الآخر. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ انتزاع ضابطة كلّية من مورد أو موردين ، غير صحيح ، وذلك لوجود القرينة على رجوع الغاية إلى الموضوع في بعض الأمثلة ، وإلى الحكم في البعض الآخر.

أمّا الأوّل : أعني قوله سبحانه : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرافِقِ ) فلأنّ رجوع الغاية في الآية إلى الموضوع لأجل انّها بصدد بيان حد المغسول ، لا حد الوجوب ، وذلك لأنّ اليد ربّما تطلق ويراد بها أُصول الأصابع ، وأُخرى هي إلى الزند ، وثالثة إلى المرفق ، ورابعة إلى المنكب ، فصارت الآية بصدد بيان ما هو المغسول في الآية وقالت : إلى المرافق ، أي المقصود بها هو العضو إلى نهاية المرافق.

__________________

١. لاحظ أجود التقريرات : ١ / ٤٣٧ ، قسم التعليقة ؛ المحاضرات : ٥ / ١٣٧ ـ ١٣٩.


ومثله قوله سبحانه : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَين ) ، وقوله : ( ثُمَّ أَتِمُوا الصِّيامَ إِلى اللَّيل ) فانّ الغاية لحد الممسوح ، والزمان الذي يمسك فيه.

وأمّا الثاني : فلأنّ رجوع القيد إلى الحكم ليس لأجل حذف المتعلّق ، بل لوجود قرينة خارجية على أنّ الأحكام الشرعية محددة بالضرر ، والحرج والاضطرار ، فكلّ ما اضطرّ إليه ابن آدم فهو مرفوع عنه أي مرفوع حكمه.

وأمّا المثال الثالث فالاحتمالان ـ كما أفا د ـ سواء.

والحاصل : انّ التفريق بين رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع والمتعلّق ، بارتفاع الحكم في الأوّل ، دون الثاني كلام متين ، لكن الإشكال في الضابطة التي يتميّز على ضوئها ما يرجع إلى الحكم عمّا يرجع إلى الموضوع.

وربّما يتصوّر انّ مقتضى القاعدة رجوع الغاية إلى الحكم ، لأنّ أداة الغاية أعني : إلى وحتّى من أدوات الجر والجار والمجرور يتعلّقان بالفعل ، وبهذا اللحاظ تكون الغاية قيداً للحكم بلا واسطة في جميع الموارد.

يلاحظ عليه : بأنّ تعلّق الجار والمجرور بالفعل لا يكون دليلاً على رجوع الغاية إلى الحكم الوارد في القضية ، بل الفعل المتعلّق به الجار أعم من الحكم المستفاد من الهيئة ، وذلك لأنّ الظرف على قسمين مستقر ولغو ، ففي الأوّل يتعلّق بالمعنى الحدثي المقدر مثل : « كائن » و « موجود » ، وفي الثاني يتعلّق بالفعل ، لا مفاد الهيئة ففي سر من البصرة إلى الكوفة ، فالظرف متعلّق بالسير ، لا الوجوب ، فلا ملازمة بين تعلّق الظرف بالفعل ، وكونه قيداً للوجوب كما لا يخفى.


نظريتنا في الموضوع

فلو خرح الباحث عن حيطة الاصطلاحات ، ورجع إلى ما هو المتبادر من التقييد بالغاية لوقف على أنّ المتفاهم العرفي منه هو ارتفاع الحكم عند ارتفاع الغاية ، على نحو لو صرّح بعد ذلك ببقاء الحكم بعدها لعد كلامه بداءً.

فإذا قال : « احفر إلى هذا الخط » ينتقل العرف إلى تحديد الوجوب بالحد الخاص ، من غير فرق بين كون الغاية قيداً للوجوب المستفاد من الهيئة في « احفر » أو لمتعلّق الوجوب أي الحفر ، وإن كان ظهور القضية في المفهوم في الصورة الأُولى أوضح.

ويدلّ على ما ذكر ملاحظة الآيات التالية :

( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ). (١)

٢. ( كُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسود ). (٢)

٣. ( وقاتِلُوهُمْ حتَّى لا تكُونَ فِتْنَة ). (٣)

فانّ لفظة « حتّى » في الآية جارة تحدد الوظيفة بأنّها بين هذا وهذا لا أزيد ولا أنقص.

__________________

١. البقرة : ٢٢٢.

٢. البقرة : ١٨٧.

٣. البقرة : ١٩٣.


المقام الثاني

في دخول الغاية في حكم المغيّى وعدمه

قد عرفت أنّ البحث في أنّ الغاية داخلة في المغيّى أو لا ، بحث منطوقي مثلاً إذا قال : اغسل يدك إلى المرفق ، فهل المرفق الذي هو عبارة عن مكان رفق العظمين ، داخل في حكم اليد فيجب غسله أو لا؟

أو إذا قال : سر من البصرة إلى الكوفة ، فهل نفس الدخول في الكوفة ولو بجزء منها واجب حتّى يكون حكم الغاية نفس حكم المغيّى أو لا؟

اختلفت كلمة القوم على أقوال ، وقبل أن نذكر الأقوال نركّز على أمر أدبي ، وهو انّ بيان الغاية يتحقّق غالباً بأحد اللفظين :

لفظة « إلى » ولفظة « حتّى » ولما كانت اللفظة الثانية تستعمل في معان مختلفة يجب تعيين ما يستعمل في بيان الغاية عن غيره.

اعلم انّ كلمة حتّى تستعمل على ثلاثة أوجه :

١. حرف جر.ّ

٢. حرف عطف.

٣. حرف ابتداء.

أمّا الجارّة فهي مثل قوله سبحانه : ( سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطلَعِ الْفَجْر ).


وأمّا العاطفة فهي بمنزلة الواو مثل قوله : « أكلتُ السمكة حتّى رأسها ».

وأمّا الابتدائية فهي حرف يبتدأ بها الجمل مثل قول الفرزدق :

فوا عجبا حتّى كليب يسبني

كأنّ أبـاها نهشل أو مجاشـع (١)

إذا علمت هذا فاعلم أنّ حتّى الغائية هي حتّى الجارّة لا العاطفة ولا الابتدائية.

وبذلك تعرف ضعف بعض الأقوال التي نشير إليها.

ثمّ إنّ البحث عن دخول الغاية في حكم المغيّى وعدمه ، إنّما يتصوّر إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره داخلاً في حكم المغيّى تارة وفي حكم مابعد الغاية أُخرى كالمرفق ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا موضوع للبحث ، كما إذا قال : اضربه إلى خمس ضربات ، فالضربة السادسة ، من أفراد بعد الغاية ، والضربة الخامسة داخلة في أجزاء المغيّى حسب التبادر ، فليس هنا شيء آخر يبحث عن دخوله في حكم المغيّى وعدمه.

وبعبارة أُخرى : انّ محلّ البحث ما إذا كانت الغاية ذات أجزاء ، كسورة الإسراء في المثال ، أو الكوفة في قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة ، دون ما لم يكن كذلك ، كما في الضربة الخامسة في المثال المذكور ، أو كقولك : اقرأ سورة يس إلى آخرها.

إذا عرفت ذلك فنسرد الأقوال :

١. الخروج مطلقاً ، وهو خيرة المحقّق الخراساني وسيّدنا الأُستاذ 1.

٢. الدخول مطلقاً.

__________________

١. كليب رهط جرير الذي هجاه الفرزدق بشعره هذا. و « نهشل » و « مجاشع » أبناء دارم رهط الفرزدق. فالشاعر يفتخر بآبائه.


٣. التفصيل بين ما إذا كان ما قبل الغاية ومابعدها متّحدين بالجنس فتدخل وإلا فتخرج ، نظير قوله سبحانه : ( فاغْسِلُوا وُجوهكُمْ وَأَيديكُمْ إِلى الْمَرافِق ) (١) ، بخلاف قوله : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيام إِلى اللَّيْل ) فتدخل في الأوّل دون الثاني.

٤. التفصيل بين « حتّى » و « إلى » ، فالدخول في الأوّل كما في قولك : « جاء الحجاج حتّى المشاة » ، و « مات الناس حتّى الأنبياء » وعدم الدخول في الثاني.

٥. عدم الدلالة على الدخول والخروج وإنّما يُتبع في الحكم القرائن الدالة على واحد منهما. (٢)

وإليك دراسة سائر الأقوال.

استدلّ نجم الأئمة على القول الأوّل بأنّ حدود الشيء خارجة عن الشيء وما يتراءى من الدخول في بعض الموارد كالمرافق في الوضوء فلقرينة خارجية ، وتبعه المحقّق الخراساني في البرهنة.

واستدلّ للقول الثاني بأنّ الغاية بمعنى النهاية وهي الأمر المنتزع من الجزء الأخير للشيء المفروض امتداده ، كما أنّ الابتداء ينتزع من الجزء الأوّل للشيء ، فإن كانت الغاية نهاية الشيء فتكون داخلة في الشيء وتشاركه في الحكم.

يلاحظ على الاستدلالين : بأنّ الظهور لا يثبت بالدليل العقلي ، والمرجع في هذه المباحث هو التبادر ، وأمّا القول بأنّ حدّ الشيء خارج عنه كما في الدليل الأوّل ، أو انّ نهاية الشيء داخلة فيه كما في الدليل الثاني ، إثبات للظهور بأمر عقلي فلا يعتد بهما.

__________________

١. المائدة : ٦.

٢. لاحظ المغني ، باب الحروف ، حرف حتّى.


وأمّا الوجه الثالث : فقد نقله المحقّق القمي ، وقال : إنْ كان المغيّى والغاية من جنس واحد كقولك بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف فتدخل ، وإلا فلا كقول القائل صوموا إلى الليل.

ثمّ ذكر انّ الظاهر انّ دليلهم في ذلك عدم التمايز فيجب إدخاله من باب المقدمة كما في إدخال المرفق في الغَسل ، بخلاف ما لو اختلفا في الماهية وتميّزا في الخارج.

وأمّا التفصيل الرابع : فمبناه الخلط بين حتّى العاطفة والخافضة ، فانّ البحث في الثانية دون الأُولى ، وما مثله من قوله : « جاء الحجاج حتّى المشاة » فاللفظ فيه عاطفة لا جارة.

وأمّا الخامس : فلأنّ القائل لما وقف على كلا الاستعمالين ولم يرجّح أحدهما على الآخر توقّف في الحكم وقال بأنّه إنّما تتبع القرائن.

وأمّا التفصيل السادس : فذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري وهو التفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل كما في قولنا : « سر من البصرة إلى الكوفة » وبين كونها غاية للحكم مثل قولنا : « صم من الفجر إلى الليل » فيدخل في الأوّل ، لأنّ الظاهر دخول جزء من السير المتخصص بالكوفة ، كما أنّ الظاهر منه دخول السير المتخصص بالبصرة أيضاً في المطلوب ، دون الثاني فانّ المفروض أنّها موجبة لرفع الحكم فلا يمكن بعثه إلى الفعل المتخصص بها. (١)

يلاحظ عليه : أنّ البحث فيما إذا كان هناك أُمور ثلاثة :

١. الحكم.

٢. المغيّى.

__________________

١. درر الأُصول : ١ / ١٧٠.


٣. الغاية.

وعندئذ يقع الكلام في كون الغاية جزءاً من المغيّى أو لا ، فعلى الأوّل يشمله حكمه دون الثاني ، وهذا يقتضي أن تكون الغاية قيداً للموضوع لا غاية للحكم ، وإلا يكون الحكم والمغيّى أمراً واحداً كما في قولنا : « كلّ شيء حلال ، حتّى تعلم انّه حرام » فالتفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل أو للحكم خارج عن مصبّ البحث ، بل البحث مركّز على ما إذا كانت الغاية قيداً للفعل.

والظاهر عدم الدخول مطلقاً ، إلا إذا دلّ الدليل على الدخول ، أخذاً بالمتبادر :

١. إذا قال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فهو صادق في إخباره إذا انتهى في سيره إلى باب الكوفة وسورها ، وإن لم يدخل المدينة.

٢. إذا قال : قرأت القرآن من أوّله إلى سورة الإسراء ، فهو أيضاً صادق في إخباره إذا لم يقرأ شيئاً من سورة الإسراء.

وقس عليه نظائره ، والظاهر انّ حكم « حتّى » أيضاً حكم « إلى » بشرط أن تكون جارّة لا عاطفة ، فإذا قلت : نمت البارحة حتى الصباح ـ بالجر ـ يصد ق إذا نمت إلى مطلع الفجر نظير قوله تعالى : ( سَلام هي حتّى مطلع الفجر ). (١)

ومن غرائب الكلام الإشكال على هذا النوع من الاستدلال بأنّه لايثبت بذلك حكم العرف ، ولعلّ الصدق لأجل جريان أصل البراءة عن الأكثر.

يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يتوجّه لو كان مصب الاستدلال الأمر بالسير أو القراءة إلى الكوفة والاسراء وشك الساري والقاري في مقدار الواجب ، كان عليه

__________________

١. القدر : ٥.


التمسّك بالبراءة ، ولكن محلّه هو الجملة الإخبارية ، والمتكلّم هو الذي يخبر بأنّه سار وقرأ كذلك والعرف يصدقه في كلامه ، ولا يكون لهذا التصديق منشأ عندهم إلا عدم دلالتها على إدخال الغاية في حكم المغيّى.

ثمّ لو قلنا بأحد الأقوال في دخول الغاية في حكم المغيّى فهو ، وإلا فيصير الكلام مجملاً فينتهي الأمر إلى الأُصول العملية ، فهل المقام من مجاري الاستصحاب أو البراءة؟ فيه خلاف ، فإذا غسل اليد دون المرفق فهل يمكن التمسّك باستصحاب بقاء الوجوب؟ الظاهر لا ، لأنّ استصحاب الوجوب لا يثبت وجوب غسل المرفق إلا على القول بالأصل المثبت ، لأنّ بقاء الوجوب مع غسل ما سوى المرفق من اليد يلازم عقلاً وجوب غسل المرفق ، وإلا لما كان وجه لبقائه لعدم وجوب ما فوق المرفق إجماعاً.

بل المورد مجرى البراءة لكونه من قبيل الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين.


الفصل الرابع

مفهوم الحصر

المشهور انّ الأُمور التالية تفيد الحصر :

١. إلا الاستثنائية ، ٢. إنّما ، ٣. بل الاضرابية ، ٤. تقديم ما حقّه التأخر ، ٥.تعريف المسند إليه باللام.

وإليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.

الكلام في « إلا » الاستثنائية

١. هـل الاستثناء مـن النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ، أو لا هذا ولا ذاك؟

٢. لو قلنا بالدلالة ، فهل الجملة الاستثنائية أو خصوص لفظة « إلا » تدلّ على الحصر أو لا؟ وسيوافيك ما هو المراد من الحصر.

٣. وهل دلالتها على الحصر ، دلالة منطوقية أو مفهومية؟

وإليك دراسة تلك الأُمور :

أ. الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي

إنّ لفظة « إلا » تستعمل على وجوه :


١. أن تكون للاستثناء نحو قوله : ( فَشَِربُوا مِنْهُ إِلاّ قَليلاً ). (١)

٢. أن تكون صفة بمنزلة « غير » ، فيوصف بها وبتاليها جمع منكَّر أو شبهه ، نحو قوله : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلهةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتا ). (٢)

٣. أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك في اللفظ والمعنى ، نحو قوله : ( لا يَخافُ لَدَيَ المرسَلُونَ * إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدَّلَ حُسْناً ). (٣)

٤. أن تكون زائدة تختص بالشعر.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ المفيد للحصر هو إلا « الاستثنائية » فنقول :

لا خلاف في أنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي ، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة.

وقد أوضح الشيخ الأنصاري مقصود أبي حنيفة بقوله : إنّ غاية ما يُستفاد من الاستثناء انّ المستثنى غير داخل في الحكم الذي نطق به المتكلّم به ، وأمّا حكمه واقعاً فيحتمل أن يكون محكوماً بحكم المستثنى منه أيضاً ، أو يكون محكوماً بخلافه ، وبالجملة انّ المتكلّم يريد بالاستثناء أن لا يخبر عنه بالحكم المذكور (٤) ، وعدم اخباره عنه بذاك الحكم لا يثبت عدم كونه محكوماً به بل يحتمل الأمرين. (٥)

واحتجّ بمثل قوله 6 : « لا صلاة إلا بطهور » فانّه لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً يلزم أن تكون الصلاة نفس الطهور وإن لم تكن سائر الشرائط

__________________

١. البقرة : ٢٤٩.

٢. الأنبياء : ٢٢.

٣. النمل : ١٠ ـ ١١.

٤. وبعبارة أُخرى : ليس محكوماً بشخص الحكم لكن من المحتمل أن يكون محكوماً بسنخه كما يحتمل أن لا يكون كذلك.

٥. مطارح الأنظار : ١٨٧.


موجودة.

يلاحظ عليه : بأنّه خلاف المتبادر منها في عامة الموارد ، وخلاف ما يتبادر ممّا يعادله في بعض اللغات كلفظة « مگر » في الفارسية فانّه يعادل « إلا » الاستثنائية ، فلو وقع بعد النفي ، يفيد الإثبات ، كما لو وقع بعد الإثبات ، يفيد النفي.

أقول : ما استدلّ به ضعيف فانّ الحصر ناظر إلى صورة اجتماع عامّة الأجزاء والشرائط غير الطهارة ، وعندئذ تدلّ على لزوم تحصيل الطهارة أو قراءة فاتحة الكتاب ، لأنّه لا تحصل الصلاة إلا إذا كانت الأجزاء والشرائط الفعليّة المفروضة وجودها مقرونة بالطهارة ، أو بقراءة الفاتحة ، وعندئذ يصحّ أن يقال : انّ الصلاة نفس الطهارة ، أي التوأمة مع سائر الأجزاء والشرائط.

ويؤيد ذلك ، التعبير عن ذلك « بطهور » أو بفاتحة الكتاب ، دون أن يقول إلا طهوراً أو فاتحة الكتاب ، ليفيد معنى الاقتران ، أيْ اقتران سائر الأجزاء والشرائط بهما.

ب. دلالته على الحصر

هذا هو الموضع الثاني ، أي دلالة « إلا » الاستثنائية على الحصر وهو مبنيّ على تسليم الأمر الأوّل أعني أنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي.

والظاهر من كلمات الأُصوليين انّ أداة الحصر هو لفظة « إلا » ولكن الظاهر من الخطيب القزويني هو « النفي والاستثناء » قال : ومن أداة الحصر : النفي والاستثناء ، كقولك في قصر الموصوف إفراداً : « ما زيد إلا شاعر » ، أو قلبا : « ما زيد إلا قائم » وفي قصرها أفراداً وقلبا : « ما شاعر إلا زيد ». (١)

__________________

١. شرح المختصر : ٨٢.


وعلى أيّ تقدير فالظاهر أنّ المراد من الحصر ، حصر الخارج عن حكم المستثنى منه ، في المستثنى وانّه لم يخرج عنه سواه ، وقد عبّر عن الحصر في الكفاية بقوله لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم سلباً أو إيجاباً بالمستثنى منه ولا يعمّ المستثنى. (١)

ويدلّ على الحصر بالمعنى المختار أمران :

١. تبادر الحصر

يتبادر الحصر من موارد استعمالاته في الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فقوله سبحانه : ( والعَصْر * إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسْر * إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا ... ). (٢)

إذ لو لم تدل على الحصر لما تمّ الاحتجاج على الطوائف الخارجة عن الطوائف الأربعة الواردة في نفس السورة ، إذ هي بصدد التنديد بسائر الطوائف ، فلو لم تدل على الحصر واحتمل خروج بعض الطوائف عن الحكم عليهم بالخسران ، لما تمّ التنديد ، لأنّ كلّ طائفة ـ غير الأربع ـ يتصوّر انّها الخارجة عن حكم الآية.

وأمّا السنّة فقوله : « لا تعاد الصلاة إلا في خمسة : الطهور والوقت والقبلة ، والركوع والسجود » (٣) على نحو لو دل دليل على لزوم اعادتها بفوت القيام المتّصل بالركوع ، لعدّ مخالفاً للمفهوم ، ويلزم تخصيصه به ، لأنّ المنطوق أخصّ من المفهوم.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٢٦.

٢. العصر : ١ ـ ٣.

٣. الوسائل : ٤ ، الباب ١٠ من أبواب الركوع ، الحديث ٥.


٢. دلالة كلمة الإخلاص على الحصر

قبول رسول اللّه 6 إسلامَ من قال : لا إله إلا اللّه ، فلو لم يكن مفيداً في حصر الالوهية في اللّه ، لما شهد القائل بالتوحيد ، وتصوّر انّ دلالته على التوحيد لأجل القرينة ـ كما في الكفاية ـ لا دليل عليه ، وعده الشيخ في المطارح كلاماً سخيفاً.

ثمّ إنّ في كلمة الإخلاص سؤالاً وجواباً سيوافيك الكلام فيه بعد إتمام دراسة المواضع الثلاثة التي أشرنا إليها في صدر البحث.

ج. هل الدلالة على الحصر دلالة مفهومية؟

إذا قلنا : أكرم العلماء إلا زيداً ، فهنا أُمور ثلاثة :

١. حكم المستثنى منه : وجوب إكرام العلماء باستثناء زيد.

٢. حكم المستثنى ، عدم وجوب إكرام زيد.

٣. حصر الخروج في المستثنى.

أمّا الأوّل : فلا شكّ انّ دلالة الجملة عليه منطوقية ، إنّما الكلام في الأمر الثاني ، أعني : استفادة حكم المستثنى ، فهل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟

فقد فصّل المحقّق الخراساني بين كون حكم المستثنى لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه فالدلالة مفهومية وبين كونه مستفاداً من لفظة « إلا » فمنطوقية ، قال في هذا الصدد :

ثمّ إنّ الظاهر انّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم وانّه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلّت عليها الجملة الاستثنائية. نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق كما


هو ليس ببعيد. (١)

توضيحه : انّه لو قلنا بأنّ حكم المستثنى مستفاد من الخصوصية الموجودة في الجملة الاستثنائية وانّ حكمه لازم الخصوصية ، فالدلالة تكون مفهومية ، والمراد من تلك الخصوصية هو « حصر المجيء في قوم غير زيد » فيفهم منه عدم مجيء زيد ، فعدم مجيئه ليس مصرحاً به في الكلام وإنّما المصرّح به هو مجيء القوم ، نعم قيد القوم بغير زيد.

وأمّا لو قلنا : إنّ لفظة إلا بمعنى « استثني » فاللفظ قائم مقام ذلك الفعل ، فتكون الدلالة منطوقية لاستفادة حكم زيد من لفظة « إلا ».

يلاحظ عليه : أنّ الظاهر انّ الدلالة منطوقية ، وذلك لأنّ هيئة الجملة الاستثنائية موضوعة لإفادة معنيين :

١. ثبوت الحكم للمستثنى منه.

٢. ونفيه عن المستثنى.

وقد سبق تمثيل الخطيب القزويني للحصر الافرادي بقوله : « ما زيد إلا شاعراً » وفي الحصر القلبي بقوله : « ما زيد إلا قائماً » فاستفادة كلّ من الحكمين من المنطوق ودلالة الهيئة الاستثنائية على حكم كلّ من المستثنى منه والمستثنى دلالة لفظية تضمنية.

وبذلك يسقط الاحتمال الثاني ، أعني : كون إلا بمعنى « استثنى ».

وأما الثالث ، أعني : دلالة الجملة الاستثنائية على حصر الخروج في المستثنى فهو محتمل الأمرين ، وبما انّه لا يترتب على تعيين ذلك ثمرة عملية فلا نخوض فيه.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٢٨.


وربما يتصوّر وجود الثمرة ، وهي انّ الدلالة المنطوقية أقوى من المفهومية ، فتعيين إحدى الدلالتين غير خالي عن الثمرة.

يلاحظ عليه : أنّ تقديم الدلالة المنطوقية على المفهومية ليس لأجل كونها أقوى من المفهومية دائماً ، بل ربما يكون المفهوم أقوى من المنطوق ، بل الحكم في كلّ مورد يتبع أقوى الدلالتين.

بحث حول كلمة الإخلاص

لا شكّ انّ « لا » النافية للجنس تعمل عمل « ان » كقولك : « لا رجل قائم » ويكثر حذف خبرها كقوله سبحانه : ( قالُوا لا ضَْير إِنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُون ) (١) وقوله : ( ولَوْ تَرى إذ فَزِعُوا فلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مكان قَرِيب ). (٢) وعندئذ يقع الكلام في تعيين الخبر ، لقوله : « لاإله إلا اللّه » فان قدر « ممكن » كان اعترافاً بإمكان المستثنى ، لا لوجوده ، وإن قدر « موجود » كان اعترافاً بنفي وجود الآلهة ، لا نفي إمكانه وكلا الأمرين خلاف المقصود ، فانّ المطلوب من هذه الكلمة أمران :

١. الاعتراف بوجود المستثنى فعلاً هو رهن تقدير « موجود » لا « ممكن ».

٢. إنكار إمكان الآلهة وامتناعها وهو رهن تقدير « ممكن » لا « موجود » فكلّ من الخبرين صالح من جهة وغير صالح لجهة أُخرى.

وقد أُجيب بوجوه :

١. انّ لفظ « لا » اسميّة غنية عن الخبر

إنّ لفظ « لا » النافية للجنس ، اسمية غنية عن الخبر ، فقولك : « لا رجل » و « لا

__________________

١. الشعراء : ٥٠.

٢. سبأ : ٥١.


مال » ، كلام تام غني عن الجواب ، وهذا هو الذي نقله الشيخ الأنصاري عن بعضهم وحاصله : انّ العدم كالوجود ، فكما أنّ الوجود منه رابط ، مثل قوله : « زيد قائم » ومنه محمول مثل : « زيد موجود » ، فكذلك العدم ، فمنه رابط مثل قولك : « زيد ليس قائماً » ، ومنه محمول مثل قولك : « زيد معدوم ». والأوّل يحتاج إلى الطرفين لامتناع تحقّق الرابط بدونهما بخلاف الثاني ، فالعدم المستفادمن كلمة « لا » على طريقة التميميّين عدم محمول ولا يحتاج إلى تقدير خبر ، والمعنى نفي عنوان الالهية مطلقاً إلا في اللّه كأنّه يقول : « الإله معدوم إلا اللّه » كما في قولك : لا مال ولاأهل ، ويراد منه نفي المال والأهل. (١) وكان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي يرتضيه في درسه الشريف في مبحث العام والخاص كما سيوافيك.

فإن قلت : إنّ القضية لابدّ لها من جهة وهي لا تخلو من الإمكان والفعلية ، وعلى كلّ تقدير يعود المحذور ، فإن كانت الجهة هي الإمكان يكون الاستثناء اعترافاً بإمكان المستثنى ، وإن كانت « الفعلية » التي هي مساوقة بالموجود ، كان نفياً لوجود الآلهة لا لإمكانها.

قلت : إنّ الجهة لا هذا ولا ذاك ، بل الجهة عبارة عن الضرورة فكأنّه يقول : « الإله معدوم إلا اللّه بالضرورة » ونفي الإله بالضرورة يساوق امتناعه ، كما أنّ إثباته بالضرورة يلازم وجوب وجوده.

وصحّة الجواب مبنية على ثبوت « لا » الاسمية ، وإلا يلزم تركيب الكلام من حرف واسم ، ونقل الشيخ في المطارح انّه لغة التميميّين لكن تفسير الجملة الذائعة بين العرب كلّهم بلغة طائفة خاصة ليس صحيحاً.

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٩٢.


٢. الإله بمعنى واجب الوجود

المراد من « الإله » هو واجب الوجود ، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج وإثبات فرد منه وهو « اللّه » يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك وتعالى ضرورة انّه لو لم يكن ممتنعاً لوجد ، لكونه من أفراد الواجب. (١)

وعلى هذا فالمقدر هو « موجود » فهو يدلّ بالدلالة المطابقية على فعلية وجوده سبحانه ولكن يدلّ بالملازمة على نفي إمكان غيره ، إذ لو كان ممكناً بالإمكان العام لكان موجوداً بالضرورة لضرورة وجوده ووجوبه.

يلاحظ عليه : أنّ الإله إمّا بمعنى المعبود ، ـ كما هو المشهور ـ أو يساوق مفهومه مفهوم لفظ الجلالة ، غير أنّ الأوّل كلّي ، والآخر علم شخصي فما يتبادر من لفظ « اللّه » هو المتبادر من لفظ « الإله » بحذف التشخّص ، وأمّا كونه بمعنى واجب الوجود فلم يثبت. نعم هو من لوازم وجود الإله الواقعي.

٣. المقصود حصر العبادة في اللّه لا إثبات وجوده

إنّ العرب الجاهليّين كانوا موحّدين في المراتب الثلاثة التالية :

١. التوحيد الذاتي : واحد لا ثاني له.

٢. التوحيد الخالقي : لا خالق سواه.

٣. التوحيد الربوبي : لا مدبر في الكون سواه.

وإنّما كانوا مشركين في العبادة ، وكانوا يعبدون الأصنام بذريعة انّهم عباد اللّه المكرمين حتّى يتقربوا بعبادتهم إلى اللّه زلفى ، فجاء النبي لردّ هذه العقيدة وانّ

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.


العبادة كسائر مراحل التوحيد مختصة باللّه سبحانه ، وانّه لامعبود إلا اللّه ، فالكلمة سيقت لحصر العبادة فيه لا لإثبات وجوده.

يلاحظ عليه : بأنّ الإشكال باق بحاله لكن بصورة أُخرى ، وهو انّ الخبر امّا ممكن أو موجود ، فعلى الأوّل لم يعترف بكونه معبوداً بالفعل ، وعلى الثاني لم ينف إمكان معبودية غيره.

٤. الكلمة مشتملة على عقد واحد وهو عقد النفي

إنّ الإشكال مبني على أنّ الكلمة الطيبة مشتملة على عقدين : عقد النفي وعقد الإثبات بمعنى نفي إلوهية غيره ، وإثبات أُلوهيّته ، وعندئذ يتوجه الإشكال ، لأنّ الغرض في العقد الأوّل نفي الإمكان ، وفي الثاني إثبات وجوده فعلاً والخبر الواحد ، أعني : « ممكن » أو « موجود » لا يفي بكلا الأمرين.

وأمّا لو قلنا بأنّ الغرض الأقصى منها ، هو العقد السلبي ، أي سلب الأُلوهية عن كلّ ما يتصوّر سوى اللّه سبحانه ، وامّا إثبات الأُلوهية للّه سبحانه ، فليس بمقصود ، لكونها كانت أمراً مسلّماً ، فيسقط الإشكال ، ويكون الخبر المقدر ، هو الممكن.

ويكون مفاده نفي إمكان أُلوهيّة غيره وأمّا أُلوهيته سبحانه ، إمكاناً أو فعلاً ، فليس بمقصود ، لكونها أمراً مسلماً إمكاناً وفعلية. (١)

٥. الهدف نفي الفعلية وإثباتها

وهذا الوجه ذكره الشيخ الأنصاري ، وحاصله : انّ الغاية من كلمة

__________________

١. التعليقة على الكفاية : ١٥٩ ، للعلاّمة الطباطبائي.


الإخلاص في جانبي السلب والإيجاب ، هو نفي أُلوهية الآلهة الموجودة بين المشركين وحصر الأُلوهية في اللّه.

وبعبارة أُخرى نفي الفعلية عنها وإثباتها له ، وأمّا نفي إمكان أُلوهيتها فليس بمطلوب في المقام وإنّما يطلب من الآيات الأُخرى نظير :

١. ( لَوْ كانَ فِيهما آلهةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عمّا يَصِفُون ) (١) ، وقوله : ( وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعلا بعضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ اللّهِ عمّا يَصِفُون ) (٢). (٣)

هذه هي أجوبة القوم في المقام ، والأظهر هو الجواب الرابع والخامس ، فلاحظ.

من أدوات الحصر لفظة « إنّما »

من أدوات الحصر كلمة « إنّما » قال الخطيب في تلخيص المفتاح : ومنها « إنّما » كقولك في قصره إفراداً « إنّما زيد كاتب » وقلنا : « إنّما زيد قائم » (٤) فلو أُريد من الكلام قطع الشركة كما إذا زعم المخاطب انّ زيداً كاتب وشاعر معاً ، فيكون القصر إفراداً ، وإن أُريد قلب اعتقاد المتكلّم كما إذا اعتقد المخاطب انّ زيداً قاعد ، يكون القصر قلباً.

واستدلّ علماء المعاني على إفادتها للحصر بوجوه :

١. انّ لفظة « إنّما » تتضمن معنى « ما » و « إلا » بشهادة قول المفسّرين ( إِنّما

__________________

١. الأنبياء : ٢٢.

٢. المؤمنون : ٩١.

٣. مطارح الأنظار : ١٩٢.

٤. المختصر : ٨٢.


حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ) (١) أي ما حرم ربّكم إلا الميتة وما تلاها.

٢. قول النحاة : إنّ لفظة « إنّما » لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه.

٣. صحّة انفصال الضمير معه ، كقولك : « إنّما يقوم أنا » ولا وجه لظهور الضمير إلا إفادة الحصر.

أنا الذائد الحامي الذمار وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (٢)

واستدل ّ المحقّق الخراساني على إفادته الحصر بوجهين تاليين :

٤. تبادر الحصر منها في استعمالاتها.

٥. تصريح أهل اللغة بذلك كالأزهري وغيره. (٣)

وأورد على الأوّل من الأخيرين بأنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ولا يعلم بالدقة ، لعدم وجود ما يرادفها في عرفنا حتّى يستكشف منه بمراجعة الوجدان.

يلاحظ عليه : بأنّه يكفي التبادر عند أهل اللسان وإن لم يكن في عرفنا ما هو مرادف لها.

وعلى الثاني منها بأنّ قول اللغوي ليست بحجّة إلا من باب الظن المطلق.

يلاحظ عليه : بأنّه إذا تضافر النقل من اللغويين والنحويين وعلماء المعاني على أنّه يفيد الحصر ، أفاد ذلك وثوقاً وهو علم عرفي وحجّة شرعية.

__________________

١. البقرة : ١٧٣.

٢. الذمار كلّ ما يلزمك حمايته وحفظه والدفع عنه.

٣. مطارح الأنظار : ١٩٢ ؛ درر الأُصول : ١٩٧.


دليل النافي لإفادة الحصر

ذهب الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( إِنّما وَليُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُون ) (١) إلى أنّ لفظة « إنّما » لا تفيد الحصر ليبطل بذلك دلالة الآية على ولاية الإمام أمير المؤمنين 7 ، واستدلّ على مختاره بالآية التالية :

( إِنّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ ). (٢)

وجه الاستدلال : انّ حال الدنيا ليس منحصراً بما جاء في هذا المثل ، بل يمكن بيان حال الدنيا بتمثيلات أُخرى.

١. ( إِنّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ). (٣)

٢. ( وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الغُرُور ). (٤)

إلى غير ذلك من الأمثال الواردة في الكتاب والسنّة والأدب العربي بُغْية بيان حال الدنيا وهذا آية عدم الحصر. (٥)

__________________

١. المائدة : ٥٥.

٢. يونس : ٢٤.

٣. محمد : ٣٦.

٤. الحديد : ٢٠.

٥. مفاتيح الغيب : ١٢ / ٣٠ بتصرف وإيضاح.


يلاحظ عليه : بأنّ الدنيا في التمثيلات المتقدّمة شبهت بأُمور متماثلة في الحقيقة والمعنى كما في تشبيهها بماء أنزل من السماء أو باللعب واللهو أو ببيت عنكبوت ، فالمشبه به وإن كان مختلفاً صورة ، ولكنّه واحد معنى وهدفاً ، فلو نظرنا إلى الدنيا من حيث سرعة الفناء وعدم الخلود فالدنيا أمر غير باق زائل ، كزوال طراوة الورود والأزهار والأشجار الخضراء ، أو زوال اللهو واللعب بسرعة حيث يتمّ بعد ساعة أو ساعتين ، وانخرام بيت العنكبوب بقطرة ماء أو شعلة نار أو بنسيم الصبا وأمثالها.

فلا يصحّ أن يقال : انّ واقع الدنيا لا ينحصر في الأوّل ، إذ لا فرق بين الأوّل والثاني والثالث فالجميع إشارة إلى أمر واحد.

فإن قلت : ما معنى الحصر في قوله سبحانه : ( قُلْ إِنّما يُوحَى إِليَّ أَنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون ) (١) ، وقوله سبحانه : ( قُلْ إِنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِليَّ أَنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِك بِعِبادِةِ رَبِّهِ أَحداً ) (٢) حيث إنّه أوحى إلى النبي أشياء كثيرة وراء قوله : إله واحد فلو قلنا بالحصر يجب أن يكون الموحى إليه أمراً واحداً.

قلت : إنّ الحصر في الآية إضافي وليس بحقيقي فليست الآية بصدد بيان انّه لم يوح إليه طول رسالته إلا أمر واحد ، بل بصدد بيان أنّ الذي أُوحي إليه في مجال معرفة اللّه شيء واحد ، وهو انّه إله واحد لا اثنان كما عليه الثنوية ولا ثلاثة كما عليه المسيحية ، ولا أكثر كما عليه المشركون ، ففي هذا المجال لم يوح إليه إلا شيء واحد.

__________________

١. الأنبياء : ١٠٨.

٢. الكهف : ١١٠.


وأظن انّ الرازي ومن لفّ لفّه كان عالماً بعدم صحّة ما تمسّك به لكن عقيدته المسبقة بتربيع الإمامة وانّ علياً رابع الخلفاء لا أوّلهم ، جرته إلى هذه المناقشات غيرا لتامة.

وعلى كلّ تقدير درس مورد الآيات المشتملة على كلمة « إنّما » يقف على أنّه يفيد الحصر ، وإليك بعض هذه الآيات :

١. ( إِنّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِم وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أَو يُنفَوْا مِنَ الأَرض ). (١)

٢. ( إِنّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِير ... ). (٢)

٣. ( لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ * إِنّما يَنهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخرَجُوكُمْ ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالحصر خصوصاً إذا كانت بعد السلب ، كما إذا قيل : ليس زيد قائماً إنّما هو قاعد.

وعلى كلّ تقدير فلو دلت على الحصر فإنّما تدلّ بالمنطوق لا بالمفهوم ولا وجه لتسمية تلك الدلالة وما تقدّمها مفهوماً.

٣. بل الإضرابية

ذكر النحاة والأُدباء في كتبهم القواعد التالية للفظة بل :

١. انّ لفظة بل وضعت للإضراب والانتقال من معنى إلى معنى ، أو من

__________________

١. المائدة : ٣٣.

٢. البقرة : ١٧٣.

٣. الممتحنة : ٨ ـ ٩.


غرض إلى غرض ، وهذه الحقيقة لا تنفك عن لفظة بل ، قال سبحانه : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنيا ). (١)

٢.لو تلاها جملة فهي حرف ابتداء كما في الآية المتقدمة وليست بعاطفة ، وإن تلاها مفرد فهي عاطفة كما سيوافيك أمثلته.

٣. ثمّ إنّ لفظة « بل » تارة تنقل حكم المعرض عنه إلى المدخول بعينه ، وأُخرى تنقل ضدّه ، وهذا ممّا لا بدّ للفقيه من معرفة موارده.

فإن تقدّمها جملة خبرية إيجابية أو جملة إنشائية ، فعندئذ تنقل حكم الأوّل إلى الثاني ومع السكوت عن حكم المضرب عنه فلا يحكم عليه بشيء من النفي والإثبات كقولك : اضرب زيداً بل عمراً ، وقام زيد بل عمر ، وإلى تلك الضابطة يشير ابن مالك في منظومته ويقول :

وانقل بها للثاني حكم الأوّل

في الخبر المثبت والأمر الجلي

وإن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته مع جعل ضدّ ما سبق لما بعدها نحو قوله : ما قام زيد بل عمرو ، أي : بل قام عمرو ، ولا تضرب زيداً بل عمراً ، أي : بل اضرب عمراً. (٢)

هذه هي القواعد الكلية في تلك اللفظة وعند ذاك تصل النوبة إلى البحث عن إفادتها الحصر فقد اختلفت الأقوال كالتالي :

١. لا تفيد الحصر مطلقاً ، ونسب إلى الحاجبي.

٢. تفيد الحصر مطلقاً ، ونسب إلى الزمخشري.

____________

١. الأعلى : ١٤ ـ ١٦.

٢. المغني ، باب الحروف. ( حرف بل ) ، ج ١ ، ص ١٥١ ، ط ٥ ؛ بيروت ١٩٧٩ م.


٣. انّ لفظة « بل » وضعت لنقل الحكم من المتبوع إلى التابع فقط مطلقاً كما عن بعضهم أو في الإثبات فقط كما عليه المشهور.

٤. التفصيل بين مورد دون مورد ، وهو خيرة المحقّق الخراساني. وحاصله : انّ الاضراب على أقسام ثلاثة :

١. ما كان لأجل انّ المضرب عنه إنّما أُوتي به غفلة أو سبقه به لسانه فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه ، كأن يقول : جاءني زيد بل عمرو فيما إذا التفت إلى أنّ قوله : « زيد » غلط أُوتي به غفلة ، ففي مثله لا دلالة لها على الحصر.

٢. ما كان لأجل التأكيد فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه فلا دلالة له على الحصر أيضاً كقوله سبحانه : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنيا ). (١)

وقوله تعالى : ( وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقّ وَهُمْ لا يُظْلَمُون * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَة من هذا وَلَهُمْ أَعمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُون ). (٢)

٣. ما كان في مقام الردع وإبطال ما أثبت أوّلاً فيدّل على الحصر ، قال سبحانه : ( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحمن وَلَداً سُبحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُون ). (٣)

والمعنى بل هم عباد ونحوه قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ بِه جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلحَقِّ كارِهُون ) (٤) وهو يفيد الحصر.

ولا يخفى انّها لو أفادت الحصر فالحصر إضافي ، أي انّه ليس شأن لملائكة

__________________

١. الأعلى : ١٤ ـ ١٦.

٢. المؤمنون : ٦٢ ـ ٦٣.

٣. الأنبياء : ٢٦.

٤. المؤمنون : ٧٠.


اللّه في مقابلة اتهامهم بالولدية إلا أنّهم عباد مكرمون ، ومع ذلك لا ينافي أن يكون لهم شأن في غير ذلك المجال ، فانّهم كتبة الأعمال وقبضة الأرواح إلى غير ذلك من الشؤون.

٤. من أدوات الحصر تقديم ما حقّه التأخير

اتّفق النحاة على أنّ تقديم ما حقّه التأخير كالمفعول يفيد الحصر ، كقوله سبحانه : ( إِيّاك نَعْبُدُ وإِيّاك نَسْتَعين ). (١)

نعم لا يصحّ أن يقال انّه يفيد الحصر دائماً ، إذ ربما يكون للتقديم علل مختلفة كالأهمية وغيرها.

٥. اشتمال المسند إليه على اللام

وقال المحقّق الخراساني ما هذا حاصله : إذا كان المسند إليه محلّى بلام الجنس وكان الحمل شائعاً لما أفاد الحصر ، كما إذا قال : الضارب زيداً ، فانّ غاية ما يفيده الحمل اتحادهما وجوداً ومصداقاً ، ومثل ذلك لا يقتضي حصر المسند إليه في المسند.

نعم يفيد تعريف المسند إليه الحصر في موارد ثلاثة :

١. إذا كانت اللام للاستغراق.

٢. إذا أُخذ مدخول اللام بنحو الإرسال والإطلاق.

٣. إذا كان الحمل حملاً أوّلياً ذاتياً.

فلنرجع إلى إيضاح ما أفاده فنقول : إنّ لام التعريف على أقسام :

__________________

١. الحمد : ٥.


١. لام الجنس فيما إذا كان الحمل شائعاً

يقع الكلام تارة فيما إذا كان الحمل شائعاً صناعياً وأُخرى حملاً أوّلياً.

أمّا الأوّل فله أقسام خمسة :

أ. إذا كانت النسبة بين المسند إليه والمسند التساوي نحو الإنسان ضاحك.

ب. إذا كان المسند إليه أخصَّ مطلق من المحمول ، نحو : الإنسان ماش.

ج. إذا كان المسند إليه أعمّ مطلق من المسند نحو : الأمير زيد.

د. إذا كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً من وجه كما في قول القائل : الحمامة بيضاء.

فالقسمان الأوّلان يفيدان الحصر لا لجهة اللام ، بل لأجل كون النسبة هي التساوي أو كون المسند إليه أخصّ مطلق.

فلو استفيد الحصر فإنّما يستفاد من لحاظ النسبة ، وأمّا وجود اللام فليس له دور في المقام ، وأمّا الآخران فلا يدلاّن على الحصر لافتراض انّ المسند إليه أعمّ من المسند ، أو كون النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه فلا يعقل للحصر مفهوم.

وحاصل الكلام : انّ الذي يؤثر في الحصر وعدمه هو لحاظ واقع المسند إليه مع المسند من حيث النسبة ، ولذلك يفيد الحصر في الأوّلين دون الآخرين.

إذا أُريد من مدخول لام الجنس الإطلاق والإرسال فهو يفيد الحصر ، كما في قوله : ( الحمد للّه ) فانّ حصر جنس الحمد للّه ، لأجل انّ كلّ ما يصدق عليه الحمد فهو للّه حتّى الحمد الموجه إلى غيره ، لانّه سبحانه مبدأ المحامد وأصلها ، فكلّ ما للغير من جمال وكمال فهو منه سبحانه.


هذا كلّه إذا كان الحمل شائعاً صناعياً ، وإليك الكلام في الثاني ، أي فيما إذا كان الحمل أوّلياً.

٢. لام الجنس إذا كان الحمل أوّلياً

إذا كانت النسبة بين المسند إليه المحلّى باللام والمسند هو التساوي في المفهوم لا الوجود. وبعبارة أُخرى : إذا كان الحمل أوّلياً فهو يفيد الحصر بلا إشكال ، نظير قولك : الإنسان حيوان ناطق غير أنّ الحصر مدلول وحدة الموضوع والمحمول مفهوماً وليس للام هاهنا أيّ دور.

هذا كلّه حول لام الجنس ، وإليك الكلام في القسمين الآخرين للام.

٣. لام العهد

إنّ لام العهد بمنزلة « هذا » والغرض الإشارة إلى ما سبق ذكره ، كما في قوله تعالى : ( كَما أَرسَلْنا إِلى فِرعَوْنَ رَسُولاً * فعَصَى فِرعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخذاً وَبِيلاً ) (١) ولا يدلّ على الحصر كما هو واضح.

٤. لام الاستغراق

والمراد من لام الاستغراق ما يدلّ على شمول المدخول لكلّ ما يصدق عليه ، نحو قوله : ( إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر ) (٢) وهو يفيد الحصر قطعاً ، أي حصر الإنسان في الخسر على نحو لا يشذّ عنه فرد من أفراد المدخول ، إلا إذا قام الدليل على الخروج كما في قوله : ( إِنَّ الإِنْسان لَفي خُسر ).

__________________

١. المزمل : ١٥ ـ ١٦.

٢. العصر : ٢.


بعض أدوات الحصر

من أدوات الحصر توسط الضمير بين المسند إليه والمسند ، كقولك : زيد هو القائم.

كما أنّ من أدواته أيضاً تعريف المسند نحو زيد الأمير.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه في المقام ضابطة غالبية وليست ضابطة عامة ، ولذلك يجب على المحقّق الإمعان في القرائن التي يكتنف بها الكلام.


الفصل الخامس

مفهوم اللقب

قسّم الأُدباء الاسم الذي يعيّن المسمّى إلى أقسام ثلاثة :

١. العلم ، ٢. الكنية ، ٣. اللقب.

يقول ابن مالك :

اسمٌ يُعَيِّنُ الْمُسَمّى مُطلقاً

عَلَمُهُ كَجَعْفَر وَخِرْنَقاً

وَقَرَن وَعَدَن وَلاحِق

وَشَذْقَم وَهَيْلَة وَواشِق

وَاسْماً أتى وَكُنْيَةً وَلَقباً

وَأَخِّرَنْ ذا إِنْ سِواهُ صَحِبا

فإذا قلنا : اللهمّ صلّ على سيّدنا أبي القاسم محمّد رسول اللّه ، فقد جاء فيه الكنية والعلم واللقب.

هذا هو مصطلح النحاة في لفظ اللقب ، وأمّا مصطلح الأُصوليين في اللقب هو كلّ ما يعدّ من أركان الكلام أو أحد قيوده كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والقيود الزمانية والمكانية كلّها ألقاب حسب ذلك الاصطلاح ، والمعروف بين الأُصوليين إلا من خرج كالدقاق والصيرفي وأصحاب أحمد بن حنبل عدم المفهوم للقيود الواردة في الكلام مستدلاً بأنّ قولنا : « المسيح رسول اللّه » لا يعدّ دليلاً على أنّ


محمّداً ليس رسول اللّه ، فإذا قال : « أكرم زيداً في الدار » فالتشريع محدد بالإكرام في الدار ولا يدلّ على عدم وجوبه في غير الدار ، لأنّ إثبات الشيء لا ينفي ماعداه.

وأمّا عدم إجزاء الإكرام في غير الدار عن الإكرام في الدار فليس لأجل كون القضية الأُولى ذات مفهوم ، بل لأجل عدم امتثال المأمور به.

فهناك فرق بين الدلالة على العدم وبين عدم الإجزاء لأجل عدم الامتثال ، فإذا قال : نذرت للفقراء أو وقفت عليهم أو أوصيت لهم ثمار هذا البستان ، فلا يدلّ على نفي الحكم عن غير الفقراء ، بل هو ساكت عنه.

نعم لو صرف ثماره على الأغنياء لا يجزي لا لأجل المفهوم ، بل لأجل عدم الامتثال.

وعلى ضوء هذا ذهب الأُصوليون إلى أنّ للقيود الموجودة في الكلام لها مدخلية في الحكم على نحو لولاها لما أمكن الحكم بالموضوع ، ومع ذلك لا يدلّ على سلب الحكم عنه عند عدمه ، وذلك لأنّ إثبات الشيء لا يدلّ على نفي ما عداه.

مع ذلك فهذه الضابطة ضابطة غالبية وربما تدلّ القرائن على الأخذ بالمفهوم ، وقد نقل رحمة اللّه الكرماني في تعليقته على الرسائل عند البحث عن مفهوم الوصف لآية النبأ ، قصة مفيدة في المقام فلاحظ.


الفصل السادس

مفهوم العدد

إنّ العدد المأخوذ في الموضوع أو في جانب المحمول يتصوّر على أقسام أربعة :

١. أن يؤخذ العدد في جانبي الزيادة والنقيصة على نحو « لا بشرط » فلا تعد النقيصة مخلة ولا الزيادة كذلك. كقوله سبحانه مخاطباً النبيّ 6 : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِين ). (١)

فانّ ذكر عدد سبعين لبيان المبالغة لا للتحديد ، فلا تكون النقيصة ولا الزيادة موجبة للغفران ، لأنّ الجميع لبيان عدم صلاحيتهم للمغفرة سواء أزاد على السبعين أم نقص منه.

٢. يؤخذ « بشرط لا » في كلا الجانبين كأعداد الفرائض.

٣. يؤخذ « بشرط لا » في جانب النقيصة دون الزيادة ، كما هو الحال في مسألة الكر فانّه عبارة عن ثلاثة أشبار ونصف ، طولاً وعرضاً وعمقاً ولا يكفي الناقص كما لايضر الزائد.

__________________

١. التوبة : ٨٠.


٤. على عكس الصورة الثالثة بأن يؤخذ « بشرط لا » في جانب الزيادة دون النقيصة كما في أيام العادة فيحكم عليها بالحيض إلى العشر بشرط أن لاتتجاوز ، وكما هو الحال في الفصل بين المصلين فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.

فإذا كان العدد حسب الثبوت على أقسام أربعة ، فكيف يمكن لنا القول بالمفهوم فيه ، أي انّه مأخوذ بشرط لا في كلا الجانبين ، إذ ليس معنى المفهوم إلا هذا.

والحاصل : انّه لو كان العدد دائماً لغاية التحديد في كلا الجانبين كان علينا الأخذ بالمفهوم أي بدلالة الدليل على عدم كفاية الأقل وإخلال الزائد ، وأمّا إذا كان الواقع على الوجوه الأربعة فلا يمكن استظـهار المفهوم.

هذا ما يرجع إلى مقام الثبوت ولكن ما ورد في القرآن الكريم من الأعداد في آيات الأحكام فهو بصدد التحديد من كلا الجانبين أو من جانب واحد ، نحو قوله سبحانه :

١. ( الزّانِيةُ والزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَة ). (١) فظاهر الآية التحديد في كلا الجانبين.

٢. قوله سبحانه : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (٢) ، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا جانب الزيادة.

__________________

١. النور : ٢.

٢. البقرة : ٢٨٢.


٣. ( وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعةِ شُهداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادةً أَبداً ) (١) ، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا الزيادة.

٤. ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهادةُ أَحَدِهِمْ أَربعُ شَهادات بِاللّهِ انّهُ لَمِنَ الصّادِقِين ) (٢) ، والآية ظاهرة في تحديد جانب النقيصة ، ويحتمل أن يكون كذلك جانب الزيادة أيضاً.

والحاصل : انّ الأعداد الواردة في مقام التشريع ظاهرة في التحديد.

والذي يهم الفقيه أن يدرس كلّ مورد ويأخذ بحكمه :

١. فربما يؤخذ بشرط لا في جانب الأقل ، كما هو الحال في عدد الغسلات من البول والخنزير وعدد منزوحات البئر والنصاب بالزكاة والخمس ، وعدد من تقوم به الجمعة والجماعة.

٢. وربما يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة ، ككون ما تراه المرأة من الدم حيضاً في عشرة أيّام بشرط أن لا يتجاوز.

إنّما الكلام فيما إذا لم يعلم أحد الأمرين فالظاهر كونه في مقام التحديد زيادة ونقيصة.

تطبيقات

ثمّ إنّ تعلم القواعد وإن كان مهماً لكن الأهمّ هو تطبيقها على مصاديقها الواردة في الكتاب والسنّة ، وها نحن نذكر بعض التطبيقات في المقام :

فرعان مبنيان على إفادة إلا للحصر

١ ـ لوحصل التغيير في ماء الكرّ أو الجاري في غير صفاته الثلاث كالحرارة والرقّة والخفّة ، فهل ينجس أو لا؟ الظاهر هو الثاني للحصر المستفاد من

__________________

١. النور : ٤.

٢. النور : ٦.


الاستثناء بعد النفي ، أعني قوله 7 : خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلا ما غيـّر لونَه أو طعمه أو ريحه. (١)

٢. لو ضمّ إلى نيّة التقرّب في الوضوء رياء ، قال المرتضى بالصحّة مع عدم الثواب والمشهور هو البطلان ، لقوله سبحانه : ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّين ) (٢) ، والمراد من « الدين » هو الطاعة ، والحصر قاض بأنّ فاقدة الإخلاص لا أمر بها فلا تكون صحيحة. (٣)

فرعان مبنيان على إفادة « إنّما » للحصر

١.يجب أن تُحنَّط مساجد الميّت السبعة بالحنوط ، وهو الطيب المانع عن فساد البدن ، وظاهر الأدلّة حصر الحنوط بالكافور لقول الصادق 7 : « إذا أردت أن تحنط الميت فاعمد إلى الكافور ». (٤)

٢. روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه 7 قال : إذا كنت إماماً « فإنّما التسليم » أن تسلّم على النبي 6 وتقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة. (٥)

فيدلّ الحصر على عدم الخروج إلا بالتسليم الثاني.

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩ ؛ لاحظ الجواهر : ١ / ٨٣.

٢. البيّنة : ٥.

٣. لاحظ الجواهر : ٢ / ٩٦ ـ ٩٧.

٤. الوسائل : ٢ ، الباب ١٤ من أبواب التكفين ، الحديث ١ ؛ لاحظ الجواهر : ٤ / ١٧٦.

٥. الوسائل : ٤ ، الباب ٢ من أبواب التسليم ، الحديث ٢.


فروع مبنية على مفهوم العدد

١. لا يفسد الصوم ما يصل إلى الجوف بغير الحلق من منافذ البدن المعلومة عمداً غير الحقنة بالمايع ، لصدق اسم الصوم معه شرعاً ، وحصر الباقر 7 : « لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس في الماء ». (١)

٢. هل يكفي الحجر الواحد إذا كان له أطراف ثلاثة؟ قيل لا ، لورود النصّ على ثلاثة أحجار إلا أن يحمل على الغالب. (٢)

٣. هل تكره قراءة أزيد من سبع آيات على الجنب؟ قيل : نعم لمفهوم موثقة سماعة قال : سألته عن الجنب ، هل يقرأ القرآن؟ قال : « ما بينه وبين سبع آيات ». (٣)

٤. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة وهي ثلاثة أيّام ؛ قال بعض الأفاضل : بلياليها تحقيقاً ، لأنّه الأصل في التحديد. (٤)

٥. يستحبّ أن يرغم الأنف في حال السجود ولا يجب ، لمفهوم ما دلّ على أنّ السجود على سبعة أعظم أو أعضاء. (٥)

٦. لا تنعقد الجمعة بالأقلّ من خمسة لقوله 7 : « لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط : الإمام وأربعة » (٦) ، فيكون مفهومه ـ لو

__________________

١. الوسائل : ٧ ، الباب ١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١ ؛ لاحظ الجواهر : ١٦ / ٢٩٦.

٢. الوسائل : ٢ ، الباب ٩ من أبواب الخلوة ، الحديث ٩ ؛ لاحظ الجواهر : ٢ / ٣٥.

٣. الوسائل : ٢ ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٩ ؛ لاحظ الجواهر : ٣ / ٧١.

٤. لاحظ الجواهر : ٢٣ / ٣٠.

٥. الوسائل : ٤ ، الباب ٤ من أبواب السجود ، الحديث ٨ ؛ لاحظ الجواهر : ١٠ / ١٧٤.

٦. الوسائل : ٥ ، الباب ٢ من أبواب صلاة الجمعة ، الحديث ٢ ؛ لاحظ الجواهر : ١١ / ١٩٩.


قلنا بأنّ للعدد مفهوماً ـ انعقادها بالخمسة.

فروع لها صلة بمفهوم اللقب

١. يستدل على حرمة عمل الصور المجسّمة لذوات الأرواح بصحيح زرارة عن أبي جعفرقال : « لا بأس بتماثيل الشجر ». (١)

٢. يستدلّ على اختصاص خيار الحيوان بالمشتري بصحيح الحلبي عن الصادق 7 : « في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام للمشتري ، وهو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط ». (٢) فيدلّ على نفيه عن البائع بمفهوم اللقب.

٣. روي عن أمير المؤمنين 7 أنّ رسول اللّه 6 نهى أن يكفن الرجال في ثياب الحرير ، فلو قلنا بالمفهوم لدلّ على جواز تكفين المرأة به. (٣)

٤. استدلّ على وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد بصحيح ابن سنان « يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها » ، ومفهومه عدم جواز الاكتفاء بها لغيره. (٤)

تمّ الكلام في المفاهيم

__________________

١. الوسائل : ١٢ ، الباب ٩٤من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ ؛ لاحظ الجواهر : ٢٢ / ٤٢.

٢. الوسائل : ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث ١.

٣. المستدرك : ٢ ، الباب ٩١ من أبواب الكفن ، الحديث ٢ ؛ لاحظ الجواهر : ٤ / ١٧٠.

٤. الوسائل : ٤ ، الباب ٢ من أبواب القراءة ، الحديث ٥ ؛ لاحظ الجواهر : ٩ / ٣٣٤.


المقصد الرابع في العام والخاص

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : للعام صيغة تخصّه

الفصل الثاني : تخصيص العام لا يوجب المجازية

الفصل الثالث : العام المخصّص حجّة في الباقي

الفصل الرابع : في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً

الفصل الخامس : المخصص اللفظي المجمل مصداقاً

الفصل السادس : إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي

الفصل السابع : إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي

الفصل الثامن : إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي

الفصل التاسع : لزوم الفحص عن المخصّص

الفصل العاشر : في الخطابات الشفاهية

الفصل الحادي عشر : تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

الفصل الثاني عشر : تخصيص العام بالمفهوم

الفصل الثالث عشر : الاستثناء المتعقّب للجمل

الفصل الرابع عشر : تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

الفصل الخامس عشر : في حالات العام والخاص



المقصد الرابع

العام والخاص

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

١. الأُمور الاعتبارية والتعريف الحقيقي

التعاريف الواردة في كلمات القوم في أمثال المقام هل هي تعاريف حقيقية أو تعاريف لفظية؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى الثانية ، وعلّلها بوجهين :

١. كون المعنى المركوز في الأذهان أوضح ممّا عُرِّف به مفهوماً ومصداقاً ، ولذا يجعل صدق ذلك المعنى على فرد وعدم صدقه ، مقياساً في الإشكال على التعاريف بعدم الاطراد أو الانعكاس. والتعريف لابدّ أن يكون بالأجلى مع أنّ مصاديقه أجلى بكثير من التعريف.

٢. عدم تعلّق غرض وثمرة فقهية وحكم فرعي عليه.

يلاحظ على الوجه الأوّل بأنّ الظاهر أنّهم بصدد التعريف الحقيقي وآية ذلك ، الإشكال بعدم الطرد وعدم العكس ، ولو كانوا بصدد التعريف اللفظي لتركوا نقد التعاريف.


وهذا لا ينافي أن تكون بعض المصاديق أوضح ممّا جاء في التعريف كما هو الحال في أكثر الموضوعات الواقعة في مجاله. ولو كان وضوح بعض المصاديق مانعاً عن التعريف الحقيقي لصار مانعاً في أكثر الموارد حتّى الأُمور التكوينية كالبياض والسواد والماء والتراب مع انّ الجميع يقع في أُطرِ التعريف.

والغرض من التعريف ، هو التعرّف على المصاديق غير الواضحة ، على نحو يكون التعريف مقياساً لتمييز المصداق عن غيره في عامة الموارد ، سواء أكان واضحاً أم لا.

ويلاحظ على الثاني بانّ عدم ترتّب الثمرة الفقهية لايكون مانعاً عن التعريف فانّ أكثر ما يذكرونه في مقدمات علم الأُصول بل وفي ضمن المقاصد ربما لا يترتّب عليها ثمرة فقهية كالبحث عن الوضع والمعاني الحرفية نعم فيها تشخيص للأذهان.

وممّا يؤخذ على المحقّق الخراساني انّه جعل التعريف اللفظي مرادفاً للتعريف بشرح الاسم مع انّه غيره وقد أوضحنا حاله في مباحث الألفاظ عند البحث عن تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط. (١)

وربما يقال انّ التعريف الحقيقي من خصائص المتأصلات والأعيان الخارجية دون المفاهيم الاعتبارية لانّ مأخذ الجنس والفصل هو الوجود الخارجي وما لا وجود له خارجاً لا جنس له ولا فصل.

ولذلك يعبر في الأُمور الاعتبارية عمّا به الاشتراك بانّه كالجنس وعمّا به الامتياز بانّه كالفصل ، مثلاً يقول الشهيد الثاني في كتاب الروضة عند قول الشهيد في تفسير الطهارة « بانّه إستعمال طهور مشروط بالنية » : إنّ الاستعمال

__________________

١. لاحظ إرشاد العقول : ١ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.


كالجنس وما هذا إلا لانّ الطهور أمر اعتباري.

ومع ذلك كلّه فانّ تعريف كلّ شيء بحسبه ، فالتعريف الحقيقي للأُمور الاعتبارية لا يعدو عن مفاهيم اعتبارية يشكِّل أحدهما القدرَ المشترك ، والآخر وجه الامتياز.

الثاني : تعريف العام

عرّف علماء الأُصول العامَ بوجوه نذكرها تباعاً :

١. شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ التعريف مبني على أنّ وصف اللفظ بالعموم إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم به ، وسيوافيك عدم صحّته ، فانّ للعموم في لغة العرب وبعض اللغات التي نعرفها ألفاظاً خاصة وضعت للعموم ، سواء أتعلق به حكم أو لا.

وثانياً : أنّ التعريف يشمل المطلق ، فالحكم فيه أيضاً شامل لجميع أفراد مدخوله غاية الأمر على وجه البدل مثل قوله : اعتق رقبة.

٢. شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه

يلاحظ عليه : أنّ فاعل قوله : « ينطبق عليه » هو لفظ العام كالعلماء في قوله : « أكرم العلماء » ، ومن المعلوم أنّ المقياس في العام شموله لكلّ ما ينطبق عليه مفرده ، لا شموله لكلّ ما ينطبق عليه لفظ العام ، فكم فرق بينهما؟ فانّ العام كالعلماء لا ينطبق إلا على ثلاثة ، ثلاثة ، وأمّا مفرده فينطبق على واحد واحد. ولذلك عدل المحقّق البروجردي إلى تعريف ثالث وهو :


٣. شمول مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد.

فلفظة العلماء عام لشمولها لجميع ما يصلح أن ينطبق مفرده عليه. (١)

الثالث : أقسام العام

إنّ العام ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدليّ ، فإن لوحظ كلّ واحد من أفراد العام ـ مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به ـ بحياله واستقلاله ، أي بوصف الكثرة فهو عام استغراقي ، وإن لوحظ الأفراد لا بحياله بل بنعت الجمع فهو مجموعي ، وإن لوحظ واحد من الأفراد لا بعينه على نحو الفرد المنتشر ، فهو بدلي.

وعلى ما ذكرنا فالعام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به ، ينقسم إلى تلك الأقسام ، فالمتكلّم تارة يلاحظ كلّ فرد فرد على نحو الاستقلال بحيث لو تعلّق به حكم يكون لكلّ فرد إطاعة وعصيان.

وأُخرى يلاحظه بنحو المجموع على نحو لو تعلّق به الحكم يكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد.

وفي ذينك القسمين تكون الافراد ملحوظة في عرض واحد ، غاية الأمر تارة بنعت الكثرة ، وأُخرى بنعت الجميع.

وثالثة : يلاحظ فرد ما على نحو لا يقف اللحاظ على ذلك الفرد بل ينتقل إلى فرد آخر فيكون المنظور إليه هذا أو ذاك أو ذلك فيكون العام بدلياً.

وعلى ضوء ما ذكرنا تبين انّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة لا يتوقّف على لحاظ الحكم المتعلّق به بل العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم يقع في إطار اللحاظ على الأنحاء الثلاثة.

__________________

١. لمحات الأُصول : ٣٠٢.


وممّا يؤيّد ذلك انّ الواضع وضع لكلّ من الأقسام لفظاً خاصاً ، فلفظة « كلّ » موضوعة للعام الاستغراقي ، كما أنّ لفظة « مجموع » موضوعة للعام المجموعي ولفظة « أي » موضوعة للعام البدلي.

يقول سبحانه : ( الزَّانِيةُ والزَّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنْهُما مِائةَ جَلْدَة وَلاتأخُذْكُم بِهِما رأفَةٌ في دِينِ اللّهِ ). (١)

فلفظة كلّ في ( كلّ واحد ) موضوعة للعام الاستغراقي.

يقول سبحانه : ( أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأَسماءُ الحُسْنى ). (٢)

وقال سبحانه حاكياً عن سليمان : ( يا أَيُّها المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتيِنِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمين ) (٣). فلفظة أيّ في الآيتين موضوعة للعام البدليّ.

نظرية المحقّق الخراساني انقسام العام إلى ثلاثة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنّما هو باختلاف كيفية تعلّق الأحكام به وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الأمر : انّ تعلق الحكم به ، تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدة للحكم وأُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في « أكرم مجموع الفقهاء » مثلاً ، لما امتثل أصلاً بخلاف الصورة الأُولى فانّه أطاع وأصاب. وثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل بحيث لو أكرم واحداً منهم لأطاع وامتثل. (٤)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره غير تام من جهات ثلاثة : رتبة ، وملاكاً ، ووضعاً :

__________________

١. النور : ٢.

٢. الإسراء : ١١٠.

٣. النمل : ٣٨.

٤. كفاية الأُصول : ١ / ٣٣٢.


أمّا الجهة الأُولى : ـ أي رتبة ـ فانّ الموضوع في رتبة سابقة على الحكم ، والحكم متأخر عنه رتبة وتصوراً ، فكيف يكون الحكم المتأخّر سبباً لانقسام الموضوع إلى أقسام ثلاثة.

لا أقول : إنّ ذلك مستلزم للدور بتوهم « انّ الحكم متوقّف على الموضوع والموضوع حسب انقسامه إلى أقسام ثلاثة متوقّف على الحكم ».

وذلك لأنّ امتناع الدور يختص بالأُمور التكوينية لا الاعتبارية ، ولكنّه على خلاف الضابطة في الأُمور الاعتبارية بأن يكون المتأخّر ـ أي الحكم ـ سبباً لانقسام المتقدّم رتبة.

وأمّا الجهة الثانية ـ أي ملاكاً ـ فانّ انقسام الحكم إلى أقسام ثلاثة رهن وجود مصالح مختلفة للموضوع ، حيث إنّ المصلحة تارة تكون قائمة بكلّ فرد فرد من أفراد العام ، فيأمر بإكرام كلّ واحد على سبيل الاستقلال.

وقد تكون المصلحة قائمة بإكرام المجموع بحيث لو تخلّف واحد منهم لما حصل الغرض الداعي.

وثالثة تكون قائمة بإكرام فرد من أفراد الموضوع على سبيل البدل فيأمر بإكرامه كذلك ، فملاك الانقسام إلى الأقسام الثلاثة حاصل قبل تعلّق الحكم ، فلابدّ أن يكون الانقسام باعتبار الموضوع الحامل للملاك ، لا الحكم المتعلّق بحامل الملاك.

وأمّا الجهة الثالثة : ـ أعني : وضعاً ـ فانّ الوضع يتبع الغرض ، فربما يتعلّق الغرض ببيان كون الموضوع كلّ فردمن الأفراد أو مجموعهم أو واحد منهم موضوعاً للحكم ، فيجب أن يوضع لما يتعلّق به الغرض ، لفظ خاص ، وقد أشرنا إلى بعض الألفاظ الموضوعة للأقسام الثلاثة ، فلاحظ.

ولنأت بمثال لأجل إيضاح أحكام الأقسام الثلاثة :


لو نذر أن لا يدخّن فتارة يتعلّق نذره بترك كلّ ما يصدق عليه لفظ السيجارة في بيته ، وأُخرى بترك مجموع ما في بيته منها ، وثالثة بترك واحد منها.

فالنذر في الأوّل بنحو العام الاستغراقي ، ويكون لكلّ فرد إطاعة وعصياناً وبالتالي كفّارة متعدّدة ، كما أنّه في الثاني بنحو العام المجموعي وتتحقّق الطاعة بترك الجميع والعصيان بفعل واحد منهم ويكون هناك كفّارة واحدة ، وذلك لحنث النذر بالفرد الأوّل ، ولا يصدق الحنث على الفرد الثاني لافتراض انّ الموضوع ( المجموع ) لم يبق بحاله حيث نقص منه فرد واحد ، كما أنّه في الثالث بنحو العام البدلي فيجوز له التدخين إلى أن يبقى منها واحد.

الرابع : البدلي من أقسام العام

الظاهر من الأُصوليّين انّ العام ينقسم إلى أقسام ثلاثة حسب ما عرفت ، غير أنّ المحقّق النائيني 1 قال : إنّ في عدّ العام البدلي من أقسام العموم مسامحة واضحة ، بداهة أنّ البدلية تنافي العموم. فانّ متعلّق الحكم في العموم البدلي ليس إلا فرد واحد ، أعني به : الفرد المنتشر ، وهو ليس بعام. نعم البدلية عامة فالعموم إنّما هو في البدلية لا في الحكم المتعلّق بالفرد على البدل. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ البدلية ليست شيئاً وراء الموضوع ، فالموضوع هو العام بقيد البدلية ، وإطلاق العام عليه على المختار لأجل قابلية صدقه على كلّ فرد فرد ، لكن لا في عرض واحد ، بل على نحو التبادل ، كقوله : أكرم أي رجل شئت.

وأمّا على مختار المحقّق الخراساني الذي هو خيرة المحقّق النائيني فلوجود ملاك العموم وهو سعة الحكم وشموله لكلّ فرد على نحو التبادل ، حيث إنّ الحكم يعمّ ويسع كلّ فرد على وجه البدلية مقابل اختصاصه بفرد واحد.

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٤٣.


الخامس : دوران الأمر بين أحد الأقسام الثلاثة

إذا دار أمر العام بين أحد هذه الأقسام ، فهل هي أصل يعتمد عليه في تعيين أحد الأقسام؟ مثلاً : إذا حلف على ترك التدخين فشك انّه هل كان على نحو العموم الاستغراقي أو المجموعي ، قال المحقّق النائيني : إنّ الأصل اللفظي الإطلاقي يقتضي الاستغراقية ، لأنّ العموم المجموعي يحتاج إلى غاية زائدة وهي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعاً واحداً. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه لا موضوع للأصل اللفظي في العام ، وذلك لما عرفت من أنّ في لغة العرب لكلّ من الأفراد لفظاً خاصاً ، فأين لفظة « كلّ » من لفظة « أي » وهما من لفظة « المجموع » ، فالأمر يدور بين المتباينين فلا أصل هنا يعيّن واحداً من هذه الألفاظ.

والحاصل : انّ تعلّق العلم الإجمالي بصدور واحد من هذه الألفاظ المردد بين الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، يكون سبباً لدوران الموضوع بين الأُمور المتباينة كدوران الفائت بين الظهر والمغرب والفجر ، فكما لا موضوع للأصل اللفظي فيه فهكذا المقام.

نعم يتصوّر الدوران فيما إذا كان الدليل لبياً كالإجماع والسيرة على وجـوب شيء كصيام ثلاثة أيّام فيقع الكلام في وجوبها متوالية حتّى يكون كالعـام المجموعي أو أعمّ منه ومن غير المتوالي ليكون كالعام الاستغراقي ، فالمرجـع حينئذ هو البراءة ، وذلك لأنّ الشكّ في كلفة زائدة وهو التوالي والأصل عدمه.

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥١٥.


السادس : الفرق بين العام والمطلق

إنّ العام كما عرفت ينقسم إلى شموليّ ومجموعيّ وبدليّ ، والمطلق أيضاً ينقسم إلى شمولي وبدلي ، أمّا الشمولي فكقوله سبحانه : ( أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ ) (١) ، فانّ اللام للجنس ومع ذلك تفيد العموم لجريان مقدّمات الحكمة حيث إنّ المتكلّم في مقام البيان ولم ينصب قرينة على فرد خاص فيفيد الشمولي.

وأمّا البدلي كقوله : « اعتق رقبة » بمعنى كفاية فرد ما ، نظير قوله في العام « اعتق أيّ رقبة » وعندئذ يطرح السؤال التالي : ما الفرق بين العام والمطلق؟

والجواب المعروف هو انّ دلالة العام بالوضع فكأنّ الشموليّة والبدلية داخلان في مفهوم العام ولكن دلالة المطلق عليهما بالعقل وبفضل مقدّمات الحكمة كما قررنا.

ومع أنّ هذا الجواب متين ولكن يمكن الإجابة بوجه آخر ، وحاصله :

حقيقة الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم لا جزأه ، سواء أكان الموضوع أمراً طبيعياً أو فرداً شخصياً ، مثلاً :

قولنا : اعتق رقبة نظير قولنا : أكرم زيداً في أنّ كلاً من اللفظين تمام الموضوع للحكم لا جزؤه ، بخلاف ما إذا قلنا : « اعتق رقبة مؤمنة » أو قلنا : « أكرم زيداً قائماً » حيث يعود اللفظ فيهما جزء الموضوع ، فإذا كان هذا ( كون الشيء تمام الموضوع للحكم ) حقيقة الإطلاق ، فالشمول والبدلية ، والجزئية لا صلة لها بواقع الإطلاق.

نعم يختلف مفاد ما وقع تحت دائرة الطلب من حيث المضمون ، فتارة تكون نتيجة الإطلاق الشمولية وأُخرى البدلية وثالثة الجزئية ، فهذه الأُمور الثلاثة نتائج الإطلاق لا نفس الإطلاق ، وهذا بخلاف العام فانّ الشمولية والبدلية داخلان في جوهر الموضوع.

____________

١. البقرة : ٢٧٥.


السابع : حكم العشرة وأمثالها

لمّا عرّف المحقّق الخراساني المفهوم العام بقوله : شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، خرج بالنتيجة التالية : انّ مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها. (١)

وبعبارة أُخرى : قوله في تعريف العام « انطباقه لكلّ ما يشمله » يُخرج العشرة لأنّها وإن كانت تشمل الآحاد ولكنّها لا تنطبق عليها ، فليس الشمول كافياً في صدق العموم ، بل يحتاج وراءه إلى الانطباق.

يلاحظ عليه : أنّ قيد الانطباق وإن أخرج العشرة عن تحت العموم ولكنّه يوجب خروج الجمع المحلّى باللام عن تعريف العام ، فانّ « العلماء » شامل لكّل فرد فرد لكنّه لا ينطبق على واحد منهم فلا يقال : زيد العلماء.

والأولى إخراج العشرة عن تحت العام بقيد آخر ، وهو انّ العام في مصطلح الأُصوليّين ما دلّ على الكثرة المبهمة من حيث الكمية والمقدار ، كما هو الحال في الجمع المحلّى باللام والنكرة الواقعة في سياق النفي.

وأمّا العشرة فهي محدودة قلّة وكثرة.

نعم يمكن عدّها من ألفاظ العموم إذا أُريد منها مجموعات من العشرة كالعشرات بحيث يكون لكلّ عشرة مصداق وفرد فلاحظ.

إذا عرفت هذا فلندخل في صلب الموضوع ، ويأتي الكلام فيه ضمن فصول :

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٣٢.


الفصل الأوّل

للعام صيغة تخصّه

اختلفت كلمتهم في الصيغ المعروفة بصيغة العام إلى أقوال ثلاثة :

١. انّها وضعت للعموم.

٢. انّها وضعت للخصوص.

٣. انّها مشتركة بين العموم والخصوص.

والمعروف هو الأوّل ، واستدلّ له بوجهين :

١. تبادر العموم من كلمة « كلّ » و « الجمع المحلّى باللام » وما يعادلهما في سائر اللغات.

٢. انّ الحاجة كما تمسُّ لبيان الخصوص ، تمسُّ لبيان العموم أيضاً فلابدّ للواضع من وضع لفظ أو ألفاظ لبيانها. نعم ربما يستعمل في الخصوص مجازاً وبالعناية يقال : جاء العلماء ، أو حضر الصاغة ، إذا جاء أعيانهم وأكابرهم ومن يعتدّ بهم وذلك لا يصير دليلاً على كونها موضوعة للخصوص ، ومع ذلك فهناك ألفاظ وضعت للخصوص كما سيوافيك.

واستدلّ للقول الثاني أيضاً بوجهين :

١. انّ إرادة الخصوص في مقام الاستعمال أمر متعيّن إمّا بنفسه أو في


ضمن العام ، وجعل اللفظ حقيقة فيه أولى من جعله حقيقة في المشكوك. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الأولوية في مقام الاستعمال لا يكون دليلاً على الأولوية في مقام الوضع ، لأنّ لكلّ ملاكاً خاصاً ، إذ الملاك في مقام الوضع ، هو الحاجة لبيان العموم فلابدّ من وضع لفظ أو ألفاظ لبيان هذا المقصد ، والملاك لتعيين المستعمل فيه هو كونه متيقناً ، لا مشكوكاً ، فلا يستدلّ بأحدهما على الآخر ، مع كون مقام الوضع متقدّماً والاستعمال متأخراً.

٢. انّ الخاص أكثر من العام حتّى اشتهر : ما من عام إلا وقد خُصّ ، فلو كانت حقيقة في الخصوص لزم تقليل المجاز بخلاف العكس. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه دليل على ضد المقصود ، لأنّ تخصيص العام آية انّه موضوع له ، لكن ورد عليه التخصيص ، ولولا ذلك ، لما كان للتخصّص معنى محصل.

وثانياً : أنّه مبني على أنّ التخصيص مستلزم كون العام مجازاً مستعملاً في غير ما وضع له ، وسيوافيك انّ الحقّ خلافه ، وانّ العام ـ مطلقاً ـ مستعمل في معناه ، سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً ومراد بالإرادة الاستعمالية التي هي مناط الحقيقة والمجاز.

لكن ما تتعلّق به الإرادة الاستعمالية على صنفين :

١. يكون متعلّقاً للإرادة الجديدة أيضاً.

٢. ما لا يكون كذلك.

__________________

١. قوانين الأُصول : ١ / ١٩٣ ؛ الفصول : ١٦١.

٢. قوانين الأُصول : ١ / ١٩٦.


والمتكلّم يشير بالمخصص إلى القسم الثاني وانّ الفساق مما لم تتعلّق به الإرادة الجدية وإن تعلّقت به الإرادة الاستعمالية.

وأمّا ما هو الداعي لاستعمال اللفظ في معنى وسيع تعلّقت به الإرادة الاستعمالية دون الجدية فسيوافيك بيانه.

وأمّا القول بالاشتراك فلم نقف على دليل له ، ولعلّه جعل الاستعمال في كلا المعنيين دليلاً على وضع الألفاظ لهما ، لكن الاستعمال أعمّ من الوضع كما هو واضح.

ثمّ إنّ للخصوص أيضاً ألفاظاً ، كلفظة « بعض » أو « قسم » أو « فئة » أو « طائفة » ، أو ما يقوم مقام هذه الألفاظ.

ثمّ إنّهم ذكروا للعام صيغاً نشير إليها :

١. وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي.

٢. لفظة « كل » و « الجميع » أو ما يعادلهما.

٣. الجمع المحلّى باللام ، كالعقود في قوله تعالى : ( أَوفُوا بالعُقُود ). (١)

٤. المفرد المحلّى باللام كقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ ). (٢)

ولندرس الجميع واحداً بعد الآخر :

الأوّل : النكرة في سياق النفي أو النهي

إنّ من أدوات العموم وقوع النكرة في حيز النفي والنهي ، يقول ابن مالك في مورد « لا » النافية للجنس.

__________________

١. المائدة : ١.

٢. البقرة : ٢٧٥.


عمل إنّ اجعل للا في النكرة

مفردة جاءتك أو مكررة

فانصب بها مضافاً أو مضارعة

وبعـد ذاك ـ الخبر ـ اذكر رافعة

ولا النافية للجنس غير « ما » و « لا » و « لات » المشبهات بليس فانّها ترفع الاسم وتنصب الخبر ولا تفيد العموم.

وعلى كلّ تقدير فاتّفقوا على إفادته العموم ، توضيحه :

إنّ رجلاً مع قطع النظر عن اللام والتنوين له وضع ، فهو مع التنوين يدلّ على الوحدة ، ومع اللام يدلّ تارة على الجنس وأُخرى على العهد ، فإذا جُرّد اللفظ عن كليهما دلّ على الماهية لا بشرط شيء.

وقد نقل المحقّق القمي عن السكاكي انّه نقل إجماع أهل العربية على أنّ المصادر الخالية من اللام والتنوين موضوعة للماهية لا بشرط شيء. (١)

ولا يختصّ هذا بالمصادر ، بل يعمّ الأسماء فالمجرّد من اللام والتنوين يدلّ على الطبيعة ، فإذا وقعت تحت النفي أو النهي يدلّ على نفي الطبيعة وهو يتحقّق في ضمن نفي تمام الأفراد.

ويؤيد دلالته على العموم أنّه لايجوز أن يقال : لا رجل في الدار بل رجلان ، أو : وما من رجل في الدار بل رجلان ، بخلاف ليس وما ولا ولات المشبهات بها حيث يصحّ : ليس في الدار رجل بل رجلان ، وما في الدار رجل بل رجلان ، حيث إنّ التنوين إشارة إلى الوحدة العددية المعينة ويكون النفي راجعاً إلى الوحدة.

يلاحظ عليه بأمرين :

الأوّل : انّ القول بأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد ما وتنعدم بانعدام جميع

__________________

١. القوانين : ١ / ٢٠٢.


الأفراد غير تام على الأُصول الفلسفية ، لأنّ الطبيعة لا واحدة ولا كثيرة ، بل مع الواحد واحدة ومع الكثير كثيرة ، فكما لها وجودات حسب الافراد ، فهكذا لها اعدام بحسبها.

نعم تصحّ القاعدة في نظر العرف وذلك لقرينة خارجية خصوصاً في النواهي ، لأنّه إذا قال : لا تشرب الخمر ، فالمفسدة قائمة بكلّ واحد واحد من أفراد الخمر ، فترك فرد من أفرادها مع استعمال سائر الأفراد لا يؤمّن غرض المولى ، فصار ذلك قرينة على أنّ المراد هو نفي الطبيعة بنفي جميع أفرادها.

الثاني : انّ العموم عبارة عمّا تدلّ على الكثرة والافراد بالدلالة اللفظية لا بالدلالة العقلية ، فانّ استفادة العموم في المورد مستند إلى الدلالة العقلية العرفية لا إلى الدلالة اللفظية ، ومع ذلك كلّه فلا شكّ في أنّ هيئة لا رجل تدلّ على نفي عامة الأفراد ولو بقرينة عامة عرفية ، وهي انّ نفي الطبيعة بنفي عامة أفرادها والتبادر أفضل دليل له.

هل استفادة العموم رهن مقدّمات الحكمة؟

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ استفادة العموم رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة ، قابلة للتقييد وإلا فسلبها لا يقتضي إلا استيعاب السلب لما أُريد منها يقيناً لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فانّها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها لا الافراد التي تصلح لانطباقها عليها. (١)

توضيحه : انّه يشترط في استفادة العموم أخذ الطبيعة مرسلة سارية في جميع

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٣٤.


أفرادها ، وأخذ الطبيعة كذلك من مقدّّمات الحكمة الذي يعبّر عنه بكون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال والإبهام.

إذا عرفت ذلك فالذي يدلّ على لزوم إحراز هذا الشرط انّه لولاه لما أمكنت استفادة العموم ، لأنّ لفظة « لا » وضعت لنفي المدخول ، وأمّا كون المدخول عبارة عن كلّ ما يصلح انطباقه عليه فهو رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة ولا مجملة ، وإلا فيمكن أن تكون لا لنفي ما أُريد من الطبيعة وإن كان المراد قسماً منها.

وبعبارة أُخرى : انّه لا دور للفظة « لا » إلا السلب وهو يحتمل أحد أمرين :

١. استيعاب السلب لكلّ ما تنطبق الطبيعة عليه ، أو لكلّ ما يراد منها ؛ والأوّل يفيد العموم دون الثاني ، وإحرازه فرع جريان مقدمات الحكمة.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من احتمال استيعاب السلب لما أُريد منها لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها مبني على أنّ العام عند التخصيص يستعمل في غير معناه الحقيقي ، ولذلك يدور الأمر بين الاحتمالين أي استيعاب السلب لما أُريد من الطبيعة يقيناً إذا كان مخصصاً أو استيعاب ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها.

وأمّا على القول بأنّ العام ـ سواء خص أم لم يخصّ ـ يستعمل في المعنى اللغوي العام ، أي ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها (١) ، فلا يكون هناك إلا احتمال واحد ، وهو استيعاب كلّ ما يصلح انطباقها عليه ، وعلى ضوء ذلك فلا حاجة إلى أخذ الطبيعة مرسلة في مقابل كونها مبهمة أو مجملة.

نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً آخر وراء الطبيعة فيمكن دفعه بجريان مقدّمات الحكمة.

__________________

١. سيوافيك بيانه في الفصل القادم.


وحصيلة الكلام : انّ المحقّق الخراساني خلط بين استفادة العموم ودفع احتمال مدخلية قيد آخر في الموضوع ؛ فالأوّل يكفي فيه نفي الطبيعة بمعناها اللغوي من دون حاجة إلى إرسال وغيره ، وأمّا الثاني ـ أي احتمال دخالة قيد في الموضوع ـ فدفعه رهن مقدّمات الحكمة.

الثاني : لفظة كلّ أو ما يعادلها

المتبادر من لفظ كلّ أو ما يعادله هو الاستيعاب والعموم ، غير أنّ سعة الدلالة تتبع سعة المدخول وضيقه ، فهو على كلّ تقدير بصدد إفادة العموم ، سواء أقال : أكرم كلّ عالم أو قال : أكرم كلّ عالم عادل. فإطلاق الموضوع وتقييده لا يضرّ بدلالة كلّ الموضوع للشمول والاستيعاب.

وبذلك يعلم أنّا لا نحتاج في استفادة الشمول والعموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة ، لأنّ لفظة كلّ موضوعة للشمول ومعه لا حاجة لشيء آخر.

نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً سقط من كلام المتكلّم يصحّ نفيه بمقدّمات الحكمة ، فالخلط السائد في القسم الأوّل جار في المقام ، فنحن في استفادة العموم مستغنون عن إجراء مقدّمات الحكمة ، وأمّا في نفي احتمال تقيد الموضوع بقيد آخر فيدفع بمقدّمات الحكمة.

الثالث : الجمع المحلّى باللام

وممّا عدّ من أدوات العموم ما اتّفق الأُصوليون على إفادتها للعموم (١) ، كقوله سبحانه : ( أَوفُوا بالعُقُـود ) (٢) ، وقوله سبحـانه : ( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِين

__________________

١. القوانين : ١ / ١٩٧.

٢. المائدة : ١.


كافـَّةً ) (١) ، وقوله : كافة تأكيد للعموم المستفاد من الجمع المحلّى ، وقوله سبحانه : ( وَبَشِّرِ الصّابِرين ). (٢)

والدليل على إفادته العموم ، هو تبادر العموم كما هو الحال في تلك الآيات ، وتؤيده كثرة استعماله في العموم في المحاورات ، كقول القائل : إن كنت جاهلاً سل العلماء ، وإن كنت مريضاً راجع الأطباء ، وإن كنت غنياً واس الفقراء.

نعم تردد المحقّق الخراساني في إفادته العموم بذاته ، وقال : إنّما يفيده إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أُخرى ، وذلك لأنّ الدالّ عليه أحد الأُمور الثلاثة :

١. اللام ولا دلالة لها بشهادة عدم دلالتها في المفرد المحلّى به.

٢. الجمع المجرد ، ولا دلالة له لصدقه على الاثنين وما فوقه.

٣. المركّب من اللام والجمع ، فلا دلالة له ، لعدم الوضع.

وأجاب سيّدنا الأُستاذ 1 عنه ، بأنّ استفادة العموم لازم كون اللام لتعريف الجمع ، والقابل للتعريف ، هو أقصى المراتب ، دون غيره ، لأنّ له عرضاً عريضاً ومراتب متعددة ، لا يمكن الإشارة إلى واحد منها.

فإن قلت : إنّ أقلّ الجمع ، متعيّن كالثلاثة.

قلت : إن أُريد من التعيّن مفهومها فصحيح لكنّه لا يفيد في المقام ، وإن أُريد تعيّنها مصداقـاً ، فغيـر تام ، لتردّده بين مصاديق مختلفة ، كهـذه الثـلاثة أو تلك الثلاثة ، ولـذلك لـو قلت جاءني ثلاثة أشخاص ، فللمخاطب أن يسـأل عن مصاديقها ، ويقول : أي ثلاثة هل هي زيد وعمر وبكر ، أو رعد

__________________

١. التوبة : ٣٦.

٢. البقرة : ١٥٥.


وخالد وحيدر. (١)

يلاحظ عليه : أنّ طريق إثبات اللغة وتعيين مفاد الألفاظ ومعانيها ، هي التبادر وصحّة الحمل والاطراد لا الدقائق العقلية التي لا يلتفت إليها إلا طبقة خاصة ، وإلا فيجب أن يقول بالعموم في المفرد المحلّى باللام ، لجريان نفس البيان فيه مع أنّه 1 لا يقول به فيه.

والأولى التمسك بالتبادر الحاسم للنزاع.

والكلام في استفادة العموم نفس الكلام في استفادة العموم من وقوع النكرة في سياق النفي أو لفظ « كلّ » طابق النعل بالنعل بمعنى انّه لا حاجة في فهم العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة. نعم دفع احتمال مدخلية قيد في الموضوع رهن جريانها.

الرابع : المفرد المحلّى باللام

وقد عدّ من ألفاظ العموم ، المفرد المحلّى باللام واستدلّ له بوجوه قاصرة ، كوصفه بالجمع في المثل الدارج : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وصحّة ورود الاستثناء عليه كقوله سبحانه : ( إِنّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر * إِلاّ الّذينَ آمَنُوا ) (٢) ، وانّ اللام للتعريف والمعرّف هو أقصى المراتب.

والظاهر انّ استفادة العموم في الموردين الأوّلين بالقرينة الخارجية ، أمّا الأوّل فلأنّه لا فرق بين دينار ودينار ودرهم ودرهم في أنّه يغرّ الإنسان ، وأمّا الثاني فبما انّ الإنسان طبيعة واحدة ، فيكون تمام أفرادها في خسر ، لأنّ أفراد الطبيعة فيما يجوز

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٤٦٧.

٢. العصر : ٢ ـ ٣.


وما لا يجوز واحد.

والوجه الثالث دليل عقلي لا يركن إليه في باب الدلالات كما مرّ في الجمع المحلّى باللام. والتبادر لا يساعد العموم في جميع الموارد.

نعم يمكن استفادة العموم من قوله سبحانه : ( أَحلَّ اللّهُ البَيْع ) (١) بجريان مقدّمات الحكمة ببيان انّ المولى في مقام التشريع والتقنين ، فإن أراد بيعاً خاصاً كان عليه البيان ، وإلا فيكون مطلق البيع حلالاً ونافذاً ، وعلى ذلك يخرج من باب العموم ويدخل في باب المطلق.

__________________

١. البقرة : ٢٧٥.


الفصل الثاني

تخصيص العام لا يوجب المجازية

عقد المحقّق الخراساني فصلاً في أنّ العام المخصَّص بالمتّصل أو المنفصل حجّة فيما بقي تحت العام ، ولمّا كان القضاء الحاسم في هذا الموضوع مبنيّاً على مسألة أُخرى ، وهي كون التخصيص ، موجباً لمجازية العام ، واستعماله في غير ما وضع له ، وعدمه ، عدلنا عن النظام الموجود في الكفاية وعقدنا فصلاً مستقلاً لهذه المسألة التي هي المبنى لحجّية العام فيما بقي ، وبعد الفراغ منه ، نعقد فصلاً جديداً للحجّية فيما بقي وعدمها.

فنقول : إنّ الأقوال في المسألة كثيرة ربما تناهز الثمانية (١) : والمعروف منها ثلاثة :

١. حقيقة مطلقاً.

٢. مجاز مطلقاً.

٣. التفصيل بين المخصّص المتّصل والمنفصل فهو حقيقة في الأوّل ومجاز في الثاني.

والحقّ هو الأوّل وهو الذي نصره المحقّق الخراساني ببيانين : أحدهما خاص بالمخصص المتصل ، والآخر بالمخصص المنفصل ، وربما تكون روح البيانين في الموردين واحداً وإن كان التعبير مختلفاً.

__________________

١. الفصول : ١٩٨ ـ ١٩٩ ، الطبعة الحجرية.


١. المخصص المتّصل وتعدد الدال والمدلول

إنّ المجاز في اصطلاح المشهور عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، ولكن أدوات العموم كـ « كل » مستعمل في معناه الحقيقي ، الذي يعادله في اللغة الفارسية لفظة « هر » من غير فرق بين أن يكون مدخوله وسيعاً ، مثل « أكرم كلّ رجل » ، أو مضيقاً نحو : « أكرم كلّ رجل عادل » ، فكون المدخول موسّعاً أو مضيّقاً لا يؤثر في استعمال أداة العام فهو مطلقاً مستعمل في معناه وإنّما تعلم السعة والضيق ، ممّا يأتي بعده من « رجل » أو « رجل عادل » لا انّ لفظة « كلّ » تستعمل في الأوّل في المعنى الوسيع للسعة ، وفي الثاني في المعنى المضيق ، بل هو في كلا المقالين « كلّ رجل » ، « كلّ رجل عالم » مستعمل في العموم وإن كانت افراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر قليلاً.

وإن شئت قلت : إنّ المورد من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ لفظ مستعمل في معناه الحقيقي فلفظ « كل » مستعمل في الشمول ، كما أنّ كلاً من الرجل والعالم مستعمل في معناه ، وكلّ لفظ يحكي عن مدلوله ، لا عن مدلول الآخر.

نظير ذلك في المطلق والمقيد ، فإذا قال : أعتق رقبة مؤمنة ، فالرقبة مستعمل في نفس معناها المجرد عن كلّ خصوصية ، أعني : الإيمان ، وإنّما دلّ على شرطية الإيمان ومدخليته في المكلّف به ، هو لفظ « مؤمنة » فلكلّ لفظ رسالة خاصة يؤدّيها ، دون أن يتدخل واحد منه في رسالة الآخر.

ويكفي في ثبوت ذلك ، ملاحظة المحاورات الدارجة بيننا والقيود اللاحقة للعمومات والمطلقات في كلماتنا ، فإذا قلنا : تجب الصلاة على كلّ إنسان بالغ ، عاقل ، نستعمل كلّ لفظ في مفهومه اللغوي ، دون أن نستعمل الإنسان في الإنسان


البالغ وهكذا.

وعلى ضوء ما ذكرنا فلا تخصيص واقعاً ، إذ لم ينعقد للعام ظهور في العموم ، حتّى يخصص ، بل تولد العام من لدن صدوره مخصصاً ومضيقاً ، ولو يوصف بالمخصص ، فإنّما هو لأجل وجود نتيجة التخصيص فيه ، لا نفسه ، نظير قول القائل : « ضيّق فم الركيّة ».

٢. المخصص المنفصل والإرادة الاستعمالية

ما ذكر من البيان يرجع إلى المخصص المتصل ، وأمّا المخصص المنفصل كما إذا قال : أكرم العلماء ، وقال بعد فترة : لا تكرم فسّاق العلماء ، فهذا أيضاً لا يوجب مجازية العام ، أي استعمال العلماء في المثال الأوّل في العلماءغير الفسّاق ، بل العام فيه استعمل في نفس معناه اللغوي الوسيع ، بالإرادة الاستعمالية ، وإن كانت الإرادة الجدية متعلّقة بالعلماء غير الفساق ، وملاك الحقيقة والمجاز هي الإرادة الأُولى دون الثانية. وإليك توضيحه :

إنّ للمتكلّم إرادتين :

١. إرادة استعمالية ، وهي إطلاق اللفظ وإرادة معناه ، سواء أكان هازلاً ، أو غير هازل ، مختبراً بكلامه مدى استعداد المخاطب لامتثال أمره ، أو غير مختبر ، مجداً في طلب المأمور به أو غير مجد.

ففي مورد الهازل والمختبر ، توجد الإرادة الاستعمالية دون الجدية ، بخلاف المتكلّم لا عن هزل ولا عن اختبار ، فالإرادة الاستعمالية ترافق الجدية.

كلّ هذا يدلّ على وجود الإرادتين ، فتارة يتفارقان كما في الهازل والمختبر ، وأُخرى يرافقان كما في الأوامر الجدية.


بل ربما تتعلّق الإرادة الاستعمالية بشيء والجدية بشيء آخر ، فإذا قلت فلان كثير الرماد ، فالاستعمالية تعلّقت بالمعنى اللغوي ـ وهو كثرة الرماد ـ والجدية تعلّقت بكونه كريماً.

وعلى ضوء ذلك إذا قال المتكلّم : أكرم العلماء فقد تعلّقت إرادته الاستعمالية بإكرام كلّ العلماء بلا تخصيص ، فلو كانت الإرادة الاستعمالية وفق الجدّية ، لسكت عليه ولم يعقبه بشيء ، ولو كانت الجدية مخالفة معها ، لعقبه بكلام آخر يدلّ على ضيق نطاق الإرادة الجدية ويقول : لا تكرم فسّاق العلماء ، فالكلام يحكي عن ضيق الإرادة الجدية ، ولكنّها ليست ملاك الحقيقة والمجاز ، بل ملاكهما هو الإرادة الاستعمالية المتعلّقة بكلّ العلماء.

فإن قلت : إذا كانت الإرادة الجدية مضيقة من حيث التعلّق ، فلماذا تتعلّق الاستعمالية بالأوسع منه ، أو ليس الأولى أن تتعلّق هي أيضاً بنفس ما تعلّقت به الإرادة الجدية.

قلت : إنّ الغاية من التفريق بين متعلق الإرادتين هو ضرب القاعدة في الموارد المشكوكة ، ليتمسك الشاك بها ويحتج على عدم خروج المشكوك عن تحت العام ، باستعمال العام في معناه اللغوي.

توضيحه : انّه إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، وشككنا في خروج قسم آخر ـ كالنحاة ـ منهم عن تحت العام ، فلو كان العام مستعملاً في غير معناه اللغوي لا يمكن التمسّك بالعام على عدم خروج هذا عن تحت العام لتعدّد المجازات حسب تعدد الخصوصيات ، بخلاف ما إن كان مستعملاً في معناه اللغوي ، فعند ذلك يأتي دور الأصل العقلائي ، أعني : أصالة تطابق الإرادتين ، إلا ما خرج بالدليل ، ففي مورد الفسّاق قام الدليل على المخالفة


وأمّا في غيره فأصالة التطابق هو المرجع.

وإلى ذلك المعنى أشار المحقّق الخراساني بقوله : « قاعدة ».

مخالف للظهور أو مخالف للحجّية

وبما ذكرنا ظهر انّ المخصص المتصل لاقترانه بالعام يمنع عن انعقاد ظهور الكلام في العموم ، لأنّ الأخذ بالظهور إنّما يتمّ إذا فرغ المتكلّم عن كلامه ، فمادام هو يتكلّم فله أن يُلحق بكلامه من القيود ما شاء ، وعليه إذا قال : أكرم كلّ رجل فهو وإن كان ظاهراً في العموم نتيجة استعماله فيه بالإرادة الاستعمالية لكنّه ظهور بدوي غير مستقر ، ولا يستقر إلا بفراغ المتكلّم عن كلامه والمفروض انّه أتى بالقيد في كلامه بلا فصل ، وهذا ما يقال انّ المخصص المتصل يزاحم ظهور العام فيه ومعه لا تصل النوبة إلى الحجّية ، لأنّها فرع انعقاد الظهور والمفروض انّه لم ينعقد إلا في الخصوص ، وفي الحقيقة لاتخصيص فيه.

هذا بخلاف المخصّص المنفصل ، فانّ المفروض انّ المتكلّم فرغ من كلامه ولم يأت بمخصّص فانعقد لكلامه الظهور في العموم ، وظهوره في العموم حجّة ما لم يدلّ دليل أقوى على خلافه ، فإذا قال بعد يومين : لا تكرم فسّاق العلماء ، يقدّم الثاني ، على حجّية العام في العموم لكونه أظهر من الأوّل ، وهذا ما يقال من أنّ المخصص المنفصل يزاحم حجّية العام في العموم ، لا ظهوره فيه ، وذلك لانّ الفصل بين العام والمخصص صار سبباً لانعقاد الظهور للعام في العموم ، والمخصص المنفصل لأقوائيته ، يتصرف في حجّية ظهور العام فيه لا في أصل الظهور.

فخرجنا بالنتيجة التالية :


إنّ العام المخصّص بالمتصل ينعقد ظهوره من أوّل الأمر في الخصوص ، أي العنوان المركّب « العلماء العدول » فلا تخصيص فيه حقيقة ، وأمّا المنفصل ، فلأجل انفصال المخصّص ينعقد ظهور الكلام في العموم ، ومجيء المخصص المنفصل لا يهدم ظهوره في العموم ، وإنّما يهدم حجّيته في مورد المخصص فترفع اليدُ عن حجّية الظهور في مورده.


الفصل الثالث

العام المخصص حجّة في الباقي

هل العام المخصص حجّة في الباقي ، سواء أكان متّصلاً كما إذا قال : أكرم العلماء العدول ، أم منفصلاً كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعد فترة قبل العمل بالعام : لا تكرم فسّاق العلماء ، فإذا شكّ في خروج غير الفسّاق من العلماء ، كخروج النحاة والصرفيين والعروضيين العدول ، فهل يكون العام حجّة في حقّهم فيجب إكرامهم إلى أن يعلم الخلاف؟ أو يتوقّف فيها ويكون المرجع ، الأُصول العملية ـ إذا لم يكن دليل اجتهادي ـ غير العام؟

فيه خلاف والمشهور هو الحجية وربما نسب إلى أهل السنّة عدم الحجّية وربما يفصل بين المتصل والمنفصل بحجّيته في الأوّل دون الثاني.

ثمّ إنّ الفرد الذي يتمسّك فيه بالعام تارة تكون فيه الشبهة حكمية وأُخـرى موضوعية ، أمّا الأُولى فكما مثلنا فإذا احتملنا خروج النحوي العادل أيضاً عن تحـت العام كالفاسق ، فهل العام حجّة في حقّه أو لا؟ وهذا ما عبر عنه المحقّق الخراسـاني بقوله : « فيما علم عدم دخوله في المخصص » وأمّا الثانية فكما إذا علمنا أنّ زيـداً عالم ولكن نشك في أنّه فاسق أو لا ، فهل يجوز التمسّك فيه بالعام أو لا؟ وهـذا ما يعبـّر عنـه بالشبهة المصداقيـة للمخصص ، وسيوافيك الكلام فيـه في الفصل القـادم ، لا في هذا الفصل ، وإليه يشير المحقّق الخراساني بقوله :


« وما احتمل دخوله فيه أيضاً ».

ولا يخفى انّ الإشارة إلى هذا القسم في أوّل الفصل مع أنّه راجع إلى الفصل الآتي يوجب تشويش الذهن ، والمعروف عدم حجّية العام في الشبهة المصداقية للمخصص مطلقاً ، سواء أكان المخصص متصلاً أو منفصلاً. والأولى التركيز على القسم الأوّل وإرجاع البحث في الثانية إلى الفصل القادم.

دليل القائل بعدم حجّية العام في الباقي

استدلّ المخالف بعدم الحجّية بأنّ العام المخصص مستعمل في غير ما وضع له ، وبما انّ للمعنى المجازي مراتب مختلفة حسب مراتب الخصوصيات ، يكون تعيين الباقي ( عامة الأفراد سوى المخصّص ) ترجيحاً بلا مرجّح.

وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه نأتي بها :

١. انّ الباقي أقرب المجازات ، فإذا تعدّدت الحقيقة فأقرب المجازات أولى.

يلاحظ عليه : بأنّ المراد من الأقربية هي الأقربية من حيث أُنس الذهن به لا الأقربية من حيث العدد والكثرة ، فإذا قيل : رأيت أسداً في الحمام ، وامتنعت الحقيقة ودار أمر اللفظ بين حمله على الرجل الشجاع أو الرجل الأبخر ( الرجل الذي في فمه رائحة كريهة كما هو الحال كذلك في الأسد ) ، يحمل على الأوّل ، لكثرة أُنس الذهن به في المحاورات دون الثاني ، ولذلك يقول الشاعر :

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

٢. ما ذكره الشيخ الأنصاري بعد تسليم مبنى المستدل ، ـ التخصيص يوجب المجازية ـ وحاصله : انّ دلالة العام في كلّ فرد من أفراده ، غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عدم


شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لأنّ المانع في مثل العام إنّما هو يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره فلو شكّ فالأصل عدمه.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :

أ. حمله على الباقي ترجيح بلا مرجّح

إذا كانت دلالة العام على كلّ فرد ، ضمن دلالته على العموم والشمول ، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في غيره وكان الغير ذا مراتب مختلفة ، وإرادة كلّ مرتبة أمراً ممكناً محتملاً ، فحمله على مرتبة خاصة ( الباقي كلّه ) يكون ترجيحاً بلا مرجّح.

ب. فقد المقتضي للحمل

إنّ ظهور العام المخصص في الباقي رهن أحد أمرين أمّا الوضع أو القرينة ، والمفروض انتفاء الأوّل لافتراض انّه ليس بموضوع للباقي ، كما أنّ الثانية أيضاً كذلك ودلالته على كلّ فرد على حدة في ضمن دلالته على العموم لا يوجب بقاء الدلالة مع انتفاء الثانية ، فانّ الدلالة التبعية فرع بقاء الدلالة الأصلية ، فإذا انتفت الثانية ، انتفت الأُولى وعلى هذا فلا مقتضي للحمل على الباقي فقوله : « لو شكّ فالأصل عدمه » صحيح لكنّه إذا كان هنا مقتض للدلالة ، وقد عرفت عدمه.

وقد قام المحقّق النائيني بالدفاع عن مقالة الشيخ حيث قال : إنّ هناك دلالات عرضية فإذا سقطت إحداها عن الحجّية بقيت غيرها من الدلالات على حجّيتها ضرورة أنّه إذا لم تكن دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد ، دخيلة في دلالته


على ثبوته لفرد آخر ، لم يكن خروج فرد ما عن الحكم ، منافياً لبقاء دلالته على حكم الفرد الآخر ، فخروج بعض الأفراد إذا استلزم المجاز ، لا يوجب ارتفاعَ دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمّها المخصِّص. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه ماذا يريد من الدلالات العرضية؟ هل يريد منها ، الدلالات العرضية المستلزمة للأوضاع المستقلّة كالمشترك اللفظي؟ فهو غير صحيح جدّاً ولا يلتزم به القائل ، إذ ليس لفظ العام موضوعاً بأوضاع متعدّدة.

وإن أراد الدلالات العرضية الضمنية ، في ضمن دلالة لفظ العام على الكل ، ففيه انّه إذا سقطت الدلالة الثانية لأجل كون العام مستعملاً في غير معنى الكلّ حسب الفرض ، تبطل الدلالات التبعية.

إلى هنا تبيّن انّ الجوابين عن استدلال الخصم ، غير ناهضين لقلعه.

٣. إجابة المحقّق الخراساني عن الاستدلال

انّ المحقّق الخراساني استعان في رد الدليل بما أسّسه في الفصل السابق ، من إنكار المجازية في العام المخصص ، لا في متصله ولا في منفصله.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من حديث تعدد الدالّ والمدلول وأنّ كلّ لفظ من ألفاظ « أكرم كلّ عالم عادل » في معناه لا أنّ لفظ « كل » استعمل في مجموع المعنى ، وعلى ضوء هذا فالعام حجّة في الخصوص ـ حسب تعبير الكفاية ـ والمراد من الخصوص أي العنوان المركب فكلّ من صدق عليه عالم عادل وإن كان نحوياً أو عروضياً أو لغوياً يجب إكرامه بحجّة هذا الدليل. ولا يعتدّ بالشكّ في النحوي العادل بعد شمول عنوان العام له.

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٥٢.


وأمّا المنفصل فلما عرفت من حديث تعدد الإرادتين وأنّ العام استعمل حسب الإرادة الاستعمالية أو التفهيمية في معناه العام ثمّ أخرج عنه بعد فترة ما لم تتعلّق به الإرادة الجدية وقيل لا تكرم العالم الفاسق ، فالمخصص باعتبار انفصاله عن العام لا يزاحم ظهور العام ، بل يبقى ظهوره بحاله وإنّما يزاحم حجيّة العام لكن في مورده الخاص وهو الفسّاق ، وأمّا في غير هذا المورد فالظهور حجّة يجب الأخذ به في عامة الموارد غير الفسّاق. وذلك ببركة الأصل العقلائي وهو تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها ظهور العام مع الإرادة الجدية إلا ما خرج بالدليل ، فهذا الأصل السائد بين العقلاء يبعثنا على الأخذ بالظهور في كلّ مقام لم يكن قرينة على خلافه.

فإن قلت : إنّ الإرادة الاستعمالية إنّما تكون حجّة إذا لم ينكشف خلافها ، ومع قيام الدليل الخاص ، الكاشف عن عدم تطابقهما لا اعتبار بهذه الإرادة.

قلت : إنّ الأصل العقلائي بمعنى أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجديّة ، جار في كلّ واحد واحد من أفراد العموم التي تعلّق بها الحكم ، وليس هنا أصل واحد حتى يكون الوقوف على عدم تطابقهما في مورد أو صنف ، مانعاً عن جريانها فهناك حسب الأفراد والآحاد أُصول يدل على تطابقهما ولأجل ذلك ترى العقلاء لا يشكّون في حجّية العام في الباقي وإن عُلم خروج فرد أو صنف.

وحاصل الكلام : انّ المخصّص المتّصل يُزاحم ظهورَ انعقاد الظهور في العموم ، ولذلك قلنا بكونه حجّة في الخصوص أي العنوان المركّب ، وأمّا المخصص المنفصل فلأجل انفصاله زماناً لا يبطل ظهور العام ، بل هو باق في


ظهوره لكنّه يبطل حجّية العام في مورد الخاص ترجيحاً للأظهر على الظاهر أو النصّ على الأظهر فإذا كان الظهور غير منثلم ، الكاشف عن وجود الإرادة الاستعمالية فالأصل الثابت بين العقلاء تطابق الإرادتين إلا ما خرج بالدليل. وتكون نتيجته هو حجّية الظهور في كلّ موضوع شكّ في خروجه عن تحت العام.


الفصل الرابع

في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً

إذا كان المخصّص مجملاً في مورد ، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام في نفس ذلك المورد أيضاً أو لا؟ وبعبارة أُخرى إذا كان إجمال المخصص مانعاً عن التمسّك به في مورد ، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام فيه أيضاً أو لا؟ وأمّا حجّية العام في غير ذلك المورد أو حجّية الخاص في مصداقه القطعي فلا كلام فيها ، وليست مطروحة في المقام.

مثلاً إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعد فترة : لا تكرم فسّاق العلماء ، وتردد مفهوم الفسق بين خصوص مرتكب الكبيرة فقط ، أو الأعمّ منها ومن الصغيرة ، فإجمال المخصص مانع عن كونه حجّة في مورد مرتكب الصغيرة ، وهل إجماله يمنع عن حجّية العام في مورده ، حتّى تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، أو لا يكون مانعاً عنه ، فيحتجّ في مورد مرتكب الصغيرة بالعام ويحكم بوجوب إكرامه.

هذا هو محور البحث في المقام ، وما اخترناه في العنوان يناسب ما هو المقصود من عقد هذا الفصل.

وفي كلمات القوم عنوانان آخران :

١. في سراية إجمال المخصص إلى العام وعدمها.


٢. التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية للمخصص.

وأمّا صور المسألة فلا تتجاوز عن أربع ، لأنّ المخصص إمّا متّصل أو منفصل ، وإجمال المخصص تارة يستند إلى دورانه بين الأقلّ والأكثر ، أو بين المتبائنين ، وإليك رؤوس الصور على وجه التفصيل :

١. المخصص المتّصل ودوران الأمر بين الأقل والأكثر.

٢. المخصّص المنفصل ودوران الأمر بين الأقل والأكثر.

٣. المخصّص المتصل ودوران الأمر بين المتبائنين.

٤. المخصّص المنفصل ودوران الأمر بين المتبائنين.

وليعلم أنّ المخصص المجمل تارة يكون لفظياً وأُخرى لبيّاً ، كما أنّ إجماله تارة يكون في المفهوم وأُخرى في المصداق ، والبحث في المقام مركّز على المخصص اللفظي ـ دون اللّبي ـ وعلى المفهومي ، دون المصداقي.

أمّا اللبي فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني.

إذا وقفت على رؤوس الصور فلنذكر أحكامه :

١. المخصص اللفظي المتصل الدائر بين الأقلّ والأكثر

إذا كان المخصص اللفظي متصلاً بالعام ودار أمره بين الأقل والأكثر كما إذا قال : « أكرم العلماء غير الفسّاق » فيسري إجمال المخصِّص إلى العام ، ولا يحتجّ به في مورد الشكّ ( مرتكب الصغيرة ) واستدلّ عليه المحقّق الخراساني بقوله : « فلعدم انعقاد الظهور للعام أصلاً ، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقل والأكثر ». (١)

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٢٩.


تفصيله هو ما مرّ في الفصل الماضي من أنّ المخصص المتّصل ، يعارض ظهور العام ، فلا ينعقد له ظهور في العموم ، حتّى يتمسك به في مورد الشكّ ( أعني : مرتكب الصغيرة ) بل ينعقد ظهوره في الخصوص ، أي العنوان المركب ، أي : « العلماء غير الفسّاق » ، فكما يجب في مقام الاحتجاج إحراز كونه عالماً ، هكذا يجب إحراز كونه غير فاسق ، والمفروض انّه غير محرز ، لإجمال مفهوم الفاسق وتردده بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فعلى الأوّل فهو من مصاديق غير الفسّاق ، دون الثاني ، ومعه كيف يمكن أن يتمسّك بالدليل الذي لم يحرز موضوعه؟

فإن قلت : إنّما يصحّ هذا إذا كان المخصّص بلسان الوصف كالمثال الماضي ، وأمّا إذا كان بلسان الاستثناء كما إذا قال : أكرم العلماء إلا الفساق منهم ، فالموضوع هو العالم ، والمفروض انّه محرز بعامة أجزائه.

قلت : إنّ الموضوع وإن كان هو العلماء ، لكن الاستثناء جعل العام حجّة في غير مورد الفسّاق ، فالعام حسب الموضوع وإن كان محرزاً ، لكنّه بما هو حجّة فيه غير محرز.

وبعبارة أُخرى : الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية وإن كان محرزاً ، لكنّه حسب الإرادة الجدية غير محرز لتعلّقها بشهادة الاستثناء ، بغير الفسّاق من العلماء ، وإنّما يحتجّ بالإرادة الاستعمالية إذا أحرزت مطابقتها مع الإرادة الجدية ، لكنّها بعدُ غير محرزة ، إذ لو كان مرتكب الصغيرة غير معدود من الفسّاق فالتطابق في مورد مرتكب الصغيرة محقّق محرز ، دونما إذا كان معدوداً منهم.

٢. المخصص اللفظي المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر

إذا كان المخصص اللفظي ، منفصلاً عن العام ، بحيث لا يزاحم ـ لأجل


انفصاله ـ انعقادَ ظهوره في العموم ، وإنّما يزاحم حجّيته فيه كما مرّ ، ودار أمـره بين الأقل والأكثر ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعـد فترة : « لا تكرم فسّاق العلماء » فهل يسري إجماله إلى العام أو لا؟ ذهب المحقّق الخراسـاني وتبعه السيّد الأُستاذ ـ قدّس سرّهما ـ إلى عدم سرايته إلى العام ، وأنّ العـام يكون حجّة في مورد الشكّ ، كمرتكب الصغيرة ، والفرق بينه وبين المتّصـل حيث قلنا بعدم حجّية العام فيه هو انعقاد ظهور اللفظ في العموم وبالتالي شموله لكلّ فرد حتّى مرتكب الصغيرة ، هذا من جانب ومن جانب آخر الأصـل تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها الظهور في مورد مرتكب الصغيرة مع الإرادة الجدية فيكون العام حجّة في الفرد المشكوك ، وأمّا المخصص اللفظي المنفصل فهو وإن كان حجّة قطعية في مورد الكبيرة ، لكنّه في مورد الصغيرة مشكوك الحجيّة ، فلا يجوز رفع اليد عن الحجّة القطعيّة بالحجّة المشكوكة.

وإلى هذا الدليل يشير المحقّق الخراساني بقوله :

« إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملاً بأن كان دائراً بين الأقل والأكثر وكان منفصلاً فلا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة ولا حكماً ، بل كان العام متبعاً فيما لا يُتبع فيه الخاص ، لوضوح انّه حجّة فيه بلا مزاحم أصلاً ضرورة انّ الخاص إنّما يزاحمه فيما هو حجّة على خلافه تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر لا فيمالا يكون كذلك ». (١)

وقال السيد الأُستاذ 1 : ولا يقاس ذلك بالمتصل المردد بين الأقل والأكثر ، إذ لم ينعقد للعام هناك ظهور قط إلا في المعنون بالعنوان المجمل ومرتكب الصغيرة

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٣٩.


مشكوك الدخول في العام هناك من أوّل الأمر ، بخلافه هنا فانّ ظهور العام يشمله قطعاً.

والذي يدلّ على ذلك أنّه لو كان المخصّص المنفصل المجمل حكماً ابتدائياً من دون أن يسبقه العام لما كان حجّة إلا المقدار المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام. (١)

أقول : إنّ ما أسّسه المحقّق الخراساني 1 ، من أنّ المخصّص المنفصل لا يهدم ظهور العام ولا يعارضه فهو حجّة إلى أن يثبت خلافه ، صحيح فيما إذا شكّ في أصل التخصيص أو في التخصيص الزائد ، كما إذا شكّ في تخصيصه وراء الفسّاق ، بالنحاة أيضاً.

وأمّا إذا شكّ في سعة المخصّص القطعي وضيقه ، فالظهور المنعقد للعام لا يحتجّ به كما هو الحال كذلك في جانب المخصص المجمل الدائر بين الأقلّ والأكثر.

توضيحه : انّ الاحتجاج بالعام في مورد الصغيرة يعتمد على أحد أمرين :

١. الظهور في العموم.

٢. تطابق الإرادة الاستعمالية في موردها مع الإرادة الجدية.

وكلاهما لا ينجعان.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الاحتجاج به لأجل كشفه عن الإرادة الجدّية ، وإلا فالظهور بما هو ظهور ، ليس بحجّة ، وعندئذ فلو شكّ في أصل التخصيص ، كما إذا شكّ في ورود تخصيص ثان على العام ، كعدم إكرام النحاة ، فيحتجّ بعموم العام وظهوره

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٤٧٣.


في الشمول كشفه عن وجود الإرادة الجدية في مورد النحاة.

وأمّا إذا كان التخصيص قطعياً وكان الشكّ في سعته وضيقه ـ كما في المقام ـ حيث شكّ في شمول « الفسّاق » لمرتكب الصغيرة وعدمه ، ففي مثله لا يحتجّ بالظهور المنعقد للعام في العموم ، لأنّه إنّما يحتجّ به إذا كان كاشفاً عن الإرادة الجدية ، وقد علم خلافه ـ بعد ورود المخصص ـ حيث إنّ المخصص كشف عن تعلّق الإرادة الجدية ، بغير الفسّاق ، والظهور كشف عن تعلّقها بمطلق العلماء ومع هذه المخالفة لا يحتج بالظهور المنهار.

نعم لو شكّ في تخصيص زائد ـ وراء الموجود ـ يحتجّ به ، لأنّ سقوط ظهوره في مورد ( الفسّاق ) لا يصير دليلاً على سقوطه في مورد آخر لا صلة بينهما ، كما في مورد النحاة.

وأمّا الثاني ، أعني : الاحتجاج بأصالة التطابق في الإرادتين ، فهو أيضاً كالاحتجاج بالظهور ، لأنّها ليست أصلاً تعبدياً ، بل أصلاً عقلائياً كاشفاً عن وجود الإرادة الجدية ، في كلّ مورد تعلّقت به الإرادة الاستعمالية ومع صدور المخصص المنفصل ، وتطرق الشك في دخول الصغيرة تحت العام أو المخصص به فلا يصلح الأصل المزبور ، للاحتجاج لزوال الوثوق بعموم العام خصوصاً عدم استلزام الخروج عن تحت العام ، تخصيصاً آخر ، بل هنا تخصّص واحد ، كانت الصغيرة باقية تحته أو خارجة.

وبهذا البيان عدل شيخنا الأُستاذ ( مد ظلّه ) عمّا بنى عليه في الدورات السابقة حيث استقرّ نظره أخيراً على أنّ إجمال المخصص المنفصل يسري إلى العام حكماً.

وممّا ذكرنا يظهر عدم تمامية ما أفاده السيّد الأُستاذ من أنّه لو كان


المخصص المنفصل حكماً ابتدائياً من دون سبق العام لما كان حجّة إلا في القدر المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام؟

وذلك لأنّه لا ملازمة بين عدم الحجّية وبين عدم المانعية عن الاحتجاج بالعام ، فالأوّل مسلم إذ ليس المخصص حجّة في المشكوك ولكن الثاني غير معلوم ، فانّ المنفصل المجمل يصير كالقرينة الحافة بالكلام التي توجب إجمال الكلام.

وما ذكرنا هو الوجه في التوقّف في العمل بالعام ، وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري وإن عدل عنه في هامش كتابه ، قال : إذا صارت عادة المتكلم جارية على ذكر المخصص منفصلاً عن كلامه ، فحال المنفصل في كلامه ، حال المتصل في كلام غيره ، فيحتاج في العمل بالعام إلى أحد أمرين :

١. القطع ببقائه تحت العام.

٢. الأصل.

أمّا الأوّل فغير موجود ، وأمّا الثاني فجريانه مخصوص بمورد لم يوجد فيه ما يصلح لأن يكون مخصصاً. (١)

ثمّ إنّه 1 عدل عمّا ذكر في الهامش ، وحاصله : انّه لو صحّ ما ذكر لما جاز تمسّك أصحاب الأئمّة بكلام إمام زمانهم ، لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلم قبل مجيء ذيله ، مع أنّ ديدنهم جرى على التمسّك.

يلاحظ عليه : أنّه لم يثبت انّهم كانوا يتمسّكون بعموم العام ، مع احتمال

__________________

١. درر الفوائد : ١ / ٢١٥ ، ط جماعة المدرسين.


مجيء مخصص في كلام الإمام اللاحق ، فانّ أكثر الروايات المتضمنة للأحكام صدر عن الصادقين ، ولم يثبت انّ نظائر زرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما من أصحاب الإمامين كانوا يتمسّكون مع احتمال صدور مخصص في كلام الأئمّة الباقين ، ولأجل ذلك كان الأصل حاكماً.

إلى هنا تمّ بيان أحكام القسمين في المخصّص المتصل والمنفصل من أقسام دوران المخصّص بين الأقل والأكثر وبقي الكلام في أحكامهما من أقسام دوران الأمر بين المتبائنين.

٣. المخصص اللفظي المتصل الدائر أمره بين المتبائنين

إذا دار أمر المخصص اللفظي المتصل بين المتبائنين ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلا زيداً وتردد المستثنى بين شخصين أحدهما زيد بن عمر والآخر زيد بن بكر ، يسقط الاحتجاج بالعام في مورد كلّ من الشخصين ، لما عرفت في المخصص المتصّل الدائر أمره بين الأقل والأكثر من أنّ اتصال المخصّص يمنع عن انعقاد الظهور للعام في العموم ، بل ينعقد ظهوره في الخصوص من أوّل الأمر ، أي في العنوان المركب من العلماء وغير الفسّاق ، فكما يجب إحراز كون المورد عالماً يجب إحراز كونه غير فاسق ، وفي المقام أيضاً كذلك فكون المورد عالماً وإن كان محرزاً لكن لم يحرز الجزء الآخر لأجل الجهل بالمفهوم.

٤. المخصّص اللفظي المنفصل المجمل الدائر أمره بين المتبائنين

إذا كان المخصص اللفظي المنفصل ، مجملاً مفهوماً مردداً بين المتبائنين ، كما إذا قال : أكرم العلماء ولا تكرم زيداً العالم ودار أمره بين زيد بن عمرو وزيد


بن بكر العالمين ، فهل يسري أو لا؟ الحقّ أنّه يسري حكماً ، بمعنى أنّه لايكون العام حجّة في حقّ هذين الشخصين ، للعلم التفصيلي بسقوط العام عن الحجّية في حقّ أحدهما ، ومعه كيف يمكن أن يكون العام حجّة في مورد أحدهما أو كليهما؟! وعلى ذلك يجب إعمال قواعد العلم الإجمالي ، فلو كان لسان المخصص رفع الوجوب يجب إكرام كلا الرجلين حتّى تحصل البراءة ، وإن كان لسانه تحريم الإكرام يدور الأمر بين المحذورين فيعمل بحكمه من التخيير أو القرعة.

إلى هنا تمّ الكلام في المخصص اللفظي المجمل مفهوماً وأمّا الكلام في المخصص اللبي المجمل مفهوماً فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني ، وإنّما بحث فيه في الشبهة المصداقية لا في الشبهة المفهومية.

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ إجمال المخصّص اللفظي يسري إلى الأقسام في عامة الصور متصلاً كان أو منفصلاً ، دار أمر الإجمال بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين.

إذا علمت ذلك فلندخل في الإجمال المصداقي الذي يعبر عنه بالشبهة المصداقية للمخصّص ، ولنعقد له فصلاً مستقلاً كما عقدناه للمجمل مفهوماً.


الفصل الخامس

المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً

إذا كان المخصص مجملاً من حيث المصداق لا من حيث المفهوم ، كما إذا قال : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، وكان المخصص معلوماً مفهوماً وإنّما تعلّق الشكّ بالمصداق وانّ زيداً العالم مثلاً هل هو فاسق أو لا؟ وهذا هو المسمّى بالشبهة المصداقية للمخصص وموردها ما إذا كان عنوان العام محرزاً وعنوان الخاص مشكوكاً كما عرفت ، وأمّا إذا كان نفس عنوان العام مشكوكاً وأنّ زيداً مثلاً عالم أو لا ، فهذا ما يسمّى بالشبهة المصداقية للعام ، وهذا خارج عن محط البحث ، ومن المعلوم أنّ العام ليس بحجّة فيه.

وكان اللازم على المحقّق الخراساني أن يقسّم المخصّص اللفظي ـ في الشبهة المصداقية ـ إلى مخصص متصّل ، ومخصص منفصل ، ثمّ إنّ الشبهة في كلّ من المتّصل والمنفصل تارة تدور بين الأقلّ والأكثر ، وأُخرى بين المتبائنين فتصير الأقسام أربعة كالشبهة المفهومية ، لكنّه 1 سلّم عدم جواز التمسّك في المتصل مطلقاً ، وفي المنفصل صورة دوران الأمر بين المتبائنين خص البحث بصورة واحدة وهي صورة انفصال المخصص ، ودوران الإجمال بين الأقل والأكثر ، ونحن أيضاً نقتفيه.

ثمّ إنّ المشهور بين القدماء هو جواز التمسّك كما سيوافيك كلامهم عند


التطبيقات ووافقهم من المتأخرين المحقّق النهاوندي ( المتوفّى ١٣١٧ ) في كتاب « تشريح الأُصول » والمعروف بين المتأخرين هو عدم الجواز ، ولنذكر أدلة المجوزين ، حيث استدلّوا بوجوه :

الأوّل : مزاحمة الحجّة بغير الحجّة

انّ الخاص إنّما يزاحم العام فيما كان فعلاً حجّة ( ما علم أنّه مصداق له كمعلوم الفسق ) ، ولا يكون حجّة فيما اشتبه انّه من أفراده فخطاب : « لا تكرم فسّاق العلماء » لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم مثل أكرم العلماء ولا يعارضه ، فانّه من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة. (١)

حاصله : انّ الحجّة عبارة عن ضم الكبرى إلى صغرى محرزة فيقال هذا خمر ، وكلّ خمر حرام ، وأمّا المقام فالكبرى ( لا تكرم فسّاق العلماء ) وإن كانت محرزة لكن الصغرى ( كون زيد فاسقاً ) غير محرز ، فلا يحتجّ بالخاص فيه ، وهذا بخلاف جانب العام ، فانّ الحجّة بكلا جزئيها محرزة حيث نعلم أنّه عالم ، وكلّ عالم يجب إكرامه ، فرفع اليد عن الثاني من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال بقوله : « إنّ الخاص وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً ، إلا أنّه يوجب اختصاص حجّية العام في غير عنوانه ( الخاص ) من الأفراد ، فيكون أكرم العلماء دليلاً وحجّة في العالم غير الفاسق ، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام ، إلا أنّه لم يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة لاختصاص حجّيته بغير الفاسق.

وبالجملة : العام المخصّص بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم كما إذا لم

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٤٢ ، ولاحظ تشريح الأُصول للمحقّق النهاوندي : ٢٦١ ـ ٢٦٢.


يكن مخصَّصاً ، بخلاف المخصص المتصل ، كما عرفت إلا أنّه في عدم الحجّية إلا في غير عنوان الخاص ، مثله فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين فلابد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين ». (١)

وحاصله : انّ الصغرى في كلا الدليلين غير محرزة ، أمّا الخاص فلما عرفت ، وأمّا العام فهناك ملاحظتان ، فالصغرى حسب إحداهما محرزة دون الأُخرى فإن لوحظ العام ، مع قطع النظر عن المخصص المنفصل ، فالصغرى والكبرى محرزتان ، لأنّها في هذا اللحاظ ليست إلا نفس العالم ، وأمّا إذا لوحظ العام بعد تخصيصه به ، فالموضوع يتعنون بقيد عدمي ، ويكون الموضوع هو العالم غير الفاسق ، والجزء الأوّل منها وإن كان محرزاً لكن الجزء الثاني ، أعني : القيد العدمي بعد غير محرز.

وإن شئت قلت : إنّ الموضوع حسب ظهور العام وإن كان محرزاً ، لكنّه بالنسبة إلى ما هو حجّة فيه غير محرز ، لأنّه ليس حجّة في مطلق العلماء ، بل العلماء غير الفسّاق.

وبعبارة ثالثة : انّ الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية محرز ولكنّه بالنسبة إلى الإرادة الجدية غير محرز.

فإن قلت : ما ذكرته خلط بين التقييد والتخصيص فبما انّ لسان التقييد ، لسان بيان حدّ الموضوع وخصوصياته ، يكون سبباً لتركب الموضوع وتعنونه بعنوان القيد ، كما إذا قال :

إذا أفطرت اعتق رقبة ،

ثمّ قال : إذا أفطرت اعتق رقبة مؤمنة.

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣.


فعندئذ يكون متعلّق الإرادة الجدية هو المعنون المركب من شيئين.

وهذا بخلاف التخصيص فانّ شأنه إخراج ما ليس بموضوع عن تحت الموضوع ، فلا يورث إخراج الفسّاق منهم ، تركّب الموضوع من جزءين أحدهما إيجابي ـ أعني : العلماء ـ والآخر سلبي وهو غير الفسّاق.

قلت : إنّ ما ذكرته من الفرق بين التقييد والتخصيص إنّما يصحّ إذا كان الإخراج إفرادياً ، كأن يُخرج زيداً ، وعمراً وهكذا على التفصيل ، وأمّا إذا كان الإخراج بملاك وتحت عنوان كالفسّاق مثلاً ، فلا محالة يكون العام في مقام الحجّية ، معنوناً بغير عنوان الخاص ، أي العلماء غير الفسّاق.

نعم يظهر من المحقّق العراقي ، انّ التخصيص ، لا يُضفي على العام أي عنوان ، وانّ إخراج بعض الأفراد ، بعنوان خاص ـ كالفسّاق ـ أشبه بإخراجهم عن تحته بالموت ، حيث قال : إنّ شأن المخصّص إخراج الفرد مع إبقاء العام على تمام الموضوعية ، وإنّما يُقلِّل افراد العام دون انقلاب فيه نظير موت بعض الأفراد. (١)

وأنت خبير بأنّه خلط بين التخصيص الإفرادي ، والتخصيص العنواني الحاكي عن ملاك الإخراج ، فعندئذ يكون العام حجّة في غير عنوان الخاص كما أوضحناه.

الثاني : التمسّك بالعموم الأحوالي

إنّ العام بعمومه الافرادي يدلّ على وجوب كلّ فرد من العلماء كما أنّه بعمومه الأحوالي يدلّ على سراية الحكم إلى كلّ حال من حالات الموضوع ، وهي عبارة عن كونهم عدولاً أو فسّاقاً ، أو مشكوكي العدالة ، فقد خرج الثاني عن

__________________

١. مقالات الأُصول : ١ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥.


تحت العموم بفضل المخصص ، وبقي الثالث تحت العموم الأحوالي للدليل.

يلاحظ عليه أوّلاً : ـ مضافاً إلى ـ أنّ العموم الأحوالي هو نفس الإطلاق الأحوالي والتعبير عن الثاني بالأوّل خلاف الاصطلاح ، انّه ليس الإطلاق هو تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع وأخذها فيه ، بأن يقال : إنّ العالم واجب الإكرام ، سواء كان معلوم الفسق ، أو مشكوك ، أو مقطوع العدم حتّى يرجع الإطلاق إلى ضم القيود ، مع أنّه رفض القيود ، بل الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع وهو في المقام هو لفظ « العالم » فقط لاجعل الفرد واجب الإكرام في الأحوال الثلاثة.

وثانياً : أنّ العموم الأحوالي فرع العموم الافرادي ، فلو علم بقاء فرد تحت العام يشمله الحكم في الأحوال الثلاثة ، وأمّا إذا شكّ في بقائه أو خروجه ، كما هو الحال في المقام ، لأنّ المورد على فرض من مصاديق المخصص ، نشك في وجود العموم الأحوالي حتّى يحتجّ به.

وثالثاً : إنّما يصحّ التمسّك بالعموم الأحوالي ، إذا كان الشكّ مأخوذاً في لسان الدليل ، بأن يقال : انّ العالم واجب الإكرام حتّى ولو شكّ في كونه فاسقاً أو غير فاسق ، مع أنّه ليس كذلك وإلا يلزم أن يكون مبيّناً لحكمين : واقعي وظاهري ، أمّا الأوّل فالحكم على العالم بما هو هو ، والحكم عليه ، بما انّه مشكوك الفسق والعدالة ، وهذا ممّا لا يحتمله قوله : « أكرم العلماء ».

الثالث : استصحاب حكم العام

هذا الوجه ذكره الشيخ من قبل المجوزين وقال : ويمكن أن يحتجّ للخصم بالاستصحاب فيما لو عمل بالعام في المشكوك بواسطة القطع باندراجه


ثمّ طرأ الشكّ فيه. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الكلام في التمسك بالعام لا بالاستصحاب.

وثانياً : أنّه لا يعمّ الشكوك البدوية ويختصّ بما إذا كان للحكم حالة سابقة.

وثالثاً : انّ طروء الشكّ إلى اليقين يوجب زوال اليقين من أصله ، فعندئذ يخرج المورد عن قاعدة الاستصحاب ويدخل في قاعدة اليقين ، وهي ليست بحجّة ولا تشملها أخبار الاستصحاب ، لأنّها ظاهرة في وجود اليقين الفعلي حين الشكّ والمفروض زواله من عند الشك.

الرابع : التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع

وهذا الوجه أيضاً ذكره الشيخ في المطارح من قبل المجوزين ، قال :

الظاهر عن عنوان العام والمخصص أن يكون الأوّل مقتضياً ، والثاني مانعاً عن الحكم ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشك في وجود المانع بعد إحراز المقتضي والأصل عدمه فلابدّ من الحكم بوجود المقتضي. (٢)

يلاحظ عليه : أنّه لم يدلّ دليل على حجّية قاعدة « المقتضي والمانع » ، نعم قال بحجّيتها العلامّة الشيخ محمد هادي الطهراني 1 وبالغ في تشييدها ، بتطبيق أخبار الاستصحاب عليها ، وقد أوضحنا في محلّه ضعف التطبيق.

أضف إلى ذلك : انّه ربّما لا يكون لسان المخصّص ، لسان المانع ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : وليكن العلماء عدولاً ، والشكّ في عدالة واحد منهم ، ليس شكّاً في المانع بعد إحراز المقتضي ، بل هو شكّ في جزء المقتضي.

__________________

١ و ٢. مطارح الأنظار : ١٩٧.


المخصّص اللبّي والشكّ في الشبهة المصداقية

المراد من المخصّص اللبيّ ، ما إذا كان الدالّ على الحكم الشرعي ، أمراً غير لفظي ، كالإجماع ، وسيرة المتشرّعة ، وحكم العقل ، مثلاً لو دلّ الدليل اللفظي على إكرام الجيران وحصل القطع للمكلّف على عدم وجوب إكرام الأعداء منهم ، يسمّى مثل ذلك تخصيصاً لبيّاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني خصّ ذكر المخصّص اللبي بهذا الفصل ، أعني : الشبهة المصداقية ، ولم يذكره في فصل الشبهة المفهومية مع إمكان جريانه فيها ونحن أيضاً نقتفيه.

ونقول : إنّ المخصّص اللبيّ في الشبهة المصداقية تارة يكون متّصلاً بالحكم العام ـ كحكم العقل ـ وأُخرى منفصلاً ، كالإجماع والسيرة ، وعلى كلا الوجهين فتارة يكون الإجمال دائراً بين الأقل والأكثر ، وأُخرى بين المتبائنين ، والأمثلة نفس الأمثلة.

وعلى ضوء ما ذكر يسري الإجمال إلى العام ، في متصله ومنفصله ، في الدائر بين الأقل والأكثر أو الدائر بين المتبائنين ، ووجهه انّ المخصص جعل العام حجّة في غير عنوان الخاص والعام بعنوانه وإن كان محرزاً ، لكنّه بما هو حجّة فيه ، أعني : الجار غير العدو ، غير محرز.

لكن الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني أجازا التمسّك بالعام في صورة واحدة ، وهي إذا دار إجمال المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر مصداقاً وأوضحه في « الكفاية » بما يلي :

وأمّا إذا كان لبيّاً بأن كان ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد


البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص ، وإن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجّيته كظهوره فيه.

والسرّ فيه انّ الكلام الملقى من السيد حجةً ، ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلابد من اتّباعه مالم يقطع بخلافه ، مثلاً إذا قال المولى : أكرم جيراني وقطع بأنّه لايريد إكرام من كان عدواً له منهم وشكّ في عداء بعض الجيران ـ كانت أصالة العموم باقية على الحجّية بالنسبة إلى من لم يُعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم (١) بعداوته لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك على خلافه بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظياً ، فانّ قضية تقديمه عليه ، هو كون الملقى إليه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلاً. والقطع بعدم إرادة إكرام العدو ـ لا يوجب انقطاع حجّيته إلا فيما قطع انّه عدوه لا فيما شكّ فيه.

كما يظهر هذا من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة كما لا يخفى.

بل يمكن التمسّك بعموم العام وإثبات انّ المشكوك ليس فرداً لما علم خروجه ، فلو شكّ في جواز لعن شخص من بني أُميّة ـ لاحتمال كونه مؤمناً ـ يتمسّك بعموم : « لعن اللّه بني أُميّة قاطبة » ، فيحكم عليه بأنّه ليس بمؤمن. (٢)

وحاصل كلامه يرجع إلى أُمور ثلاثة :

__________________

١. متعلّق بقوله بخروجه.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٣٤٢.


١. وجود التفاوت بين المخصّص اللفظي بكلا قسميه والمخصّص اللبي ، وهو انّ المولى ألقى حجّتين في الأوّل وصارت قضيةُ تحكيم الخاص على العام ، انّ العام لم يشمل الخاص ( الفاسق ) من رأس ، بخلاف المقام فانّ الحجّة الملقاة ليست إلا أمراً واحداً ، والقطع بعدم إكرام العدو لا يوجب رفع اليد عن عموم الدليل إلا فيما قطع بخروجه.

٢. وجود السيرة العقلائية على صحّة المؤاخذة لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته.

٣. يمكن أن يتمسّك بعموم العام ويحكم للفرد المشكوك أنّه ليس من أقسام الفرد المقطوع خروجه ، كما في مثال : لعن اللّه بني أُميّة قاطبة ، ودلّ النقل على عدم جواز لعن المؤمن منهم ، فلو شكّ في أي فرد من بني أُمية يمكن التمسك بعموم العام وإثبات انّه ليس مؤمناً.

ونتيجة البحث : انّ العام حجّة باق على ظهوره وحجّيته مطلقاً إلا ما علم خروجه.

يلاحظ على الأوّل : بأنّه إذا كان العقل أو السيرة أو الإجماع أحد الحجج الشرعية ، يكون حكمها حكم الحجج اللفظية ، فكما أنّ الثانية تجعل العام حجّة في غير عنوان الخاص ، كذلك الأُولى فكما يجب إحراز كونه عالماً غير فاسق في اللفظي من المخصص كذلك إحراز انّ الجار ليس عدوّ المولى.

وما اعتمد في الدليل من إلقاء الحجّتين هناك واقعاً وحجة واحدة في المقام غير واضح ، بل هو ألقى حجتين في كلا المقامين غاية الأمر قام بالثاني ، مباشرة في اللفظي وبغير مباشرة في اللبي.

يلاحظ على الثاني : بأنّ ما ادّعى من السيرة العقلائية غير محرزة خصوصاً


إذا كان تكريم العدو محرّماً وأمراً مبغوضاً ، فكيف يجزى العبد بإكرامه مع دوران الأمر بين المحذورين؟!

يلاحظ على الثالث : بأنّ إحراز الموضوع ، أعني : بعموم الدليل ، أعني قوله : « لعن اللّه بني أُميّة قاطبة » ، عدم كون الفرد المشكوك مؤمناً ، بأنّه مبني على حجّية مثبتات الأُصول اللفظية حتى تثبت بأصالة العموم كون الفرد المشكوك كافراً غير مؤمن ، وهو موضع تأمّل.

وعلى فرض الصحّة فما ذكر إنّما يتأتّى إذا كان التخصيص إفرادياً ، فيكون إخراج الفرد المشكوك تخصيصاً آخر ، فيتمسّك بالعموم لئلاّ يلزم التخصيص الزائد بخلاف ما إذا كان التخصص عنوانياً ، فانّ خروجه وعدم خروجه لا يؤثر في كثرة التخصص وقلته ، كما سيوافيك توضيحه في التفصيل الآتي.

تفاصيل ثلاثة في المسألة

ثمّ إنّ في المسألة ـ جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ـ تفاصيل ثلاث :

١. التفصيل الذي اختاره الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار.

٢. التفصيل الذي أفاده المحقّق النائيني 1.

٣. التفصيل الذي اخترناه في سالف الزمان.

فلندرس تلك التفاصيل بعون اللّه تبارك وتعالى.

١. التفصيل بين مخصّص يوجب التنويع ومالا يوجب

إنّ للشيخ الأنصاري تفصيلاً آخر في المسألة ( حجّية العام في الشبهة


المصداقية ) وحاصله :

أنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين وتنويعهما كالعالم والفاسق ، والعالم غير الفاسق وأُخرى لا يوجب ذلك ، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العام وإن علمنا بأنّه لو فرض بين أفراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه ( لكن انطباق العنوان عليه ارتجالي وليس بملاك للحكم ). فعلى الأوّل لا وجه لتحكيم العام وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظية ، وعلى الثاني يجب تحكيم العام وأغلب ما يكون إنّما هو في التخصيصات اللبيّة. (١)

وما ذكره الشيخ 1 نظرية علمية متقنة ولكن يجب أن نشير إلى وجه الإتقان وظاهر كلام الشيخ انّ الفارق بين القسمين هو كون المخصص لفظياً ، وكونه لبيّاً ، ولكن الفارق الواقعي غيره وإن كان الغالب في المخصص اللفظي هو الأوّل وفي اللّبي هو الثاني ، ويظهر ما ذكرنا بالبيان التالي :

إذا كان التخصيص عنوانياً فلا يصحّ التمسّك بالعام لوجهين :

الأوّل : المخصّص العنواني يجعل العام حجّة في غير الخاص ، ففي ظرف الشبهة المصداقية يكون أحد الجزءين محرزاً والجزء الآخر غير محرز كما مرّ بيانه.

الثاني : انّ التوقف في العمل بالعام في مورد الشبهة المصداقية لا يستلزم تخصيصاً زائداً ، فسواء أصح التمسّك بالعام أم لم يصحّ لا يتوجه إلى العام إلا تخصيص واحد وهو تحت عنوان « الفاسق » ، سواء أكثرت أفراده أم قلّت ، فالتوقف في إكرام زيد العالم مشكوك الفسق لا يكون سبباً لتخصيص زائد وراء ما خصّ به.

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٩٨.


ولأجل هذين الوجهين يتوقّف في العمل بالعام.

وهذا بخلاف ما إذا كان التخصيص أفرادياً بأن يخرج من تحت العام تسعة أشخاص كلّ باسمه وشخصه وشكّ في الفرد العاشر في أنّه هل خرج من العام أو لا؟ ففي ذلك المورد يتمسّك بالعام للوجهين التاليين :

١. انّ التخصيص الافرادي لا يُضفي على العام عنواناً زائداً على ما له من العنوان وإن علمنا دخول من خرج تحت عنوان خاص وهو الفاسق لكنّه في مقام الإثبات ليس بهذا العنوان العام ، بل بلحاظ كلّ فرد منهم ، وعندئذ فالموضوع هو العالم ، سواء أخرج عن تحته أفراد خاصة أم لم يخرج والتخصيص لا يجعل الموضوع مركباً ، وعند ذلك يتمسّك في المصداق المشتبه لانطباق الموضوع عليه غاية الأمر نشك في إخراجه والأصل عدمه.

٢. إنّ التوقّف بالعمل بالعام في التخصيص الأفرادي يوجب كثرة التخصيص ، وذلك لأنّ تخصيص كلّ فرد يعدّ تخصيصاً مستقلاً ، فلو خرج تسعة أشخاص وشكّ في الشخص العاشر فقد خصّ تسع مرات وشكّ في المرة العاشرة ، وعليه فالشكّ في الفرد العاشر شكّ في التخصيص الزائد.

نعم التخصيص في الشريعة الإسلامية إنّما هو على نحو الإخراج العنواني دون الإخراج الأفرادي.

وعلى ما ذكرنا فهذا التفصيل في أصل المسألة ، لا تفصيلاً بين المخصص اللفظي واللبي.

٢. التفصيل بين القيد والملاك

قد عرفت أنّ التفصيل السابق وإن كان بظاهره تفصيلاً بين أقسام


المخصص اللبي لكنّه كان في الواقع تفصيلاً بين المخصّص اللفظي والمخصص اللبي.

وأمّا التفصيل الذي اختاره المحقّق النائيني فهو تفصيل بين المخصصات اللبيّة فهو يفرّق بين المخصص اللبيّ الذي يصلح أن يؤخذ قيداً وعنواناً في العام وبين المخصص اللبيّ الذي لا يصلح لذلك ، بل يكون ملاكاً لحكم العام ، فلا يجوِّز التمسّك بالعام في الأوّل بخلاف الثاني ، وحاصل ما أفاده :

١. انّ المخصص اللبّي لو كان صالحاً لأخذه في عنوان العام وقيداً له كالعدالة في قوله : « فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا » حيث عُلم أنّ العام بعمومه غير مراد ، وقام الإجماع على اعتبار العدالة في الراوي ففي مثله يكون المخصص اللبي كالمخصص اللفظي حيث يصبح موضوع العام مركّباً من قيدين ، أعني : رجلاً عادلاً ، فكما يجب إحراز الجزء الأوّل يجب إحراز الجزء الثاني.

٢. انّ المخصّص اللبي لو كان غير صالح للأخذ في الموضوع ، بل كاشفاً عن ملاك الحكم وعلّته كعنوان « غير المؤمن » و « غير الخيّر » ، ففي مثله يجوز التمسّك بعموم العام وإن شكّ في وجود الملاك ، وذلك لبقاء موضوع العام على بساطته وسعته من دون تقييد ، وأمّا عدم صلاحيته للأخذ في العنوان ، هو انّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصلح للتقييد ، فللحكم ضيق ذاتي بغير المؤمن فكيف يتصوّر فيه السعة ثمّ التقييد؟! بخلاف الفاسق فانّ حكم الإكرام بطبعه يصلح أن يكون عاماً للعادل والفاسق ثمّ يخرج الفاسق ، وهذا بخلاف اللعن فانّه من أوّل الأمر من خصائص غير المؤمن وغير الخير.

فإذا كان غير المؤمن ملاكاً لحكم العام غير مأخوذ فيه يؤخذ بحكم العام في مورد الشكّ لكون الموضوع بسيطاً ( بني أُمية ) وعدم أخذ قيد آخر فيه.


هذا من جانب ومن جانب آخر انّ إحراز الملاك من وظائف المولى ، فإلغاء الحكم بصفة العام كاشف عن إحراز وجود الملاك في عامتهم ، وعندئذ : فلو علمنا بإيمان أموي كخالد بن سعيد بن العاص وإخوته أبان بن سعيد وعمر بن سعيد كان ذلك موجباً لخروجهم من تحت العام ، وانّ المتكلّم أخّر بيانَ إخراجهم لمصلحة فيه.

فعلى ضوء ذلك فلو شككنا في إيمان أحد من بني أُميّة يتمسّك بعموم العام لإحراز الموضوع.

ثمّ إنّ هنا صورة ثالثة وهي انّه إن تردد أمره ولم يحرز كونه قيداً أو ملاكاً فلو كان من الأحكام العقلية الضرورية يمكن الاتّكال عليه فيكون قيداً ، وإن كان نظرياً أو إجماعياً لا يصحّ الاتّكال عليه ، فيلحق بالقسم الثاني فتمسك بالعموم لجواز أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه مع احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ وجود أمثال أبناء سعيد بن العاص أوضح دليل على أنّ حكم العام ليس ملازماً لوجود ملاك اللعن في كلّ فرد فرد.

وعلى ضوء ذلك فنحن نحتمل أنّ سكوت المولى عن الفرد الآخر لنفس العلّة التي لأجلها سكت عن ذكر الثلاثة ، وهي وجود المصلحة في تأخير البيان ، وعند ذلك لا عبرة بعموم العام عند العقلاء ، إذ ليس كاشفاً عن وجود الملاك.

اللّهمّ إلا أن يقال : أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية دليل على وجود الملاك في الجميع إلا ما قام الدليل على فقده.

وثانياً : أنّ موضوع الحكم لا يمكن أن يكون أعمّ من الملاك ، فإذا كان

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥٣٦ ـ ٥٣٩.


الملاك أخصّ من مطلق بني أُمية يجب أن يكون الموضوع أيضاً كذلك ، وليس هذا إلا قيد « غير المؤمن » أو قيد « غير الخير » ونظائرهما ، فعندئذ يلحق الحكم الثاني بالقسم الأوّل في تركّب الموضوع من جزءين :

١. كونه أُموياً ، ٢. كونه غير المؤمن أخذاً بوحدة الموضوع والملاك في السعة والضيق.

وأمّا ما ذكره من أنّ الملاك لا يمكن أخذه في الموضوع ، وذلك لأنّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصحّ تخصيصه بأحد هذين الوجهين ، مدفوع بأنّه خلط بين سعة الحكم حسب الإرادة الاستعمالية وسعة الحكم بالإرادة الجديّة ، فاللعن حسب الإرادة الجديّة وإن كان لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير ولكنّه حسب الإرادة الاستعمالية قابل لأن يعمّ عامة بني أُميّة حتّى المؤمن والخيّر ، وذلك لوجود المقتضي في كلهم إلا من هداهم اللّه ، فعلى ذلك فلا فرق بين كون غير المؤمن ملاكاً للحكم أو مأخوذاً في الموضوع.

وثالثاً : أنّ ما ذكره من الصورة الثالثة ، أعني : ما يتردد بين الملاك وقيد الموضوع مخدوش أيضاً ، لأنّ حاصله أنّه يلحق بالقسم الثاني باحتمالين :

١. احتمال أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه.

٢. احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك.

فهذان الاحتمالان من الظنون التي لم يقم على حجّيتها دليل ، أفيصحّ أن يتمسّك بالعام اعتماداً على هذين الاحتمالين؟!

٣. التفصيل بين ما إذا كان الفساد هو الأصل وعدمه

وهاهنا تفسير ثالث وإن شئت فسمه رابع التفاصيل بضم ما أفاده المحقّق


الخراساني من التفصيل إليه.

وحاصله : انّه إذا كان الحكم الطبيعي للموضوع هو الحرمة والفساد وكانت الحلية والصحّة أمراً طارئاً وعلى خلاف طبع الموضوع ، ففي هذه الموارد لو شكّ في مورد انّه باق تحت حكم العام أو خارج عنه فالعام هو المحكّم حتّى يثبت الخلاف ، وعلى ذلك جرت سيرة علمائنا وإن كان تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

وها نحن نذكر عدّة أمثلة اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على العمل بالعام وإن كانت الشبهة مصداقية :

١. دلّ الذكر الحكيم على وجوب الغض على المؤمنين بالنسبة إلى الجنس غير المماثل ، وإن شئت قلت حرمة النظر إليه ، وقال : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُروجَهُمْ ذلِكَ أَزكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعُون ). (١)

ثمّ إنّه سبحانه خصّص وجوب الغض أو حرمة النظر بالنسبة إلى غير المماثل في سورة النساء بالمحارم الواردة في قوله سبحانه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَناتُ الأَخ ... ) (٢) فإذا ضُمّت الآيتان يتشكل منهما ، عام مخصَّص ، كأنّه سبحانه قال : غضّوا أبصاركم عن المرأة غير المحارم ... ، فلو شكّ في جنس غير مماثل انّه من المحارم ، أو لا ، يكون مرجعه إلى الشكّ في مصداق المخصص فأحد الجزءين محرز وهو كونه مرأة أو جنساً غير مماثل وإنّما الشكّ في الجزء الآخر ، أعني : كونه غير المحارم ، فالدليل الاجتهادي ، أعني : العام ، ساقط ، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فالمرجع

__________________

١. النور : ٣٠.

٢. النساء : ٢٣.


هو حلية النظر ومع ذلك عدل المشهور عن الضابطة وأفتوا بالحرمة أخذاً بحكم العام ، وما ذلك إلا لأنّ الحكم الطبيعي في نظر الرجل إلى المرأة هو الحرمة ، خرج عنه ، موارد معدودة استثنائية فيؤخذ بالحكم الطبيعي للموضوع وهو حرمة النظر ، إلى أن يثبت خلافه.

ولذلك يقول السيد الطباطبائي في العروة : إذا شكّ في كونه مماثلاً أو لا ، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا ، فالظاهر وجوب الاجتناب ، لأنّ الظاهر أنّ وجوب الغض إلى جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم. (١)

وما علَّل به الحكم من الأخذ بقاعدة المقتضي وعدم المانع ليس بتام ، فانّ عدم احراز عنوان المخصص لا يكون دليلاً على التمسك بالعام ، إذ ليست المرأة بما هي هي موضوعة للحرمة بل المرأة بوصف كونها من غير المحارم فكما لا يجوز التمسّك بالمخصص لا يجوز التمسك بعموم العام ، إلا أن يكون الدليل ما ذكرناه من جريان السيرة على العمل بعموم العام ، لكون الأصل في المورد هو الحرمة ، والحلية أمر استثنائي.

٢. يقول سبحانه : ( ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنّ ... ) (٢) فالأصل في إبداء الزينة لغير المماثل هو الحرمة ، خرجت المحارم عن تحتها ، أعني قوله : ( إِلاّ لبُعُولتهنّ ) وما عُطِفَ عليها في الآية ، فلو شك في رجل في أنّه من المحارم الذين يجوز ابداء الزينة لهم ، أو لا ، فالسيرة على حرمة الإبداء ، إلا إذا تبيّن كونه من المحارم ، مع أنّ مقتضى الأصل العملي هو جواز

__________________

١. العروة الوثقى ، كتاب النكاح ، المسألة ٥٠.

٢. النور : ٣١.


الإبداء وما ذلك ، إلا لأنّ الحكم الطبيعي أو الأصل الأوّلي في إبداء الزينة هو الحرمة والحلية طارئة استثنائية فيؤخذ به حتّى يثبت خلافه.

٣. انّ الوقف عبارة عن تحبيس العين وتسبيل المنفعة فلا يباع ولا يوهب ولا يرهن ، ومع ذلك كلّه فقد أفتى الفقهاء تبعاً للنصوص والقواعد ، بجواز بيعه في موارد عشرة تكفّل ببيانها الشيخ الأعظم في المتاجر ، فلو قام رجل ببيع الوقف واحتملنا كون المورد من الموارد المرخصة فمقتضى القاعدة الأُصولية عدم جواز التمسّك بالعام : « لا يجوز بيع الوقف » لكون الشبهة مصداقية ، لكن الفقهاء أفتوا بعدم جواز الشراء ، حتّى يعلم المجوز ، عملاً بالعام ، وما ذلك إلا لأجل أنّ الأصل الأوّلي في الوقف هو الحرمة تكليفاً ووضعاً ، فالعام حجّة ، وإن كانت الشبهة مصداقية.

٤. انّ الأصل في مال اليتيم هو حرمة التصرف إلا إذا كان فيه غبطة اليتيم ، قال سبحانه : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتيمِ إِلاّ بالّتِي هِيَ أَحسَن ) (١) فلو قام أحد ببيع مال اليتيم واحتملنا فيه غبطة اليتيم ، لا يجوز الشراء حتّى يثبت المجوز ، ولا يجري في المقام ولا في المورد السابق أصالة الصحّة حتّى أنّ الشيخ استثنى في فرائده (٢) هذين الموردين من مجرى أصالة الصحة ، فلاحظ.

وبذلك يعلم وجه التفريق في كلام الشيخ في فرائده ومتاجره ، بين الصلاة على الميّت ، وبيع مال اليتيم والوقف ، حيث تجري أصالة الصحّة في الأُولى دون الثاني ؛ فلو قام أحد بإقامة الصلاة على الميّت وشككنا في صحّة صلاته وفسادها ، تحمل على الصحّة ؛ ولو قام هو ببيع مال اليتيم ، أو الوقف ، لا يحمل على

__________________

١. الأنعام : ١٥٢.

٢. الفرائد : ٤١٩ ، طبعة رحمة اللّه.


الصحّة إذا كان هناك شك في وجود المسوّغ للبيع.

٥. لوتلف مال الغير تحت يد الإنسان فالأصل فيه هو الضمان إلا إذا كانت اليد يد أمانة ، فلو تلف مال وشكّ في كيفية اليد أنّها يد أمانة أو لا ، فالأصل فيه الضمان ، ولأجل ذلك حكم الفقهاء في مثل المورد بالضمان. (١)

وإن كان المورد ، من قبيل الشبهة المصداقية ، لقوله : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي. (٢)

٦. الأصل في اللحوم البحرية هي الحرمة إلا السمك ذات الفلس ، فلو شكّ في نوع سمك في أنّه من ذوات الفلس أو لا ، فالأصل فيه الحرمة حتّى يثبت الخلاف ، لنفس الوجه الذي أوضحنا حاله في الأمثلة السابقة.

__________________

١. نقل شيخنا الأُستاذ ـ مد ظلّه ـ عن شيخه المحقّق البروجردي في درسه احتمال انّ المشهور اعتمدوا في الإفتاء بالضمان بالروايات الواردة في المقام ، لاحظ الوسائل : ١٣ ، الباب ١٦ من أبواب الرهن ، الحديث ٢ و ٣.

٢. سنن البيهقي : ٦ / ٩٠ ، ٩٥ ؛ مسند أحمد : ٥ / ٨ و ١٣.


الفصل السادس

إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي (١)

قد عرفت أنّ العام ـ إلا ما سبق ـ ليس حجّة في الشبهة المصداقية للمخصّص. فلابدّ من الرجوع إلى الأصل ، فلو كان للمصداق المشتبه حالة سابقة يؤخذ بها ، فإذا قال : أكرم العلماء ولا تكرم فسّاق العلماء ، وشكّ في عدالة زيد العالم وكان مسبوق العدالة أو مسبوق الفسق فيحكم عليه بأحدهما فعلى الأوّل يدخل تحت العام وعلى الثاني تحت المخصص.

إنّما الكلام إذا لم يكن له حالة سابقة ، فهل هنا أصل موضوعي يُنقِّح حال المشتبه ويدخله تحت العام أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى وجود الأصل المحرز في صورتين :

١. إذا كان المخصّص منفصلاً.

٢. إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء.

وأما في غيرهما كما إذا كان متّصلاً وكان وصفاً فلا يحرز الموضوع بالأصل.

توضيح كلامه : هو انّ المخصّص يتصوّر على صور أربع :

__________________

١. وما يأتي في هذا الفصل ، وإن كان ذيلاً ومتمّماً لمباحث الفصل السابق ، لكن فصلناه عن السابق لتسهيل الأمر على القارئ ، فإنّ الإطناب ربما يوجب الملَل.


١. أن يكون وصفاً متّصلاً ، كما إذا قال : أكرم العلماء العدول.

٢. أن يكون وصفاً متّصلاً لكن بصورة الموجبة المعدولة ، كما إذا قال : أكرم العلماء غير الفسّاق.

٣. أن يكون المخصّص متّصلاً على نحو الاستثناء كما إذا قال : أكرم العلماء إلا الفسّاق.

٤. أن يكون المخصّص منفصلاً كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل المحرز ينقح حال الموضوع المشتبه في الصورتين الأخيرتين دون الأُوليين.

وذلك لأنّ عنواني العدول أو غير الفسّاق من العناوين المنوعة التي تقسّم الموضوع إلى علماء عدول وغير عدول ، أو علماء فسّاق وغير فسّاق ، واستصحاب العدم الأزلي ( عدم كونه فاسقاً ) لا يثبت العنوان الوجودي للعام ، لأنّ استصحاب الأمر العدمي ( عدم كونه فاسقاً ) وإثبات الأمر الوجودي ( كونه عادلاً ، أو غير فاسق ) من الأُصول المثبتة التي ثبت في محلّها عدم حجّيتها.

والحاصل : الفرق بين كون المخصّص منوّعاً للعام ، ومقسّماً له إلى قسمين ، وبين ما لا يكون كذلك ، بل يُخرج طائفة عن تحت العام دون أن ينوّع العام ويجعل الموضوع مركّباً من جزءين.

أمّا الأوّل ، فكما إذا كان المخصّص وصفاً للعام كالعدول ، وغير الفسّاق ، إذ عندئذ يكون العام مركّباً من جزءين ، يحرز أحد الجزءين بالوجدان وأمّا الأمر فلا يحرز بالأصل ، لما عرفت من أنّ استصحاب العدم الأزلي ، لا يثبت عنواناً وجودياً وإن كانا متلازمين في الخارج.


أمّا الثاني فكما إذا ورد المخصص بصورة الاستثناء أو ورد منفصلاً عن العام ، إذ ليس لهما دور عند ذاك إلا الإخراج من دون تقييد للعام بقيد وجودي ، فالاستثناء يخرج آحاد الفسّاق دون أن يقيد عنوان العام بقيد ومثله المخصص المنفصل ، غاية الأمر يجب في كلا الموردين أن لا يصدق عليه عنوان المخصص ، ويكفي في ذلك استصحاب العدم الأزلي للرجل المشكوك فسقه وعدالته.

وعلى ضوء هذا قال المحقّق الخراساني بجريان استصحاب عدم القرشية في المرأة المرددة بين القرشية وغير القرشية ، قائلاً ، بأنّ النصّ ورد على أنّ المرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا القرشية ، فالمخصّص متصل لكنّه بصورة الاستثناء فليس له دور إلا إخراج القرشية من دون تقييد موضوع العام بقيد ، غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص ، ويكفي في ذلك استصحاب عدم القرشية للمرأة المرددة ، فيكون المورد من الموارد التي تثبت أحد الجزءين بالوجدان والآخر بالأصل.

ومثله ما إذا كان المخصّص منفصلاً كما إذا قال : المرأة ترى الحمرة إلى خمسين عاماً ثمّ ذكر بعد فترة : القرشية ترى الدم إلى ستين.

وبذلك تبين انّ نظريته مبنيّة على أمرين :

الأوّل : انّ التخصيص المتصل بصورة الوصف أو بصورة القضية الموجبة المعدولة ينوِّع العام ويجعل الموضوع مركّباً من جزءين ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إثبات القيد الوجودي بالأمر العدمي.

الثاني : انّه إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء أو منفصلاً فلا يضفي للعام تنويعاً ولا يوجب تركّب الموضوع ، بل العام باق على عمومه ، غاية الأمر يجب أن لا يصدق عليه عنوان المخصّص ، فعندئذ يكفي استصحاب عدم


قرشية المرأة ، بعدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش فيكون باقياً تحت العام محكوماً بحكمه.

وبذلك علم أنّ المحقّق الخراساني يركز في جريان الأصل الأزلي وعدمه على شيء واحد وهو تعنون العام بقيد وجودي كما في القسمين الأوّلين وعدم تقيّده به كما في القسمين الأخيرين ، فبما انّ الوصف أو الموجبة المعدولة ينوِّع العام بقيد وجودي فلا يثبت بالأصل العدمي ، وأمّا الاستثناء والمخصّص المنفصل لا ينوع الموضوع ولا يضفي عليه قيداً زائداً غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص فيجري ويثبت عدم تعنونه به.

هذا توضيح مفصّل لمرام صاحب الكفاية ، وقد أجمل 1 في بيان مقصوده.

مناقشة نظرية المحقّق الخراساني

البحث في جريان استصحاب العدم الأزلي في المرأة المرددة بين القرشية وغيرها يقع في مقامين :

الأوّل : مقام الثبوت.

الثاني : مقام الإثبات.

أمّا الأوّل فالذي يمكن أن يبقى تحت العام بعد ملاحظة المخصص ، أحد الأُمور الثلاثة :

١. الموجبة المعدولة نحو قولنا : المرأة غير القرشية ترى الدم إلى خمسين.

٢. الموجبة ، السالبة المحمول نحو قولنا : المرأة التي هي ليست قرشيـة ترى الدم إلى خمسين. والمراد من الموجبة السالبة المحمول هو جعل القضية السالبة المحصلة خبراً لموضوع أو في حكم الخبر ، كما في المقام بحيث يكون الربط قبـل


الخبـر فتحمـل السالبـة على الموضـوع ويوصف بها لبّاً ويقـال : المـرأة التـي هي ليست بقرشية.

٣. السالبة المحصلة نحو قولنا : إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين ، وعلى كلّ تقدير فالباقي تحت العام أحد القضايا الثلاثة.

فلو كان الباقي تحت العام ، هو الأوّلان ، أعني : المرأة بوصف القرشية ، أو المرأة التي هي ليست بقرشية ، فلا يمكن إثبات هذا القيد بالأصل العدمي ، وذلك لوجهين :

الأوّل : انّ القيد المنوِّع أمر وجودي ، والمستصحب أمر عدمي ، واستصحاب الأمر العدمي وإثبات القيد الوجودي من الأُصول المثبتة. وهذا هو الذي ركّز المحقّق الخراساني عليه.

الثاني : انّ المتيقّن قضية سالبة محصلة حيث تقول : إذ لم تكن المرأة موجودة فلم تكن قرشية ، والقضية المشكوكة قضية سالبة المحمول بمعنى نعلم وجودها ونشك في وصفها ، فاستصحاب السالبة المحصلة الصادقة مع نفي الموضوع وإثبات القضية بصورة سالبة المحمول من الأُصول المثبتة.

وقد تكرر من الشيخ الأعظم وغيره أنّ مفاد كان التامة أو النفي التام لا يثبتان مفاد كان الناقصة والنفي الناقص ، مثلاً :

إذا كان في البيت ماء كرّ فنقص منه شيء ، فلو قيل كان في البيت ماء كرّ بصورة كان التامة فلا يثبت به كرّيّة هذا الماء المشكوك ، ولا محيص من الاستصحاب بصورة كان الناقصة بأن يقال : انّ هذا الماء كان كرّاً والأصل بقاؤه.

ومنه المرأة المشتبهة المرددة بين القرشية وغيرالقرشية ، فالمتيقّن عدم قرشية تلك المرأة عند عدم وجودها ، أعني : النفي التام ، والمشكوك هذه المرأة الموجودة ، المشكوكة قرشيتها. واستصحاب التام لا يثبت النفي الناقص.


إلى هنا تبيّن انّ الأصل لا يجري فيما إذا كان الواقع تحت العام إحدى القضيتين :

١. معدولة المحمول.

٢. الموجبة سالبة المحمول.

نعم لو كان الواقع تحت العام على نحو السالبة المحصلة نحو قولنا : إذا لم تكن هذه المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين الصادقة حتّى مع عدم الموضوع ، ففي هذه الصورة تثبت القضيةُ المشكوكة بالقضية المتيقّنة لعدم وجود المانعين المذكورين ، فعندئذ يصحّ استصحاب عدم قرشيتها لإثبات انّ المرأة المرددة واقعة تحت العام لم تخرج منها.

الكلام في مقام الإثبات

إلى هنا تمّ كلامنا في مقام الثبوت ، بقي الكلام في مقام الإثبات ، أي تعيين أنّ الباقي تحت العام من أي قسم من الأقسام الثلاثة.

الظاهر أنّ الباقي تحت العام بعد التخصيص هو القسمان الأوّلان لا الثالث.

وذلك لأنّ الحكم الوارد في القضية حكم إيجابي ( ترى ) والقضية الموجبة لا تصدق إلا بوجود الموضوع ، قال التفتازاني في التهذيب : ولابدّ في الموجبة من وجود الموضوع ، إمّا محقّقاً وهي الخارجية ، أو مقدّراً فالحقيقية ، أو ذهناً فالذهنية. (١) والقضية في المقام حقيقية يجب وجود الموضوع في ظرف الصدق ، ومن المعلوم أنّ الرؤية إلى خمسين من خصائص المرأة الموجودة فيختص الباقي تحت العام

__________________

١. الحاشية على تهذيب المنطق : ٥٨ ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.


بالقضية المعدولة أو بالموجبة السالبة المحمول اللتين لا ينفكان عن صدق الموضوع ووجوده.

وأمّا القضية السالبة المحصّلة فيمتنع أن تقع موضوعاً للرؤية ، فلو قيل إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين فقد جُمِعَ بين نقيضين ، فالموضوع بما انّه قضية سالبة محصّلة يصدق مع عدم الموضوع ، ولكن المحمول ( ترى ) بما انّه قضية موجبة لا تصدق إلا مع وجود الموضوع فلا يمكن أن يكون الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة.

فإن قلت : لا مانع من أن يكون الأصل فاقداً للأثر حدوثاً وواجداً له بقاءً ، فعدم القرشية وإن كان فاقداً للأثر عند عدم الموضوع ولكنّه واجد له بعد وجود الموضوع ومثل هذا داخل تحت قوله : لا تنقض اليقين بالشك.

قلت : ما ذكرته صحيح فيما إذا عمّ الدليل كلتا الصورتين ، مثلاً : إذا كان الماء كراً على وجه اليقين يشمله الدليل الاجتهادي بأنّه لاينجّسه شيء ، فإذا نقص منه شيء فشكّ في كونه كرّاً فالدليل الاجتهادي يكون قاصراً عن شموله لهذا المورد ، ولكن لا قصور في دليل الاستصحاب فيستصحب بقاء الماء على الكرّية فيشمله الدليل الاجتهادي ثانياً.

غير أنّ هذا الشرط غير موجود في المقام ، لأنّ موضوع الدليل الاجتهادي ، أعني قوله : « المرأة غير القرشية » لم يكن شاملاً لها في فترة من الزمن ، أي عندما كانت معدومة الوجود والصفة ، فكيف يشملها بعد وجودها مع الشكّ في بقاء عدم وصفها؟ ففي مثل ذلك لا يشملها الدليل الاجتهادي ولا الاستصحاب.

إذا عرفت ذلك تقف على أنّه يتوجّه على المحقّق الخراساني إشكالات نأتي بها تالياً.


١. إذا كان الباقي تحت العام حسب الدراسة السابقة هو القضية الموجبة ، سواء أكانت موجبة معدولة أو موجبة سالبة المحمول فهذا ممّا لا حالة سابقة له ، إذ المرأة الموصوفة بغير القرشية لم يتعلّق بها اليقين في عصر من الأعصار ، وأمّا السالبة المحصلة ، أعني « إذا لم تكن المرأة قرشية فترى الدم إلى خمسين » فهي غير صالحة لأن تكون موضوعاً للرؤية ، لأنّ الحكم الإيجابي يستلزم وجود الموضوع كما ذكره المنطقيون. قال التفتازاني في التهذيب :

ولابدّ في الموجبة من وجود موضوع ... والسالبة المحصّلة التي تصدق مع عدم الموضوع لا تصلح لأن تقع موضوعاً للحكم الإيجابي.

٢.نفترض انّ الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة ولكن القضية المتيقّنة تُغاير القضية المشكوكة ، فانّ المتيقّنة منها هي السالبة الصادقة بانتفاء الموضوع ، أي لم تكن موجودة فلم تكن قرشية ، والمشكوكة هي القضية السالبة ، الصادقة بانتفاء المحمول مع وجود الموضوع ، ومن المعلوم أنّ إسراء الحكم من القضية الأُولى إلى القضية الثانية إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

٣. انّ استصحاب العدم الأزلي ليس مصداقاً عرفياً للاستصحاب ، وظـواهر الكلام حجّة في المصاديق العرفية لا المصاديق العقلية الدقيقة كما في المقام.

٤. انّ التفريق بين الوصف والاستثناء قائلاً بأنّ الأوّل ينوِّع دون الثاني تفريق بلا وجه ، لأنّ العرف لا يفرّق بين قولنا : أكرم العلماء غير الفسّاق ، وقولنا : أكرم العلماء إلا الفسّاق ، والتفريق بينهما بكون المخصص وصفاً في الأوّل ومنوِّعاً للموضوع إلى فاسق وغير فاسق دون الثاني فانّ دوره الإخراج لا التنويع ، بعيد عن الأذهان العرفية.


هذا كلّه حول أصل العدم الأزلي في نظر المحقّق الخراساني ، وإليك دراسة ما أفاده المحقّق النائيني من التفصيل بين القيد المقسِّم والقيد المقارن.

التفصيل بين القيد المقسِّم والمقارن

إنّ المحقّق النائيني لمّا لم يرتض ما أفاده المحقّق الخراساني حول استصحاب العدم الأزلي حاول إصلاح النظرية بالفصل بين القيد المقسِّم والقيد المقارن ، فنفى حجّية الأصل الأزلي في الأوّل وأثبت حجّيته في الثاني ، وبذلك صار مفصِّلاً في حجّية الأصل الأزلي لا مثبتاً مطلقاً كالمحقّق الخراساني ولا نافياً كغيره.

وإيضاح مقصوده رهن الكلام في موضعين :

الأوّل : ما هو المراد من القيد المقسِّم والمقارن؟

إذا كان القيد قائماً بالموضوع ، مقسِّماً له بالذات أو حسب الوصف إلى قسمين ، كتقسيم القرشية والنبطية ، والمرأةَ إلى قسمين ، فيقال : قرشية وغير قرشية ، نبطية وغير نبطية ، فهذا ما نسمّيه بالقيد المقسِّم ، ويشترط فيه قيامه بالموضوع على نحو يجعل الموضوع قسمين.

وأمّا إذا كان القيد جوهراً قائماً بنفسه ، كوجود زيد ، أو عرضاً قائماً بموضوع آخر لا بموضوع العام فهذا ما نسمّيه بالقيد المقارن ، وذلك كما إذا قال : أكرم العالم عند وجود زيد ، أو قال : أكرم العالم عند مجيء زيد ، فوجود زيد جوهر قائم بنفسه لا بالعارض ، كما أنّ مجيئه قائم بزيد لا بموضوع الحكم ( العالم ) ، ولأجل ذلك يعدّ الكلّ من المقارنات الاتفاقية أو الدائمية.


الثاني : ما هو الوجه في التفريق بين المقسِّم والمقارن؟

هذا هو المقام الثاني الذي يريد المحقّق النائيني بيان وجه التفريق بين نوعي القيدين ، وحاصل ما أفاده هو انّه إذا كان القيد وصفاً للموضوع ، قائماً به قياماً ذاتياً كالقرشية ، أو عرضياً كالفسق ، يكون الموضوع موصوفاً بالقيد ، وجوداً وعدماً كقولنا المرأة غير القرشية ترى الدم إلى ستين ، والمرأة غير القرشية ترى الدم إلى خمسين.

ومن المعلوم أنّ الموصوف لم يتعلّق به اليقين ، فانّ المرأة إمّا تتولد قرشية أو غير قرشية ، فليس هنا قضية متيقّنة وقضية مشكوكة ، بل هي مشكوكة من أوّل الأمر.

واستصحاب العدم المحمولي ، أي عدم القرشية من دون مضاف إلى مرأة معيّنة ، لا يثبت أنّ هذه المرأة غير قرشية.

وهذا بخلاف ما إذا كان القيد جوهراً مستقلاً قائماً بنفسه أو عرضاً لكن غير قائم بموضوع القضية ، فانّ الجزء الثاني بحكم انّه جوهر أو قائم بغير موضوع القضية لا يقع وصفاً للموضوع ، وليس لها شأن سوى اجتماعهما في عمود الزمان ، فمجرّد إحراز اجتماعهما في فترة من الزمان يكفي في ترتّب الأثر ، سواء أكان الإحراز بالوجدان أم بالأصل.

ثمّ فرّع على ما ذكره الفرع التالي وهو انّه إذا تلفت العين تحت يد إنسان غير مالك ، وشكّ في أنّ يده هل كانت يد ضمان أو يد أمان ، فقد ذهب المشهور إلى الضمان ، وما هذا إلا لأجل انّ « عدم إذن المالك » أُخذ جزءاً مقارناً للاستيلاء لا واصفاً له ، فعندئذ إذا أحرز الاستيلاء بالوجدان وعدم الإذن بأصل العدم الأزلي ، يثبت كون اليد عادية ، وذلك لأنّ إذن المالك ليس وصفاً للاستيلاء بل مجرّد


اجتماعهما في عمود الزمان كاف في الحكم بالزمان.

يلاحظ عليه : انّ ما ذكره في القيود المقسمة أمر لا غبار عليه ، إنّما الكلام في القيود المقارنة حيث زعم انّه يجوز أخذ شيئين مختلفين موضوعاً لحكم واحد وإن لم يكن بينهما رابط ، وهذا شيء لا يساعده الدليل.

وذلك لأنّ وحدة الحكم كاشفة عن وحدة الموضوع ، ووحدة الموضوع رهن وجود رابط بين الجزءين حتّى يجعله موضوعاً واحداً ومركّباً بأن تصلح للوقوع موضوعاً لحكم واحد ، وعندئذ يكون الجزء الثاني وصفاً للأوّل ويكون الموضوع للضمان هو الاستيلاء الموصوف بعدم إذن المالك ، وإلا فالشيئان المختلفان الفاقدان للوحدة والربط كيف يمكن أن يقعا موضوعاً لحكم واحد؟!

وأمّا ما مثّله من ذهاب المشهور إلى الضمان فلا يدلّ على ما يتوخّاه لاحتمال انّ ذهابهم إليه رهن أحد أمرين :

١. وجود النصّ في المسألة ، وقد كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي معتمداً عليه كما مرّ. (١)

٢. ما ذكرناه سابقاً من أنّه إذا كان الحكم الأوّلي للموضوع هو الحرمة أو الفساد أو الضمان فيتمسّك به في الموارد المشكوكة إلا أن يدلّ عليه دليل.

وحاصل الكلام : انّ ما اختاره المحقّق النائيني من جريان الأصل في القيود المقارنة دون المقسّمة مبني على إنكار لزوم الوحدة في الموضوع ـ ولو وحدة عرفية ـ فعندئذ يمكن إحراز أحد الجزءين بالوجدان والآخر بالأصل ، ولكنّك عرفت أنّ الحكم والإرادة الواحدة يطلبان لأنفسهما شيئاً واحداً ووحدة حرفية فانية في الموضوع.

__________________

١. لاحظ صفحة ٥٣٢من هذا الكتاب.


إحياء نظرية المحقّق الخراساني

إنّ المحقّق الخوئي لمّا لم يرتض تفصيل أُستاذه بين القيد المقسِّم والقيد المقارن ذهب إلى حجّية استصحاب العدم الأزلي وفاقاً للمحقّق الخراساني لكن ببيان آخر.

وحاصل ما أفاده مبنيّ على أمرين :

الأوّل : انّ وجود العرض بذاته محتاج إلى وجود موضوعه ، لأنّه من لوازم وجود العرض ، وقد عُرِّف العرض بأنّه ذو ماهية تامّة قائمة في الخارج بموضوعه ، وهذا ما يعبر عنه على وجه الإيجاز ( العرض ماهية في نفسه لغيره ) لكن عدم العرض ليس له هذا الشأن ، فهو غير محتاج إلى وجود الموضوع ، مثلاً : انّ العدالة لمّا كانت عرضاً يتوقّف وجودها على وجود الموصوف بها ، وأمّا عدم العدالة فلا يحتاج إلى وجود الموضوع ، ولذلك لو وجد زيد وصار غير عادل فنفس العدم الأزلي مستمر إلى ذلك الوقت.

ومنه يعلم حال القرشية فهي عرض قائم بالمرأة فلا يعقل وجود القرشية بلا وجود موضوعها ، وأمّا عدم القرشية فهي غنيّة عن الموضوع ، فلو أُشير إلى ماهية المرأة وقيل انّها لم تكن قرشية قبل ان تتولد ، فهذا العدم باق على حاله بعد ولادتها.

الثاني : إذا ورد أنّ المرأة تحيض إلى خمسين إلا القرشية.

فهاهنا قضيتان :

إحداهما : الجملة الاستثنائية : إلا القرشية.

والأُخرى : الجملة المستثنى منها ، أعني : المرأة تحيض إلى خمسين.

فلا شكّ أنّ القرشية في الجملة الأُولى عرض لا يفارق الموضوع فلا تتحقّق القرشية في الخارج إلا بوجود المرأة ، ولأجل ذلك لا يصحّ استصحاب القرشية ، إذ


لا حالة سابقة لها.

وأمّا الجملة الثانية فبما انّ المأخوذ فيها عدم القرشية فلا يستدعي أخذ عدم القرشية فيها على نحو مفاد ليس الناقصة ، أي وصفاً للمرأة بأن يقال : كلّ مرأة لا تكون متّصفة بالقرشية تحيض إلى خمسين ، بل يكفي أخذ عدم القرشية بنحو ليس التامة بأن يكون شيئاً مقارناً للمرأة بأن يقال : كلّ مرأة ، لا تكون متّصفة بالقرشية تحيض إلى خمسين عاماً.

والباقي تحت العام هو الثاني لا الأوّل ، وجهه واضح أنّ العدم غني عن الموضوع فلا وجه لأخذ عدم القرشية وصفاً للمرأة ، بل يكفي صدق عدم القرشية في ظرف تحقّق المرأة دون أن يكون وصفاً لها ، فعندئذ إذا شكّ في قرشية المرأة وعدمها فالموضوع مركّب من جزأين :

١. المرأة ٢. لا تكون بقرشية.

والأوّل محرز بالوجدان والآخر بالأصل.

هذا هو حاصل ما أفاده المحقّق في هامش أجود التقريرات. (١)

ولأجل أن نذكر شيئاً من عبارات المحقّق المذكور في الجزء الأوّل ، نقول :

قال 1 : إنّ الحكم الثابت للموضوع المقيّد بما هو مفاد كان الناقصة ( إلا القرشية ) إنّما يكون ارتفاعه ( في جانب المستثنى منه ) بعدم اتصاف الذات بذلك القيد على نحو مفاد السالبة المحصلة من دون أن يتوقّف ذلك باتّصاف الذات بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة ، فمفاد قضية « المرأة تحيض إلى

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ؛ المحاضرات : ٥ / ٣٣٢ ـ ٣٣٦. ورسالة اللباس المشكوك لنفس المحقّق ، وهذه الرسالة أسبق نشراً من الكتابين السابقين فقد أطال الكلام فيها في حجّية أصل العدم الأزلي.


خمسين إلا القرشية » وإن كان هو اعتبار وصف القرشية على وجه النعتية في موضوع الحكم بتحيض القرشية بعد الخمسين إلا أنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية ، ـأعني به مفاد ليس الناقصة ـ وإنّما يستدعي أخذ عدم القرشية في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصلة ، وكلّ مرأة لا تكون متصفة بالقرشية باقية تحت العام وإنّما الخارج خصوص المتصفة بالقرشية لا انّ الباقي بعد التخصيص هو المرأة المتصفة بعدم القرشية ، فإذا شكّ في كون المرأة قرشية لم يكن مانع من التمسّك باستصحاب عدم القرشية الثابت لها قبل ولادة تلك المرأة في الخارج. (١)

يلاحظ عليه بوجهين :

الأوّل : أنّ ما أفاده في جانب المستثنى في غاية المتانة ، إنّما الكلام فيما أفاده في جانب المستثنى منه ، فقد سبق منّا انّ الباقي تحت العام يتصوّر على أنحاء ثلاثة :

١. الموجبة المعدولة : المرأة غير القرشية تحيض إلى خمسين.

٢. الموجبة السالبة المحمول : المرأة التي هي ليست بقرشية تحيض إلى خمسين.

٣. السالبة المحصلة : إذا لم تكن المرأة قرشية تحيض إلى خمسين.

والأوّلان رهن وجود الموضوع ، إذ الوصف الوجودي ( غير القرشية ) أو ( هي التي ليست بقرشية ) لا ينفك عن وجود الموصوف بخلاف الثالث فانّه يصدق حتّى مع عدم الموضوع ولكن الكلام في تشخيص انّ الباقي تحت العام ما هو؟!

فإن كان الموضوع من قبيل الأوّلين فلا يجري الاستصحاب لعدم الحالة

__________________

١. تعاليق أجود التقريرات : ١ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩. ولاحظ المحاضرات : ٥ / ٣٣٢ ـ ٣٣٦.


السابقة ، وإن كان من قبيل الثالث يجري الاستصحاب لوجودها إلا أنّ المحمول أعني قوله : ( ترى أو تحيض ) قرينة على أنّ الباقي تحت العام هو القسمان الأوّلان ضرورة انّ الحكم الإيجابي ( ترى أو تحيض ) رهن وجود الموضوع ، قال التفتازاني في منطق التهذيب : فلابدّ في الموجبة من وجود الموضوع إمّا محقّقاً وهي الخارجية ، أو مقدراً فهي الحقيقية ، أو ذهنياً فهي الذهنية كما مرّ.

وبالجملة نحن نستكشف من الحكم على أنّ الموضوع هو القسم الأوّل والثاني اللذان لا يصدقان إلا على المرأة الخارجية.

الثاني : يرد عليه ما أوردناه على أُستاذه ، لأنّ مرجع ما ذكره هو تركّب الموضوع من أمر وجودي محرز بالوجدان وهو المرأة ، وأمر عدمي يحرز بالأصل دون أن يكون بينهما صلة بجعل الثاني وصفاً للأوّل ، وكأنّ الموضوع في لسان الشرع كالآتي في لساننا « ١. المرأة ٢. لم تكن قرشية تحيض إلى خمسين » ومن المعلوم أنّ وحدة الحكم كاشفة عن وحدة الموضوع ، فلابدّ أن يكون في الموضوع وحدة آلية يجعل الشيئين الأجنبيين أمراً واحداً ، وعندئذ ترجع السالبة المحصّلة إلى موجبة سالبة المحمول. فيكون الموضوع : المرأة التي هي لم تكن قرشية تحيض إلى خمسين ، ومن الواضح انّها تفقد الحالة السابقة.

ما هو المرجع إذا لم يكن الأصل العدمي حجّة؟

قد عرفت أنّ العام لا يحتجّ به في الشبهة المصداقية للمخصص ، لأنّ الموضوع مركّب من عنوان العام وعدم عنوان المخصص والجزء الأوّل وإن كان محرزاً لكن الثاني ليس بمحرز.

كما أنّ أصل العدم الأزلي لا يحتجّ به على بقاء المشتبه تحت العام للوجوه


التي عرفتها.

بقي الكلام في تعيين المرجع بعد قصور اليد عن العام والأصل العدمي ، فنقول :

إنّ المرجع هو الأُصول العملية : الاستصحاب والتخيير والاشتغال والبراءة وهي تختلف حسب اختلاف الموارد ، وإليك الأمثلة.

أمّا الأوّل ـ أعني الاستصحاب ـ : فلو أقام إنسان في بلد متردداً في الإقامة وشكّ في أنّ هذا اليوم يوم الثلاثين أو يوم التاسع والعشرين ، فعلى الأوّل يتمّ بعد انقضاء ذلك اليوم وعلى الثاني يقصر يوم الشكّ وبعده ثمّ يتم ، فالمرجع هو استصحاب وجوب القصر إلى أن يحصل اليقين بأنّه أقام في ذلك البلد ثلاثين يوماً.

وأمّا الثاني ـ أعني التخيير ـ : فكما إذا قال المولى : يجب إكرام العلماء ثمّ قال : يحرم إكرام فسّاق العلماء ، فالفرد المشتبه بما انّه يحتمل بقاؤه تحت العام يجب إكرامه كما يحتمل خروجه عن تحته ودخوله تحت المخصص فيحرم ، فيدور الأمر بين المحذورين فيتخير.

وأمّا الثالث ـ أعني الاشتغال ـ : كالمرأة المرددة بين القرشية وغيرها ، فإذا رأت الدم بعد الخمسين فيتردد أمر الدم بين كونه دم استحاضة أو دم حيض فتجمع بين الوظيفتين.

أمّا الرابع ـ أعني البراءة ـ : فكما إذا قال : يجب إكرام العلماء ثمّ قال : لا يجب إكرام فسّاق العلماء ، فالفرد المشتبه مردد بين وجوب الإكرام وعدمه فتجري البراءة.

إلى هنا تمّ الكلام في إحراز حال المشتبه في الشبهة المصداقية للمخصص.


الفصل السابع

إحراز حال الفرد المشتبه

بالعنوان الثانوي

كان البحث في الفصل السابق مركّزاً على إحراز حال الفرد ، الذي اشتبه حاله لأجل تخصيص العام فدار أمر الفرد بين كونه باقياً تحت العام أو خارجاً عنه ، مثلاً : قال المولى : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم فساق العلماء ، واشتبه حال العالم من حيث الفسق والعدالة ، فشكّ في بقائه تحت العام وعدمه فلا يُحرز حال الفرد لا بالعام ولا بالأصل الأزلي.

وأمّا هذا الفصل فقد استظهر المحقّق الخراساني بأنّ الاشتباه رهن غير التخصيص ، بل لأجل وجود الإجمال في الدليل العام ، فهل يمكن تنقيح حاله من حيث دخوله تحت الدليل بالعنوان الثانوي أو لا؟

مثلاً : قال سبحانه : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيَكُمْ إِلى المَرافِق ). (١)

فلو قلنا بظهور الآية أو انصرافها إلى الغَسْل بالماء المطلق فلا شكّ في بطلان الوضوء بالماء المضاف ، وأمّا لو قلنا بإجمال الآية وإمكان سعتها للماء

__________________

١. المائدة : ٦.


المطلق والمضاف ، فيقع الكلام في إمكان تنقيح حال الفرد المشتبه ، أي التوضّؤ بالماء المضاف بالعنوان الثانوي ، وبالتالي استنتاج دخوله في الآية.

كما إذا نذر أحد أن يتوضأ بالماء المضاف إذا رزقه اللّه الولد ، وقد رُزق الولد ، فبما انّ العمل بالنذر واجب لقوله سبحانه : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ). (١) فيمكن استكشاف شمول آية الوضوء للتوضّؤ بالماء المضاف من وجوب الوفاء بالنذر ( الوضوء بالماء المضاف ) ، بأن يقال : التوضّؤ بالماء المضاف واجب وفاءً للنذر ، وكلّما وجب الوفاء به حسب النذر يكون صحيحاً ، لأنّه لولا الصحّة لما وجب الوفاء ، فينتج انّ الإتيان بهذا الوضوء صحيح ، ومن الواضح انّ الشكّ نبع من إجمال الآية لا من تخصيص العام بمخصص شكّ في كون فرد من أفراد العام من أفراد المخصص أولا.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حاول نقد هذا الإحراز بتقسيم العناوين الثانوية إلى قسمين : قسم أخذ في متعلّقه حكم من الأحكام الخمسة المتعلّقة بالأفعال.

وقسم لم يؤخذ فيه أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال.

ومع أنّ القسم الثاني كان خارجاً عن غرضه طرحه على صعيد البحث بعد ما فرغ من القسم الأوّل ، ونحن نقدّم البحث في الثاني على الأوّل ، لأنّه بحث استطرادي إذا وقع في أثناء البحث يوجب التعقيد ، فنقول :

إنّ الضرر والحرج والإكراه من العناوين الثانوية التي لم يؤخذ في متعلقه حكم من الأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، فهو يفارق القسم الأوّل الذي أخذ في متعلّقه الرجحان أو الإباحة ، ولأجل ذلك لو شكّ في جواز الصوم لأجل الضرر يقدّم على حكم العنوان الأوّلي بلا تردد ، بخلاف القسم الأوّل فلا يقدّم إلا إذا

__________________

١. الحج : ٢٩.


أحرز فيه الرجحان والإباحة.

وإلى ذلك أشار المحقّق الخراساني بقوله : « نعم لا بأس بالتمسّك به في جوازه بعد إحراز التمكّن منه والقدرة عليه (١). فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً ( كالضرر والحرج والإكراه ) ، فإذا شكّ في جوازه ( الفرد كشرب الخمر عن إكراه والإفطار لكون الصوم ضررياً ) صحّ التمسّك بعموم دليل العناوين الثانوية في الحكم بجوازها ». (٢)

والحاصل فرق بين النذر وطاعة الوالد ، وبين الحرج والضرر والإكراه ، فلا يتمسّك بالقسم الأوّل إلا بعد إحراز الحكم المأخوذ في متعلّق النذر من الطاعة والإباحة ، بخلاف الحرج والضرر والإكراه فيتمسك بهما في جواز الفرد المشكوك بلا شرط.

نعم للتمسّك بالقسم الثاني من العناوين الثانوية شرط آخر ، وقد أشار إليه المحقّق الخراساني في المقطع الثاني من كلامه ، وهو :

إنّ التمسك بالحرج والضرر والإكراه لإثبات جواز الفرد المشكوك مشروط بكون الملاك فيها أقوى من ملاك الحكم الأوّلي ، حيث إنّ الخمر والصيام والوضوء ، محكومة بالعنوان الأوّلي بالحرمة أو الوجوب ، وبالعنوان الثانوي بالجواز ، فلا يقدّم العنوان الثانوي إلا إذا كان الملاك في جانب العنوان الثانوي أقوى ، وإلا لم يؤثر أحد العنوانين فيرجع إلى الأُصول كالإباحة.

هذا وما أفاده في المقام مغاير لما سيأتي منه في البحث عن قاعدة : « لا ضرر ولا ضرار » من تقدّم العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية مطلقاً من غير فرق

__________________

١. لا وجه لأخذ القدرة ، إذ الأحكام كلّها مقيّدة بالقدرة.

٢. الكفاية : ١ / ٣٥١.


بين الأقسام وانّ التقديم مطلقاً مقتضى التوفيق العرفي بينهما.

وعلى كلّ تقدير فهذا القسم غير مقصود بالذات في هذا الفصل.

إنّما الكلام في العناوين الثانوية التي أخذت في متعلّقها حكم من الأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّفين بعناوينها الأوّلية. كاستحباب الفعل ووجوبه المأخوذين في متعلق وجوب الوفاء بالنذر ، وكالاباحة المأخوذة في متعلق إطاعة أمر الوالد.

فصحّة النذر فرع وجود الرجحان في المتعلّق فيختص بالمستحب والواجب ، ولزوم طاعة الوالد فرع عدم كون المأمور به معصية للّه فيختص بغير الحرام.

والذي يدلّ على انّ لزوم الرجحان في متعلّق النذر ما رواه أبو الصلاح الكناني عن أبي عبد اللّه 7 قال :

« وليس شيء هو طاعة يجعله الرجل عليه إلا ينبغي له أن يفي به ، وليس من رجل جعل للّه عليه مشياً في معصية اللّه إلا أنّه ينبغي له أن يترك إلى طاعة اللّه ». (١)

وعلى ضوء ذلك فيجب الوفاء بالنذر الذي ثبت وجوب الرجحان في متعلّقه ، كما أنّ وجوب طاعة الوالد مقيد بما إذا كان متعلّقه أمراً مباحاً.

إذا علمت ذلك فنقول :

إذا نذر أن يتوضّأ بماء مضاف فلا ينعقد النذر إلا إذا أحرز استحباب الوضوء أو وجوبه بالماء المضاف. وبعبارة أُخرى : رجحان الوضوء ، وإلا فلا يجوز التمسّك بإطلاق قوله : ( وليوفوا نذورهم ) ، لأنّه مخصّص بقوله : « للّه طاعة » فيكون التمسّك بقوله : ( وليوفوا نذورهم ) في إثبات صحّة الوضوء بالماء المضاف

__________________

١. الوسائل : ١٦ ، الباب ٧ من أبواب النذر ، الحديث ٦.


من قبيل التمسّك بالعام : ( وليوفوا نذورهم ) في الشبهة المصداقية للمخصص حيث يحتمل أن يكون الوضوء بالماء المضاف طاعة أو غير طاعة ، وقد مرّ عدم جوازه.

ثمّ إنّ القائل أيّد كلامه بما ورد من صحّة الصيام في السفر والإحرام قبل الميقات إذا نذر كذلك.

أمّا الأوّل فقد روى الشيخ عن علي بن مهزيار قال : كتب بندار مولى إدريس : يا سيدي نذرت أن أصوم كلّ يوم سبت ... فكتب 7 في الجواب : « وليس عليك صومه في سفر ولا مرض إلا أن تكون نويت ذلك ». (١)

وأمّا الثاني : فقد روى الشيخ عن الحلبي قال : سألت أبا عبد اللّه 7 عن رجل جعل للّه عليه شكراً أن يحرم من الكوفة؟ قال « فليحرم من الكوفة وليف للّه بما قال ». (٢)

وروى أيضاً عن علي بن أبي حمزة قال : كتبت إلى أبي عبد اللّه 7 عن رجل جعل للّه عليه أن يحرم من الكوفة؟ قال : « يحرم من الكوفة ». (٣)

وروى أيضاً عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه 7 قال : سمعته يقول : « لو انّ عبداً أنعم اللّه عليه نعمة أو ابتلاه ببليّة فعافاه من تلك البليّة ، فجعل على نفسه أن يحرم بخراسان ، كان عليه أن يتم ». (٤)

يلاحظ عليه : وجود الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، بأنّ الصيام في السفر ، والإحرام قبل الميقات ، محكومان بالحرمة ويصيران جائزين بالنذر ، فبالنذر ، ينقلب الحرام إلى الجائز ، وأمّا المقام فالمدعى هو استكشاف كون الوضوء بالماء

__________________

١. الوسائل : ٧ ، الباب ١٠ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ١.

٢ و ٣ و ٤. الوسائل : ٨ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت ، الحديث ١ ، ٢ ، ٣.


المضاف ، جائزاً قبل النذر وداخلاً تحت العام ، فللنذر عندئذ دور الكشف ، وفي المقيس عليه ، دور التقليب ، وأين أحدهما من الآخر؟

ثمّ إنّ في المقيس عليه إشكالين :

الأوّل : اشتراط الرجحان في متعلّق النذر

يشترط في متعلّق النذر ، وجود الرجحان قبل تعلّقه ، والمفروض أنّه حرام قبله ، فكيف تعلّق به النذر؟

وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :

١. انّ الروايات السابقة تكشف عن رجحان الصوم في السفر ، والميقات قبل الإحرام أمراً راجحاً بالذات ، وإنّما لم يؤمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع يرتفع مع النذر.

وأورد عليه بانّه كيف يمكن القول بكونهما راجحين بالذات وقد منع مانع عن الأمر بهما ، مع تشبيه الإحرام قبل الميقات ، بالصلاة قبل الوقت. (١)

أقول : لم نجد نصّاً بهذا المضمون وإنّما الوارد غيره :

١. روى زرارة ، عن أبي جعفر 7 في حديث : « وليس لأحد أن يُحرم دون الوقت الذي وقّته رسول اللّه 6 ». (٢) والمراد من الوقت ، هو الميقات ، أُطلق وأُريد منه المكان.

٢. روى ابن أُذينة قال : قال أبو عبد اللّه 7 في حديث : « ومن أحرم دون الوقت فلا إحرام له ». (٣) نعم شُبّه في بعض الروايات ، بمن صلّى أربعاً في

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٤٩.

٢. الوسائل : ٨ ، الباب ١١ من أبواب المواقيت ، الحديث ١١.

٣. الوسائل : ٨ ، الباب ٩ من أبواب المواقيت ، الحديث ٣.


السفر وهو كالآتي :

رواية ميسرة قال : دخلت على أبي عبد اللّه 7 وأنا متغيّر اللون فقال لي : « من أين أحرمت؟ » قلت : من موضع كذا وكذا ، فقال : « رب طالب خير تزلّ قدمه ـ ثمّ قال : ـ يسرّك أن صليّت أربعاً في السفر؟ ». قلت : لا ، قال : « فهو واللّه ذاك ». (١)

وعلى أيّ تقدير فهل تدلّ هذه الروايات على كونهما راجحين بالذات أولا؟

ظاهر رواية زرارة وابن أُذينة عدم المصلحة بتاتاً في الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر ، لكن ظاهر رواية ميسرة وجود المصلحة ، غير أنّه رفع الوجوب رحمة للأُمّة كما يعلم من تشبيه الإحرام قبل الميقات بمن صلّى أربعاً مكان ركعتين ، فإنّ الصلاة الرباعية واجدة للمصلحة كالثنائية ، لكنّه سبحانه رحمة للأُمّة ، رفع وجوبها.

هذا وقد ورد في الصوم في السفر : « ليس من البر الصيام في السفر » الظاهر من عدم الملاك. (٢)

٢. صيرورتهما راجحين عند تعلّق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك.

٣. تخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلّق النذر بهذه الروايات ، وهذا هو الظاهر من صاحب الجواهر.

يلاحظ عليه : أنّ اللسان آب عن التخصيص ، فانظر إلى القول المعروف لانذر إلا في طاعة ، أو ما ورد في الروايات : « هو للّه طاعة ». وقد جاء هذا الجواب

__________________

١. الوسائل : ٨ ، الباب ١٢ من أبواب المواقيت ، الحديث ٦.

٢. الوسائل : ٧ ، الباب ١٢ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ٧ و ٨.


في كلام « الكفاية » عند الإجابة عن الإشكال الثاني مع أنّ محله هنا ، ولذلك أوجد تعقيداً في العبارة.

مضافاً إلى أنّ كلاً من الصوم والإحرام عبادة يتقرب بها العبد إلى اللّه سبحانه ، فإذا كان خالياً عن أي رجحان فكيف يحصل التقرّب؟!

إلى هنا تمّ الكلام حول الإشكال الأوّل ، وإليك الإشكال الثاني.

الثاني : الأمر النذري كالأمر الإجاري توصّلي

هذا هو الإشكال الثاني وحاصله : أنّه لم يتعلّق بالصوم في السفر ، ولا بالإحرام قبل الميقات أمر ، بما هو هو ـ كما هو المفروض ـ حتّى يقصده ويتعبد به ، فانحصر الأمر ، بالأمر النذري وهو أمر توصّلي لا تعبديّ.

أقول : إنّ الإشكال الأوّل كان يركّز على شرطية رجحان المتعلّق في النذر وقد عرفت الإجابة عنه بوجوه ثلاثة ، وهي بين مقبول وغير مقبول.

وأمّا الإشكال الثاني فهو يركز على أنّ الصيام في السفر ، والإحرام قبل الميقات عمل عبادي وصحّته فرع قصد أمره العبادي ، فما هو الأمر العبادي في المقام؟ فهل هو الأوامر الواقعية المتعلّقة بالصيام في السفر والإحرام قبل الميقات ، أو غيره؟ والأوّل منتف لافتراض كونهما محرمين قبل النذر فلا أمر حتّى يقصده ؛ بقي الثاني وهو الأمر النذري ، الذي هو أمر توصّلي لا تقرّبي ، فقوله : ( فليوفوا نذورهم ) مثل قوله : ( أوفوا بالعقود ).

ويمكن الجواب عنه بوجوه ثلاثة ، وقد ذكر المحقّق الخراساني منها وجهين :

١. يكفي في صحّة العبادة وجود الرجحان قبل النذر كشف عنه دليل


صحتها ، فملاك العبادة وجود الملاك فيها ، وقد عرفت ما يدلّ من الروايات على كونهما راجحين بالذات وإنّما لم يؤمرا بهما لوجود المانع ، ولم يذكر المحقّق الخراساني هذا الجواب في المقام مع أنّه ذكره عند الذبّ عن الإشكال الأوّل ، وكان عليه أن يشير إليه في المقام أيضاً ـ الإشكال الثاني ـ.

٢. صيرورة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات راجحين بتعلّق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك ، كما ربما يدلّ عليه ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت. (١) وإلى هذا أشار المحقّق الخراساني بقوله : لأجل كشف دليل صحّتها عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلّق النذر.

ومرجع هذا الجواب إلى أنّه يعرض للمتعلّق عنوان راجح يجعله ذا ملاك كاف في عبادية المتعلّق ، نظير ما مرّ في صوم يوم عاشوراء من أنّه ينطبق عليه عنوان يجعله مكروهاً غير محبوب.

وأورد عليه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي بأنّ العنوان غير الملتفت إليه لا يكون مصحّحاً للعبادة حيث قال : إنّه لا معنى لصيرورتهما عباديين لأجل طروء عنوان مجهول يغفل عنه المكلّف ولا يكون مقصوداً له لا تفصيلاً ولا إجمالاً. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً لكنّه يكفي في وجود الرجحان وجود العنوان الراجح في الواقع وإن لم يتوجه المكلّف إليه فمصحح العبادية وجود الرجحان وقصد الشيء الراجح وإن لم يعلم وجه الرجحان لا قصد العنوان حتّى تكون الغفلة مانعة عن قصد العبادية.

__________________

١. لم نقف على هذا النصّ وإنّما الموجود هو تشبيه الإحرام قبل الميقات بإتمام الصلاة في السفر كما مرّ.

٢. لمحات الأُصول : ٣٣٤.


على أنّه يمكن أن يقال : انّ العنوان العارض : « كون أفضل الأعمال أحمزها » وهو ليس شيئاً مغفولاً للمكلّف عند النذر.

٣. يكفي في العبادية الرجحان الطارئ على المتعلّق بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً ومتقرباً بهما منه تعالى.

والفرق بين الثاني والثالث واضح ، فانّ الرجحان الطارئ في الجواب الثاني يرافق تعلّق النذر وليس متأخراً عنه بخلاف هذا الجواب ، فانّ الرجحان يكون طارئاً بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً ومتقرباً بهما منه.

فإن قلت : كيف يتعلّق بهما النذر بإتيانهما عبادياً مع أنّهما ليسا حين النذر عبادة ، بل يوصفان بها بعد تعلّق النذر كما هو المفروض ، وعندئذ فهو عند النذر ليس متمكّناً من المتعلّق الموصوف بالعبادية.

قلت : يكفي التمكّن من المتعلّق بعد النذر ولا يعتبر في صحّة النذر إلا التمكّن من الوفاء ولو بسبب النذر.

هذه هي الأجوبة الثلاثة التي جاء الثاني والثالث منهما في « الكفاية » دون الأوّل.

وعلى كلّ تقدير فالذب عن الإشكال الثاني بأحد الوجوه الثلاثة :

١. وجود الرجحان الذاتي في المتعلّقين قبل النذر.

٢. طروء عنوان راجح يرافق النذر.

٣. طروء رجحان به بعد النذر لأجل انّ المكلّف نذر بقيد انّ المتعلّق عبادي وموجب للتقرب.

وهذا هو السبب لطروء عنوان راجح بعد النذر.


ولا يخفى انّ هذه الأجوبة فروض نظرية لا دليل عليها إلا الفرض الأوّل على بعض الروايات من تشبيه الإحرام قبل الميقات على إتمام الصلاة فيه ، بناء على اشتماله على المصلحة واقترانه بالمانع.

والأولى أن يجاب بجواب رابع وهو انّ عبادية الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر ببركة نفس الأوامر المتعلّقة بالإحرام والصوم غاية الأمر انّ الموضوع للوجوب هو الإحرام من الميقات وللاستحباب هو الصوم في الحضر ، ولا يعمّان الإحرام قبله أو الصيام في السفر ، وأمّا مع ملاحظة النذر فصار موضوع الوجوب أو الاستحباب أوسع ممّا في الدليل.

فالموضوع مع النذر أوسع من الإحرام من الميقات والصوم في الحضر.

وبالجملة انّ ما دلّ على صحّة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر مع النذر كشف عن كون الموضوع في حال النذر أوسع منه في غيره.

وعلى ذلك فالناذر يأتي بقصد نفس الأمر المتعلّق بحجة الإسلام أو الصوم الاستحبابي من دون حاجة إلى التمسّك بالأجوبة الثلاثة.


الفصل الثامن

إحراز حال الفرد المشتبه

بالأصل اللفظي

كانت البحوث السابقة تدور حول إحراز حال الفرد المشتبه بالطرق التالية :

١. إحرازه بالتمسّك بالعام المخصص.

٢. إحرازه عن طريق الأصل العدمي الأزلي.

٣. إحرازه عن طريق العناوين الثانوية.

هذه هي البحوث الماضية ولكن يدور البحث في هذا الفصل على إحراز الفرد لكن بالأصل اللفظي ـ أي أصالة العموم ـ وربّما يعبر عن هذا البحث بأنّه إذا دار أمر الفرد بين التخصيص والتخصّص فهل يمكن إثبات الثاني بالتمسّك بأصالة العموم أو لا؟ وللمسألة صورتان :

الصورة الأُولى : إذا ورد قوله : أكرم العلماء ، وعلم من الخارج حرمة إكرام زيد ، ودار الأمر بين كونه جاهلاً فيكون الخروج تخصّصاً ، أو عالماً فيكون الخروج تخصيصاً ، فهل يصحّ التمسّك بأصالة العموم وإثبات انّ الخروج تخصّصي وانّ زيداً جاهل لا عالم ، فلو وقع الجاهل في لسان الدليل موضوعاً للأثر الشرعي يترتب عليه ذلك الأثر بفضل أصالة العموم؟


ذهب الشيخ الأعظم في تقريراته إلى جواز التمسك قائلاً بإنّ مقتضى العام : كلّ عالم يجب إكرامه ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب. (١)

وأورد عليه المحقّق الخراساني باحتمال اختصاص حجّية أصالة العموم بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوماً بحكمه كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الأُصول اللفظية وإن كان حجّة ، إلا أنّه لابدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ولا دليل هاهنا إلا السيرة وبناء العقلاء ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك. (٢)

توضيحه : انّ القدر المتيقّن من الأصل الرائج بين العقلاء هو الاحتجاج بها عند الشكّ في المراد كما إذا ورد العام وشكّ في خروج فرد منه وعدمه ، فتجري أصالة العموم وتثبت تعلّق الإرادة الجدية به بعد تعلّق الإرادة الاستعمالية به قطعاً.

وأمّا إذا علم المراد ، وانّ زيداً على كلّ تقدير غير واجب الإكرام لكن شكّ في أمر آخر ، وهو هل انّه جاهل فيكون خروجه تخصّصاً ، أو عالم فيكون خروجه تخصيصيّاً؟ ففي مثله لا يحتجّ بأصالة العموم ، وذلك لانّها أصل اعتبر لاحتجاج المولى على العبد ، والصالح له ، هو ما إذا كان الشكّ في المراد ، لا في كيفية الإرادة من أنّها تخصيصية أو تخصّصية ، إذ لا صلة لهذا بمقام الاحتجاج.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذكر لجريان أصالة العموم ثمرتين نشير إليهما :

__________________

١. مطارح الأنظار : ٢٠٠.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٣٥٢.


١. اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ ماء الاستنجاء غير منجّس ، واختلفوا في كونه طاهراً غير منجّس ، أو نجساً غير منجس. فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين :

أ. ثبت في محله : انّ كلّ نجس منجس ، ولذلك ذهبوا إلى انفعال الماء القليل ، الملاقي للنجاسة.

ب. كما ثبت في محلّه على أنّ الملاقي لماء الاستنجاء ليس بنجس. (١)

وعندئذ نقول : لو كان ماء الاستنجاء طاهراً ، لكان خروج طهارة ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل « كلّ نجس منجّس » من باب التخصّص ، بخلاف ما لو كان ماء الاستنجاء نجساً ، لكان خروج ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصاً ، لافتراض انّ الماء نجس ، ولكنّه ليس بمنجّس ، ولازم القول بعدم ورود التخصيص على الدليل الأوّل كون الماء طاهراً.

٢. اختلفت كلمتهم في أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح أو الأعم ، فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين :

الأوّل : ( إِنَّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالْمُنْكَر ) (٢) كما في الآية المباركة.

الثاني : انّ الصلاة الفاسدة لا تنهى عنهما.

فلو كانت الصلاة موضوعة للصحيح ، يكون خروج الفرد الفاسد عن تحت الدليل الأوّل من باب التخصّص ، ولو قلنا بأنّها موضوعة للأعم يكون خروجه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصياً فمقتضى حفظ عموم الدليل الأوّل هو الثاني فتكون النتيجة هو كونه موضوعاً للصحيح.

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ١٣ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٥.

٢. العنكبوت : ٤٥.


الصورة الثانية للمسألة

إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيداً ، ودار الأمر بين كون المراد ، هو زيد العالم أو زيد الجاهل ، فالظاهر صحّة التمسك بأصالة العموم وانّه لم يخصص ، فيترتب عليه انّ الخارج هو زيد الجاهل ، وأمّا زيد العالم فيجب إكرامه.

وما ذلك إلا لأنّ الشكّ في هذه الصورة في المراد ، فهل هو زيد العالم أو زيد الجاهل فهما شخصان؟

والشيخ الأعظم ذهب إلى حجّية الأصل المذكور في كلّ من الصورتين مع وضوح الفرق بينهما ، لأنّ الشكّ في الصورة الأُولى في كيفية الإرادة لا المراد ، وأمّا الصورة الثانية فالشك ومركزه هو المراد وانّ أيّاً من الرجلين خرج عن تحت العام ، إذ لو كان الخروج من باب التخصيص يحرم أو لا يجب إكرام زيد العالم ، بخلاف ما لو كان الخروج تخصّصياً فيجب إكرامه.

تنبيه

ما مرّ عليك من الصورتين غير ما تقدم عند البحث عن سراية إجمال المخصص الدائر إجماله بين المتبائنين حيث قلنا بعدم جواز التمسّك بالعام لرفع إجماله.

وذلك لأنّ الكلام فيما مرّ ما إذا كان التخصيص قطعياً ودار أمر زيد ، بين كونه زيد بن عمرو العالم ، أو زيد بن بكر العالم ، ففي مثله يسري إجمال المخصص إلى العام فلا يكون حجّة في واحد من الموردين ، وهذا بخلاف الصورتين الماضيتين فانّ التخصيص مشكوك من رأس.


غاية الأمر يدور الأمر في الصورة الأُولى بين كون زيد ، عالماً أو جاهلاً ؛ كما يدور الأمر في الصورة الثانية ، بين كون المراد ، زيد العالم ، أو زيد الجاهل ، فالتخصيص في كلتا الصورتين مشكوك بخلاف الصورة الثالثة ، فانّ التخصيص قطعي ، غاية الأمر يدور الأمر بين زيدين عالمين أحدهما ابن عمرو والآخر ابن بكر.


الفصل التاسع

لزوم الفحص عن المخصّص

قد جرت سيرة الفقهاء على عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به ، مثلاً : لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (١) إلا بعد الفحص عن مخصّصه ، كجواز الربا بين الزوج والزوجة والوالد والولد ، أو لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَن تَقْصُُروا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمْ الَّذينَ كَفَرُوا إِنَّ الكافِرينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبيناً ) (٢) قبل الفحص عن مخصصه ، كلزوم الإتمام لكثير السفر ، أو لمن حرم سفره ، أو أقام عشرة أيام في مكان ، وغير ذلك.

وهكذا سائر العمومات ، وهذا أمر اتّفق عليه الفقهاء.

وأوّل من طرح المسألة هو ابن سريج في أوائل القرن الرابع وخالفه تلميذه أبو بكر الصيرفي حيث استشكل على الأُستاذ بأنّه لو وجب الفحص عن المخصّص في التمسّك بالعام وجب الفحص عن قرينة المجاز عند الحمل على الحقيقة ، وسيظهر جوابه فيما نتلوه عليك من الدليل على وجوب الفحص.

__________________

١. البقرة : ٢٧٥.

٢. النساء : ١٠١.


فإذا كان الفحص عن المخصص أمراً متفقاً عليه ، يقع الكلام فيما هو الوجه لاتّفاق العلماء على هذا الأصل ، وقد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة أوضحها أوّلها :

الأوّل : وقوع العام في مظان التخصيص

قد جرى ديدن العقلاء في المحاورات الشخصية على الإتيان بكلّ ما له دخل في مقاصدهم ، ولأجل ذلك يتمسّك بظواهر كلماتهم من دون تربّص قيد ، مثلاً : كما إذا طلب المولى من عبد أن يدعو مجموعة معينة من جيرانه لمأدبة طعام ، فعندئذ يذكر كلّ ما له دخل في غرضه دون أن يميز بين الأصل والفرع.

وأمّا المحاورات العامة التي تدور حول تقنين قوانين وتسنين سنن على صعيد عام أو صعيد خاص ، فقد جرت سيرتهم على ذكر العام والمطلق في برهة والمخصص والمقيّد في برهة أُخرى.

ثمّ إنّ الداعي إلى التفريق بين العام ومخصّصه أو المطلق ومقيّده هو قصور علم المقنن عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد ، حيث يضع حكماً عاماً ثمّ يتبيّن عدم توفر الملاك في طائفة من أفراد العام.

وربما يكون الداعي غير ذلك لكن الغالب هو الأوّل.

وأمّا التشريع الإسلامي في الذكر الحكيم فقد سار على هذا النحو ، لا لقصور في الإحاطة بالمصالح والمفاسد ، لأنّ المشرِّع هو اللّه سبحانه وهو محيط بكلّ شيء ، بل لمصالح في نزول الأحكام نجوماً طيلة ٢٣ سنة تقتضيه مصالحُ العباد ، نرى أنّه سبحانه يتكلّم في أحكام الكلالة في أوائل سورة النساء وأواخرها ، وما هذا إلا لوجود المصلحة في تبيين الأحكام نجوماً.

وقد كان المشركون في صدر الإسلام يعترضون على نزول القرآن نجوماً ، وقد


جاء هذا الاعتراض والجواب عنه في آية واحدة ، أعني قوله سبحانه : ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ َ وَرَتَّلْناهُ تَرْتيلاً ). (١)

إلى هنا تبيّن انّ السبب لنزول الأحكام والقرآن تدريجاً أمران :

١. اقتضاء مصلحة العباد ذلك.

٢. انّ في النزول التدريجي تثبيتاً لفؤاد النبي 6.

ويمكن أن تكون هناك مصالح أُخرى.

هذا كلّه حول القرآن ، وأمّا السنّة ـ أعني : كلام المعصوم ـ فقد وصلت إلينا في فترات تقرب من مائتي وخمسين سنة ، فكانت الظروف مختلفة ، فتارة كانت الظروف تقتضي بيان أصل الأحكام دون بيان مخصّصاتها ومقيّداتها ، وربما كانت الظروف سانحة لبيان تلك المخصّصات والمقيدات ، ولذلك ربّما ترى وجود العام في كلام النبي 6 والمخصص في كلام الأئمّة :.

وعلى كلّ تقدير فالعام الذي هو في مظـان التخصيص لا يحتجّ به إلا بعد الفحص عن مخصّصاته ومقيّداته.

نعم لا يجب الفحص عن المخصّص المتصل ، لأنّ سقوطه عن الكلام عمداً ينافي وثاقة الراوي ، وسهواً يخالف الأصل العقلائي المجمع عليه من أصالة عدم السهو في النقل.

وحصيلة الكلام : انّ الواجب على المولى هو بيان التكاليف على النحو الذي لو تفحص عنه العبد لوجده ولا يجب على المولى إيصال التكاليف إلى العبد مباشرة من دون حاجة إلى الفحص والبحث.

__________________

١. الفرقان : ٣٢.


هذا هو توضيح الوجه الذي بيّنه المحقّق الخراساني وتبعه سيّدنا الأُستاذ 1 ، ومع هذا الوجه لا حاجة إلى الوجهين التاليين :

الثاني : الظن الشخصي بالتكليف رهن الفحص

إنّ الظن الشخصي بالمراد الجدي لا يحصل قبل الفحص عن المخصّص ، فلابدّ من الفحص حتّى يحصل الظن الشخصي بالمراد ، ويمتثل.

يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في لزوم الفحص من دون حاجة إلى إثبات أنّ الظنّ الشخصي رهن الفحص ، ومن المعلوم أنّ الأوّل أقلّ مؤونة من الثاني.

وثانياً : أنّ مناط حجّية الظواهر ليس هو الظنّ الشخصي ، بل مناطه عند المشهور الظن النوعي ، كما عليه مشهور الأُصوليّين ؛ أو اليقين بالمراد الاستعمالي ، كما هو المختار. وعلى كلا التقديرين لا محيص من الفحص.

أمّا الأوّل فانّ حصول الظن النوعي رهن الفحص عن المخصص إذا كان ديدن المولى على فصل المخصص عن العام.

وأمّا الثاني فانّ اليقين بالإرادة الاستعمالية لا يحتج به إلا إذا أحرز تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية وإحراز التطابق رهن الفحص عن المخصص.

وثالثاً : لو كان مناط الفحص هو عدم حصول الظن قبل الفحص يلزم الاقتصار في مقدار الفحص على الحدّ الذي يحصل به الظن الشخصي ، وهو خلاف المدّعى ، فإنّ ديدن العلماء هو الفحص عن مظان المخصّص ، سواء حصل الظن الشخصي قبله أو لا.

ورابعاً : لو كان الملاك هو حصول الظن الشخصي يلزم الفوضى في مقدار


الفحص فانّ طبائع الناس مختلفة ، فربّ شخص يحصل له الظنّ بأدنى فحص ، وربّ شخص آخر لا يحصل له ذلك الظن إلا بعد إنهاء الفحص.

إلى هنا تبيّن انّ المناط في لزوم الفحص هو كون العام في مظان التخصيص لا توقف حصول الظن الشخصي بالبحث.

بقي الكلام في الوجه الثالث الذي قيل في لزوم الفحص ، وهو الآتي.

الثالث : وجود العلم الإجمالي بالمخصّص

إنّ العلم الإجمالي بالمخصّص يمنع عن جريان الأصل اللفظي ، كما أنّه يمنع عن جريان الأصل العملي ، فكما لا تجري أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين فهكذا لا تجري أصالة العموم في عمومات الكتاب والسنّة ، والجامع وجود العلم الإجمالي بالتكليف المخالف لمقتضى الأصل.

يلاحظ عليه : بما ذكرناه في الوجه السابق من أنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في الحث على البحث من دون حاجة إلى التمسّك بالعلم الإجمالي ، فالأوّل أقلّ مؤونة دون الثاني.

نعم استشكل على هذا الوجه بوجوه غير تامة.

١. لو كان المناط هو وجود العلم الإجمالي بالمخصص لزم إيقاف الفحص إذا ظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، مثلاً نفترض أنّه لو علم بأنّ في الشريعة الإسلامية حوالي خمسين مخصصاً فأخذ بالفحص في أحاديث الكافي فظفر بهذا المقدار ، تفصيلاً ، فلازم ذلك الحال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجود مخصصات قطعية في كتاب الكافي وشك بدويّ في غيره ونتيجة الانحلال عدم وجوب الفحص عندئذ في كتابي : الفقيه والتهذيب ، مع أنّ سيرة العلماء هو


الفحص في الجميع.

ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأنّه إذا ظفر بالمقدار المعلوم إجمالاً بمجرد مطالعة الكافي يُكشف له بطلان العلم الأوّل ، أعني : كون المخصص حوالي خمسين رواية ، بل يحصل له العلم بسعة دائرة العلم الإجمالي بوجود مخصّصات أُخرى في كتابي : الفقيه والتهذيب ، فيكون الميزان هو وجود العلم الإجمالي أيضاً وانحلاله.

هذا هو الجواب الصحيح عن الإشكال ، غير أنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر.

إنّ المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلاً غير معلّم بعلامة ، وأُخرى معلّماً بعلامة وانحلال العلم الإجمالي بالعثور على المقدار المتيقّن إنّما يكون في القسم الأوّل ، لأنّ منشأ العلم فيه هو ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقّنة ، كما إذا علم بأنّه مديون لزيد وتردد الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة ، وأمّا القسم الثاني فلا ينحلّ به ، بل حاله حال دوران الأمر بين المتبائنين ، ولا انحلال في مثله لعدم الرجوع إلى العلم بالأقل ، والشكّ في الأكثر من أوّل الأمر ، بل يتعلّق العلم بجميع الأطراف بحيث لو كان الأكثر واجباً لكان ممّا تعلّق به العلم وتنجز بسببه وليس الأكثر مشكوكاً فيه من أوّل الأمر. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه لو كان العنوان المتعلّق بالعلم الذي يعبّر عنه المحقّق النائيني بالعلامة ، ذا أثر شرعي لكان لما ذكره وجه ، كما إذا تعلّق العلم الإجمالي بوجود خمسة شياه موطوءة في قطيع غنم ، فقامت البيّنة على حرمة أكل خمسة شياه معينة ، فهذا النحو من العلم التفصيلي لا ينحل به العلم الإجمالي ، بل يجب

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥٤٥.


الاجتناب عن الجميع أيضاً ، وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال كان معنوناً بعنوان الموطوءة ، ولكنّ البيّنة قامت على مجرّد حرمة أكلها ، وهي أعمّ من كونها موطوءة.

وأمّا إذا كان العنوان فاقداً للأثر كما في المقام فلا يجب رعايته.

فلا فرق بين القضيتين إحداهما مرسلة والأُخرى معنونة.

١. إذا علم بأنّه أتلف دنانير لزيد مردّدة بين الخمسة والعشرة ، فبما انّ الخمسة معلومة تفصيلاً والزائد عليها مشكوكة ، ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي.

٢. أتلف الدنانير الموجودة في كيس زيد ، وهي مردّدة بين الخمسة والعشرة ، فإنّ المعلوم بالإجمال معنون بما في الكيس ، لكن ذلك لا يمنع عن الانحلال ، لعدم ترتّب الأثر على قوله في الكيس.

ونظيره تعلّق العلم الإجمالي في المقام بما في الكتب التي بأيدينا ، إذ ليس للقيد بما في الكتب أثر شرعي ، وإنّما الأثر الشرعي نفس المخصصات والكتب ظرف لها.

والأولى الإجابة عن الإشكال بما ذكرناه.

٢. لو كان الفحص لأجل وجود العلم الإجمالي لزم عدم جواز التمسك بالعام حتّى بعد الفحص لعدم انحلال العلم الإجمالي حتّى بعد المراجعة إلى الكتب التي بأيدينا ، سواء كانت معتبرة أم لا ، لأنّ العلم بالمخصّصات لا ينحصر فيما بأيدينا من الكتب ، بل يعمّ الكتب المؤلفة في عصور الأئمّة التي ضاعت ولم تصل إلينا ، كجامع البزنطي المتوفّى عام ٢٢١ ، ونوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى المتوفّى حوالي ٢٩٠ ، وغيرهما ومعه كيف ينحلّ؟!


يلاحظ عليه : بما سيوافيك عند البحث في دليل الانسداد انّ ادّعاء العلم الإجمالي بوجود أخبار متضمّنة لأحكام عامّة أو خاصّة في الكتب التالفة مجرد احتمال لا يدعمه دليل ، بل المحمدون الثلاثة نقلوا ما في الجوامع الأوّلية إلى كتبهم بنظم ونسق خاص.

٣. انّ لازم ذلك الفحص عن كلّ الكتب الموجودة بأيدينا ، سواء كانت من المعتبرة أو غير المعتبرة ، وسواء كان الكتاب فقهاً أو حديثاً أو أخلاقاً ، ومن المعلوم أنّ وقت المجتهد لا يسع لهذا المقدار من الفحص.

يلاحظ عليه : بأنّ دائرة العلم الإجمالي ضيّقة من أوّل الأمر ، إذ لا علم لنا بوجود روايات صحيحة متضمنة لأحكام عامة أو خاصة في غير الكتب المعتبرة ، بل وجود الروايات فيها مشكوك من أوّل الأمر وليس طرفاً للعلم الإجمالي.

وهناك جواب آخر وهو ترتيب علمين إجماليّين أحدهما كبير والآخر صغير وانحلال الكبير بالصغير ، فقد أوضحه شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة ولم يتعرض له في هذه الدورة ، فمن أراد الوقوف فليرجع إلى كتاب « المحصول » لزميلنا السيد الجلالي حفظه اللّه.

هل الفحص عن المخصّص فحص عن المزاحم أو المتمم للحجّية؟

إنّ هنا بحثاً آخر وهو انّ البحث عن المخصص هل هو بحث عمّا يزاحم الحجية ، بمعنى انّ العام حجّة تامة لا نقص فيها وانّما نبحث عمّا يزاحم حجّيتها ، ومن المعلوم أنّه يؤخذ في المتزاحمين بأقواهما وهو الخاص كالغريقين أحدهما ذمي والآخر مؤمن ، فيؤخذ بالأقوى ملاكاً.

أو هو فحص عن متمم الحجية بمعنى انّ العام الواقع في مظان


التخصيص ليس بحجّة عند العقلاء حتّى يفحص عن مخصصه فيكون عدم المخصص مكمّلاً لحجّية العام. نظير الفحص عن الدليل الاجتهادي عند التمسك بالأُصول العملية فانّ موضوع البراءة هو قبح العقاب بلا بيان ولا يحرز عدم البيان إلا مع الفحص ، كما أنّ موضوع التخيير هو عدم الترجيح ولا يحرز ذلك العدم إلا بالفحص.

كما أنّ موضوع الاحتياط هو احتمال العقاب الأُخروي في كلّ من طرفي العلم الإجمالي ولا يحرز إلا بفقد الدليل على أنّ الحرام في جانب معين.

ذهب المحقّق الخراساني إلى القول الثاني وانّ الفحص في المقام فحص عن المزاحم بخلافه في جريان الأُصول العملية.

ولكنّ الظاهر انّ الموردين من باب واحد ، وذلك لما أوضحناه سابقاً من أنّ أساس الاحتجاج أُمور ثلاثة :

١. وجود الدليل الظاهر في مفهومه.

٢. عدم قيام قرينة على خلافه.

٣. كون الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية.

ولا يُحرز الأخيران إلا بالفحص ، إذ بالفحص يتبيّن وجود القرينة على الخلاف ، كما أنّه بالفحص يتبيّن تطابق الإرادتين ، إذ بوجود المخصّص يظهر عدم المطابقة ومن عدمه يظهر تطابقهما ، والجميع رهن الفحص.

وإن شئت قلت : إنّ العام الذي هو في مظان التخصيص ليس بحجّة فعلية ، بل حجّة شأنية ، لماعرفت من جريان السيرة على عدم الاحتجاج بمثل هذا الكلام إلا بعد الفحص عمّا له مدخلية في تبيين الإرادة الجدية.


مقدار الفحص

وأمّا مقدار الفحص فيختلف حسب الأدلّة التي أُقيمت على وجوب الفحص ، أمّا إذا كان الدليل وقوع العام في مظان التخصيص فيجب الفحص حتّى يخرج العام عن ذلك المظان بالرجوع إلى الكتب الأربعة ، أو الوسائل المتضمنة لها ولسبعين كتاباً آخر.

وهو أمر واضح لا حاجة إلى البيان.

والعجب انّه اعترض المحقّق الخوئي على هذا الأمر الواضح بأنّه لايرجع إلى معنى محصل ، لأنّه بالفحص لا يخرج عن المعرضية ، لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المراد من المعرضية احتمال وجود مخصص وارد عليه موجود في الكتب الروائية فإذا سبر ولم يجد المخصص ينتفي ذلك الاحتمال وبالتالي يخرج عن المعرضية.

__________________

١. المحاضرات : ٥ / ٢٧٢.


الفصل العاشر

في الخطابات الشفاهية

هل الخطابات الشفاهية مثل قوله تعالى : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيام ) (١) تختص بالحاضرين في محل التخاطب ، أو تعمّ غيرهم من الغائبين والمعدومين؟

جعل المحقّق الخراساني محل النزاع أحد الأُمور التالية :

الأوّل : في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب ، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين كتعلّقه بالموجودين أو لا؟

الثاني : هل تصحّ مخاطبة المعدوم والغائب في محل الخطاب بالألفاظ الموضوعة له أو بنفس توجيه الكلام إليهم أو لا؟

الثالث : هل الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب تعمّ المعدوم والغائب أو لا؟

والبحث عن الأمرين الأوّلين عقلي وعن الثالث لغوي. (٢)

وعلى كلّ تقدير فلنبحث عن الجهات الثلاث.

__________________

١. البقرة : ١٨٣.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٣٥٤.


الجهة الأُولى : في صحّة تكليف المعدوم وعدمها

فنقول : إنّ المحقّق الخراساني صوّرها بوجوه ثلاثة :

١. أن يتوجّه إليه البعث والزجر الفعليان بأن يكون هناك بعث وزجر ، وهذا ما لا يتمشى من الإنسان العاقل ، وإلى هذا القسم ينظر كلامه حيث قال : لا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلاً بمعنى بعثه أو زجره فعلاً. (١)

نعم ذهب بعض الحنابلة إلى جواز تكليف المعدوم ، واستدلّوا على جوازه بآيتين مباركتين تاليتين :

أ. ( إِنّما أمرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) (٢) حيث إنّه يكلّف المعدوم بقبول الوجود والتكون.

ب. ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ عَلى أَنفُسِهِمْ أَلستُ بِربِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدنا أَن تَقُولُوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هِذا غافِلين ) (٣) حيث إنّه سبحانه كلّفهم بالشهادة على ربوبيته فأجابوا بقولهم : بلى.

والاستدلال واه جداً.

أمّا الآية الأُولى : فلأنّها بصدد بيان انّ إرادة اللّه سبحانه نافذة في كلّ شيء ممكن ، وانّها إذا تعلّقت بتحقّق شيء ووجوده ، يتحقّق فوراً بلا تريث وتربّص لا انّ هناك خطاباً لفظياً بلفظة « كن » ومخاطباً واقعياًً حتّى يكون دليلاً للحنابلة ، هذا وقد فسّر الإمام علي 7 الآية المباركة بقوله : « يقول لمن أراد كونه ، كن ،

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٥٥.

٢. يس : ٨٢.

٣. الأعراف : ١٧٢.


فيكون ، لا بصوت يُقْرع ولا بنداء يُسمع ، وإنّما كلامه فعل منه أنشأه ومثّله ولم يكن من قبل ذلك كائناً ». (١)

وأمّا الآية الثانية : فليس الاستشهاد والشهادة بلسان القال وإنّما هو بلسان الحال ، وإنّ كلّ إنسان إذا صار بشراً سوياً يشهد بفطرته على توحيده ، وبصنعه على حكمته سبحانه ، ولذلك يقول شيخ المفسرين الإمام الطبرسي في تفسير الآية :

المراد بالآية انّ اللّه سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أُمّهاتهم ثمّ رقاهم درجة بعد درجة ، وعلقة ثمّ مضغة ، ثمّ أنشأ كلاً منهم بشراً سوياً ، ثمّ حياً مكلّفاً ، وأراهم آثار صنعه ، ومكّنهم في معرفة ، دلائله حتّى كأنّه أشهدهم وقال لهم : ( ألست بربّكم فقالوا بلى ) هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم دلّهم بخلقه على توحيده.

وإنّما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولهم من الأدلّة الدالّة على وحدانيته وركّب فيهم من عجائب خلقه وغرائب صنعته وفي غيرهم ، فكأنّه سبحانه بمنزلة المُشْهِد لهم على أنفسهم ، فكانوا في مشاهدة ذلك وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده اللّه وتعذر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقر ، وإن لم يكن هناك إشهاد صورة وحقيقة نظير ذلك قوله تعالى : ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) وإن لم يكن منه سبحانه قول ولا منها جواب. (٢)

إلى هنا تبين انّ تكليف المعدوم بالبعث والزجر الفعليين ممّا لا يصدر من الإنسان المريد.

٢. جعل التكليف الإنشائي للموجودين والغائبين والمعدومين ، وإلى هذا

__________________

١. نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٩.

٢. مجمع البيان : ٢ / ٤٩٨.


القسم ينظر قول المحقّق الخراساني : نعم هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر ولا استحالة فيه أصلاً ، فانّ الإنشاء خفيف المؤونة ، فالحكيم تبارك وتعالى ينشأ على وفق الحكمة والمصلحة ، ويطلب شيئاً قانوناً من الموجود والمعدوم حين الخطاب ليصير فعلياً بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الإنشاء وإن كان خفيف المؤونة لكن فيما إذا كان له معنى متصوّر ، والمعدوم ليس من أفراد الناس حتّى يكون محكوماً بحكم إنشائي وإيقاعي ، وإنّما يتصور الحكم الفعلي أو الإنشائي فيما إذا كان المكلّف موجوداً ، فتارة يكون الحكم في حقّه فعلياً وأُخرى إنشائياً ، وأمّا إذا لم يكن منه أي أثر وأي ميز فكيف يمكن أن يحكم على المعدوم والمجهول المطلق بحكم وقد اشتهر قولهم : « المجهول المطلق لا يمكن الإخبار عنه » ، وما استشهد في كلامه من الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة سوف يوافيك انّ كيفية الوقف بشكل آخر.

وثانياً : أنّ الحكم الإنشائي الصادر لا لغرض البعث ، بل لغاية التحسّر والتضجّر ، لا يصير فعلياً عند تحقّق الموضوع والصادر لغاية البعث لا يتعلّق بالمعدوم ويكون لغواً.

٣. إنشاء الحكم مقيداً بوجود المكلّف وكونه جامعاً للشرائط ، وإليه أشار المحقّق الخراساني بقوله :

وأمّا إذا أنشأ مقيداً بوجود المكلّف ووجدانه للشرائط فإمكانه بمكان من الإمكان. (٢)

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٥٥.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٣٥٦.


وهذا الوجه هو المصحّح لشمول الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين لكن بتقرير يتوقّف بيانه على توضيح أقسام القضايا من حيث الموضوع ، فنقول :

تقسم القضايا من حيث الموضوع إلى ذهنية وخارجية وحقيقية.

أمّا الذهنية فهي عبارة عمّـا إذا حكم على موضوع في الذهن ، وهو على قسمين :

تارة يكون على وجه يمتنع عليه الوجود في الخارج ، كقولنا : اجتماع النقيضين محال.

وأُخرى لا يمتنع ، وإن كان غير موجود بالفعل ، كقولنا : بحر من زيبق بارد أو جبل من الذهب لامع ، فانّ الموضوع في القضيتين ليس له وجود إلا في الذهن وإن أمكن وجوده في الخارج.

فإن قلت : ما الفرق بين الذهنية والطبيعية حيث إنّ للقضايا تقسيماً آخر باعتبار حالات الموضوع ، فتنقسم إلى : شخصية كقولنا زيد قائم ، وطبيعية كما إذا كان الحكم على الماهية بما هي هي ، مثل قولنا : الإنسان نوع أو الإنسان كلّي.

قلت : الفرق بينهما انّ الموضوع في الطبيعية هي الماهية من دون نظر إلى الخارج ، ولذلك قلنا : إنّ الموضوع الماهية بما هي هي ، وهذا بخلاف الذهنية ، فإنّ الحكم فيها على الموجود في الذهن بما انّه يحكي عن الخارج ولو بالامتناع أو عدم الوجود ، كما في المثالين : اجتماع النقيضين محال أو بحر من زيبق بارد.

وأمّا الخارجية والحقيقية فهما يشتركان في أنّ الحكم في كلتا القضيتين على العنوان لا على الافراد ، غير أنّ العنوان في إحدى القضيتين على وجه لا ينطبق إلا على الافراد الموجودة حين التكلّم بخلاف الأُخرى ، فإنّ العنوان فيها ذو قابلية


يصلح أن ينطبق على الافراد الموجودة عبر الزمان من غير فرق بين موجود حال التكلّم أو موجود بعده.

وبعبارة أُخرى : يشتركان في أنّ الحكم على العنوان لا على الخارج. ويفترقان في أنّ العنوان في القضية الخارجية له ضيق ذاتي لا ينطبق إلا على الأفراد الموجودة في زمان التكلم ، كما إذا قال : قُتِلَ مَنْ في العسكر ونُهِب ما في الدار ، فانّ الإخبار عن القتل والنهب في الزمان الماضي لا ينطبق إلا على الموجود في ظرف التكلّم بخلاف العنوان في القضية الحقيقية ، فإنّ له مرونة على وجه ينطبق على الافراد الموجودين عبر القرون فالحكم ـ بما له بقاء في عالم الاعتبار ـ محمول على العنوان الذي ينطبق على مصاديقه بالتدريج.

إذا عرفت ذلك فلا مانع من القول بشمول الحكم لعامّة مصاديق العنوان طول الزمان على وجه القضية الحقيقية ، كما إذا قال سبحانه : ( وللّه على النّاس حجّ البَيت ) فالتكليف متعلّق بالعنوان وهو الناس ، ولكنّه على وجه يتكثّر أفراده ومصاديقه طول الزمان ، فللموضوع استمرار لوجود مصداق بعد مصداق ويتبعه الحكم في استمراره.

نعم كلّ ذلك ـ كما قلنا ـ رهن بقاء الحكم في وعاء من الأوعية ولو في عالم الاعتبار كما هو مفهوم الخاتمية ، ومعنى ذلك أنّ لأحكامه سبحانه وجوداً وبقاءً عبر الزمان متعلّق بالعناوين المتكثرة مصداقاً ووجوداً.

وبهذا يعلم حال الوقف للبطون اللاحقة ، فإنّ الوقف على عنوان الأولاد وللعنوان قابلية للتكثّر من حيث الافراد طول الزمان وللحكم بقاء في عالم الاعتبار فكلّما توفرت الأفراد استتبعته الأحكام.

فتلخص ممّا ذكرنا :


١. إنّه لا مانع من عمومية التكاليف الواردة في الخطابات للحاضر والغائب والمعدوم ، بشرط جعل التكليف على نحو القضايا الحقيقية ، أي يكون للعنوان قابلية الانطباق على الافراد طول الزمان.

٢. انّ الحكم في كلّ من القضيتين : الخارجية والحقيقية ، على العنوان ابتداءً ، ( لا على الأفراد الخارجية مباشرة وبلا توسيط عنوان ) ، غاية الأمر يختلف العنوانان في قابلية التطبيق ضيقاً وسعة.

المحقّق النائيني وتفسير القضيتين

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني تفسيراً خاصاً حول القضيتين نذكرهما بنصّ مقرر بحثه المحقق الكاظمي.

أمّا الخارجية فعرّفها بقوله :

إنّ الحكم في القضية الخارجية مترتّب ابتداءً على الخارج بلا توسط عنوان ، سواء كانت القضية جزئية أو كلية ، فإنّ الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضاً إنّما يكون مترتباً على الافراد الخارجية ابتداءً من دون أن يكون هناك بين الأفراد جامع اقتضى ترتّب الحكم عليها بذلك الجامع كما في القضية الحقيقية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلط بين القضية الشخصية والقضية الخارجية ، فانّ الحكم في القسم الأوّل يتعلق بالخارج دون توسيط عنوان ، فيقال : زيد قائم وخالد جالس ، وبما انّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً ، صارت القضايا الشخصية غير معتبرة في العلوم.

وهذا بخلاف القضايا الخارجية فانّها من القضايا المعتبرة ، وما ذلك إلا لأنّ

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥١٢.


الحكم متعلّق بالعنوان القابل للتكثّر ، وإلا فلو كان سبيل القضايا الخارجية سبيل الشخصية فلماذا فرقوا بينهما بالاعتبار وعدم الاعتبار؟

ثمّ إنّه 1 عرف القضية الحقيقية بقوله : بأنّها ما كان الحكم فيها وارداً على العنوان والطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع. (١)

هذا ما ذكره في أوائل مبحث العام والخاص وأضاف في المقام قوله : وأمّا القضايا الحقيقية فحيث إنّها متكفّلة لفرض وجود الموضوع ، وكان الخطاب خطاباً لما فرض وجوده من أفراد الطبيعة كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب ، فتستوي الأفراد الموجودة في زمن الخطاب وغيره. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره من تعلّق الحكم في القضايا الحقيقية بالعنوان بلحاظ مرآتيته وإن كان صحيحاً ، لكن تقييد العنوان بفرض وجود الموضوع تكلّف لا يحتاج إليه ، بشهادة انّه ليس من فرض وجود الموضوع في ذهن المتكلّم شيء ، وقد عرفت أنّه يكفي تعلّق الحكم بنفس العنوان الحاكي عن الخارج حسب مرور الزمان وعبر الأجيال والقرون.

وبالجملة تكفي قابلية انطباق العنوان على الأفراد الموجودة تدريجاً في عمود الزمان.

الجهة الثانية : في إمكان خطاب المعدوم

قد كان البحث في الجهة السابقة منصبّاً على تكليف المعدوم وفي هذه الجهة

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥١٢.

٢. فوائد الأُصول : ١ / ٥٥٠.


إلى إمكان توجيه خطاب إليه لغاية التفهيم والتفهم ، وقد صرّح المحقّق الخراساني بامتناعه قائلاً : بأنّه لاريب في عدم صحّة خطاب المعدوم ، بل الغائب حقيقة وعدم إمكانه ضرورة عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة ، إلا إذا كان موجوداً بحيث يتوجّه إلى الكلام ويلتفت إليه. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ امتناع تكليف المعدوم كامتناع خطابه من باب واحد ، فلو أمكن تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية ، يمكن توجيه الخطاب إليه عن هذا الطريق.

توضيحه : أنّه إن أُريد من امتناع خطاب المعدوم والغائب ، الخطاب الشفهي والخطاب الحدوثي فهو أمر مسلم ، فإنّ الخطاب الشفهي قائم بمخاطِب ومخاطَب والمفروض كون المخاطب معدوماً أو غائباً.

وأمّا لو أُريد من الخطاب هو وجوده الاستمراري ( إذا كان له في نظر العقلاء استمرار وبقاء ) فهو من الإمكان بمكان ، وعندئذ فالمخاطِب له بقاء بملاحظة بقاء خطابه والمخاطَب حاضر لا غائب ولا معدوم ، وعندئذ تكتمل أركان الخطاب.

والحاصل : انّ من قال بالامتناع نظر إلى الخطاب بوجوده الحدوثي الزائل وغضّ النظر عن أنّ للخطاب نوع بقاء عند العقلاء في الصدور والألسن أوّلاً ، والرسائل والكتب ثانياً ، والأشرطة والأقراص المضغوطة ثالثاً ، ولأجل ذلك نرى أنّ الرؤساء يوجهون خطابهم للأجيال الحاضرة والغائبة ، ولا يخطر على بالهم أنّ الخطاب الحقيقي لا يمكن توجيهه إلى الغائب والمعدوم ، وما ذلك إلاّ لأنّهم يرون أنّ لخطاباتهم بقاءً في القلوب والصدور ، والألواح والكتب

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٥٦.


وأخيراً في أجهزة تسجيل الصوت.

وعلى ذلك فلو كان العنوان المأخوذ في الخطابات من العناوين المنطبقة على الأفراد عبر الزمان وكان للخطاب بقاء وثبات ، فلا مانع من توجيه الخطاب الحقيقي إلى الغائب والمعدوم بهذا الطريق.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يخاطب قاطبة البشر في نسل بني آدم إلى من يأتي إلى يوم القيامة بالآيات التالية :

١. ( يا بَني آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيكُمْ لِباساً يُواري سوءاتِكُم وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقوى ذلِكَ خَيرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون ). (١)

٢. ( يا بَني آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخرجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّة ). (٢)

٣. ( يا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد ). (٣)

٤. ( يا بَني آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَن اتَّقى وَأَصلَحَ فَلا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ). (٤)

والحاصل : انّ الخطاب الحقيقي يدور على وجود الخطاب بنحو من الأنحاء ووصوله إلى المخاطب وكون المخاطب موجوداً ، والشرطان موجودان في عامة الخطابات الشفاهية.

فظهر ممّا ذكرنا إمكان خطاب المعدوم والغائب كما ثبت صحّة تكليفهما ، كلّ ذلك على نحو القضايا الحقيقية أوّلاً ، وبقاء الخطاب ثانياً.

__________________

١. الأعراف : ٢٦.

٢. الأعراف : ٢٧.

٣. الأعراف : ٣١.

٤. الأعراف : ٣٥.


ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ صحّح تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية ولكنّه لم يُصحّح خطاب الغائب والمعدوم عن تلك الطريقة ، فقال في الفرق بين الموردين ما هذا حاصله :

إنّ الحكم في القضية الحقيقية على عنوان للافراد قابل للصدق على كلّ مصداق موجود فعلاً أو ما يوجد في القابل ، ومثل ذلك لا يتصور في الخطاب ، إذ لا يمكن أن يتعلّق الخطاب بعنوان أو أفراد له ولو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب والخطاب نحو توجه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم ، ومثل ذلك يتوقّف على حاضر ملتفت ، والمعدوم والغائب ليسا حاضرين ولا ملتفتين.

وبالجملة ما سلكناه من التمسك بالقضية الحقيقية ، في غير الخطابات لا يجري فيها ، إذ الخطاب الحقيقي يستلزم وجوداً للمخاطَب ، ووجوداً واقعياً للمخاطِب ، والقول بأنّ الخطاب متوجّه إلى العنوان كجعل الحكم عليه ، مغالطة محضة ، لأنّ تصوّر الخطاب بالحمل الشائع يأبى عن التفوه بذلك. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ الظاهر عدم الفرق بين التكليف والخطاب وانّ الممتنع ، ممتنع في كلا المقامين والممكن منها ممكن كذلك ، وذلك لأنّ الخطاب وإن كان لا ينفك عن المخاطب ولكن المفروض وجود المخاطَب في كلتا المرحلتين : الحدوث والبقاء.

وليس المدعى شمول الخطاب بوجوده الحدوثي الغائبينَ والمعدومين ، حتّى يتم ما ذكره ، بل المراد شمول الخطاب لا بوجوده الحدوثي ، بل بوجوده الاستمراري ، فكما أنّ الموضوع ينطبق على مصاديقه حسب التدريج ، فهكذا الخطاب يتحقّق شيئاً فشيئاً بوجوده الاستمراري على مصاديقه التدريجية عبر

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٥٠٦.


الزمان أو غير الحاضرين في زمن الخطاب.

نعم الخطاب بوجوده الحدوثي تكويني ، وبوجوده الاستمراري ( في غير الأشرطة ) اعتباريّ ، وهذا يكفي في الشمول ، وترتّب الثمرة.

إلى هنا تمّ الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثالثة : عمومية ما وقع بعد أداة الخطاب

ثمّ إنّه يقع الكلام في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة النداء والخطاب للغائبين والمعدومين وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة وقد فصّل المحقّق الخراساني في المقام وبناه على ما هو المختار في الجهة الثانية.

فلو قلنا بأنّ ما وضع للخطاب مثل أدوات النداء ، موضوع للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله فيه ، تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين.

ولو قلنا بأنّها موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي ، يلازم ذلك عموم ما وقع تلو النداء ، للغائب والمعدوم.

ثمّ إنّه 1 استقرب الوجه الثاني بأمرين :

١. جعل استعمال ما وقع تلو أداة النداء في العموم من الحاضرين وغيرهم ، قرينة على استعمال حرف النداء في غير الخطاب الحقيقي. (١)

٢. ادّعى انّ أدوات النداء موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي فربّما يخاطب بها ، لا تفيهماً ولا تفهماً ، بل لإبراز الحزن كما في قول القائل :

__________________

١. حيث قال : « كما أنّ قضية إرادة العموم لغير الحاضرين ممّا وقع تلو أداة النداء ، هو استعمال ما وضع للخطاب في غير الخطاب الحقيقي ». وكلامه 1 مشتمل على ضمائر أوجد التعقيد في كلامه فبدّلنا الضمائر بالمراجع.


يا كوكباً ما كان أقصر عمره

وكذا تكون كواكب الأسحار

أو لغايات أُخرى ، فلو كان موضوعاً للخطاب الإنشائي لا يلزم تخصيص ما وقع بعده بالحاضرين ، إذ ليست الغاية من الخطاب ، البعث والزجر حتّى يختص بالحاضرين.

نعم لا يبعد انصرافها إلى الحقيقي لولا وجود القرينة على خلاف الانصراف ، وهو عدم اختصاص الحكم بالحاضرين بضرورة من الدين.

والذي يشهد على انّها موضوعة للخطاب الإنشائي ، انّه لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي يجب أن يكون استعمالها في الخطاب الإنشائي مجازاً صادراً عن المتكلّم بعناية بمعنى تنزيل ما ليس له شعور ، مكان ما له شعور مجازاً مع عدم أي أثر من العناية والتنزيل في ذهن المتكلّم.

يلاحظ عليه بأُمور :

الأوّل : منع الملازمة بين كون أداة النداء موضوعة للخطاب الإنشائي ، وعمومية ما وقع بعده لغير الحاضرين ، ضرورة انّ لفظ « الناس » في قوله سبحانه : ( وللّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ ) (١) و ( وَالذين آمنوا ) في كثير من الآيات لا يصدق إلا على الموجودين ، فليس المعدوم ناساً ولا مستطيعاً ، ولا مؤمناً ولا مصداقاً لأمر من الأُمور ، فالسعي في جعل الخطاب إنشائياً ، لغاية التعميم ليس ناجحاً.

الثاني : انّ جعل خطابات القرآن خطابات إنشائية جاءت لغايات غير التفهيم والتعلم ، يحطّ من مكانة القرآن الذي يقول فيه سبحانه : ( كتابٌ أَنْزَلْناهُ إِليكَ مُبارَكٌ لِيَدّبَّرُوا آياتِه ) (٢) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تعرّف الغاية من

__________________

١. آل عمران : ٩٧.

٢. ص : ٢٩.


خطاباته ، وهذا النوع من الغاية لاينفك عن كون خطاباته حقيقية.

وربما تُتخذ نظرية كون الخطابات إنشائية ذريعة لتصحيح ما نقل عن بعض متكلّمي المسيحيّين من أنّ بعض ما ورد في القرآن من القصص والقضايا تمثيلات وأُمور رمزية ليست لها حقائق وواقعيات سوى تقريب المعارف ، فإبليس وآدم وحواء والجنة رموز لأهداف تربوية في لباس الحكاية.

الثالث : نفترض انّ أداة النداء وضعت للخطاب الحقيقي ولكنّه لا يكون سبباً لاختصاص ما وقع بعده من العنوان ، للحاضرين ، لما عرفت أنّ للخطاب الحقيقي بقاءً في نظر العرف بأحد الأسباب ، ومعه يعمّ الخطاب وما وقع بعده للغائبين والمعدومين جميعاً.

نظرية السيد الأُستاذ

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ عطف الجهة الثالثة على الجهة الثانية وبحث عنهما معاً دون أن يفصل بينهما ، واختار شمول الخطابات القرآنية لعامّة الناس إلى يوم القيامة لكن ببيان آخر ، وحاصله :

إنّ الخطابات القرآنية ليست خطابات شفاهية لفظية حتّى يقابِلُ فيها الشخصُ بالشخص ، بل هي خطابات أشبه بالخطابات الواردة في الكتب والرسائل العلمية ، فإنّ المؤلف مع أنّه يخاطب ، لا يخاطب شخصاً معيناً ، بل يخاطب كلّ من قرأ كتابه ، فهكذا القرآن لا يخاطب شخصاً خاصاً ، بل يخاطب كلّ من سمعه ، ولذلك يأمر نبيه أن يقول : ( وَأُوحِيَ إِليَّ هذا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ ). (١)

__________________

١. الأنعام : ١٩.


ويقول سبحانه : ( شَهْرُ رَمضانَ الَّذِي أُنْزلَ فِيهِ الْقُرآنُ هُدىً لِلنّاس ). (١)

ويقول سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذا القُرآنِ لِلنّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَل ). (٢)

إلى غير ذلك من الآيات التي تصفُ القرآن بانّه منذر لكلّ من بلغ إليه وهداية للناس عامة ، وما هذا إلا لأنّ خطاباته ليست خطابات شفوية ، بل أشبه بخطابات تحريرية لا يقصد سوى من ينطبق عليه العنوان التالي لأدوات النداء.

ويؤيد ذلك نزول الوحي وكان ينزل على قلب سيد المرسلين ولم يكن الخطاب مسموعاً لأحد من الأُمّة ، بل يمكن أن يقال بعدم وصول خطاب لفظي إلى الرسول وإنّما يجده الرسول 6 في قلبه منقوشاً وموجوداً ، لقوله سبحانه : ( نَزَلَ بِِه الرُّوحُ الأَمِينُ * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين ). (٣)

فعلى ضوء ذلك فحساب الخطابات القرآنية غير حساب الخطابات الشفوية الشخصية التي تتبادل بين شخصين ، وعند ذلك لا مانع من أن يعم الجميع وتشمل جميع الأشخاص إلى يوم القيامة.

وإن أردت مزيداً من التوضيح فلاحظ انّ الخطابات التي يوجهها رؤساء الدول إلى شعوبهم ، خطابات حقيقية لغاية التفهيم والتفهم ولكن ليس من قبيل مخاطبة شخص لشخص ، ولذلك يعمّ الحاضر والغائب حتّى غير الموجودين.

ومع إمكان تفسير الخطابات عن هذا الطريق لا حاجة إلى التمسك بأنّ خطابات القرآن خطابات إيقاعية أو إنشائية أو من قبيل القضايا الحقيقية ، أو أنّ

__________________

١. البقرة : ١٨٥.

٢. الكهف : ٥٤.

٣. الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.


خطاباته مختصة بالموجودين ثمّ تعميمه بدليل آخر ، أعني قوله 6 : « حكمي على الأولين ، كحكمي على الآخرين » ، فانّ كلّ ذلك تطرف في الكلام والتزام بما لا يلزم.

حصيلة البحث

إنّ تعميم خطاباته سبحانه إلى الغائبين والمعدومين ، رهن صحّة أحد أُمور :

١. جعل خطاباته بل عامّة تكاليفه وإن لم يكن بصورة الخطاب من قبيل القضايا الحقيقية ، وقد عرفت أنّ للخطاب بقاءً فيعمّ التكليف ( سواء أكانت بصورة الخطاب أو غيره ) عامّة المكلّفين عبر القرون.

٢. جعل خطاباته بل مطلق ما جاء في القرآن ، من الكلام ، من قبيل خطابات المؤلّفين والواقفين والموصين ، فكلّها خطابات رسائلية ، لاشفوية ، يقصد به كلّ من وقف عليها ، سواء أكان موجوداً حين التكلّم ، أو لا لكنّه سيوجد في طول الزمان.

٣. جعل الخطابات القرآنية من قبيل الخطابات الإيقاعية والإنشائية التي ربما يقصد بها غير التفهيم ، بل الرثاء وإظهار الأسف ، فمثل ذا ، لا يتوقّف صحة خطابه على وجود المخاطب ، وقد عرفت بطلان هذا الوجه فلا نعيد إليه.

٤. هناك وجه آخر ، نقل صاحب الفصول عن بعض الحنابلة أنّ القول بوضع أداة الخطاب للحقيقي لا يلازم اختصاص خطاباته بالمشافهين ، وذلك لإحاطته بالموجود في الحال والاستقبال. (١)

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين علمه سبحانه بالأُمور وبين فعله المتنزل إلى إطار

__________________

١. الفصول : ١٨٣.


الزمان فعلمه الذاتي بما انّه فوق المادّة ولا يتطرق إليه الزمان مطلقاً ، يتعلّق بالأشياء دفعة واحدة ، إذ ليس هناك تدريج والعالم كله حاضر لديه أخذاً بالقاعدة الثانية في الفلسفة الإلهية : المتدرجات في وعاء الزمان ، مجتمعات في وعاء الدهر.

لكن الكلام ليس في علمه الذاتي ، بل في فعله المتنزل إلى حد المادة المحدود بحدّ الزمان ، فهو بما انّه محدّد بإطار الزمان ، لا يشمل إلا الموجود حين الخطاب وصار مخاطباً.

ثمرة البحث

ذكر المحقّق الخراساني للبحث ثمرتين :

الأُولى : حجّية خطابات الكتاب لغير المشافهين وعدمها

لو قلنا بأنّ خطابات القرآن تعمّ الطوائف الثلاث ، فتكون خطاباته حجّة على الجميع ، وأمّا لو قلنا بعدم التعميم فلا تكون حجّة إلا على المشافهين ، ويتوقّف تعميم الأحكام إلى غيرهم بدليل كالإجماع على الاشتراك في التكليف.

يلاحظ عليه : أنّ الثمرة مبنية على صغرى وكبرى ممنوعة.

١. الملازمة بين اختصاص الخطاب بالحاضرين ، وكونهم مقصودين بالخطاب ، وهذه هي الصغرى.

٢. اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه ولا يعمّ غيره وهذه الكبرى.

وإن أردت صوغ الاستدلال في قالب الشكل الأوّل تقول :


١. الحاضرون حين الخطاب ، هم المقصودون بالإفهام.

٢. والمقصودون بالإفهام ، هم الذين الظواهر حجّة عليهم ، فينتج : فالحاضرون حين الخطاب ، هم الذين الظواهر حجّة عليهم.

ولكنّ المقدّمتين باطلتان.

أمّا الأُولى ، فلأنّه لا ملازمة بين كون اختصاص الخطاب بهم ، وكونهم ، مقصودين لا غيرهم ، إذ ربما يكون المقصود بالإفهام أوسع من المخاطب ، بشهادة انّ رئيس البلد ربّما يخاطب جماعة خاصة من الشعب ولكن المقصود بالإفهام كلّ من بلغ إليه خطابه ، ولذلك يأمر سبحانه نبيّه بأن يقول : ( وَأُوحِيَ إِليَّ هذا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ ). (١)

ولعلّ المراد ، انّ المخاطب بالوحي أنا أو مع الحاضرين وقت النزول ، لكنّ الغاية هو إنذار كلّ من بلغ إليه القرآن.

وأمّا الثانية : نفترض انّ الحاضرين ، هم المقصودون بالإفهام من الخطاب لكن لا ملازمة بين كون جماعة مقصودين بالإفهام ، واختصاص حجّية الخطاب بهم ، وسيوافيك في مبحث الظواهر ، انّها حجّة على المقصودين بالإفهام وغير المقصودين والجميع أمام الخطابات سواء ، ولذلك لو كتب شخص رسالة أخويّة إلى شخص ، لا يريد إلا إفهام صديقه بما فيه ، فالرسالة تكون حجّة على الغير أيضاً في عامة المحاكم ، ولا يسمع قول الكاتب بأنّ ظواهر كلامه حجّة على من قصد إفهامه لا غير.

الثمرة الثانية : صحّة التمسّك بالإطلاقات على التعميم.

لو قلنا بشمول الإطلاق لغير المشافهين ، يصحّ لهم التمسّك بالإطلاقات

__________________

١. الأنعام : ١٩.


القرآنية عند الشكّ في مدخلية قيد في الحكم ، ( كحضور الإمام المعصوم أو الحاكم الإسلامي مبسوط اليد في وجوب صلاة الجمعة ) سواء كانوا متّحدين في الصنف أم لا كما في زمان الغيبة ، وهذا بخلاف ما إذا لم نقل بالتعميم فلا تكون الخطابات متكفّلة لبيان أحكام غير المشافهين ، فلابدّ من تعميم الحكم والسراية إلى غير المشافهين في التمسّك بدليل الاشتراك ( اشتراك غير المشافهين معهم في التكاليف ) وهو الإجماع ، الذي هو دليل لبي يقتصر فيه بالقدر المتيقن وهو كونهما متحدين في الصنف والمفروض اختلافهم.

فظهر انّ هنا صوراً ثلاثاً :

١. القول بالتعميم وفيه يكون الإطلاق حجّة على الكلّ بلا قيد وشرط.

٢. القول بعدم التعميم مع الاتحاد في الصنف ، فيكون الإجماع دليلاً على الاشتراك في التكليف فلا ثمرة بين القولين.

٣. القول بعدم التعميم مع الاختلاف في الصنف كما إذا وجبت صلاة الجمعة وأُقيمت بحكم حاكم عادل مبسوط اليد كالنبي والوصيّ ، وشكّ في وجوبه في زمان الغيبة مع عدم وجود ذاك الحاكم ، فلا يصحّ التمسك بالإجماع لإثبات الاشتراك في التكليف ، لأنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على مقدار المتيقن ، والمقدار المتيقن هو وحدة المشافه وغيره في الصنف والمفروض عدمها.

سقوط الثمرة في القيد المفارق

إنّ المحقّق الخراساني قد ردّ الثمرة في خصوص القيد المفارق وانّه يصحّ التمسّك بالإجماع ـ وإن كان دليلاً لبّياً يقتصر فيه بالقدر المتيقّن ـ وذلك بالبيان التالي :


إذا كان القيد المفقود في غير المشافهين ، من القيود اللازمة للمشافهين ككونهم عرباً ، ففي هذه الصورة لا يصحّ التمسّك في نفي القيد بالإطلاق في حقّ المشافهين وبالتالي في حقّ غير المشافهين بالإجماع ، كما إذا شككنا في لزوم العربية في العقود ، فبما انّ المشافهين كانوا عرباً فكانوا يعقدون بالعربية ، ففي مثله ، لا يصحّ التمسّك بإطلاق قوله سبحانه : ( أَوفوا بالعُقود ) لنفي شرطية العربية في حقّ المشافه ، وبالتالي بالإجماع لنفي الشرطية في حقّ غير المشافه ، لأنّه سبحانه لو أراد من الآية ، العقود العربية ، لم يكن هناك نقض غرض ، لحصول القيد شاءوا أو لم يشاءوا.

وأمّا إذا كان القيد ، مفارقاً ، كإقامة صلاة الجمعة مع حضور المعصوم وبسط يده ، حيث إنّ الإسلام يوم ذاك لم يضرب بجرانه كلّ المعمورة فربما يسافر بعض المشافهين إلى بلاد ، يحكم فيها الكفر ، فلو شك المشافه في شرطية الحضور ـ عند الخروج عن حيطة المسلمين ـ يصحّ التمسك بإطلاق الآية ، أعني قوله : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّه ). (١)

فإذا صحّ للمشافه التمسك بإطلاق الآية ، يجوز لغير المشافه التمسّك بالإجماع لإثبات اشتراك الحكم ، لأنّ المفروض وحدة الصنف.

وبهذا ظهر سقوط الثمرة الثانية في القيود المفارقة ، وانّه لا يختلف الحال بين المشافه وغيره ، غاية الأمر انّ المشافه يتمسّك بإطلاق الآية وغيره يتمسّك بالإجماع والنتيجة واحدة ، سواء أقلنا بالشمول لغير المشافهين أم لا.

ثمّ إنّه 1 ذكر انّ المراد بالاتحاد في الصنف لغاية جرّ التكليف من المشافه إلى غيره ، هو القيود التي تعتبر قيداً في الأحكام كالبلوغ والاستطاعة ، والخلو عن

__________________

١. الجمعة : ٩.


الحيض والنفاس ، والسفر والحضر ممّا يمكن أن يعتبر قيداً في الأحكام ، لا الاتحاد فيما يكثر به الاختلاف بين الناس دون أن يكون مساس بالحكم ، كالأبيض والأسود والشاب والكهل والعراقي والحجازي ، وإلا لما ثبت بقاعدة الاشتراك حكم للغائبين فضلاً لغير الموجودين ، إذ لا أقل من كون المشافهين واجدين لقيد من القيود لكونهم جالسين في المسجد آن إيجاب الحكم. والغائب وغير الموجود ليس كذلك.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أعاد ما ذكره سابقاً من جريان الإطلاق في حقّ المشافهين في القيود المفارقة وممكنة الزوال ، وجاء في المقام بعبارة لا تخلو عن تعقيد ، توضيحها كالتالي :

ودليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين من القيود الممكنة الزوال إذا فقدوها بعد الخطاب ، فشك في شمولها لهم ، فيتمسك بالإطلاق ويثبت عدم دخالة ذاك القيد في الحكم ومعه يعم الحكم لغير المشافهين بدليل الإجماع لوحدة الصنف ـ بعد زوال القيد في حقّ المشافه (١) أراد به القيود المفارقة وممكنة الزوال وقوله : « لو لم يكونوا معنونين به » أراد به لو كانوا فاقدين له بعد الخطاب وبوضع العبارة الثانية مكان الأُولى ، يظهر المراد من العبارة بسهولة.

__________________

١. فقوله : فيما لم يكونوا مختصّين بخصوص عنوان.


الفصل الحادي عشر

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

إذا كان هناك عام وله حكم خاص ، يتعقّبه ضمير له حكم آخر يرجع إلى بعض أفراده ، فهل يوجب ذلك تخصيص العام أو لا؟

مثاله قوله سبحانه : ( وَالمُطَلّقاتُ يتربَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْن ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرحامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلِكَ إِن أَرادُوا إِصلاحاً ). (١)

ففي الآية عام ، أعني قوله : ( والمطلّقات يتربصنّ بأَنفُسهِنَّ ثَلاثَة قُرُوء ) ، وهو بظاهره يشمل عامة المطلقات رجعية أو بائنة.

وفي ذيل الآية جملة : ( وَبُعُولتهنّ أَحقّ بردّهنّ ) تتضمن حكماً ( أحقّ بردّهن ) وضميراً ( بعولتهن ) يرجع إلى بعض أقسام العام ، فيقع الكلام في أنّ رجوع الضمير في الجملة الثانية إلى بعض أقسام العام هل يصلح قرينة على اختصاص الحكم الوارد في الجملة الأُولى بالرجعيات أيضاً أو لا؟ فيكون

__________________

١. البقرة : ٢٢٨.


التربّص ، كالرجوع من خصائص الرجعية لا البائنة.

وبعبارة أُخرى : هل رجوع الضمير إلى بعض المرجع في الجملة الثانية يشكّل قرينة على أنّ المراد من المرجع أيضاً هو البعض ، وبالتالي يختص الحكم بالبعض أو لا؟

ما ذكرناه هو المفهوم من كتب القوم ، وظاهر كلامهم انّ عود الضمير إلى بعض المرجع أمر مفروغ عنه مع أنّه ليس كذلك ، بل المسلّم كون الحكم في مورد الضمير يختصّ ببعض الأفراد لا انّ الضمير يرجع إلى بعضها. وسيوافيك انّ الحقّ عود الضمير إلى العام بما هو هو ، وإن كان الحكم مختصاً ببعض أفراده ، فانتظر.

والأولى أن يقال في عنوان البحث « انّ تخصيص الضمير بدليل منفصل هل يوجب تخصيص المرجع العام أو لا؟ ».

تحرير محلّ النزاع

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني جعل محلّ النزاع الصورة الثالثة من الصور التالية :

١. أن تقع الجملتان في كلامين مستقلين بينهما فاصل زماني.

٢. أن يكون العام محكوماً بنفس حكم الضمير ، كما إذا قيل في ذيل الآية : وَالمُطلّقات أَزواجهن أَحقّ بردّهن.

٣. أن يكون العام محكوماً بحكم والضمير محكوماً بحكم آخر وإن وقعا في كلام واحد.

وقال : إنّ محل النزاع هو الثالث.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ليس إلا توضيحاً للواضح ، أمّا القسم الأوّل فلا يعقل فيه استخدام الضمير ، لأنّ المفروض وقوع الجملتين في سياقين بينهما فاصل


زماني ، وعندئذ يستخدم في الجملة الثانية لفظ الظاهر لا الضمير ، والكلام إنّما هو في الضمير الراجع إلى بعض أفراد المرجع حسب تعبير القوم.

كما أنّ القسم الثاني أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، إذ ليس في البين إلا حكم واحد حتّى يعمّ أحد الحكمين جميع الأفراد والحكم الآخر بعضه.

دوران الأمر بين المحاذير الثلاثة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قال : بأنّ الأمر يدور حول أحد المحاذير الثلاثة :

١. أن يكون رجوع الضمير إلى بعض أفراد المرجع قرينة على التصرف في المرجع باستعماله في الرجعية من المطلقات فيكون التربص أيضاً مختصاً بهذا القسم.

٢. حفظ أصالة العموم في المرجع وارتكاب الاستخدام في الضمير بإرجاعه إلى بعض مصاديق المرجع.

٣. حفظ أصالة العموم في ناحيتي المرجع والضمير والتصرف في الاسناد ، بأن ينسب الحكم المختص بالبعض إلى الكلّ من باب المجازية.

ثمّ إنّه 1 رجح حفظ أصالة العموم في صدر الآية والتصرف في الجملة الثانية بأحد النحوين : إمّا الاستخدام وإمّا الاسناد المجازي.

ثمّ إنّه 1 ذكر وجه ذلك بأنّ أصالة العموم إنّما تجري فيما إذا شكّ في المراد لا في كيفية الإرادة ، والشكّ في الجملة الأُولى إنّما هو في المراد حيث يشكّ في أنّ التربّص لعامّة المطلقات أو لخصوص الرجعيات ، بخلاف الجملة الثانية فإنّ المراد هناك معلوم وانّ الرجوع يختصّ بالرجعيات دون البائنات ، وإنّما الشكّ في كيفية الإرادة ، فهل هو بنحو المجاز في الكلمة ( الاستخدام ) ، أو المجاز في


الاسناد؟ ( اسناد حكم المختصّ بالبعض إلى الكلّ من باب المجاز في الاسناد ).

ومع أنّه 1 قدّم أصالة العموم في الجملة الأُولى على أصالة العموم في الضمير أو أصالة الحقيقة في الاسناد ، لكنّه أخيراً احتمل كون الكلام مجملاً والآية خارجة عن نطاق الاستدلال بحجّة انّ الشكّ في المقام في قرينية الضمير على عدم إرادة العموم من المرجع والكلام المحتف باحتمال القرينية يكون مجملاً لا يحتجّ به ويرجع إلى الأُصول العملية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ الشكّ في ناحية العموم شكّ في المراد؟ فيجري الأصل من دون منازع بخلاف الشكّ في ناحية الضمير ، فالشكّ هناك في كيفية الإرادة لا في المراد فتقدّم أصالة العموم على أصالة العموم في الضمير ، أو أصالة الحقيقة في الاسناد ، صحيح لا غبار عليه.

إنّما الكلام في الأمرين اللذين احتملهما في ناحية الضمير حيث إنّ كلاً من التصرفين غير جائز ، أمّا الأوّل وهو القول بالاستخدام ورجوع الضمير إلى بعض أفراد العام فهو غير صحيح ، لأنّ الضمائر كما تقدّم الكلام فيه في مقدّمة علم الأُصول وضعت لنفس الإشارة الخارجية فلابدّ لها من مشار إليه ، وهو ليس إلا المرجع المذكور في الآية ، فيجب تطابقهما فلا يمكن أن تكون الإشارة على وجه أخص والمشار إليه على وجه أعمّ.

وأمّا الثالث ، أعني : احتمال المجاز في الاسناد ، فهو أيضاً غير صحيح ، لأنّ المجاز في الاسناد رهن مصحح كالمبالغة حيث ينسب الحكم الصادر من بعض إلى الكلّ مبالغة ، كما في قول القائل : قتل بنو فلان زيداً ، وإنّما قتله بعضهم ، ومثله قوله سبحانه مخاطباً اليهود : ( قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبلِي بِالبَيّناتِ وَبِالَّذي

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣.


قُلتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) (١) مع أنّ القتل لم يصدر إلا عن بعضهم فنسب إلى الكلّ مبالغة بملاك رضاهم بعملهم ، وهذا بخلاف الآية إذ ليس فيها وجه للمبالغة.

الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين

إذن يجب علينا علاج المشكلة من طريق آخر ، وهو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني عند البحث في أنّ التخصيص موجب لمجازية العام أو لا ، فقد حقّق فيه أنّ التخصيص لا يوجب المجازية لا في المتصل ولا في المنفصل.

أمّا المتصل فلأجل تعدد الدالّ والمدلول ، كقولنا : أكرم العالم العادل ، فكلّ من العالم والعادل مستعمل في معناهما ، لأنّ العالم مستعمل في العالم العادل.

نعم الحكم تابع بمجموع الموضوع.

وأمّا المنفصل فلما حقّق من أنّ لكل متكلّم إرادتين : استعمالية وجدية ، فالعالم يستعمل في معناه اللغوي بالإرادة الاستعمالية ، فلو كانت الإرادة الجدية متعلّقة به أيضاً فيكون العام بعمومه موضوعاً وإن لم تكن الإرادة الجدية مطابقة للإرادة الاستعمالية أشار إلى عدم المطابقة بدليل خاص ، فترفع اليد عن ظاهر الدليل بدليل أقوى دون أن تطرأ المجازية على العام ويستعمل في غير معناه.

وعلى ضوء هذا فكان على المحقّق الخراساني أن يطرق هذا الباب ويقول إنّه لا محذور في البين أبداً من الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين ، إذ لا مانع من أن يكون العام مستعملاً في معناه ويكون الضمير أيضاً راجعاً إلى نفس

__________________

١. آل عمران : ١٨٣.


العام لكن بالإرادة الاستعمالية. فإذا علم من الخارج عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الجدية في ناحية الضمير تُخصّص الإرادة الجدية في مورد الضمير من دون أي محذور. ولا يلزم من ذلك تخصيص المرجع أبداً ، وذلك لأنّه لو كان مستعملاً في الخاص لكان للتوهم المذكور مجال ، وأمّا إذا كان مستعملاً في العموم كالمرجع بالإرادة الاستعمالية ولكن قام الدليل على عدم شمول الحكم لعامة أفراد المرجع ، فمثل هذا لا يكون دليلاً على التصرف في العام ، بل العام قائم على ظهوره حتّى يثبت الخصوص.

والحاصل : انّه لو كان الضمير مستعملاً بالإرادة الاستعمالية في بعض المرجع لكان للتوهم المذكور مجال ، وأمّا إذا استعمل في نفس المعنى الذي استعمل فيه لفظ العام ـ وإن علم بدليل خارجي مخالفة الجد مع المراد استعمالاً ـ فلا يصير سبباً لتخصص العام ، لا استعمالاً ولا جداً.

وبذلك يعلم أنّ ما اختاره المحقّق الخراساني من طروء الإجمال على الكلام ليس بتام ، إذ ليس شيئاً صالحاً للقرينية إلا استعمال الضمير في بعض مفاد المرجع والمفروض انتفاؤه.


الفصل الثاني عشر

في تخصيص العام بالمفهوم

وقبل الدخول في الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : انّ الغاية من عقد هذا الفصل هو دفع توهم انّ دلالة العام منطوقية ، ودلالة المفهوم غير منطوقية ، والأُولى أقوى من الثانية ، فلا يخصص الأقوى بالأضعف ، من غير فرق بين أن يكون المفهوم ، مفهومَ موافقة أو مفهوم مخالفة.

فلدفع هذا التوهم عقد الأُصوليون هذا الفصل قائلين بأنّ كون الدلالة مفهومية لا يكون سبباً لضعفها ، بل ربما تكون دلالة المفهوم أقوى من دلالة المنطوق.

الثاني : انّ النزاع في هذا الفصل كبروي لا صغروي بمعنى انّ هنا عاماً ومفهوماً قطعيين ولا شكّ في وجودهما إنّما الكلام في أنّه هل يقدّم العام على المفهوم لتكون النتيجةُ الغاءَ المفهوم رأساً أو يُقدّم المفهوم على العام حتّى ينتهي الأمر إلى تخصيصه.

هذا هو نطاق البحث ومحوره.

الثالث : لمفهوم الموافقة إطلاقات نأتي بها :


١. إلغاء الخصوصية وإسراء الحكم لفاقدها ، كقول زرارة : أصاب ثوبي دم رعاف. (١)

وقول القائل : رجل شكّ بين الثلاث والأربع. فالموضوع في نظر العرف في الأوّل هو الدم لا دم رعاف ولا دم زرارة ، وفي الثاني هو الشكّ لا شكّ الرجل.

٢. المعنى الكنائي الذي سيق لأجله الكلام مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق ، نظير قوله سبحانه : ( فلا تَقُلْ لَهُما أُفّ ولا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) (٢) بناء على عدم حرمة التأفيف وانّ الحرام هو مفهومه الموافق ، أي الضرب والشتم.

٣. تلك الصورة ولكن المنطوق محكوم بحكم المفهوم أيضاً ، كالآية المتقدّمة بناء على حرمة التأفيف.

٤. الأولوية القطعية ، فإذا قال : لا تأكل ذبيحة الكتابي فيدلّ بالأولوية القطعية على حرمة ذبيحة المشرك.

٥. الحكم المستفاد من العلّة المنصوصة ، كما إذا قال : الخمر حرام لأنّه مسكر ، فيفهم منه حرمة كلّ مسكر.

وبما انّ المفهوم هو الحكم غير المذكور لموضوع مذكور الحكم في هذه الموارد غير مذكور وإنّما يفهم بإحدى الطرق الخمسة ، أطلق المفهوم على الجميع ، وبما انّ حكمه موافق مع الحكم الوارد في المنطوق وُصِفَ بالموافقة.

إذا عرفت هذه الأُمور فنقول : يقع الكلام في مقامين :

__________________

١. الوسائل : ٢ ، الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٢. الإسراء : ٢٣.


الأوّل : تخصيص العام بالمفهوم الموافق

إذا كان في مورد عام ومفهوم موافق ، فهل يقدّم العام على المفهوم ويلغى الثاني ، أو يقدّم المفهوم على العام ويخصص الثاني؟ مقتضى القواعد هو التخصيص لا الإلغاء ، لأنّ كلاً منها دليل شرعي يجب إعماله حسب ما أمكن عرفاً ؛ ففي الأوّل إلغاء للحجة الشرعية من رأس ، وفي الثاني إعمال لهما ، ويقدّم الثاني على الأوّل.

وأيضاً لو كان مكان المفهوم دلالة منطوقية كانت مقدّمة على العام ومخصّصة له ، فهكذا الدلالة المفهومية إذ لانتقص الثانية عن الأُولى وليس إحداهما أقوى من الأُخرى ، بل ربما يكون المفهوم أقوى ولا يُساق الكلام إلا لإفهامه.

نعم ربما يشترط كون المفهوم أخص مطلقاً لا عموماً من وجه وهو شرط زائد ، لأنّه ليس من شرائط كون المفهوم مخصصاً ، بل هو من شرائط كلّ مخصص ، سواء أكان لفظياً أو مفهومياً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ادّعى الاتّفاق في تخصيص العام بالمفهوم الموافق ، وعلّله السيد الحكيم 1 في تعليقته على الكفاية بأنّ إلغاء المفهوم الموافق ينتهي إلى إلغاء المنطوق أيضاً ، وذلك لاشتراكها في الحكم ، بل ربما يكون ثبوت الحكم في المفهوم أقوى من ثبوته في المنطوق ، فإذا ألغى الحكم في جانب المفهوم يصبح الإلغاء في جانب المنطوق أولى.

يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بعدم وجود الاتفاق ، وهذا هو الشارح العضدي يظهر منه كون المسألة غير اتفاقية حيث قال : الأظهر هو التخصيص به. (١)

__________________

١. شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : ٢٧٥.


وأمّا ما ذكره السيد الحكيم في شرحه على الكفاية فلا يتمّ في عامة الصور لما عرفت من أنّ الأولوية القطعية أحد الموارد التي يستعمل فيها مفهوم الموافقة ، وأمّا الموارد الباقية فربما لا يكون الحكم في المفهوم أولى من المنطوق ، كما إذا قال : الخمر حرام لأنّه مسكر ، فإسراء الحكم إلى النبيذ والفقاع من باب مفهوم الموافقة مع أنّ الحكم فيه ليس بأولى من المنطوق ، فلا يلزم من العمل بالعام في مقابل المفهوم ، طرح المنطوق.

المقام الثاني : التخصيص بمفهوم المخالفة

إذا كان هناك عام ومفهوم مخالف ، فهل يجوز تخصيص العام بمفهوم المخالفة أو لا؟ فيه أقوال :

١. جواز التخصيص مطلقاً.

٢. عدم جوازه كذلك.

٣. التفصيل بين استفادة المفهوم من لفظة « إنّما » ، فيقدم على العام وبين غيره.

٤. ما أفاده المحقّق الخراساني من التفصيل ، وحاصله : انّ العام وماله المفهوم على أقسام ثلاثة :

أ. ان يردان في كلام واحد.

ب. أو في كلامين ولكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر إمّا بتخصيص العام ، أو بإلغاء المفهوم ، كما هو الحال في آية النبأ ، وسيوافيك بيانه.

ج. أو في كلامين ليس بينهما ذلك الارتباط والاتّصال ، كما إذا ورد في كلام


إمامين ( ولكن يصلح التصرّف في أحدهما بالآخر ) كما هو الحال في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه 7 : الماء إذا بلغ كرّاً لم ينجسه شيء ، بالنسبة إلى رواية البزنطي عن الرضا 7 ، أو مرسلة السرائر كما سيوافيك.

وكل من هذه التقادير على أقسام ثلاثة :

١. أن يكون كلّ من العموم والمفهوم مستفادين من مقدّمات الحكمة.

٢. أن يكون كلّ منهما مستفادين من الدلالة الوضعية.

٣. أن يكونا مختلفين من غير فرق بين كون العام لفظياً وضعياً والمفهوم إطلاقياً أو بالعكس.

فعندئذ تصبح الأقسام تسعة باحتساب المختلفين قسماً واحداً.

ثمّ إنّه 1 قال بطروء الإجمال على كلّ من الدليلين فيما إذا كان كلّ من العموم والمفهوم إطلاقياً أو لفظياً وضعياً ، غاية الأمر لا ينعقد الظهور إذا كانا مستندين إلى الإطلاق وينعقد الظهور ولا يستقر إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية.

أمّا عدم انعقاده إذا كان كلّ إطلاقياً ، فلأنّ عدم القرينة من مقدّمات الحكمة ، والمفروض انّ كلّ واحد من العموم والمفهوم يصلح أن يكون قرينة على الآخر بأن يكون المفهوم قرينة على عدم العموم ، والعموم قرينة على عدم المفهوم.

وأمّا عدم استقرار الظهور فيما إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية ، فلأنّ دلالة الشيء على العموم أو المفهوم دلالة مطلقة وليست معلّقة ، غاية الأمر عند الاجتماع يكون كلّ مزاحماً للآخر وموجباً لعدم استقرار الظهور ، كما


هو الحال في كلّ حجّتين شرعيتين بينهما صلة.

نعم في القسم الثالث ، أعني : إذا كان أحدهما وضعياً والآخر إطلاقياً فالوضعي سواء كان عاماً أو مفهوماً أظهر من الآخر ، فلو كان العام وضعياً يكون دليلاً على إلغاء المفهوم ، بل عدم انعقاده ، ولو كان المفهوم وضعياً والعموم إطلاقياً ، فهو يكشف عن عدم تمامية مقدّمات الحكمة في جانب العموم.

هذا هو التفصيل الرابع وسيوافيك ضعفه.

الخامس : ما عن المحقّق النائيني من التفصيل بين كون النسبة بين العام والمفهوم هي العموم وخصوص المطلق فيخصص به العام ، وما إذا كانت النسبة هي العموم من وجه فلا يخصص به العام.

هذه هي الأقوال في المسألة ، والثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث ، وذلك لما عرفت في الأمر الثاني من الأُمور المذكورة في صدر الفصل انّ محور البحث ونطاقه هو كونه كبروياً لا صغروياً مع أنّه يصبح البحث على القول الثالث والرابع صغروياً.

أمّا الثالث ، فلأنّ تقديم المفهوم المستفاد من لفظة « إنّما » على العام دون سائر المفاهيم يدلّ على وجود الحجّة ( المفهوم ) في مورد « إنّما » دون القضية الشرطية والوصفيّة ، وقد مرّ انّ البحث كبروي بمعنى انّ الفقيه مذعن بوجود العام والمفهوم قطعاً وإنّما الشكّ في تقديم أيّهما على الآخر.

وأمّا الرابع ـ أعني : تفصيل المحقّق الخراساني ـ فهو أيضاً خارج عن نطاق البحث ، وذلك لأنّه قال : إذا كان العموم والمفهوم مستفادين من الإطلاق فالظهور غير منعقد ، وإذا كانا مستفادين من الظهور الوضعي فالظهور غير مستقر ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم الإذعان بوجود العام أو المفهوم


حيث إنّ مقدمات الحكمة في كلّ تنهار بالآخر ومع عدمها لا يكون هناك إذعان بالعام وبالمفهوم ، ومثله إذا كان كلّ من العموم والمفهوم مستفاداً من الدلالة الوضعية ، فالظهور وإن كان منعقداً لكنّه يكون غير مستقر ، لأنّ كلاً قابل للتصرف في الآخر ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على كون الشكّ في وجود الصغرى ، وهو خارج عن نطاق النزاع ، ويكون البحث مركّزاً على صورة واحدة وهو أقوائية أحدهما وأضعفية الآخر بأن يكون الأقوى وضعياً والأضعف إطلاقياً.

وأمّا التفصيل الـذي اختـاره المحقّق النائيني من شرطية كون المفهوم أخصّ مطلق من العام ، فهذا ليس شرطاً في مخصصية المفهوم ، بل هو شرط في مخصصية الخاص سواء أكان مفهوماً أو منطوقاً.

إلى هنا تبين انّ الأقوال الثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث ، فالأولى أن يركز على شيء واحد وهو انّ كون الدلالة مفهومية هل يوجب الأضعفية وان الدلالة المنطوقية توجب الأقوائية أو لا؟ وقد عرفت عدم الفرق بينهما ، بل ربما يكون المفهوم أقوى من الآخر ، ولذلك لامانع من تخصيص العام بالمفهوم إذا حاز سائر الشرائط ، فالقول الأوّل هو المختار.

نظرية المحقّق البروجردي في المقام

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي قال : يتقدّم المفهوم على العام لأجل انّ التعارض يرجع إلى اختلاف المطلق والمقيد ، فإنّ قوله في العام : « خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غيّر لونه وطعمه أو رائحته » يعطي أنّ تمام الموضوع لعدم الانفعال هو الماء ، ولكن قوله : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء » يعطي أنّ الماء بعض الموضوع وأمّا تمام الموضوع للاعتصام فهو الماء بقيد الكرية ، فيقدّم


ماله المفهوم على العام تقدّم المقيد على المطلق. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره تغيير لعنوان البحث ، إذ ليس البحث في تقديم المقيد على المطلق ، بل في تقدّم المفهوم على العام بما هو هو من غير دخل لعنوان آخر.

وربما لا يجري ما ذكره في بعض الموارد ، أي لا يكون هناك حديث عن الإطلاق والتقييد. كما إذا قال : أكرم العلماء ثمّ قال : أكرم فسّاقهم إذا أحسنوا إليك ، فعلى فرض عدم إحسانهم يكون المفهوم عدم وجوب إكرام فسّاقهم فيتعارضان في العالم الفاسق ، فلو قدّم العام يجب إكرامه ، ولو قدّم المفهوم لا يجب ، وليس هناك حديث عن الإطلاق والتقييد. نعم يمكن إرجاع البحث بنوع إلى الإطلاق والتقييد ولكن بتكلّف وتعسّف.

تطبيقات

قد عرفت أنّ النزاع في المقام كبروي ، وانّه هل يجوز تخصيص العام بالمفهوم ، مع تسليم وجودهما ، لا صغروي وانّه هل هنا ، مفهوم أو لا؟

كما عرفت أنّ الضابطة تقديم المفهوم على العام بحجة انّ فيه الجمع العرفي بين الدليلين لا طرح المفهوم ، ومع ذلك ربّما يكون قوة دلالة العام مانعاً عن التخصيص ، ونأتي بأمثلة :

١. آية النبأ والتعارض بين المفهوم والتعليل

قال سبحانه : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا انْ تُصِيبُوا

__________________

١. نهاية الأُصول : ٣٢٤.


قَوْماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين ). (١)

إنّ صدر الآية مشتمل على المفهوم وهو عدم لزوم التبيين إذا جاء العادل بالنبأ ، سواء قلنا بأنّه مقتضى مفهوم الشرط أو الوصف ، لكن الذيل مشتمل على تعليل يعم نبأ العادل والفاسق ، وهو قوله سبحانه : ( ان تصيبُوا قَوماً بجهالة ) ، فلو كانت الجهالة بمعنى عدم العلم القطعي بالواقع فهو مشترك بين نبأ العادل والفاسق ، وقبح إصابة القوم بجهالة ، لا يختص بقوم دون قوم.

وعند ذاك فقد اختلفت كلمات المتأخرين في تقديم واحد منهما على الآخر لا اختلافاً في الكبرى ، بل اختلافاً في قوة دلالة العام.

فالشيخ الأعظم ، على تقديم التعليل العام على المفهوم لقوة دلالته لعدم اختصاص قبح الإصابة بمورد دون مورد ، ولكن المحقّق النائيني على العكس ـ أي تقديم المفهوم على العام ـ لأنّ خبر العدل بعد صيرورته حجّة ، يخرج عن كونه إصابة قوم بجهالة ، وتكون القضية المشتملة على المفهوم حاكمة على عموم التعليل. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّه مبني على تفسير الجهالة في الآية بمعنى « عدم العلم » فيعمّم ـ عندئذ ـ كلا الخبرين ، وأمّا إذا كان المراد بها ، ضد الحكمة ، فلا يعمّ خبر العادل ، إذ لا يعد العمل بقول الثقة ، أمراً على خلاف الحكمة ، مثل قوله سبحانه : ( انَّهُ مَنْ عَمِلَ سُوءاً بِجهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيم ). (٣)

كما يرد على المحقّق النائيني أنّ الحكومة أمر قائم بلسان الدليل على نحو

__________________

١. الحجرات : ٦.

٢. فوائد الأُصول : ٢ / ١٧٢.

٣. الأنعام : ٥٤.


يعدّ الدليل اللفظي مفسراً للدليل الآخر ، والمفهوم ليس دليلاً لفظياً فيكون فاقداً للسان ، ومعه كيف يكون حاكماً على التعليل.

ومع ذلك كلّه فمن المحتمل إجمال الكلام ، لورودهما في كلام واحد أو منزلته ، ويصلح كلّ لرفع الآخر ، فالمفهوم صالح لتخصيص العام ، كما انّ العام المتصل الظاهر بصورة التعليل ، صالح لإلغاء المفهوم وإخلاء القضية عنه.

٢. حديث « قدر كرّ » وقوة العام في حديث ابن بزيع

روى محمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه 7 وسُئل عن الماء تبول فيه الدوابّ ، وتلغ فيه الكلاب ، ويغتسل فيه الجنب؟ قال 7 : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء ». (١) فذيل الحديث يشتمل على المفهوم وهو انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ، ينجسه شيء ، والمراد من « شيء » هو عناوين النجاسات.

وروى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا 7 قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلا أن يتغير ريحه ، أو طعمه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة ». (٢)

إنّ قوله : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء » ، عام يعمّ القليل من ماء البئر وكثيره ، فهل يصحّ تخصيصه بالمفهوم المستفاد في صحيحة محمد بن مسلم أو لا؟

إنّ النسبة بين المفهوم والعام ، هو العموم من وجه ، لأنّ المفهوم أعمّ من حيث كون الموضوع مطلق الماء ، لا ماء البئر ، وأخص من حيث اختصاصه بالماء غير الكرّ ، وحديث البزنطي عام لاشتماله الكرّ وغيره ، وخاص لاختصاصه بماء

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

٢. الوسائل : ١ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.


البئر ويجتمعان في ماء البئر القليل. ومقتضى القاعدة ، هو رفضهما والرجوع إلى دليل ثالث ، ـ ومع ذلك ـ فالذوق الفقهي يأبى ذلك ، ويرجح تقديم العام على المفهوم لقوّة دلالته بالتعليل الوارد في ذيله ، أعني : « لأنّ له مادة » وإلا يلزم لغوية التعليل ، لأنّه لو كان كثيراً لكان عدم الانفعال مستنداً إلى كرّيته لا إلى كونه له مادة ، ولو كان قليلاً ، فإن قلنا بعدم انفعاله ، لنفس العلّة الواردة في الرواية فهو ، وإلا تلزم لغوية التعليل.

٢. حديث « قدر كرّ » ورواية السرائر

روى ابن إدريس في « السرائر » والمحقّق في « المعتبر » ـ والظاهر منهما انّ الرواية معتبرة ـ انّه 7 قال : « خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء ، إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه ». (١) والنسبة بينه وبين رواية محمّد بن مسلم ، عموم وخصوص مطلق.

وفي المقام يقدّم المفهوم المستفاد من صحيحة محمد بن مسلم على العام الوارد في هذه الرواية ، لأنّه أخصّ من العام ، والخاص مقدّم على العام.

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩.


الفصل الثالث عشر

الاستثناء المتعقِّب للجمل

إذا كان هناك جمل متعدّدة حقيقة أو حكماً وتعقّبها استثناء فهل يرجع الاستثناء إلى الجميع أو إلى الأخيرة ، أولا ظهور له في أحدهما وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقناً؟

ولعلّ السبب لعقد هذا الفصل هو قوله سبحانه في حقّ القاذف ، قال : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَربَعَة شُهداءَ فاجْلِدُوهُمْ ثَمانينَ جَلْدةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادةً أَبداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون * إِلاّ الَّذينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصلحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ). (١)

فوقع الكلام في أنّ الاستثناء في قوله سبحانه : ( إِلاّ الّذينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلك ) هل يرجع إلى الحكم الأخير ـ أعني : ( أُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) ـ أو يرجع إلى الجميع ، يعني الأحكام الثلاثة : من الحكم بالجلد وعدم قبول الشهادة والحكم بالفسق؟

ثمّ إنّ المراد من « المحصنات » في الآية العفائف ، فانّ تلك اللفظة تطلق تارة ويراد بها إحصان العفة ، فيعم كلّ مرأة عفيفة ، سواء أكانت مجردة أم متزوّجة ،

__________________

١. النور : ٤ ـ ٥.


وقد تطلق ويراد بها إحصان التزوّج حيث إنّ المتزوّجة تُحْصِن نفسها ، والمراد كما عرفت هو الأوّل ، وذلك لأنّ الميزان في حرمة القذف هو كون المرأة متعفّفة لا متزوّجة ، وإن كان مورد نزول الآية هو المتزوّجة.

نعم للإحصان في القرآن الكريم إطلاقات.

فتارة يطلق ويراد منه احصان التزوّج ، كما في قوله : ( والمُحْصناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم ) (١) أي حرّمت عليكم ذوات الأزواج إلا من سُبيت في الحرب منهم.

وأُخرى : إحصان الحرية ، كقوله سبحانه ( ومَنْ لم يَستَطِعْ مِنْكُم طَولاً أن يَنكِحَ المُحْصَناتِ المؤمِناتِ ). (٢) أي الحرائر المؤمنات.

وثالثة : إحصان التعفّف كما في الآية المتقدّمة ، كقوله سبحانه : ( ولا تُكْرِهُوا فَتياتِكُمْ على البِغاءِ إِن أَردْنَ تَحَصُّناً ) (٣) ، أي إذا أردن العفة وصيانة النفس عن الفجور.

إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين :

أحدهما في مقام الثبوت ، والآخر في مقام الإثبات. ويراد من الأوّل إمكان الرجوع إلى الجميع ، ومن الآخر استظهار ظهور الجملة في أيّ واحد منهما. وإليك الكلام فيهما.

الأوّل : في مقام الثبوت وإمكان الرجوع إلى الجميع

هل رجوع الاستثناء إلى عامّة الجمل المتقدّمة أمر ممكن أو لا؟ يظهر من

__________________

١. النساء : ٢٤.

٢. النساء : ٢٥.

٣. النور : ٣٣.


المحقّق الخراساني أنّ إمكان الرجوع إلى الجميع أمر مسلّم ، غير أنّ الاختلاف في مقام الإثبات ، قال ما هذا حاصله :

إنّ كلمة الاستثناء وضعت للإخراج بالمعنى الحرفي من غير فرق بين تعدّد المستثنى منه ووحدته ، أو تعدّد المستثنى ووحدته ، فتعدّدهما ووحدتهما غير مؤثر في استعمال كلمة الاستثناء في معناه ، وتعدّد المخرَج منه أو المخرَج لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً. (١)

وذهب سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى امتناع الرجوع إلى الجميع قائلاً : بأنّ معاني الحروف معان فانية ومندكَّة في المستعمل فيه ، فإذا رجع إلى الأخيرة فيندك فيها ومعه كيف يرجع إلى غيرها قال :

إنّ الحروف آلة للحاظ المعاني الاسمية وفانية فيها ، ولا يمكن فناء واحد في أُمور كثيرة ، ولا يقاس ذلك بالاستثناء المتعدّد ( جاء القوم إلا زيداً وعمراً وبكراً ) ، فانّ حروف العطف فيها رابطة فيُخرَجُ الأوّل بـ « إلا » ويرتبط الثاني به بحرف العطف ، بخلاف الاستثناء الواحد من الجمل الكثيرة ( أكرم العلماء ، وأهن الفساق ، وسلّم على الطلاّب ) فانّه من قبيل استعمال اللفظ الواحد في معاني متعددة. (٢)

وإن شئت قلت : إنّ لحاظ المعنى الحرفي بلحاظ طرفيه ، وحيث إنّ تعدّد الأطراف هنا بتعدّد المستثنى منه صار مرجع استعمال أداة واحدة في الإخراج في جميعها إلى لحاظ حقيقة واحدة ربطية بنحو الاندكاك والفناء في هذا الطرف تارة ، وذاك الطرف أُخرى ، ومقتضى ذلك كون حقيقة واحدة ربطية بنحو الاندكاك والفناء في هذا الطرف تارة ، وذاك الطرف أُخرى ، ومقتضى ذلك كون حقيقة

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٦٥.

٢. لمحات الأُصول : ٣١٤.


واحدة ربطية في عين وحدتها ، حقائق ربطية متكثرة وهذا مستحيل. (١)

يلاحظ عليه : بأنّها أشبه بالشبهة في مقابل البديهة ، والشاهد عليه ورود الرواية بأنّ القاذف إذا تاب تقبل شهادته ، ومعنى ذلك انّه يرجع إلى الجملة الثانية أيضاً.

روى قاسم بن سليمان قال : سألت أبا عبد اللّه 7 عن الرجل يقذف الرجل فيُجلَد حداً ثمّ يتوب ولا يعلم منه إلا خير ، أتجوز شهادته؟ قال « نعم. ما يقال عندكم؟ » قلت : يقولون توبته فيما بينه وبين اللّه ولا تقبل شهادته أبداً. فقال : « بئس ما قالوا ، كان أبي يقول : إذا تاب ولم يُعلم منه إلا خير جازت شهادته ». (٢)

وسواء أصحت الرواية أم لا فهي حجّة من أهل اللسان على إمكان رجوع الاستثناء إلى الجمل المتوسطة ، فلو كان أمراً محالاً لما قال به الإمام ولا أخبر به الراوي بما أنّه من أهل اللسان.

وأمّا حلّ الشبهة فبوجهين :

الأوّل : انّ دلالة الحروف دلالة تبعية ، وعندئذ يكون في إفادة الوحدة والكثرة تابعاً لمتعلّقه ، فإن كان المتعلّق واحداً يتحد ، وإن كان كثيراً يتكثّر. والمفروض انّ متعلّقه كثير ، حيث المستثنى منه متعدّد ، والمستثنى قابل للانطباق ، على مصاديق كلّ الجمل المتقدّمة.

الثاني : انّ الاستثناء وإن كان مستعملاً في الاستثناء المندك لكن رجوعه إلى أكثر من واحد لا يستلزم كون المعنى الربطي الواحد حقائق ربطية متكثرة ، إذ هو في المثال المعروف أكرم العلماء والطلاب والتجار إلا الفساق استعملت في

__________________

١. نهاية الأُصول : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٢. الوسائل : ١٨ ، الباب ٣٦ من أبواب الشهادات ، الحديث ٣.


الاستثناء المندك في الفسّاق ، غير أنّ الذي يُصحّح رجوعه إلى أكثر من واحد ليس عروض الكثرة على المعنى الربطي الواحد ، بل لأجل وجود كثرة وسعة في متعلّقه ، أي نفس مفهوم الفسّاق حيث يشمل الفاسق من الطوائف الثلاث ، فلو كان المستثنى قابلاً للإنطباق على أكثر من واحد بالذات ، لسرت الكثرة مجازاً وبالعرض إلى نفس الاستثناء.

وإن شئت قلت : فرق بين تعلّق المعنى الربطي الواحد ، بكلّ من العلماء والطلاب والتجار ، وتعلّقه بمفهوم واحد قابل للانطباق على أكثر من واحد ، وهو لا يوجب تصرفاً في معنى الاستثناء.

وبذلك تبين انّ إمكان الرجوع أمر لا سترة عليه. وإليك الكلام في المقام الثاني.

المقام الثاني : في بيان ما هو ظاهر فيه

إذا أمكن رجوع الاستثناء إلى الأخير والجميع ، يقع الكلام في استظهار ما هو الظاهر من الأمرين؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الكلام يصير مجملاً لا يكون ظاهراً في أحد الأمرين.

فإن قلت : إنّ رجوعه إلى الأخير أمر متعيّن فلماذا لا يتمسّك بأصالة العموم في غير الأخيرة حتى يكون قوله : ( فَاجْلِدُوهُم ) وقوله : ( وَلا تَقْبلُوا لهم شَهادة أَبداً ) مصونان من التخصيص؟

قلت : أصالة العموم حجّة فيما إذا شكّ في أصل التخصيص وفي وجود القرينة ، وأمّا إذا شكّ في قرينية الأمر الموجود كما في المقام فلا يتمسّك بها. حيث إنّ الاستثناء صالح للرجوع إلى الجميع ، واكتناف الكلام بهذا النوع من القرينة


التي لها الصلاحية للرجوع إلى الجميع يمنع من جريان أصالة العموم في المورد.

نعم لو قلنا بحجّية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور والاطمئنان بها ، يكون هو المرجع في غير الأخيرة لكن بشرط أن تكون استفادة العموم بالوضع لا بالإطلاق ، لما عرفت أنّ من مقدّمات الحكمة هو عدم القرينة. وبما انّ الاستثناء صالح للقرينية لعدم العموم لا تجري مقدّمات الحكمة ، فلا يحكم على الجمل بالظهور والعموم ، بالذات حتّى يعرضه الإجمال. (١)

واعترض عليه المحقّق النائيني بأنّ سقوط أصالة العموم في الجمل السابقة يحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، وتوهم كونه من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية غير صحيح ، لأنّ المولى لو أراد تخصيص الجميع ـ ومع ذلك اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد ـ لكان مخلاً. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّه تصوّر انّ غرض المولى ينحصر في أحد أمرين :

الأوّل : إرادة العموم.

الثاني : إرادة الخصوص.

فعلى الأوّل يثبت المطلوب في الجمل السابقة ويحكم عليها بأصالة العموم.

وعلى الثاني يلزم الإخلال بالغرض حيث لم ينصب قرينة على الخصوص فرجوع الاستثناء إلى الكلّ متعيّن.

بل هناك غرض آخر ربما يتعلّق به غرض المولى وهو الإجمال في الكلام ، والإهمال في البيان ، وعندئذ لا يكون عدم ذكر المخصص ـ مع كونه مراداً ـ مخلاً بالمقصود.

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٦٥.

٢. أجود التقريرات : ١ / ٤٩٧.


نظرية المحقّق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصل في هذا المقام وجعل المحور للاستظهار تكرار عقد الوضع حيث إنّه يكون مانعاً من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة عليه ، فذكر هنا صوراً ثلاثاً :

الأُولى : أن يتكرر عقد الوضع في الجملة الأخيرة أيضاً ، كما في الآية المباركة حيث قال في صدرها : ( وَالّذينَ يَرْمُون المُحْصَنات ) وفي ذيلها : ( وَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُون * إِلاّ الذين تابُوا ).

الثانية : أن يقتصر على ذكر عقد الوضع في صدر الكلام ويحيل الباقي إليه ، كما إذا قال : أكرم العلماء وأطعمهم وأحسن إليهم إلا فسّاقهم ، فعقد الوضع ، أعني : العلماء ، ذكر مرة واحدة في صدر الجمل.

الثالثة : أن يتكرر عقد الوضع في وسط الجمل المتعدّدة ، كما إذا قال : أكرم العلماء وسلم على الطلاب ، وأضفهم إلا الفسّاق حيث ذكر الطلاب في الوسط.

ثمّ إنّه 1 حكم باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في الصورة الأُولى وبرجوعه إلى الجميع في الصورة الثانية ، ورجوعه إلى الجملة المشتملة على عقد الوضع ، والجملة المتأخرة عنها دون ما قبلها في الصورة الثالثة.

فالمدار عنده هو عقد الوضع حيث إنّ تكراره يمنع من عود الاستثناء إلى ما قبلها وذكره وحده يوجب رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل المنتهية إليه. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجميع أو إليها حتّى تنتهي إلى عقد الوضع المذكور في وسط الجمل صحيح لا

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٩٧ ، بتوضيح وتلخيص منّا.


غبار عليه ، ولكن الميزان ليس تكرر عقد الوضع وعدمه ، بل الملاك استقلال الجملة وعدمه ، حيث إنّ استقلال الجملة يمنع من عود القيد إلى ما قبله بخلاف ما إذا كانت غير مستقلة ، فالقيد يرجع إليها وإلى ما قبلها ، فما ذكره من النتيجة صحيح لكن بالملاك الذي ذكرناه لا وحدة عقد الوضع وتعدّده.

وعلى ضوء ذلك فهناك صور ثلاث أُخرى نذكرها تباعاً على ضوء ما ذكرنا من القاعدة. وربّما نختلف معه في النتيجة.

الرابعة : إذا كرر عقد الوضع في الجمل دون عقد الحمل ، كما إذا قال : أكرم العلماء والطلاب والتجار إلا الفساق منهم فبما أنّ جميع ما ذكر قبل الاستثناء بحكم جملة واحدة ، وكأنّه قال : العلماء ، الطلاب ، التجار أكرمهم إلا الفساق ، يرجع الاستثناء إلى الجميع.

الخامسة : ما إذا كرر عقد الوضع والحمل في كلّ جملة : أكرم العلماء ، أكرم الطلاب ، أكرم التجار ، فالظاهر رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ، لأنّ تكرر عقد الحمل قرينة على انقطاع الجمل بعضها عن بعض ، وعندئذ يأخذ الاستثناء محله في الكلام وهو الرجوع إلى الأخيرة.

السادسة : إذا كان عقد الحمل في الجملة الأخيرة مغايراً مع ما ذكر في الجملة الأُولى ، كما إذا قال : أكرم العلماء والطلاب وجالس التجّار إلا الفساق منهم ، فإنّ تغير عقد الحمل يكون قرينة على استقلال الجملة الأخيرة عمّا تقدّمها.

فما ذكرناه قاعدة عامة يركن إليها إذا لم يكن هناك قرينة على خلافه ، ولذلك يجب على الفقيه التفتيش عن القرائن الأُخرى فربما تكون مؤيدة للظهور وأُخرى مزيلة له.


الفصل الرابع عشر

تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

هل يجوز تخصيص الكتاب العزيز بالخبر الواحد أو لا؟ وقد اختلفت فيه كلمتهم كما سيوافيك بعد ما اتّفقت كلمتهم في الأُمور التالية :

١. تخصيص الكتاب بالكتاب.

٢. تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة.

٣. تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المحفوف بالقرينة المفيد للعلم.

٤. تفسير مجملات الكتاب كالصلاة والزكاة والصوم بخبر الواحد ، فإنّ أجزاء العبادات تتبيّن بالخبر الواحد.

ولم يخالف في ذلك أحد ، إذ لا يعد التفسير للإجمال مخالفاً للقرآن ولا معارضاً له.

هذا ما اتفّقوا عليه ، نعم اختلفوا في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد العاري من القرينة ، نظير الأمثلة التالية :

١. ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (١) حيث تخصّص « حلية وراء ذلكم » بما ورد من أنّ المرأة لا تزوّج على عمتها وخالتها إلا بإذنهما.

__________________

١. النساء : ٢٤.


٢. ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَولادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن ) (١) حيث خصّصت بأنّه لا ميراث للقاتل. (٢)

٣. ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (٣) حيث خصصت بما دلّ على جواز الربا بين الوالد والولد ، والزوج والزوجة.

هذا والمسألة لها جذور في تاريخ أُصول الفقه ، وقد تضاربت أقوالهم في هذا الصدد.

فذهب إلى المنع الأقطاب الثلاثة من أصحابنا ، أعني : السيد المرتضى والشيخ الطوسي والمحقّق الحلي.

١. قال السيد المرتضى : والذي نذهب إليه أنّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال ، وقد كان جائزاً أن يتعبّدنا اللّه تعالى بذلك فيكون واجباً غير أنّه ما تُعبدنا به. (٤)

٢. وقال الشيخ الطوسي : والذي أذهب إليه انّه لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال ، سواء خصّ بدليل متّصل أو منفصل أو لم يخص. (٥)

٣. وقال المحقّق الحلي : يجوز تخصيص العموم المقطوع به بخبر الواحد ، وأنكر ذلك الشيخ أبو جعفر ، ثمّ ذكر دليل المجيز بأنّهما دليلان تعارضا فيجب العمل بالخاص منهما لبطلان ما عداه من الأقسام. وأجاب عنه بأنّه لانسلّم انّ

__________________

١. النساء : ١١.

٢. الوسائل : ١٧ ، باب ٧ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١.

٣. البقرة : ٢٧٥.

٤. الذريعة إلى أُصول الشريعة : ١ / ٢٨٠.

٥. عدّة الأُصول : ١ / ١٣٥.


خبر الواحد دليل على الإطلاق ، لأنّ الدلالة على العمل به الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة ، فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به. (١)

والمشهور بين المتأخرين هو الجواز حتّى استدلّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي 1 بوجود السيرة المستمرة في جميع الأعصار عليه ، وانّه لولاه لما قام للمسلمين فقه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب.

ومع ذلك فالمسألة ذات أقوال :

١. المنع ، كما عرفت من الأقطاب الثلاثة.

٢. الجواز ، كما عرفت من ادّعاء السيرة على التخصيص.

٣. التفصيل بين عام خُصّص بدليل قطعي ، فيخصص بالخبر الواحد أيضاً ، وغيره.

٤. التوقّف في المسألة. (٢)

استدلّ المحقّق الخراساني للجواز بوجهين :

١. جرت سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد ، في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة : واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة ، واضح البطلان. (٣)

٢. لولا جواز التخصيص لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ـ لو سلم وجود مالم يكن كذلك ـ.

يلاحظ على الأوّل : أنّ ما ادّعاه من السيرة على تخصيص الكتاب بخبر

__________________

١. المعارج : ٤٦.

٢. لاحظ للوقوف على الآراء كتاب الفصول : ٢١٤.

٣. الكفاية : ١ / ٣٦٦.


الواحد غير ثابت ، لما عرفت من مخالفة الأقطاب الثلاثة ، ـ مضافاً ـ إلى أنّ هناك من القدماء من يمنع حجّية الواحد مطلقاً ، مخصّصاً كان للكتاب أو لا ، والقدر المتيقن من السيرة ، هو أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن ، وقد كانت في العصور الأُولى محفوفة.

ولأجل توفّر القرائن في عصر القدماء ، قسّموا الحديث إلى قسمين معتبر وغير معتبر ، فما أيّدته القرائن الداخلية كوثاقة الراوي ، أو الخارجية كوجوده في أصل معتبر ثابت انتسابه إلى جماعة كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار ، فهو صحيح ـ أي معتبر ـ يجوز الاستناد إليه ، والفاقد لكلتا المزيتين غير صحيح بمعنى انّه لايمكن الركون إليه.

وإنّما آل التقسيم الثنائي إلى الرباعي لأجل ضياع القرائن بضياع الأُصول. (١)

يلاحظ على الثاني : بأنّ كثيراً من أخبار الآحاد يرجع إلى تفسير مبهمات القرآن ومجملاته ، وقد عرفت أنّ حجّية خبر الواحد في هذا الباب خارج عن محط النزاع.

فإن قلت : إنّ ما ورد ، حول النجاسات والمحرّمات ينافي قوله سبحانه : ( هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم ما فِي الأرضِ جَمِيعاً ). (٢)

قلت : لا منافاة بين مفاد الآية وبين ما دلّ على كون شيء نجساً أو محرّماً ، وذلك لأنّ المراد من الآية الانتفاع بنحو من الأنحاء ، لا خصوص الأكل والشرب ، حتّى يكون دليلاً على المخالفة. هذا دليل المجوزين ، ولندرس دليل المانعين.

__________________

١. لاحظ : كليات في علم الرجال : ٥٩.

٢. البقرة : ٢٩.


حجّة المانعين من التخصيص

احتجّ المانع بوجوه :

١. انّ الكتاب قطعي السند ، والخبر ظني السند ، والظنّي لا يعارض القطعي ، ولا ترفع اليد عن القطعي به.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني بما هذا توضيحه : بأنّ التعارض ليس بين السندين ، حتّى يقال بأنّ الظني لا يعارض القطعي وإنّما الدوران بين دلالة الكتاب ( أصالة العموم ) ودليل حجّية الخبر ، فأمّا أن تُرفع اليد عن دلالة الكتاب أو دليل حجّية خبر الواحد ، كآية النبأ وغيرها ، والمتعيّن هو الأوّل ، لأنّ الخبر بدلالته وسنده صالح للتصرّف في دلالة الكتاب ، حيث إنّ اعتبار الأصل المذكور موقوف على عدم قرينة على خلافه ، والمفروض انّ الخبر يصلح لأن يكون قرينة ، فترفع اليد عنها به.

وإنّما قلنا : انّ دلالة الكتاب موقوفة على عدم ورود قرينة على الخلاف لما عرفت من أنّ السنّة الإلهية جرت على بيان الأحكام تدريجاً ، لا دفعيّاً ، وعلى ضوئه لا مانع من ورود العموم والإطلاق في الكتاب ، وورود مخصصه ومقيّده في السنّة.

وإلى هذا الجواب يشير المحقّق البروجردي ويقول : إنّ التصرف ليس في السند بل في العموم وأصالة العموم ظنية ، فرفع اليد عن العموم به ، رفع لليد عن الدليل الظني بالدليل الظني الأقوى ، للسيرة العقلائية.

ومراده 1 من كون دلالة الكتاب ظنيّاً ، هو كون عمومات الكتاب وإطلاقاته في مظنة التخصيص والتقييد لا كون كلّ الكتاب ظنّياً ، وسيوافيك شرحه عند البحث في حجّية الظواهر.


٢. انّ دليل حجّية الخبر هو الإجماع والقدر المتيقن منه هو غير هذا المورد.

يلاحظ عليه : أنّ الدليل على حجّية الخبر الواحد ، ليس هو الإجماع ، بل الدليل هو السيرة العقلائية الجارية على الأخذ بالخبر الواحد ، سواء أكان في مقابله دليل قطعي أو لا ، مضافاً إلى سيرة الأصحاب الجارية على تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.

٣. لو جاز التخصيص بالخبر الواحد ، لجاز نسخ الكتاب به لكونهما مشتركين في أصل التخصيص ويختلفان في أنّ النسخ تخصيص في الأزمان ، والآخر تخصيص في الأفراد.

يلاحظ عليه : بأنّ القياس مع الفارق ، فانّ النسخ رفع الحكم من رأس بخلاف الآخر ، فانّه بمعنى إخراج بعض الأفراد عن حكم الآية ، ولذلك اتّفق المسلمون على عدم جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد ، حفظاً لكرامة القرآن وصيانته عن تطرق الأهواء إليه ، بخلاف التخصيص فانّه أمر ذائع شائع فكم فرق بين قولنا : لا ميراث للقائل المخصص لقوله ( للذَّكرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن ) (١) فهو مخرج للقائل عن تحت العموم ، وبين نسخ حلية المتعة ، الواردة في قوله سبحانه : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ) (٢) بخبر الواحد الذي يدّعيه أهل السنّة فهو بمنزلة رفع الحكم من رأس.

٤. الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للقرآن ، والخبر المخصص مخالف له فينتج لزوم طرحه ، لا الأخذ ثمّ تخصيص الكتاب به وإن شئت ان تصبّه في قالب الشكل الأوّل تقول : الخبر المخصّص للكتاب ، مخالف للكتاب ، وكلّ خبر مخالف للكتاب ليس بحجّة ، ينتج : الخبر المخصّص للكتاب ، ليس بحجّة.

__________________

١. النساء : ١١.

٢. النساء : ٢٤.


أقول : الروايات الواردة حول كون الحديث موافقاً للكتاب أو مخالفاً له ، تُدرس في مقامين :

١. في باب جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، بحجّة انّ المخصص مخالف أو ليس بموافق.

٢. في باب حجّية خبر الواحد ، حيث يستدلّ المانع بهذه الروايات على عدم حجّية الخبر الواحد ، مخصصاً كان أو لا.

واعلم أنّ هذه الروايات ليست على صنف واحد ، بل على أصناف أربعة ، والمهم هو الصنف الثالث ، أعني : ما يدلّ على عدم حجّية المخالف للكتاب بناء على أنّ المخصص مخالف ، وإليك بيان الأصناف إجمالاً.

الأوّل : ما لا يعترف بحجّية الخبر الواحد ، إلا إذا كان موافقاً للكتاب ، أو كان له شاهد أو شاهدان منه ، نظير ما رواه أيوب بن راشد عن أبي عبد اللّه 7 قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ». (١)

وهذا الصنف من الروايات ، لا يمكن الأخذ بظاهرها ، إذ معنى ذلك ، إلغاء حجّية الخبر الواحد من رأس ، والمفروض حجّيته وإنّما الكلام في سعتها وضيقها ، وهي محمولة على مورد العقائد حيث إنّ الغلاة يروون أحاديث في مقامات الأنبياء والأولياء حسب أهوائهم ، فلم يكن في علاجها محيص عن عرضها على الكتاب لتُعلم صحّة الرواية وفسادها.

وأمّا الروايات الواردة حول الأحكام فيؤخذ بها وإن لم تكن موافقة ، غاية الأمر يجب أن لا تكون مخالفة له ، وأمّا الوارد في العقائد والأُصول خصوصاً فيما

__________________

١. الوسائل : ١٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ ، ولاحظ الحديث ١١ ، ١٤ ، ١٨ ، ٣٧ ، ٤٧ من هذا الباب.


يرجع إلى مقامات الأولياء ، فالشرط هو الموافقة ، لا عدم المخالفة حتّى يتميّز الصحيح عن غيره.

الثاني : ما ورد في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، وانّه يطرح المخالف ، نقتصر على رواية واحدة :

روى الكليني عن العالم 7 يقول : « اعرضوهما على كتاب اللّه عزّوجل فما وافق كتاب اللّه عزّوجل ، فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (١)

وهذا القسم من الأحاديث لا صلة له بالمقام ، لأنّ الكلام في الخبر غير المعارض ، فلو عدّ عدم المخالفة في الخبرين المتعارضين مرجّحاً فلا يكون دليلاً على اشتراطه في غيره.

الثالث : ما يُركِّز على المخالف المجرّد عن التعارض.

روى الكليني بسنده عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، قال : سمعت أبا عبد اللّه 7 يقول : « من خالف كتاب اللّه وسنّة محمد فقد كفر ». (٢)

الرابع : ما يشترط الموافقة وعدم المخالفة معاً ، وقد ورد بهذا العنوان روايات ربّما تناهز ثلاثاً ، نقتصر على رواية واحدة :

روى السكوني عن أبي عبد اللّه 7 قال : قال رسول اللّه 6 : « إنّ على كلّ حق حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (٣)

__________________

١. الوسائل : ١٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩. ولاحظ الحديث : ١ ، ١٠ ، ٢١ ، ٢٩ وغيرهما.

٢. الوسائل : ١٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٦.

٣. الوسائل : ١٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠. ولاحظ أيضاً الحديث : ١٥ ، ٣٥.


ولا يذهب عليك أنّ أحد الملاكين في الصنف الرابع خاص ( كونه موافقاً للكتاب ) والآخر عام ( عدم كونه مخالفاً ) فالأوّل رهن وجود مضمون الحديث في الكتاب ، وأمّا الثاني فيكفي عدم المخالفة ، سواء أكان موافقاً كما إذا كان المضمون موجوداً ، أم لم يكن موافقاً وفي الوقت نفسه لم يكن مخالفاً كما إذا لم يكن مضمونه وارداً في الكتاب ، مثلاً ما دلّ على عدم جواز الصلاة في عرق الجنب عن حرام ليس موافقاً للكتاب ومع ذلك ليس مخالفاً أيضاً ، ولعلّ العرف يأخذ بالملاك الأعم ، لأنّ الأخص موجود في الأعم ، فالميزان هو عدم المخالفة ، فعندئذ يرجع الصنف الرابع إلى الصنف الثالث. وتكون النتيجة عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب والمفروض انّ المخصص مخالف للكتاب.

إلى هنا تمّ تقرير دليل الخصم.

يلاحظ عليه : بأنّ الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر المخالف يفسر بأحد وجهين :

الأوّل : أنّها محمولة على التباين الكلّي بأن يكون الحديث مخالفاً للكتاب تماماً ، وذلك لأنّ المخالفة على نحو العموم والخصوص ليست مخالفة في دائرة التقنين والتشريع ، بشهادة انّه يجوز تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة ، والسنّة المحفوفة بالقرائن ، فلو كانت المخالفة تعمّ هذا القسم يجب أن لايخصّص الكتاب بالسنّة أبداً ، لأنّ لسان هذه الروايات آب عن التخصيص.

فإن قلت : حمل هذه الروايات على الخبر المباين يوجب حملها على الفرد النادر ، لعدم وجود الخبر المباين في الروايات ، فيكون الكلام بعيداً عن البلاغة.

قلت : إنّ علماءنا الأبرار بذلوا جهوداً جبارة في تهذيب أحاديث الشيعة عن الموضوعات ، فلا تجد المباين في الجوامع الحديثية إلا نادراً ، وإلا فقبل دورة


التهذيب كانت الروايات المتباينة غير عزيزة.

الثاني : حمل روايات المقام على صورة التعارض

ويحتمل أن يكون المراد من ترك الخبر المخالف للكتاب هو صورة تعارضه مع الخبر الآخر وإن كان يؤخذ به عند عدم التعارض ويخصّص به القرآن.

والذي يقودنا إلى هذا الحمل ، هو انّ المخالف المطرود في الخبرين المتعارضين أعمّ من التباين والعموم والخصوص المطلق ، فلو حمل ما ورد على ترك المخالف في الصنف الثالث على المبائن يلزم التفريق في لسان الروايات في البابين ، وهذا ما يبعثنا بحمل روايات المقام على باب التعارض ، ويكون المراد من المخالف هو الأعمّ من التباين والعموم والخصوص لكن يختصّ عدم حجّية المخالف بصورة التعارض دون انفراده.


الفصل الخامس عشر

في حالات العام والخاص

الهدف من عقد هذا الفصل بيان حالات العام والخاص من التخصيص والنسخ وانتهى كلام صاحب الكفاية فيه إلى البحث عن النسخ والبداء ، فصارت مادة البحث في هذا الفصل ممزوجة من المسائل الأُصولية والقرآنية والكلاميّة ونحن نقتفيه حسب تناسب المقام.

الأوّل : في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

إنّ للخاص والعام حالات مختلفة ، حسب تقدّم أحدهما على الآخر ووروده قبل حضور وقت العمل بالآخر أو بعده ، والصورة المتصوّرة لا تخرج عن ست صور :

الأُولى : ورود الخاص والعام متقارنين

إذا ورد الخاص والعام متقارنين ، سواء كانا في كلام واحد على وجه لا ينعقد للكلام ظهور أصلاً ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلا زيداً ، أو ينعقد الظهور ، لكن ظهوراً غير مستقر ، إذ جاء المخصّص في آخر كلامه بصورة مستقلة ، والحال انّه لم يفرغ بعدُ من كلامه ومقصده ، فلا شكّ انّه يحمل على التخصيص بلا كلام.


الثانية : ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام

إذا ورد الخاص بعد العام وقبل حضور وقت العمل به ؛ كما إذا قال المولى يوم السبت : أكرم العلماء يوم الجمعة ، وقال يوم الأربعاء : لا تكرم فسّاقهم يوم الجمعة ، فيكون أيضاً مخصصاً ، لا ناسخاً.

وجه ذلك : انّ النسخ عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر على وجه لولاه لكان ثابتاً ، وهو فرع ثبوت الحكم للموضوع جداً ، في برهة من الزمان ثمّ رفعه ، ولذلك قالوا : إنّ النسخ تخصّص في الأزمان ، بمعنى انّه مانع عن استمرار الحكم بعد ثبوته شرعاً ، لا عن أصل ثبوته ، كما أنّ هذا معنى قولهم : النسخ عبارة عن حضور الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ.

وإن شئت قلت : إذا تعلّقت الإرادة الجدية بأصل التكليف ولو في برهة من الزمان ، وكان الدليل ظاهراً في الاستمرار ، فورد الناسخ بعد العمل بالتكليف في قسم من الزمان ، يكون الدليل الثاني ناسخاً ، لكونه مانعاً عن استمرار التكليف لا عن أصله.

وأمّا الخاص الوارد قبل حضور وقت العمل ، يكون مانعاً عن أصل التكليف وكاشفاً عن عدم تعلّق الإرادة الجدية به من أوّل الأمر ، فهو إخراج فرد ، أو عنوان عن كونه محكوماً بحكم العام من أوّل الأمر ، ولذلك يشترط وروده قبل وقت العمل بالعام لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

الثالثة : ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام

إذا ورد الخاص متأخراً عن العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام ، كما


إذا ورد العام في الكتاب والسنّة والخاص في لسان الأئمة ، مثل قوله سبحانه : ( فلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم ) (١) وورد الخاص في لسان الإمام الصادق 7 حيث قال : « لا ترث النساء عن عقار الدور شيئاً » (٢) ، فمقتضى القاعدة كون الخاص ناسخاً لا مخصصاً ، لكنّه لا يخلو عن محذورين.

الأوّل : إجماع الأُمّة على أنّ النسخ مختص بعصر الرسول وإنّ ما لم ينسخ فهو باق مستمر إلى يوم القيامة.

الثاني : انّ الخاص في الروايات الصادرة عن أئمّة أهل البيت : كثيرة ، فجعل هذه الروايات من قبيل النسخ مالا يلتزم به أحد.

وعلى هذين الوجهين لا يكون مثل هذا النوع من الخاص ، ناسخاً ، لكن عدّه مخصصاً أيضاً مشكل لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فإذا كان الحكم في مورد الخاص كالعقار في إرث الزوجة غير متعلّق للإرادة الجدية وكانت النساء محرومة من الإرث فيه ، لماذا تأخر البيان في عصر الرسالة إلى أوائل القرن الثاني.

والحاصل : انّ عدّه ناسخاً أو مخصّصاً مقرون بالإشكال.

نظرية الشيخ الأعظم في المقام

لو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فلا محيص عن كونه ناسخاً لا مخصّصاً لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا أُحرز كون العام وارداً لبيان الحكم الواقعي ، وإلا لكان الخاص أيضاً مخصِّصاً له ، كما هو الحال في

__________________

١. النساء : ١٢.

٢. الوسائل : ١٧ ، الباب ٦ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ٧.


غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.

وجهه : أنّه لو كان المولى بصدد بيان الحكم الواقعي ، لم يجز له تأخير البيان عن وقت العمل ، فإذا شاهدنا التأخّر فلا مناص عن جعله ناسخاً ، أي من قبيل ارتفاع الحكم من زمان ورود الخاص وكان الحكم الواقعي إلى زمان ورود الخاص هو العام ، فلم يكن هناك إلقاء في المفسدة وتفويت للمصلحة.

وأمّا إذا كان المولى بصدد بيان الحكم الظاهري دون بيان الحكم الواقعي ، فيكون الناس مكلّفين بالحكم الظاهري دون الواقعي ما لم يصل إليهم الخاص ، فإذا وصل ارتفع الحكم الظاهري بارتفاع موضوعه ، وتصل النوبة إلى العمل بالحكم الواقعي ويكون الخاص مخصّصاً غير متأخّر عن وقت الحاجة.

نظريتنا في المسألة

ولكن الظاهر هو القول بالتخصيص مطلقاً من غير تفصيل ، وذلك لأنّ المصلحة أوجبت بيان الأحكام تدريجاً فالأحكام كلّها كانت مشرّعة في عصر الرسول 6 نازلة عليه ، غير أنّه 6 بيـّن ما بيـّن ، وأودع مالم يُبيّن ـ إمّا لعدم استعداد في المجتمع أو لعدم وجود الفرصة للبيان ، أو لوجود المصلحة في تأخيره ـ عند أوصيائه الأئمة المعصومين : بعده ، وليس تأخير البيان أمراًقبيحاً بالذات حتى لا يُغيّر حكمه وإنّما هو بالنسبة إلى القبح كالمقتضي نظير الكذب ، فلو كان هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً. هذا هوالحقّ الذي يدركه من سبر حال النبي 6 والمجتمع الإسلامي.

فأقصى ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقّة ، أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، وكلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبرى تأخير البيان.


الرابعة : ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص

إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل به ، كما إذا قال : لا تكرم العالم الفاسق في شهر رمضان ثمّ أمر بإكرام العلماء قبل دخول الشهر ، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصِّصاً للعام المتأخّر ، ولا وجه للنسخ لما عرفت من عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل. أضف إلى ذلك ما سبق من أنّه يلزم لغوية حكم الخاص في المقام وهو لا يصدر من الحكيم العالم بعواقب الأُمور.

الخامسة : ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص

تلك الصورة ولكن ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، أي بعد حضور زمان يمكن العمل به ، فهل الخاص المتقدّم مخصّص للعام المتأخّر ، أو العام المتأخّر ناسخ للخاص المتقدّم؟ وليست هذه الصورة كالمتقدّمة ، إذ لا تلزم لغوية الخاص من القول بناسخية العام. والثمرة بين القولين واضحة ، فعلى الأوّل يعمل بالخاص في خصوص مورده ، وعلى الثاني ينتهي أمد حكم الخاص ويجب العمل بالعام في الفاسق والعادل.

قال المحقّق الخراساني : الأظهر أن يكون الخاص مخصِّصاً لكثرة التخصيص حتى اشتهر ما من عام إلاّ وقد خصّ مع قلّة النسخ في الأحكام جدّاً ، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام ولو بإطلاقه أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع. (١)

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٧١.


السادسة : إذا حصل تردّد بين ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، وقبل حضوره ، قال المحقّق الخراساني : الوجه هو الرجوع إلى الأُصول العملية. (١)

يلاحظ عليه : أنّه لا يترتّب على كلا القولين أثر في مقام العمل فإنّ الواجب في المقام هو العمل بالخاص في المستقبل ، سواء أكان ناسخاً للعام أم مخصّصاً ، لافتراض أنّه لوكان ناسخاً فإنّما يكون ناسخاً في مورده الخاص لا في الأعمّ منه.

بخلاف الصورة الخامسة فإنّ الثمرة موجودة في كون الخاص مخصّصاً ، أو العام ناسخاً. فعلى الأوّل يكون ملاك العمل في المستقبل هو الخاص بخلاف الثاني فإنّه يكون ملاك العمل عندئذ هو العام.

وهناك صورة سابعة وهو الجهل بأحوال الدليلين على وجه الإطلاق من كونهما متقارنين أو متأخرين ولم يعلم المتقدّم ولا المتأخّر ، ولا كيفيتهما.

وبما أنّ المتعيّن في جميع الصور السابقة هو التخصيص ، فيكون حكمه أيضاً هو التخصيص لعدم خروجها عنها. فلاحظ.

تمّ الكلام في الأمر الأوّل ، وإليك الكلام في الأمرين الآخرين :

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٧١.


الأمر الثاني

النسخ

قد عرفت أنّ في هذا الفصل أُموراً ثلاثة ، وقد تمّ الكلام في الأمر الأوّل ، فلنأخذ الأمر الثاني بالبحث وهو النسخ ، ويقع الكلام في أُمور :

الأوّل : النسخ لغة واصطلاحاً

النسخ لغة هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه.

يقال : نسخت الشمسُ الظلَّ أي أذهبتْه وحلّتْ محلَّه ، وانتسخ الشيبُ الشبابَ ، والتناسخ في الفرائض والمواريث أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يُقسَّم ، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون بعد القرون الماضية.

وربما يقال : أصل النسخ : الإبدال من الشيء غيره ، ولعلّه بهذا المعنى نسختُ الكتابَ أي استنسخته.

وعلى هذا يكون إمّا مشتركاً لفظيّاً بين الإبطال والإبدال ، أو مشتركاً معنوياً بتصوير جامع بينهما.

وأمّا اصطلاحاً فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان سائداً ، وعرّفه الطبرسي بقوله : « كلّ دليل شرعي دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنص الأوّل ، غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتاً بالنصّ الأوّل مع تراخيه عنه ».

ولا تخفى وجازة التعريف الأوّل.


الثاني : في إمكان جواز النسخ عقلاً أو شرعاً

النسخ عندنا جائز عقلاً ، واقع سمعاً ، وأدلّ دليل على جوازه وقوعه في الشريعة الإسلامية فانّها نسخت شيئاً من الأحكام الواردة في الشرائع السابقة ، كما أنّ كلّ شريعة سماوية نسخت شيئاً ممّا ورد في سابقتها ، مثلاً : جاء في التوراة : إنّ اللّه تعالى قال لنوح 7 عند خروجه من الفلك انّي جعلت كلّ دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت لذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه » (١) مع أنّه سبحانه حرّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من اللحوم.

ويظهر إمكان النسخ من خلال اختلاف المقتضيات الزمانية والمكانية ، فربما يكون حكماً صالحاً في ظروف معينة ، فإذا تغيرت لم يصر ذلك الحكم صالحاً في تلك الظروف ، بل لابدّ من تغيّره أيضاً.

نعم الأحكام المتناغمة مع الفطرة الإنسانية لا تتغيّر مادامت الفطرة الإنسانية.

وبالجملة إمكان النسخ ووقوعه أمر لا ريب فيه غير أنّ اليهود ذهبت إلى امتناعه إمّا عقلاً وشرعاً ، أو شرعاً فقط.

وقد نقل الرازي في تفسيره استدلالهم بشكل مبسوط ، ونحن نلخّص كلامه :

إنّ الدليل لا يخلو من حالات ثلاث : إمّا أن يدلّ على الدوام ، أو يدلّ على خلافه ، أو لايدلّ على أحدهما.

أمّا الأوّل فيلزم من نسخه كذب الخبر الأوّل.

وأمّا الثاني فهذا لا يعدّ نسخاً ، لأنّ المفروض انّ الأمر الأوّل كان مؤقتاً.

__________________

١. سفر التكوين ، الاصحاح التاسع ، الآية ٣.


وأمّا الثالث فبما انّ امتثال الأمر مرة واحدة مسقط ، فليس هناك دليل على لزوم امتثاله في المرة الثانية حتّى يكون الدليل الثاني ناسخاً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ هناك قسماً رابعاً وهو ظهور الدليل في الدوام لا كونه نصاً فيه ، فإذا جاء الناسخ فيكشف عن عدم صحّة ظهور الدليل الأوّل وانّ ما فهم من استمرار الحكم ودوامه كان فهماً خاطئاً ومصب النسخ هو هذا القسم ، وإلا فما نص عليه بالدوام أو بالانقطاع أو يكون مهملاً من حيث الدوام وعدمه ، إمّا يستحيل نسخه لاستلزامه الكذب كما في القسم الأوّل ، أو يستغني عن النسخ كما في القسمين الأخيرين وذلك إمّا ارتفاعه : بانتهاء غايته ، أو عدم ظهوره في الاستمرار ، حتّى يرتفع وإنّما النسخ فيما إذا كان الدليل حسب الظاهر ظاهراً في الاستمرار ، قابلاً للدوام ، فيكون الدليل الثاني ناسخاً له ، رافعاً للحكم حسب الظاهر وإن كان في الواقع كاشفاً عن انتهاء أمد الحكم.

ولذلك يقول الأُصوليون النسخ رفع حسب الظاهر ، وأمّا في الواقع فهو دفع وإعلام بانتهاء الحكم.

الثالث : الفرق بين النسخ والتخصيص

لا شكّ انّ النسخ والتخصيص يشتركان في تضييق دائرة الحكم لكن النسخ تخصيص في الأزمان ، أي مانع من استمرار الحكم بعد النسخ لا عن ثبوته قبله ، بخلاف الثاني فانّه تخصيص في الأفراد ، أي مانع من شمول الحكم لبعض أفراد العام منذ أوّل الأمر.

وبذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ ورود الناسخ بعد حضور العمل

__________________

١. تفسير مفاتيح الغيب : ٣ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ بتلخيص منّا.


بالمنسوخ بفترة قصيرة أو طويلة ، وأمّا التخصيص فيشترط وروده قبل حضور وقت العمل بالحكم ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح.

وبذلك يعلم أنّ أمره سبحانه تبارك وتعالى بذبح إسماعيل والمنع عنه قبل ذبحه ليس من مقولة النسخ ، لما علمت من أنّ النسخ عبارة عن قطع استمرار الحكم ، وهو رهن العمل به ، ولو مدة قصيرة. يقول سبحانه : ( فَلَما بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يا بُنيَّ إِنّي أَرى فِي المَنامِ أَنّي أَذبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَل ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرين ) (١) وبما انّ رؤية الأنبياء رؤيا صادقة ، فقد أيقن إبراهيم 7 بأنّ اللّه سبحانه قد أمره بذبح ولده ، ولمّا جاء به إلى منى ووضع السكين على حلقه وهمّ بذبحه خوطب بقوله : ( قَدْ صَدَّقتَ الرُّؤيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزي المُحْسِنين ). (٢)

فالآية تحكي انّه بإنجاز المقدّمات صدّق رؤياه ، وهذا كاشف على أنّه كان مأموراً بالمقدّمات دون الذبح ، وكان ذلك كافياً في رفع مستوى إخلاصه وتفانيه في جنب اللّه.

وبعبارة أُخرى : كان الأمر ، اختباريّاً.

الرابع : وقوع النسخ في القرآن الكريم

دلّت غير واحدة من الآيات على وقوع النسخ في القرآن الكريم إجمالاً نحو :

١. قوله سبحانه : ( وَإِذا بَدَّلْنا آيةً مكانَ آية واللّهُ أَعلَمُ بِما يُنَزّلُ قالُوا انّما أَنْت مُفتر بَل أَكثرُهُمْ لا يَعْلَمُون ). (٣)

__________________

١. الصافات : ١٠٢.

٢. الصافات : ١٠٥.

٣. النحل : ١٠١.


كان المشركون واليهود يطعنون بالإسلام ويقولون : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه ، فنزلت هذه الآية أو ما هو بمضمونها.

والآية تدلّ على وقوع النسخ بشهادة قوله : ( وَإِذا بَدّلنا آية مَكانَ آية ). والآية ظاهرة في الآية القرآنيّة ، لا الآية الكونية كالمعجزة ، ويشهد على ذلك قولهم : ( إنّما أنت مفتر ).

٢. قوله : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب ). (١) والآية تعمّ المحو التشريعي والمحو التكويني الذي نعبر عنه بالبداء.

وهناك آية ثالثة تدلّ على إمكان النسخ لا على وقوعه ، وهو قوله سبحانه : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آية أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْر مِنْها أَوْ مِثْلَها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيء قَديرٌ ). (٢)

وبما انّ هذه الآية من الآيات المشكلة في القرآن الكريم نذكر شيئاً حولها :

١. انّ لفظة « ما » ليست نافية ولا موصولة ، بل هي ما شرطية تجزم شرطها وجزاءها ، ولذلك صار الشرط ( نَنْسَخْ ) مجزوماً وهكذا جزاؤها ( نُنْسِها ) ، لأنّ أصلها ننسيها فحذف الياء الناقصة لأجل الجزم ، فانّ علامة الجزم هو سكون آخر الفعل في الصحيح وحذف حرف العلّة في المعتل ، وقوله : « ننسها » مأخوذ من أنسي فهو ناقص يائي.

يقول ابن هشام : إنّ « ما » الشرطية على نوعين :

غير زمانية نحو ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (٣) ( ما ننسخ من آية )

__________________

١. الرعد : ٣٩.

٢. البقرة : ١٠٦.

٣. البقرة : ١٩٧.


وقد جوزت في : ( وما بِكُم مِنْ نعمة فَمِن اللّهِ ) على أنّ الأصل وما يكن ، ثمّ حذف فعل الشرط. (١)

٢. انّ في لفظة « ننسها » قراءتين :

فقراءة عاصم برواية حفص هو « نُنْسِها » ، فيكون مشتقاً من أنسى ينسي وصيغة المتكلّم مع الغير هو « ننسي » ، فإذا ورد عليه الجزم يحذف حرف العلة ، أعني : الياء من آخرها ، فإذا أُضيف إلى مفعوله الضمير يصير « ننسها » وهو إذهاب الشيء عن الخاطر.

وقراءة غيره « ننسئها » فهو من النسيء بمعنى التأخير ، كقوله سبحانه : ( إِنّما النَّسِيءُ زيادةٌ في الكُفْرِ يُضلُّ بِهِ الّذينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً ) (٢) والمراد تأخير أشهر الحرم.

و « النسيئة » هو البيع المتأخر ثمنه عن وقت البيع.

٣. ما هو المراد من « ننسها » على كلتا القراءتين؟

أمّا القراءة الأُولى فمعنى « ننسها » هو إذهاب الآية عن الأذهان وإنّما الكلام في تبيين المراد منه ، ففسّره بعض السُّذّج من العامّة ، بنسخ الحكم والتلاوة وقالوا : إنّ المراد منه إزالة الآية من ذاكرة النبي 6 ، حتّى أنّ السيوطي روى في أسباب النزول انّ الآية كانت تنزل على النبي ليلاً فينساها نهاراً ، فحزن لذلك ، فنزلت الآية!!

ونحن لا نعلّق على هذه الرواية ولا على هذا التفسير شيئاً ، ويكفي في ذلك قول صاحب المنار :

__________________

١. المغني لابن هشام : ١ / ٣٩٨.

٢. التوبة : ٣٧.


لا شكّ عندي في أنّ هذه الرواية مكذوبة ، وأنّ مثل هذا النسيان محال على الأنبياء : ، لأنّهم معصومون في التبليغ ، والآيات الكريمة ناطقة بذلك ، كقوله تعالى : ( إِنّ علينا جَمعهُ وَقرآنَه ) (١) ، وقوله : ( إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكرَ وإِنّا لَهُ لَحافِظُون ) (٢). (٣)

أقول : إنّ هذه الآية مدنية ، وقد أخبر سبحانه في سورة مكية بأنّ النبي لا ينسى ، وقال : ( سنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَما يَخْفى ). (٤)

وقوله : ( إِلاّ ما شاء اللّه ) لا يدلّ على وقوع المشيئة ، بل هذا الاستثناء نظير الاستثناء عن خلود أهل الجنة والنار فيهما ، قال سبحانه : ( وَأَمّا الّذينَ سُعِدُوا ففِي الجنّةِ خالدينَ فيها مادامتِ السَّمواتُ والأَرضُ إِلاّ ما شاءَ ربُّك عَطاءً غَيْر مَجْذُوذ ). (٥)

والغاية من ورود الاستثناء في هذه الآية ونظائرها هو بيان انّ الحكم بخلودهما فيهما لا يعني خروج الأمر من يده سبحانه ، بل الأمر بعدُ بيده ، وهو قادر على إنجاز خلاف ما وعد أو أوعد.

وعلى ضوء ذلك نقول : إنّ لفظ « ننسها » وإن كان بمعنى الإذهاب عن الذهن ، لكنّه كناية عن ترك الآية وعدم نسخها ، إذ كثيراً ما يطلق النسيان ويراد به الترك لا الذهول ، أي تركها على ما هي عليه بلا تغيير وتبديل حيث يصحّ أن تقول : نسيت الشيء وأنت تريد تركه على حاله ، أو تقول : نسيت الفعل الفلاني أي تركته ، فتدلّ الآية على أنّ نسخها وعدم نسخها كلاهما يتبعان المصلحة ، فلو

__________________

١. القيامة : ١٧.

٢. الحجر : ٩.

٣. تفسير المنار : ١ / ٤١٥.

٤. الأعلى : ٦ ـ ٧.

٥. هود : ١٠٨.


اقتضت المصلحة نسخ الآية ، تُنْسخ ؛ ولو اقتضت إبقـاءها ، تترك بلا تبديل وتغيير.

قال الرازي : إنّ إطلاق النسيان على الترك مجاز ، لأنّ المنسي يكون متروكاً ، فلمّا كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم. (١)

ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ النسيان يطلق ويراد به لازمه ، لفيف من الآيات نحو :

قوله سبحانه : ( فلمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا به أَنجَينا الّذينَ ينهَونَ عَن السُّوءِ ) (٢) ، أي تركوا ما أمروا به من عدم الصيد يوم السبت.

وقال سبحانه : ( وَقيلَ اليَومَ نَنْساكُمْ كَما نَسيتُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا ). (٣)

وقال سبحانه : ( فنَسيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ). (٤)

وقال سبحانه : ( فَقال هذا إِلهكُمْ وَإِلهُ مُوسى فنسي ). (٥)

وأوضح دليل على أنّ المراد من قوله : « ننسها » هو الترك ، وجود التقابل بينه وبين « ما ننسخ » ، فلو كان الأوّّل بمعنى الإزالة ، فالفعل الثاني بمعنى الإبقاء.

وأمّا القراءة الثانية ، فهي قراءة من قرأ بالهمز أي ننسئها ، فهي قراءة غير معروفة ، فيكون المراد هو التأخير في النزول أو النسخ ، ويؤوّل معنى الآية إلى قوله : ( ما نَنْسَخ مِنْ آية ) أو ننسئها ، أي نؤخّر نزولها أو نسخها ، فالكلّ من التقديم والتأخير تابع لمصلحة.

فهذه الآيات تدلّ على إمكان النسخ ، بل وقوعه في القرآن.

__________________

١. مفاتيح الغيب : ٣ / ٢٢٧.

٢. الأعراف : ١٦٥.

٣. الجاثية : ٣٤.

٤. طه : ١١٥.

٥. طه : ٨٨.


الخامس : أقسام النسخ

قسّم أهل السنّة النسخ إلى وجوه ثلاثة :

الأوّل : ان تُنسخ الآية تلاوة وحكماً بحيث يرتفع لفظها وحكمها.

الثاني : أن تنسخ تلاوة لا حكماً ، أي يرتفع لفظها ، ويبقى حكمها.

الثالث : أن تنسخ حكماً لا تلاوة ، أي تثبت ، ولكن لا يؤخذ بظاهرها بعد النسخ.

أمّا القسم الأوّل ، فلا وجود له في الخارج ، لأنّ المفروض انّ الآية رفعت بلفظها وحكمها فلم تبق بين الأُمة.

وقال الرازي : وأمّا الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة فهو ما روت عائشة أنّ القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثمّ نسخن بخمس معلومات ؛ فالعشر مرفوع التلاوة والحكم ، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم. (١)

وأمّا الثاني ، ففسروه بمنسوخ التلاوة ، وهو ما رفعت تلاوته وبقي معناه ، ومثّلوا لذلك ما روي عن عمر أنّه قال : كنّا نقرأ آية الرجم : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من اللّه واللّه عزيز حكيم ».

وروى : « لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب ».

ولفظ الآيتين المزعومتين يحكي عن أنّهما ليستا من القرآن الكريم ، لأنّهما عاريتان عن البلاغة والفصاحة.

على أنّ الآية الأُولى نسجت على منوال قوله سبحانه : ( الزانيةُ والزانيُّ

__________________

١. مفاتيح الغيب : ٣ / ٢٣٠.


فاجلِدُوا كُلَّ واحد منهُما مِائةَ جَلدَة وَلا تَأْخُذكُمْ بِهما رأْفةٌ فِي دينِ اللّه ). (١)

والظاهر أنّ من جوّز نسخ التـلاوة حـاول بذلك تبريـر ما ورد في الصحـاح والسنن والمسانيد ممّا يدلّ على التحريف ، فجعلوه من قبيل منسوخ التلاوة.

وهناك سؤال وهو انّ المفروض في منسوخ التلاوة انّ المعنى ثابت وهو رجم الشيخ والشيخة ، دون اللفظ ، واللفظ القرآني يجب أن يكون على حد يمتنع على الآخرين مقابلته حتّى يكون على القمة من الجزالة والحلاوة ، وعندئذ يُسأل لماذا نسخت تلاوة الآية ، وما هو السبب في نسخها؟

أفهل كان العيب في المعنى والمفروض انّه ثابت ، أم في اللفظ والمفروض انّه على درجة سائر الآيات في البلاغة؟

السادس : الآيات المنسوخة في القرآن الكريم

اختلف المسلمون في وجود النسخ في القرآن ، والمشهور وجوده ، ولكنّهم بين مقلّ ومكثر.

فالنحاس في كتابه « الناسخ والمنسوخ » من المكثرين ، فقد أدرج كثيراً من الآيات في عداد الناسخ والمنسوخ وليس منها شيء.

والسيد المحقّق الخوئي من المقلّين لو لم نقل من المنكرين إلا في مورد واحد ، وهو مورد الصدقة عند النجوى في كتابه « البيان في تفسير القرآن ».

وها نحن نذكر الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرّق النسخ إليها.

__________________

١. النور : ٢.


١. عدّة الوفاة

كانت عدّة الوفاة بين العرب قبل الإسلام حولاً وقد أمضاها سبحانه بالآية التالية : ( والّذينَ يُتوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيذَرُونَ أَزواجاً وَصيّةً لأَزواجِهِمْ متاعاً إِلى الحَولِ غَيرَ إِخراج فإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيكُمْ فِيما فعلْنَ في أَنفُسهِنّ مِنْ مَعْروف وَاللّهُ عَزيزٌ حَكيم ). (١)

فإنّ تعريف الحول للأُمّ إشارة إلى الحول الرائج بين العرب قبل الإسلام وهو حول العدّة.

قال المحقّق القمي : الآية دالّة على وجوب الإنفاق عليها في حول وهو عدّتها ما لم تخرج ، فإن خرجت تنقضي عدّتها ولا شيء لها. (٢)

ولكن نسخت الآية بقوله : ( وَالّذينَ يتوفّون مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزواجاً يتربَّصنَ بأَنفُسِهِن أَربعة أَشهُر وَعشراً ). (٣)

وربّما يتصوّر انّ الآية الأُولى تدلّ على حكم تكليفي للزوج في حقّ الزوجة ، وهو انّه يجب على الزوج أن يوصي لزوجته بسكنى الدار إلى حول ، وانّه لا يحق للورثة إخراجها من بيتها إلا باختيارها.

وعلى ضوء هذا ، فلا منافاة بينها وبين آية العدة التي تحدّدها بأربعة أشهر وعشراً.

يلاحظ عليه : أنّه لو كان المقصود مجرّد بيان الحكم التكليفي وانّ المرأة لها حقّ السكنى في دار الزوج إلى حول كان اللازم تنكير الحول مع أنّه ذكره معرّفاً

__________________

١. البقرة : ٢٤٠.

٢. القوانين : ٢ / ٩٤.

٣. البقرة : ٢٣٤.


باللام مشيراً إلى حول خاص معروف بين العرب ، وما ذلك الحول إلا حول العدة.

ويدلّ على ذلك ما نقله العياشي عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد اللّه 7 قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( وَالّذِينَ يتوفّون مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزواجاً يتربّصن بأَنفُسِهِنَّ أَربَعةَ أَشهر وَعَشراً ) جئن النساء يخاصمن رسول اللّه 6 وقلن : لا نصبر ، فقال لهن رسول اللّه 6 : كان إحداكنّ إذا مات زوجها ، أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في حذرها ، ثمّ قعدت ، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول ، أخذتها ففتتها ، ثمّ اكتحلت بها ، ثمّ تزوجت ، فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر. (١)

٢. الصدقة قبل النجوى

أمر اللّه سبحانه المؤمنين بتقديم الصدقة قبل نجوى الرسول ، وقال : ( يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقة ذلِكَ خَيرٌ لَكُمْ وَأَطهَرُ فإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ). (٢)

ولما امتنع المسلمون من تقديم الصدقة تفرقت الصحابة من حول الرسول 6 ، فنسخت الآية بقوله سبحانه : ( أأشفَقْتُمْ ان تُقدِّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدقات فإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأَقيمُوا الصَّلاة ... ). (٣)

وكانت الغاية من تشريع إيجاب الصدقة هي تمييز من يؤثر نجوى النبي 6 على دنياه عمّن لا يؤثر.

فقد روي أنّ علياً تصدّق بدرهم وناجى الرسول. (٤)

__________________

١. بحارالأنوار : ١٠٤ / ١٨٨ ؛ تفسير العياشي : ١ / ٢٣٧ ، الحديث ٤٨٩.

٢. المجادلة : ١٢.

٣. المجادلة : ١٣.

٤. تفسير مفاتيح الغيب : ٣ / ٢٣٠.


روى ابن جرير باسناده عن مجاهد قال :

قال علي 7 : آية من كتاب اللّه لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرّفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبيّ 6 تصدّقت بدرهم ، فنسخت ، فلم يعمل بها أحد قبلي ( إِذا ناجَيْتُم ). (١)

قال الشوكاني : وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه ( علي بن أبي طالب 7 ) قال : ما عمل بها أحد غيري حتّى نسخت ، وما كانت إلا ساعة ، يعني : آية النجوى. (٢)

دلّت الآية المباركة على أنّ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول 6 خير ، وتطهير للنفوس ، والأمر به أمر بما فيه مصلحة العباد. ودلّت على أنّ هذا الحكم إنّما يتوجّه على من يجد ما يتصدّق به ، أمّا من لا يجد شيئاً فانّ اللّه غفور رحيم.

قال المحقّق الخوئي : ولا ريب في أنّ ذلك ممّا يستقلّ العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحّته ، فإنّ في الحكم المذكور نفعاً للفقراء ، لأنّهم المستحقّون للصدقات ، وفيه تخفيف عن النبي 6 فانّه يوجب قلّة مناجاته من الناس ، وانّه لايقدم على مناجاته ـ بعد هذا الحكم ـ إلا من كان حبّه لمناجاة الرسول أكثر من حبّه للمال.

ولا ريب أيضاً في أنّ حسن ذلك لا يختصّ بوقت دون وقت ، ودلّت الآية الثانية على أنّ عامّة المسلمين غير علي بن أبي طالب أعرضوا عن مناجاة الرسول 6 إشفاقاً من الصدقة وحرصاً على المال. (٣)

__________________

١. تفسير الطبري : ٢٨ / ١٥.

٢. فتح القدير : ٥ / ١٨٦.

٣. تفسير البيان : ٣٧٦.


٣. الإمساك في البيوت بدل الحد

كان حد الزانية هو حبسها في البيت ، قال سبحانه : ( وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِنْكمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبيلاً ). (١)

فنسخت بجلد الزانية مائة جلدة قال سبحانه : ( الزّانيةُ والزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنْهُما مِائةَ جَلْدَة ). (٢)

ثمّ إنّ السيد المحقّق الخوئي أنكر وجود النسخ في الآية قائلاً : بأنّ المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش ، وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة ، وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطاً ، وقد يكون بين ذكر وأُنثى فيكون زنا ، ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعاً ولا انصرافاً.

ثمّ إنّ الالتزام بالنسخ في الآية يتوقّف :

أوّلاً : على أنّ الإمساك في البيوت حدّ لارتكاب الفاحشة.

ثانياً : أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد.

وكلا هذين الأمرين لا يمكن إثباتهما.

إذ الظاهر من الآية المباركة انّ إمساك المرأة في البيت إنّما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية.

كما أنّ الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب ، فهل يكون الجلد أو الرجم سبيلاً لها؟!

__________________

١. النساء : ١٥.

٢. النور : ٢.


ثمّ خرج بالنتيجة التالية : أنّ المراد من الفاحشة خصوص المساحقة أو الأعمّ منها ومن الزنا.

يلاحظ على الوجه الأوّل : بأنّ الفاحشة أُطلقت في القرآن وأُريد بها الزنا ، نعم ربّما أُطلقت وأُريد بها غيرها أيضاً.

قال سبحانه : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلاً ). (١)

وقال في سورة يوسف : ( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنا الْمُخْلَصِين ). (٢)

وأمّا الثاني أي كيف يكون الجلد والرجم سبيلاً لصالحهنّ ، فيلاحظ عليه : أنّ المراد من الإمساك في البيوت هو الحبس الدائم ، والمراد من السبيل خصوص الجلد وهو أهون من الحبس الدائم ، وليس الرجم داخلاً في السبيل بشهادة انّ الآية منسوخة بآية الجلد كما ذكرنا.

روى العياشي في تفسيره عن جابر ، عن أبي جعفر 7 في قول اللّه سبحانه : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ـ إلى ـ سبيلاً ) قال : منسوخة ، والسبيل هو الحدود. (٣)

وعن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه 7 قال : سألته عن هذه الآية ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ـ إلى ـ سبيلاً ) ، قال : « هذه منسوخة ». (٤)

هذه هي الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرق النسخ إلى الآيات

__________________

١. الإسراء : ٣٢.

٢. يوسف : ٢٤.

٣. تفسير العياشي : ١ / ٣٧٧ برقم ٩٠٢.

٤. تفسير العياشي : ١ / ٣٧٧ برقم ٩٠٣.


القرآنية ، ولعلّ هناك موارد أُخرى لم نشر إليها.

واعلم أنّ البحث في المقام هو نسخ الحكم الشرعي الوارد في القرآن بالقرآن ، وهناك قسم آخر ، وهو ما يكون الناسخ آية قرآنية والمنسوخ سنّة نبوية ، وهذا كنسخ وجوب الصلاة إلى بيت المقدس بالتوجّه إلى الكعبة.

أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس ، وصلّى النبي والمسلمون إليها حوالي سبعة عشر شهراً ، ثمّ نسخ الحكم الشرعي بآية قرآنية ، يقول سبحانه : ( قَدْ نَرى تَقلُّبَ وَجهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسّجِدِ الحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ). (١)

هذا بعض الكلام في النسخ ، ولنعطف عنان القلم إلى بحث آخر وهو البداء.

__________________

١. البقرة : ١٤٤.


الأمر الثالث

البداء

البداء مسألة كلامية لا صلة له بعلم الأُصول ، والفرق بين النسخ والبداء أنّ الأوّل نسخ في التشريع والثاني نسخ في التكوين ، ولأجل ذلك ناسب أن نردف البحث في النسخ ، بالبحث في البداء.

البداء من المسائل الشائكة لمن لم يتدبّر فيها ، ومن المطالب الواضحة لمن تدبّر ، وسيظهر أنّ النزاع فيها لفظي لا معنوي كما سيوافيك ، وتحقيق البحث ضمن أُمور :

١. البداء في اللغة

البداء في اللغة هو ظهور ما خفي ، وقد اتّفق عليه أصحاب معاجم اللغة ، ويدلّ عليه قوله سبحانه في حقّ المشركين يوم القيامة : ( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون ). (١)

أي ظهر لهم آثار ما عملوا من السيِّئات بعدما خفيت عليهم ، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون.

وقال عزّ من قائل : ( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ ليَسجُنُنَّهُ حَتّى

__________________

١. الجاثية : ٣٣.


حين ). (١) أي ظهر لهم بعدما رأوا الآيات الدالّة على براءة يوسف أن يسجنوه إلى حين ينقطع فيه كلام الناس.

فالبداء بهذا المعنى من خصائص من كان جاهلاً بعواقب الأُمور ثمّ يبدو له ما خفي عليه ، ولأجل ذلك لم يُنسَب البداءُ في القرآن إلى اللّه سبحانه ، بل إلى غيره ، لأنّه استعمل في الكتاب العزيز بالمعنى الحقيقي ، ويستحيل أن يوصف به العالم بعواقب الأُمور.

٢. إحاطة علمه سبحانه بعامّة الأشياء

اتّفق الإلهيون إلا الشاذّ منهم على أنّه سبحانه عالم بما وقع وما يقع قبل وقوعه ، وهو بقيوميته وإحاطته بالأشياء لا يتصوّر في حقّه الجهل أو الظهور بعد الخفاء ، وأظهر آية تدلّ على ذلك قوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسكُمْ إِلاّ في كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرأَها إِنَّ ذلكَ عَلى اللّهِ يَسير ). (٢)

ثمّ إنّ البحث في البداء يقع في مقامين :

مقام الثبوت ، ومقام الإثبات. وإليك الكلام في المقام الأوّل :

٣. البداء في مقام الثبوت

اتّفق الإلهيون على أنّ للإنسان أن يغيّـر ما قُدِّر له ، ولم يخالف في ذلك إلا اليهود حيث ذهبوا إلى استحالة تعلّق مشيئة اللّه بغير ما جرى به قلم القضاء والقدر ، وقد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم « يَدُ اللّه مَغْلُولة » قال سبحانه حاكياً

__________________

١. يوسف : ٣٥.

٢. الحديد : ٢٢.


عنهم : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءَ وَليزيدنَّ كَثيراً مِنْهمْ ما أُنْزِلَ إِليكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) (١) ، إنّ كثيراً من المفسّرين وإن خصصوا مضمون الآية بالعطاء والسعة في الرزق ، ولكنّ أئمّة أهل البيت : فسّروا قولهم « يَدُ اللّه مَغْلُولة » بالفراغ عن الأمر.

روى هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه 7 في تفسير الآية أنّه قال : « كانوا يقولون قد فرغ من الأمر » (٢) فالمعروف عن اليهود انّهم يقولون : انّه سبحانه قد فرغ من الأمر لا يبدل ولا يغير ما قُدِّر فلا يزاد في العمر ولا ينقص.

فاستنتجوا من هذا الأصل امتناع نسخ الأحكام أوّلاً ، ونسخ التكوين ثانياً.

أمّا نسخ الأحكام فقد مرّ جوازه ووقوعه.

وأمّا نسخ التكوين فاللّه سبحانه يرد على هذه العقيدة من أنّ التقدير الأوّل لا يغيّر ولا يبدّل في ضمن آيات ، ويقول سبحانه :

( الْحَمْدُ للّهِ فاطِرِ السَّمواتِ وَالارْضِ ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدير ). (٣)

( وَماتَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرهِ إِلاّ في كِتاب إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ). (٤)

فاللّه سبحانه كما هو المقدّر للمصير الأوّل ، هو المقدّر للمصير الثاني أيضاً

__________________

١. المائدة : ٦٤.

٢. تفسير البرهان : ١ / ٤٨٦ ، الحديث ٣.

٣. فاطر : ١.

٤. فاطر : ١١.


فهو في كلّ يوم في شأن ، وانّه جلّ وعلا يبدأ ويعيد ، يزيد في الرزق والعمر وينقص ، كلّ ذلك حسب مشيئته الحكمية والمصالح الكامنة ، فكما هو عالم بالتقدير الأوّل عالم في نفس الوقت بأنّه سوف يزول ويخلفه تقدير آخر لكن لا بمعنى وجود الفوضى في التقدير ، بل بتبعية كلّ تقدير لملاكه وسببه.

ثمّ إنّ الآيات الدالّة على أنّ التقدير يغيّر بصالح الأعمال وطالحها على قسمين :

تارة يؤكد على الضابطة ، وأُخرى يعيّن الموضوع الذي به يتغيّر ما هو المقدّر.

أمّا القسم الأوّل كقوله سبحانه : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغيّراً نِعْمَةً أَنعَمَها عَلى قَوم حتّى يُغَيِّرُوا مابأَنْفُسِهِمْ ). (١)

وقوله : ( إِنّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حتّى يُغَيّرُوا ما بأَنْفُسِهمْ ). (٢)

وقوله سبحانه : ( ولَوْ أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فأَخَذْناهُمْ بِما كَانُوا يَكْسِبُون ). (٣)

وقوله سبحانه : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب ). (٤)

إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة على انّ العمل يغيّر ما قُدِّر ، سواء أكان صالحاً أم طالحاً.

وأمّا القسم الثاني ما يؤكّد على أنّ عملاً خاصاً مثلاً يغيّر المصير ، وهذا كالاستغفار والتسبيح والكفران بنعمة اللّه.

__________________

١. الأنفال : ٥٣.

٢. الرعد : ١١.

٣. الأعراف : ٥٦.

٤. الرعد : ٣٩.


أمّا الاستغفار ، فكقوله سبحانه : ( استَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراًً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَموال وَبَنينَ وَيَجْعَل لَكُمْ جَنّات وَيَجعَل لَكُمْ أَنهاراً ). (١)

وأمّا التسبيح ، فكقوله سبحانه : ( فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبعَثُون * فَنَبَذْناهُ بِالعراءِ وَهُوَ سَقِيم * وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرةً مِنْ يَقطِين ). (٢)

وأمّا الكفران ، فقال سبحانه : ( وضربَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكان فَكَفَرتْ بِأَنْعُمُ اللّهِ فَأَذاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ). (٣)

هذا كلّه في القرآن الكريم ، وأمّا الروايات فقد روى الفريقان أثر الدعاء والصدقة في تغيير المصير ، ورفع البلاء.

أخرج الحاكم عن ابن عباس ( رض ) قال : لا ينفع الحذر من القدر ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. (٤)

روى الكليني عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه 7 قال : سمعته يقول : « إنّ الدعاء يرد القضاء ، ينقضه كما ينقض السلك وقد أبرم إبراماً ». (٥)

وأمّا الصدقة فقد روى السيوطي في « الدر المنثور » عن علي ، عن رسول اللّه 6 عن هذه الآية ( يَمْحُوا اللّه ) فقال : « لأقرّنّ عينيك بتفسيرها ، ولأقرّنّ عين

__________________

١. نوح : ١٠ ـ ١٢.

٢. الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٦.

٣. النحل : ١١٢.

٤. الدر المنثور : ٤ / ٦٦١.

٥. الكافي : ٢ / ١٦٩ ، باب الدعاء يرد البلاء والقضاء ، الحديث ١.


أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف ، يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء ». (١)

وقد كان الصحابة يدعون اللّه سبحانه بتغيير مصيرهم ، هذا هو الطبري ينقل في تفسير الآية بأنّ عمر بن الخطاب يقول وهو يطوف بالكعبة : اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [ الشقاوة ] فامحني واثبتني في أهل السعادة ، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود وابن عباس وشقيق وأبي وائل. (٢)

هاتان الآيتان تدلاّن بوضوح على أنّ الأمر لم يُفرغ عنه ، وانّ اللّه سبحانه يمحو ما يشاء ممّا قدّر ، كلّ ذلك معلوم له سبحانه من أوّل الأمر.

٤. البداء في الإثبات

البداء في الإثبات عبارة عن إخبار النبي 6 أو الولي 7 بوقوع شيء لأجل الاطّلاع على المقتضى له ، ولكنّه لايقع لأجل وجود المانع من تأثير المقتضي.

وبعبارة أُخرى : انّ النبي 6 يطّلع على وقوع الشيء ولكن لايطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم أمر هو واقع ، فلذلك يخبر عن الشيء ولا يتحقّق فيقال : بدا للّه في هذه الواقعة.

فيقع الكلام في أُمور :

الأوّل : هل يمكن أن يخبر النبيّ أو الإمام عن وقوع الشيء أو عدم وقوعه

__________________

١. الدر المنثور : ٤ / ٦٦١.

٢. تفسير الطبري : ١٣ / ١١٢ ـ ١١٤.


وتكون النتيجة على العكس ، ومع ذلك لا يلزم كذب النبي 6؟

الثاني : هل ورد في الذكر الحكيم أو السنّة الشريفة نماذج من هذا النوع من الإخبار؟

الثالث : كيف يمكن نسبة البداء إلى اللّه سبحانه ، وقد تقدّم من أنّ مورد استعماله هو الجهل بعواقب الأُمور؟

أمّا الأمّر الأوّل : فإمكانه بمكان من الوضوح ، مثلاً إذا اطّلع النبي على المقتضي دون شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوعه نظراً إلى المقتضي ، ولا يتحقّق نظراً إلى عدم وجود شرطه أو وجود مانعه.

قال المحقّق الخراساني :

وأمّا البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى فهو ممّا دلّ عليه الروايات المتواترات كما لا يخفى ، ومجمله انّ اللّه تبارك وتعالى إذا تعلّقت مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره لهم ، أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به مع علمه بأنّه يمحوه أو مع عدم علمه به لما أُشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه وإنّما يخبر به لأنّه حال الوحي والإلهام لارتقاء نفسه الزكية واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات اطّلع على ثبوته ولم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم الموانع ، قال اللّه تبارك وتعالى : ( يَمْحُوا اللّه ما يَشاء وَيُثْبِت ) الآية. (١)

هذا كلّه إذا اتّصل النبي بصحيفة المحو والإثبات ؛ وأمّا إذا اتّصل بصحيفة اللوح المحفوظ الذي يتكشف فيه الواقعيات على ما هي عليها ، فيقف

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤.


على المقتضي وشرطه ومانعه ، ويميّز ما هو الواقع عن غيره.

وأمّا الثاني : فنذكر فيه بعض ما ورد في الذكر الحكيم :

١. أخبر يونس قومه بنزول العذاب ، ثمّ ترك القوم ، وكان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضى العذاب الذي اطّلع عليه ، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع ، أعني : التوبة والتضرع ، قال سبحانه : ( فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَومَ يُونُسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِين ). (١)

أخرج عبد الرزاق ، عن طاووس في قوله : ( وَإِنّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلى الفُلْكِ المَشْحُون ). (٢)

قال : قيل ليونس 7 : إنّ قومك يأتيهم العذاب يوم كذا وكذا ...فلمّا كان يومئذ خرج يونس ففقده قومه ، فخرجوا بالصغير والكبير والدواب وكلّ شيء ، ثمّ عزلوا الوالدة عن ولدها ، والشاة عن ولدها ، والناقة والبقرة عن ولدها ، فسمعت لهم عجيجاً ، فأتاهم العذاب حتى نظروا إليه ثمّ صرف عنهم ، فلمّا لم يصبهم العذاب ذهب يونس 7 مغاضباً ، فركب في العير في سفينة مع أناس ... الخ. (٣)

٢. ذكر المفسّرون انّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة ، فصامها موسى 7 وطواها ، فلمّا تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره اللّه تعالى أن يكمل بعشر ، يقول سبحانه :

( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَربَعِينَ لَيلَةً

__________________

١. يونس : ٩٨.

٢. الصافات : ١٣٩ ـ ١٤٠.

٣. الدر المنثور : ٧ / ١٢١.


وَقالَ مُوسى لأخيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدين ). (١)

إنّه سبحانه لمّا واعد موسى ثلاثين ليلة ، كلّم بما وعده اللّه سبحانه قومه الذين صحبوه إلى الميقات ، فلمّا طوى موسى 7 ثلاثين ليلة أُمر بإكمال أربعين ليلة.

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية : أنّ موسى قال لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه. (٢)

فكان هناك إخباران :

الأوّل : بانّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة ، ثمّ نسخه خبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة ، وكان موسى صادقاً في كلا الإخبارين ، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات يقتضي إقامة ثلاثين ليلة ، لولا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.

هذه جملة الحوادث التي تنبّأ أنبياء اللّه بوقوعها في الذكر الحكيم إلا أنّها لم تقع ، وهذا ممّا يعبر عنه بانّه بدا للّه فيها.

وبذلك يعلم أنّ عدم وقوع ما أخبر بوقوعه لا يكون دليلاً على كذب المخبر ، لأنّ القرائن دلّت على صدق ما أخبر به وانّه كان مقدراً كما هو الحال في حادثة يونس ، حيث إنّ العذاب أقبل ولكنّهم استقبلوه بالالتجاء إلى اللّه والدعاء والتضرع والبكاء بحالة يرثى لهم ، فصرف عنهم العذاب.

__________________

١. الأعراف : ١٤٢.

٢. الدر المنثور : ٣ / ٣٣٥.


البداء في الأحاديث

ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في أحاديث كثيرة نذكر منها حديثين :

١. مرّ يهوديّ بالنبي 6 فقال : السام عليك ، فقال النبي 6 له : « وعليك » ، فقال أصحابه : إنّما سلّم عليك بالموت ، فقال : الموت عليك؟ فقال النبي 6 : « وكذلك رددت » ، ثمّ قال النبي 6 لأصحابه : « إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله ». قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول اللّه 6 « ضعه » ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود ، فقال 6 : « يا يهوديّ ما عملت اليوم؟ » قال : ما عملت عملاً إلا حطبي هذا حملته فجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول اللّه 6 : « بها دفع اللّه عنه » ، وقال : « إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان ». (١)

٢. انّ المسيح مرّ بقوم مجلبين ، فقال : ما لهؤلاء؟ قيل : يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه ، فقال : يُجلَبُون اليوم ويَبكون غداً ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول اللّه؟ قال : لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه ، فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح اللّه إنّ التي اخبرتَنا أمس انّها ميتة لم تمت ، فدخل المسيح دارها فقال : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلا وكنت أصنعه فيما مضى ، انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ،

__________________

١. بحار الأنوار : ٤ / ١٢١.


عاضّ على ذنبه ، فقال 7 : بما صنعت ، صرف عنك هذا. (١)

وأمّا الأمر الثالث ، فقد تقدّم انّ البداء هو ظهور ما خفي ، وعلى ضوء ذلك كيف يصحّ نسبة البداء إلى اللّه سبحانه ، مع أنّ القائلين بالبداء يتكرر على ألسنتهم بدا للّه؟!

والإجابة على هذا السؤال واضحة ، وهي انّ وصْفَه سبحانه بهذا الوصف من باب المشاكلة ، وهو باب واسع في كلام العرب ، فانّه سبحانه في مجالات خاصة يعبّر عن فعل نفسه بما يعبر به الناس عن فعل أنفسهم ، وما ذلك إلا لأجل المشاكلة الظاهرية ، وقد صرّح بها القرآن الكريم في مواطن عديدة نذكر منها :

يقول سبحانه : ( إِنَّ المُنافِقينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُم ). (٢)

ويقول تعالى : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرين ). (٣)

وقال عزّ من قائل : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرين ). (٤)

ويقول تعالى : ( فاليومَ نَنساهُمْ كما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ). (٥)

إذ لا شكّ انّه سبحانه لا يَخدع ولا يَمْكر ولا ينسى ، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف ، ولكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة ، والجميع كناية عن إبطال خدعهم ومكرهم وحرمانهم من مغفرة اللّه سبحانه وبالتالي عن جنته ونعيمها.

__________________

١. بحار الأنوار : ٤ / ٩٤.

٢. النساء : ١٤٢.

٣. آل عمران : ٥٤.

٤. الأنفال : ٣٠.

٥. الأعراف : ٥١.


ورود « بدا للّه » في كلام النبي 6

كما نرى أنّ النبي 6 يستعمل كلمة البداء وينسبها إلى اللّه سبحانه ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة :

إنّه سمع من رسول اللّه 6 أنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأقرع وأعمى « بدا للّه » أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ ، فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذّرني الناس ، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أي المال أحب إليك؟ قال : الإبل أو قال : البقر ـ هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع ، قال أحدهما : الإبل ، وقال الآخر : البقر ـ فأُعطي ناقة عُشراء ، فقال : يبارك اللّه لك فيها.

وأتى الأقرع ، فقال : أي شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال : فمسحه ، فذهب ، وأُعطي شعراً حسناً ، قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : يرد اللّه إليّ بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلا باللّه ثمّ بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري ؛ فقال له : إنّ الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً


فأعطاك اللّه؟ فقال : لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا ، فردّ عليه مثلما رد عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلا باللّه ، ثمّ بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلّغ بها في سفري ؛ فقال : قد كنت أعمى فرد اللّه بصري ، وفقيراً فقد أغناني ، فخذ ما شئت ، فواللّه لاأجحدك اليوم بشيء أخذته للّه ، فقال : أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك. (١)

هذا هو كلام الرسول الأعظم 6 وقد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه ، ومن الطبيعي انّ النبيّ 6 لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه ـ والعياذ باللّه ـ الجهل على اللّه سبحانه ، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.

وعلى ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبر عن فعله بما نعبر به عن أفعالنا ، إذا كان التعبير مقروناً بالقرينة الدالة على المراد ، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء ، فبما انّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة ، وإلا فهو ـ في الحقيقة ـ بداء من اللّه للناس ، ولكنّه يتوسع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ ، ويقال بدا للّه تمشياً مع ما في حسبان الناس وأذهانهم وقياس أمره سبحانه بأمرهم ، ولا

__________________

١. البخاري : الصحيح ٤ / ١٧٢ ، كتاب الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.


غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز والمشاكلة.

وبذلك يعلم أنّ النزاع في البداء أمر لفظي لامعنوي ، وأنّ الفريقين متّفقان على البداء ثبوتاً وإثباتاً ، والذي صار سبباً لإنكار البداء وطعن الشيعة به هو تصور انّ المراد منه هو الظهور بعد الخفاء ، وقد عرفت أنّ المراد هو الإظهار بعد الإخفاء وانّ إطلاق البداء في المقام من باب المشاكلة.

تمّ الكلام في مبحث العام والخاص والنسخ والبداء

ويليه البحث في المطلق والمقيد والمجمل والمبين


المقصد الخامس

في المطلق والمقيّد

والمجمل والمبيّن

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في ألفاظ المطلق

الفصل الثاني : في تقييد المطلق لايستلزم المجازية

الفصل الثالث : في بيان مقدمات الحكمة

الفصل الرابع : في حمل المطلق على المقيّد

الفصل الخامس : في المجمل والمتشابه وتأويله



المقصد الخامس

في المطلق والمقيّد

والمجمل والمبيّن

عرّف المطلق بتعاريف مختلفة نذكر منها ما يلي :

١. المطلق ما دلّ على شائع في جنسه ، والمقيّد بخلافه. (١)

٢. المطلق ما دلّ على حصّة محتملة الصدق مندرجة تحت جنس تلك الحصة ، وهو المفهوم الكلّي الذي يصدق على هذه الحصة وغيرها من الحصص. (٢)

٣. المطلق هو اللفظ الدالّ على الماهية من حيث هي لا بقيد وحدة ولا تعدد ، والمقيّد بخلافه. (٣)

ولنقتصر على هذه التعاريف الثلاثة ، ولنأخذ كلّ واحد بالنقض والإبرام.

أمّا التعريف الأوّل فالمقصود من الموصول في قوله : « ما دلّ » هو اللفظ ، كما أنّ المقصود من قوله : « على شائع » هو الفرد الشائع ، وعلى هذا ينطبق المطلق على النكرة ، فإذا قلت : اعتق رقبة ، يدلّ على لزوم عتق فرد من أفراد الرقبة التي لها أفراد

__________________

١. شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : ٢٨٤.

٢. القوانين للقمي : ١ / ٣٢١.

٣. تمهيد القواعد لزين الدين العاملي : ١ / ٢٢٢.


متعددة ، فعدم تعيّن الفرد من بين الأفراد هو المقصود من قوله شائع في جنسه.

وقد تبعه المحقّق القمي في تعريفه الثاني فانّه نفس التعريف الأوّل غير أنّه عبّر عن الفرد الشائع ، بالحصة ، محتملة الصدق على حصص كثيرة.

والتعبير بـ « الحصص » مكان « الأفراد » يناسب نظرية الرجل الهمداني في تفسير الكلّي الطبيعي ، فانّه كان يعتقد أنّ الإنسان الطبيعي واحد شخصي والأفراد الموجودة حصص منه ، فكأنّ لكلّ فرد جزءاً من الإنسانية لا كلّه.

وقد تبيّن بطلان تلك العقيدة ، وأنّ الطبيعي واحد بالنوع ، وأنّ المصاديق هي الأفراد لا الحصص ، فكلّ فرد نفس الإنسان لا جزءه ، وكلّ مصداق إنسان كامل ليس بإنسان ناقص.

ولما كان التعريف الأوّل غير جامع ، لخروج اسم الجنس عن تحته لما سيتبين انّ أسماء الأجناس عند القوم وضعت للماهية من حيث هي هي غير المقيّدة بشيء حتّى الشمول والشيوع ، عدل الشهيد الثاني إلى التعريف الثالث حتّى يدخل أسماء الأجناس في تعريف المطلق مثل قوله : ( أحلّ اللّه البيع ) حيث إنّ البيع وضع للماهية المعراة عن كلّ قيد.

وإن شئت قلت : الماهية من حيث هي هي ، فليس هناك ما يدلّ على الفرد حتّى تستتبعه الدلالة على الشيوع.

يلاحظ عليه : أنّه بتعريفه هذا وإن أدخل اسم الجنس في تعريف المطلق لكنّه أخرج النكرة عن تحت المطلق مع أنّها من مصاديقه ، كما إذا قال : أكرم رجلاً أو طالباً إلى غير ذلك ، فانّ المفهوم من النكرة غير المفهوم من اسم الجنس فالتنوين آية الوحدة.


جولة حول التعاريف

١. انّ هذه التعاريف تعرب عن أنّ الإطلاق والتقييد من أوصاف الألفاظ ، سواء أتعلق بها حكم مولوي أم لا؟ فهاهنا لفظ مطلق وها هنا لفظ مقيّد نظير البحث في العموم والخصوص ، فهناك لفظ دالّ على العموم ولفظ دالّ على الخصوص.

ولكن هذا النمط من البحث يناسب الأبحاث الأدبية واللغوية التي لا همّ لأصحابها إلا التعرف على معاني الألفاظ.

وأمّا الباحث الأُصولي فالتعرف على معاني الألفاظ أمر خارج عن غرضه ولو بحث فيها فإنّما هو لغاية كونها مقدّمة لاستنباط الحكم الشرعي.

فإذا كانت الغاية من هذه البحوث هو استنباط الحكم الشرعي ، فيجب أن يفسر المطلق والمقيد بنحو يناسب الغاية المتوخاة لا على النحو الذي مرّ فانّه يناسب غرض الأديب واللغوي لا غرض الأُصولي الذي هو بصدد تمهيد مقدّمات للفقه ، وسيوافيك التعريف الصحيح.

٢. انّ التعريف الأوّل الذي اعتمد عليه القدماء يركز على وجود الشيوع في المطلق ، فعندئذ نسأل عن كيفية دلالة المطلق على الشيوع.

فإن قيل : بأنّ المطلق يدلّ على الشيوع بالدلالة المطابقية أو التضمنية فيرد عليه خروج أسماء الأجناس لما عرفت من أنّها ـ عند القوم ـ موضوعة للماهية المعراة من كلّ شيء ، غير الملحوظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ ( عدم لحاظ شيء ).

كما تخرج الأعلام إذ ليس فيها الشيوع مع أنّها قد تقع مصب الإطلاق كما


في قوله سبحانه : ( وليَطَّوَّفُوا بالبَيتِ العَتِيق ) (١) ، فإذا شكّ في أنّ الموضوع للطواف هل هو البيت بما هو هو ، أو بشرط أن يكون مكشوفاً أو مستوراً ، فيتمسّك بإطلاق الآية ويدفع باحتمال قيدية غيره.

اللّهم إلا أن يقال : انّ الشيوع في الاعلام أحوالي وليس بأفرادي ، ولكنّه خلاف المتبادر من التعريف.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اعتذر عن الإشكالات الواردة على هذه التعاريف بأنّها من قبيل شرح الاسم وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطرد ولا بمنعكس ، ولكنّه كلام عار عن التحقيق فانّ نفس النقض والإبرام دليل واضح على أنّ المعرف أو المعرفين كانوا بصدد التعريف الحقيقي.

المختار في تعريف المطلق

قد علمت أنّ الغاية من الخوض في هذه المباحث هو تمهيد مقدّمات لاستنباط الحكم الشرعي وليس التعرف على مفاد لفظ بما هو هو غاية للأُصول.

فإذا كانت هذه هي الغاية فالأولى أن يقال :

لو كان اللفظ في مقام الموضوعية للحكم مرسلاً عن القيد فهو مطلق وإن كان مزدوجاً مع شيء آخر فهو مقيد.

وبعبارة أُخرى : إذا كان ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع فهو مطلق أي مرسل عن القيد ، وأمّا إذا كان جزء الموضوع وكان معه جزء آخر فهو مقيد بالقيد.

وبذلك يعلم أنّ المطلق والمقيد أطلقا بنفس المعنى اللغوي حيث إنّ

__________________

١. الحج : ٢٩.


المطلق بمعنى المرسل ، يقال : أطلق سراح فلان كما يقال قُيّد رِجْل فلان بقيد.

وعلى هذا التعريف تترتّب نتائج باهرة في علم الأُصول.

الأُولى : انّ المقوم للإطلاق هو كون الشيء تمام الموضوع من غير فرق بين كونه اسم جنس أو نكرة أو علماً ، فالشيوع وعدم الشيوع بالنسبة إلى الإطلاق كالحجر في جنب الإنسان ، بل يكفي كون الشيء قابلاً للتقييد ، فالقابل للتقييد إذا جرد عن القيد فهو مطلق.

الثانية : انّ الإطلاق ـ خلافاً للتعاريف السابقة ـ ليس من المداليل اللفظية كما هو الحال في التعاريف السابقة ، بل هو من المداليل العقلية حيث إنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان الموضوع وكان حكيماً غير ناقض لغرضه فأخذ لفظاً موضوعاً لحكمه وجرده عن القيد فالعقل يحكم بأنّه تمام الموضوع ، وإلا لما ترك المتكلّم الحكيم القيد اللازم في كلامه.

وأمّا جعل مبحث الإطلاق والتقييد من المباحث اللفظية فلأجل انّ مصب الإطلاق هو اللفظ وإلا فاستنباط الإطلاق بمعنى كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع إنّما هو بالعقل.

الثالثة : انّ مصب الإطلاق أعمّ من أن يكون اسم جنس أو نكرة أو معرّفاً باللام حيث ينعقد الإطلاق في الأعلام الشخصية ، كما إذا قال : أكرم زيداً ، واحتملنا كون الموضوع هو زيد متقيداً بالتعمّم فيتمسك بالإطلاق ويدفع كون التعمّم مؤثراً في الموضوع ، كما عرفت نظيره في قوله سبحانه : ( وليطوّفوا بالبيت العتيق ).

الرابعة : انّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ، شبيه تقابل العدم والملكة حيث إنّ المطلق فاقد لما يكون المقيد واجداً له وإنّما قلنا شبه التقابل ، لأنّ تقابل العدم


والملكة يطلق على المورد الذي من شأنه أن يكون فيه الملكة كالعمى بالنسبة إلى البصر وليس كلّ مطلق من شأنه أن يكون مقيداً ، بل يكفي كونه قابلاً للتقييد.

الخامسة : انّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان ، فالدليل الواحد يمكن أن يكون مطلقاً من جهة ومقيداً من جهة أُخرى. كما إذا قال : أكرم إنساناً في المسجد فهو مطلق من حيث الموضوع ومقيد من حيث ظرف الإكرام.

السادسة : انّ القوم لمّا فسّروا المطلق بما دلّ على شائع في جنسه بحثوا في ألفاظ يترقب فيها الدلالة على الشيوع كاسم الجنس وعلمه والفرد المحلى باللام.

وأمّا على المختار بأنّ هذا النمط من البحث شأن الأديب وليس من شأن الأُصولي ، فالبحث في معاني هذه الأصناف من الألفاظ ساقط لما عرفت أنّ مقوم الإطلاق تمامية الشيء للموضوع وعدمها ، سواء أكان اسم جنس أو علم جنس أو محلّى باللام ، فاشتراط المطلق بكونه اسم جنس أو نظيريه كالحجر في جنب الإنسان وليس لها أي دخل في تكوين الإطلاق.

فنحن بالنسبة إلى هذه البحوث التي شغلت بال الأُصوليين في المقام لفي فسحة ، غير أنّا نتبع القوم في هذه البحوث استطراداً بل استجراراً. وتمام الكلام في ضمن فصول :


الفصل الأوّل

في ألفاظ المطلق

١. اسم الجنس

قد عدّ من ألفاظ المطلق اسم الجنس.

قال المحقّق الخراساني : إنّ أسماء الأجناس من جواهرها وأعراضها وعرضياتها (١) موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة بلا شرط ملحوظ معها أصلاً حتّى لحاظ انّها كذلك.

وحاصل كلام المحقّق الخراساني : أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة المبهمة من كلّ جهة تفقد كلّ شيء إلا ذاتها وذاتياتها ولا يلاحظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ ، أي عدم لحاظ شيء معه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاض الكلام في البرهنة على ذلك ، وقال ما هذا حاصله :

إنّ الموضوع له في أسماء الأجناس هو نفس الماهية بما هي هي.

لا بشرط الإرسال والعموم البدلي حتّى يكون بشرط شيء.

__________________

١. يطلق العرض على مثل البياض والعرضي على مثل الأبيض ، غير أنّ المحقّق الخراساني أطلق الأعراض وأراد به الأعراض المتأصلة وأطلق العرضيات وأراد به الأُمور الاعتبارية حسب ما فسّره المحقّق المحشي.


ولا بشرط « لحاظ عدم لحاظ شيء معه » حتّى يكون اللا بشرط القسمي.

وذلك لأنّه لو كان من قبيل القسم الأوّل ـ أي مأخوذاً فيه الشمول ـ لما صحّ حمله على فرد خارجي كقولنا زيد إنسان.

ولو كان من قبيل القسم الثاني ـ أي مأخوذاً فيها لحاظ « عدم لحاظ شيء معه » ـ فلا يحمل أيضاً على الخارج ، لأنّ جزء المعنى ( لحاظ عدم اللحاظ ) أمر ذهني لا ينطبق على الثاني.

فتلخّص من كلامه الإشارة إلى أُمور ثلاثة :

الأوّل : الماهية اللا بشرط المقسمي وهي التي وضع اللفظ بازائها.

الثاني : الماهية بشرط شيء وهي الماهية بشرط الشمول والشيوع.

الثالث : الماهية اللا بشرط القسمي وهي الماهية الملحوظة بعدم اللحاظ.

ولا يخفى إجمال ما ذكره ، إذ كان عليه أوّلاً ان يشرح تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة ، أعني : اللا بشرط وبشرط لا وبشرط شيء ، ثمّ يحكم على أسماء الأجناس بأنّها موضوعة لمقسم هذه الأقسام لا لواحد منها ، ولأجل إيقاف القـارئ على حقيقة التقسيم وإن كانت خارجة عن علم الأُصول نذكر تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة ونبيّن الفرق بين اللا بشرط المقسمي واللا بشرط القسمي.

فنقول : قسّم أهل المعقول الماهية إلى أقسام ثلاثة :

أ. مطلقة وهي اللا بشرط.

ب. مخلوطة وهي البشرط شيء.

ج. مجردة وهي البشرط لا.


قال الحكيم السبزواري : (١)

مطلقة ، مخلـوطة ، مجـردة

عند اعتبارات عليها موردة

فالحكيم السبزواري بقوله : « عند اعتبارات » يشير إلى أنّ التقسيم ليس للماهية بما هي هي بل للماهية الملحوظة ، وذلك لأنّ الماهية ما لم تقع في أُفق اللحاظ ولم تر نوراً بالوجود الخارجي أو الذهني يساوق العدم فهي كالمعدوم المطلق لا يخبر عنها فلذلك قال الشيخ الرئيس : ما لا وجود له لا ماهية له ، فأي حكم على الماهية فرع تنوّرها بنور الوجود ولو وجوداً ذهنياً غاية الأمر يكون الوجود الذهني مغفولاً عنه ، والإنسان يحكم عليها بواسطة تنوّرها بالوجود.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا مقسماً باسم اللابشرط المقسمي وأقساماً ثلاثة وإليك بيانها.

اللا بشرط المقسمي

وهي عبارة عن لحاظ الماهية بذاتها وذاتياتها مع قطع النظر عن كلّ شيء معها حتّى الوجود الذهني الذي به ظهرت ، والماهية بهذا المعنى ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة بمعنى لا انّ الوجود جزؤها ولا العدم. والماهية بهذا المعنى مقسم للأقسام الثلاثة الآتية :

١. الماهية البشرط شيء

فإذا لوحظت تلك الماهية بهذا المعنى ـ السابق ـ مقيسة إلى الخارج مقترنة بشيء من عوارضها كالإنسان بقيد الوجود ، والرقبة بقيد الإيمان ، والعبد بشرط الكتابة ، فهذا هو المسمّى بالماهية بشرط شيء.

__________________

١. شرح المنظومة : ٩٠.


٢. الماهية البشرط لا

فإذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج مشروطة بعدم مقارن خاص كالإنسان بقيد عدم الوجود والرقبة بقيد عدم الإيمان والعبد بقيد عدم الكتابة فالماهية بشرط لا.

٣. الماهية اللا بشرط القسمي

وأمّا إذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج بلحاظ عدم شيء معها على نحو يكون ذلك اللحاظ ( عدم لحاظ شيء ) قيداً له فهذه هي الماهية على نحو اللا بشرط القسمي. حسب ما اختاره المحقّق الخراساني ، ونحن نمشي في تفسير هذه المصطلحات الثلاثة في المقام على ضوء « الكفاية ».

فتلخص انّ هناك « لا بشرطاً مقسمياً » وله أقسام ثلاثة :

بشرط شيء ، بشرط لا ، ولا بشرط القسمي.

والفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمي واضح ، فانّ الأوّل عار عن كلّ قيدحتّى لحاظها في الذهن وليست إلا هي هي ، ولكن القسمي هي الماهية بلحاظ عدم قيد معه فيصير لحاظ عدم القيد قيداً.

وإن أردت التشبيه فقس الفرق بينهما بالفرق بين مطلق المفعول والمفعول المطلق ، فالإطلاق في القسم الأوّل ليس بقيد بل رمز عدم القيد ، ولذلك يشمل الأقسام الخمسة للمفعول ، بخلاف الثاني فانّ الإطلاق هناك قيد ، أي تعرّيه عن كلّ قيد ، قيد كقولك ضربت ضرباً ، فقوله ضرباً مفعول مطلق ملحوظ بلحاظ عدم كونه مقترناً بالباء أو بمع أو بفي أو باللام أو غير ذلك.

فإن قلت : إذا كان اللا بشرط القسمي هو الماهية المشروطة بلحاظ عدم


لحاظ شيء ، فهو يكون من أقسام الماهية بشرط شيء والشرط هو لحاظ عدم اللحاظ.

قلت : إنّ هذا التقسيم الثلاثي لما كان باعتبار إضافة الماهية إلى خارجها كالوجود والإيمان والكتابة وغير ذلك ، يكون المراد من الشيء هو الأمر الخارجي ، ولا يعمّ القيد الذهني كاعتبار « عدم لحاظ شيء معها » قيداً ، فالماهية اللاّبشرط عارية عن القيود الخارجية وإن كانت تحمل قيداً ذهنياً ، كالإطلاق ، ولحاظ « عدم لحاظ شيء معه ».

فإن قلت : إذا كان معنى الماهية البشرط لا ، هو أخذ « بشرط لا » ، قيداً يكون هذا القسم أيضاً داخلاً في الماهية البشرط شيء ، إذ الشيء أعمّ من القيد الذهني.

قلت : الجواب عن هذا الاعتراض نفس الجواب عن الاعتراض السابق ، لأنّ المراد من القيود هو القيود الخارجية بشهادة انّ هذا التقسيم بلحاظ إضافة الماهية إلى خارجها التكويني ، فالشيء في هذا القسم هو القيد الطارئ الخارجي فلا يعمّ القيد الذهني « كونها بشرط لا ».

وبالجملة لحاظ عدم اللحاظ أو لحاظ عدم الشيء غير داخلين في لفظ الشيء الوارد في « الماهية بشرط شيء ».

تفسير السيّد الأُستاذ لتقسيم الماهية

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ 1 فسّر تقسيم الماهيات الملحوظة إلى الأقسام الثلاثة بوجه آخر ، وأفاد أنّ التقسيم ليس بحسب الماهية في مقام ذاتها ، بل التقسيم باعتبار مرتبة وجودها.


و إن شئت قلت : الماهية الموجودة إذا قيست إلى أيّ شيء فإمّا أن يكون الشيء لازم الالتحاق بها كالتحيّز بالنسبة إلى الجسمية ، والزوجية بالنسبة إلى الأربعة ؛ وإمّا أن يكون ممتنع الالتحاق ، كالتجرّد عن المكان بالنسبة إليها ؛ أو يكون ممكن الالتحاق ، كالبياض بالنسبة إلى الجسم. فالأوّل هي الماهية بشرط شيء ، والثاني هي الماهية بشرط لا ، والثالثة هي الماهية لا بشرط.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره راجع إلى تقسيم عوارض الوجود وأنّها لا تخلو عن حالات ثلاث ، من ممكن الالتحاق ، إلى ممتنعه ولازمه ، والبحث في تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة.

وثانياً : أنّ البحث في تقسيم نفس الماهية أو الملحوظة لا في الماهية الموجودة.

ثمّ إنّ هذا التقسيم ليس تلاعباً بالألفاظ كما حسبه ، بل هذا التقسيم لأجل إيجاد الفرق بين النوع والجنس والفصل والمادة والصورة وإلاّيلزم أن يكون جميع المباحث الدارجة في باب الماهيات تلاعباً بها.

فانّ الحيوان على فرض اللا بشرط جنس ، وعلى فرض بشرط لا مادة ، وعلى فرض بشرط شيء نوع والمفهوم منه في كلّ موطن ، يغاير المفهوم منه في موطن آخر ، كما أنّ الناطق على فرض « اللابشرط » فصل ، وعلى فرض « بشرط لا » صورة ، وأمّا ما هو المراد من « اللا بشرط » في الجنس والفصل ، ومن « البشرط لا » في المادة والصورة فموكول بيانه إلى محله. (١)

إذا عرفت ذلك ينبغي الكلام في موضعين :

__________________

١. لاحظ ما حرّرناه من محاضرات شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في هذا المضمار في مبحث المشتق في الجزء الأوّل ، ص ٢٤٨ ـ ٢٥٢.


الأوّل : ما هو الموضوع له لأسماء الأجناس؟

ذهب المشهور إلى أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المطلقة على وجه يكون الإطلاق قيداً للمعنى ورتّبوا على ذلك أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية ، فإذا قلت : أعتق رقبة مؤمنة فالقيد أعني « مؤمنة » تضيق دائرة المطلق ويخصّه بالمقيّد ، وعلى هذا فالمطلق موضوع للا بشرط القسمي.

هذا هو المعروف قبل السيد سلطان العلماء ( المتوفّى سنة ١٠٦٤ هـ ).

ولكنّه 1 أوّل من ردّ هذه النظرية وقال : بأنّ اسم الجنس موضوع للماهية من حيث هي هي دون أن يكون الإطلاق قيداً للمعنى فالمطلق عنده موضوع للا بشرط المقسمي ، وقد أشار إلى ذلك في حاشيته على المعالم ونقله الشيخ في مطارحه بما هذا لفظه :

إنّه يمكن العمل بالمطلق والمقيد من دون إخراج عن حقيقته بأن يعمل بالمقيد ويبقى المطلق على إطلاقه ، فلا يجب ارتكاب مجاز حتّى يجعل ذلك وظيفة المطلق ، فانّ مدلول المطلق « ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان » حتّى ينافي مدلول المقيد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد ، بل المقيد في الواقع. ألا ترى أنّه معروض للقيد كقولنا : رقبة مؤمنة ، وإلا لزم حصول المقيد بدون المطلق مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت فظـهر انّ مقتضى المطلق ليس ذلك وإلا لم يتخلّف فيه. (١)

ورتّب على ذلك أمرين :

١. تقييد المطلق لا يوجب المجازيّة.

__________________

١. لاحظ مطارح الأنظار : ٢٢١ ؛ ولاحظ معالم الدين : ١٥٥ ، قسم التعليق طبعة عبد الرحيم.


٢. انعقاد الإطلاق فرع تمامية مقدّمات الحكمة.

وقد أخذه المتأخرون بعد السلطان فقالوا بأنّ المطلق موضوع للاّبشرط المقسمي أي موضوع للماهية بما هي هي من دون أن يكون فيه قيد كالإطلاق ، وممّن اختار هذا النظر المحقّق الخراساني فذهب إلى أنّ الوضع في أسماء الأجناس عام والموضوع له عام وانّ الواضع لاحظ الماهية من حيث هي هي. ووضع اللفظ لها وقال ما هذا توضيحه : التي تفقد كلّ شيء إلا ذاته وذاتياته فوضع اللفظ عليها وهي المعبر عنها باللا بشرط المقسمي.

فإن قلت : إذا كان الموضوع هو الماهية الملحوظة بما هي هي التي ليست إلا هي ، فيكون اللحاظ جزء المعنى وهو أمر ذهني ، فيلزم عدم صحّة حمل الإنسان على أفراده.

قلت : إنّ اللحاظ ليس جزء المعنى الموضوع ، بل هو عبارة عن نفس الماهية لكنّها بما انّها لا تقع في أُفق الذهن ، ما لم يتنوّر بنور الوجود ، فالواضع يتوسل باللحاظ ، لأجل تصورها وإدخالها من أُفق التصوّر ، ثمّ يضع اللفظ لنفس الملحوظ ، لا بقيد اللحاظ.

وإن أردت التنزيل والتشبيه فلاحظ لازم الماهية ، أعني : الزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، فانّ وجود الماهية في الخارج أو الذهن شرط لظهور الملازمة ، لا لثبوتها فالزوجية أمر لا ينفك عن الأربعة في أي موطن من المواطن ، لكن وجه اللزوم ليس دخيلاً في أصل الملازمة ، بل دخيل في ظهورها ولو افترض انفكاك الأربعة عن الوجود مطلقاً ، لكانت الزوجية معها.

وبذلك أبطلوا القول بأنّ الزوجية من قبيل لازم الوجودين لا من قبيل لازم الماهية ، ببيان أنّها من قبيل لازم الماهية ، غاية الأمر انّ ظهور الملازمة رهن تنوّر


الماهية بالوجود لا بثبوتها.

ومثل المقام ، فالموضوع هو ذات الماهية ، لكن الطريق إلى تصورها عارية عن كلّ قيد ، رهن لحاظها في الذهن على نحو يكون اللحاظ أمراً مغفولاً عنه ، وغير المغفول ، هو ذاتها من حيث هي هي.

الثاني : ما هو المراد من الكلّي الطبيعي؟

إنّ علماء المنطق قسّموا الكلّي إلى أقسام ثلاثة :

١. كلّي منطقي ، وهو مفهوم لفظ « الكلّي » أي ما يصدق على كثيرين.

٢. كلّي طبيعي ، وهو مصداق الكلّي المنطقي كالإنسان.

٣. كلّي عقلي وهو المجموع من الكلّي المنطقي والطبيعي.

فعندئذ يقع السؤال في أنّ الكلّي الطبيعي هل هو نفس اللا بشرط المقسمي ، أو نفس اللا بشرط القسمي؟

الظاهر من الحكيم السبزواري هو الأوّل ، يقول :

وهـو بكـلّ طبيعـي وُصـف

وكونه من كون قسميه كُشف

أي نحن نستكشف من وجود القسمين : الماهية بشرط شيء والماهية اللابشرط دليل واضح على وجود المقسم وهو اللا بشرط المقسمي.

وعلى ذلك فالكلّي الطبيعي هو الماهية الملحوظة في الذهن بما هي هي ، أي بذاتها وذاتياتها دون لحاظ أي شيء معها حتّى هذا اللحاظ.

وذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المراد منه هو اللا بشرط القسمي ، ولا يمكن جعله من اللا بشرط المقسمي ، وذلك لأنّ الكلّي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو والجامع بين جميع المتّفقة الحقيقة من الأفراد الخارجيّة


الفعليّة وما يفرض وجودها. والماهيّة بشرط لا عبارة عن الماهيّة المجرّدة عن كلّ خصوصيّة حتّى خصوصيّة وجوده الذّهني ، وليست الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة.

فلو كان الكلّي الطّبيعي هو اللاّ بشرط المقسمي يلزم أن تكون الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة ، لما عرفت من أنّ الكلّي الطّبيعيّ عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأفراد. وليس الإنسان بشرط لا ، مثلاً من أفراد حقيقة الإنسان حتّى يقال : انّ المقسم هي الحقيقة الجامعة ، وأفرادها : الماهيّة بشرط لا ، وبشرط شيء ، ولا بشرط ، فلابدّ أن يكون الكلّي الطّبيعي هو اللاّ بشرط القسمي الّذي يكون تمام حقيقة الأفراد الخارجيّة. وعلى كلّ حال : فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.

يلاحظ عليه : الذي يمنع عن صدق الكلّي الطبيعي على الأفراد الخارجية هو القيد المأخوذ فيه ، أعني : كونه مجرّداً عن الوجود ، والماهية بهذا القيد يمتنع صدقها على الأفراد ، وهذا لا يمنع أن تكون بنفسها ومجرّدة عن ذاك ، صادقة عليها.

والحاصل : أنّ القيد المأخوذ في بعض الأقسام يمنع المقسم عن الانطباق على الخارج ، وهذا لا يمنع عن كون المقسم قابلاً له في حدّ ذاته ، هذا واضح لاسترة عليه.

ثمّ إنّ المراد من الجامع ليس هو الجامع الخارجي ، بداهة أنّ الشيء الخارجي بوصف الوجود يمتنع أن يكون جامعاً إذ الوجود ، ملاك التشخّص والوحدة ، والجامع على الطرف النقيض منهما. والمراد من اشتراك زيد وعمرو في الإنسانية هو الاشتراك في مفهوم الإنسان الصادق على كلّواحد ، لا الاشتراك في الإنسانية المشخَّصة.


نظرنا في أسماء الأجناس

إنّ مختار المشهور ( أسماء الأجناس موضوعة للماهية بما هي هي مجرّدة عن الوجود والعدم وعن عامة العوارض ) لا يخلو عن إشكال ، ويعلم ذلك مَن وقف على نشوء اللغات في المجتمع البشري.

إنّ وضع اللفظ للماهية بالنحو المذكور عمل الحكيم والفيلسوف الذي يستطيع أن يتصوّر الموضوع له عارياً عن كلّ قيد ثمّ يضع اللفظ بازائها ، والظاهر انّ الواضع في أكثر اللغات لم يكن إنساناً حكيماً عارفاً بتجريد الماهية عن الوجود وتصوّرها عن كلّ قيد ، بل الظاهر أنّ أسماء الأجناس من يومها الأوّل وضع لفرد خارجي ثمّ إذا قابل الواضع بفرد هو نظيره ، يطلقُ عليه ذلك اللفظ لما بينهما من المشابهة.

وهكذا يستمر الأمر حتّى يحصل له وضع ثانوي حسب كثرة الاستعمالات فينقل اللفظ من المعنى الأوّل إلى الجامع بين هذه المصاديق.

وإن كنت في شكّ من ذلك فلاحظ ألفاظ أرباب الاختراع كالسيارة والمذياع والتلفاز إلى غير ذلك ، فانّ المخترع ينتخب لفظاً لما اخترعه فيكون الوضع خاصاً لكون الملحوظ خاصاً ويضع اللفظ لما اخترعه ويكون الموضوع له خاصاً أيضاً ، لكن حسب تكرر الاستعمال في أشباه ما وضع له ، يحصل الوضع التعيني للجامع بين الأفراد.

وبذلك تعرف انّ الموضوع له كالوضع كان خاصاً ولكن مرور الزمان وكثرة الاستعمال صار سبباً لنقله القهري من الموضوع له الخاص إلى الموضوع له العام.

وهناك احتمال آخر وهو أن يكون الوضع خاصاً والموضوع له عاماً من أوّل


الأمر ، وقد أثبتنا إمكانه في محلّه بمعنى أن يكون الملحوظ شيئاً معيّناً ولكن الموضوع له أمراً عاماً ، مثلاً : يتصوّر المخترعُ المذياع الماثل أمامه ويضع تلك اللفظة لكلّ ما يماثله في الهيئة والأثر ، فيكون استعماله في غير الماثل أمامَه حقيقياً أيضاً.

اسم الجنس موضوع للماهية الموجودة

وهذه هي النظرية الثالثة في تصوير اسم الجنس وهي انّ الإنسان والشجر والغنم موضوع للماهية الموجودة من هذا النوع ، لأنّ الغاية من الوضع هو إلفات ذهن المخاطب إلى ما يرفع حاجته ويسدّ خُلّته ، والماهية المجردة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فالذي يسدّ خُلَّة المخاطب هو الفرد الموجود من الماء والنار وغيرهما لا المفهوم منهما.

والحاصل : أنّ الغاية من الوضع تُحدِّد الموضوعَ له والغاية من الوضع في قسم من المحاورات هو احضار الأشياء التي ترفع الحاجة ، فإذا قال : اسقني ، فهو يطلب الماء الذي يرفع عطشه وليس إلا الماء الموجود بوجوده السّعِيّ.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه لو كان الوجود جزء الموضوع له يلزم انقلاب القضايا الممكنة إلى الضرورية ، فإذا قلنا : الإنسان موجود ، يكون معناه الإنسان الموجود موجود ويكون من قبيل الضرورة بشرط المحمول فمثله ليس موجوداً بالإمكان ، بل موجود بالضرورة مع أنّا نرى أنّ جهة الحمل في هذه القضايا هي الإمكان لا غير.

فإن قلت : لا مناص في هذه القضايا من تجريد المبتدأ عن الوجود عند حمل الموجود عليه.

قلت : إنّ التجريد خلاف الوجدان أوّلاً ويلزم المجازية في ناحية الموضوع له ، لأنّ اللفظ الموضوع للكلّ استعمل في الجزء وذلك خلاف الوجدان.


وثانياً : أنّ ما ذكره من الغاية وإن كان صحيحاً ولكنّه لا يكون دليلاً على أخذ الوجود في الموضوع له ، بل يكفي أن يكون الإيجاد غاية للأمر ، فإذا قال : اسقني فهو قرينة على أنّ طلب السقي أو البعث إلى السقي لغاية تحصيله. فالبعث يتعلّق بالماهية المعرّاة عن الوجود لكن لغاية إيجاده ، وقد مرّ الكلام فيه ، في مبحث تعلّق الأحكام بالطبائع.

٢. علم الجنس

إنّ في لغة العرب أسماءً ترادف أسماء الأجناس مفهوماً ولكن يعامل معها معاملة المعرفة فتقع مبتدأ ، وذا حال ومن المعلوم اشتراط التعريف فيهما.

فهذا كالثعلب والثعالة ، والأسد وأُسامة ، والعقرب وأُم عريط حيث إنّ الثاني يقع مبتدأ ويجيء منه الحال بخلاف الأوّل ، وهذا ما دعاهم إلى تسمية هذا النوع من الألفاظ بعلم الجنس ، وفي الوقت نفسه عدّها من ألفاظ المطلق كاسم الجنس يقول ابن مالك في ألفيته :

ووضعوا لبعض الأجناس علم

كاعلم الأشخاص لفظاً وهو

من ذاك أُم عريط للعقرب

عمّ وهكذا ثعالة للثعلب

ومثله بَرّة للمبرّة

كذا فجارُ علم للفجْرة (١)

وقد وقع الكلام في سبب عد علم الجنس معرفة وما هو الفارق بين اسم الجنس وعلمه حتّى يوصف الثاني بالمعرفة دون الأوّل ، فهناك أقوال :

الأوّل : التعريف لفظي ، وهو خيرة الرضي في شرحه على الكافية ، قال : إنّ

__________________

١. شرح ابن عقيل : ١ / ١١١.


كون علم الجنس معرفة مثل كون الشمس مؤنثاً ، فكما أنّ التأنيث ينقسم إلى حقيقي ومجازي ، كذلك التعريف ينقسم إلى : حقيقي كالأعلام الشخصية ، ومجازي كعلم الجنس ، أي يعاملون معه معاملة المعرفة من صحّة وقوعه مبتدأ وذا حال. (١)

توضيحه : أنّ لعلم الشخص حكمين : أحدهما معنوي ، والآخر لفظي ، والأوّل وهو انّه يطلق ويراد به واحد بعينه كزيد وأحمد ، والثاني صحّة مجيء الحال متأخرة عنه كما يقال جاءني زيد ضاحكاً.

وعلم الجنس له الحكم الثاني فقط فهو نكرة ولكن يجيء منه الحال ويقال : هذا أُسامة مقبلاً ، ولا تدخل عليه الألف واللام فلا تقول هذه الأُسامة ، ويقع مبتدأ يقال : أُسامة مقبل وثعالة هارب ، كما نقول : علي حاضر وخالد مسافر.

فكما أنّ التأنيث على قسمين فهكذا التعريف على قسمين ، وهذا هو المفهوم من كتب الأدب. (٢)

ولو اقتصر الأُصوليون في مقام التفريق بين اسم الجنس وعلم الجنس على ما ذكره الأُدباء لكان أحسن غير أنّهم ذكروا في وجه تعريفه وجوهاً أُخرى نأتي بها تباعاً.

الثاني : أنّه موضوع للطبيعة المتعيّنة في الذهن

ربما يقال انّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي ، بل بما هي متعيّنة بالتعيّن الذهني ، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف ، والعجب انّ المحقّق

__________________

١. شرح الكافية للاسترابادي.

٢. لاحظ شرح ابن عقيل الحمداني المصري ( ٦٩٨ ـ ٧٦٩ هـ ).


الخراساني نسب هذا إلى أهل العربية مع أنّ المختار عندهم هو الوجه السابق كما عرفت.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الموضوع له في اسم الجنس وعلم الجنس أمر واحد والقول بأنّ الثاني موضوع للماهية المتعيّنة يستلزم عدم صدقه على الخارج ، فلا يصحّ أن يقال هذا أُسامة ، لأنّ المفروض انّ التعيّن جزء الموضوع وهو قائم بالذهن ، فلا محيص في الحمل إلا عن التجريد ، وهو أمر على خلاف الوجدان.

أضف إلى ذلك : أي فائدة في الوضع على الماهية المتعيّنة ثمّ تجريده عن التعيّن في عامة الاستعمالات ، ومعنى ذلك كون الوضع للمعنى المتعيّن أمراً لغواً.

الثالث : علم الجنس موضوع للطبيعة في حال التعيّن

إنّ الموضوع له هو الماهية في حال خاص وهو كون المعنى متصوّراً في الذهن لا على نحو المشروطة حتّى يرجع إلى كونه قيداً للمعنى ، ولا على نحو المطلقة حتّى يكون الموضوع له عارياً عن كلّ قيد ، بل الموضوع هو ذات الطبيعة لكن مقارناً بهذا الحال.

وإلى ذلك ينظر كلام صاحب المحاضرات وهو أنّ الإشكال إنّما يلزم إذا أخذ التعيين الذهني جزءاً أو شرطاً لا ما إذا أخذ على نحو المرآتية والمعرّفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية. (١)

والفرق بين هذين الوجهين جوهري ، حيث إنّ الوجه الثاني مبنيّ على أساس قبول كون التعيّن جزءاً أو شرطاً لكن أخذ مرآة ، بخلاف الوجه الثالث فإنّه

__________________

١. المحاضرات : ٥ / ٣٥٥.


مبني على إلغاء أخذ القيد في الموضوع له ، وانّه من حالاته شبيه القضية الحينية.

يلاحظ عليه : أنّ تلك الحالة إمّا أن تكون دخيلة في الموضوع له أو لا ؛ فعلى الأوّل يعود الإشكال فلا ينطبق على الخارج ، وعلى الثاني يتحد علم الجنس مع اسم الجنس معنى وذاتاً.

وبالجملة الأمر دائر بين الدخل وعدمه ، فعلى الأوّل يلزم عدم الانطباق ، وعلى الثاني يعود عدم التفاوت.

الرابع : الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها

ذهب سيّدنا الأُستاذ 1 إلى أنّ الماهية في حدّ ذاتها وفي وعائها وتقررها الماهوي عارية عن كلّ شيء سوى ذاتها وذاتياتها حتّى كونها نكرة فضلاً عن كونها معرفة وبالجملة الماهية في مرتبة ذاتها ليست إلا هي ليس فيها شيء من التعريف والتنكير وإلا يمتنع أن تتصف بخلافه فاسم الجنس موضوع لهذا المعنى بما هوهو.

وبما انّ الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها ومتميزة عن سائر المعاني بجوهرها ، وبعبارة أُخرى : يعرضها التعيّن في مقابل اللا تعيّن ويعرضها التميز من عند نفسها بين المفاهيم فيوضع عليه اسم الجنس.

ولا يرد عليه ما أُورد على الوجه الثاني والثالث ، لأنّ التعيّن فيهما عرضيّ ، بخلافه في هذا الوجه ، لأنّ التعيّن نابع عن ذات الشيء ، لاحظه أحد أو لا. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ولكن أنّى للواضع هذا الإدراك المخصوص بالحكيم.

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٥٣٠.


٣. المعرف باللام

ينقسم اللفظ إلى معرب ومبنيّ ، والمعرب ما يختلف آخره باختلاف العوامل ولا يستعمل إلا بالتنوين أو اللام أو الإضافة.

ثمّ اللام ينقسم إلى : لام الجنس ، ولام الاستغراق ، ولام العهد.

ولام الاستغراق ينقسم إلى : استغراق الأفراد ، واستغراق خصائصها.

ولام العهد ينقسم إلى : عهد ذهني ، أو ذكري ، أو حضوري ؛ فتكون الأقسام ستة :

١. المُحلّى بلام الجنس : ( إنّ الإنسانَ لفي خُسْر ) (١) وقولهم : التمرة خير من جرادة.

٢. المُحلّى بلام استغراق الأفراد ، مثل قولهم : جمع الأمير الصاغة.

٣. المُحلّى بلام استغراق خصائص الأفراد ، مثل قولهم : زيد الشجاع.

٤. المُحلى بلام العهد الذهني : كقولهم :

لقد أمرّ على اللئيم يسبّني فمررتُ ثمة قلت لا يعنيني

والمعروف أنّه بمنزلة النكرة ، والفرق بينهما انّ القصد في الأوّل إلى نفس الطبيعة من حيث هي هي ، وفي الثاني إلى الطبيعة من حيث وجودها في فرد ، كقوله سبحانه : ( وَجاءَ مِنْ أَقصى المَدينَة رَجُلٌ يَسْعى ). (٢)

٥. المحلى بالعهد الذكري كقوله سبحانه : ( إِنّا أَرْسَلنا إِليْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلنا إِلى فِرعونَ رَسُولاً * فعَصى فِرعونُ الرَّسُولَ فأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ). (٣)

____________

١. العصر : ٢.

٢. يس : ٢٠.

٣. المزمل : ١٥ ـ ١٦.


٦. المحلّى بلام العهد الحضوري ، مثل قول الصادق 7 : « عليك بهذا الجالس » ، مشيراً إلى زرارة بن أعين. (١)

وعلى القول بأنّ اللام للتعريف ، فما هو الدالّ على هذه الخصوصيات؟ فهناك احتمالات :

١. الدالّ عليها هو اللام.

٢. الدالّ عليها هو المدخول.

٣. الدالّ عليها هو المجموع منهما.

٤. الدالّ عليها هو القرائن.

والأخير هو المتعيّن ، يظهر ذلك بملاحظة الأمثلة المتقدّمة مثلاً استفادة العهد الذكري لأجل تقدّم قوله : ( رسولاً ) كما أنّ استفادة العهد الحضوري لأجل قوله ( عليك ) ، كما أنّ استفادة استغراق الأفراد في قوله : « جمع الأمير الصاغة » لأجل كون الجامع هو الأمير وهو لا يكتفي بصائغ دون صائغ في ضرب الدرهم والدينار.

إنّما المهم في بيان ما وضع له « اللام » في هذه الموارد فهناك أقوال :

١. اللام وضع لتعريف المدخول.

٢. اللام للزينة كما في الحسن والحسين.

٣. التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي.

٤. اللام للإشارة إلى الموضوع وهو المختار.

__________________

١. الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.


أ. اللام للتعريف

المعروف أنّ اللام وضعت لتعريف المدخول قال ابن مالك :

ال حرف تعريف أم اللام فقط

فنمط عرّفتَ قل فيه النمط

وأورد عليه المحقّق الخراساني بالبيان التالي :

١. لا تعيّن في تعريف الجنس إلا الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد لامتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا بالتجريد. ومع التجريد لا فائدة في التقييد مع أنّ التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف.

هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه ، بل لابدّ من التجريد عنه وإلغاؤه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه ، كان لغواً.

وحاصل كلامه يرجع إلى أمرين :

الأوّل : انّ كون اللام للتعريف يستلزم كون اللحاظ في الذهن جزء الموضوع أو المحمول ومعه لا ينطبق على الخارج.

الثاني : انّ التخلص من الإشكال بالتجريد حين العمل ينتهي إلى لغوية الوضع للتعريف ، لأنّ الغاية من الوضع هو استعمال اللفظ في الموضوع له والمفروض انّه لا يستعمل فيه إلا بالتجريد.

يلاحظ عليه : بأنّ المراد من التعريف هو الإشارة إلى المدخول كما هو القول الرابع ، وسيوافيك انّ القول بدلالة اللام إلى الإشارة خال عن الإشكالين المذكورين ، فانتظر.


ب. اللام للتزيين

ذهب المحقّق الخراساني بعد إبطال كون اللام للتعريف إلى أنّه للتزيين مطلقاً ، كما في لفظي الحسن والحسين واستفادة الخصوصيات إنّما تكون بالقرائن التي لابدّ منها لتعيّنها على كلّ حال.

يلاحظ عليه : أنّ لام التزيين يختص بالأعلام المنقولة من الوصف إلى العلمية ، والهدف من اللام الإشارة إلى كونه منقولاً كلفظي الحسن والحسين لا مطلقاً.

يقول ابن مالك :

وبعض الأعلام عليه دخلا

للمح ما قد كان عنه نُقلا

ج. التعريف لفظي

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّ التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي ، فكما أنّ المؤنث حقيقي ومجازي فهكذا المعرف حقيقي كزيد ومجازي كمدخول اللام.

يلاحظ عليه : أنّه ادّعاء بلا دليل ، بل مع قيام الدليل على خلافه ، فإنّ اللام في العهد الذكري أو الحضوري للتعريف قطعاً ، فكيف يقول التعريف لفظي لا حقيقي؟!

د. اللام للإشارة

أظن انّ مرادهم من التعريف والتعيين باللام هو كون اللام إشارة إلى المعنى المراد من المدخول ، فإن كان جنساً فهي إشارة إلى ذات الطبيعة ، مثل : الرجل خير من المرأة ، فإن كان جمعاً فهو إشارة إلى مدلوله الجمعي ، مثل قوله :


« أكرم العلماء » ، وإن كان فرداً فهو إشارة إلى ذاك الفرد ، مثل ( إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَونَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَونُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخذاً وَبيلاً ). (١)

وهذا خيرة صاحب القوانين حيث قال : اللام للإشارة إلى شيء يتّصف بمدخولها ، واختاره أيضاً صاحب الفصول عند بيان الفرق بين علم الجنس والمحلّى باللام كالأسد بأنّ الثاني يتضمن الإشارة إلى الماهية.

فإن قلت : إذا كان اللام موضوعاً للإشارة يرد عليهما ما ذكره المحقّق الخراساني ، وهو إذا كان اللام موضوعاً للإشارة إلى المعنى فمع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة لو لم تكن مخلة ، وقد عرفت إخلالها. (٢)

وحاصل ما ذكره يرجع إلى أمرين :

١. إذا كانت الخصوصيات مفهومة من القرائن فلا حاجة للإشارة إليها باللام ثانياً.

٢. لو كانت الإشارة مأخوذة في الموضوع له لم ينطبق على الخارج.

يلاحظ على الأوّل : أنّه إنّما يلزم التكرار إذا كان اللام إشارة إلى عامة الخصوصيات ، بل هو إشارة إلى معنى المدخول ، وأمّا سائر الخصوصيات من الجنسية والعهدية فإنّما تستفاد من القرائن.

ويلاحظ على الثاني : بأنّ كون اللام للإشارة بمعنى أنّه وضع لواقع الإشارة لا لمفهوم الإشارة ، وواقع الإشارة أمر خارجي وهو ليس أمراً ذهنياً نظير لفظة « هذا » في « هذا إنسان ».

__________________

١. المزمل : ١٥ ـ ١٦.

٢. الكفاية : ١ / ٣٨١.


والحاصل : انّ اللام إشارة إلى واقع المدلول وحقيقته التي لها واقعية خارجية.

فظهر أنّ المراد من قولهم : اللام للتعريف ، أي الإشارة إلى المدلول بما هو مدلول.

الجمع المحلّى باللام

لا شكّ أنّ الجمع المحلّى باللام يفيد العموم وعدّه من ألفاظ الإطلاق خلط بين العموم والمطلق.

ثمّ ربّما يستدّل على أنّ اللام موضوعة للدلالة على التعيّن ، باستفادة العموم من الجمع المحلّى باللام.

وجه الدلالة : أنّ المرتبة المستغرقة للمراتب متعيّنة من بين جميع المراتب ، فلو كانت اللام موضوعة للإشارة ، وهي تلازم تعيّن المشار إليه ، تصحّ استفادة العموم منه ، وإلا فليس هنا دالّ على العموم مع عدم دلالة المدخول عليه.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا دلالة فيها على أنّ استفادة العموم لأجل دلالة اللام على التعيّن ، وذلك لتعيّن المرتبة الأُخرى وهي أقلّ مراتب الجمع. فلابدّ أن تكون دلالته على الاستغراق مستندة إلى وضع المجموع ( الجمع مع اللام ) للاستغراق لا إلى دلالة اللام على الإشارة إلى المعين.

يلاحظ عليه : بأنّ المتعيّن هو المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد ، وأمّا أقلّ المراتب فهو وإن كان معيّناً مفهوماً لكنّه غير معيّن مصداقاً ، لتردّده بين هذا الأقـل ، وذاك الأقل ، وذلك الأقل ، فالمتعيّن هو الاستغراق واللام إشارة إلى هذا المعيّن.


٤. النكرة

إنّ مقوم النكرة هو التنوين الواقع في آخره ، سواء أخبر عنه كما في قوله : ( وَجاءَ مِنْ أَقصى المَدينَةِ رَجُلٌ يَسعى ) ، أو وقع تحت دائرة الانشاء كما إذا قال : جئني برجل ، فقد اختلف في مفهوم النكرة على أقوال :

١. انّه موضوع للفرد المردد بين عدّة أفراد.

٢. انّه موضوع للفرد المنتشر.

٣. انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة.

أمّا الأوّل ، فغير صحيح ، لأنّ الفرد المردّد غير قابل للامتثال ، إذ الامتثال يتحقّق بالفرد المشخّص لا بالفرد المردد.

وأمّا الثاني ، أعني : الفرد المنتشر فليس له مفهوم صحيح إلا أن يرجع إلى القول الثالث وهو انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة وهو قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.

والحاصل : انّ المدخول بدون اللام يدلّ على الطبيعة ، ومع التنوين يدلّ على الوحدة.

ثمّ الظاهر أنّ النكرة لا يخرج عن الكلية حتّى فيما إذا وقع تحت الإخبار ، مثل قوله سبحانه : ( وَجاءَ مِنْ أَقصى المَدينَة رَجُلٌ يَسْعى ).

فإن قلت : كيف لا يخرج عن الكلية وهو متعيّن في الواقع؟

قلت : إنّ الجواب بوجهين :

١. انّ التعيّن مستفاد من نسبة الفعل إليه لا من نفس الكلمة ، فالكلمة مستعملة في الفرد غير المعيّن.


٢. إن أُريد من التعيّن هو التعيّن في عالم الثبوت فلا نزاع فيه ، لكنّه ليس محوراً للوصف بالكلية والجزئية.

وإن أراد عالم الإثبات ومقام الدلالة فهو كلّي قابل للانطباق.

مثلاً قولنا : مررت برجل قد سلم عليّ أمس قبل كلّ أحد ، فهو حسب الواقع متعيّن ، ولكنّه حسب الإثبات أمر كلّي قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.

ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري 1 ذهب إلى أنّه جزئي في كلا الموردين.

قال : إنّ النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد وانّه في كليهما جزئي حقيقي.

بيانه : انّه لا إشكال في أنّ الجزئية والكلية من صفات المعقول في الذهن وهو ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي وإلا فكليّ ، وجزئية المعنى في الذهن لا تتوقّف على تصوّره بتمام تشخصاته الواقعية ، ولذا لو رأى الإنسان شبحاً من بعيد وتردد في أنّه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردد عن الجزئية وكون أحد الأشياء ثابتاً في الواقع لا دخل له بالصورة المنتقشة في الذهن فإذا كانت هذه الصورة جزئيّة كما في القضية الأُولى فكذلك الصورة المتصورة في القضية الثانية إذ لا فرق بينهما إلا انّ التعيين في الأوّل واقعي وفي الثانية بيد المكلّف. (١)

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين كون الصورة الذهنية بما انّها موجودة في الذهن والوجود عين التشخّص ، وبين كونه مفهوماً قابلاً للانطباق على كثيرين ، والجزئية

__________________

١. درر الفوائد : ١ / ٢٠٠.


بالمعنى الأوّل ، لا ينافي الكلّية بالمعنى الثاني وإلا فلا يوجد مصداق للكلّي ، لأنّه بما هو موجود ذهني متشخص جزئي.

وامّا الشبح المردّد بين آحاد في الخارج فهو جزئي حقيقي وكونه كلّياً أمر وهمي ، لا واقعي بخلاف الصورة الذهنية في « رجل ».

إكمال

لو قلنا بأنّ المطلق هو الشائع في جنسه والساري في أفراده أو المفيد بالإطلاق على نحو لا بشرط القسمي ، فتخرج الألفاظ التالية عن تعريف المطلق.

١. اسم الجنس الموضوع للماهية بما هي هي.

٢. علم الجنس الموضوع للماهية بما هي متعيّنة.

٣. النكرة الدالّة على الطبيعة بقيد الوحدة.

فلم يبق ما يعد من ألفاظ المطلق إلا المحلّى بلام الاستغراق.

ولأجل ذلك تردّد المحقّق الخراساني في صدق النسبة أي أنّ المطلق عند المشهور هو ما قيّد بالإرسال والشمول البدلي ، لاستلزامه خروج ما أُريد منه الجنس أو الحصّة ( النكرة ) وعلم الجنس ، ولكن لا وجه للشكّ في صحّة النسبة ، وقد عرفت ما هو المعروف عند مشهور الأُصوليّين.


الفصل الثاني

تقييد المطلق لا يستلزم المجازية

قد عرفت أنّ المطلق عند المشهور هو ما دلّ على الشياع والسريان والإطلاق على نحو اللا بشرط القسمي ، وكأنّ المطلق عندهم من أقسام اللا بشرط القسمي.

وقد أثار هذا التفسير رد فعل في الأوساط العلمية ، وممّن قام بوجه هذا التفسير هو المحقّق سلطان العلماء حيث رد دلالة المطلق على السريان والشيوع ، وقال في كلمته التي تقدّمت : « ليست صحة العمل بكلّ فرد مدلولاً لفظياً للمطلق ، بل مدلول المطلق أعمّ من ذلك » ، وإلا فلو قلنا بدلالته على السريان يترتّب عليه أُمور ثلاثة :

الأوّل : يلزم كون تقييد المطلق مجازاً ، لأنّ القيد ينافي مدلول المطلق.

الثاني : يلزم أن لا يكون اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة من مصاديق المطلق.

الثالث : يلزم الخلط بين المطلق والعام ، إذ لو كان الشيوع مدلولاً لفظياً للمطلق لم يبق فرق بين المطلق والعام.

ثمّ إنّ بعض هذه المضاعفات دفع سلطان العلماء إلى القول بأنّ المطلق موضوع للماهية المبهمة التي لا تجد إلا نفسها وذاتها وذاتياتها وليس في مدلولها أي


شيوع وسريان ، وعندئذ ترتفع المضاعفات الثلاث.

١. لا تلزم المجازية من تقييد المطلق.

٢. ولا يلزم خروج اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة من مصاديق المطلق.

٣. لا يلزم عدم الفرق بين المطلق والعام ، فإنّ الشمول مدلول لفظي للعام بخلاف المطلق فانّ الشيوع فيه مستفاد من العقل ببركة مقدّمات الحكمة.

وليعلم أنّ سلطان العلماء وإن أوجد ثورة عارمة في باب المطلق حيث نفى دلالة المطلق على السريان والشيوع بالدلالة اللفظية ، لكنّه التزم به عقلاً وزعم أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هو سريان الحكم إلى كلّ واحد واحد من أفراده ، فالدلالة على إجزاء كلّ فرد دلالة لفظية عند القدماء وعقلية عند سلطان العلماء.

هذا هو المستفاد من كلمات القوم لا سيّما سلطان العلماء.

أقول : نلفت نظر القارئ إلى أمرين :

١. إنّ تقييد المطلق لا يستلزم المجازية حتّى على القول بدلالة المطلق على الشيوع دلالة لفظية ، وذلك لأنّ المطلق بهذا المعنى يكون من أقسام العام ، وقد تقدّم أنّ العام بعد التخصيص حقيقة لا مجاز ، وأوضحنا هناك ما هذا خلاصته :

انّ المتكلّم يستعمل العام في المعنى الموضوع له بالدلالة الاستعمالية فإن كانت الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية سكت عن التخصيص والتقييد ، وإن كانت مخالفة لها يُخرج ما لم تتعلّق به الإرادة الجديّة بالتخصيص والتقييد فيقول : أكرم العلماء العدول ، أو اعتق رقبة مؤمنة ، فالتخصيص والتقييد لا يوجبان استعمالهما في غير ما وضع له ولا يوجدان ضيقاً في المعنى المستعمل فيه وإنّما يحدثان ضيقاً في متعلّق الإرادة الجديّة ، ومناط الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعمالية والمفروض انّ اللفظ ـ حسب تلك الإرادة ـ مستعمل في المعنى


الشائع.

هذا من غير فرق بين العام ، كما إذا قال : أكرم العلماء العدول ؛ أو المطلق أعتق رقبة مؤمنة ، فلا يلزم من القول بكون المطلق موضوعاً للسريان والشيوع كون التقييد مجازاً.

نعم لو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشيوع يبقى الإشكالان الآخران على حالهما وهما خروج اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة عن تعريف المطلق أوّلاً ، والخلط بين العام والمطلق ثانياً.

وما ذهب إليه سلطان العلماء من عدم دلالة المطلق على السريان وإن كان حقاً لكن ما توهم من استلزام نقيضه مجازية المطلق ليس في محله.

٢. انّ سلطان العلماء وإن أتى بقول بديع في باب المطلق ولكنّه شارك القوم في استفادة الشيوع والسريان من المطلق بالدلالة العقلية ، وانّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي الشيوع والسريان ، ولكنّه غير صحيح ؛ إذ غاية ما تثبته مقدّمات الحكمة كون ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع ، سواء أمكن فيه الشيوع كما في قول : اعتق رقبة ، أو لم يمكن كما إذا قال : أكرم زيداً.

فكان على سلطان العلماء أن ينكر السريان والشيوع في الدلالة الإطلاقية مطلقاً ، سواء أكان مستفاداً من اللفظ أم العقل ، وأمّا على المختار فالحديث عن الشيوع والسريان باطل من رأسه ، وأمّا لزوم جريان مقدّمات الحكمة فهو وإن كان صحيحاً لكنّه لا لغاية إثبات الشيوع ، بل لغاية كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع كما سيوافيك في الفصل التالي.


الفصل الثالث

مقدّمات الحكمة

قد عرفت أنّ التمسّك بالإطلاق فرع جريان مقدّمات الحكمة ، إمّا لغاية إثبات الشيوع والسريان في الموضوع ، أو لغاية إثبات أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع فلا محيص عنه.

إنّما الكلام في تبيين ما هي مقدّمات الحكمة.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّها مؤلّفة من مقدّمات ثلاث :

١. كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال.

٢. انتفاء ما يوجب التعيين ( القرينة ).

٣. انتفاء القدر المخاطب في مقام التخاطب.

وربما يُزاد عليها عدم وجود الانصراف إلى صنف وهو ليس بمقدّمة رابعة ، لأنّه داخل في المقدّمة الثانية ، أي انتفاء ما يوجب التعيين.

واقتصر المحقّق النائيني على الأوليين.

ثمّ إنّ بعض المقدّمات مقوّم للإطلاق على نحو لولاه لما انعقد الإطلاق وبعضها الآخر شرط للتمسّك به.

فمن القسم الأوّل « تمكّن المولى من البيان » ، فخرج القيد الذي لا يتمكن


المولى من بيانه كقصد الأمر على القول بامتناع أخذه في المتعلق كما عليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني على ما مرّ في مبحث التوصلي والتعبدي وإن كان المختار عندنا خلافه.

ومثله عدم القرينة فإنّ وجود القرينة يمنع من انعقاد الإطلاق ، وأمّا القسم الثاني ، أي كونه شرطاً للتمسّك ككونه في مقام البيان أو عدم القدر المتيقّن على القول بشرطيته ، فعلى الباحث أن يميز المقوّم عمّا هو شرط للتمسّك ، فلنرجع إلى توضيح المقدّمات الثلاث :

المقدّمة الأُولى : إحراز كون المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو دخيل في متعلّق حكمه بحيث يكون الإخلال ببيان الأجزاء والشرائط منافياً للحكمة لافتراض انّه في مقام بيان تمام ما هو الموضوع للحكم.

توضيحه : انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان أصل المقصود لا في مقام بيان خصوصياته ، فلنفرض طبيباً رأى صديقه في الشارع فانتقل من صفرة وجهه إلى انّه مريض وبحاجة إلى تناول الدواء ، فيقول له : لابدّ لك من تعاطي الدواء ، ففي هذا المقام لا يصحّ للمريض التمسّك بإطلاق كلام الطبيب ويتناول كلّ دواء وقع بين يديه ، وقد يكون في مقام بيان خصوصيات المقصود ، كما إذا دخل المريض المذكور إلى عيادة الطبيب ، فأجرى الطبيب عليه الفحوصات اللازمة وبعد ذلك كتب له وصفة ، ففي هذا المقام يصحّ التمسّك بإطلاق ما كتب.

نعم انّ كثيراً من المشايخ يتمسّكون في نفي بعض الاجزاء والشرائط للبيع بقوله سبحانه : ( وأَحلَّ اللّهُ البيعَ وحرّمَ الرّبا ) (١) ولكن التأمل في سياق الآية يثبت انّها ليست في مقام بيان شرائط أجزاء البيع وشرائطه ، بل هو في مقام بيان

__________________

١. البقرة : ٢٧٥.


ردّ التسوية التي كان المشركون يتبنّونها. وكانوا يقولون : ( إِنّما البيع مثل الربا ) ويسوّون بين البيع والربا ، بل كانوا يجعلون الربا أصلاً والبيع فرعاً ، ولذلك شبهوا البيع بالربا ، فردّ اللّه سبحانه هذه التسوية وقال : ( وأَحلّ اللّهُ البيعَ وحرّم الرّبا ) فالتسوية غير صحيحة ، فالآية عند الإمعان ليست في مقام بيان أجزاء البيع وشرائطه ، فلو شككنا في شرطية العربية للصيغة لا يصحّ لنا التمسّك بإطلاقها ، بل الآية في مقام نفي التسوية وأمّا انّ للبيع شرائط أو لا فالآية ساكتة عنه.

ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري أنكر هذه المقدّمة ، وقال :

إنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث ، ولا إشكال أنّه لو كان المراد هو المقيّد تكون الإرادة متعلّقة بالمقيّد أصالة وإنّما تُنسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد ، مع أنّ ظاهر قولنا : « جئني برجل » انّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة ، لا انّ المراد هو المقيّد وإنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد ، ومع تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد وهذا معنى الإطلاق. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه إذا كان المتكلّم في مقام بيان ما هو دخيل في موضوع الحكم يصحّ لنا الأخذ بهذا الظهور دونما إذا كان في مقام الإهمال والإجمال فلا يصحّ أن يؤخذ بهذا الظهور ، مثلاً إذا قال : الغنم حلال ، والكلب حرام ، فهل يمكن لنا الأخذ بإطلاق القضية الأُولى والحكم بأنّ الغنم الموطوء أو الجلاّل حلال كلا ولا. وما ذلك إلا لأنّ الظهور عندئذ بدوي يزول بالتأمل إذا أحرزنا انّ المتكلّم في مقام الإجمال والاهمال.

والحاصل : أنّ قوله : « انّ ظاهر قولنا : جئني برجل ، إنّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة لا انّ المراد هو المقيّد وإنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان

__________________

١. درر الأُصول : ١ / ١٠٢.


الاتحاد » ظهور بدوي غير مستقر إذا أحرز انّ المتكلّم في مقام الاهمال ، إذ يكون الإهمال في البيان مبرراً لنسبة الحكم إلى المطلق مع كونه للمقيد ، كما إذا قال : الغنم حلال مع أنّ الحلال هو الغنم غير الموطوء وغير الجلال. وبالجملة لا محيص عن الأخذ بهذه المقدّمة.

كون المتكلّم في مقام البيان لجهة دون جهة

قد يكون المتكلّم في مقام بيان جهة دون جهة ، فلا يصحّ الإطلاق إلا في الجهة التي صار بصدد بيانها.

فإذا قال سبحانه : ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَريعُ الْحِساب ) (١) ، تكون الآية ظاهرة في بيان انّ ما أمسكه الكلب بحكم المذكى إذا ذكر اسم اللّه عليه وليس بميتة ، فهي في المقام بيان حلية أكْلِ ما يصيد الصيود مطلقاً وإن مات قبل دركه ، لأنّّ إمساكه تذكية للصيد ، ولكن لا يصحّ التمسّك بإطلاقها من جهة ريق فم الكلب حتّى يحكم بطهارته من خلال جواز أكله ، فما نقل عن شيخ الطائفة في طهارة موضع العض أخذاً بإطلاق الآية موضع تأمّل.

ما هو الأصل في كلام المتكلّم؟

إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال والإجمال ، فالأصل العقلائي المعتمد عليه بين العقلاء كونه في مقام البيان لا الإجمال والإهمال ، وذلك لأنّ الأصل حمل كلّ فعل صادر من الإنسان على غايته الطبيعية. والتكلّم بما انّه من فعل الإنسان يحمل على غايته الطبيعية وهي الإفادة وبيان المقصود لا

__________________

١. المائدة : ٤.


الإجمال والإهمال.

وبالجملة : هنا أُمور ثلاثة يطلب كلّ غايته الطبيعية :

١. التكلّم بما هو فعل صادر من الفاعل العاقل يطلب غاية عقلائية.

٢. التكلّم بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار يطلب غاية اختيارية.

٣. التكلّم بما أنّه فعل خاص يطلب غاية مناسبة لسنخ الفعل.

والغاية المتناسبة لفعل التكلّم بما هو هو ، إفهام المراد الجدي في مقام التخاطب لا إفهام بعضه دون بعض فيحمل على أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

وعلى ضوء ذلك فلو عثرنا على المقيد يعد معارضاً للمطلق كما هو الحال في المحاورات الشخصية.

نعم في المحاورات التي تدور حول التقنين والتشريع يؤخذ بكلا الدليلين لجريان السيرة على فصل الخاص عن العام والمقيد عن المطلق.

العثور على القيد لا يبطل الإطلاق

العثور على القيد على قسمين :

تارة يعثر الإنسان على القيد في المحاورات العرفية فيستدلّ به على حصول البداء له ، فأعرض عن المطلق إلى جانب المقيد.

وأُخرى في كلام المقنّن والمشرّع من غير فرق بين العرفي والإلهي ، فالعثور على القيد يكشف عن كون الإطلاق حكماً قانونياً لأجل ضرب القاعدة ، ولذلك يجب على المكلّف أن لايحكم بكون المطلق تمام المراد إلا بعد الفحص عن القيد واليأس منه ، وأمّا بعده فيحكم به من غير فرق بين مقنن ومقنن ، لوجود الأصل العقلائي وهو تطابق الإرادتين في جميع الموارد إلا ما قام الدليل على خلافه.


المقدّمة الثانية : انتفاء القرينة

هذه هي المقدّمة الثانية ، وربّما يعبّر عنها بانتفاء ما يوجب التعيين. وعلى أيّ تقدير فالقرينة المتّصلة تمنع عن انعقاد الإطلاق ، والمنفصلة تمنع عن حجّيته ، بعد انعقاده ، وهذا نظير المخصِّص المتصّل والمنفصل للعام ، فالأوّل منهما يمنع عن انعقاد العموم ، والثاني يمنع عن حجّيته كما مرّ تفصيله في مبحث العام والخاص.

وأمّا عدم الانصراف إلى فرد أو صنف فهو داخل تحت هذه المقدّمة ، وذلك لأنّ الانصراف ينقسم إلى بَدئيّ ، وغير بَدئيّ.

أمّا الأوّل : فهو الذي يزول بالتأمّل كالقول بأنّ الأكل والشرب من المفطِّرات فهو ينصرف في بدء الأمر إلى ما هو المأكول والمشروب عادة ، ولكنّه بَدئيّ يزول بالتأمّل ، بل المبطل مطلق الأكل والشرب وإن كان غير متعارف كأكل ورق الشجر وشرب بول ما يؤكل لحمه ، فهو لا يمنع عن حجّية الإطلاق ، فضلاً عن انعقاده ، إذ لا يصحّ أن يُعتمد على مثل ذلك الانصراف البدئي المتزلزل غير المستقرّ.

وأمّا الثاني : أي غير البدئيّ فهو على قسمين :

تارة يكون الانصراف على حدّ يوجب مهجورية المعنى الأوّل ( المطلق ) ومتروكيته ، وأُخرى لا يكون على هذا الحدّ.

أمّا الأوّل ، فيمنع عن انعقاد الإطلاق كما هو الحال في ألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ في عصر الصادقين 8.

وأمّا الثاني ، فيكون من قبيل القرينة المنفصلة فهو يمنع عن حجّية الإطلاق لا عن انعقاده ، وهذا كلفظ « حرام الأكل » فانّه وإن كان يشمل الإنسان لغة ،


لكنّه منصرف إلى خصوص الحيوان ، فإذا قيل الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره ، وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسد. (١) فهو ينصرف إلى الحيوان المصطلح لا إلى الحيوان اللغوي الذي يشمل الإنسان أيضاً.

المقدّمة الثالثة : انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب

وقد عدّ انتفاء القدر المتيقّن من مقدمات الحكمة ، واستدلّ المحقّق الخراساني على لزوم انتفائه بأنّه لو كان المتيقّن تمام مراده ـ فان الفرض انّه بصدد بيان تمامه ـ وقد بيّنه لا بصدد بيان انّه تمامه كي أخلّ ببيانه.

توضيحه : أنّه لو كان الفرد المتيقّن تمامَ مراده ، لم يلزم إخلال بالغرض ، لأنّه بيّنه بواسطة كونه متيقناً ، ولو كان مراده الأعم منه ومن الفرد المشكوك فقد أخلّ بغرضه حيث لا بيان له ، وإنّما البيان للفرد المتيقّن.

وبعبارة أُخرى : أنّه قد بيّن تمام المراد بالحمل الشائع ، وإن لم يبيّنه بوصف انّه تمام المراد وإنّما يتعلّق الغرض بالأوّل وقد بيّنه ولا يتعلّق بالثاني فلا يضرّ عدم بيان وصفه بأنّه تمام المراد.

يلاحظ عليه : أوّلاً : ماذا يراد من القدر المتيقّن الذي يُعد وجوده مانعاً عن التمسّك بالإطلاق ، فإن أُريد به انصراف المطلق إليه عند الإطلاق في ذهن المخاطب فلا كلام في أنّه مانع عن التمسّك به ، إذ هو يُصبح كالقرينة المنفصلة المانعة من حجيّة الإطلاق ، الوارد في الكلام.

وإن أُريد به غير صورة الانصراف ، فلا يضرّ بالإطلاق لا انعقاداً ولا تمسّكاً ، لأنّ المانع هو بيان تمام المقصود مع التفات المكلّف إلى أنّه بيّن تمام المراد ،

__________________

١. الوسائل : الجزء٤ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي.


إذ عندئذ يصدق بأنّه لم يخل بغرضه ، وأمّا بيان تمام المراد من دون وقوف المخاطب على أنّ المتكلّم بيّن تمام المراد ، بل احتمل أنّ تمامه هو الجامع بين المورد المتيقّن والمشكوك ، ففي مثله يصدق أنّه أخلّ ببيان تمام المراد عند المخاطب ، لأنّ المدار في صدق عدم الإخلال والإخلال ، هو التفات المخاطب بأنّه بيّن تمام المراد ، وعدم التفاته ، لا بيانه واقعاً وإن لم يلتفت إليه المخاطب ، فلو اعتمد في مقام بيان المراد ، على وجود القدر المتيقّن في ذهن المخاطب حين الخطاب ، مع وجود الشكّ في ذهن المخاطب في أنّه تمامه أو بعضه ، فقد أخلّ بالغرض ، إذ لم يصدر منه بيان ، يوقف المخاطب على أنّه تمام المراد فقط ، بل صار متحيّراً في أنّه تمام المقصود أو بعضه ، فلا يصحّ في منطق العقل الاكتفاء بهذا البيان الذي لم يلتفت إليه المخاطب.

ولذلك ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري إلى عدم اعتبار هذه المقدّمة وقال : إنّ اللازم أن يكون اللفظ الملقى إلى المخاطب كاشفاً عن تمام مراده ، وهذا ملازم لصحّة حكم المخاطب أنّ هذا تمام مراده ، والمفروض عدم صحّة حكم المخاطب بكون القدر المتيقّن تمام مراده ، فيقال : لو كان مراده مقصوراً على المتيقّن لبيّنه لكونه في مقام البيان. (١)

وثانياً : إذا كان القدر المتيقّن في زمان التخاطب مانعاً عن انعقاد الإطلاق بحجّة أنّ المولى بيّن ـ اعتماداً عليه ـ تمام المراد وإن لم يصرّح بأنّه تمامه. فليكن كذلك إذا كان هناك قدر متيقّن ـ ولو بعد التأمّل ـ خارج التخاطب فإنّه أيضاً ممّا يمكن أن يقال إنّ المولى بيّن المراد اعتماداً على تلك القرينة المنفصلة وإن لم يصرّح بأنّه تمام المراد ، فإذا قال : أكرم العلماء فالقدر المتيقّن هو العالم الهاشمي

__________________

١. درر الأُصول : ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.


التقي ، بعد التأمّل خارج الخطاب كما أنّ المتيقّن في قوله : ( أحلّ اللّه البيع ) ، هو البيع المنشأ بالصيغة العربية الماضية التي يتقدّم الإيجاب فيها على القبول بلا تعليق ، مع أنّ مانعية ذلك القدر المتيقّن بمعزل من الكلام ، وإلاّ لما صحّ التمسّك في مورد بإطلاق الكتاب والسنّة ، إذ ما من إطلاق إلا وله قدر متيقّن ، إذا تأمّل فيه المخاطب خارج مجلس التخاطب.

ولذا اشتهر بأنّ المورد غير مخصّص لا في الآيات ولا في الروايات.


الفصل الرابع

في حمل المطلق على المقيّد

إنّ هذا الفصل هو بيت القصيد في المقصد الخامس ويعدّ كالنتيجة لما سبق من المباحث ، ولنقدّم أُموراً :

الأوّل : إنّ محطّ الكلام في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا كان القيد منفصلاً عن المطلق ، وأمّا إذا كان متّصلاً به فهو خارج عن محلّ البحث ، لما عرفت من أنّ وجود القيد المتصل يلازم عدم انعقاد الإطلاق فلا يكون هنا إطلاق حتّى يحمل على المقيّد ، بخلاف القيد المنفصل ، إذ الإطلاق ينعقد ـ عند وجود مقدّمات الحكمة ـ ويكون المقيّد مزاحماً لحجيّة الإطلاق لكون ظهوره في مدخلية القيد في المطلوب أقوى من ظهور المطلق.

الثاني : انّ تقدّم ظهور القرينة على ظهور ذيها أشبه بالورود ، لما عرفت من أنّ الإطلاق ليس من المداليل اللفظية ، بل من المداليل العقليّة ، يُعتمد فيها على كون المتكلّم حكيماً غير مناقض لمراده ، فلو أمر بالمطلق ، كشف عن كونه تمام الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، الأصل تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية ، ومن المعلوم أنّ هذا الأصل حجّة إذا لم يكن دليل على المخالفة ، فإذا ورد المقيّد كشف عن عدم التطابق في هذا المورد الخاص


فيرتفع موضوع الأصل ، وإن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان كما مرّ ، وهذا أشبه بتقدّم الدليل الاجتهاديّ على الدليل الفقاهي ، نظير تقدّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي كالبراءة.

نعم يظهر من المحقّق النائيني أنّ التقديم من باب الحكومة كتقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، ببيان أنّ الشكّ في إرادة ما يكون ذو القرينة ظاهراً فيه وعدمها ( كالأسد ) ، يكون مسبّباً عن الشكّ في إرادة ما تكون القرينة ظاهرة فيه وعدمها ، بداهة أنّ الأخذ بظاهر القرينة يوجب رفع الشكّ فيما أُريد بذي القرينة ولزوم حمله على غير ما يكون ظاهراً فيه لولا القرينة. (١)

أقول : الظاهر وجود الفرق بين المقيس ( المقام ) والمقيس عليه ( الأصل السببي والمسببي ) لأنّ موضوع الأصلين أي الشكّ محفوظ ، لكن يقدّم أحد الأصلين على الآخر ، بحجّة انّ التعبّد بمضمون الأصل السببي ، يلازم رفع اليد عن التعبّد بمضمون الأصل المسببيّ بخلاف المقام فإنّ موضوع أصالة التطابق الذي هو عدم ورود البيان على خلافها ، يرتفع بالمقيّد ، ومعه لا يبقى للأصل موضوع.

وبعبارة أُخرى : قوام الإطلاق بأمرين :

١. كونه في مقام البيان حسب الإرادة الاستعمالية.

٢. الأصل الحاكم على تطابق الإرادتين.

والعثور على القرينة وإن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان ، لكنّه يكشف عن عدم الموضوع لأصالة التطابق.

الثالث : يظهر من المحقّق الخراساني أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة تختلف حسب اختلاف المقامات ، قال : إنّ نتيجتها تارة يكون حملها على العموم البدلي ،

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٥٣٥.


وأُخرى على العموم الاستيعابي ، وثالثة على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام واختلاف الآثار والأحكام كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام ، فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوصَ الوجوب التعييني العيني النفسي فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان ولا معنى لإرادة الشياع فيه فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان ، كما أنّها قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في ( أَحلّ اللّه البيع وَحَرّم الرِّبا ) ، إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان ، وإرادة العموم البدلي لا تناسب المقام ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف أيّ بيع كان مع أنّها تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق ، ولا يصحّ قياسه على ما إذا أخذ في متعلّق الأمر ( جئني برجل ) ، فإنّ العموم الاستيعابي لا يمكن إرادته ، فيحمل على العموم البدلي. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ ظاهر عبارته أنّ هذه النتائج ، من ثمرات مقدّمات الحكمة ولكنّ الحقّ انّه ليس لمقدّمات الحكمة إلا ثمرة واحدة ، وهي كون ما وقع تحت دائرة التشريع تمام الموضوع للحكم فقط ، وأمّا غير ذلك من كون الأمر تعيينيّاً ، لا تخييرياً ، شموليّاً لا بدليّاً أو بالعكس فإنّما هي من مقتضيات اختلاف طبيعة الأحكام.

مثلاً إذا وقعت الطبيعة تحت دائرة الطلب تكون النتيجة هي البدلية لسقوط الأمر بالامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمن فرد.

وأمّا إذا وقعت الطبيعة في مقام التشريع تحت دائرة الامضاء ، كقوله سبحانه : ( أَحلّ اللّه البيع ) تكون النتيجة هي الشمول ، إذ لا معنى لإمضاء بيع

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٧.


خاص مجملاً أو مهملاً.

وإذا وقعت الطبيعة مورداً للطلب دون أن يذكر له العدل تكون النتيجة هي التعيين ، لأنّ التخيير يحتاج إلى البيان دون التعيين ، والحاصل أنّ النتائج المختلفة وليدة اختلاف المقامات لا مقدّمات الحكمة.

ومنه يظهر أنّ تقسيم الإطلاق إلى بدليّ وشمولي ومجموعي ليس صحيحاً ، إذ ليس للإطلاق إلا قسم واحد وهو كون ما وقع تحت دائرة الحكم تمام الموضوع ، وأمّا الخصوصيات فإنّما تستفاد من القرائن وحسب اقتضاء الحكم.

الرابع : إنّ البحث في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا اتّحد الحكم واختلف الموضوع بالإطلاق والتقييد مثل قولنا : أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ، وأمّا إذا اختلفا حكماً وموضوعاً فهو أجنبي عن الإطلاق والتقييد ، كما إذا قال : أعتق رقبة مؤمنة وسلّم على رجل.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الحكمين إمّا يكونان مثبتين أو نافيين أو مختلفين ، وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكون السبب غير مذكور أو يكون مذكوراً ، فتكون الأقسام حسب الظاهر ستّة ، وإن كانت عند الدّقة أكثر فلنذكر القسم الأوّل بشقوقه الثلاثة :

القسم الأوّل : فيما إذا لم يذكر السبب

وفيه صور ثلاث :

الأُولى : إذا كانا مثبتين

إذا قال : أعتق رقبة ثمّ قال : أعتق رقبة مؤمنة ، فهل يحمل المطلق على المقيّد


أو لا؟ لقد تكلّم فيه المحقّق الخراساني بنحو مفصّل نأتي بخلاصته ، وهي : انّه يمكن الجمع بين المطلق والمقيّد بأحد الوجهين :

١. حمل المطلق على المقيّد ، لأنّ فيه جمعاً بين الدليلين.

٢. حمل المطلق على أفضل الأفراد ، وفيه أيضاً جمعاً بين الدليلين.

ويؤيَّد الوجهُ الأوّل بأنّ حمل المطلق على المقيد لا يحدث تصرّفاً في المطلق لكشف المقيّد عن عدم وجود الإطلاق وأنّه كان تخيّليّاً بخلاف حمل المقيّد على الاستحباب فإنّه تصرّف في دلالة الأمر.

وقد ردّ هذا التأييد بما يلي :

إنّ حمل المطلق على المقيّد أيضاً تصرّف ، وذلك لما عرفت من أنّ العثور على المقيّد وإن كان لا يكشف عن عدم كون المطلق وارداً في مقام البيان كما هو ظاهر كلام المؤيّد ، لكن يكون كاشفاً عن عدم كون الإطلاق بمراد جدّاً وانّ الإرادتين ليستا بمتطابقتين ، وهذا أيضاً نوع تصرّف.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد نقل هذه الوجوه رجّح الوجه الأوّل ، أعني : حمل المطلق على المقيّد بوجه آخر ، وحاصله : انّ إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، وذلك لأنّ الأمر دائر بين الأخذ بالمطلق ورفع اليد عن الوجوب التعييني في مورد المقيّد ، وبين أن يكون المكلّف مخيّراً بين عتق المؤمنة والكافرة والأخذ بالظهور التعييني في جانب المقيّد ، وتكون النتيجة لزوم الإتيان بالقيد ، ولكن الظهور الثاني أقوى من الظهور الأوّل فيتصرّف فيه ببركة الظهور الثاني.

يلاحظ عليه : بأنّه لم يظهر وجه الأقوائيّة.

وذلك لأنّ هنا أمرين :


١. الظهور التعييني في جانب المقيّد ولزوم الإتيان بالقيد.

٢. تساوي الأفراد في مقام الامتثال لإطلاق الدليل.

وكلا الأمرين من نتائج الإطلاق فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر بعد كون الجميع من نتائج شيء واحد.

إذا علمت ذلك : فاعلم أنّه يجب أن تحلّ العقدة من طريق آخر ، وهو أنّه إذا كانا مثبتين ، ومجرّدين عن ذكر السبب ، تكون هنا صورتان :

الأُولى : إذا أحرزت وحدة الحكم وأنّ هنا وجوباً واحداً لا وجوبين.

الثانية : إذا لم تحرز وحدة الحكم واحتملنا تعدّده وتعدّد الامتثال.

أمّا الأُولى فما ذكر من أنّ هنا وجهين للجمع بين الدليلين ، وإن كان صحيحاً لكن الجمع الأوّل ( حمل المطلق على المقيّد ) أظهر من الجمع الثاني ، أي حمل المقيد على أفضل الأفراد ، وذلك لجريان السيرة المستمرّة في مجالس التقنين على فصل المخصّص عن العام والمقيّد عن المطلق ، والداعي إليه في التقنين البشري هو عدم إحاطة علم أصحاب التشريع بالمفاسد والمصالح فيشرّعون حكماً مطلقاً ثمّ يعثرون على أنّ المصلحة في المقيد.

وأمّا التشريع السماوي فالوجه فيه هو وجود المصلحة الملزمة في تدريجية التشريع يقول سبحانه : ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عليهِ القُرآنُ جُملةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرتِيلاً ). (١)

فهذه السيرة كالقرينة على تعيّن الجمع الأوّل.

__________________

١. الفرقان : ٣٢.


وأمّا الثانية : أعني إذا لم تحرز وحدة التكليف ، والامتثال ، فضلاً عمّا إذا أحرز تعدّدهما كما إذا قال : اسقني بالماء ، ثمّ قال بعد زمن : جئ بالماء واحتملنا أنّ هناك غرضين : أحدهما رفع العطش والثاني غسل الثياب ، غير أنّ الأوّل يشترط فيه كون الماء خالياً عن الأملاح ، قابلاً للشرب بخلاف الثاني فإنّه يكفي فيه كون الماء مطلقاً ، سواء أكان قـابلاً للشرب أم لا ، فالجمع بين الـدليلين يتحقـّق بأُمور ثلاثة :

١. حمل المطلق على المقيّد ولزوم امتثالهما بعتق الرقبة المؤمنة.

٢. حمل المقيّد على أفضل الأفراد والتخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة والكافرة وإن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

٣. التحفّظ على الوجوبين والقول بأنّ هنا تكليفين إلزاميين ، ومقتضى ذلك لزوم القيام بعتق رقبتين يكفي في أحدهما عتق مطلق الرقبة مؤمنة كانت أم كافرة بخلاف الثاني ولا موجب للعدول عن الثالث إلى الوجهين الأوّلين ، وبما أنّ الشكّ في المقام ـ بعد عتق المؤمنة ـ يرجع إلى الشكّ في سقوط التكليف المعلوم ، وحصول الامتثال بالعمل بالمقيّد وحده ، يتعيّن العمل بالوجه الثالث.

فإن قلت : إنّ المقام أشبه بالأقل والأكثر الاستقلاليّين ، حيث إنّ الأمر يدور بين التكليف الواحد والأكثر ، والأوّل متيقّن والزائد مشكوك ، كدوران الدين بين الأقل والأكثر فالحكم في الجميع واحد.

قلت : الفرق بين المقامين واضح ، فإنّ الوجوب في مورد الدين واحد فهو مخاطب بقوله : « أدّ دينك » ، نعم المتعلّق ( الدين ) مردّد بين الأقل والأكثر ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الخطاب متعدّد قطعاً ، حيث قال : « أعتق رقبة » ثمّ قال : « أعتق رقبة مؤمنة » ، فإذا أعتق رقبة مؤمنة ، يشك حصول الامتثال بعتق الرقبة


المؤمنة ، وذلك إذ لو كان الغرض واحداً لحصل الامتثال ولو كان الغرض متعدداً لما حصل ، فيكون مرجع الشكّ إلى سقوط التكليف ، وحصول الامتثال والمرجع في الجميع هو الاشتغال.

فاتّضح من ذلك أنّ مفتاح الحلّ هو إحراز وحدة الحكم وعدمه ، ففي الصورة الأُولى يحمل المطلق على المقيّد ، وفي الصورة الثانية يعمل بالاحتياط ، فيكون أحد التكليفين مقيّداً بالإيمان والتكليف الثاني غير مقيّد به ويحصل الغرض بعتق أيّ رقبة من المؤمنة والكافرة.

تقريب للمحقّق النائيني لإحراز وحدة الحكم

لمّا وقف المحقّق النائيني على أنّ مفتاح الحل في المقام هو إحراز وحدة الحكم صار بصدد تقريبه في موارد الشكّ بالبيان التالي ، وحاصله : امتناع تكليفين مستقلّين ناشئين من ملاكين إلزاميّين ، وذلك لأنّ لهذا الغرض صورتين :

١. أن يكون الإتيان بالمقيّد وافياً بكلا الملاكين.

٢. أن يكون وافياً بخصوص أحدهما دون الآخر ، أي وافياً بملاك القيد وحده أو المطلق كذلك.

لا سبيل إلى الثاني ، لأنّه خلاف ظاهر الأمر المتعلّق بصـرف الوجـود ( الأمر بالمطلق ) المنطبق على المقيّد أيضاً. فلا وجه لوفائه بملاك المقيّد دون المطلق.

ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّه يستلزم كون الأمر المتعلّق بكلّ من المطلق والمقيّد تخييرياً من باب التخيير بين الأقل والأكثر بأن يُخيّر المكلّف بين الإتيان بالمقيّد أوّلاً فيكون مجزياً عن كلا التكليفين ، وبين الإتيان بغير المقيّد من أفراد


المطلق أوّلاً ، ثمّ الإتيان بالمقيّد بعده ثانياً ، إذ بعد فرض لزوم الإتيان بالمقيّد بعينه ووفائه بكلا الملاكين لا يبقى موجب للأمر بالمطلق إلا بعد تقييده بالإتيان به أوّلاً في غير ضمن المقيّد مع الترخيص في تركه بالإتيان بالمقيّد ابتداء ، ومن الواضح أنّ هذا تكلّف زائد لا سبيل إلى الالتزام به مع عدم القرينة عليه. (١)

يلاحظ عليه : بأنّا نختار الشق الثاني ولكن لا بمعنى وفاقه بملاك المقيّد دون ملاك المطلق حتّى يقال بأنّه غير معقول ، لأنّ المطلق موجود في ضمن المقيّد فكيف يكون وافياً بملاك المقيد دون المطلق؟!

بل بمعنى أنّ الإتيان بالمقيّد يلازم حصول أحد الغرضين لا بعينه ، دون الغرضين معاً ، مثلاً لو قال : اسقني ، ثمّ قال : جئني بالماء ، فأحضر الماء القابل للشرب ، فقد حصل أحد الغرضين وهو التمكن من الشرب والغسل ، ولكنّه لا يفي إلا بأحدهما إمّا الشرب أو الغسل ويبقى الغرض الآخر بحاله ، ولا يتحقق إلا بإحضار ماء ثان غير مشروط بكونه قابلاً للشرب ، وإن أحضره يكون أيضاً وافياً به. واحتمال أن يكون المورد من هذا القبيل كاف في الحكم بالاشتغال ولزوم عتق رقبتين.

أضف إلى ذلك : أنّ إثبات وحدة التكليف بهذه الاعتبارات العقلية بعيد عن الأذهان الساذجة التي هي المرجع في تشخيص وحدة التكليف عن تعدّده.

فاتّضح بذلك أنّ الطريق لإحراز وحدة التكليف الملازم لوجود المنافاة بين الكلامين ، الباعث إلى التصرّف بأحد الوجهين من حمل المطلق على المقيّد أو حمل المقيّد على أفضل الأفراد هو دلالة القرائن على أنّ القضيتين ناظرتان إلى حكم واحد ، لا هذا الوجه البعيد عن الأذهان. والمفروض في المقام عدمها فلا وجه

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٥٣٥.


للتصرّف في أحدهما بأحد الوجهين ، بل المتعيّن هو الوجه الثالث من إبقائهما على كونهما تكليفين إلزاميين يطلب كلّواحد امتثالاً مستقلاً.

الصورة الثانية : إذا كانا نافيين

إذا كان الدليلان نافيين ، كما إذا قال : لا تشرب الخمر الذي هو بمنزلة « لا تشرب المسكر المأخوذ من العنب » ، ثمّ قال : لا تشرب المسكر ، فلا وجه لحمل المطلق على المقيّد ، لعدم التنافي بين الدليلين ، غاية الأمر يحمل النهي عن شرب الخمر على الحرمة المؤكّدة.

الصورة الثالثة : أن يكون أحدهما مثبتاً والآخر نافياً

ولها شقّان :

الأوّل : أن يكون المطلق نافياً والمقيّد مثبتاً ، كما إذا قال : لا تعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ، فالتنافي بين الدليلين واضح ، إذ لا يمكن تحريم عتق مطلق الرقبة مع إيجاب عتق الرقبة المؤمنة ، كما لا يمكن كراهة عتق مطلق الرقبة ورجحان عتق الرقبة المؤمنة ، فلا محيص في رفع التنافي من حمل المطلق على المقيّد من غير فـرق بين حمل الأمر على الإيجاب أو الاستحباب أو حمل النهي على التحريم أو الكراهة.

الثاني : ما إذا كان المطلق مثبتاً والنافي مقيّداً ، كما إذا قال : أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، فهنا شقوق :

أ. إذا أحرز أنّ النهي تحريمي.

ب. إذا أحرز أنّ النهي تنزيهيّ.


ج : إذا تردّد بين الاحتمالين.

أمّا الأوّل فالتنافي محرز ، إذ لا يصحّ إيجاب عتق مطلق الرقبة الذي يشمل الكافر مع تحريم عتق خصوص الرقبة الكافرة ، لأنّ الخاص الحرام قسم من العام الواجب ، فلا يرتفع التنافي إلا بحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا الثاني ، أعني : إذا كان النهي تنزيهياً ، كما إذا قال : صلّ ولا تصلّ في الحمّام ، فلا مجال للحمل ، إذ لا تنافي بين إيجاب الصلاة في مطلق الأمكنة والنهي عن الصلاة في الحمّـام إذا كان النهي إرشاداً إلى أقليّة الثواب ، كما هو معنى الكراهة في العبادات. نعم لو كان النهي بمعنى المرجوحية الذاتية يعود التنافي بين الأمر بالصلاة في كلّ مكان الذي هو بمعنى رجحان الصلاة في كلّ مكان والزجر عن الصلاة في الحمام بمعنى خصاصة الصلاة فيه.

وأمّا الثالث ، أعني : إذا لم يحرز أنّ النهي تحريمي أو تنزيهي كالنهي عن الصلاة في مواضع التهمة ، إذ على الأوّل لابدّ من الحمل وعلى الثاني لا وجه له ، والحقّ أنّ هنا ظهورين متعارضين :

الأوّل : ظهور الإطلاق في جواز الصلاة في تمام الأمكنة حتّـى مواضـع التهم.

الثاني : ظهور النهي عن الصلاة في موضع التهمة ، في التحريم ، فكلّ من الظهورين يصلح للتصرف في الآخر ، فإطلاق الدليل الأوّل يقتضي حمل النهي على الكراهة بمعنى أقلّية الثواب لا مرجوحية الفعل ، كما أنّ ظهور النهي في الحرمة يقتضي تقييد إطلاق المطلق ، وبما أنّ الرائج فصل المقيّد عن المطلق وهذا يقتضي رفع التنافي بهذا الطريق.

وينبغي التنبيه على أمرين :


الأوّل : حكم الأحكام الوضعية

لا فرق بين الأحكام التكليفية والوضعية في أنّ مدار الحمل هو وجود التنافي بين حكمي المطلق والمقيّد ، أي التنافي الذي هو لازم وحدة الحكم ، فلو كان هذا الشرط موجوداً في الأحكام الوضعية ، يحمل الوضعي المطلق على الوضعيّ المقيّد ، كما إذا قال : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه » ثمّ قال : « صلّ في جلد السنجاب ».

نعم لو انتفى التنافي يبقى الحكمان على حالهما ، كما إذا قال : لا تصلّ في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، ثمّ قال في دليل آخر : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه » ، إذ لا مانع من أن تكون الصلاة في مطلق ما لا يؤكل لحمه فاسدة ، وفي خصوص وبره أيضاً كذلك ، وإنّما خصّ الوبر لسبب خاص.

الثاني : في حكم المستحبّات

قد اشتهر على الألسن أنّ القيود في المستحبّات ليست مقوّمة للعمل فلا يجب حمل المطلق على المقيّد ، فلو قال : زر الإمام الطاهر سيد الشهداء 7 تحت السماء ، ثمّ قال في دليل آخر : زر الإمام الطاهر سيد الشهداء 7 ، فلا يحمل المطلق على المقيّد ، بل يحمل المقيّد على كونه أفضل الأفراد.

هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وإنّما الكلام في وجه هذا الحكم ، فقد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة :

١. « الغالب في باب المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبية » (١) ، فتكون تلك الغلبة قرينة على إرادة الأفضلية من القيد الوارد في

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٩٣.


المستحبّات ، وانّ العمل معه من أفضل الأفراد.

يلاحظ عليه : ماذا يراد من الغلبة؟ وهل المراد ، هو الغلبة في الوجود وأنّ القيود في المستحبّات حسب التتبّع قيود لمراتب الفضيلة وتأكّد الاستحباب ، فيكون ذلك دليلاً على حمل الأمر بالمقيّد على مورد الغلبة ، ومن المعلوم أنّ كثرة الوجود لا يوجب الانصراف؟

أو المراد كثرة استعمال المقيّد في المستحبّات في أفضل الأفراد لكن الكلام في إحراز هذه الكثرة بمعنى أنّ الفقيه تتبع موارد الاستعمالات فوقف على أنّ المتكلّم استعمل الأمر بالمقيّد في المستحبات في ذات المرتبة العليا؟ وأنّى لنا إثبات ذلك.

٢. إنّه مقتضى أدلّة التسامح في أدلّة المستحبات ، وقد روى صفوان عن أبي عبد اللّه 7 أنّه قال : « من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه 6 لم يقله ». (١)

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان القيد متصلاً بالمطلق فالحكم على إطلاقه لم يصل فلا يكون مورداً للرواية ، وإن كان القيد منفصلاً ، فالحكم على إطلاقه وإن وصل لكنّ أدلّة التسامح في السنن مختصّة بجبر السند لا جبر الدلالة ، والمشكلة في المقام ليست في السند ، وإنّما هي في الدلالة ، بشهادة قوله في رواية صفوان : « وإن كان رسول اللّه 6 لم يقله ».

٣. ما أفاده المحقّق النائيني بقوله : إنّه إذا لم يكن الأمر إلزامياً فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد منهما ، والوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحكم المتعلّق بالمقيد غير إلزامي جازت مخالفته ، فلا تكون منافاة حينئذ بينه وبين

__________________

١. وسائل الشيعة : ١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث ١.


إطلاق متعلّق الحكم الآخر ، المستلزم لجواز تطبيقه على كلّ فرد أراد المكلّف تطبيقه عليه في الخارج ، ومن الواضح أنّه مع عدم المنافاة بينهما لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد ، ضرورة أنّ المنافاة إنّما ترتفع بعدم الإلزام وبالترخيص في ترك امتثال الحكم المتعلّق به فلا يكون هناك مانع من التمسّك بإطلاق متعلّق الحكم الآخر ، سواء كان إلزامياً أم كان غير إلزامي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ مجرّد كون الأمر بالمقيد غير إلزامي لا يكون سبباً للأخذ بالمطلق وإلغاء القيد بحجّة أنّ العمل بالمقيّد غير واجب ، بل الحقّ هو التفصيل بين كون القيد إرشاداً إلى الشرطيّة أو الجزئية أو المانعيّة وغيره ، ففي الصورة الأُولى لا محيص عن حمل المطلق على المقيّد إذ في هذه الصورة يكون القيد مقوّماً للعبادة.

ولأجل ذلك لا تصحّ صلاة الليل بلا طهور ولا قبلة ، وما ذلك إلا لأنّ أصل الصلاة وإن كان غير واجب لكن حقيقة الصلاة الليلية تنتفي بانتفاء أحدهما.

ثمّ إذا تردّد القيد بين كونه إرشاداً إلى الشرطية أو الجزئية أو المانعيّة أو كونه ناظراً لبيان الدرجة العليا من المستحب ، فيتوقّف عن العمل فلا يصحّ الاكتفاء بالمطلق بإلغاء القيد.

تمّ الكلام في القسم الأوّل ، أعني : ما إذا لم يذكر السبب في كلّ من المطلق والمقيّد ولنشرع لبيان أحكام القسم الثاني.

القسم الثاني : ما إذا كان السبب مذكوراً

إذا كان السبب مذكوراً فله صور :

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٥٣٩.


الأُولى : أن يكون السبب في أحدهما غيره في الآخر نوعاً ، كما إذا قال : إذا أفطرت أعتق رقبة ، ثمّ قال : إذا ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة ، فلا وجه للحمل ، لعدم التنافي بين الحكمين ، وبالتالي عدم وحدة الحكم.

الثانية : إذا كان السبب مذكوراً فيهما ، ويكونان متّحدين نوعاً ، كما إذا قال : إذا أفطرت أعتق رقبة ، وإذا أفطرت أعتق رقبة مؤمنة ، فالجمع بين الدليلين وإن كان يمكن بحمل المقيّد على أفضل الأفراد ، لكن الرائج في طرف التشريع هو حمل المقيّد على المطلق.

الثالثة : إذا كان السبب مذكوراً في واحد منهما

إذا كان السبب مذكوراً في أحدهما ، كما إذا قال : أعتق رقبة ، وقال : إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة ، فلو كان السبب مذكوراً في كليهما نستكشف من وحدة السبب وحدة الحكم ، وأمّا إذا كان السبب مذكوراً في واحد دون الآخر ، فبما أنّ وحدة الحكم ليست بمحرزة فنحتمل أن يكون هنا غرضان تامّان ، أحدهما يتحقّق بعتق مطلق الرقبة ، والآخر بعتق الرقبة المؤمنة ، فلا وجه للجمع كما لا وجه للاقتصار على خصوص عتق الرقبة المؤمنة ، لما عرفت من أنّ مرجع الشكّ في حصول الامتثال وسقوط التكليف.


الفصل الخامس

في المجمل والمبيّن

و

المحكم والمتشابه

قد أردف الأُصوليّون البحثَ في المطلق والمقيّد بالبحث في المجمل والمبيّن ، وكان الأنسبُ عطفَ المحكم والمتشابه عليهما ليبحث عن الجميع في مقام واحد ، ولعلّ تركهم البحث عن الأخيرين لأجل أنّ آيات الأحكام كلّها محكمة وليس فيها آية متشابهة بخلاف المجمل والمبيّن ، وعلى كلّ تقدير فنحن نطرح الجميع لما بينها من الصلة ، ويقع الكلام في أُمور :

١. المجمل والمبيّن لغة واصطلاحاً

الإجمال في اللغة هو الجمع بلا تفصيل ، يقال أجملتُ الشيء إجمالاً : جمعتَه من غير تفصيل. (١)

قال سبحانه : ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدَة ) (٢) ،

__________________

١. الفيومي : المصباح المنير ، مادة « جمل ».

٢. الفرقان : ٣٢.


أي دفعة واحدة بلا فاصل زماني كنزول التوراة على الكليم في الميقات. ويقابله المبيّن فمادته تحكي عن الوضوح. يقال : بأن الأمر يبين ، فهو بيّن ، وأبان واستبان : كلّها للوضوح والانكشاف. (١)

وأمّا اصطلاحاً ، فكلّ كلام يكون قالباً للمعنى فهو مبيّن ، وخلافه مجمل ، فكأنّ المبيّن فيه تفصيل ، بخلاف المجمل فيه جمع.

٢. الإجمال والبيان وصفان نفسيان

إنّ الإجمال والبيان وصفان نفسيّان للكلام ، يجمعهما كون اللفظ قالباً للمعنى وعدمه ، وهذا شيء يوصف به الكلام بما هو هو من دون إضافة إلى شخص.

لكن الظاهر من المحقّق الخراساني « أنّهما وصفان إضافيّان ربما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع ، أو لتصادم ظهوره بما حَفَّ به لديه ، ومبيّناً لدى الآخر لمعرفته وعدم التصادم بنظره ».

يلاحظ عليه : إذا كان الملاك كونَ اللفظ على قَدَر المعنى وخلافه ، يكون الإجمال والبيان وصفان نفسيّان للكلام سواء أكان هناك مخاطب أو لا ، أو كان المخاطب عالماً باللغة أو لا.

أضف إلى ذلك انّه لو كان ملاك الإجمال جهل المخاطب باللغة ، يلزم أن يكون القرآن كلّه مجملاً عند من لا يعرف لغته ، ومبيّناً عند من يعرف ، ومن المقطوع عدم إرادة هذا منهما.

نعم يمكن وصف الإجمال والبيان بالنسبيّة لكن لا بهذا المعنى بل بمعنى آخر هو أن يكون الكلام مبيّناً من جهة ومجملاً من جهة أُخرى ، فقوله سبحانه :

__________________

١. المصباح المنير ، مادة بين.


( والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (١) مبين من حيث الفعل ( القطع ) ، مجمل من حيث المتعلّق ، فإنّ اليد يطلق على أُصول الأصابع والزند والمرفق والمنكب.

٣. ما هو منشأ الإجمال؟

إنّ منشأ الإجمال غالباً أحد الأمرين التاليين :

أ. إجمال المفردات.

ب. إجمال الهيئة التركيبية.

فالأوّل كاليد في آية السرقة كما مرّت ، وآية التيمم ، أعني قوله : ( فَامْسَحُوا بِوُجوهِكُمْ وَأَيديكُمْ مِنْه ). (٢)

وأمّا الثاني كقوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » أو « لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » لتردّد الهيئة بين نفي الحقيقة أو نفي الصحة أو نفي الكمال.

٤. ذكر نماذج من المجملات

أ. قال سبحانه : ( وَإِنْ طَلَّقْتُموهنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرْضتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاح ). (٣)

فإنّ الإجمال في قوله : ( الَّذي بيده عقدة النكاح ) حيث إنّه مردّد بين كون المراد منه وليّ الزوجة أو نفس الزوج ، فلو أُريد الأوّل فمعنى ذلك أنّ الزوجة المطلّقة ووليّها يعفوان نصفَ المهر الواجب بالطلاق قبل المسّ ، فيُفرضُ الكلام فيما إذا لم يدفع المهر لا كلاً ولا جزءاً.

__________________

١. المائدة : ٣٨.

٢. المائدة : ٦.

٣. البقرة : ٢٣٧.


ولو أُريد الثاني يكون المعنى أنّ الزوج لا يطلب النصف الباقي ، فيفرض الكلام فيما إذا دفع جميع المهر وطلّق قبل المس فيعفو عن النصف الباقي ولا يأخذ شيئاً.

ب : ( حُرِّمت عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِير ). (١)

ج : ( حُرِّمتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخواتُكُمْ ). (٢)

د. ( إِنّما الخَمْرُ وَالْمَيْسِر وَالأَنْصاب وَالأَزْلام رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطان فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ). (٣)

وإنّما عدّت هذه الآيات من المجمل لأجل أنّ التحريم فيها أسند إلى الأعيان مع أنّه من عوارض فعل المكلّف لا المتعلّق ولذلك طرأ الإجمال عليها.

لكن الأظهر بمناسبة مقتضى الحكم والموضوع هو أنّ المحرّم في هذه الآيات هو الأثر البارز المقصود من الشيء ، وهو الأكل في المأكولات ، والشرب في المشروبات ، واللعب في آلات القمار ، والعبادة في مظاهر الأُلوهية ، والنكاح في النساء ، وعند ذلك يرتفع الإجمال.

نعم يبقى الكلام في قوله سبحانه : ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صِيْدُ البَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللّه الَّذي إِليهِ تُحشَرُون ). (٤)

فهل المراد من الصيد هو فعل المكلّف فيكون هو حراماً لا الأكل من المصيد أو المراد نفس المصيد فيكون أكله أيضاً حراماً وإن صاده المحلّ فالمحرِم لا يأكل صيد البرّ مطلقاً. صاده المحرم أو المحلّ. (٥)

__________________

١. المائدة : ٣.

٢. النساء : ٢٣.

٣. المائدة : ٩٠.

٤. المائدة : ٩٦.

٥. مجمع البيان : ٢ / ٢٤٦.


المحكم والمتشابه

الأصل في تقسيم الآيات إلى قسمين : محكم ومتشابه هو قوله سبحانه في سورة آل عمران : ( هُوَ الَّذي أُنزلَ عَلَيْكَ الكتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا وَما يَذَّكّرُ إِلاّ أُولوا الأَلْباب ). (١)

واستقصاء الكلام في الآية يقتضي البحث في أُمور :

١.ما هو المراد من المحكم والمتشابه.

٢. ما هو المراد من التأويل؟

٣. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة؟

٤. هل الراسخون في العلم يعلمون التأويل أو لا؟

وإليك الكلام في الجميع واحداً بعد الآخر :

١. المحكم والمتشابه لغة وقرآناً

١. المحكم من الحُكْم وهو بمعنى المنع ومنها الحِكْمة لأنّها تمنع صاحبها من فضول الكلام ورذائل الأخلاق ، ويطلق على اللجام « الحكيمة » لأنّها تمنع

__________________

١. آل عمران : ٧.


الدابّة من الجموح والحركة ، ولو وصف البناء أو المصنوع بالاستحكام لأنّه يمنع عن تسرّب الخراب إليه.

٢. المتشابه هو الشيء غير الواضح يشتبه بشيء آخر يقول سبحانه : ( كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ). (١)

والمعنى إنّ أهل الجنّة كلّما رزقوا من رزق ، يقولون : ( هذا الَّذي رُزقنا مِنْ قَبل ) (٢) ، ولكنّه ليس منه وإنّما أوقعهم في هذا ، التشابه بين الثمرتين في اللون والحجم مع الاختلاف في الطعم والجودة.

يقول سبحانه : ( إِنّ الْبَقَر تَشابَهَ عَلَيْنا ). (٣) أي لم يتميز ما هو الواجب لغاية الذبح ، عن غيره.

ويقال للشبهة شبهة لأنّها تُشبه الحقّ.

إنّه سبحانه يصف الأعناب والزيتون والرمان بالمشتبه وغير المتشابه ، ويقول :

( وَجَنّات مِنْ أَعْناب وَالزَّيْتُون وَالرُّمّان مُشْتَبِهاً وَغَيْر مُتَشابِه انظُروا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثمَرَ وَيَنْعهِ ). (٤)

وفي آية أُخرى يصف خصوص الزيتون والرّمّان متشابهاً ويقول :

( وَالزَّيتونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابهاً وَغَيْرَ مُتَشابِه ). (٥)

فالمراد إمّا تشابه أحدهما بالآخر من حيث الظاهر واختلافهما من حيث الطعم أو تشابه أصناف كلّ نوع بصنف آخر والاختلاف في أمر آخر.

__________________

١ و ٢. البقرة : ٢٥.

٣. البقرة : ٧٠.

٤. الأنعام : ٩٩.

٥. الأنعام : ١٤١.


وينتزع من المجموع أنّ التشابه هو كون الشيء على نحو يشتبه لغيره ولا يتميز عنه بسهولة.

إلى هنا تمّ الكلام في معنى المحكم والمتشابه لغة ، وأمّا قرآناً فالميزان في وصف الآية بالإحكام والتشابه هو الدلالة ، فإذا كان الكلام واضح الدلالة ، فهو في الإتقان والرصانة بمكان تمنع عن الاحتمال الآخر ، وهذا بخلاف المتشابه ، فبما أنّ دلالتها ليست على حدّ تمنع عن تشابه المقصود بغيره ، ففي بادئ النظر يرد إلى الذهن وجوه واحتمالات يحتملها لفظ الآية في بادئ النظر. أحدها هو المقصود والباقي ليس بمقصود.

فإن قلت : إنّه سبحانه قسّم في الآية السابقة ، الآيات القرآنية إلى قسم محكم وقسم متشابه مع أنّ بعض الآيات يصف الجميع بالإحكام كما أنّ البعض الآخر يصف الجميع بالمتشابه.

أمّا الأوّل فهو قوله سبحانه : ( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيم خَبِير ). (١)

وأمّا الثاني فهو قوله سبحانه : ( اللّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعر مِنْهُ جُلود الَّذينَ يَخْشون ربّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ). (٢)

قلت : إنّ تقسيم الآيات إلى محكم ومتشابه بملاك ووصف جميع الآيات بالاستحكام بملاك آخر.

فالملاك في تقسيم الآية إلى المحكم والمتشابه دلالة الآية ، فالآية إذا كانت

__________________

١. هود : ١.

٢. الزمر : ٢٣.


محكمة الدلالة ومبيّن المراد يوصف بالمحكم ، وإذا كانت غير واضحة الدلالة ومتزلزلها توصف بالمتشابه.

وأمّا وصف جميع الآيات بالإحكام فبملاك آخر إمّا المضمون وهو أنّ مضامين القرآن مضامين متقنة لا يتطرق إليه الباطل ، فلا يبلى ولا يخلق بل يكون طريّاً في كلّ عصر أو النظم حيث نظمت نظماً رصيناً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف. (١)

ويقول العلاّمة الطباطبائي : إنّ الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها وتشتّت مقاصدها وأغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط ، وغرض فارد أصلي لا تكثّر فيه ولا تشتّت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصداً من المقاصد ولا ترمي إلى هدف إلا والغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه والحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتّت آياته وتفرّق أبعاضه إلا غرض واحد متوحّد إذا فصّل كان في مورد أصلاً دينياً وفي آخر أمراً خلقياً وفي ثالث حكماً شرعياً ، وهكذا كلّما تنزّل من الأُصول إلى فروعها ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ ، ولا يخطي غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كلّ واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال ، وهي بتحليلها وإرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد. (٢)

هذا كلّه حول الأحكام ، وأمّا التشابه فقد علمت أنّ التقسيم بملاك

__________________

١. الكشاف : ٢ / ٨٩.

٢. الميزان : ١١ / ١٣٦ ـ ١٣٧.


الدلالة ، وأمّا وصف الكلّ بالمتشابه ، فالمراد التشابه والتماثل من حيث المضمون حيث إنّ مضمون بعضه يشابه الآخر ويؤكّده ، ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه يقول : ( مَثاني ) أي متكرّراً يشبه بعضه بعضاً ، فكم تكرّرت قصة آدم وموسى في القرآن الكريم ، وكم تكررت الآيات المندّدة بالشرك وعبادة الأصنام ، وغير ذلك.

ما هو المراد من الآية المتشابهة؟

اختلفت أنظار المفسّرين في مصاديق المتشابه في الآية الكريمة إلى أقوال ربما يناهض ستة عشر قولاً (١) ، ونحن نذكر منها ما هو المهمّ :

١. المتشابه هو الخارج عن اطار العقل والحسّ

المتشابه عبارة عن الموضوعات الواردة في القرآن الكريم الخارجة عن اطار الحس والعقل والّتي لا يقدر الإنسان على درك حقيقته وكنهه كذاته سبحانه وحقيقة صفاته والعوالم الغيبية كالملك والجنّ والروح والبرزخ والميزان وغير ذلك من الأُمور التي لا يمكن للإنسان الدنيوي درك حقائقها ، بل يُطلب منه الإيمان بها ، لقوله سبحانه : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب ). (٢)

يلاحظ عليه : أنّ النظرية لا تنسجم مع الخصوصيات المذكورة للمتشابه في الآية الكريمة وذلك :

أوّلاً : إنّ المتشابه عبارة عن شيء يشبه الشيء الآخر ، ويصعب للإنسان تمييزهما كالتوأمين والثمار المتشابهة ، وهذا غير كون الشيء مجهول الحقيقة مبهم الماهية لا يدخل في إطار أدوات المعرفة كما مثّل ، فما ذكر من العوالم الغيبيّة

____________

١. مفاتيح الغيب : ٢ / ٤١٧ ؛ المنار : ٣ / ١٦٣ ـ ١٦٥ ؛ الميزان : ٣ / ٣٢ ـ ٣٩.

٢. تفسير المنار : ٢ / ١٦٧ ؛ ولاحظ الإتقان : ٣ / ١ ، وهذه النظرية خيرة ابن تيمية ومن تبعه.


مبهمات لا متشابهات ، مجهولات لا متماثلات.

وثانياً : إنّ وصف المحكمات بكونها أُمّ الكتاب لبيان أنّ رفع التشابه من الآيات المتشابهة يتحقّق بإرجاعها إلى المحكمات ، وأمّا العوالم الغيبية فهي حقائق مغمورة لا توضح بالرجوع إلى أيّ آية من الآيات.

وثالثاً : إنّ الآية تصرّح بأنّ أصحاب الأهواء يتبعون الآيات المتشابهة مكان الاتباع للمحكمات ، وهذا فرع أن يكون للآية المتشابهة ظهور ما ، وأمّا العوالم الغيبية فليس هناك أيّ ظهور لها حتّى يتّبع.

ورابعاً : إنّ المتشابه ، آية متشابهة من أوّلها إلى آخرها يشتبه المراد منها بغيره ، وأمّا العوالم الغيبية فهي مفردات لا آيات ، فقوله سبحانه : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْس إِلاّ لِيَعْبُدُون ) (١) آية محكمة واضحة الدلالة ، مبيّنة المقصد ، وإجمال حقيقة الجن لا يوجد في الآية أي تشابه.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار هذا الرأي هو أنّ ابن تيميّة ممّن يحمل الصفات الخبرية كالاستواء على العرش ، والبناء بالأيدي وغيرهما على معانيها اللغويّة فهي عندها من المحكمات وإن استلزمت التشبيه والتجسيم والجهة للّه سبحانه مع أنّها عند المشهور ، متشابهات تُفسر في ضوء المحكمات ولأجل ذلك اضطرّ إلى تفسير المتشابه بالعوالم الغيبيّة الّتي هي مجهولات مبهمات لا متشابهات.

وخامساً : انّ الآية تحكي عن أنّ أصحاب الأهواء يثيرون الفتنة بالآيات المتشابهة ، ولم تكن العوالم الغيبية كالروح والجنّ والملك سبباً لإثارة الفتنة ، بخلاف ما نذكره من الصفات الخبرية ، فإنّها لم تزل وما زالت سبباً لإثارة الفتنة وقد فرّقت كلمة الأُمّة وجعلتها طائفتين أو طوائف.

____________

١. الذاريات : ٥٦.


إنّك ترى أنّ الوهّابية التابعة لمنهج ابن تيمية لم تزل تنشر رسائل حول الصفات الخبرية وتصرّ على أنّها محمولة على اللّه بنفس معانيها اللغوية ، غاية الأمر يردفها أسيادهم بقولهم « بلا كيف » ويقولون له سبحانه أيد لا كأيدينا وعرش لا كعرشنا ، إلى غير ذلك.

٢. المتشابه والحروف المتقطّعة

هذه هي النظرية الثانية ، ذكرها الطبري في ضمن رواية حاصلها أنّ ياسر بن أخطب مرّ برسول اللّه 6 وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : ( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) فاخبر به أخاه « حُيَيّ بن أخطب » فتمشى هو مع رجال من اليهود إلى رسول اللّه 6 فقالوا يا محمّد ألم تذكر لنا أنّك تتلو فيما أنزل عليك : ( الم * ذلِكَ الْكِتابُ ) فقال نعم فقال : حيي : الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون وهذا مدّة نبوّتك ثمّ أقبل على رسول اللّه 6 فقال : يا محمّد هل مع هذا غيره؟ فقال 6 : نعم. قال : ماذا؟ قال 6 : « المص » فقال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. ولم يزل يسأل النبي 6 وهو يقرأ الحروف المقطّعة ويحاسب على حساب الحروف الهجائية فلمّـا وصلوا إلى سبعمائة سنة وأربع وثلاثون فقالوا لقد تشابه علينا أمره فنزل : ( هُوَ الّذي أَنْزَلَ الْكِتاب ) الخ. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث ضعيف سنداً لأنّه مرويّ عن سلمة بن فضل الذي جرحه علماء الرجال ، حيث قال أبو حاتم الرازي في كتابه الجرح والتعديل : « في حديثه إنكار ، ليس بقويّ ، لا يمكن أن أطلق لساني فيه بأكثر من هذا ». (٢)

__________________

١. الطبري : التفسير : ١ / ٧١ وج ٣ / ١١٨.

٢. الجرح والتعديل : ١٦٩ ، ط الهند.


كما انّه مطرود دلالة ، وذلك لأنّ ظاهر الرواية أنّ حُييّ اليهودي كان يتلاعب بالحروف المقطعة ويحدّد مدّة نبوّة النبي وهو 6 ساكت في مقابل تلاعبه بها ، وهذا لا يناسب شأن النبي الأعظم في حقّ اللاعبين بآيات اللّه.

أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الآية أنّ أصحاب الفتنة يؤمنون بمجموع القرآن ولكن يتبعون خصوص المتشابه ، وهذا لا ينطبق على شأن النزول ، فإنّ اليهود كانوا يرفضون القرآن كله.

بل الظاهر من الرواية أنّهم لم يتبعوا المتشابه ، بل قاموا قائلين : لقد تشابه علينا أمره.

٣. النظرية المعروفة

إنّ الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين : محكم واضح الدلالة ، مبيّن المقاصد ، ومتشابه يشتبه مدلوله الواقعي بغير الواقعي ، ويرتفع التشابه إذا لوحظت مع سائر الآيات.

وإنّما يعرض التشابه للآية لا لقصور في اللفظ أو في الهيئة التركيبية ، بل لأجل أنّ المعارف الإلهيّة إذا نزلت إلى سطوح الأفهام العادية ، وأُريد بيانها بالألفاظ الدارجة التي وضعت لبيان المعاني الحسّية الملموسة ، عرض لها التشابه في المقاصد ، فإنّ الألفاظ الدارجة إنّما وضعت للاستعانة بها في إلقاء المقاصد العرفية الحسّيّة ، فإلقاء المعارف العقلية العليا بهذه الوسيلة ، لا تنفك عن عروض التشابه لها.

وهناك سبب آخر للتشابه وهو استخدام المجاز والاستعارة والكناية في حلبة البلاغة فتصير الآية متشابهة المراد ، لا بحسب المعنى المستعمل فيه ، بل


حسب المعنى الجدّي فيؤخذ بالمستعمل فيه ، ويترك المقصد الجدّي الذي سيق لأجله الكلام لابتغاء الفتنة ، كما قال سبحانه.

وها نحن نذكر فهرساً إجمالياً من الآيات الظاهرة في التجسيم والتشبيه والجبر والحركة والجهة للّه سبحانه ، ومن المعلوم أنّ ظواهر هذه الآيات المتزلزلة الدلالة ، لا تنسجم مع المحكمات ، وما ذلك إلا لأنّ ظهورها ظهور بدوي لا استقراري ، إفرادي لا جملي ، تصوّري لا تصديقي ، ولا قيمة لهذه الظهورات ما لم تنتهِ إلى الظهور الاستقراري ، الجملي ، التصديقي.

١. العين ، كقوله سبحانه : ( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ). (١)

٢. اليمين ، كقوله سبحانه : ( وَالسّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِه ). (٢)

٣. الاستواء ، كقوله سبحانه : ( الرَّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ). (٣)

٤. النفس ، كقوله سبحانه : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ ). (٤)

٥. الوجه ، كقوله سبحانه : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه ). (٥)

٦. الساق ، كقوله سبحانه : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق ). (٦)

٧. الجنب ، كقوله سبحانه : ( عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ). (٧)

٨. القرب ، كقوله سبحانه : ( فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوةَ الدّاعِ ). (٨)

٩. المجيء ، كقوله سبحانه : ( وَجاءَ رَبُّكَ ). (٩)

__________________

١. طه : ٣٩.

٢. الزمر : ٦٧.

٣. طه : ٥.

٤. المائدة : ١١٦.

٥. البقرة : ١١٥.

٦. القلم : ٤٢.

٧. الزمر : ٥٦.

٨. البقرة : ١٨٦.

٩. الفجر : ٢٢.


١٠. الإتيان ، كما قال سبحانه : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ). (١)

١١. الغضب ، كما في قوله : ( وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم ). (٢)

١٢. الرضا ، كما في قوله : ( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُم ). (٣)

ونظير ذلك الآيات الدالّة على الجبر نحو قوله : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاء وَيَهْدي مَنْ يَشاء ).

نعم إنّ كلتا الطائفتين يؤوّلون المتشابهات ، فأصحاب الزيغ يأخذون بالظاهر المتزلزل ذريعة لنشر البدع والضلالات ، وأمّا الآخرون فيؤوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هنّ أُمّ الكتاب.

٢. ما هو المراد من التأويل؟

إلى هنا تعرفّنا على الآيات المتشابهة ، وحان حين البحث عن تأويلها ، سواء أكان من أصحاب الزيغ أو من غيرهم ، فنقول : إنّ التأويل في مصطلح العلماء صرف الظاهر المستقرّ عن ظاهره ، وهذا التفسير للتأويل مصطلح للعلماء ولا صلة له بالتأويل في القرآن الكريم ، وأمّا تأويل المتشابه ، فهو تحقيق ظهوره ، والسعي وراء مراده وإرجاع ظهوره البدوي ، إلى الظهور الاستقراريّ ، وإليك بيانه :

التأويل مأخوذ من « آل يؤول » بمعنى رجع ، قال الراغب الاصفهاني : التأويل من الأوْل ، أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه الموئِل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً. (٤)

____________

١. الأنعام : ١٥٨.

٢. الفتح : ٦.

٣. المائدة : ١١٩.

٤. المفردات ، مادّة أول.


وعلى ذلك فالتأويل عبارة عن إرجاع الفعل أو الكلام المبهمين من خلال القرائن الموجودة ، إلى واقعه. وقد استعمل في القرآن المجيد في موارد ثلاثة :

أ. تأويل الفعل

يصف القرآن الكريم ردّ المنازعات إلى اللّه والرسول بقوله : ( أَحسن تأويلاً ) ، ويقول : ( يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللّه وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيء فردُّوه إِلى اللّه وإِلى الرسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخر ذلِكَ خَيْر وَأَحسَن تَأْويلاً ). (١)

أي أحسن مآلاً ، لأنّ في الرجوع إلى اللّه والرسول إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل ، على خلاف الرجوع إلى الجبت والطاغوت.

ومن هذا القبيل وصف الكيل بالعدل والإنصاف بقوله : ( أَحسن تأويلاً ) يقول سبحانه : ( وَأَوفُوا الكَيْل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطاسِ الْمُسْتَقيم ذلِكَ خَيرٌ وَأَحسنُ تأويلاً ) فالمراد أحسن مآلاً لما يترتّب على إجراء العدل في عمليّة الوزن من المصالح والغايات الصحيحة.

فالتأويل في هذه الآيات بمعنى المآل والمرجع بما يترتب عليه من المصالح.

ب. تأويل النوم

قد شاع إضافة التأويل إلى الرؤيا في القرآن الكريم في غير واحد من الآيات نظير :

١. رؤية يوسف سجود أحد عشر كوكباً مع الشمس والقمر له.

__________________

١. النساء : ٥٩.


٢. رؤية أحد مصاحبيه في السجن أنّه يعصر خمراً.

٣. رؤية مصاحبه الآخر أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل منه الطير.

٤. رؤية الملك سبع بقرات سمان وسبع عجاف.

فالتأويل في هذه الموارد عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى حقيقتها ، فإنّ الإنسان في الرؤيا الصادقة يرى الواقع نفسه ولكن القوة المتخيّلة إلى حين الانتباه تتصرّف في ما رآه وتتغيّر كيفية الرؤيا وشكلها ، فالتأويل عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى أُصولها وجذورها التي كانت عليها.

ج. تأويل المتشابه

قد تعرّفت على أنّ التأويل ربما يوصف به الفعل وأُخرى به الرؤيا وثالثة الكلام ، وليس المراد منه في القرآن الكريم هو صرف الظاهر عن وضعه الأصلي ، وإن ذكره ابن منظور في لسانه ، (١) فقال المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.

فلو صحّ ما ذكره فإنّما هو مصطلح جديد لا صلة له بالقرآن الكريم فإنّ ظاهر القرآن المستقرّ يستحيل منه العدول إلى معنى آخر ، إذ معنى ذلك أنّ القرآن يشتمل على ما لا يوافق العقل والعلم ، فيُعدل عن الظاهر لرفع التناقض ، سبحان من لايناقض كلامُه حكمَ العقل الحصيف ، والعلم الصحيح ، بل الوحي والعقل والعلم يسيرون جنباً إلى جنب ، وللتأويل في القرآن عند ما يقع وصفاً للكلام معنى آخر وهو الذي نذكره :

التأويل عبارة عن إرجاع الكلام الذي له ظهور بدويّ غير مستقرّ ، إلى

__________________

١. لسان العرب ، ج ١١ ، مادّة أول.


الظهور النهائي الاستقراري بالإمعان في القرائن المكتنفة بالآية.

وها نحن نذكر نماذج من هذا التأويل الذي هو بمعنى تحقيق ظهور الآية وإنهاء الظهور البدوي إلى الظهور النهائي.

١. إنّه سبحانه يحيط بالظالمين في الدنيا والآخرة إحاطة قيّوميّة ، فيحيط بالإنسان بشراشر وجوده وخصوصياته ، يقول سبحانه : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُم ). (١)

ويقول سبحانه : ( ما مِنْ نَجْوى ثَلاثة إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمسة إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثر إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنما كانُوا ثُمَّ يُنبئهُمْ بِما عَمِلُوا يَوم القِيامة ). (٢)

فهاتان الآيتان من الآيات المحكمة تبيّن لنا إحاطة وجوده سبحانه بعامة الممكنات إحاطة قيّوميّة.

ولكنّه سبحانه وتعالى يبيّن تلك الإحاطة القيّومية في مورد الظالم بتشبيه خاص بغية تقريب المراد ويقول : ( إِنّ رَبّك لَبِالْمِرصاد ). (٣)

وما ذلك إلا لأجل تشبيه الإحاطة القيومية بالأمر الحسّي وعند ذلك يعرض التشابه ، وما ذلك إلا لأنّ السلطة الحقيقية عند الناس هي سلطة الصياد بصيده إذا جلس في المرصاد وأخفى نفسه عنه وهو يراه ولا يراه هو ، فالآية لأجل تقريب سلطته الإحاطية إلى الأذهان يستخدم كلمة المرصاد ، وعندئذ يعرض التشابه للآية ، لكن أين سلطته سبحانه على الناس ، من سلطة الصياد على الصيد.

وعلى ضوء ذلك فالآية متشابهة من حيث الظهور البدوي ، ولكن بالإمعان

__________________

١. الحديد : ٤.

٢. المجادلة : ٧.

٣. الفجر : ١٤.


في نفس الآية ومقارنتها بالآيات الأُخرى يتبيّن أنّ الغرض تشبيه الإحاطة العقلية بالإحاطة الحسّية تقريباً للأذهان ومعاذ اللّه أن تكون إحاطته بالإنسان كإحاطة الصيّاد بصيد.

٢. إنّه سبحانه يريد أن يبيّن عظمته يوم القيامة ، فبيّنها بقوله : ( كَلاّ إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّا * وَجِيئَ يَوْمَئِذ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذ يَتَذَّكَرُ الإِنْسانُ وَأَنّا لَهُ الذِّكْرى ). (١)

وهو بظاهره يفيد ، نسبة المجيء إليه سبحانه وبالتالي جسميته والذي أوقع التشابه فيه ، أي تشابه المراد هو نزول المعارف العقلية العليا إلى موقع الحس واللمس. فإنّ ظهور عظمته وقهره يوم القيامة باندكاك الجبال وظهور جهنّم يعد مجيئاً له.

٣. يقول سبحانه : ( يا إِبْليسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلْقتُ بِيَديَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العالِين ) (٢). فأصحاب الأهواء يثبتون له سبحانه يدين جسمانيتين ، أو يقولون لا نعلم كيفيتهما ، ولكنّه لو أُمعن النظر يعلم أنّ التصريح بأنّه سبحانه خلق آدم بيديه كناية عن الاهتمام بخلقة آدم حيث خلقه ونفخ فيه من روحه وعلّمه الأسماء حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم وأنّه ترك السجود لما قام بخلقته مباشرة وإنّما أتى « باليدين » لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا البناء بنيته بيدي ، مع أنّه استعان في عمله هذا بعينه وسمعه وغيرهما من الأعضاء ، وكأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممتُ بخلقه وصنعه.

٤. قوله سبحانه : ( الرَّحمن على العَرْشِ اسْتَوى ) (٣) في اللغة هو السرير ،

__________________

١. الفجر : ٢١ ـ ٢٣.

٢. ص : ٧٥.

٣. طه : ٥.


والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا مع الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافّة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم

تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة لا العلو المكاني الذي يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات؟!

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات (١) مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني ، بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كلّه ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في التدبير والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في ذيل بعض هذه الآيات : ( أَلا لَهُ الخَلق وَالأَمْر تَباركَ اللّه ربّ العالَمين ). (٢)

ولو لم يفسّر الاستواء بما ذكرناه ، يكون ذكر جلوسه على السرير في ثنايا ذكر أفعاله ، بلا مناسبة ، إذ أي نكتة في الإخبار عن جلوسه على سريره ، لو لم يكن كناية عن استيلائه على عالم الخلق والكون.

__________________

١. الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣ ، الرعد : ٢ ، طه : ٥ ، الفرقان : ٥٩ ، السجدة : ٤ ، الحديد : ٤.

٢. الأعراف : ٥٤.


٣. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة؟

إنّ أصحاب القلوب الزائغة لا يريدون الاهتداء بهدى القرآن الكريم ، وإنّما يتبنّون عقيدة أو فكرة أو سلوكاً خاصّاً فيرجعون إلى القرآن بغية الاستدلال عليها ، ولأجل ذلك يأخذون من الآيات المتشابهة ما تؤيد ظهورها المتزلزلة مقاصدَهم ، وإليك نموذجاً :

إنّ روّاد الجبر الذين يتظاهرون به بغية الانحلال الأخلاقي والحرّية في السلوك ، يتمسّكون بقوله سبحانه : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشاء ) (١) ويبثّون فكرة الجبر الذي هو بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في مجال الهداية والضلالة والإيمان والكفر والطاعة والعصيان فكأنّ الإنسان ريشة في مهبّ الريح.

غير أنّ الراسخين في العلم يؤوّلون الآية ويرجعونها إلى واقعها المراد ، وهو أنّ الآية بصدد بيان أنّ الفيوض المعنوية والمادّية كلّها بيد اللّه سبحانه ولا يملك الإنسان شيئاً من ذلك ، ولكن لا بمعنى وجود الفوضى في هداية الإنسان وإضلاله وإنّما يتّبعان الأرضية الصالحة التي يكتسبها العبد باختياره ويستحق الهداية أو الضلالة.

وقد صرّح سبحانه في آيات أُخرى بذلك ، يقول سبحانه : ( يُضِلُّ بِهِ كَثَيراً وَيَهْدي بِهِ كَثيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفاسِقين ) (٢) ، ويقول : ( إِنّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوم الضّالّين ) (٣). ويقول : ( إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَناب ). (٤)

فهذه الآيات تفسّر لنا إضلال اللّه سبحانه وأنّه جزاء من اللّه سبحانه لمن

__________________

١. النحل : ٩٣.

٢. البقرة : ٢٦.

٣. الأنعام : ١٤٤.

٤. الرعد : ٢٧.


خرج عن طاعته ( الفاسقون ) وعدّ من الظالمين كما أنّ الهداية جزاء منه سبحانه لمن هو أناب إلى اللّه سبحانه ، فلا يصحّ تفسير هذه الآيات إلا بردّ المتشابه إلى المحكم.

٤. الراسخون في العلم والتأويل

إنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه بشهادة أنّهم راسخون في العلم ، ولو كانوا غير عالمين به لكان الصحيح أن يقول وأمّا الراسخون في الإيمان ، وقد تضافرت الروايات على أنّ أئمّة أهل البيت : هم الراسخون العالمون بتأويل المتشابه. نعم أئمّة أهل البيت : هم المصداق الأوسط لهذا وإلا فالراسخون في العلم هم العلماء المتحلّون بالإيمان ، الذين لا يؤوّلون المتشابه برأي مسبق وإنّما يعوّلون على الآيات المحكمات في تفسير المتشابهات.

إلى هنا تمّ الكلام في المواضع الأربعة ممّا يرجع إلى المحكم والمتشابه.

إكمال :

التأويل في مقابل التنزيل

قد عرفت أنّ تأويل المتشابه إنّما هو إرجاع ظهوره المتزلزل إلى ظهوره المستقرّ على ضوء القرائن الموجودة في الآية وما في الكتاب العزيز من الآيات المحكمات ، وهناك مصطلح آخر للتأويل وهو : التأويل في مقابل التنزيل فللآية تنزيل ، كما أنّ لها تأويل ، فالمصداق الموجود في عصر الوحي تنزيله ، والمصاديق المتحقّقة في الأجيال الآتية تأويله ، وهذا من دلائل سعة آفاق القرآن ، فالقرآن كما يصفه الإمام يجري مجرى الشمس والقمر ، فينتفع منه كلّ جيل في عصره كما ينتفع بالشمس


والقمر عامّة الناس في عامّة الأجيال ، ولذلك يقول الإمام الصادق 7 : « إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ، ماتت الآية مات الكتاب! ، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى ». (١)

نموذجان من التأويل في مقابل التنزيل

١. يقول سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آية مِنْ رَبِّهِ إِنّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوم هاد ). (٢)

نصّ القرآن الكريم بأنّ النبي 6 بشخصه منذر كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد ، وقد قام النبيّ بتعيين مصداق الهادي في حديثه ، وقال : « أنا المنذر وعليّ الهادي إلى أمري ». (٣)

ولكن المصداق لا ينحصر بعلي 7 ، بل الهداة الذين ظهروا عبر الزمان هم المصاديق الجديدة للآية المباركة ، ولذلك نرى الإمام الباقر 7 يقول : « رسول اللّه المنذر ، وعلي الهادي ، وكلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيه ». (٤)

فالمتحلّون بحلية الإيمان والعلم ، كلّهم هداة عبر الزمان فالمصاديق المتجددة ، تأويل للقرآن مقابل تنزيله.

٢. يقول سبحانه : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيمانهُمْ مِنْ بَعْد عَهْدِهِم وَطَعَنُوا في دِينكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّة الكُفر إِنَّهُمْ لا أَيمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون ). (٥)

فتنزيل الآية هو مشركوا قريش وتأويلها هو الناكثون في عهد الإمام

__________________

١. نور الثقلين : ٢ / ٤٨٣ ، ح ٢٢.

٢. الرعد : ٧.

٣. نور الثقلين : ٢ / ٤٨٢.

٤. نور الثقلين : ٢ / ٤٨٥.

٥. التوبة : ١٢.


علي 7 ، ولذلك يقول في حقّهم : « والذي فلق الجنة وبرأ النسمة واصطفى محمّداً بالنبوّة إنّهم لأصحاب هذه الآية ، وما قوتلوا منذ نزلت ». (١)

ومن العجب أنّ النبيّ 6 هو الذي سمّى هذا النوع من القتال ـ حسب ما ورد في الرواية ـ تأويلاً في مقابل التنزيل ، فقال مخاطباً عليّاً 7 : « تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتَ معي على تنزيله ، ثمّ تُقْتَل شهيداً تخضبّ لحيتُك من دم رأسك ». (٢)

فهذا هو عمّار قاتل في صفّين مرتجزاً بقوله :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله (٣)

فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.

الجري والتطبيق هو التأويل في مقابل التنزيل

إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً طائفياً ، بل هو كتاب عالمي نزل لهداية الناس عبر القرون ، ومع ذلك نرى أنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية فسّرت بأئمّة أهل البيت : حتّى أنّ قوله سبحانه : ( إِهْدِنَا الصِّراط المُسْتَقيم ) في سورة الفاتحة فسر بصراط النبيّ والأئمّة القائمين مقامه.

وهناك من يجهل أهداف هذه الروايات وكيفية تفسيرها للآيات فينسب الشيعة إلى الطائفية. (٤)

__________________

١. نور الثقلين : ٢ / ١٨٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن : ٢ / ١٠٦.

٢. بحارالأنوار : ٤٠ / ١ ، الباب ٩١.

٣. الاستيعاب : ٢ / ٤٧٢ ، المطبوع في حاشية الإصابة ؛ مجمع البيان : ١ / ٢٨.

٤. انظر نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنا عشرية : ٥٠٤.


غير أنّ هذه التفاسير تأويل للقرآن بمعنى بيان مصاديقها الواضحة ومعالمها الوسطى ولا تعني اختصاص الآية بهم ، وهذا ما يسمّيه سيد المحقّقين العلاّمة الطباطبائي بالجري والتطبيق.

وهذا هو المراد من أنّ للقرآن بطناً أو بطوناً يقول الإمام الصادق 7 : « ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، ومنه ما مضى ومنه ما لم يجئ بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ». (١)

نحمده سبحانه ونشكره على توفيقه لهذا العبد لتحرير هذه المحاضرات

التي ألقاها شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في مباحث الألفاظ

وقد لاح بدر تمام هذا الجزء في الثامن من شهر

ذي القعدة الحرام من شهور عام ١٤١٧ هـ

وأرجو من اللّه سبحانه أن يجعل جهدي

ذخراً لآخرتي وسعيي سبباً لنيل رضاه ،

فإنّ ما في الكون يفنى سوى ما كان للّه ، يقول الشاعر :

تأمل في الوجود بعين فكر

ترى الدنيا الدنيّة كالخيال

ومن فيها جميعاً سوف يُفنى

ويبقى وجه ربّك ذو الجلال (٢)

أنا الراجي

محمد حسين الحاج العاملي

عامله اللّه بلطفه الخفي

____________

١. مرآة الأنوار : ٤.

٢. البيتان لمحمد بن أحمد بن عبد اللّه ( المتوفّى ٩٨٨ هـ ) كما في نفح الطيب : ١ / ١٢٠.


فهرس المحتويات

كلمة الأُستاذ المحاضر....................................................... ٥

كلمة المؤلّف............................................................... ٧

الفصل الخامس

في اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه

المسألة أُصولية ، وهل هي عقلية أو لفظية؟.................................... ٩

الفرق بين الضدّ العام والخاص والمحاور الثلاثة في هذا الفصل................... ١٠

المحور الأوّل : اقتضاء الأمر ، النهي عن الضد العام

الاستدلال علي الدلالة بالدلالات الثلاث.................................... ١١

المحور الثاني : اقتضاء الأمر ، النهي عن الضدّ الخاص

الاستدلال بمسلك المقدمية : ترك الضد مقدمة لفعل الضد..................... ١٤

إنكار المقدمية لوجوه ثلاث................................................ ١٦


الاستدلال بمسلك الملازمة وانّ المتلازمين متساويان في الحكم................... ٢٦

المحور الثالث : في الثمرة الفقهية

بطلان الصلاة علي القول بالاقتضاء وتصحيحها بالملاك تارة وقصد الامر المتعلق بالطبعي ثانيا وتصحيح الامر بالضدين علي نحو الترتب ثالثا.............................................................. ٣٢

الفرق بين التعارض والتزاحم............................................... ٣٦

مرجحات التعارض والتزاحم............................................... ٣٨

الترتب من المسائل التي يكفي في وقوعها امكانها.............................. ٤٠

تقريبات لتصحيح الترتّب

التقريب الأوّل للترتّب ومناقشات المحقق الخراساني واجوبتها................... ٤٣

الاستدلال على امتناع الترتّب لوجهين...................................... ٥٢

التقريب الثاني لتصحيح الترتّب ومناقشته.................................... ٥٦

التقريب الثالث لتصحيح الترتّب ومناقشته................................... ٥٨

التقريب الرابع لتصحيح الترتّب للمحقق البروجردي......................... ٦٠

التقريب الخامس لتصحيح الترتّب للمحقق النائيني ومناقشته................... ٦٢

الفروع الفقهية المترتّبة على صحّة الترتّب.................................... ٧٣

تقريب سيدنا الاستاذ في المقام بتصوير امرين عرضيين ومناقشته................ ٧٨


الفصل السادس

في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

ما هو المراد من العنوان وحكم الأوامر الامتحانية؟............................ ٨٩

ما ذكره السيد الأُستاذ في تفسير العنوان..................................... ٩٠

الفصل السابع

في تعلّق الأوامر بالطبائع

ليس النزاع في الدلالة اللفظية كما انه ليس النزاع مبنيّاً على المسائل الفلسفية.... ٩٢

ما هو المراد من الطبيعة والافراد في عنوان البحث؟............................ ٩٣

ادلة القولين وتحليلها....................................................... ٩٧

ثمرة البحث بين القولين.................................................. ١٠٠

بحث اكمالي وهو ان للطبيعة أفراد لا حصص.............................. ١٠٢

الفصل الثامن

بقاء الجواز عند نسخ الوجوب

إمكان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب...................................... ١٠٦

ما يدلّ على بقاء الجواز بعد امكانه........................................ ١٠٩


الفصل التاسع

الواجب التخييري

شبهات مثارة حول تصوير الواجب التخييري............................... ١١٣

نظرية المحقّق الخراساني في تفسير الواجب التخييري ومناقشته................. ١١٤

نظرية المحقّق النائيني في تفسير الواجب التخييري ومناقشته.................... ١١٩

نظرية المحقّق الإصفهاني في تفسير الواجب التخييري وتعليله................... ١٢٢

نظرية بعض القدماء وما هو المختار عندنا.................................. ١٢٤

تصحيح التخيير بين الأقل والأكثر........................................ ١٢٧

الفصل العاشر

الواجب الكفائي

النظرية الأُولى في تفسير الواجب الكفائي وتحليلها........................... ١٣٣

النظرية الثانية في تفسير الواجب الكفائي وتحليلها........................... ١٣٨

النظرية الثالثة والرابعة في تفسير الواجب الكفائي........................... ١٣٩

ثمرات البحث بين التفاسير المختلفة للواجب الكفائي........................ ١٤٢

الفصل الحادي عشر

تقسيم الواجب إلى المطلق والمؤقّت

الواجب : مطلق م مؤقت : فوري وغير فوري ، والموقت :


موسع ومضيق.......................................................... ١٤٦

هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد؟..................................... ١٤٨

مقتضي الأصل العملي في المسألة.......................................... ١٥١

الفصل الثاني عشر

الأمر بالأمر بفعل

هل بالامر هو أمر بنفس الفعل؟........................................... ١٥٤

ثمرات المسألة........................................................... ١٥٥

إثبات شرعية عبادات الصبي بالعمومات................................... ١٥٨

الفصل الثالث عشر

الأمر بعد الأمر

هل الأمر بعد الأمر تأكيد أو تأسيس...................................... ١٥٩

المقصد الثاني

في النواهي

الفصل الأوّل

مادّة النهي وصيغته

ما هو مفاد الهيئة النهي؟.................................................. ١٦٤


عدم دلالتها على الدوام.................................................. ١٦٥

الفصل الثاني

في اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

الفرق بين الاجتماع الآمري والاجتماع المأموري........................... ١٦٦

هل النزاع صغروي أو كبرويّ؟........................................... ١٦٨

ما هو المراد من الواحد في العنوان؟........................................ ١٧٠

ما هو الفرق بين هذه المسالة ومسألة النهي عن العبادة؟..................... ١٧١

المسألة أُصولية وفيه الاشارة الي سائر الاقوال............................... ١٧٤

عموم النزاع لأقسام الأمر والنهي......................................... ١٨٠

لزوم أخذ عنوان المندوحة في النزاع وعدمه................................. ١٨٢

جريان النزاع علي القول بتعلق الاحكام بالطبائع او بالافراد.................. ١٨٦

الفرق بين التعارض والتزاحم............................................. ١٨٧

ثمرات القول في المسالة................................................... ١٩٦

ادلة القائلين بامتناع..................................................... ٢٠٤

أدلة القائلين بجواز الاجتماع.............................................. ٢١١

نظريتنا في المسالة وذكر ما تبتني عليه...................................... ٢٢١

رفع المحاذير في مقام الجعل والمبادئ والامتثال............................... ٢٢٤

الاستدلال علي الجواز بالعبادات المكروهة وافاضة القول فيها................. ٢٣٠


تنبيهات

التنبيه الاول : في حكم الاضطرار إلى الحرام................................ ٢٤٣

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام من غير اختيار................................ ٢٤٤

عبادة المحبوس المضطر.................................................... ٢٤٥

حكم الاضطرار بسوء الاختيار ، حكم الدخول ، حكم الخروج ، حكم العبادة حين الخروج ٢٤٨

التنبيه الثاني : لا تزاحم علي القول بجواز الاجتماع والتزاحم علي القول بالمتنان ٢٦٩

تقديم النهي لوجوه مختلفة ومناقشته........................................ ٢٧٠

دراسة أقسام التوضّؤ بماءين مشتبهين...................................... ٢٨٢

التنبيه الثالث : تعدد الإضافات كتعدّد العناوين أو لا؟...................... ٢٨٦

الفصل الثالث

في كشف النهي عن الفساد

فيه مقامان : المقام الاول كشف النهي في باب العبادات عن الفساد........... ٢٨٧

الفرق بين هذه المسألة ( دلالة النهي علي الفساد ) والمسالة السابقة........... ٢٨٧

المسألة أُصوليّة لا فقهيّة.................................................. ٢٨٩

انقسام النهي إلى تحريمي وتنزيهي ، نفسي وغيري ، اصلي وتبعي وبيان حكمها. ٢٩١


حكم النهي الإرشادي ، والنهي التخييري.................................. ٢٩٣

تعريف العبادة والمعاملة................................................... ٢٩٤

معنى الصحّة والفساد.................................................... ٢٩٦

هل الصحّة والفساد مجعولان مطلقاً او ليس بمجعولين وفيه تفصيل............ ٢٩٩

ما هو الأصل المعوّل عليه عند الشكّ؟..................................... ٣٠٤

في أقسام تعلّق النهي بالعبادة وبيان حكمها................................. ٣٠٩

المقام الثاني : دلالة النهي على الفساد في المعاملات.......................... ٣٢٣

دليل القول بدلالته علي الفساد........................................... ٣٢٥

الاستدلال بصحيحة زرارة علي الفساد.................................... ٣٢٧

في ملازمة النهي للصحّة عند ابي حنيفة.................................... ٣٣١

فروع فقهية من ثمرات البحث............................................ ٣٣٦

المقصد الثالث

في المفاهيم

وفيه فصول .................................................................

المنطوق والمفهوم من أوصاف المدلول...................................... ٣٤١

تعريف المفهوم.......................................................... ٣٤٢

حصر المداليل في المنطوق والمفهوم......................................... ٣٤٥


مسلك القدماء والمتأخّرين في استفادة المفهوم................................ ٣٤٨

النزاع صغروي لا كبروي................................................ ٣٥١

ما هو المراد من مفهوم الموافقة؟........................................... ٣٥٢

الفصل الأوّل

مفهوم الشرط

الاستدلال علي دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم بالتبادر ، بالانصراف ، التمسك بالاطلاق بالتقريبات الثلاثة ٣٥٥

نظرية المحقق البروجردي في دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم ما هو المختار عندنا؟ ٣٦٦

ما هو المختار عندنا؟..................................................... ٣٦٧

تنبيهات

الأوّل : المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لاشخصه............................. ٣٧١

الثاني : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء..................................... ٣٧٨

الوجوه الخمسة في رفع التعارض بين مفهوم كل مع منطوق الاخر............ ٣٧٨

التنبيه الثالث : تداخل الأسباب........................................... ٣٨٦

معني التداخل في الاسباب................................................ ٣٨٧

إطلاق الشرط يقتضي عدم التداخل في الاسباب............................ ٣٨٩

إطلاق الجزاء يقتضي التداخل فما هو المرجح لتقديم احدهما علي الاخر........ ٣٩٠


التفصيل بين كون الأسباب معرفات أو مؤثّرات............................ ٣٩٨

التفصيل بين وحدة الأسباب جنساً وعدمها................................. ٤٠٠

ما هو الاصل المعول عند الشك؟.......................................... ٤٠٣

في تداخل المسببات ومعناه................................................ ٤٠٤

إمكان التداخل ثبوتاً وعدمه.............................................. ٤٠٥

حجّة القائل بعدم التداخل................................................ ٤٠٧

حجّة القائل بالتداخل.................................................... ٤٠٩

الثمرات المترتّبة على القولين.............................................. ٤١٠

السالبة الكلية ومفهومها واختلاف العلمين في مفهوم قوله : اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ٤١٢

الفصل الثاني

مفهوم الوصف

في تعريف مفهوم الوصف وتحديد محل النزاع............................... ٤١٧

أقسام الوصف.......................................................... ٤٢٠

ادلة القائلين بحجية مفهوم الوصف........................................ ٤٢٢

دراسة أدلّة النافي للمفهوم................................................ ٤٢٧


الفصل الثالث

في مفهوم الغاية

هل للقضية المغيّاة دلالة على ارتفاع الحكم عن الغاية وما بعدها أولا؟......... ٤٢٩

الأقوال في المسألة وبيان المختار........................................... ٤٣٠

في دخول الغاية في حكم المغيّى وعدمه..................................... ٤٣٦

سرد الأقوال وبيان ما هو المختار.......................................... ٤٣٧

الفصل الرابع

مفهوم الحصر

الكلام في الا الاستثناء................................................... ٤٤٢

أدلّة القائلين بدلالة الاستثناء على الحصر................................... ٤٤٤

بحث حول كلمة الاخلاص............................................... ٤٤٨

من أدوات الحصر لفظة « إنّما »......................................... ٤٥٢

الكلام في بل الاضرابيّة وتقديم ما حقّه التأخير.............................. ٤٥٧


الفصل الخامس

مفهوم اللقب

انقسام الاسم إلى العلم والكنية واللقب.................................... ٤٦٣

الفصل السادس

مفهوم العدد

أقسام العدد المأخوذة في الموضوع......................................... ٤٦٥

تطبيقات وثمرات للمسالة................................................ ٤٦٧

المقصد الرابع

العام والخاص

وفيه فصول :................................................................

الفصل الأوّل : للعام صيغة تخصّه......................................... ٤٨٣

الفصل الثاني : تخصيص العام لا يوجب المجازية............................. ٤٩٣

الفصل الثالث : العام المخصص حجّة في الباقي............................. ٤٩٩

الفصل الرابع : في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً.............. ٥٠٥

الفصل الخامس : المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً........................... ٥١٤

الفصل السادس : إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي................... ٥٣٣


الفصل السابع : إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي................... ٥٤٩

الفصل الثامن : إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي..................... ٥٦٠

الفصل التاسع : لزوم الفحص عن المخصّص............................... ٥٦٩

الفصل العاشر : في الخطابات الشفاهية.................................... ٥٧٥

الفصل الحادي عشر : تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده............. ٥٩٦

الفصل الثاني عشر : في تخصيص العام بالمفهوم.............................. ٦٠٢

الفصل الثالث عشر : الاستثناء المتعقِّب للجمل............................. ٦١٣

الفصل الرابع عشر : تخصيص الكتاب بالخبر الواحد........................ ٦٢١

الفصل الخامس عشر : في حالات العام والخاص وفيه البحث عن النسخ والتخصيص والبداء ٦٣١

المقصد الخامس

في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

وفيه فصول :................................................................

الفصل الأوّل : في ألفاظ المطلق وفيه البحث عن اسماء الاجناس ، علم الجنس ، المعرف باللام ، الجمع المحلي باللام والنكرة....................................................................... ٦٧٥

الفصل الثاني : تقييد المطلق لا يستلزم المجازية............................... ٧٠٠

الفصل الثالث : مقدّمات الحكمة......................................... ٧٠٣


الفصل الرابع : حمل المطلق على المقيّد..................................... ٧١٢

الفصل الخامس : المجمل والمتشابه.......................................... ٧٢٧

بيان الأقوال في المتشابه................................................... ٧٣٥

التأويل في القرآن الكريم................................................. ٧٤٠

فهرس المحتويات......................................................... ٧٥١

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ٢

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الصفحات: 764
ISBN: 964-357-077-0