

سورة طه
مكية إلا آيتي ١٣
و ١٣١ فمدنيتان وآياتها ١٣٥ نزلت بعد مريم
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قيل في طه إنه من
أسماء النبي صلىاللهعليهوسلم وقيل : معناه يا رجل ، وانظر الكلام على حروف الهجاء في
أول سورة البقرة (ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) قيل : إن النبي صلىاللهعليهوسلم قام في الصلاة حتى تورّمت قدماه ، فنزلت الآية تخفيفا عنه
، فالشقاء على هذا إفراط التعب في العبادة ، وقيل : المراد به التأسف على كفر
الكفار ، واللفظ عام في ذلك كله ، والمعنى أنه نفى عنه جميع أنواع الشقاء في
الدنيا والآخرة ، لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة (إِلَّا تَذْكِرَةً) نصب على الاستثناء المنقطع ، وأجاز ابن عطية أن يكون بدلا
من موضع لتشقى إذ هو في موضع مفعول من أجله ، ومنع ذلك الزمخشري لاختلاف الجنسين ،
ويصح أن ينتصب بفعل مضمر تقديره أنزلناه تذكرة (تَنْزِيلاً) نصب على المصدرية ، والعامل فيه مضمر وما أنزلنا وبدأ
السورة بلفظ المتكلم في قوله :
ما أنزلنا ثم رجع
إلى الغيبة في قوله (تَنْزِيلاً مِمَّنْ
خَلَقَ الْأَرْضَ) الآية : وذلك هو الالتفات (وَالسَّماواتِ
الْعُلى) جمع عليا (عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى) تكلمنا عليه في [الأعراف : ٥٣] (الثَّرى) هو في اللغة التراب النديّ ، والمراد به هنا الأرض (وَإِنْ تَجْهَرْ) مطابقة هذا الشرط لجوابه كأنه يقول : إن جهرت أو أخفيت
فإنه يعلم ذلك ، لأنه يعلم السرّ وأخفى (يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفى) السر الكلام الخفيّ ، والأخفى ما في النفس ، وقيل : السر
ما في نفوس البشر ، والأخفى ما انفرد الله بعلمه.
(الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) تكلمنا عليها في [الأعراف : ١٧٩] (وَهَلْ أَتاكَ) لفظ استفهام والمراد به التنبيه (إِذْ رَأى) العامل في إذ حديث لأن فيه معنى الفعل ، وكان من قصة موسى
أنه رحل بأهله من مدين يريد مصر ، فسار بالليل واحتاج إلى نار ، فقدح بزناده فلم
ينقدح ، فرأى نارا فقصد إليها فناداه الله ، وأرسله إلى فرعون (آنَسْتُ ناراً) أي رأيت (بِقَبَسٍ) هو
الجذوة من النار
تكون على رأس العود والقصبة ونحوها (أَوْ أَجِدُ عَلَى
النَّارِ هُدىً) يعني هدى إلى الطريق من دليل أو غيره (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) قيل : إنما أمر بخلع نعليه ، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت
، فأمر بخلع النجاسة ، واختار ابن عطية أن يكون أمر بخلعهما ليتأدب ، ويعظم البقعة
المباركة ويتواضع في مقام مناجاة الله وهذا أحسن (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي المطهر (طُوىً) في معناه قولان : أحدهما أنه اسم للوادي ، وإعرابه على هذا
بدل ، ويجوز تنوينه على أنه مكان ، وترك صرفه على أنه بقعة ، والثاني : أن معناه
مرتين ، فإعرابه على هذا مصدر : أي قدس الوادي مرة بعد مرة ، أو نودي موسى مرة بعد
مرة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) قيل : المعنى لتذكرني فيها ، وقيل : لأذكرك بها ، فالمصدر
على الأول مضاف للمفعول ، وعلى الثاني مضاف للفاعل ، وقيل : معنى لذكري : عند ذكري
كقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] أي
عند دلوك الشمس ، وهذا أرجح ؛ لأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم استدل بالآية : على وجوب الصلاة على الناسي إذا ذكرها (أَكادُ أُخْفِيها) اضطرب الناس في معناه ، فقيل : أخفيها بمعنى أظهرها ،
وأخفيت هذا من الأضداد.
وقال
ابن عطية : هذا قول مختل ،
وذلك أن المعروف في اللغة أن يقال : أخفى بالألف من الإخفاء ، وخفي بغير ألف بمعنى
أظهر ، فلو كان بمعنى الظهور لقال : أخفيها بفتح همزة المضارع ، وقد قرئ بذلك في
الشاذ ، وقال الزمخشري : قد جاء في بعض اللغات أخفى بمعنى خفي : أي أظهر ، فلا
يكون هذا القول مختلا على هذه اللغة ، وقيل : أكاد بمعنى أريد ، فالمعنى أريد
إخفاءها وقيل : إن المعنى إن الساعة آتية أكاد ، وتم هنا الكلام بمعنى أكاد أنفذها
لقربها ، ثم استأنف الإخبار فقال أخفيها ، وقيل : المعنى أكاد أخفيها عن نفسي فكيف
عنكم ، وهذه الأقوال ضعيفة ، وإنما الصحيح أن المعنى أن الله أبهم وقت الساعة فلم
يطلع عليه أحدا ، حتى أنه كاد أن يخفي وقوعها لإبهام وقتها ، ولكنه لم يخفها إذا
أخبر بوقوعها ، فالأخفى على معناه المعروف في اللغة ، وكاد على معناها من مقاربة
الشيء دون وقوعه وهذا المعنى هو اختيار المحققين (لِتُجْزى) يتعلق بآتية (بِما تَسْعى) أي بما تعمل (فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها) الضمير للساعة : أي لا يصدنك عن الإيمان بها والاستعداد
لها ، وقيل : الضمير للصلاة وهو بعيد ، والخطاب لموسى عليهالسلام ، وقيل : لمحمد صلىاللهعليهوسلم وذلك بعيد (فَتَرْدى) معناه تهلك ، والردى هو الهلاك وهذا الفعل منصوب في جواب :
لا يصدّنك.
(وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى) إنما سأله ليريه عظيم ما يفعله في العصا من قلبها حية ،
فمعنى السؤال تقرير أنها عصا ؛ فيتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها ، وبعد أن
قلبها ،
وقيل : إنما سأله
ليؤنسه ويبسطه بالكلام (وَأَهُشُّ بِها عَلى
غَنَمِي) معناه أضرب بها الشجر لينتشر الورق للغنم (مَآرِبُ) أي حوائج (حَيَّةٌ تَسْعى) أي تمشي (سِيرَتَهَا الْأُولى) يعني أنه لما أخذها عادت كما كانت أول مرة ، وانتصب سيرتها
على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر (وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ) الجناح هنا الجنب أي تحت الإبط ، وهو استعارة من جناح
الطائر (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) روي أن يده خرجت وهي بيضاء كالشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يريد من غير برص ولا عاهة (لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى) يحتمل أن تكون الكبرى مفعول لنريك ، وأن تكون صفة للآيات
ويختلف المعنى على ذلك (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) إن قيل : لم قال اشرح لي ويسر لي ، مع أن المعنى يصح دون
قوله لي؟ فالجواب : أن ذلك تأكيد وتحقيق للرغبة (وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي) العقدة هي التي اعترته بالجمرة حين جعلها في فيه وهو صغير
، حين أراد فرعون أن يجرّبه ، وإنما قال : عقدة بالتنكير لأنه طلب حلّ بعضها
ليفقهوا قوله ، ولم يطلب الفصاحة الكاملة (وَزِيراً) أي معينا ، وإعراب هارون بدل أو مفعول أول (أَزْرِي) أي ظهري والمراد القوة ومنه : فآزره أي قوّاه.
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ) أي قد أعطيناك كل ما طلبت من الأشياء المذكورة (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) يحتمل أن يكون وحي كلام بواسطة ملك ، أو وحي إلهام كقوله :
(وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] (ما يُوحى) إبهام يراد به تعظيم الأمر (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) الضمير الأول لموسى ، والثاني للتابوت أو لموسى واليم
البحر ، والمراد به هنا النيل ، وكان فرعون قد ذكر له أن هلاكه وخراب ملكه على يد
غلام من بني إسرائيل ، فأمر بذبح كل ولد ذكر يولد لهم ، فأوحى الله إلى أم موسى أن
تلقيه في التابوت وتلقي التابوت في البحر ففعلت ذلك ، وكان فرعون في موضع يشرف على
النيل ، فرأى التابوت فأمر به فسيق ، إليه وامرأته معه ففتحه فأشفقت عليه امرأته ،
وطلبت أن تتخذه ولدا فأباح لها ذلك (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ
لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) هو فرعون (مَحَبَّةً مِنِّي) أي أحببتك ، وقيل : أراد محبة الناس فيه إذ كان لا يراه
أحد إلا أحبه ، وقيل : أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له ، وقوله
مني : يحتمل أن
يتعلق بقوله ألقيت ، أو يكون صفة لمحبة فيتعلق بمحذوف (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي تربى ويحسن إليك بمرأى مني وحفظ ، والعامل في لتصنع
محذوف (إِذْ تَمْشِي
أُخْتُكَ) العامل في إذ تصنع أو ألقيت ، أو فعل مضمر تقديره ومننا
عليك (فَتَقُولُ هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) كان لا يقبل ثدي امرأة فطلبوا له مرضعة ، فقالت أخته ذلك
ليرد إلى أمه (وَقَتَلْتَ نَفْساً) يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) يعني الخوف من أن يطلب بثأر المقتول (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي اختبرناك اختبارا حتى ظهر منك أنك تصلح للنبوة والرسالة
، وقيل : خلصناك من محنة بعد محنة ، لأنه خلصه من الذبح ثم من البحر ، ثم من
القصاص بالقتل ، والفتون : يحتمل أن يكون مصدرا أو جمع فتنة (فَلَبِثْتَ سِنِينَ) يعني الأعوام العشرة التي استأجره فيها شعيب (جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) أي بميقات محدود قدره الله لنبوتك (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) عبارة عن الكرامة والتقريب أي استخلصتك وجعلتك موضع صنيعتي
وإحساني (وَلا تَنِيا) أي لا تضعفا ولا تقصرا ، والونى هو الضعف عن الأمور
والتقصير فيها (أَنْ يَفْرُطَ) أي يعمل بالشر (فَأَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ) أي سرحهم ، وكانوا تحت يد فرعون وقومه ، فكانت رسالة موسى
إلى فرعون بالإيمان بالله وتسريح بني إسرائيل (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) كان يعذبهم بذبح أبنائهم وتسخيرهم في خدمته وإذلالهم.
(قَدْ جِئْناكَ
بِآيَةٍ) يعني قلب العصا حية وإخراج اليد بيضاء ، وإنما وحّدهما
وهما آيتان ، لأنه أراد إقامة البرهان وهو معنى واحد ، (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) يحتمل أن يريد التحية أو السلامة (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أفرد موسى بالنداء بعد جمعه مع أخيه ، لأنه الأصل في النبوة
وأخوه تابع له (الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ) المعنى أن الله أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ، فخلقه على
هذا بمعنى المخلوقين ، وإعرابه مفعول أول ، وكل شيء مفعول ثان ، وقيل : المعنى
أعطى كل شيء خلقته وصورته : أي أكمل ذلك وأتقنه ، فالخلق على هذا بمعنى الخلقة
وإعرابه مفعول ثان ، وكل شيء مفعول أول ، والمعنى الأول أحسن (ثُمَّ هَدى) أي هدى خلقه إلى التوصل لما أعطاهم ، وعلمهم كيف ينتفعون
به (قالَ فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى) يحتمل أن يكون سؤاله عن القرون الأولى محاجة ومناقضة لموسى
: أي ما بالها لم تبعث كما يزعم موسى؟ أو ما بالها لم تكن على دين موسى أو ما
بالها كذبت ولم
يصبها عذاب كما
زعم موسى في قوله : أن العذاب على من كذب وتولى ، ويحتمل أن يكون قال ذلك قطعا
للكلام الأول ، وروغانا عنه وحيرة لما رأى أنه مغلوب بالحجة ولذلك أضرب موسى عن
الكلام في شأنها ، فقال علمها عند ربي ، ثم عاد إلى وصف الله رجوعا إلى الكلام
الأول (فِي كِتابٍ) يعني اللوح المحفوظ (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فراشا ، وانظر كيف وصف موسى ربه تعالى بأوصاف لا يمكن
فرعون أن يتصف بها ، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، ولو قال له هو
القادر أو الرازق وشبه ذلك لأمكن فرعون أن يغالطه ويدعي ذلك لنفسه (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي نهج لكم فيها طرقا تمشون فيها (فَأَخْرَجْنا) يحتمل أن يكون من كلام موسى على تقدير يقول الله عزوجل فأخرجنا ، ويحتمل أن يكون كلام موسى ثم عند قوله وأنزل من
السماء ماء ثم ابتدأ كلام الله.
(فَأَخْرَجْنا بِهِ
أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي أصنافا مختلفة (كُلُوا وَارْعَوْا
أَنْعامَكُمْ) المعنى أنها تصلح لأن تؤكل وترعاها الأنعام ، وعبر عن ذلك
بصيغة الأمر ؛ لأنه أذن في ذلك فكأنه أمر به (لِأُولِي النُّهى) أي العقول واحدها نهية (مِنْها خَلَقْناكُمْ) الضمير للأرض يريد خلقة آدم من تراب (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) يعني بالدفن عند الموت (وَمِنْها
نُخْرِجُكُمْ) يعني عند البعث (أَرَيْناهُ آياتِنا) يعني الآيات التي رآها فرعون وهي تسع آيات ، وليس يريد
جميع آيات الله على العموم ، فالإضافة في قوله آياتنا تجري مجرى التعريف بالعهد :
أي آياتنا التي أعطينا موسى كلها ، وإنما أضافها الله إلى نفسه تشريفا (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ
مَوْعِداً) يحتمل أن يكون الموعد اسم مصدر أو اسم زمان أو اسم مكان ،
ويدل على أنه اسم مكان قوله مكانا سوى ، ولكن يضعف بقوله : موعدكم يوم الزينة ،
لأنه أجاب بظرف الزمان ، ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله يوم الزينة ولكن يضعف
بقوله : مكانا سوى. ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله : لا نخلفه ، لأن
الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان. ولكن يضعف ذلك بقوله مكانا
وبقوله يوم الزينة ، فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار ، ويختلف إعراب قوله :
مكانا باختلاف تلك الوجوه. فأما إن كان الموعد اسم مكان فيكون قوله موعدا ومكانا
مفعولين لقوله اجعل ، ويطابقه قوله : يوم الزينة من طريق المعنى ، لا من طريق
اللفظ ، وذلك أن الاجتماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة ، وإن كان الموعد اسم زمان
فينتصب قوله : مكانا على أنه ظرف زمان ، والتقدير : موعدا كائنا في مكان وإن كان
الموعد اسم مصدر فينتصب مكانا على أنه مفعول بالمصدر وهو الموعد ، أو بفعل من
معناه ، ويطابقه
قوله : يوم الزينة على حذف مضاف تقديره موعدكم وعد يوم الزينة ، وقرأ الحسن يوم
الزينة بالنصب وذلك يطابق أن يكون الموعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف (مَكاناً سُوىً) معناه : مستوفي القرب منا ومنكم ، وقيل : معناه مستوي
الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع ، وقرئ بكسر السين وضمها ، والمعنى متفق (يَوْمُ الزِّينَةِ) يوم عيد لهم وقيل يوم عاشوراء (وَأَنْ يُحْشَرَ) عطف على الزينة ، فهو في موضع خفض أو على اليوم فهو في
موضع رفع وقصد موسى أن يكون موعدهم عند اجتماع الناس على رؤوس الأشهاد لتظهر
معجزته ويستبين الحق للناس (فَيُسْحِتَكُمْ) معناه يهلككم ، يقال سحت وأسحت ، وقد قرئ بفتح الياء وضمها
، والمعنى متفق (قالُوا إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) قرأ [أبو عمرو] إن هذين بالياء ولا إشكال في ذلك ، وقرأ [حفص]
بتخفيف إن وهي مخففة من الثقيلة ، وارتفع بعدها هذان بالابتداء ، وأما قراءة نافع
وغيره بتشديد إنّ ورفع هذان ، فقيل إن هنا بمعنى نعم فلا تنصب ، ومنه ما روي في
الحديث أن الحمد لله بالرفع ، وقيل : اسم إن ضمير الأمر والشأن تقديره : إن الأمر
، وهذان لساحران مبتدأ وخبر في موضع خبر إن.
وقيل : جاء القرآن
في هذه الآية بلغة بني الحرث بن كعب وهو إبقاء التثنية بالألف حال النصب والخفض ،
وقالت عائشة رضي الله عنها ، هذا مما لحن فيه كتاب المصحف (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي يذهب بسيرتكم الحسنة (فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ) أي اعزموا وأنفذوه (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) استدل بعضهم بهذه الآية على أن السحر تخييل لا حقيقة ،
وقال بعضهم : إن حيلة السحرة في سعي الحبال والعصيّ هو أنهم حشوها
بالزئبق ، وأوقدوا تحتها نارا وغطوا النار لئلا يراها الناس ، ثم وضعوا عليها
حبالهم وعصيهم ، وقيل : جعلوها للشمس ، فلما أحسّ الزئبق بحر النار أو الشمس سال ،
وهو في حشو الحبال والعصيّ فحملها ، فتخيل للناس أنها تمشي ، فألقى موسى عصاه
فصارت ثعبانا فابتلعتها (إِنَّما صَنَعُوا
كَيْدُ ساحِرٍ) ما هنا موصولة وهي اسم إن وكيد خبرها (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) قدم
__________________
هارون لتعادل رؤوس
الآي (مِنْ خِلافٍ) أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى (وَالَّذِي فَطَرَنا) معطوف على ما جاءنا من البينات ، وقيل : هي واو القسم (هذِهِ الْحَياةَ) نصب على الظرفية أي : إنما قضاؤك في هذه الدنيا (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) قيل : إن هنا وما بعده من كلام السحرة لفرعون على وجه
الموعظة ، وقيل : هو من كلام الله (أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي) يعني ببني إسرائيل ، وأضافهم إلى نفسه تشريفا لهم ، وكانوا
فيما قيل ستمائة ألف (يَبَساً) أي يابسا ، وهو مصدر وصف به (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا
تَخْشى) أي لا تخاف أن يدركك فرعون وقومه ، ولا تخشى الغرق في
البحر (ما غَشِيَهُمْ) إبهام لقصد التهويل (وَما هَدى) إن قيل : إن قوله وأضل فرعون قومه يغني عن قوله وما هدى ،
فالجواب أنه مبالغة وتأكيد ، وقال الزمخشري : هو تهكم بفرعون في قوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشادِ) [غافر : ٣٨].
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) خطاب لهم بعد خروجهم من البحر ، وإغراق فرعون ، وقيل : هو
خطاب لمن كان منهم في عصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والأول أظهر (وَواعَدْناكُمْ
جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) لما أهلك الله فرعون وجنوده أمر موسى وبني إسرائيل أن
يسيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه ربه ، والطور هو الجبل ، واختلف هل هذا الطور
هو الذي رأى فيه موسى النار في أول نبوّته ، أو هو غيره (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوى) ذكر في [البقرة : ٥٧] (فَقَدْ هَوى) أي هلك ، وهو استعارة من السقوط من علو إلى سفل (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) المغفرة لمن تاب حاصلة ولا بد ، والمغفرة للمؤمن الذي لم
يتب في مشيئة الله عند أهل السنة ، وقالت المعتزلة : لا يغفر إلا لمن تاب (ثُمَّ اهْتَدى) أي استقام ودام على الإيمان والتوبة والعمل الصالح ،
ويحتمل أن يكون الهدى هنا عبارة عن نور وعلم ؛ يجعله الله في قلب من تاب وآمن وعمل
صالحا.
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى) قصص هذه الآية أن موسى عليهالسلام ، لما أمره الله أن يسير هو وبنو إسرائيل إلى الطور ، تقدم
هو وحده مبادرة إلى أمر الله ، وطلبا
لرضاه ، وأمر بني
إسرائيل أن يسيروا بعده ، واستخلف عليهم أخاه هارون ، فأمرهم السامريّ حينئذ
بعبادة العجل ، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال الله تعالى : ما أعجلك عن
قومك؟ وإنما سأل الله موسى عن سبب استعجاله دون قومه ليخبره موسى بأنهم يأتون على
أثره ، فيخبره الله بما صنعوا بعده من عبادة العجل ، وقيل : سأله على وجه الإنكار
لتقدّمه وحده دون قومه فاعتذر موسى بعذرين : أحدهما أن قومه على أثره : أي قريب
منه ، فلم يتقدّم عليهم بكثير فيوجب العتاب ، والثاني أنه إنما تقدم طلبا لرضا
الله (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) كان السامريّ رجلا من بني إسرائيل يقال : إنه ابن خال موسى
، وقيل : لم يكن منهم وهو منسوب إلى قرية بمصر يقال لها سامرة ، وكان ساحرا منافقا
(فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ) يعني رجع من الطور بعد إكمال الأربعين يوما التي كلمه الله
بها (أَسِفاً) ذكر في [الأعراف : ١٤٩].
(أَلَمْ يَعِدْكُمْ
رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) يعني ما وعدهم من الوصول إلى الطور (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) يعني المدة وهذا الكلام توبيخ لهم (بِمَلْكِنا) قرئ بالفتح والضم والكسر ، ومعناه ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ، ولكن غلبنا بكيد
السامريّ ، فيحتمل أنهم اعتذروا بقلة قدرتهم وطاقتهم ويناسب هذا المعنى القراءة
بضم الميم ، واعتذروا بقلة ملكهم لأنفسهم في النظر وعدم توفيقهم للرأي السديد ،
ويناسب هذا المعنى القراءة بالفتح والكسر (حُمِّلْنا أَوْزاراً
مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) الأوزار هنا الأحمال ؛ سميت أوزارا لثقلها ، أو لأنهم
اكتسبوا بسببها الأوزار أي الذنوب ، وزينة القوم هي : حليّ القبط قوم فرعون ؛ كان
بنو إسرائيل قد استعاروه منهم قبل هلاكهم ، وقيل : أخذوه بعد هلاكهم فقال لهم
السامريّ اجمعوا هذا الحلّي في حفرة حتى يحكم الله فيه ، ففعلوا ذلك وأوقد
السامريّ نارا على الحلّي وصاغ منه عجلا وقيل : بل خلق الله منه العجل من غير أن
يصنعه السامري ، ولذلك قال لموسى قد فتنا قومك من بعدك (فَقَذَفْناها) أي قذفنا أحمال الحلّي في الحفرة (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) كان السامريّ قد رأى جبريل عليهالسلام ، فأخذ من وطء فرسه قبضة من تراب ، وألقى الله في نفسه أنه
إذا جعلها على شيء مواتا صار حيوانا فألقاها على العجل فجار العجل أي : صاح صياح
العجول. فالمعنى أنهم. قالوا كما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامريّ قبضة
التراب (جَسَداً) أي جسما بلا روح ، والخوار صوت البقر (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ) أي
__________________
قال ذلك بنو
إسرائيل بعضهم لبعض (فَنَسِيَ) يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون من كلام بني إسرائيل والفاعل
موسى : أي نسي موسى إلهه هنا ، وذهب يطلبه في الطور ، والنسيان على هذا بمعنى
الذهول ، والوجه الثاني : أن يكون من كلام الله تعالى ، والفاعل على هذا السامريّ
: أي نسي دينه وطريق الحق ، والنسيان على هذا المعنى : الترك (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ قَوْلاً) معناه لا يردّ عليهم كلاما إذا كلموه وذلك ردّ عليهم في
دعوى الربوبية له ، وقرئ يرجع بالرفع ، وأن مخففة من الثقيلة ، وبالنصب وهي مصدرية
(قالَ يا هارُونُ ما
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) لا زائدة للتأكيد ، والمعنى ما منعك أن تتبعني في المشي
إلى الطور ، أو تتبعني في الغضب لله ، وشدّة الزجر لمن عبد العجل ، وقتالهم بمن لم
يعبده؟
(قالَ يَا بْنَ أُمَ) ذكر في [الأعراف : ١٥٠] (لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) كان موسى قد أخذ بشعر هارون ولحيته من شدّة غضبه ، لما وجد
بني إسرائيل قد عبدوا العجل (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ
تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : لو قاتلت من عبد العجل منهم بمن لم يعبده ، لقلت فرقت
جماعتهم وأدخلت العداوة بينهم ، وهذا على أن يكون معنى قوله : تتبعني في الزجر
والقتال ، ولو أتبعتك في المشي إلى الطور لا تبعني بعضهم دون بعض ، فتفرقت جماعتهم
وهذا على أن يكون معنى تتبعني في المشي إلى الطور (وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي) يعني قوله له : اخلفني في قومي وأصلح.
(قالَ فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُ) أي قال موسى ما شأنك؟ ولفظ الخطب يقتضي الانتهار ، لأنه
يستعمل في المكاره (قالَ بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي رأيت ما لم يروه يعني : جبريل عليهالسلام وفرسه (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً
مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي قبضت قبضة من تراب من أثر فرس الرسول وهو جبريل ، وقرأ
ابن مسعود «من أثر فرس الرسول» وإنما سمى جبريل بالرسول ، لأن الله أرسله إلى موسى
، والقبضة مصدر قبض ، وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير
، ويقال : قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفه ، وبالصاد المهملة : إذا أخذ
بأطراف الأصابع وقد قرئ كذلك في الشاذ (فَنَبَذْتُها) أي ألقيتها على الحلي ، فصار عجلا أو على العجل فصار له
خوار (فَإِنَّ لَكَ فِي
الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) عاقب موسى عليهالسلام السامري ؛ بأن منع الناس من مخالطته ومجالسته ومؤاكلته
ومكالمته ، وجعل له مع ذلك أن يقول طول حياته : لا مساس ؛ أي لا مماسة ولا إذاية ،
وروي أنه كان
إذا مسه أحد أصابت
الحمى له وللذي مسه ، فصار هو يبعد عن الناس وصار الناس يبعدون عنه (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) يعني العذاب في الآخرة وهذا تهديد ووعيد (ظَلْتَ) أصله ظللت ، حذفت إحدى اللامين والأصل في معنى ظل : أقام
بالنهار ، ثم استعمل في الدأب على الشيء ليلا ونهارا (لَنُحَرِّقَنَّهُ) من الإحراق بالنار ، وقرئ بفتح النون وضم الراء بمعنى
نبرده بالمبرد ، وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى ، لأن الذهب
لا يفنى بالإحراق بالنار ، والصحيح أن المقصود بإحراقه بالنار إذابته وإفساد صورته
، فيصح حمل قراءة الجماعة على ذلك (ثُمَّ
لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي نلقيه في البحر ، والنسف تفريق الغبار ونحوه (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) الآية : من كلام موسى لبني إسرائيل.
(كَذلِكَ نَقُصُّ
عَلَيْكَ) مخاطبة من الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم ، وأنباء ما قد سبق : أخبار المتقدمين (ذِكْراً) يعني القرآن (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) يعني إعراض تكذيب به (وِزْراً) الوزر في اللغة الثقل ، ويعني هنا العذاب لقوله «خالدين
فيه» أو الذنوب لأنها سبب العذاب (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ حِمْلاً) شبه الوزر بالحمل
لثقله ، قال الزمخشري : ساء تجري مجرى بئس ، ففاعلها مضمر يفسره حملا ، وقال غيره
: فاعلها مضمر يعود على الوزر (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ) أي ينفخ الملك في القرن ، وقرأ [أبو عمرو] ننفخ بالنون أي
بأمرنا (زُرْقاً) أي زرق الألوان كالسواد ، وقيل : زرق العيون من العمى (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي يقول بعضهم لبعض في السرّ : إن لبثتم في الدنيا إلا عشر
ليال وذلك لاستقلالهم مدّة الدنيا ، وقيل : يعنون لبثهم في القبور (يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي يقول أعلمهم بالأمور ، فالإضافة إليهم إن لبثتم إلا
يوما واحدا فاستقل المدّة أشد مما استقلها غيره (يَنْسِفُها رَبِّي) أي يجعلها كالغبار ثم يفرّقها (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) الضمير في يذرها للجبال ، والمراد موضعها من الأرض ،
والقاع الصفصف : المستوي من الأرض الذي لا ارتفاع فيه (لا تَرى فِيها عِوَجاً) المعروف في اللغة أن العوج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في
الأشخاص والأرض شخص ، فكان الأصل أن يقال فيها بالفتح ، وإنما قاله بالكسر مبالغة
في نفيه ، فإن الذي في المعاني أدق من الذي في الأشخاص ، فنفاه ليكون غاية في نفي
العوج من كل وجه (وَلا أَمْتاً) الأمت : هو الارتفاع
اليسير (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) يعني الذي يدعو الخلق إلى الحشر (لا عِوَجَ لَهُ) أي لا يعوج أحد عن اتباعه والمشي نحو صوته ، أو لا عوج
لدعوته لأنها حق (هَمْساً) هو الصوت الخفيّ (لا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا ، ومن في موضع نصب بتنفع
وهي واقعة على المشفوع له ، فالمعنى لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن له الرحمن في
أن يشفع له ، وأن يكون الاستثناء منقطعا ومن واقعة على الشافع ، والمعنى لكن من
أذن له الرحمن يشفع (وَرَضِيَ لَهُ
قَوْلاً) إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع فيه ، فاللام في له
بمعنى لأجله ، أي رضي قول الشافع لأجل المشفوع فيه ، وإن أريد الشافع فالمعنى رضي
له قوله في الشفاعة (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الضميران لجميع الخلق ، والمعنى ذكر في آية الكرسي (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) قيل : المعنى لا يحيطون بمعلوماته كقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِما شاءَ) ، والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفة ذاته ؛ إذ لا
يعرف الله على الحقيقة إلا الله ، ولو أراد المعنى الأوّل لقال ولا يحيطون بعمله ،
ولذلك استثنى إلا بما شاء هناك ولم يستثن هنا.
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) أي ذلت يوم القيامة (وَلا هَضْماً) أي بخسا ونقصا لحسناته (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
ذِكْراً) أي تذكرا ، وقيل : شرفا وهو هنا بعيد (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي إذا أقرأك جبريل القرآن ؛ فاستمع إليه واصبر حتى يفرغ ،
وحينئذ تقرأه أنت. فالآية : كقوله (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] ،
وقيل كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا أوحي إليه القرآن يأمر بكتبه في الحين ، فأمر بأن
يتأنى حتى تفسر له المعاني ، والأول أشهر.
(عَهِدْنا إِلى آدَمَ) أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة (فَنَسِيَ) يحتمل أن يكون النسيان الذي هو ضدّ الذكر ، فيكون ذلك عذرا
لآدم أو يريد الترك ، وقال ابن عطية : ولا يمكن غيره ، لأن الناسي لا عقاب عليه ،
وقد تقدّم الكلام على قصة آدم وإبليس في البقرة (فَلا يُخْرِجَنَّكُما
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أي لا تطيعاه فيخرجكما من الجنة ، فجعل المسبب
موضع السبب وخص
آدم بقوله فتشقى لأنه كان المخاطب أولا ، والمقصود بالكلام ، وقيل : لأن الشقاء في
معيشة الدنيا مختص بالرجال (لا تَظْمَؤُا فِيها
وَلا تَضْحى) الظمأ هو العطش ، والضحى هو البروز للشمس (يَخْصِفانِ) ذكر في [الأعراف : ٢١] وكذلك الشجرة وأكل آدم منها ذكر ذلك
في [البقرة : ٣٥] (اهْبِطا) خطاب لآدم وحواء (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ) هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة وجوابها فمن اتبع (فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي ضيقة ، فقيل إن ذلك في الدنيا ، فإن الكافر ضيق المعيشة
لشدّة حرصه وإن كان واسع الحال ، وقد قال بعض الصوفية : لا يعرض أحد عن ذكر الله
إلا أظلم عليه وقته وتكدر عليه عيشه ، وقيل : إن ذلك في البرزخ ، وقيل : في جهنم
بأكل الزقوم ، وهذا ضعيف ، لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) أي يعني أعمى البصر (فَنَسِيتَها
وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) من الترك لا من
الذهول (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) أي عذاب جهنم أشدّ وأبقى من العيشة الضنك ومن الحشر أعمى.
(أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ) معناه : أفلم يتبين لهم ، والضمير لقريش والفاعل بيهد مقدر
تقديره : أو لم يهد لهم الهدى أو الأمر ، وقال الزمخشري : الفاعل الجملة التي بعده
، وقيل : الفاعل ضمير الله عزوجل ، ويدل عليه قراءة أفلم نهد بالنون ، وقال الكوفيون :
الفاعل كم (يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ) يريد أن قريشا يمشون في مساكن عاد وثمود ، ويعاينون آثار
هلاكهم (لِأُولِي النُّهى) أي ذوي العقول (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) الكلمة هنا القضاء السابق ، والمعنى لو لا قضاء الله
بتأخير العذاب عنهم لكان العذاب لزاما : أي واقعا بهم (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوف على كلمة : أي لو لا الكلمة والأجل المسمى لكان
العذاب لزاما ، وإنما أخره لتعتدل رؤوس الآي ، والمراد بالأجل المسمى يوم بدر ،
وبذلك ورد تفسيره في البخاري ، وقيل : المراد به أجل الموت ، وقيل القيامة (وَسَبِّحْ) يحتمل أن يريد بالتسبيح الصلاة ، أو قول سبحان الله وهو
ظاهر اللفظ (بِحَمْدِ رَبِّكَ) في موضع الحال
أي وأنت حامد لربك
على أن وفقك للتسبيح ، ويحتمل أن يكون المعنى سبح تسبيحا مقرونا بحمد ربك فيكون
أمرا بالجمع بين قوله : سبحان الله وقوله الحمد لله ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض (قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) إشارة إلى الصلوات الخمس عند من قال إن معنى فسبح : الصلاة
، فالتي قبل طلوع الشمس الصبح ، والتي قبل غروبها الظهر والعصر ، ومن آناء الليل
المغرب والعشاء الآخرة وأطراف النهار المغرب والصبح ، وكرر الصبح في ذلك تأكيدا
للأمر بها ، وسمى الطرفين اطرافا لأحد وجهين : إما على نحو فقد صغت قلوبكما ، وإما
أن يجعل النهار للجنس ، فلكل يوم طرف ، وآناء الليل ساعاته ، واحدها إني (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ذكر في [الحجر : ٨٨] ومدّ العينين هو تطويل النظر ففي ذلك
دليل على أن النظر غير الطويل معفوّ عنه (زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) شبه نعم الدنيا بالزهر وهو النوار ، لأن الزهر له منظر حسن
، ثم يذبل ويضمحل ، وفي نصب زهرة خمسة أوجه : أن ينتصب بفعل مضمر على الذم ، أو
يضمن متعنا معنى أعطينا ، ويكون زهرة مفعولا ثانيا له ، أو يكون بدلا من موضع
الجار والمجرور ، أو يكون بدلا من أزواجا على تقدير ذوي زهرة أو ينتصب على الحال.
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم (لا نَسْئَلُكَ
رِزْقاً) أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك فتفرغ أنت وأهلك للصلاة
فنحن نرزقك ، وكان بعض السلف إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمركم
الله ، ويتلو هذه الآية (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) البينة هنا البرهان ، والصحف الأولى هي التوراة والإنجيل
وغيرهما من كتب الله ، والضمير في قالوا وفي أو لم تأتهم لقريش لما اقترحوا آية
على وجه العناد والتعنت : أجابهم الله بهذا الجواب ، والمعنى قد جاءكم برهان ما في
التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلىاللهعليهوسلم ، فلأي شيء تطلبون آية أخرى ، ويحتمل أن يكون المعنى : قد
جاءكم القرآن وفيه من العلوم والقصص ما في الصحف الأولى ، فذلك بينة وبرهان على
أنه من عند الله (وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) الآية : معناها لو أهلكنا هؤلاء الكفار قبل بعث محمد صلىاللهعليهوسلم لاحتجوا على الله بأن يقولوا : لو لا أرسلت إلينا رسولا ،
ولو لا هنا : عرض فقامت عليهم الحجة ببعثه صلىاللهعليهوسلم (قُلْ كُلٌّ
مُتَرَبِّصٌ) أي قل كل واحد منا ومنكم منتظر لما يكون من هذا الأمر (فَتَرَبَّصُوا) تهديد (الصِّراطِ السَّوِيِ) المستقيم.
__________________
سورة الأنبياء
مكية وآياتها ١١٢
نزلت بعد سورة إبراهيم
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة الأنبياء عليهمالسلام
(اقْتَرَبَ
لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) الناس لفظ عام ، وقال ابن عباس : المراد به هنا المشركون
من قريش بدليل ما بعد ذلك ، لأنه من صفاتهم ، وإنما أخبر عن الساعة بالقرب ، لأن
الذي مضى من الزمان قبلها أكثر مما بقي لها ولأن كل آت قريب (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) يعني بالذكر القرآن ، ومحدث : أي محدث النزول (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) الواو في أسروا ضمير فاعل يعود على ما قبله ، والذين ظلموا
: بدل من الضمير ، وقيل : إن الفاعل هو الذين ظلموا ، وجاء ذلك على لغة من قال :
أكلوني البراغيث ، وهي لغة بني الحارث بن كعب ، وقال سيبويه : لم تأت هذه اللغة في القرآن ويحتمل
أن يكون الذين ظلموا منصوبا بفعل مضمر على الذم أو خبر ابتداء مضمر ، والأول أحسن (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) هذا الكلام في موضع نصب بدل من النجوى ، لأنه هو الكلام
الذي تناجوا به ، والبشر المذكور في الآية هو سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ
الْقَوْلَ) إخبار بأنه ما تناجوا به على أنهم أسرّوه ، فإن قيل : هلا
قال يعلم السر مناسبة لقوله أسرّوا النجوى؟ فالجواب : أن القول يشمل السرّ والجهر فحصل به ذكر السرّ
وزيادة.
(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ) أي أخلاط منامات ، وحكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ، ليظهر
اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم (كَما أُرْسِلَ
الْأَوَّلُونَ) أي كما جاء الرسل المتقدمون بالآيات ، فليأتنا محمد بآية.
فالتشبيه في الإتيان بالمعجزة (ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) لما قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) أخبرهم الله أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات ، فلما رأوها
ولم يؤمنوا أهلكوا ، ثم قال (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) أي أن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال من قبلهم ،
ويحتمل أن يكون
المعنى : أن كل قرية هلكت لم تؤمن فهؤلاء كذلك ، ولا يكون على هذا جوابا لقولهم :
فليأتنا بآية بل يكون إخبارا مستأنفا على وجه التهديد ؛ وأهلكناها في موضع الصفة
لقرية ، والمراد أهل القرية.
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ
إِلَّا رِجالاً) ردّ على قولهم : هل هذا إلا بشر مثلكم ؛ والمعنى أن الرسل
المتقدمين [كانوا] رجالا من البشر ، فكيف تنكرون أن يكون هذا الرجل رسولا (أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني : أحبار أهل الكتاب (وَما جَعَلْناهُمْ
جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) أي ما جعلنا الرسل أجسادا غير طاعمين ، ووحد الجسد لإرادة
الجنس ، ولا يأكلون الطعام صفة لجسد ، وفي الآية ردّ على قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] (وَمَنْ نَشاءُ) يعني المؤمنين (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي : شرفكم وقيل : تذكيركم (قَصَمْنا) أي أهلكنا ، وأصله من قصم الظهر أي كسره (مِنْ قَرْيَةٍ) يريد أهل القرية : قال ابن عباس : هي قرية باليمن يقال لها
حضور ، بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر ملك بابل فأهلكهم
بالقتل ، وظاهر اللفظ أنه على العموم لأن كم للتكثير ، فلا يريد قرية معينة (يَرْكُضُونَ) عبارة عن فرارهم ، فيحتمل أن يكونوا ركبوا الدواب ،
وركضوها لتسرع الجري أو شبهوا في سرعة جريهم على أرجلهم بمن يركض الدابة (لا تَرْكُضُوا) أي قيل لهم لا تركضوا والقائل لذلك هم الملائكة. قالوه
تهكما بهم ، أو رجال بختنصر إن كانت القرية المعينة ، قالوا ذلك لهم خداعا ليرجعوا
فيقتلوهم (أُتْرِفْتُمْ) أي نعمتم (لَعَلَّكُمْ
تُسْئَلُونَ) تهكم بهم وتوبيخ أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم ،
ويحتمل أن يكون تسألون بمعنى يطلب لكم الناس معروفكم وهذا أيضا تهكم (قالُوا يا وَيْلَنا) الآية اعتراف وندم حين لم ينفعهم (حَصِيداً خامِدِينَ) شبهوا في هلاكهم بالزرع المحصود ، ومعنى خامدين : موتى وهو
تشبيه بخمود النار (لاعِبِينَ) حال منفية أي ما خلقنا السموات والأرض لأجل اللعب بل
للاعتبار بها ، والاستدلال على صانعها (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) اللهو في لغة اليمن : الولد ، وقيل المرأة ، ومن لدنا : أي
من الملائكة ، فالمعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ ولدا لاتخذناه من الملائكة ، لا
من بني آدم ، فهو ردّ على من قال : إن المسيح ابن الله وعزير ابن الله ، والظاهر
أن اللهو بمعنى اللعب لاتصاله بقوله لاعبين.
وقال الزمخشري :
المعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ لهوا لكان ذلك في قدرتنا ، ولكن ذلك
لا يليق بنا لأنه
مناقض للحكمة ، وفي كلا القولين نظر (إِنْ كُنَّا
فاعِلِينَ) يحتمل أن تكون إن شرطية وجوابها فيما قبلها ، أو نافية ،
والأوّل أظهر (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) الحق عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق ،
والباطل عام في أضداد ذلك (فَيَدْمَغُهُ) أي يقمعه ويبطله ، وأصله من إصابة الدماغ (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يعيون ولا يملون (أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أم هنا للإضراب عما قبلها ، والاستفهام على وجه الإنكار
لما بعدها من الأرض يتعلق بينشرون ؛ والمعنى : أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا
يقدرون أن ينشروا الموتى من الأرض ، فليست بآلهة في الحقيقة ؛ لأن من صفة الإله
القدرة على الإحياء والإماتة.
(لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) هذا برهان على وحدانية الله تعالى ، والضمير في قوله فيهما
للسموات والأرض ، وإلا الله صفة لآلهة ، وإلا بمعنى غير ، فاقتضى الكلام أمرين :
أحدهما نفي كثرة الآلهة ، ووجوب أن يكون الإله واحدا ، والأمر الثاني : أن يكون
ذلك الواحد هو الله دون غيره ، ودل على ذلك قوله : إلا الله ، وأما الأوّل فكانت
الآية تدل عليه لو لم تذكر هذه الكلمة ، وقال كثير من الناس في معنى الآية : إنها
دليل على التمانع الذي أورده الأصوليون ، وذلك أنا لو فرضنا إلهين ، فأراد أحدهما
شيئا وأراد الآخر نقيضه ، فإما أن تنفذ إرادة كل واحد منهما ، وذلك محال ؛ لأن
النقيضين لا يجتمعان ، وإما أن لا تنفذ إرادة واحد منهما ، وذلك أيضا محال ، لأن
النقيضين لا يرتفعان معا ، ولأن ذلك يؤدّي إلى عجزهما وقصورهما ، فلا يكونان إلهين
، وإما أن ينفذ إرادة واحد منهما دون الآخر ، فالذي تنفذ إرادته هو الإله ، والذي
لا تنفذ إرادته ليس بإله ، فالإله واحد. وهذا الدليل إن سلمنا صحته فلفظ الآية لا
يطابقه ، بل الظاهر من اللفظ استدلال آخر أصح من دليل التمانع ، وهو أنه لو كان
فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، لما يحدث بينهما من الاختلاف والتنازع في التدبير
وقصد المغالبة ، ألا ترى أنه لا يوجد ملكان اثنان لمدينة واحدة ، ولا ولّيان لخطة
واحدة (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ) لأنه مالك كل شيء ، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء ، ولأنه
حكيم ، فأفعاله كلها جارية على الحكمة (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لفقد العلتين (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً) كرر هذا الإنكار استعظاما للشرك ، ومبالغة في تقبيحه ، لأن
قبله من صفات الله ما يوجب توحيده ، وليناط به ما ذكر بعده من تعجيز المشركين ،
وأنهم ليس لهم على الشرك برهان ؛ لا من جهة العقل ، ولا من جهة الشرع.
(هاتُوا بُرْهانَكُمْ) تعجيز لهم وقد تكلمنا على هاتوا في [البقرة : ١١١] (هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ
وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)
ردّ على المشركين
والمعنى هذا الكتاب الذي معي ، والكتب التي من قبلي ليس فيهما ما يقتضي الإشراك
بالله ، بل كلها متفقة على التوحيد (وَما أَرْسَلْنا) الآية : ردّ على المشركين ، والمعنى أن كل رسول إنما أتى بلا إله
إلا الله (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) يعني الملائكة ، وهم الذين قال فيهم بعض الكفار أنهم بنات
الله ، فوصفهم بالعبودية لأنها تناقض النبوّة ، ووصفهم بالكرامة ، لأن ذلك هو الذي
غر الكفار حتى قالوا فيهم ما قالوا (لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ) أي لا يتكلمون حتى يتكلم هو تأدّبا معه (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي لمن ارتضى أن يشفع له ، ويحتمل أن تكون هذه الشفاعة في
الآخرة أو في الدنيا ، وهي استغفارهم لمن في الأرض (مُشْفِقُونَ) أي خائفون (وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ) الآية على فرض أن لو قالوا ذلك ، ولكنهم لا يقولونه ،
وإنما مقصد الآية الردّ على المشركين وقيل : إن الذي قال : إني إله هو إبليس لعنه
الله.
(كانَتا رَتْقاً
فَفَتَقْناهُما) الرتق مصدر وصف به ، ومعناه الملتصق بعضه ببعض الذي لا صدع
فيه ولا فتح ، والفتق : الفتح فقيل : كانت السموات ملصقة بالأرض ففتقها الله
بالهواء ، وقيل كانت السموات ملتصقة بعضها ببعض ، والأرضون كذلك ففتقهما الله سبعا
سبعا ، والرؤية في قوله أو لم ير على هذا رؤية قلب ، وقيل : فتق السماء بالمطر وفتق
الأرض بالنبات ، فالرؤية على هذا رؤية عين.
(وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي خلقنا من الماء كل حيوان ، ويعني بالماء المنيّ. وقيل :
الماء الذي يشرب ، لأنه سبب لحياة الحيوان ، ويدخل في ذلك النبات باستعارة (رَواسِيَ) يعني الجبال (أَنْ تَمِيدَ) تقديره كراهية أن
تميد (فِجاجاً) يعني الطرق الكبار ، وإعرابه عند الزمخشري حال من السبل ،
لأنه صفة تقدّمت على النكرة (لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) يعني في طرقهم وتصرفاتهم (سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي حفظ من السقوط ومن الشياطين (عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) يعني الكواكب والأمطار والرعد والبرق وغير ذلك (كُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) التنوين في كل عوض عن الإضافة أي : كلهم في فلك يسبحون
يعني ؛ الشمس والقمر ، دون الليل والنهار ، إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في
الفلك فالجملة
في موضع حال من
الشمس والقمر أو مستأنفا ، فإن قيل : لفظ كلّ ويسبحون جمع ، فكيف يعني الشمس
والقمر وهما اثنان؟ فالجواب : أنه أراد جنس مطالعها كل يوم وليلة ، وهي كثيرة قاله
الزمخشري وقال القزنوي : أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة ، وعبر عنهما
بضمير الجماعة العقلاء في قوله : يسبحون ، لأنه وصفهم بفعل العقلاء وهو السبح ،
فإن قيل : كيف قال في فلك ، وهي أفلاك كثيرة؟ فالجواب أنه أراد كل واحد يسبح في
فلكه ، وذلك كقولهم : كساهم الأمير حلة أي كسا كل واحد منهم حلة ، ومعنى الفلك جسم
مستدير ، وقال بعض المفسرين : إنه من موج ، وذلك بعيد ، والحق أنه لا يعلم صفته
وكيفيته إلا بإخبار صحيح عن الشارع ، وذلك غير موجود ، ومعنى يسبحون يجرون ، أو
يدورون ، وهو مستعار من السبح بمعنى العوم في الماء ، وقوله : كل في فلك من
المقلوب الذي يقرأ من الطرفين.
(وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) سببها أن الكفار طعنوا على النبي صلىاللهعليهوسلم بأنه بشر يموت ، وقيل : إنهم تمنوا موته ليشتموا به ، وهذا
أنسب لما بعده (أَفَإِنْ مِتَّ
فَهُمُ الْخالِدُونَ) موضع دخول الهمزة فهم الخالدون وتقدمت لأن الاستفهام له
صدر الكلام (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس مخلوقة لا بدّ لها أن تذوق الموت ، والذوق هنا
استعارة (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) أي نختبركم بالفقر والغنى والصحة والمرض وغير ذلك من أحوال
الدنيا ، ليظهر الصبر على الشر والشكر على الخير ، أو خلاف ذلك (فِتْنَةً) مصدر من معنى نبلوكم (أَهذَا الَّذِي
يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي يذكرهم بالذم دلت على ذلك قرينة الحال ، فإن الذكر قد
يكون بذمّ أو مدح ، والجملة تفسير للهزء أي يقولون : أهذا الذي (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ
كافِرُونَ) الجملة في موضع الحال أي كيف ينكرون ذمّك لآلهتهم وهم
يكفرون بالرحمن ، فهم أحق بالملامة ، وقيل : معنى بذكر الرحمن تسميته بهذا الاسم ،
لأنهم أنكروها ، والأول أغرق في ضلالهم (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة : كقولهم
خلق حاتم من جود ، والإنسان هنا جنس ، وسبب الآية : أن الكفار استعجلوا الآيات
التي اقترحوها والعذاب الذي طلبوه ، فذكر الله هذا توطئة لقوله : فلا تستعجلون ،
وقيل : المراد هنا آدم ، لأنه لما وصلت الروح إلى صدره أراد أن يقوم. وهذا ضعيف ،
وقيل من عجل : أي من طين ، وهذا أضعف (سَأُرِيكُمْ آياتِي) وعيد وجواب على ما طلبوه من التعجيل (وَيَقُولُونَ) الآية : تفسير لاستعجالهم (الْوَعْدُ) القيامة وقيل : نزول العذاب بهم (لَوْ يَعْلَمُ) جواب لو محذوف (حِينَ) مفعول به ليعلموا : أي لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم
العذاب لآمنوا وما استعجلوا
(بَلْ تَأْتِيهِمْ) الضمير الفاعل للنار ، وقيل للساعة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تفجؤهم (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخرون عن العذاب (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) الآية تسلية بالتأسي (فَحاقَ) أي أحاط.
(مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) أي من يحفظكم من أمر الله ، ومن استفهامية ، والمعنى تهديد
، وإقامة حجة ، لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا أنهم ليس لهم مانع ولا
حافظ ، ثم جاء قوله (بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) بمعنى أنهم إذا سئلوا عن ذلك السؤال لم يجيبوا عنه لأنهم
تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله : أي عن الجواب الذي فيه
ذكر الله ، وقال الزمخشري : معنى الإضراب هنا أنهم معرضون عن ذكره ، فضلا عن أن
يخافوا بأسه (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) أي تمنعهم من العذاب ، وأم هنا للاستفهام ، والمعنى
الإنكار والنفي ، وذلك أنه لما سألهم عمن يكلؤهم : أخبر بعد ذلك أن آلهتهم لا
تمنعهم ولا تحفظهم ثم احتج عن ذلك بقوله : لا يستطيعون نصر أنفسهم ، فإن من لا
ينصر نفسه أولى أن لا ينصر غيره (وَلا هُمْ مِنَّا
يُصْحَبُونَ) الضمير للكفار :
أي لا يصحبون منا
بنصر ولا حفظ (بَلْ مَتَّعْنا
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) أي متعناهم بالنعم والعافية في الدنيا ، فطغوا بذلك ونسوا
عقاب الله ، والإضراب ببل عن معنى الكلام المتقدم : أي لم يحملهم على الكفر
والاستهزاء نصر ولا حفظ ، بل حملهم على ذلك أنا متعناهم وآباءهم.
(نَنْقُصُها مِنْ
أَطْرافِها) ذكر في [الرعد : ٤٣] (وَلا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعاءَ) إشارة إلى الكفار ، والصم استعارة في إفراط إعراضهم (نَفْحَةٌ) أي خطرة وفيها تقليل العذاب ، والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من
عذاب الله لأذعنوا واعترفوا بذنوبهم (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) أي العدل ، وإنما أفرد القسط وهو صفة للجمع ، لأنه مصدر
وصف به كالعدل والرضا ، وعلى تقدير ذوات القسط ، ومذهب أهل السنة أن الميزان يوم
القيامة حقيقة ، له كفتان ولسان وعمود توزن فيه الأعمال ، والخفة والثقل متعلقة
بالأجسام ، إما صحف الأعمال ، أو ما شاء الله ، وقالت المعتزلة : إن الميزان عبارة
عن العدل في الجزاء (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، وقال ابن عطية تقديره : لحساب يوم القيامة ، أو لحكمة ،
فهو على حذف مضاف
__________________
وقال الزمخشري :
هو كقولك كتبت الكتاب لست خلون من الشهر (مِثْقالَ حَبَّةٍ) أي وزنها والرفع على أن كان تامة ، والنصب على أنها ناقصة
واسمها مضمر (الْفُرْقانَ) هنا التوراة ، وقيل التفرقة بين الحق والباطل بالنصر
وإقامة الحجة (وَهذا ذِكْرٌ) يعني القرآن (رُشْدَهُ) أي إرشاده إلى توحيد الله وكسر الأصنام وغير ذلك (مِنْ قَبْلُ) أي قبل موسى وهارون ، وقيل آتيناه رشده قبل النبوة (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي علمناه أنه يستحق ذلك (التَّماثِيلُ) يعني الأصنام وكانت على صور بني آدم (وَجَدْنا آباءَنا) اعتراف بالتقليد من غير دليل (قالُوا أَجِئْتَنا
بِالْحَقِ) أي هل الذي تقول حق أم مزاح ، وانظر كيف عبر عن الحق
بالفعل ، وعن اللعب بالجملة الاسمية ، لأنه أثبت عندهم (فَطَرَهُنَ) أي خلقهن ، والضمير للسموات والأرض ، أو التماثيل ، وهذا
أليق بالرد عليهم (بَعْدَ أَنْ
تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) يعني خروجهم إلى عيدهم (جُذاذاً) أي فتاتا ، ويجوز فيه الضم والكسر والفتح ، وهو من الجذ
بمعنى القطع (إِلَّا كَبِيراً
لَهُمْ) ترك الصنم الكبير لم يكسره وعلق القدوم في يده (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) الضمير للصنم الكبير أي يرجعون إليه فيسألونه فلا يجيبهم ،
فيظهر لهم أنه لا يقدر على شيء ، وقيل : الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أي
يرجعن إليه فيبين لهم الحق.
(قالُوا مَنْ فَعَلَ
هذا) قبله محذوف تقديره : فرجعوا من عيدهم فرأوا الأصنام مكسورة
، فقالوا : من فعل هذا (فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي يذكرهم بالذم وبقوله : لأكيدن أصنامكم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) قيل : إن إعراب إبراهيم منادى ، وقيل خبر ابتداء مضمر ،
وقيل رفع على الإهمال ، والصحيح أنه مفعول لم يسم فاعله ، لأن المراد الاسم لا
المسمى وهذا اختيار ابن عطية والزمخشري (لَعَلَّهُمْ
يَشْهَدُونَ) أي يشهدون عليه بما فعل أو يحضرون عقوبتنا له (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) قصد إبراهيم عليهالسلام بهذا القول تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم ، كأنه يقول : إن
كان إلها فهو قادر على أن يفعل ، وإن لم يقدر فليس بإله ولم يقصد الإخبار المحض ،
لأنه كذب ، فإن قيل : فقد جاء في الحديث إن إبراهيم كذب ثلاث كذبات : أحدها قوله فعله كبيرهم ،
فالجواب أن معنى
__________________
ذلك أنه قال قولا
ظاهره الكذب ، وإن كان القصد به معنى آخر ، ويدل على ذلك قوله (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) لأنه أراد به أيضا تبكيتهم وبيان ضلالهم (فَرَجَعُوا
إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي رجعوا إليها بالفكرة والنظر ، أو رجعوا إليها بالملامة (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ
الظَّالِمُونَ) أي الظالمون لأنفسكم ؛ في عبادتكم ما لا ينطق ولا يقدر على
شيء أو الظالمون لإبراهيم في قولكم عنه إنه لمن الظالمين ، وفي تعنيفه على أعين
الناس (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى
رُؤُسِهِمْ) استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل
والمعاندة فقالوا (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي فكيف تأمرنا بسؤالهم فهم قد اعترفوا بأنهم لا ينطقون ،
وهم مع ذلك يعبدونهم فهذه غاية الضلال في فعلهم ، وغاية المكابرة والمعاندة في
جدالهم ، ويحتمل أن يكون نكسوا على رؤوسهم بمعنى رجوعهم من المجادلة إلى الانقطاع
؛ فإن قولهم : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون : اعتراف يلزم منه أنهم مغلوبون بالحجة ،
ويحتمل على هذا أن يكون نكسوا على رؤوسهم حقيقة : أي أطرقوا من الخجل لما قامت
عليهم الحجة (أُفٍّ لَكُمْ) تقدم الكلام على أف في [الإسراء : ٢٣] (قالُوا حَرِّقُوهُ) لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى التغلب عليه بالظلم (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً
وَسَلاماً) أي ذات برد وسلام ، وجاءت العبارة هكذا للمبالغة ، واختلف
كيف بردت النار؟ فقيل : أزال الله عنها ما فيها من الحرّ ، والإحراق ، وقيل : دفع
عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها ، وقيل : خلق بينه وبينها حائلا ،
ومعنى السلام هنا السلامة ، وقد روى أنه لو لم يقل : سلاما لهلك إبراهيم من البرد.
وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته ، ولأن ألفاظ القرآن لا
تقتضيه.
(إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها) هي الشام خرج إليها من العراق ، وبركتها بخصبها وكثرة
الأنبياء فيها (نافِلَةً) أي عطية ، والتنفيل العطاء ، وقيل سماه : نافلة ؛ لأنه
عطاء بغير سؤال ، فكأنه تبرع ، وقيل : الهبة إسحاق ، والنافلة يعقوب ، لأنه سأل
إسحاق بقوله : هب لي من الصالحين فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل ، واختار بعضهم على
هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى ، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي يرشدون الناس بإذننا (وَلُوطاً) قيل : إنه انتصب بفعل مضمر يفسره آتيناه ، والأظهر أنه
انتصب بالعطف على موسى وهارون أو إبراهيم وانتصب ونوحا وداود وسليمان وما بعدهم
بالعطف أيضا ، وقيل بفعل مضمر تقديره : اذكر (آتَيْناهُ حُكْماً) أي حكما بين الناس : أو
حكمة (مِنَ الْقَرْيَةِ) هي سدوم من أرض الشام (وَأَدْخَلْناهُ فِي
رَحْمَتِنا) أي في الجنة أو في أهل رحمتنا (نادى مِنْ قَبْلُ) أي دعا قبل إبراهيم ولوط (مِنَ الْكَرْبِ) يعني من الغرق (وَنَصَرْناهُ مِنَ
الْقَوْمِ) تعدى نصرناه بمن لأنه مطاوع انتصر المتعدّى بمن ، أو تضمن
معنى نجيناه أو أجرناه (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ) كان داود نبيا ملكا ، وكان ابنه سليمان ابن أحد عشر عاما (فِي الْحَرْثِ) قيل : زرع ، وقيل : كرم ، والحرث يقال فيهما (إِذْ نَفَشَتْ) رعت فيه بالليل (لِحُكْمِهِمْ) الضمير لداود وسليمان والمتخاصمين ، وقيل لداود وسليمان
خاصة ، على أن يكون أقل الجمع اثنان (فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ) تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر
بالليل فأفسدته فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم ، ووجه هذا الحكم أن قيمة
الزرع كانت مثل قيمة الغنم ، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب ، فأخبراه بما
حكم به أبوه ، فدخل عليه فقال : يا نبيّ الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع ،
قال وما هو؟ قال يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان ، ويأخذ
صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها ، فإذا أكمل الزرع ردت الغنم إلى
صاحبها ، والأرض بزرعها إلى ربها ، فقال له داود : وفقت يا بنيّ ، وقضى بينهما
بذلك ، ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع ، وواجب
على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان ، ويحتمل أن يكون ذلك
إصلاحا لا حكما.
واختلف الناس هل
كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ فمن قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء ، وروي أن
داود رجع عن حكمه لما تبين له أن الصواب خلافه ، وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق
الأنبياء ، وعلى القول بالجواز اختلف ، هل وقع أم لا؟ وظاهر قوله : ففهمناها سليمان : أنه كان باجتهاد فخص الله
به سليمان ففهم القضية ، ومن قال : كان بوحي ، جعل حكم سليمان ناسخا لحكم داود.
وأما حكم إفساد
المواشي الزرع في شرعنا ، فقال مالك والشافعي : يضمن أرباب المواشي ما أفسدت
بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك ، وعلى هذا يدل حكم داود وسليمان ، لأن
النفش لا يكون إلا بالليل ، وقال أبو حنيفة : لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار
، لقوله صلىاللهعليهوسلم : العجماء جرحها جبار (وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً) قيل : يعني في
__________________
هذه النازلة ، وأن
داود لم يخطئ فيها ، ولكنه رجع إلى ما هو أرجح ، ويدل على هذا القول أن كل مجتهد
مصيب ، وقيل : بل يعني حكما وعلما في غير هذه النازلة ، وعلى هذا القول فإنه أخطأ
فيها ، وأن المصيب واحد من المجتهدين (وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) كان هذا التسبيح قول سبحان الله ، وقيل : الصلاة معه إذا
صلى ، وقدم الجبال على الطير ، لأن تسبيحها أغرب إذ هي جماد (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي قادرين على أن نفعل هذا.
وقال ابن عطية : معناه كان ذلك في حقه لأجل أن داود استوجب ذلك مناصفة
كذا! (صَنْعَةَ لَبُوسٍ) يعني دروع الحديد ، وأول من صنعها داود عليهالسلام ، وقال ابن عطية اللبوس في اللغة : السلاح وقال الزمخشري :
اللبوس اللباس (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ) أي لتقيكم في القتال وقرئ بالياء والتاء والنون ، فالنون لله تعالى ، والتاء للصنعة
، والياء لداود أو للبوس (فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ) لفظ استفهام ، ومعناه استدعاء إلى الشكر (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) عطف الريح على الجبال ، والعاصفة هي الشديدة فإن قيل : كيف
يقال عاصفة؟ وقال في [ص : ٣٦] رخاء أي لينة؟ فالجواب : أنها كانت في نفسها لينة
طيبة ، وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين ، وقيل : كانت رخاء في ذهابه ،
وعاصفة في رجوعه إلى وطنه ، لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع ؛ وقيل : كانت
تشتدّ إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته (إِلى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها) يعني أرض الشام ، وكانت مسكنه وموضع ملكه ، فخص في الآية
الرجوع إليها لأنه يدل على الانتقال منها (يَغُوصُونَ لَهُ) أي يدخلون في الماء ليستخرجوا له الجواهر من البحار (عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أقل من الغوص كالبنيان والخدمة (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي نحفظهم عن أن يزيغوا عن أمره ، أو نحفظهم من إفساد ما
صنعوه ، وقيل : معناه عالمين بعددهم.
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى
رَبَّهُ) كان أيوب عليهالسلام نبيا من الروم ، وقيل من بني إسرائيل ، وكان له أولاد ومال
كثير فأذهب الله ماله فصبر ، ثم أهلك الأولاد فصبر ، ثم سلط البلاء على جسمه فصبر إلى أن مر به قومه فشمتوا به ، فحينئذ دعا
الله تعالى ، على أن قوله : مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ليس تصريحا بالدعاء ، ولكنه
ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه ، فكان في ذلك من حسن
التلطف ما ليس في التصريح بالطلب (فَكَشَفْنا ما بِهِ
مِنْ ضُرٍّ) لما استجاب الله له أنبع له عينا من ماء فشرب منه
__________________
واغتسل فبرئ من
المرض والبلاء (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) روى أن الله أحيا أولاده الموتى ورزقهم مثلهم معهم في
الدنيا وقيل : في الآخرة ، وقيل : ولدت امرأته مثل عدد أولاده الموتى ومثلهم معهم
، وأخلف الله عليه أكثر مما ذهب من ماله (رَحْمَةً مِنْ
عِنْدِنا) أي رحمة لأيوب ، وذكرى لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر
، ويحتمل أن تكون الرحمة والذكرى معا للعابدين.
(وَذَا الْكِفْلِ) قيل : هو إلياس وقيل : زكريا ، وقيل : نبيّ بعث إلى رجل
واحد ، وقيل : رجل صالح غير نبي ، وسمى ذا الكفل : أي ذا الحظ من الله وقيل : لأنه
تكفل لليسع بالقيام بالأمر من بعده.
(وَذَا النُّونِ) هو يونس عليهالسلام ، والنون هو الحوت نسب إليه لأنه التقمه (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي مغاضبا لقومه ، إذ كان يدعوهم إلى الله فيكفرون ، حتى
أدركه ضجر منهم فخرج عنهم ، ولذلك قال الله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ
الْحُوتِ) [القلم : ٤٨] ،
ولا يصح قول من قال مغاضبا لربه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي ظن أن [لن] نضيق عليه ، فهو من معنى قوله قدر عليه رزقه
، وقيل : هو من القدر والقضاء : أي ظنّ أن لن نضيق عليه بعقوبة ، ولا يصح قول من
قال : إنه من القدرة (فَنادى فِي
الظُّلُماتِ) قيل هذا الكلام محذوف ؛ لبيانه في غير هذه الآية ، وهو أنه
لما خرج ركب السفينة فرمي في البحر فالتقمه الحوت ؛ فنادى في الظلمات ، وهي ظلمة
الليل والبحر وبطن الحوت ، ويحتمل أنه عبر بالظلمة عن بطن الحوت ، لشدّة ظلمته
كقوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧] (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أن مفسرة أو مصدرية على تقدير نادى بأن ، والظلم الذي
اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم (وَنَجَّيْناهُ مِنَ
الْغَمِ) يعني من بطن الحوت وإخراجه إلى البرّ (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون مطلقا أو لمن دعا بدعاء يونس ، ولذلك قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : دعوة أخي يونس ذي النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له (لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي بلا ولد ولا وارث (وَأَنْتَ خَيْرُ
الْوارِثِينَ) إن لم ترزقني وارثا فأنت خير الوارثين ، فهو استسلام لله (وَأَصْلَحْنا
لَهُ زَوْجَهُ) يعني ولدت بعد أن كانت
__________________
عاقرا ، واسم
زوجته أشياع ، قاله السهيلي (يُسارِعُونَ فِي
الْخَيْراتِ) والضمير للأنبياء المذكورين (رَغَباً وَرَهَباً) الرغب الرجاء ، والرهب الخوف ، وقيل : الرغب أن ترفع إلى
السماء بطون الأيدي ، والرهب أن ترفع ظهورها (وَالَّتِي) (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) هي مريم بنت عمران ، ومعنى أحصنت من العفة أي أعفته عن
الحرام والحلال ، كقولها : لم يمسسني بشر (فَنَفَخْنا فِيها
مِنْ رُوحِنا) أي أجرينا فيها روح عيسى لما نفخ جبريل في جيب درعها ،
ونسب الله النفخ إلى نفسه ، لأنه كان بأمره والروح هنا هو الذي في الجسد ، وأضاف
الله الروح إلى نفسه للتشريف أو للملك (آيَةً) أي دلالة ، ولذلك لم يثن (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ) أي ملتكم ملة واحدة ، وهو خطاب للناس كافة ، أو للمعاصرين
لسيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم : أي إنما بعث الأنبياء المذكورون بما أمرتم به من الدين ،
لأن جميع الأنبياء متفقون في أصول العقائد (فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ) أي اختلفوا فيه ، وهو استعارة من جعل الشيء قطعا ، والضمير
للمخاطبين ، قيل فالأصل تقطعتم (فَلا كُفْرانَ
لِسَعْيِهِ) أي لإبطال ثواب عمله (وَإِنَّا لَهُ
كاتِبُونَ) أي نكتب عمله في صحيفته (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قرئ حرم بكسر الحاء وهو بمعنى حرام ، واختلف في معنى الآية ، فقيل
حرام بمعنى ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة ، أو
ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا ، ولا زائدة في الوجهين ، وقيل :
حرام بمعنى حتم واقع لا محالة ، ويتصور فيه الوجهان ، وتكون لا نافية فيهما أي :
حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة أو : حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا وقيل : المعنى
ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة ، ولا على هذا نافية
أيضا ، ففيه ردّ على من أنكر البعث.
(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) حتى هنا حرف ابتداء أو غاية متعلقة بيرجعون ، وجواب إذا :
فإذا هي شاخصة ، وقيل : الجواب يا ويلنا لأن تقديره يقولون يا ويلنا ، وفتحت يأجوج
ومأجوج أي فتح سدها فحذف المضاف (وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) الحدب المرتفع من الأرض ، وينسلون : أي يسرعون ، والضمير
ليأجوج ومأجوج : أي يخرجون من كل طريق لكثرتهم ، وقيل : لجميع الناس (الْوَعْدُ
الْحَقُ) يعني القيامة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ) إذا هنا للمفاجأة ، والضمير عند سيبويه ضمير القصة ، وعند
الفراء ،
__________________
للأبصار ، وشاخصة
من الشخوص وهو : إحداد النظر من الخوف (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) هذا خطاب للمشركين ، والحصب : ما توقد به النار : كالحطب. وقرأ عليّ بن أبي
طالب رضي الله عنه «حطب جهنم» والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها تحرق في النار
توبيخا لمن عبدها (وارِدُونَ) الورود هنا الدخول (زَفِيرٌ) ذكر في هود (لا يَسْمَعُونَ).
قيل يجعلون في
توابيت من نار فلا يسمعون شيئا ، وقيل : يصمهم الله كما يعميهم (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى) سبقت أي : قضيت في الأزل ، والحسنى السعادة ، ونزلت الآية
لما اعترض ابن الزبعرى على قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، فقال :
إن عيسى وعزير والملائكة قد عبدوا ؛ فالمعنى إخراج هؤلاء من ذلك الوعيد ، واللفظ
مع ذلك على عمومه في كل من سبقت له السعادة (حَسِيسَها) أي صوتها (الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ) أهوال القيامة على الجملة ، وقيل ذبح الموت وقيل : النفخة
الأولى في الصور لقوله : ففزع من السموات ومن في الأرض (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل الصحيفة والكتاب مصدر : أي كما يطوي السجل ليكتب فيه ، أو ليصان الكتاب
الذي فيه ، وقيل : السجل رجل كاتب وهذا ضعيف ، وقيل : هو ملك في السماء
الثانية : ترفع إليه الأعمال ، وهذا أيضا ضعيف (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي كما قدرنا على البداءة نقدر على الإعادة ، فهو كقوله :
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ، وقيل : المعنى نعيدهم على الصورة التي بدأناهم
كما جاء في الحديث : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده ، والكاف متعلقة بقوله نعيده (فاعِلِينَ) تأكيدا لوقوع البعث.
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) في الزبور هنا قولان : أحدهما أنه كتاب داود ، والذكر هنا
على هذا التوراة التي أنزل الله على موسى ، وما في الزبور من ذكر الله تعالى ،
والقول الثاني أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء ، والذكر
على هذا هو اللوح المحفوظ : أي كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له ، بعد ما كتبه
في اللوح المحفوظ حتي قضى الأمور كلها ، والأول أرجح ، لأن إطلاق الزبور على كتاب
داود أظهر
__________________
وأكثر استعمالا ،
ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع ، ولأن النص قد ورد
في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون (أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الأرض هنا على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها ، وقيل :
الأرض المقدسة ، وقيل : أرض الجنة ، والأول أظهر ، والعباد الصالحون : أمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ففي الآية ثناء عليهم ، وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود
إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) هذا خطاب لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وفيه تشريف عظيم ، وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير
المخاطب المفعول ، والمعنى على هذا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هو الرحمة ، ويحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال من ضمير
الفاعل تقديره : أرسلناك راحمين للعالمين ، أو يكون مفعولا من أجله ، والمعنى على
كل وجه : أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى ، والنجاة من الشقاوة العظمى
، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى ، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم
بعد الضلالة ، فإن قيل : رحمة للعالمين عموم ، والكفار لم يرحموا به؟ فالجواب من
وجهين : أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد
تعريضها لهم ، والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار
المتقدّمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك (آذَنْتُكُمْ عَلى
سَواءٍ) أي أعلمتكم بالحق على استواء في الإعلام وتبليغ إلى جميعكم
لم يختص به واحد دون آخر.
(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) إن هنا وفي الموضع الآخر نافية ، وأدري فعل علق عن معموله
لأنه من أفعال القلوب وما بعده في موضع المعمول من طريق المعنى فيجب وصله معه ،
والهمزة في قوله : أقريب للتسوية لا لمجرد الاستفهام ، وقيل : يوقف على إن أدرى في
الموضعين ، ويبتدأ بما بعده ، وهذا خطأ لأنه يطلب ما بعده (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ) الضمير لإمهالهم وتأخير عقوبتهم (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي الموت أو القيامة (الْمُسْتَعانُ عَلى
ما تَصِفُونَ) أي أستعين به على الصبر على ما تصفون من الكفر والتكذيب.
سورة الحج
مدنية إلا الآيات
٥٢ و ٥٣ و ٥٤ و ٥٥ فبين مكة والمدينة وآياتها ٧٨ نزلت بعد النور
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة الحج
(اتَّقُوا
رَبَّكُمْ) تكلمنا على التقوى في أول البقرة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي شدّتها وهولها كقوله : وزلزلوا ، أو تحريك الأرض حينئذ
كقوله : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، والجملة تعليل للأمر بالتقوى ، واختلف هل
الزلزلة والشدائد المذكورة بعد ذلك في الدنيا بين يدي القيامة ، أو بعد أن تقوم
القيامة ، والأرجح أن ذلك قبل القيامة ، لأن في ذلك الوقت يكون ذهول المرضعة ، ووضع
الحامل لا بعد القيامة (يَوْمَ تَرَوْنَها) العامل في الظرف تذهل ، والضمير للزلزلة ، وقيل : الساعة ،
وذلك ضعيف لما ذكرنا ؛ إلا أن يريد ابتداء أمرها (تَذْهَلُ) الذهول هو الذهاب عن الشيء مع دهشة (مُرْضِعَةٍ) إنما لم يقل مرضع ، لأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع
ملقمة ثديها للصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال
وصفها به ، فقال : مرضعة ليكون ذلك أعظم في الذهول ، إذ تنزع ثديها من فم الصبي
حينئذ (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى) تشبيه بالسكارى من شدّة الغمّ (وَما هُمْ بِسُكارى) نفي لحقيقة السكر ، وقرأ [حمزة والكسائي] سكرى والمعنى
متفق.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ) نزلت في النضر بن الحارث ، وقيل في أبي جهل ، وهي تتناول
كل من اتصف بذلك (شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي شديد الإغواء ، ويحتمل أن يريد شيطان الجن أو الإنس (كُتِبَ) تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب ، ويحتمل أن يكون بمعنى قضى
، كقولك : كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وفي أنه عطف عليه وقيل
: تأكيد (مَنْ تَوَلَّاهُ) أي تبعه أو اتخذه وليا ، والضمير في عليه ، وفي أنه في
الموضعين ، وفي تولاه ، للشيطان ، وفي يضله ، ويهديه ، للمتولي له ، ويحتمل أن
تكون تلك الضمائر أولا لمن يجادل.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية : معناها إن شككتم في البعث الأخروي فزوال ذلك الشك
أن تنظروا في ابتداء خلقتكم ؛ فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة : قادر
على أن يعيدكم ثاني مرة ، وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها :
قادر على أن يخرجكم من قبوركم (خَلَقْناكُمْ مِنْ
تُرابٍ) إشارة إلى خلق آدم ، وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته
وهو أصلهم (مِنْ عَلَقَةٍ) العلقة قطعة من دم جامدة (مِنْ مُضْغَةٍ) أي قطعة من لحم (مُخَلَّقَةٍ) المخلقة التامة الخلقة ، وغير المخلقة الغير التامة :
كالسقط ، وقيل : المخلقة المسوّاة السالمة من النقصان (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) اللام تتعلق بمحذوف تقديره : ذكرنا ذلك لنبين لكم قدرتنا
على البعث (وَنُقِرُّ) فعل مستأنف (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ستة أشهر إلى ما فوق
ذلك (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أفرده لأنه أراد الجنس ، أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلا (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) هو كمال القوّة والعقل والتمييز. وقد اختلف فيه من ثماني
عشرة سنة إلى خمس وأربعين (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ذكر في [النحل : ٧٠] (هامِدَةً) يعني لا نبات فيها (اهْتَزَّتْ) تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء (وَرَبَتْ) انتفخت (زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي صنف عجيب.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُ) أي ذلك المذكور من أمر الإنسان ، والنبات حاصل ، بأن الله
هو الحق ، هكذا قدره الزمخشري ، والباء على هذا سببية ، وبهذا المعنى أيضا فسّره
ابن عطية ، ويلزم على هذا أن لا يكون قوله : وأن الساعة آتية : معطوفا على ذلك ،
لأنه ليس بسبب لما ذكر ، فقال ابن عطية قوله : أن الساعة ليس بسبب لما ذكر ، ولكن
المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض ، أو على تقدير : والأمر أن الساعة وهذان
الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضعيفان : أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض ،
فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح ، وأما قوله على تقدير الأمر : أن
الساعة ، فذلك استئناف وقطع للكلام الأول ، ولا شك أن المقصود من الكلام الأول :
هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعا مما قبله ، والذي يظهر لي أن الباء ليست
بسببية ، وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى ؛ وذلك أن يكون التقدير :
ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق ، وأنه يحيى الموتى ،
وبأن الساعة آتية ، فيصح عطف : وأن الساعة على ما قبله بهذا التقدير ، وتكون هذه
الأشياء المذكورة بعد قوله : ذلك مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل الأخنس بن شريق (ثانِيَ عِطْفِهِ) كناية عن المتكبر المعرض (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) إن كانت في النضر بن الحارث : فالخزي أسره ثم قتله ، وكذلك
قتل أبي جهل (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ) أي يقال له : ذلك بما فعلت وبعدل الله ، لأنه لا يظلم
العباد (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ) نزلت في قوم من الأعراب ، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما
يعجبه في ماله وولده قال : هذا دين حسن ، وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتدّ عن
الإسلام ، فالحرف هنا كناية عن المقصد ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، أو من الحرف
بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه (خَسِرَ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةَ) خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها ، وخسارة الآخرة بارتداده
وسوء اعتقاده (ما لا يَضُرُّهُ) يعني الأصنام ، ويدعو بمعنى يعبد في الموضعين (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ) فيها إشكالان : الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام
بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضرّها أقرب من نفعها ، فنفى الضرّ ثم أثبته
، فالجواب : أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئا ،
والضر الثاني : يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره ، والأشكال الثاني : دخول
اللام على من وهي في الظاهر مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول ، وأجاب الناس عن
ذلك بثلاثة أوجه : أحدها أن اللام مقدّمة على موضعها ، كأن الأصل أن يقال : يدعو
من لضره أقرب من نفعه ، فموضعها الدخول على المبتدإ ، والثاني : أن يدعو هنا كرر
تأكيدا ليدعو الأول وتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ قوله : لمن ضرّه ، فمن مبتدأ وخبره
لبئس المولى ، وثالثها : أن معنى يدعو : يقول يوم القيامة هذا الكلام إذا رأى مضرة
الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدإ في أول الكلام (الْمَوْلى) هنا بمعنى الولي (الْعَشِيرُ) الصاحب فهو من العشيرة.
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية : لما ذكر أن الأصنام لا تنفع من عبدها ، قابل ذلك
بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع ، وهو دخول الجنة (فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) السبب هنا الحبل ، والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء
، التي
تعلق منها الحبال
، والقطع هنا يراد به : الاختناق بالحبل ، يقال : قطع الرجل إذا اختنق ، ويحتمل أن
يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق ، وربطه في السقف ، والمراد
بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته ، أو طمع فيما لا يصل إليه ، كقوله
للحسود : مت كمدا ، أو اختنق ؛ فإنك لا تقدر على غير ذلك ، وفي معنى الآية قولان : الأول أن الضمير
في ينصره لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى على هذا : من كان من الكفار يظنّ أن لن ينصر
الله محمدا فليختنق بحبل ، فإن الله ناصره ولا بد على غيظ الكفار ، فموجب الاختناق
هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، والقول الثاني أن الضمير في ينصره عائد على من ، والمعنى
على هذا من ظنّ بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله : فليختنق وليمت بغيظه ، فإنه لا يقدر على غير ذلك ، فموجب
الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء ، وسوء الظنّ بالله حتى ييأس من نصره ،
ولذلك فسر بعضهم أن لن ينصره الله بمعنى أن لن يرزقه ، وهذا القول أرجح من الأول
لوجهين : أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف ، لأنه إذا أصابته فتنة
انقلب وقنط ، حتى ظنّ أن الله لن ينصره ، فيكون هذا الكلام متصلا بما قبله : ويدل
على ذلك قوله قبل هذه الآية : إن الله يفعل ما يريد : أي الأمور بيد الله ، فلا
ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله ، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة ، والوجه الثاني ،
أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدّمه ، وأما على القول الأول فلا
يعود على مذكور قبله ؛ لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه ، ولا يدل سياق
الكلام عليه دلالة ظاهرة (فَلْيَنْظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) الكيد هنا يراد به اختناقه ، وسمي كيدا لأنه وضعه موضع
الكيد ، إذ هو غاية حيلته ، والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من
الأمر ، أي ليس يذهبه.
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ) الضمير للقرآن ، أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي
مَنْ يُرِيدُ) قال ابن عطية : أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن
الله ، وهذا ضعيف. لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله ، وقال
الزمخشري : التقدير : لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات ، فجعل أن تعليلا
للإنزال ، وهذا ضعيف ؛ للفصل بينهما بالواو. والصحيح عندي : أن قوله : وأن الله
معطوف على آيات بينات ، لأنه مقدر بالمصدر ، فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن
أراد الله أن يهديه (وَالصَّابِئِينَ) ذكر في [البقرة : ٦٢] وكذلك الذين هادوا (وَالْمَجُوسَ) هم الذين يعبدون النار ، ويقولون : إن الخير من النور
والشر من الظلمة (وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا) هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) هذه الجملة هي خبر إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية ،
وكررت مع الخبر للتأكيد ، وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو
الحق ، وسائر
الأديان باطلة ، وبأن يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) دخل في هذا من في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من
الملائكة ، والجنّ ولم يدخل الناس في ذلك ؛ لأنه ذكرهم في آخر الآية ، إلا أن يكون
ذكرهم في آخرها على وجه التجريد ، وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف ، لأنه
لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما ، وإنما المراد به الانقياد ثم إن
الانقياد يكون على وجهين : أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعا ، والآخر الانقياد لما
يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤوا أو أبوا (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله ، فيكون كثير
من الناس معطوفا على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله : وكثير حق عليه
العذاب مستأنفا يراد به من لا ينقاد للطاعة ، ويوقف على قوله : وكثير من الناس ،
وهذا القول هو الصحيح ؛ وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره ؛ فلا
يصح تفضيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى ،
وقيل : إن قوله : وكثير من الناس معطوف على ما قبله ثم عطف عليه وكثير حق عليه
العذاب فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله : حق عليه العذاب يقتضي ظاهره أنه
إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود ، وتأوله الزمخشري على هذا المعنى ، بأن إعراب
كثير من الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره
محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد.
(هذانِ خَصْمانِ) الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ، ويدل على ذلك
ما ذكر قبلها من اختلاف الناس في أديانهم ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : نزلت في على
ابن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا يوم بدر لعتبة بن
ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فالآية على هذا مدنية إلى تمام ست
آيات ، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، والمراد به هنا الجماعة ؛
والإشارة بهذان إلى الفريقين (اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) أي في دينه وفي صفاته ، والضمير في اختصموا لجماعة
الفريقين (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية : حكم بين الفريقين ، بأن جعل للكفار النار
وللمؤمنين الجنة المذكورة بعد هذا (قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فصلت على قدر أجسادهم ، وهو مستعار من تفصيل الثياب (الْحَمِيمُ) الماء الحارّ (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي
بُطُونِهِمْ) أي يذاب ، وذلك أن الحميم إذا صب على رؤوسهم وصل حره إلى
بطونهم ، فأذاب ما فيها ، وقيل : معنى يصهر ينضج (مَقامِعُ) جمع مقمعة أي مقرعة (مِنْ حَدِيدٍ) يضربون بها ، وقيل : هي
السياط (مِنْ
غَمٍ) بدل من المجرور قبله (وَذُوقُوا) التقدير يقال لهم ذوقوا (مِنْ أَساوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ) من لبيان الجنس أو للتبعيض وفسرنا الأساور في [الكهف : ٣١]
(وَلُؤْلُؤاً) بالنصب مفعول بفعل مضمر أي يعطون لؤلؤا ، أو معطوف على
موضع من أساور إذ هو مفعول ، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب (الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) قيل : هو لا إله إلا الله ، واللفظ أعم من ذلك (صِراطِ الْحَمِيدِ) أي صراط الله ،
فالحميد اسم الله ، ويحتمل أن يريد الصراط الحميد ، وأضاف الصفة إلى الموصوف كقولك
: مسجد الجامع (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) خبره محذوف يدل عليه قوله نذقه من عذاب أليم ، وقيل :
الخبر يصدون على زيادة الواو ، وهذا ضعيف ، وإنما قال : يصدون بلفظ المضارع ليدل
على الاستمرار على الفعل (سَواءً) بالرفع مبتدأ وخبره مقدر ، والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا
، وقرأ حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني والعاكف فاعل به (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) العاكف المقيم في البلد : والبادي القادم عليه من غيره ، والمعنى : أن الناس سواء في المسجد
الحرام ، لا يختص به أحد دون أحد وذلك إجماع ، وقال أبو حنيفة : حكم سائر مكة في
ذلك كالمسجد الحرام ، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء ، وليس لأحد فيها ملك ،
والمراد عنده بالمسجد الحرام جميع مكة ، وقال مالك وغيره : ليست الدور في ذلك
كالمسجد ، بل هي متملكة (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) الإلحاد الميل عن الصواب ، والظلم هنا عام في المعاصي من
الكفر إلى الصغائر ، لأن الذنوب في مكة أشدّ منها في غيرها ، وقيل : هو استحلال
الحرام ، ومفعول يرد محذوف تقديره : من يرد أحدا أو من يرد شيئا ، وبإلحاد بظلم :
حالان مترادفان ، وقيل : المفعول قوله بإلحاد على زيادة الباء.
(وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) العامل في إذ مضمر تقديره اذكر وبوأنا أصله من باء بمعنى
رجع ، ثم ضوعف ليتعدى ، واستعمل بمعنى أنزلنا في الموضع كقوله : تبوئ المؤمنين ،
إلا أن هذا المعنى يشكل هنا لقوله لإبراهيم لتعدّى الفعل باللام ، وهو يتعدّى
بنفسه حتى قيل : اللام زائدة ، وقيل : معناه هيأنا ، وقيل : جعلنا ، والبيت
هنا الكعبة ، وروى أنه كان آدم يعبد الله فيه ، ثم درس بالطوفان ، فدل الله
إبراهيم عليهالسلام على مكانه ، وأمره ببنيانه (أَنْ لا تُشْرِكْ) أن
__________________
مفسرة ، والخطاب
لإبراهيم عليهالسلام ، وإنما فسرت تبوئة البيت بالنهي عن الإشراك ، والأمر
بالتطهير ؛ لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك (طَهِّرا بَيْتِيَ) عام في التطهير من الكفر والمعاصي والأنجاس ، وغير ذلك (وَالْقائِمِينَ) يعني المصلين.
(وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِ) خطاب لإبراهيم ، وقيل : لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، والأول هو الصحيح ، روى أنه لما أمر بالأذان بالحج : صعد على جبل أبي قبيس ، ونادى : أيها الناس إن الله قد
أمركم بحج هذا البيت فحجوا ، فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة ، وهم في أصلاب
آبائهم. وأجابه في ذلك الوقت كل شيء من جماد وغيره. لبيك اللهم لبيك ، فجرت
التلبية على ذلك (يَأْتُوكَ رِجالاً) جمع راجل أي ماشيا على رجليه (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) الضامر يراد به كل ما يركب من فرس وناقة وغير ذلك ، وإنما
وصفه بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره ، وقوله : وعلى كل ضامر حال
معطوف على حال كأنه قال : رجالا وركبانا ، واستدل بعضهم بتقديم الرجال في الآية
على أن المشي إلى الحج أفضل من الركوب ، واستدل بعضهم بسقوط ذكر البحر بهذه الآية
، على أنه يسقط فرض الحج على من يحتاج إلى ركوب البحر (يَأْتِينَ) صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد (مَنافِعَ لَهُمْ) أي بالتجارة ، وقيل : أعمال الحج وثوابه ، واللفظ أعم من
ذلك (وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ) يعني التسمية عند ذبح البهائم ونحرها وفي الهدايا والضحايا
، وقيل : يعني الذكر على الإطلاق ، وإنما قال : اسم الله ، لأن الذكر باللسان إنما
يذكر لفظ الأسماء (فِي أَيَّامٍ
مَعْلُوماتٍ) هي عند مالك : يوم النحر وثانيه وثالثه خاصة لأن هذه هي
أيام الضحايا عنده ، ولم يجز ذبحها بالليل لقوله في أيام وقيل : الأيام المعلومات
: عشر ذي الحجة ويوم النحر والثلاثة بعده ، وقيل : عشر ذي الحجة خاصة ، وأما
الأيام المعدودات ، فهي الثلاثة بعد يوم النحر ، فيوم النحر من المعلومات لا من
المعدودات واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ورابع النحر في المعدودات لا من
المعلومات (فَكُلُوا مِنْها) ندب أو إباحة ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ويتصدق
بالأكثر (الْبائِسَ) الذي أصابه البؤس وقيل : هو المتكفف وقيل : الذي يظهر عليه
أثر الجوع (ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) التفث في اللغة الوسخ ، فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص
الأظفار والاستحداد وسائر خصال الفطرة والتنظف بعد أن يحلّوا من الحج ، وقيل :
التفث أعمال الحج ، وقرئ بكسر اللام وإسكانها ، وهي لام الأمر وكذلك وليّوفوا وليطوّفوا.
__________________
(وَلْيَطَّوَّفُوا) المراد هنا طواف الإفاضة عند جميع المفسرين وهو الطواف
الواجب (بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) أي القديم ، لأنه أول بيت وضع للناس وقيل : العتيق الكريم
، كقولهم : فرس عتيق ، وقيل أعتق من الجبابرة أي منع منهم ، وقيل : العتيق هو الذي لم
يملكه أحد قط (ذلِكَ) هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير : الأمر ذلك كما
يقدم الكاتب جملة من كتابه ، ثم يقول هذا وقد كان كذا ، وأجاز بعضهم الوقف على
قوله : ذلك في ثلاثة مواضع من هذه السورة وهي هذا و «ذلك ومن يعظم شعائر الله» و «ذلك
ومن يشرك بالله» لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر ، والأحسن وصلها بما
بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير ، لأن ما بعدها ليس كلاما أجنبيا ، ومثلها «ذلك
ومن عاقب» و «ذلكم فذوقوه» في الأنفال ، و «هذا وإن للطاغين» في ص : ٥٥ (حُرُماتِ اللهِ) جمع حرمة ، وهو ما لا يحل هتكه من أحكام الشريعة ، فيحتمل
أن يكون هنا على العموم ، أو يكون خاصا بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي التعظيم للحرمات خير (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة (الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) من لبيان الجنس
كأنه قال : الرجس الذي هو الأوثان ، والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقربا
إليها ، كما كانت العرب تفعل (قَوْلَ الزُّورِ) أي الكذب ، وقيل : شهادة الزور.
(فَكَأَنَّما خَرَّ
مِنَ السَّماءِ) الآية ، تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشدّ الهلاك (سَحِيقٍ) أي بعيد (شَعائِرَ اللهِ) قيل : هي الهدايا في الحج وتعظيمها بأن تختار سمانا عظاما
غالية الأثمان ، وقيل : مواضع الحج ، كعرفات ومنى والمزدلفة ، وتعظيمها إجلالها
وتوقيرها والقصد إليها ، وقيل : الشعائر أمور الدين على الإطلاق ، وتعظيمها القيام
بها وإجلالها (فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ) الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم
، وقال الزمخشري : التقدير : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه
المضافات (لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ) من قال : إن شعائر الله هي الهدايا ، فالمنافع بها شرب
لبنها ، وركوبها لمن اضطر إليها ، والأجل المسمى نحرها. ومن قال إن شعائر الله
مواضع الحج ، فالمنافع التجارة فيها أو الأجر ، والأجل المسمى : الرجوع إلى مكة
لطواف الإفاضة (ثُمَّ مَحِلُّها
إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) من قال : إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى
ومكة ، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي ، وثم على هذا القول
ليست للترتيب في
الزمان ، لأن
محلها قبل نحرها ، وإنما هي لترتيب الجمل ، ومن قال : إن الشعائر موضع الحج ،
فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم : أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة
إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال : إن الشعائر أمور الدين على الإطلاق فذلك لا
يستقيم مع قوله : محلها إلى البيت.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي لكل أمة مؤمنة ، والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم ،
ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة ، والمراد بذلك الذبائح لقوله : «ليذكروا اسم
الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام» بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقرّبا إلى
الأصنام (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) في وجه اتصاله بما قبله وجهان : أحدهما أنه لما ذكر الأمم
المتقدّمة خاطبها بقوله : فإلهكم إله واحد ، أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن
تقدّم قبلكم ، والثاني : أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقربا
لغيره (الْمُخْبِتِينَ) الخاشعين وقيل : المتواضعين ، وقيل : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ،
وكذلك قوله بعد ذلك : وبشر المحسنين واللفظ فيهما أعم من ذلك (وَجِلَتْ) خافت (وَالْبُدْنَ) جمع بدنة ، وهو ما أشعر من الإبل ، واختلف هل يقال للبقرة
بدنة ، وانتصابه بفعل مضمر (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) واحدها شعيرة ، ومن للتبعيض ، واستدل بذلك من قال : إن
شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) قيل : الخير هنا المنافع المذكورة قبل ، وقيل : الثواب ،
والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة (صَوافَ) معناه : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهنّ ، وهي منصوبة على
الحال من الضمير المجرور ، ووزنه فواعل ، وواحده صافة (وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت إلى الأرض عند موتها ، يقال : وجب الحائط وغيره
إذا سقط (الْقانِعَ) معناه السائل ، هو من قولك قنع الرجل بفتح النون : إذا سأل
، وقيل : معناه المتعفف عن السؤال ، فهو على هذا من قولك : قنع بالكسر إذا رضي
بالقليل (وَالْمُعْتَرَّ) المعترض بغير سؤال ، ووزنه مفتعل ، يقال : اعتررت بالقوم
إذا تعرّضت لهم ، فالمعنى : أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله ،
وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية ، ومن تعرض للعطاء (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم ، وقال الزمخشري :
التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم.
(لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها) المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء ، وإنما
تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله ، وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون
من الهدايا ، فعبر
عن هذا المعنى بلفظ : ينال مبالغة وتأكيدا ، لأنه قال : لن تصل لحومها ولا دماؤها
إلى الله ، وإنما تصل بالتقوى منكم ، فإن ذلك هو الذي طلب منكم ، وعليه يحصل لكم
الثواب ، وقيل : كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك
فنهوا عنه ونزلت الآية (كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ) كرر للتأكيد (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) قيل : يعني قول الذابح : بسم الله والله أكبر ، واللفظ أعم
من ذلك.
(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) كان الكفار يؤذون المؤمنين بمكة ، فوعدهم الله أن يدفع
عنهم شرهم وأذاهم ، وحذف مفعول يدافع ليكون أعظم وأعم «وقرئ يدافع بالألف ، ويدفع
بسكون الدال من غير الألف ، وهما بمعنى واحد ، أجريت فاعل مجرى فعل من قولك عاقبة
الأمر ، وقال الزمخشري : يدافع : معناه يبالغ في الدفع عنهم ، لأنه للمبالغة ،
وفعل المغالبة أقوى (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) الخوّان مبالغة في خائن ، والكفور مبالغة في كافر ، قال
الزمخشري : هذه الآية علة لما قبلها (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) هذه أول آية نزلت في الإذن في القتال ، ونسخت الموادعة مع
الكفار ، وكان نزولها عند الهجرة ، وقرئ أذن بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله ، وبالفتح على البناء
للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة
يقاتلون عليه ، وقرئ يقاتلون بفتح التاء وكسرها (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب أنهم ظلموا (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ) يعني الصحابة ، فإن الكفار آذوهم وأضروا بهم حتى اضطروهم
إلى الخروج من مكة ، فمنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ، ومنهم من هاجر إلى المدينة
ونسب الإخراج إلى الكفار ؛ لأن الكلام في معرض إلزامهم الذنب ووصفهم بالظلم (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) قال ابن عطية هو استثناء منقطع لا يجوز فيه البدل عند
سيبويه ، وقال الزمخشري : أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) الآية تقوية للإذن في القتال وإظهار للمصلحة التي فيه ،
كأنه يقول لو لا القتال والجهاد لاستولى الكفار على المسلمين وذهب الدين ، وقيل :
المعنى ؛ لو لا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة ، والأول أليق بسياق الآية ، وقرأ نافع
: دفاع بالألف مصدر دافع ، والباقون بغير ألف مصدر دفع (لَهُدِّمَتْ) قرأ نافع وابن كثير بالتخفيف والباقون بالتشديد للمبالغة (صَوامِعُ) جمع صومعة بفتح الميم وهي موضع
__________________
العبادة ، وكانت
للصابئين ولرهبان النصارى ، ثم سمى بها في الإسلام موضع الأذان ، والبيع جمع بيعة
بكسر الباء وهي كنائس النصارى ، والصلوات كنائس اليهود ، وقيل : هي مشتركة لكل أمة
، والمراد بها مواضع الصلوات ، والمساجد للمسلمين ، فالمعنى : لو لا دفع الله
لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم ، ولاستولى المشركون على هذه
الأمة فهدموا مواضع عباداتهم (يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللهِ) الضمير لجميع ما تقدم من المتعبدات ، وقيل : للمساجد خاصة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي من ينصر دينه وأولياءه ، وهو وعد تضمن الحض على القتال (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) الآية ؛ قيل : يعني أمة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : الصحابة ، وقيل : الخلفاء الأربعة لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة
ففعلوا ما وصفهم الله به.
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) الآية ضمير الفاعل لقريش ، والخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم على وجه التسلية له والوعيد لهم (نَكِيرِ) مصدر بمعنى الإنكار (عَلى عُرُوشِها) العروش السقف فإن تعلق الجار بخاوية : فالمعنى أن العروش
سقطت ثم سقطت الحيطان عليها فهي فوقها ، وإن كان الجار والمجرور في موضع الحال :
فالمعنى أنها خاوية مع بقاء عروشها (بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي لا يستقى الماء منها لهلاك أهلها ، وروي أن هذه البئر
هي الرس ، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود ، والأظهر أنه لم يرد التعيين ، لقوله : «كأين
من قرية» وهذا اللفظ يراد به التكثير (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي مبنى بالشيد وهو الجص ، وقيل : المشيد المرفوع البنيان (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ) دليل على أن العقل في القلب ، خلافا للفلاسفة في قولهم :
العقل في الدماغ (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ) أي لا تعمى الأبصار عمى يعتد به ، وإنما العمى الذي يعتد
به عمى القلوب ، وإن هؤلاء القوم ما عميت أبصارهم ولكن عميت قلوبهم ، فالمعنى
الأول لقصد المبالغة ، والثاني خاص بهؤلاء القوم (الَّتِي فِي
الصُّدُورِ) مبالغة كقوله : يقولون بأفواههم.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ) الضمير لكفار قريش (وَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ وَعْدَهُ) إخبار يتضمن الوعيد بالعذاب ، وسماه وعدا ؛ لأن المراد به
مفهوم (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)
__________________
المعنى أن يوما من
أيام الآخرة مقداره ألف سنة من أعوام الدنيا ، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم. وذلك خمسمائة سنة ، وقيل : المعنى إن يوما واحدا من
أيام العذاب كألف سنة لطول العذاب ، فإن أيام البؤس طويلة ، وإن كانت في الحقيقة
قصيرة ، وفي كل واحد من الوجهين تهديد للذين استعجلوا العذاب ، إلا أن الأول أرجح
، لأن الألف سنة فيه حقيقة ، وقيل : إن اليوم المذكور في الآية هو يوم من الأيام
الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ) ذكر أولا القرى التي أهلكها بغير إملاء ، وذكر هنا التي
أهلكها بعد الإملاء ، والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة فيما بعد ، وعطف هذه
الجملة بالواو على الجمل المعطوفة قبلها بالواو ، وقال في الأولى فكأين لأنه بدل
من قوله : فكيف كان نكير (سَعَوْا فِي آياتِنا) أي سعوا فيها بالطعن عليها ، وهو من قولك : سعى في الأمر
إذا جد فيه لقصد إصلاحه أو إفساده (مُعاجِزِينَ) بالألف : أي مغالبين ، لأنهم قصدوا عجز صاحب الآيات ،
والآيات تقتضي عجزهم ، فصارت مفاعلة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد [معجّزين]
من غير ألف ومعناه أنهم يعجزون الناس عن الإسلام أي يثبطونهم عنه (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) النبيّ أعم من الرسول ، فكل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولا
، فقدم الرسول لمناسبة لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم ، لأنه لو اقتصر على
رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول (إِذا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) سبب هذه الآية أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قرأ سورة والنجم بالمسجد الحرام بمحضر المشركين والمسلمين
فلما بلغ إلى قوله : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان :
تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى ، فسمع ذلك المشركون ففرحوا به وقالوا :
محمد يذكر آلهتنا بما نريد.
واختلف في كيفية
إلقاء الشيطان ، فقيل : إن الشيطان هو الذي تكلم بذلك ، وظن الناس أن النبي صلى
الله تعالى عليه وعلى آله وسلم هو المتكلم به ؛ لأنه قرّب صوته من صوت النبيّ صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم ، حتى التبس الأمر على المشركين ، وقيل : إن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هو الذي تكلم بذلك على وجه الخطأ والسهو ؛ لأن الشيطان ألقاه
ووسوس في قلبه ، حتى خرجت تلك الكلمة على لسانه من غير قصد ، والقول الثاني أشهر
عند المفسرين والناقلين لهذه القصة ، والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله تعالى
__________________
عليه وعلى آله
وسلم معصوم في التبليغ ، فمعنى الآية : أن كل نبي وكل رسول قد جرى له مثل ذلك من
إلقاء الشيطان ، واختلف في معنى تمنى وأمنيته في هذه الآية فقيل : تمنى بمعنى تلا
، والأمنية : التلاوة : أي إذا قرأ الكتاب ألقى الشيطان من عنده في تلاوته ، وقيل
: هو من التمني بمعنى حب الشيء ، وهذا المعنى أشهر في اللفظ : أي تمنى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مقاربة قومه واستئلافهم ، وألقى الشيطان ذلك في هذه
الأمنية ليعجبهم ذلك (فَيَنْسَخُ اللهُ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يبطله كقولك : نسخت الشمس الظل
(لِيَجْعَلَ) متعلق بقوله ينسخ ويحكم (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) أي أهل الشك (وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ) المكذبون ، وقيل : الذين في قلوبهم مرض عامة الكفار ،
والقاسية قلوبهم أشدّ كفرا وعتّوا كأبي جهل (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) يعني بالظالمين المذكورين قبل ، ولكنه جعل الظاهر موضع
المضمر ، ليقضي عليهم بالظلم ، والشقاق : العداوة ، ووصفه ببعيد ، لأنه في غاية
الضلال والبعد عن الخير (الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) قيل : يعني الصحابة ، واللفظ أعم من ذلك.
(أَنَّهُ الْحَقُ) الضمير عائد على القرآن ، وقال الزمخشري : هو لتمكين
الشيطان من الإلقاء (فَتُخْبِتَ) أي تخشع (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الضمير للقرآن ، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
أو للإلقاء (يَوْمٍ عَقِيمٍ) يعني يوم بدر ، ووصفه بالعقيم لأنه لا ليلة لهم بعده ولا
يوم ، لأنهم يقتلون فيه ، وقيل : هو يوم القيامة ، والساعة مقدّماته ، ويقوي ذلك قوله
: الملك يومئذ لله ، ثم قسم الناس إلى قسمين : أصحاب الجحيم وأصحاب النعيم (قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) روى أن قوما قالوا : يا رسول الله قد علمنا ما أعطى الله
لمن قتل من الخيرات ، فما لمن مات معك؟ فنزلت الآية معلمة أن الله يرزق من قتل ومن
مات معا ، ولا يقتضي ذلك المساواة بينهم لأن تفضيل الشهداء ثابت (رِزْقاً حَسَناً) يحتمل أن يريد به الرزق في الجنة بعد يوم القيامة ، أو رزق
الشهداء في البرزخ ، والأول أرجح ، لأنه يعم الشهداء والموتى (مُدْخَلاً) يعني الجنة (ذلِكَ) تقديره هنا : الأمر ذلك كما يقول الكاتب هذا وقد كان كذا
إذا أراد أن يخرج إلى حديث آخر.
(وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) سمى الابتداء عقوبة باسم الجزاء عليها تجوّزا كما تسمى
العقوبة أيضا باسم الذنب ووعد بالنصر لمن بغى عليه (إِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إن قيل
ما مناسبة هذين
الوصفين للمعاقبة؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أن في ذكر هذين الوصفين إشعار بأن
العفو أفضل من العقوبة ، فكأنه حض على العفو ، والثاني أن في ذكرهما إعلاما بعفو
الله عن المعاقب حين عاقب ، ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
يُولِجُ اللَّيْلَ) أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر ، ومن آيات قدرته أنه يولج
الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ومعنى الإيلاج هنا أنه يدخل ظلمة هذا
في مكان ضوء هذا ، ويدخل ضوء هذا مكان ظلمة هذا ، وقيل : الإيلاج هو ما ينقص من
أحدهما ويزيد في الآخر.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُ) أي ذلك الوصف الذي وصف الله به هو بسبب أنه الحق (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) تصبح هنا بمعنى تصير ، وفهم بعضهم أنه أراد صبيحة ليلة
المطر ، فقال : لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة ، والبلاد الحارة ، وأما على معنى
تصير ، فذلك عام في كل بلد ، والفاء للعطف ، وليست بجواب ، ولو كانت جوابا لقوله :
ألم تر لنصبت الفعل ، وكان المعنى نفي خضرتها وذلك خلاف المقصود ، وإنما قال تصبح
بلفظ المضارعة ليفيد بقاءها كذلك مدة (سَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي الْأَرْضِ) يعني البهائم والثمار والمعادن وغير ذلك (أَنْ تَقَعَ) في موضع مفعول على تقدير عن أن تقع ، وقال الزمخشري :
كراهة أن تقع فهو مفعول من أجله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) يحتمل أن يريد يوم القيامة ، فجعل طي السماء كوقوعها أو
يريد بإذنه لو شاء متى شاء (أَحْياكُمْ) أي أوجدكم بعد العدم ، وعبّر عن ذلك بالحياة ؛ لأن الإنسان
قبل ذلك تراب فهو جماد بلا روح ، ثم أحياه بنفخ الروح (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) يعني الموت المعروف (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يعني البعث (لَكَفُورٌ) أي جحود للنعمة (مَنْسَكاً) هو اسم مصدر لقوله : ناسكوه ولو كان اسم مكان لقال ناسكون
فيه (فَلا يُنازِعُنَّكَ) ضمير الفاعل للكفار ، والمعنى : أنه لا ينبغي منازعة النبي
صلىاللهعليهوسلم ، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه ، فجاء الفعل
بلفظ النهي والمراد غير النهي ، وقيل : إن المعنى لا تنازعهم فينازعوك ، فحذف الأول لدلالة الثاني
عليه ، ويحتمل أن يكون نهيا لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ (فِي الْأَمْرِ) أي في الدين والشريعة أو في الذبائح (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي ادع الناس إلى عبادة ربك.
(وَإِنْ جادَلُوكَ) الآية : تقتضي موادعة منسوخة بالقتال (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) يعني اللوح المحفوظ ، والإشارة بذلك إلى معلومات الله (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب ،
أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر (ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً) يعني الأصنام ؛ والسلطان هنا : الحجة والبرهان ، وما ليس
لهم به علم : قيل : إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري ، فنفى أولا البرهان النظري ، ثم
العلم الضروري ، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى ، بل الأحسن نفي العلم الضروري
والنظري معا (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر : كالمكرم بمعنى
الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها (يَسْطُونَ) من السطوة وهي سرعة البطش (النَّارُ وَعَدَهَا
اللهُ) يحتمل أن تكون النار مبتدأ ، ووعدها الله خبرا أو يكون
النار خبر ابتداء مضمر كأنّ قائلا قال : ما هو ، فقيل : هو النار ، ويكون وعدها
الله استئنافا وهذا أظهر (ضُرِبَ مَثَلٌ) أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى ، والمعنى :
أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره ، فكيف تعبد من دون
الله الذي خلق كل شيء ، ثم أوضح عجزهم بقوله (وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ) أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً
لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) بيان أيضا لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم
يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه ، وقد قيل : إن المراد بما يسلب الذباب منهم
الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب ، لأن الأصنام
تطلب من الذباب ما سلبته منها. وقيل : الطالب الكفار والمطلوب الأصنام. لأن الكفار
يطلبون الخير منهم.
(ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق تعظيمه (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) ردّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر (ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا) في
هذه الآية سجدة
عند الشافعي وغيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافا للمالكية (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) عموم في العبادة بعد ذكر الصلاة التي عبر عنها بالركوع
والسجود ، وإنما قدمها لأنها أهم العبادات (وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ) قيل : المراد صلة الرحم ، وقال ابن عطية : هي في الندب
فيما عدا الواجبات ، واللفظ أعم من ذلك كله (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) يحتمل أن يريد جهاد الكفار ، أو جهاد النفس والشيطان أو
الهوى ، أو العموم في ذلك (حَقَّ جِهادِهِ) قيل : إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله : ما استطعتم وفي ذلك
نظر ، وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله (اجْتَباكُمْ) أي اختاركم من بين الأمم (مِنْ حَرَجٍ) أي مشقة ، وأصل الحرج الضيق (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ) انتصب ملة بفعل مضمر تقديره : أعني بالدين ملة إبراهيم أو
التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة ،
وقال الزمخشري : انتصب بمضمون ما تقدم : كأنه قال : وسع عليكم توسعة ملة أبيكم
إبراهيم ، ثم خذف المضاف ، فإن قيل : لم يكن إبراهيم أبا للمسلمين كلهم ، فالجواب
: أنه كان أبا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده ، ولذلك
قرئ (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] ،
وهو أب لهم ، وأيضا فإن قريشا وأكثر العرب من ذرية إبراهيم ، وهم أكثر الأمة
فاعتبرهم دون غيرهم (هُوَ سَمَّاكُمُ) الضمير لله تعالى ، ومعنى من قبل في الكتب المتقدمة. وفي
هذا أي في القرآن ، وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى قوله : ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك ، ومعنى من قبل على هذا : من قبل وجودكم ، وهنا يتم الكلام على هذا القول
ويكون قوله «وفي هذا» مستأنفا : أي وفي هذا البلاغ ، والقول الأول أرجح وأقل تكلفا ، ويدل
عليه قراءة أبي بن كعب : الله سماكم المسلمين (شَهِيداً عَلَيْكُمْ) تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الظاهر أنها المكتوبة لاقترانها مع الزكاة (هُوَ مَوْلاكُمْ) معناه هنا : وليكم وناصركم ؛ بدلالة ما بعد ذلك.
سورة المؤمنون
مكية وآياتها ١١٨
نزلت بعد الأنبياء
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة المؤمنون
(الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الخشوع حالة في القلب من الخوف والمراقبة والتذلل لعظمة
المولى جل جلاله ، ثم يظهر أثر ذلك على الجوارح بالسكون والإقبال على الصلاة وعدم
الالتفات والبكاء والتضرع ، وقد عدّ بعض الفقهاء [الأوزاعي] الخشوع في فرائض
الصلاة ، لأنه جعله بمعنى حضور القلب فيها ، وقد جاء في الحديث : لا يكتب للعبد في
صلاته إلا ما عقل منها ، والصواب أن الخشوع أمر زائد على حضور القلب ، فقد يحضر
القلب ولا يخشع (عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ) اللغو هنا : الساقط من الكلام كالسب واللهو ، والكلام بما
لا يعني ، وعدد أنواع المنهي عنه من الكلام عشرون نوعا ، ومعنى الإعراض عنه : عدم
الاستماع إليه والدخول فيه ، ويحتمل أن يريد أنهم لا يتكلمون به ، ولكن إعراضهم عن
سماعه يقتضي ذلك من باب أولى وأحرى (لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي مؤدّون ، فإن قيل : لم قال فاعلون ولم يقل مؤدّون؟
فالجواب ؛ أن الزكاة لها معنيان أحدهما : الفعل الذي يفعله المزكي أي أداء ما يجب على المال ، والآخر
المقدار المخرج من المال كقولك : هذه زكاة مالي ، والمراد هنا الفعل لقوله «فاعلون» ويصح
المعنى الآخر على حذف تقديره : هم لأداء الزكاة فاعلون (عَلى أَزْواجِهِمْ) هذا المجرور يتعلق بفعل يدل عليه قوله غير ملومين أي لا
يلامون على أزواجهم ويمكن أن يتعلق بقوله حافظون على أن يكون على بمعنى عن (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يعني النساء المملوكات ، (وَراءَ ذلِكَ) يعني ما سوى الزوجات والمملوكات (لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ) يحتمل أن يريد أمانة الناس وعهدهم وأمانة الله وعهده في
دينه أو العموم ، والأمانة أعم من العهد ، لأنها قد تكون بعهد وبغير عهد
__________________
متقدم (راعُونَ) أي حافظون لها قائمون بها (عَلى صَلَواتِهِمْ
يُحافِظُونَ) المحافظة عليها هي فعلها في أوقاتها مع توفية شروطها ، فإن
قيل : كيف كرر ذكر الصلوات أولا وآخرا؟ فالجواب : أنه ليس بتكرار ، لأنه قد ذكر أولا الخشوع فيها
وذكر هنا المحافظة عليها ، فهما مختلفان ، وأضاف الصلاة في الموضعين إليهم دلالة
على ثبوت فعلهم لها (الْوارِثُونَ) أي المستحقون للجنة ، فالميراث استعارة ، وقيل : إن الله
جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار ، فيرث المؤمنون مساكن الكفار في
الجنة (الْفِرْدَوْسَ) مدينة الجنة وهي جنة الأعناب ، وأعاد الضمير عليها مؤنثا
على معنى الجنة.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ) اختلف هل يعني آدم ، أو جنس بني آدم (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) السلالة : هي ما يسل من الشيء : أي ما يستخرج منه ، ولذلك
قيل إنها الخلاصة ، والمراد بها هنا : القطعة التي أخذت من الطين وخلق منها آدم ،
فإن أراد بالإنسان آدم :
فالمعنى أنه خلق
من تلك السلالة المأخوذة من الطين ، ولكن قوله بعد هذا (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) لا بدّ أن يراد به بنو آدم ، فيكون الضمير يعود على غير من
ذكر أولا ، ولكن يفسره سياق الكلام ، وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عود
الضمير عليه ، ويكون معنى خلقه من سلالة من طين : أي خلق أصله وهو أبوه آدم ويحتمل
عندي أن يراد بالإنسان الجنس الذي يعم آدم وذريته ، فأجمل ذكر الإنسان أولا ثم
فصله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم : وهي من طين ، وإلى الخلقة المختصة بذريته. وهي النطفة ، فإن
قيل : ما الفرق بين من ومن؟ فالجواب على ما قال الزمخشري : أن الأولى للابتداء ،
والثانية للبيان. كقوله من الأوثان (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني رحم الأمّ ، ومعنى مكين : متمكن وذلك في الحقيقة من
صفة النطفة المستقرّة ، لا من صفة المحل المستقرّ فيه ، ولكنه كقولك طريق سائر :
أي يسير الناس فيه ، وقد تقدّم تفسير النطفة والمضغة والعلقة في أول الحج (خَلْقاً آخَرَ) قيل : هو نفخ الروح فيه ، وقيل : خروجه إلى الدنيا ، وقيل
: استواء الشباب وقيل على العموم من نفخ الروح فيه إلى موته (فَتَبارَكَ اللهُ) هو مشتق من البركة ، وقيل : معناه تقدس (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي أحسن الخالقين خلقا ، فحذف التمييز لدلالة الكلام عليه
، وفسر بعضهم الخالقين بالمقدّرين ، فرارا من وصف المخلوق بأنه خالق ، ولا يجب أن
ينفي عن المخلوق أنه خالق بمعنى صانع كقوله : «وإذ تخلق من الطين» وإنما الذي يجب
أن ينفي عنه معنى الاختراع ، والإيجاد من العدم ، فهذا هو الذي انفرد الله به (سَبْعَ طَرائِقَ) يعني السموات ، وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض
كمطارقة النعل ، وقيل : يعني السموات ، وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض
كمطارقة النعل ، وقيل : يعني الأفلاك لأنها
طرق للكواكب (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين ، أو المصدر (ماءً
بِقَدَرٍ) يعني المطر الذي ينزل من السماء ، فتكون منه العيون
والأنهار في الأرض ، وقيل : يعني أربعة أنهار وهي النيل ، والفرات ، ودجلة ،
وسيحان ، ولا دليل على هذا التخصيص ، ومعنى بقدر : بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا
ينقص منه (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ) يعني الزيتون ، وإنما خص النخيل والأعناب والزيتون بالذكر
: لأنها أكرم الشجر وأكثرها منافع ، وطور سيناء : جبل بالشام وهو الذي كلم الله عليه
موسى عليهالسلام ، وينسب الزيتون إليه لأنها فيه كثيرة وسيناء اسم جبل
أضافه إليه كقوله : جبل أحد ، وقرأ الباقون : بفتح السين ولم ينصرف للتأنيث اللازم
، وقرئ بالكسر ، ولم ينصرف للعجمة أو للتأنيث مع التعريف ، لأن فعلاء بالكسر لا
تكون ألفه للتأنيث ، وقيل : معناه مبارك ، وقيل ذو شجرة ، ويلزم على ذلك صرفه (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) يعني الزيت ، وقرئ تنبت بفتح التاء ، فالمجرور على هذا في
موضع الحال. كقولك جاء زيد بسلاحه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : تنبت بضم التاء
وكسر الباء ، وفيه ثلاثة أوجه : الأول أن أنبت بمعنى نبت ، والثاني حذف المفعول
تقديره تنبت ثمرتها بالدهن والثالث زيادة الباء (وَصِبْغٍ
لِلْآكِلِينَ) الصبغ الغمس في الإدام (فِي الْأَنْعامِ) هي الإبل والبقر والغنم والمقصود بالذكر الإبل ، لقوله :
وعليها وعلى الفلك تحملون وقد تقدم في [النحل : ٨٠] ذكر المنافع التي فيها
وتذكيرها وتأنيثها.
(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ) استبعدوا أن تكون النبوّة لبشر ؛ فيا عجبا منهم إذ أثبتوا
الربوبية لحجر! (يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ) أي يطلب الفضل والرياسة عليكم (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بمثل ما دعاهم إليه من عبادة الله ، أو بمثل الكلام
الذي قال لهم ، وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة (بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون. فانظر اختلاف قولهم فيه : فتارة نسبوه إلى طلب الرياسة ، وتارة
إلى الجنون (حَتَّى حِينٍ) أي إلى وقت لم يعينوه ، ولكن أرادوا وقت زوال جنونه على
قولهم ، أو وقت موته (انْصُرْنِي بِما
كَذَّبُونِ) تضمن هذا دعاء عليهم ، لأن نصرته إنما هي
__________________
بإهلاكهم وقد تقدم
في [هود : ٣٧] تفسير بأعيننا ووحينا ، وفار التنور ، ولا تخاطبني (فَاسْلُكْ
فِيها) أي أدخل فيها ، وقد تقدم تفسير زوجين اثنين (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) إن مخففة من الثقيلة ، ومبتلين : اسم فاعل من ابتلى ،
ويحتمل أن يكون بمعنى الاختبار ، أو إنزال البلاء (قَرْناً آخَرِينَ) قيل : إنهم عاد ورسولهم هود ، لأنهم الذين يلون قوم نوح ،
وقيل : إنهم ثمود ورسولهم صالح ، وهذا أصح لقوله : فأخذتهم الصيحة ، وثمود هم
الذين أهلكوا بالصيحة ، وأما عاد فأهلكوا بالريح (مِنْ قَوْمِهِ) قدم هذا المجرور على قوله الذين كفروا لئلا يوهم أنه متصل
بقوله الحياة الدنيا بخلاف قوله : قال الملأ الذين كفروا من قومه في غير هذا
الموضع (أَتْرَفْناهُمْ) أي نعمناهم (بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يحتمل أنهم قالوا ذلك لإنكارهم أن يكون نبيّ من البشر ، أو
قالوه أنفة من اتباع بشر مثلهم ، وكذلك قال قوم نوح (أَيَعِدُكُمْ) استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) كرر أن تأكيدا للأولى ؛ ومخرجون خبر عن الأولى.
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ
لِما تُوعَدُونَ) هذا من حكاية كلامهم ، وهيهات : اسم فعل بمعنى بعد ، وقال
الغزنوي : هي للتأسف والتأوّه ، ويجوز فيه الفتح والضم والكسر والإسكان ، وتارة
يجيء فاعله دون لام كقوله : «فهيهات هيهات العقيق وأهله» ، وتارة يجيء باللام كهذه
الآية ، قال الزجاج في تفسيره : البعد لما توعدون ، فنزّله منزلة المصدر ، قال
الزمخشري : وفيه وجه آخر : وهي أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة
الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به (إِنْ هِيَ إِلَّا
حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فوضع هي موضع الحياة
لدلالة الخبر عليها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت بعض ويولد بعض ، فينقرض قرن ويحدث قرن آخر ومرادهم
: إنكار البعث (عَمَّا قَلِيلٍ) ما زائدة ، وقيل صفة للزمان والتقدير : عن زمان قليل
يندمون (فَجَعَلْناهُمْ
غُثاءً) يعني هالكين كالغثاء ، والغثاء ما يحمله السيل من الورق
وغيره مما يبلى ويسود ، فشبه به الهالكين (فَبُعْداً) مصدر وضع موضع الفعل بمعنى بعدوا : أي هلكوا ، والعامل فيه
مضمر لا يظهر
(تَتْرا) مصدر ووزنه فعلى ، ومعناه التواتر والتتابع ، وهو موضوع
موضع الحال : أي متواترين واحدا بعد واحد ، فمن قرأه بالتنوين : فألفه للإلحاق ، ومن قرأه بغير تنوين : فألفه للتأنيث فلم
ينصرف ، وتأنيثه لأن الرسل جماعة والتاء الأولى فيه بدل من واو هي فاء الكلمة (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي يتحدث الناس بما جرى عليهم ، ويحتمل أن يكون جمع حديث
أو جمع أحدوثة ، وهذا أليق لأنها تقال في الشر (قَوْماً عالِينَ) أي متكبرين (وَقَوْمُهُما لَنا
عابِدُونَ) أي حامدون متذللون (لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) الضمير لبني إسرائيل لا لقوم فرعون ، لأنهم هلكوا قبل
إنزال التوراة (وَآوَيْناهُما إِلى
رَبْوَةٍ) الربوة : الموضع المرتفع من الأرض ، ويجوز فيها فتح الراء
وضمها وكسرها ، واختلف في موضع هذه الربوة ، فقيل : بيت المقدس ، وقيل : بغوطة دمشق ، وقيل : بفلسطين (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) القرار : المستوي من الأرض ؛ فمعناه أنها بسيطة يمكن فيها
الحرث والغراسة ، وقيل : إن القرار هنا الثمار والحبوب ، والمعين الماء الجاري ،
فقيل : إنه مشتق من قولك : معن الماء إذا كثر ، فالميم على هذا أصلية ، ووزنه فعيل
، وقيل : إنه مشتق من العين ، فالميم زائدة ، ووزنه مفعول.
(يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ) هذا النداء ليس على ظاهره ، لأن الرسل كانوا في أزمنة متفرقة
، وإنما المعنى أن كل رسول في زمانه خوطب بذلك ، وقيل : الخطاب لسيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأقامه مقام الجماعة وهذا بعيد (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الحلال ، فالأمر على هذا للوجوب ، أو من المستلذات
فالأمر للإباحة (وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قرئ إن بالكسر على الاستئناف وهي قراءة أهل الكوفة وبالفتح
على معنى لأن ، وهي متعلقة بقوله آخرا «فاتقون» وقيل : تتعلق بفعل مضمر
تقديره : واعلموا ، والأمة هنا الدين ، وهو ما اتفقت عليه الرسل من التوحيد وغيره (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي افترقوا واختلفوا ، والضمير لأمم الرسل المذكورين من
اليهود والنصارى وغيرهم (زُبُراً) جمع زبور : وهو الكتاب ، والمعنى أنهم افترقوا في اتباع
الكتب ، فاتبعت طائفة التوراة ، وطائفة الإنجيل ،
__________________
وغير ذلك ، ووضعوا
كتابا من عند أنفسهم (فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ) الضمير لقريش ، والغمرة الجهل والضلال ، وأصلها من غمرة
الماء (حَتَّى حِينٍ) هنا يوم بدر أو يوم موتهم.
(أَيَحْسَبُونَ) الآية : ردّ عليهم فيما ظنوا من أن أموالهم وأولادهم خير
لهم وأنهم سبب لرضا الله عنهم (نُسارِعُ لَهُمْ) هذا خبر أن ، والضمير الرابط محذوف تقديره نسارع به (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أن ذلك استدراج لهم ، ففيه معنى التهديد.
(يُؤْتُونَ ما آتَوْا) قيل : معناه يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقيل : إنه
عام في جميع أفعال البرّ أي يفعلونها وهم يخافون أن لا تقبل منهم ، وقد روت عائشة
هذا المعنى عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إلا أنها قرأت : يؤتون ما أتوا بالقصر ، فيحتمل أن يكون
الحديث تفسيرا لهذه القراءة ، وقيل : إنه عام في الحسنات والسيئات : أي يفعلونها
وهم خائفون من الرجوع إلى الله (أَنَّهُمْ إِلى
رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أن في موضع المفعول من أجله ، أو في موضع المفعول بوجلت ،
إذ هي في معنى خائفة (أُولئِكَ يُسارِعُونَ
فِي الْخَيْراتِ) فيه معنيان : أحدهما أنهم يبادرون إلى فعل الطاعات ، والآخر أنهم يتعجلون
ثواب الخيرات ، وهذا مطابق للآية المتقدّمة ، لأنه أثبت فيهم ما نفى عن الكفار من
المسارعة (وَهُمْ لَها
سابِقُونَ) فيه المعنيان المذكوران في يسارعون للخيرات ، وقيل : معناه
سبقت لهم السعادة في الأزل (لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَها) يعني أن هذا الذي وصف به الصالحون غير خارج عن الوسع
والطاقة ، وقد تقدّم الكلام على تكليف ما لا يطاق في البقرة (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يعني صحائف الأعمال ، ففي الكلام تهديد وتأمين من الظلم
والحيف (فِي غَمْرَةٍ مِنْ
هذا) أي في غفلة من الدين بجملته ومن القرآن ، وقيل : من الكتاب
المذكور ، وقيل : من الأعمال التي وصف بها المؤمنون (وَلَهُمْ أَعْمالٌ
مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي لهم أعمال سيئة دون الغمرة التي هم فيها ، فالمعنى أنهم
يجمعون بين الكفر وسوء الأعمال ، والإشارة بذلك على هذا إلى الغمرة ، وإنما أشار
إليها بالتأكيد لأنها في معنى الكفر ، وقيل : الإشارة إلى قوله من هذا : أي لهم
أعمال سيئة غير المشار إليه حسبما اختلف فيه (هُمْ لَها عامِلُونَ) قيل : هي إخبار عن أعمالهم في الحال ، وقيل : عن الاستقبال
، وقيل : المعنى أنهم يتمادون على عملها حتى يأخذهم الله فجعل. «حتى إذا أخذنا
مترفيهم» غاية لقوله عاملون (مُتْرَفِيهِمْ) أي أغنياؤهم وكبراؤهم (إِذا هُمْ
يَجْأَرُونَ) أي يستغيثون ويصيحون فإن أراد بالعذاب قتل المترفين يوم
بدر : فالضمير في
يجأرون لسائر قريش : أي صاحوا وناحوا على القتلى ، وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا
أو عذاب الآخرة : فالضمير لجميعهم (لا تَجْأَرُوا
الْيَوْمَ) تقديره : يقال لهم يوم العذاب : لا تجأروا ويحتمل أن يكون
هذا القول حقيقة ، وأن يكون بلسان الحال ولفظه نهي ، ومعناه : أن الجؤار لا ينفعهم
(عَلى أَعْقابِكُمْ
تَنْكِصُونَ) أي ترجعون إلى وراء وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات وهي
القرآن (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) قيل : إن الضمير عائد على المسجد الحرام وقيل : إنه على
الحرم وإن لم يذكر ؛ ولكنه يفهم من سياق الكلام والمعنى : أنهم يستكبرون بسبب
المسجد الحرام لأنهم أهله وولاته ، وقيل : إنه عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات
، والمعنى على هذا أن القرآن يحدث لهم عتوّا وتكبرا ، وقيل : إنه يعود على النبي صلىاللهعليهوسلم وهو على هذا متعلق بسامرا (سامِراً) مشتق من السمر وهو الجلوس بالليل للحديث ، وكانت قريش
تجتمع بالليل في المسجد ، فيتحدّثون وكان أكثر حديثهم سب النبي صلىاللهعليهوسلم ، وسامرا مفرد بمعنى الجمع ، وهو منصوب على الحال فمن جعل
الضمير في به للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فالمعنى أنهم سامرون بذكره وسبه (تَهْجُرُونَ) من قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجر بضم
الهاء وهو الفحش من الكلام وهي قراءة نافع ، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم
فهو من الهجر بفتح الهاء أي تهجرون الإسلام ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمؤمنين ، أو من قولك : هجر المريض إذا هذى أي : تقولون
اللغو من القول.
(أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) يعني القرآن ، وهذا توبيخ لهم (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ
الْأَوَّلِينَ) معناه أن النبوّة ليست ببدع فينكرونها ، بل قد جاءت آباؤهم
الأولين فقد كانت النبوة لنوح وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) المعنى أم لم يعرفوا محمدا صلىاللهعليهوسلم ، ويعلموا أنه أشرفهم حسبا وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة
وأرجحهم عقلا ، فكيف ينسبونه إلى الكذب أو إلى الجنون ، أو غير ذلك من النقائص؟ مع
أنه جاءهم بالحق الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم ، وأنه عين الصواب (وَلَوِ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) الاتباع هنا استعارة ، والحق هنا يراد به الصواب والأمر
المستقيم ، فالمعنى لو كان الأمر على ما تقتضي أهواؤهم من الشرك بالله واتباع
الباطل لفسدت السموات والأرض كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
وقيل : إن الحق في الآية هو الله تعالى ، وهذا بعيد في المعنى ، وإنما حمله عليه
أن جعل الاتباع حقيقة ولم يفهم فيه الاستعارة ، وإنما الحق هنا هو المذكور في قوله
، «بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون» (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ) يحتمل أن يكون بتذكيرهم ووعظهم
أو بفخرهم وشرفهم
وهذا أظهر (أَمْ تَسْأَلُهُمْ
خَرْجاً) الخرج هو الأجرة ويقال فيه : خراج والمعنى واحد ، وقرئ بالوجهين
في الموضعين فهو كقوله أم تسألهم أي لست تسألهم أجرا فيثقل عليهم اتباعك (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي رزق ربك خير من أموالهم فهو يرزقك ويغنيك عنهم (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي عادلون ومعرضون عن الصراط المستقيم.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) الآية : قال الأكثرون : نزلت هذه الآية حين دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على قريش بالقحط فنالهم الجوع حتى أكلوا الجلود وغيرها ،
فالمعنى رحمناهم بالخصب وكشفنا ما بهم من ضرّ الجوع والقحط : لتمادوا على طغيانهم
، وفي هذا عندي نظر ، فإن الآية مكية باتفاق ، وإنما دعا النبي صلىاللهعليهوسلم على قريش بعد الهجرة حسبما ورد في الحديث ، وقيل : المعنى لو
رحمناهم بالرد إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، وهذا القول لا يلزم عليه ما لزم
على الآخر ، ولكنه خرج عن معنى الآية (وَلَقَدْ
أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قيل : إن هذا العذاب هو الجوع بالقحط ، وأن الباب ذا
العذاب الشديد المتوعد به بعد هذا يوم بدر ، وهذا مردود بأن العذاب الذي أصابهم
إنما كان بعد بدر ، وقيل إن العذاب الذي أخذهم هو يوم بدر ، والباب المتوعد به هو
القحط ، وقيل : الباب ذو العذاب الشديد : عذاب الآخرة ، وهذا أرجح ، ولذلك وصفه
بالشدّة لأنه أشد من عذاب الدنيا ، وقال : إذا هم فيه مبلسون : أي يائسون من
الخير ، وإنما يقع لهم اليأس في الآخرة كقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) [الروم : ١٢].
(فَمَا اسْتَكانُوا) أي ما تذللوا لله عزوجل ، وقد تقدم الكلام على هذه الكلمة في آخر [آل عمران : ١٤٦]
(وَما يَتَضَرَّعُونَ) إن قيل : هلا قال : فما استكانوا وما تضرعوا ، أو فما
يستكينون وما يتضرعون باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟ فالجواب : أن ما
استكانوا عند العذاب الذي أصابهم ، وما يتضرعون حتى يفتح عليهم باب عذاب شديد فنفى
الاستكانة فيما مضى ، ونفى التضرع في الحال والاستقبال (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ما زائدة ، وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره : شكرا قليلا
تشكرون ، وذكر السمع ، والبصر والأفئدة ـ وهي القلوب ـ لعظم المنافع التي فيها ،
فيجب شكر خالقها ؛ ومن شكره : توحيده واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام ، ففي
ذكرها تعديد نعمة وإقامة حجة (ذَرَأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ) أي نشركم فيها.
__________________
(وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي هو فاعله ومختص به فاللام على هذا للاختصاص ، وقد ذكر في
البقرة معنى اختلاف الليل والنهار (بَلْ قالُوا مِثْلَ
ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة ، ثم فسر قولهم
بإنكارهم البعث ، وإليه الإشارة بقولهم : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ، وقد ذكر
الاستفهامان في الرعد ، وأساطير الأولين في الأنعام (قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) هذه الآيات توقيف [أي سؤال] لهم على أمور لا يمكنهم
الإقرار بها ، وإذا أقروا بها لزمهم توحيد خالقها والإيمان بالدار الآخرة (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرئ في الأول لله باللام بإجماع ، جوابا لقوله : لمن الأرض
، وكذلك قرأ الجمهور الثاني والثالث ، وذلك على المعنى لأن قوله : من رب السموات
في معنى لمن هي ، وقرأ أبو عمرو الثاني والثالث بالرفع على اللفظ (مَلَكُوتُ) مصدر وفي بنائه مبالغة (يُجِيرُ وَلا يُجارُ
عَلَيْهِ) الإجارة المنع من الإهانة ، يقال : أجرت فلانا على فلان ،
إذا منعته من مضرته وإهانته ، فالمعنى أن الله تعالى يغيث من شاء ممن شاء ، ولا
يغيث أحد منه أحدا (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي تخدعون عن الحق والخادع لهم الشيطان ، وذلك تشبيه
بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل ، ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال
أولا : أفلا تذكرون ، ثم قال ثانيا : أفلا تتقون ، وذلك أبلغ ، لأن فيه زيادة
تخويف ، ثم قال ثالثا : فأنى تسحرون وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) يعني فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد ، ولذلك ردّ
عليهم بنفي ذلك (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ) هذا برهان على الوحدانية ، وبيانه أن يقال : لو كان مع الله
إلها آخر لانفرد كل واحد منهما بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر ، واستبدّ كل واحد
منهما بملكه ، وطلب غلبة الآخر والعلوّ عليه كما ترى حال ملوك الدنيا ، ولكن لما
رأينا جميع المخلوقات مرتبطة بعضها ببعض حتى كأن العالم كله كرة واحدة : علمنا أن
مالكه ومدبره واحد ، لا إله غيره. وليس هذا البرهان بدليل التمانع كما فهم ابن
عطية وغيره ، بل هو دليل آخر ، فإن قيل : إذ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب ،
فكيف
__________________
دخلت هنا ولم
يتقدّم قبلها شرط ولا سؤال سائل؟ فالجواب : أن الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة
وإنما حذف لدلالة قوله : وما كان معه من إله ، وهو جواب للكفار الذين وقع الرد
عليهم (عالِمِ
الْغَيْبِ) بالرفع خبر ابتداء ، وبالخفض صفة لله (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما
يُوعَدُونَ) الآية : معناه أن الله أمر نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظالمين إن قضى أن يرى ذلك
، وفيها تهديد للظالمين وهم الكفار ، وإن شرطية وما زائدة ، وجواب الشرط فلا
تجعلني ، وكرر قوله رب مبالغة في الدعاء والتضرع.
(ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) قيل التي هي أحسن لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك ،
والأظهر أنه أمر بالصفح والاحتمال وحسن الخلق وهو محكم غير منسوخ ، وإنما نسخ ما
يقتضيه من مسالمة الكفار (مِنْ هَمَزاتِ
الشَّياطِينِ) يعني نزغاته ووساوسه ، وقيل : يعني الجنون ، واللفظ أعم من
ذلك (أَنْ يَحْضُرُونِ) معناه أن يكونوا معه ، وقيل : يعني حضورهم عند الموت (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) قال ابن عطية : حتى هنا حرف ابتداء : أي ليست غاية لما
قبلها ، وقال الزمخشري : حتى تتعلق بيصفون : أي لا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) يعني الرجوع إلى الدنيا ، وخاطب به مخاطبة الجماعة للتعظيم
، قال ذلك الزمخشري وغيره ، ومثله قول الشاعر :
ألا فارحمون يا آل
محمد
وقيل إنه نادى ربه
ثم خاطب الملائكة (فِيما تَرَكْتُ) قيل : يعني فيما تركت من المال ، وقيل : فيما تركت من
الإيمان فهو كقوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] ، والمعنى أن الكافر رغب أن يرجع
إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا في الإيمان الذي تركه أول مرة (كَلَّا) ردع له عما طلب (إِنَّها كَلِمَةٌ
هُوَ قائِلُها) يعني قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) فسمى هذا الكلام كلمة وفي تأويل معناه ثلاثة أقوال : أحدها
أن يقول هذه الكلمة لا محالة لإفراط ندمه وحسرته فهو إخبار بقوله ، والثاني أن
المعنى أنها كلمة يقولها ولا تنفعه ولا تغني عنه شيئا ، والثالث أن يكون المعنى
أنه يقولها كاذبا فيها ، ولو رجع إلى الدنيا لم يعمل صالحا (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي فيما يستقبلون من الزمان والضمير للجماعة المذكورين في
قوله جاء أحدهم (بَرْزَخٌ) يعني المدة التي بين الموت والقيامة ، وهي تحول بينهم وبين
الرجوع إلى الدنيا وأصل البرزخ الحاجز بين شيئين (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ) المعنى أنه ينقطع يومئذ التعاطف والشفقة التي بين القرابة
؛ لاشتغال كل أحد بنفسه كقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس : ٣٤] فتكون
الأنساب كأنها معدومة (وَلا
يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغال كل أحد بنفسه ، فإن قيل :
كيف الجمع بين هذا وبين قوله (وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الطور : ٢٥]
فالجواب أن ترك التساؤل عند النفخة الأولى ثم يتساءلون بعد ذلك ، فإن يوم القيامة
يوم طويل فيه مواقف كثيرة (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) أي تصيبهم بالإحراق (كالِحُونَ) الكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان ، وكثيرا ما يجري ذلك
للكلاب ، وقد يجرى للكباش إذا شويت رؤوسها ، وفي الحديث : إن شفة الكافر ترتفع في
النار حتى تبلغ وسط رأسه ، وفي ذلك عذاب وتشويه (غَلَبَتْ عَلَيْنا
شِقْوَتُنا) أي ما قدر عليهم من الشقاء ، وقرئ شقاوتنا ، والمعنى واحد (قالَ اخْسَؤُا) كلمة تستعمل في زجر الكلاب ، ففيها إهانة وإبعاد (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي لا تكلمون في رفع العذاب ، فحينئذ ييأسون من ذلك ،
أعاذنا الله من ذلك برحمته (سِخْرِيًّا) بضم السين من السخرة بمعنى التخديم ، وبالكسر من السخر
بمعنى الاستهزاء ، وقد يقال هذا بالضم ، وقرئ هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين ، على
أن معنى الاستهزاء هنا أليق لقوله «وكنتم منهم تضحكون» (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يعني في جوف الأرض أمواتا ، وقيل : أحياء في الدنيا ،
فأجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم لاستقصارهم المدة أو لما هم فيه من العذاب
بحيث لا يعدون شيئا (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي اسأل من يقدر على أن يعدّ ، وهو من عوفي مما ابتلوا به
أو يعنون الملائكة (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا قَلِيلاً) معناه أنه قليل بالنسبة إلى بقائهم في جهنم خالدين أبدا (عَبَثاً) أي باطلا ، والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي لا حجة ولا دليل ، والجملة صفة لقوله : إلها آخر ،
وجواب الشرط (فَإِنَّما حِسابُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) الضمير للأمر والشأن ، وانظر كيف افتتح السورة بفلاح
المؤمنين وختمها بعدم فلاح الكافرين ، ليبين البون بين الفريقين والله أعلم.
__________________
سورة النور
مدنية وآياتها ٦٤
نزلت بعد الحشر
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة النور
(سُورَةٌ
أَنْزَلْناها) السورة خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره
فيما أنزل عليكم سورة ، وأنزلناها صفة للسورة ، وفرضناها : أي فرضنا الأحكام التي
فيها وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : [فرّضناها] بالتشديد للمبالغة (آياتٍ بَيِّناتٍ) يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال ، وقيل : معنى
بينات هنا ليس فيها مشكل (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) الزانية والزاني يراد بهما الجنس ، وقدم الزانية لأن الزنا
كان حينئذ في النساء أكثر ، فإنه كان منهنّ إماء وبغايا يجاهرن بذلك ، وإعراب
الزاني والزانية كإعراب : السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، وقد ذكر في [المائدة :
٣٨] وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة [النساء : ١٤] من الإمساك في البيوت ، في
الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى ، ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه
، فإن جلد المائدة إنما هو حدّ الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين ،
فيخرج منها الكفار ، فيردّون إلى أهل دينهم ، ويخرج منها العبد والأمة والمحصن
والمحصنة ، فأما العبد والأمة : فحدّهما خمسون جلدة سواء كانا محصنين أو غير
محصنين ، وأما المحصنان الحران فحدّهما الرجم هذا على مذهب مالك.
وأما الكلام على
الآية بالنظر إلى سائر المذاهب ، فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهره العموم في المسلمين
والكافرين ، وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن ، ثم إن العلماء
خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق ، ومنها باختلاف ، فأما الكفار فرأى أبو
حنيفة وأهل الظاهر أن حدّهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا : أخذا بعموم الآية ،
ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا ، والرجم إن أحصنوا أخذا
بالآية ، وبرجم النبي صلىاللهعليهوسلم لليهودي واليهودية إذا زنيا ، ورأى مالك أن يردّوا إلى أهل
دينهم لقوله تعالى : في سورة النساء «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم» فخص نساء
المسلمين على أنها قد نسختها هذه. ولكن بقيت في محلها ، وأما العبد والأمة : فرأى
أهل
الظاهر أن حدّ
الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) وأن حدّ العبد الجلد مائة لعموم الآية ، وقال غيرهم : يجلد
العبد خمسين بالقياس على الأمة ، إذ لا فرق بينهما ، وأما المحصن فقال الجمهور :
حدّه الرجم فهو مخصوص في هذه الآية ، وبعضهم يسمي هذا التخصيص نسخا ، ثم اختلفوا
في المخصص أو الناسخ ، فقيل : الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله : «الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وقيل : الناسخ
لها السنة الثابتة في الرجم ، وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب : يجلد المحصن
بالآية ، ثم يرجم بالسنة فجمعوا عليه الحدّين ، ولم يجعلوا الآية منسوخة ، ولا
مخصصة ، وقال الخوارج : لا رجم أصلا فإن الرجم ليس في كتاب الله ، ولا يعتد بقولهم
، وظاهر الآية الجلد دون تغريب ، وبذلك قال أبو حنيفة ، وقال مالك : الجلد
والتغريب سنة للحديث ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم : «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ، ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك ،
وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس وقال الشافعي : يفرق على جميع الأعضاء
والمجلود قائم ، وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب ، ويجرّد الرجل عند مالك وقال
قوم يجلد على قميص (وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ) قيل : يعني في إسقاط الحدّ : أي أقيموه ولا بد ، وقيل : في خفيف
الضرب ، وقيل : في الوجهين. فعلى القول الأول : يكون الضرب في الزنا كالضرب في
القذف غير مبرح ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وعلى القول الثاني والثالث : يكون
الضرب في الزنا أشد ، واختلف : هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة؟
فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليهالسلام ، وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث.
(وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم ، واختلف في أقل
ما يجزئ من الطائفة فقيل : أربعة اعتبارا بشهادة الزنا وهو قول ابن أبي زيد ، وقيل
: عشرة ، وقيل : اثنين وهو مشهور مذهب مالك ، وقيل : واحد (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً) الآية : معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا ، وأنه لا يقع فيه
إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة ، وينكح على هذا
بمعنى يجامع ، وقيل : معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، ولا يحل
لزانية أن تتزوج إلا زانيا أو مشركا ، ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن
شاؤوا ، والأول هو الصحيح (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الإشارة بذلك إلى الزنا أي حرم الزنا على المؤمنين وقيل :
الإشارة
__________________
إلى تزوج المؤمن
غير الزاني بزانية ، فإن قوما منعوا أن يتزوجها ، وهذا على القول الثاني في الآية
قبلها وهو بعيد ، وأجاز تزويجها مالك وغيره ، وروي عنه كراهته.
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) هذا حدّ القذف ، وهو الفرية التي عبر الله عنها بالرمي ،
والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء ، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من
قذف الرجال ، ودخل الرجال في ذلك بالمعنى إذ لا فرق بينهم ، وأجمع العلماء على أن
حكم الرجال والنساء هنا واحد ، وقيل : إن المعنى ؛ يرمون الأنفس المحصنات ، فيعم اللفظ على هذا
النساء والرجال.
ويحتاج هنا إلى
الكلام في القذف والقاذف والمقذوف والشهادة في ذلك ، فأما القذف فهو الرمي بالزنا
اتفاقا ، أو بفعل قوم لوط عند مالك والشافعي لعموم لفظ الرمي في الآية ، خلافا لأبي
حنيفة ، أو النفي من النسب ، ومذهب مالك أن التعريض بذلك كله كالتصريح خلافا
للشافعي وأبي حنيفة ، وأما القاذف فيحدّ : سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الآية ،
وسواء كان حرا أو عبدا ، إلا أن العبد والأمة إنما يحدّان أربعين عند الجمهور ،
فنصفوا حدّهما قياسا على تنصيفه في الزنا خلافا للظاهرية ، ولا يحدّ الصبي ولا
المجنون لكونهما غير مكلفين ، وأما المقذوف فمذهب مالك أنه يشترط فيه الإسلام
والعقل والبلوغ والحرية والبراءة عما رمي به ، والتمكن من الوطء تحرزا من المجبوب [مقطوع
الآلة] وشبهه ، فلا يحدّ عنده من قذف صبيا أو كافرا أو مجبوبا أو عبدا ومن لا
يمكنه الوطء وقد قيل : يحدّ من قذف واحدا منهم لعموم الآية واتفقوا على اشتراط
البراءة مما رمي به وأما الشهادة التي تسقط حدّ القذف ، فهي أن يشهد شاهدان عدلان
بأن المقذوف عبد أو كافر أو يشهد أربعة شهود ذكور عدول على المعاينة لما قذف به
كالمرود في المكحلة ، ويؤدّون الشهادة مجتمعين (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) تقدّم قبل هذا الاستثناء ثلاثة أحكام ، وهي الحدّ ، ورد
شهادة القاذف ، وتفسيقه ، فاتفق على أن الاستثناء راجع إلى التفسيق ، وأن ذلك يزول
عنه بالتوبة ، واتفق على أنه لا يرجع إلى الحدّ وأنه لا يسقط عنه بالتوبة ، واختلف
هل يرجع إلى ردّ الشهادة أم لا : فقال مالك : إذا تاب قبلت شهادته ، خلافا لأبي
حنيفة ، وتوبته هو صلاح حاله في دينه وقيل إكذاب نفسه.
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك ، وسببها
أن رجلا قال يا رسول الله : الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقلتونه أم كيف يصنع؟
فسكت عنه نبيّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم عاد فقال مثل ذلك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك
فأتني بها فأتى
بها فتلاعنا وفرق رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينهما .
وموجب اللعان عند
مالك شيئان : أحدهما أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني. والآخر أن ينفي حملها ويدعى الاستبراء قبله ، فإذا تلاعن
الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام : نفي حدّ القذف عنه ، وانتفاء سبب الولد منه ، ووجوب حدّ
الزنا عليها إن لم تلاعن ، فإن تلاعنت سقط الحدّ عنها ، ولفظ الآية عام في الزوجات
الحرائر والمماليك ، والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم ، وبذلك أخذ مالك واشترط
في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي يقول الزوج أربع مرات : أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة
تزنى ، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني ؛ ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين ، ثم
يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، وزاد أشهب أن يقول : أشهد
بالله الذي لا إله إلا هو ، وانتصب : أربع شهادات بالله على المصدرية ، والعامل
فيه شهادة أحدهم وقرأ [حمزة والكسائي وحفص] بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم ، وقوله :
بالله وإنه لمن الصادقين من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم (وَالْخامِسَةُ
أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [قرأ حفص] بنصب
الخامسة هنا وفي الموضع الثاني ، وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة ، أو
بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب ، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء أو
عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع ، وقرئ أن لعنة ، وأن غضب : بتشديد أن ، ونصب
اسمها وقرأ نافع بتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ
تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) العذاب هنا حدّ الزنا ، أي يدفعه التعان المرأة ، وهي أن
تقول أربع مرات : أشهد بالله ما زنيت ، وإنه في ذلك لمن الكاذبين ، ثم تقول في
الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام :
دفع الحدّ عنها ، والتفريق بينها وبين زوجها ، وتأبيد الحرمة (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) جواب لو محذوف هنا وفي الموضع الآخر تقديره لو لا فضل الله
عليكم لآخذكم ، أو نحو هذا.
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الإفك : أشدّ الكذب ، ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى تمام
ستة عشر آية في شأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها وفي براءتها مما رماها به أهل
الإفك ، وذلك أن الله برأ أربعة بأربعة برأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها ، وبرأ
موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بكلام ولدها في حجرها ،
وبرأ عائشة من الإفك بإنزال القرآن في شأنها ، ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية
القصوى في الاعتناء بها ، والكرامة لها والتشديد على من قذفها.
__________________
وقد خرج حديث
الإفك البخاري ومسلم وغيرهما ، واختصاره أن عائشة خرجت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة بني المصطلق ، فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه
حتى رحل الناس ، فجاء رجل يقال له صفوان بن المعطل ، فرآها فنزل عن ناقته وتنحى
عنها حتى ركبت عائشة ، وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش ، فقال أهل الإفك في ذلك ما
قالوا ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : ما بال رجال رموا أهلي والله ما علمت على أهلي
إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وسأل جارية عائشة ، فقالت :
والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر.
والعصبة الجماعة
من العشرة إلى الأربعين ، ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة ، وهم : عبد
الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين ، وحمنة بنت جحش ، ومسطح بن أثاثة وحسان بن
ثابت ، وقيل : إن حسّان لم يكن منهم وارتفاع عصبة لأنه خبر إن ، واختار ابن عطية
أن يكون عصبة بدلا من الضمير في جاءوا ، ويكون الخبر لا تحسبوه شرا لكم على تقدير
: إن حديث الذين جاءوا بالإفك ، والأول أظهر (بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ) خطاب للمسلمين ، والخير في ذلك من خمسة أوجه : تبرئة أم
المؤمنين ، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها ، والأجر الجزيل لها في الفرية
عليها ، وموعظة المؤمنين ، والانتقام من المفترين (وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ) هو عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، وقيل الذي بدأ بهذه
الفرية غير معين ، والعذاب العظيم هنا يحتمل أن يراد به الحدّ أو عذاب الآخرة.
(لَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) لو لا هنا عرض ، والمعنى أنه : كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على
أنفسهم ، فإن كان ذلك يبعد في حقهم ، فهو في حق عائشة أبعد لفضلها ، وروي أن هذا
النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري ، فقال لزوجته : أكنت أنت تفعلين ذلك ، قالت : لا والله ، قال فعائشة أفضل
منك؟ قالت نعم ، فإن قيل : لم قال : سمعتموه بلفظ الخطاب ، ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) ، ولم يقل ظننتم؟ فالجواب أن ذلك التفات ، قصد به المبالغة والتصريح بالإيمان
، الذي يوجب أن لا يصدق المؤمن على المؤمن شرا (لَوْ لا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) لو لا هنا عرض ، والضمير في جاءوا لأهل الإفك ، ثم حكم
الله بكذبهم إذ لم يأتوا بالشهداء (أَفَضْتُمْ فِيهِ) يقال أفاض في الحديث وخاض فيه إذا أكثر الكلام فيه (إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) العامل في إذ قوله مسكم أو أفضتم ، ومعنى تلقونه : يأخذه بعضكم من
بعض ، وفي هذا الكلام وفي الذي قبله وبعده عتاب لهم على خوضهم في حديث الإفك ، وإن
كانوا لم يصدقوه ، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلية ،
فعاتبهم على ثلاثة
أشياء ، وهي : تلقيه بالألسنة : أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول والثاني : قولهم ذلك ،
والثالث : أنهم حسبوه هينا وهو عند الله عظيم ، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم
الإشارة إلى أن ذلك الحديث كان باللسان دون القلب ، إذ كانوا لم يعلموا حقيقته
بقلوبهم (وَلَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) أي كان الواجب أن يبادروا إلى إنكار هذا الحديث أول سماعهم
له ، ولو لا أيضا في هذه الآية عرض ، وكان حقها أن يليها الفعل من غير فاصل بينهما
، ولكنه فصل بينهما بقوله : إذ سمعتموه لأن الظروف يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها
، والقصد بتقديم هذا الظرف الاعتناء به ، وبيان أنه كان الواجب المبادرة إلى إنكار
الكلام في أول وقت سمعتموه ، ومعنى ما يكون لنا : ما ينبغي لنا ولا يحل لنا أن
نتكلم بهذا.
(سُبْحانَكَ) تنزيه لله عن أن تكون زوجة رسول الله صلى الله وآله وسلم
على ما قال أهل الإفك ، وقال الزمخشري : هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر ،
والاستبعاد له ، والأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجائب (بُهْتانٌ عَظِيمٌ) البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه ، والغيبة أن يقال
ما فيه (أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ) تقديره : يعظكم كراهة أن تعودوا لمثله ، ثم عظم الأمر
وأكده بقوله : إن كنتم مؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) الإشارة بذلك إلى المنافقين الذين أحبوا أن يشيع حديث
الإفك ، ثم هو عام في غيرهم ممن اتصف بصفتهم ، والعذاب في الدنيا الحد ، وأما عذاب
الآخرة ، فقد ورد في الحديث : أن من عوقب في الدنيا على ذنب لم يعاقب عليه في
الآخرة فأشكل اجتماع الحدّ مع عذاب الآخرة في هذا الموضع ، فيحتمل أن يكون القاذف
يعذب في الآخرة ولا يسقط الحدّ عنه عذاب الآخرة بخلاف سائر الحدود ، أو يكون هذا
مختصا بمن قذف عائشة ، فإنه روى عن ابن عباس أنه قال : من أذنب ذنبا ثم تاب منه
قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة ، أو يكون لمن مات مصرا غير تائب ، أو يكون
للمنافقين (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ذكر في البقرة (بِالْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ) ذكر في النحل (زَكى) أي تطهر من الذنوب ، وصلح دينه (وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) معنى يأتل يحلف ، فهو من قولك : آليت إذا حلفت ، وقيل
معناه : يقصر فهو من قولك : ألوت أي قصرت ، ومنه (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) [آل عمران : ١١٨]
والفضل هنا يحتمل أن يريد به الفضل في الدين ،
أو الفضل في المال
، وهو أن يفضل له عن مقدار ما يكفيه ، والسعة هي اتساع المال ، ونزلت الآية بسبب
أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح ، لما تكلم في حديث
الإفك ، وكان ينفق عليه لمسكنته ؛ ولأنه قريبه ، وكان ابن بنت خالته ، فلما نزلت
الآية رجع إلى مسطح النفقة والإحسان ، وكفر عن يمينه ، قال بعضهم : هذه أرجى آية
في القرآن ، لأن الله أوصى بالإحسان إلى القاذف ، ثم إن لفظ الآية على عمومه في أن
لا يحلف أحد على ترك عمل صالح (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي كما تحبون أن يغفر الله لكم ، كذلك اغفروا أنتم لمن
أساء إليكم ، ولما نزلت قال أبو بكر رضي الله عنه : إني لأحب أن يغفر الله لي ، ثم
ردّ النفقة إلى مسطح (الْمُحْصَناتِ
الْغافِلاتِ) معنى المحصنات هنا العفائف ذوات الصون ، ومعنى الغافلات
السليمات الصدور ، فهو من الغفلة عن الشر (لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) هذا الوعيد للقاذفين لعائشة ولذلك لم يذكر فيه توبة ، قال
ابن عباس : كل مذنب تقبل توبته إذا تاب إلا من خاض في حديث عائشة وقيل : الوعيد لكل قاذف
، والعذاب العظيم يحتمل أن يريد به الحدّ أو عذاب الآخرة.
(يَوْمَ تَشْهَدُ) العامل فيه يوفيهم ، وكرر يومئذ توكيدا وقيل : العامل فيه
عذاب أو فعل مضمر (دِينَهُمُ الْحَقَ) أي جزاؤهم الواجب لهم (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ
اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) هذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين ، لأن المؤمن
قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين ، ومعنى المبين الظاهر الذي لا شك فيه (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) الآية : معناها أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال
، وأن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، ففي ذلك ردّ على أهل الأفك ، لأن
النبي صلىاللهعليهوسلم هو أطيب الطيبين فزوجته أطيب الطيبات ، وقيل : المعنى أن
الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس ، والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس ،
ففيه أيضا ردّ على أهل الإفك ، وقيل : معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من
الناس ، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك ، وقيل : معناه أن الخبيثات من الأقوال
للخبيثين من الناس ، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك : أي أن أقوالهم الخبيثة لا
يقولها إلا خبيث مثلهم (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ
مِمَّا يَقُولُونَ) الإشارة بأولئك إلى الطيبين والطيبات والضمير في يقولون للخبيثات
والخبيثين ، والمراد تبرئة عائشة رضي الله عنها مما رميت به (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) هذه الآية أمر بالاستئذان في غير بيت الداخل ، فيعم بذلك
بيوت الأقارب وغيرهم ، وقد جاء في الحديث الأمر بالاستئذان على الأم خيفة
أن يراها عريانة ، ومعنى تستأنسوا : تستأذنوا وهو مأخوذ من قولك : آنست
للشيء إذا علمته ، فالاستئناس : أن يستعلم هل يريد أهل الدار الدخول أم لا؟ وقيل
هو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة ؛ وقرأ ابن عباس حتى تستأذنوا ، والاستئذان واجب ،
وأما السلام فلا ينتهي إلى الوجوب ، واختلف أيهما يقدّم ، فقيل يقدّم السلام ثم
يستأذن فيقول : السلام عليكم ، ثم يقول أأدخل ، وقيل يقدم الاستئذان لتقديمه في
الآية ، وليس في الآية عدد الاستئذان ، وجاء في الحديث أن يستأذن ثلاث مرات ، وهو
تفسير للآية (لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ
لَكُمْ) سبب هذه الآية أنه لما نزلت آية الاستئذان تعمق قوم فكانوا
يأتون المواضع غير المسكونة فيسلمون ويستأذنون ، فأباحت هذه الآية دخولها بغير
استئذان ، واختلف في البيوت غير المسكونة في هذه الآية ، فقيل : هي الفنادق التي
في الطرق ولا يسكنها أحد ، بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل ، والمتاع على
هذا التمتع بالنزول فيها والمبيت وغير ذلك ، وقيل : هي الخرب التي تدخل للبول
والغائط ، والمتاع على هذا حاجة الإنسان ، وقيل : هي حوانيت القيسارية ، والمتاع
على هذا الثياب والبسط وشبهها ، وهذا القول خطأ لأن الاستئذان في الحوانيت واجب
بإجماع.
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) إعرابها كإعراب يقيموا الصلاة في [إبراهيم : ٣١] وقد ذكر
ومن أبصارهم للتبعيض ، والمراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ،
وقيل : معنى التبعيض فيه أن النظرة الأولى لا حرج فيها ، ويمنع ما بعدها ، وأجاز
الأخفش أن تكون من زائدة ، وقيل : هي لابتداء الغاية ، لأن البصر مفتاح القلب
والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة ، أو إلى ما لا يحل من النساء ، أو إلى
كتب الغير وشبه ذلك مما يستر ، وحفظ الفروج المأمور به : هو عن الزنا ، وقيل :
أراد ستر العورة ، والأظهر أن الجميع مراد
(وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) تؤمر المرأة بغض بصرها عن عورة الرجل وعن عورة المرأة
إجماعا ، واختلف هل يجب عليها غض بصرها عن سائر جسد الرجل الأجنبي أم لا ، وعن
سائر جسد المرأة أم لا ، فعلى القول بذلك تشتمل الآية عليه ، والكلام في حفظ فروج
النساء كحفظ فروج الرجال (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) نهى عن إظهار الزينة بالجملة ثم استثنى الظاهر منها ، وهو
ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك ، فقيل : إلا ما
__________________
ظهر منها يعني
الثياب ؛ فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها ، وقيل : الثياب والوجه والكفان ، وهذا مذهب
مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة ، وزاد أبو حنيفة القدمين (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى
جُيُوبِهِنَ) الجيوب هي التي يقول لها العامة أطواق ، وسببها أن النساء
كن في ذلك الزمان يلبسن ثيابا واسعات الجيوب ، يظهر منها صدورهن ، وكن إذا غطين
رؤوسهن بالأخمرة ، سدلنها من وراء الظهر ، فيبقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر
عليها ، فأمرهن الله بلي الأخمرة [جمع خمار] على الجيوب ليستر جميع ذلك (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَ) الآية : المراد بالزينة هنا الباطنة ، فلما ذكر في الآية
قبلها ما أباح أن يراه غير ذوي المحرم من الزينة الظاهرة ، وذكر في هذه ما أباح أن
يراه الزوج وذوي المحارم من الزينة الباطنة ، وبدأ بالبعولة وهم الأزواج لأن
اطلاعهم يقع على أعظم من هذا ، ثم ثنّى بذوي المحارم وسوّى بينهم في إبداء الزينة
، ولكن مراتبهم تختلف بحسب القرب ، والمراد بالآباء كل من له ولادة من والد وجدّ ،
وبالأبناء كل من عليه ولادة من ولد وولد ولد ، ولم يذكر في هذه الآية من ذوي
المحارم : العم والخال ومذهب جمهور العلماء جواز رؤيتهما للمرأة ، لأنهما من ذوي
المحارم ، وكره ذلك قوم ، وقال الشافعي : إنما لم يذكر العم والخال لئلا يصفا زينة
المرأة لأولادهما (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني جميع المؤمنات ، فكأنه قال أو صنفهن ويخرج عن ذلك
نساء الكفار (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) يدخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات ، وأما العبيد :
ففيهم ثلاثة أقوال : منع رؤيتهم لسيدتهم وهو قول الشافعي ، والجواز : وهو قول ابن
عباس وعائشة ، والجواز بشرط أن يكون العبد وغدا وهو مذهب مالك ، وإنما أخذ جوازه
من قوله «أو التابعين غير أولى الإربة» واختلف هل يجوز أن يراها عبد زوجها وعبد
الأجنبيّ أم لا؟ على قولين (أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) شرط في رؤية غير ذوي المحارم شرطين : أحدهما أن يكونا
تابعين ، ومعناه أن يتبع لشيء يعطاه كالوكيل والمتصرف ، ولذلك قال بعضهم هو الذي
يتبعك وهمته بطنه ، والآخر : أن لا يكون لهم إربة في النساء كالخصي والمخنث والشيخ
الهرم والأحمق ، فلا يجوز رؤيتهم للنساء إلا باجتماع الشرطين ، وقيل بأحدهما ،
ومعنى الإربة الحاجة إلى الوطء (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أراد بالطفل الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، ويقال : طفل ما
لم يراهق الحلم ، ويظهروا معناه يطلعون بالوطء على عورات النساء ، فمعناه الذين لم
يطئوا النساء ، وقيل : الذين لا يدرون ما عورات النساء وهذا أحسن (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) روي أن امرأة كان لها خلخالان ، فكانت تضرب بهما ليسمعهما
الرجال ، فنهى الله عزوجل عن ذلك ،
قال الزجاج :
إسماع صوت الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها.
(وَتُوبُوا إِلَى
اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع
الأمة ، وفرائضها ثلاثة : الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال ، لا من حيث
أضر ببدن أو مال ، والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان
، والعزم أن لا يعود إليها أبدا ومهما قضى عليه بالعود أحدث عزما مجدّدا ، وآدابها
ثلاثة : الاعتراف بالذنب مقرونا بالانكسار ، والإكثار من التضرع والاستغفار ، والإكثار
من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات ، ومراتبها سبع : فتوبة الكفار من الكفر ،
وتوبة المخلطين من الذنوب الكبائر ، وتوبة العدول من الصغائر وتوبة العابدين من
الفترات ، وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات ، وتوبة أهل الورع من الشبهات ،
وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة : خوف العقاب ، ورجاء
الثواب ، والخجل من الحساب ، ومحبة الحبيب ، ومراقبة الرقيب القريب ، وتعظيم
بالمقام ، وشكر الإنعام.
(وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) الأيامى جمع أيّم ومعناه الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا
أو نساء أبكارا أو ثيبات ، والخطاب هنا للأولياء والحكام أمرهم الله بتزويج
الأيامى ، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن من التزويج ، وفي الآية دليل على عدم استقلال
النساء بالإنكاح ؛ واشتراط الولاية فيه ، وهو مذهب مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة
(وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم ، وقال
الزمخشري : الصالحين بمعنى الصلاح في الدين ، قال وإنما خصهم الله بالذكر ليحفظ
عليهم صلاحهم والمخاطبون هنا ساداتهم ؛ ومذهب الشافعي أن السيد يجبر على تزويج
عبيده على هذه الآية خلافا لمالك ، ومذهب مالك أن السيد يجبر عبده وأمته على
النكاح خلافا للشافعي (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وعد الله بالغنى للفقراء الذين يتزوجون لطلب رضا الله ،
ولذلك قال ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أمر بالاستعفاف وهو الاجتهاد في طلب العفة من الحرام لمن
لا يقدر على التزوج ، فقوله : (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) معناه لا يجدون استطاعة على التزوج بأي وجه تعذر التزوج ،
وقيل : معناه لا يجدون صداقا للنكاح ، والمعنى الأول أعم ، والثاني : أليق بقوله
حتى يغنيهم الله من فضله.
(وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة ، وهي مقاطعة العبد على مال
منجم فإذا أدّاه خرج حرّا ، وإن عجز بقي رقيقا ، وقيل : إن الآية نزلت بسبب حويطب
ابن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، وحكمها مع ذلك عام فأمر الله سادات
العبيد أن يكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة ، وهذا الأمر على الندب عند مالك والجمهور ،
وقال الظاهرية وغيرهم. هو على الوجوب وذلك ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
لأنس بن مالك حين سأله مملوكه سيرين الكتابة فتلكأ أنس ، فقال له عمر : لتكاتبنه
أو لأوجعنك
بالدرة ، وإنما
حمله مالك على الندب لأن الكتابة كالبيع ، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها ،
واختلف هل يجبر السيد عبده على الكتابة أم لا؟ على قولين في المذهب (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) الخير هنا القوة على أداء الكتابة بأي وجه كان ، وقيل : هو
المال الذي يؤدي منه كتابته من غير أن يسأل أموال الناس ، وقيل هو الصلاح في
الدين.
(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) هذا أمر بإعانة المكاتب على كتابته ، واختلف فيمن المخاطب
بذلك فقيل : هو خطاب للناس أجمعين ، وقيل للولاة ، والأمر على هذين القولين للندب
، وقيل : هو خطاب لسادات المكاتبين ، وهو على هذا القول ندب عند مالك ، وللوجوب
عند الشافعي فإن كان الأمر للناس ، فالمعنى أن يعطوهم صدقات من أموالهم ، وإن كان
للولاة فيعطوهم من الزكاة ، وإن كان للسادات فيحطوا عنهم من كتابتهم ، وقيل :
يعطوهم من أموالهم من غير الكتابة ، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار
ما يحط ، فقيل : الربع ، وروى ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقيل الثلث ، وقال مالك والشافعي : لا حد في ذلك ، بل أقل
ما ينطلق عليه اسم شيء ، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك ، ولا يجبره مالك ، وزمان
الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك ، وقيل في أول نجم.
(وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) معنى البغاء الزنا ، نهى الله المسلمين أن يجبروا
مملوكاتهم على ذلك ، وسبب الآية أن عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق كان له
جاريتان ، فكان يأمرهما بالزنا للكسب منه وللولادة ، ويضربهما على ذلك ، فشكتا ذلك
إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فعله (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) هذا الشرط راجع إلى إكراه الفتيات على الزنا ، إذ لا يتصور
إكراههن إلا إذا أردن التحصن وهو التعفف ، وقيل : هو راجع إلى قوله وأنكحوا
الأيامى وذلك بعيد (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني ما تكسبه الأمة بفرجها ، وما تلده من الزنا ؛ ويتعلق
لتبتغوا بقوله لا تكرهوا (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ
فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المعنى غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنا ، لأنهن أكرهن
عليه ، ويحتمل أن يكون المعنى غفور رحيم للسيد الذي يكرههن إذا تاب من ذلك (آياتٍ مُبَيِّناتٍ) بفتح الياء : أي بينها الله ؛ وبالكسر مبينات للأحكام
والحلال والحرام (وَمَثَلاً) يعني ضرب لكم الأمثال بمن كان قبلكم في تحريم الزنا ، لأنه
كان حراما في كل ملة أو في براءة عائشة كما برأ يوسف ومريم.
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) النور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار ، ومجازا
على المعاني التي تدرك بالقلوب ، والله ليس كمثله شيء ، فتأويل الآية الله ذو نور
__________________
السموات والأرض ؛
ووصف نفسه بأنه نور كما تقول زيد كرم إذا أردت المبالغة في أنه كريم ، فإن أراد
بالنور المدرك بالأبصار ، فمعنى نور السموات والأرض أنه خلق النور الذي فيهما من
الشمس والقمر والنجوم ، أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود ، فإنما ظهرت
به كما تظهر الأشياء بالضوء ، ومن هذا المعنى قرأ عليّ بن أبي طالب : «الله نوّر
السموات والأرض» بفتح النون والواو والراء وتشديد الواو : أي جعل فيهما النور ،
وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب ، فمعنى نور السموات والأرض جاعل النور في قلوب
أهل السموات والأرض ولهذا قال ابن عباس : معناه هادي أهل السموات والأرض.
(مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) المشكاة هي الكوة غير النافذة تكون في الحائط ، ويكون
المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل : المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه ،
والأوّل أصح وأشهر ، والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح ، على
أعظم ما يتصوّره البشر من الإضاءة والإنارة ، وإنما شبه بالمشكاة وإن كان نور الله
أعظم ، لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار ، فضرب المثل لهم بما يصلون إلى
إدراكه. وقيل : الضمير في نوره عائد على سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على المؤمن ، وهذه الأقوال ضعيفة لأنه لم يتقدم ما يعود
عليه الضمير ، فإن قيل : كيف يصح أن يقال الله نور السموات والأرض فأخبر أنه هو
النور ، ثم أضاف النور إليه في قوله : مثل نوره ، والمضاف عين المضاف إليه؟ فالجواب أن ذلك يصح مع
التأويل الذي قدمناه أي الله ذو نور السموات والأرض ، أو كما تقول : زيد كرم ، ثم
تقول : ينعش الناس بكرمه (الْمِصْباحُ فِي
زُجاجَةٍ) المصباح هو الفتيل بناره ، والمعنى أنه في قنديل من زجاج
لأن الضوء فيه أزهر ، لأنه جسم شفاف (الزُّجاجَةُ
كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) شبه الزجاجة في إنارتها بكوكب درّي ، وذلك يحتمل معنيين
إما أن يريد أنها تضيء بالمصباح الذي فيها ، وإما أن يريد أنها في نفسها شديدة
الضوء لصفائها ورقة جوهرها ، وهذا أبلغ لاجتماع نورها مع نور المصباح ، والمراد
بالكوكب الدرّي أحد الدراري المضيئة : كالمشتري ، والزهرة ، وسهيل ، ونحوها ، وقيل
: أراد الزهرة ، ولا دليل على هذا التخصيص ، وقرأ نافع دري بضم الدال وتشديد الياء
بغير همزة ولهذه القراءة وجهان : إما أن ينسب الكوكب إلى الدرّ لبياضه وصفائه ، أو
يكون مسهلا من الهمز ، وقرأ [أبو عمرو والكسائي : درّيء] وقرأ حمزة وأبو بكر :
درّيء بالهمز وكسر الدال بالهمز وضم الدال ، وهو مشتق من الدرء بمعنى الدفع.
(يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) من قرأ يوقد بالياء أو توقّد بالفعل الماضي فالفعل مسند إلى المصباح ،
ومن قرأ توقد بالتاء والفعل المضارع فهو مسند إلى الزجاجة ، والمعنى : توقد من زيت
شجرة مباركة ، ووصفها بالبركة لكثرة منافعها ، أو لأنها تنبت في
__________________
الأرض المباركة
وهي الشام (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ) قيل : يعني أنها بالشام فليست من شرق الأرض ولا من غربها ،
وأجود الزيتون زيتون الشام ، وقيل : هي منكشفة تصيبها الشمس طول النهار ، فليست
خالصة للشرق فتسمى شرقية ، ولا للغرب فتسمى غربية بل هي غربية شرقية ، لأن الشمس
تستدير عليها من الشرق والغرب ، وقيل : إنها في وسط دوحة لا في جهة الشرق من
الدوحة ولا في جهة الغرب ، وقيل : إنها من شجرة الجنة ولو كانت في الدنيا لكانت
شرقية أو غربية (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) مبالغة في وصف صفائه وحسنه (نُورٌ عَلى نُورٍ) يعني اجتماع نور المصباح وحسن الزجاجة وطيب الزيت ،
والمراد بذلك كمال النور الممثل به (يَهْدِي اللهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يوفق الله من يشاء لإصابة الحق.
(فِي بُيُوتٍ) يعني المساجد ، وقيل : بيوت أهل الإيمان من مساجد أو مساكن
، والأول أصح ، والجار يتعلق بما قبله : أي كمشكاة في بيوت ، أو توقد في بيوت ،
وقيل :
بما بعده وهو يسبح
، وكرر الجارّ بعد ذلك تأكيدا ، وقيل : بمحذوف : أي سبحوا في بيوت أذن الله أن
ترفع ، والمراد بالإذن الأمر ، ورفعها بناؤها ، وقيل : تعظيمها (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي غدوة وعشية وقيل : أراد الصبح والعصر وقيل : صلاة الضحى
والعصر (رِجالٌ) فاعل يسبّح على القراءة بكسر الباء ، [من يسبح] وأما على
القراءة بالفتح فهو مرفوع بفعل مضمر يدل عليه الأول (لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا تشغلهم ، ونزلت الآية في أهل الأسواق الذين إذا
سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها ، والبيع من التجارة ، ولكنه خصه
بالذكر تجريدا كقوله : فاكهة ونخل ورمان ، أو أراد بالتجارة الشراء (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصارُ) أي تضطرب من شدة الهول والخوف ، وقيل : تفقه القلوب وتبصر
الأبصار بعد العمى ، لأن الحقائق تنكشف حينئذ ، والأول أصح كقوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] ،
وفي قوله «تتقلب فيه القلوب» تجنيس (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق بما قبله ، أو بفعل من معنى ما قبله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) تقديره جزاء أحسن ما علموا (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) يعني زيادة على ثواب أعمالهم (بِغَيْرِ حِسابٍ) ذكر في البقرة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) لما ذكر الله حال المؤمنين أعقب ذلك بمثالين لأعمال
الكافرين : الأول يقتضي حال أعمالهم في الآخرة ، وأنها لا تنفعهم ، بل يضمحل
ثوابها كما يضمحل السراب ، والثاني يقتضي حال أعمالهم في الدنيا ، وأنها في غاية
الفساد والضلال كالظلمات التي بعضها فوق بعض ، والسراب هو ما يرى في الفلوات
من ضوء الشمس في
الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجرى على وجه الأرض ، والقيعة جمع قاع وهو المنبسط من
الأرض ، وقيل : بمعنى القاع وليس بجمع (يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ ماءً) الظمآن العطشان : أي يظن العطشان أن السراب ماء ، فيأتيه
ليشربه ، فإذا جاء خاب ما أمل ، وبطل ما ظنّ ، وكذلك الكافر يظن أن أعماله تنفعه ،
فإذا كان يوم القيامة لم تنفعه فهي كالسراب (حَتَّى إِذا جاءَهُ) ضمير الفاعل للظمآن ، وضمير المفعول للسراب أو ضمير الفاعل
للكافر وضمير المفعول لعمله (لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً) أي شيئا ينتفع به أو شيئا موجودا على العموم لأنه معدوم ،
ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل للظمآن وضمير المفعول للسراب. أو ضمير الفاعل للكافر
وضمير المفعول لعمله (وَوَجَدَ اللهَ
عِنْدَهُ) ضمير الفاعل في وجد للكافر ، والضمير في عنده لعمله ،
والمعنى وجد الله عنده بالجزاء ، أو وجد زبانية الله.
(أَوْ كَظُلُماتٍ) هذا هو المثال الثاني ، وهو عطف على قوله كسراب ، والمشبه
بالظلمات أعمال الكافر : أي هم من الضلال والحيرة في مثل الظلمات المجتمعة من ظلمة
البحر تحت الموج تحت السحاب (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) منسوب إلى اللج ، وهو معظم الماء ، وذهب بعضهم إلى أن
أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء الممثل به : فالظلمات أعمال الكافر ، والبحر
اللجي صدره ، والموج جهله ، والسحاب الغطاء الذي على قلبه ، وذهب بعضهم إلى أنه
تمثيل بالجملة من غير مقابلة وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغة كما أن وصف
النور المذكور قبلها مبالغة (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ
لَمْ يَكَدْ يَراها) المعنى مبالغة في وصف الظلمة ، والضمير في أخرج وما بعده
للرجل الذي وقع في الظلمات الموصوفة ، واختلف في تأويل الكلام : فقيل : المعنى إذا
أخرج يده لم يقارب رؤيتها ، فنفى الرؤية ومقاربتها ، وقيل : بل رآها بعد عسر وشدة
، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإيجاب ، وإذا أوجبت تقتضي النفي ، وقال ابن عطية :
إنما ذلك إذا دخل حرف النفي على الفعل الذي بعدها ، فأما إذا دخل حرف النفي على
كاد كقوله : لم يكد ، فإنه يحتمل النفي والإيجاب.
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً) أي من لم يهده الله لم يهتد ، فالنور كناية عن الهدى ،
والإيمان في الدنيا ، وقيل : أراد في الآخرة أي من لم يرحمهالله فلا رحمة له ، والأول أليق بما قبله ، (أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الرؤية هنا بمعنى العلم والتسبيح التنزيه والتعظيم ، وهو
من العقلاء بالنطق ، وأما تسبيح الطير وغيرها مما لا يعقل ، فقال الجمهور : إنه
حقيقي ، ولا يبعد أن يلهمها الله التسبيح ، كما يلهمها الأمور الدقيقة التي لا
يهتدى إليها العقلاء ، وقيل : تسبيحه ظهور الحكمة فيه (صَافَّاتٍ) يصففن أجنحتهن في الهواء (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ) الضمير في علم لله ، أو لكل ، والضمير في صلاته وتسبيحه
لكل
(يُزْجِي) معناه يسوق ، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل كالسحاب
(رُكاماً) متكاثف بعضه فوق بعض (الْوَدْقَ) المطر (مِنْ خِلالِهِ) أي من بينه ، وهو جمع خلل كجبل وجبال (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ
فِيها مِنْ بَرَدٍ) قيل : إن الجبال هنا حقيقة وأن الله جعل في السماء جبالا
من برد ، وقيل : إنه مجاز كقولك عند فلان جبال من مال أو علم : أي هي في الكثرة
كالجبال ، ومن في قوله «من السماء» لابتداء الغاية ، وفي قوله «من جبال» كذلك ،
وهي بدل من الأولى ، وتكون للتبعيض ، فتكون مفعول ينزل ، ومن في قوله : من برد :
لبيان الجنس أو للتبعيض فتكون مفعول ينزل ، وقال الأخفش : هي زائدة ، وذلك ضعيف ،
وقوله «فيها» صفة للجبال ، والضمير يعود على السماء (سَنا بَرْقِهِ) السنا بالقصر الضوء ، وبالمدّ المجد والشرف (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يأتي بهذا بعد هذا.
(خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ) يعني بني آدم والبهائم والطير لأن ذلك كله يدب (مِنْ ماءٍ) يعني المنيّ ، وقيل : الماء الذي في الطين الذي خلق منه
آدم وغيره (عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والحوت (وَيَقُولُونَ آمَنَّا) الآية : نزلت في المنافقين ، وسببها أن رجلا من المنافقين
كانت بينه وبين يهودي خصومة ، فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأعرض عنه ، ودعاه إلى كعب بن الأشرف (مُذْعِنِينَ) أي منقادين طائعين لقصد الوصول إلى حقوقهم (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) توقيف [سؤال] يراد به التوبيخ ، وكذلك ما بعده (أَنْ يَحِيفَ) معناه أن يجور ، والحيف الميل ، وأسنده إلى الله ، لأن
الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه (إِنَّما كانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ) الآية. معناها إنما الواجب أن يقول المؤمنون : سمعنا
وأطعنا إذا دعوا إلى الله ورسوله ، وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية : قال ابن عباس : معناها من يطع الله في فرائضه ورسوله في
سنته (وَيَخْشَ اللهَ) فيما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) فيما يستقبل ، وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت
له هذه
الآية ، وسمعها
بعض بطارقة الروم فأسلم ، وقال إنها جمعت كل ما في التوراة والإنجيل (وَأَقْسَمُوا) أي حلفوا ، والضمير للمنافقين (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي بالغوا في اليمين وأكدوها (لَيَخْرُجُنَ) يعني إلى الغزو (قُلْ لا تُقْسِمُوا) نهى عن اليمين الكاذبة لأنه قد عرف أنهم يحلفون على الباطل
(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) مبتدأ وخبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل وأولى بكم ، أو خبر
مبتدأ محذوف أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا يشك فيها (عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) يعني تبليغ الرسالة (وَعَلَيْكُمْ ما
حُمِّلْتُمْ) يعني السمع والطاعة واتباع الشريعة.
(لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ) وعد ظهر صدقه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة ، وقيل
: إن المراد بالآية : خلافة أبي بكر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، وانتهت الثلاثون إلى آخر
خلافة عليّ ، فإن قيل : أين القسم الذي جاء قوله «ليستخلفنهم» جوابا له؟ فالجواب
أنه محذوف تقديره : وعدهم الله وأقسم ، أو جعل الوعد بمنزلة القسم لتحققه (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قيل المراد بالذين ملكت أيمانكم : الرجال خاصة ، وقيل
النساء خاصة ، لأن الرجال يستأذنون في كل وقت وقيل الرجال والنساء (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) يعني الأطفال غير البالغين (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) نصب على الظرفية لأنهم أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن ،
فمعنى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذان في ثلاثة أوقات ، وهي قبل
الصبح وحين القائلة وسط النهار ، وبعد صلاة العشاء الأخيرة ، لأن هذه الأوقات يكون
الناس فيها متجردين للنوم في غالب أمرهم ، وهذه الآية محكمة ؛ وقال ابن عباس : ترك
الناس العمل بها ، وحملها بعضهم على الندب (تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) يعني تتجرّدون (الظَّهِيرَةِ) وسط النهار (ثَلاثُ عَوْراتٍ) جمع عورة من الانكشاف كقوله : (بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ٣٣]
ومن رفع ثلاث فهو خبر ابتداء مضمر تقديره : هذه الأوقات ثلاث عورات لكم : أي
تنكشفون فيها ، ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) هذا الضمير المؤنث يعود على الأوقات المتقدّمة أي ليس
عليكم ولا على
المماليك والأطفال
جناح في ترك الاستئذان في غير المواطن الثلاثة (طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ) تقديره المماليك والأطفال طوافون عليكم ، فلذلك يؤمر
بالاستئذان في كل وقت (بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) بدل من طوافون : أي بعضكم يطوف على بعض وقال الزمخشري : هو
مبتدأ أي بعضكم يطوف على بعض أو فاعل بفعل مضمر (وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) لما أمر الأطفال في الآية المتقدمة بالاستئذان في ثلاثة
أوقات ، وأباح لهم الدخول بغير إذن في غيرها : أمرهم هنا بالاستئذان في جميع
الأوقات إذا بلغوا ولحقوا بالرجال (وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ) جمع قاعد وهي العجوز ، فقيل : هي التي قعدت عن الولد ،
وقيل : التي قعدت عن التبرج (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ
جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أباح الله لهذا الصنف من العجائز ما لم يبح لغيرهنّ من وضع
الثياب ، قال ابن مسعود إنما أبيح لهنّ وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء ،
وقال بعضهم : إنما ذلك في منزلها الذي يراها فيه ذو ومحارمها (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) إنما أباح الله لهنّ وضع الثياب بشرط ألا يقصدن إظهار زينة
، والتبرج هو الظهور (وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) المعنى أن الاستعفاف عن وضع الثياب المذكورة خير لهنّ من
وضعها ، والأولى لهن أن يلتزمن ما يلتزم شباب النساء من الستر.
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية اختلف في المعنى الذي رفع الله فيه الحرج عن الأعمى
والأعرج والمريض في هذه الآية ، فقيل : هو في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخيرهم
عنه ، وقوله «ولا على أنفسكم» مقطوع من الذي قبله على هذا القول كأنه قال : ليس على هؤلاء
الثلاثة حرج في ترك الغزو ، ولا عليكم حرج في الأكل ، وقيل : الآية كلها في معنى
الأكل ، واختلف الذاهبون إلى ذلك ، فقيل : إن أهل هذه الأعذار كانوا يتجنبون الأكل
مع الناس لئلا يتقذرهم الناس ، فنزلت الآية مبيحة لهم الأكل مع الناس ، وقيل : إن
الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو خلفوا أهل هذه الأعذار في بيوتهم ، وكانوا
يتجنبون أكل مال الغائب ، فنزلت الآية في ذلك ، وقيل : إن الناس كانوا يتجنبون
الأكل معهم تقذرا ، فنزلت الآية ، وهذا ضعيف. لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن
غيرهم ، وقيل : إن رفع الحرج عن هؤلاء الثلاثة في كل ما تمنعهم عنه أعذارهم من
الجهاد وغيره (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أباح الله تعالى للإنسان الأكل في هذه البيوت المذكورة في
الآية ، فبدأ ببيت الرجل نفسه ، ثم ذكر القرابة على ترتيبهم ولم يذكر فيهم الابن ،
لأنه دخل في قوله من بيوتكم ، لأن بيت ابن الرجل بيته ، لقوله عليه الصلاة والسلام
: «أنت ومالك
لأبيك» ، واختلف العلماء فيما ذكر في هذه الآية من الأكل من بيوت
القرابة فذهب قوم إلى أنه منسوخ ، وأنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه
والناسخ قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا
عن طيب نفس منه» وقيل الآية محكمة ، ومعناها إباحة الأكل من بيوت القرابة
إذا أذنوا في ذلك ، وقيل بإذن وبغير إذن (أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ) يعني الوكلاء والأجراء والعبيد الذين يمسكون مفاتح مخازن
أموال ساداتهم ، فأباح لهم الأكل منها ، وقيل : المراد ما ملك الإنسان من مفاتح
نفسه وهذا ضعيف (أَوْ صَدِيقِكُمْ) الصديق يقع على الواحد والجماعة ، كالعدوّ ، والمراد به
هنا جمع ليناسب ما ذكر قبله من الجموع في قوله آبائكم وأمهاتكم وغير ذلك ، وقرن
الله الصديق بالقرابة ، لقرب مودّته ، وقال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) إباحة للأكل في حال الاجتماع والانفراد ، لأنّ بعض العرب
كان لا يأكل وحده أبدا خيفة من البخل ، فأباح لهم الله ذلك (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي إذا دخلتم بيوتا مسكونة ، فسلموا على من فيها من الناس
، وإنما قال : على أنفسكم بمعنى صنفكم كقوله (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١]
وقيل : المعنى إذا دخلتم بيوتا خالية فسلموا على أنفسكم بأن يقول الرجل : السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وقيل : يعني بالبيوت ، المساجد ، والأمر بالسلام
على من فيها ، فإن لم يكن فيها أحد فيسلم على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى الملائكة وعلى عباد الله الصالحين.
(وَإِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) الآية : الأمر الجامع هو ما يجمع الناس للمشورة فيه ، أو
للتعاون عليه. ونزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق بالمدينة ، فإن بعض المؤمنين
كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة ، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي لبعض حوائجهم (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ
__________________
بَعْضاً) في معناها ثلاثة أقوال الأول أن الدعاء هنا يراد به دعاء
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إياهم ليجتمعوا إليه في أمر جامع أو في قتال وشبه ذلك ،
فالمعنى أن إجابتكم له إذا دعاكم واجبة عليكم بخلاف ما إذا دعا بعضكم بعضا ، فهو
كقوله تعالى (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤]
ويقوي هذا القول مناسبته لما قبله من الاستئذان والأمر الجامع ، والقول الثاني أن
المعنى لا تدعوا الرسول عليهالسلام باسمه كما يدعو بعضكم بعضا باسمه بل قولوا : يا رسول الله
أو يا نبي الله تعظيما له ودعاء بأشراف أسمائه ، وقيل : المعنى لا تحسبوا دعاء
الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض : أي دعاؤه عليكم يجاب فاحذروه ، ولفظ الآية
بعيد من هذا المعنى على أن المعنى صحيح (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) الذين ينصرفون عن حفر الخندق ، واللواذ الروغان والمخالفة
، وقيل : الانصراف في خفية (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الضمير لله ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، واختلف في عن هنا ، فقيل إنها زائدة وهذا ضعيف ، وقال
ابن عطية : معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول : كان المطر عن ريح ، قال الزمخشري
يقال : خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه ، وخالفه عن الأمر إذا صد الناس عنه ،
فمعنى يخالفون عن أمره يصدّون الناس عنه ، فحذف المفعول لأن الغرض ذكر المخالف (فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) الفتنة في الدنيا بالرزايا ، أو بالفضيحة أو القتل أو
العذاب في الآخرة (قَدْ يَعْلَمُ ما
أَنْتُمْ عَلَيْهِ) دخلت قد للتأكيد ، وفي الكلام معنى الوعيد ، وقيل : معناها
التقليل على وجه التهكم والخطاب لجميع الخلق ، أو للمنافقين خاصة (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يعني المنافقين ، والعامل في الظرف بينهم.
سورة الفرقان
مكية إلا الآيات
٦٨ و ٦٩ و ٧٠ فمدنية وآياتها ٧٧ نزلت بعد يس
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة الفرقان
(تَبارَكَ) من البركة وهو فعل مختص بالله تعالى لم ينطق له بالمضارع (عَلى عَبْدِهِ) يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وذلك على وجه
التشريف له والاختصاص (لِيَكُونَ
لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الضمير لمحمد صلىاللهعليهوسلم أو للقرآن ، والأول أظهر وقوله «للعالمين» عموم يشمل الجن
والإنس ممن كان في عصره ، ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة ، وتضمن صدر هذه السورة
إثبات النبوة والتوحيد ، والردّ على من خالف في ذلك (فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) الخلق عبارة عن الإيجاد بعد العدم ، والتقدير : عبارة عن
إتقان الصنعة ، وتخصيص كل مخلوق بمقداره ، وصفته وزمانه ومكانه ، ومصلحته ، وأجله
، وغير ذلك (وَاتَّخَذُوا) الضمير لقريش وغيرهم ممن أشرك بالله تعالى (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) يعنون قوما من اليهود منهم : عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي
(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً
وَزُوراً) أي ظلموا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما نسبوا إليه
وكذبوا في ذلك عليه.
(وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) أي ما سطره الأولون في كتبهم ، وكان الذي يقول هذه المقالة
النضر بن الحارث (اكْتَتَبَها) أي كتبها له كاتب ، ثم صارت تملى عليه ليحفظها ، وهذا
حكاية كلام الكفار ، وقال الحسن : إنها من قول الله على وجه الردّ عليهم ، ولو كان
ذلك لقال أكتتبها بفتح الهمزة لمعنى الإنكار ، وقد يجوز حذف الهمزة في مثل هذا ،
وينبغي على قول الحسن أن يوقف على أساطير الأولين (قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) ردّ على الكفار في قولهم ويعني بالسر : ما أسرّه الكفار من
أقوالهم ، أو يكون ذلك على وجه التنصل والبراءة مما نسبه الكفار إليه من الافتراء
، أي أن الله يعلم سري فهو العالم بأني ما
افتريت عليه ، بل
هو أنزله عليّ ، فإن قيل : ما مناسبة قوله : (إِنَّهُ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) لما قبله؟ فالجواب أنه لما ذكر أقوال الكفار : أعقبها بذلك
، لبيان أنه غفور رحيم في كونه لم يعجل عليهم بالعقوبة بل أمهلهم ، وإن أسلموا تاب
عليهم وغفر لهم.
(وَقالُوا ما لِهذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) الآية : قال هذا الكلام [بعض] قريش طعنا على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقد ردّ الله عليهم بقوله (وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠]
وقولهم : (لِهذَا الرَّسُولِ) على وجه التهكم كقول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ
الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) [الفرقان : ٢٧] أو
يعنون الرسول بزعمه ، ثم ذكر ما اقترحوا من الأمور في قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] وما
بعده ، ثم وصفهم بالظلم ، وقد ذكرنا معنى (مَسْحُوراً) في [الإسراء : ٤٧] (ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ) أي قالوا فيك تلك الأقوال (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً) أي لا يقدرون على الوصول إلى الحق لبعدهم عنه وإفراط جهلهم
(خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الإشارة إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) يعني جنات الآخرة وقصورها وقيل : يعني جنات ، وقصورا في
الدنيا ، ولذلك قال : إن شاء (إِذا رَأَتْهُمْ) أي إذا رأتهم جهنم وهذه الرؤية يحتمل أن تكون حقيقة أو
مجازا بمعنى : صارت منهم بقدر ما يرى على البعد (سَمِعُوا لَها
تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) التغيظ لا يسمع وإنما المسموع أصوات دالة عليه ، ففي لفظه
تجوّز ، والزفير أول صوت الحمار (مَكاناً ضَيِّقاً) تضيق عليهم زيادة في عذابهم (مُقَرَّنِينَ) أي مربوط بعضهم إلى بعض ، وروي أن ذلك بسلاسل من النار (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الثبور : الويل وقيل : الهلاك ، ومعنى دعائهم ثبورا : أنهم يقولون يا
ثبوراه كقول القائل : وا حسرتاه وا أسفاه (لا تَدْعُوا
الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) تقديره : يقال لهم ذلك أو يكون حالهم يقتضي ذلك ، وإن لم
يكن ثم قول ، وإنما دعوا ثبورا كثيرا لأن عذابهم دائم ، فالثبور يتجدد عليهم في كل
حين (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ
أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) إنما جاز هنا التفضيل بين الجنة والنار ، لأن الكلام سؤال
وتوبيخ ، وإنما يمنع التفضيل بين شيئين ، ليس بينهما اشتراك في المعنى إذا كان
الكلام خبرا (وَعْداً مَسْؤُلاً) أي سأله المؤمنين أو الملائكة في قولهم : وأدخلهم جنات
عدن ، وقيل :
معناه وعدا واجب الوقوع ، لأنه حتمه (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) القائل لذلك هو الله عزوجل ، والمخاطب هم المعبودون مع الله على العموم ، وقيل :
الأصنام خاصة ، والأول أرجح لقوله : (ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] وقوله
: (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٩] (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) أم هنا معادلة لما قبلها ، والمعنى أن الله يقول يوم
القيامة للمعبودين : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم
باختيارهم ولم تضلوهم أنتم؟ ولأجل ذلك بين هذا المعنى بقوله : «هم» ليتحقق إسناد
الضلال إليهم ، فإنما سألهم الله هذا السؤال مع علمه بالأمور ليوبخ الكفار الذين عبدوهم
(قالُوا سُبْحانَكَ ما
كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [سبأ : ٤١]
القائلون لهذا هم المعبودون : قالوه على وجه التبري ممن عبدهم كقولهم : أنت ولينا من
دونهم ، والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ ، وإقامة الحجة عليهم (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) معناه أن إمتاعهم بالنعم في الدنيا كان سبب نسيانهم لذكر
الله وعبادته (قَوْماً بُوراً) أي هالكين ، وهو من البوار وهو الهلاك ، واختلف هل هو جمع
بائر؟ أو مصدر وصف به ولذلك يقع على الواحد والجماعة (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ
بِما تَقُولُونَ) هذا خطاب خاطب الله به المشركين يوم القيامة أي : قد كذبكم
آلهتكم التي عبدتم من دون الله ، وتبرؤوا منكم. وقيل : هو خطاب للمعبودين : أي كذبوكم في هذه المقالة لما
عبدوكم في الدنيا ، وقيل : هو خطاب للمسلمين : أي قد كذبكم الكفار فيما تقولونه من
التوحيد والشريعة ، وقرئ بما يقولون بالياء من أسفل ، والباء في قوله بما تقولون على القراءة
بالتاء بدل من الضمير في كذبوكم ، وعلى القراءة بالياء كقولك : كتبت بالقلم ، أو
كذبوكم بقولهم (فَما تَسْتَطِيعُونَ
صَرْفاً وَلا نَصْراً) قرئ فما تستطيعون بالتاء فوق ، ويحتمل على هذا أن يكون
الخطاب للمشركين أو للمعبودين ؛ والصرف على هذين الوجهين صرف العذاب عنهم ، أو
يكون الخطاب للمسلمين والصرف على هذا رد التكذيب ، وقرئ بالياء وهو مسند إلى
المعبودين أو إلى المشركين والصرف صرف العذاب (وَمَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ) خطاب للكفار وقيل : للمؤمنين وقيل : على العموم (وَما
أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) تقديره : وما أرسلنا رسلا أو رجالا قبلك ، وعلى هذا
المفعول المحذوف يعود الضمير في قوله : إلا أنهم ليأكلون الطعام ، وهذه الآية ردّ
على الكفار في استبعادهم بعث رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (وَجَعَلْنا
__________________
بَعْضَكُمْ
لِبَعْضٍ فِتْنَةً) هذا خطاب لجميع الناس لاختلاف أحوالهم ، فالغني فتنة
للفقير ، والصحيح فتنة للمريض ، والرسول فتنة لغيره ممن يحسده ويكفر به (أَتَصْبِرُونَ) تقديره لننظر هل تصبرون (لا يَرْجُونَ
لِقاءَنا) قيل : معناه لا يخافون ، والصحيح أنه على بابه لأن لقاء
الله يرجى ويخاف (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) اقترح الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله ، وحينئذ يؤمنون
فرد الله عليهم بقوله : لقد استكبروا الآية : أي طلبوا ما لا ينبغي لهم أن يطلبوه
، وقوله : في أنفسهم كما تقول : فلان عظيم في نفسه ، أي عند نفسه أو بمعنى أنهم
أضمروا الكفر في أنفسهم (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) لما طلبوا رؤية الملائكة ، أخبر الله أنهم لا بشرى لهم يوم
يرونهم ، فالعامل في يوم معنى لا بشرى ، ويومئذ بدل (وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً) الضمير في يقولون إن كان للملائكة ، فالمعنى أنهم يقولون
للمجرمين حجرا محجورا ، أي حرام عليكم الجنة أو البشرى ، وإن كان الضمير للمجرمين
، فالمعنى أنهم يقولون حجرا بمعنى عوذا. لأن العرب كانت تتعوّذ بهذه الكلمة مما
تكره ، وانتصابه بفعل متروك إظهاره نحو معاذ الله.
(وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا) أي قصدنا إلى أفعالهم فلفظ القدوم مجاز ، وقيل : هو قدوم
الملائكة أسنده الله إلى نفسه لأنه عن أمره (فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً) عبارة عن عدم قبول ما عملوا من الحسنات كإطعام المساكين
وصلة الأرحام وغير ذلك ، وأنها لا تنفعهم لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال ،
والهباء هي الأجرام الدقيقة من الغبار التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على موضع
ضيق كالكوة ، والمنثور المتفرّق (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) جاء هنا التفضيل بين الجنة والنار ، لأن هذا مستقرّ وهذا
مستقرّ (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) هو مفعل من النوم في القائلة وإن كانت الجنة لا نوم فيها ،
ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة ،
وقيل : إن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ،
وأهل النار في النار.
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ) هو يوم القيامة وانشقاق السماء : انفطارها ومعنى بالغمام
أي يخرج منها الغمام ، وهو السحاب الرقيق الأبيض ، وحينئذ تنزل الملائكة إلى الأرض
(وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) عض اليدين كناية عن الندم والحسرة ، والظالم هنا عقبة بن
أبي معيط ، وقيل : كل ظالم والظلم هنا الكفر (مَعَ الرَّسُولِ) هو محمد صلى الله
تعالى عليه وآله
وسلم ، أو اسم جنس على العموم (لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) روي أن عقبة جنح إلى الإسلام فنهاه أبيّ بن خلف وأمية بن
خلف فهو فلان ، وقيل : إن عقبة نهى أبيّ بن خلف عن الإسلام ، فالظالم على هذا أبيّ
وفلان عقبة ، وإن كان الظالم على العموم ففلانا على العموم أي خليل كل كافر (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم ، أو ابتداء إخبار من قول
الله تعالى ، ويحتمل أن يريد بالشيطان إبليس أو الخليل المذكور (وَقالَ الرَّسُولُ) قيل : إن هذا حكاية قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في
الدنيا ، وقيل : في الآخرة (مَهْجُوراً) من الهجر بمعنى البعد والترك وقيل : من الهجر بضم الهاء ،
أي قالوا فيه الهجر حين قالوا : إنه شعر وسحر والأول أظهر.
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) العدو هنا جمع ، والمراد تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء (وَكَفى بِرَبِّكَ
هادِياً وَنَصِيراً) وعد لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالهدى والنصرة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) هذا من اعتراضات قريش ؛ لأنهم قالوا لو كان القرآن من عند
الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤادَكَ) هذا جواب لهم تقديره : أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤاد
محمد صلىاللهعليهوسلم لحفظه : ولو نزل جملة واحدة لتعذر عليه حفظه لأنه أمي لا
يقرأ ، فحفظ المفرق عليه أسهل ، وأيضا فإنه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزل كل
جزء منه عند حدوث سببه ، وأيضا منه ناسخ ومنسوخ ، ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة
واحدة (وَرَتَّلْناهُ
تَرْتِيلاً) أي فرقناه تفريقا فإنه نزل بطول عشرين سنة. وهذا الفعل
معطوف على الفعل المقدر ، الذي يتعلق به كذلك وبه يتعلق لنثبت (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) الآية معناه لا يوردون عليك سؤالا أو اعتراضا ، إلا أتيناك
في جوابه بالحق ، والتفسير الحسن الذي يذهب اعتراضهم ويبطل شبهتهم (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) يعني الكفار ، وحشرهم على وجوههم حقيقة لأنه جاء في الحديث
؛ قيل يا رسول الله : كيف يحشر الكافر على وجهه : قال أليس الذي أمشاه في الدنيا
على رجليه قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه (شَرٌّ مَكاناً) يحتمل أن يريد بالمكان المنزلة والشرف أو الدار والمسكن في
الآخرة (وَزِيراً) معينا (إِلَى الْقَوْمِ) يعني فرعون وقومه ،
__________________
وفي الكلام حذف
تقديره : فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم (كَذَّبُوا الرُّسُلَ) تأويله كما ذكر في قوله في هود فعصوا رسله (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) يحتمل أن يريد بالظالمين من تقدم ووضع هذا الاسم الظاهر
موضع المضمر لقصد وصفهم بالظلم ، أو يريد الظالمين على العموم (وَأَصْحابَ الرَّسِ) معنى الرس في اللغة : البئر ، واختلف في أصحاب الرس : فقيل
هم من بقية ثمود وقيل : من أهل اليمامة ، وقيل من أهل أنطاكية ، وهم أصحاب يس ،
واختلف في قصتهم فقيل بعث الله إليهم نبيا فرموه في بئر فأهلكهم الله ، وقيل :
كانوا حول بئر لهم فانهارت بهم فهلكوا (وَقُرُوناً بَيْنَ
ذلِكَ كَثِيراً) يقتضي التكثير والإبهام ، والإشارة بذلك إلى المذكور قبل
من الأمم (ضَرَبْنا لَهُ
الْأَمْثالَ) أي بينا له (تَبَّرْنا) أي أهلكنا (وَلَقَدْ أَتَوْا
عَلَى الْقَرْيَةِ) الضمير في أتوا
لقريش وغيرهم من الكفار ، والقرية قرية قوم لوط ، ومطر السوء الحجارة ثم سألهم على
رؤيتهم لها ؛ لأنها في طريقهم إلى الشام ، ثم أخبر أن سبب عدم اعتبارهم بها كفرهم
بالنشور. و (يَرْجُونَ) كقوله : (يَرْجُونَ لِقاءَنا) ، وقد ذكر (أَهذَا الَّذِي) حكاية قولهم على وجه الاستهزاء ، فالجملة في موضع مفعول
لقول محذوف يدل عليه هذا ، وقوله (إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا) استئناف جملة أخرى وتم كلامهم ، واستأنف كلام الله تعالى
في قوله (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الآية على وجه التهديد لهم (اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) أي أطاع هواه حتى صار كأنه له إله (بَلْ هُمْ أَضَلُ) لأن الأنعام ليس لها عقول ، وهؤلاء لهم عقول ضيعوها ، ولأن
الأنعام تطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء يتركون أنفع الأشياء وهو الثواب
، ولا يخافون أضرّ الأشياء وهو العقاب.
(أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ) أي إلى صنع ربك وقدرته (مَدَّ الظِّلَ) قيل : مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأن الظل حينئذ
على الأرض كلها ، واعترضه ابن عطية لأن ذلك الوقت من الليل ، ولا يقال ظل بالليل ،
واختار أن مدّ الظل من الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير ، وقيل : معنى مد
الظل ؛ أي جعله يمتدّ وينبسط (وَلَوْ شاءَ
لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ثابتا غير زائل لكنه جعله يزول بالشمس ، وقيل : معنى
ساكن غير منبسط على الأرض ، بل يلتصق بأصل الحائط والشجرة ونحوها (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ
دَلِيلاً) قيل : معناه أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها ، في سيرها على
الظل متى يتسع ومتى ينقبض ،
ومتى يزول عن مكان
إلى آخر ، فيبنون على ذلك انتفاعهم به وجلوسهم فيه ، وقيل : معناه لو لا الشمس لم
يعرف أن الظل شيء ، لأن الأشياء لم تعرف إلا بأضدادها (ثُمَّ قَبَضْناهُ
إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) قبضه نسخه وإزالته بالشمس ؛ ومعنى يسيرا شيئا بعد شيء لا
دفعة واحدة ، فإن قيل : ما معنى ثم في هذه المواضع الثلاثة؟ فالجواب أنه يحتمل أن
تكون للترتيب في الزمان أي جعل الله هذه الأحوال حالا بعد حال ، أو تكون لبيان
التفاضل بين هذه الأحوال الثلاثة. وأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من
الثاني (اللَّيْلَ لِباساً) شبّه ظلام الليل باللباس ، لأنه يستر كل شيء كاللباس (وَالنَّوْمَ سُباتاً) قيل : راحة وقيل موتا لقوله : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها
، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] ويدل
عليه مقابلته بالنشور (الرِّياحَ بُشْراً) ذكر في [الأعراف : ٥٧] (ماءً طَهُوراً) مبالغة في طاهر وقيل : معناه مطهر للناس في الوضوء وغيره.
وبهذا المعنى يقول الفقهاء : ماء طهورا ، أي مطهرا ، وكل مطهر طاهر ، وليس كل طاهر
مطهر (أَناسِيَ) قيل : جمع إنسي ، وقيل : جمع إنسان ، والأول أصح (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) الضمير للقرآن ، وقيل : للمطر وهو بعيد (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي لو شئنا لخففنا عنك أثقال الرسالة ببعث جماعة من الرسل
، ولكنا خصصناك بها كرامة لك فاصبر (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) الضمير للقرآن أو لما دل عليه الكلام المتقدم.
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) اضطرب الناس في هذه الآية لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح
وبحر عذب ، وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح ، قال ابن عباس : أراد بالبحر الملح
الأجاج بحر الأرض ، والبحر العذب الفرات بحر السحاب ، وقيل : البحر الملح البحر
المعروف ، والبحر العذب مياه الأرض ، وقيل : البحر الملح جميع الماء الملح من
الآبار وغيرها ، والبحر العذب هو مياه الأرض من الأنهار والعيون ، ومعنى العذب :
البالغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة ، والأجاج نقيضه ، واختلف في معنى مرجهما ،
فقيل : جعلهما متجاورين متلاصقين ، وقيل أسال أحدهما في الآخر (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً
وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي فاصلا يفصل بينهما وهو ما بينهما من الأرض بحيث لا
يختلطان ، وقيل : البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر.
__________________
(خَلَقَ مِنَ الْماءِ
بَشَراً) إن أراد بالبشر آدم ؛ فالمراد بالماء الماء الذي خلق به مع
التراب فصار طينا ، وإن أراد بالبشر بني آدم ، فالمراد بالماء المنيّ الذي يخلقون
منه (فَجَعَلَهُ نَسَباً
وَصِهْراً) النسب والصهر يعمّان كل قربى : أي كل قرابة ، والنسب أن
يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ قرب ذلك أو بعد ، والصهر هو الاختلاط بالنكاح ،
وقيل : أراد بالنسب الذكور ، أي ذوي نسب ينتسب إليهم ، وأراد بالصهر الإناث : أي
ذوات صهر يصاهر بهنّ ، وهو كقوله : (فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩] (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الكافر هنا الجنس ، وقيل : المراد أبو جهل ، والظهير :
المعين أي يعين الشيطان على ربه بالعداوة والشرك ، ولفظه يقع للواحد والجماعة
كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ) أي لا أسئلكم على الإيمان أجرة ولا منفعة (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى
رَبِّهِ سَبِيلاً) معناه إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالتقرب إليه
وعبادته ، فالاستثناء منقطع ، وقيل : المعنى أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالصدقة ،
فالاستثناء على هذا متصل ، والأول أظهر ، وفي الكلام محذوف تقديره : إلا سؤال من
شاء وشبه ذلك.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) قرأ هذه الآية بعض السلف فقال : لا ينبغي لذي عقل أن يثق
بعدها بمخلوق فإنه يموت (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي قل سبحان الله وبحمده ، والتسبيح التنزيه عن كل ما لا
يليق به ، ومعنى بحمده أي : بحمده أقول ذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى سبحه متلبسا
بحمده ، فهو أمر بأن يجمع بين التسبيح والحمد (وَكَفى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) يحتمل أن يكون المراد بهذا بيان حلمه وعفوه عن عباده مع
علمه بذنوبهم ، أو يكون المراد تهديد العباد لعلم الله بذنوبهم (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ذكر في [الأعراف : ٥٣] (الرَّحْمنُ) خبر ابتداء مضمر ، أو بدل من الضمير في استوى (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) فيه معنيان : أحدهما وهو الأظهر : أن المراد اسأل عنه من
هو خبير عارف به ، وانتصب خبيرا على المفعولية ، وهذا الخبير المسؤول هو جبريل عليهالسلام والعلماء ، وأهل الكتاب ، والباء في قوله به : يحتمل أن
تتعلق بخبيرا ، أو تتعلق بالسؤال ، ويكون معناها على هذا معنى عن ، والمعنى الثاني
: أن المراد اسأل بسؤاله خبيرا ؛ أي إن سألته تعالى تجده خبيرا بكل شيء ، فانتصب
خبيرا على الحال ، وهو كقولك : لو رأيت فلانا رأيت به أسدا : أي رأيت برؤيته أسدا (قالُوا
وَمَا الرَّحْمنُ) لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرته قريش ، وقالوا : لا نعرف الرحمن ،
وكان مسيلمة الكذاب قد تسمى بالرحمن ، فقالوا على وجه المغالطة : إنما الرحمن الرجل
الذي باليمامة (أَنَسْجُدُ لِما
تَأْمُرُنا) تقديره لما تأمرنا أن نسجد له
(وَزادَهُمْ نُفُوراً) الضمير المفعول في زادهم يعود على المقول وهو اسجدوا
للرحمن (بُرُوجاً) يعني المنازل الأثني عشر ، وقيل الكواكب العظام (سِراجاً) يعني الشمس ، وقرئ بضم السين والراء على الجمع : يعني جميع الأنوار ثم خص
القمر بالذكر تشريفا (جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف هذا هذا ، وقيل : هو من الاختلاف ، لأن هذا أبيض
وهذا أسود ، والخلفة اسم الهيئة : كالركبة والجلسة ، والأصل جعلهما ذوي خلفة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) قيل : معناه يعتبر في المصنوعات ، وقيل : معناه يتذكر لما
فاته من الصلوات وغيرها في الليل ، فيستدركه في النهار أو فاته بالنهار فيستذكره
بالليل ، وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما.
(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) أي عباده المرضيون عنده ، فالعبودية هنا للتشريف والكرامة
، وعباد مبتدأ وخبره الذين يمشون ، أو قوله في آخر السورة : أولئك يجزون الغرفة (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْناً) أي رفقا ولينا بحلم ووقار ، ويحتمل أن يكون ذلك وصف مشيهم
على الأرض أو وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم ، وعبر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم
مدة حياتهم (قالُوا سَلاماً) أي : قالوا قولا سديدا ليدفع الجاهل برفق ، وقيل : معناه
قالوا للجاهل : سلاما أي هذا اللفظ بعينه بمعنى : سلمنا منكم قال بعضهم هذه الآية
منسوخة بالسيف ، وإنما يصح النسخ في حق الكفار ، أما الإغضاء عن السفهاء والحلم
عنهم فمستحسن غير منسوخ (إِنَّ عَذابَها) وما بعده يحتمل أن يكون من كلامهم أو من كلام الله عزوجل (كانَ غَراماً) أي هلاكا وخسرانا ، وقيل ملازما (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الإقتار هو التضييق في النفقة والشح وضده الإسراف ، فنهى
عن الطرفين ، وأمر بالتوسط بينهما وهو القوام ، وذلك في الانفاق في المباحات وفي
الطاعات ، وأما الانفاق في المعاصي فهو إسراف ، وإن قل (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) أي عقابا ، وقيل : الأثام الإثم فمعناه يلق جزاء أثام ؛
وقيل الأثام : واد في جهنم ، والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكر من الشرك بالله وقتل
النفس بغير حق والزنا (وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهاناً) قيل : نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع ، فكأنه
قال : الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا ، وقيل : نزلت في المؤمنين الذين
يقتلون النفس ويزنون ، فأما على مذهب المعتزلة
__________________
فالخلود على بابه
، وأما على مذهب أهل السنة فالخلود عبارة عن طول المدة (إِلَّا مَنْ تابَ) إن قلنا الآية في الكفار فلا إشكال فيها ، لأن الكافر إذا
أسلم صحت توبته من الكفر والقتل والزنا ، وإن قلنا إنها في المؤمنين فلا خلاف أن
التوبة من الزنا تصح ، واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قيل : يوفقهم الله لفعل الحسنات بدلا عما عملوا من السيئات
، وقيل : إن هذا التبديل في الآخرة : أي يبدل عقاب السيئات بثواب الحسنات (يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي متابا مقبولا مرضيا عند الله كما تقول : لقد قلت يا
فلان قولا ، أي قولا حسنا (لا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ) أي لا يشهدون بالزور وهو الكذب فهو من الشهادة ، وقيل :
معناه لا يحضرون مجالس الزور واللهو ، فهو على هذا من المشاهدة والحضور ، والأول
أظهر (وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) اللغو هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه ، ومعنى مروا
كراما أي أعرضوا عنه واستحيوا ، ولم يدخلوا مع أهله تنزيها لأنفسهم عن ذلك (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا
وَعُمْياناً) أي لم يعرضوا عن آيات الله ، بل أقبلوا عليها بأسماعهم
وقلوبهم ، فالنفي للصمم والعمى لا للخرور عليها (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قيل : معناه اجعل أزواجنا وذريتنا مطيعين لك ، وقيل :
أدخلهم معنا الجنة ، واللفظ أعم من ذلك (وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي قدوة يقتدي بنا المتقون ، فإمام مفرد يراد به الجنس ،
وقيل : هو جمع آم أي متبع (الْغُرْفَةَ) يعني غرفة الجنة فهي اسم جنس.
(قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية ، وفي معنى الدعاء
هنا ثلاثة أقوال : الأول : أن المعنى إن الله لا يبالي بكم لو لا عبادتكم له ،
فالدعاء بمعنى العبادة وهذا قريب من معنى قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]
الثاني : أن الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال ، والمعنى لا يبالي الله بكم ، ولكن
يرحمكم إذا استغثتم به ودعوتموه ويكون على هذين القولين خطابا لجميع الناس من
المؤمنين والكافرين ، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه ، أو خطابا للمؤمنين خاصة ،
لأنهم هم الذين يدعون الله ويعبدونه ، ولكن يضعف هذا بقوله «فقد كذبتم» الثالث :
أنه خطاب للكفار خاصة والمعنى على هذا : ما يعبأ بكم ربي لو لا أن يدعوكم إلى دينه
، والدعاء على هذا بمعنى الأمر بالدخول في الدين ، وهو مصدر مضاف إلى المفعول ،
وأما على القول الأول والثاني فهو مصدر مضاف إلى الفاعل (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) هذا خطاب لقريش وغيرهم من الكفار دون المؤمنين (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي سوف يكون العذاب لزاما ثابتا وأضمر العذاب وهو اسم كان
لأنه جزاء التكذيب المتقدم ، واختلف هل يراد بالعذاب هنا القتل يوم بدر ، أو عذاب
الآخرة؟
سورة الشعراء
مكية إلا آية ١٩٧
ومن آية ٢٢٤ إلى آخر السورة فمدنية وآياتها ٢٢٧ نزلت بعد الواقعة
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة الشعراء
(طسم) تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ، ويخص هذا أنه
قيل الطاء من ذي الطول ، والسين من السميع أو السلام ، والميم من الرحيم أو المنعم
(باخِعٌ) ذكر في الكهف (فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) الأعناق جمع عنق وهي الجارحة المعروفة ، وإنما جمع خاضعين
جمع العقلاء ؛ لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء ، ولأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من
العقلاء ، وقيل : الأعناق الرؤساء من الناس شبهوا بالأعناق كما يقال لهم : رؤوس
وصدور ، وقيل : هم الجماعات من الناس ، فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل (مُحْدَثٍ) يعني به محدث الإتيان (فَسَيَأْتِيهِمْ) الآية : تهديد (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل صنف من النبات فيعم ذلك الأقوات والفواكه
والأدوية والمرعى ، ووصفه بالكرم لما فيه من الحسن ومن المنافع (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) الإشارة إلى ما تقدّم من النبات ، وإنما ذكره بلفظ الإفراد
لأنه أراد أن في كل واحد آية أو إشارة إلى مصدر قوله : (أَنْبَتْنا وَيَضِيقُ صَدْرِي) بالرفع عطف على أخاف ، أو استئناف ، وقرئ بالنصب عطفا على
يكذبون (فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) أي اجعله معي رسولا أستعين به (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) يعني قتله للقبطي (قالَ كَلَّا) أي لا تخف أن يقتلوك (إِنَّا مَعَكُمْ) خطاب لموسى وأخيه ومن كان معهما. أو على جعل الاثنين جماعة
(مُسْتَمِعُونَ) لفظه جمع ، وورد
مورد تعظيم الله
تعالى ، ويحتمل أن تكون الملائكة هي التي تسمع بأمر الله ، لأن الله لا يوصف
بالاستماع ، وإنما يوصف بالسمع والأول أحسن ، وتأويله : أن في الاستماع اعتناء
واهتماما بالأمر ليست في صفة سامعون ، والخطاب في قوله : معكم لموسى وهارون وفرعون
وقومه ، وقيل : لموسى وهارون خاصة على معاملة الاثنين معاملة الجماعة ، ذلك على
قول من يرى أن أقل الجمع اثنان (أَنَا رَسُولُ
رَبِّكِ) إن قيل : لم أفرده وهما اثنان؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنّ التقدير كل واحد منا
رسول. الثاني : أنهما جعلا كشخص واحد لاتفاقهما في الشريعة ، ولأنهما أخوان
فكأنهما واحد. الثالث : أنّ رسول هنا مصدر وصف به ، فلذلك أطلق على الواحد
والاثنين والجماعة ، فإنه يقال رسول بمعنى رسالة ، بخلاف قوله إنا رسولا فإنه
بمعنى الرسل ، (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أطلقهم (قالَ أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) قصد فرعون بهذا الكلام المنّ على موسى والاحتقار له.
(وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) قصد فرعون بهذا الكلام توبيخ موسى عليهالسلام ، ويعني بالفعلة : قتله للقبطي ، والواو في قوله وأنت إن
كانت للحال فقوله من الكافرين ، معناه كافرا بهذا الدين الذي جئت به لأن موسى إنما
أظهر لهم الإسلام بعد الرسالة ، وقد كان قبل ذلك مؤمنا ، ولم يعلم بذلك فرعون ،
وقيل : معناه من الكافرين بنعمتي ، وإن كانت الواو للاستئناف : فيحتمل أن يريد من
الكافرين بديني ، ومن الكافرين بنعمتي (قالَ فَعَلْتُها
إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) القائل هنا هو موسى عليهالسلام ، والضمير في قوله : فعلتها لقتله القبطي ، واختلف في معنى
قوله : من الضالين ، فقيل : معناه من الجاهلين بأن وكزتي تقتله ، وقيل : معناه من
الناسين ، فهو كقوله : «أن تضل إحداهما» وقوله «إذا» صلة في الكلام ، وكأنها بمعنى
حينئذ ، قال ذلك ابن عطية (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) أي من فرعون وقومه ، ولذلك جمع ضمير الخطاب بعد أن أفرده
في قوله («تَمُنُّها عَلَيَّ
أَنْ عَبَّدْتَ» وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) معنى عبّدت : ذللت واتخذتهم عبيدا ، فمعنى هذا الكلام أنك
عددت نعمة عليّ تعبيد بني إسرائيل ، وليست في الحقيقة بنعمة إنما كانت نقمة ، لأنك
كنت تذبح أبناءهم ، ولذلك وصلت أنا إليك فربيتني ، فالإشارة بقوله : تلك إلى
التربية ، وأن عبدت في موضع رفع عطف بيان على تلك ، أو في موضع نصب على أنه مفعول
من أجله ، وقيل : معنى الكلام تربيتك نعمة علي لأنك عبدت بني إسرائيل وتركتني فهي
في المعنى
الأول إنكار
لنعمته وفي الثاني اعتراف بها (قالَ لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لما أظهر فرعون الجهل بالله فقال : وما رب العالمين؟ أجابه
موسى بقوله : (رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فقال (أَلا تَسْتَمِعُونَ)؟ تعجبا من جوابه فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ) لأن وجود الإنسان وآبائه أظهر الأدلة عند العقلاء وأعظم
البراهين ، فإن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم ، فلما
ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطة منه ، وأيد الازدراء
والتهكم في قوله : رسولكم الذي أرسل إليكم فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحدا جحدها ،
ولا أن يدعيها لغير الله ، ولذلك أقام إبراهيم الخليل بها الحجة على نمروذ ، فلما
انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدّده بالسجن ، فأقام موسى عليه
الحجة بالمعجزة ، وذكرها له بتلطف طمعا في إيمانه ، فقال : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) والواو واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام وتقديره : أتفعل
بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ وقد تقدم في الأعراف ذكر العصا واليد ، (فَما ذا تَأْمُرُونَ)؟ و (أَرْجِهْ) ، وحاشرين فإن قيل : كيف قال أولا : إن كنتم موقنين ، ثم
قال آخرا (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ)؟ فالجواب أنه لاين أولا طمعا في إيمانهم ، فلما رأى منهم
العناد والمغالطة : وبخهم بقوله : إن كنتم تعقلون ، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون
: إن رسولكم لمجنون (لِمِيقاتِ يَوْمٍ) هو يوم الزينة (نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ) أي نتبعهم في نصرة ديننا لا في عمل السحر ، لأن عمل السحر
كان حراما (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) قسم أقسموا به ، وقد تقدم في [الأعراف : ١١٧] تفسير ما
يأفكون ، وما بعد ذلك (لا ضَيْرَ) أي لا يضرنا ذلك
لأننا
ننقلب إلى الله (أَسْرِ
بِعِبادِي) يعني بني إسرائيل (إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) إخبار باتباع فرعون (لَشِرْذِمَةٌ
قَلِيلُونَ) الشرذمة الطائفة من الناس ، وفي هذا احتقار لهم على أنه
روي أنهم كانوا ستمائة ألف ، ولكن جنود فرعون أكثر منهم بكثير (فَأَخْرَجْناهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يعني التي بمصر ، والعيون الخلجان الخارجة من النيل ،
وكانت ثم عيون في ذلك الزمان ، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) مجالس الأمراء والحكام ، وقيل : المنابر ، وقيل : المساكن
الحسان (كَذلِكَ) في موضع خفض صفة لمقام أو في موضع نصب على تقدير :
أخرجناهم مثل ذلك الإخراج ، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء تقديره : الأمر
كذلك (وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ) أي أورثهم الله مواضع فرعون بمصر ؛ على أن التواريخ لم
يذكر فيها ملك بني إسرائيل لمصر ، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام ، فتأويله على
هذا أورثهم مثل ذلك بالشام (فَأَتْبَعُوهُمْ) أي لحقوهم ، وضمير الفاعل لفرعون وقومه ، وضمير المفعول
لبني إسرائيل (مُشْرِقِينَ) معناه داخلين في وقت الشروق وهو طلوع الشمس ، وقيل : معناه
نحو المشرق وانتصابه على الحال.
(تَراءَا الْجَمْعانِ) وزن تراء تفاعل ، وهو منصوب من [الرؤية] ، والجمعان جمع
موسى وجمع فرعون ، أي رأى بعضهم بعضا (فَانْفَلَقَ) تقدير الكلام فضرب موسى البحر فانفلق (كُلُّ فِرْقٍ) أي كل جزء منه والطود الجبل ، وروي أنه صار في البحر اثنا
عشر طريقا ، لكل سبط من بني إسرائيل طريق (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ
الْآخَرِينَ) يعني بالآخرين فرعون وقومه ، ومعنى (أَزْلَفْنا) : قربناهم من البحر ليغرقوا ، وثم هنا ظرف يراد به حيث
انفلق البحر وهو بحر القلزم [الأحمر] (ما تَعْبُدُونَ) إنما سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبين لهم أن ما
يعبدونه ليس بشيء ، ويقيم عليهم الحجة (قالُوا نَعْبُدُ
أَصْناماً) إن قيل : لم صرحوا بقولهم نعبد ، مع أن السؤال وهو قوله :
ما تعبدون يغني عن التصريح بذلك ، وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا :
خَيْراً) ، فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج
بعبادة الأصنام ، ثم زادوا قولهم : فنظل لها
__________________
عاكفين مبالغة في
ذلك (بَلْ
وَجَدْنا آباءَنا) اعتراف بالتقليد المحض (إِلَّا رَبَّ
الْعالَمِينَ) استثناء منقطع وقيل : متصل لأن في آبائهم من عبد الله
تعالى (وَإِذا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ) أسند المرض إلى نفسه وأسند الشفاء إلى الله تأدبا مع الله (أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) قيل أراد كذباته الثلاثة الواردة في الحديث وهي قوله في سارة
زوجته : هي أختي ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ) وقيل : أراد الجنس على الإطلاق ؛ لأن هذه الثلاثة من
المعاريض فلا إثم فيها (لِسانَ صِدْقٍ) ثناء جميلا (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم ، وهو من كلام الله تعالى
، ويحتمل أن يكون أيضا من كلام إبراهيم (إِلَّا مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ، قيل : سليم من الشرك والمعاصي وقيل : الذي يلقى ربه وليس
في قلبه شيء غيره وقيل : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم هو اللديغ : [الملدوغ]
لغة ، وقال الزمخشري : هذا من بدع التفاسير ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا
فيكون : من أتى الله مفعولا ، بقوله : (لا يَنْفَعُ) ، والمعنى على هذا أن المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة
الله ، وأن البنين لا ينفعون إلا من علمهم الدين وأوصاهم بالحق ، ويحتمل أيضا أن
يكون متصلا ، ويكون قوله : (مَنْ أَتَى اللهَ) بدلا من قوله : (مالٌ وَلا بَنُونَ) على حذف مضاف تقديره : إلا مال من أتى الله وبنوه ويحتمل
أن يكون منقطعا بمعنى لكن (وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ) أي قربت.
(وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) يعني المشركين بدلالة ما بعده (فَكُبْكِبُوا فِيها) كبكبوا : مضاعف من كب كررت حروفه دلالة على تكرير معناه : أي كبهم
الله في النار مرة بعد مرة ، والضمير للأصنام ، والغاوون هم المشركون ، وقيل :
الضمير للمشركين ، والغاوون هم الشياطين (نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعالَمِينَ) أي نجعلكم سواء معه (وَما أَضَلَّنا
إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) يعني كبراءهم ، وأهل الجرم والجراءة منهم (حَمِيمٍ) أي خالص الودّ ، قال الزمخشري : جمع الشفعاء ووحد الصديق
لكثرة الشفعاء في العادة ، وقلة الأصدقاء (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) أسند
الفعل إلى القوم ،
وفيه علامة التأنيث ، لأن القوم في معنى الجماعة والأمة ، فإن قيل : كيف قال
المرسلين بالجمع وإنما كذبوا نوحا وحده؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد الجنس
كقولك : فلان يركب الخيل وإنما لم يركب إلا فرسا واحدا والآخر أن من كذب نبيا
واحدا فقد كذب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأن قولهم واحد ودعوتهم سواء
، وكذلك الجواب في : كذبت عاد المرسلين وغيره (وَاتَّبَعَكَ
الْأَرْذَلُونَ) جمع أرذل ، وقد تقدّم الكلام عليه في قوله أراذلنا في [هود
: ٢٧] (وَما أَنَا بِطارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ) يعني الذين سموهم أرذلين ، فإنّ الكفار أرادوا من نوح أن
يطردهم ، كما أرادت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرد عمار بن
ياسر وصهيبا وبلالا وأشباههم من الضعفاء (الْمَرْجُومِينَ) يحتمل أن يريدوا الرجم بالحجارة ، أو بالقول وهو الشتم (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) أي احكم بيننا (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) أي المملوء (بِكُلِّ رِيعٍ) الريع المكان المرتفع وقيل الطريق (آيَةً) يعني المباني الطوال وقيل أبراج الحمام (مَصانِعَ) جمع مصنع وهو ما أتقن صنعه من المباني ، وقيل : مأخذ الماء
(أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعامٍ) الآية تفسير لقوله أمدكم بما تعلمون فأبهم أولا ثم فسره (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بضم الخاء واللام أي عادتهم والمعنى أنهم قالوا : ما هذا
الذي عليه من ديننا إلا عادة الناس الأولين ، وقرأ [ابن كثير والكسائي وأبو عمرو]
بفتح الخاء وإسكان اللام ، ويحتمل على هذا وجهين : أحدهما أنه بمعنى الخلقة
والمعنى ما هذه الخلقة التي نحن عليها إلا خلقة الأولين ، والآخر أنها من
الاختلاق بمعنى
الكذب ، والمعنى ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين (أَتُتْرَكُونَ) تخويف لهم معناه : أتطمعون أن تتركوا في النعم على كفركم (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) الطلع عنقود التمر في أول نباته قبل أن يخرج من الكم ،
والهضيم : اللين الرطب ، فالمعنى طلعها يتم ويرطب ، وقيل : هو الرّخص أول ما يخرج
، وقيل : الذي ليس فيه نوى ، فإن قيل : لم ذكر النخل بعد ذكر الجنات ، والجنات
تحتوي على النخل؟ فالجواب : أن ذلك تجريد كقوله فاكهة ونخل ورمان ، ويحتمل أنه
أراد الجنات التي ليس فيها نخل ثم عطف عليها النخل.
(وَتَنْحِتُونَ) ذكر في [الأعراف : ٧٤] (فارِهِينَ) قرئ بألف وبغير ألف وهو منصوب على الحال في الفاعل من تنحتون ، وهو مشتق من
الفراهة وهي النشاط والكيس ، وقيل : معناه أقوياء وقيل : أشرين بطرين (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) مبالغة في المسحورين ، وهو من السحر بكسر السين ، وقيل :
من السحر بفتح السين وهي الرؤية ، والمعنى على هذا إنما أنت بشر (لَها شِرْبٌ) أي حظ من الماء (فَأَصْبَحُوا
نادِمِينَ) لما تغيرت ألوانهم حسبما أخبرهم صالح عليهالسلام ندموا حين لا تنفعهم الندامة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) التي ماتوا منها وهي العذاب المذكور هنا (مِنَ الْقالِينَ) أي من المبغضين ، وفي قوله : قال ومن القالين : ضرب من ضروب
التجنيس (مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي نجّني من عقوبة عملهم أو اعصمني من عملهم ، والأول أرجح
(إِلَّا عَجُوزاً) يعني امرأة لوط (فِي الْغابِرِينَ) ذكر في [الأعراف : ٨٣]
وكذلك (أَمْطَرْنا) [الأعراف : ٨٤] (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قرئ بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحجر وق ، ومعناه
الغيضة من الشجر ، وقرئ هنا وفي ص : بفتح اللام
__________________
والتاء ، فقيل : إنه مسهل من الهمز ، وقيل إنه اسم بلدهم ، ويقوي
هذا : القول بأنه على هذه القراءة بفتح التاء غير منصرف ، يدل على ذلك أنه اسم علم
، وضعّف ذلك الزمخشري ، وقال : إن الأيكة اسم لا يعرف (إِذْ قالَ لَهُمْ
شُعَيْبٌ) لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره ، وقيل : إن
شعيبا بعث إلى مدين ، وكان من قبيلتهم ، فلذلك قال : وإلى مدين أخاهم شعيبا ، وبعث
أيضا إلى أصحاب الأيكة ولم يكن منهم ، فلذلك لم يقل أخوهم ، فكان شعيبا على هذا
مبعوثا إلى القبيلتين وقيل : إن أصحاب الأيكة مدين ، ولكنه قال أخوهم حين ذكرهم
باسم قبيلتهم ، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها تنزيها لشعيب
عن النسبة إليها (مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي من الناقصين للكيل والوزن (بِالْقِسْطاسِ) الميزان المعتدل (وَالْجِبِلَّةَ) يعني القرون المتقدمة (عَذابُ يَوْمِ
الظُّلَّةِ) هي سحابة من نار أحرقتهم ، فأهلك الله مدين بالصيحة ،
وأهلك أصحاب الأيكة بالظلة ، فإن قيل : لم كرر قوله إن في ذلك لآية مع كل قصة؟
فالجواب : أن ذلك أبلغ في الاعتبار ، وأشدّ تنبيها للقلوب وأيضا فإن كل قصة منها
كأنها كلام قائم مستقل بنفسه ، فختمت بما ختمت به صاحبتها.
(وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الضمير للقرآن (الرُّوحُ الْأَمِينُ) يعني جبريل عليهالسلام (عَلى قَلْبِكَ) إشارة إلى حفظه إياه لأن القلب هو الذي يحفظ (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) يعني كلام العرب هو متعلق بنزل أو المنذرين (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) المعنى أن القرآن مذكور في كتب المتقدّمين ففي ذلك دليل
على صحته ثم أقام الحجة على قريش بقوله (أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) بأنه من عند الله آية لكم وبرهان ، والمراد من أسلم من بني
إسرائيل : كعبد الله بن سلام وقيل : الذين كانوا يبشرون بمبعثه عليه الصلاة
والسلام (وَلَوْ نَزَّلْناهُ
عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الآية جمع أعجم ، وهو الذي لا يتكلم سواء كان إنسانا أو
بهيمة أو جمادا والأعجمي : المنسوب إلى [العجم أي غير العرب] وقيل : بمعنى
__________________
الأعجم ، ومعنى
الآية : أن القرآن لو نزل على من لا يتكلم ، ثم قرأه عليهم لا يؤمنوا لإفراط
عنادهم ، ففي ذلك تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم على كفرهم به مع وضوح برهانه (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) معنى سلكناه. أدخلناه ، والضمير للتكذيب الذي دل عليه ما
تقدم من الكلام ، أو للقرآن أي سلكناه في قلوبهم مكذبا به ، وتقدير قوله : كذلك
مثل هذا السلك سلكناه ، والمجرمين : يحتمل أن يريد به قريشا أو الكفار المتقدمين
ولا يؤمنون : تفسير للسلك الذي سلكه في قلوبهم (فَيَقُولُوا هَلْ
نَحْنُ مُنْظَرُونَ) تمنوا أن يؤخروا حين لم ينفعهم التمني (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) توبيخ لقريش على استعجالهم بالعذاب في قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ
السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢]
وشبه ذلك (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ
سِنِينَ) المعنى أن مدّة إمهالهم لا تغني مع نزول العذاب بعدها ،
وإن طالت مدة سنين ، لأن كل ما هو آت قريب ، قال بعضهم «سنين» يريد به عمر الدنيا (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
لَها مُنْذِرُونَ) المعنى أن الله لم يهلك قوما إلا بعد أن أقام الحجة عليهم
بأن أرسل إليهم رسولا فأنذرهم فكذبوه (ذِكْرى) منصوب على المصدر من معنى الإنذار ، أو على الحال من
الضمير من منذرون ، أو على المفعول من أجله ، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) الضمير للقرآن ، وهو ردّ على من قال أنه كهانة نزلت به
الشياطين على محمد (وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) أي ما يمكنهم ذلك ولا يقدرون عليه ، ولفظ : ما ينبغي تارة
يستعمل بمعنى لا يمكن وتارة بمعنى لا يليق (إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) تعليل لكون الشياطين لا يستطيعون الكهانة ، لأنهم منعوا من
استراق السمع منذ بعث محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقد كان أمر الكهان كثيرا منتشرا قبل ذلك.
(وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) عشيرة الرجل هم قرابته الأدنون ، ولما نزلت هذه الآية أنذر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قرابته فقال : يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا
بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، ثم نادى كذلك ابنته فاطمة وعمته صفية ، قال الزمخشري : في معناه قولان : أحدهما أنه أمر أن يبدأ بإنذار أقاربه قبل
غيرهم من الناس ، والآخر أنه أمر أن لا يأخذه ما يأخذ القريب من الرأفة بقريبه ،
ولا يخافهم بالإنذار (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) عبارة عن لين
__________________
الجانب والرفق ،
وعن التواضع (الَّذِي
يَراكَ حِينَ تَقُومُ) أي حين تقوم في الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) معطوف على الضمير المفعول في قوله يراك ، والمعنى أنه يراك
حين تقوم وحين تسجد ، وقيل : معناه يرى صلاتك مع المصلين ، ففي ذلك إشارة إلى
الصلاة مع الجماعة ، وقيل : يرى تقلب بصرك في المصلين خلفك لأنه عليه الصلاة
والسلام كان يراهم من وراء ظهره (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) هذا جواب السؤال المتقدم وهو قوله : هل أنبئكم على من تنزل
الشياطين والأفاك الكذاب ، والأثيم الفاعل للإثم يعني بذلك الكهان ، وفي هذا ردّ
على من قال إن الشياطين تنزلت على سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم بالكهانة ، لأنها لا تنزل إلا على أفاك أثيم ، وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم على غاية الصدق والبرّ (يُلْقُونَ السَّمْعَ) معناه يستمعون والضمير يحتمل أن يكون للشياطين بمعنى أنهم
يستمعون إلى الملائكة ، أو يكون للكهان بمعنى أنهم يستمعون إلى الشياطين ، وقيل :
يلقون بمعنى يلقون المسموع ، والضمير يحتمل أيضا على هذا أن يكون للشياطين ، لأنهم
يلقون الكلام إلى الكهان أو يكون للكهان لأنهم يلقون الكلام إلى الناس (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) يعني الشياطين أو الكهان لأنهم يكذبون فيما يخبرون به عن
الشياطين.
(وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) لما ذكر الكهان ذكر الشعراء ليبين أن القرآن ليس بكهانة
ولا شعر لتباين أوصافه وما بين أوصاف الشعر والكهانة ، وأراد الشعراء الذين يلقون
من الشعر ما لا ينبغي كالهجاء والمدح بالباطل وغير ذلك ، وقيل : أراد شعراء الجاهلية
، وقيل : شعراء كفار قريش الذين كانوا يؤذون المسلمين بأشعارهم ، والغاوون قيل : هم
رواة الشعر وقيل : هم سفهاء الناس الذين تعجبهم الأشعار لما فيها من اللغو والباطل
، وقيل : هم الشياطين (فِي كُلِّ وادٍ
يَهِيمُونَ) استعارة وتمثيل أي يذهبون في كل وجه من الكلام الحق
والباطل ، ويفرطون في التجوز حتى يخرجوا إلى الكذب (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا) الآية : استثناء من الشعراء يعني بهم شعراء المسلمين كحسان
بن ثابت وغيره ممن اتصف بهذه الأوصاف ، وقيل : إن هذه الآية مدنية (ذَكَرُوا اللهَ) قيل : معناه ذكروا الله في أشعارهم ، وقيل : يعني الذكر
على الإطلاق (وَانْتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ ما ظُلِمُوا) إشارة إلى ما قاله حسان بن ثابت وغيره من الشعراء في هجو
الكفار بعد أن هجا الكفار النبي صلىاللهعليهوسلم (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وعيد للذين ظلموا والظلم هنا بمعنى الاعتداء على الناس
لقوله : من بعد ما ظلموا وعمل ينقلبون في أيّ لتأخره ، وقيل : إن العامل في أيّ
سيعلم.
سورة النمل
مكية وآياتها ٩٣
نزلت بعد سورة الشعراء
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة النمل
(تِلْكَ
آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) عطف الكتاب على القرآن كعطف الصفات بعضها على بعض ، وإن
كان الموصوف واحدا (هُدىً وَبُشْرى) في موضع نصب على المصدر ، أو في موضع رفع على أنه خبر
ابتداء مضمر (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ) تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة ، فتكون بقية صلة الذين ،
أو تكون مستأنفة وتمت الصلة قبلها ، ورجح الزمخشري هذا (يَعْمَهُونَ) يتحيرون (سُوءُ الْعَذابِ) يعني في الدنيا وهو القتل يوم بدر ، ويحتمل أن يريد عذاب
الآخرة ، والأول أرجح لأنه ذكر الآية بعد ذلك (لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ) أي تعطاه (آنَسْتُ) ذكر في [طه : ١١] وكذلك قبس : [طه : ١٢] ، والشهاب : النجم
شبّه القبس به ، وقرئ بإضافة شهاب إلى قبس وبالتنوين على البدل أو الصفة ، فإن قيل : كيف قال هنا : (سَآتِيكُمْ) وفي الموضع الآخر : (لَعَلِّي آتِيكُمْ) ؛ والفرق بين الترجي والتسويف أن التسويف متيقن الوقوع
بخلاف الترجي؟ فالجواب أنه قد يقول الراجي : سيكون كذا ؛ إذا قوي رجاؤه (تَصْطَلُونَ) معناه : تستدفئون بالنار من البرد ، ووزنه تفعلون ، وهو
مشتق من صلى بالنار والطاء بدل من التاء (أَنْ بُورِكَ مَنْ
فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أن مفسرة ، وبورك من البركة ، ومن في النار : يعني من في
مكان النار ومن حولها : من حول مكانها : يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليهالسلام ، قال الزمخشري : والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك
الأرض ، وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام (وَسُبْحانَ اللهِ) يحتمل أن
__________________
يكون مما قيل في
النداء لموسى عليهالسلام ، أو يكون مستأنفا وعلى كلا الوجهين قصد به تنزيه الله مما
عسى أن يخطر ببال السامع من معنى النداء ، أو في قوله : بورك من في النار لأن
المعنى نودي أن بورك من في النار ، إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه.
(وَأَلْقِ عَصاكَ) هذه الجملة معطوفة على قوله : بورك من في النار ، لأن
المعنى يؤدي إلى أن : بورك من في النار ، وأن ألق عصاك وكلاهما تفسير للنداء (كَأَنَّها جَانٌ) الجان : الحية ، وقيل : الحية الصغيرة ، وعلى هذا يشكل
قوله : فإذا هي ثعبان ، والجواب : أنها ثعبان في جرمها ، جان في سرعة حركتها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع أو لم يلتفت (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) استثناء منقطع تقديره : لكن من ظلم من سائر الناس ، لا من
المرسلين ، وقيل : إنه متصل على القول بتجويز الذنوب عليهم ، وهذا بعيد ؛ لأن
الصحيح عصمتهم من الذنوب ، وأيضا فإن تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب
عليهم (بَدَّلَ حُسْناً) أي عمل صالحا (فِي جَيْبِكَ) ذكر في [طه : ٢٢] (فِي تِسْعِ آياتٍ) متصل بقوله : ألق وأدخل ، تقديره : نيسر لك ذلك في جملة
تسع آيات ، وقد ذكرت الآيات التسع في [الإسراء : ١٠١] (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام تقديره : اذهب بالآيات
التسع إلى فرعون (مُبْصِرَةً) أي ظاهرة واضحة الدلالة ، وأسند الإبصار لها مجازا ، وهو
في الحقيقة لمتأملها (وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ) يعني أنهم جحدوا بها مع أنهم تيقنوا أنها الحق فكفرهم عناد
، ولذلك قال فيه : ظلما ، والواو فيه واو الحال ، وأضمرت بعدها قد علوا يعني
تكبروا.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) أي ورث عنه النبوة والعلم والملك (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) عموم معناه الخصوص ، والمراد بهذا اللفظ التكثير : كقولك :
فلان يقصده كل أحد ، وقوله : علمنا وأوتينا ؛ يحتمل أن يريد نفسه وأباه أو نفسه
خاصة على وجه التعظيم ، لأنه كان ملكا (وَحُشِرَ
لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) اختلف الناس في عدد جنود سليمان اختلافا شديدا ، تركنا
ذكره لعدم صحته (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يكفّون ويردّ أوّلهم إلى آخرهم ، ولا بدّ لكل ملك أو
حاكم من وزعة يدفعون الناس.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا
عَلى وادِ النَّمْلِ) ظاهر هذا أن سليمان وجنوده كانوا مشاة بالأرض ، أو ركبانا
حتى خافت منهم النمل ، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح ، وأحست النملة
بنزولهم في وادي النمل (قالَتْ نَمْلَةٌ) النمل : حيوان بل حشرة فطن قويّ الحس يدخر قوته ، ويقسم
الحبة بقسمين لئلا تنبت ، ويقسم حبة الكسبرة على أربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت
قسمين ، ولإفراط إدراكها قالت هذا القول ، وروي أن سليمان سمع كلامها ، وكان بينه
وبينها ثلاثة أميال ، وهذا لا يسمعه البشر إلا من خصه الله بذلك (ادْخُلُوا) خاطبتهم مخاطبة العقلاء ، لأنها أمرتهم بما يؤمر به
العقلاء (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بدلا من الأمر لتقارب
المعنى (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) الضمير لسليمان وجنوده ، والمعنى اعتذار عنهم لو حطموا
النمل أي لو شعروا بهم لم يحطموهم (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) تبسم لأحد أمرين : أحدهما سروره بما أعطاه الله ؛ والآخر
ثناء النملة عليه وعلى جنوده ، فإن قولها وهم لا يشعرون : وصف لهم بالتقوى والتحفظ
من مضرة الحيوان.
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ) اختلف الناس في معنى تفقده للطير ، فقيل : ذلك لعنايته
بأمور ملكه ، وقيل : لأن الطير كانت تظله فغاب الهدهد فدخلت الشمس عليه من موضعه (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أم منقطعة ، فإنه نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، (فَقالَ ما لِيَ) (لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي لا أراه ولعله حاضر وستره ساتر ، ثم علم بأنه غائب
فأخبر بذلك (لَأُعَذِّبَنَّهُ) روي أن تعذيبه للطير كان بنتف ريشه (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة بينة (فَمَكَثَ) أي أقام ، ويجوز فتح الكاف وضمها ، وبالفتح قرأ عاصم
والباقون بالضم ، والفعل يحتمل أن يكون مسندا إلى سليمان عليهالسلام أو إلى الهدهد ، وهو أظهر (غَيْرَ بَعِيدٍ) يعني زمان قريب (أَحَطْتُ) أي أحطت علما بما لم تعلمه (مِنْ سَبَإٍ) يعني قبيلة من العرب ، وجدّهم الذي يعرفون به : سبأ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومن صرفه [أي سبأ] أراد الحيّ أو الأب ، ومن لم يصرفه سبأ
أراد القبيلة أو البلدة ، وقرئ بالتسكين سبأ لتوالي الحركات ، وعلى القراءة
بالتنوين يكون في قوله : من سبإ بنبإ ضرب من أدوات البيان ، وهو التجنيس (وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) المرأة بلقيس بنت شراحيل : كان أبوها ملك اليمن ولم يكن له
ولد
__________________
غيرها ، فغلبت
بعده على الملك ، والضمير في تملكهم يعود على سبإ ، وهم قومها (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجه الملك (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) يعني سرير ملكها ، ووقف بعضهم على عرش ، ثم ابتدأ عظيم
وجدتها على تقدير : عظيم أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، وهذا خطأ ،
وإنما حمله عليه الفرار من وصف عرشها بالعظمة (أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ) من كلام الهدهد أو من كلام الله ، وقرأ الجمهور ألّا
بالتشديد ، وأن في موضع نصب على البدل من أعمالهم ، أو في موضع خفض على البدل من
السبيل ، أو يكون التقدير : لا يهتدون لأن يسجدوا بحذف اللام ، وزيادة لا ، وقرأ
الكسائي : ألا يا اسجدوا بالتخفيف على أن تكون لا حرف تنبيه وأن تكون الياء حرف
نداء فيوقف عليها بالألف على تقدير يا قوم ثم يبتدئ اسجدوا (يُخْرِجُ الْخَبْءَ) في اللغة : الخفي ، وقيل معناه هنا : الغيب ، وقيل : يخرج
النبات من الأرض ، واللفظ يعم كل خفيّ ، وبه فسره ابن عباس (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح إلى مكان قريب لتسمع ما يقولون ، وروي أنه دخل
عليها من كوّة فألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة ، وقيل : إن التقدير انظر ماذا
يرجعون ، تول عنهم فهو من المقلوب والأول أحسن (ما ذا يَرْجِعُونَ) من قوله يرجع بعضهم إلى بعض القول.
(قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ) قبل هذا الكلام محذوف تقديره : فألقى الهدهد إليها الكتاب
فقرأته ، ثم جمعت أهل ملكها فقالت لهم : يا أيها الملأ (كِتابٌ كَرِيمٌ) وصفته بالكرم لأنه من عند سليمان ، أو لأن فيه اسم الله ،
أو لأنه مختوم كما جاء في الحديث : كرم الكتاب ختمه (مِنْ سُلَيْمانَ) يحتمل أن يكون هذا نص الكتاب بدأ فيه بالعنوان ، وأن يكون
من كلامها : أخبرتهم أن الكتاب من سليمان (وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ) يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين ، أو يكون من
الدخول في الإسلام (أُولُوا قُوَّةٍ) يحتمل أن يريد قوة الأجساد أو قوة الملك والعدد (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) من كلام الله عزوجل تصديقا لقولها
__________________
فيوقف على ما قبله
، أو من كلام بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته ، وتعني : كذلك يفعل هؤلاء بنا (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ) قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل بهدية من نفائس الأموال ،
فإن كان ملكا دنيويا : أرضاه المال ، وإن كان نبيا لم يرضه المال ، وإنما يرضيه
دخولنا في دينه ، فبعثت إليه هدية عظيمة وصفها الناس ، واختصرنا وصفها لعدم صحته (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) إنكار للهدية لأن الله أغناه عنها بما أعطاه (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ) أي أنتم محتاجون إليها فتفرحون بها ، وأنا لست كذلك (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) خطاب للرسول ، وقيل : للهدهد ، والأول أرجح ، لأن قوله :
فلما جاء سليمان مسند إلى الرسول (لا قِبَلَ لَهُمْ
بِها) أي لا طاقة لهم بها (قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) القائل : سليمان ، والملأ جماعة من الجن والإنس ، وطلب
عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ، لأنه وصف له بعظمة ، فأراد أن يأخذه قبل أن يسلموا
فيمنع إسلامهم من أخذ أموالهم ، فمسلمين على هذا من الدخول في دين الإسلام ، وقيل
: إنما طلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ليظهر لهم قوّته ، فمسلمين على هذا بمعنى
منقادين.
(قالَ عِفْرِيتٌ) روي عن وهب بن منبه أن اسم هذا العفريت كوزن (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قبل أن تقوم من موضع الحكم ، وكان يجلس من بكرة إلى الظهر
، وقيل : معناه قبل أن تستوي من جلوسك قائما (قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هو آصف بن برخيا ، وكان رجلا صالحا من بني إسرائيل كان
يعلم اسم الله الأعظم وقيل : هو الخضر ، وقيل هو جبريل ، والأول أشهر ، وقيل
سليمان وهذا بعيد (آتِيكَ بِهِ) في الموضعين : يحتمل أن يكون فعلا مستقبلا أو اسم فاعل (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) الطرف العين ، فالمعنى على هذا قبل أن تغض بصرك إذا نظرت
إلى شيء وقيل : الطرف تحريك الأجفان إذا نظرت (فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) قيل : هنا محذوف تقديره : فجاءه الذي عنده ، علم من الكتاب
بعرشها ، ومعنى مستقرّا عنده حاصلا عنده وليس هذا بمستقر الذي يقدر النحويون تعلق
المجرورات به خلافا لمن فهم ذلك (يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي منفعة الشكر لنفسه.
(قالَ نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها) تنكيره تغيير وصفه وستر بعضه ، وقيل : الزيادة فيه والنقص
منه ، وقصد بذلك اختبار عقلها وفهمها (أَتَهْتَدِي) يحتمل أن يريد : تهتدي لمعرفة عرشها ،
أو للجواب عنه إذا
سئلت أو للإيمان (فَلَمَّا جاءَتْ
قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) كان عرشها قد وصل قبلها إلى سليمان فأمر بتنكيره ، وأن
يقال لها أهكذا عرشك؟ أي أمثل هذا عرشك؟ لئلا تفطن أنه هو ، فأجابته بقولها : كأنه
هو. جوابا عن السؤال ، ولم تقل هو تحرزا من الكذب أو من التحقيق في محل الاحتمال (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) هذا من كلام سليمان وقومه لما رأوها قد آمنت قالوا ذلك ؛
اعترافا بنعمة الله عليهم ، في أن آتاهم العلم قبل بلقيس ، وهداهم للإسلام قبلها ،
والجملة معطوفة على كلام محذوف تقديره : قد أسلمت هي وعلمت وحدانية الله وصحة
النبوّة وأوتينا نحن العلم قبلها (وَصَدَّها ما كانَتْ
تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) هذا يحتمل أن يكون من كلام سليمان وقومه ، أو من كلام الله
تعالى ، ويحتمل أن يكون «ما كانت تعبد» فاعلا أو مفعولا ، فإن كان فاعلا ، فالمعنى
صدها ما كانت تعبد عن عبادة الله والدخول في الإسلام حتى إلى هذا الوقت ، وإن كان
مفعولا : فهو على إسقاط حرف الجر ، والمعنى صدها الله أو سليمان عن ما كانت تعبد
من دون الله فدخلت في الإسلام.
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي
الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) الصرح في اللغة هو القصر ، وقيل : صحن الدار ، روي أن
سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصرا من زجاج أبيض ، وأجرى الماء من
تحته ، وألقى فيه دواب البحر من السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه فلما
رأته حسبته لجة ، واللجة الماء المجتمع كالبحر ، فكشفت عن ساقيها لتدخله لما أمرت
بدخوله ، وروي أن الجن كرهوا تزوج سليمان لها ، فقالوا له : إن عقلها مجنون ، وإن
رجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش فوجدها عاقلة ، واختبر ساقها بالصرح
فلما كشفت عن ساقيها وجدها أحسن الناس ساقا ، فتزوجها وأقرها على ملكها باليمن ،
وكان يأتيها مرة في كل شهر ، وقيل : أسكنها معه بالشام (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ
قَوارِيرَ) لما ظنت أن الصرح لجة ماء وكشفت عن ساقيها لتدخل الماء قال
لها سليمان : إنه صرح ممرّد والممرّد الأملس ، وقيل الطويل ، والقوارير جمع قارورة
وهي الزجاجة.
(قالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي) تعني بكفرها فيما تقدم (وَأَسْلَمْتُ مَعَ
سُلَيْمانَ) هذا ضرب من ضروب التجنيس (فَرِيقانِ
يَخْتَصِمُونَ) الفريقان من آمن ومن كفر ؛ واختصامهم : اختلافهم وجدالهم
في الدين (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ) أي لم تطلبون العذاب قبل الرحمة ، أو المعصية قبل الطاعة (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ) أي تشاءمنا بك ، وكانوا قد أصابهم
القحط (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي السبب الذي يحدث عنه خيركم أو شركم : هو عند الله وهو
قضاؤه وقدره ، وذلك رد عليهم في تطيرهم ، ونسبتهم ما أصابهم من القحط إلى صالح عليهالسلام (وَكانَ فِي
الْمَدِينَةِ) يعني مدينة ثمود (يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) قيل : إنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم ولفظ الفساد
أعم من ذلك (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي حلفوا بالله ، وقيل : إنه فعل ماض وذلك ضعيف ، والصحيح
أنه فعل أمر قاله بعضهم لبعض ، وتعاقدوا عليه (لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ) أي لنقتلنه وأهله بالليل ، وهذا هو الفعل الذي تحالفوا
عليه (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ
لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي نتبرأ من دمه إن طلبنا به وليه ، ومهلك يحتمل أن يكون
اسم مصدر أو زمان أو مكان ، فإن قيل : إن قولهم : ما شهدنا مهلك أهله يقتضي التبري
من دم أهله ، دون التبري من دمه ، فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنهم أرادوا ما
شهدنا مهلكه ومهلك أهله ، وحذف مهلكه لدلالة قولهم لنبيتنه وأهله ، والثاني أن أهل
الإنسان قد يراد به هو وهم لقوله «وأغرقنا آل فرعون» يعني فرعون وقومه ، الثالث :
أنهم قالوا مهلك أهله خاصة ليكونوا صادقين ، فإنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا ،
وأرادوا التعريض في كلامهم لئلا يكذبوا.
(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) يحتمل أن يكون قولهم : وإنا لصادقون مغالطة مع اعتقادهم
أنهم كاذبون ، ويحتمل أنهم قصدوا وجها من التعريض ليخرجوا به عن الكذب وقد ذكرناه
في الجواب الثالث عن مهلك أهله ، وهو أنهم قصدوا أن يقتلوا صالحا وأهله معا ، ثم
يقولون : ما شهدنا مهلك أهله وحدهم وإنا لصادقون في ذلك بل يعنون أنهم شهدوا مهلكه
ومهلك أهله معا. وعلى ذلك حمله الزمخشري (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ
وَقَوْمَهُمْ) روي أن الرهط الذين تقاسموا على قتل صالح اختفوا ليلا في
غار ، قريبا من داره ليخرجوا منه إلى داره بالليل ، فوقعت عليهم صخرة فأهلكتهم ،
ثم هلك قومهم بالصيحة ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض ، ونجا صالح ومن آمن به (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) قيل : معناه تبصرون بقلوبكم أنها معصية وقيل : تبصرون
بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من بعض ، وقيل : تبصرون
آثار الكفار قبلكم وما نزل بهم من العذاب «يتطهرون» «والغابرين» «وأمطرنا» قد ذكر.
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر الله رسوله أن يتلو الآيات المذكورة بعد هذا ، لأنها
براهين على وحدانيته وقدرته ، وأن يستفتح ذلك بحمده ، والسلام على من اصطفاه من
عباده ، كما تستفتح الخطب والكتب وغيرها بذلك ، تيمنا بذكر الله ، قال ابن عباس :
يعني بعباده الذين اصطفى الصحابة ، واللفظ يعم الملائكة والأنبياء والصحابة
والصالحين (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ) على وجه الرد على المشركين ، فدخلت خير التي يراد بها
التفضيل لتبكيتهم وتعنيفهم ، مع أنه معلوم أنه لا خير فيما أشركوا أصلا ، ثم أقام
عليهم الحجة بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض ، وبغير ذلك مما ذكره إلى تمام
هذه الآيات ، وأعقب كل برهان منها بقوله : أإله مع الله على وجه التقرير لهم ، على أنه لم يفعل ذلك كله إلا الله
وحده ، فقامت عليهم الحجة بذلك وفيها أيضا نعم يجب شكرها فقامت بذلك أيضا ، وأم في
قوله خير أما يشركون متصلة عاطفة ، وأم في المواضع التي بعده منقطعة بمعنى بل
والهمزة (قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون عن الحق والصواب أو يعدلون بالله غيره أي يجعلون
له عديلا ومثيلا (رَواسِيَ) يعني الجبال (الْبَحْرَيْنِ) ذكر في [الفرقان : ٥٣].
(يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) قيل هو المجهود ، وقيل الذي لا حول له ولا قوّة ، واللفظ
مشتق من الضرر : أي الذي أصابه الضرّ أو من الضرورة أي الذي ألجأته الضرورة إلى
الدعاء (خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي خلفاء فيها تتوارثون سكناها (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) يعني الهداية بالنجوم والطرقات (بُشْراً) ذكر في الأعراف : ٥٧ (مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) الرزق من السماء : المطر ومن الأرض : النبات (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) تعجيز للمشركين (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) هذه الآية تقتضي انفراد الله تعالى بعلم الغيب ، وأنه لا
يعلمه سواه ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد
أعظم الفرية على الله ، ثم قرأت هذه الآية ، فإن قيل : فقد كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
يخبر بالغيوب وذلك
معدود في معجزاته ، فالجواب : أنه صلىاللهعليهوسلم قال : إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله ، فإن قيل :
كيف ذلك مع ما ظهر من إخبار الكهان والمنجمين وأشباههم ، بالأمور المغيبة؟ فالجواب
: أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف أو عن وهم لا عن علم ، وإنما اقتضت الآية نفي العلم
، وقد قيل : إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة ، لأن سبب نزولها أنهم
سألوا عن ذلك ، ولذلك قال : وما يشعرون أيان يبعثون ، فعلى هذا يندفع السؤال الأول
، والثاني لأن علم الساعة انفرد به الله تعالى لقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : في خمس لا يعلمها إلا الله ، ثم قرأ «إن الله عنده علم
الساعة» إلى آخر السورة ، فإن قيل : كيف قال : إلا الله بالرفع على البدل والبدل ،
لا يصح إلا إذا كان الاستثناء متصلا ، ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها والله
تعالى ليس ممن في السموات والأرض باتفاق؟ فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون إنه
فوق السموات والأرض ، والقائلين بنفي الجهة يقولون : إن الله تعالى ليس بهما ولا
فوقهما ، ولا داخلا فيهما ، ولا خارجا عنهما ، فهو على هذا استثناء منقطع ، فكان
يجب أن يكون منصوبا؟ فالجواب من أربعة أوجه :
الأول أن البدل
هنا جاء على لغة بني تميم في البدل ، وإن كان منقطعا كقولهم ما في الدار أحد إلا
حمار بالرفع ، والحمار ليس من الأحدين وهذا ضعيف ، لأن القرآن أنزل بلغة الحجاز لا
بلغة بني تميم ، والثاني أن الله في السموات والأرض بعلمه كما قال : «وهو معكم
أينما كنتم» يعني بعلمه ، فجاء البدل على هذا المعنى وهذا ضعيف ، لأن قوله : في
السموات والأرض وقعت فيه لفظة في الظرفية الحقيقية ، وهي في حق الله على هذا
المعنى للظرفية المجازية ، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في
حالة واحدة عند المحققين ، الجواب الثالث أن قوله : من في السموات والأرض يراد به
كل موجود فكأنه قال من في الوجود فيكون الاستثناء على هذا متصلا ، فيصح الرفع على
البدل ، وإنما قال من في السموات والأرض جريا على منهاج كلام العرب فهو لفظ خاص
يراد به ما هو أعم منه : الجواب الرابع أن يكون الاستثناء متصلا على أن يتأول من
في السموات في حق الله كما يتأول قوله «أأمنتم من في السماء» وحديث الجارية وشبه
ذلك (وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي لا يشعرون من في السموات والأرض متى يبعثون ، لأنّ علم
الساعة مما انفرد به الله ، روي أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا سألوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم متى الساعة؟ (بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) وزن ادّارك تفاعل ثم سكنت التاء وأدغمت الدال واجتلبت ألف
الوصل ، والمعنى تتابع علمهم بالآخرة وتناهى إلى أن يكفروا بها ، أو تناهى إلى أن
لا يعلموا وقتها ، وقرئ أدرك بهمزة قطع على وزن أفعل ، والمعنى على هذا : يدرك
علمهم في الآخرة ، أي يعلمون فيها الحق ، لأنهم يشاهدون حينئذ الحقائق ، فقوله :
في
__________________
الآخرة على هذا
ظرف ، وعلى القراءة الأولى بمعنى الباء (عَمُونَ) جمع عم ، وهو من عمى القلوب (رَدِفَ لَكُمْ) أي تبعكم ، واللام زائدة ، أو ضمن معنى قرب وتعدى باللام ،
ومعنى الآية : أنهم استعجلوا العذاب بقولهم : متى هذا الوعد ، فقيل لهم : عسى أن
يكون قرب لكم بعض العذاب الذي تستعجلون ، وهو قتلهم يوم بدر (غائِبَةٍ) الهاء فيه للمبالغة : أي ما من شيء في غاية الخفاء ، إلا
وهو عند الله في كتاب (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى) شبه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى ؛ في أنهم لا يسمعون وإن
كانوا أحياء ، ثم شبههم بالصم وبالعمي وإن كانوا صحاح الحواس ، وأكد عدم سماعهم
بقوله إذا ولوا مدبرين ، لأن الأصم إذا أدبر وبعد عن الداعي زاد صممه وعدم سماعه
بالكلية.
(وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي إذا حان وقت عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في
ذلك وهو قضاؤه ، والمعنى إذا قربت الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض ، وخروج الدابة
من أشراط الساعة ، وروي أنها تخرج من المسجد الحرام ، وقيل : من الصفا ، وأن طولها
ستون ذراعا ، وقيل : هي الجساسة التي وردت في الحديث (تُكَلِّمُهُمْ) قيل : تكلمهم ببطلان الأديان كلها إلا دين الإسلام ، وقيل
: تقول لهم : ألا لعنة الله على الظالمين ، وروي أنها تسم الكافر وتخطم أنفه
وتسوّد وتبيض وجه المؤمن (أَنَّ النَّاسَ) من قرأ بكسر الهمزة فهو ابتداء كلام ، ومن قرأ بالفتح فهو
مفعول تكلمهم : أي تقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، أو مفعول من أجله
تقديره تكلمهم ، لأن الناس لا يوقنون ثم حذفت اللام ، ويحتمل قوله : لا يوقنون
بخروج الدابة ، ولا يوقنون بالآخرة وأمور الدين ، وهذا أظهر (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يساقون بعنف (أَمَّا ذا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أم استفهامية ، والمعنى إقامة
__________________
الحجة عليهم ،
كأنه قيل لهم إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها (وَوَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ) أي حق العذاب عليهم أو قامت الحجة عليهم (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) إنما يسكتون لأن الحجة قد قامت عليهم وهذا في بعض مواطن
القيامة ، وقد جاء أنهم يتكلمون في مواطن (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) ذكر في [يونس : ٦] (يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ) ذكر في [الكهف : ٩٩] (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) قيل : «هم الشهداء ، وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل
وعزرائيل عليهمالسلام (داخِرِينَ) صاغرين متذللين (تَحْسَبُها جامِدَةً) أي قائمة ثابتة (وَهِيَ تَمُرُّ) يكون مرورها في أول أحوال يوم القيامة ، ثم ينسفها الله في
خلال ذلك فتكون كالعهن ثم تصير هباء منبثا (صُنْعَ اللهِ) مصدر ، والعامل فيه محذوف ، وقيل : هو منصوب على الإغراء :
أي انظروا صنع الله.
(مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قيل : إن الحسنة لا إله إلا الله ، واللفظ أعم ، ومعنى : خير
منها أن له بالحسنة الواحدة عشرا (مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ) من نون فزع فتح الميم من يومئذ ومن أسقط التنوين للإضافة
قرأ بفتح الميم على البناء أو بكسرها على الإعراب (وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ) السيئة هنا الكفر ، والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها (هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكة (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما آمنا ، لا يقاتل فيها أحد ولا ينتهك حرمتها
، ونسب تحريمها هنا إلى الله ؛ لأنه بسبب قضائه وأمره ، ونسبه النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم إلى إبراهيم عليهالسلام في قوله : إن إبراهيم حرّم مكة. لأن إبراهيم هو الذي أعلم
الناس بتحريمها ، فليس بين الحديث والآية تعارض وقد جاء في حديث آخر أن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ) أي إنما عليّ الإنذار والتبليغ (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) وعيد بالعذاب الذي يضطرهم إلى معرفة آيات الله ، إما في
الدنيا أو في الآخرة.
__________________
سورة القصص
مكية إلا من آية ٥٢ إلى غاية آية ٥٥
فمدنية وآية ٨٥ فبالجحفة أثناء الهجرة وآياتها ٨٨ نزلت بعد النمل
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة القصص) (عَلا فِي الْأَرْضِ) أي تكبر وطغا (شِيَعاً) أي فرقا مختلفين ، فجعل فرعون القبط ملوكا وبني إسرائيل
خداما لهم ، وهم الطائفة الذين استضعفهم ، وأراد الله أن يمنّ عليهم ويجعلهم أئمة
: أي ولاة في الأرض أرض فرعون وقومه (هامانَ) هو وزير فرعون (وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى) اختلف هل كان هذا الوحي بإلهام أو منام أو كلام بواسطة
الملك ، وهذا أظهر لثقتها بما أوحى إليها وامتثالها ما أمرت به (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) أي إذا خفت عليه أن يذبحه فرعون ؛ لأنه كان يذبح أبناء بني
إسرائيل ، لما أخبره الكهان أن هلاكه على يد غلام منهم (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) الالتقاط اللقاء من غير قصد ، روي أن آسية امرأة فرعون رأت
التابوت في البحر ، وهو النيل فأمرت أن يساق لها ، ففتحته فوجدت فيه صبيا فأحبته ،
وقالت لفرعون : هذا قرّة عين لي ولك (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا) اللام لام العاقبة وتسمى أيضا لام الصيرورة (لا تَقْتُلُوهُ) روي أنّ فرعون همّ بذبحه ، إذ توسم أنه من بني إسرائيل ،
فقالت امرأته لا تقتلوه (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أن هلاكهم يكون على يديه ، والضمير الفاعل
لفرعون وقومه.
(وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي ذاهلا لا عقل معها ، وقيل : فارغا من الصبر وقيل :
فارغا من كل شيء
إلا من همّ موسى ، وقيل : فارغا من وعد الله : أي نسيت ما أوحى إليها ، وقيل :
فارغا من الحزن إذ لم يغرق ، وهذا بعيد لما بعده. وقيل : فارغا من كل شيء إلا من
ذكر الله ، وقرئ فزعا بالزاي من الفزع (إِنْ كادَتْ
لَتُبْدِي بِهِ) أي تظهر أمره ، وفي الحديث كادت أمّ موسى أن تقول وا ابناه
وتخرج صائحة على وجهها (رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها) أي رزقناها الصبر (لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدّقين بالوعد الذي وعدها الله (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي اتبعيه ، والقص طلب الأثر ، فخرجت أخته تبحث عنه في
خفية (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ
جُنُبٍ) أي رأته من بعيد ، ولم تقرب منه لئلا يعلموا أنها أخته ،
وقيل : معنى عن جنب ؛ عن شوق إليه ، وقيل : معناه أنها نظرت إليه ، كأنها لا تريده
(وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أنها أخته (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ) أي منع بأن بغضها الله له ، والمراضع جمع مرضعة ، وهي
المرأة التي ترضع ، أو جمع مرضع بفتح الميم والضاد : وهو موضع الرضاع يعني الثدي (مِنْ قَبْلُ) أي من أول مرة (فَقالَتْ هَلْ
أَدُلُّكُمْ) القائلة أخته تخاطب آل فرعون (فَرَدَدْناهُ إِلى
أُمِّهِ) لما منعه الله من المراضع وقالت أخته : هل أدلكم على أهل
بيت الآية : جاءت بأمه فقبل ثديها ، فقال لها فرعون ومن أنت منه فما قبل ثدي امرأة
إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة اللبن ، فذهبت به إلى بيتها ، وقرّت عينها بذلك
، وعلمت أن وعد الله حق في قوله : إنا رادّوه إليك (بَلَغَ أَشُدَّهُ) ذكر في [يوسف : ١٢] (وَاسْتَوى) أي كمل عقله ، وذلك مع الأربعين سنة.
(وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ) يعني مصر وقيل : قرية حولها ، والأول أشهر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) قيل : في القائلة وقيل بين العشاءين ، وقيل يوم عيد ، وقيل
كان قد جفا فرعون وخاف على نفسه فدخل مختفيا متخوفا (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) الذي من شيعته من بني إسرائيل ، والذي من عدّوه من القبط (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه ، والوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل : بجمع الكف (فَقَضى عَلَيْهِ) أي قتله ، ولم يرد أن يقتله ولكن وافقت وكزته الأجل ، فندم
وقال : هذا من عمل الشيطان أي إن الغضب الذي أوجب ذلك كان من الشيطان ، ثم اعترف
واستغفر فغفر الله له ، فإن قيل : كيف استغفر من القتل وكان المقتول كافرا؟
فالجواب أنه لم يؤذن له في قتله ، ولذلك يقول يوم القيامة : إني قتلت نفسا لم أومر
بقتله(قالَ رَبِّ بِما ا
__________________
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً
لِلْمُجْرِمِينَ) الظهير المعين ، والباء سببية ، والمعنى بسبب إنعامك عليّ
: لا أكون ظهيرا للمجرمين ، فهي معاهدة عاهد موسى عليها ربه ، وقيل الباء باء القسم
، وهذا ضعيف لأن قوله : فلن أكون لا يصلح لجواب القسم ، وقيل : جواب القسم محذوف
تقديره : وحق نعمتك لأتوبن فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، وقيل الباء للتحليف : أي
اعصمني بحق نعمتك عليّ ، فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، ويحتج بهذه الآية على المنع من
صحبة ولاة الجور (يَتَرَقَّبُ) في الموضعين أي يستحس هل يطلبه أحد (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيث به ، لقي موسى الإسرائيليّ الذي قاتل القبطي
بالأمس يقاتل رجلا آخر من القبط ، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس ، فعظم
ذلك على موسى وقال له : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) الضمير في أراد وفي يبطش لموسى ، وفي قال للإسرائيلي ،
والمعنى لما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ له وللإسرائيلي : ظن
الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به إذ قال له إنك لغوي مبين ، فقال الإسرائيلي لموسى
: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ وقيل : الضمير في أراد للإسرائيلي ،
والمعنى فلما أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى بالقبطي ، ولم يفعل موسى ذلك لندامته
على قتله الآخر بالأمس ، فنصح الإسرائيلي ، فقال له : أتريد أن تقتلني فاشتهر خبر
قتله للآخر إلى أن وصل إلى فرعون (وَجاءَ رَجُلٌ) قيل : إنه مؤمن آل فرعون ، وقيل : غيره (يَسْعى) أي يسرع في مشيه ليدرك موسى فينصحه (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يتشاورون ، وقيل : يأمر بعضهم بعضا بقتلك كما قتلت القبطي.
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي مدينة شعيب عليهالسلام (قالَ عَسى رَبِّي
أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي وسط الطريق يعني طريق مدين ، إذ كان قد خرج فارّا بنفسه
، وكان لا يعرف الطريق ، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام ، وقيل : أراد سبيل
الهدى وهذا أظهر ، ويدل كلامه هذا على أنه كان عارفا بالله قبل نبوته (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي وصل إليه وكان بئرا (يَسْقُونَ) أي يسقون مواشيهم (امْرَأَتَيْنِ) روي أن اسمهما ليا وصفوريا ، وقيل : صفيرا وصفرا (تَذُودانِ) أي تمنعان الناس عن غنمهما ، وقيل : تذودان غنمهما عن
الماء حتى يسقي الناس ، وهذا أظهر لقولهما : لا نسقي حتى يصدر الرعاء : أي كانت
عادتهما ألا يسقيا غنمهما إلا بعد الناس لقوة الناس ولضعفهما ، أو لكراهتهما
التزاحم مع الناس (يُصْدِرَ) بضم الياء وكسر الدال فعل متعدّ ، والمفعول
محذوف تقديره حتى
يصدر الرعاء مواشيهم ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر : يصدر بفتح الياء وضم الدال أي
ينصرفون عن الماء (وَأَبُونا شَيْخٌ
كَبِيرٌ) أي لا يستطيع أن يباشر سقي غنمه ، وهذا الشيخ هو شعيب عليهالسلام في قول الجمهور ، وقيل : ابن أخيه ، وقيل : رجل صالح ليس
من شعيب بنسب (فَسَقى لَهُما) أي أدركته شفقته عليهما فسقى غنمهما وروي أنه كان على فم
البئر صخرة لا يرفعها إلا ثلاثون رجلا فرفعها وحده (تَوَلَّى إِلَى
الظِّلِ) أي جلس في الظل ، وروي أنه كان ظل سمرة (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ) طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتدّ عليه الجوع.
(فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما) قبل هذا كلام محذوف تقديره : فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ،
وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، أخبرتاه بما كان من أمر سقي الرجل لهما ، فأمر
إحداهما أن تدعوه له فجاءته ، واختلف هل التي جاءته الصغرى أو الكبرى (عَلَى اسْتِحْياءٍ) روي أنها سترت وجهها بكم درعها والمجرور يتعلق بما قبله
وقيل : بما بعده وهو ضعيف (وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ) أي ذكر له قصته (لا تَخَفْ) أي قد نجوت من فرعون وقومه (اسْتَأْجِرْهُ) أي اجعله أجيرا لك (إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) هذا الكلام حكمة جامعة بليغة ، روي أن أباها قال لها من
أين عرفت قوته وأمانته ، قالت أما قوته ففي رفعه الحجر عن فم البئر : وأما أمانته
فإنه لم ينظر إليّ (قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَ) زوجته التي دعته ، واختلف هل زوّجه الكبرى أو الصغرى ،
واسم التي زوجه صفور ، وقيل : صفوريا ، ومن لفظ شعيب حسن أن يقال في عقود الأنكحة
: أنكحه إياها أكثر من أن يقال أنكحها إياه (عَلى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أيّ أزوجك بنتي على أن تخدمني ثمانية أعوام ، قال مكي : في
هذه الآية خصائص في النكاح ، منها أنه لم يعين الزوجة ، ولا حدّ أول الأمد ، وجعل
المهر إجارة ، قلت : فأما التعيين فيحتمل أن يكون عند عقد النكاح بعد هذه المراودة
، وقد قال الزمخشري : إن كلامه معه لم يكن عقد نكاح ، وإنما كان مواعدة وأما ذكر
أول الأمد ، فالظاهر أنه من حين العقد ، وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية ، وقد
قرره شرعنا حسبما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلىاللهعليهوسلم للرجل : «قد زوجتكها على ما معك من القرآن» ؛ أي على أن
تعلمها ما عندك من القرآن ، وقد أجاز النكاح بالإجارة الشافعي
__________________
وابن حنبل أبو
حنيفة للآية والحديث ، ومنعه مالك (فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) جعل الأعوام الثمانية شرطا ، ووكل العامين إلى مروءة موسى
، فوفى له العشر ، وقيل : وفي العشرة وعشرا بعدها ، وهذا ضعيف لقوله : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي الأجل المذكور (وَسارَ بِأَهْلِهِ) الأهل هنا الزوجة مشى بها إلى مصر (جَذْوَةٍ) أي قطعة ، ويجوز كسر الجيم وضمها ، وقد ذكر [سابقا] آنس ،
والطور ، وتصطلون (شاطِئِ الْوادِ) جانبه والأيمن صفة للشاطئ اليمين ، ويحتمل أن يكون من
اليمن فيكون صفة للوادي (مِنَ الشَّجَرَةِ) روي : أنها كانت عوسجة (جَانٌ) ذكر في النمل (اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ) أي أدخلها فيه ، والجيب هو فتح الجبة من حيث يخرج الإنسان
رأسه (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ) الجناح اليد أو الإبط أو العضد ، أمره الله لما خاف من
الحية أن يضمه إلى جنبه ليخفّ بذلك خوفه ، فإن من شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت
فزعه أن يخف خوفه ، وقيل : ذلك على وجه المجاز ، والمعنى أنه أمر بالعزم على ما
أمر به : كقوله اشدد حيازيمك واربط جأشك.
(مِنَ الرَّهْبِ) أي من أجل الرّهب ، وهو الخوف ، وفيه ثلاثة لغات : فتح
الراء والهاء ، وفتح الراء وإسكان الهاء ، وضم الراء وإسكان الهاء (فَذانِكَ بُرْهانانِ) أي حجتان والإشارة إلى العصا واليد (إِلى فِرْعَوْنَ) يتعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام (رِدْءاً) أي معينا ، وقرئ بالهمز [وقرأ نافع ردّا] وبغير همز على
التسهيل من المهموز أو يكون من : أرديت أي زدت (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ) استعارة في المعونة (بِآياتِنا) يحتمل أن يتعلق بقوله : نجعل أو يصلون أو بالغالبون (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى
الطِّينِ) أي اصنع الآجر لبنيان
الصرح الذي رام أن
يصعد منه إلى السماء ، وروي أنه أول من عمل الآجر ، وكان هامان وزير فرعون وانظر
ضعف عقولهما وعقول قومهما ، وجهلهم بالله تعالى في كونهم طمعوا أن يصلوا إلى
السماء ببنيان الصرح ، وقد روي أنه عمله وصعد عليه ورمى بسهم إلى السماء فرجع
مخضوبا بدم ، وذلك فتنة له ولقومه وتهكم بهم ، ثم قال (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) يعني في دعوى الرسالة ، والظن هنا يحتمل أن يكون على بابه
أو بمعنى اليقين (أَئِمَّةً يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ) أي كانوا يدعون الناس إلى الكفر الموجب للنار (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي من المطرودين المبعدين ، وقيل : قبحت وجوههم ، وقيل :
قبح ما فعل بهم وما يقال لهم.
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِ) خطاب لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم والمراد به إقامة حجة لإخباره بحال موسى ، وهو لم يحضره
والغربي المكان الذي في غربي الطور ، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى ، والأمر
المقضي إلى موسى هو النبوة. ومن الشاهدين : معناه من الحاضرين هنالك (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً
فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) المعنى لم تحضر يا محمد للاطلاع على هذه الغيوب التي تخبر
بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك ،
ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها ، فغابت عقولهم واستحكمت جهالتهم ،
فكفروا بك ، وقيل : المعنى لكنا أنشأنا قرونا بعد زمان موسى فتطاول عليهم العمر ،
وطالت الفترة فأرسلناك على فترة من الرسل (ثاوِياً) أي مقيما (إِذْ نادَيْنا) يعني تكليم موسى ، والمراد بذلك إقامة حجة سيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لإخباره بهذه الأمور مع أنه لم يكن حاضرا حينئذ (وَلكِنْ رَحْمَةً) انتصب على المصدر ، أو على أنه مفعول من أجله والتقدير :
ولكن أرسلناك رحمة منا لك ورحمة للخلق بك (وَلَوْ لا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) لو هنا حرف امتناع ولو لا الثانية عرض وتحضيض ، والمعنى لو
لا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل ، وإنما أرسلناهم على وجه الإعذار وإقامة
الحجة
عليهم ، لئلا
يقولوا : ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) يعني القرآن ونبوة محمد صلىاللهعليهوسلم (قالُوا لَوْ لا
أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) يعنون إنزال الكتاب عليه من السماء جملة واحدة ، وقلب
العصا حية وفلق البحر وشبه ذلك (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا
بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) هذا ردّ عليهم فيما طلبوه ، والمعنى أنهم كفروا بما أوتي
موسى فلو آتينا محمدا مثل ذلك لكفروا به ، ومن قبل على هذا يتعلق بقوله : أوتي
موسى ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : أو لم يكفروا ، إن كانت الآية في بني إسرائيل ،
والأول أحسن قالوا ساحران تظاهرا يعنون موسى وهارون ، أو موسى ومحمدا صلىاللهعليهوسلم والضمير في أو لم يكفروا وفي قالوا لكفار قريش وقيل :
لآبائهم ، وقيل لليهود والأول أظهر وأصح لأنهم المقصودون بالرد عليهم (فَأْتُوا بِكِتابٍ) أمر على وجه التعجيز لهم (أَهْدى مِنْهُما) الضمير يعود على كتاب موسى وكتاب سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم (فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ) قد علم أنهم لا يستجيبون للإتيان بكتاب هو أهدى منهما أبدا
، ولكنه ذكره بحرف إن مبالغة في إقامة الحجة عليهم : كقوله : فإن لم تفعلوا ولن
تفعلوا ، فاعلم أنما يتبعون أهواهم : المعنى إن لم يأتوا بكتاب فاعلم أن كفرهم
عناد واتباع أهوائهم ، لا بحجة وبرهان (وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ) الضمير لكفار قريش ، وقيل : لليهود والأول أظهر ؛ لأن
الكلام من أوله معهم ، والقول هنا القرآن ، ووصّلنا لهم : أبلغناه لهم ، أو جعلناه
موصلا بعضه ببعض (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) يعني من أسلم من اليهود ، وقيل : النجاشي وقومه ، وقيل
:نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمكة وهم عشرون رجلا فآمنوا به ، والضمير في قبله للقرآن ،
وقولهم إنه الحق : تعليل لإيمانهم ، وقولهم : إنا كنا من قبله مسلمين : بيان لأن
إسلامهم قديم ، لأنهم وجدوا ذكر سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم في كتبهم قبل أن يبعث.
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب ثم آمن
بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ورجل مملوك أدى حق الله
__________________
وحق مواليه ، ورجل
كانت له أمة فأعتقها وتزوّجها (بِما صَبَرُوا) يعني صبرهم على إذاية قومهم لهم لما أسلموا ، ٧ أو غير ذلك
من أنواع الصبر (وَيَدْرَؤُنَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون ، ويحتمل أن يريد بالسيئة ما يقال لهم من الكلام
القبيح ، وبالحسنة ما يجاوبون به من الكلام الحسن ، أو يريد سيئات أعمالهم
وحسناتها كقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) يعني ساقط الكلام (لَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) هذا على وجه التبري والبعد من القائلين للغو (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) معناه هنا ، المتاركة والمباعدة لا التحية ، أو كأنه سلام
الانصراف والبعد (لا نَبْتَغِي
الْجاهِلِينَ) أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة في الكلام (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) نزلت في أبي طالب إذ دعاه النبي صلىاللهعليهوسلم أن يقول عند موته : لا إله إلا الله فقال : لو لا أن
يعايرني بها قريش لأقررت بها عينك ومات على الكفر ، ولفظ الآية مع ذلك على عمومه (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لفظ عام ، وقيل : أراد به العباس بن عبد المطلب.
(وَقالُوا إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) القائلون لذلك قريش ، وروي أن الذي قالها منهم : الحارث بن
عامر بن نوفل ، والهدى هو الإسلام ، ومعناه الهدى على زعمك ، وقيل : إنهم قالوا قد
علمنا أن الذي تقول حق ، ولكن إن اتبعناك تخطفتنا العرب : أي أهلكونا بالقتال
لمخالفة دينهم (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً) هذا ردّ عليهم فيما اعتذروا به من تخطف الناس لهم ،
والمعنى أن الحرم لا تتعرض له العرب بقتال ، ولا يمكن الله أحدا من إهلاك أهله ،
فقد كانت العرب يغير بعضهم على بعض ، وأهل الحرم آمنون من ذلك (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تجلب إليه الأرزاق مع أنه واد غير ذي زرع (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) معنى بطرت طغت وسفهت ، ومعيشتها : نصب على التفسير مثل :
سفه نفسه ، أو على إسقاط حرف الجرّ تقديره : بطرت في معيشتها أو يتضمن معنى بطرت :
كفرت (إِلَّا قَلِيلاً) يعني : قليلا من السكنى ، أو قليلا من الساكنين : أي لم
يسكنها بعد إهلاكها إلا مارّا على الطريق ساعة.
(وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) أم القرى مكة لأنها أول ما
__________________
خلق الله في الأرض
، ولأن فيها بيت الله ، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى ؛ بأن بعث سيدنا
محمدا صلىاللهعليهوسلم في أم القرى ، فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم ،
وإقامة الحجة عليهم (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ) الآية : تحقير للدنيا وتزهيد فيها وترغيب في الآخرة (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) الآية : إيضاح لما قبلها من البون بين الدنيا والآخرة ،
والمراد بمن وعدناه للمؤمنين ، وبمن متعناه الكافرين ، وقيل : سيدنا محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبو جهل ، وقيل حمزة وأبو جهل ، والعموم أحسن لفظا ،
ومعنى من المحضرين أي من المحضرين في العذاب (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) العامل في الظرف مضمر ، وفاعل ينادي : الله تعالى ، ويحتمل
أن يكون نداؤه بواسطة أو بغير واسطة ، والمفعول به المشركون (أَيْنَ شُرَكائِيَ) توبيخ للمشركين ونسبهم إلى نفسه على زعمهم ، ولذلك قال :
الذين كنتم تزعمون ، فحذف المفعول وتقديره : تزعمون أنهم شركاء لي أو تزعمون أنهم
شفعاء لكم.
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) معنى حق عليهم القول : وجب عليهم العذاب ، والمراد بذلك
رؤساء المشركين وكبراؤهم ، والإشارة بقولهم : هؤلاء الذين أغوينا : إلى أتباعهم من
الضعفاء ، فإن قيل : كيف الجمع بين قولهم أغوينا وبين قولهم : تبرأنا إليك ، فإنهم
اعترفوا بإغوائهم ، وتبرأوا مع ذلك منهم؟ فالجواب أن إغواءهم لهم هو أمرهم لهم
بالشرك ، والمعنى أنا حملناهم على الشرك كما حملنا أنفسنا عليه ، ولكن لم يكونوا
يعبدوننا إنما كانوا يعبدون غيرنا ، من الأصنام وغيرها فتبرأنا إليك من عبادتهم
لنا ، فتحصل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغووا الضعفاء ، وتبرأوا من
أن يكونوا هم آلهتهم فلا تناقض في الكلام ، وقد قيل في معنى الآية غير هذا مما هو
تكلف بعيد (لَوْ أَنَّهُمْ
كانُوا يَهْتَدُونَ) فيه أربعة أوجه : الأول أن المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في
الدنيا لم يعبدوا الأصنام ، والثاني لو أنهم كانوا يهتدون لم يعذبوا والثالث لو
أنهم كانوا يهتدون في الآخرة لحيلة يدفعون بها العذاب لفعلوا ، فلو على هذه
الأقوال حرف امتناع وجوابها محذوف ، والرابع أن يكون لو للتمني : أي تمنوا لو
كانوا مهتدين.
(ما ذا أَجَبْتُمُ
الْمُرْسَلِينَ) أي هل صدقتم المرسلين أو كذبتموهم؟ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ
يَوْمَئِذٍ) عميت عبارة عن حيرتهم ، والأنباء الأخبار أي أظلمت عليهم
الأمور ، فلم يعرفوا ما يقولون (فَهُمْ لا
يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الأنباء لأنهم قد تساووا
في الحيرة والعجز
عن الجواب (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) قيل : سببها استغراب قريش لاختصاص سيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم بالنبوة ، فالمعنى أن الله يخلق ما يشاء ، ويختار لرسالته
من يشاء من عباده ، ولفظها أعم من ذلك ، والأحسن حمله على عمومه : أي يختار ما
يشاء من الأمور على الإطلاق ، ويفعل ما يريد (ما كانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ) ما نافية ، والمعنى ما كان للعباد اختيار إنما الاختيار ،
والإرادة لله وحده. فالوقف على قوله ويختار ، وقيل : إن ما مفعولة بيختار ، ومعنى
الخيرة على هذا الخير والمصلحة ، وهذا يجري على قول المعتزلة ، وذلك ضعيف ؛ لرفع
الخيرة على أنها اسم كان ، ولو كانت ما مفعولة : لكان اسم كان مضمرا يعود على ما ؛
وكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان ، وقد اعتذر عن هذا من قال : إن ما مفعولة
بأن يقال : تقدير الكلام : يختار ما كان لهم الخيرة فيه ، ثم حذف الجار والمجرور
وهذا ضعيف ، وقال ابن عطية : يتجه أن تكون ما مفعولة إذا قدرنا كان تامة ، ويوقف
على قوله ما كان : أي يختار كل كائن ، ويكون «لهم الخيرة» جملة مستأنفة ، وهذا
بعيد جدا (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ) أي ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر ، لأنه يحتوي
عليه.
(لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ) قيل إن الحمد في الآخرة قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا
وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] أو
قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] ، وفي
ذكر الأولى مع الآخرة مطابقة (سَرْمَداً) أي دائما ، والمراد بالآيات إثبات الوحدانية وإبطال الشرك
، فإن قيل : كيف قال يأتيكم بضياء ، وهلا قال : يأتيكم بنهار في مقابلة قوله
يأتيكم بليل؟ فالجواب أنه ذكر الضياء لجملة ما فيه من المنافع والعبر (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) أي في النهار ، ففي الآية لف ونشر (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي أخرجنا من كل أمة شهيدا منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو
نبيهم ، لأن كل نبي يشهد على أمته (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر ، وذلك إعذار
لهم وتوبيخ وتعجيز.
(إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي من بني إسرائيل ، وكان ابن عم موسى وقيل ابن عمته ،
وقيل ابن خالته (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي تكبر وطغى ، ومن ذلك كفره بموسى عليهالسلام (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) المفاتح هي التي يفتح بها ، وقيل : هي الخزائن ، والأول
أظهر ، والعصبة جماعة الرجال من العشرة إلى الأربعين ، وتنوء معناه تثقل ، يقال
ناء به الحمل : إذا أثقله ، وقيل : معنى تنوء تنهض بتحامل وتكلف ، والوجه على هذا
أن يقال إن العصبة تنوء بالمفاتح ، لكنه قلب كما جاء قلب الكلام عن العرب كثيرا ،
ولا يحتاج إلى قلب على القول الأول (لا تَفْرَحْ) الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطغيان ، ولذلك قال
: إن الله لا يحب الفرحين ، وقيل السرور بالدنيا ، لأنه لا يفرح بها إلا من غفل عن
الآخرة ويدل على هذا قوله : (وَلا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ) أي اقصد الآخرة بما أعطاك الله من المال ، وذلك بفعل
الحسنات والصدقات (وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي لا تضيع حظك من دنياك وتمتع بها مع عملك للآخرة ، وقيل
: معناه لا تضيع عمرك بترك الأعمال الصالحات ، فإن حظ الإنسان من الدنيا إنما هو
بما يعمل فيها من الخير ، فالكلام على هذا وعظ ، وعلى الأول إباحة للتمتع بالدنيا
لئلا ينفر عن قبول الموعظة (وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بالغنى قال (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) لما وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم ، والروغان
عما ألزموه من الموعظة ، والمعنى : أن هذا المال إنما أعطاه الله لي بالاستحقاق له
بسبب علم عندي استوجبته به ، واختلف في هذا العلم فقيل : إنه علم الكيمياء ، وقيل
: التجارب للأمور والمعرفة بالمكاسب ، وقيل : حفظه التوراة وهذا بعيد ، لأنه كان
كافرا ، قيل : المعنى إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص خصني به ، ثم جعل قوله
عندي كما تقول في ظني واعتقادي (أَوَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) هذا ردّ عليه في اغتراره بالدنيا وكثرة جمعه للمال أو جمعه
للخدم ، والأول أظهر.
(وَلا يُسْئَلُ عَنْ
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) في معناه قولان : أحدهما أنه متصل بما قبله ، والضمير في
ذنوبهم يعود على القرون المتقدمة ، والمجرمون من بعدهم أي : لا يسأل المجرمون عن
ذنوب من تقدمهم من الأمم الهالكة ؛ لأن كل أحد إنما يسأل عن ذنوبه خاصة ، والثاني
: أنه إخبار عن حال المجرمين في الآخرة ؛ وأنهم لا يسألون عن ذنوبهم ؛ لكونهم
يدخلون النار من غير حساب ، والصحيح أنهم يحاسبون على ذنوبهم ويسألون عنها
لقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢] وأن
هذا السؤال المنفي السؤال على وجه الاختبار وطلب التعريف ، لأنه لا يحتاج إلى
سؤالهم على هذا الوجه ؛ لكن يسألون على وجه التوبيخ ، وحيثما ورد في القرآن إثبات
السؤال في الآخرة ، فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ ، وحيثما ورد نفيه فهو على وجه
الاستخبار والتعريف ، ومنه قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ.) [الرحمن : ٣٩].
(فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) في ثياب حمر ، وقيل : في عبيده وحاشيته ، واللفظ أعم من
ذلك (وَيْلَكُمْ) زجر للذين تمنوا مثل حال قارون (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) الضمير عائد على الخصال التي دل عليها الكلام المتقدم ،
وهو الإيمان والعمل الصالح ، وقيل : على الكلمة التي قالها الذين أوتوا العلم : أي
لا تصدر الكلمة إلا عن الصابرين ، والصبر هنا إمساك النفس عن الدنيا وزينتها (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) روي أن قارون لما بغى على بني إسرائيل وآذى موسى دعا موسى عليهالسلام عليه ، فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه وفي
أتباعه ، فقال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب فاستغاثوا بموسى فقال : يا
أرض خذيهم حتى تمّ بهم الخسف (مَكانَهُ) أي منزلته في المال والعزة (بِالْأَمْسِ) يحتمل أن يريد به اليوم الذي كان قبل ذلك اليوم أو ما تقدم
من الزمان القريب (وَيْكَأَنَ) مذهب سيبويه أن وي حرف تنبيه ، ثم ذكرت بعدها كأن ،
والمعنى على هذا أنهم تنبهوا لخطئهم في قولهم : يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون ، ثم
قالوا : كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر : أي ما أشبه الحال بهذا ، وقال
الكوفيون : ويك هو ويلك حذفت منها اللام لكثرة الاستعمال ، ثم ذكرت بعدها أن ،
والمعنى ألم يعلموا أن الله. وقيل : ويكأن كلمة واحدة معناها ألم تعلم.
(عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ) أي تكبرا وطغيانا لا رفعة المنزلة ، فإن إرادتها جائزة (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنزله عليك وأثبته ، وقيل المعنى أعطاك القرآن ،
والمعنى متقارب ، وقيل فرض عليك أحكام القرآن ، فهي على حذف مضاف (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) المعاد الموضع
الذي يعاد إليه ،
فقيل : يعني مكة ، والآية نزلت حين الهجرة ، ففيها وعد بالرجوع إلى مكة وفتحها ،
وقيل : يعني الآخرة فمعناها إعلام بالحشر ، وقيل يعني الجنة (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى
إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي ما كنت تطمع أن تنال النبوّة ، ولا أن ينزل عليك الكتاب
، ولكن الله رحمك بذلك ورحم الناس بنبوّتك ، والاستثناء بمعنى لكن فهو منقطع.
ويحتمل أن يكون متصلا. والمعنى ما أنزل عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لك ورحمة
للناس ، ورحمة على هذا مفعول من أجله أو حال ، وعلى الأول منصوب على الاستثناء (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) يحتمل أن يكون من الدعاء بمعنى الرغبة ، أو من دعوة الناس
إلى الإيمان بالله ، فالمفعول محذوف على هذا تقديره : ادع الناس (وَلا تَدْعُ) أي لا تعبد (مَعَ اللهِ إِلهاً
آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية. أي إلا إياه ، والوجه هنا عبارة عن الذات.
سورة العنكبوت
مكية
إلا من آية ١ إلى غاية ١١ فمدنية وآياتها ٦٩ نزلت بعد الروم
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة العنكبوت) (الم) ذكر في البقرة (أَحَسِبَ النَّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا) نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا بمكة مستضعفين منهم عمار
بن ياسر وغيره ، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام ، فضاقت صدورهم
بذلك. فآنسهم الله بهذه الآية ، ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار ، ليوطنوا أنفسهم
على الصبر على الأذى ، والثبوت على الإيمان ، فأعلمهم الله تعالى أن تلك سيرته في
عباده ، يسلط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك ، ويظهر الصادق في إيمانه من
الكاذب ، ولفظها مع ذلك عام ، فحكمها على العموم في كل من أصابته فتنة ، من مصيبة
أو مضرة في النفس والمال وغير ذلك ، ومعنى حسب ظنّ ، وأن يتركوا مفعولها ، والهمزة
للإنكار ، وهم لا يفتنون في موضع الحال من الضمير في يتركوا تقديره غير مفتونين ،
وأن يقولوا : تعليل في موضع المفعول من أجله (فَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي يعلم صدقهم علما ظاهرا في الوجود ، وقد كان علمه في
الأزل والصدق والكذب في الآية يعني بهما صحة الإيمان والثبوت عليه ، أو ضدّ ذلك.
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أم معادلة لقوله : أحسب الناس ، والمراد بالذين يعملون
السيئات الكفار ، الذين يعذبون المؤمنين ، ولفظها مع ذلك عام في كل كافر أو عاص ،
ومعنى يسبقونا : يفوتون من عقابنا ويعجزوننا ، فمعنى الكلام نفي سبقهم. كما أن
معنى الآية قبلها ، نفي ترك المؤمنين بغير فتنة (مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ) الآية : تسلية المؤمنين ، ووعد لهم بالخير في الدار الآخرة
، والرجاء هنا على بابه ، وقيل : هو بمعنى الخوف ، وأجل الله هو الموت ، ومعنى
الآية : من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا ، على المجاهدة في طاعة الله حتى
يلقى الله ، فيجازيه فإن لقاء الله قريب الإتيان ، وكل ما هو آت قريب (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ
لِنَفْسِهِ) أي منفعة جهاده فإنما هي لنفسه ،
فإن الله لا تنفعه
طاعة العباد ، والجهاد هنا يحتمل أن يراد به القتال ، أو جهاد النفس (حُسْناً) منصوب بفعل مضمر تقديره : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه
حسنا ، أو مصدرا من معنى وصينا أي وصية حسنة (وَإِنْ جاهَداكَ
لِتُشْرِكَ بِي) الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وأنه لما أسلم حلفت أمه :
أن لا تستظل بظل حتى يكفر ، وقيل : نزلت في غيره ممن جرى له مثل ذلك ، فأمرهم الله
بالثبات على الإسلام ، وألا يطيعوا الوالدين إذا أمروهم بالكفر ، وعبّر عن أمر
الوالدين بالجهاد مبالغة.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم ، فإذا عذبهم الكفار رجعوا
عن الإيمان ، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا : إنا كنا معكم ، فمعنى أوذي في الله
أوذي بسبب إيمانه بالله ، وفتنة الناس ، تعذيبهم ، وقيل : نزلت في عياش بن أبي
ربيعة أخي أبي جهل لأمه (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي قال الكفار للمؤمنين : اكفروا كما كفرنا ، ونحمل نحن
عنكم الإثم والعقاب إن كان ، وروي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة حكاه
المهدوي ، وقولهم : ولنحمل خطاياكم : جزاء قولهم : اتبعوا سبيلنا ، ولكنهم ذكروه
على وجه الأمر للمبالغة ، ولما كان معنى الخبر صحة تكذيبهم فيه أخبره الله أنهم
كاذبون : أي لا يحملون أوزار هؤلاء ، بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزار أتباعهم من
الكفار.
(فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) الظاهر أنه لبث هذه المدة بعد بعثه ، ويحتمل أن يكون ذلك
من أول ولادته ، وروي أنه بعث وهو ابن أربعين سنة ، وأنه عمر بعد الطوفان ثلاثمائة
وخمسين سنة فإن قيل : لم قال ألف سنة ، ثم قال إلا خمسين عاما؟ فاختلف اللفظ مع
اتفاق المعنى؟ فالجواب أن ذلك كراهة لتكرار لفظ السنة ، فإن التكرار مكروه إلا إذا
قصد به تفخيم أو تهويل (وَجَعَلْناها آيَةً) يحتمل أن يعود الضمير على السفينة ، أو على النجاة ، أو
على القصة بكمالها (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) هو من الخلقة يريد به
نحت الأصنام فسماه
خلقة على وجه التجوّز ، وقيل هو من اختلاق الكذب (لا يَمْلِكُونَ
لَكُمْ رِزْقاً) الآية : احتجاج على الوحدانية ونفي الشركاء ، فإن قيل : لم
نكّر الرزق أولا ، ثم عرّفه في قوله : فابتغوا عند الله الرزق؟ فالجواب : أنه نكره
في قوله : لا يملكون لكم رزقا لقصد العموم في النفي ، فإن النكرة في سياق النفي
تقتضي العموم. ثم عرّفه بعد ذلك لقصد العموم في طلب الرزق كله من الله ، لأنه لا
يقتضي العموم ، في سياق الإثبات إلا مع التعريف فكأنه قال : ابتغوا الرزق كله عند
الله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) الآية يحتمل أن تكون من كلام إبراهيم أو من كلام الله
تعالى ، ويحتمل مع ذلك أن يراد به وعيد الكفار وتهديدهم ، أو يراد به تسلية النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه له ، بالتأسي بغيره من الأنبياء ،
الذين كذبهم قومهم.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) يقال بدأ الله الخلق وأبدأه بمعنى واحد ، وقد جاءت اللغتان
في هذه السورة ، والمعنى : أو لم ير الكفار أن الله خلق الخلق فيستدلون بالخلقة
الأولى على الإعادة في الحشر ، فقوله : ثم يعيده ليس بمعطوف على يبدأ ، لأن المعنى
فيهما مختلف ، لأن رؤية البداءة بالمشاهدة ، بخلاف الإعادة فإنها تعلم بالنظر
والاستدلال ، وإنما هو معطوف على الجملة كلها ، وقد قيل : إنه يريد إعادة النبات ،
وإبدائه ، وعلى هذا يكون ثم يعيده عطفا على يبدئ لاتفاق المعنى ، والأول أحسن وأليق
بمقاصد الكلام (إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيرٌ) يعني إعادة الخلق وهي حشرهم ، ثم أمرهم بالسير في الأرض
ليروا مخلوقات الله فيستدلوا بها على قدرته على حشرهم ، ولذلك ختمها بقوله : إن
الله على كل شيء قدير (وَإِلَيْهِ
تُقْلَبُونَ) أي ترجعون (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا تفوتون من عذاب الله وليس لكم مهرب في الأرض ولا في
السماء (أُولئِكَ يَئِسُوا
مِنْ رَحْمَتِي) يحتمل أن يكون يأسهم في الآخرة ، أو يكون وصف لحالهم في
الدنيا ، لأن الكافر يائس من رحمة الله ، والمؤمن راج خائف ، وهذا الكلام من قوله
: أو لم يروا ، إلى هنا : يحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلىاللهعليهوسلم معترضا بين قصة إبراهيم ، ويحتمل أن يكون
خطابا لإبراهيم
وبعد ذلك ذكر جواب قومه له (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) نصب مودة على أنها مفعول من أجله أو مفعول ثان لاتخذتم ،
ورفعها على أنها خبر ابتداء مضمر أو خبر إن ، وتكون ما موصولة
ونصب بينكم على الظرفية ، وخفضه بالإضافة (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) تضمن آمن معنى انقاد ، ولذلك تعدّى باللام (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) القائل لذلك إبراهيم ، وقيل : لوط ، وهاجرا من بلادهما
بأرض بابل إلى الشام (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم ، وعلى ذريته أنزل الله
التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ) قيل أراد قطع الطرق للسلب والقتل ، وقيل : أراد قطع سبيل
النسل بترك النساء وإتيان الرجال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ) النادي المجلس الذي يجتمع فيه الناس ، والمنكر فعلهم
بالرجال ، وقيل : إذايتهم للناس (وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) الرسل هنا الملائكة والبشرى بشارة إبراهيم بالولد وهو قوله
: «فبشروه بغلام حليم» أو بشارته بنصر سيدنا لوط ، والأول أظهر (أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يعني قرية سيدنا لوط ، (قالَ إِنَّ فِيها
لُوطاً) ليس إخبارا بأنه فيها ، وإنما قصد نجاة سيدنا لوط من
العذاب الذي يصيب أهل القرية ، وبراءته من الظلم الذي وصفوه به ، فكأنه قال : كيف
تهلكون أهل القرية وفيها لوط ، وكيف تقولون إنهم ظالمون وفيهم لوط (مِنَ الْغابِرِينَ) قد ذكر وكذلك سيء بهم (رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ) أي عذابا (وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ) قيل : الرجاء هنا الخوف ،
__________________
وقيل : هو على
بابه (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ) يعني نقصهم المكيال والميزان (الرَّجْفَةُ) هي الصيحة (وَقَدْ تَبَيَّنَ
لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي آثار مساكنهم باقية تدل على ما أصابهم (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) قيل : معناه لهم بصيرة في كفرهم وإعجاب به ، وقيل : لهم
بصيرة في الإيمان ، ولكنهم كفروا عنادا ، وقيل : معنى : مستبصرين عقلاء متمكنين من
النظر والاستدلال ، ولكنهم لم يفعلوا (وَما كانُوا
سابِقِينَ) أي لم يفوتونا (فَمِنْهُمْ مَنْ
أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) الحاصب الحجارة ، والحاصب أيضا الريح الشديدة ، ويحتمل
عندي أنه أراد به المعنيين ، لأن قوم سيدنا لوط أهلكوا بالحجارة ، وعاد أهلكوا
بالريح ، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر ، وقد أجاز كثير من الناس
استعمال اللفظ الواحد في معنيين كقوله : «إن الله وملائكته يصلون على النبي» ويقوي
ذلك هنا لأن المقصود هنا ذكر عموم أخذ أصناف الكفار (وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) يعني ثمود ومدين (وَمِنْهُمْ مَنْ
خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) يعني قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنا) يعني قوم نوح وفرعون وقومه (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) شبه الله الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في بنائها
بيتا ضعيفا ، فكان ما اعتمدت عليه العنكبوت في بيتها ليس بشيء ، فكذلك ما اعتمدت
عليه الكفار من آلهتهم ليس بشيء لأنهم لا ينفعون ولا يضرون (أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) أي أضعفها (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ما موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذي قبلها وقيل : هي
نافية ، والفعل معلق عنها والمعنى على هذا : لستم تدعون من دون الله شيئا له بال ،
فلا يصلح أن يسمى شيئا (بِالْحَقِ) أي بالواجب لا على وجه العبث واللعب.
(إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) إذا كان المصلي خاشعا في صلاته ، متذكرا لعظمة من وقف بين
يديه ، حمله ذلك على التوبة من الفحشاء والمنكر ؛ فكأن الصلاة ناهية عن ذلك (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قيل : فيه ثلاثة معان ؛ الأول أن المعنى أن الصلاة أكبر من
غيرها من الطاعات
، وسماها بذكر الله ، لأن ذكر الله أعظم ما فيها ، كأنه أشار بذلك إلى تعليل نهيها
عن الفحشاء والمنكر ، لأن ذكر الله فيها هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر : الثاني
أن ذكر الله على الدوام أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة ، لأنها في
بعض الأوقات دون بعض : الثالث أن ذكر الله أكبر أجرا من الصلاة ومن سائر الطاعات ،
كما ورد في الحديث ألا أنبئكم بخير أعمالكم ؛ قالوا : بلى قال : ذكر الله (وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي لا تجادلوا كفار أهل الكتاب إذا اختلفتم معهم في الدين
إلا بالتي هي أحسن ، لا بضرب ولا قتال ، وكان هذا قبل أن يفرض الجهاد ، ثم نسخ
بالسيف ، ومعنى إلا الذين ظلموا : أي ظلموكم ، وصرحوا بإذاية نبيكم محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : معنى الآية ؛ لا تجادلوا من أسلم من أهل الكتاب
فيما حدثوكم به من الأخبار إلا بالتي هي أحسن ، ومعنى إلا الذين ظلموا على هذا من
بقي منهم على كفره ، والمعنى الأول أظهر (وَقُولُوا آمَنَّا) هذا وما بعده يقتضي مواعدة ومسالمة ، وهي منسوخة بالسيف ،
ويقتضي أيضا الأعراض عن مكالمتهم ، وفي الحديث : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا
تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، فإن كان باطلا لم تصدقوهم
، وإن كان حقا لم تكذبوهم .
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي كما أنزلنا الكتاب على من قبلك أنزلناه عليك (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني عبد الله بن سلام وأمثاله ، ممن أسلم من اليهود
والنصارى (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ
يُؤْمِنُ بِهِ) أراد بالذين أوتوا الكتاب أهل التوراة والإنجيل ، وأراد بقوله
: من هؤلاء من يؤمن به كفار قريش ، وقيل : أراد بالذين أوتوا الكتاب المتقدّمين من
أهل التوراة والإنجيل ، وأراد بهؤلاء المعاصرين لمحمد صلىاللهعليهوسلم منهم كعبد الله بن سلام (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) هذا احتجاج على أن القرآن من عند الله ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان لا يقرأ ولا يكتب ، ثم جاء بالقرآن. فإن قيل : ما
فائدة قوله بيمينك؟ فالجواب أن ذلك تأكيد للكلام ، وتصوير للمعنى المراد (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت تقرأ أو تكتب لتطرق الشك إلى الكفار ، فكانوا
يقولون : لعله تعلم هذا الكتاب أو قرأه ، وقيل : وجه الاحتجاج أن أهل الكتاب كانوا
يجدون في كتبهم أن النبي صلىاللهعليهوسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فلما جعله الله
__________________
كذلك قامت عليهم
الحجة ، ولو كان يقرأ أو يكتب لكان مخالفا للصفة التي وصفه الله بها عندهم ،
والمذهب الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يقرأ قط ولا كتب. وقال الباجي وغيره : أنه كتب لظاهر
حديث الحديبية ، وهذا القول ضعيف (بَلْ هُوَ آياتٌ) الضمير للقرآن ، والإضراب ببل عن كلام محذوف تقديره : ليس
الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون.
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) المعنى كيف يطلبون آية والقرآن أعظم الآيات ، وأوضحها دلالة
على صحة النبوة ، فهلا اكتفوا به عن طلب الآيات (قُلْ كَفى بِاللهِ) ذكر معناه في [الرعد : ٤٣] وفي الأنعام (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ) الضمير للكفار يعني قولهم : ائتنا بما تعدنا ، وقولهم :
فأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك (وَلَوْ لا) (أَجَلٌ مُسَمًّى) أي لو لا أن الله قدّر لعذابهم أجلا مسمى لجاءهم به حين
طلبوه (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ
بَغْتَةً) يحتمل أن يريد القتل الذي أصابهم يوم بدر ، أو الجوع الذي
أصابهم بهم بتوالي القحط ، أو يريد عذاب الآخرة ، وهذا أظهر لقوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أي يحيط بهم ، والعامل في الظرف محذوف ، أو محيطة (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) تحريض على الهجرة من مكة ، إذ كان المؤمنون يلقون فيها أذى
الكفار ، وترغيبا في غيرها من أرض الله ، فحينئذ هاجروا إلى أرض الحبشة ، ثم إلى
المدينة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي ننزلنهم وقرأ حمزة والكسائي : نثوينهم بالثاء المثلثة
من الثوى وهو الإقامة في المنزل (وَكَأَيِّنْ مِنْ
دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي : كم من دابة ضعيفة لا تقدر على حمل رزقها ، ولكن الله
يرزقها مع ضعفها ، والقصد بالآية : تقوية لقلوب المؤمنين ، إذ خافوا الفقر والجوع
في الهجرة إلى بلاد الناس : أي كما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا
__________________
هاجرتم من بلدكم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) في الموضعين : إقامة حجة عليهم (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق.
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) حمدا لله على ظهور الحجة ، ويكون المعنى إلزامهم أن يحمدوا
الله لما اعترفوا أنه خلق السموات والأرض (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) إضراب عن كلام محذوف تقديره : يجب عليهم أن يعبدوا الله
لما اعترفوا به ولكنهم لا يعقلون (لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها ، ولفظ الحيوان مصدر
كالحياة (فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ) الآية : إقامة حجة عليهم بدعائهم حين الشدائد ، ثم يشركون
به في حال الرخاء. (لِيَكْفُرُوا) أمر على وجه التهديد ، أو على وجه الخذلان والتخلية ، كما
تقول لمن تنصحه فلا يقبل نصحك : اعمل ما شئت (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) الضمير لكفار قريش ، والحرم الآمن : مكة ، لأنها كانت لا
تغير عليها العرب كما تغير على سائر البلاد ، ولا ينتهك أحد حرمتها (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) عبارة عما يصيب غير أهل مكة من القتال أو أخذ الأموال (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) يعني : جهاد النفس من الصبر على إذاية الكفار واحتمال
الخروج عن الأوطان وغير ذلك ، وقيل : يعني القتال ، وذلك ضعيف لأن القتال لم يكن
مأمورا به حين نزول الآية (لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا) أي لنوفقنهم لسبيل الخير (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ) المعنى أنه معهم بإعانته ونصره.
__________________
سورة الروم
مكية
إلا آية ١٧ فمدنية وآياتها ٦٠ نزلت بعد الانشقاق
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الروم) (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ) أي هزم كسرى ملك الفرس جيش ملك الروم ، وسميت الروم باسم
جدهم وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم (فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ) قيل : هي الجزيرة ، وهي بين الشام والعراق وهي أدنى أرض
الروم إلى فارس ، وقيل في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ) إخبار بأن الروم سيغلبون الفرس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) البضع ما بين الثلاث إلى التسع (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) روي أن غلب الروم فارس وقع يوم بدر ، وقيل : يوم الحديبية
ففرح المؤمنون بنصر الله لهم على كفار قريش وقيل : فرح المؤمنون بنصر الروم على
الفرس ، لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب إلى الإسلام ، كذلك فرح الكفار من قريش بنصر
الفرس على الروم ، لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب ، فهم أقرب إلى كفار قريش ، وروي أنه
لما فرح الكفار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقال : إن نبينا صلىاللهعليهوسلم قد أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون ، وراهنهم على عشرة
قلاص [القلاص مفردها : قلوص وهي الناقة الشابة] إلى ثلاث سنين ، وذلك قبل أن يحرم
القمار ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل ، فجعل القلاص مائة ،
والأجل تسعة أعوام ، وجعل معه أبيّ بن خلف مثل ذلك ، فلما وقع الأمر على ما أخبر
به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية أبيّ بن خلف ، إذ كان قد مات وجاء بها إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له : تصدق بها (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد كقوله : له علي ألف درهم عرفا ، لأن معناه
اعترفت له بها اعترافا.
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً) قيل : معناه يعلمون ما يدرك بالحواس دون ما يدرك بالعقول ؛
فهم في
__________________
ذلك مثل البهائم ،
وقيل : الظاهر ما يعلم بالنظر بأوائل العقول ، والباطن ما يعلم بالنظر والدليل ،
وقيل : هو من الظهور بمعنى العلو في الدنيا ، وقيل : ظاهر بمعنى زائل ذاهب ،
والأظهر أنه أراد بالظاهر المعرفة بأمور الدنيا ومصالحها ، لأنه وصفهم بعد ذلك
بالغفلة عن الآخرة ، وذلك يقتضي عدم معرفتهم بها ، وانظر كيف نفى العلم عنهم أولا
، ثم أثبت لهم العلم بالدنيا خاصة ، وقال بعض أهل البيان : إن هذا من المطابقة
لاجتماع النفي والإثبات ، وجعل بعضهم العلم المثبت كالعدم لقلة منفعته ، فهو على
هذا بيان للنفي (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) يحتمل معنيين : أحدهما أن تكون النفس ظرفا للفكرة في خلق
السموات والأرض كأنه قال : أو لم يتفكروا بعقولهم فيعلموا أن الله ما خلق السموات
والأرض إلا بالحق ، والثاني أي يكون المعنى أو لم يتفكروا في ذواتهم وخلقتهم
ليستدلوا بذلك على الخالق ، ويكون قوله : ما خلق الآية : استئناف كلام ، والمعنى
الأول أظهر (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي حرثوها (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) معنى السوءى : هلاك الكفار ، ولفظ السوءى تأنيث الأسوأ :
كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، وقرأ [أهل الحجاز والبصرة] عاقبة بالرفع على أنه اسم
كان ، والسوءى خبرها ، وقرئ بنصب عاقبة على أنها خبر كان ، والسوءى اسمها ، وأن كذبوا
مفعول من أجله ، ويحتمل أن تكون السوءى مصدر أساءوا (يُبْلِسُ
الْمُجْرِمُونَ) الإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير (يَتَفَرَّقُونَ) معناه في المنازل والجزاء (تُحْبَرُونَ) تنعمون من الحبور وهو السرور والنعيم ، وقيل : تكرمون.
(فَسُبْحانَ اللهِ) هذا تعليم للعباد أي : قولوا سبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون (وَعَشِيًّا وَحِينَ
تُظْهِرُونَ) أي حين تدخلون في وقت الظهيرة وهي وسط النهار ، وقوله :
وله الحمد في السموات والأرض : اعتراض بين المعطوفات وقيل : أراد بذلك الصلوات
الخمس ، فحين تمسون : المغرب والعشاء ، وحين تصبحون : الصبح ، وعشيا : العصر ،
وحين تظهرون الظهر (يُخْرِجُ الْحَيَ) ذكر في آل عمران (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) أي ينبت فيها النبات (وَكَذلِكَ
تُخْرَجُونَ)
__________________
أي كما يخرج الله
النبات من الأرض ، كذلك يخرجكم من الأرض للبعث يوم القيامة (تَنْتَشِرُونَ) أي تنصرفون في الدنيا (مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً) أي صنفكم وجنسكم ، قيل أراد خلقة حواء من ضلع آدم ، وخاطب
الناس بذلك لأنهم ذرية آدم (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) قيل : بسبب المصاهرة ، والعموم أحسن وأبلغ (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي لغاتكم (وَأَلْوانِكُمْ) يعني البياض والسواد ، وقيل : يعني أصنافكم ، والأول أظهر.
(خَوْفاً وَطَمَعاً) ذكر في الرعد : ١٢ (أَنْ تَقُومَ
السَّماءُ وَالْأَرْضُ) معناه تثبت أو يقوم تدبيرها (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) إذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية وهي جواب الأولى ،
والدعوة في هذه الآية قوله للموتى : قوموا بالنفخة الثانية في الصور ، ومن الأرض
يتعلق بقوله مخرجون أو بقوله دعاكم ، على أن تكون الغاية بالنظر إلى المدعوّ كقولك
: دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل (قانِتُونَ) ذكر في [البقرة : ١١٦] (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) أي الإعادة يوم القيامة أهون عليه من الخلقة الأولى ، وهذا
تقريب لفهم السامع وتحقيق للبعث ، فإن من صنع صنعة أول مرة كانت أسهل عليه ثاني
مرة ، ولكن الأمور كلها متساوية عند الله ، فإن كل شيء على الله يسير (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف الأعلى الذي يصفه به أهل السموات والأرض (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ) هذا هو المثل المضروب معناه : أنكم أيها الناس لا يشارككم
عبيدكم في أموالكم ، ولا يستوون معكم في أحوالكم ، فكذلك الله تعالى لا يشارك
عبيده في ملكه ، ولا يماثله أحد في ربوبيته ، فذكر حرف الاستفهام ومعناه : التقرير
على النفي ، ودخل في النفي قوله : (فَأَنْتُمْ فِيهِ
سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : أي لستم في أموالكم سواء مع عبيدكم ، ولستم تخافونهم
__________________
كما تخافون
الأحرار مثلكم ، لأن العبيد عندكم أقل وأذل من ذلك (بَلِ اتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) الإضراب ببل عما تضمنه معنى الآية المتقدمة كأنه يقول :
ليس لهم حجة في إشراكهم بالله ؛ بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) هو دين الإسلام ، وإقامة الوجه في الموضعين من السورة
عبارة عن الإقبال عليه والإخلاص فيه في قوله : أقم ، والقيم ضرب من ضروب التجنيس (فِطْرَتَ اللهِ) منصوب على المصدر : كقوله : صبغة الله أو مفعولا بفعل مضمر
تقديره : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله ، ومعناه خلقة الله ، والمراد به
دين الإسلام ، لأن الله خلق الخلق عليه ، إذ هو الذي تقتضيه عقولهم السليمة ،
وإنما كفر من كفر لعارض أخرجه عن أصل فطرته ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه .
(لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) يعني بخلق الله الفطرة التي خلق الناس عليها من الإيمان ،
ومعنى أن الله لا يبدلها ، أي لا يخلق الناس على غيرها ، ولكن يبدلها شياطين الإنس
والجن بعد الخلقة الأولى ، أو يكون المعنى أن تلك الفطرة لا ينبغي للناس أن
يبدلوها ، فالنفي على هذا حكم لا خبر وقيل : إنه على الخصوص في المؤمنين ؛ أي لا
تبديل لفطرة الله في حق من قضى الله أنه يثبت على إيمانه ، وقيل : إنه نهى عن
تبديل الخلقة كخصاء الفحول من الحيوان ، وقطع آذانها وشبه ذلك (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) منصوب على الحال من قوله : أقم وجهك لأن الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والمراد هو وأمته ، ولذلك جمعهم في قوله منيبين ، وقيل :
هو حال من ضمير الفاعل المستتر في الزموا فطرة الله ، وقيل : هو حال من قوله : فطر
الناس وهذا بعيد (وَاتَّقُوهُ) وما بعده معطوف على أقم وجهك أو على العامل في فطرة الله
وهو الزموا المضمر (مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ) المجرور بدل من المجرور قبله ، ومعنى فرقوا دينهم : جعلوه
فرقا أي اختلفوا فيه ، وقرئ : فارقوا من المفارقة أي تركوه ، والمراد بالمشركين
هنا أصناف الكفار ، وقيل : هم المسلمون الذي تفرقوا فرقا مختلفة ، وفي لفظ
المشركين هنا تجوّز بعيد ، ولعل قائل هذا القول إنما قاله في قول الله في [الأنعام
: ١٥٩] «إن الذين فرقوا دينهم» فإنه ليس هناك ذكر المشركين (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) بالآية : إنحاء على المشركين ، لأنهم يدعون الله في
__________________
الشدائد ويشركون
به في الرخاء (لِيَكْفُرُوا) ذكر في [النحل : ٥٥] (أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أم هنا منقطعة بمعنى بل ، والسلطان الحجة ، وكلامه مجاز
كما تقول نطق : بكذا ، والمعنى ليس لهم حجة تشهد بصحة شركهم (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) إنحاء على من يفرح ويبطر إذا أصابه الخير ، ويقنط إذا
أصابه الشر ، وانظر كيف قال هنا إذا ، وقال في الشر إن تصبهم سيئة ، لأن إذا للقطع
بوقوع الشرط ، بخلاف إن فإنها للشك في وقوعه ، ففي ذلك إشارة إلى أن الخير الذي
يصيب به عباده أكثر من الشرّ (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) المعنى أن ما يصيب الناس من المصائب ، فإنه بسبب ذنوبهم (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) يعني صلة رحم القرابة بالإحسان والمودّة ، ولو بالكلام
الطيب.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) الآية : معناها كقوله (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧] أي
ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يزكو عند الله ، وما آتيتم من الصدقات :
فهو الذي يزكو عند الله وينفعكم به ، وقيل : المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له
ليعوض له أكثر من ذلك ، فهذا وإن كان جائزا فإنه لا ثواب فيه. وقرئ «وما آتيتم»
بالمد بمعنى أعطيتم وبالقصر يعني : جئتم أي فعلتموه ، [وقرأ نافع] لتربوا
بالتاء المضمومة [والباقون] ليربوا بالياء مفتوحة ونصب الواو (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) المضعف ذو الإضعاف من الحسنات ، وفي هذه الجملة التفات
لخروجه من الغيبة إلى الخطاب ، وكان الأصل أن يقال : وما آتيتم من زكاة فأنتم
المضعفون ، وفيه أيضا حذف ، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما ، وتقديره المضعفون به
أو فمؤتوه هم المضعفون.
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قيل : البر البلاد البعيدة من البحر ، والبحر هو البلاد
التي على ساحل البحر ، وقيل : البر اللسان والبحر القلب وهذا ضعيف ، والصحيح أن
البر والبحر المعروفان ، فظهور الفساد في البر بالقحط والفتن وشبه ذلك ، وظهور
الفساد في البحر بالغرق وقلة الصيد وكساد التجارات وشبه ذلك ، وكل ذلك بسبب ما
يفعله الناس من
__________________
الكفر والعصيان (لا مَرَدَّ لَهُ) أي لا رجوع له ولا بد من وقوعه (مِنَ اللهِ) يتعلق بقوله : يأتي أو بقوله لا مردّ له أي لا يرده الله (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) من الصدع وهو الفرقة أي يتفرقون : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطنون وهو استعارة من تمهيد الفراش ونحوه ، والمعنى
أنهم يعملون ما ينتفعون به في الآخرة (لِيَجْزِيَ) يتعلق بيمهدون أو يصدعون ، أو بمحذوف (مُبَشِّراتٍ) أي تبشر بالمطر (وَلِيُذِيقَكُمْ) عطف على مبشرات كأنه قال : ليبشركم وليذيقكم ويحتمل أن
يتعلق بمحذوف تقديره : ليذيقكم (مِنْ رَحْمَتِهِ) أرسلها (وَكانَ حَقًّا) انتصب حقا لأنه خبر كان واسمها نصر المؤمنين ، وقيل :
اسمها مضمر يعود على مصدر انتقمنا : أي وكان الانتقام حقا ، فعلى هذا يوقف على حقا
ويكون نصر المؤمنين مبتدأ وهذا ضعيف.
(فَتُثِيرُ سَحاباً) أي تحركها وتنشرها (كِسَفاً) أي قطعا ، وقرئ بإسكان السين وهما بناءان للجمع ، وقيل :
معنى الإسكان أن السحاب قطعة واحدة (الْوَدْقَ) هو المطر (مِنْ خِلالِهِ) الخلال الشقاق الذي بين بعضه وبعض ، لأنه متخلل الأجزاء
والضمير يعود على السحاب (مِنْ قَبْلِهِ) كرر للتأكيد وليفيد سرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى
الاستبشار (لَمُبْلِسِينَ) أي قانطين كقوله : ينزل الغيث من بعد ما قنطوا (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) الضمير للنبات الذي ينبته الله بالمطر ، والمعنى لئن أرسل
الله ريحا فاصفر به النبات لكفر الناس بالقنوط والاعتراض على الله ، وقيل : الضمير
للريح ، وقيل : للسحاب والأول أحسن في المعنى (فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى) الآية : استعارة في عدم سماع الكفار للمواعظ والبراهين ،
فشبه الكفار بالموتى في عدم إحساسهم (خَلَقَكُمْ مِنْ
ضَعْفٍ) الضعف الأول كون الإنسان من
ماء مهين ، وكونه
ضعيف في حال الطفولية ، والضعف الثاني الأخير الهرم ، وقرئ بفتح الضاد وضمها وهما لغتان.
(ما لَبِثُوا غَيْرَ
ساعَةٍ) هذا جواب القسم ، ومعناه أنهم يحلفون أنهم ما لبثوا في
القبور تحت التراب إلا ساعة ، أي ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة ، وذلك لاستقصار تلك
المدّة (كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ) أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق ،
والتحقيق حتى يروا الأشياء على ما هي عليه (وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردّوا مقالة الكفار التي
حلفوا عليها (فِي كِتابِ اللهِ) يعني اللوح المحفوظ أو علم الله ، والمجرور على هذا يتعلق
بقوله : لبثتم ، وقيل : يعني القرآن ، فعلى هذا يتعلق هذا المجرور بقوله أوتوا
العلم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره على هذا : قال الذين أوتوا العلم في
كتاب الله أي العلماء بكتاب الله وقولهم : لقد لبثتم : خطاب للكفار ، وقولهم :
فهذا يوم البعث : تقرير لهم ، وهو في المعنى جواب لشرط مقدّر تقديره : إن كنتم
تنكرون البعث فهذا يوم البعث (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) من العتبى بمعنى الرضا : أي ولا يرضون وليست استفعل هنا
للطلب (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌ) يعني ما وعد من النصر على الكفار (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) من الخفة : أي لا تضطرب لكلامهم.
__________________
سورة لقمان
مكية
إلا الآيات ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ فمدنية وآياتها ٣٤ نزلت بعد الصافات
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة لقمان) (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ذكر في يونس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) هو الغناء ، وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : شراء المغنيات وبيعهنّ حرام ، وقرأ هذه الآية ، وقيل :
نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فالشراء على هذا حقيقة ، وقيل : نزلت في النضر بن الحارث
، وكان قد تعلم أخبار فارس ، فذلك هو لهو الحديث ، وشراء لهو الحديث استحبابه
وسماعه ، فالشراء على هذا مجاز ، وقيل لهو الحديث : الطبل ، وقيل : الشرك ، ومعنى
اللفظ يعم ذلك كله ، وظاهر الآية أنه لهو مضاف إلى الكفر بالدين واستخفاف ، لقوله
تعالى : (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) الآية ، وأن المراد شخص معين ، لوصفه بعد ذلك بجملة أوصاف (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ذكر في [الرعد : ٢] (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي لئلا تميد بكم.
(لُقْمانَ) رجل ينطق بالحكمة واختلف هل هو نبيّ أم لا؟ وفي الحديث لم
يكن لقمان نبيا ، ولكن كان عبدا حسن اليقين أحب الله فأحبه ، فمنّ عليه بالحكمة ،
روي أنه كان
__________________
ابن أخت أيوب أو
ابن خالته ، وروي أنه كان قاضي بني إسرائيل ، واختلف في صناعته ، فقيل : كان نجارا
وقيل : خياطا ، وقيل : راعي غنم ، وكان ابنه كافرا فما زال يوصيه حتى أسلم ، وروي
أن اسم ابنه ثاران (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ) هذه الآية والتي بعدها اعتراض في أثناء وصية لقمان لابنه ؛
على وجه التأكيد لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بالله ، ونزلت الآية في سعد
بن أبي وقاص وأمه حسبما ذكرنا في العنكبوت (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما عظم ازدادت الحامل به
ضعفا ، وانتصاب وهنا بفعل مضمر تقديره : تهن وهنا (وَفِصالُهُ) أي فطامه ، وأشار بذلك إلى غاية مدة الرضاع (أَنِ اشْكُرْ) تفسير للوصية واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله : وفصاله في
عامين ليبين ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها ، ولذلك كان حقها أعظم من
حق الأب.
(يا بُنَيَ) الآية : رجع إلى كلام لقمان ، والتقدير : وقال لقمان يا
بنيّ (مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ) أي وزنها ، والمراد بذلك أن الله يأتي بالقليل والكثير ،
من أعمال العباد فعبّر بحبة الخردل ليدل على ما هو أكثر (فِي صَخْرَةٍ) قيل : معنى الكلام أن مثقال خردلة من الأعمال أو من
الأشياء ولو كانت في أخفى موضع كجوف صخرة ، فإن الله يأتي بها يوم القيامة ، وكذلك
لو كانت في السموات أو في الأرض (وَاصْبِرْ عَلى ما
أَصابَكَ) أمر بالصبر على المصائب عموم ، وقيل : المعنى ما يصيب من
يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر (مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ) يحتمل أن يريد مما أمر الله به على وجه العزم والإيجاب ،
أو من مكارم الأخلاق التي يعزم عليها أهل الحزم والجد ، ولفظ العزم مصدر يراد به
المفعول أي : من معزومات الأمور (وَلا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ) الصعر في اللغة : الميل أي لا تول الناس خدك وتعرض عنهم
تكبرا عليهم (مَرَحاً) ذكر في [الإسراء : ٣٧] (مُخْتالاً) من الخيلاء (وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ) أي اعتدل فيه ولا تتسرع
__________________
إسراعا يدل على
الطيش والخفة ، ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر (نِعَمَهُ ظاهِرَةً
وَباطِنَةً) الظاهرة : الصحة والمال وغير ذلك ، والباطنة : النعم التي
لا يطلع عليها الناس ، ومنها ستر القبيح من الأعمال ، وقيل : الظاهرة نعم الدنيا ،
والباطنة : نعم العقبى ، واللفظ أعم من ذلك كله.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ) نزلت في النضر بن الحارث وأمثاله (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ
إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) يسلم أي يخلص أو يستسلم أو ينقاد ، والوجه هنا عبارة عن
القصد (بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقى) ذكر في البقرة (قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) وما بعده ذكر في العنكبوت.
(وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية إخبار بكثرة كلمات الله ، والمراد اتساع علمه ومعنى
الآية : أن شجر الأرض لو كانت أقلاما ، والبحر لو كان مدادا يصب فيه سبعة أبحر
صبّا دائما وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله ،
لأن الأشجار والبحار متناهية ، وكلمات الله غير متناهية ، فإن قيل : لم لم يقل
والبحر مدادا كما قال في الكهف قل لو كان البحر مدادا؟ فالجواب : أنه أغنى عن ذلك
قوله : يمدّه لأنه من قولك مدّ الدواة وأمدّها ، فإن قيل لم قال : من شجرة ولم يقل
من شجر باسم الجنس الذي يقتضي العموم؟ فالجواب أنه أراد تفصيل الشجر إلى شجرة شجرة
حتى لا يبقى منها واحدة ، فإن قيل : لم قال كلمات الله ولم يقل كلم الله بجمع
الكثرة؟ فالجواب أن هذا أبلغ لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنه جمع قلة ، فكيف ينفد
الجمع الكثير. وروي أن سبب الآية أن اليهود قالوا : قد أوتينا التوراة وفيها العلم
كله فنزلت الآية ؛ لتدل أن ما عندهم قليل من كثير ، والآية على هذا مدنية ، وقيل :
إن سببها أن قريشا قالوا إن القرآن سينفد.
(ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) بيان لقدرة الله على بعث الناس وردّ على
من استبعد ذلك (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخل كلا منهما في الآخر بما يزيد في أحدهما وينقص من
الآخر ، أو بإدخال ظلمة الليل على ضوء النهار وإدخال ضوء النهار على ظلمة الليل (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) يحتمل أن تكون الباء سببية ، أو يكون المعنى ذلك بأن الله
شاهد هو الحق (بِنِعْمَتِ اللهِ) يحتمل أن يريد بذلك ما تحمله السفن من الطعام والتجارات ،
والباء للإلصاق أو للمصاحبة ، أو يريد الريح فتكون الباء سببية (صَبَّارٍ شَكُورٍ) مبالغة في صابر وشاكر (كَالظُّلَلِ) جمع ظلة وهو ما يعلوك من فوق ، شبّه الموج بذلك إذا ارتفع
وعظم حتى علا فوق الإنسان (فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ) المقتصد المتوسط في الأمر ، فيحتمل أن يريد كافرا متوسطا
في كفره لم يسرف فيه أو مؤمنا متوسطا في إيمانه ، لأن الإخلاص الذي عليه في البحر
كان يزول عنه ، وقيل : معنى مقتصد مؤمن ثبت في البر على ما عاهد الله عليه في
البحر (خَتَّارٍ) أي غدّار شديد الغدر ، وذلك أنه جحد نعمة الله غدرا (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يقضي عنه شيئا ، والمعنى : أنه لا ينفعه ولا يدفع
عنه مضرة (وَلا مَوْلُودٌ) أي ولد فكما لا يقدر الوالد لولده على شيء ، كذلك لا يقدر
الولد لوالده على شيء (الْغَرُورُ) الشيطان وقيل : الأمل والتسويف (عِلْمُ السَّاعَةِ) أي متى تكون ، فإن ذلك مما انفرد الله بعلمه ، ولذلك جاء
في الحديث : مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) يعني من خير أو شر أو مال أو ولد أو غير ذلك.
__________________
سورة السجدة
مكية
إلا من آية ١٦ إلى غاية ٢٠ فمدنية وآياتها ٣٠ نزلت بعد المؤمن
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة السجدة) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) يعني القرآن (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك أنه من عند الله عزوجل ، ونفي الريب على اعتقاد أهل الحق ، وعلى ما هو الأمر في
نفسه ، لا على اعتقاد أهل الباطل (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) يتعلق بتنزيل (أَمْ يَقُولُونَ) الضمير لقريش وأم
بمعنى بل ، والهمزة (لِتُنْذِرَ) يتعلق بما قبله أو بمحذوف (ما أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ) يعني من الفترة من زمن عيسى ، وقد جاء الرسل قبل ذلك
إبراهيم وغيره ، ولما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله رسولا ينذرهم ليقيم الحجة
عليهم (اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) قد ذكر في [الأعراف : ٥٣] (ما لَكُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) نفي الشفاعة على وجهين أحدهما الشفاعة للكفار وهي معدومة
على الإطلاق ، والآخر : أن الشفاعة للمؤمنين لا تكون إلا بإذن الله كقوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ
إِذْنِهِ) [يونس : ٣] (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي واحد الأمور ، وقيل : المأمور به من الطاعات ، والأول
أصح (مِنَ السَّماءِ إِلَى
الْأَرْضِ) أي ينزل ما دبره وقضاه من السماء إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال ابن عباس : المعنى ينفذ الله ما قضاه من السماء إلى
الأرض ، ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا مقداره لو سير فيه السير
المعروف من البشر ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام ، فالألف ما بين
نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء ، وقيل : إن الله يلقى إلى الملائكة أمور
ألف سنة من أعوام البشر وهو يوم من أيام الله ، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها ،
فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدّة ، ثم تصير إليه آخرا لأن عاقبة الأمور
إليه ، فالعروج على هذا عبارة عن مصير الأمور إليه (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) الغيب ما غاب عن
المخلوقين ،
والشهادة ما شاهدوه (أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أتقن جميع المخلوقات ، وقرئ [خلقه] بإسكان اللام على
البدل (وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني آدم عليهالسلام (نَسْلَهُ) يعني ذريته (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
ماءٍ مَهِينٍ) يعني المنيّ ، والسلالة مشتقة من سل يسل ، فكأن الماء يسل
من الإنسان ، والمهين الضعيف (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي قوّمه (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ) عبارة عن إيجاد الحياة فيه ، وأضيفت الروح إلى الله إضافة
ملك إلى ملك ، وقد يراد بها الاختصاص ، لأن الروح لا يعلم كنهه إلى الله (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي تلفنا وصرنا ترابا ، ومعنى هذا الكلام المحكي عن الكفار
استبعاد البعث ، والعامل في إذا معنى قولهم : إنا لفي خلق جديد تقديره : نبعث (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) اسمه عزرائيل وتحت يده ملائكة (وَلَوْ تَرى) يحتمل أن تكون لو للتمني ، وتأويله في حق الله كتأويل
الترجي ، وقد ذكر ، أو تكون للامتناع وجوابها محذوف تقديره : ولو ترى حال المجرمين
في الآخرة لرأيت أمرا مهولا (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) عبارة عن الذل والغم والندم (رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا) تقديره : يقولون ربنا قد علمنا الحقائق (لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ
هُداها) يعني أنه لو أراد أن يهدي جميع الخلائق لفعل ، فإنه قادر
على ذلك بأن يجعل الإيمان في قلوبهم ويدفع عنهم الشيطان والشهوات ، ولكن يضل من
يشاء ويهدي من يشاء (فَذُوقُوا بِما
نَسِيتُمْ) أي يقال لهم : ذوقوا ، والنسيان هنا بمعنى الترك.
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضاجِعِ) أي ترتفع والمعنى يتركون مضاجعهم بالليل من كثرة صلاتهم
النوافل ، ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه من هذا (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) يعني : أنه لا يعلم أحد مقدار ما يعطيهم الله من النعيم
وقرأ حمزة أخفي بإسكان الياء على أن يكون فعل المتكلم وهو الله تعالى (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) الآية : يعني المؤمنين والفاسقين على العموم ، وقيل : يعني
عليّ بن أبي طالب
وعقبة بن أبي معيط
(ذُوقُوا عَذابَ
النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) الذي نعت بالعذاب ، ولذلك أعاد عليه الضمير المذكور في
قوله به ، فإن قيل : لم وصف هنا العذاب وأعاد عليه الضمير ، ووصف في سبأ النار وأعاد
عليها الضمير ، وقال عذاب النار التي كنتم بها تكذبون؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول أنه خص العذاب في السجدة بالوصف اعتناء به لما تكرر ذكره في قوله :
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ، والثاني : أنه قدم في السجدة ذكر
النار ، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ الضمير ، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر
فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه وهو النار ، ووصف العذاب ولم يصف النار
، الثالث وهو الأقوى أنه امتنع في السجدة وصف النار فوصف العذاب ، وإنما امتنع
وصفها لتقدم ذكرها ، فإنك إذا ذكرت شيئا ثم كررت ذكره لم يجز وصفه ، كقولك : رأيت
رجلا فأكرمت الرجل ، فلا يجوز وصفه لئلا يفهم أنه غيره.
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) يعني الجوع ومصائب الدنيا وقيل : القتل يوم بدر ، وقيل :
عذاب القبر وهذا بعيد لقوله («لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ» إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) هذا وعيد لمن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها ، وكان الأصل أن
يقول : إنا منه منتقمون ، ولكنه وضع المجرمين موضع المضمر ليصفهم بالإجرام ، وقدّم
المجرور في منتقمون للمبالغة (فَلا تَكُنْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) المرية الشك ، والضمير لموسى : أي لا تمتر في لقائك موسى
ليلة الإسراء وقيل : المعنى لا تشك في لقاء موسى ، والكتاب الذي أنزل عليه ،
والكتاب على هذا التوراة ، وقيل : الكتاب هنا جنس ، والمعنى : لقد آتينا موسى
الكتاب فلا تشك أنت في لقائك الكتاب الذي أنزل عليك ، وعبر باللقاء عن إنزال الكتاب
كقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ) [النمل : ٦] (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) الضمير لجميع الخلق ، وقيل : لبني إسرائيل خاصة (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) ذكر في [طه : ١٢٨] (يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ) الضمير في يمشون لأهل مكة : أي يمشون في مساكن القوم المهلكين
: كقوله (وَقَدْ تَبَيَّنَ
لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) [العنكبوت : ٣٨]
وقيل : الضمير للمهلكين : أي أهلكناهم وهم يمشون في
مساكنهم ، والأول
أحسن ، لأن فيه حجة على أهل مكة (الْأَرْضِ الْجُرُزِ) يعني التي لا نبات فيها من شدّة العطش (مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي الحكم بين المسلمين والكفار في الآخرة ، وقيل : يعني
فتح مكة ، وهذا بعيد لقوله (قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) وذلك في الآخرة ، وقيل : يعني فتح مكة ، لأن من آمن يوم
فتح مكة نفعه إيمانه (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) منسوخ بالسيف (وَانْتَظِرْ
إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي انتظر هلاكهم إنهم ينتظرون هلاكك ، وفي هذا تهديد لهم.
سورة الأحزاب
مدنية
وآياتها ٧٣ نزلت بعد آل عمران
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الأحزاب) (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) نداء فيه تكريم له ، لأنه ناداه بالنبوّة ، ونادى سائر
الأنبياء بأسمائهم (اتَّقِ اللهَ) أي دم على التقوى وزد منها (وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي لا تقبل أقوالهم وإن أظهروا أنها نصيحة ، ويعني
بالكافرين المظهرين للكفر ، وبالمنافقين الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ، وروي
أن الكافرين هنا. أبيّ بن خلف ، والمنافقين هنا : عبد الله بن أبيّ بن سلول ،
والعموم أظهر.
(ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال ابن عباس : كان في قريش رجل يقال له ذو القلبين لشدّة
فهمه ، فنزلت الآية نفيا لذلك وقيل : إنما جاء هذا اللفظ توطئة لما بعده من النفي
، أي كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا
أدعياءكم أبناءكم (اللَّائِي
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ) أي تقولون للزوجة : أنت عليّ كظهر أمي ، وكانت العرب تطلق
هذا اللفظ بمعنى التحريم ، ويأتي حكمه في سورة المجادلة ، وإنما تعدى هذا الفعل
بمن لأنه يتضمن معنى يتباعدون منهنّ (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) الأدعياء جمع دعيّ ، وهو الذي يدعى ولد فلان وليس بولده ،
وسببها أمر زيد بن حارثة : وذلك أنه كان فتى من [قبيلة] كلب ، فسباه بعض العرب
وباعه من خديجة ، فوهبته للنبي صلىاللهعليهوسلم فتبناه ؛ فكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزلت هذه الآية (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ) الإشارة إلى نسبة الدعي إلى غير أبيه ، أو إلى كل ما تقدم
من
__________________
المنفيات ، وقوله
: (بِأَفْواهِكُمْ) تأكيد لبطلان القول (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ) الضمير للأدعياء ، أي انسبوهم لآبائهم الذين ولدوهم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يقتضي أن يحبوه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أكثر
مما يحبون أنفسهم ، وأن ينصروا دينه أكثر مما ينصرون أنفسهم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) جعل الله تعالى لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله
وسلم حرمة الأمهات ؛ في تحريم نكاحهن ووجوب مبرتهن ، ولكن أوجب حجبهن عن الرجال.
(وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) هذا نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بأخوة الإسلام
، وبالهجرة وقد تكلمنا عليها في الأنفال (فِي كِتابِ اللهِ) يحتمل أن يريد القرآن ، أو اللوح المحفوظ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون بيانا لأولى الأرحام أو يتعلق بأولي : أي
أولو الأرحام أولى بالميراث من المؤمنين ، الذين ليسوا بذوي أرحام (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى
أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) يريد الإحسان إلى الأولياء الذين ليسوا بقرابة ، ونفعهم في
الحياة والوصية لهم عند الموت فذلك جائز ، ومندوب إليه ، وإن لم يكونوا قرابة ،
وأما الميراث فللقرابة خاصة ، واختلف هل يعني بالأولياء المؤمنين خاصة ، أو
المؤمنين والكافرين؟ (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) يعني القرآن أو اللوح المحفوظ (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ) هو الميثاق بتبليغ الرسالة والقيام بالشرائع ، وقيل : هو
الميثاق الذي أخذه حين أخرج بني آدم من صلب آدم كالذر ، والأول أرجح لأنه هو
المختص بالأنبياء (وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ) قد دخل هؤلاء في جملة النبيين ، ولكنه خصهم بالذكر تشريفا
لهم ، وقدم محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم تفضيلا له (مِيثاقاً غَلِيظاً) يعني الميثاق المذكور ، وإنما كرره تأكيدا ، وليصفه بأنه
غليظ أي وثيق ثابت يجب الوفاء به (لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ) اللام تحتمل أن تكون لام كي أو لام الصيرورة ، والصدق هنا
يحتمل أن يكون الصدق في الأقوال ، أو الصدق في الأفعال والعزائم ويحتمل أن يريد
بالصادقين الأنبياء وغيرهم من المؤمنين.
(اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة غزوة الخندق ، والجنود
المذكورة هم قريش ومن كان معهم من الكفار ، وسماهم الله في هذه السورة الأحزاب ،
وكانوا نحو عشرة آلاف ، حاصروا المدينة وحفر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الخندق حولها ؛ ليمنعهم من دخولها (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) أرسل الله عليهم ريح الصبا ، فأطفأت نيرانهم وأكفأت قدورهم
، ولم يمكنهم معها قرار فانصرفوا خائبين
(وَجُنُوداً لَمْ
تَرَوْها) يعني الملائكة (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها ، وقيل : معنى من
فوقكم أهل نجد ، لأن أرضهم فوق المدينة ومن أسفل منكم أهل مكة وسائر تهامة (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي مالت عن مواضعها وذلك عبارة عن شدة الخوف (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) جمع حنجرة وهي الحلق وبلوغ القلب إليها مجاز ، وهو عبارة
عن شدّة الخوف وقيل : بل هي حقيقة ، لأن الرئة تنتفخ من شدة الخوف ، فتربو ويرتفع
القلب بارتفاعها إلى الحنجرة (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا) أي : تظنون أن الكفار يغلبونكم ، وقد وعدكم الله بالنصر
عليهم ، فأما المنافقون فظنوا ظن السوء وصرحوا به ، وأما المؤمنون فربما خطرت
لبعضهم خطرة مما لا يمكن البشر دفعها ، ثم استبصروا ووثقوا بوعد الله ، وقرأ نافع [وابن
عامر] الظنونا ، والرسولا ، والسبيلا ، بالألف في الوصل وفي الوقف ، وقرأ [ابن
كثير والكسائي وحفص] بإسقاطها في الوصل دون الوقف ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإسقاطها
في الوقف دون الوصل فأما إسقاطها فهو الأصل وأما إثباتها فلتعديل رؤوس الآي لأنها
كالقوافي ، وتقتضي هذه العلة أن تثبت في الوقف خاصة ، وأما من أثبتها في الحالين ،
فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبروا أو أصابهم بلاء ، والعامل في الظرف ابتلى وقيل
: ما قبله (وَزُلْزِلُوا) أصل الزلزلة شدة التحريك وهو هنا عبارة عن اضطراب القلوب (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) روي أنه معتب بن قشير (وَإِذْ قالَتْ
طائِفَةٌ) قال السهيلي : الطائفة تقع على الواحد فما فوقه ، والمراد
هنا أوس بن قبطي (يا أَهْلَ يَثْرِبَ
لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) يثرب اسم المدينة وقيل : اسم البقعة التي المدينة في طرف
منها ، ومقام اسم موضع من القيام ، أي : لإقرار لكم هنا يعنون موضع القتال وقرئ بالضم وهو اسم موضع من الإقامة ، وقولهم : فارجعوا أي إلى
منازلكم بالمدينة ودعوا القتال (وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) أي يستأذنه في الانصراف والمستأذن أوس بن قبطي وعشيرته
وقيل : بنو حارثة (إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ) أي منكشفة للعدوّ وقيل : خالية للسراق فكذبهم الله في ذلك (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ
أَقْطارِها) أي لو دخلت عليهم المدينة من جهاتها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) يريد بالفتنة الكفر أو قتال المسلمين (لَآتَوْها) قرئ بالقصر بمعنى جاءوا إليها وبالمدّ بمعنى
__________________
أعطوها من أنفسهم (وَما تَلَبَّثُوا بِها) الضمير للمدينة (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) دخلت قد على الفعل المضارع بمعنى التهديد ، وقيل : للتعليل
على وجه التهكم (الْمُعَوِّقِينَ
مِنْكُمْ) أي الذين يعوّقون الناس عن الجهاد ، ويمنعونهم منه
بأقوالهم وأفعالهم (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ
هَلُمَّ إِلَيْنا) هم المنافقون الذين قعدوا بالمدينة عن الجهاد ، وكانوا
يقولون لقرابتهم أو للمنافقون مثلهم : هلم إلى الجلوس معنا بالمدينة وترك القتال ،
وقد ذكر هلم في [الأنعام : ١٥٠].
(وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) البأس القتال ، وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا
إتيانا قليلا ، أو مستثنى من فاعل يأتون : أي إلا قليلا منهم (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أشحة جمع شحيح بوزن فعيل ، معناه يشحون بأنفسهم فلا
يقاتلون ، وقيل : يشحون بأموالهم ، وقيل : معناه أشحة عليكم وقت الحرب ، أي يشفقون
أن يقتلوا. ونصب أشحة على الحال من القائلين ، أو على المعوقين ، أو من الضمير في
يأتون ، أو نصب على الذم (فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي إذا اشتدّ الخوف من الأعداء. نظر إليك هؤلاء في تلك
الحالة ولاذوا بك من شدة خوفهم (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) عبارة عن شدة خوفهم (فَإِذا ذَهَبَ
الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) السلق بالألسنة عبارة عن الكلام بكلام مستكره ، ومعنى حداد
: فصحاء قادرين على الكلام ، وإذا نصركم الله فزال الخوف رجع المنافقون إلى إذايتكم
بالسب وتنقيص الشريعة ، وقيل : إذا غنمتم طلبوا من الغنائم (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي يشحون بفعل الخير وقيل : يشحون بالمغانم ، وانتصابه هنا
على الحال من الفاعل في سلقوكم (لَمْ يُؤْمِنُوا
فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) ليس المعنى أنها حبطت بعد ثبوتها ، وإنما المعنى أنها لم
تقبل ، لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال ، وقيل : إنهم نافقوا بعد أن آمنوا ،
فالإحباط على هذا حقيقة.
(يَحْسَبُونَ
الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) الأحزاب هنا هم كفار قريش ، ومن معهم ، فالمعنى أن
المنافقين من شدة جزعهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا عن المدينة ، وهم قد انصرفوا (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا
لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) معنى يودّوا يتمنوا ، وبادون : خارجون في البادية ،
والأعراب : هم أهل البوادي من العرب ، فمعنى الآية : أنه إن أتى الأحزاب إلى
المدينة مرة أخرى ؛ تمنى هؤلاء المنافقون من شدة جزعهم أن يكونوا في البادية
مع الأعراب ، وأن
لا يكونوا في المدينة بل غائبين عنها يسألون من ورد عليهم على أنبائكم.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي قدوة تقتدون به صلىاللهعليهوسلم في اليقين والصبر وسائر الفضائل ، وقرئ أسوة بضم الهمزة والمعنى واحد (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) قيل : إن هذا الوعد ما أعلمهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين أمر بحفر الخندق من أن الكفار ينزلون ، وأنهم ينصرفون
خائبين ، وقيل : إنه قول الله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) [البقرة : ٢١٤]
الآية ، فعلموا أنهم يبتلون ثم ينصرون (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ) يعني : قتل شهيدا قال أنس بن مالك : يعني عمي أنس بن النضر
، وقيل : يعني حمزة بن عبد المطلب ، وقضاء النحب عبارة عن الموت عند ابن عباس
وغيره ، وقيل : قضى نحبه : وفي العهد الذي عاهد الله عليه ، ويدل على هذا ما ورد
أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال «طلحة ممن قضى نحبه» وهو لم يقتل حينئذ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) المفعول محذوف : أي ينتظر أن يقضي نحبه ، أو ينتظر الشهادة
في سبيل الله على قول ابن عباس ، أو ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح
على القول الآخر (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) الصياصي هي الحصون ، ونزلت الآية في يهود بني قريظة ، وذلك
أنهم كانوا معاهدين لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فنقضوا عهده وصاروا مع قريش ، فلما انصرفت قريش عن المدينة
حصر رسول الله بني قريظة ، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ ؛ فحكم بأن يقتل رجالهم
ويسبى نساؤهم وذريتهم (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) يعني الرجال وقتل منهم يومئذ كل من أنبت وكانوا بين ثمانمائة أو تسعمائة (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) يعني النساء والذرية (وَأَوْرَثَكُمْ
أَرْضَهُمْ) يعني أرض بني قريظة قسمها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين المهاجرين (وَأَرْضاً لَمْ
تَطَؤُها) هذا وعد بفتح أرض لم يكن المسلمون قد وطئوها حينئذ ، وهي
مكة واليمن والشام والعراق ومصر ، فأورث الله المسلمين جميع ذلك وما وراءها إلى
أقصى المشرق والمغرب ، ويحتمل عندي
__________________
أن يريد أرض بني
قريظة ، لأنه قال : أورثكم بالفعل الماضي ، وهي التي كانوا أخذوها حينئذ ، وأما
غيرها من الأرضين ، فإنما أخذوها بعد ذلك فلو أرادها لقال : يورثكم إنما كررها
بالعطف ليصفها بقوله : (لَمْ تَطَؤُها) : أي لم تدخلوها قبل ذلك.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها) الآية : سببها أن أزواج رسول الله صلىاللهعليهوسلم تغايرن حتى غمه ذلك وقيل : طلبن منه الملابس ونفقات كثيرة
، وكان أزواجه يومئذ تسع نسوة ؛ خمس من قريش وهنّ : عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي
الله عنه ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسودة بنت زمعة ، وأم حبيبة بنت
أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية المخزومي وأربع من غير قريش وهنّ ميمونة بنت
الحارث الهلالية ، وصفية بنت حييّ من بني إسرائيل وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية
بنت الحارث من بني المصطلق (فَتَعالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أصل : تعال أن يقوله من كان في موضع مرتفع لمن في موضع
منخفض ، ثم استعملت بمعنى أقبل في جميع الأمكنة ؛ وأمتعكن من المتعة وهي الإحسان
إلى المرأة إذا طلقت والسراح الطلاق ، فمعنى الآية : أن الله أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يخيّر نساءه بين الطلاق والمتعة إن أرادوا زينة الدنيا
، وبين البقاء في عصمته إن أرادوا الآخرة ، فبدأ صلىاللهعليهوسلم بعائشة : فاختارت البقاء في عصمته ، ثم تبعها سائرهن في
ذلك ، فلم يقع طلاق ، وقالت عائشة : خيّرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاخترناه ولم يعد ذلك طلاقا ، وإذا اختارت المخيرة الطلاق
: فمذهب مالك أنه ثلاث ، وقيل : طلقة بائنة ، وقيل : طلقة رجعية ووصف السراح
بالجميل : يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث ، أو يريد أنه ثلاث ، وجماله : حسن الرعي
والثناء وحفظ العهد (لِلْمُحْسِناتِ
مِنْكُنَ) من للبيان لا للتبعيض ، لأن جميعهنّ محسنات (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قيل : يعني الزنا ، وقيل : يعني عصيان زوجهن عليه الصلاة
والسلام ، أو تكليفه ما يشق عليه ، وقيل : عموم في المعاصي (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أي يكون عذابها في الآخرة مثل عذاب غيرها مرتين ، وإنما
ذلك لعلوّ رتبتهن ، لأن كل أحد يطالب على مقدار حاله ، وقرأ أبو عمرو يضعّف بالياء
ورفع العذاب على البناء للمفعول ، وقرأ ابن عامر وابن كثير : نضعّف ونصب العذاب
على البناء للفاعل (وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) قرئ بالياء حملا على لفظ من وبالتاء حملا على المعنى ، وكذلك
تعمل ، والقنوت هنا بمعنى الطاعة (نُؤْتِها أَجْرَها
مَرَّتَيْنِ) أي يضاعف لها
__________________
ثواب الحسنات (رِزْقاً كَرِيماً) يعني الجنة ، وقيل : في الدنيا ، والأوّل هو الصحيح.
(لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) فضلهن الله على النساء بشرط التقوى ، وقد حصل لهن التقوى
فحصل التفضيل على جميع النساء ، إلا أنه يخرج من هذا العموم فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون لشهادة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لكل واحدة منهن بأنها سيدة نساء عالمها (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) نهى عن الكلام ، اللين الذي يعجب الرجال ويميلهن إلى
النساء (فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي فجور وميل للنساء ، وقيل : هو النفاق ، وهذا بعيد في
هذا الموضع (وَقُلْنَ قَوْلاً
مَعْرُوفاً) هو الصواب من الكلام أو الذي ليس فيه شيء مما نهى عنه (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) قرئ بكسر القاف ، ويحتمل وجهين : أن يكون من الوقار أو من
القرار في الموضع ، ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام في ظلت ، وأما القراءة
بالفتح فمن القرار في الموضع على لغة من يقول قررت بالكسر أقر
بالفتح ، والمشهور في اللغة عكس ذلك ، وقيل : هي من قار يقار إذا اجتمع ، ومعنى
القرار أرجح ، لأن سودة رضي الله عنها قيل لها : لم لا تخرجين؟ فقالت : أمرنا الله
بأن نقرّ في بيوتنا ، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيام الجمل
، وحينئذ قال لها عبد الله بن عمر : إن الله أمرك أن تقري في بيتك (وَلا تَبَرَّجْنَ) التبرج إظهار الزينة (تَبَرُّجَ
الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي مثل ما كان نساء الجاهلية يفعلن ، من الانكشاف والتعرض
للنظر ، وجعلها أولى بالنظر إلى حال الإسلام ، وقيل : الجاهلية الأولى ما بين آدم
ونوح ، وقيل : ما بين موسى وعيسى.
(الرِّجْسَ) أصله النجس ، والمراد به هنا النقائص والعيوب (أَهْلَ الْبَيْتِ) منادى أو منصوب على التخصيص ، وأهل بيت النبي صلىاللهعليهوسلم : هم أزواجه وذريته وأقاربه كالعباس وعليّ وكل من حرمت
عليه الصدقة ، وقيل : المراد هنا أزواجه خاصة ، والبيت على هذا المسكن ، وهذا ضعيف
لأن الخطاب بالتذكير ، ولو أراد ذلك لقال : عنكن وروي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال نزلت هذه الآية في خمسة : في ولد عليّ وفاطمة والحسن
والحسين (وَاذْكُرْنَ) خطاب لأزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، خصهن بعد دخولهن مع أهل البيت ، وهذا الذكر يحتمل أن
يكون التلاوة أو التذكر بالقلب ، وآيات الله هي القرآن والحكمة هي السنة.
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ) الآية : سببها أن بعض النساء قلن : ذكر الله الرجال ولم
__________________
يذكرنا ، فنزل
فيها ذكر النساء (وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) الإسلام هو الانقياد ، والإيمان هو التصديق ، ثم إنهما
يطلقان بثلاثة أوجه باختلاف المعنى كقوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) وبالاتفاق لاجتماعهما كقوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، وبالعموم فيكون الإسلام أعم ، لأنه بالقلب
والجوارح ، والإيمان أخص لأنه بالقلب خاصة ، وهذا هو الأظهر في هذا الموضع (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) يحتمل أن يكون بمعنى العبادة أو الطاعة (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) يحتمل أن يكون من صدق القول أو من صدق العزم.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) الآية : معناها أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة اختيار مع الله
ورسوله ، بل يجب عليهم التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله ، والضمير في قوله من
أمرهم : راجع إلى الجمع الذي يقتضيه قوله لمؤمن ولا مؤمنة لأن معناه العموم في
جميع المؤمنين والمؤمنات ، وهذه الآية توطئة للقصة المذكورة بعدها ، وقيل : سببها أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطب امرأة ليزوجها لمولاه زيد بن حارثة ، فكرهت هي وأهلها
ذلك ، فلما نزلت الآية قالوا : رضينا يا رسول الله ، واختلف هل هذه المخطوبة زينب
بنت جحش أو غيرها ، وقد قيل : إنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
(وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) هو زيد بن حارثة الكلبي ، وإنعام الله عليه بالإسلام وغيره
، وإنعام النبي صلىاللهعليهوسلم بالعتق وكانت عند زيد زينب بنت جحش وهي بنت أميمة عمة
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فشكا زيد إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم سوء معاشرتها وتعاظمها عليه ، وأراد أن يطلقها ، فقال له
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أمسك عليك زوجك واتق الله ، يعني فيما وصفها به من سوء
المعاشرة ، واتق الله ولا تطلقها فيكون نهيا عن الطلاق على وجه التنزيه ، كما قال
عليه الصلاة والسلام : أبغض المباح إلى الله الطلاق (وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) الذي أخفاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب ، ولكنه خاف أن يسلط
الله عليه ألسنتهم وينالوا منه ، فأخفاه حياء وحشمة وصيانة لعرضه ، وذلك أنه روي
أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان حريصا على أن يطلق زيد زينب ليتزوجها هو صلىاللهعليهوسلم لقرابتها منه ولحسبها ، فقال : أمسك عليك زوجك وهو يخفي
الحرص عليها خوفا من كلام الناس ، لئلا يقولوا : تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه
، فالذي أخفاه صلىاللهعليهوسلم هو إرادة تزوجها ، فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوّجها ،
فقالت عائشة : لو كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه ،
__________________
وقيل : إن الله
كان أوحى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يتزوج زينب بعد طلاق زيد ، فالذي أخفاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما أعلمه الله به من ذلك (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) لم يذكر أحد من الصحابة في القرآن باسمه غير زيد بن حارثة
، والوطر الحاجة ، أي لما لم يبق لزيد فيها حاجة زوجها الله من نبيه صلى الله
تعالى عليه وعلى آله وسلم ، وأسند الله تزويجها إليه تشريفا لها ، ولذلك كانت زينب
تفتخر على نساء النبي صلىاللهعليهوسلم وتقول : إن الله زوجني نبيه من فوق سبع سموات ، واستدل
بعضهم بقوله : زوجناكها على أن الأولى أن يقال في كتاب الصداق : أنكحه إياها
بتقديم ضمير الزوج على ضمير الزوجة كما في الآية (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) المعنى أن الله زوّج زينب امرأة زيد من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ليعلم المؤمنين أن تزوج نساء أدعيائهم حلال لهم ، فإن
الأدعياء ليسوا لهم بأبناء حقيقة.
(ما كانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) المعنى أنّ تزوّج النبي صلىاللهعليهوسلم لزينب بعد زيد حلال ، لا حرج فيه ولا إثم ولا عتاب ، وفي
ذلك ردّ على من تكلم في ذلك من المنافقين. وفرض هنا بمعنى قسم له (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلُ) أي عادة الله في الأنبياء المتقدمين أن ينالوا ما أحل الله
لهم ، وقيل : الإشارة بذلك إلى داود في تزوجه للمرأة التي جرى له فيها ما جرى ،
والعموم أحسن ، ونصب سنة على المصدر ، أو على إضمار فعل أو على الإغراء (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) صفة للذين خلوا من قبل ، وهم الأنبياء أو رفع على إضمار
مبتدإ ، أو نصب بإضمار فعل.
(ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) هذا ردّ على من قال في زيد بن حارثة : زيد بن محمد ،
فاعترض على النبي صلىاللهعليهوسلم تزوّج امرأة زيد ، وعموم النفي في الآية لا يعارضه وجود
الحسن والحسين ، لأنه صلىاللهعليهوسلم ليس أبا لهما في الحقيقة لأنهما ليسا من صلبه ، وإنما كانا
ابني بنته ، وأما ذكور أولاده فماتوا صغارا فليسوا من الرجال (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي آخرهم فلا نبيّ بعده صلىاللهعليهوسلم وقرئ بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم فهو خاتم ، وبالفتح بأنهم
ختموا به فهو كالخاتم والطابع لهم ، فإن قيل : إن عيسى ينزل في آخر الزمان فيكون
بعده عليه الصلاة والسلام ، فالجواب أن النبوّة أوتيت عيسى قبله عليه الصلاة
والسلام ، وأيضا فإن عيسى يكون إذا نزل على شريعته عليه الصلاة والسلام ، فكأنه
واحد من أمته.
__________________
(اذْكُرُوا اللهَ
ذِكْراً كَثِيراً) اشترط الله الكثرة في الذكر حيثما أمر به بخلاف سائر
الأعمال ، والذكر يكون بالقلب وباللسان وهو على أنواع كثيرة من التهليل والتسبيح
والحمد والتكبير وذكر أسماء الله تعالى (وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً) قيل : إن ذلك إشارة إلى صلاة الصبح والعصر ، والأظهر أنه
أمر بالتسبيح في أول النهار وآخره ، وقال ابن عطية : أراد في كل الأوقات فحد
النهار بطرفيه (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ) هذا خطاب للمؤمنين ، وصلاة الله عليهم رحمة لهم ، وصلاة
الملائكة عليهم دعاؤهم لهم ، فاستعمل لفظ يصلي في المعنيين على اختلافهما وقيل :
إنه على حذف مضاف تقديره وملائكته يصلون (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) قيل : يعني يوم القيامة ، وقيل : في الجنة وهو الأرجح
لقوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ
فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠] ،
ويحتمل أن يريد تسليم بعضهم على بعض أو قول الملائكة لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) [الزمر : ٧٣] (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي يشهد على أمته (وَداعِياً إِلَى
اللهِ بِإِذْنِهِ) أي بأمر الله وإرساله (وَسِراجاً مُنِيراً) استعارة للنور الذي يتضمنه الدين.
(وَدَعْ أَذاهُمْ) يحتمل وجهين أحدهما لا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى
المفعول ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين بآية السيف ، والآخر احتمل
إذايتهم لك ، وأعرض عن أقوالهم ، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَ) الآية : معناه سقوط العدّة عن المطلقة قبل الدخول ،
فالنكاح في الآية هو العقد ، والمس هو الجماع ، وتعتدونها من العدد (فَمَتِّعُوهُنَ) هذا يقتضي متعة المطلقة قبل الدخول ، سواء فرض لها أو لم
يفرض لها صداق ، وقوله تعالى في البقرة : ٢٣٧ (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يقتضي أن المطلقة قبل الدخول وقد فرض لها ، يجب لها نصف
الصداق ولا متعة لها ، وقد اختلف هل هذه الآية ناسخة لآية البقرة أو منسوخة بها؟
ويمكن الجمع بينهما بأن تكون آية البقرة مبينة لهذه ، مخصصة لعمومها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا
لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) في معناها قولان أحدهما أن المراد أزواجه اللاتي في عصمته
حينئذ ، كعائشة وغيرها ، وكان قد أعطاهن مهورهن ، والآخر أن المراد جميع النساء ،
فأباح الله له أن يتزوج كل امرأة يعطى مهرها ، وهذا أوسع من الأول (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أباح الله له مع الأزواج السراري بملك اليمين
ويعني بقوله :
أفاء الله عليك : الغنائم (وَبَناتِ عَمِّكَ
وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) يعني قرابته من جهة أبيه ومن جهة أمه ، وكان له عليه
الصلاة والسلام أعمام وعمات إخوة لأبيه ، ولم يكن لأمه عليه الصلاة والسلام أخ ولا
أخت ، وإنما يعني بخاله وخالاته عشيرة أمه وهم بنو زهرة ، ولذلك كانوا يقولون نحن
أخوال رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فمن قال : إن المراد بقوله أحللنا لك أزواجك : من كانت في
عصمته : فهو عطف عليهن ، وإباحة لأن يتزوج قرابته زيادة على من كان في عصمته ، ومن
قال : إن المراد جميع النساء ، فهو تجريد منهن على وجه التشريف بعد دخول هؤلاء في
العموم (اللَّاتِي هاجَرْنَ
مَعَكَ) تخصيص تحرز به ممن لم يهاجر ، كالطلقاء الذين أسلموا يوم
فتح مكة (وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) أباح الله له صلىاللهعليهوسلم من وهبت له نفسها من النساء ، واختلف هل وقع ذلك أم لا؟
فقال ابن عباس : لم تكن عند النبي صلىاللهعليهوسلم امرأة إلا بنكاح أو ملك يمين ، لا بهبة نفسها ، ويؤيد هذا
قراءة الجمهور إن وهبت بكسر الهمزة أي إن وقع ، وقيل : قد وقع ذلك ، وهو على هذا
القول قرئ أن وهبت بفتح الهمزة ، واختلف على هذا القول فيمن هي التي
وهبت نفسها فقيل : ميمونة بنت الحارث ، وقيل زينب بنت خزيمة أم المساكين ، وقيل :
أم شريك الأنصارية ، وقيل أم شريك العامرية.
(خالِصَةً لَكَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي هبة المرأة نفسها مزية خاصة بالنبي صلىاللهعليهوسلم دون غيره ، وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ليخص
المخاطب وحده ، وقيل : إن خالصة يرجع إلى كل ما تقدم ، من النساء المباحات له صلىاللهعليهوسلم ، لأن سائر المؤمنين قصروا على أربع نسوة ، وأبيح له عليه
الصلاة والسلام أكثر من ذلك ، ومذهب مالك أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد بخلاف أبي
حنيفة ، وإعراب : خالصة مصدر أو حال أو صفة لامرأة (قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) يعني أحكام النكاح من الصداق والوليّ والاقتصار على أربع
وغير ذلك (لِكَيْلا يَكُونَ
عَلَيْكَ حَرَجٌ) يتعلق بالآية التي قبله أي : بينا أحكام النكاح لئلا يكون
عليك حرج ، أو لئلا يظن بك أنك فعلت ما لا يجوز ، وقال الزمخشري : يتعلق بقوله
خالصة لك (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ
مَنْ تَشاءُ) معنى ترجي تؤخر وتبعد ، ومعنى : تؤوي تضم وتقرب. واختلف في
المراد بهذا الإرجاء والإيواء ، فقيل إن ذلك في القسمة بينهنّ : أي تكثر لمن شئت ،
وتقلل لمن شئت ، وقيل : إنه في الطلاق أي تمسك
__________________
من شئت وتطلق من
شئت ؛ وقيل : معناه تتزوج من شئت ، وتترك من شئت ، والمعنى على كل قول توسعة على
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإباحة له أن يفعل ما يشاء ، وقد اتفق الناقلون على أنه صلىاللهعليهوسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه : أخذا منه بأفضل الأخلاق مع
إباحة الله له ، والضمير في قوله منهنّ : يعود على أزواجه صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة أو على كل ما أحل الله له على حسب الخلاف المتقدم (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ
فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في معناه قولان : أحدهما من كنت عزلته من نسائك فلا جناح
عليك في ردّه بعد عزله ، والآخر من ابتغيت ومن عزلت سواء في إباحة ذلك ، فمن
للتبعيض على القول الأول ، وأما على القول الثاني فنحو قولك : من لقيك ومن لم يلقك
سواء (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) أي إذا علمن أن هذا حكم الله قرّت به أعينهن ورضين به ،
وزال ما كان بهنّ من الغيرة ، فإن سبب نزول هذه الآية ما وقع لأزواج النبي صلىاللهعليهوسلم من غيرة بعضهن على بعض.
(لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) فيه قولان : أحدهما لا يحل لك النساء غير اللاتي في عصمتك
الآن ولا تزيد عليهن ، قال ابن عباس لما خيرهنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاخترن الله ورسوله جازاهن الله على ذلك ، بأن حرّم غيرهنّ
من النساء كرامة لهنّ ، والقول الثاني : لا يحل لك النساء غير الأصناف التي سميت ،
والخلاف هنا يجري على الخلاف في المراد بقوله : إنا أحللنا لك أزواجك : أي لا يحل
لك غير من ذكر حسبما تقدم ، وقيل : معنى لا يحل لك النساء : لا يحل لك اليهوديات
والنصرانيات من بعد المسلمات المذكورات وهذا بعيد ، واختلف في حكم هذه الآية ،
فقيل : إنها منسوخة بقوله إنا أحللنا لك أزواجك على القول بأن المراد جميع النساء
، وقيل : إن هذه الآية ناسخة لتلك على القول بأن المراد من كان في عصمته ، وهذا هو
الأظهر لما ذكرنا عن ابن عباس ، ولأن التسع في حقه عليه الصلاة والسلام كالأربع في
حق أمته (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) معناه لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرها بدلا
منها (وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَ) في هذا دليل على جواز النظر إلى المرأة إذا أراد الرجل أن
يتزوجها (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) المعنى أن الله أباح له الإماء ، والاستثناء في موضع رفع
على البدل من النساء ، أو في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في حسنهن.
(لا تَدْخُلُوا
بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) سبب هذه الآية ما رواه أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما تزوج زينب بنت جحش ؛ أو لم عليها فدعا الناس ، فلما
طعموا قعد نفر في طائفة من البيت ، فثقل ذلك على النبي صلىاللهعليهوسلم ، فخرج ليخرجوا بخروجه ، ومر على حجر
نسائه ثم عاد
فوجدهم في مكانهم ، فانصرف فخرجوا عن ذلك ، وقال ابن عباس : نزلت في قوم كانوا
يتحينون طعام النبي صلىاللهعليهوسلم ، فيدخلون عليه قبل الطعام فيقعدون إلى أن يطبخ ، ثم
يأكلون ولا يخرجون ، فأمروا أن لا يدخلوا حتى يؤذن لهم ، وأن ينصرفوا إذا أكلوا ،
قلت : والقول الأول أشهر ، وقول ابن عباس أليق بما في الآية من النهي عن الدخول
حتى يؤذن لهم ، فعلى قول ابن عباس في النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم ، والقول الأول
في النهي عن القعود بعد الأكل ، فإن الآية تضمنت الحكمين (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي غير منتظرين لوقت الطعام ، والإنا الوقت ، وقيل : إنا
الطعام نضجه وإدراكه ، يقال أنى يأنى إناء (وَلكِنْ إِذا
دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) أمر بالدخول بعد الدعوة ، وفي ذلك تأكيد للنهي عن الدخول
قبلها (فَإِذا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا) أي انصرفوا ، قال بعضهم : هذا أدب أدّب الله به الثقلاء ، (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) معطوف على غير ناظرين ، أو تقديره : ولا تدخلوا مستأنسين ،
ومعناه النهي عن أن يطلبوا الجلوس للأنس بحديث بعضهم مع بعض ، أو يستأنسوا لحديث
أهل البيت ، واستئناسهم : تسمعهم وتجسسهم (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَ) يعني جلوسهم للحديث أو دخولهم بغير إذن (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) تقديره يستحيي من إخراجكم ، بدليل قوله : والله لا يستحيي
من الحق : أي أن إخراجكم حق لا يتركه الله.
(وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) المتاع الحاجة من الأثاث وغيره ، وهذه الآية نزلت في
احتجاب أزواج النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وسببها ما رواه أنس من قعود القوم يوم الوليمة في بيت
زينب ، وقيل : سببها أنّ عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يحجب نساءه ، فنزلت الآية موافقة لقول عمر ، قال بعضهم
لما نزلت في أمهات المؤمنين «وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب» كن لا
يجوز للناس كلامهن إلا من وراء حجاب ، ولا يجوز أن يراهن [أحد] متنقبات ولا غير
متنقبات ، فخصصن بذلك دون سائر النساء (ذلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) يريد أنقى من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء
والنساء في أمر الرجال (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْواجَهُ) سببها أن بعض الناس قالوا : لو مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم لتزوّجت عائشة ، فحرم الله على الناس تزوج نسائه بعده
كرامة له صلىاللهعليهوآلهوسلم (لا جُناحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَ) الآية : لما أوجب الله الحجاب أباح لهن الظهور لذوي
محارمهن من القرابة وهم : الآباء ، والأبناء ، والإخوة ، وأولادهم ، وأولاد
الأخوات (وَلا نِسائِهِنَ) قيل يريد بالنساء القرابة والمصرفات لهن ، وقيل : يريد
نساء
جميع المؤمنات ،
ويقوي الأول تخصيص النساء بالإضافة لهن ، ويقوى الثاني أنهن كن لا يحتجبن من
النساء على الإطلاق (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) واختلف فيمن أبيح لهن الظهور له من ملك اليمين ، فقيل :
الإماء دون العبيد ، وقيل : الإماء والعبيد ، وهو أولى بلفظ الآية ، ثم اختلف من
ذهب إلى هذا فقال قوم : من ملكه من العبيد دون من ملكه غيرهن ، وهذا هو الظاهر من
لفظ الآية ، وقال قوم : جميع العبيد كن في ملكهن أو في ملك غيرهن.
(إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) هذه الآية تشريف للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وقد ذكرنا معنى صلاة الله وصلاة الملائكة في قوله يصلي
عليكم وملائكته [الأحزاب : ٤٣ (صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الصلاة على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فرض إسلاميّ ، فالأمر به محمول على الوجوب ، وأقله مرة في
العمر ، وأما حكمها في الصلاة : فمذهب الشافعي أنها فرض تبطل الصلاة بتركه ، ومذهب
مالك أنها سنة وصفتها ما ورد في الحديث الصحيح : اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد
كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد
مجيد ، وقد اختلفت الروايات في ذلك اختلافا كثيرا أما السلام على النبي صلىاللهعليهوسلم فيحتمل أن يريد السلام عليه في التشهد في الصلاة ، أو
السلام عليه حين لقائه ، وأما السلام عليه بعد موته فقد قال صلىاللهعليهوسلم : من سلم عليّ قريبا سمعته ، ومن سلم عليّ بعيدا أبلغته ،
فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إذاية الله هي بالإشراك به ونسبة الصاحبة والولد به ، وليس
معنى إذايته أنه يضره الأذى ، لأنه تعالى لا يضره شيء ولا ينفعه شيء ، وقيل : إنها
على حذف مضاف تقديره : يؤذون أولياء الله ، والأوّل أرجح ، لأنه ورد في الحديث
يقول الله تعالى : «يشتمني ابن آدم وليس له أن يشتمني ، ويكذبني وليس له أن يكذبني
، أما شتمه إياي فقوله : إن لي صاحبة وولدا ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لا يعيدني
كما بدأني» وأما إذاية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهي التعرض له بما يكره من الأقوال أو الأفعال ، وقال ابن
عباس : نزلت في الذين طعنوا عليه حين أخذ صفية بنت حييّ.
(وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) الآية : في البهتان وهو ذكر الإنسان بما ليس فيه ، وهو أشد
من الغيبة ، مع أن الغيبة محرمة ، وهي ذكره ما فيه مما يكره (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلَابِيبِهِنَ) كان نساء
__________________
العرب يكشفن
وجوههن كما تفعل الإماء ، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن ، فأمرهن الله بإدناء
الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن ، ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء ، والجلابيب جمع
جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار ، وقيل : هو الرداء وصورة إدنائه عند ابن عباس أن
تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها وقيل : أن تلويه حتى لا
يظهر إلا عيناها ، وقيل أن تغطي نصف وجهها (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك أقرب إلى أن يعرف الحرائر من الإماء فإذا عرف أن
المرأة حرة لم تعارض بما تعارض به الأمة ، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من
هي ، إنما المراد أن يفرق بينها وبين الأمة ، لأنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء
وربما تعرض لهن السفهاء.
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنافِقُونَ) الآية : تضمنت وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا ، وقيل : إنهم
لم ينتهوا : ولم ينفذ الوعيد عليهم ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ
الوعيد في الآخرة ، وقيل : إنهم انتهوا وستروا أمرهم ، فكف عنهم إنفاذ الوعيد ،
والمنافقون هم الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر ، والذين في قلوبهم مرض : قوم
كان فيهم ضعف إيمان ، وقلة ثبات عليه ، وقيل : هم الزناة ؛ كقوله : فيطمع الذي في
قلبه مرض ، (وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ) : قوم كانوا يشيعون أخبار السوء ويخوفون المسلمين ، فيحتمل
أن تكون هذه الأصناف متفرقة ، أو تكون داخلة في جملة المنافقين ، ثم جردها بالذكر (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي نسلطك عليهم وهذا هو الوعيد (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) ذلك لأنه ينفيهم أو يقتلهم ، والضمير المجرور للمدينة (إِلَّا قَلِيلاً) يحتمل أن يريد إلا جوارا قليلا أو وقتا قليلا أو عددا
قليلا منهم ، والإعراب يختلف بحسب هذه الاحتمالات ، فقليلا على الاحتمال الأول
مصدر ، وعلى الثاني ظرف ، وعلى الثالث منصوب على الاستثناء (مَلْعُونِينَ) نصب على الذم ، أو بدل من قليلا على الوجه الثالث ؛ أو حال
من ضمير الفاعل في يجاورونك تقديره : سينفون ملعونين (أَيْنَما ثُقِفُوا
أُخِذُوا) أي حيث ما ظفر بهم أسروا ، والأخذ الأسر (سُنَّةَ اللهِ) أي عادته ونصب على المصدر (فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي عادته في المنافقين من الأمم المتقدمة وقيل : يعني
الكفار في بدر ، لأنهم أسروا وقتلوا (تَكُونُ قَرِيباً) إنما قال قريبا بالتذكير ، والساعات مؤنثة على تقدير شيئا
قريبا ، أو زمانا قريبا ، أو لأن تأنيثها غير حقيقي (يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) العامل في يوم قوله
يقولون أو لا
يجدون أو محذوف ، وتقليب وجوههم : تصريفها في جهة النار كما تدور البضعة [قطعة
اللحم] في القدر إذا غلت من جهة إلى جهة ، أو تغيرها عن أحوالها.
(لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) هم قوم من بني إسرائيل ، وإذايتهم له : ما ورد في الحديث
أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ، وكان موسى يستتر منهم إذا اغتسل ، فقالوا : إنه
لآدر [آدر : أي فيه عيب في خصيته] ، فاغتسل موسى يوما وحده وجعل ثيابه على حجر ،
ففر الحجر بثيابه ، واتبعه موسى وهو يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر ، فمر في أتباعه على
ملأ من بني إسرائيل فرأوه سليما مما قالوا ، فذلك قوله : فبرأه الله مما قالوا ،
وقيل : إذايتهم له أنهم رموه بأنه قتل أخاه هارون ، فبعث الله ملائكة فحملته حتى
رآه بنو إسرائيل ليس فيه أثر فبرأ الله موسى ، وروي أن الله أحياه فأخبرهم ببراءة
موسى ، والقول الأول هو الصحيح لوروده في الحديث الصحيح (قَوْلاً سَدِيداً) قيل : يعني لا إله إلا الله ، واللفظ أعم من ذلك.
(إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) الأمانة هي التكاليف الشرعية من التزام الطاعات وترك
المعاصي ، وقيل : هي الأمانة في الأموال ، وقيل : غسل الجنابة ، والصحيح العموم في
التكاليف ، وعرضها على السموات والأرض والجبال يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون
الله خلق لها إدراكا فعرضت عليها الأمانة حقيقة فأشفقت منها ، وامتنعت من حملها ،
والثاني أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة ، وأنها من الثقل بحيث لو عرضت على
السموات والأرض والجبال ، لأبين من حملها وأشفقن منها ، فهذا ضرب من المجاز كقولك
: عرضت الحمل العظيم على الدابة فأبت أن تحمله ، والمراد أنها لا تقدر على حمله (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي التزم الإنسان القيام بالتكاليف مع شدة ذلك ، وصعوبته
على الأجرام التي هي أعظم منه ، ولذلك وصفه الله بأنه ظلوم جهول ، والإنسان هنا
جنس ، وقيل : يعني آدم ، وقيل : قابيل الذي قتل أخاه (لِيُعَذِّبَ) اللام للصيرورة ، فإن حمل الأمانة : كان سبب تعذيب
المنافقين والمشركين ، ورحمة للمؤمنين.
سورة سبأ
مكية
إلا آية ٦ فمدنية وآياتها ٥٤ نزلت بعد لقمان
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
(سورة سبأ) (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) يحتمل أن يكون الحمد الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة
، وعلى هذا حمله الزمخشري ، ويحتمل عندي أن يكون الحمد الأول للعموم والاستغراق ،
فجمع الحمد في الدنيا والآخرة ، ثم جرد منه الحمد في الآخرة كقوله : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ، ثم إن الحمد في الآخرة يحتمل أن يريد به الجنس ، أو يريد
به قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] أو (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا
وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات وغيره (وَما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ) من المطر والملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ) روي : أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب (لا يَعْزُبُ) أي لا يغيب ولا يخفى (وَلا أَصْغَرُ) معطوف على مثقال ؛ وقال الزمخشري : هو مبتدأ ، لأن حرف
الاستثناء من حروف العطف ، ولا خلاف بين القراء السبعة في رفع أصغر وأكبر في هذا
الموضع ، وقد حكى ابن عطية الخلاف فيه عن بعض القراء السبعة ، وإنما الخلاف في [يونس
: ٦١] (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يعني اللوح المحفوظ (لِيَجْزِيَ) متعلق بقوله : لتأتينكم أو بقوله : لا يعزب أو بمعنى قوله
: في كتاب مبين.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا) مبتدأ وخبره الجملة بعده ، وقال ابن عطية : هو معطوف على
الذين
__________________
الأول ، وقد ذكر
في [الحج : ٥١] معنى سعوا ، ومعاجزين (أَلِيمٌ) بالرفع قراءة حفص صفة لعذاب ، وبالخفض قراءة نافع وغيره
صفة لرجز (وَيَرَى) معطوف على ليجزي أو مستأنف ، وهذا أظهر (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم الصحابة أو من أسلم من أهل الكتاب ، أو على العموم (الْحَقَ) مفعول ثاني ليرى ، لأن الرؤية هنا بالقلب بمعنى العلم
والضمير ضمير فصل (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي قال بعضهم لبعض : هل ندلكم على رجل يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم (يُنَبِّئُكُمْ إِذا
مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) معنى مزقتم أي : بليتم في القبور ، وتقطعت أوصالكم ، وكل
ممزق : مصدر ، والخلق الجديد : هو الحشر في القيامة ، والعامل في إذا معنى إنكم
لفي خلق جديد ، لأن معناه : تبعثون إذا مزقتم ، وقيل : العامل فيه فعل مضمر مقدر
قبلها وذلك ضعيف ، وإنكم لفي خلق جديد معمول ينبئكم وكسرت اللام التي في خبرها ،
ومعنى الآية أن ذلك الرجل يخبركم أنكم تبعثون بعد أن بليتم في الأرض ، ومرادهم
استبعاد الحشر (أَفْتَرى عَلَى اللهِ) هذا من جملة كلام الكفار ، ودخلت همزة الاستفهام على ألف
الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت الهمزة مفتوحة غير ممدودة (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ) هذا ردّ عليهم : أي أنه لم يفتر على الله الكذب وليس به
جنة ، بل هؤلاء الكفار في ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم العذاب ، ويحتمل أن يريد
بالعذاب عذاب الآخرة ، أو العذاب في الدنيا بمعاندة الحق ، ومحاولة ظهور الباطل.
(أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الضمير في يروا للكفار المنكرين للبعث ، وجعل السماء
والأرض بين أيديهم وخلفهم ، لأنهما محيطتان بهم ، والمعنى ألم يروا إلى السماء
والأرض فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم ، ويحتمل أن يكون
المعنى تهديد لهم ثم فسره بقوله : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من
السماء : أي أفلم يروا إلى السماء والأرض أنهما محيطتان بهم ، فيعلمون أنهم لا
مهرب لهم من الله (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) الإشارة إلى إحاطة السماء بهم ، أو إلى عظمة السماء والأرض
بأن فيهما آية تدل على البعث.
(يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) تقديره : قلنا يا جبال ، والجملة تفسير لفضلا ، ومعنى
أوّبي : سبّحي ، وأصله من التأويب ، وهو الترجيع ، لأنه كان يرجّع التسبيح فترجعه
معه : وقيل : هو من التأويب بمعنى السير بالنهار ، وقيل : كان ينوح فتساعده الجبال
بصداها ، والطير بأصواتها (وَالطَّيْرَ) بالنصب عطف على موضع يا جبال ، وقيل : مفعول معه ، وقيل :
معطوف على فضلا ،
وقرئ بالرفع عطفا على لفظ : يا جبال (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ) أي جعلناه له لينا بغير نار كالطين والعجين ، وقيل ؛ لان
له الحديد لشدّة قوته (سابِغاتٍ) هي الدروع الكاسية (وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) معنى السرد هنا نسج الدروع ، وتقديرها أن لا يعمل الحلقة
صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها ، وقيل : لا يجعل المسمار دقيقا ولا
غليظا (وَاعْمَلُوا صالِحاً) خطاب لداود وأهله (وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ) بالنصب على تقدير وسخرنا ، وقرئ بالرفع رواية أبي بكر عن
عاصم على الابتداء (غُدُوُّها شَهْرٌ
وَرَواحُها شَهْرٌ) أي كانت تسير به بالغداة مسيرة شهر ، وبالعشي مسيرة شهر
فكان يجلس على سريره وكان من خشب ، يحمل فيها روي أربعة آلاف فارس ، فترفعه الريح
ثم تحمله (وَأَسَلْنا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ) قال ابن عباس : كانت تسيل له باليمن عين من نحاس ، يصنع
منها ما أحب ، والقطر : النحاس ، وقيل : القطر الحديد والنحاس وما جرى مجرى ذلك :
كان يسيل له منه أربعة عيون ، وقيل : المعنى أن الله أذاب له النحاس بغير نار كما
صنع بالحديد لداود (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ
السَّعِيرِ) يعني نار الآخرة ، وقيل : كان معه ملك يضربهم بصوت من نار (مَحارِيبَ) هي القصور ، وقيل : المساجد وتماثيل قيل : إنها كانت على
غير صور الحيوان وقيل على صور الحيوان وكان ذلك جائزا عندهم (كَالْجَوابِ) جمع جابية وهي البركة التي يجتمع فيها الماء (راسِياتٍ) أي ثابتات في مواضعها لعظمها (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً) حكاية ما قيل لآل داود ، وانتصب شكرا على أنه مفعول من
أجله ، أو مصدر في موضع الحال ، تقديره : شاكرين ، أو مصدر من المعنى لأن العمل
شكر تقديره : اشكروا شكرا ، أو مفعول به (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ) يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود أو مخاطبة لمحمد صلىاللهعليهوسلم.
(دَابَّةُ الْأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) المنسأة هي العصا ، وقرئ بهمز وبغير همز ، ودابة الأرض هي
الأرضة ، وهي السوسة التي تأكل الخشب وغيره ، وقصة الآية أن سليمان عليهالسلام دخل قبة من قوارير ، وقام يصلي متكئا على عصاه ، فقبض روحه
وهو متكئ عليها فبقى كذلك سنة ، لم يعلم أحد بموته ، حتى وقعت العصا فخر إلى
الأرض. واختصرنا كثيرا مما ذكره الناس في هذه القصة لعدم صحته (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) من تبين الشيء إذا ظهر ، وما بعدها بدل من الجنّ ، والمعنى
ظهر للناس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وقيل : تبينت بمعنى علمت ، وأن وما بعدها
مفعول به على هذه. والمعنى : علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، وتحققوا أن
__________________
ذلك بعد التباس
الأمر عليهم ، أو علمت الجن أن كفارهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم كاذبون في دعوى ذلك
(فِي الْعَذابِ
الْمُهِينِ) يعني الخدمة التي كانوا يخدمون سليمان وتسخيره لهم في
أنواع الأعمال ، والمعنى لو كانت الجن تعلم الغيب ما خفي عليهم موت سليمان.
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) سبأ : قبيلة من العرب سميت باسم أبيها الذي تناسلت منه ،
وقيل : باسم أمها ، وقيل : باسم موضعها ، والأول أشهر ، لأنه ورد في الحديث ،
وكانت مساكنهم بين الشام [الشام هي جبال في اليمن] واليمن (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) كان لهم واد ، وكانت الجنتان عن يمينه وشماله ، وجنتان بدل
من آية أو مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف (كُلُوا) تقديره : قيل : لهم كلوا من رزق ربكم ، قالت لهم ذلك
الأنبياء ، وروي أنهم بعث لهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي كثيرة الأرزاق طيبة الهواء سليمة من الهوام (فَأَعْرَضُوا) أي أعرضوا عن شكر الله ، أو عن طاعة الأنبياء (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ) كان لهم سدّ يمسك الماء ليرتفع فتسقى به الجنتان ، فأرسل
الله على السد الجرذ ، وهي دويبة خربته فيبست الجنتان ، وقيل : لما خرب السدّ حمل
السيل الجنتين وكثيرا من الناس ، واختلف في معنى العرم : فقيل هو السدّ ، وقيل هو
اسم ذلك الوادي بعينه ، وقيل معناه الشديد ، فكأنه صفة للسيل من العرامة ، وقيل هو
الجرذ الذي خرب السدّ ، وقيل : المطر الشديد (أُكُلٍ خَمْطٍ
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) الأكل بضم الهمزة المأكول ، والخمط شجر الأراك ، وقيل : كل
شجرة ذات شوك ، والأثل شجر يشبه الطرفا والسدر شجر معروف ، وإعراب خمط بدل من أكل
، أو عطف بيان وقرئ بالإضافة وأثل عطف على الأكل لا على خمط ، لأن الأثل لا أكل له
، والمعنى أنه لما أهلكت الجنتان المذكورتان قيل : أبدلهم الله منها جنتين بضد
وصفهما في الحسن والأرزاق (وَهَلْ نُجازِي
إِلَّا الْكَفُورَ) معناه لا يناقش ويجازى بمثل فعله إلا الكفور ؛ لأن المؤمن
قد يسمح الله له ويتجاوز عنه (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) هذه الآية وما بعدها وصف حال سبأ قبل مجيء السيل وهلاك
جناتهم ، ويعني بالقرى التي باركنا فيها الشام ، والقرى الظاهرة قرى متصلة من
بلادهم إلى الشام ، ومعنى ظاهرة يظهر بعضها من بعض لاتصالها ، وقيل : مرتفعة في
الآكام ، وقال ابن عطية : خارجة عن المدن كما
__________________
تقول بظاهر
المدينة أي خارجها (وَقَدَّرْنا فِيهَا
السَّيْرَ) أي : قسمنا مراحل السفر ، وكانت القرى متصلة ، فكان
المسافر يبيت في قرية ويصبح في أخرى ، ولا يخاف جوعا ولا عطشا ، ولا يحتاج إلى حمل
زاد ، ولا يخاف من أحد (فَقالُوا رَبَّنا
باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قرئ باعد وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بعد بالتخفيف والتشديد
على وجه الطلب ، والمعنى أنهم بطروا النعمة وملّوا العافية ، وطلبوا من الله أن
يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزوّدوا للأسفار ، فعجل الله إجابتهم
، وقرئ باعد بفتح العين على الخبر ، والمعنى أنهم قالوا إن الله باعد بين قراهم ،
وذلك كذب وجحد للنعمة (وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) يعني بقولهم باعد بين أسفارنا أو بذنوبهم على الإطلاق (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم ، قيل تفرقوا
أيدي سبا ، وفي الحديث ، إن سبأ أبو عشرة من القبائل ، فلما جاء السيل على بلادهم
تفرقوا فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة.
(وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي وجد ظنه فيهم صادقا يعني قوله : لَأُغْوِيَنَّهُمْ ، وقوله : وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) تعجيز للمشركين وإقامة حجة عليهم ويعني بالذين زعمتم
آلهتهم ، ومفعول زعمتم محذوف أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتم أنهم شفعاء ، وروي أن
ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا (مِنْ شِرْكٍ) أي نصيب والظهير المعين (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن الله له أن يشفع ،
فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه ، وقيل : المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الله
أن يشفع فيه ، والمعنى أن الشفاعة على كل وجه لا تكون إلا بإذن الله ، ففي ذلك ردّ
على المشركين الذين كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم أن هذه الآية في الملائكة عليهمالسلام ، فإنهم إذا سمعوا الوحي إلى جبريل يفزعون لذلك فزعا عظيما
، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم فيقولون : قال الحق ،
ومعنى فزع عن قلوبهم زال عنها الفزع ، والضمير في قلوبهم وفي قالوا للملائكة ، فإن
قيل :
__________________
كيف ذلك ولم يتقدم
لهم ذكر يعود الضمير عليه؟ فالجواب أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ، ويقولون : هؤلاء
شفعاؤنا عند الله ، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين ، فعاد الضمير على الشفعاء
الذين دل عليهم لفظ الشفاعة ، فإن قيل : بم اتصل قوله حتى إذا فزّع عن قلوبهم ولأي
شيء وقعت حتى غائية؟ فالجواب أنه اتصل بما فهم من الكلام من أن ثم انتظارا للإذن ،
وفزعا وتوقفا حتى يزول الفزع بالإذن في الشفاعة ، ويقرب هذا في المعنى من قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [عمّ : ٣٨] ولم
يفهم بعض الناس اتصال هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم : هي في
الكفار بعد الموت ، ومعنى فزع عن قلوبهم : رأوا الحقيقة ، فقيل لهم : ماذا قال
ربكم؟ فيقولون : قال الحق. فيقرّون حيث لا ينفعهم الإقرار ، والصحيح أنها في
الملائكة لورود ذلك في الحديث ، ولأن القصد الردّ على الكفار الذين عبدوا الملائكة
، فذكره شدّة خوف الملائكة من الله وتعظيمهم له.
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ) سؤال قصد به إقامة الحجة على المشركين (قُلِ اللهُ) جواب عن السؤال بما لا يمكن المخالفة فيه ، ولذلك جاء
السؤال والجواب من جهة واحدة (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذه ملاطفة وتنزل في المجادلة إلى غاية الإنصاف كقولك :
الله يعلم أن أحدنا على حق وأن الآخر على باطل ، ولا تعين بالتصريح أحدهما ، ولكن
تنبه الخصم على النظر حتى يعلم من هو على الحق ومن هو على الباطل ، والمقصود من
الآية أن المؤمنين على هدى ، وأن الكفار على ضلال مبين (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) إخبار يقتضي مسالمة نسخت بالسيف (يَفْتَحُ بَيْنَنا) أي يحكم ، والفتاح الحاكم (قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) إقامة حجة على المشركين ، والرؤية هنا رؤية قلب فشركاء
مفعول ثالث ، والمعنى أروني بالدليل والحجة من هم له شركاء عندكم ، وكيف وجه
الشركة ، وقيل : هي رؤية بصر ، وشركاء حال من المفعول في ألحقتم كأنه قال : أين
الذين تعبدون من دونه وفي قوله : (أَرُونِيَ) تحقير للشركاء وازدراء بهم ، وتعجيز للمشركين ، وفي قوله :
(كَلَّا) ردع لهم عن الإشراك ، وفي وصف الله بالعزيز الحكيم : ردّ
عليهم بأن شركاءهم ليسوا كذلك.
(وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) المعنى أن الله أرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى جميع الناس ، وهذه إحدى الخصال التي أعطاه الله دون
سائر الأنبياء ، وإعراب كافة حال من الناس قدمت للاهتمام ، هكذا قال ابن عطية ،
وقال الزمخشري : ذلك خطأ لأن تقدم حال المجرور عليه
لا يجوز ، وتقديره
عنده : وما أرسلناك إلا رسالة عامة للناس ، فكافة صفة للمصدر المحذوف ، وقال
الزجّاج : المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والتبشير ، فجعله حالا من الكاف
، والتاء على هذا للمبالغة كالتاء في راوية وعلّامة (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ
يَوْمٍ) يعني يوم القيامة ، أو نزول العذاب بهم في الدنيا ، وهو
الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف ، فقالوا : متى هذا الوعد (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ، وإنما قال الكفار
هذه المقالة ، حين وقع عليهم الاحتجاج بما في التوراة ، من ذكر محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : الذي بين يديه يوم القيامة وهذا خطأ وعكس ؛ لأن
الذي بين يدي الشيء هو ما تقدم عليه.
(وَلَوْ تَرى) جواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمرا عظيما (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ
الْقَوْلَ) أي يتكلمون ويجيب بعضهم بعضا (بَلْ كُنْتُمْ
مُجْرِمِينَ) أي كفرتم باختياركم لا بأمرنا (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) المعنى أن المستضعفين قالوا للمستكبرين : بل مكركم بنا في
الليل والنهار سبب كفرنا ، وإعراب مكر مبتدأ وخبره محذوف ، أو خبر ابتداء مضمر ،
وأضاف مكر إلى الليل والنهار على وجه الاتساع ، ويحتمل أن يكون إضافة إلى المفعول
أو إلى الفاعل على وجه المجاز : كقولهم : نهاره صيام وليله قيام أي يصام فيه ويقام
، ودلت الإضافة على كثرة المكر ودوامه بالليل والنهار ، فإن قيل : لم أثبت الواو
في قول الذين استضعفوا دون قول الذين استكبروا؟ فالجواب أنه قد تقدم كلام الذين استضعفوا قبل ذلك فعطف
عليه كلامهم الثاني ، ولم يتقدم للذين استكبروا كلام آخر فيعطف عليه (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أخفوها في نفوسهم ، وقيل : أظهروها فهو من الأضداد ،
والضمير لجميع المستضعفين والمستكبرين (مُتْرَفُوها) يعني أهل الغنى والتنعم في الدنيا ، وهم الذين يبادرون إلى
تكذيب الأنبياء ، والقصد بالآية تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم على تكذيب أكابر قريش له (وَقالُوا نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) الضمير لقريش أو للمترفين المتقدمين : قاسوا أمر الدنيا
على الآخرة ، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في
__________________
الآخرة (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إخبار يتضمن الردّ عليهم بأن بسط الرزق وقبضه في الدنيا
معلق بمشيئة الله ، فقد يوسع الله على الكافر وعلى العاصي ، ويضيق على المؤمن
والمطيع ، وبالعكس ، فليس في ذلك دليل على أمر الآخرة (زُلْفى) مصدر بمعنى القرب كأنه قال : تقربكم قربى (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من المفعول في تقربكم ، والمعنى أن الأموال لا
تقرب إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، وقيل الاستثناء منقطع ، والأول
أحسن (جَزاءُ الضِّعْفِ) يعني تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها فما فوق ذلك.
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ) الآية : كررت لاختلاف القصد ، فإن القصد بالأول على الكفار
، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإنفاق (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) الخلف قد يكون بمال أو بالثواب (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) براءة من أن يكون لهم رضا بعبادة المشركين لهم ، وليس في
ذلك نفي لعبادتهم لهم (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَ) عبادتهم للجن طاعتهم لهم في الكفر والعصيان ، وقيل : كانوا
يدخلون في جوف الأصنام فيعبدون بعبادتها ، ويحتمل أن يكون قوم عبدوا الجن لقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ
يَدْرُسُونَها) الآية : في معناها وجهين : أحدهما ليس عندهم كتب تدل على
صحة أقوالهم ، ولا جاءهم نذير يشهد بما قالوه ؛ فأقوالهم باطلة إذ لا حجة لهم
عليها ، فالقصد على هذا ردّ عليهم ، والآخر : أنهم ليس عندهم كتب ولا جاءهم نذير
فهم محتاجون إلى من يعلمهم وينذرهم ، ولذلك بعث الله إليهم محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فالقصد على هذا إثبات نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم (وَما بَلَغُوا
مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) المعشار العشر ، وقيل عشر العشر ، والأول أصح ، والضمير في
بلغوا لكفار قريش ، وفي آتيناهم للكتب المتقدمة : أي إن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما
أعطى الله للمتقدمين من القوة والأموال ، وقيل : الضمير في بلغوا للمتقدمين ، وفي
آتيناهم لقريش : أي ما بلغ المتقدمون عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة
، والأول أصح وهو نظير قوله : كانوا أشدّ منهم قوة (فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) أي إنكاري ، يعني عقوبة الكفار المتقدمين ، وفي ذلك تهديد
لقريش.
(قُلْ إِنَّما
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي بقضية واحدة تقريبا عليكم (أَنْ تَقُومُوا
لِلَّهِ) هذا تفسير القضية الواحدة وأن تقوموا بدل أو عطف بيان أو
خبر ابتداء مضمر ، ومعناه أن تقوموا للنظر في أمر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم قياما خالصا لله تعالى ليس فيه اتباع هوى ولا ميل ، وليس
المراد بالقيام هنا القيام على الرجلين ؛ إنما المراد القيام بالأمر والجدّ فيه (مَثْنى وَفُرادى) حال من الضمير في تقوموا ، والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين
للمناظرة في الأمر وطلب التحقيق وتقوموا واحدا واحدا لإحضار الذهن واستجماع الفكرة
، ثم تتفكروا في أمر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم فتعلموا أن ما به من جنة ، لأنه جاء بالحق الواضح ، ومع
ذلك فإن أقواله وأفعاله تدل على رجاحة عقله ومتانة علمه ، وأنه بلغ في الحكمة
مبلغا عظيما ، فيدل ذلك على أنه ليس بمجنون ولا مفتر على الله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) متصل بما قبله على الأصح : أي تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم
من جنة ، وقيل هو استئناف (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) هذا كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئا فخذه ، وهو
يعلم أنه لم يعطه شيئا ، ولكنه يريد البراءة من عطائه ، وكذلك معنى هذا ، فهو
كقولك : قل ما أسألكم عليه من أجر (قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِ) القذف الرمي ويستعار للإلقاء ، فالمعنى يلقي الحق إلى
أصفيائه ، أو يرمي الباطل بالحق فيذهبه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) خبر ابتداء مضمر أو بدل من الضمير في يقذف أو من اسم إن
على الموضع (قُلْ جاءَ الْحَقُ) يعني الإسلام (وَما يُبْدِئُ
الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) الباطل الكفر ، ونفى الإبداء والإعادة ، على أنه لا يفعل
شيئا ولا يكون له ظهور أو عبارة عن ذهابه كقوله : (جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١]
وقيل : الباطل الشيطان (إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ) يعني قربه تعالى بعلمه وإحاطته.
(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) جواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمرا عظيما ، أو معنى فزعوا
: أسرعوا إلى الهروب ، والفعل ماض بمعنى الاستقبال ، وكذلك ما بعده من الأفعال ،
ووقت الفزع البعث ، وقيل : الموت ، وقيل : يوم بدر (فَلا فَوْتَ) أي لا يفوتون الله إذ هربوا (وَأُخِذُوا مِنْ
مَكانٍ قَرِيبٍ) يعني من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض إلى
بطنها إذا ماتوا ، أو من أرض بدر إلى القليب ، والمراد على كل قول سرعة أخذهم (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أي قالوا ذلك عند أخذهم ، والضمير المجرور لله تعالى أو
للنبي صلىاللهعليهوسلم ، أو للقرآن أو للإسلام (وَأَنَّى لَهُمُ
التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) التناوش بالواو التناول ، إلا أن التناوش تناول
قريب سهل لشيء
قريب ، وقرئ بهمز الواو فيحتمل أن يكون المعنى واحدا ، ويكون المهموز
بمعنى الطلب ، ومعنى الآية استبعاد وصولهم إلى مرادهم ، والمكان البعيد : عبارة عن
تعذر مقصودهم فإنهم يطلبون ما لا يكون ، أو يريدون أن يتناولوا ما لا ينالون وهو
رجوعهم إلى الدنيا أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) الضمير يعود على ما عاد عليه قولهم آمنا به (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ
بَعِيدٍ) يقذفون فعل ماض في المعنى معطوف على كفروا ، ومعناه أنهم
يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون : لا بعث ولا جنة ولا نار. ويقولون في
الرسول عليه الصلاة والسلام : إنه ساحر أو شاعر. والمكان البعيد هنا عبارة عن
بطلان ظنونهم وبعد أقوالهم عن الحق (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي حيل بينهم وبين دخول الجنة ، وقيل : حيل بينهم وبين
الانتفاع بالإيمان حينئذ ، وقيل : حيل بينهم وبين نعيم الدنيا والرجوع إليها (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) يعني الكفار المتقدمين وجعلهم أشياعهم لاتفاقهم في مذاهبهم
، ومن قبل يحتمل أن يتعلق بفعل ، أو بأشياعهم على حسب معنى ما قبله (فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) هو أقوى الشك وأشده إظلاما.
__________________
سورة فاطر
مكية
وآياتها ٤٥ نزلت بعد الفرقان
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة فاطر) (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي وسائط بين الله وبين الأنبياء متصرفين في أمر الله (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات للأجنحة ولم ينصرف للعدل والوصف ، والمعنى أن
الملائكة منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة أجنحة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قيل : يعني حسن الصوت ، وقيل : حسن الوجه ، وقيل : حسن
الحظ ، والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكة ، أو يكون على الإطلاق في كل زيادة في
المخلوقين (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) الفتح عبارة عن العطاء والإمساك عبارة عن المنع ، والإرسال
الإطلاق بعد المنع والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خيري الدنيا والآخرة
فمعنى الآية : لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله ، فإن قيل : لم أنث
الضمير في قوله (فَلا مُمْسِكَ لَها) وذكّره في قوله : (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) وكلاهما يعود على ما الشرطية ، فالجواب : أنه لما فسر من
الأولى بقوله من رحمة أنثه لتأنيث الرحمة ، وترك الآخر على الأصل من التذكير (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد إمساكه (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) رفع غير على الصفة لخالق على الموضع ، وخفضه صفة على الرفع
، ورزق السماء المطر ، ورزق الأرض النبات ، والمعنى تذكير بنعم الله وإقامة حجة
على المشركين ، ولذلك أعقبه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) الآية : تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم على تكذيب قومه كأنه يقول : إن يكذبوك فلا تحزن لذلك فإن
الله سينصرك عليهم ، كما كذبت رسل من قبلك فنصرهم الله (الْغَرُورُ)
الشيطان ، وقيل :
التسويف (أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) توقيف [سؤال] وجوابه محذوف تقديره : أفمن زين له سوء عمله
كمن لم يزين له؟ ثم بنى على ذلك ما بعده ، فالذي زين له سوء عمله هو الذي أضله
الله ، ومن لم يزين له سوء عمله هو الذي هداه الله (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم عن حزنه لعدم إيمانهم ، لأن ذلك بيد الله (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي الحشر ، والمعنى : كما يحيي الله الأرض بالنبات كذلك
يحيي الموتى.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ) الآية تحتمل ثلاثة معان : أحدها وهو الأظهر من كان يريد
نيل العزة فليطلبها من عند الله ، فإن العزة كلها لله ، والثاني من كان يريد العزة
بمغالبة الإسلام فلله العزة جميعا ، فالمغالب له مغلوب ، والثالث من كان يريد أن
يعلم لمن العزة فليعلم أن العزة لله جميعا (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) قيل : يعني لا إله إلا الله ، واللفظ يعم ذلك وغيره من
الذكر ، والدعاء ، وتلاوة القرآن ، وتعليم العلم : فالعموم أولى (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فيه ثلاثة أقوال أحدها أن ضمير الفاعل في يرفعه : الله
وضمير المفعول للعمل الصالح ، فالمعنى على هذا أن الله يرفع العمل الصالح : أي
يتقبله ويثيب عليه ، والثاني أن ضمير الفاعل للكلام الطيب ، وضمير المفعول للعمل
الصالح ، والمعنى على هذا : لا يقبل عمل صالح إلا ممن له كلام طيب ، وهذا يصح إن
قلنا : إن الكلم الطيب لا إله إلا الله ، لأنه لا يقبل العمل إلا من موحد ،
والثالث أن ضمير الفاعل للعمل الصالح ، وضمير المفعول للكلم الطيب ، والمعنى على
هذا أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب فلا يقبل الكلم إلا ممن له عمل صالح
، وروي هذا المعنى عن ابن عباس ، واستبعده ابن عطية وقال : لم يصح عنه ؛ لأن
اعتقاد أهل السنة أن الله يتقبل من كل مسلم. قال وقد يستقيم بأن يتأول أن الله
يزيد في رفعه وحسن موقعه (يَمْكُرُونَ
السَّيِّئاتِ) لا يتعدى مكر فتأويله يمكرون المكرات السيئات ، فتكون
السيئات مصدرا أو تضمن يمكرون معنى يكتسبون فتكون السيئات مفعولا ، والإشارة هنا
إلى مكر قريش برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ حين اجتمعوا في دار الندوة ؛ وأرادوا أن يقتلوه أو
يحبسوه أو يخرجوه (وَمَكْرُ أُولئِكَ
هُوَ يَبُورُ) البوار الهلاك أو الكساد ، ومعناه هنا أن مكرهم يبطل ولا ينفعهم.
(ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْواجاً) أي أصنافا وقيل : ذكرانا وإناثا وهذا أظهر (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) التعمير : طول العمر والنقص : قصره والكتاب : اللوح
المحفوظ فإن قيل :
إن التعمير والنقص لا يجتمعان لشخص واحد فيكف أعاد الضمير في قوله : ولا ينقص من
عمره على الشخص المعمر؟ فالجواب من ثلاثة أوجه الأول وهو الصحيح أن المعنى ما يعمر
من أحد ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، فوضع من معمر موضع من أحد ، وليس المراد
شخصا واحدا ، وإنما ذلك كقولك لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق ، والثاني أن
المعنى لا يزاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، وذلك أن يكتب في
اللوح المحفوظ أن فلانا إن تصدق فعمره ستون سنة وإن لم يتصدق فعمره أربعون ، وهذا
ظاهر قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : صلة الرحم تزيد في العمر ، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة
القائلين بالأجلين وليس مذهب الأشعرية ، وقد قال كعب حين طعن عمر : لو دعا الله
لزاد في أجله ، فأنكر الناس عليه فاحتج بهذه الآية. والثالث أن التعمير هو كتب ما
يستقبل من العمر والنقص هو : كتب ما مضى منه في اللوح المحفوظ وذلك حق كل شخص.
(وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ) قد فسرنا البحرين الفرات والأجاج في [الفرقان : ٥٣] وسائغ
في [النحل : ٦٦] ، والقصد بالآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على
عباده ، وقال الزمخشري : إن المعنى أن الله ضرب للبحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن
والكافر وهذا بعيد (لَحْماً طَرِيًّا) يعني الحوت [السمك] (حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) يعني الجوهر والمرجان ، فإن قيل : إن الحلية لا تخرج إلا
من البحر الملح دون العذب ، فكيف قال : ومن كل أي من كل واحد منهما؟ فالجواب من
ثلاثة أوجه : الأول أن ذلك تجوّز في العبارة كما قال : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣]
والرسل إنما هي من الإنس. الثاني أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح حيث تنصب
أنهار الماء العذب ، أو ينزل المطر فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصب
في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعا. الثالث زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان
من الملح والعذب ، وهذا قول يبطله الحس أي الواقع (مَواخِرَ) ذكر في [النحل : ١٤] (يُولِجُ) ذكر في [لقمان : ٢٩] (قِطْمِيرٍ) هو القشر الرقيق الأبيض الذي على نوى التمر ، والمعنى أن
الأصنام لا يملكون أقل الأشياء فكيف أكثرها (يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ) أي بإشراككم ، فالمصدر مضاف للفاعل ، وكفر الأصنام بالشرك
يحتمل أن يكون بكلام يخلقه الله عندها ، أو بقرينة الحال (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر عالم به ، يعني نفسه
تعالى في إخباره أن الأصنام يكفرون يوم القيامة بمن عبدهم.
(أَنْتُمُ الْفُقَراءُ
إِلَى اللهِ) خطاب لجميع الناس ، وإنما عرف الفقر بالألف واللام ليدل
على اختصاص الفقر بجنس الناس ، وإن كان غيرهم فقراء ولكن فقراء الناس أعظم ، ثم
وصف نفسه بأنه الغني في مقابلة وصفهم بالفقر ، ووصفه بأنه الحميد ليدل على وجوده
وكرمه الذي يوجب أن يحمده عباده (وَإِنْ تَدْعُ
مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) الحمل عبارة عن الذنوب ، والمثقلة الثقيلة الحمل أو النفس
الكثيرة الذنوب ، والمعنى أنها لو دعت أحدا إلى أن يحمل عنها ذنوبها لم يحمل عنها
، وحذف مفعول إن تدع لدلالة المعنى وقصد العموم ، وهذه الآية بيان وتكميل لمعنى
قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥] (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) المعنى ولو كان المدعوّ ذا قربى ممن دعاه إلى حمل ذنوبه لم
يحمل منه شيئا ، لأن كل واحد يقول : نفسي نفسي (إِنَّما تُنْذِرُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم ، وليس
المعنى اختصاصهم بالإنذار (بِالْغَيْبِ) في موضع حال من الفاعل في يخشون أي يخشون ربهم ، وهم
غائبون عن الناس فخشيتهم حق لا رياء.
(وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) تمثيل للكافر والمؤمن (وَلَا الظُّلُماتُ
وَلَا النُّورُ) تمثيل للكفر والإيمان (وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ) تمثيل للثواب والعقاب وقيل : الظل : الجنة والحرور النار.
والحرور في اللغة : شدة الحر بالنهار والليل والسموم بالنهار خاصة (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا
الْأَمْواتُ) تمثيل لمن آمن فهو كالحي ومن لم يؤمن فهو كالميت (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) عبارة عن هداية الله لمن يشاء (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) عبارة عن عدم سماع الكفار للبراهين والمواعظ ، فشبههم بالموتى
في عدم إحساسهم ، وقيل : المعنى أن أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون ، فليس
عليك أن تسمعهم ، وإنما بعث للأحياء (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) معناه أن الله قد بعث إلى كل أمة نبيا يقيم عليهم الحجة ،
فإن قيل : كيف ذلك وقد كان بين الأنبياء فترات وأزمنة طويلة؟ ألا ترى أن بين عيسى
ومحمدا صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ستمائة سنة لم يبعث فيها نبي؟ فالجواب
أن دعوة عيسى ومن تقدمه من الأنبياء كانت قد بلغتهم فقامت عليهم الحجة. فإن قيل :
كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ؟) [السجدة : ٣]
فالجواب أنهم لم يأتهم نذير معاصر لهم ، فلا يعارض ذلك من تقدم قبل عصرهم ، وأيضا
فإن المراد بقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أن نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ليست ببدع فلا ينبغي أن تنكر ، لأن الله أرسله كما
أرسل من قبله
والمراد بقوله : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك أنهم محتاجون إلى الإنذار ،
لكونهم لم يتقدم من ينذرهم فاختلف سياق الكلام فلا تعارض بينهما.
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) الآية تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم للتأسي (نَكِيرِ) ذكر في سبأ (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُها) يريد الصفرة والحمرة وغير ذلك من الألوان ، وقيل : يريد
الأنواع والأول أظهر لذكره البيض والحمر والسود بعد ذلك. وفي الوجهين دليل على أن
الله تعالى فاعل مختار ، يخلق ما يشاء ويختار. وفيه ردّ على الطبائعيين [الدهريين]
لأن الطبيعة لا يصدر عنها إلا نوع واحد (جُدَدٌ) جمع جدة وهي الخطط والطرائق في الجبال (وَغَرابِيبُ) جمع غربيب وهو الشديد السواد ، وقدم الوصف الأبلغ ، وكان
حقه أن يتأخر لقصد التأكيد ، ولأن ذلك كثيرا ما يأتي في كلام العرب (كَذلِكَ) يتعلق بما قبله فيتم الوقف عليه والمعنى : أن من الناس
والدواب والأنعام مختلف ألوانه ، مثل الجبال المختلف ألوانها ، والثمرات المختلف
ألوانها ، وذلك كله استدلال على قدرة الله وإرادته.
(إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) يعني العلماء بالله وصفاته وشرائعه علما يوجب لهم الخشية
من عذابه وفي الحديث : أعلمكم بالله أشدكم له خشية لأن العبد إذا عرف الله خاف من عقابه وإذا لم يعرفه لم يخف
منه فلذلك خص العلماء بالخشية (إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يقرءون القرآن وقيل : معنى يتلون : يتبعون والخبر يرجون
تجارة أو محذوف (لَنْ تَبُورَ) أي لن تكسد ويعني بالتجارة طلب الثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) توفية الأجور ، وهو ما يستحقه المطيع من الثواب ، والزيادة
التضعيف فوق ذلك ، وقيل : الزيادة النظر إلى وجه الله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) تقدم في البقرة.
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) يعني أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، والتوريث عبارة عن أن الله أعطاهم الكتاب بعد غيرهم من
الأمم (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين
هذه الأصناف
__________________
الثلاثة في أمة
محمد صلىاللهعليهوسلم : فالظالم لنفسه العاصي والسابق التقي والمقتصد بينهما
وقال الحسن : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته والمقتصد
من استوت حسناته وسيّئاته ، وجميعهم يدخلون الجنة وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : [سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له] وقيل : الظالم الكافر والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق
التقي فالضمير في منهم على هذا يعود على العباد ، وأما على القول الأول فيعود على
الذين اصطفينا وهو أرجح وأصح لوروده في الحديث ، وجلالة القائلين به ، فإن قيل :
لم قدّم الظالم ووسط المقتصد وأخر السابق؟ فالجواب : أنه قدّم الظالم لنفسه رفقا
به لئلا ييئس وأخر السابق لئلا يعجب بنفسه ، وقال الزمخشري : قدّم الظالم لكثرة
الظالمين وأخر السابق لقلة السابقين (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ) إشارة إلى الاصطفاء (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من الفضل أو خبر مبتدأ تقديره : ثوابهم جنات عدن أو
مبتدأ تقديره : لهم جنات عدن (يَدْخُلُونَها) ضمير الفاعل يعود على الظالم ، والمقتصد ، والسابق ، على
القول بأن الآية في هذه الأمة : وأما على القول بأن الظالم هو الكافر فيعود على
المقتصد والسابق خاصة ، وقال الزمخشري : إنه يعود على السابق خاصة وذلك على قول
المعتزلة في الوعيد (أَساوِرَ) ذكر في [الحج : ٢٣] (أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ) قيل هو عذاب النار ، وقيل : أهوال القيامة وقيل : هموم
الدنيا والصواب العموم في ذلك كله (دارَ الْمُقامَةِ) هي الجنة والمقامة هي الإقامة ، والموضع وإنما سميت الجنة
دار المقامة ، لأنهم يقومون فيها ولا يخرجون منها (نَصَبٌ) النصب تعب البدن ، واللغوب تعب النفس ، اللازم عن تعب
البدن (يَصْطَرِخُونَ) يفتعلون من الصراخ أي يستغيثون فيقولون : ربنا أخرجنا وفي
قولهم : غير الذي كنا نعمل اعتراف بسوء عملهم وتندم عليه.
__________________
(أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ) الآية توبيخ لهم وإقامة حجة عليهم وقيل : إن مدة التذكير
ستون سنة وقيل : أربعون وقيل : البلوغ والأول أرجح لقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من عمره الله ستين فقد أعذر إليه في العمر (وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ) يعني النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : يعني الشيب ، لأنه نذير بالموت والأول أظهر (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما تضمره الصدور وتعتقده ، وقال الزمخشري : ذات هنا
تأنيث ذو بمعنى صاحب لأن المضمرات تصحب الصدور (خَلائِفَ) ذكر في الأنعام (مَقْتاً) المقت احتقار الإنسان وبغضه لأجل عيوبه أو ذنوبه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ) الآية احتجاج على المشركين وإبطال لمذهبهم (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) أي نصيب (عَلى بَيِّنَةٍ) قرأ نافع بيّنات أي على أمر جليّ ، والضمير في أتيناهم
يحتمل أن يكون للأصنام أو للمشركين وهذا أظهر في المعنى والأول أليق بما قبله من
الضمائر (أَنْ تَزُولا) في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تزولا أو مفعول به
لأن يمسك بمعنى يمنع (وَلَئِنْ زالَتا) أي لو فرض زوالهما لم يمسكهما أحد ، وقيل : أراد زوالهما
يوم القيامة عند طيّ السماء وتبديل الأرض ونسف الجبال (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد تركه الإمساك (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) الضمير لقريش وذلك أنهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى
جاءتهم الرسل فكذبوهم ، والله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى منهم (إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني اليهود والنصارى (فَلَمَّا جاءَهُمْ
نَذِيرٌ) يعني محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (اسْتِكْباراً) بدل من نفورا أو مفعول من أجله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك : مسجد الجامع وجانب
الغربي والأصل أن يقال : المكر السيء (وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي لا يحيط وبال المكر السيء إلا بمن مكره ودبره ، وقال
كعب لابن عباس : إن في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها فقال ابن عباس : أنا
أجد هذا في كتاب الله : ولا يحيق المكر
__________________
السيء إلا بأهله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ
الْأَوَّلِينَ) أي هل ينظرون إلا عادة الأمم المتقدمة في أخذ الله لهم
وإهلاكهم بتكذيبهم للرسل (وَما كانَ اللهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يفوته شيء ولا يصعب عليه (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الضمير للأرض والدابة عموم في كل ما يدب وقيل : أراد بني
آدم خاصة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة وباقي الآية وعد ووعيد.
سورة يس
مكية
إلا ٤٥ فمدنية وآياتها ٨٣ نزلت بعد الجن
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة يس) قد
تكلمنا في البقرة على حروف الهجاء وقيل : في (يس) إنه من أسماء النبي صلىاللهعليهوسلم وقيل : معناه يا إنسان (تَنْزِيلَ) بالرفع خبر ابتداء مضمر وبالنصب مصدر أو مفعول بفعل مضمر (لِتُنْذِرَ قَوْماً) هم قريش ويحتمل أن يدخل معهم سائر العرب وسائر الأمم (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ما نافية والمعنى : لم يرسل إليهم ولا لآبائهم رسول ينذرهم
، وقيل المعنى : لتنذر قوما مثل ما أنذر آباؤهم ، فما على هذا موصولة بمعنى الذي ،
أو مصدرية والأول أرجح لقوله (فَهُمْ غافِلُونَ) يعني أن غفلتهم بسبب عدم إنذارهم ، وتكون بمعنى قوله : ما
أتاهم من نذير من قبلك ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين ، فإن هؤلاء القوم لم
يدركوهم ولا آباؤهم الأقربون (لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ) أي سبق القضاء (إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) الآية : فيها ثلاثة أقوال : الأول أنها عبارة عن تماديهم
على الكفر ، ومنع الله لهم من الإيمان ، فشبههم بمن جعل في عنقه غل يمنعه من
الالتفات ، وغطى على بصره فصار لا يرى ، والثاني أنها عبارة عن كفهم عن إذاية
النبي صلىاللهعليهوسلم حين أراد أبو جهل أن يرميه بحجر ، فرجع عنه فزعا مرعوبا ،
والثالث : أن ذلك حقيقة في حالهم في جهنم ، والأول أظهر وأرجح لقوله قبلها (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقوله بعدها («وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» فَهِيَ إِلَى
الْأَذْقانِ) الذقن هي طرف الوجه حيث تنبت اللحية ، والضمير للأغلال ،
وذلك أن الغل حلقة في العنق ، فإذا كان واسعا عريضا وصل إلى الذقن فكان أشدّ على
المغلول ، وقيل : الضمير للأيدي على أنها لم يتقدم لها ذكر ، ولكنها تفهم من سياق
الكلام ، لأن المغلول تضم يداه في الغل إلى عنقه ، وفي مصحف ابن مسعود : إنا جعلنا
في أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان. وهذه القراءة تدل على هذا المعنى ، وقد أنكره الزمخشري
__________________
(فَهُمْ مُقْمَحُونَ) يقال قمح البعير إذا رفع رأسه ، وأقمحه غيره إذا فعل به
ذلك ، والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم إلى
الارتفاع ، وقيل : معنى مقمحون ممنوعون من كل خير.
(وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) الآية : السد الحائل بين الشيئين ، وذلك عبارة عن منعهم من الإيمان (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي غطينا على أبصارهم وذلك أيضا مجاز يراد به إضلالهم (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) الآية : ذكرنا معناها وإعرابها في [البقرة : ٦] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ) المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا من اتبع الذكر وهو القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) معناه كقولك : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وقد
ذكرناه في [فاطر : ١٨] (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى) أي نبعثهم يوم القيامة ، وقيل : إحياؤهم إخراجهم من الشرك
إلى الإيمان ، والأوّل أظهر (وَنَكْتُبُ ما
قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أي ما قدموا من أعمالهم ، وما تركوه بعدهم ، كعلم علموه أو
تحبيس [وقف] حبسوه ، وقيل : الأثر هنا : الخطا إلى المساجد ، وجاء ذلك في الحديث (إِمامٍ مُبِينٍ) أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ أو صحائف الأعمال.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً) الضمير لقريش ، ومثلا وأصحاب القرية مفعولان باضرب على
القول بأنها تتعدى إلى مفعولين ، وهو الصحيح والقرية أنطاكية (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) هم من الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه الصلاة والسلام ،
يدعون الناس إلى عبادة الله ، وقيل : بل هم رسل أرسلهم الله ، ويدل على هذا قول
قومهم : ما أنتم إلا بشر مثلنا ، فإن هذا إنما يقال : لمن ادعى أن الله أرسله (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قوينا الاثنين برسول ثالث ، قيل : اسمه شمعون (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ) إنما أكدوا الخبر هنا باللام لأنه جواب المنكرين ، بخلاف
الموضع الأول فإنه إخبار مجرد (قالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا بكم ، وأصل اللفظة من زجر الطير ليستدل على ما
يكون من شر أو خير ، وإنما تشاءموا بهم لأنهم جاءوهم بدين غير دينهم ، وقيل : وقع
فيهم الجذام لما كفروا ، وقيل : قحطوا (قالُوا طائِرُكُمْ
مَعَكُمْ) أي قال الرسل لأهل القرية : شؤمكم معكم ؛ أي إنما الشؤم
الذي أصابكم
__________________
بسبب كفركم لا
بسببنا (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) دخلت همزة الاستفهام على حرف الشرط وفي الكلام حذف تقديره
: أتطيرون أن ذكرتم (يَسْعى) أي يسرع بجده ونصيحته ، وقيل : اسمه حبيب النجار (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ
أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي هؤلاء المرسلون لا يسألونكم أجرة على الإيمان ، فلا
تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وترجون معهم الاهتداء في دينكم (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي) المعنى أي شيء يمنعني من عبادة ربي؟ وهذا توقيف سؤال
وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ، ولذلك قال : وإليه ترجعون فخاطبهم (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا
تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ) هذا وصف للآلهة ، والمعنى : كيف أتخذ من دون الله آلهة لا
يشفعون ولا ينقذونني من الضر (إِنِّي إِذاً لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : إن اتخذت آلهة غير الله فإني لفي ضلال مبين (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) خطاب لقومه أي : اسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي ، وقيل :
خطاب للرسل ليشهدوا له.
(قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ) قيل : هنا محذوف يدل عليه الكلام ، وروي في الأثر وهو أن
الرجل لما نصح قومه قتلوه فلما مات قيل له : ادخل الجنة ، واختلف هل دخلها حين
موته كالشهداء؟ أو هل ذلك بمعنى البشارة بالجنة ورؤيته لمقعده منها؟ (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) تمنّى أن يعلم قومه بغفران الله له على إيمانه فيؤمنون ،
ولذلك ورد في الحديث أنه نصح لهم حيا وميتا ، وقيل : أراد أن يعلموا ذلك فيندموا
على فعلهم معه وينفعهم ذلك (وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) المعنى أن الله أهلكهم بصيحة صاحها جبريل ، ولم يحتج في
تعذيبهم إلى إنزال جند من السماء ، لأنهم أهون من ذلك ، وقيل : المعنى ما أنزل
الله على قومه ملائكة رسلا كما قالت قريش : (لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧]
ولفظ الجند أليق بالمعنى الأول ، وكذلك ذكر الصيحة بعد ذلك (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) ما كنا لننزل جندا من السماء على أحد (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ساكنون لا يتحركون ولا ينطقون.
(يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ) نداء للحسرة كأنه قال : يا حسرة احضري فهذا وقتك ، وهذا
التفجع عليهم استعارة في معنى التهويل والتعظيم لما فعلوا من استهزائهم بالرسل ،
ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة ، أو المؤمنين من الناس ، وقيل : المعنى يا حسرة
العباد على أنفسهم (أَلَمْ يَرَوْا) الضمير لقريش أو للعباد على الإطلاق ، والرؤية هنا بمعنى
العلم (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ) قرئ لما بالتخفيف وهي لام التأكيد دخلت على ما المزيدة وإن
على هذا مخففة من الثقيلة ، وقرئ بالتشديد وهي بمعنى إلا ، وإن على هذا نافية (وَما عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ) ما معطوفة على ثمره أي ليأكلوا من الثمر وما عملته أيديهم
بالحرث والزراعة والغراسة ، وقيل ما نافية وقرئ ما عملت من غير هاء وما على هذا معطوفة (الْأَزْواجَ) يعني أصناف المخلوقات ثم فسرها بقوله : مما تنبت الأرض وما
بعده ، فمن في المواضع الثلاثة للبيان (وَمِمَّا لا
يَعْلَمُونَ) يعني أشياء لا يعلمها بنو آدم كقوله : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨].
(نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهارَ) أي نجرده منه وهي استعارة (وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي لحد موقت تنتهي إليه من فلكها ، وهي نهاية جريها إلى أن
ترجع في المنقلبين الشتاء والصيف ، وقيل : مستقرها : وقوفها كل وقت زوال ، بدليل
وقوف الظل حينئذ ، وقيل : مستقرها يوم القيامة حين تكوّر ، وفي الحديث : مستقرها
تحت العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها» ، وهذا أصح الأقوال لوروده عن النبي صلىاللهعليهوسلم في الحديث المروي في البخاري عن أبي ذر ، وقرئ لا مستقر لها أي لا تستقر عن جريها (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) قرأ نافع بالرفع على الابتداء أو عطف على الليل ، وآخرون بالنصب على
إضمار فعل ، ولا بد في قدّرناه من حذف تقديره : قدرنا سيره منازل ، ومنازل القمر
ثمانية وعشرون ينزل القمر كل ليلة واحدة منها من أول الشهر ، ثم يستتر في آخر
الشهر ليلة أو ليلتين ، وقال الزمخشري : وهذه المنازل هن مواضع النجوم ؛ وهي
السرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ،
الجبهة ، الزبرة الصرفة ، العوى ، السماك ، الغفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ،
الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد بلع ، سعد الذابح ، سعد السعود ، سعد الأخبية ،
فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، بطن الحوت (حَتَّى عادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) العرجون هو غصن النخلة شبه القمر به إذا انتهى في نقصانه ،
والتشبيه في ثلاثة
__________________
أوصاف : وهي الرقة
، والانحناء ، والصفرة ، ووصفه بالقديم لأنه حينئذ تكون له هذه الأوصاف (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ) المعنى لا يمكن الشمس أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره
، وهكذا قال بعضهم ، ويحتمل أن يريد أن سير الشمس في الفلك بطيء ، فإنها تقطع
الفلك في سنة وسير القمر سريع ، فإنه يقطع الفلك في شهر ، والبطيء لا يدرك السريع (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يعني أن كل واحد منهما جعل الله له وقتا موقتا واحدا
معلوما لا يتعدّاه ، فلا يأتي الليل حتى ينفصل النهار ، كما لا يأتي النهار حتى
ينفصل الليل ، ويحتمل أن يريد أن آية الليل وهي القمر لا تسبق آية النهار وهي
الشمس : أي لا تجتمع معه فيكون المعنى كالذي قيل في قوله «لا الشمس ينبغي لها أن
تدرك القمر» فحصل من ذلك أن الشمس لا تجتمع مع القمر وأن القمر لا يجتمع مع الشمس (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ذكر في [الأنبياء : ٣٣].
(وَآيَةٌ لَهُمْ
أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) معنى المشحون : المملوء ، والفلك هنا يحتمل أن يريد به جنس
السفن ، أو سفينة نوح عليهالسلام ، وأما الذرية فقيل : إنه يعني الآباء الذين حملهم الله في سفينة نوح عليهالسلام ، وسمى الآباء ذرية لأنها تناسلت منهم ، وأنكر ابن عطية
ذلك ، وقال : إنه يعني النساء ، وهذا بعيد ، والأظهر أنه أراد بالفلك جنس السفن ،
فيعني جنس بن آدم ، وإنما خص ذريتهم بالذكر لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، ولأن
فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة ، وإن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني
بالذرية من كان في السفينة ، وسماهم ذرية ، لأنهم ذرية آدم ونوح ، فالضمير في ذريتهم
على هذا النوع بني آدم كأنه يقول الذرية منهم (وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) إن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بقوله : من مثله سائر
السفن التي يركبها سائر الناس ، وإن أراد بالفلك جنس السفن فيعني بقوله من مثله
الإبل وسائر المركوبات ، فتكون المماثلة على هذا في أنه مركوب لا غير ، والأول
أظهر ، لقوله وإن نشأ نغرقهم ، ولا يتصور هذا في المركوبات غير السفن (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي لا مغيث لهم ولا منقذ لهم من الغرق (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) قال الكسائي : نصب رحمة على الاستثناء كأنه قال : إلا أن
نرحمهم ، وقال الزجاج : نصب رحمة على المفعول من أجله كأنه قال : إلا لأجل رحمتنا
إياهم (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) يعني آجالهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) الضمير لقريش ، وجواب إذا محذوف تقديره : أعرضوا يدل عليه
إلا كانوا عنها معرضين ، والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم : ذنوبهم المتقدّمة
والمتأخرة ، وقيل : ما بين أيديهم عذاب الأمم المتقدمة ، وما
__________________
خلفهم عذاب الآخرة
(قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) كان النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون يحضون على الصدقات وإطعام المساكين فيجيبهم
الكفار بهذا الجواب ، وفي معناه قولان : أحدهما أنهم قالوا كيف نطعم المساكين ولو
شاء الله أن يطعمهم لأطعمهم ، ومن حرمهم الله نحن نحرمهم ، وهذا كقولهم : كن مع
الله على المدبر ، والآخر أن قولهم رد على المؤمنين ، وذلك أن المؤمنين كانوا
يقولون : إن الأمور كلها بيد الله ، فكأن الكفار يقولون لهم : لو كان كما تزعمون
لأطعم الله هؤلاء فما بالكم تطلبون إطعامهم منا ، ومقصدهم في الوجهين احتجاج
لبخلهم ، ومنعهم الصدقات واستهزاء بمن حضهم على الصدقات (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) يحتمل أن يكون من بقية كلامهم خطابا للمؤمنين ، أو يكون من
كلام الله خطابا للكافرين (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ) يعنون يوم القيامة أو نزول العذاب بهم (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ، وهي النفخة الأولى في
الصور وهي نفخة الصعق (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ
يَخِصِّمُونَ) أي يتكلمون في أمورهم وأصل يخصمون يختصمون ، ثم أدغم ، وقرئ بفتح الخاء وبكسرها واختلاس
حركتها (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً) أي لا يقدرون أن يوصوا بما لهم وما عليهم لسرعة الأمر (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي لا يستطيعون أن يرجعوا إلى منازلهم لسرعة الأمر.
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) هذه النفخة الثانية وهي نفخة القيام من القبور ، والأجداث
هي القبور ، وينسلون يسرعون المشي ، وقيل : يخرجون (قالُوا يا وَيْلَنا) الويل منادى أو مصدر (مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا) المرقد يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان ، قال أبيّ بن
كعب ومجاهد : إن البشر ينامون نومة قبل الحشر ، قال ابن عطية هذا غير صحيح الإسناد
، وإنما الوجه في معنى قولهم : من مرقدنا : أنها استعارة وتشبيه به يعني أن قبورهم
شبهت بالمضاجع ، لكونهم فيها على هيئة الرقاد ، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ) هذا مبتدأ وما بعده خبر وقيل : إن هذا صفة لمرقدنا وما وعد
الرحمن مبتدأ محذوف الخبر وهذا ضعيف ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام من بقية كلامهم ،
أو من كلام الله أو الملائكة أو المؤمنين يقولونها للكفار على وجه التقريع (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) يعني النفخة الثانية وهي نفخة القيام.
__________________
(إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) قرأ نافع وغيره شغل بسكون الغين وقرأ عاصم وآخرون بضم
الغين ، عام في الاشتغال باللذات (فاكِهُونَ) قرئ بالألف ومعناه أصحاب فاكهة ، وبغير ألف وهو من الفكاهة
بمعنى الراحة والسرور (فِي ظِلالٍ) جمع ظل ، وبالضم جمع ظلة ، (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السرير (وَلَهُمْ ما
يَدَّعُونَ) أي ما يتمنون ، وقيل : معناه أن ما يدعون به يأتيهم (سَلامٌ) مبتدأ ، وقيل بدل مما يدعون (قَوْلاً) مصدر مؤكد ، والمعنى : أن السلام عليهم قول من الله بواسطة
الملك أو بغير واسطة.
(وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي انفردوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة (جِبِلًّا كَثِيراً) الجبلّ الأمة العظيمة ، وقال الضحاك : أقلها عشرة آلاف ولا
نهاية لأكثرها ، وقرأ عاصم ونافع جبلّا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وبضمها
مع التخفيف ، وبضم الجيم وإسكان الباء ، وهي لغات بمعنى واحد (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) أي نمنعهم من الكلام فتنطق أعضاؤهم يوم القيامة (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى
أَعْيُنِهِمْ) هذا تهديد لقريش ، والطمس على الأعين هو العمى ، والصراط
الطريق وأنى استفهام يراد به النفي. فمعنى الآية لو نشاء لأعميناهم فلو راموا أن
يمشوا على الطريق لم يبصروه ، وقيل : يعني عمى البصائر أي : لو نشاء لختمنا على
قلوبهم ، فالطريق على هذا استعارة بمعنى الإيمان والخير (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) هذا تهديد بالمسخ ، فقيل : معناه المسخ قردة وخنازير
وحجارة ، وقيل : معناه لو نشاء لجعلناهم مقعدين مبطولين لا يستطيعون تصرفا ، وقيل
: إن هذا التهديد كله بما يكون يوم القيامة ، والأظهر أنه في الدنيا (عَلى مَكانَتِهِمْ) المكانة المكان ، والمعنى لو نشاء لمسخناهم مسخا يقعدهم في
مكانهم (فَمَا اسْتَطاعُوا
مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي نحول خلقته من القوة إلى الضعف ، ومن الفهم إلى البله وشبه ذلك كما قال تعالى
__________________
(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤]
وإنما قصد بذكر ذلك هنا للاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار ، كما قدر على
تنكيس الإنسان إذا هرم.
(وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) الضميران لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وذلك ردّ
على الكفار في قولهم : إنه شاعر ، وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا ينظم
الشعر ولا يزنه ، وإذا ذكر بيت شعر كسر وزنه ، فإن قيل : قد روي عنه صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم أنه قال : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب وروي أيضا
عنه صلىاللهعليهوسلم : هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت ، وهذا
الكلام على وزن الشعر فالجواب أنه ليس بشعر ، وأنه لم يقصد به الشعر ، وإنما جاء
موزونا بالاتفاق لا بالقصد ، فهو كالكلام المنثور ، ومثل هذا يقال في مثل ما جاء
في القرآن من الكلام الموزون ، ويقتضي قوله «وما ينبغي له» تنزيه النبي صلىاللهعليهوسلم عن الشعر لما فيه من الأباطيل وإفراط التجاوز ، حتى يقال :
إن الشعر أطيبه أكذبه ، وليس كل الشعر كذلك فقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إن من الشعر لحكمة» وقد أكثر الناس في ذم الشعر ومدحه ، وإنما الإنصاف قول
الشافعي الشعر كلام والكلام منه حسن ومنه قبيح (إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ) الضمير للقرآن يعني أنه ذكر لله أو تذكير للناس أو شرف لهم
(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ
حَيًّا) أي حيّ القلب والبصيرة (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ
عَلَى الْكافِرِينَ) أي يجب عليهم العذاب.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) مقصد الآية تعديد النعم وإقامة الحجة ، والأيدي هنا عند
أهل التأويل عبارة عن القدرة ، وعند أهل التسليم من المتشابه الذي يجب الإيمان به
وعلمه عند الله (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) الركوب بفتح الراء هو المركوب (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) يعني الأكل منها والحمل عليها ، والانتفاع بالجلود والصوف
وغيره (وَمَشارِبُ) يعني الألبان (لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ) الضمير في يستطيعون للأصنام ، وفي نصرهم للمشركين ، ويحتمل
العكس ، ولكنّ الأول أرجح ، فإنه لما ذكر أن المشركين اتخذوا الأصنام لينصروهم : أخبر
أن الأصنام لا يستطيعون نصرهم فخاب أملهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ) الضمير الأول للمشركين والثاني للأصنام ؛ يعني أن المشركين
يخدمون الأصنام ويتعصبون لهم حتى أنهم لهم كالجند ، وقيل : بالعكس بمعنى أن
الأصنام جند محضرون لعذاب المشركين في الآخرة والأول أرجح ، لأنه تقبيح لحال
المشركين (فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ) تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم معللة لما بعدها.
__________________
(أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) هذه الآية وما بعدها إلى آخر السورة براهين على الحشر يوم
القيامة ، ورد على من أنكر ذلك ، والنطفة هي نطفة المني التي خلق الإنسان منها ،
ولا شك أن الإله الذي قدر على خلق الإنسان من نطفة قادر على أن يخلقه مرة أخرى عند
البعث ، وسبب الآية أن العاصي بن وائل جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم رميم فقال : يا محمد من يحيي هذا؟ وقيل إن الذي جاء
بالعظم أمية بن خلف وقيل : أبي بن خلف فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الله يحييه ويميتك ثم يحييك ويدخلك جهنم (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي متكلم قادر على الخصام يبين ما في نفسه بلسانه (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) إشارة إلى قول الكافرين : من يحيي هذا العظم (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي نسي الاستدلال بخلقته الأولى على بعثه ، والنسيان هنا
يحتمل أن يكون بمعنى الذهول أو الترك (وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية متفتتة (قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) استدلال بالخلقة الأولى على البعث (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي يعلم كيف يخلق كل شيء ، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد
فنائها ، والخلق هنا يحتمل أن يكون مصدرا أو بمعنى المخلوق (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ ناراً) هذا دليل آخر على إمكان البعث ، وذلك أن الذين أنكروه من
الكفار والطبائعيين قالوا : طبع الموت يضاد طبع الحياة فكيف تصير العظام حية؟
فأقام الله عليهم الدليل من الشجر الأخضر الممتلئ ماء ، مع مضادة طبع الماء للنار.
ويعني بالشجر زناد العرب وهو شجر المرخ والعفار ، فإنه يقطع من كل واحد منهما غصنا
أخضر يقطر منه الماء ، فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار بينهما : قال ابن عباس
: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب ، ولكنه في المرخ والعفار أكثر.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) هذا دليل آخر على البعث ، بأن الإله الذي قدر على خلق
السموات والأرض على عظمهما وكبر أجرامهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد
فنائها ، والضمير في مثلهم يعود على الناس (وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ) ذكر في هذين الاسمين أيضا استدلال على البعث ، وكذلك في
قوله (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) لأن هذا عبارة عن قدرته على جميع الأشياء ولا شك أن الخلاق
العليم القدير لا يصعب عليه إعادة الأجساد (فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) في هذا استدلال على البعث ، وتنزيه لله عما نسبه الكفار
إليه من العجز عن البعث ، فإنهم ما قدروا الله حق قدره ، وكل من أنكر البعث فإنما
أنكره لجهله بقدرة الله سبحانه وتعالى.
سورة الصافات
مكية
وآياتها ١٨٢ نزلت بعد الأنعام
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الصافات) (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) تقديره والجماعات الصافات ثم اختلف فيها فقيل : هي
الملائكة التي تصف في السماء صفوفا لعبادة الله ، وقيل : هو من يصف من بني آدم في
الصلوات والجهاد ، والأول أرجح لقوله حكاية عن الملائكة [الآية : ١٦٥] وإنا لنحن
الصافون (فَالزَّاجِراتِ
زَجْراً) هي الملائكة تزجر السحاب وغيرها ، وقيل : الزاجرون
بالمواعظ من بني آدم ، وقيل : هي آيات القرآن المتضمنة للزجر عن المعاصي (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هي الملائكة تتلو القرآن والذكر ، وقيل : هم التالون
للقرآن والذكر من بني آدم ، وهي كلها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) يعني مشارق الشمس ، وهي ثلاثمائة وستون مشرقا ، وكذلك
المغارب فإنها تشرق كل يوم من أيام السنة في مشرق منها وتغرب في مغرب ، واستغنى
بذكر المشارق عن ذكر المغارب لأنها معادلة لها ، فتفهم من ذكرها.
(بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ) وقرأ نافع وغيره بإضافة الزينة إلى الكواكب ، والزينة تكون
مصدرا واسما لما يزان به ، فإن كان مصدرا فهو مضاف إلى الفاعل تقديره : بأن زينة
الكواكب اسما أو مضاف إلى المفعول تقديره : بأن زينا الكواكب ، وإن كانت اسما
فالإضافة بيان للزينة ، وقرأ حفص وحمزة بتنوين زينة وخفض الكواكب على البدل ، ونصب
الكواكب على أنها مفعول بزينة أو بدل من موضع زينة (وَحِفْظاً) منصوب على المصدر تقديره : وحفظناها حفظا ، أو مفعول من
أجله ، والواو زائدة أو محمول على المعنى ، لأن المعنى إنا جعلنا الكواكب زينة
للسماء وحفظا (مارِدٍ) أي شديد الشر (لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) الضمير في يسمعون للشياطين ، والملأ الأعلى هم الملائكة
الذين يسكنون في السماء ،
__________________
والمعنى أن
الشياطين منعت من سماع أحاديث الملائكة. وقرأ حفص وعاصم وحمزة يسمعون بتشديد السين
والميم ، ووزنه يتفعلون والسمع طلب السماع ، فنفى السماع على القراءة الأولى ،
ونفى طلبه على القراءة بالتشديد ، والأول أرجح لقوله (إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢]
ولأن ظاهر الأحاديث أنهم يستمعون ، لكنهم لا يسمعون شيئا ، منذ بعث محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ لأنهم يرجمون بالكواكب (وَيُقْذَفُونَ) أي يرجمون يعني بالكواكب وهي التي يراها الناس تنقضّ ، قال النقاش ومكي : ليست
الكواكب الراجمة للشياطين بالكواكب الجارية في السماء ؛ لأن تلك لا ترى حركتها
وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا. قال ابن عطية : وفي هذا نظر (دُحُوراً) أي طردا وإبعادا وإهانة ؛ لأن الدحر الدفع بعنف. وإعرابه
مفعول من أجله أو مصدر من يقذفون على المعنى أو مصدر في موضع الحال تقديره :
مدحورين (عَذابٌ واصِبٌ) أي دائم ، لأنهم يرجمون بالنجوم في الدنيا ، ثم يقذفون في
جهنم ، (إِلَّا مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ) من في وضع رفع بدل من الضمير في قوله : لا يسمعون والمعنى
لا تسمع الشياطين أخبار السماء إلا الشيطان الذي خطف الخطفة (شِهابٌ ثاقِبٌ) أي شديد الإضاءة.
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) الضمير لكفار قريش ، والاستفتاء نوع من السؤال ، وكأنه
سؤال من يعتبر قوله ويجعل حجة ؛ لأن جوابهم عن السؤال مما تقوم به الحجة عليهم ومن
خلقنا يراد به ما تقدم ذكره من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب ، وقيل
: يراد به ما تقدم من الأمم والأول أرجح ؛ لقراءة ابن مسعود أم من عددنا ومقصد
الآية : إقامة الحجة عليهم في إنكارهم البعث في الآخرة كأنه يقول : هذه المخلوقات
أشد خلقا منكم ، فكما قدرنا على خلقهم كذلك نقدر على إعادتكم بعد فنائكم (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) اللازب اللازم أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، ووصفه بذلك
يراد به ضعف خلقة بني آدم ، (بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ) أي عجبت يا محمد من ضلالهم وإعراضهم عن الحق ، أو عجبت من
قدرة الله على هذه المخلوقات العظام المذكورة ، وقرأ حمزة والكسائي عجبت بضم التاء
وأشكل ذلك على من يقول : إن التعجب مستحيل على الله فتأولوه بمعنى : أنه جعله على
حال يتعجب منها الناس وقيل : تقديره قل يا محمد عجبت وقد جاء التعجب من الله في
القرآن والحديث كقوله صلىاللهعليهوسلم : «يعجب ربك من شاب ليس له صبوة» وهو صفة فعل وإنما جعلوه مستحيلا على الله ، لأنهم قالوا
إن التعجب استعظام خفي سببه ، والصواب
__________________
أنه لا يلزم أن
يكون خفيّ السبب بل هو لمجرد الاستعظام ؛ فعلى هذا لا يستحيل على الله (وَيَسْخَرُونَ) تقديره وهم يسخرون منك أو من البعث (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) الآية هنا العلامة كانشقاق القمر ونحوه ، وروي أنها نزلت
في مشرك اسمه ركانة ، أراه النبي صلىاللهعليهوسلم آيات فلم يؤمن ، ويستسخرون معناه : يسخرون فيكون فعل
واستعمل بمعنى واحد وقيل : معناه يستدعى بعضهم بعضا لأن يسخر ، وقيل يبالغون في
السخرية.
(أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً) الآية : معناها استبعادهم البعث وقد تقدم الكلام على
الاستفهامين في الرعد (أَوَآباؤُنَا) بفتح الواو دخلت همزة الإنكار على واو العطف ، وقرئ بالإسكان عطفا بأو (قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل : تبعثون. والداخر الصاغر الذليل (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) هي النفخة في الصور للقيام من القبور (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) يحتمل أن يكون من النظر بالأبصار ، أو من الانتظار أي :
ينتظرون ما يفعل بهم (هذا يَوْمُ الدِّينِ) يحتمل أن يكون من كلامهم مثل الذي قبله ، أو مما يقال لهم
مثل الذي بعده (احْشُرُوا) الآية : خطاب للملائكة خاطبهم به الله تعالى أو خاطب به
بعضهم بعضا (وَأَزْواجَهُمْ) يعني نساءهم المشركات وقيل : يعني أصنامهم وقرناءهم من
الجنّ والإنس (وَما كانُوا
يَعْبُدُونَ) يعني الأصنام والآدميين الذي كانوا يرضون بذلك (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي دلوهم على طريق جهنم ليدخلوها (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) يعني إنهم يسألون عن أعمالهم ، توبيخا لهم وقيل : يسألون
عن قول : لا إله إلا الله والأول أرجح ، لأنه أهم ويحتمل أن يسألوا عن عدم تناصرهم
، على وجه التهكم بهم ، فيكون مسؤولون عاملا فيما بعده والتقدير ؛ يقال لهم : ما
لكم لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تقولون : (نَحْنُ جَمِيعٌ
مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤] (مُسْتَسْلِمُونَ) أي منقادون عاجزون عن الانتصار (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا
عَنِ الْيَمِينِ) الضمير في قالوا ، للضعفاء من الكفار خاطبوا الكبراء منهم
في جهنم ، أو للإنس خاطبوا الجنّ ، واليمين هنا يحتمل ثلاث معان : الأول أن يراد
بها طريق الخير والصواب وجاءت العبارة عن ذلك بلفظ اليمين كما أن العبارة عن الشر
بالشمال ، والمعنى أنهم قالوا لهم : إنكم كنتم تأتوننا عن طريق الخير فتصدوننا عنه
والثاني أن يراد به القوة ، والمعنى على هذا أنكم كنتم تأتوننا بقوتكم وسلطانكم
فتأمروننا بالكفر وتمنعوننا من الإيمان والثالث أن يراد بها اليمين التي يحلف بها
أي كنتم تأتوننا بأن تحلفوا لنا أنكم على الحق فنصدقكم في ذلك ونتبعكم.
__________________
(قالُوا بَلْ لَمْ
تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الضمير في قالوا للكبراء من الكفار ، أو للشياطين والمعنى
أنهم قالوا لأتباعهم : ليس الأمر كما ذكرتم ، بل كفرتم باختياركم (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا
لَذائِقُونَ) أي وجب العذاب علينا وعليكم ، وإنا لذائقون : معمول القول
وحذف معمول ذائقون تقديره ، وجب القول بأنا ذائقو العذاب (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي دعوناكم إلى الغي ، لأنا كنّا على غي (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ
مُشْتَرِكُونَ) أي إن المتبوعين والأتباع مشتركون في عذاب النار (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا
آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) الضمير في يقولون لكفار قريش ، ويعنون بشاعر مجنون : محمد صلىاللهعليهوسلم ، فردّ الله عليهم بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) أي جاء بالتوحيد والإسلام ، وهو الحق (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين جاءوا قبله : لأنه جاء بمثل ما جاءوا به ، ويحتمل
المعنى أن يكون صدقهم لأنهم أخبروا بنبوّته ، فظهر صدقهم لما بعث عليه الصلاة
والسلام.
(إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع بمعنى لكن ، وقرئ مخلصين بفتح اللام وكسرها
في كل موضع ، وقد تقدّم تفسيره (عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) السرر جمع سرير ، وتقابلهم في بعض الأحيان للسرور بالأنس ،
وفي بعض الأحيان ينفرد كل واحد بقصره (يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الذين يطوفون عليهم الولدان ، حسبما ورد في الآية الأخرى ،
والكأس الإناء الذي فيه خمر قاله ابن عباس ، وقيل : الكأس إناء واسع الفم ، ليس له
مقبض ، سواء كان فيه خمر أم لا ، والمعين : الجاري الكثير ، لأنه فعيل ، والميم
فيه أصلية ، وقيل : هو مشتق من العين والميم زائدة ، ووزنه مفعول (لَذَّةٍ) أي ذات لذة ، فوصفها بالمصدر اتساعا (لا فِيها غَوْلٌ) الغول : اسم عام في الأذى والضير ، ومنه يقال : غاله يغوله
؛ إذا أهلكه ، وقيل : الغول وجع في البطن ، وقيل : صداع في الرأس ، وإنما قدم
المجرور هنا تعريضا بخمر الدنيا لأن الغول فيها (وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ) أي لا يسكرون من خمر الجنة ، ومنه النزيف ، وهو السكران ،
وعن هنا سببية ، كقولك فعلته عن أمرك ، أي لا ينزفون بسبب شربها (قاصِراتُ الطَّرْفِ) معناه أنهن قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن ، فلا ينظرن
إلى غيرهن (عِينٌ) جميع عيناء ، وهي الكبيرة العينين
__________________
في جمال (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قيل شبههن في اللون ببيض النعام ، فإنه بياض خالطه صفرة
حسنة ، وكذلك قال امرؤ القيس :
كبكر مقناة البياض بصفرة
وقيل : إنما
التشبيه بلون قشر البيضة الداخلي الرقيق ، وهو المكنون المصون تحت القشرة الأولى ،
وقيل : أراد الجوهر المصون.
(فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) هذا إخبار عن تحدّث أهل الجنة. قال الزمخشري : هذه الجملة
معطوفة على يطاف عليهم ، والمعنى : أنهم يشربون فيتحدّثون على الشراب ، بما جرى
لهم في الدنيا (إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ) قيل : إن هذا القائل وقرينه من البشر ، مؤمن وكافر ، وقيل
: إن قرينه كان من الجن (يَقُولُ أَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) معناه أنه كان يقول له على وجه الإنكار : أتصدق بالدنيا
والآخرة؟ (لَمَدِينُونَ) أي مجازون ومحاسبون على الأعمال ، ووزنه مفعول ، وهو من
الدين ، بمعنى الجزاء والحساب (قالَ هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ) أي قال ذلك القائل لرفقائه في الجنة ، أو للملائكة أو
لخدامه : هل أنتم مطلعون على النار لأريكم ذلك العزيز فيها؟ وروي أن في الجنة كوى
ينظرون أهلها منها إلى النار (فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ) أي في وسطها (قالَ تَاللهِ إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي تهلكني بإغوائك ، والردى الهلاك ، وهذا خطاب خاطب به
المؤمن قرينه الذي في النار (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) في العذاب (أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ) هذا من كلام المؤمن ، خطاب لقرينه ، أو خطابا لرفقائه في
الجنة ولهذا قال نحن فأخبر عن نفسه وعنهم ، ويحتمل أن يكون من كلامه وكلامهم جميعا
(إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يحتمل أن يكون من كلام المؤمن ، أو من كلامه وكلام رفقائه
في الجنة أو من كلام الله تعالى ، وكذلك يحتمل هذه الوجوه في قوله (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) والأول أرجح فيه أن يكون من كلام الله تعالى ، لأن الذي
بعده من كلام الله فيكون متصلا به ، ولأن الأمر بالعمل إنما هو حقيقة في الدنيا
ففيه تحضيض على العمل الصالح.
(أَذلِكَ خَيْرٌ
نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الإشارة بذلك إلى نعيم الجنة ، وكل ما ذكر من وصفها ، وقال
الزمخشري : الإشارة إلى قوله رزق معلوم ، والنزل الضيافة ، وقيل : الرزق الكثير
وجاء التفضيل هنا بين شيئين ، ليس بينهما اشتراك ، لأن الكلام تقرير وتوبيخ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً
لِلظَّالِمِينَ) قيل : سببها أن أبا جهل وغيره لما سمعوا ذكر شجرة الزقوم ،
قالوا : كيف يكون
في النار شجرة ، والنار تحرق الشجر ، فالفتنة على هذا الابتلاء في الدنيا وقيل :
معناه ، عذاب الظالمين في الآخرة والمراد بالظالمين هنا الكفار (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ) أي تنبت في قعر جهنم وترتفع أغصانها إلى دركاتها (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) الطلع ثمر النخل فاستعير لشجرة الزقوم ، وشبه برءوس
الشياطين مبالغة في قبحه وكراهته ، لأنه قد تقرر في نفوس الناس كراهتها وإن لم
يروها ، ولذلك يقال للقبيح المنظر : وجه شيطان وقيل : رؤوس الشياطين شجرة معروفة
باليمن ، وقيل : هو صنف من الحيات (لَشَوْباً مِنْ
حَمِيمٍ) أي مزاجا من ماء حار ، فإن قيل : لم عطف هذه الجملة بثم ،
فالجواب من وجهين : أحدهما أنه لترتيب تلك الأحوال في الزمان ، فالمعنى أنهم
يملؤون البطون من شجر الزقوم ، وبعد ذلك يشربون الحميم ، والثاني أنه لترتيب
مضاعفة العذاب ، فالمعنى أن شربهم للحميم أشدّ مما ذكر قبله (يُهْرَعُونَ) الإهراع الإسراع الشديد.
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ) أي دعانا فالمعنى دعاؤه بإهلاك قومه ونصرته عليهم (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) يعني الغرق (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أهل الأرض كلهم من ذرية نوح ، لأنه لما غرق الناس في
الطوفان ونجا نوح ومن كان معه في السفينة ، تناسل الناس من أولاده الثلاثة ، سام
وحام ويافث (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ) معناه أبقينا عليه ثناء جميلا في الناس إلى يوم القيامة (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) هذا التسليم من الله على نوح عليهالسلام ، وقيل : إن هذه الجملة مفعول تركنا ، وهي محكية أي تركنا
هذه الكلمة ، تقال له يعني أن الخلق يسلمون عليه فيبتدأ بالسلام على القول الأول ،
لا على الثاني والأول أظهر ، ومعنى في العالمين على القول الأول تخصيصه بالسلام
عليه بين العالمين ، كما تقول : أحب فلانا في الناس : أي أحبه خصوصا من بين الناس
ومعناه على القول الثاني : أن السلام عليه ثابت في العالمين ، وهذا الخلاف يجرى حيث
ما ذكر ذلك في هذه السورة.
(وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) الشيعة الصنف المتفق ، فمعنى من شيعته : من على دينه في
التوحيد ، والضمير يعود على نوح وقيل : على سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم والأول أظهر (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) عبارة عن إخلاصه وإقباله على الله تعالى ، بكليته وقيل :
المراد المجيء بالجسد
(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي سليم من الشرك ، والشك وجميع العيوب (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ
تُرِيدُونَ) الإفك الباطل وإعرابه هنا مفعول من أجله ، وآلهة مفعول به
وقيل : أإفكا مفعول به ، وآلهة بدل منه وقيل : أإفكا مصدر في موضع الحال ، تقديره
: آفكين أي كاذبين والأول أحسن (فَما ظَنُّكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ) المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم به ، وقد
عبدتم غيره؟ أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره كما تقول ما ظنك بفلان؟ إذا
قصدت تعظيمه ، فالمقصد على المعنى الأول تهديد وعلى الثاني تعظيم لله وتوبيخ.
لهم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) روي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوه إلى الخروج
معهم ، فحينئذ قال : إني سقيم ليمتنع عن الخروج معهم ، فيكسر أصنامهم إذا خرجوا
لعيدهم وفي تأويل ذلك ثلاثة أقوال : الأول أنها كانت تأخذه الحمى في وقت معلوم ،
فنظر في النجوم ليرى وقت الحمى ، واعتذر عن الخروج لأنه سقيم من الحمى ، والثاني
أن قومه كانوا منجمين وكان هو يعلم أحكام النجوم فأوهمهم أنه أستدل بالنظر في علم
النجوم أنه يسقم ، فأعتذر بما يخاف من السقم عن الخروج معهم والثالث أن معنى نظر
في النجوم أنه نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم فقال : إني سقيم والنجوم على هذا
ما ينجم من حاله معهم ، وليست بنجوم السماء ، وهذا بعيد وقوله : إني سقيم على حسب
هذه الأقوال يحتمل أن يكون حقا لا كذب فيه ، ولا تجوّز أصلا ، ويعارض هذا ما ورد
عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات ، أحدها : قوله إني سقيم ،
ويحتمل إن يكون كذبا صراحا ، وجاز له ذلك لهذا الاحتمال ، لأنه فعل ذلك من أجل
الله إذ قصد كسر الأصنام ، ويحتمل أن يكون من المعارضين ، فإن أراد أنه سقيم فيما
يستقبل ، لأن كل إنسان لا بدّ له أن يمرض ، أو أراد أنه سقيم النفس من كفرهم
وتكذيبهم له ، وهذان التأويلان أولى ، لأن نفي الكذب بالجملة معارض للحديث ،
والكذب الصراح لا يجوز على الأنبياء ، عند أهل التحقيق ، أما المعاريض فهي جائزة (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي تركوه إعراضا عنه وخرجوا إلى عيدهم ، وقيل : إنه أراد
بالسقم الطاعون وهو داء يعدي ، فخافوا منه وتباعدوا عنه مخافة العدوى (فَراغَ) أي مال (فَقالَ أَلا
تَأْكُلُونَ) إنما قال ذلك على وجه الاستهزاء بالذين يعبدون تلك الأصنام
(ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي يمين يديه وقيل بالقوة وقيل : بالحلف ، وهو قوله :
تالله لأكيدن أصنامكم ، والأول أظهر وأليق بالضرب ، وضربا مصدر في موضع الحال (يزفون)
أي يسرعون.
(قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ) أى تنجرون والنحت النجارة إشارة إلى صنعهم من الحجارة
والخشب (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) ذهب قوم إلى أن ما مصدرية والمعنى : الله
خلقكم وأعمالكم ،
وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد ، وقيل : إنها موصولة بمعنى الذي
والمعنى : الله خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها ، وهذا أليق بسياق الكلام ،
وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام ، وقيل : إنها نافية ، وقيل : إنها
استفهامية ، وكلاهما باطل (قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً) قيل : البنيان في موضع النار ، وقيل : بل كان للمنجنيق ،
الذي رمى عنه (فَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً) يعني حرقه بالنار (فَجَعَلْناهُمُ
الْأَسْفَلِينَ) أي المغلوبين (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) قيل : إنه قال هذا بعد خروجه من النار ، وأراد أنه ذاهب أي
: مهاجر إلى الله فهاجر إلى أرض الشام ، وقيل : إنه قال ذلك قبل أن يطرح في النار
، وأراد أنه ذاهب إلى ربه بالموت ، لأنه ظن أن النار تحرقه ، وسيهدين على القول
الأول يعني إلى صلاح الدين والدنيا ، وعلى القول الثاني إلى الجنة ، وقالت
المتصوفة : معناه إني ذاهب إلى ربي بقلبي ، أي مقبل على الله بكليتي تاركا سواه.
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ) يعني ولدا من الصالحين (فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي عاقل وأختلف الناس في هذا الغلام المبشر به في هذا
الموضع وهو الذبيح ، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجماعة من
التابعين هو إسماعيل. وحجتهم من ثلاثة أوجه الأول أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل عليهالسلام ، ووالده عبد الله ، حين نذر والده عبد المطلب أن ينحر [أحد
أولاده وأصابت القرعة عبد الله] إن يسر الله له أمر زمزم ، ففداه بمائة من الإبل
والثاني أن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح وبشرناه بإسحاق فدل ذلك على أن
الذبيح غيره والثالث أنه روي أن إبراهيم جرت له قصة الذبح بمكة ، وإنما كان معه
بمكة إسماعيل. وذهب عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من التابعين إلى أن الذبيح
إسحاق وحجتهم من وجهين الأول أن البشارة المعروفة لإبراهيم بالوادي إنما كانت
بإسحاق لقوله : فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، والثاني أنه روي أن يعقوب
كان يكتب من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله.
(فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ) يريد بالسعي هنا العمل والعبادة ، وقيل : المشي وكان حينئذ
ابن ثلاثة عشر سنة (قالَ يا بُنَيَّ
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحتمل أن يكون رأى في المنام الذبح وهو الفعل ، أو أمر في
المنام أنه يذبحه ، والأول أظهر في اللفظ هنا ، والثاني أظهر في قوله : افعل ما
تؤمر ورؤيا الأنبياء حق ، فوجب عليه الامتثال على الوجهين
__________________
(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) إن قيل : لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ فالجواب : أنه
لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ، ولكن ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطن نفسه على الصبر ،
فأجابه بأحسن جواب (فَلَمَّا أَسْلَما) إي استسلما وانقادا لأمر الله (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعه بالأرض على جبينه وللإنسان جبينان حول الجبهة ،
وجواب لما محذوف عند البصريين تقديره ، فلما أسلما كان ما كان من الأمر العظيم ،
وقال الكوفيون : جوابها تله والواو زائدة ، وقال بعضهم : جوابها : ناديناه والواو
زائدة (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا) يحتمل أنه يريد بقلبك أى كانت عندك رؤيا صادقة فعملت
بحسبها ، ويحتمل أن يريد بعملك أي وفيت حقها من العمل ، فإن قيل : إنه أمر بالذبح
ولم يذبح ، فكيف قيل له : صدقت الرؤيا؟ فالجواب أنه قد بذل جهده إذ قد عزم على
الذبح ولو لم يفده الله لذبحه ، ولكن الله هو الذي منعه من ذبحه لما فداه ،
فامتناع ذبح الولد إنما كان من الله وبأمر الله ، وقد قضى إبراهيم ما عليه (الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الذي يظهر به طاعة الله أو المحنة البينة الصعوبة.
(وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الذبح اسم لما يذبح ، وأراد به هنا الكبش الذي فدى به ،
وروي أنه من كباش الجنة ، وقيل : إنه الكبش الذي قرب به ولد آدم ، ووصفه بعظيم
لذلك ، أو لأنه من عند الله أو لأنه متقبل ، وروي في القصص أن الذبيح قال لإبراهيم
: أشدد رباطى لئلا أضطرب ، وأصرف بصرك عني لئلا ترحمني ، وأنه أمر الشفرة على حلقه
فلم تقطع ، فحينئذ جاءه الكبش من عند الله ، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية
وتركناه لعدم صحنه ، (كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) إن قيل : لم قال هنا في قصة إبراهيم كذلك دون قوله إنا ،
وقال في غيرها إنا ، فالجواب أنه قد تقدم في قصة إبراهيم نفسها : إنا كذلك فأغنى
عن تكرار أنا (وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ) يعني بالنبوة وغير ذلك (مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ) يعني الغرق أو تعذيب فرعون وإذلاله لهم (وَنَصَرْناهُمْ) الضمير يعود على موسى وهارون وقومها وقيل : على موسى
وهارون خاصة ، وعاملهما معاملة الجماعة للتعظيم ، وهذا ضعيف (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ
الْمُسْتَبِينَ) يعني : التوراة ومعنى المستبين البين ، وفي هذه الآية وما
بعدها نوع من أدوات البيان وهو الترصيع.
(وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلياس من ذرية هارون وقيل إنه إدريس ، وقد أخطأ من
قال : إنه إلياس
المذكور في أجداد النبيّ صلىاللهعليهوسلم
(أَتَدْعُونَ
بَعْلاً) البعل في اللغة الرب بلغة أهل اليمن ، وقيل : بعل اسم صنم
يقال له بعلبك (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ) آل هنا على هذه القراءة بمعنى أهل ياسين اسم لإلياس ، وقيل : لأبيه ، وقيل لسيدنا
محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقرئ إلياسين ، بكسر الهمزة ووصل اللام ساكنة على هذا
جمع إلياس ، أو منسوب لإلياس حذفت منه الياء كما حذفت من أعجمين ، وقيل سمى كل
واحد من آل ياسين إلياس ثم جمعهم وقيل هو لغة في إلياس (عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) قد ذكر.
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) قد ذكرنا قصته في يونس و [الأنبياء : ٨٧] (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) أي هرب إلى السفينة والفلك هنا واحد والمشحون المملوء ،
وسبب هروبه غضبه على قومه حين لم يؤمنوا ، وقيل : إنه أخبرهم أن العذاب يأتيهم في
يوم معين حسبما أعلمه الله ، فلما رأى قومه مخايل العذاب آمنوا ، فرفع الله عنهم
العذاب فخاف أن ينسبوه إلى الكذب فهرب (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) معنى ساهم ضارب القرعة والمدحض المغلوب في القرعة والمحاجة
، وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة ، وقفت ولم تجر ، فقالوا : إنما وقفت من حدث
أحدثه أحدنا ، فنقترع لنرى على من تخرج القرعة فنطرحه فاقترعوا فخرجت القرعة على
يونس فطرحوه في البحر (فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فعل ما يلام عليه ، وذلك خروجه بغير أن يأمره الله
بالخروج (فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) تسبيحه هو قوله : (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، حسبما حكى الله عنه في الأنبياء وقيل : هو قوله سبحان
الله وقيل : هو الصلاة ، واختلف على هذا هل يعني صلاته في بطن الحوت أو قبل ذلك ،
واختلف في مدة بقائه في بطن الحوت فقيل : ساعة وقيل : ثلاثة أيام وقيل : سبعة أيام
وقيل : أربعون يوما (فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ) العراء الأرض الفضاء التي لا شجر فيها ، ولا ظل ، وقيل
يعني الساحل (وَهُوَ سَقِيمٌ) روي أنه كان كالطفل المولود بضعة لحم.
__________________
(وَأَنْبَتْنا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي أنبتناها فوقه لتظله وتقيه حر الشمس ، واليقطين ، القرع
وإنما خصه الله به لأنه يجمع برد الظل ولين اللمس وكبر الورق ، وأن الذباب لا
يقربه ، فإن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب ، وقيل : اليقطين كل
شجرة لا ساق لها كالبقول والقرع والبطيخ ، والأول أشهر (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) يعني رسالته الأولى التي أبق بعدها وقيل : هذه رسالة ثانية
بعد خروجه من بطن الحوت والأول أشهر (أَوْ يَزِيدُونَ) قيل : أو هنا بمعنى بل ، وقرأ ابن عباس ، بل يزيدون ، وقيل
هي بمعنى الواو وقيل : هي للإبهام وقيل : المعنى أن البشر إذا نظر إليهم يتردد
فيقول : هم مائة ألف أو يزيدون واختلف في عددهم فقيل : مائة وعشرون ألفا وقيل :
مائة وثلاثون ألفا وقيل : مائة وأربعون ألفا وقيل : مائة وسبعون ألفا (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم ، وفرقوا بينهم
وبين الأمهات ، وناحوا وتضرعوا إلى الله وأخلصوا فرفع الله العذاب عنهم إلى حين : يعني
لانقضاء آجالهم وقد ذكر الناس في قصة يونس أشياء كثيرة أسقطناها لضعف صحتها.
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) قال الزمخشري : إن هذا معطوف على قوله (فَاسْتَفْتِهِمْ) الذي في أول السورة وإن تباعد ما بينهما ، والضمير المفعول
لقريش وسائر الكفار أي أسألهم على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة
بنات الله ، فجعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور ، وتلك قسمة ضيزى ، ثم قررهم على
ما زعموا من أن الملائكة إناث وردّ عليهم بقوله : وهم شاهدون ، ويحتمل أن يكون
بمعنى الشهادة ، أو بمعنى الحضور أى أنهم لم يحضروا ذلك ولم يعلموه ، ثم أخبر عن
كذبهم في قولهم : ولد الله ، ثم قررهم على ما زعموا من أن الله اصطفى لنفسه البنات
؛ وذلك كله ردّ عليهم وتوبيخ لهم ، تعالى الله عن أقوالهم علوا كبيرا (أَصْطَفَى) دخلت همزة التقرير والتوبيخ على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل
(مالكم) هذا استفهام معناه التوبيخ ، وهي في موضع رفع بالابتداء والمجرور بعدها
خبرها ، فينبغي الوقف على قوله مالكم (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ
مُبِينٌ) أي برهان بين (فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ) تعجيز لهم لأنهم ليس لهم كتاب يحتجون به (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَباً) الضمير في جعلوا لكفار العرب ، وفي معنى الآية قولان :
أحدهما أن الجنّة هنا الملائكة وسميت بهذا الاسم لأنه مشتق من الاجتنان وهو
الاستتار ، والملائكة مستورين عن أعين بني آدم كالجن ، والنسب الذي جعلوه بينهم
وبين الله قولهم : إنهم بنات الله ، والقول الثاني أن الجن هنا الشياطين ، وفي
النسب الذي جعلوه بينه وبينهم أن بعض الكفار قالوا : إن الله والشياطين أخوان ،
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ
الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) من قال : إن الجن الملائكة فالضمير في قوله (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) يعود على الكفار أي قد علمت الملائكة أن الكفار محضرون في
العذاب ومن قال : إن الجن الشياطين فالضمير يعود عليهم أي قد علمت الشياطين أنهم
محضرون في العذاب (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع من المحضرين أو من الفاعل في يصفون والمعنى
: لكن عباد الله المخلصين لا يحضرون في العذاب ، أو لكن عباد الله المخلصين يصفونه
بما هو أهله (فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) هذا خطاب للكفار والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها وما
تعبدون عطف على الضمير في إنكم ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ومعنى فاتنين مضلين
والضمير في عليه يعود على ما تعبدون وعلى سببية معناها التعليل ومن هو مفعول
بفاتنين والمعنى : إنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه لا تضلون أحدا إلا من قضى الله
أنه يصلى الجحيم ، أي لا تقدرون على إغواء الناس إلا بقضاء الله وقال الزمخشري :
الضمير في عليه يعود على الله تعالى.
(وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) هذا حكاية كلام الملائكة عليهمالسلام ، تقديره : ما منا ملك إلا وله مقام معلوم ، وحذف الموصوف
لفهم الكلام ، والمقام المعلوم : يحتمل أن يراد به المكان الذي يقومون فيه ، لأن
منهم من هو في السماء الدنيا ، وفي الثانية ، وفي السموات ، وحيث شاء الله ،
ويحتمل أن يراد به المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي الواقفون في العبادة صفوفا ، ولذلك أمر المسلمون بتسوية
الصفوف في صلاتهم ليقتدوا بالملائكة ، وليس أحد من أهل الملل يصلون صفوفا إلا
المسلمون (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) قيل : معناه المصلون ، لأن الصلاة يقال لها تسبيح ، وقيل :
معناه القائلون سبحان الله ، وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة رد على من قال : إنهم
بنات الله وشركاء له ، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله والتنزيه
له ، ويدل هذا الكلام أيضا على أن المراد بالجن قبل هذا الملائكة ، وقيل : إنه هذا
كله من كلام سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم وكلام المسلمين ، والأول أشهر (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ
عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) الضمير لكفار قريش وسائر العرب ، والمعنى أنهم كانوا قبل
بعث محمد صلىاللهعليهوسلم يقولون : أو أرسل الله إلينا رسولا وأنزل علينا كتابا لكنا
عباد الله المخلصين (فَكَفَرُوا بِهِ) الضمير للذكر ، أو لسيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يتقدم له ذكر (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تهديد ووعيد لهم على كفرهم.
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) المعنى سبق القضاء بأن
المرسلين منصورون
على أعدائهم (وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ) هذا النصر والغلبة بظهور الحجة والبرهان ، وبهزيمة الأعداء
في القتال ، وبالسعادة في الآخرة (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ) أي أعرض عنهم ، وذلك موادعة منسوخة بالسيف ، والحين هنا
يراد به يوم بدر ، وقيل : حضور آجالهم ، وقيل : يوم القيامة (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) هذا وعد للنبي صلىاللهعليهوسلم ووعيد لهم (أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ) إشارة إلى قولهم متى هذا الوعد؟ وأمطر علينا حجارة من
السماء وشبه ذلك (فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ) الساحة : الفناء حول الدار ، والعرب تستعمل هذه اللفظة
فيما يرد على الإنسان من محظور وسوء (فَساءَ صَباحُ
الْمُنْذَرِينَ) الصباح مستعمل في ورود الغارات والرزايا ، ومقصد الآية
التهديد بعذاب يحل بهم بعد أن أنذروا ، فلم ينفعهم الإنذار ، وذلك تمثيل بقوم
أنذرهم ناصح بأن جيشا يحل بهم فلم يقبلوا نصحه ، حتى جاءهم الجيش وأهلكهم (وَأَبْصِرْ) كرر الأمر بالتولي عنهم والوعد والوعيد على وجه التأكيد ،
وقيل : أراد بالوعيد الأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الآخرة ، فإن قيل : لم قال
أولا أبصرهم ، وقال هنا : أبصر ، فحذف الضمير المفعول؟ فالجواب من وجهين : أحدهما
أنه اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا فحذفه اقتصارا ، والآخر أنه حذفه ليفيد العموم
فيمن تقدم وغيرهم كأنه قال : أبصر جميع الكفار بخلاف الأول ، فإنه من قريش خاصة.
(سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزه الله تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به ،
فإنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالا كثيرة شنيعة ، والعزة إن أراد بها عزة الله :
فمعنى رب العزة ، ذو العزة وأضافها إليه لاختصاصه بها ، وإن أراد بها عزة الأنبياء
والمؤمنين : فمعنى رب العزة مالكها وخالقها ، ومن هذا قال محمد بن سحنون : من حلف
بعزة الله ، فإن أراد صفة الله فهي يمين ، وإن أراد العزة التي أعطى عباده فليست
بيمين ، ثم ختم هذه السورة بالسلام على المرسلين (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) فأما السلام على المرسلين فيحتمل أن يريد التحية أو
سلامتهم من أعدائهم ، ويكون ذلك تكميلا لقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ) ، وأما الحمد لله ، فيحتمل أن يريد به الحمد لله على ما
ذكر في هذه السورة من تنزيه الله ونصرة الأنبياء وغير ذلك ، ويحتمل أن يريد الحمد
لله على الإطلاق.
سورة ص
مكية
وآياتها ٨٨ نزلت بعد القمر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة داود عليهالسلام) (ص) تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة ، ويختص بهذا أنه قال
فيه : معناه صدق محمد ، وقيل : هو حرف من اسم الله الصمد أو صادق الوعد ، أو صانع
المصنوعات (وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) هذا قسم جوابه محذوف تقديره : إن القرآن من عند الله ، وإن
محمدا لصادق وشبه ذلك. وقيل : جوابه في قوله ص إذ هو بمعنى صدق محمد ، وقيل :
جوابه [الآتي] (إِنْ كُلٌّ إِلَّا
كَذَّبَ الرُّسُلَ) [ص : ١٤] وهذا
بعيد ، وقيل : جوابه (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] وهذا
أبعد ، ومعنى ذي الذكر : الشرف ، والذكر بمعنى الموعظة ، أو ذكر الله وما يحتاج
إليه من الشريعة (بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) الذين كفروا يعني قريشا ، وبل للإضراب عن كلام محذوف ، وهو
جواب القسم أي : إن كفرهم ليس ببرهان بل هو بسبب العزة والشقاق ، والعزة التكبر ،
والشقاق : العداوة وقصد المخالفة ، وتنكيرهما للدلالة على شدتهما ، وتفاخم الكفار
فيهما (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) إخبار يتضمن تهديدا لقريش (فَنادَوْا وَلاتَ
حِينَ مَناصٍ) المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم
ذلك ، ولات بمعنى : ليس وهي لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث ، كما زيدت في
ربّت وثمة ، ولا تدخل لات إلا على زمان ، واسمها مضمر ، وحين مناص خبرها ،
والتقدير : ليس الحين الذين دعوا فيه حين مناص ، والمناص المفرّ والنجاة من قولك :
ناص ينوص إذا فرّ.
(وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) الضمير لقريش ، والمنذر سيدنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أي استبعدوا أن يبعث الله رسولا منهم ، ويحتمل أن يريد
من قبيلتهم ، أو يريد من البشر مثلهم (وَقالَ الْكافِرُونَ) كان الأصل وقالوا ؛ ولكن وضع الظاهر موضع المضمر قصدا
لوصفهم بالكفر (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً) هذا إنكار منهم للتوحيد ، وسبب نزول هذه الآيات أن قريشا
اجتمعوا وقالوا لأبي طالب : كفّ ابن أخيك عنا ، فإنه يعيب ديننا ويذم
آلهتنا ويسفه
أحلامنا. فكلمه أبو طالب في ذلك ، فقال صلىاللهعليهوسلم : إنما أريد منهم كلمة واحدة يملكون بها العجم ، وتدين لهم
بها العرب ، فقالوا : نعم وعشر كلمات معها. فقال : قولوا لا إله إلا الله ، فقاموا وأنكروا ذلك وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا) انطلاق الملأ عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وقيل : عبارة عن
تفرّقهم في طرق مكة وإشاعتهم للكفر ، وأن امشوا : معناه يقول بعضهم لبعض : امشوا
واصبروا على عبادة آلهتكم ، ولا تطيعوا محمدا فيما يدعو إليه من عبادة الله وحده (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) هذا أيضا مما حكى الله من كلام قريش ، وفي معناه وجهان :
أحدهما إن الإشارة إلى الإسلام والتوحيد ، أي إن هذا التوحيد شيء يراد منا
الانقياد إليه ، والآخر أن الإشارة إلى الشرك والصبر على آلهتهم ، أي إن هذا لشيء
ينبغي أن يراد ويتمسك به ، أو أن هذا شيء يريده الله منا لما قضى علينا به والأول
أرجح ، لأن الإشارة فيما بعد ذلك إليه فيكون الكلام على نسق واحد (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ) هذا أيضا مما حكى الله عنهم من كلامهم ، أي ما سمعنا
بالتوحيد في الملة الآخرة ، والمراد بالملة الآخرة ملة النصارى ، لأنها بعد ملة
موسى وغيره وهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد ، وقيل : المراد ملة قريش أي ما سمعنا
بهذا في الملة التي أدركنا عليها آباءنا ، وقيل : المراد الملة المنتظرة إذ كانوا
يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) هذا أيضا مما حكى من كلامهم ، والإشارة إلى التوحيد
والإسلام ، ومعنى الاختلاق الكذب (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) الهمزة للإنكار ، والمعنى أنهم أنكروا أن يخص الله محمدا
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بإنزال القرآن عليه دونهم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) هذا ردّ عليهم ، والمعنى أنهم ليست لهم حجة ولا برهان ، بل
هم في شك من معرفة الله وتوحيده ، فلذلك كفروا ، ويحتمل أن يريد بالذكر القرآن (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) هذا وعيد لهم وتهديد ، والمعنى أنهم إنما حملهم على الكفر
كونهم لم يذوقوا العذاب ، فإذا ذاقوه زال عنهم الشك وأذعنوا للحق.
(أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) هذا ردّ عليهم فيما أنكروا من اختصاص محمد صلىاللهعليهوسلم بالنبوة ، والمعنى أنهم ليس عندهم خزائن رحمة الله ؛ حتى
يعطوا النبوة من شاءوا ، ويمنعوا من شاؤوا ، بل يعطيها الله لمن يشاء ، ثم وصف
نفسه بالعزيز الوهاب ، لأن العزيز يفعل ما يشاء ، والوهاب ينعم على من يشاء ، فلا
حجة لهم فيما أنكروا (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) هذا أيضا ردّ عليهم ، والمعنى : أم لهم الملك فيتصرفون
__________________
فيه كيف شاءوا ،
بل مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، وأم الأولى منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار ،
وأما أم الثانية فيحتمل أن تكون كذلك ، أو تكون عاطفة معادلة لما قبلها (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) هذا تعجيز لهم ، وتهكم بهم ، ومعنى يرتقوا يصعدوا ،
والأسباب هنا السلالم والطرق ، وشبه ذلك مما يوصل به إلى العلو ، وقيل : هي أبواب
السماء ، والمعنى إن كان لهم ملك السموات والأرض فليصعدوا إلى العرش ويدبروا الملك
(جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) هذا وعيد بهزيمتهم في القتال ، وقد هزموا يوم بدر وغيره ،
وما هنالك صفة لجند ، وفيها معنى التحقير لهم ، والإشارة بهنالك إلى حيث وصفوا
أنفسهم من الكفر والاستهزاء ، وقيل : الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب وهذا بعيد ؛
وقيل الإشارة إلى موضع بدر ، ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصبوا
للباطل فهلكوا.
(وَفِرْعَوْنَ ذِي
الْأَوْتادِ) قال ابن عباس : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها ، وقيل
: كانت له أوتاد يسمرها في الناس لقتلهم ، وقيل : أراد المباني العظام الثابتة ،
ورجحه ابن عطية ، وقال الزمخشري : إن ذلك استعارة في ثبات الملك كقول القائل : في
ظل ملك ثابت الأوتاد (وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ) قد ذكر [الحجر : ٧٨ ، والشعراء : ١٧٦] (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) ينظر هنا بمعنى ينتظر ، وهؤلاء يعني قريشا ، والصيحة الواحدة
النفخة في الصور وهي نفخة الصعق ، وقيل : الصيحة عبارة عما أصابهم من قتل أو شدة ،
والأول أظهر ، وقد روي تفسيرها بذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم (ما لَها مِنْ فَواقٍ) فيه ثلاثة أقوال : الأول مالها رجوع أي لا يرجعون بعدها
إلى الدنيا ، وهو على هذا مشتق من الإفاقة ، الثاني مالها من ترداد : أي إنما هي
واحدة لا ثانية لها : الثالث مالها من تأخير ولا توقف مقدار فواق ناقة وهي ما بين
حلبتي اللبن ، وهذا القول الثالث إنما يجرى على قراءة فواق بالضم لأن فواق الناقة
بالضم ، والقولان الأولان على الفتح والضم (وَقالُوا رَبَّنا
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) القط في اللغة له معنيان : أحدها الكتاب ، والآخر النصيب ،
وفي معناه هنا ثلاثة أقوال : أحدها نصيبنا من الخير : أي دعوا أن يعجله الله لهم
في الدنيا والآخر : نصيبهم من العذاب ، فهو كقولهم : أمطر علينا حجارة من السماء.
الثالث صحائف أعمالنا.
(اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) الأيد القوة ، وكان داود جمع قوة البدن وقوة الدين والملك
والجنود ، والأواب : الرجاع إلى الله ، فإن قيل : ما المناسبة بين أمر الله لسيدنا
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم بالصبر على أقوال الكفار وبين أمره له بذكر داود؟ فالجواب
عندي أن ذكر داود ومن بعده من الأنبياء في هذه السورة فيه
تسلية للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ووعد له بالنصر وتفريج الكرب ، وإعانة له على ما أمر به
من الصبر ، وذلك أن الله ذكر ما أنعم به على داود من تسخير الطير والجبال ، وشدّة
ملكه ، وإعطائه الحكمة وفصل الخطاب ، ثم الخاتمة له في الآخرة بالزلفى وحسن المآب
، فكأنه يقول : يا محمد كما أنعمنا على داود بهذه النعم كذلك ننعم عليك ، فاصبر
ولا تحزن على ما يقولون ، ثم ذكر ما أعطى سليمان من الملك العظيم ، وتسخير الريح
والجن والخاتمة بالزلفى وحسن المآب ، ثم ذكر من ذكر بعد ذلك من الأنبياء. والمقصد
: ذكر الإنعام عليهم لتقوية قلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأيضا فإن داود وسليمان وأيوب أصابتهم شدائد ثم فرّجها
الله عنهم ، وأعقبها بالخير العظيم ، فأمر سيدنا محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم بذكرهم ، ليعلمه أنه يفرج عنه ما يلقى من إذاية قومه ،
ويعقبها بالنصر والظهور عليهم ، فالمناسبة في ذلك ظاهرة وقال ابن عطية : المعنى :
اذكر داود ذا الأيدي في الدين فتأسّ به وتأيد كما تأيد ، وأجاب الزمخشري عن السؤال
فإنه قال : كأن الله قال لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم : اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر المعصية في أعين الكفار
بذكر قصة داود ، وذلك أنه نبي كريم عند الله ثم زلّ زلة فوبخه الله عليها فاستغفر
وأناب ، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم ؛ وهذا الجواب لا يخفى ما فيه من سوء
الأدب مع داود عليهالسلام حيث جعله مثالا يهدد الله به الكفار ، وصرح بأنه زل وأن
الله وبخه على زلته ، ومعاذ الله من ذكر الأنبياء بمثل هذا (وَالْإِشْراقِ) يعني : وقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس : أي تضيء ويصفر
شعاعها وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها (مَحْشُورَةً) أي مجموعة (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل مسبح لأجل تسبيح داود ، ويحتمل أن يكون أوّاب هنا
بمعنى رجاع أي ليرجع إلى أمره.
(وَآتَيْناهُ
الْحِكْمَةَ) قيل : يعني النبوة ، وقيل : العلم والفهم وقيل : الزبور (وَفَصْلَ الْخِطابِ) قال ابن عباس : هو فصل القضاء بين الناس بالحق ، وقال عليّ
بن أبي طالب : هو إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعى ، وقيل :
أراد قول : أما بعد فإنه أول من قالها ، وقال الزمخشري : معنى فصل الخطاب : البيّن
من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به ، وهذا المعنى اختاره ابن عطية ، وجعله من قوله
تعالى : «إنه لقول فصل» [الطارق : ١٣] (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) جاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام ؛ تنبيها للمخاطب ودلالة
على أنها من الأخبار العجيبة ، التي ينبغي أن يلقى البال لها ، والخصم يقع على
الواحد والاثنين والجماعة ، كقولك : عدل وزور. واتفق الناس على أن هؤلاء الخصم
كانوا ملائكة ، وروي أنهما جبريل وميكائيل بعثهما الله ، ليضرب بهما المثل لداود
في نازلة وقع هو في مثلها ، فأفتى بفتيا هي واقعة عليه في نازلته ، ولما شعر وفهم
المراد أناب
واستغفر ، وسنذكر
القصة بعد هذا ، ومعنى تسوّروا المحراب علوا على سوره ودخلوه ، والمحراب : الموضع
الأرفع من القصر أو المسجد وهو موضع التعبد ، ويحتمل أن يكون المتسوّر المحراب
اثنين فقط ، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين فقط ، فتجيء الضمائر في تسوّروا
، ودخلوا ، وفزع منهم : على وجه التجوز ، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجماعة ، وذلك
جائز على مذهب من يرى أن أقل الجمع اثنان ، ويحتمل أنه جامع كل واحد من الخصمين
جماعة فيقع على تجميعهم خصم ، وتجيء الضمائر المجموعة حقيقة ، وعلى هذا عوّل
الزمخشري.
(إِذْ دَخَلُوا عَلى
داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) العامل في إذ هنا تسوروا ، وقيل : هي بدل من الأولى ، وأما
إذ الأولى فالعامل فيها أتاك أو تسوروا وردّ الزمخشري ذلك ، وقال : إن العامل فيها
محذوف تقديره : هل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا ، وإنما فزع داود منهم لأنهم
دخلوا عليه بغير إذن ، ودخلوا من غير الباب ، وقيل : إن ذلك كان ليلا (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) تقديره نحن خصمان ، ومعنى بغى تعدى (وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر علينا في الحكم ، يقال : أشط الحاكم إذا جار ،
وقرئ في الشاذ : لا تشطط بفتح التاء : أي لا تبعد عن الحق ، يقال : شط إذا بعد (سَواءِ الصِّراطِ) أي وسط الطريق ، ويعني القصد والحق الواضح (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي
فِي الْخِطابِ) هذه حكاية كلام أحد الخصمين ، والأخوة هنا أخوة الدين ،
والنعجة في اللغة تقع على أنثى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن ، وهي هنا عبارة عن
المرأة ، ومعنى أكفلنيها : أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي ، وقيل : اجعلها كفلي
أي نصيبي ، ومعنى عزّني في الخطاب أي : غلبني في الكلام والمحاورة يقال : عز فلان
فلانا إذا غلبه ، وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها. وقد اختلف الناس
فيها وأكثروا القول فيها قديما وحديثا حتى قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : من
حدّث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليهالسلام جلدته حدّين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله ، ونحن
نذكر من ذلك ما هو أشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليهالسلام : روي أن أهل زمان داود عليهالسلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا
أعجبته ، وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها ، وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام
شيء من ذلك ، فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته ، فسأله النزول عنها
ففعل ، وتزوّجها داود عليهالسلام فولد له منها سليمان عليهالسلام ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة ، فبعث الله إليه ملائكة
مثالا لقصته ، فقال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى أن ذلك الرجل
لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة ، فقال أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول
عن
امرأته فأجابه
داود عليهالسلام بقوله : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، فقامت الحجة
عليه بذلك ، فتبسم الملكان عند ذلك وذهبا ولم يرهما ، فشعر داود أن ذلك عتاب من
الله له على ما وقع فيه.
(فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ولا تقتضي هذه القصة على هذه الرواية أن داود عليهالسلام وقع فيما لا يجوز شرعا ، وإنما عوتب على أمر جائز ، كان
ينبغي له أن يتنزه عنه لعلوّ مرتبته ومتانة دينه ، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ما
لا يعاتب عليه غيرهم ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأيضا فإنه كان
له تسع وتسعون امرأة ، فكان غنيا عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من
النساء ، وإن كان جائزا ، وروي هذا الخبر على وجه آخر ، وهو أن داود انفرد يوما في
محرابه للتعبد ، فدخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه فأعجبه ، فمد يده ليأخذه
فطار على الكوة فصعد داود ليأخذه ، فرأى من الكوة امرأة تغتسل عريانة فأعجبته ، ثم
انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده ، وأنه خرج للجهاد مع الجند ، فكتب
داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت ، وهو موضع قل ما
تخلص أحد منه ، فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيدا ، فتزوج داود امرأته فعوتب على
تعريضه ذلك الرجل للقتل ، وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة
سواها ، وقيل : إنّ داود همّ بذلك كله ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه
بذلك ، وروي أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه ، وظهر منه ما يقتضي أنه
لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة ، وروي أيضا أن السبب في ذلك أنه تمنى
منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما
جرى له في تلك القصة؟ (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) سؤال مصدر مضاف إلى المفعول ، وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن
معنى الإضافة كأنه قال : بسؤال نعجتك مضافة أو مضمومة إلى نعاجه ، فإن قيل : كيف
قال له داود : لقد ظلمك قبل أن يثبت عنده ذلك؟ فالجواب أنه روي أن الآخر اعترف
بذلك وحذف ذكر اعترافه اختصارا ، ويحتمل أن يكون قوله : لقد ظلمك على تقدير صحة
قوله ، وقد قيل : إن قوله لأحد الخصمين : لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر كانت
خطيئته التي استغفر منها وأناب (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الخلطاء هم الشركاء في الأموال ، ولكن الخلطة أعم من
الشركة ، ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها ، وقصد داود بهذا
الكلام الوعظ للخصم الذي بغى ، والتسلية بالتأسي للخصم الذي بغي عليه (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ما زائدة للتأكيد.
(وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ) ظن هنا بمعنى شعر بالأمر ، وقيل : بمعنى أيقن ، وفتناه
معناه اختبرناه (وَخَرَّ راكِعاً
وَأَنابَ) معنى خرّ : ألقى بنفسه إلى الأرض ، وإنما حقيقة ذلك في
السجود ، فقيل :
إن الركوع هنا بمعنى السجود ، وقيل : خرّ من ركوعه ساجدا بعد أن ركع ، ومعنى أناب
: تاب ، وروي أنه بقي ساجدا أربعين يوما يبكي حتى نبت البقل من دموعه ، وهذا
الموضع فيه سجدة عند مالك خلافا للشافعي ، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل يسجد عند
قوله : وأناب ، أو عند قوله : وحسن مآب (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) الزلفى القربة والمكانة الرفيعة ، والمآب المرجع في الآخرة
(يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) تقديره قال الله يا داود ، وخلافة داود بالنبوة والملك ،
قال ابن عطية : لا يقال خليفة الله إلا لنبيّ ، وأما الملوك والخلفاء فكل واحد
منهم خليفة الذي قبله ، وقول الناس فيهم خليفة الله تجوّز (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي عبثا بل خلقهما الله بالحق للاعتبار بهما والاستدلال
على خالقهما (ذلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا) المعنى أن الكفار لما أنكروا الحشر والجزاء كانت خلقة
السموات والأرض عندهم باطلا بغير الحكمة ، فإن الحكمة في ذلك إنما تظهر في الجزاء الأخروي
(أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أم هنا استفهامية يراد بها الإنكار : أي أن الله لا يجعل
المؤمنين والمتقين كالمفسدين والفجار ، بل يجازي كل واحد بعلمه لتظهر حكمة الله في
الجزاء ، ففي ذلك استدلال على الحشر والجزاء ، وفيه أيضا وعد ووعيد.
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) الصافنات جمع صافن ، وهو الفرس الذي يرفع إحدى رجليه أو
يديه ويقف على طرف الأخرى ، وقيل : الصافن هو الذي يسوّي يديه ، والصفن علامة على
فراهة الفرس ، والجياد السريعة الجري واختلف الناس في قصص هذه الآية ، فقال
الجمهور : إن سليمان عليهالسلام عرضت عليه خيل كان ورثها عن أبيه وقيل : أخرجتها له
الشياطين من البحر ، وكانت ذوات أجنحة ، وكانت ألف فرس ، وقيل : أكثر فتشاغل
بالنظر إليها حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشي «العصر» ، فأسف لذلك ، وقال : ردوا
عليّ الخيل وطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف حتى عقرها ؛ لما كانت سبب فوات
الصلاة ، ولم يترك منها إلا اليسير ، فأبدله الله أسرع منها وهي الريح ، وأنكر بعض
العلماء هذه الرواية ؛ وقال : تفويت الصلاة ذنب لا يفعله سليمان وعقر الخيل لغير
فائدة لا يجوز ، فكيف يفعله سليمان عليهالسلام؟ وأي ذنب للخيل في تفويت الصلاة فقال بعضهم :
إنما عقرها
ليأكلها الناس ، وكان زمانهم زمان مجاعة فعقرها تقربا إلى الله ، وقال بعضهم ، لم
تفته الصلاة ولا عقر الخيل ، بل كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار إليهم فأزالوها
حتى دخلت اصطبلاتها فلما فرغ من صلاته قال ردّوها عليّ فطفق يمسح عليها بيده كرامة
لها ومحبة ، وقيل إن المسح عليها كان وسما في سوقها وأعناقها بوسم حبس في سبيل
الله.
(فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) معنى هذا يختلف على حسب الاختلاف في القصة ، فأما الذين
قالوا إن سليمان عقر الخيل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة فاختلفوا في هذا على
ثلاثة أقوال : أحدها أن الخير هنا يراد به الخيل ، وزعموا أن الخيل يقال لها خير ،
وأحببت بمعنى : آثرت أو بمعنى فعل يتعدى بمن كأنه قال : آثرت حب الخيل فشغلني عن
ذكر ربي ، والآخر : أن الخير هنا يراد به المال ، لأن الخيل وغيرها مال فهو كقوله
تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا ، والثالث : أن المفعول محذوف ، وحب الخير مصدر
والتقدير : أحببت هذه الخيل مثل حب الخير ، فشغلني عن ذكر ربي ، وأما الذين قالوا
: كان يصلى فعرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها ؛ فالمعنى أنه قال : إني أحببت حب
الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، وشغلني ذلك عن النظر إلى الخيل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذكرها ، ولكنها تفهم من سياق
الكلام وذكر العشي يقتضيها ، والمعنى حتى غابت الشمس ، وقيل : إن الضمير للخيل ،
ومعنى توارت بالحجاب دخلت اصطبلاتها والأول أشهر وأظهر (رُدُّوها عَلَيَ) أي قال سليمان : ردوا الخيل عليّ (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ
وَالْأَعْناقِ) السوق جمع ساق يعني سوق الخيل وأعناقهم : أي جعل يمسحها مسحا
، وهذا المسح يختلف على حسب الاختلاف المتقدم ، هل هو قطعها وعقرها أو مسحها باليد
محبة لها ، أو وسمها للتحبيس.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) تفسير هذه الآية يختلف على حسب الاختلاف في قصتها ، وفي
ذلك أربعة أقوال : الأول أن سليمان كان له خاتم ملكه وكان فيه اسم الله ، فكان
ينزعه إذا دخل الخلاء توقيرا لاسم الله تعالى ، فنزعه يوما ودفعه إلى جارية فتمثل
لها جني في صورة سليمان وطلب منها الخاتم فدفعته له ، روي أن اسمه صخر ، فقعد على
كرسيّ سليمان يأمر وينهى والناس يظنون أنه سليمان ، وخرج سليمان فارّا بنفسه
فأصابه الجوع فطلب حوتا ففتح بطنه فوجد فيه خاتمه ، وكان الجني قد رماه في البحر
فلبس سليمان الخاتم وعاد إلى ملكه ، ففتنة سليمان على هذا هي ما جرى له من سلب
ملكه ، والجسد الذي ألقي على كرسيه هو الجنيّ الذي قعد عليه وسماه جسدا ، لأنه
تصور في صورة إنسان ، ومعنى أناب رجع إلى الله بالاستغفار والدعاء ، أو رجع إلى
ملكه ، والقول الثاني أن سليمان كان له امرأة يحبها وكان أبوها ملكا كافرا قد قتله
سليمان فسألته أن يضع لها صورة أبيها فأطاعها في ذلك فكانت تسجد للصورة ويسجد معها
جواريها ، وصار
صنما معبودا في
داره ، وسليمان لا يعلم حتى مضت أربعون يوما ، فلما علم به كسره فالفتنة على هذا
عمل الصورة ، والجسد هو الصورة والقول الثالث أن سليمان كان له ولد وكان يحبه حبا
شديدا ، فقالت الجن إن عاش هذا الولد ورث ملك أبيه فبقينا في السخرة أبدا فلم يشعر
إلا وولده ميت على كرسيه ، فالفتنة على هذا حبه الولد ، والجسد هو الولد لما مات
وسمي جسدا لأنه جسد بلا روح ، القول الرابع أنه قال : لأطوفن الليلة على مائة
امرأة تأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فلم
تحمل إلا واحدة بشق إنسان ، فالفتنة على هذا كونه لم يقل إن شاء الله ، والجسد هو
شق الإنسان الذي ولد له ، فأما القول الأول فضعيف من طريق النقل مع أنه يبعد ما
ذكر فيه من سلب ملك سليمان وتسليط الشياطين عليه ، وأما القول الثاني فضعيف أيضا
مع أنه يبعد أنه يعبد صنم في بيت نبي ، أو يأمر نبي بعمل صنم ، وأما القول الثالث
فضعيف أيضا ، وأما القول الرابع فقد روي في الحديث الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لكنه لم يذكر في الحديث أن ذلك تفسير الآية.
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) قدم الاستغفار على طلب الملك ، لأن أمور الدين كانت عندهم
أهم من الدنيا فقدّم الأولى والأهمّ ، فإن قيل : لأي شيء قال لا ينبغي لأحد من
بعدي ، وظاهر هذا طلب الانفراد به حتى قال فيه الحجاج إنه كان حسودا؟ فالجواب من
وجهين : أحدهما أنه إنما قال ذلك لئلا يجرى عليه مثل ما جرى من أخذ الجني لملكه ،
فقصد أن لا يسلب ملكه عنه في حياته ويصير إلى غيره ، والآخر أنه طلب ذلك ليكون
معجزة ، دلالة على نبوته (فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) معنى رخاء لينة طيبة ، وقيل : طائعة له ، وقد ذكرنا الجمع
بين هذا وبين قوله (عاصِفَةً) في الأنبياء : ٨١ ، وحيث أصاب : أي حيث قصد وأراد (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ) الشياطين معطوف على الريح ، وكل بناء بدل من الشياطين أي
سخرنا له الريح والشياطين من يبني منهم ومن يغوص في البحر (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفادِ) أي آخرين من الجنّ موثقون في القيود والأغلال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) الإشارة إلى الملك الذي أعطاه الله له ، والمعنى أن الله
قال له : أعط من شئت وامنع من شئت ، وقيل : المعنى امنن على من شئت من الجنّ
بالإطلاق من القيود ، وأمسك من شئت منهم في القيود ، والأوّل أحسن وهو قول ابن
عباس (بِغَيْرِ حِسابٍ) يحتمل ثلاثة معان : أحدها أنه لا يحاسب في الآخرة على ما
فعل ، والآخر بغير تضييق عليك في الملك ، والثالث بغير حساب ولا عدد بل خارج عن
الحصر (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) قد ذكر في قصة داود.
__________________
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) قد ذكرنا قصة أيوب عليهالسلام في [الأنبياء : ٨٣] والنصب يقال بضم النون وإسكان الصاد :
وبفتح النون وإسكان الصاد وبضم النون والصاد وبفتحهما ، ومعناه واحد وهو المشقة ،
فإن قيل : لم نسب ما أصابه من البلاء إلى الشيطان؟ فالجواب من أربعة أوجه : أحدها
أن سبب ذلك كان من الشيطان ، فإنه روي أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم
يغيره ، وقيل : إنه كانت له شاة فذبحها وطبخها ، وكان له جار جائع فلم يعط جاره
منها شيئا ، والثاني أنه أراد ما وسوس له الشيطان في مرضه من الجزع وكراهة البلاء
، فدعا إلى الله أن يدفع عنه وسوسة الشيطان بذلك ، والثالث أنه روي أن الله سلط الشيطان
عليه ليفتنه فأهلك ماله فصبر وأهلك أولاده فصبر وأصابه المرض الشديد فصبر فنسب ذلك
إلى الشيطان لتسليط الشيطان عليه ، والرابع : روي أن الشيطان لقي امرأته فقال لها
: قولي لزوجك إن سجد لي سجدة أذهبت ما به من المرض فذكرت المرأة ذلك لأيوب ، فقال
لها : ذلك عدوّ الله الشيطان وحينئذ دعا (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ
هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) التقدير قلنا له : اركض برجلك فضرب الأرض برجله فنبعت له
عين ماء صافية باردة ، فشرب منها فذهب كل مرض كان داخل جسده ، واغتسل منها فذهب ما
كان في ظاهر جسده ، وروي أنه ركض الأرض مرتين فنبع له عينان ، فشرب من أحدهما
واغتسل من الأخرى (وَوَهَبْنا لَهُ
أَهْلَهُ) ذكر في الأنبياء (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) الضغث القبضة من القضبان ، وكان أيوب عليهالسلام قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط إذا برىء من مرضه ، وكان
سبب ذلك ما ذكرته له من لقاء الشيطان ، وقوله لها إن سجد لي زوجك أذهبت ما به من
المرض ، فأمره أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة فيبرّ في يمينه ،
وقد ورد مثل هذا عن نبينا صلىاللهعليهوسلم في حدّ رجل زنى وكان مريضا فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسلم بعذق نخلة فيه شماريخ مائة فضرب به ضربة واحدة ذكر
ذلك أبو داود والنسائي ، وأخذ به بعض العلماء ، ولم يأخذ به مالك ولا
أصحابه.
(أُولِي الْأَيْدِي
وَالْأَبْصارِ) الأيدي جمع يد وذلك عبارة عن قوتهم في الأعمال الصالحات ،
وإنما عبر عن ذلك بالأيدي ، لأن الأعمال أكثر ما تعمل بالأيدي ، وأما الأبصار
فعبارة عن قوة فهمهم وكثرة علمهم من قولك : أبصر الرجل إذا تبينت له الأمور ، وقيل
: الأيدي جمع يد بمعنى النعمة ، ومعناه أولوا النعم التي أسداها الله إليهم من
النبوة والفضيلة ، وهذا ضعيف ، لأن اليد بمعنى النعمة أكثر ما يجمع على أيادي ،
وقرأ ابن مسعود : أولوا الأيدي بغير ياء ، فيحتمل أن تكون الأيدي محذوفة الياء أو
يكون الأيد
__________________
بمعنى القوة :
كقوله «داود ذا الأيد» (إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) معنى أخلصناهم جعلناهم خالصين لنا ، أو أخلصناهم دون غيرهم
، وخالصة صفة حذف موصوفها تقديره : بخصلة خالصة ، وأما الباء في قوله بخالصة فإن
كان أخلصناهم بمعنى خالصين ، فالباء سببية للتعليل ، وإن كان أخلصناهم بمعنى
جعلناهم خصصناهم فالباء لتعدية الفعل ، وقرأ نافع بإضافة خالصة إلى ذكرى من
الباقون تنوين ، وقرأ غيره بالتنوين على أن تكون ذكرى بدلا من خالصة على وجه
البيان والتفسير لها ، والدار يحتمل أن يريد به الآخرة أو الدنيا ، فإن أراد به
الآخرة ففي المعنى ثلاثة أقوال : أحدها أن ذكرى الدار : يعني ذكرهم للآخرة وجهنم
فيها ، والآخر أن معناه تذكيرهم للناس بالآخرة ، وترغيبهم للناس فيما عند الله ،
والثالث أن معناه ثواب الآخرة : أي أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة ، والأول أظهر ،
وإن أراد بالدار الدنيا فالمعنى حسن الثناء والذكر الجميل في الدنيا ، كقوله :
لسان صدق (الْأَخْيارِ) جمع خير بتشديد الياء أو خير المخفف من خير كميت مخفف من
ميت (وَذَا الْكِفْلِ) ذكر في الأنبياء : ٨٥.
(هذا ذِكْرٌ) الإشارة إلى ما تقدم في هذه السورة من ذكر الأنبياء ، وقيل
الإشارة إلى القرآن بجملته ، والأول أظهر وكأن قوله : هذا ذكر ختام للكلام المتقدم
، ثم شرع بعده في كلام آخر كما يتم المؤلف بابا ثم يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر (قاصِراتُ الطَّرْفِ) ذكر في الصافات : ٤٨ (أَتْرابٌ) يعني أسنانهم سواء يقال : فلان ترب فلان إذا كان مثله في
السن ، وقيل : إن أسنانهم وأسنان أزواجهم سواء (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي ماله من فناء ولا انقضاء.
(هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) تقديره الأمر هذا : لما تم ذكر أهل الجنة ختمه بقوله هذا
ثم ابتدأ وصف أهل النار ، ويعني بالطاغين الكفار (هذا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) هذا مبتدأ وخبره حميم فليذوقوه : اعترافا بينهما والحميم الماء الحار والغساق قرأه بالتشديد حفص وحمزة
والكسائي والباقي بالتخفيف : غساق بتخفيف السين وتشديدها وهو صديد أهل النار ،
وقيل : ما يسيل من عيونهم ، وقيل : هو عذاب لا يعلمه إلا الله (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) آخر معطوف على حميم وغساق تقديره : وعذاب آخر ، قيل : يعني
الزمهرير ، ومعنى من شكله من مثله ونوعه أي من مثل العذاب المذكور ، وأزواج معناه
أصناف وهو صفة للحميم والغساق والعذاب الآخر والمعنى أنهما أصناف من العذاب ، وقال
ابن عطية : آخر مبتدأ ، واختلف في خبره ، فقيل : تقديره ولهم عذاب آخر وقيل :
أزواج مبتدأ ومن شكله خبر أزواج ، والجملة خبر آخر ، وقيل : أزواج
__________________
خبر الآخر ، ومن
شكله في موضع الصفة وقرئ أخر بالجمع وهو أليق أن يكون أزواج خبره لأنه جمع مثله (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) الفوج جماعة من الناس ، والمقتحم الداخل في زحام وشدة ،
وهذا من كلام خزنة النار خاطبوا به رؤساء الكفار الذين دخلوا النار أولا ، ثم دخل
بعدهم أتباعهم وهو الفوج المشار إليه ، وقيل : هو كلام أهل النار بعضهم لبعض ،
والأول أظهر (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا يلقون رحبا ولا خيرا ، وهو دعاء من كلام رؤساء
الكفار : أي لا مرحبا بالفوج الذين هم أتباع لهم (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ
لا مَرْحَباً بِكُمْ) هذا حكاية كلام الأتباع للرؤساء لما قالوا لهم : لا مرحبا
بهم ، أجابوهم بقولهم (بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) هذا أيضا من كلام الأتباع خطابا للرؤساء ، وهو تعليل
لقولهم : بل أنتم لا مرحبا بكم ، والضمير في قدمتموه للعذاب ، ومعنى قدمتموه
أوجبتموه لنا بما قدمتم في الدنيا من إغوائنا ، وأمركم لنا بالكفر (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا
فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) هذا أيضا من كلام الأتباع دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف
العذاب لرؤسائهم ، الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ
عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) والضعف زيادة المثل.
(وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) الضمير في وقالوا لرؤساء الكفار ، وقيل : للطاغين والرجال
هم ضعفاء المؤمنين ، وقيل : إن القائلين لذلك أبو جهل لعنه الله وأمية بن خلف
وعتبة بن ربيعة وأمثالهم وأن الرجال المذكورين هم عمّار وبلال وصهيب وأمثالهم ،
واللفظ أعم من ذلك والمعنى أنهم قالوا في جهنم : مالنا لا نرى في النار رجالا كنا
في الدنيا نعدّهم من الأشرار (أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا) قرئ أتخذناهم بهمزة قطع ومعناه : توبيخ أنفسهم على اتخاذهم
المؤمنين سخريا ، وقرئ بألف وصل على أن يكون الجملة صفة لرجال وقرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بالرفع والباقون بالكسر
سخريا بضم السين من التسخير بمعنى الخدمة وبالكسر بمعنى الاستهزاء (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) هذا يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون معادلا لقولهم : ما
لنا لا نرى رجالا ، والمعنى مالنا لا نراهم في جهنم فهم ليسوا فيها أم هم فيها
ولكن زاغت عنهم أبصارنا ، ومعنى زاغت عنهم مالت فلم نرهم. الثاني أن يكون معادلا
لقولهم : أتخذناهم سخريا والمعنى أتخذناهم سخريا. وأم زاغت الأبصار على هذا : مالت
عن النظر إليهم احتقارا لهم. الثالث أن تكون أم منقطعة بمعنى بل والهمزة فلا تعادل
شيئا مما قبلها (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) الإشارة إلى ما تقدم من حكاية أقوال أهل النار ثم فسره
بقوله (تَخاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ) وإعراب تخاصم بدل من
__________________
حق أو خبر مبتدأ
مضمر (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ) النبأ : الخبر ، ويعني به ما تضمنته الشريعة من التوحيد
والرسالة والدار الآخرة ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو يوم القيامة والأول أعم
وأرجح (ما كانَ لِي مِنْ
عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) الملأ الأعلى هم الملائكة ومقصد الآية الإحتجاج على نبوّة
محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك ، والضمير في
يختصمون للملأ الأعلى ، واختصامهم هو في قصة آدم حين قال لهم : إني جاعل في الأرض
خليفة حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن ، وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأى ربه فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقال : لا
أدري قال في الكفارات وهي إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد
الحديث بطوله ، وقيل : الضمير في يختصمون للكفار : أي يختصمون في
الملأ الأعلى فيقول بعضهم هم بنات الله ، ويقول آخرون : هم آلهة تعبد ، وهذا بعيد.
(إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) إذ بدل من إذ يختصمون ، وقد ذكرنا في البقرة معنى سجود
الملائكة لآدم ، ومعنى كفر إبليس وذكرنا في [الحجر : ٢٩] معنى قوله تعالى (مِنْ رُوحِي)(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) الضمير في قال لله عزوجل ، وبيديّ من المتشابه الذي ينبغي الإيمان به ، وتسليم علم
حقيقته إلى الله ، وقال المتأوّلون : هو عبارة عن القدرة ، وقال القاضي أبو بكر بن
الطيب [الباقلاني] : إن اليد والعين والوجه صفات زائدة على الصفات المتقرّرة ، قال
ابن عطية : وهذا قول مرغوب عنه ، وحكى الزمخشري : أن معنى خلقت بيدي خلقت بغير
واسطة (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) دخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل ، وأم
هنا معادلة ، والمعنى أستكبرت الآن أم كنت قديما ممن يعلو ويستكبر ، وهذا على وجه
التوبيخ له (رَجِيمٌ) أي لعين مطرود (إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) يعني القيامة ، وقد تقدم الكلام
__________________
على ذلك في الحجر (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ) الباء للقسم ، أقسم إبليس بعزة الله أن يغوي بني آدم (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) الضمير في قال هنا : لله تعالى ، والحق الأوّل مقسم به وهو
منصوب بفعل مضمر كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : لأملأن جهنم ، بالرفع وهو مبتدأ ، أو خبر مبتدأ مضمر تقديره : الحق
يميني ، وأما الحق الثاني فهو مفعول بأقول ، وقوله : والحق أقول جملة اعتراض بين
القسم وجوابه على وجه التأكيد للقسم (وَما أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ) أي الذين يتصنعون ويتحيلون بما ليسوا من أهله (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) هذا وعيد أي لتعلمن صدق خبره بعد حين ، والحين يوم القيامة
أو موتهم أو ظهور الإسلام يوم بدر وغيره.
__________________
سورة الزمر
مكية
إلا الآيات ٥٢ و ٥٣ و ٥٤ فمدنية وآياتها ٧٥ نزلت بعد سبإ
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الزمر) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) تنزيل مبتدأ وخبره : من الله أو خبره ابتداء مضمر تقديره :
هذا تنزيل ، ومن الله على هذا الوجه يتعلق بتنزيل ، أو يكون خبرا بعد خبر أو خبر
مبتدأ آخر محذوف ، والكتاب هنا القرآن أو السورة واختار ابن عطية أن يراد به جنس
الكتب المنزلة وأما الكتاب الثاني فهو القرآن باتفاق (بِالْحَقِ) يحتمل معنيين أحدهما أن يكون معناه متضمنا الحق ، والثاني
أن يكون معناه بالاستحقاق والوجوب (مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ) أي لا يكون فيه شرك أكبر ولا أصغر وهو الرياء (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) قيل : معناه من حقه ومن واجبه أن يكون له الدين الخالص ،
ويحتمل أن يكون معناه : إن الدين الخالص هو دين الله وهو الإسلام ، الذي شرعه لعباده
ولا يقبل غيره ، ومعنى الخالص : الصافي من شوائب الشرك ، وقال قتادة : الدين
الخالص شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال الحسن : هو الإسلام وهذا أرجح لعمومه.
(وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يريد بالأولياء الشركاء المعبودين ، ويحتمل أن يريد بالذين
اتخذوا الكفار العابدين لهم ، أو الشركاء المعبودين ، والأول أظهر ؛ لأنه يحتاج
على الثاني إلى حذف الضمير العائد على الذين تقديره : الذين اتخذوهم ، ويكون ضمير
الفاعل في اتخذوا عائدا على غير مذكور ، وارتفاع الذين على الوجهين بالابتداء
وخبره إما قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ) أو المحذوف المقدر قبل قوله ما نعبدهم لأن تقديره : يقولون
ما نعبدهم. والأول أرجح ؛ لأن المعنى به أكمل (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) هذه الجملة في موضع معمول قول محذوف ، والقول في موضع
الحال أو في موضع بدل من صلة الذين ، وقرأ ابن مسعود : قالوا ما نعبدهم بإظهار
القول أي يقول الكفار : ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقربونا إلى الله ويشفعوا لنا
عنده ، ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة ، أو الذين عبدوا الأصنام ، أو
الذين عبدوا عيسى أو عزير ، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة. ومعنى زلفى :
قربى فهو مصدر من
يقربونا (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) إشارة إلى كذبهم في قولهم : ليقربونا إلى الله وقوله : (لا يَهْدِي) في تأويله وجهان : أحدهما لا يهديه في حال كفره والثاني أن
ذلك مختصّ بمن قضي عليه بالموت على الكفر ، أعاذنا الله من ذلك. وهذا تأويل : لا
يهدي القوم الظالمين والكافرين حيثما وقع (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الولد يكون على وجهين : أحدهما بالولادة الحقيقية وهذا
محال على الله ؛ تعالى لا يجوز في العقل والثاني التبني بمعنى الإختصاص والتقريب ،
كما يتخذ الإنسان ولد غيره ولدا لإفراط محبته له ، وذلك ممتنع على الله بإخبار
الشرع فإن قوله : (وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) يعم نفي الوجهين ، فمعنى الآية على ما أشار إليه ابن عطية
: لو أراد الله أن يتخذ ولدا على وجه التبني لاصطفى لذلك مما يخلق من موجوداته
ومخلوقاته ، ولكنه لم يرد ذلك ولا فعله ، وقال الزمخشري : معناه لو أراد الله
اتخاذ الولد لامتنع ذلك ، ولكنه يصطفي من عباده من يشاء على وجه الإختصاص والتقريب
، لا على وجه اتخاذه ولدا ، فاصطفى الملائكة وشرفهم بالتقريب ، فحسب الكفار أنهم
أولاده ، ثم زادوا على ذلك أن جعلوهم إناثا ، فأفرطوا في الكفر والكذب على الله
وملائكته.
(سُبْحانَهُ هُوَ
اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) نزه تعالى نفسه من اتخاذ الولد ، ثم وصف نفسه بالواحد ؛
لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد لأنه لو كان له ولد لكان من جنسه ، ولا جنس له
لأنه واحد ، ووصف نفسه بالقهار ؛ ليدل على نفي الشركاء والأنداد ، لأن كل شيء
مقهور تحت قهره تعالى ، فكيف يكون شريكا له؟ ثم أتبع ذلك بما ذكره من خلقة السموات
والأرض وما بينهما ، ليدل على وحدانيته وقدرته وعظمته (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) التكوير اللف والليّ ، ومنه : كوّر العمامة التي يلتوي
بعضها على بعض وهو هنا استعارة ، ومعناه على ما قال ابن عطية : يعيد من هذا على
هذا ، فكأن الذي يطيل من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزءا فيستره ، وكأن
الذي ينقص يدخل في الذي يطول فيستتر فيه. ويحتمل أن يكون المعنى أن كل واحد منهما
يغلب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في ستره له بثوب يلف على الآخر (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم عليهالسلام (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها
زَوْجَها) يعني حواء خلقها من ضلع آدم ، فإن قيل : كيف عطف قوله : ثم
جعل على خلقكم بثم التي تقتضي الترتيب والمهلة ، ولا شك أن خلقة حواء كانت قبل
خلقة بني آدم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول وهو المختار أن العطف إنما هو على
معنى قوله : واحدة لا على خلقكم كأنه قال : خلقكم من نفس كانت واحدة ثم خلق
منها زوجها بعد
وحدتها الثاني : أن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الوجود. الثالث : أنه يعني بقوله
: خلقكم إخراج بني آدم من صلب أبيهم كالذر وذلك كان قبل خلقه حواء.
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) يعني المذكورة في الأنعام من الضأن اثنين ومن المعز اثنين
ومن البقر اثنين وسماها أزواجا لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى زوج الذكر. وأما أنزل
ففيه ثلاثة أوجه : الأول أن الله خلق أول هذه الأزواج في السماء ثم أنزلها. الثاني
أن معنى أنزل قضى وقسم ، فالإنزال عبارة عن نزول أمره وقضائه. الثالث أنه أنزل
المطر الذي ينبت به النبات الذي تعيش منه هذه الأنعام فعبّر بإنزالها عن إنزال
أرزاقها وهذا بعيد (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ) يعني أن الإنسان يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يتم
خلقه ، ثم ينفخ فيه الروح (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) هي البطن والرحم والمشيمة ، وقيل : صلب الأب والرحم
والمشيمة ، والأول أرجح لقوله : بطون أمهاتكم ولم يذكر الصلب (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنْكُمْ) أي لا يضره كفركم.
(وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) تأول الأشعرية هذه الآية على وجهين : أحدها أن الرضا بمعنى
الإرادة ، ويعني بعباده من قضى الله له بالإيمان والوفاة عليه. فهو كقوله : إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان ، والآخر أن الرضا غير الإرادة ، والعباد على هذا العموم
أي لا يرضى الكفر لأحد من البشر ، وإن كان قد أراد أن يقع من بعضهم فهو لم يرضه
دينا ولا شرعا. وأراده وقوعا ووجودا أما المعتزلة فإن الرضا عندهم بمعنى الإرادة
والعباد على هذا على العموم جريا على قاعدتهم في القدر وأفعال العباد (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) هذا عموم ، والشكر الحقيقي يتضمن الإيمان (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) ذكر في الإسراء (وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ) الآية : يراد بالإنسان هنا الكافر بدليل قوله : وجعل له
أندادا ، والقصد بهذه الآية عتاب وإقامة حجة ، فالعتاب على الكفر وترك دعاء الله ،
وإقامة الحجة على الإنسان بدعائه إلى الله ، في الشدائد ، فإن قيل : لم قال هنا
وإذا مسّ بالواو وقال بعدها فإذا مس بالفاء؟ فالجواب : أن الذي بالفاء مسبب عن
قوله : اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة فجاء بفاء السببية قاله الزمخشري وهو
بعيد (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِنْهُ) خوله أعطاه والنعمة هنا يحتمل أن يريد بها كشف الضر
المذكور ، أو أي نعمة كانت (نَسِيَ ما كانَ
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يحتمل أن تكون ما مصدرية
__________________
أي نسي دعاءه ، أو
تكون بمعنى الذي والمراد بها الله تعالى.
أمن هو قانت بتخفيف الميم على إدخال همزة الاستفهام على من وقيل : هي
همزة النداء والأول أظهر ، وقرئ بتشديدها على إدخال أم على من ومن مبتدأ وخبره
محذوف وهو المعادل وتقديره أم من هو قانت كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه
وهو ما ذكر قبله وما ذكر بعده ، وهو قوله (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) والقنوت هنا بمعنى الطاعة والصلاة بالليل ، وآناء الليل
ساعاته (قُلْ يا عِبادِ
الَّذِينَ آمَنُوا) الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على
الهجرة إلى أرض الحبشة ، ومعناها التأنيس لهم والتنشيط على الهجرة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ) يحتمل أن يتعلق في هذه الدنيا بأحسنوا ، والمعنى الذين
أحسنوا في الدنيا لهم الآخرة ، أو يتعلق بحسنة ، والحسنة على هذا حسن الحال
والعافية في الدنيا والأول أرجح (وَأَرْضُ اللهِ
واسِعَةٌ) يراد البلاد المجاورة للأرض التي هاجروا منها ، والمقصود
من ذلك الحض على الهجرة.
(إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) هذا يحتمل وجهين أحدهما أن الصابر يوفى أجره ولا يحاسب على
أعماله ، فهو من الذين يدخلون الجنة بغير حساب الثاني أن أجر الصابرين بغير حصر بل
أكثر من أن يحصر بعدد أو وزن وهذا قول الجمهور (وَأُمِرْتُ لِأَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) اللام هنا يجوز أن تكون زائدة أو للتعليل ويكون المفعول
على هذا محذوف ، فإن قيل : كيف عطف أمرت على أمرت والمعنى واحد؟ فالجواب أن الأول
أمر بالعبادة والإخلاص والثاني أمر بالسبق إلى الإسلام فهما معنيان اثنيان وكذلك
قوله : قل الله أعبد ليس تكرارا لقوله أمرت أن أعبد الله ، لأن الأول إخبار بأنه
مأمور بالعبادة الثاني إخبار بأنه يفعل العبادة. وقدم اسم الله تعالى للحصر
واختصاص العبادة به وحده (فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه
(ظُلَلٌ) جمع ظلة بالضم ، وهو ما غشي من فوق كالسقف ، فقوله من
فوقهم بيّن وأما من تحتهم فسماه ظلة لأنه سقف لمن تحتهم ؛ فإن جهنم طبقات وقيل :
سماه ظلة لأنه يلتهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم.
__________________
(وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) قيل : إنها نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد
وسعيد وطلحة والزبير ، إذ دعاهم أبو بكر الصديق إلى الإيمان فآمنوا ، وقيل : نزلت
في أبي ذر وسلمان ، وهذا ضعيف ، لأن سلمان إنما أسلم بالمدينة والآية مكية والأظهر
أنها عامة ، والطاغوت كل ما عبد من دون الله ، وقيل : الشياطين (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) قيل : يستمعون القول على العموم فيتبعون القرآن ، لأنه
أحسن الكلام وقيل : يستمعون القرآن فيتبعون بأعمالهم أحسنه من العفو الذي هو أحسن
من الإنتصار ، وشبه ذلك وقيل : هو الذي يستمع حديثا فيه حسن وقبيح فيتحدّث بالحسن
ويكف عما سواه ، وهذا قول ابن عباس ، وهو الأظهر وقال ابن عطية : هو علم في جميع
الأقوال ؛ والقصد الثناء على هؤلاء ببصائر ونظر سديد يفرقون به بين الحق والباطل
وبين الصواب والخطأ ، فيتبعون الأحسن من ذلك ، وقال الزمخشري مثل هذا المعنى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) فيها وجهان : أحدهما أن يكون الكلام جملة واحدة تقديره : أفمن
حق عليه كلمة العذاب أأنت تنقذه ، فموضع من في النار موضع المضمر ، والهمزة في
قوله أفأنت هي الهمزة التي في قوله أفمن. وهي همزة الإنكار كرّرت للتأكد ، والثاني
أن يكون التقدير أفمن حق عليه العذاب تتأسف عليه ، فحذف الخبر ثم استأنف قوله أفأنت
تنقذ من في النار؟ وعلى هذا يوقف على العذاب ، والأول أرجح لعدم الإضمار (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) معنى سلكه أدخله وأجراه ، والينابيع : جمع ينبوع وهو العين
، وفي هذا دليل على أن ماء العيون من المطر (مُخْتَلِفاً
أَلْوانُهُ) أي أصنافه كالقمح والأرز والفول وغير ذلك ، وقيل : ألوانه
الخضرة والحمرة وشبه ذلك ، وفي الوجهين دليل على الفاعل المختار ورد على أهل
الطبائع [الملحدين].
(أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) تقديره : أفمن شرح الله صدره كالقاسي قلبه ، وروي أن الذي
شرح الله صدره للإسلام عليّ بن أبي طالب وحمزة ، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب
وأولاده ، واللفظ أعم من ذلك (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) قال الزمخشري : من هنا سببية أي قلوبهم قاسية من أجل ذكر
الله ، وهذا المعنى بعيد ، ويحتمل عندي أن يكون قاسية تضمن معنى خالية ، فلذلك
تعدى بمن ، والمعنى : أن قلوبهم خالية من ذكر الله.
(اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يعني القرآن (كِتاباً) بدل من أحسن أو حال منه (مُتَشابِهاً) معناه هنا أنه يشبه بعضه بعضا في الفصاحة والنطق بالحق
وأنه ليس فيه تناقض ولا اختلاف (مَثانِيَ) جمع مثان أي تثنى فيه القصص وتكرر ، ويحتمل أن يكون مشتقا
من الثناء ، لأنه يثنى فيه على الله ، فإن قيل : مثاني جمع فكيف وصف به المفرد؟
فالجواب : أن القرآن ينقسم فيه إلى سور وآيات كثيرة فهو جمع بهذا الإعتبار ، ويجوز
أن يكون كقولهم : برمة أعشار ، وثوب أخلاق ، أو يكون تمييزا من متشابها كقولك :
حسن شمائل (ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) إن قيل : كيف تعدّي تلين بإلى؟ فالجواب أنه تضمن معنى فعل
تعدى بإلى كأنه قال تميل أو تسكن أو تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله. فإن قيل : لم ذكرت
الجلود أولا وحدها ثم ذكرت القلوب بعد ذلك معها؟ فالجواب : أنه لما قال أولا تقشعر
ذكر الجلود وحدها ، لأن القشعريرة من وصف الجلود لا من وصف غيرها ، ولما قال ثانيا
تلين ذكر الجلود والقلوب ، لأن اللين توصف به الجلود والقلوب : أما لين القلوب فهو
ضدّ قسوتها ، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها فاقشعرت أولا من الخوف ، ثم لانت
بالرجاء (ذلِكَ هُدَى اللهِ) يحتمل أن تكون الإشارة إلى القرآن أو إلى الخشية واقشعرار
الجلود (أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) الخبر محذوف كما تقدم في نظائره تقديره : أفمن يتقي بوجهه
سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب ومعنى يتقي يلقى النار بوجهه ليكفها عن نفسه ،
وذلك أن الإنسان إذا لقي شيئا من المخاوف استقبله بيديه ، وأيدي هؤلاء مغلولة ،
فاتقوا النار بوجوههم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ) أي ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون من الكفر والعصيان.
(قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على الحال أو بفعل مضمر على المدح (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي ليس فيه تضادّ ولا اختلاف ، ولا عيب من العيوب التي في
كلام البشر ، وقيل معناه : غير مخلوق وقيل : غير ذي لحن ، فإن قيل : لم قال غير ذي
عوج ولم يقل غير معوج؟ فالجواب : أن قوله غير ذي عوج أبلغ في نفي العوج عنه كأنه
قال : ليس فيه شيء من العوج أصلا (رَجُلاً فِيهِ
شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي متنازعون متظالمون ، وقيل : متشاجرون وأصله من قولك :
رجل شكس إذا كان ضيق الصدر ، والمعنى ضرب هذا المثل لبيان حال من يشرك بالله ومن
يوحده ، فشبه المشرك بمملوك بين جماعة من الشركاء يتنازعون فيه ،
والمملوك بينهم في
أسوإ حال ، وشبه من يوحد الله بمملوك لرجل واحد ، فمعنى قوله سالما لرجل أي خالصا له وقرئ سلما بغير ألف والمعنى واحد.
(إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) في هذا وعد للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ووعيد للكفار ، فإنهم إذا ماتوا جميعا وصاروا إلى الله
فاز من كان على الحق وهلك من كان على الباطل ، وفيه أيضا إخبار بأنه صلىاللهعليهوسلم سيموت ، لئلا يختلف الناس في موته كما اختلفت الأمم في
غيره. وقد جاء أنه لما مات صلىاللهعليهوسلم أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موته حتى احتج عليه أبو
بكر الصديق بهذه الآية فرجع إليها (تَخْتَصِمُونَ) قيل : يعني الاختصام في الدماء ، وقيل : في الحقوق والأظهر
أنه اختصام النبي صلىاللهعليهوسلم مع الكفار في تكذيبهم له ، فيكون من تمام ما قبله. ويحتمل
أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من المظالم وغيرها (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى
اللهِ) المعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ويريد بالكذب على
الله هنا ما نسبوا إليه من الشركاء والأولاد (وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ) أي كذب بالإسلام والشريعة.
(وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) قيل : الذي جاء بالصدق النبي صلىاللهعليهوسلم ، والذي صدّق به أبو بكر. وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ،
والذي صدق به محمد صلىاللهعليهوسلم وقيل : الذي جاء بالصدق الأنبياء والذي صدق به المؤمنون ،
واختار ابن عطية أن يكون على العموم ، وجعل الذي للجنس كأنه قال : الفريق الذي
لأنه في مقابلة من كذب على الله وكذب بالصدق والمراد به العموم (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) تقوية لقلب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) الآية رد على المشركين وبرهان على الوحدانية ، روي أن سببها أن
المشركين خوّفوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من آلهتهم ، فنزلت الآية
__________________
مبينة أنهم لا
يقدرون على شيء ، فإن قيل كاشفات وممسكات بالتأنيث؟ فالجواب أنها لا تعقل فعاملها
معاملة المؤنثة ، وأيضا ففي تأنيثها تحقير لها وتهكم بمن عبدها (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) تهديد ومسالمة منسوخة بالسيف (بِالْحَقِ) ذكر في أول السورة .
(اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) هذه الآية اعتبار ، ومعناها أن الله يتوفى النفوس على
وجهين : أحدهما : وفاة كاملة حقيقية وهي الموت ، والآخر : وفاة النوم ، لأن النائم
كالميت في كونه لا يبصر ولا يسمع ومنه قوله (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الإنعام : ٦٠]
وتقديرها ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها (فَيُمْسِكُ الَّتِي
قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي يمسك الأنفس التي قضى عليها بالموت الحقيقي ، ومعنى
إمساكها أنه لا يردها إلى الدنيا (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يرسل الأنفس النائمة ، وإرسالها هو ردّها إلى الدنيا ،
والأجل المسمى هو أجل الموت الحقيقي ، وقد تكلم الناس في النفس والروح وأكثروا
القول في ذلك بالظن دون تحقيق ، والصحيح أن هذا مما استأثر بعلمه الله لقوله (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
شُفَعاءَ) أم هنا بمعنى بل وهمزة الإنكار والشفعاء هم الأصنام وغيرها
، لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس : ١٨] (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا) دخلت همزة الاستفهام على واو الحال تقديره : يشفعون وهم لا
يملكون شيئا ولا يعقلون (قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي هو مالكها ، فلا يشفع أحد إليه إلا بإذنه ، وفي هذا ردّ
على الكفار في قولهم : إن الأصنام تشفع لهم (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ) الآية : معناها أن الكفار يكرهون توحيد الله ويحبون
الإشراك به ، ومعنى إشمأزت انقبضت من شدة الكراهية ، وروي أن هذه الآية نزلت حين
قرأ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سورة النجم ، فألقى الشيطان في أمنيته حسبما ذكرنا في الحج
، فاستبشر الكفار بما ألقى الشيطان من تعظيم اللات والعزى ، فلما أذهب الله ما
ألقى الشيطان استكبروا واشمأزوا.
__________________
(وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهر لهم يوم القيامة خلاف ما كانوا يظنون لأنهم كانوا
يظنون ظنونا كاذبة. قال الزمخشري : المراد بذلك تعظيم العذاب الذي يصيبهم ، أي ظهر
لهم من عذاب الله ما لم يكن في حسابهم فهو كقوله في الوعد (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧]
وقيل : معناها عملوا أعمالا حسبوها حسنات ، فإذا هي سيئات وقال الحسن : ويل لأهل
الربا من هذه الآية وهذا على أنها في المسلمين والظاهر أنها في الكفار (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) معنى حاق حل ونزل وقال ابن عطية وغيره : إن هذا على حذف مضاف
تقديره : حاق بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون ، ويحتمل أن يكون الكلام دون حذف وهو
أحسن ، ومعناه حاق بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون لأنهم كانوا في الدنيا
يستهزئون ، إذا خوفوا بعذاب الله ، ويقولون متى هذا الوعد (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) يحتمل وجهين أحدهما وهو الأظهر : أن يريد على علم مني
بالمكاسب والمنافع ، والآخر : على علم الله باستحقاقي لذلك ، وإنما هنا تحتمل
وجهين : أحدهما وهو الأظهر : أن تكون ما كافة وعلى علم في موضع الحال ، والآخر أن
تكون ما اسم إن وعلى علم خبرها وإنما قال : أوتيته بالضمير المذكر وهو عائد على
النعمة للحمل على المعنى (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) ردّ على الذي قال إنما أوتيته على علم (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني قارون وغيره.
(قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) قال علي بن أبي طالب وابن مسعود : هذه أرجى آية في القرآن
، وروي أن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها
بهذه الآية ، واختلف في سببها فقيل : في وحشي قاتل حمزة ، لما أراد أن يسلم وخاف
أن لا يغفر له ما وقع فيه من قتل حمزة ، وقيل : نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا ،
ففتنوا فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم ، وهذا قول عمر بن الخطاب : وقد
كتب بها إلى هشام بن العاصي ، لما جرى له ذلك وقيل : نزلت في قوم من أهل الجاهلية
، قالوا : ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زنينا ، وقتلنا النفوس فنزلت الآية فيهم ،
ومعناها مع ذلك على العموم في جميع الناس إلى يوم القيامة على تفصيل نذكره ،
وذلك أن الذين
أسرفوا على أنفسهم ، إن أراد بهم الكفار فقد اجتمعت الأمة على أنهم إذا أسلموا غفر
لهم كفرهم وجميع ذنوبهم ؛ لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الإسلام يجبّ ما قبله ، وأنهم إن ماتوا على الكفر فإن الله لا يغفر لهم ، بل
يخلدهم في النار ، وإن أراد به العصاة من المسلمين فإن العاصي إذا تاب غفر له
ذنوبه ، وإن لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فالمغفرة
المذكورة في هذه الآية ، يحتمل أن يريد بها المغفرة للكفار إذا أسلموا أو للعصاة
إذا تابوا ، أو للعصاة وإن لم يتوبوا إذا تفضل الله عليهم بالمغفرة ، والظاهر أنها
نزلت في الكفار ، وأن المغفرة المذكورة هي لهم إذا أسلموا ، والدليل على أنها في
الكفار ما ذكر بعدها إلى قوله وقد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من
الكافرين (وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني اتبعوا القرآن وليس أن بعض القرآن أحسن من بعض ، لأنه
حسن كله. إنما المعنى أن يتبعوا بأعمالهم ما فيه من الأوامر. ويجتنبوا ما فيه من
النواهي ، فالتفضيل الذي يقتضيه أحسن إنما هو في الإتباع ، قيل : يعني اتبعوا
الناسخ دون المنسوخ وهذا بعيد (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) في موضع مفعول من أجله تقديره : كراهية أن تقول نفس وإنما
ذكر النفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكفار (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في حق الله وقيل : في أمر الله وأصله من الجنب بمعنى
الجانب ثم استعير لهذا المعنى (السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين (بَلى) جواب للنفس التي حكى كلامها ولا يجاوب ببلى إلا النفي وهي
هنا جواب لقوله : لو أن الله هداني لكنت من المتقين ؛ لأنه في معنى النفي ، لأن لو
حرف امتناع. وتقرير الجواب بل قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل وإنزاله الكتب.
وقال ابن عطية : هي جواب لقوله : لو أن لي كرة فإن معناه يقتضي أن العمر يتسع
للنظر فقيل له بلى على وجه الرد عليه ، والأول أليق بسياق الكلام لأن قوله : قد
جاءتك آياتي تفسير لما تضمنته بلى (وُجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ) يحتمل أن يريد سواد اللون حقيقة أو يكون عبارة عن شدة
الكرب (بِمَفازَتِهِمْ) أصله من الفوز والتقدير بسبب فوزهم ، وقيل معناه :
بفضائلهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قائم بتدبير كل شيء.
__________________
(مَقالِيدُ) مفاتيح وقيل خزائن واحدها إقليد ، وقيل لا واحد لها من
لفظها وأصلها كلمة فارسية ، وقال عثمان بن عفان : سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن مقاليد السموات والأرض فقال : هي لا إله إلا الله والله
أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله هو الأول
والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن صح هذا
الحديث فمعناه أن من قال هذه الكلمات صادقا مخلصا نال الخيرات والبركات من السموات
والأرض لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك فكأنها مفاتيح له (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية قال الزمخشري إنها متصلة بقوله وينجي الله الذين
اتقوا بمفازتهم وما بينهما من الكلام اعتراض (أَفَغَيْرَ اللهِ) منصوب بأعبد (تَأْمُرُونِّي) حذفت إحدى النونين تخفيفا وقرئ بإدغام إحدى النونين في الأخرى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) دليل على إحباط عمل المرتد مطلقا خلافا للشافعي في قوله :
لا يحبط عمله إلا إذا مات على الكفر ، فإن قيل : الموحى إليهم جماعة والخطاب بقوله
: لئن أشركت لواحد : فالجواب أنه أوحى إلى كل واحد منهم على حدته ، فإن قيل : كيف
خوطب الأنبياء بذلك وهم معصومون من الشرك ، فالجواب أن ذلك على وجه الفرض والتقدير
: أي لو وقع منهم شرك لحبطت أعمالهم ، لكنهم لم يقع منهم شرك بسبب العصمة ، ويحتمل
أن يكون الخطاب لغيرهم وخوطبوا هم ليدل المعنى على غيرهم بالطريق الأولى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه بما يجب له ولا نزهوه عما
لا يليق به ، والضمير في قدروا لقريش وقيل : اليهود (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) المقصود بهذا تعظيم جلال الله والردّ على الكفار الذين ما
قدروا الله حق قدره ، ثم اختلف الناس فيها كاختلافهم في غيرها من المشكلات ، فقالت
المتأولة : إن القبضة واليمين عبارة عن القدرة وقال ابن الطيب إنها صفة زائدة على
صفات الذات ، وأما السلف الصالح فسلموا علم ذلك إلى الله ، ورأوا أن هذا من
المتشابه الذي لا يعلم علم حقيقته إلا الله ، وقد قال ابن عباس ما معناه : إن
الأرض في قبضته والسموات مطويات كل ذلك بيمينه ، وقال ابن عمر ما معناه : أن الأرض
في قبضة اليد الواحدة ، والسموات مطويات باليمين الأخرى لأن كلتا يديه يمين (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، وهذه النفخة نفخة الصعق
وهو الموت ، وقد قيل : إن قبلها نفخة الفزع ولم تذكر في هذه الآية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل : يعني جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت ، ثم
__________________
يميتهم الله بعد
ذلك وقيل : استثناء الأنبياء وقيل الشهداء (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى) هي نفخة القيام (قِيامٌ يَنْظُرُونَ) إنه من النظر ، وقيل : من الانتظار أي ينتظرون ما يفعل بهم
(وَوُضِعَ الْكِتابُ) يعني صحائف الأعمال وإنما وحّدها لأنه أراد الجنس وقيل :
هو اللوح المحفوظ (وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ) ليشهدوا على قومهم (وَالشُّهَداءِ) يحتمل أن يكون جمع شاهد أو جمع شهيد في سبيل الله ، والأول
أرجح لأن فيه معنى الوعيد ، ولأنه أليق بذكر الأنبياء الشاهدين ، والمراد على هذا
أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأنهم يشهدون على الناس وقيل : يعني الملائكة الحفظة (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الضمير لجميع الخلق (زُمَراً) في الموضعين جمع زمرة وهي الجماعة من الناس وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على مثل القمر ليلة البدر
، والزمرة الثانية على مثل أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل (خَزَنَتُها) جمع خازن حيث وقع (كَلِمَةُ الْعَذابِ) يعني القضاء السابق بعذابهم (وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها) إنما قال في الجنة وفتحت أبوابها بالواو وقال في النار
فتحت بغير واو لأن أبواب الجنة كانت مفتحة قبل مجيء أهلها ، والمعنى حتى إذا جاؤها
وأبوابها مفتحة ، فالواو واو الحال وجواب إذا على هذا محذوف ، وأما أبواب النار
فإنها فتحت حين جاءوها ، فوقع قوله : فتحت جواب الشرط فكأنه بغير واو وقال
الكوفيون : الواو في أبواب الجنة واو الثمانية ، لأن أبواب الجنة ثمانية وقيل :
الواو زائدة وفتحت هو الجواب (وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ) يعني أرض الجنة والوراثة هنا استعارة كأنهم ورثوا موضع من
لم يدخل الجنة (نَتَبَوَّأُ) أي ننزل من الجنة حيث نشاء ونتخذه مسكنا (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين به دائرين حوله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الضمير لجميع الخلق كالموضع الأول ، ويحتمل هنا أن يكون
للملائكة والقضاء بينهم توفية أجورهم على حسب منازلهم (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ) يحتمل أن يكون القائل لذلك الملائكة أو جميع الخلق أو أهل
الجنة : لقوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
__________________
سورة غافر
مكية
إلا آيتي ٥٦ و ٥٧ فمدنيتان وآياتها ٨٥ نزلت بعد الزمر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة غافر (المؤمن))
(حم) تقدم الكلام على حروف الهجاء ، وتختص حم بأن معناها : حمّ
الأمر ، أي قضي ، وقال ابن عباس : «الر» و «حم» و «ن» هي حروف الرحمن (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ذكر في الزمر (ذِي الطَّوْلِ) أي ذي الفضل والإنعام ، وقيل : الطول : الغنى والسعة (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلادِ) جعل لا يغررك بمعنى لا يحزنك ففيه تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ووعيد للكفار (وَالْأَحْزابُ) يراد بهم عاد وثمود وغيرهم (لِيَأْخُذُوهُ) أي ليقتلوه (لِيُدْحِضُوا) أي ليبطلوا به الحق (حَقَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ) أي وجب قضاؤه (وَمَنْ حَوْلَهُ) عطف على الذين يحملون (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إن قيل : ما فائدة قوله ويؤمنون به ، ومعلوم أن حملة العرش
ومن حوله يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإيمان وشرفه ، قال ذلك
الزمخشري ، وقال : إن فيه فائدة أخرى وهي : أن معرفة حملة العرش بالله تعالى من
طريق النظر والاستدلال ، كسائر الخلق لا بالرؤية ، وهذه نزعته إلى مذهب المعتزلة
في استحالة رؤية الله.
(وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أصل الكلام وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، فالسعة في المعنى
مسندة إلى الرحمة والعلم ، وإنما أسندتا إلى الله تعالى في اللفظ لقصد
__________________
المبالغة في وصف
الله تعالى بهما كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء (وَقِهِمُ
السَّيِّئاتِ) يحتمل أن يكون المعنى قهم السيئات نفسها ، بحيث لا
يفعلونها ، أو يكون المعنى : قهم جزاء السيئات ، فلا تؤاخذهم بها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ
لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) المقت البغض الذي يوجبه ذنب أو عيب ، وهذه الحال تكون
للكفار عند دخولهم النار ؛ فإنهم إذا دخلوها مقتوا أنفسهم ، أي مقت بعضهم بعضا ، ويحتمل
أن يمقت كل واحد منهم نفسه فتناديهم الملائكة وتقول لهم : مقت الله لكم في الدنيا
على كفركم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم. فقوله : لمقت الله مصدر مضاف إلى الفاعل ،
وحذف المفعول لدلالة مفعول مقتكم عليه وقوله : إذ تدعون ظرف العامل فيه مقت الله
عاما من طريق المعنى ، ويمتنع أن يعمل فيه من طريق قوانين النحو ، لأن مقت الله مصدر
فلا يجوز أن يفصل بينه وبين بعض صلته ، فيحتاج أن يقدر للظرف عامل ، وعلى هذا أجاز
بعضهم الوقف على قوله أنفسكم ، والابتداء بالظرف وهذا ضعيف ، لأن المراعى المعنى.
وقد جعل الزمخشري مقت الله عاما في الظرف ولم يعتبر الفصل (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ) هذه الآية كقوله : وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم
يحييكم فالموتة الأولى عبارة عن كونهم عدما ، أو كونهم في الأصلاب ، أو في الأرحام
، والموتة الثانية الموت المعروف ، والحياة الأولى حياة الدنيا ، والحياة الثانية
حياة البعث في القيامة. وقيل : الحياة الأولى حياة الدنيا ، والثانية : الحياة في
القبر ، والموتة الأولى الموت المعروف ، والموتة الثانية بعد حياة القبر ، وهذا
قول فاسد لأنه لا بدّ من الحياة للبعث فتجيء الحياة ثلاث مرات.
فإن قيل : كيف
اتصال قولهم أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين بما قبله؟ فالجواب : أنهم كانوا في
الدنيا يكفرون بالبعث ، فلما دخلوا النار مقتوا أنفسهم على ذلك ، فأقروا به حينئذ
ليرضوا الله بإقرارهم ، حينئذ فقولهم : أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين إقرار بالبعث
على أكمل الوجوه ، طمعا منه أن يخرجوا عن المقت الذي مقتهم الله ؛ إذ كانوا يدعون
إلى الإسلام فيكفرون (فَاعْتَرَفْنا
بِذُنُوبِنا) الفاء هنا رابطة معناها التسبب ، فإن قيل : كيف يكون قولهم
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين سببا لاعترافهم بالذنوب؟ فالجواب أنهم كانوا كافرين
بالبعث ، فلمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم ، علموا أن الله قادر على
البعث فاعترفوا بذنوبهم ، وهي إنكار البعث ، وما أوجب لهم إنكاره من المعاصي ، فإن
من لم يؤمن بالآخرة لا يبالي بالوقوع في المعاصي. (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ
إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) الباء سببية للتعليل ، والإشارة بذلكم يحتمل أن تكون
للعذاب الذي هم فيه ، أو إلى مقت الله لهم أو مقتهم لأنفسهم ،
والأحسن أن تكون
إشارة إلى ما يقتضيه سياق الكلام وذلك أنهم لما قالوا : فهل إلى خروج من سبيل ،
كأنهم قيل لهم : لا سبيل إلى الخروج ، فالإشارة بقوله ذلكم إلى عدم خروجهم من
النار (يُرِيكُمْ آياتِهِ) يعني : العلامات الدالة عليه من مخلوقاته ومعجزات رسله (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ
رِزْقاً) يعني المطر.
(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) يحتمل أن يكون المعنى مرتفع الدرجات ، فيكون بمعنى العالي
أو رافع درجات عباده في الجنة وفي الدنيا (يُلْقِي الرُّوحَ) يعني الوحي (مِنْ أَمْرِهِ) يحتمل أن يريد الأمر الذي هو واحد الأمور ، أو الأمر
بالخبر ، فعلى الأول تكون من للتبعيض أو لابتداء الغاية ، وعلى الثاني تكون
لابتداء الغاية أو بمعنى الباء (يَوْمَ التَّلاقِ) يعني يوم القيامة ، وسمي بذلك لأن الخلائق يلتقون فيه ،
وقيل : لأنه يلتقي فيه أهل السموات والأرض وقيل : لأنه يلتقي الخلق مع ربهم ،
والفاعل في ينذر ضمير يعود على من يشاء أو على الروح أو على الله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) هذا من كلام الله تعالى تقريرا للخلق يوم القيامة ؛
فيجيبونه ويقولون : (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) وقيل : بل هو الذي يجيب نفسه ؛ لأن الخلق يسكتون هيبة له ،
وقيل : إن القائل (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ) ملك (يَوْمَ الْآزِفَةِ) يعني القيامة ومعناه القريبة (إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَناجِرِ) معناه أن القلوب قد صعدت من الصدور ، لشدّة الخوف حتى بلغت
الحناجر ، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة أو مجاز عبّر به عن شدّة الخوف. والحناجر جمع
حنجرة وهي الحلق (كاظِمِينَ) أي محزونين حزنا شديدا كقوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف : ٨٤] وقيل
: معناه يكظمون حزنهم أي يطمعون أن يخفوه ، والحال تغلبهم ، وانتصابه على الحال من
أصحاب القلوب ، لأن معناه قلوب الناس ، أو من المفعول في أنذرهم أو من القلوب.
وجمعها جمع المذكر لمّا وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي صديق مشفق (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) يحتمل أن يكون نفى الشفاعة وطاعة الشفيع أو نفى طاعة خاصة.
كقولك : ما جاءني رجل صالح فنفيت الصلاح ، وإن كان قد جاءك رجل غير صالح ، والأول
أحسن لأن الكفار ليس لهم من يشفع فيهم (يَعْلَمُ خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ) أي استراق النظر ، والخائنة مصدر بمعنى الخيانة ، أو وصف
للنظرة وهذا الكلام
__________________
متصل بما تقدم من
ذكر الله ، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله لينذر يوم
التلاق (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجة ظاهرة وهي المعجزات (قالُوا اقْتُلُوا
أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) هذا القتل غير القتل الذي كانوا يقتلون أولا قبل ميلاد
موسى.
(وَقالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) المعنى : أنه لا يبالى بدعاء موسى لربه ، ولا يخاف من ذلك
إن قتله ، ويظهر من قوله : ذروني أنه كان في الناس من ينازعه في قتل موسى ، وذلك
يدل على أن فرعون كان قد اضطرب أمره بظهور معجزات موسى (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسادَ) يعني فساد أحوالهم في الدنيا ، وقرأ [عاصم وحمزة والكسائي]
: أو أن يظهر وقرأ [الباقون] بالواو فقط ويظهر بفتح الياء ورفع الفساد على
الفاعلية وبضم الياء ونصب الفساد على المفعولية (وَقالَ مُوسى إِنِّي
عُذْتُ) الآية لما سمع موسى ما همّ به فرعون من قتله ، استعاذ
بالله فعصمه الله منه ، وقال : من كل متكبر ليشمل فرعون وغيره ، وليكون فيه وصف
لغير فرعون بذلك الوصف القبيح.
(وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) قيل : اسم هذا الرجل حبيب وقيل : حزقيل ، وقيل : شمعون
بالشين المعجمة ، وروي أن هذا الرجل المؤمن كان ابن عم فرعون ، فقوله : من آل
فرعون صفة للمؤمن ، وقيل : كان من بني إسرائيل ، فقوله : من آل فرعون على هذا
يتعلق بقوله يكتم إيمانه ، والأول أرجح ؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى تقديم وتأخير ،
ولقوله : «فمن ينصرنا من بأس الله» لأن هذا كلام قريب شفيق ، ولأن بني إسرائيل
حينئذ كانوا أذلاء ، بحيث لا يتكلم أحد منهم بمثل هذا الكلام ، و (أَنْ يَقُولَ) في موضع المفعول من أجله تقديره : أتقتلونه من أجل أن يقول
ربي الله (وَإِنْ يَكُ كاذِباً
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي إن كان
__________________
موسى كاذبا في
دعوى الرسالة فلا يضركم كذبه ، فلأي شيء تقتلونه ، فإن قيل : كيف قال :وإن يك
كاذبا بعد أن كان قد آمن به؟ فالجواب أنه لم يقل ذلك على وجه التكذيب له ، وإنما
قاله على وجه الفرض والتقدير ، وقصد بذلك المحاجّة لقومه ، فقسم أمر موسى إلى
قسمين ، ليقيم عليهم الحجة في ترك قتله على كل وجه من القسمين (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ) قيل : إن بعض هنا بمعنى كل وذلك بعيد ، وإنما قال بعض ولم
يقل كل مع أن الذي يصيبهم هو كل ما يعدهم ليلاطفهم في الكلام ، ويبعد عن التعصب
لموسى ، ويظهر النصيحة لفرعون وقومه ، فيرتجى إجابتهم للحق (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) هو المؤمن المذكور أولا ، وقيل : هو موسى عليهالسلام وهذا بعيد ، وإنما توهموا ذلك لأنه صرح هنا بالإيمان ،
وكان كلام المؤمن أولا غير صريح ؛ بل كان فيه تورية وملاطفة لقومه ، إذ كان يكتم
إيمانه ، والجواب : أنه كتم إيمانه أول الأمر ، ثم صرح به بعد ذلك ، وجاهرهم
مجاهرة ظاهرة ، لما وثق بالله حسبما حكى الله من كلامه إلى قوله (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ)(يَوْمَ التَّنادِ) التنادي يعني : يوم القيامة وسمي بذلك لأن المنادي ينادي
الناس ، وذلك قوله : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ) وقيل : لأن بعضهم ينادي بعضا ، أي ينادي أهل الجنة (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا
حَقًّا) [الأعراف :
٤٤] وينادي أهل
النار : (أَنْ أَفِيضُوا
عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠] (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي منطلقين إلى النار ، وقيل : هاربين من النار.
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) قيل : هو يوسف بن يعقوب ، وقيل : هو يوسف بن إبراهيم بن
يوسف بن يعقوب ، والبينات التي جاء بها يوسف لم تعيّن لنا ، واختلف هل أدركه فرعون
موسى أو فرعون آخر قبله لأن كل من ملك مصر يقال له فرعون (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولاً) كلامهم هذا لا يدل على أنهم مؤمنون برسالة يوسف ، وإنما
مرادهم : لم يأت أحد يدّعي الرسالة بعد يوسف ، قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : إنما
هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته (الَّذِينَ
يُجادِلُونَ) بدل من مسرف مرتاب وإنما جاز إبدال الجمع من المفرد ، لأنه
في معنى الجمع ، كأنه قال : كل مسرف (كَبُرَ مَقْتاً) فاعل كبر مصدر يجادلون ، وقال الزمخشري : الفاعل ضمير من
هو
مسرف (الْأَسْبابَ) هنا الطرق وقيل : الأبواب ، وكررها للتفخيم وللبيان (فَأَطَّلِعَ) بالرفع عطف على أبلغ وبالنصب بإضمار أن في جواب لعل ، لأن الترجّي
غير واجب ، فهو كالتمني في انتصاب جوابه ، ولا نقول : إن لعل أشربت معنى ليت كما
قال بعض النحاة (تباب) أي خسران (متاع) أي يتمتع به قليلا ، فإن قيل : لم كرر
المؤمن نداء قومه مرارا؟ فالجواب : أن ذلك لقصد التنبيه لهم ، وإظهار الملاطفة
والنصيحة ، فإن قيل : لم جاء بالواو في قوله ويا قوم في الثالث دون الثاني؟
فالجواب : أن الثاني بيان للأول وتفسير ، فلم يصح عطفه عليه بخلاف الثالث ، فإنه
كلام آخر فصح عطفه عليه (ما لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ) أي ليس لي علم بربوبيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم
كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله ، وإذا لم يكن إلها لم يصح علم ربوبيته (لا جَرَمَ) أي لا بد ولا شك (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) قال ابن عطية ليس له قدر ولا حق ، يجب أن يدعى إليه كأنه
قال : أتدعونني إلى عبادة ما لا خطر له في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ويحتمل اللفظ
أن يكون معناه : ليس له دعوة قائمة ، أي لا يدعى أحد إلى عبادته (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) دليل على أن من فوض أمره إلى الله عزوجل كان الله معه (النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها) النار بدل من سوء العذاب ، أو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر ،
وعرضهم عليها من حين موتهم إلى يوم القيامة ، وذلك مدّة البرزخ بدليل قوله : ويوم
القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، واستدل أهل السنة بذلك على صحة ما ورد من
عذاب القبر ، وروي أن أرواحهم في أجواف طيور سود تروح بهم وتغدو إلى النار (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قيل : معناه في كل غدوة وعشية من أيام الدنيا ، وقيل :
المعنى على تقدير : ما بين
__________________
الغدوة والعشية ،
لأن الآخرة لا غدوة فيها ولا عشية (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) إن قيل : هلا قال الذين في النار لخزنتها فلم صرح باسمها؟
فالجواب أن في ذكر جهنم تهويلا ليس في ذكر الضمير (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) يحتمل أن يكون من كلام خزنة جهنّم فيكون متّصلا بقوله : (فَادْعُوا) أو يكون من كلام الله تعالى استئنافا.
(إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا) قيل : إن هذا خاص فيمن أظهره الله على الكفار ، وليس بعام
؛ لأن من الأنبياء من قتله قومه كزكريا ويحي ، والصحيح أنه عام ، والجواب عما
ذكروه أن زكريا ويحيى لم يكونا من الرسل ، إنما كانا من الأنبياء الذين ليسوا
بمرسلين ، وإنما ضمن الله نصر الرسل خاصة ، لا نصر الأنبياء كلهم (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) يعني يوم القيامة. والأشهاد جمع شاهد أو شهيد ، ويحتمل أن
يكون بمعنى الحضور. أو الشهادة على الناس أو الشهادة في سبيل الله ، والأظهر أنه
بمعنى الشهادة على الناس لقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ) يحتمل أنهم لا يعتذرون أو يعتذرون ، ولكن لا تنفعهم
معذرتهم ، والأول أرجح لقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦]
فنفى الاعتذار والانتفاع به (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌ) يعني وعده لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم بالنصر والظهور على أعدائه الكفار (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) قيل. العشي صلاة العصر والإبكار صلاة الصبح ، وقيل : العشي
بعد العصر إلى الغروب والإبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) يعني كفار قريش (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ) أي تكبر وتعاظم ، يمنعهم من أن يتبعوك أن ينقادوا إليك
وقيل : كبرهم أنهم أرادوا النبوة لأنفسهم ، ورأوا أنهم أحق بها ، والأول أظهر لأن
إرادتهم النبوة لأنفسهم حسد ، والأول هو الكبر (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي لا يبلغون ما يقتضيه كبرهم من الظهور عليك ، ومن نيل
النبوة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي استعذ من شرهم لأنهم أعداء لك ، واستعذ من مثل حالهم في
الكبر والحسد ، واستعذ بالله في جميع أمورك على الإطلاق.
(لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الخلق هنا مصدر مضاف إلى
المفعول ، والمراد
به الاستدلال على البعث ، لأن الإله الذي خلق السموات الأرض على كبرها ، قادر على
إعادة الأجسام بعد فنائها ، وقيل : المراد توبيخ الكفار المتكبرين ، كأنه قال :
خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، فما بال هؤلاء يتكبرون على خالقهم ، وهم
من أصغر مخلوقاته وأحقرهم ، والأول أرجح لوروده في مواضع من القرآن لأنه قال بعده
: إن الساعة لآتية لا ريب فيها فقدم الدليل ، ثم ذكر المدلول.
(وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الدعاء هنا هو الطلب والرغبة ، وهذا وعد مقيّد بالمشيئة ،
وهي موافقة القدر لمن أراد أن يستجيب له ، وقيل : ادعوني هنا : اعبدوني بدليل قوله
بعده : إن الذين يستكبرون عن عبادتي وقوله صلىاللهعليهوسلم : الدعاء هو العبادة ثم تلا الآية (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) على هذا القول بمعنى أغفر لكم أو أعطيكم أجوركم. والأول
أظهر ، ويكون قوله : (يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِي) بمعنى يستكبرون عن الرغبة إليّ كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من لم يسأل الله يغضب عليه وأما قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الدعاء هو العبادة فمعناه أن الدعاء والرغبة إلى الله هي
العبادة ، لأن الدعاء يظهر فيه افتقار العبد وتضرعه إلى الله (داخِرِينَ) أي صاغرين (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ذكر في [يونس : ٦٧] (وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) يعني المستلذات ، لأنه إذا جاء ذكر الطيبات في معرض
الإنعام فيراد به المستلذات ، وإذا جاء في معرض التحليل والتحريم فيراد به الحلال
والحرام (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا متصل بما قبله ، قال ذلك ابن عطية والزمخشري وتقديره :
ادعوه مخلصين قائلين (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) ولذلك قال ابن عباس : من قال لا إله إلا الله فليقل الحمد
لله رب العالمين ، ويحتمل أن يكون الحمد لله استئنافا (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)
__________________
أراد الجنس ولذلك
أفرد لفظه مع أن الخطاب لجماعة (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) ذكر الأشد في سورة يوسف عليهالسلام : [يوسف : ٢٢] واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره : ثم يبقيكم
لتبلغوا وكذلك ليكونوا أو أما لتبلغوا أجلا مسمى فمتعلق بمحذوف آخر تقديره : فعل
ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى وهو الموت أو يوم القيامة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ) يعني كفار قريش ، وقيل : هم أهل الأهواء كالقدرية وغيرهم ،
وهذا مردود بقوله : الذين كذبوا بالكتاب إلا إن جعلته منقطعا مما قبله وذلك بعيد (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) العامل في إذ يعملون وجعل الظرف الماضي من الموضع المستقبل
لتحقيق الأمر (يُسْحَبُونَ فِي
الْحَمِيمِ) أي يجرون والحميم
الماء الشديد الحرارة (ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ) هذا من قولك : سجرت التنور إذا ملأته بالنار ، فالمعنى
أنهم يدخلون فيها كما يدخل الحطب في التنور ، ولذلك قال مجاهد في تفسيره : توقد
بهم النار (تمرحون) من المرح وهو الأشر والبطر. وقيل : الفخر والخيلاء (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) إن قيل : قياس النظم أن يقول بئس مدخل الكافرين لأنه تقدم
قبله ادخلوا. فالجواب أن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثوى (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) أصل إما إن نريك ودخلت ما الزائدة بعد إن الشرطية ، وجواب
الشرط محذوف تقديره : إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب قرّت عينك بذلك ، وإن
توفيناك قبل ذلك فإلينا يرجعون ، فننتقم منهم أشد الانتقام.
(مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنا عَلَيْكَ) روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول وفي حديث آخر أربعة
آلاف ، وفي حديث أبي ذر إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا منهم الرسل
ثلاثمائة وثلاثة عشر ؛ فذكر الله بعضهم في القرآن ، فهم الذين قص عليه ولم يذكر
سائرهم فهم الذين لم يقصص عليه (فَإِذا جاءَ أَمْرُ
اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِ) قال الزمخشري :
__________________
أمر الله :
القيامة ، وقال ابن عطية : المعنى إذا أراد الله إرسال رسول قضي ذلك ، ويحتمل أن
يريد بأمر الله إهلاك المكذبين للرسل لقوله (وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ) هنالك في الموضعين يراد به الوقت والزمان ، وأصله ظرف مكان
ثم وضع موضع ظرف الزمان (الأنعام) هي الإبل والبقر والضأن والمعز ، فقوله (لِتَرْكَبُوا مِنْها) يعني الإبل ، ومنها تأكلون يعني اللحوم والمنافع منها
اللبن والصوف وغير ذلك (وَلِتَبْلُغُوا
عَلَيْها حاجَةً) يعني قطع المسافة البعيدة ، وحمل الأثقال على الإبل ،
وتحملون يريد الركوب عليها وإنما كرره بعد قوله : لتركبوا منها لأنه أراد الركوب
الأول المتعارف في القرى والبلدان وبالحمل عليها ، الأسفار البعيدة ، قاله ابن
عطية (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة ولذلك وبخهم بقوله
: (فَأَيَّ آياتِ اللهِ
تُنْكِرُونَ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الضمير يعود على الأمم المكذبين وفي تفسير علمهم وجوه :
أحدها أنه ما كانوا يعتقدون من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ، والثاني أنه علمهم
بمنافع الدنيا ووجوه كسبها ، والثالث أنه علم الفلاسفة الذين يحتقرون علوم الشرائع
وقيل : الضمير يعود على الرسل ، أي فرحوا بما أعطاهم الله من العلم بالله وشرائعه
أو بما عندهم من العلم بأن الله ينصرهم على من يكذبهم ، وأما الضمير في : وحاق بهم
فيعود على الكفار باتفاق ، ولذلك ترجح أن يكون الضمير في فرحوا يعود عليهم ليتسق
الكلام (سنة الله) انتصب على المصدرية والله سبحانه أعلم.
سورة فصلت
مكية
وآياتها ٥٤ نزلت بعد غافر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة حم السجدة) (فُصِّلَتْ) أي بينت وقيل قطعت إلى سور وآيات (قُرْآناً عَرَبِيًّا) منصوب بفعل مضمر على التخصيص أو حال أو مصدر (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل إذا نظروا فيها ،
وذلك هو العلم الذي يوجب التكليف وقيل : معناه يعلمون الحق والإيمان فالأول عام
وهذا خاص ، والأول أولى لقوله : (فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ) لأن الإعراض ليس من صفة المؤمنين ، وقيل : يعلمون لسان
العرب فيفهمون القرآن إذ هو بلغتهم ، وقوله : لقوم يتعلق بتنزيل أو فصلت والأحسن
أن يكون صفة لكتاب (فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ) أي لا يقبلون ولا يطيعون ، وعبّر عن ذلك بعدم السماع على
وجه المبالغة (فِي أَكِنَّةٍ) جمع كنان وهو الغطاء ، (وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ) عبارة عن بعدهم عن الإسلام (فَاعْمَلْ إِنَّنا
عامِلُونَ) قيل : معناه اعمل على دينك ، وإننا عاملون على ديننا فهي
متاركة ، وقيل : اعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ، فهو تهديد (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) هي زكاة المال ، وإنما خصها بالذكر لصعوبتها على الناس ،
ولأنها من أركان الإسلام ، وقيل : يعني بالزكاة التوحيد ، وهذا بعيد. وإنما حمله
على ذلك لأن الآيات مكية. لم تفرض الزكاة إلا بالمدينة ، والجواب أن المراد النفقة
في طاعة الله مطلقا ، وقد كانت مأمورا بها بمكة (أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع من قولك ، مننت الحبل إذا قطعته وقيل : غير
منقوص وقيل : غير محصور ، وقيل : لا يمن عليهم به لأن المن يكدر الإحسان (أَنْداداً) أي أمثالا وأشباها من الأصنام وغيرها (رَواسِيَ) يعني الجبال (وَبارَكَ فِيها) أكثر خيرها (وَقَدَّرَ فِيها
أَقْواتَها)
أي أرزاق أهلها
ومعاشهم وقيل : يعني أقوات الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام
الأرض ، والأول أظهر (فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ) يريد أن الأربعة كملت باليومين الأولين ، فخلق الأرض في
يومين وجعل فيها ما ذكر في يومين ، فتلك أربعة أيام وخلق السموات في يومين فتلك
ستة أيام حسبما ذكر في مواضع كثيرة ، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زيادة على
اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملة ثمانية أيام ، بخلاف ما ذكر في المواضع
الكثيرة (سَواءً) بالنصب مصدر تقديره : استوت استواء قاله الزمخشري ، وقال
ابن عطية انتصب على الحال للسائلين قيل : معناه لمن سأل عن أمرها ، وقيل : معناه
للطالبين لها ، ويعني بالطلب على هذا حاجة الخلق إليها ، وحرف الجر يتعلق بمحذوف
على القول الأول تقديره : يبين ذلك لمن سأل عنه ويتعلق بقدّر على القول الثاني.
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) أي قصد إليها ، ويقتضي هذا الترتيب : أن الأرض خلقت قبل
السماء ، فإن قيل : كيف الجمع بين ذلك وبين قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠]
فالجواب لأنها خلقت قبل السماء ، ثم دحيت بعد ذلك (وَهِيَ دُخانٌ) روي أنه كان العرش على الماء ، فأخرج إليه من الماء دخان
فارتفع فوق الماء فأيبس الماء فصار أرضا ، ثم خلق السموات من الدخان المرتفع (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) هذه عبارة عن لزوم طاعتها ، كما يقول الملك لمن تحت يده :
افعل كذا شئت أو أبيت ، أي : لا بد لك من فعله ، وقيل : تقديره ائتيا طوعا وإلا
أتيتما كرها ، ومعنى هذا الإتيان تصويرهما على الكيفية التي أرادها الله ، وقوله
لهما ائتيا مجاز ، وهو عبارة عن تكوينه لهما وكذلك قولهما : أتينا طائعين عبارة عن
أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما ، وقيل : بل ذلك حقيقة وأنطق الله الأرض
والسماء بقولهما : أتينا طائعين وإنما جمع طائعين جمع العقلاء لوصفهما بأوصاف
العقلاء (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ) أي صنعهنّ والضمير للسموات السبع ، وانتصابها على التمييز
تفسيرا للضمير ، وأعاد عليها ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل ، فهو كقولك : الجذوع
انكسرت ، وجمعهما جمع المفكر العاقل في قوله طائعين ، لأنه وصفهما بالطوع ، وهو
فعل العقلاء فعاملهما معاملتهم فهو كقوله في [سورة يوسف : ٤] : رأيتهم لي ساجدين
وأعاد ضمير التثنية في قوله : قالتا أتينا لأنه جعل الأرض فرقة والسماء أخرى (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي أوحى إلى سكانها من الملائكة ، وإليها نفسها ما شاء من
الأمور ، التي بها قوامها وصلاحها ، وأضاف الأمر إليها لأنه فيها (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ) يعني الشمس والقمر والنجوم ، وهي زينة للسماء الدنيا سواء
كانت فيها أو فيما فوقها من السموات (وَحِفْظاً) تقديره : وحفظناها حفظا ويجوز أن يكون مفعولا من أجله ،
على المعنى كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.
(فَإِنْ أَعْرَضُوا) الضمير لقريش (صاعِقَةً) يعني واقعة واحدة شديدة ، وهي مستعارة من صاعقة النار ،
وقرئ صعقة بإسكان العين وهي الواقعة من قولك صعق الرجل (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) معنى ما بين الأيدي المتقدم ، ومعنى ما خلف المتأخر ،
فمعنى الآية : أن الرسل جاءوهم في الزمان المتقدم ، واتصلت نذارتهم إلى زمان عاد
وثمود ، حتى قامت عليهم الحجة بذلك من بين أيديهم ، ثم جاءتهم رسل آخرون عند
اكتمال أعمارهم ، فذلك من خلفهم ، قاله ابن عطية وقال الزمخشري : معناه أتوهم من
كل جانب ، فهو عبارة عن اجتهادهم في التبليغ إليهم ، وقيل : أخبروهم بما أصاب من
قبلهم ، فذلك ما بين أيديهم ، وأنذروهم ما يجري عليهم في الزمان المستقبل وفي
الآخرة فذلك من خلفهم (أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ) أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية على تقدير بأن لا تعبدوا
إلا الله (فَإِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ليس فيه اعتراف الكفار بالرسالة ، وإنما معناه بما أرسلتم
على قولكم ودعواكم ، وفيه تهكم (رِيحاً صَرْصَراً) قيل : إنه من الصرّ وهو شدة البرد فمعناه باردة وقيل : إنه
من قولك : صرصر إذا صوت فمعناه لها صوت هائل في أيام نحسات معناه من النحس وهو ضد
السعد وقيل شديدة البرد وقيل : متتابعة والأول أرجح ، وروي أنها كانت آخر شوال من
الأربعاء إلى الأربعاء وقرئ نحسات بإسكان الحاء وكسرها فأما الكسر فهو جمع نحس وهو صفة
وأما الإسكان فتخفيف من الكسر على وزن فعل أو وصف بالمصدر.
(وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ) أي بينا لهم فهو بمعنى البيان ، لا بمعنى الإرشاد (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يدفعون بعنف (وَجُلُودُهُمْ) يعني الجلود المعروفة ، وقيل : هو كناية عن الفروج والأول
أظهر (وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ) الآيات يحتمل أن تكون من كلام الجلود ، أو
__________________
من كلام الله
تعالى أو الملائكة ، وفي معناه وجهان : أحدهما لم تقدروا أن تستتروا من سمعكم
وأبصاركم وجلودكم ، لأنها ملازمة لكم ، فلم يمكنكم احتراس من ذلك فشهدت عليكم ،
والآخر لم تتحفظوا من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، لأنكم لم تبالوا بشهادتها ،
ولم تظنوا أنها تشهد عليكم ، وإنما استترتم لأنكم ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما
تعملون ، وهذا أرجح لاتّساق ما بعده معه ، ولما جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود
: أنه قال اجتمع ثلاثة نفر قرشيان وثقفي ، قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم ،
فتحدثوا بحديث فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا : قال الآخر إنه يسمع إذا
جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا فقال الآخر : إن كان يسمع منا شيئا فإنه يسمعه كله
فنزلت الآية (أَرْداكُمْ) أي أهلككم ؛ من الردى بمعنى الهلاك (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ) هو من العتب بمعنى الرضا أي : إن طلبوا العتبى ليس فيهم من
يعطاها (وَقَيَّضْنا لَهُمْ
قُرَناءَ) أي يسرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الإنس (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما بين أيديهم ما تقدم من أعمالهم ، وما خلفهم ما هم
عازمون عليه ، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة ، والتكذيب
بها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ) أي سبق عليهم القضاء بعذابهم (فِي أُمَمٍ) أي في جملة أمم ، وقيل : في بمعنى مع.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) روي أن قائل هذه المقالة أبو جهل بن هشام لعنه الله (وَالْغَوْا فِيهِ) المعنى لا تسمعوا إليه ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات
وإنشاد الشعر ، وشبه ذلك حتى لا يسمعه أحد ، وقيل : معناه قعوا فيه وعيبوه (أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) يقولون هذا إذا دخلوا جهنم ، فقولهم مستقبل ذكر بلفظ
الماضي ، ومعنى اللذين أضلانا : كل من أغوانا من الجن والإنس ، وقيل : المراد ولد
آدم الذي سن القتل وإبليس الذي أمر بالكفر والعصيان ، وهذا باطل لأن ولد آدم مؤمن
عاصي ، وإنما طلب هؤلاء من أضلهم بالكفر (تَحْتَ أَقْدامِنا) أي في أسفل طبقة من النار (ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، استقاموا على قولهم :
ربنا الله ، فصح إيمانهم ودام توحيدهم وقال عمر بن الخطاب : المعنى استقاموا على
الطاعة وترك المعاصي ، وقول عمر أكمل وأحوط ،
وقول أبي بكر أرجح
لما روى أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية وقال : قد قالها قوم كفروا فمن مات عليها
فهو ممن استقام ، وقال بعض الصوفية : معنى استقاموا أعرضوا عما سوى الله ، وهذه
حالة الكمال على أن اللفظ لا يقتضيه (تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) يعني عند الموت (وَلَكُمْ فِيها) الضمير للآخرة (ما تَدَّعُونَ) أي ما تطلبون (وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أي : لا أحد أحسن قولا منه ، ويدخل في ذلك كل من دعا إلى
عبادة الله أو طاعته على العموم ، وقيل : المراد سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل المؤذنون وهذا بعيد ؛ لأنها مكية ، وإنما شرع
الأذان بالمدينة ولكن المؤذنين يدخلون في العموم (وَما يُلَقَّاها) الضمير يعود على الخلق الجميل الذي يتضمنه قوله : ادفع
بالتي هي أحسن (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي حظ من العقل والفضل وقيل : حظ عظيم في الجنة (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) إن شرطية دخلت عليها ما الزائدة ، ونزغ الشيطان : وساوسه
وأمره بالسوء (الَّذِي خَلَقَهُنَ) الضمير يعود على الليل والنهار والشمس والقمر ، لأن جماعة
ما لا يعقل كجماعة المؤنث ، أو كالواحدة المؤنثة ، وقيل ؛ إنما يعود على الشمس
والقمر ، وجمعهما لأن الإثنين جمع وهذا بعيد (فَالَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ) الملائكة (لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملون (الْأَرْضَ خاشِعَةً) عبارة عن قلة النبات (اهْتَزَّتْ) ذكر في [الحج : ٥] (إِنَّ الَّذِي
أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) تمثيل واحتجاج على صحة البعث (إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي يطعنون عليها ، وهذا الإلحاد هو بالتكذيب وقيل ؛ باللغو
فيه حسبما تقدم في السورة (أَفَمَنْ يُلْقى فِي
النَّارِ) الآية : قيل إن المراد بالذي يلقى بالنار أبو جهل ، وبالذي
يأتي آمنا عثمان بن عفان وقيل : عمار بن ياسر واللفظ أعم من ذلك (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) تهديد لا إباحة (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) الذكر هنا القرآن باتفاق ، وخبر إن محذوف تقديره ؛ ضلوا أو
هلكوا ، وقيل : خبرها : أولئك ينادون من مكان بعيد ، وذلك بعيد.
(إِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ) أي كريم على الله ، وقيل منيع من الشيطان (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) أي ليس فيما تقدمه ما يبطله ، ولا يأتي بعده ما يبطله
والمراد على الجملة أنه لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) في معناه قولان : أحدهما : ما يقول الله لك من الوحي
والشرائع ، إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والآخر : ما يقول لك الكفار من التكذيب
والأذى إلا مثل ما قالت الأمم المتقدمون لرسلهم ، فالمراد على هذا تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم بالتأسي ، والمراد على القول الأوّل أنه عليه الصلاة
والسلام أتى بما جاءت به الرسل فلا تنكر رسالته (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ) يحتمل أن يكون مستأنفا ، أو يكون هو المقول في الآية
المتقدمة ، وذلك على القول الأوّل ، وأما على القول الثاني فهو مستأنف منقطع مما
قبله.
(وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) الأعجمي الذي لا يفصح ، ولا يبين كلامه سواء كان من العرب
أو من العجم ، والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح ، ونزلت الآية
بسبب طعن قريش في القرآن ، فالمعنى أنه لو كان أعجميا لطعنوا فيه وقالوا : هلا كان
مبينا فظهر أنهم يطعنون فيه على أي وجه كان (أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌ) هذا من تمام كلامهم ، والهمزة للإنكار ، والمعنى : أنه لو
كان القرآن أعجميا لقالوا قرآن أعجمي ، ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وقيل :
إنما طعنوا فيه لما فيه من الكلمات العجمية ، كسجين وإستبرق ، فقالوا أقرآن أعجمي
وعربي ، أي مختلط من كلام العرب والعجم ، وهذا يجري على قراءة أعجمي بفتح العين (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) عبارة عن إعراضهم عن القرآن ، فكأنهم صم لا يسمعون وكذلك (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) عبارة عن قلة فهمهم له (أُولئِكَ يُنادَوْنَ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فيه قولان : أحدهما عبارة عن قلة فهمهم فشبههم بمن ينادى
من مكان بعيد فهو لا يسمع الصوت ولا يفقه ما يقال ، والثاني أنه حقيقة في يوم
القيامة أي ينادون من مكان بعيد ليسمعوا أهل الموقف توبيخهم ، والأوّل أليق
بالكنايات التي قبلها (كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
مِنْ رَبِّكَ) يعني القدر (إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم زمان وقوعها ، فإذا سئل أحد عن ذلك قال : الله هو
الذي يعلمها (مِنْ أَكْمامِها) جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة قبل ظهورها.
__________________
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
أَيْنَ شُرَكائِي) العامل في يوم محذوف والمراد به يوم القيامة ، والضمير
للمشركين وقوله : أين شركائي توبيخ لهم ، وأضاف الشركاء إلى نفسه على زعم المشركين
، كأنه قال : الشركاء الذين جعلتم لي (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا
مِنْ شَهِيدٍ) المعنى : أنهم قالوا : أعلمناك ما منا من يشهد اليوم بأن
لك شريكا ، لأنهم كفروا يوم القيامة بشركائهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي ضل عنهم شركاؤهم ، بمعنى أنهم لا يرونهم حينئذ ، فما
على هذا موصولة ، أو ضل عنهم قولهم الذي كانوا يقولون من الشرك ، فما على هذا
مصدرية (وَظَنُّوا ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ) الظنّ هنا بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب : أي علموا أنهم
لا مهرب لهم من العذاب ؛ وقيل : يوقف على ظنوا ، ويكون مالهم ؛ استئنافا ، وذلك
ضعيف (لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل من الدعاء بالمال والعافية وشبه ذلك ، ونزلت
الآية في الوليد بن المغيرة ، وقيل في غيره من الكفار واللفظ أعم من ذلك (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي هذا حقي الواجب لي ، وليس تفضلا من الله ولا يقول هذا
إلا كافر ، ويدل على ذلك قوله : (وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً) وقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ
إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) معناه إن بعثت تكون لي الجنة ، وهذا تخرص وتكبر ، وروي أن
الآية نزلت في الوليد بن المغيرة (وَنَأى بِجانِبِهِ) ذكر في الإسراء : ٨٣ (دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي كثير ، وذكر الله هذه الأخلاق على وجه الذم لها (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) الآية معناها : أخبروني إن كان القرآن من عند الله ثم
كفرتم به ألستم في شقاق بعيد؟ فوضع قوله من أضل موضع الخطاب لهم (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ) الضمير لقريش وفيها ثلاثة أقوال : أحدها أن الآيات في
الآفاق هي فتح الأقطار للمسلمين ، والآيات في أنفسهم هي فتح مكة فجمع ذلك وعدا
للمسلمين بالظهور ، وتهديدا للكفار ، واحتجاجا عليهم بظهور الحق وخمول الباطل ،
والثاني أن الآيات في الآفاق هي ما أصاب الأمم المتقدمة من الهلاك وفي أنفسهم يوم
بدر. الثالث أن الآيات في الآفاق : هي خلق السماء وما فيها من العبر والآيات ، وفي
أنفسهم خلقة بني آدم وهذا ضعيف لأنه قال : سنريهم بسين الاستقبال ، وقد كانت
السموات وخلقة بني آدم مرئية والأول هو الراجح (أَنَّهُ الْحَقُّ*) الضمير للقرآن أو للإسلام (مُحِيطٌ) أي بعلمه وقدرته وسلطانه.
سورة الشورى
مكية
إلا الآيات ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٢٧ فمدنية وآياتها ٥٣ نزلت بعد فصلت
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الشورى) (حم عسق) الكلام فيه كسائر حروف الهجاء حسبما تقدم في سورة البقرة ،
وقد حكى الطبري أن رجلا سأل ابن عباس عن حم عسق فأعرض عنه ، فقال حذيفة : إنما
كرهها ابن عباس ، لأنها نزلت في رجل من أهل بيته اسمه عبد الله يبني مدينة على نهر
من أنهار المشرق ، ثم يخسف الله بها في آخر الزمان ، والرجل على هذا أبو جعفر
المنصور ، والمدينة بغداد. وقد ورد في الحديث الصحيح أنها يخسف بها (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ) الكاف نعت لمصدر محذوف ، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه
القرآن أو السورة ، وقيل : الإشارة لقوله : حم عسق فإن الله أنزل هذه الأحرف
بعينها في كل كتاب أنزله ، وفي صحة هذا نظر (اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) اسم الله فاعل بيوحى ، وأما على قراءة يوحي بالفتح فهو
فاعل بفعل مضمر ، دل عليه يوحى كأن قائلا قال : من الذي أوحى؟ فقيل : الله (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتشققن من خوف الله وعظيم جلاله ، وقيل : من قول الكفار
: اتخذ الله ولدا ، فهي كالآية التي في مريم قال ابن عطية : وما وقع للمفسرين هنا
من ذكر الثقل ونحوه : مردود لأن الله تعالى لا يوصف به (مِنْ فَوْقِهِنَ) الضمير للسموات والمعنى يتشققن من أعلاهن ، وذلك مبالغة في
التهويل ، وقيل : الضمير للأرضين وهذا بعيد ، وقيل : الضمير للكفار كأنه قال : من
فوق الجماعات الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السموات يتفطرن ، وهذا أيضا بعيد (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) عموم يراد به الخصوص ؛ لأن الملائكة إنما يستغفرون
للمؤمنين من أهل الأرض ، فهي كقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧]. وقيل
: إنّ يستغفرون للذين آمنوا نسخ هذه الآية ،
__________________
وهذا باطل ، لأن
النسخ لا يدخل في الأخبار ، ويحتمل أن يريد بالاستغفار طلب الحلم عن أهل الأرض
مؤمنهم وكافرهم ، ومعناه : الإمهال لهم ، وأن لا يعاجلوا بالعقوبة فيكون عاما ،
فإن قيل : ما وجه اتصال قوله : والملائكة يسبحون الآية : بما قبلها؟ فالجواب أنا
إن فسرنا تفطر السموات بأنه من عظمة الله ؛ فإنه يكون تسبيح الملائكة أيضا تعظيما
له ، فينتظم الكلام ، وإن فسرنا تفطرها بأنه من كفر بني آدم ؛ فيكون تسبيح
الملائكة تنزيها لله تعالى عن كفر بني آدم ، وعن أقوالهم القبيحة.
(أُمَّ الْقُرى) هي مكة ، والمراد أهلها ، ولذلك عطف عليه من حولها يعني من
الناس (يَوْمَ الْجَمْعِ) يعني يوم القيامة وسمي بذلك لأن الخلائق يجتمعون فيه (أَمِ اتَّخَذُوا) أم منقطعة ، والأولياء هنا المعبودون من دون الله (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي ما اختلفتم فيه أنتم والكفار من أمر الدين فحكمه إلى
الله ؛ بأن يعاقب المبطل ويثيب المحق ؛ أو ما اختلفتم فيه من الخصومات فتحاكموا
فيه إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كقوله : فردّوه إلى الله والرسول (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) يعني الإناث (وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً) يحتمل أن يريد الإناث أو الأصناف (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) معنى يذرؤكم يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن ، وقيل : يكثركم
، والضمير المجرور يعود على الجعل الذي يتضمنه قوله : جعل لكم ، وهذا كما تقول
كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه ، وقيل : الضمير للتزويج الذي دل عليه قوله أزواجا ،
وقال الزمخشري : تقديره يذرؤكم في هذا التدبير. وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجا
، والضمير في يذرؤكم خطاب للناس ؛ والأنعام غلّب فيه العقلاء على غيرهم ، فإن قيل
: لم قال يذرؤكم فيه وهلا قال يذرؤكم به؟ فالجواب : أن هذا التدبير جعل كالمنبع
والمعدن للبث والتكثير قاله الزمخشري (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) تنزيه لله تعالى عن مشابهة المخلوقين ، قال كثير من الناس
: الكاف زائدة للتأكيد ، والمعنى ليس مثله شيء ، وقال الطبري وغيره ليست بزائدة ،
ولكن وضع مثله موضع هو ، والمعنى ليس كهو شيء قال الزمخشري : وهذا كما تقول : مثلك
لا يبخل ، والمراد : أنت لا تبخل ، فنفى البخل عن مثله والمراد نفيه عن ذاته.
(مَقالِيدُ) قد ذكر في [الزمر : ٦٣] (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) اتفق
دين سيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم مع جميع الأنبياء في أصول الاعتقادات ، وذلك هو المراد هنا
، ولذلك فسره بقوله : أن أقيموا الدين يعني إقامة الإسلام الذي هو توحيد الله
وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبالدار الآخرة ، وأما الأحكام الفروعية ، فاختلفت
فيها الشرائع فليست تراد هنا (أَنْ أَقِيمُوا) يحتمل أن تكون أن في موضع نصب بدلا من قوله : ما وصى أو في
موضع خفض بدلا من به ، أو في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر ، أو تكون مفسرة لا
موضع لها من الإعراب (كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي صعب الإسلام على المشركين (اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) الضمير في إليه يعود على الله تعالى ، وقيل على الدين (وَما تَفَرَّقُوا) يعني أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) يعني القضاء السابق بأن لا يفصل بينهم في الدنيا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) يعني المعاصرين لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم من اليهود والنصارى ، وقيل : يعني العرب ، والكتاب على هذا
القرآن (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) الضمير للكتاب ، أو للدين أو لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي إلى ذلك الذي شرع الله ، فادع الناس فاللام بمعنى إلى ،
والإشارة بذلك إلى قوله شرع لكم من الدين أو إلى قوله : ما تدعوهم إليه وقيل : إن
اللام بمعنى أجل ، والإشارة إلى التفرق والاختلاف ، أي لأجل ما حدث من التفرق ادع
إلى الله وعلى هذا يكون قوله : واستقم معطوفا ، وعلى الأول يكون مستأنفا فيوقف على
فادع واستقم (كَما أُمِرْتَ) أي دم على ما أمرت به من عبادة الله وطاعته وتبليغ رسالته
، (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ) الضمير للكفار ، وأهواؤهم ما كانوا يحبون من الكفر والباطل
كله (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) قيل : يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه ، ويحتمل أن
يريد العدل في دعائهم إلى دين الإسلام ، أي أمرت أن أحملكم على الحق (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا جدال ولا مناظرة ، فإن الحق قد ظهر وأنتم تعاندون.
(وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يجادلون المؤمنين في دين الإسلام ، ويعني كفار قريش ،
وقيل : اليهود (مِنْ بَعْدِ ما
اسْتُجِيبَ لَهُ) الضمير يعود على الله أي من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا
في دينه ، وقيل : يعود على الدين وقيل : على محمد صلىاللهعليهوسلم ، والأول أظهر وأحسن (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي زاهقة باطلة (أَنْزَلَ الْكِتابَ) يعني جنس
الكتاب (بِالْحَقِ) أي بالواجب أو متضمنا الحق (وَالْمِيزانَ) قال ابن عباس وغيره يعني : العدل ، ومعنى إنزال العدل ،
إنزال الأمر به في الكتب المنزلة ، وقيل : يعني الميزان المعروف ، فإن قيل : ما
وجه اتصال ذكر الكتاب والميزان بذكر الساعة؟ فالجواب أن الساعة يوم الجزاء والحساب
، فكأنه قال : اعدلوا وافعلوا الصواب قبل اليوم الذي تحاسبون فيه على أعمالكم (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) جاء قريب ، بالتذكير ، لأن تأنيث الساعة غير حقيقي ، ولأن
المراد به وقت الساعة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا) أي يطلبون تعجيلها استهزاء بها ، وتعجيزا للمؤمنين (يُمارُونَ) أي يجادلون ويخالفون (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) يعني الرزق الزائد على المضمون لكل حيوان في قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] أي ما
تقوم به الحياة ، فإن هذا على العموم لكل حيوان طول عمره ، والزائد خاص بمن شاء
الله (حَرْثَ الْآخِرَةِ) عبارة عن العمل لها ، وكذلك حرث الدنيا ، وهو مستعار من
حرث الأرض ؛ لأن الحراث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل (نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ) عبارة عن تضعيف الثواب (نُؤْتِهِ مِنْها) أي نؤته منها ما قدّر له ، لأن كل أحد لا بد أن يصل إلى ما
قسم له (وَما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) هذا للكفار ، أو لمن كان يريد الدنيا خاصة ، ولا رغبة له
في الآخرة (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أم منقطعة للإنكار والتوبيخ ، والشركاء الأصنام وغيرها ،
وقيل : الشياطين (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) الضمير في شرعوا للشركاء ، وفي لهم : للكفار ، وقيل :
بالعكس والأول أظهر ولم يأذن بمعنى : لم يأمر ، والمراد بما شرعوا من البواطل في
الاعتقادات ، وفي الأعمال ، كالبحيرة والوصيلة وغير ذلك.
(وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ) أي لو لا القضاء السابق بأن لا يقضى بينهم في الدنيا لقضي
بينهم فيها (تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ) يعني في الآخرة (ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) تقديره يبشر به ، وحذف الجار والمجرور (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فيه أربعة أقوال : الأول أن القربى بمعنى القرابة ، وفي
بمعنى من أجل ، والمعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني لأجل القرابة التي بيني
وبينكم ؛ فالمقصد على هذا استعطاف قريش ، ولم يكن فيهم بطن
إلا وبينه وبين
النبي صلىاللهعليهوسلم قرابة : الثاني أن القربى بمعنى الأقارب ، أو ذوي القربى ،
والمعنى إلا أن تودّوا أقاربي وتحفظوني فيهم ، والمقصد على هذا وصية بأهل البيت :
الثالث أن القربى قرابة الناس بعضهم من بعض ، والمعنى أن تودوا أقاربكم ، والمقصود
على هذا وصية بصلة الأرحام : الرابع أن القربى التقرّب إلى الله ، والمعنى إلا أن
تتقربوا إلى الله بطاعته ، والاستثناء على القول الثالث والرابع منقطع ، وأما على
الأول والثاني فيحتمل الانقطاع ، لأن المودّة ليست بأجر ، ويحتمل الاتصال على
المجاز كأنه قال : لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فجعل المودة كالأجر (يَقْتَرِفْ) أي يكتسب (نَزِدْ لَهُ فِيها
حُسْناً) يعني مضاعفة الثواب.
(أَمْ يَقُولُونَ) أم منقطعة للإنكار والتوبيخ (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ
يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) فالمقصد بهذا قولان : أحدهما أنه رد على الكفار في قولهم
افترى على الله كذبا : أي لو افتريت على الله كذبا لختم على قلبك ، ولكنك لم تفتر
على الله كذبا فقد هداك وسددك ، والآخر أن المراد : إن يشأ الله يختم على قلبك
بالصبر على أقوال الكفار وتحمل أذاهم (وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ) هذا فعل مستأنف غير معطوف على ما قبله ، لأن الذي قبله
مجزوم ، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله ويبدأ به ، وفي المراد به وجهان : أحدهما
أنه من تمام ما قبله : أي لو افتريت على الله كذبا لختم على قلبك ومحا الباطل الذي
كنت تفتريه لو افتريت ، والآخر أنه وعد لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يمحو الله الباطل وهو الكفر ، ويحق الحق وهو الإسلام (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ) عن هنا بمعنى من ، وكأنه قال التوبة الصادرة من عباده
وقبول التوبة على ثلاثة أوجه : أحدها التوبة من الكفر فهي مقبولة قطعا والثاني
التوبة من مظالم العباد فهي غير مقبولة حتى تردّ المظالم أو يستحل منها والثالث
التوبة من المعاصي التي بين العبد وبين الله فالصحيح أنها مقبولة بدليل هذه الآية
وقيل : إنها في المشيئة (وَيَعْفُوا عَنِ
السَّيِّئاتِ) العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا ، وأما العفو دون التوبة
فهو على أربعة أقسام الأول العفو عن الكفر وهو لا يكون أصلا ، والثاني العفو عن
مظالم العباد وهو كذلك والثالث العفو عن الذنوب الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ، وهو
حاصل باتفاق الرابع العفو عن الكبائر فمذهب أهل السنة أنها في المشيئة ، ومذهب
المعتزلة أنها لا تغفر إلا بالتوبة (وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا) فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معنى يستجيب يجيب والذين آمنوا
مفعول ، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي يجيبهم فيما يطلبون منه. وقال
الزمخشري : أي أصله يستجيب للذين آمنوا فحذف اللام. والثاني أن معناه يجيب والذين
__________________
آمنوا فاعل أي
يستجيب المؤمنون لربهم باتباع دينه والثالث أن معناه يطلب المؤمنون الإجابة من
ربهم واستفعل هذا على بابه من الطلب ، والأول أرجح لدلالة قوله : ويزيدهم من فضله
؛ ولأنه قول ابن عباس ومعاذ بن جبل. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) أي يزيدهم ما لا يطلبون ، زيادة على الاستجابة فيما طلبوا
، وهذه الزيادة روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنها الشفاعة والرضوان.
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي بغى بعضهم على بعض ، وطغوا ؛ لأن الغنى يوجب الطغيان ،
وقال بعض الصحابة : فينا نزلت لأنا نظرنا إلى أموال الكفار فتمنيناها (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) قيل لعمر رضي الله
عنه : اشتد القحط وقنط الناس. فقال : الآن يمطرون ، وأخذ ذلك من هذه الآية ، ومنه
قوله صلىاللهعليهوسلم : اشتدي أزمة تنفرجي (وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ) قيل : يعني المطر فهو تكرار للمعنى الأول بلفظ آخر ، وقيل
: يعني الشمس وقيل : بالعموم (وَما بَثَّ فِيهِما
مِنْ دابَّةٍ) لا إشكال ؛ لأن الدواب في الأرض وأما في السماء فقيل :
يعني الملائكة وقيل : يمكن أن تكون في السماء دواب لا نعلمها نحن وقيل : المعنى
أنه بث في أحدهما فذكر الاثنين كما تقول في بني فلان كذا وإنما هو في بعضهم (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ
قَدِيرٌ) يريد جمع الخلق في الحشر يوم القيامة (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) المعنى أن المصائب التي تصيب الناس في أنفسهم وأموالهم ؛
إنما هي بسبب الذنوب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا يصيب ابن
آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر . وقرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء على أن يكون ما
أصابكم بمعنى الذي وقرأ الباقون بالفاء على أن يكون ما أصابكم شرطا (بِمُعْجِزِينَ) قد ذكر الجواري جمع جارية وهي السفينة (كَالْأَعْلامِ) جمع علم وهو الجبل (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ)
__________________
الضمير في يظللن
للجواري وفي ظهره للبحر ، أي لو أراد الله أن يسكن الرياح لبقيت السفن واقفة على
ظهر البحر ، فالمقصود تعديد النعمة في إرسال الرياح أو تهديد بإسكانه (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) عطف على يسكن الريح ، ومعنى يوبقهن يهلكهن بالغرق ، من شدة
الرياح العاصفة والضمير فيه للسفن ، وفي كسبوا لركابها من الناس والمعنى : أنه لو
شاء لأغرقها بذنوب الناس (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي يعلمون أنه لا مهرب لهم من الله ، وقرأ نافع وابن عامر
يعلم بالرفع على الاستئناف ، [وقرأ الباقون] بالنصب واختلف في إعرابه على قولين :
أحدهما أنه نصب بإضمار أن بعد الواو لما وقعت بعد الشرط والجزاء ؛ لأنه غير واجب.
وأنكر ذلك الزمخشري وقال : إنه شاذ فلا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، والثاني قول
الزمخشري إنه معطوف على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم ، قال : ونحوه من
المعطوف على التعليل المحذوف في القرآن كثير ، ومنه قوله : ولنجعله آية للناس [مريم
: ٢١] (كَبائِرَ الْإِثْمِ) ذكرنا الكبائر في [النساء : ٣١] وقيل : كبائر الإثم : هو
الشرك ، والفواحش : هي الزنا واللفظ أعم من ذلك.
(وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) قيل : يعني الأنصار ، لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الإسلام ، ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر
الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، لأنه بدأ أولا بصفات أبي بكر الصديق ، ثم صفات
عمر بن الخطاب ، ثم صفات عثمان بن عفان ، ثم صفات علي بن أبي طالب ، فكونه جمع هذه
الصفات ، ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك ، فأما صفات
أبي بكر فقوله : الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن
كان جميعهم متصفا بها ، لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره فقد روي : لو
وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجحهم وورد : أنا مدينة الإيمان وأبو بكر بابها وقال أبو بكر : لو كشف الغطاء لما ازددت إلا يقينا ،
والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان. أما صفات عمر فقوله : والذين يجتنبون كبائر الإثم
والفواحش لأن ذلك هو التقوى ، وقوله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، وقوله : قل للذين
آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله نزلت في عمر ، وأما صفات عثمان فقوله : والذين
استجابوا لربهم لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الإيمان تبعه ، وبادر إلى
__________________
الإسلام وقوله ،
وأقاموا الصلاة ، لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت أمّن هو قانت آناء
الليل ساجدا وقائما الآية : وروي أنه كان يحيي الليل بركعة يقرأ فيها القرآن كله ،
وقوله : وأمرهم شورى بينهم لأن عثمان ولي الخلافة بالشورى ، وقوله : ومما رزقناهم
ينفقون ، لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله ، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة ،
وأما صفة عليّ فقوله : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ، لأنه لما قاتلته
الفئة الباغية قاتلها انتصارا للحق ، وانظر كيف سمّى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المقاتلين لعلي الفئة الباغية حسبما ورد في الحديث الصحيح
أنه قال لعمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية فذلك هو البغي الذي أصابه وقوله : «فمن
عفا وأصلح فأجره على الله» إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ حين بايع معاوية ، وأسقط
حق نفسه ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم في الحسن : إن ابني هذا سيّد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من
المسلمين وقوله : ولمن انتصر بعد ظلمه ، فأولئك ما عليهم من سبيل
إشارة إلى انتصار قيام الحسين بعد موت الحسن ، وطلبه للخلافة وقوله : «إنما السبيل
على الذين يظلمون الناس» إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس كما جاء
في الحديث عنهم : أنهم جعلوا عباد الله خولا ومال الله دولا ، ويكفيك من ظلمهم
أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب على منابرهم ، وقوله : «ولمن صبر وغفر» الآية إشارة إلى صبر أهل بيت
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدّة بني أمية (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سمى العقوبة باسم الذنب ، وجعلها مثلها تحرزا من الزيادة
عليها (فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) هذا يدل على أن العفو عن الظلمة أفضل من الانتصار ، لأنه
ضمن الأجر في العفو ، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله : «ولمن انتصر بعد ظلمه
فأولئك ما عليهم من سبيل» وقيل : إن الانتصار أفضل ، والأول أصح فإن قيل : كيف ذكر
الانتصار في صفات المدح في قوله «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» والمباح لا
مدح فيه ولا ذم ، فالجواب : من ثلاثة أوجه أحدها أن المباح قد يمدح لأنه قيام بحق
لا بباطل ، والثاني أن مدح الانتصار لكونه كان بعد الظلم ، تحرزا ممن بدأ بالظلم
فكأن المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم ، والثالث إن كانت الإشارة بذلك إلى علي
بن أبي طالب حسبما ذكرنا فانتصاره محمود ، لأن قتال أهل البغي واجب لقوله تعالى «فقاتلوا
التي
__________________
تبغي» (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار (خاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِ) عبارة عن الذل والكآبة ، ومن الذل يتعلق بخاشعين (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) فيه قولان : أحدهما أنه عبارة عن الذل ، لأن نظر الذليل
بمهابة واستكانة ، والآخر أنهم يحشرون عميا فلا ينظرون بأبصارهم ، وإنما ينظرون
بقلوبهم واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري : والظرف يحتمل أن يريد به العين أو يكون
مصدرا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يتعلق بقال أو بخسروا (أَلا إِنَّ
الظَّالِمِينَ) يحتمل أن يكون من كلام الذين آمنوا أو مستأنفا من كلام
الله تعالى (لا مَرَدَّ لَهُ) ذكر في غافر [١١]
(مِنْ نَكِيرٍ) أي إنكار يعني لا تنكرون أعمالكم (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) قدم الإناث اعتناء بهنّ وتأنيسا لمن وهبهن له. قال واثلة
بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بأنثى قبل الذكر ، لأن الله بدأ بالإناث وقال
بعضهم : نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهمالسلام فشعيب ولوط كان لهما إناث دون ذكور ، وإبراهيم كان له ذكور
دون إناث ، ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم جمع الإناث والذكور ، ويحيى كان عقيما ، والظاهر أنها على
العموم في جميع الناس ، إذ كل واحد منهم لا يخلو عن قسم من هذه الأقسام الأربعة
التي ذكر ، وفي الآية من أدوات البيان التقسيم.
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) الآية : بين الله تعالى فيها كلامه لعباده ، وجعله على
ثلاثة أوجه أحدها الوحي المذكور أولا وهو الذي يكون بإلهام أو منام والآخر أن
يسمعه كلامه من وراء حجاب الثالث الوحي بواسطة الملك وهو قوله : أو يرسل رسولا
يعني ملكا ، فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي ، وهذا خاص بالأنبياء والثاني خاص
بموسى وبمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ إذ كلمه الله ليلة الإسراء ، وأما الأول فيكون للأنبياء
والأولياء كثيرا ، وقد يكون لسائر الخلق ومنه ، وأوحى ربك إلى النحل ومنه ؛ منامات
الناس (أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً) قرأ نافع يرسل ويوحي بالرفع ، على تقدير أو هو يرسل
والباقون
بالنصب عطفا على
وحيا لأن تقديره : أن يوحي عطف على أن المقدرة (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الروح هنا القرآن ، والمعنى مثل هذا الوحي ، وهو بإرسال
ملك أوحينا إليك القرآن ، والأمر هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور ، أو يكون من
الأمر بالشيء (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) المقصد بهذا شيئان : أحدهما تعداد النعمة عليه صلىاللهعليهوسلم ؛ بأن علمه الله ما لم يكن يعلم. والآخر احتجاج على نبوته
لكونه أتى بما لم يكن يعلمه ولا تعلمه من أحد ، فإن قيل : أما كونه لم يكن يدري
الكتاب فلا إشكال فيه ، وأما الإيمان ففيه إشكال لأن الأنبياء مؤمنون بالله قبل
مبعثهم؟ فالجواب أن الإيمان يحتوي على معارف كثيرة ، وإنما كمل له معرفتها بعد
بعثه ، وقد كان مؤمنا بالله قبل ذلك ، فالإيمان هنا يعني به كمال المعرفة وهي التي
حصلت له بالنبوة (وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً) الضمير للقرآن.
سورة الزخرف
مكية
إلا آية ٥٤ فمدنية وآياتها ٨٩ نزلت بعد الشورى
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
(سورة الزخرف) (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) يعني القرآن ، والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البيّن ، أو
المبيّن لغيره (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أم الكتاب ، اللوح المحفوظ ، والمعنى : أن القرآن وصف في
اللوح بأنه عليّ حكيم ، وقيل : المعنى أن القرآن نسخ بجملته في اللوح المحفوظ ،
ومنه كان جبريل ينقله ، فوصفه الله بأنه علي حكيم ؛ لكونه مكتوب في اللوح المحفوظ.
والأول أظهر وأشهر (أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) الهمزة للإنكار والمعنى : أنمسك عنكم الذكر ، ونضرب من قولك
: أضربت عن كذا : إذا تركته ، والذكر يراد به : القرآن ، أو التذكير ، والوعظ.
وصفحا فيه وجهان : أحدهما أنه بمعنى الإعراض ، تقول : صفحت عنه إذا أعرضت عنه ؛
فكأنه قال : أنترك تذكيركم إعراضا عنكم؟ وإعراب صفحا على هذا مصدر من المعنى ، أو
مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال ، والآخر أن يكون بمعنى العفو والغفران ،
فكأنه يقول : أنمسك عنكم الذكر عفوا عنكم وغفرانا لذنوبكم؟ وإعراب صفحا على هذا
مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال (أَنْ كُنْتُمْ
قَوْماً مُسْرِفِينَ) قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الشرط ، والجواب
في الكلام الذي قبله ، وقرأ الباقون بالفتح على أنه مفعول من أجله (أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) الضمير لقريش وهم المخاطبون بقوله : (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) ، فإن قيل : كيف قال : إن كنتم على الشرط بحرف إن التي
معناها الشك ، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟ فالجواب أن في ذلك إشارة إلى توبيخهم على
الإسراف ، وتجهيلهم في ارتكابه ، فكأنه شيء لا يقع من عاقل ، فلذلك وضع حرف التوقع
في موضع الواقع (وَمَضى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ) أي تقدّم في القرآن ذكر حال الأولين وكيفية إهلاكهم لما
كفروا.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية احتجاج على قريش ؛ لأنهم كانوا يعترفون أن الله هو
الذي خلق السموات والأرض ؛ وكانوا مع اعترافهم بذلك يعبدون غيره ، ومقتضى جوابهم
أن يقولوا : خلقهن الله ، فلما ذكر هذا المعنى جاءت العبارة عن الله بالعزيز
العليم ؛ لأن اعترافهم بأنه خلق السموات والأرض يقتضي أن يعترفوا بأنه عزيز عليم ،
وأما قوله : الذي جعل لكم فهو من كلام الله لا من كلامهم (مِهاداً) أي فراشا على وجه التشبيه (سُبُلاً) أي طرقا تمشون فيها (ماءً بِقَدَرٍ) أي بمقدار ووزن معلوم وقيل : معناه بقضاء (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) تمثيل للخروج من القبور ؛ بخروج النبات من الأرض (الْأَزْواجَ كُلَّها) يعني أصناف الحيوان والنبات وغير ذلك (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) الضمير يعود على ما تركبون (ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) يحتمل أن يكون هذا الذكر بالقلب أو باللسان ، ويحتمل أن
يريد النعمة في تسخير هذا المركوب أو النعمة على الإطلاق ، وكان بعض السلف إذا ركب
دابة يقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، ثم يقول : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين وغالبين (وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) اعتراف بالحشر فإن قيل : ما مناسبة هذا للركوب؟ فالجواب :
أن راكب السفينة أو الدابة متعرض للهلاك بما يخاف من غرق السفينة ، أو سقوطه عن
الدابة ، فأمر بذكر الحشر ليكون مستعدا للموت الذي قد يعرض له ، وقيل يذكر عند
الركوب ركوب الجنازة ، (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً) الضمير في جعلوا لكفار العرب ، وفي له لله تعالى ، وهذا
الكلام متصل بقوله : ولئن سألتهم الآية والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات الله ،
فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا دون سائر عباده. وقال الزمخشري : معناه
أنهم جعلوا الملائكة جزءا منه وقال بعض اللغويين : الجزء في اللغة الإناث واستشهد
على ذلك ببيت شعر قال الزمخشري وذلك كذب على اللغة والبيت موضوع.
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ) أم للإنكار والرد على الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله
ومعنى أصفاكم : خصكم. أي كيف يتخذ لنفسه البنات وهن أدنى ، وأصفاكم بالبنين وهم
أعلى (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي إذا بشر بالأنثى ، وقد ذكر هذا
__________________
المعنى في النحل
والمراد أنهم يكرهون البنات فكيف ينسبونها إلى الله؟ تعالى الله عن قولهم.
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ) المراد بمن ينشأ في الحلية النساء ، والحلية هي الحلي من
الذهب والفضة ، وشبه ذلك. ومعنى ينشأ فيها يكبر وينبت في استعمالها. وقرئ ينشأ بضم الياء وتشديد الشين بمعنى يربّى فيها ، والمقصد
الرد على الذين قالوا : الملائكة بنات الله. كأنه قال : أجعلتم لله من ينشأ في
الحلية وذلك صفة النقص ، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي قوله : وهو في الخصام غير
مبين ، يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبين حجّتها لنقص عقلها ،
وقلّ ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني ، فكيف ينسب لله من يتصف بهذه
النقائص؟ وإعراب ينشأ مفعول بفعل مضمر تقديره : أجعلتم لله من ينشأ أو مبتدأ وخبره
محذوف تقديره أو من ينشأ في الحلية خصصتم به الله (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الضمير في جعلوا لكفار العرب ، فحكى عنهم ثلاثة أقوال
شنيعة أحدها أنهم نسبوا إلى الله الولد ، والآخر أنهم نسبوا إليه البنات دون
البنين ، والثالث أنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا ، وقرئ عند الرحمن بالنون ، والمراد به قرب الملائكة وتشريفهم
كقوله والذين عند ربك ، وقرئ عباد بالباء جمع عبد والمراد به أيضا الاختصاص
والتشريف (أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ) هذا ردّ على العرب في قولهم : إن الملائكة إناث ، والمعنى
لم يشهدوا خلق الملائكة ، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم؟ (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي تكتب شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة ، ويسألون
عنها يوم القيامة (وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) الضمير في قالوا للكفار ، وفي عبدناهم للملائكة ، وقال ابن
عطية للأصنام : والأول أظهر وأشهر ، والمعنى : احتجاج احتجّ به الذين عبدوا
الملائكة ، وذلك أنهم قالوا : لو أراد الله أن لا نعبدهم ما عبدناهم ، فكونه
يمهلنا وينعم علينا : دليل على أنه يرضى عبادتنا لهم ، ثم رد الله عليهم بقوله (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعني أن قولهم بلا دليل وحجة ، وإنا هو تخرّص منهم (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن ، وهذا أيضا رد عليهم ؛ لكونهم ليس لهم
كتاب يحتجون به (بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على دين وطريقة ، والمعنى أنهم ليس لهم حجة ، وإنما هم
مقلدو آبائهم (وَكَذلِكَ ما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية المعنى كما اتبع
__________________
هؤلاء الكفار
آباءهم بغير حجة اتبع كل من كان قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة ، بل بطريق
التقليد المذموم قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم هذا رد على الذين
اتبعوا آباءهم ، والمعنى قل لهم أتتبعونهم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي
وجدتم عليه آباءكم ، وقرئ قال أو لو جئتكم ، والفاعل ضمير يعود على النذير المتقدم ،
وأما قراءة قل بالأمر فهو خطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، أمره الله أن يقول ذلك لقريش وقيل : هو للنذير المتقدم ،
أمره الله أن يقول ذلك لقومه ، والأول أظهر ، وعلى هذا تكون هذه الجملة اعتراضا
بين قصة المتقدمين ، فإن قوله قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون : حكاية عن الكفار
المتقدمين ، وكذلك قوله : فانتقمنا منهم : يعني من المتقدمين.
(إِنَّنِي بَراءٌ) أي بريء وبراء في الأصل مصدر ثم استعمل صفة ، ولذلك استوى
فيها الواحد والجماعة كعدل وشبهه (إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي) يحتمل أن يكون استثناء منقطعا ، وذلك إن كانوا لا يعبدون
الله ، أو يكون متصلا إن كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره ، وإعرابه على هذا
بدل مما تعبدون فهو في موضع خفض ، أو منصوب على الاستثناء فهو في موضع نصب (سَيَهْدِينِ) قال هنا : سيهدين ، وقال مرة أخرى : فهو يهدين ، ليدل على
أن الهداية في الحال والاستقبال [من الله] (وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) ضمير الفاعل في جعلها يعود على إبراهيم عليهالسلام ، وقيل على الله تعالى ، والأول أظهر ، والضمير يعود على
الكلمة التي قالها وهي : إنني براء مما تعبدون ، ومعناه : التوحيد ، ولذلك قيل :
يعود على الإسلام لقوله : هو سماكم المسلمين من قبل ، وقيل : يعود على لا إله إلا
الله ، والمعنى متقارب : أي جعل إبراهيم تلك الكلمة ثابتة في ذريته ؛ لعل من أشرك
منهم يرجع إلى التوحيد ، والعقب هو الولد وولد الولد ما تناسلا أبدا (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) الإشارة بهؤلاء إلى قريش ، وهذا الكلام متصل بما قبله ،
لأن قريشا من عقب إبراهيم عليهالسلام ، فالمعنى لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم ، بل
متعتهم بالنعم والعافية ، فلم يشكروا عليها واشتغلوا بها عن عبادة الله (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) وهو محمد صلىاللهعليهوسلم.
(وَقالُوا لَوْ لا
نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الضمير في قالوا لقريش ، والقريتان مكة والطائف ، ومن
القريتين : معناها من إحدى القريتين ، كقولك : يخرج منهما
__________________
اللؤلؤ والمرجان :
أي من أحدهما ، وقيل : معناه على رجل من رجلين من القريتين ، فالرجل الذي من مكة
الوليد بن المغيرة ، وقيل : عتبة بن ربيعة ، والرجل الذي من الطائف عروة بن مسعود
، وقيل حبيب بن عمير ، ومعنى الآية أن قريشا استبعدوا نزول القرآن على محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واقترحوا أن ينزل على أحد هؤلاء ، وصفوه بالعظمة يريدون
الرئاسة في قومه وكثرة ماله ، فردّ الله عليهم بقوله (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني أن الله يخص بالنبوّة من يشاء من عباده ؛ على ما تقتضيه
حكمته وإرادته ، وليس ذلك بتدبير المخلوقين ، ولا بإرادتهم ، ثم أوضح ذلك بقوله (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب
الدينية ، وإذا كنا لم نهمل الحظوظ الفانية الحقيرة ، فأولى وأحرى أن لا نهمل
الحظوظ الشريفة الباقية (لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) وهو من التسخير في الخدمة : أي رفعنا بعضهم فوق بعض ليخدم
بعضهم بعضا (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) هذا تحقير للدنيا ، والمراد برحمة ربك هنا النبوة وقيل :
الجنة.
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الآية : تحقير أيضا للدنيا ، ومعناها لو لا أن يكفر الناس
كلهم ، لجعلنا للكفار سقفا من فضة ، وذلك لهوان الدنيا على الله ، كما قال رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما
سقى كافرا منها جرعة ماء (وَمَعارِجَ عَلَيْها
يَظْهَرُونَ) المعارج : الأدراج والسلالم ، ومعنى يظهرون يرتفعون ، ومنه
«فما استطاعوا أن يظهروه» والسرر جمع سرير ، والزخرف الذهب ، وقيل أثاث البيت من الستور والنمارق ، وشبه ذلك وقيل :
هو التزويق والنقش وشبه ذلك من التزيين ؛ كقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [يونس : ٢٤] (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) يعش من قولك : عشي الرجل إذا أظلم بصره ، والمراد به هنا
ظلمة القلب والبصيرة ، وقال الزمخشري : يعشى بفتح الشين إذا حصلت الآفة في عينيه ،
ويعشو بضم الشين إذا نظر نظرة الأعشى ، وليس به آفة ، فالفرق بينهما كالفرق بين
__________________
قولك : عمي وتعامى
، فمعنى القراءة بالضم : يتجاهل ويجحد معرفته بالحق ، والظاهر أن ذلك عبارة عن
الغفلة وإهمال النظر ، وذكر الرحمن ، وقال الزمخشري يريد به القرآن ، وقال ابن عطية
: يريد به ما ذكر الله به عباده من المواعظ ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، ويحتمل
عندي أن يريد ذكر العبد لله ، ومعنى الآية : أن من غفل عن ذكر الله يسّر الله له
شيطانا يكون له قرينا ، فتلك عقوبة على الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان ، كما أن
من داوم على الذكر تباعد عنه الشيطان.
(وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الضمير في إنهم للشياطين ، وضمير المفعول في يصدونهم لمن
يعش عن ذكر الرحمن ، وجمع الضميرين لأن المراد به جمع (حَتَّى إِذا جاءَنا) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر جاءانا بضمير
الاثنين وهما من يعش وشيطانه ، وقرأ الباقون بغير ألف على أنه ضمير واحد وهو من
يعش ، والضمير في قال : لمن يعش ، وقيل : للشيطان (بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ) فيه قولان. أحدهما أنه يعني المشرق والمغرب ، وغلّب أحدهما
في التشبيه ، كما قيل : القمران ، والآخر : أنه يعني المشرقين والمغربين ، وحذف
المغربين لدلالة المشرقين عليه (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) هذا كلام يقال للكفار في الآخرة ، ومعناه أنهم لا ينفعهم
اشتراكهم في العذاب ، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا ، إذا
رأى غيره قد أصابه مثل الذي أصابه ، والفاعل في ينفعكم قوله : «إنكم في العذاب
مشتركون» ، وإذ ظلمتم : تعليل معناه : بسبب ظلمكم ، وقيل : الفاعل مضمر ، وهو
التبري الذي يقتضيه قوله : «يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين» وأنكم على هذا تعليل
، والأول أرجح (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَ) الآية : خطاب للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمراد بالصم والعمي الكفار ؛ إذ كانوا لا يعقلون
براهين الإسلام (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة ، ومقصد الآية وعيد
للكفار ، والمعنى إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم فإنا سننتقم منهم بعد وفاتك ،
وإن أخرنا وفاتك إلى حين الانتقام منهم فإنا عليهم مقتدرون ، وهذا الانتقام يحتمل
أن يريد به قتلهم يوم بدر ، وفتح مكة وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا ، أو يريد به
عذاب الآخرة ، وقيل : إن الضمير في منهم منتقمون للمسلمين ، وأن معنى ذلك أن الله
قضى أن ينتقم منهم بالفتن والشدائد ، وإنه أكرم نبيه عليهالسلام بأن توفاه قبل أن يرى الانتقام من أمته ، والأول أشهر
وأظهر.
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) الضمير في إنه للقرآن أو للإسلام ، والذكر هنا بمعنى
الشرف ، وقوم
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هم قريش وسائر العرب ، فإنهم نالوا بالإسلام شرف الدنيا
والآخرة ، ويكفيك أن فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، وصارت فيهم الخلافة والملك ،
وورد عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية علم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن الأمر بعده لقريش ، ويحتمل أن يريد بالذكر التذكير
والموعظة ، فقومه على هذا أمته كلهم وكل من بعث إليهم (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) أي تسألون عن العمل بالقرآن وعن شكر الله عليه (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنا) إن قيل : كيف أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يسأل الرسل المتقدّمين وهو لم يدركهم؟ فالجواب من ثلاثة
أوجه : الأول أنه رآهم ليلة الإسراء. الثاني أن المعنى اسأل أمة من أرسلنا قبلك.
الثالث أنه لم يرد سؤالهم حقيقة ، وإنما المعنى أن شرائعهم متفقة على توحيد الله ،
بحيث لو سألوا : هل مع الله آلهة يعبدون ؛ لأنكروا ذلك ودانوا بالتوحيد (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) الآيات هنا المعجزات ؛ كقلب العصا حية ، وإخراج اليد بيضاء
وقيل : البراهين والحجج العقلية ، والأول أظهر ومعنى أكبر من أختها أنها في غاية
الكبر والظهور ، ولم يرد تفضيلها على غيرها من الآيات ، إنما المعنى أنها إذا نظرت
وجدت كبيرة ، وإذا نظرت غيرها وجدت كبيرة فهو كقول الشاعر [وهو عبيد بن الأبرص أو
غيره] :
من تلق منهم تقل
لاقيت سيّدهم
|
|
مثل النجوم التي
يسري بها الساري
|
هكذا قال الزمخشري
، ويحتمل عندي أن يريد ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما تقدمها ، فالمراد أكثر من
أختها المتقدّمة عليها.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا
السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ظاهر كلامهم هذا التناقض ، فإن قولهم : يا أيها الساحر
يقتضي تكذيبهم له ، وقولهم : ادع لنا ربك يقتضي تصديقه ، والجواب من وجهين : أحدهما
أن القائلين لذلك كانوا مكذبين ، وقولهم (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) يريدون على قولك وزعمك ، وقولهم : إننا لمهتدون وعد نووا
خلافه ، والآخر : أنهم كانوا مصدّقين ، وقولهم : يا أيها الساحر ؛ إما أن يكون
عندهم غير مذموم ، لأن السحر كان علم أهل زمانهم ، وكأنهم قالوا : يا أيها العالم
، وإما أن يكون ذلك اسما قد ألفوا تسمية موسى به من أول ما جاءهم ، فنطقوا به بعد
ذلك من غير اعتقاد معناه (وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ) يحتمل أنه ناداهم بنفسه أو أمر مناديا ينادي فيهم (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ) قصد بذلك الافتخار على
موسى ، ومصر هي
البلد المعروف وما يرجع إليه ، ومنتهى ذلك من نهر إسكندرية إلى أسوان بطول النيل (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي) يعني : الخلجان الكبار الخارجة من النيل كانت تجرى تحت
قصره ، وأعظمها أربعة أنهار : نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ، ونهر طولون (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) مذهب سيبويه أن أم هنا متصلة معادلة ، والمعنى أفلا تبصرون
أم تبصرون ، ثم وضع قوله : أنا خير موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فإنهم
عنده بصراء ، وهذا من وضع السبب موضع المسبب ، وكان الأصل أن يقول : فلا تبصرون أم
تبصرون ، ثم اقتصر على أم وحذف الفعل الذي بعدها واستأنف قوله : أنا خير على وجه
الإخبار. ويوقف على هذا القول على أم وهذا ضعيف وقيل أم بمعنى بل فهي منقطعة (مَهِينٌ) أي ضعيف (وَلا يَكادُ يُبِينُ) إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة ، وذلك أنها
كانت قد أحدثت في لسانه عقدة ، فلما دعا أن تحل أجيبت دعوته وبقي منها أثر كان معه
لكنة ، وقيل : يعني العيّ في الكلام ، وقوله : ولا يكاد يبين : يقتضي أنه كان يبين
، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإثبات (فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) يريد لو لا ألقاها الله إليه كرامة له ودلالة على نبوّته ،
والأسورة جمع سوار وأسوار ، وهو ما يجعل في الذراع من الحلي ، وكان الرجال حينئذ
يجعلونه (مُقْتَرِنِينَ) أي مقترنين به لا يفارقونه ، أو متقارنين بعضهم مع بعض
ليشهدوا له ويقيموا الحجة (فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ) أي طلب خفتهم بهذه المقالة واستهوى عقولهم (آسَفُونا) أي أغضبونا (فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) السلف بفتح السين واللام جمع سالف ، وقرأ حمزة والكسائي :
سلفا بضمها جمع سليف ومعناه متقدم : أي تقدم قبل الكفار ليكون موعظة لهم ، ومثلا
يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك.
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) روي عن ابن عباس وغيره في تفسيره هذه الآية : أنه لما نزل
في القرآن ذكر عيسى ابن مريم والثناء عليه ، قالت قريش : ما يريد محمد إلا أن
نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى ؛ فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا ، حكى ذلك ابن
عطية والذي ضرب المثل على هذا هو الله في القرآن ، ويصدون بمعنى يعرضون ، وقال
الزمخشري : لما قرأ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على
__________________
قريش : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨]
امتعضوا من ذلك ، وقال عبد الله بن الزبعرى : أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟
فقال صلىاللهعليهوسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ، فقال : خصمتك ورب الكعبة ؛
ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرا ، وقد علمت أن النصارى عبدوه ،
فإن كان عيسى في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ، ففرحت قريش بذلك ،
وضحكوا وسكت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١]
، ونزلت هذه الآية ، فالمعنى على هذا : لما ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا وجادل رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعبادة النصارى
إياه ، إذا قريش من هذا المثل يصدون : أي يضحكون ويصيحون من الفرح ، وهذا المعنى
إنما يجري على قراءة يصدون بكسر الصاد بمعنى الضجيج والصياح.
(وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعنون بهو عيسى ، والمعنى أنهم قالوا آلهتنا خير أم عيسى ،
فإن كان عيسى يدخل النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ، لأنه خير من آلهتنا
، وهذا الكلام من تمام ما قبله على ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية التي قبله ،
وأما على ما ذكر ابن عطية فهذا ابتداء معنى آخر ، وحكى الزمخشري في معنى هذه الآية
قولا آخر : وهو أنهم لما سمعوا ذكر عيسى قالوا : نحن أهدى من النصارى ، لأنهم
عبدوا آدميا ونحن عبدنا الملائكة ، وقالوا آلهتنا وهم الملائكة خير أم عيسى ؛
فمقصدهم تفضيل آلهتهم على عيسى. وقيل : إن قولهم أم هو : يعنون به محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمد أن نعبده كما عبدت
النصارى عيسى. قالوا : أآلهتنا خير أم هو يريدون تفضيل آلهتهم على محمد والأظهر أن
المراد بهو عيسى وهو قول الجمهور ، ويدل على ذلك تقدم ذكره (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل ، وهو أن
يقصد الإنسان أن يغلب من يناظره سواء غلبه بحق أو بباطل ، فإن ابن الزبعرى وأمثاله
ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى : حصب جهنم ، ولكنهم أرادوا
المغالطة ، فوصفهم الله بأنهم قوم خصمون (إِنْ هُوَ إِلَّا
عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) يعني عيسى والإنعام عليه بالنبوة والمعجزات ، وغير ذلك (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) في معناها قولان : أحدهما لو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة
يسكنون الأرض ويخلفون فيها بني آدم ، فقوله منكم يتعلق ببدل المحذوف أو بيخلفون ،
والآخر لو نشاء لجعلنا منكم ، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة يخلفونكم في الأرض كما
يخلفكم أولادكم ، فإنا قادرون على أن نخلق من أولاد الناس ملائكة فلا تنكروا أن
خلقنا عيسى من غير والد ، حكى ذلك الزمخشري.
__________________
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ) الضمير لعيسى وقيل لمحمد صلىاللهعليهوسلم وقيل للقرآن ، فأما على القول بأنه لعيسى أو لمحمد فالمعنى
أنه شرط من أشراط الساعة ، يوجب العلم بها فسمى الشرط علما لحصول العلم به ، ولذلك
قرأ ابن عباس لعلم بفتح العين واللام : أي علامة وأما على القول بأنه للقرآن :
فالمعنى أنه يعلمكم بالساعة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) إنما بيّن البعض دون الكل ، لأن الأنبياء إنما يبينون أمور
الدين لا الدنيا ، وقيل : بعض بمعنى كل وهذا ضعيف (فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ) ذكر في مريم (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ) أي ينتظرون ، والضمير لقريش أو للأحزاب (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء : جمع خليل وهو الصديق ، وإنما يعادي الخليل خليله
يوم القيامة ، لأن الضرر دخل عليه من صحبته ، ولذلك استثنى المتقين ، لأن النفع
دخل على بعضهم من بعض (يا عِبادِ) الآية. تقديره : يقول الله يوم القيامة للمتقين يا عبادي ،
لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (تُحْبَرُونَ) أي تنعمون وتسرون (وَهُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ) أي يائسون من الخير (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) المعنى أنهم طلبوا الموت ليستريحوا من العذاب ، وروي أن
مالكا يبقى بعد ذلك ألف سنة ، وحينئذ يقول لهم : إنكم ماكثون أي دائمون في النار (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) الآية من كلام الله تعالى لأهل النار ، أو من كلام الله
لقريش في الدنيا (أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) الضمير لكفار قريش ، والمعنى أنهم إن أحكموا كيد النبي صلىاللهعليهوسلم فإنا محكمون نصره وحمايته (أَمْ يَحْسَبُونَ) الآية : روي أنها نزلت في
__________________
الأخنس بن شريق
والأسود بن عبد يغوث اجتمعا وقال الأخنس : أترى الله يسمع سرنا ، فقال الآخر :
يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) السرّ ما يحدث الإنسان به نفسه أو غيره في خفية ، والنجوى
: ما تكلموا به فيما بينهم (بَلى) أي نسمع ورسلنا مع ذلك تكتب ما يقولون ، والرسل هنا
الملائكة الحافظون للأعمال.
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) في تأويل الآية أربعة أقوال : الأول أنها احتجاج وردّ على
الكفار ، على تقدير قولهم ، ومعناها لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنت أنا
أول من يعبد ذلك الولد ؛ كما يعظم خدم الملك ولد الملك لتعظيم والده ، ولكن ليس
للرحمن ولد ، فلست بعابد إلا الله وحده ، وهذا نوع من الأدلة يسمى دليل التلازم ؛
لأنه علق عبادة الولد بوجوده ، ووجوده محال فعبادته محال ، القول الثاني إن كان
للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله وحده ، وكذبكم في قولكم أن له ولدا ، والعابدين
على هذين القولين بمعنى العبادة ، القول الثالث أن العابدين بمعنى المنكرين : يقال
عبد الرجل إذا أنف وتكبر وأنكر الشيء ، والمعنى : إن زعمتم أن للرحمن ولدا فأنا
أول المنكرين لذلك ، وإن على هذه الأقوال الثلاثة شرطية ، القول الرابع قال قتادة
وابن زيد : إن هنا نافية بمعنى ما كان للرحمن ولد وتم الكلام ، ثم ابتدأ قوله فأنا
أول العابدين ، والأول هو الصحيح لأنه طريقة معروفة في البراهين والأدلة ، وهو
الذي عوّل عليه الزمخشري ، وقال الطبري : هو ملاطفة الخطاب ونحوه قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً
أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ :
٢٤] وقال ابن عطية
منه قوله تعالى في مخاطبة الكفار (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧] يعني
شركائي على قولكم (فَذَرْهُمْ) الآية موادعة منسوخة بالسيف.
(وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي هو الإله لأهل الأرض وأهل السماء ، والمجرور يتعلق بإله
، لأن فيه معنى الوصفية (وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ) أي علم زمان وقوعها (وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) أي لا يملك كل من عبد من دون الله أن يشفع عند الله ، لأن
الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فهو المالك للشفاعة وحده (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه ، فإن
أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع ، والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة ؛ لكن من
شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه ، ويحتمل على هذا أن يكون من شهد مفعولا
بالشفاعة على إسقاط حرف الجر تقديره : الشفاعة فيمن شهد بالحق ، وإن أراد بمن شهد
بالحق الشافع
فيحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا وأن يكون متصلا إلا فيمن عبد عيسى والملائكة ،
والمعنى على هذا لا يملك المعبودون شفاعة إلا من شهد بالحق (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) القيل مصدر كالقول ، والضمير يعود على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقرئ قيله بالنصب والخفض وقرئ في غير السبع بالرفع ، فأما النصب فقيل هو معطوف على
سرهم ونجواهم ، وقيل : هو معطوف على موضع الساعة ؛ لأنها مفعول أضيف إلى المصدر
وقيل : معطوف على مفعول محذوف تقديره : يكتبون أقوالهم وقيله ، وأما الخفض فقيل : إنه
معطوف على لفظ الساعة ، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله بالحق ، وأما على الرفع
فقيل : إنه مبتدأ وخبره ما بعده ، وضعّف الزمخشري ذلك كله وقال : إنه من باب القسم
فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم كقولك : الله لأضربنّ زيدا والرفع كقولهم : أيمن
الله ولعمرك ، وجواب القسم قوله : إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قال : أقسم بقيله
أن هؤلاء قوم لا يؤمنون (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) منسوخ بالسيف (وَقُلْ سَلامٌ) تقديره أمري سلام : أي مسالمة ، وقيل سلام عليكم على جهة
الموادعة وهو منسوخ على الوجهين (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تهديد.
__________________
سورة الدخان
مكية
وآياتها ٥٩ نزلت بعد الزخرف
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الدخان) (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ذكر في الزخرف وهو قسم جوابه إنا أنزلناه ، وقيل إنا كنا
منذرين وهو بعيد (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) يعني ليلة القدر من رمضان ، وكيفية إنزاله فيها أنه أنزل
إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل به جبريل على النبي صلىاللهعليهوسلم شيئا بعد شيء ، وقيل : معناه أنه ابتدأ إنزاله في ليلة
القدر ، وقيل : يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان وذلك باطل ، لقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ) مع قوله (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) معنى يفرق يفصل ويخلص ، والأمر الحكيم أرزاق العباد
وآجالهم ، وجميع أمورهم في ذلك العام نسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر ، ليتمثل
الملائكة ذلك بطول السنة القابلة ، وقيل : إن هذا يكون ليلة النصف من شعبان وهذا
باطل لما قدمنا (أَمْراً مِنْ
عِنْدِنا) مفعول بفعل مضمر على الاختصاص قاله الزمخشري ، وقال ابن
عطية نصب على المصدر ، وقيل : على الحال (مُرْسِلِينَ) إرسال الرسل عليهمالسلام ، وقيل من إرسال الرحمة والأول أظهر .
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) في هذا قولان أحدهما قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن
الدخان يكون قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين
والمنافقين وهو من أشراط الساعة ، وروى حذيفة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : إن أول أشراط الساعة الدخان ، والثاني : قول ابن
مسعود ؛ إن الدخان عبارة عما أصاب قريشا حين دعا عليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالجدب ، فكان الرجل يرى دخانا بينه وبين السماء من
__________________
شدّة الجوع. قال
ابن مسعود : خمس قد مضين ؛ الدخان واللزام والبطشة والقمر والردم (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، أو من قول الناس لما
أصابهم الدخان ، وهذا أظهر لأن ما بعده من كلامهم باتفاق فيكون الكلام متناسقا (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) هذا من كلام الله تعالى ، ومعناه استبعاد تذكير الكفار مع
تكذيبهم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والواو في قوله : وقد جاءهم واو الحال (رَسُولٌ مُبِينٌ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم (وَقالُوا مُعَلَّمٌ) أي يعلمه بشر (الْبَطْشَةَ
الْكُبْرى) قال ابن عباس : هي يوم القيامة ، وقال ابن مسعود : هي يوم
بدر.
(رَسُولٌ كَرِيمٌ) يعني موسى عليهالسلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ
عِبادَ اللهِ) أن هنا مفسرة نائب مناب القول ، وأدّوا فعل أمر من الأداء
وعباد الله مفعول به وهم بنو إسرائيل ، والمعنى أرسلوا بني إسرائيل كما قال في طه «أرسل
معنا بني إسرائيل» وقيل : عباد الله منادى ، والمعنى أدّوا إليّ الطاعة والإيمان
يا عباد الله ، والأول أظهر (وَأَنْ لا تَعْلُوا) أي لا تتكبروا (بِسُلْطانٍ) أي حجة وبرهان (أَنْ تَرْجُمُونِ) اختلف هل معناه الرجم بالحجارة أو السب والأول أظهر (فَاعْتَزِلُونِ) أي اتركون وخلوا سبيلي (فَأَسْرِ بِعِبادِي) هذا أمر من الله لموسى عليهالسلام ، والعباد هنا بنو إسرائيل أي أخرج بهم بالليل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) إخبار أن فرعون وجنوده يتبعونهم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي ساكنا على هيئته وقيل : يابسا وروي أن موسى لما جاوز
البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق ، فقال الله له : اتركه كما هو
ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه ، وقيل : معنى رهوا سهلا ، وقيل : منفرجا (وَعُيُونٍ) يحتمل أن يريد الخلجان الخارجة من النيل ، وكانت ثم عيون
في ذلك الزمان ، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) فيه قولان المنابر والمساكن الحسان (وَنَعْمَةٍ) من التنعم بالأرزاق وغيرها (فاكِهِينَ) أي متنعمين ، وقيل : فرحين وقيل :
أصحاب فاكهة (كَذلِكَ) في موضع نصب أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم ، أو في موضع رفع
تقديره : الأمر كذلك (وَأَوْرَثْناها
قَوْماً آخَرِينَ) يعني بني إسرائيل حكاه الزمخشري والماوردي ، وضعفه ابن
عطية قال : لأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا
إلى مصر في ذلك
الزمان ، وقد قال الحسن إنهم رجعوا إليها ، ويدل على أن المراد
بنو إسرائيل قوله في الشعراء : (وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ) فيه ثلاثة أقوال : الأول أنه عبارة عن تحقيرهم ، وذلك أنه
إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيمه : بكت عليه السماء والأرض على وجه المجاز
والمبالغة ، فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم أحقر من أن يبالى بهم. الثاني قيل
: إذا مات المؤمن بكى عليه من الأرض موضع عبادته ، ومن السماء موضع صعود عمله ،
فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم كفار ، أو ليس لهم عمل صالح : الثالث أن المعنى
ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض ، والأوّل أفصح وهو منزع معروف في كلام
العرب (وَما كانُوا
مُنْظَرِينَ) أي مؤخرين (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب (عالِياً) أي متكبرا (اخْتَرْناهُمْ عَلى
عِلْمٍ) أي كنا عالمين بأنهم مستحقون لذلك (عَلَى الْعالَمِينَ) أي على أهل زمانهم (بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار.
(إِنَّ هؤُلاءِ) يعني كفار قريش (فَأْتُوا بِآبائِنا) خاطبت قريش بذلك النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه على وجه التعجيز ، روي أنهم طلبوا أن يحيي لهم قصي
بن كلاب يسألوه عن أحوال الآخرة (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ) كان تبع ملك من حمير وكان مؤمنا وقومه كفارا ، فذم قومه
ولم يذمه ، وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبيّ ، ومعنى
الآية : أقريش أشدّ وأقوى أم قوم تبع والذين من قبلهم من الكفار ، وقد أهلكنا قوم
تبع وغيرهم لما كفروا فكذلك نهلك هؤلاء ، فمقصود الكلام تهديد (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على قوم تبع : وقيل هو مبتدأ فيوقف على ما قبله والأول
أصح (لاعِبِينَ) حال منفية ذكرت في الأنبياء (يَوْمَ لا يُغْنِي
مَوْلًى عَنْ مَوْلًى) المولى هنا يعم الولي والقريب وغير ذلك من الموالي (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) استثناء منقطع إن أراد بقوله ولا هم ينصرون الكفار ، ومتصل
إن أراد بذلك جميع الناس (طَعامُ الْأَثِيمِ) أي الفاجر وهو من الإثم ، وقيل : يعني أبا جهل
__________________
فالألف واللام
للعهد ، والأظهر أنها للجنس فتعم أبا جهل وغيره (كَالْمُهْلِ) هو درديّ الزيت ، وقيل ما يذاب من الرصاص وغيره (فَاعْتِلُوهُ) أي سوقوه بتعنيف (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) المصبوب في الحقيقة إنما هو الحميم وهو الماء الحار ، ولكن
جعل المصبوب هنا العذاب المضاف إلى الحميم مجازا لأن ذلك أبلغ وأشد تهويلا ، وقد
جاء الأصل في قوله في الحج [١٩] (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ
الْحَمِيمُ)(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يقال هذا للكافر على وجه التوبيخ والتهكم به ، أي كنت
العزيز الكريم عند نفسك ، وروي أن أبا جهل قال : ما بين جبليها أعز مني ولا أكرم.
فنزلت الآية (تَمْتَرُونَ) تفتعلون من المرية وهو الشك.
(فِي مَقامٍ أَمِينٍ) قرأ نافع وابن عامر بضم الميم أي موضع إقامة ، والباقون
بفتحها أي موضع قيام والمراد به الجنة ، والأمين من الأمن أي مأمون فيه ، وقيل :
من الأمنة وصف به المكان مجازا (مِنْ سُندُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ) السندس الرقيق من الديباج والإستبرق الغليظ منه (كَذلِكَ) في موضع رفع أي الأمر كذلك ، أو في موضع نصب أي مثل ذلك
زوّجناهم (يَدْعُونَ فِيها) أي يدعون خدامهم (إِلَّا الْمَوْتَةَ
الْأُولى) استثناء منقطع ، والمعنى لا يذوقون فيها الموت : قد ذاقوا
الموتة الأولى خاصة قبل ذلك ، ولو لا قوله فيها لكان متصلا لعموم لفظ الموت ، وقيل
: إلا هنا بمعنى بعد وذلك ضعيف (يَسَّرْناهُ) أي سهلناه والضمير للقرآن (بِلِسانِكَ) أي بلغتك وهي لسان العرب (فَارْتَقِبْ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي ارتقب نصرنا لك وإهلاكهم ، فإنهم مرتقبون ضدّ ذلك ،
ففيه وعد له ووعيد لهم.
__________________
سورة الجاثية
مكية
إلا آية ١٤ فمدنية وآياتها ٣٧ نزلت بعد الدخان
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الجاثية) (تَنْزِيلُ) ذكر في الزمر ، وما بعد ذلك تنبيه على الاعتبار بالموجودات
، وقد ذكر معناه في مواضع (وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الأفاك مبالغة من الإفك وهو الكذب ، والأثيم من الإثم ،
وقيل : إنها نزلت في النضر بن الحارث ولفظها على العموم (يُصِرُّ) أي يدوم على حاله من الكفر ، وإنما عطفه بثم لاستعظام
الإصرار على الكفر ، بعد سماعه آيات الله ، واستبعاد ذلك في العقل والطبع (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا) أي إذا بلغه منها شيء ، ولم يرد العلم الحقيقي (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) كقوله (مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ
غَلِيظٌ) ، وقد ذكر في إبراهيم : ١٧ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعني الشمس والقمر والملائكة وبني آدم والحيوانات والنبات
وغير ذلك (جَمِيعاً مِنْهُ) أي كل نعمة فمن الله تعالى ، والمجرور في موضع الحال أو
خبر ابتداء مضمر ، وقرأ ابن عباس : منه (قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أمر الله المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار ، ولا يؤاخذوهم
إذا آذوهم ، وكان ذلك في صدر الإسلام ، قيل : إنها منسوخة بالسيف ،
__________________
وقيل : ليست
بمنسوخة ، لأن احتمال الأذى مندوب إليه على كل حال ، وأما القتال على الإسلام فليس
من ذلك ، وروي : أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل من الكفار فأراد عمر أن
يبطش به ، وأيام الله هي نعمه ، فالرجاء على أصله ، وقيل : أيام الله عبارة عن
عقابه ، فالرجاء بمعنى الخوف ويغفروا مجزوم في جواب شرط مقدر دل عليه قل ، قال
الزمخشري حذف معمول القول ، والمعنى : قل لهم اغفروا يغفروا (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) فاعل يجزي ضمير يعود على الله ، وقرئ بنون المتكلم ، وقال ابن عطية إن الآية وعيد ، فالقوم على
هذا هم الذين لا يرجون أيام الله ويكسبون يعني السيئات ، وقال الزمخشري : القوم هم
الذين آمنوا وجزاؤهم الثواب بما كانوا يكسبون بكظم الغيظ واحتمال المكروه (عَلَى الْعالَمِينَ) ذكر في البقرة : ٤٧ (بَيِّناتٍ مِنَ
الْأَمْرِ) أي معجزات من أمر الدين (جَعَلْناكَ عَلى
شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي ملة ودين.
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا) أم هنا للإنكار ، واجترحوا اكتسبوا ، والمراد بالذين
اجترحوا السيئات الكفار لمقابلته بالذين آمنوا ، ولأن الآية مكية : وقد يتناول
لفظها المذنبين من المؤمنين ، ولذلك يذكر أن الفضيل بن عياض قرأها بالليل فما زال
يردّدها ويبكي طول الليل ، ويقول لنفسه : من أي الفريقين أنت؟ ومعناها : إنكار ما
حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات ، وفي تأويلها مع
ذلك قولان : أحدهما أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار ، لا في المحيا ولا في
الممات ، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة ، والكفار عاشوا على الكفر
والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء ، والقول الآخر أنهم استووا في المحيا في أمور
الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات ، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون ،
فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة ، وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة ،
وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم : ٣٥]
وكقوله : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨] (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) هذه الجملة بدل من الكاف في قوله : (كَالَّذِينَ آمَنُوا) وهي مفسرة للتشبيه ، وهي داخلة فيما أنكره الله مما حسبه
الكفار ، وقيل :
__________________
هي كلام مستأنف ؛
والمعنى على هذا أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وأن محيا الكفار ومماتهم سواء لأن
كل واحد يموت على ما عاش عليه ، وهذا المعنى بعيد ، والصحيح أنها من تمام ما قبلها
على المعنى الذي اخترناه ، وأما إعرابها فمن قرأ سواء بالرفع فهو مبتدأ وخبره
محياهم ومماتهم ، والجملة بدل من الجار والمجرور الواقع مفعولا ثانيا لنجعل ، ومن
قرأ سواء بالنصب فهو حال أو مفعول ثان لنجعل ، ومحياهم فاعل بسواء ،
لأنه في معنى مستوى (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) معطوف على قوله بالحق ، لأن فيه معنى التعليل ، أو على
تعليل محذوف تقديره : خلق الله السموات والأرض ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس
بما كسبت.
(اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) أي أطاعه حتى صار له كالإله (وَأَضَلَّهُ اللهُ
عَلى عِلْمٍ) أي علم من الله سابق ، وقيل : على علم من هذا الضال بأنه
على ضلال ، ولكنه يتبع الضلال معاندة (خَتَمَ) ذكر في البقرة [٧]
(فَمَنْ يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللهِ) قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : من بعد إضلال الله
إياه ، ويحتمل أن يريد ؛ فمن يهديه غير الله (وَقالُوا) الضمير لمن اتخذ إلهه هواه أو لقريش (نَمُوتُ وَنَحْيا) فيه أربع تأويلات : أحدها أنهم أرادوا يموت قوم ويحيا قوم
، والآخر نموت نحن ويحيا أولادنا ، الثالث نموت حين كنا عدما أو نطفا ، ونحيا في
الدنيا ، والرابع نموت الموت المعروف ، ونحيا قبله في الدنيا فوقع في اللفظ تقديم
وتأخير ، ومقصودهم على كل وجه إنكار الآخرة ، ويظهر أنهم كانوا على مذهب الدهرية [الملاحدة]
لقولهم : وما يهلكنا إلا الدهر ، فردّ الله عليهم بقوله : وما لهم بذلك من علم الآية (قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) ذكر في الدخان [٣٦]
(قُلِ اللهُ
يُحْيِيكُمْ) الآية : ردّ على المنكرين للحشر والاستدلال على وقوعه
بقدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة.
(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ
جاثِيَةً) أي تجثو على الركب ، وتلك هيئة الخائف الذليل
__________________
(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى
إِلى كِتابِهَا) أي إلى صحائف أعمالها ، وقيل : الكتاب المنزل عليها ،
والأول أرجح لقوله (هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) الآية : فإن قيل : كيف أضاف الكتاب تارة إليهم وتارة إلى
الله تعالى؟ فالجواب : أنه أضافه إليهم لأن أعمالهم ثابتة فيه ، وأضافه إلى الله
تعالى لأنه مالكه ، وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي نأمر الملائكة الحافظين بكتب أعمالكم ، وقيل : إن الله
يأمر الحفظة أن تنسخ أعمال العباد من اللوح المحفوظ ، ثم يمسكونه عندهم فتأتي
أفعال العباد على ذلك فتكتبها الملائكة ، فذلك هو الاستنساخ وكان ابن عباس يحتج
على ذلك بأن يقول : لا يكون الاستنساخ إلا من أصل (أَفَلَمْ تَكُنْ) تقديره : يقال لهم ذلك (وَحاقَ) ذكر مرارا (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) النسيان هنا بمعنى الترك ، وأما في قوله : كما نسيتم
فيحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الذهول (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) من العتبى وهي الرضا.
سورة الأحقاف
مكية
إلا الآيات ١٠ ، ١٥ ، ٣٥ فمدنية وآياتها ٣٥ نزلت بعد الجاثية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الأحقاف) (تَنْزِيلُ) ذكر في الزمر (إِلَّا بِالْحَقِ) ذكر مرارا (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة (أَرُونِي ما ذا
خَلَقُوا) احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين ، فالأمر بمعنى
التعجيز (شِرْكٌ فِي
السَّماواتِ) أي نصيب (ائْتُونِي بِكِتابٍ) تعجيز لأنهم ليس لهم كتاب يدل على الإشراك بالله ، بل
الكتب كلها ناطقة بالتوحيد (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ) أي بقية من علم قديم يدل على ما يقولون ، وقيل : معناه من
علم تثيرونه أي تستخرجونه ، وقيل : هو الإسناد ، وقيل : هو الخط في الرمل ، وكانت
العرب تتكهن به ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كان نبي من الأنبياء يخط في الرمل فمن وافق خطه فذاك (وَمَنْ أَضَلُ) الآية. معناها لا أحد أضل ممن يدعو إلها لا يستجيب له ،
وهي الأصنام فإنها لا تسمع ولا تعقل ، ولذلك وصفها بالغفلة عن دعائهم ، لأنها لا
تسمعه (وَإِذا حُشِرَ
النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) أي كان الأصنام أعداء للذين عبدوها (وَكانُوا) (بِعِبادَتِهِمْ
كافِرِينَ) الضمير في كانوا للأصنام : أي تتبرأ الأصنام من الذين
عبدوها ، وإنما ذكر الأصنام بضمائر مثل ضمائر العقلاء لأنه أسند إليهم ما يسند إلى
العقلاء ، من الاستجابة والغفلة والعداوة (قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لو افتريته لعاقبني الله على الافتراء عقوبة لا
تقدرون على دفعها ، ولا تملكون شيئا من ردّها عليه ، فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب
الله (هُوَ أَعْلَمُ بِما
تُفِيضُونَ فِيهِ) أي بما تتكلمون به ، يقال : أفاض الرجل في الحديث إذا خاض
فيه واستمر (قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)
__________________
البدع والبديع من
الأشياء : ما لم ير مثله أي ما كنت أول رسول ، ولا جئت بأمر لم يجيء به أحد قبلي ،
بل جئت بما جاء به ناس كثيرون قبلي ، فلأي شيء تنكرون ذلك (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا
بِكُمْ) فيها أربعة أقوال : الأوّل أنها في أمر الآخرة وكان ذلك
قبل أن يعلم أنه في الجنة ، وقبل أن يعلم أن المؤمنين في الجنة وأن الكفار في
النار ، وهذا بعيد ، لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله والثاني أنها في
أمر الدنيا : أي لا أدري بما يقضي الله عليّ وعليكم ، فإن مقادير الله مغيبة وهذا
هو الأظهر. الثالث ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي وما تلزمه
الشريعة. الرابع أن هذا كان في الهجرة إذ كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض بها نخل ، فقلق
المسلمون لتأخير ذلك فنزلت هذه الآية (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) معنى الآية : أرأيتم إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به
ألستم ظالمين؟ ثم حذف قوله ألستم ظالمين وهو الجواب ، لأنه دل على أن الله لا يهدي
القوم الظالمين (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، فالمعنى :
أرأيتم إن اجتمع كون القرآن من عند الله ، مع شهادة شاهد من بني إسرائيل على مثله
، ثم آمن به هذا الشاهد وكفرتم أنتم ، ألستم أضل الناس وأظلم الناس؟ واختلف في
الشاهد المذكور على ثلاثة أقوال : أحدها أنه عبد الله بن سلام ، فقيل على هذا إن
الآية مدنية ، لأنه إنما أسلم بالمدينة ، وقيل إنها مكية وأخبر بشهادته قبل وقوعها
ثم وقعت على حسب ما أخبر ، وكان عبد الله بن سلام يقول فيّ نزلت الآية ، الثاني
أنه رجل من بني إسرائيل كان بمكة : الثالث أنه موسى عليهالسلام ورجّح ذلك الطبري. والضمير في مثله للقرآن أي يشهد على
مثله فيما جاء به من التوحيد والوعد والوعيد ، والضمير في آمن للشاهد فإن كان عبد
الله بن سلام أو الرجل الآخر فإيمانه بيّن ، وإن كان موسى عليهالسلام ، فإيمانه هو تصديقه بأمر محمد صلىاللهعليهوسلم وتبشيره به.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي لو كان الإسلام خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء ، والقائلون
لهذه المقالة هم أكابر قريش لما أسلم الضعفاء ؛ كبلال وعمار وصهيب وقيل بل قالها
كنانة وقبائل من العرب لما أسلمت غفار ومزينة وجهينة ، وقيل : بل قالها اليهود لما
أسلم عبد الله بن سلام ، والأول أرجح لأن الآية مكية ، وكانت مقالة قريش بمكة.
وأما مقالة الآخرين فإنما كانت بعد الهجرة ، ومعنى الذين آمنوا من أجل الذين آمنوا
: أي قالوا ذلك عنهم في غيبتهم ، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام ، لأنه لو
كان خطابا لقالوا ما سبقتمونا (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا
بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي لما لم يهتدوا قالوا هذا إفك قديم ونحو هذا ما جاء في
المثل : من جهل شيئا عاداه ، ووصفه
بالقدم لأنه قد
قيل قديما ، فإن قيل : كيف تعمل فسيقولون في إذ وهي للماضي والعامل مستقبل؟
فالجواب : أن العامل في إذ محذوف تقديره إذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون ،
قال ذلك الزمخشري ، ويظهر لي أن إذ هنا بمعنى التعليل لا ظرفية بمعنى الماضي فلا
يلزم السؤال ، والمعنى أنهم قالوا : هذا إفك بسبب أنهم لم يهتدوا به ، وقد جاءت إذ
بمعنى التعليل في القرآن وفي كلام العرب ، ومنه (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) [الزخرف : ٣٩] أي
بسبب ظلمكم (وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الضمير في قبله للقرآن وكتاب موسى هو التوراة ، وإماما حال
، ومعناه : يقتدى به (وَهذا كِتابٌ
مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) الإشارة بهذا إلى القرآن ، ومعنى مصدق مصدق بما قبله من
الكتب ، وقد ذكرنا ذلك في البقرة [٨٩] ولسان حال من الضمير في مصدق ، وقيل : مفعول
بمصدق أي صدق ذا لسان عربي وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ، واختار هذا ابن عطية (اسْتَقامُوا) ذكر في حم [السجدة :
٣٠] (إِحْساناً) ذكر في العنكبوت [٨].
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة ، ويقال كره بفتح الكاف وضمها
بمعنى واحد (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي مدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا ، وهذا لا يكون إلا بأن
ينقص من أحد الطرفين ، وذلك إما أن يكون مدة الحمل ستة أشهر ومدة الرضاع حولين
كاملين ، أو تكون مدة الحمل تسعة أشهر ومدة الرضاع حولين غير ثلاثة أشهر ، ومن هذا
أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والعلماء أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وإنما
عبّر عن مدة الرضاع بالفصال وهو الفطام لأنه منتهى الرضاع (بَلَغَ أَشُدَّهُ) ذكر في يوسف [٢٢]
(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً) هذا حدّ كمال العقل والقوة ، ويقال : إن الآية نزلت في أبي
بكر الصديق رضي الله عنه ، وقيل : إنها عامة (فِي أَصْحابِ
الْجَنَّةِ) أي في جملة
__________________
أصحاب الجنة كما
تقول : رأيت فلانا في الناس ، أي مع الناس.
(وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) هي على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفر والعقوق
لوالديه ، ويدل على أنها عامة قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بصيغة الجمع ، ولو أراد واحدا بعينه لقال ذلك الذي حق عليه
القول ، وقد ذكرنا معنى أف في الإسراء [٢٣]
(أَتَعِدانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ) أي أتعدانني أنا أن أخرج من القبر إلى البعث (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي وقد مضت قرون من الناس ولم يبعث منهم أحد (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) الضمير لوالديه أي يستغيثان بالله من كراهتهما لما يقول
منهما ثم يقولان له : ويلك ثم يأمرانه بالإيمان : فيقول : ما هذا إلا أساطير
الأولين : أي قد سطره الأولون في كتبهم ، وذلك تكذيب بالبعث والشريعة.
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا) أي للمحسنين والمسيئين درجات في الآخرة بسبب أعمالهم ،
فدرجات أهل الجنة إلى علو ، ودرجات أهل النار إلى سفل ، وليوفيهم تعليل بفعل محذوف
وبه يتعلق تقديره : جعل جزاءهم درجات ليوفيهم أعمالهم (وَيَوْمَ يُعْرَضُ) العامل فيه محذوف تقديره اذكر (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) تقديره يقال لهم : أذهبتم طيباتكم ؛ والطيبات هنا الملاذ
من المآكل وغيرها ؛ وقرأ أكثر القراء أذهبتم بهمزة واحدة على الخبر ، وابن عامر
بهمزتين على التوبيخ ، والآية في الكفار بدليل قوله : يعرض الذين كفروا وهي مع ذلك
واعظة لأهل التقوى من المؤمنين ، ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله وقد رآه اشترى
لحما أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية (عَذابَ الْهُونِ) أي العذاب الذي يقترن به هوان.
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) يعني هودا عليهالسلام (بِالْأَحْقافِ) جمع حقف وهو الكدس من الرمل ، واختلف أين كانت فقيل بالشام
، وقيل : بين عمان ومهرة وقيل : بين عمان وحضرموت ، والصحيح أن بلاد عاد كانت
باليمن (وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ) أي تقدمت من قبله ومن بعده ، والنذر جمع نذير ، فإن قيل :
كيف يتصور تقدمها من بعده؟ فالجواب أن هذه الجملة اعتراض ، وهي إخبار من الله
تعالى أنه قد بعث رسلا متقدمين قبل هود وبعده ،
__________________
وقيل : معنى من
خلفه في زمانه (قُلْ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي قل : إن العذاب الذي قلتم ائتنا به ليس لي علم متى يكون
، وإنما يعلمه الله ، وما عليّ إلا أن أبلغكم ما أرسلت به (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ) العارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء ، والضمير في رأوه
يعود على ما تعدنا أو على المرئي المبهم الذي فسره قوله عارضا قال الزمخشري : وهذا
أعرب وأفصح ، وروي أنهم كانوا قد قحطوا مدّة ، فلما رأوا هذا العارض ظنوا أنه مطر
ففرحوا به فقال لهم هود عليهالسلام : بل هو ما استعجلتم به من العذاب وقوله : ريح بدل من ما
استعجلتم أو خبر ابتداء مضمر (تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) عموم يراد به الخصوص (وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) هذا خطاب لقريش على وجه التهديد أي مكنا عادا فيما لم
نمكنكم فيه من القوة والأموال وغير ذلك ، ثم أهلكنا لما كفروا وإن هنا نافية بمعنى
ما ، وعدل عن ما كراهية لاجتماعها مع التي قبلها ، وقيل : إن شرطية ، وجوابها
محذوف تقديره : إن مكنّاكم فيه طغيتم ، قال ابن عطية : وهذا تنطع في التأويل (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ
الْقُرى) يعني بلاد عاد وثمود وسبأ وغيرها ، والمراد إهلاك أهلها (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) الآية عرض معناه النفي أي لم تنصرهم آلهتهم التي عبدوا من
دون الله (قُرْباناً) أي تقربوا بهم إلى الله وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله ،
وانتصاب قربانا على الحال ، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا لاتخذوا وآلهة
بدل منه لفساد المعنى ، قاله الزمخشري ، وقد أجازه ابن عطية (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي تلفوا لهم وغابوا عن نصرهم حين احتاجوا إليهم.
(وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي أملناهم نحوك ، والنفر دون العشرة ، وروي أن الجن كانوا
سبعة وكانوا كلهم ذكرانا ، لأن النفر الرجال دون النساء ، وكانوا من أهل نصيبين ،
وقيل من أهل الجزيرة ، واختلف هل رآهم النبي صلىاللهعليهوسلم؟ قيل : إنه لم يرهم ، ولم
__________________
يعلم باستماعهم
حتى أعلمه الله بذلك ، وقيل : بل علم بهم واستعد لهم واجتمع معهم ، وقد ورد في ذلك
عن عبد الله بن مسعود أحاديث مضطربة ، وسبب استماع الجن أنهم لما طردوا من استراق
السمع من السماء برجم النجوم قالوا : ما هذا إلا لأمر حدث ، فطافوا بالأرض ينظرون
ما أوجب ذلك ، حتى سمعوا قراءة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في صلاة الفجر في سوق عكاظ ، فاستمعوا إليه وآمنوا به (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) في هذا دلالة على أنهم كانوا على دين اليهود ، وقيل :
كانوا لم يعلموا ببعث عيسى (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) ذكر في البقرة [٨٩]
(داعِيَ اللهِ) هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) من هنا للتبعيض على الأصح ، أي يغفر لكم الذنوب التي فعلتم
قبل الإسلام ، وأما التي بعد الإسلام فهي في مشيئة الله ، وقيل : معنى التبعيض أن
المظالم لا تغفر وقيل : إن من زائدة (وَيُجِرْكُمْ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ) أي من النار ، واختلف الناس هل للجن ثواب زائد على النجاة
من النار ، أم ليس لهم ثواب إلا النجاة خاصة (وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللهِ) الآية : يحتمل أن يكون من كلام الجن ، أو من كلام الله
تعالى ، ومعنى ليس بمعجز أي لا يفوت (أَوَلَمْ يَرَوْا) الآية : احتجاج على بعث الأجساد بخلق السموات والأرض (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) يقال : عييت بالأمر إذا لم تعرفه ، فالمعنى أنه تعالى علم
كيف خلق السموات والأرض ، وأحكم خلقتها ، فلا شك أنه قادر على إحياء الموتى (بِقادِرٍ) في موضع رفع لأنه خبر أن ، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي
في أول الآية على أن وخبرها (بَلى) جواب لما تقدم ، أي هو قادر على أن يحي الموتى (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) هذا خطاب للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أي اصبر على تكذيب قومك وأولوا العزم هم ، نوح وإبراهيم وعيسى
وموسى ، وقيل : هم الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام لقوله : فبهداهم اقتده
، وقيل : كل من لقي من أمته شدة ، وقيل : الرسل كلهم أولوا عزم ، فمن الرسل على
هذا لبيان الجنس وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض (وَلا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ) أي لا تستعجل نزول العذاب بهم ، فإنهم صائرون إليه فإنهم
إذا هلكوا كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لاستقصار أعمارهم (بَلاغٌ) خبر ابتداء مضمر تقديره : هذا الذي وعظتم به بلاغ بمعنى :
كفاية في الموعظة ، أو بلاغ من الرسول عليه الصلاة والسلام ، أي بلغ هذه المواعظ
والبراهين.
سورة محمد
مدنية
الآية ١٣ فنزلتفي الطريق أثناء الهجرة وآياتها ٣٨ نزلت بعد الهجرة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة محمد صلىاللهعليهوسلم [وتسمى سورة
القتال] (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني كفار قريش ، وعموم اللفظ يعم كل كافر ، كما أن قوله
بعد هذا : والذين آمنوا يعني الصحابة ، وعموم اللفظ يصلح لكل مؤمن (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يحتمل أن يكون صدّوا بمعنى : أعرضوا فيكون غير متعد أو
يكون بمعنى صدوا الناس فيكون متعديا ، وسبيل الله : الإسلام والطاعة (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها وأحبطها ، وقيل : المراد بأعمالهم هنا ما أنفقوا
في غزوة بدر ؛ فإن هذه الآية نزلت بعد بدر ، واللفظ أعم من ذلك (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) هذا تجريد للاختصاص والاعتناء ، بعد عموم قوله : آمنوا
وعملوا الصالحات ولذلك أكده بالجملة الاعتراضية ، وهو قوله : وهو الحق من ربهم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) قيل : معناه أصلح حالهم وشأنهم ، وحقيقة البال الخاطر الذي
في القلب ، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله ، فالمعنى : إصلاح دينهم بالإيمان
والإخلاص والتقوى.
(فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله فاضربوا الرقاب ضربا ، ثم حذف الفعل وأقام المصدر
مقامه ، والمراد ، اقتلوهم. ولكن عبّر عنه بضرب الرقاب ، لأنه الغالب في صفة القتل
(حَتَّى إِذا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي هزمتموهم ، والإثخان أن يكثر فيهم القتل والأسر (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) عبارة عن الأسر (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) المن : العتق ، والفداء : فك الأسير بمال ، وهما جائزان. فإن
مذهب مالك أن الإمام مخيّر في الأسارى بين خمسة أشياء : وهي : المن والفداء والقتل
والاسترقاق وضرب الجزية. وقيل : لا يجوز المنّ ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله
: اقتلوا المشركين فلا يجوز على هذا إلا قتلهم. والصحيح أنها محكمة وانتصب منّا
وفداء على المصدرية ، والعامل فيهما فعلان مضمران (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) الأوزار في اللغة :
الأثقال ، فالمعنى
حتى تذهب وتزول أثقالها ، وهي آلاتها وقيل : الأوزار : الآثام ، لأن الحرب لا بد
أن يكون فيها إثم في أحد الجانبين ، واختلف في الغاية المرادة هنا فقيل : حتى
يسلموا جميعا ؛ فحينئذ تضع الحرب أوزارها وقيل : حتى تقتلوهم وتغلبوهم ، وقيل :
حتى ينزل عيسى ابن مريم : قال ابن عطية : ظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام
الأمر أبدا ، كما تقول : أنا فاعل ذلك إلى يوم القيامة (ذلِكَ) تقديره : الأمر ذلك (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ
لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أو لو شاء الله لأهلك الكفار بعذاب من عنده ، ولكنه تعالى
أراد اختبار المؤمنين ، وأن يبلو بعض الناس ببعض (عَرَّفَها لَهُمْ) أي جعلهم يعرفون منازلهم فيها ، فهو من المعرفة وقيل :
معناه طيّبها لهم فهو من العرف وهو طيب الرائحة ، وقيل : معناه شرّفها ورفعها ،
فهو من الأعراف التي هي الجبال (فَتَعْساً لَهُمْ) أي عثارا وهلاكا. وانتصابه على المصدرية ، والعامل فيه فعل
مضمر ، وعلى هذا الفعل عطف وأضلّ أعمالهم (وَلِلْكافِرِينَ
أَمْثالُها) أي لكفار قريش أمثال عاقبة الكفار المتقدمين من الدمار
والهلاك.
(مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا) أي وليهم وناصرهم ، وكذلك (وَأَنَّ الْكافِرِينَ
لا مَوْلى لَهُمْ) معناه : لا ناصر لهم ، ولا يصح أن يكون المولى هنا بمعنى
السيد ، لأن الله مولى المؤمنين والكافرين بهذا المعنى ولا تعارض بين هذه الآية
وبين قوله : (وَرُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢]
لأن معنى المولى مختلف في الموضعين ؛ فمعنى مولاهم الحق : ربهم وهذا على العموم في
جميع الخلق بخلاف قوله : (مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا) ؛ فإنه خاص بالمؤمنين لأنه بمعنى الولي والناصر (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ
الْأَنْعامُ) عبارة عن كثرة أكلهم ، وعن غفلتهم عن النظر كالبهائم (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) يعني مكة. وخروجه صلىاللهعليهوآلهوسلم من وقت الهجرة ، ونسب الإخراج إلى القرية. والمراد أهلها ،
لأنهم آذوه حتى خرج (أَهْلَكْناهُمْ) الضمير للقرى المتقدمة المذكورة في قوله : وكأين من قرية
وجمعه حملا على المعنى والمراد أهلكنا : أهلها (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على حجة ويعني به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما يعني قريشا بقوله : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ) واللفظ أعم من ذلك.
__________________
(مَثَلُ الْجَنَّةِ) ذكر في الرعد [٣٥]
(غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغير (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ
فِي النَّارِ) تقديره : أمثل أهل الجنة المذكورة كمن هو خالد في النار؟
فحذف هذا على التقدير والمراد به النفي ، وإنما حذف لدلالة التقدير المتقدم وهو
قوله : أفمن كان على بينة من ربه (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يعني المنافقين ، وجاء يستمعون بلفظ الجمع رعيا لمعنى من (قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) روي أنه عبد الله بن مسعود (ما ذا قالَ آنِفاً) كانوا يقولون ذلك على أحد وجهين : إما احتقارا لكلامه ،
كأنهم قالوا : أي فائدة فيه ، وإما جهلا منهم ونسيانا ، لأنهم كانوا وقت كلامه
معرضين عنه ، وآنفا معناه الساعة الماضية قريبا ، وأصله من : استأنفت الشيء إذا
ابتدأته (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) يعني المؤمنين والضمير في زادهم لله تعالى أو للكلام الذي
قال فيه المنافقون : ماذا قال آنفا. وقيل : يعني بالذين اهتدوا قوما من النصارى
آمنوا بسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، فاهتداؤهم هو إيمانهم بعيسى وزيادة هداهم إسلامهم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) الضمير للمنافقين ، والمعنى هل ينتظرون إلا الساعة لأنها
قريبة (فَقَدْ جاءَ
أَشْراطُها) أي علاماتها والذي كان قد جاء من ذلك مبعث سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأنه قال : أنا من أشراط الساعة ، وبعثت أنا والساعة
كهاتين (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا
جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي كيف لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة بغتة؟ فلا يقدرون على
عمل ولا تنفعهم التوبة ، ففاعل جاءتهم الساعة ، وذكراهم مبتدأ وخبره الاستفهام
المتقدم ، والمراد به الاستبعاد.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي دم على العلم بذلك ، واستدل بعضهم بهذه الآية على أن
النظر والعلم قبل العمل ، لأنه قدم قوله : فاعلم على قوله : واستغفر (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْواكُمْ) قيل : متقلبكم تصرفكم في الدنيا ، ومثواكم إقامتكم في القبور.
وقيل : متقلبكم تصرفكم في اليقظة ، ومثواكم منامكم (لَوْ لا نُزِّلَتْ
سُورَةٌ) كان المؤمنون يقولون ذلك على وجه الحرص على نزول القرآن ،
والرغبة فيه ؛ لأنهم كانوا يفرحون به ويستوحشون من إبطائه (مُحْكَمَةٌ) يحتمل أن يريد بالمحكمة أي ليس فيها منسوخ ، أو يراد متقنة
، وقرأ ابن مسعود سورة محدثة (رَأَيْتَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) يعني المنافقين ،
__________________
ونظرهم ذلك في
شدّة الخوف من القتل لأن نظر الخائف قريب من نظر المغشي عليه (فَأَوْلى لَهُمْ) في معناه قولان : أحدهما أنه بمعنى أحق وخبره على هذا
طاعة. والمعنى أن الطاعة والقول المعروف أولى لهم وأحق والآخر أن أولى لهم كلمة
معناها التهديد والدعاء عليهم كقولك : ويل لهم ومنه : أولى لك فأولى ، فيوقف على
أولى لهم على هذا القول ، ويكون طاعة ابتداء كلام ، تقديره : طاعة وقول معروف أمثل
، أو المطلوب منهم طاعة وقول معروف ، وقولهم لك يا محمد طاعة وقول معروف بألسنتهم
دون قلوبهم (فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ) أسند العزم إلى الأمر مجازا كقولك : نهاره صائم وليله قائم
(صَدَقُوا اللهَ) يحتمل أن يريد صدق اللسان ، أو صدق العزم والنية وهو أظهر.
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) هذا خطاب للمنافقين المذكورين خرج من الغيبة إلى الخطاب ،
ليكون أبلغ في التوبيخ والمعنى هل يتوقع منكم ، إلّا فساد في الأرض وقطع الأرحام
إن توليتم ، ومعنى توليتم : صرتم ولاة على الناس وصار الأمر لكم ، وعلى هذا قيل :
إنها نزلت في بني أمية. وقيل : معناه أعرضتم عن الإسلام (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِهِمْ) نزلت في المنافقين الذين نافقوا بعد إسلامهم وقيل : نزلت
في قوم من اليهود ، كانوا قد عرفوا نبوة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم من التوراة ثم كفروا به (سَوَّلَ لَهُمْ) أي زيّن لهم ورجّاهم ومنّاهم و (وَأَمْلى لَهُمْ) أي مدّ لهم في الأماني والآمال ، والفاعل هو الشيطان وقيل
: الله تعالى والأول أظهر ، لتناسب الضمير بين الفاعلين ، في سوّل وأملى (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) قال ذلك اليهود للمنافقين ، وبعض الأمر : يعنون به مخالفة
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومحاربته (فَكَيْفَ إِذا
تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة؟ يعني ملك الموت
ومن معه ، والفاء رابطة للكلام مع ما قبله. والمعنى : هذا جزعهم من ذكر القتال ،
فكيف يكون حالهم عند الموت؟ (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ) ضمير الفاعل للملائكة ، وقيل : إنه للكفار أي يضربون وجوه
أنفسهم وذلك ضعيف.
__________________
(أَمْ حَسِبَ) الآية : معناها ظن المنافقون أن لن يفضحهم الله. والضغن :
الحقد ، ويراد به هنا النفاق والبغض في الإسلام وأهله (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي لو نشاء لأريناك المنافقين بأعيانهم حتى تعرفهم
بعلامتهم ، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين ، وروي أن
الله لم يذكر واحدا منهم باسمه (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) معنى لحن القول مقصده وطريقته ، وقيل : اللحن هو الخفي
المعنى كالكناية والتعريض ، والمعنى أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
سيعرفهم من دلائل كلامهم ، وإن لم يعرفه الله بهم على التعيين (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي نختبركم (حَتَّى نَعْلَمَ) أي نعلمه علما ظاهرا في الوجود تقوم به الحجة عليكم ؛ وقد
علم الله الأشياء قبل كونها ، ولكنه أراد إقامة الحجة على عباده ؛ بما يصدر منهم ،
وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبتلينا ، فإنك إذا
ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا (وَشَاقُّوا
الرَّسُولَ) أي خالفوه وعادوه ، ونزلت الآية في المنافقين وقيل : في
اليهود.
(وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) يحتمل أربعة معان : أحدها لا تبطلوا أعمالكم بالكفر بعد
الإيمان والثاني لا تبطلوا حسناتكم بفعل السيئات ذكره الزمخشري وهذا على مذهب
المعتزلة ، خلافا للأشعرية فإن مذهبهم أن السيئات لا تبطل الحسنات. والثالث لا
تبطلوا أعمالكم بالرياء والعجب ، والرابع لا تبطلوا أعمالكم بأن تقتطعوها قبل
تمامها ، وعلى هذا أخذ الفقهاء الآية : وبهذا يستدلون على أن من ابتدأ نافلة لم
يجز له قطعها ، وهذا أبعد هذه المعاني ، والأول أظهر لقوله قبل ذلك في الكفار أو
المنافقين ، وسيحبط أعمالهم فكأنه يقول : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا أعمالكم
مثل هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله ومشاقتهم الرسول (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) هذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر الله له ، وقد أجمع
المسلمون على ذلك (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي لا تضعفوا عن مقاتلة الكفار وتبتدئوهم بالصلح ، هو
كقوله : (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١] (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم أجور أعمالكم ، يقال : وترت
__________________
الرجل أتره إذا
نقصته شيئا ، أو أذهبت له متاعا (وَلا يَسْئَلْكُمْ
أَمْوالَكُمْ) أي لا يسألكم جميعها إنما يسألكم ما يخفّ عليكم مثل ربع
العشر وذلك خفيف (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) معنى يحفكم يلح عليكم ، والإحفاء أشد السؤال وتبخلوا جواب
الشرط (وَيُخْرِجْ
أَضْغانَكُمْ) الفاعل الله تعالى أو البخل ، والمعنى يخرج ما في قلوبكم
من البخل وكراهة الإنفاق (هؤُلاءِ) منصوب على التخصيص أو منادى (لِتُنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) يعني الجهاد والزكاة (وَمَنْ يَبْخَلْ
فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي إنما ضرر بخله على نفسه فكأنه بخل على نفسه بالثواب
الذي يستحقه بالإنفاق (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يأت بقوم على خلاف صفتكم ، بل راغبين في الإنفاق في
سبيل الله ، فقيل إن هذا الخطاب لقريش ، والقوم غيرهم هم الأنصار ؛ وهذا ضعيف لأن
الآية مدنية نزلت والأنصار حاضرون ، وقيل : الخطاب لكل من كان حينئذ بالمدينة ،
والقوم هم أهل اليمن وقيل فارس.
سورة الفتح
مدنية
نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية وآياتها ٢٩ نزلت بعد الجمعة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الفتح) نزلت
هذه السورة حين انصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الحديبية ، لما أراد أن يعتمر بمكة فصدّه المشركون ،
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمر وهما راجعان إلى المدينة : لقد نزلت عليّ سورة هي أحب
إليّ من الدنيا وما فيها ، (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) يحتمل هذا الفتح في اللغة أن يكون بمعنى الحكم ، أي حكمنا
لك على أعدائك ، أو من الفتح بمعنى العطاء كقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] أو من
فتح البلاد ، واختلف في المراد بهذا الفتح على أربعة أقوال : الأول أنه فتح مكة
وعده الله به قبل أن يكون ، وذكره بلفظ الماضي لتحققه ، وهو على هذا بمعنى فتح
البلاد ، الثاني أنه ما جرى في الحديبية من بيعة الرضوان ، ومن الصلح الذي عقده
رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع قريش ، وهو على هذا بمعنى الحكم ، أو بمعنى العطاء ،
ويدل على صحة هذا القول : أنه لما وقع صلح الحديبية ، شق ذلك على بعض المسلمين
لشروط كانت فيه ، حتى أنزل الله هذه السورة ، ويتبين أن ذلك الصلح له عاقبة محمودة
، وهذا هو الأصح ؛ لأنه روي أنها لما نزلت قال بعض الناس : ما هذا الفتح وقد صدنا
المشركون عن البيت؟ فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن
بلادهم بالروح ، ورغبوا إليكم في الأمان ، الثالث أنه ما أصاب المسلمون بعد الحديبية
من الفتوح كفتح خيبر وغيرها ، الرابع أنه الهداية إلى الإسلام ودليل هذا القول
قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ) فجعل الفتح علة للمغفرة ، ولا حجة في ذلك إذ يتصور في
الجهاد وغيره أن يكون علة للمغفرة أيضا ، أو تكون اللام ، للصيرورة والعاقبة لا
للتعليل ؛ فيكون المعنى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا فكان عاقبة أمرك أن جمع الله لك
بين سعادة الدنيا والآخرة ؛ بأن غفر لك ، وأتم نعمته عليك ، وهداك ونصرك.
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي السكون والطمأنينة ، يعني سكونهم في صلح الحديبية
وتسليمهم بفعل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقيل : معناه الرحمة (الظَّانِّينَ بِاللهِ
ظَنَّ السَّوْءِ) معناه أنهم ظنوا أن الله يخذل المؤمنين وقالوا : لن ينقلب
الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا. وقيل : معناه أنهم لا يعرفون الله بصفاته ،
فذلك هو ظن السوء به ، والأول أظهر بدليل ما بعده (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ
السَّوْءِ) يحتمل أن يكون خبرا أو دعاء (إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً) أي تشهد على أمتك (وَتُعَزِّرُوهُ) أي تعظموه وقيل : تنصرونه ، وقرئ تعززوه بزاءين منقوطتين ،
والضمير في تعزروه وتوقروه للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وفي تسبحوه لله تعالى ، وقيل : الثلاثة لله.
(إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) هذا تشريف للنبي صلىاللهعليهوسلم حيث جعل مبايعته بمنزلة مبايعة الله ، ثم أكد هذا المعنى
بقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) وذلك على وجه التخييل والتمثيل ، يريد أن يد رسول الله صلىاللهعليهوسلم التي تعلو يد المبايعين له هي يد الله في المعنى ، وإن لم
تكن كذلك في الحقيقة. وإنما المراد أن عقد ميثاق البيعة مع الرسول عليه الصلاة
والسلام ، كعقده مع الله كقوله (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠]
وتأوّل المتأوّلون ذلك بأن يد الله معناها النعمة أو القوة ، وهذا بعيد هنا ونزلت
الآية في بيعة الرضوان تحت الشجرة وسنذكرها بعد (فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) يعني أن ضرر نكثه على نفسه ويراد بالنكث هنا نقض البيعة.
(سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية : سماهم بالمخلفين ، لأنهم تخلفوا عن غزوة الحديبية
، والأعراب هم أهل البوادي من العرب ، لما خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى مكة يعتمر ، رأوا أنه يستقبل عدوا كثيرا من قريش
وغيرهم ، فقعدوا عن الخروج معه ، ولم يكن إيمانهم متمكنا ، فظنوا أنه لا يرجع هو
والمؤمنون من ذلك السفر ففضحهم الله في هذه السورة ، وأعلم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، وأعلمه أنهم كاذبون
في اعتذارهم (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)
__________________
يحتمل أن يريد
قولهم : شغلتنا أموالنا وأهلونا لأنهم كذبوا في ذلك ، أو قولهم : فاستغفر لنا
لأنهم قالوا ذلك رياء من غير صدق ولا توبة (قَوْماً بُوراً) أي هالكين من البوار ، وهو الهلاك ويعني به الهلاك في
الدين (سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ) الآية : أخبر الله
رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أن المخلفين عن غزوة الحديبية يريدون
الخروج معه إذا خرجوا إلى غزوة أخرى ، وهي غزوة خيبر. فأمر الله بمنعهم من ذلك ،
وأن يقول لهم : لن تتبعونا (يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي يريدون أن يبدلوا وعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أن
الله وعدهم أن يعوضهم من غنيمة مكة غنيمة خيبر وفتحها ، وأن يكون ذلك مختصا بهم
دون غيرهم ، وأراد المخلفون أن يشاركوهم في ذلك ، فهذا هو ما أرادوا من التبديل.
وقيل : كلام الله قوله : فلن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا. وهذا ضعيف ؛
لأن هذه الآية نزلت بعد رجوع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من تبوك بعد الحديبية بمدة (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ
مِنْ قَبْلُ) يريد وعده باختصاصه أهل الحديبية بغنائم خيبر (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) معناه يعز عليكم أن نصيب معكم مالا وغنيمة ، وبل هنا
للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله : لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فمعناها :
رد أن يكون الله حكم بأن لا يتبعوهم. وأما بل في قوله تعالى بل كانوا لا يفقهون
إلا قليلا فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد ، وإثبات لوصف المخلفين بالجهل.
(سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) اختلف في هؤلاء القوم على أربعة أقوال الأول : أنهم هوازن
ومن حارب النبي صلىاللهعليهوسلم في غزوة خيبر والثاني أنهم الروم إذ دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى قتالهم في غزوة تبوك والثالث أنهم أهل الردة من بني
حنيفة وغيرهم الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والرابع أنهم الفرس ويتقوى الأول
والثاني بأن ذلك ظهر في حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقوّى المنذر بن سعيد القول الثالث بأن الله جعل حكمهم
القتل أو الإسلام ولم يذكر الجزية ، قال : وهذا لا يوجد إلا في أهل الردّة ، قلت :
وكذلك هو موجود في كفار العرب ، إذ لا تؤخذ منهم الجزية فيقوّي ذلك أنهم هوازن أو
يسلمون عطف على تقاتلونهم وقال ابن عطية : هو مستأنف (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يريد في غزوة
الحديبية (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية معناها أن الله تعالى عذر الأعمى والأعرج والمريض في تركهم
للجهاد ؛ لسبب أعذارهم (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا يدخل النار إن شاء الله أحد من أهل الشجرة الذين
بايعوا تحتها وفي الحديث أنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وقيل : ألفا وخمسمائة. وسبب
هذه البيعة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما بلغ الحديبية ، وهي موضع على نحو عشرة أميال من مكة ،
أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولا إلى أهل مكة ، يخبرهم أنه إنما جاء ليعتمر
، وأنه لا يريد حربا. فلما وصل إليهم عثمان حبسه أقاربه كرامة له ، فصرخ صارخ أن
عثمان قد قتل. فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس إلى البيعة على القتال وأن لا يفر أحد. وقيل :
بايعوه على الموت ثم جاء عثمان بعد ذلك سالما ، وانعقد الصلح بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين أهل مكة ؛ على أن يرجع ذلك العام ويعتمر في العام
القابل ، والشجرة المذكورة كانت سمرة هنا لك ثم ذهبت بعد سنين. فمر عمر بن الخطاب
بالموضع في خلافته ، فاختلف الصحابة في موضعها (فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ) يعني من صدق الإيمان وصدق العزم على ما بايعوا عليه ، وقيل
: من كراهة البيعة على الموت وهذا باطل. لأنه ذم للصحابة وقد ذكرنا السكينة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) يعني : فتح خيبر وقيل : فتح مكة والأول أشهر ، أي جعل الله
ذلك ثوابا لهم على بيعة الرضوان ، زيادة على ثواب الآخرة. وأما المغانم المذكورة
أوّلا فهي غنائم خيبر ، وهي المعطوفة على الفتح القريب. وأما المغانم الكثيرة التي
وعدهم الله وهي المذكورة ثانيا فهي : كل ما يغنم المسلمون إلى يوم القيامة ،
والإشارة بقوله فعجل لكم هذه إلى خيبر. وقيل : إن المغانم التي وعدهم هي خيبر
والإشارة بهذه إلى صلح الحديبية (وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ) أي كف أهل مكة عن قتالكم في الحديبية. وقيل : كف اليهود
وغيرهم عن إضرار نسائكم وأولادكم بينما خرجتم إلى الحديبية (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي تكون هذه الفعلة وهي كف أيدي الناس عنكم آية للمؤمنين ،
يستدلون بها على النصر ، واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره : فعل الله ذلك لتكون آية
(وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها) يعني فتح مكة ، وقيل : فتح بلاد فارس والروم وقيل : مغانم
هوازن في حنين ، والمعنى لم تقدروا أنتم عليها ، وقد
__________________
أحاط الله بها
بقدرته ووهبها لكم ، وإعراب أخرى عطف على عجل لكم هذه أو مفعول بفعل مضمر تقديره :
أعطاكم أخرى أو مبتدأ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أهل مكة (سُنَّةَ اللهِ) أي عادته والإشارة إلى يوم بدر ، وقيل : الإشارة إلى نصر
الأنبياء قديما.
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) روي في سببها أن جماعة من فتيان قريش خرجوا إلى الحديبية ،
ليصيبوا من عسكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فبعث إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم
قوما ، وساقوهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأطلقهم ، فكفّ أيدي الكفار هو أن هزموا وأسروا. وكفّ أيدي
المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهم من الأسر ، وسلامتهم من القتل ، وقوله (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ) يعني من بعد ما أخذتموهم أسارى (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أهل مكة (وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني أنهم منعوهم عن العمرة بالمسجد الحرام عام الحديبية (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ) الهدي ما يهدى إلى البيت من الأنعام ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد ساق حينئذ مائة بدنة وقيل : سبعين ليهديها ، والمعكوف
المحبوس ، ومحله موضع نحره يعني : مكة والبيت ، وإعراب الهدي عطف على الضمير
المفعول في صدّوكم ومعكوفا حال من الهدي ، وأن يبلغ مفعول بالعكف فالمعنى : صدوكم
عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله ، والعكف المذكور يعني به منع
المشركين للهدي عن بلوغ مكة ، أو حبس المسلمين بالهدي بينما ينظرون في أمورهم.
(وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) الآية تعليل لصرف الله المؤمنين عن استئصال أهل مكة بالقتل
، وذلك أنه كان بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يخفون إيمانهم ، فلو سلط الله
المسلمين على أهل مكة ، لقتلوا أولئك المؤمنين وهم لا يعرفونهم ، ولكن كفّهم رحمة
للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم ، وجواب لو لا محذوف تقديره : لو لا رجال مؤمنون
ونساء مؤمنات لسلطناكم عليهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) في موضع بدل من رجال ونساء ، أو بدل من الضمير المفعول في
لم تعلموهم والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره (فَتُصِيبَكُمْ
مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي تصيبكم من قتلهم مشقة وكراهة ، واختلف هل يعني الإثم في
قتلهم أو الدية أو الكفارة أو الملامة ، أو عيب الكفار لهم بأن يقولوا : قتلوا أهل
دينهم ، أو تألم نفوسهم من قتل المؤمنين ، وهذا أظهر لأن قتل المؤمن الذي لا يعلم
إيمانه وهو بين أهل الحرب لا إثم فيه ولا دية ، ولا ملامة ، ولا عيب ، (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ)
يعني رحمة
للمؤمنين الذين كانوا بين أظهر الكفار ، بأن كف سيوف المسلمين عن الكفار من أجلهم
أو رحمة لمن شاء من الكفار بأن يسلموا بعد ذلك ، واللام تتعلق بمحذوف يدل عليه
سياق الكلام تقديره : كان كف القتل عن أهل مكة ليدخل الله في رحمته من يشاء (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا) معنى تزيلوا تميزوا عن الكفار ، والضمير للمؤمنين المستوري
الإيمان ، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذبنا الكفار فقوله : لعذبنا جواب لو الثانية
، وجواب الأولى محذوف كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لعذبنا جواب لو الأولى ، وكررت
لو الثانية تأكيدا (إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) يعني أنفة الكفر وهي منعهم للنبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمين عن العمرة ، ومنعهم من أن يكتب في كتاب الصلح
بسم الله الرحمن الرحيم ، ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله ، وقولهم : لو نعلم
أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك اسم أبيك ، والعامل في إذ جعل محذوف
تقديره : اذكر أو قوله لعذبنا والسكينة هي سكون المسلمين ووقارهم حين جرى ذلك (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال الجمهور هي : لا إله إلا الله ، وقد روي ذلك عن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقيل : لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل : لا إله
إلا الله والله أكبر ، وهذه كلها متقاربة وقيل : هي بسم الله الرحمن الرحيم التي
أبى الكفار أن تكتب (وَكانُوا أَحَقَّ
بِها وَأَهْلَها) أي كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم ، وقيل : أحق
بها من اليهود والنصارى.
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة ؛ أنه يطوف بالبيت
هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون ، وروي أنه أتاه ملك في النوم فقال له :
لتدخلن المسجد الحرام الآية : فأخبر الناس برؤياه : ذلك ، فظنوا أن ذلك يكون في
ذلك العام ، فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون : أين الرؤيا
، ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : لقد صدق الله رسوله
الرؤيا بالحق أي تلك الرؤيا صادقة ، وسيخرج تأويلها بعد ذلك ، فاطمأنت قلوب
المؤمنين وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم في العام المقبل ، هو وأصحابه فدخلوا مكة واعتمروا ،
وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ، وظهر صدق رؤياه وتلك عمرة القضية [القضاء] ثم فتح مكة
بعد ذلك ، ثم حج هو وأصحابه ، وصدق في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين ، وبالحق
يتعلق بصدق ، أو بالرؤيا على أن يكون حالا منها (إِنْ شاءَ اللهُ) لما كان الاستثناء بمشيئة الله يقتضي الشك في الأمر ، وذلك
محال على الله ، اختلف في هذا الاستثناء على خمسة أقوال : الأول أنه استثناء قاله
الملك الذي رآه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المنام ، فحكى الله مقالته كما وقعت والثاني : أنه
تأديب من الله لعباده ليقولوا إن شاء الله في
كل أمر مستقبل ،
والثالث أنه استثناء بالنظر إلى كل إنسان على حدته ؛ لأنه يمكن أن يتم له الأمر أو
يموت أو يمرض فلا يتم له ، والرابع أن الاستثناء راجع إلى قوله آمنين لا لدخول
المسجد ، والخامس أن إن شاء الله بمعنى إذا شاء الله (مُحَلِّقِينَ
رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) الحلق والتقصير من سنة الحج والعمرة ، والحلق أفضل من التقصير
، لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رحم الله المحلقين ثلاثا ثم قال في المرة الأخيرة
والمقصرين (فَعَلِمَ ما لَمْ
تَعْلَمُوا) يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدّة ، فإنه لما
انعقد الصلح ، وارتفعت الحرب ورغب الناس في الإسلام ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة الحديبية في ألف وخمسمائة ، وقيل ألف وأربعمائة
وغزا غزوة الفتح بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ
ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) يعني فتح خيبر ، وقيل بيعة الرضوان وقيل صلح الحديبية ،
وهذا هو الأصح لأن عمر قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أفتح هو يا رسول الله؟ قال نعم. وقيل : هو فتح مكة وهذا
ضعيف ، لأن معنى قوله : من دون ذلك قبل دخول المسجد الحرام ، وإنما كان فتح مكة
بعد ذلك ، فإن الحديبية كانت عام ستة من الهجرة وعمرة القضية عام سبعة ، وفتح مكة
عام ثمانية (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) ذكره في براءة [٣٣]
(وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) أي شاهدا بأن محمدا رسول الله ، أو شاهدا بإظهار دينه.
(وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني جميع أصحابه وقيل : من شهد معه الحديبية ، وإعراب
الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع ، وقيل : الذين معه
مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا. والأول عندي أرجح ؛ لأن
الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وأما على ما اختاره ابن عطية ؛ فيكون الوصف
بالشدة والرحمة مختصا بالصحابة دون النبي صلىاللهعليهوسلم ، وما أحق النبي صلىاللهعليهوسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [براءة : ١٢٨] ،
وقال (جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [براءة : ٧٣ ،
والتحريم : ٩] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) السيما العلامة وفيه ستة أقوال ، الأول أنه الأثر الذي
يحدث في جبهة المصلى من كثرة السجود والثاني أنه أثر التراب في الوجه الثالث أنه
صفرة الوجه من السهر والعبادة ، الرابع حسن الوجه لما ورد في الحديث [من كثرت
صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار] وهذا الحديث غير صحيح ، بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه
إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهو غير مروي عنه ، الخامس أنه الخشوع ، السادس : أن ذلك
يكون
__________________
في الآخرة يجعل
الله لهم نورا من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله :
تراهم ركعا سجدا وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك ، والأول
أظهر ، وقد كان بوجه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس
أثر ظاهر من أثر السجود (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْراةِ) أي وصفهم فيها وتم الكلام هنا ، ثم ابتدأ قوله ومثلهم في
الإنجيل ، كزرع ، وقيل : إن مثلهم في الإنجيل عطف على مثلهم في التوراة ثم ابتدأ
قوله : كزرع وتقديره هم كزرع ، والأول أظهر ، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من
الأوصاف الحسان ، وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك ، وعلى هذا يكون
مثلهم في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل. وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى
الوصف كمثلهم في التوراة (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ) هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا ، ثم قوي وظهر.
وقيل : الزرع مثل للنبي صلىاللهعليهوسلم لأنه بعث وحده وكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون
فهم كالشطء ، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، ويقال : بإسكان الطاء وفتحها
بمد وبدون مد وهي لغات (فَآزَرَهُ) أي قوّاه وهو من الموازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون
الفاعل الزرع ، والمفعول شطأه أو بالعكس ؛ لأن كل واحد منهما يقوّي الآخر ، وقيل :
معناه ساواه طولا فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله وقيل أفعله ، وقرئ بقصر
الهمزة على وزن فعل (فَاسْتَغْلَظَ) أي صار غليظا (فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ) جمع ساق أي قام الزرع على سوقه ، وقيل : قوله : كزرع يعني
النبي صلىاللهعليهوسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على
سوقه بعليّ بن أبي طالب (لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ) تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوّة المسلمين فهو
يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره : جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار ، وقيل :
يتعلق بوعد وهو بعيد (مِنْهُمْ) لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم.
سورة الحجرات
مدنية
وآياتها ١٨ نزلت بعد الجاثية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الحجرات) (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ
وَرَسُولِهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها لا تتكلموا بأمر قبل أن يتكلم هو
به ، ولا تقطعوا في أمر إلا بنظره والثاني لا تقدموا الولاة بمحضره فإنه يقدم من
شاء ، والثالث لا تتقدموا بين يديه إذا مشى ، وهذا إنما يجري على قراءة يعقوب لا
تقدموا بفتح التاء والقاف والدال ، والأول هو الأظهر ؛ لأن عادة العرب الاشتراك في
الرأي ، وأن يتكلم كل أحد بما يظهر له ، فربما فعل ذلك قوم مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فنهاهم الله عن ذلك ، ولذلك قال مجاهد : معناه لا
تفتاتوا على الله شيئا حتى يذكره على لسان رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنما قال : بين يدي الله ؛ لأن النبي صلىاللهعليهوسلم إنما يتكلم بوحي من الله (لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) أمر الله المؤمنين أن يتأدبوا مع النبي صلىاللهعليهوسلم بهذا الأدب ، كرامة له وتعظيما ، وسببها أن بعض جفاة
الأعراب كانوا يرفعون أصواتهم (أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ) مفعول من أجله تقديره : مخافة أن تحبط أعمالكم إذا رفعتم
أصواتكم فوق صوته ، أو جهرتم له بالقول صلىاللهعليهوسلم ، فالمفعول من أجله يتعلق بالفعلين معا من طريق المعنى ،
وأما من طريق الإعراب فيتعلق عند البصريين بالثاني وهو : (لا تَجْهَرُوا) وعند الكوفيين بالأول وهو (لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ) ، وهذا الإحباط ؛ لأن قلة الأدب معه صلىاللهعليهوسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات وإن فعله مؤمن ، لعظيم ما
وقع فيه من ذلك. وقيل : إن الآية خطاب للمنافقين وهذا ضعيف ، لقوله في أولها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وقوله : (وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ) فإنه لا يصح أن يقال هذا لمنافق ، فإنه يفعله «جرأة» وهو
يقصده.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فإنه لما نزلت
الآية قبلها قال أبو بكر : والله يا رسول الله لا أكلمنك إلا سرا. وكان عمر يخفي
كلامه حين يستفهمه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولفظها مع ذلك على
عمومه ، ومعنى (امْتَحَنَ) : اختبر فوجدها كما يجب ، مثل ما يختبر الذهب بالنار ،
فيوجد طيبا ، وقيل معناها : درّبها للتقوى حتى صارت قوية على احتماله بغير تكلف.
وقيل : معناه أخلصها الله للتقوى (إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الحجرات : جمع حجرة وهي قطعة من الأرض يحجر عليها بحائط ،
وكان لكل واحدة من أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم حجرة. ونزلت الآية في وفد بني تميم ، قدموا على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجرات أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ووقفوا خارجها ونادوا : يا محمد أخرج إلينا فكان في فعلهم
ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير ، فتربص رسول الله صلىاللهعليهوسلم مدة ثم خرج إليهم ، فقال له واحد منهم وهو الأقرع بن حابس
: يا محمد إنّ مدحي زين وذمّي شين. فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ويحك ذلك الله تعالى (أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون فيهم قليل ممن يعقل ونفي
العقل عن أكثرهم لا عن جميعهم ، والآخر أن يكون جميعهم ممن لا يعقل ، وأوقع القلة
موضع النفي والأول أظهر في مقتضى اللفظ. والثاني أبلغ في الذم (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) يعني خيرا في الثواب ، وفي انبساط نفس النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقضائه حوائجهم ، وإنكار فعلهم فيه تأديب لهم ، وتعليم
لغيرهم.
(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) سببها أن النبي صلىاللهعليهوسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ، ليأخذ
زكاتهم ، فروي أنه كان معاديا لهم ، فأراد إذايتهم فرجع من بعض طريقه فكذب عليهم ،
وقال للنبي صلىاللهعليهوسلم : إنهم قد منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا ، فغضب رسول الله
صلىاللهعليهوسلم وهمّ بغزوهم ، ونظر في ذلك فورد وفدهم منكرين لذلك ، وروي
أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له [بالسلاح] ، فرآهم على بعد
ففزع منهم وظنّ بهم الشر ، فانصرف فقال ما قال. وروي أنه بلغه أنهم قالوا : لا
نعطيه صدقة ولا نطيعه فانصرف ، وقال ما قال. فالفاسق المشار إليه في الآية هو
الوليد بن عقبة ، ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفساق ، حتى صلى بالناس صلاة الصبح
أربع ركعات وهو سكران ، ثم قال لهم : أزيدكم إن شئتم ، ثم هي باقية في كل من اتصف
بهذه الصفة إلى آخر الدهر ، وقرئ فتبينوا من التبين ، وتثبتوا بالثاء من التثبت ،
ويقوي هذه القراءة أنها لما نزلت روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : التثبت من الله والعجلة من الشيطان ، واستدل بهذه
الآية القائلون بقبول خبر الواحد ، لأن دليل الخطاب يقتضي أن خبر غير الفاسق مقبول
، قال المنذر بن سعيد البلوطي : وهذه الآية تردّ على من قال : إن المسلمين كلهم
عدول ، لأن الله أمر بالتبين قبل القبول ، فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) في موضع المفعول من أجله تقديره : مخافة أن تصيبوا قوما
بجهالة ، والإشارة إلى قتال بني
المصطلق لما ذكر
عنهم الوليد ما ذكر (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لشقيتم ، والعنت المشقة ، وإنما قال : لو يطيعكم ولم
يقل لو أطاعكم ، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام
لهم ، والحق خلاف ذلك ، وإنما الواجب أن يطيعوه هم لا أن يطيعهم هو ، وذلك أن رأي
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خير وأصوب من رأي غيره ، ولو أطاع الناس في رأيهم لهلكوا ،
فالواجب عليهم الانقياد إليه والرجوع إلى أمره ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ) الآية.
(وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) اختلف في سبب نزولها ، فقال الجمهور : هو ما وقع بين
المسلمين وبين المتحزبين منهم لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مر به رسول صلىاللهعليهوسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه ، فبال حمار
رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فقال عبد الله بن أبيّ للنبي صلىاللهعليهوسلم : لقد آذاني نتن حمارك ، فردّ عليه عبد الله بن رواحة
وتلاحى الناس حتى وقع بين الطائفتين ضرب بالجريد ، وقيل : بالحديد ، وقيل : سببها
أن فريقين من الأنصار وقع بينهما قتال ، فصالحهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد جهد ، ثم حكمها باق إلى آخر الدهر. وإنما قال اقتتلوا
ولم يقل اقتتلا لأن الطائفة في معنى القوم والناس ، فهي في معنى الجمع (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى
الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أمر الله في هذه الآية بقتال الفئة الباغية ، وذلك إذا
تبين أنها باغية ، فأما الفتن التي تقع بين المسلمين ؛ فاختلف العلماء فيها على
قولين : أحدهما أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال ، وهو مذهب سعد بن أبي
وقاص وأبي ذر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وحجتهم قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قتال المسلم كفر . وأمره عليه الصلاة والسلام بكسر السيوف في الفتن ، والقول
الثاني أن النهوض فيها واجب لتكفّ الطائفة الباغية ، وهذا قول علي وعائشة وطلحة
والزبير وأكثر الصحابة ، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء ، وحجتهم هذه الآية فإذا
فرّعنا على القول الأول ، فإن دخل داخل على من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو
ماله فليدفعه عن نفسه وإن أدّى ذلك إلى قتله لقوله صلىاللهعليهوسلم : من قتل دون نفسه أو ماله فهو شهيد ، وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض
في الفتن فقيل : مع السواد الأعظم وقيل : مع العلماء وقيل : مع من يرى أن الحق معه
، وحكم القتال في الفتن : أن لا يجهز على جريح ، ولا يطلب هارب ، ولا يقتل أسير
ولا يقسم فيء (حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع إلى
__________________
الحق (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إنما ذكره بلفظ التثنية لأن أقل من يقع بينهم البغي اثنان
، وقيل أراد بالأخوين الأوس والخزرج ، وقرأ ابن عامر بين إخوتكم بالتاء على الجمع
، وقرئ بين إخوانكم بالنون على الجمع أيضا (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ
مِنْ قَوْمٍ) نهى عن السخرية وهي الاستهزاء بالناس (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي لعل المسخور منه خير من الساخر عند الله ، وهذا تعليل
للنهي (وَلا نِساءٌ مِنْ
نِساءٍ) لما كان القوم لا يقع إلا على الذكور عطف النساء عليهم (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يطعن بعضكم على بعض واللمز : العيب ، سواء كان بقول
أو إشارة أو غير ذلك ، وسنذكر الفرق بينه وبين الهمز في سورة الهمزة وأنفسكم هنا
بمنزلة قوله : (فَسَلِّمُوا عَلى
أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٢٧] (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع أحد أحدا بلقب ، والتنابز بالألقاب التداعي بها
، وقد أجاز المحدثون أن يقال الأعمش والأعرج ونحوه إذا دعت إليه الضرورة ولم يقصد
النقص والاستخفاف.
(بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) يريد بالاسم أن يسمى الإنسان فاسقا بعد أن سمي مؤمنا ، وفي
ذلك ثلاثة أوجه : أحدها استقباح الجمع بين الفسق وبين الإيمان ، فمعنى ذلك أن من
فعل شيئا من هذه الأشياء التي نهي عنها فهو فاسق وإن كان مؤمنا ، والآخر بئس ما
يقوله الرجل للآخر يا فاسق بعد إيمانه ، كقولهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودي ،
الثالث أن يجعل من فسق غير مؤمن وهذا على مذهب المعتزلة (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) يعني ظن السوء بالمسلمين ، وأما ظن الخير فهو حسن (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) قيل : في معنى الإثم هنا الكذب لقوله صلىاللهعليهوسلم : الظن أكذب الحديث لأنه قد لا يكون مطابقا للأمر ، وقيل : إنما يكون إثما إذا
تكلم به وأما إذا لم يتكلم به فهو في فسحة لأنه لا يقدر على دفع الخواطر ، واستدل
بعضهم بهذه الآية على صحة سد الذرائع في الشرع ، لأنه أمر باجتناب كثير من الظن ،
وأخبر أن بعضه إثم باجتناب الأكثر من الإثم احترازا من الوقوع في البعض الذي هو
إثم (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تبحثوا عن مخبآت الناس وقرأ الحسن : تحسسوا بالحاء
والتجسس بالجيم في الشر وبالحاء في الخير ، وقيل : التجسس ما كان من وراء والتحسس
بالحاء الدخول والاستعلام (وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) المعنى : لا يذكر أحدكم من أخيه المسلم ما يكره لو سمعه ،
والغيبة هي ما يكره الإنسان ذكره من خلقه أو خلقه أو دينه أو أفعاله أو غير ذلك ،
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : الغيبة أن تذكر
__________________
أخاك المؤمن بما
يكره ، قيل يا رسول الله وإن كان حقا ، قال إذا قلت باطلا فذلك بهتان وقد رخّص في الغيبة في مواضع منها : في التجريح في الشهادة
، والرواية ، والنكاح ، وشبهه وفي التحذير من أهل الضلال ، (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) وقرأ نافع : ميّتا
شبه الله الغيبة بأكل لحم ابن آدم ميتا ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ثم زاد
في تقبيحه أن جعله ميتا لأن الجيفة مستقذرة ، ويجوز أن يكون ميتا حال من الأخ أو
من لحمه ، وقيل : فكرهتموه إخبار عن حالهم بعد التقرير. كأنه لما قررهم قال : هل يحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا أجابوا فقالوا : لا نحب ذلك فقال لهم. فكرهتموه وبعد
هذا محذوف تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي تشبهه ، وحذف هذا لدلالة الكلام
عليه ، وعلى هذا المحذوف يعطف قوله : واتقوا الله ، قاله أبو علي الفارسي ، وقال
الرماني : كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع ، وكراهة الغيبة يدعو إليها العقل ،
وهو أحق أن يجاب لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل ، وقال الزمخشري : في هذه
الآية مبالغات كثيرة منها الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها جعل ما هو في
الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإشعار بأن
أحد من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم
الإنسان حتى جعله ميتا ، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان
حتى جعله أخا له. (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الذكر والأنثى هنا آدم وزوجه قال ابن عطية : ويحتمل أن
يريد الجنس كأنه قال : إنا خلقنا كل واحد منكم من ذكر وأنثى ، والأول أظهر وأصح
لقوله صلىاللهعليهوسلم : أنتم من آدم وآدم من التراب ومقصود الآية : التسوية بين الناس ، والمنع مما كانت العرب
تفعله من التفاخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، فبين الله أن الكرم والشرف عند
الله ليس بالحسب والنسب ؛ إنما هو بالتقوى قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، وروي أن سبب الآية أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا كيف
نزوج بناتنا لموالينا (وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) الشعوب : جمع شعب بفتح الشين ، وهو أعظم من القبيلة ،
وتحته القبيلة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ، وهم القرابة
__________________
الأدنون فمضر
وربيعة وأمثالها شعوبا ، وقريش قبيلة ، وبني عبد مناف بطن ، وبنو هاشم فخذ ، ويقال
بإسكان الخاء فرقا بينه وبين الجارحة ، وبنو عبد المطلب فصيلة. وقيل : الشعوب في
العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل ، ومعنى لتعارفوا ليعرف بعضكم
بعضا (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا) نزلت في بني أسد بن خزيمة ، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة
أظهروا الإسلام ، وكانوا إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، فأكذبهم الله في قولهم
آمنا وصدقهم لو قالوا أسلمنا ، وهذا على أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والإسلام
هو الانقياد بالنطق بالشهادتين ، والعمل بالجوارح فالإسلام والإيمان في هذا الموضع
متباينان في المعنى ، وقد يكونان متفقان ، وقد يكون الإسلام أعم من الإيمان فيدخل
فيه الإيمان حسبما ورد في مواضع أخر (وَإِنْ تُطِيعُوا
اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) معنى لا يلتكم لا ينقصكم شيئا من أجور أعمالكم ، وفيه
لغتان يقال لات وعليه قراءة نافع لا يلتكم بغير همز ، ويقال : ألت وعليه قراءة أبو
عمرو لا يألتكم بهمزة قبل اللام ، فإن قيل : كيف يعطيهم أجور أعمالهم وقد قال :
إنهم لم يؤمنوا ولا يقبل عمل إلا من مؤمن؟ فالجواب : أن طاعة الله ورسوله تجمع صدق
الإيمان وصلاح الأعمال ، فالمعنى إن رجعتم عما أنتم عليه من الإيمان بألسنتكم دون
قلوبكم ، وعملتم أعمالا صالحة فإن الله لا ينقصكم منها شيئا (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا في إيمانهم وفي ذلك تعريض بالأعراب المذكورين
؛ بأنهم في شك وكذلك قوله في هؤلاء : أولئك هم الصادقون تعريض أيضا بالأعراب إذ
كذبوا في قولهم آمنا. وإنما عطف ثم لم يرتابوا بثم إشعارا بثبوت إيمانهم في
الأزمنة المتراخية المتطاولة (وَجاهَدُوا) يريد جهاد الكفار ، لأنه دليل على صحة الإيمان ، ويبعد أن
يريد جهاد النفس والشيطان لقوله : بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) نزلت في بني أسد أيضا فإنهم قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت هوازن وغطفان
وغيرهم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي هداكم للإيمان على زعمكم ، ولذلك قال : إن كنتم صادقين
، ويمنّ عليكم يحتمل أن يكون بمعنى ينعم عليكم أو بمعنى : يذكر إنعامه ، وهذا أحسن
لأنه في مقابلة يمنون عليك.
سورة ق
مكية
إلا آية ٣٨ فمدنية وآياتها ٤٥ نزلت بعد المرسلات
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة ق) تكلمنا
على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويختص (ق) بأنه قيل : إنه من اسم الله القاهر ، أو القدير وقيل : هو
اسم للقرآن (وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) من المجد ، وهو الشرف والكرم وجواب هذا القسم محذوف تقديره
: ما ردّوا أمرك بحجة وما كذبوك ببرهان وشبه ذلك ، وعبّر عن هذا المحذوف ، وقع
الإضراب ببل وقيل : الجواب ما يلفظ من قول ، وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وقيل : قد
علمنا ما تنقص الأرض منهم وهذه الأقوال ضعيفة متكلفة (بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) الضمير في عجبوا لكفار قريش ، والمنذر هو سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : الضمير لجميع الناس واختاره ابن عطية قال : ولذلك
قال تعالى : فقال الكافرون أي الكافرون من الناس ، والصحيح أنه لقريش ، وقوله :
قال الكافرون وضع الظاهر موضع المضمر لقصد ذمّهم بالكفر ، كما تقول : جاءني فلان
فقال الفاجر كذا ، إذا قصدت ذمه وقوله : منذر منهم إن كان الضمير لقريش فمعنى منهم
من قبيلتهم يعرفون صدقه وأمانته وحسبه فيهم ، وإن كان الضمير لجميع الناس فمعنى منهم
إنسان مثلهم ، وتعجبهم يحتمل أن يكون من أن بعث الله بشرا أو من الأمر الذي يتضمنه
الإنذار وهو الحشر ، ويؤيد هذا ما يأتي بعد (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً) العامل في إذا محذوف تقديره : أنبعث إذا متنا (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الرجع مصدر : رجعته والمراد به : البعث بعد الموت ، ومعنى
بعيد أي : بعيد الوقوع عندهم ، وقيل : الرجع : الجواب ، أي جوابهم هذا بعيد عن
الحق ، وعلى هذا يكون قوله : ذلك رجع بعيد من كلام الله تعالى ، وأما على الأول
فهو حكاية كلام الكفار وهو أظهر.
(قَدْ عَلِمْنا ما
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) هذا رد على الكفار في إنكارهم للبعث معناه : قد علمنا ما
تنقص الأرض منهم من لحومهم وعظامهم فلا يصعب علينا بعثهم ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كل جسد ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه
يركب .
__________________
وقيل : المعنى قد
علمنا ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم ، والأول قول ابن عباس والجمهور وهو أظهر (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) يعني اللوح المحفوظ ، ومعنى حفيظ : جامع لا يشذ عنه شيء.
وقيل : معناه محفوظ من التغيير والتبديل. (بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) هذا الإضراب أتبع به الإضراب الأول ، للدلالة على أنهم
جاءوا بما هو أقبح من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة ، وما تضمنته من
الإخبار بالحشر وغير ذلك ، وقال ابن عطية : هذا الإضراب عن كلام محذوف تقديره : ما
أجادوا النظر ونحو ذلك (فَهُمْ فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ) أي مضطرب ، لأنهم تارة يقولون : شاعر ، وتارة ساحر ، وغير
ذلك من أقوالهم. وقيل : معناه منكر ، وقيل : ملتبس. وقيل : مختلط.
(وَزَيَّنَّاها) يعني بالنجوم (وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ) أي من شقوق ، وذلك دليل على إتقان الصنعة (رَواسِيَ) يعني الجبال (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ) أي من كل نوع جميل (ماءً مُبارَكاً) يعني المطر كله وقيل : الماء المبارك ماء مخصوص ينزله الله
كل سنة ، وليس كل مطر يتصف بالمبارك ، وهذا ضعيف (حَبَّ الْحَصِيدِ) هو القمح والشعير ونحو ذلك مما يحصد (باسِقاتٍ) أي طويلات (طَلْعٌ نَضِيدٌ) الطلع أول ما يظهر من الثمر ، وهو أبيض منضد كحب الرمان ،
فما دام ملتصقا بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا تفرق فليس بنضيد (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) تمثيل لخروج الموتى من القبور بخروج النبات من الأرض (وَأَصْحابُ الرَّسِ) قوم كانت لهم بئر عظيم وهي الرس ، بعث إليهم نبي فجعلوه في
الرس وردموا عليه فأهلكهم الله (وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ) يعني قوم شعيب وقد ذكر (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) ذكر في الدخان [٣٧]
(فَحَقَّ وَعِيدِ) أي حل بهم الهلاك (أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) يقال : عيي بالأمر إذا لم يعرف علمه ، والخلق الأول : خلق
الإنسان من نطفة ثم من علقة وقيل : يعني خلق آدم ، وقيل خلق السموات والأرض ،
والأول أظهر ، ومقصود الآية الاستدلال بالخلقة الأولى على البعث والهمزة للإنكار (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ) أي هم في شك من البعث ، وإنما نكّر الخلق الجديد ؛ لأنه
كان غير معروف عند الكفار المخاطبين ، وعرّف الخلق الأول لأنه معروف معهود. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني جنس الإنسان ، ومعنى توسوس به نفسه : تحدثه نفسه في
فكرتها. وذلك أخفى الأشياء وقيل : يعني آدم ووسوسته عند أكله من الشجرة ، والأول
أظهر وأشهر (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) هو عرق كبير في العنق ، وهما وريدان عن يمين وشمال ، وهذا
مثل في فرط القرب ، والمراد به : قرب علم الله واطلاعه على عبده ، وإضافة الحبل إلى
الوريد كقولك : مسجد الجامع أو يراد بالحبل : العاتق (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ) يعني الملكين الحافظين الكاتبين للأعمال ، والتلقي هو :
تلقّي الكلام بحفظه وكتابته ، والعامل في إذ نحن أقرب ، وقيل : مضمر تقديره :
اذكر. واختاره ابن عطية (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي قاعد ، وقيل : مقاعد بمعنى مجالس ، وردّه ابن عطية بأن
المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان ، والقاعد يكون على جميع هيئة الإنسان ، وإنما
أفرده وهما اثنان لأن التقدير : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين ،
فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه ، وقال الفراء : لفظ قعيد يدل على الاثنين والجماعة
فلا يحتاج إلى حذف.
(ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) العتيد : الحاضر ، وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : إن مقعد الملكين على الشفتين قلمهما اللسان ومدادهما
الريق ، وعموم الآية يقتضي أن الملكين يكتبان جميع أعمال العبد ، ولذلك قال الحسن
وقتادة : يكتبان جميع الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير ذلك ،
وقال عكرمة : إنما تكتب الحسنات والسيئات لا غير (وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِ) أي بلقاء الله أو فراق الدنيا ، وفي مصحف عبد الله بن
مسعود : وجاءت سكرة الحق بالموت ، وكذلك قرأها أبو بكر الصديق ، وإنما قال : جاءت
بالماضي لتحقق الأمر وقربه ، وكذلك ما بعده من الأفعال (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تفر وتهرب ، والخطاب للإنسان (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) السائق ملك يسوقه ، وأما الشهيد فقيل : ملك آخر يشهد عليه
وهو الأظهر ، وقيل : صحائف الأعمال ، وقيل : جوارح الإنسان (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) خطاب للإنسان الذي يقتضيه قوله : كل نفس ، يريد أنه كان
غافلا عما لقي في الآخرة ، وقيل : هو خطاب لسيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أي كنت في غفلة من هذا القصص ؛ وهذا في غاية الضعف لأنه
خروج عن سياق الكلام (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ) قيل : كشف الغطاء معاينته أمور الآخرة (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي يبصر ما لم يبصره قبل ، وقد ورد : الناس نيام فإذا
ماتوا انتبهوا (وَقالَ قَرِينُهُ هذا
ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) القرين هنا : الشيطان الذي كان يغويه ،
__________________
وقيل : الملك الذي
يتولى عذابه في جهنم ، والأول أرجح لأنه هو القرين المذكور بعد ، ولقوله : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ، فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦]
ومعنى قوله : هذا ما لديّ عتيد ، أي هذا الإنسان حاضر لدي أعتدته ويسرته لجهنم ،
وكذلك المعنى إن قلنا : إن القرين هو الملك السائق ، وإن قلنا : إنه أحد الزبانية
فمعناه هذا العذاب لديّ حاضر ، ويحتمل أن يكون ما في قوله ، ما لديّ ، موصوفة أو
موصولة ، فإن كانت موصوفة فعتيد وصف لها ، وإن كانت موصولة ، فعتيد بدل منها ، أو
خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وما هي خبر المبتدأ على هذه الوجوه ، ويحتمل
أن يكون عتيد الخبر وتكون ما بدلا من هذا أو منصوبة بفعل مضمر (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) الخطاب للملكين السائق والشهيد ، وقيل : إنه خطاب لواحد
على أن يكون بالنون المؤكدة الخفيفة ، ثم أبدل منها ألف ، أو على أن يكون معناه :
ألق ألق مثنى مبالغة وتأكيدا ، أو على أن يكون على عادة العرب من مخاطبة الاثنين
كقولهم : خليلي وصاحبي وهذا كله تكلف بعيد ، ومما يدل على أن الخطاب لاثنين قوله :
فألقياه في العذاب الشديد (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) قيل : مناع للزكاة المفروضة والصحيح العموم (مُرِيبٍ) شاك في الدين فهو من الريب بمعنى الشك (الَّذِي جَعَلَ) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره فألقياه وأدخل فيه ألفا لتضمنه
معنى الشرط ، أو يكون بدلا أو صفة ، ويكون فألقياه تكرار للتوكيد.
(قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) القرين هنا شيطانه الذي وكّل به في الدنيا ، بلا خلاف
ومعنى ما أطغيته : ما أوقعته في الطغيان ، ولكنه طغى باختياره ، وإنما حذف الواو
هنا لأن هذه جملة مستأنفة بخلاف قوله : وقال قرينه قبل هذا فإنه عطف (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) خطاب للناس وقرنائهم من الشياطين (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي قد حكمت بتعذيب الكفار فلا تبديل لذلك ، وقيل : معناه
لا يكذب أحد لدي لعلمي بجميع الأمور ، فالإشارة على هذا إلى قول القرين ما أطغيته (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ) الفعل مسند إلى جهنم ، وقيل : إلى خزنتها من الملائكة ،
والأول أظهر واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة أو مجازا بلسان الحال؟ والأظهر أنه حقيقة
، وذلك على الله يسير ، ومعنى قوله : «هل من مزيد» إنما تطلب الزيادة وكانت لم
تمتلئ. وقيل : معناه لا مزيد أي ليس عندي موضع للزيادة ، فهي على هذا قد امتلأت
والأول أظهر وأرجح ، لما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها
__________________
وتقول : هل من
مزيد حتى يلقى فيها الجبار قدمه » ، وفي الحديث كلام ليس هذا موضعه ، والمزيد يحتمل أن يكون
مصدرا كالمحيض أو اسم مفعول فإن كان مصدرا فوزنه مفعل ، وإن كان اسم مفعول فوزنه
مفعول.
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ) أي قرّبت ثم أكد ذلك بقوله غير بعيد (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي كثير الرجوع إلى الله ، فهو من آب يؤوب إذا رجع ، وقيل
: هو المسبح لله من قوله (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) [سبأ : ١] (حَفِيظٍ) أي حافظ لأوامر الله فيفعلها ، ولنواهيه فيتركها (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي اتقى الله وهو غائب عن الناس ، فالمجرور في موضع الحال
، من خشي بدل أو مبتدأ ، فإن قيل : كيف قرن بالخشية الاسم الدال على الرحمة؟
فالجواب : أن ذلك لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله ؛ لأنه يخشاه مع علمه
برحمته وعفوه ، قال ذلك الزمخشري ؛ ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن الرحمن صار
يستعمل استعمال الاسم الذي ليس بصفة كقولنا الله (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) قيل معناه النظر إلى وجه الله ، كقوله : (الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقيل
: يعني ما لم يخطر على قلوبهم كما ورد في الحديث مما يرويه النبي صلىاللهعليهوسلم عن ربه أنه قال : أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا
أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُمْ بَطْشاً) الضمير في هم للقرون المتقدمة ، وفي منهم لكفار قريش (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي طافوا فيها ، وأصله دخولها من أنقابها ، أو من التنقب
عن الأمر ، بمعنى البحث عنه (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي قالوا : هل من مهرب من الله أو من العذاب (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي قلب واع يعقل ويفهم (أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي استمع وهو حاضر القلب (وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ) اللغوب الإعياء والتعب.
(فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ) يعني كفار قريش وغيرهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) يحتمل أن يريد التسبيح باللسان ، أو يريد الصلاة وقد ذكر
الزمخشري فيه الوجهين وقال ابن عطية : معناه : صلّ بإجماع من المتأوّلين ، وهي على
هذا إشارة إلى الصلوات الخمس فقبل طلوع الشمس : الصبح ، وقبل الغروب : الظهر
والعصر. ومن الليل : المغرب والعشاء ، وقيل :
__________________
هي النوافل (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما :
الركعتين بعد المغرب وقال ابن عباس : هي النوافل بعد الفرائض ، وقيل : الوتر (وَاسْتَمِعْ) معناه انتظر. فهو عامل في يوم يناد على أنه مفعول به صريح
، وقيل : المعنى استمع لما نقص عليك من أهوال القيامة. فعلى هذا لا يكون عاملا في
يوم يناد فيوقف على استمع والأول أظهر (يَوْمَ يُنادِ
الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) المنادي هنا إسرافيل الذي ينفخ في الصور ، وقيل : إنما وصفه بالقرب
لأنه يسمعه جميع الخلق ، وقيل : المكان صخرة بيت المقدس ، وإنما وصفها بالقرب
لقربها من مكة (يَوْمُ الْخُرُوجِ) يعني خروج الناس من القبور (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) العامل في هذا الظرف معنى قوله : (حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أو هو بدل مما قبله (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بقهار تقهرهم على الإيمان كقوله (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢]
وقيل إخبار بأنه صلىاللهعليهوسلم رؤوف بهم غير جبار عليهم ، وهذا أظهر (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ) كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) [فاطر : ١٨] لأنه
لا ينفع التذكير إلا من يخاف.
__________________
سورة الذاريات
مكية
وآياتها ٦٠ نزلت بعد الأحقاف
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الذاريات) (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) هي الرياح تذرو التراب وغيره ، ومنه قوله تعالى : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الكهف : ٤٥]
وانتصب ذروا على المصدرية (فَالْحامِلاتِ
وِقْراً) هي السحاب تحمل المطر ، والوقر : الحمل وهو مفعول به (فَالْجارِياتِ يُسْراً) هي السفن تجري في البحر ، وإعراب يسرا صفة لمصدر محذوف
ومعناه بسهولة (فَالْمُقَسِّماتِ
أَمْراً) هي الملائكة تقسم أمر الملكوت من الأرزاق والآجال وغير ذلك
، وأمرا مفعول به ، وقيل : إن الحاملات وقرا : السفن ، وقيل : جميع الحيوان الحامل
، وقيل : إن الجاريات يسرا : السحاب ، وقيل : الجواري من الكواكب والأول أشهر ،
وهو قول علي بن أبي طالب (إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ) هذا جواب القسم ويحتمل : توعدون أن يكون من الوعد أو من
الوعيد ، والأظهر ؛ أنه يراد به البعث في الآخرة وهو يشمل الوعد والوعيد (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) الدين هنا الجزاء ، وقيل : الحساب (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) أي ذات الطرائق ، مثل الطرائق التي تكون في الماء إذا هبت
عليه الرياح ، وكذلك حبك الزرع ، وهي الطرائق التي فيه. وقيل الحبك : النجوم. وقيل
: زينة السماء وقيل : حسن خلقتها وواحد الحبك حباك أو حبيكة.
(إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس ، لأنهم اختلفوا فمنهم
مؤمن ومنهم كافر ، ويحتمل أن يكون خطابا للكفار خاصة ، لأنهم اختلفوا فقال بعضهم :
ساحر ، وقال بعضهم : كاهن وقال بعضهم : شاعر (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ) معنى يؤفك : يصرف ، والضمير في عنه يحتمل أربعة أوجه أحدها
: أن يكون للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو للقرآن أو للإسلام والمعنى : يصرف عن الإيمان به من صرف
، أي من سبق في علم الله أنه مصروف. الثاني : أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين
، والمعنى يصرف عن الإيمان به من صرف. الثالث : أن يكون الضمير للقول المختلف ،
والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام من قضى الله بسعادته ، وهذا القول حسن ،
إلا أن عرف الاستعمال
في أفك ويؤفك إنما
هو في العرف من خير إلى شر ، وهذا من شر إلى خير. الرابع : أن يكون الضمير للقول
المختلف ، وتكون عن سببية والمعنى : يصرف بسبب ذلك القول من صرف عن الإيمان (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) دعاء عليهم كقولهم : قاتلك الله ، وقيل : قتل بمعنى لعن ،
قال ابن عطية : واللفظ لا يقتضي ذلك وقال الزمخشري : أصله الدعاء بالقتل ، ثم جرى
مجرى لعن وقبح ، والخراصون الكذابون ، وأصل الخرص : التخمين والقول بالظن والإشارة
إلى الكفار ، وقيل : إلى الكهان والأول أظهر (الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ) الغمرة ما يغطي عقل الإنسان ، وأصله من غمرة الماء ،
والمراد به هنا الجهالة والغفلة عن النظر (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ) أي يقولون : متى يوم الدين على وجه الاستبعاد والاستخفاف (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) هذا جواب عن سؤالهم ، ومعنى يفتنون : يحرقون ويعذبون ،
ومنه قيل للحرّة : فتين لأن الشمس أحرقت حجارتها ، ويحتمل أن يكون يومهم معربا
والعامل فيه مضمر تقديره : يقع ذلك يوم هم على النار يفتنون ، وأن يكون مبنيا لإضافته
إلى مبني ، وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا ، أو في
موضع رفع والتقدير هو : يوم هم على النار يفتنون (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي يقال لهم : ذوقوا حرقتكم.
(آخِذِينَ ما آتاهُمْ
رَبُّهُمْ) يعنى يأخذون في الجنة ما أعطاهم ربهم من الخيرات والنعيم ،
وقيل : المعنى آخذين في الدنيا ما آتاهم ربهم من شرعه ، والأول أظهر وأرجح لدلالة
الكلام عليه (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) الهجوع النوم. وفي معنى الآية قولان : أحدهما : وهو الصحيح
: أنهم كانوا ينامون قليلا من الليل ، ويقطعون أكثر الليل بالسهر في الصلاة
والتضرع والدعاء ، والآخر : أنهم كانوا لا ينامون بالليل قليلا ولا كثيرا ، ويختلف
الإعراب باختلاف المعنيين ؛ فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه : الأول
أن يكون قليلا خبر كانوا وما يهجعون فاعل بقليلا ، لأن قليلا صفة مشبهة باسم
الفاعل ، وتكون ما مصدرية ، والتقدير : كانوا قليلا هجوعهم من الليل ، والثاني :
مثل هذا إلا أن ما موصولة والتقدير : كانوا قليلا الذي يهجعون فيه من الليل ،
والثالث : أن تكون ما زائدة ، وقليلا ظرف ، والعامل فيه يهجعون ، والتقدير : كانوا
يهجعون وقتا قليلا من الليل ، والرابع مثل هذا إلا أن قليلا صفة لمصدر محذوف ،
والتقدير : كانوا يهجعون هجوعا قليلا ، وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان :
أحدهما أن تكون ما نافية ، وقليلا ظرف ، والعامل فيه يهجعون ، والتقدير : كانوا ما
يهجعون قليلا من الليل ، والآخر أن تكون ما نافية ، وقليلا خبر كان ، والمعنى
كانوا قليلا في الناس ، ثم ابتدأ بقوله من الليل ما يهجعون وكلا الوجهين باطل عند
أهل العربية ، لأن ما نافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، فظهر ضعف هذا المعنى
لبطلان إعرابه.
(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) أي يطلبون من الله مغفرة ذنوبهم ، والأسحار آخر الليل ،
وقد جاء في الحديث أن الله تعالى يقول في الثلث الآخر من الليل : من يستغفرني
فأغفر له ، وقيل : معنى يستغفرون : يصلون وهذا بعيد من اللفظ (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ) الحق هنا نوافل الصدقات ، وقيل : المراد الزكاة وهذا بعيد
؛ لأن الآية مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة ، وقيل : إن الآية منسوخة بالزكاة
، وهذا لا يحتاج إليه لأن النسخ إنما يكون مع التعارض ، ولا تعارض بين الزكاة
والنوافل. وتسمية النوافل بالحق كقوله : (حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦]
وإن كان غير واجب ، وقال بعض العلماء : حق سوى الزكاة. ورجحه ابن عطية. واختلف
الناس في المحروم حتى قال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم ، وقيل : المحروم
الذي ليس له في بيت المال سهم ، وقيل الذي اجتيحت ثمرته ، وقيل : الذي ماتت ماشيته
، والمعنى الجامع لها أن المحروم هو الفقير المستور الحال (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) إشارة إلى ما في خلقة الإنسان من الآيات والعبر ، ولقد قال
بعض العلماء فيه : إن فيه خمسة آلاف حكمة ، وقال بعضهم : الإنسان نسخة مختصرة من
العالم (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) معنى : في السماء رزقكم : المطر ، وقيل : القضاء والقدر ،
ويحتمل أن يكون ما توعدون من الوعد والوعيد والكل في السماء ، ولذلك قيل : يعني
الجنة والنار. وقيل : الخير والشر (إِنَّهُ لَحَقٌ) هذا جواب القسم ، والضمير لما تقدم من الآيات أو الرزق أو
لما توعدون (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ) أي حق مثل نطقكم لا يمكن الشك فيه ، وما زائدة : وقرئ مثل
بالنصب والرفع فالرفع صفة لحق ، والنصب على الحال من حق أو من الضمير
المستتر فيه ، أو صفة لحق وبني لإضافته إلى مبني ، أو لتركيبه مع ما فيصير نحو
أينما وكلما.
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) المراد بالاستفهام في مثل هذا التفخيم والتهويل ، وضيف
إبراهيم هم الملائكة الذين جاءوا ليبشروه بالولد وبإهلاك قوم لوط ، ووصفهم
بالمكرمين لأنهم مكرمون عند الله ، ولأن إبراهيم عليهالسلام أكرمهم ، لأنه خدمهم بنفسه وعجل لهم الضيافة ، والعامل في
إذ دخلوا على هذا : المكرمين ، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره : اذكر (فَقالُوا سَلاماً) نصب هذا لأنه في معنى الطلب
__________________
وهو مفعول بفعل
مضمر ، ورفع الثاني لأنه خبر تقديره : أمري سلام ، وهذا على أن يكون السلام بمعنى
السلامة ، وإن كان بمعنى التحية فإنما رفع الثاني ليدل على إثبات السلام ، فيكون
قد حياهم بأكثر مما حيوه ، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية تقديره : سلمنا
عليك سلاما ، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره : سلام عليكم قوم منكرون أي لم
يعرفهم (قالَ أَلا
تَأْكُلُونَ) يحتمل أن يكون ألا حضا على الأكل ، أو تكون الهمزة للإنكار
دخلت على لا النافية (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً) إنما خاف منهم لما لم يأكلوا.
(وَبَشَّرُوهُ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ) هو إسحاق عليهالسلام لقوله : (فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ) [هود : ٧١] (فِي صَرَّةٍ) أي صيحة ، وذلك قولها : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ
وَأَنَا عَجُوزٌ) [هود : ٧٢] وهو من
صرّ القلم وغيره إذا صوّت ، وقيل : معناه في جماعة في النساء (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي ضربته حياء منهم وتعجبا من ولادتها وهي عجوز (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) تقديره : قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو تقديره : أتلد
عجوز عقيم؟ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي ما شأنكم وخبركم ، والخطب أكثر ما يقال في الشدائد (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ) يعني قوم سيدنا لوط ، وقد ذكرنا الحجارة ومسومة في هود (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) الضمير المجرور لقرية قوم سيدنا لوط ، لأن الكلام يدل
عليها وإن لم يتقدم ذكرها ، والمراد بالمؤمنين لوط وأهله : أمرهم الله بالخروج من
القرية لينجو من العذاب الذي أصاب أهلها ، ووصفهم بالمؤمنين وبالمسلمين لأنهم
جمعوا الوصفين وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان في الأحزاب (وَفِي مُوسى) معطوف على قوله وفي الأرض آيات للموقنين أو على قوله : وتركنا
فيها آية (فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ) معنى تولى أعرض عن الإيمان ، وركنه سلطانه وقوته (قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي قالوا إن موسى ساحر أو مجنون : فأو للشك أو للتقسيم ،
وقيل : بمعنى الواو وهذا ضعيف ولا يستقيم هنا (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فعل ما يلام عليه يعني فرعون (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وصفها بالعقم ، لأنها لا بركة فيها من إنشاء المطر أو
إلقاح الشجر (كَالرَّمِيمِ) أي الفاني المنقطع ، والعموم هنا يراد به الخصوص فيما أذن
للريح أن تهلكه (وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) فيه قولان : أحدهما أن الحين هي الثلاثة الأيام
بعد عقرهم الناقة
والآخر أن الحين من بعد ما بعث صالح عليهالسلام إلى حين هلاكهم ، وعلى هذا يكون : فعتوا مترتبا بعد تمتعهم
، وأما على الأول فيكن إخبارا عن حالهم غير مرتب على ما قبله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) يعني الصيحة التي صاحها جبريل (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي يعاينونها لأنها كانت بالنهار.
(وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي بقوة ، وانتصاب السماء بفعل مضمر (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن معناه قادرون فهو من الوسع وهو
الطاقة ، ومنه (عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] أي
القوي على الإنفاق ، والآخر جعلنا السماء واسعة ، أو جعلنا بينها وبين الأرض سعة ،
والثالث أوسعنا الأرزاق بمطر السماء (فَنِعْمَ
الْماهِدُونَ) الماهد الموطئ للموضع (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي نوعين مختلفين كالليل والنهار ، والسواد والبياض ،
والصحة والمرض وغير ذلك (فَفِرُّوا إِلَى
اللهِ) أمر بالرجوع إليه بالتوبة والطاعة وفي اللفظ تحذير وترهيب (أَتَواصَوْا بِهِ) توقيف [سؤال] وتعجيب أي هم بمثابة من أوصى بعضهم بعضا أن
يقول ذلك (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) منسوخ بالسيف (فَما أَنْتَ
بِمَلُومٍ) أي قد بلغت الرسالة فلا لوم عليك (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قيل : معناه خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي ، وقيل ليتذللوا لي
: فإن جميع الإنس والجن متذلل (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ) أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي لا أريد أن يطعمون ، لأني منزه عن الأكل وعن صفات البشر
، وأنا غني عن العالمين ، وقيل : المعنى ما أريد أن يطعموا عبيدي ، فحذف المضاف
تجوزا ، وقيل : معناه ما أريد أن ينفعوني لأني غنيّ عنهم ، وعبّر عن النفع العام
بالإطعام ، والأول أظهر (الْمَتِينُ) أي الشديد القوة (فَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذَنُوباً) الذنوب النصيب ، ويريد به هنا نصيبا من العذاب ، وأصل
الذنوب الدلو ، والمراد بالذين ظلموا كفار قريش ، وبأصحابهم من تقدم من الكفار (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يحتمل أن يريد يوم القيامة أو يوم هلاكهم ببدر ، والأول
أرجح لقوله في المعارج (ذلِكَ الْيَوْمُ
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [٤٤] يعني يوم القيامة.
سورة الطور
مكية وآياتها ٤٩ نزلت بعد السجدة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الطور) (وَالطُّورِ) هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليهالسلام ، وقيل : الطور كل جبل فكأنه أقسم بجنس الجبال (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) قيل : هو اللوح المحفوظ ، وقيل : القرآن ، وقيل : صحائف
الأعمال (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرق في اللغة : الصحيفة ، وخصصت في العرف بما كان من جلد
، والمنشور خلاف المطوي (وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ) هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا
يعودون إليه أبدا وبهذا عمرانه ، وهو حيال الكعبة ، وقيل : البيت المعمور : الكعبة
وعمرانها بالحجاج والطائفين ، والأول أظهر ، وهو قول علي وابن عباس (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء (وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ) هو بحر الدنيا ، وقيل : بحر في السماء تحت العرش : والأول
أظهر وأشهر ، ومعنى المسجور : المملوء ماء ، وقيل : الفارغ من الماء ، ويروى أن
البحار يذهب ماؤها يوم القيامة ، واللغة تقتضي الوجهين : لأن اللفظ من الأضداد ،
وقيل : معناه الموقد نارا من قولك : سجرت التنور ، واللغة أيضا تقتضي هذا ، وروي
أن جهنم في البحر (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
لَواقِعٌ) هذا جواب القسم ، ويعني عذاب الآخرة (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي : تجيء وتذهب ، وقيل : تدور ، وقيل : تتشقق ، والعامل
في الظرف واقع ودافع أو محذوف (الَّذِينَ هُمْ فِي
خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) الخوض : التخبط في الأباطيل شبّه بخوض الماء (يَوْمَ يُدَعُّونَ) أي يدفعون بتعنيف ، ويوم بدل من الظرف المتقدم.
(أَفَسِحْرٌ هذا)؟ توبيخ للكفار على ما كانوا يقولونه في الدنيا من أن
القرآن سحر (أَمْ أَنْتُمْ لا
تُبْصِرُونَ) توبيخ أيضا لهم ، وتهكم بهم أي هل أنتم لا تبصرون هذا
العذاب الذي حل بكم كما كنتم في الدنيا لا تبصرون الحقائق؟ (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) ليس المراد بذلك الأمر بالصبر ولا النهي عنه ، وإنما
المراد التسوية بين الصبر وعدمه في أن كل واحد من الحالين لا ينفعهم ، ولا يخفف
عنهم شيئا من العذاب (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا
تعليل لما ذكر من
عذابهم ، وليس تعليلا للصبر ولا لعدمه كما قال بعض الناس (فاكِهِينَ) يحتمل أن يكون معناه أصحاب فاكهة ، فيكون نحو لابن وتامر
صاحب لبن وصاحب تمر أو يكون من الفكاهة بمعنى السرور (وَوَقاهُمْ) معطوف على قوله : في جنات أو على آتاهم ربهم ، أو تكون
الواو للحال (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي يقال لهم : كلوا (هَنِيئاً) صفة لمصدر محذوف تقديره : كلوا أكلا هنيئا ، ويحتمل أن
يكون وقع موقع فعل تقديره : هنأكم الأكل والشرب (بِحُورٍ عِينٍ) الحور : جمع حوراء وهي الشديدة بياض بياض العين وسواد
سوادها ، والعين جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالها ، وإنما دخلت الباء في
قوله بحور لأنه تضمن قوله : زوّجناهم معنى قرناهم ، قاله الزمخشري وقال : إن الذين
آمنوا معطوف على بحور عين أي قرناهم بحور للتلذذ بهن ، وبالذين آمنوا للأنس معهم.
والأظهر أن الكلام تمّ في قوله «بحور عين» ويكون والذين آمنوا مبتدأ خبره ألحقنا.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) معنى الآية ما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم قال : «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته في الجنة ، وإن
كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه» فذلك كرامة للأبناء بسبب الآباء ، قيل : إن ذلك في الأولاد
الذين ماتوا صغارا ، وقيل : على الإطلاق في الأبناء المؤمنين ، وبإيمان في موضع
الحال من الذرية ، والمعنى أنهم اتبعوا آباءهم في الإيمان ، وقال الزمخشري : إن
هذا المجرور يتعلق بألحقنا ، والمعنى عنده بسبب الإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ،
والأول أظهر ، فإن قيل : لم قال بإيمان بالتنكير؟ فالجواب : أن المعنى بشيء من
الإيمان لم يكونوا به أهلا لدرجة آبائهم ، ولكنهم لحقوا بهم كرامة لآباء ، فالمراد
تقليل إيمان الذرية ولكنه رفع درجتهم ، فكيف إذا كان إيمانا عظيما (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ) أي ما أنقصناهم من ثواب أعمالهم بل وفينا لهم أجورهم ،
وقيل المعنى : ألحقنا ذريتهم بهم ، وما نقصناهم شيئا من ثواب أعمالهم بسبب ذلك ،
بل فعلنا ذلك تفضلا زيادة إلى ثواب أعمالهم ، والضمير على القولين يعود على الذين
آمنوا ، وقيل : إنه يعود على الذرية (كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرتهن ، فإما أن تنجيه حسناته ، وإما أن تهلكه
__________________
سيئاته (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) الإمداد هو الزيادة مرة بعد مرة (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتعاطونها إذ هم جلساء على الشراب (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) اللغو الكلام الساقط ، والتأثيم : الذنب فهي بخلاف خمر
الدنيا (غِلْمانٌ لَهُمْ) يعني خدامهم (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ
مَكْنُونٌ) اللؤلؤ الجوهر ، والمكنون المصون ، وذلك لحسنه وقيل : هو
الذي لم يخرج من الصدف (قالُوا إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي كنا في الدنيا خائفين من الله ، والإشفاق شدة الخوف (السَّمُومِ) أشد الحر وقيل : هو من أسماء جهنم (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) يحتمل أن يكون بمعنى نعبده ، أو من الدعاء بمعنى الرغبة ،
ومن قبل يعنون في الدنيا قبل لقاء الله (إِنَّهُ هُوَ
الْبَرُّ الرَّحِيمُ) البر الذي يبرّ عباده ويحسن إليهم ، وقرأ نافع والكسائي
أنه بفتح الهمزة على أن يكون مفعولا من أجله ، أو يكون هذا اللفظ هو المدعو به
وقرأ الباقون بكسرها على الاستئناف.
(فَذَكِّرْ فَما
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) هذا خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، أي ذكّر الناس. ثم نفى عنه ما نسبه إليه الكفار من
الكهانة والجنون. ومعنى : بنعمة ربك : بسبب إنعام الله عليك (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ
بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أم في هذا الموضع وفيما بعده للاستفهام بمعنى الإنكار ،
والتربص الانتظار ، وريب المنون ، حوادث الدهر ، وقيل : الموت ، وكانت قريش قد
قالت : إنما هو شاعر ننتظر به ريب المنون فيهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء
كزهير والنابغة (قُلْ تَرَبَّصُوا) أمر على وجه التهديد (أَمْ تَأْمُرُهُمْ
أَحْلامُهُمْ بِهذا) الأحلام العقول : أي كيف تأمرهم عقولهم بهذا ، والإشارة
إلى قولهم هو شاعر ، أو إلى ما هم عليه من الكفر والتكذيب ، وإسناد الأمر إلى
الأحلام مجاز كقوله : أصلاتك تأمرك [هود : ٨٧] (أَمْ هُمْ قَوْمٌ
طاغُونَ) أم هنا بمعنى بل ، ويحتمل أن تكون بمعنى بل وهمزة
الاستفهام بمعنى الإنكار كما هي في هذه المواضع كلها (أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ) أي اختلقه من تلقاء نفسه ، وضمير الفاعل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وضمير المفعول للقرآن (فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) ردّ عليهم وإقامة حجة عليهم ، والأمر هنا للتعجيز (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن معناه أم خلقوا من غير رب
أنشأهم واستعبدهم ،
__________________
فهم من أجل ذلك لا
يعبدون الله : الثاني أم خلقوا من غير أب ولا أم كالجمادات فهم لا يؤمرون ولا
ينهون كحال الجمادات : الثالث أم خلقوا من غير أن يحاسبوا ولا يجازوا بأعمالهم فهو
على هذا كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥] (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) معناه أهم الخالقون لأنفسهم بحيث لا يعبدون الخالق؟ أم هم
الخالقون للمخلوقات بحيث يتكبرون؟ (أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَبِّكَ) المعنى أعندهم خزائن الله بحيث يستغنون عن عبادته؟ وقيل :
أعندهم خزائن الله بحيث يعطون من شاءوا ويمنعون من شاءوا؟ ويخصون بالنبوّة من
شاءوا (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي الأرباب الغالبون ، وقيل : المسيطر المسلط القاهر (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ
فِيهِ) يعني أم لهم سلم يصعدون به إلى السماء ، فيسمعون ما تقول
الملائكة ، بحيث يعلمون صحة دعواهم. ثم عجّزهم بقوله : (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ) أي بحجة واضحة على دعواهم (أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) معناه أتسألهم على الإسلام أجرة ، فيثقل عليهم غرمها فيشق
عليهم اتباعك (أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) المعنى أعندهم علم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه حتى
يقولوا : لا نبعث وإن بعثنا لا نعذب؟ وقيل : المعنى فهم يكتبون للناس سننا وشرائع
من عبادة الأصنام وتسييب السوائب وشبه ذلك (أَمْ يُرِيدُونَ
كَيْداً) إشارة إلى كيدهم في دار الندوة بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، حيث تشاوروا في قتله أو إخراجه (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ
الْمَكِيدُونَ) أي المغلوبون في الكيد ، والذين كفروا يعني من تقدم الكلام
فيهم وهم كفار قريش ، فوضع الظاهر موضع المضمر ، ويحتمل أن يريد جميع الكفار (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) المعنى هل لهم إله غير الله يعصمهم من عذاب الله ويمنعهم
منه؟ وحصر الله في هذه الآية جميع المعاني التي توجب التكبر والبعد من الدخول في
الإسلام ونفاها عنهم ؛ ليبين أن تكبرهم من غير موجب وكفرهم من غير حجة.
(وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) كانوا قد طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء ، فالمعنى
أنهم لو رأوا الكسف ساقطا عليهم لبلغ بهم الطغيان والجهل والعناد أن يقولوا : ليس
بكسف وإنما هو سحاب مركوم : أي كثيف بعضه فوق
__________________
بعض (فَذَرْهُمْ) منسوخ بالسيف (يَوْمَهُمُ الَّذِي
فِيهِ يُصْعَقُونَ) يعني يوم القيامة والصعقة فيه هي النفخة الأولى ، وقيل :
غير ذلك والصحيح ما ذكرنا لقوله في المعارج [٤٤] عن يوم القيامة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ، (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) يعني قتلهم يوم بدر ، وقيل الجوع بالقحط ، وقيل : عذاب
القبر (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ) أي اصبر على تكذيبهم لك وإمهالنا لهم فإنا نراك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ
تَقُومُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أنه قول سبحان الله ، ومعنى حين
تقوم من كل مجلس ، وقيل : أراد حين تقوم وتقعد ، وفي كل حال وجعل القيام مثالا :
الثاني أنه الصلوات النوافل ؛ والثالث أنه الصلوات الفرائض ، فحين تقوم الظهر
والعصر : أي حين تقوم من نوم القائلة ، ومن الليل المغرب والعشاء ، وإدبار النجوم
: الصبح ومن قال : هي النوافل ، جعل إدبار النجوم ركعتي الفجر.
__________________
سورة النجم
مكية
إلا آية ٣٢ فمدنية وآياتها ٦٢ نزلت بعد الإخلاص
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة النجم) (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أنها الثريا لأنها غلب عليها
التسمية بالنجم ، ومعنى هوى غرب وانتثر يوم القيامة ، الثاني أنه جنس النجوم ،
ومعنى هوى كما ذكرنا ، أو انقضت ترجم الشياطين. الثالث أنه من نجوم القرآن ، وهو
الجملة التي تنزل ، وهوى على هذا معناه نزل (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ
وَما غَوى) هذا جواب القسم ، والخطاب لقريش ، وصاحبكم هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، فنفى عنه الضلال والغيّ ، والفرق بينهما : أن الضلال
بغير قصد ، والغيّ بقصد وتكسب (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى) أي ليس يتكلم بهواه وشهوته ، إنما يتكلم بما يوحي الله
إليه (إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحى) يعني القرآن (عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى) ضمير المفعول للقرآن أو للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والشديد القوى : جبريل ، وقيل : الله تعالى ، والأول
أرجح لقوله : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
ذِي الْعَرْشِ) [التكوير : ٢٠]
والقوى جمع : قوة (ذُو مِرَّةٍ) أي ذو قوّة ، وقيل : ذو هيئة حسنة ، والأول هو الصحيح في
اللغة (فَاسْتَوى) أي استوى جبريل في الجو ؛ إذ رآه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ب [غار] حراء ، وقيل : معنى استوى : ظهر في صورته على
ستمائة جناح ، قد سدّ الأفق بخلاف ما كان يتمثل به من الصور إذا نزل بالوحي ، وكان
غالبا ما ينزل في صورة الصحابي دحية الكلبي (وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلى) الضمير لجبريل وقيل : لسيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم والأول أصح (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى) الضميران لجبريل أي دنا من سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم فتدلّى في الهواء ، وهو عند بعضهم من المقلوب تقديره :
فتدلى فدنا.
(فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) القاب : مقدار المسافة ، أي كان جبريل من سيدنا محمد
عليهما الصلاة والسلام في القرب بمقدار قوسين عربيتين ، ومعناه من طرف العود إلى
الطرف الآخر ، وقيل : من الوتر إلى العود ، وقيل : ليس القوس التي يرمى بها ،
وإنما هي ذراع تقاس بها المقادير ذكره الثعلبي. وقال : إنه من لغة أهل الحجاز ،
وتقدير الكلام : فكان مقدار مسافة جبريل من سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام مثل
قاب قوسين. ثم
حذفت هذه المضافات
، ومعنى أو أدنى أو أقرب وأو هنا مثل قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧]
وأشبه التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل عنده أن يكون قاب قوسين أو
يكون أدنى ، وهذا الذي ذكرنا أن هذه الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح ، وقد ورد
ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحديث الصحيح ، وقيل : إنها لله تعالى ، وهذا القول
يردّ عليه الحديث والعقل ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن تلك الأوصاف من الدنو
والتدلي وغير ذلك (فَأَوْحى إِلى
عَبْدِهِ ما أَوْحى) في هذه الضمائر ثلاثة أقوال : الأول أن المعنى أوحى الله
إلى عبده محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ما أوحى. الثاني أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى ، وعاد
الضمير على الله في القولين ، لأن سياق الكلام يقتضي ذلك وإن لم يتقدم ذكره ، فهو
كقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر. الثالث أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى
، وفي قوله : ما أوحى إبهام مراد يقتضي التفخيم والتعظيم (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما كذب فؤاد محمد صلىاللهعليهوسلم ما رآه بعينه ، بل صدق بقلبه أن الذي رآه بعينه حق ، والذي
رأى هو جبريل ، يعني حين رآه بمقدار ملأ الأفق ، وقيل : رأى ملكوت السموات والأرض
، والأول أرجح لقوله : (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى) وقيل : الذي رآه هو الله تعالى ، وقد أنكرت ذلك عائشة ، وسئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هل رأيت ربك؟ فقال : نور أنّى أراه؟ (أَفَتُمارُونَهُ عَلى
ما يَرى) هذا خطاب لقريش ، والمعنى أتجادلونه على ما يرى ، وكانت
قريش قد كذبت لما قال إنه رأى ما رأى (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى) أي لقد رأى محمد جبريل عليهما الصلاة والسلام مرة أخرى وهو
ليلة الإسراء ، وقيل : ضمير المفعول لله تعالى ، وأنكرت ذلك عائشة ، وقالت : من
زعم أن محمدا رأى ربه ليلة الإسراء فقد أعظم الفرية على الله تعالى. (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) هي شجرة في السماء السابعة قال رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم : ثمرتها كالقلال وورقها كآذان الفيلة ، وسميت سدرة المنتهى ؛ لأن
إليها ينتهي علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى. وقيل : سميت بذلك
لأن ما نزل من أمر الله يلتقي عندها ، فلا يتجاوزها ملائكة العلو إلى أسفل ، ولا
يتجاوزها ملائكة السفل إلى أعلى (عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى) يعني أن الجنة التي
__________________
وعدها الله عباده
هي عند سدرة المنتهى ، وقيل : هي جنة أخرى تأوي إليها أرواح الشهداء ، والأول أظهر
وأشهر (إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى) فيه إبهام لقصد التعظيم ، قال ابن مسعود : غشيها فراش من
ذهب ، وقيل : كثرة الملائكة ، وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، وهذا أولى أن تفسر به
الآية (ما زاغَ الْبَصَرُ
وَما طَغى) أي ما زاغ بصر سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم عما رآه من العجائب ، بل أثبتها وتيقنها ، وما طغى : أي ما
تجاوز ما رأى إلى غيره (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) يعني ما رأى ليلة الإسراء من السموات والجنة والنار
والملائكة والأنبياء وغير ذلك. ويحتمل أن تكون الكبرى مفعولا أو نعتا لآيات ربه ،
والمعنى يختلف على ذلك (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هذه أوثان كانت تبعد من دون الله ، فخاطب الله من كان
يعبدها من العرب على وجه التوبيخ لهم ، وقال ابن عطية : الرؤيا هنا رؤية العين ؛
لأن الأوثان المذكورة أجرام مرئية ، فأما اللات فصنم كان بالطائف ، وقيل : كان
بالكعبة ، وأما العزّى فكانت صخرة بالطائف ، وقيل : شجرة فبعث إليها رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها تدعو
بالويل ؛ فضربها بالسيف حتى قتلها ، وقيل : كانت بيتا تعظمه العرب وأصل لفظ العزى
مؤنثة الأعز ، وأما مناة فصخرة كانت لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة. وكانت أعظم
هذه الأوثان ، قال ابن عطية : ولذلك قال تعالى : الثالثة الأخرى فأكدها بهاتين
الصفتين ، وقال الزمخشري : الأخرى ذم وتحقير أي المتأخرة الوضيعة القدر.
ومنه : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف : ٣٨] (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأوثان بنات الله ،
فأنكر الله عليهم ذلك أي كيف تجعلون لأنفسكم الأولاد الذكور ، وتجعلون لله البنات
التي هي عندكم حقيرة بغيضة ، وقد ذكر هذا المعنى في النحل وغيرها ، ويحتمل أن يكون
أنكر عليهم جعل هذه الأوثان شركاء لله تعالى ؛ مع أنهن إناث والإناث حقيرة بغيضة
عندهم (تِلْكَ إِذاً
قِسْمَةٌ ضِيزى) أي هذه القسمة التي قسمتم جائرة غير عادلة ، يعني جعلهم
الذكور لأنفسهم والإناث لله تعالى ووزن ضيزى فعلى بضم الفاء ، ولكنها كسرت لأجل
الياء التي بعدها (إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) الضمير للأوثان ، وقد ذكر هذا المعنى في الأعراف : ٧١ في
قوله (أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ)(إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) يعني أنهم يقولون أقوالا بغير حجة كقولهم : إن الملائكة
بنات الله ، وقولهم : إن الأصنام تشفع لهم وغير ذلك (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما
تَمَنَّى) أم هنا
__________________
للإنكار ،
والإنسان هنا جنس بني آدم : أي ليس لأحد ما يتمنى بل الأمر بيد الله ، وقيل : إن
الإشارة إلى ما طمع فيه الكفار من شفاعة الأصنام ، وقيل : إلى قول العاصي بن وائل
: لأوتين مالا وولدا ، وقيل : هو تمني بعضهم أن يكون نبيا ، والأحسن حمل اللفظ على
إطلاقه.
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ) الآية : رد على الكفار في قولهم : إن الأوثان تشفع لهم ،
كأنه يقول : الملائكة الكرام لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بإذن الله فكيف أوثانكم؟ (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) معناه أن الملائكة لا يشفعون لشخص إلا بعد أن يأذن الله
لهم في الشفاعة فيه ويرضى عنه (لَيُسَمُّونَ
الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) يعني قولهم : إن الملائكة بنات الله ، ثم ردّ عليهم بقوله
: وما لهم به من علم (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ) أي إلى ذلك انتهى علمهم ؛ لأنهم علموا ما ينفع في الدنيا ،
ولم يعلموا ما ينفع في الآخرة (لِيَجْزِيَ) اللام متعلقة بمعنى ما قبلها ، والتقدير : أن الله مالك
أمر السموات والأرض ليجزي الذي أساؤوا بما عملوا. وقيل : يتعلق بضل واهتدى (كَبائِرَ الْإِثْمِ) ذكرنا الكبائر في النساء [٣١]
(إِلَّا اللَّمَمَ) فيه أربعة أقوال : الأول : أنه صغائر الذنوب فالاستثناء
على هذا منقطع. الثاني : أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفلتة والسقطة دون دوام
عليها. الثالث : أنه ما ألموا به في الجاهلية من الشرك والمعاصي : الرابع : أنه
الهمّ بالذنوب وحديث النفس به دون أن يفعل (أَجِنَّةٌ) جمع جنين (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ) أي لا تنسبوا أنفسكم إلى الصلاح والخير ، قال ابن عطية :
ويحتمل أن يكون نهى عن أن يزكي بعض الناس بعضا ، وهذا بعيد لأنه تجوز التزكية في
الشهادة وغيرها.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى) الآية : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقيل نزلت في العاصي
بن وائل (وَأَكْدى) أي قطع العطاء وأمسك (وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) قيل : وفي طاعة الله في ذبح ولده ، وقيل : وفي تبليغ
الرسالة ، وقيل : وفي شرائع الإسلام ، وقيل : وفي الكلمات التي ابتلاه الله بهن ،
وقيل : وفي هذه العشر الآيات (أَلَّا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ذكر فيما تقدم ،
__________________
وهذه الجملة تفسير
لما في صحف إبراهيم وموسى عليهماالسلام.
(وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) السعي هنا بمعنى العمل ، وظاهرها أنه لا ينتفع أحد بعمل
غيره ، وهي حجة لمالك في قوله : لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام ، واتفق
العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعتق يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره ،
ويصل نفعها إلى من فعلت عنه ، واختلفوا في الأعمال البدنية كالصلاة والصيام وقيل :
إن هذه الآية منسوخة بقوله (أَلْحَقْنا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ) والصحيح أنها محكمة لأنها خبر : والأخبار لا تنسخ. وفي
تأويلها ثلاثة أقوال : الأول : أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا فلا يلزم في
شريعتنا الثاني : أن للإنسان ما عمل بحق وله ما عمل له غيره بهبة العامل له ،
فجاءت الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها. الثالث : أنها في الذنوب ، وقد
اتفق أنه لا يحتمل أحد ذنب أحد ، ويدل على هذا قوله بعدها : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وكأنه يقول : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يؤاخذ إلا بذنب
نفسه (وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرى) قيل : معناه يراه الخلق يوم القيامة ، والأظهر أنه صاحبه
لقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى) فيه قولان أحدهما أن معناه إلى الله المصير في الآخرة ،
والآخر أن معناه أن العلوم تنتهي إلى الله ، ثم يقف العلماء عند ذلك ، وروي أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : لا فكرة في الرب .
(وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى) قيل : معناه أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار ، وهذا
تخصيص لا دليل عليه ، وقيل : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات ، وهذا مجاز
وقيل : خلق في بني آدم الضحك والبكاء والصحيح أنه عبارة عن الفرح والحزن لأن الضحك
دليل على السرور والفرح ، كما أن البكاء دليل على الحزن. فالمعنى أن الله تعالى
أحزن من شاء من عباده ، وأسر من شاء (أَماتَ وَأَحْيا) يعني الحياة المعروفة والموت المعروف وقيل : أحيا بالإيمان
وأمات بالكفر والأول أرجح ، لأنه حقيقة (مِنْ نُطْفَةٍ) يعني المني (إِذا تُمْنى) من قولك : أمنى الرجل إذا خرج منه المنيّ (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) يعني الإعادة للحشر وأقنى يعني أكسب عباده المال ، وهو من
قنية المال وهو كسبه وادخاره وقيل : معنى أقنى : أفقر وهذا لا تقتضيه اللغة ، وقيل
: معناه أرضى وقيل : قنع عبده
__________________
(الشِّعْرى) نجم في السماء ، وتسمى كلب الجبار وهما شعريان وهما :
الغميصاء والعبور. وخصها بالذكر دون سائر النجوم لأن بعض العرب كان يعبدها (عاداً الْأُولى) وصفها بالأولى لأنها كانت في قديم الزمان ، فهي الأولى
بالإضافة إلى الأمم المتأخرة ، وقيل : إنما سميت أولى لأن ثم عادا أخرى متأخرة
وهذا لا يصح ، وقرأ نافع عاد لّولى بإدغام تنوين عاد في لام الأولى بحذف الهمزة ،
ونقل حركتها إلى اللام وضعّف المزني والمبرد هذه القراءة وهمز قالون الأولى دون
ورش وقرأ الباقون على الأصل بكسر تنوين عادا وإسكان لام الأولى (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي ما أبقى منهم أحدا ، وقيل : ما أبقى عليهم (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما
غَشَّى) هي مدينة قوم لوط ، ومعنى أهوى طرحها من علو إلى أسفل ،
وفي قوله ما غشى تعظيم للأمر.
(فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمارى) هذا مخاطبة للإنسان على الإطلاق معناه : بأي نعم ربك تشك (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) يعني القرآن أو النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومعنى من النذر الأولى من نوعها وصفتها (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت القيامة (كاشِفَةٌ) يحتمل لفظه ثلاثة أوجه : أن يكون مصدرا كالعافية ، أي ليس
لها كشف وأن يكون بمعنى كاشف والتاء للمبالغة كعلامة ، وأن يكون صفة لمحذوف تقديره
: نفس كاشفة أو جماعة كاشفة ويحتمل معناه وجهين : أحدهما أن يكون من الكشف بمعنى :
الإزالة أي ليس لها من يزيلها إذا وقعت والآخر أن يكون بمعنى الاطلاع ؛ أي ليس لها
من يعلم وقتها إلا الله (أَفَمِنْ هذَا
الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) الإشارة إلى القرآن وتعجبهم منه إنكاره (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي لاعبون لاهون ، وقيل : غافلون مفرطون (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره ، وقد قال ابن مسعود
قرأها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسجد وسجد كل من كان معه.
__________________
سورة القمر
مكية
إلا الآيات ٤ و ٤٥ و ٤٦ فمدنية وآياتها ٥٥ نزلت بعد الطارق
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة القمر) (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي قربت القيامة ، ومعنى قربها أنها بقي لها من الزمان [شيء]
قليل بالنسبة إلى ما مضى ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأشار بالسبابة والوسطى (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) هذا إخبار بما جرى في زمان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذلك أن قريشا سألته آية فأراهم انشقاق القمر. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : اشهدوا ، وقال ابن مسعود : انشق القمر فرأيته فرقتين فرقة وراء
الجبل وأخرى دونه ، وقيل : معنى انشق القمر أنه ينشق يوم القيامة ، وهذا قول باطل
تردّه الأحاديث الصحيحة الواردة بانشقاق القمر ، وقد اتفقت الأمة على وقوع ذلك
وعلى تفسير الآية بذلك إلا من لا يعتبر قوله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) هذه الضمائر لقريش والآية المشار إليها انشقاق القمر وعند
ذلك قالت قريش : سحر محمد القمر ومعنى مستمر : دائم ـ وقيل : معناه ذاهب يزول عن
قريب ـ وقيل : شديد وهو على هذا المعنى من المرة وهي القوة (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي كل شيء لا بد له من غاية ، فالحق يحق والباطل يبطل (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما
فِيهِ مُزْدَجَرٌ) الأنباء هنا ، يراد بها ما ورد في القرآن من القصص
والبراهين والمواعظ ، ومزدجر اسم مصدر بمعنى الازدجار أو اسم موضع بمعنى أنه مظنة
أن يزدجر به (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بدل من ما فيه أو خبر ابتداء مضمر (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية لمعنى الاستبعاد
والإنكار (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم لعلمك أن الإنذار لا ينفعهم.
__________________
(يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) العامل في يوم مضمر تقديره : اذكر أو قوله : (يَخْرُجُونَ) بعد ذلك ، وليس العامل فيه تول عنهم لفساد المعنى. فقد تم
الكلام في قوله : تول عنهم فيوقف عليه وقيل : المعنى تولّ عنهم أي يوم يدع الداع
والأول أظهر وأشهر. والداعي جبريل أو إسرافيل إذ ينفخ في الصور ، والشيء النكر
الشديد الفظيع. وأصله من الإنكار. أي : هو منكور لأنه لم ير قط مثله ، والمراد به
يوم القيامة (خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ) كناية عن الذلة وانتصب خشعا على الحال من الضمير في يخرجون
(يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْداثِ) أي من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ
مُنْتَشِرٌ) شبّههم بالجراد في خروجهم من الأرض ، فكأنه استدلال على
البعث كالاستدلال بخروج النبات. وقيل : إنما شبههم بالجراد في كثرتهم ، وأن بعضهم
يموج في بعض (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين وقيل : ناظرين إلى الداع (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) يعني نوحا عليهالسلام ، ووصفه هنا بالعبودية تشريفا له واختصاصا (وَازْدُجِرَ) أي زجروه بالشتم والتخويف وقالوا له : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانْتَصِرْ) أي قد غلبني الكفار فانتصر لي أو انتصر لنفسك ، (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ
مُنْهَمِرٍ) عبارة عن كثرة المطر ، فكأنه يخرج من أبواب ، وقيل : فتحت
في السماء أبواب يومئذ حقيقة ، والمنهمر الكثير (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ) أي قد قضي في الأزل ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه قدر
بمقدار معلوم ، وروي في ذلك أنه علا فوق الأرض أربعين ذراعا (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ) يعني السفينة والدسر هي المسامير واحدها دسار ، وقيل : هي
مقادم السفينة ، وقيل : أضلاعها والأول أشهر (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) عبارة عن حفظ الله ورعيه لها (جَزاءً لِمَنْ كانَ
كُفِرَ) أي جزاء لنوح : وقيل : جزاء لله تعالى والأول أظهر ،
وانتصب جزاء على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه ما تقدم من فتح أبواب السماء وما
بعده من الأفعال ؛ أي جعلنا ذلك كله جزاء لنوح ، ويحتمل أن يكون قوله : كفر من
الكفر بالدين والتقدير لمن كفر به فحذف الضمير ، أو يكون من الكفر بالنعمة ؛ لأن
نوحا عليهالسلام نعمة من الله كفرها قومه ، فلا يحتاج على هذا إلى الضمير
المحذوف.
__________________
(وَلَقَدْ تَرَكْناها
آيَةً) الضمير للقصة المذكورة أو الفعلة أو السفينة وروي في هذا
المعنى أنها بقيت على الجودي حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تحضيض على الادّكار فيه ملاطفة جميلة من الله لعباده ،
ووزن مدكر مفتعل وأصله مدتكر ثم أبدل من التاء دالا وأدغمت فيها الدال (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) توقيف [سؤال] فيه تهديد لقريش والنذر جمع نذير (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ) أي يسرناه للحفظ ، وهذا معلوم بالمشاهدة ، فإنه يحفظه
الأطفال الأصاغر وغيرهم حفظا بالغا بخلاف غيره من الكتب ، وقد روي أنه لم يحفظ شيء
من كتب الله عن ظهر قلب إلا القرآن. وقيل : معنى الآية سهلناه للفهم والاتعاظ به
لما تضمن من البراهين والحكم البليغة ، وإنما كرر هذه الآية البليغة وقوله :
فذوقوا عذابي ونذر لينبه السامع عند كل قصة ، فيعتبر بها إذ كل قصة من القصص التي
ذكرت عبرة وموعظة ، فختم كل واحدة بما يوقظ السامع من الوعيد في قوله : فكيف كان
عذابي ونذر ، ومن الملاطفة في قوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (رِيحاً صَرْصَراً) أي مصوتة فهو من الصرير يعني الصوت وقيل : معناه باردة فهو
من الصر (يَوْمِ نَحْسٍ
مُسْتَمِرٍّ) روي أنه كان يوم أربعاء ، حتى رأى بعضهم أن كل يوم أربعاء
نحس ورووا : آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر (تَنْزِعُ النَّاسَ) أي تقلعهم من مواضعهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ
نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أعجاز النخل هي : أصولها ، والمنقعر : المنقطع. فشبه الله
عادا لما هلكوا بذلك لأنهم طوال عظام الأجساد كالنخل ، وقيل : كانت الريح تقطع
رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس ، فشبههم بأعجاز النخل لأنها دون أغصان : وقيل :
كانوا حفروا حفرا يمتنعون بها من الريح. فهلكوا فيها فشبههم بأعجاز النخل إذا كانت
في حفرها (أَبَشَراً) هو صالح عليهالسلام ، وانتصب بفعل مضمر والمعنى أنهم أنكروا أن يتبعوا بشرا
وطلبوا أن يكون الرسول من الملائكة ، ثم زادوا أن أنكروا أن يتبعوا واحدا وهم
جماعة كثيرون (وَسُعُرٍ) أي عناد ، وقيل : معناه جنون ، وقيل : معناه هم وغم وأصله
من السعير بمعنى النار. وكأنه احتراق النفس بالهم.
__________________
(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أنكروا أن يخصه الله بالنبوة دونهم ، وذلك جهل منهم ، فإن
الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء (أَشِرٌ) بطر متكبر (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي لهم يوم وللناقة يوم من غير أن يتعدوا على الناقة ،
فالضمير في نبئهم يعود على ثمود. وعلى الناقة تغليبا للعقلاء ، وقيل : إن الضمير
لثمود ، والمعنى لا يتعدى بعضهم على بعض (كُلُّ شِرْبٍ
مُحْتَضَرٌ) أي مشهود (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) يعني : عاقر الناقة واسمه قدار وهو أحيمر ثمود وأشقاها (فَتَعاطى) أي اجترأ على أمر عظيم ، وهو عقر الناقة وقيل : تعاطى
السيف (صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بها جبريل صيحة فماتوا منها (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) الهشيم هو ما تكسر وتفتت من الشجر وغيرها ، والمحتظر الذي
يعمل الحظيرة وهي حائط من الأغصان أو القصب ونحو ذلك ، أو يكون تحليقا للمواشي أو
السكنى فشبه الله ثمود لما هلكوا بما يتفتت من الحظيرة من الأوراق وغيرها ، وقيل :
المحتظر المحترق (حاصِباً) ذكر في العنكبوت [٤٠]
(فَتَمارَوْا
بِالنُّذُرِ) تشككوا (وَلَقَدْ راوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) الضيف هنا هم : الملائكة الذين أرسلهم الله إلى لوط ،
ليهلكوا قومه. وكان قومه قد ظنوا أنهم من بني آدم ، وأرادوا منهم الفاحشة فطمس
الله على أعينهم ، فاستوت مع وجوههم ، وقيل : إن الطمس عبارة عن عدم رؤيتهم لهم ،
وأنهم دخلوا منزل لوط فلم يروا فيه أحدا (أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) هذا خطاب لقريش على وجه التهديد ، والهمزة للإنكار ومعناه
: هل الكفار منكم خير عند الله من الكفار المتقدمين المذكورين ، بحيث أهلكناهم لما
كذبوا الرسل وتنجون أنتم وقد كذبتم رسلكم؟ بل الذي أهلكهم يهلككم (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) معناه أم لكم في كتاب الله براءة من العذاب؟ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ
مُنْتَصِرٌ) أي نحن نجتمع وننتصر لأنفسنا بالقتال (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ) هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيهزم جمع قريش ، وقد ظهر ذلك
يوم بدر وفتح مكة (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) المراد بالمجرمين هنا الكفار وضلالهم في الدنيا ، والسعر
لهم في الآخرة
وهو الاحتراق ،
وقيل : أراد بالمجرمين القدرية لقوله في الرد عليهم : إنا كل شيء خلقناه بقدر
والأول أظهر (يُسْحَبُونَ فِي
النَّارِ) أي يجرون فيها (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) المعنى أن الله خلق كل شيء بقدر ، أي بقضاء معلوم سابق في
الأزل ، ويحتمل أن يكون معنى بقدر بمقدار في هيئته وصفته وغير ذلك ، والأول أرجح
وفيه حجة لأهل السنة على القدرية. وانتصب كل شيء بفعل مضمر يفسره خلقناه (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) عبارة عن سرعة التكوين ونفوذ أمر الله ، والواحدة يراد بها
الكلمة وهي قوله كن (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
أَشْياعَكُمْ) يعني أشياعكم من الكفار (وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي كل ما فعلوه مكتوب في صحائف الأعمال (مُسْتَطَرٌ) أي مكتوب وهو من السطر. تقول سطرت واستطرت بمعنى واحد ،
والمراد الصغير والكبير من أعمالهم وقيل : جميع الأشياء (وَنَهَرٍ) يعني أنهار الماء والخمر واللبن والعسل واكتفى باسم الجنس (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي في مكان مرضي.
سورة الرحمن
مدنية
وآياتها ٧٨ نزلت بعد الرعد
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سورة الرحمن عزوجل) (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ) هذا تعديد نعمة على من علمه الله القرآن ، وقيل : معنى
علّم القرآن جعله علامة وآية لسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم. والأول أظهر وارتفع الرحمن بالابتداء ، والأفعال التي
بعده أخبار متوالية ، ويدل على ذلك مجيئها بدون حرف عطف (خَلَقَ الْإِنْسانَ) قيل : جنس الناس وقيل : يعني آدم وقيل : يعني سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا دليل على التخصيص. والأول أرجح (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) يعني النطق والكلام (الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي يجريان في الفلك بحسبان معلوم وترتيب مقدر ، وفي ذلك
دليل على الصانع الحكيم المريد القدير (وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) النجم عند ابن عباس النبات الذي لا ساق له كالبقول ،
والشجر النبات الذي له ساق ، وقيل : النجم جنس نجوم السماء. والسجود عبارة عن
التذلل والانقياد لله تعالى : وقيل : سجود الشمس : غروبها وسجود الشجر ظله (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) يعني الميزان المعروف الذي يوزن به الطعام وغيره ، وكرر
ذكره اهتماما به وقيل : أراد العدل (وَلا تُخْسِرُوا
الْمِيزانَ) أي لا تنقصوا إذا وزنتم (لِلْأَنامِ) أي للناس وقيل : الإنس والجن وقيل : الحيوان كله. الأكمام
: يحتمل أن يكون جمع كم بالضم ، وهو ما يغطي ويلف النخل من الليف ، وبه شبّه كم
القميص ، أو يكون جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة (الْعَصْفِ) ورق الزرع وقيل : التبن (وَالرَّيْحانُ) قيل : هو الريحان المعروف ، وقيل : كل مشموم طيب الريح من
النبات ، وقيل : هو الرزق.
(فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الآلاء هي : النعم. واحدها إلى على وزن معي. وقيل :
__________________
ألى على وزن قضى
وقيل : ألي على وزن أمد أو على وزن حصر ، والخطاب للثقلين الإنس والجن بدليل قوله
: سنفرغ لكم أيها الثقلان. روي أن هذه الآية لما قرأها رسول صلىاللهعليهوسلم سكت أصحابه فقال : جواب الجن خير من سكوتكم. إني لما
قرأتها على الجن قالوا : لا نكذب بشيء من آلاء ربنا وكرر هذه الآية تأكيدا ومبالغة وقيل : إن كل موضع منها
يرجع إلى معنى الآية التي قبله فليس بتأكيد ، لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ
كَالْفَخَّارِ) الإنسان هو آدم ، والصلصال الطين اليابس ، فإذا طبخ فهو
فخار (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) الجان الجن يعني إبليس والد الجن ، والمارج اللهيب المضطرب
من النار (رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) يريد مشرق الشمس والقمر ومغرب الشمس والقمر. وقيل : مشرقي
الصيف والشتاء ومغربيهما (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيانِ) ذكر في الفرقان ، أي يلتقى ماء هذا وماء هذا ، وذلك إذ نزل
المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر ، وأما على القول بأن البحر
العذب هو الأنهار والعيون ، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر ، وأما على قول
من قال إن البحرين بحر فارس وبحر الروم ، أو بحر القلزم الأحمر واليمن فضعيف لقوله
في الفرقان [٥٣] (هذا عَذْبٌ فُراتٌ
وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وكل واحد من هذه أجاج ، والمراد بالبحرين في هذه السورة ما
أراد في الفرقان (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز يعني جرم الأرض ، أو حاجز من قدرة الله (لا يَبْغِيانِ) أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالاختلاط ، وقيل : لا يبغيان
على الناس بالفيض.
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) اللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان صغاره ، وقيل : بالعكس وقيل :
إن المرجان أحجار حمر ، قال ابن عطية : وهذا هو الصواب وأما قوله منهما ولا يخرج إلا من أحدهما ، فقد تكلمنا عليه
في فاطر.
(وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) يعني السفن وسماها منشآت لأن الناس ينشئونها ، وقرأ حمزة
وأبو بكر المنشئات بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ السير أو تنشئ
__________________
الموج ، والأعلام
الجبال شبه السفن بها (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) الضمير في عليها للأرض يدل على ذلك سياق الكلام وإن لم
يتقدم لها ذكر ، ويعني بمن عليها بني آدم وغيرهم من الحيوان ، ولكنه غلّب العقلاء (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) الوجه هنا عبارة عن الذات ، وذو الجلال صفة للذات لأن من
أسمائه تعالى الجليل ، ومعناه يقرب من معنى العظيم ، وأما وصفه بالإكرام فيحتمل أن
يكون بمعنى أنه يكرم عباده كما قال في الإسراء [٧] : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ) أو بمعنى أن عباده يكرمونه بتوحيده وتسبيحه وعبادته (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) المعنى أن كل من في السموات والأرض يسأل حاجته من الله ،
فمنهم من يسأله بلسان المقال ، وهم المؤمنون ، ومنهم من يسأله بلسان الحال لافتقار
الجميع إليه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) المعنى أنه تعالى يتصرف في ملكوته تصرفا يظهر في كل يوم من
العطاء والمنع ، والإماتة والإحياء وغير ذلك ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأها فقيل له وما ذلك الشأن ، قال من شأنه أن يغفر ذنبا
ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين وسئل بعضهم. كيف قال : كل يوم هو في شأن والقلم قد جف بما
هو كائن إلى يوم القيامة؟ فقال : هو في شأن يبديه لا في شأن يبتديه.
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ) معناه الوعيد كقولك لمن تهدده : سأفرغ لعقوبتك ، وليس
المراد التفرغ من شغل ، ويحتمل أن يريد انتهاء مدة الدنيا ، وإنه حينئذ ينقضي
شأنها ، فلا يبقى إلا شأن الآخرة فعبّر عن ذلك بالتفرغ. قال الإمام جعفر بن محمد :
سمى الإنس والجن ثقلين ، كأنهما ثقلا بالذنوب (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ
أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) هذا كلام يقال للجن والإنس يوم القيامة أي : إن قدرتم على
الهروب والخروج من أقطار السموات والأرض فافعلوا ، وروي أنهم يفرون يومئذ لما يرون
من أهوال القيامة فيجدون سبعة صفوف من الملائكة ، قد أحاطت بالأرض فيرجعون ، وقيل
: بل خوطبوا بذلك في الدنيا ؛ والمعنى : إن استطعتم الخروج عن قهر الله وقضائه
عليكم فافعلوا ، وقوله : فانفذوا أمر يراد به التعجيز (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة ، وليس لكم قوة (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ
وَنُحاسٌ) الشواظ لهيب النار ، والنحاس الدخان وقيل : هو الصفر يذاب
ويصب على رؤوسهم وقرئ شواظ بضم الشين
__________________
وابن كثير بكسرها
وهما لغتان وقرئ نحاس بالرفع على شواظ وبالخفض عطف على نار (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) جواب إذا قوله : فيومئذ وقال ابن عطية : جوابها محذوف (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) معنى وردة حمراء كالوردة ، وقيل : هو من الفرس الورد ، قال
قتادة السماء اليوم خضراء ويوم القيامة حمراء ، والدهان جمع دهن كالزيت وشبهه شبه
السماء يوم القيامة به لأنها تذاب من شدّة الهول ، وقيل : يشبه لمعانها بلمعان
الدهن ، وقيل : إن الدهان هو الجلد الأحمر (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) السؤال المنفي هنا هو على وجه الاستخبار وطلب المغفرة إذ
لا يحتاج إلى ذلك ، لأن المجرمين يعرفون بسيماهم ، ولأن أعمالهم معلومة عند الله
مكتوبة في صحائفهم ، وأما السؤال الثابت في قوله : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢]
وغيره ، فهو سؤال على وجه الحساب والتوبيخ ، فلا تعارض بين المنفي والمثبت وقيل :
إن ذلك باختلاف المواطن والأول أحسن.
(يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) يعني بعلامتهم وهي سواد الوجوه وغير ذلك ، والمجرمون هنا
الكفار بدليل قوله : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) قيل معناه : يؤخذ بعض الكفار بناصيته وبعضهم بقدميه ، وقيل
: بل يؤخذ كل واحد بناصيته وقدميه فيطوى ويطرح في النار (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ
آنٍ) الحميم الماء السخن ، والآن الشديد الحرارة ، وقيل :
الحاضر من قولك آن الشيء إذا حضر ، والأول أظهر (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) مقام ربه القيام بين يديه للحساب ، ومنه : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] ،
وقيل : قيام الله بأعماله ، ومنه : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ،
وقيل : معناه لمن خاف ربه وأقحم المقام ، كقولك : خفت جانب فلان. واختلف هل الجنتان
لكل خائف على انفراده؟ أو للصنف الخائف وذلك مبنى على قوله : لمن خاف مقام ربه هل
يراد به واحد أو جماعة؟ وقال الزمخشري : إنما قال جنتان ، لأنه خاطب الثقلين فكأنه
قال جنة للإنس وجنة للجن ، (ذَواتا أَفْنانٍ) ثنى ذات هنا على الأصل لأن أصله ذوات ، قاله ابن عطية ،
والأفنان جمع فنن وهو الغصن ، أو جمع فن
__________________
وهو الصنف من
الفواكه وغيرها (مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ
زَوْجانِ) أي نوعان (وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) الجنا هو ما يجتنى من الثمار ، ودان قريب ، وروي أن
الإنسان يجتنى الفاكهة في الجنة على أي حال كان ؛ من قيام أو قعود أو اضطجاع ؛
لأنها تتدلى له إذا أرادها وفي قوله جنا الجنتين ضرب من ضروب التجنيس (قاصِراتُ الطَّرْفِ) ذكر في الصافات [٤٨]
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) المعنى أنهن أبكار ، ولم يطمثهن معناه لم يفتضهن ، وقيل :
الطمث الجماع سواء كان لبكر أو غيرها ، ونفي أن يطمثهن إنس أو جان ، مبالغة وقصدا
للعموم ، فكأنه قال لم يطمثهن شيء ، وقيل : أراد لم يطمث نساء الإنس إنس ولم يطمث
نساء الجن جن ، وهذا القول يفيد بأن الجن يدخلون الجنة ويتلذذون فيها بما يتلذذ
البشر (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) شبه النساء بالياقوت والمرجان في الحمرة والجمال ، وقد
ذكرنا المرجان في أول السورة.
(هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) المعنى أن جزاء من أحسن بطاعة الله أن يحسن الله إليه
بالجنة ، ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه
يراك» ، وذلك هو مقام المراقبة والمشاهدة ، فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين ،
ويقوي هذا أنه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العلي ، وجعل جنتين
دونها لمن كان دون ذلك ، فالجنتان المذكورتان أولا للسابقين ، والجنتان المذكورتين
ثانيا بعد ذلك لأصحاب اليمين حسبما ورد في الواقعة ، وانظر كيف جعل أوصاف هاتين
الجنتين ، أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما فقال هنا : عينان تجريان وقال في
الآخرتين : عينان نضّاختان ، والجري أشد من النضخ وقال هنالك : من كل فاكهة زوجان
، وقال هنا فاكهة ونخل ورمان ، وكذلك صفة الحور هنا أبلغ من صفتها هنالك ، وكذلك
صفة البسط ويفسر ذلك قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : جنتان من ذهب آنيتهما وكل ما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما
وكل ما فيهما (مُدْهامَّتانِ) أي تضربان إلى السواد من شدة الخضرة (عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي تفوران بالماء والنضخ بالخاء المعجمة أشد من النضح
بالحاء المهملة (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) خص النخل
__________________
والرمان بالذكر
بعد دخولهما في الفاكهة تشريفا لهما ، وبيانا لفضلهما على سائر الفواكه. وهذا هو التجريد (خَيْراتٌ
حِسانٌ) خيرات جمع خيرة وقال الزمخشري وغيره : أصله خيرات بالتشديد
ثم خفف كميت وقرئ بالتشديد ، قالت أم سلمة يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى : (خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : خيرات الأخلاق حسان الوجوه (حُورٌ مَقْصُوراتٌ
فِي الْخِيامِ) الحور جمع حوراء والمقصورات المحجوبات ، لأن النساء يمدحن
بملازمة البيوت ويذممن بكثرة الخروج ، والخيام هي البيوت التي من الخشب والحشيش
ونحو ذلك ، وخيام الجنة من اللؤلؤ (مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ) الرفرف البسط ، وقيل الوسائد وقيل رياض الجنة (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقري الطنافس ، وقيل الزرابي [أي السجاد بلغة اليوم] ،
وقيل الديباج الغليظ ، وهو منسوب إلى عبقري وتزعم العرب أنه بلد الجن فإذا أعجبتها
شيء نسبته إليه (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ) ذكر تبارك في الفرقان وغيرها ، والاسم هنا يراد به المسمى
على الأظهر. وقرأ الجمهور ذي الجلال بالياء صفة لربك ، وقرأ ابن عامر بالواو صفة
للاسم ، وقد ذكر معنى ذي الجلال والإكرام.
__________________
سورة الواقعة
مكية إلا آيتي ٨١
و ٨٢ فمدنيتان وآياتها ٩٦ نزلت بعد طه
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
روى ابن مسعود أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبدا ولما حضرت ابن مسعود الوفاة قيل له ما تركت لبناتك ، قال :
تركت لهن سورة الواقعة (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) يعني إذا قامت القيامة فالواقعة اسم من أسماء القيامة ،
تدل على هولها كالطامة والصاخة وقيل : الواقعة الصيحة وهي النفخة في الصور (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) يحتمل ثلاثة أوجه : الأول أن تكون الكاذبة مصدر كالعافية
والمعنى ليس لها كذب ولا رد.
الثاني أن تكون
كاذبة صفة محذوف كأنه قال : ليس لها حالة كاذبة أي هي صادقة الوقوع ولا بدّ ، وهذا
المعنى قريب من الأول. الثالث أن يكون التقدير : ليس لها نفس كاذبة أي تكذيب في
إنكار البعث ، لأن كل نفس تؤمن حينئذ (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تقديره : هي خافضة رافعة ، فينبغي أن يوقف على ما قبله
لبيان المعنى ، والمراد بالخفض والرفع أنها تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما
إلى الجنة ، وقيل : ذلك عبارة عن هولها ، لأن السماء تنشق والأرض تتزلزل وتمر ،
والجبال تنسف فكأنها تخفض بعض هذه الأجرام وترفع بعضها (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا وإذا هنا بدل من إذا وقعت
ويحتمل أن يكون العامل فيه خافضة رافعة (وَبُسَّتِ الْجِبالُ
بَسًّا) أي فتت وقيل : سيرت (هَباءً مُنْبَثًّا) الهباء ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ، ولا تكاد
ترى إلا في الشمس إذا دخلت على كوّة قاله ابن عباس. وقال عليّ بن أبي طالب : هو ما
يتطاير من حوافر الدواب من التراب ، وقيل : ما تطاير من شرر النار ، فإذا طفى لم
يوجد شيئا والمنبث المتفرق.
(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً) هذا خطاب لجميع الناس لأنهم ينقسمون يوم القيامة إلى هذه
الأصناف الثلاثة : وهم السابقون ، وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فأما السابقون
فهم : أهل الدرجات العلى في الجنة ، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة ، وأما
أصحاب الشمال
__________________
فهم أهل النار (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ) هذا ابتداء خبر فيه معنى التعظيم ، كقولك : زيد ما زيد ،
والميمنة يحتمل أن تكون مشتقة من اليمن وهو ضد الشؤم ، وتكون المشأمة به مشتقة من
الشؤم أو تكون الميمنة من ناحية اليمين والمشأمة من ناحية الشمال ، واليد الشؤمى
هي الشمال ، وذلك لأن العرب تجعل الخير من اليمين ، والشر من الشمال ، أو لأن أهل
الجنة يحملون إلى جهة اليمين ، وأهل النار يحملون إلى جهة الشمال ، أو يكون من أخذ
الكتاب باليمين أو الشمال (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ) الأول مبتدأ والثاني خبره على وجه التعظيم كقولك : أنت أنت
أو على معنى أن السابقين إلى طاعة الله هم السابقون إلى الجنة ، وقيل : إن
السابقون الثاني صفة للأول أو تأكيد ، والخبر أولئك المقربون ، والأرجح أن يكون
الثاني خبر الأول لأنه في مقابلة قوله : أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، وأصحاب
المشأمة ما أصحاب المشأمة ، وعلى هذا يوقف على السابقون الثاني ويبتدئ بما بعده.
(ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) الثلة الجماعة من الناس ، فالمعنى أن السابقين من الأولين
أكثر من السابقين من الآخرين ، والأولون هم أول هذه الأمة والآخرون المتأخرون من
هذه الأمة ، والدليل على ذلك ما روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال الفرقتان في أمتي ، وذلك لأن صدر هذه الأمة خير ممن
بعدهم فكثر السابقون من السلف الصالح ، وقلوا بعد ذلك ويشهد لذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم وقيل إن الفرقتين في أمة كل نبيّ ، فالسابقون في كل أمة
يكثرون في أولها ويقلون في آخرها ، وقيل : إن الأولين هم من كان قبل هذه الأمة ،
والآخرين هم هذه الأمة ، فيقتضي هذا أن السابقين من الأمم المتقدمة أكثر من
السابقين من هذه الأمة وهذا بعيد ، وقيل إن السابقين يراد بهم الأنبياء ، لأنهم
كانوا في أول الزمان أكثر مما كانوا في آخره (عَلى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ) السرر جمع سرير والموضونة المنسوجة وقيل المشبكة بالدر
والياقوت ، وقيل معناه متواصلة قد أدنى بعضها من بعض (مُتَقابِلِينَ) أي وجوه بعضهم إلى بعض (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الولدان صغار الخدم ، والمخلدون الذين لا يموتون ، وقيل
المقرطون بالخلدات وهي ضرب من الاقراط ، والأول أظهر (بِأَكْوابٍ
وَأَبارِيقَ) الأكواب جمع كوب ، وهو الإناء وهو الذي لا أذن له ولا
خرطوم يمسك به ، والأباريق جمع إبريق وهو الإناء الذي له خرطوم أو أذن يمسك (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) ذكر في الصافات [٤٥]
(لا يُصَدَّعُونَ
عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي
__________________
لا يلحق رؤوسهم
الصداع الذي يصيب من خمر الدنيا ، وقيل لا يفرقون عنها فهو من الصدع وهو الفرقة ،
ومعنى لا ينزفون لا يسكرون (وَفاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ) قيل : يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها ، وقيل : مخيرة مرضية (وَحُورٌ عِينٌ) قدمنا معناه ، والقراءة بالرفع على تقدير فيها حور ، أو
عطف على الضمير في متكئين ، أو على ولدان وقرأ حمزة والكسائي حور بالخفض عطف على
المعنى كأنه قال : ينعمون بهذا كله وبحور عين ، وقيل : خفض على الجوار (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) شبههن باللؤلؤ في البياض ووصفه بالمكنون ؛ لأنه أبعد عن
تغيير حسنه ، وسألت أم سلمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن هذا التشبيه فقال : صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي
لا تمسه الأيدي (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) اللغو الكلام الساقط كالفحش وغيره ، والتأثيم مصدر بمعنى
لا يؤثم أحد هناك نفسه ولا غيره (إِلَّا قِيلاً
سَلاماً سَلاماً) انتصب سلاما على أنه بدل من قيلا أو صفة له أو مفعول به
لقيلا ، لأن معناه قولا ، ومعنى السلام على هذا التحية ، والمعنى أنهم يفشون
السلام فيسلمون سلاما بعد سلام ، ويحتمل أن يكون معناه السلامة ، فينتصب بفعل مضمر
تقديره اسلموا سلاما.
(وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) هذا مبتدأ وخبره قصد به التعظيم فيوقف عليه ، ويبتدأ بما
بعده ويحتمل أن يكون الخبر في سدر ، ويكون ما أصحاب اليمين اعتراضا ، والأول أحسن
، وكذلك إعراب أصحاب الشمال (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) السدر شجر معروف ، قال ابن عطية هو الذي يقال له شجر أم
غيلان النبق وهو كثير في بلاد المشرق وهي في بعض بلاد الأندلس دون بعض ، والمخضود
الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه ، وذلك أن سدر الدنيا له شوك ، فوصف سدر الجنة بضد
ذلك وقيل : المخضود هو الموقر الذي انثنت أغصانه من كثرة حمله ، فهو على هذا من
خضد الغصن إذا ثناه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطلح شجر عظيم كثير الشوك ، قاله ابن عطية وقال الزمخشري
هو شجر الموز ، وحكي ابن عطية هذا عن علي بن أبي طالب وابن عباس وقرأ علي بن أبي
طالب : وطلع منضود بالعين فقيل له إنما هو ، وطلح بالحاء فقال : ما للطلح والجنة
فقيل له أنصلحها في المصحف فقال : المصحف اليوم لا يغيّر ، والمنضود الذي تنضد
بالثمر من أعلاه إلى أسفله ، حتى لا يظهر له ساق (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي منبسط لا يزول لأنه لا تنسخه الشمس ، وقال رسول صلىاللهعليهوسلم إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.
اقرءوا إن شئتم وظل ممدود . (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) : أي مصبوب ، وذلك عبارة عن كثرته وقيل : المعنى
__________________
أنه جار في غير
أخاديد وقيل : المعنى أنه يجري من غير ساقية ولا دلو ولا تعب (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي لا ينقطع إبّانها كفاكهة الدنيا ، فإن شجر الجنة يثمر
في كل وقت ، ولا تمتنع ببعد تناولها ولا بغير ذلك من وجوه المنع (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) هي الأسرة ، وقد روي ارتفاع السرير منها مسيرة خمسمائة عام
وقيل : هي النساء وهذا بعيد (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَ) الضمير لنساء الجنة ، فإن سياق الكلام يقتضي ذلك ، وإن لم
يتقدم ذكرهن ، ولكن تقدّم ذكر الفرش وهي تدل على النساء وأما من قال : إن الفرش هي
النساء فالضمير عائد عليها وقيل : يعود على الحور العين المذكورة قبل هذا وذلك
بعيد ، فإن ذلك في وصف جنات السابقين ، وهذا في وصف جنات أصحاب اليمين ، ومعنى
إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقا آخر في غاية الحسن ، بخلاف
الدنيا فالعجوز ترجع شابة والقبيحة ترجع حسنة (فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً عُرُباً) جمع عروب وهي المتوددة إلى زوجها بإظهار محبته ، وعبّر
عنهن ابن عباس بأنهن العواشق لأزواجهن ، وقيل : هي الحسنة الكلام (أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي مستويات في السن مع أزواجهن ، وروي أنهن يكونون في سن
أبناء ثلاث وثلاثين عاما ولأصحاب اليمين يتعلق بقوله أنشأناهن على ما قاله
الزمخشري. ويحتمل أن يتعلق بأترابا ، وهذا هو الذي يقتضيه المعنى أي أترابا
لأزواجهن (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي جماعة من أول هذه الأمة وجماعة من آخرها ، وقد قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم الفرقتان من أمتي ، وفي ذلك رد على من قال إنهما من غير
هذه الأمة. وتأمل كيف جعل أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، بخلاف
السابقين فإنهم قليل في الآخرين وذلك لأن السابقين في أول هذه الأمة أكثر منهم في
آخرها لفضيلة السلف الصالح ، وأما أصحاب اليمين فكثير في أولها وآخرها.
(فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) السموم الحر الشديد والحميم الماء الحار جدّا واليحموم هو
الأسود وظل من يحموم هو الدخان في قول الجمهور ، وقيل : سرادق النار المحيط بأهلها
فإنه يرتفع من كل جهة حتى يظلهم وقيل : هو جبل في جهنم (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ
الْعَظِيمِ) معنى يصرون يدومون من غير إقلاع والحنث هو الإثم ، وقيل :
هو الشرك ، وقيل : هو الحنث في اليمين أو اليمين الغموس (أَإِذا مِتْنا) الآية معناها أنهم أنكروا البعث بعد الموت ، وقد ذكرنا
قراءة الاستفهامين في الرعد ، وآباؤنا في
الصافات (أَيُّهَا
الضَّالُّونَ) خطاب لكفار قريش وسائر الكفار (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) الضمير للمأكول (فَشارِبُونَ شُرْبَ) (الْهِيمِ) وزن الهيم فعل بضم الفاء ، وكسرت الهاء لأجل الياء وهو جمع
أهيم ، وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء. وهو داء معطش يشرب معه الجمل حتى
يموت أو يسقم ، والأنثى هيماء ، وقيل : جمع هائم وهائمة ، وقيل : الهيم الرمال
التي لا تروى من الماء ، وهو على هذا جمع هيام بفتح الهاء. وقرئ شرب بضم الشين واختلف هل هو مصدر أو اسم المشروب وقرئ بالفتح وهو مصدر
فإن قيل : كيف عطف قوله : فشاربون على شاربون ومعناهما واحد ، فالجواب أن المعنى
مختلف لأن الأول يقتضى الشرب مطلقا ، والآخر يقتضي الشرب الكثير المشبه لشرب الهيم
(هذا نُزُلُهُمْ) النزل أول ما يأكله الضيف فكأنه يقول : هذا أول عذابهم فما
ظنك بسائره (فَلَوْ لا
تُصَدِّقُونَ) تحضيض على التصديق إما بالخالق تعالى ، وإما بالبعث لأن
الخلقة الأولى دليل عليه.
(أَفَرَأَيْتُمْ ما
تُمْنُونَ) هذه الآية وما بعدها تتضمن إقامة براهين على الوحدانية ،
وعلى البعث وتتضمن أيضا وعيدا وتعديد نعم. ومعنى تمنون : تقذفون المني (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخالِقُونَ) هذا توقيف [سؤال] يقتضي أن يجيبوا عليه بأن الله هو الخالق
لا إله إلا هو (نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي جعلناه مقدرا بآجال معلومة وأعمار منها طويل وقصير
ومتوسط (وَما نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا
تَعْلَمُونَ) المسبوق على الشيء هو المغلوب عليه ؛ بحيث لا يقدر عليه
ونبدل أمثالكم : معناه نهلككم ونستبدل قوما غيركم ، وقيل : نمسخكم قردة وخنازير
وننشئكم معناه نبعثكم بعد هلاككم وفيما لا تعلمون معناه ننشئكم في خلقة لا
تعلمونها على وجه لا تصل عقولكم إلى فهمه. فمعنى الآية أن الله قادر على أن يهلكهم
وعلى أن يبعثهم ففيها تهديد واحتجاج [إقامة الحجة] على البعث (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) تحضيض على التذكير والاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة
الآخرة ، وفي هذا دليل على صحة القياس (أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) المراد بالزراعة هنا إنبات ما يزرع وتمام خلقته ، لأن ذلك
مما انفرد الله به ولا يدعيه غيره ، قال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا يقولنّ أحدكم زرعت ولكن يقول حرثت والمراد بالحرث قلب الأرض وإلقاء الزريعة فيها وقد يقال
لهذا زرع ومنه قوله (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) [الفتح : ٢٩] (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) الحطام اليابس المفتت وقيل : معناه تبن بلا قمح فظلتم
تفكهون أي : تطرحون الفاكهة وهي المسرة ، يقال : رجل فكه إذا كان مسرورا منبسط
النفس ويقال : تفكه إذا زالت عنه الفكاهة فصار حزينا ، لأن صيغة تفاعل تأتي لزوال
الشيء كقولهم : تحرج وتأثم إذا زال عنه الحرج والإثم. فالمعنى : صرتم تحزنون على
الزرع لو جعله الله حطاما. وقد عبر بعضهم عن تفكهون بأن معناه : تتفجعون وقيل :
تندمون وقيل : تعجبون وهذه معان متقاربة والأصل ما ذكرنا (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) تقديره : تقولون ذلك لو جعل الله زرعكم حطاما والمغرم
المعذب. لأن الغرام هو أشد العذاب ، ويحتمل أن يكون من الغرم أي مثقلون بما غرمنا
من النفقة على الزرع ، والمحروم الذي حرمه الله الخير.
(مِنَ الْمُزْنِ) هي السحاب ، والأجاج الشديد الملوحة ، فإن قيل : لم ثبتت
اللام في قوله لو نشاء لجعلناه حطاما وسقطت في قوله : لو نشاء جعلناه أجاجا؟
فالجواب من وجهين أحدهما أنه أغنى إثباتها أولا عن إثباتها ثانيا مع قرب الموضعين.
والآخر أن هذه اللام تدخل للتأكيد ، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب
للدلالة على أن الطعام أوكد من الشراب ، لأن الإنسان لا يشرب إلا بعد أن يأكل (النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي تقدحونها من الزناد ، والزناد قد يكون من حجرين ومن حجر
وحديدة ، ومن شجر وهو المرخ والعفار ولما كانت عادة العرب في زنادهم من شجر ، قال
الله تعالى (أَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أي الشجرة التي توقد النار منها. وقيل : أراد بالشجرة نفس
النار كأنه يقول : نوعها أو جنسها فاستعار الشجرة لذلك وهذا بعيد (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) أي تذكر بنار جهنم (وَمَتاعاً
لِلْمُقْوِينَ) المتاع ما يتمتع به ، ويحتمل المقوين أن يكون من الأرض
القواء وهي الفيافي ، ومعنى المقوين الذين دخلوا في القواء ، ولذلك عبر ابن عباس
عنه بالمسافرين ، ويحتمل أن يكون من قولهم : أقوى المنزل إذا خلا فمعناه الذين خلت
بطونهم أو موائدهم من الطعام ، ولذلك عبّر بعضهم عنه بالجائعين.
(فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ) لا في هذا الموضع وأمثاله زائدة ، وكأنها زيدت لتأكيد
القسم ، أو لاستفتاح الكلام نحو ألا. وقيل : هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول : لا
صحة
__________________
لما يقول الكفار
وهذا ضعيف والأول حسن ، لأن زيادة لا كثيرة معروفة في كلام العرب ، ومواقع النجوم
فيه قولان : أحدهما قال ابن عباس : إنها نجوم القرآن إذ نزل على النبي صلىاللهعليهوسلم مقطعا بطول عشرين سنة فكل قطعة منه نجم والآخر قول كثير من
المفسرين : أن النجوم الكواكب ومواقعها مغاربها ومساقطها ، وقيل : مواضعها من
السماء وقيل : انكدارها يوم القيامة. (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) هذه جملة اعتراض بين القسم وجوابه ، وقوله : لو تعلمون
اعتراض بين الموصوف وصفته فهو اعتراض في اعتراض ، والمقصود بذلك تعظيم المقسم به
وهو مواقع النجوم وجواب القسم : إنه لقرآن كريم وأعاد الضمير على القرآن لأن
المعنى يقتضيه ، أو لأنه مذكور على قول من قال إن مواقع النجوم نزول القرآن (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مصون ، والمراد بهذا الكتاب المكنون المصاحف التي كتب
فيها القرآن ، أو صحف القرآن التي بأيدي الملائكة عليهمالسلام.
(لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ) الضمير يعود على الكتاب المكنون ، ويحتمل أن يعود على
القرآن المذكور قبله إلا أن هذا ضعيف لوجهين أحدهما : أن مسّ الكتاب حقيقة ومس
القرآن مجاز ، والحقيقة أولى من المجاز والآخر أن الكتاب أقرب والضمير يعود على
أقرب مذكور فإذا قلنا : إنه يعود على الكتاب المكنون فإن قلنا إن الكتاب المكنون
هو الصحف التي بأيدي الملائكة ، فالمطهرون يراد بهم الملائكة ، لأنهم مطهرون من
الذنوب والعيوب والآية إخبار بأنه لا يمسه إلا هم دون غيرهم ، وإن قلنا إن الكتاب
المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس ، فيحتمل أن يريد بالمطهرين المسلمين ، لأنهم
مطهرون من الكفر أو يريد المطهرين من الحدث الأكبر ، وهي الجنابة أو الحيض ،
فالطهارة على هذا الاغتسال أو المطهرين من الحدث الأصغر ، فالطهارة على هذا الوضوء
ويحتمل أن يكون قوله : لا يمسه خبرا أو نهيا. على أنه قد أنكر بعض الناس أن يكون
نهيا وقال لو كان نهيا لكان بفتح السين. وقال المحققون : إن النهي يصح مع ضم السين
لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوما أو اتصل به ضمير المفرد المذكر ضمّ عند التقاء
الساكنين اتباعا لحركة الضمير ، وإذا جعلناه خبرا فيحتمل أن يقصد به مجرد الإخبار
، أو يكون خبرا بمعنى النهي. وإذا كان لمجرّد الإخبار فالمعنى أنه : لا ينبغي أن
يمسه إلا المطهرون. أي هذا حقه وإن وقع خلاف ذلك واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مس
المصحف على حسب الاحتمالات في الآية ، فأجمعوا على أنه لا يجوز أن يمسه كافر ؛
لأنه إن أراد بالمطهرين المسلمين ، فذلك طاهر ؛ وإن أراد الطهارة من الحدث
فالإسلام حاصل مع ذلك. وأما الحدث ففيه ثلاثة أقوال : الأول أنه لا يجوز أن يمسه
الجنب ولا الحائض ولا المحدث حدثا أصغر وهو قول مالك وأصحابه ، ومنعوا أيضا أن
يحمله بعلاقة أو وسادة. وحجتهم الآية على أن يراد بالمطهرين الطهارة من الحدث
الأكبر والأصغر. وقد احتج مالك في الموطأ بالآية على المسألة. ومن
حجتهم أيضا كتاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عمرو بن حزم «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» ، الثاني أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدث حدثا أصغر
وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية وحملوا المطهرون على أنهم المسلمون والملائكة أو
جعلوا لا يمسه لمجرد الإخبار ، والقول الثالث أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون
الأكبر ، ورخص مالك في مسه على غير وضوء للمعلم والصبيان ، لأجل المشقة. واختلفوا
في قراءة الجنب للقرآن فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقا ، وأجازه الظاهرية مطلقا ،
وأجاز مالك قراءة الآية اليسيرة. واختلف في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظهر
قلب فعن مالك في ذلك روايتان ، وفرق بعضهم بين اليسير والكثير.
(أَفَبِهذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) هذا خطاب للكفار ، والحديث المشار إليه هو القرآن ،
ومدهنون معناه متهاونون ، وأصله من المداهنة وهي لين الجانب والموافقة بالظاهر لا
بالباطن قال ابن عباس معناه مكذبون (وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال ابن عطية :
أجمع المفسرون على
أن الآية توبيخ للقائلين في المطر إنه نزل بنوء كذا وكذا ، والمعنى تجعلون شكر
رزقكم التكذيب ، فحذف شكر أنكم تكذبون وكذلك قرأ ابن عباس إلا أنه قرأ تكذّبون بضم
التاء والتشديد كقراءة الجماعة وقراءة علي بفتح التاء وإسكان الكاف من الكذب أي
يكذبون في قولهم : نزل المطر بنوء كذا ومن هذا المعنى قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله تعالى يقول أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب
وكافر بي مؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر
بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكوكب كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» . والمنهي عنه في هذا الباب أن يعتقد أن للكوكب تأثيرا في
المطر ، وأما مراعاة العوائد التي أجراها الله تعالى فلا بأس به لقوله صلىاللهعليهوسلم : إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة ، وقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء : كم بقي من نوء
الثريا فقال العباس : العلماء يقولون إنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا ، قال
ابن الطيب : فما مضت سبع حتى مطروا ، وقيل : إن معنى الآية تجعلون سبب رزقكم
تكذيبكم للنبي صلىاللهعليهوسلم فإنهم كانوا يقولون : إن آمنا به حرمنا الله الرزق ،
كقولهم : (إِنْ نَتَّبِعِ
الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧]
فأنكر الله عليهم ذلك. وإعراب أنكم على هذا القول مفعول بتجعلون على حذف مضاف
تقديره : تجعلون
__________________
سبب رزقكم التكذيب
، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله تقديره : تجعلون رزقكم حاصلا من أجل أنكم تكذبون
، وأما على القول الأول فإعراب أنكم تكذبون مفعول لا غير.
(فَلَوْ لا إِذا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) لو لا هنا عرض والضمير في بلغت للنفس ، لأن سياق الكلام
يقتضي ذلك وبلوغها للحلقوم حين الموت ، والفعل الذي دخلت عليه لو لا هو قوله
ترجعونها أي : هلا رددتم النفس حين الموت ، ومعنى الآية احتجاج على البشر وإظهار
لعجزهم لأنهم إذا حضر أحدهم الموت لم يقدروا أن يردوا روحه إلى جسده ، وذلك دليل
على أنهم عبيد مقهورون (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ) هذا خطاب لمن يحضر الميت من أقاربه وغيرهم ، يعني تنظرون
إليه ولا تقدرون له على شيء (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ) يحتمل أن يريد قرب نفسه تعالى بعلمه واطلاعه ، أو قرب
الملائكة الذين يقبضون الأرواح ، فيكون من قرب المسافة (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) إن أراد بقوله نحن أقرب الملائكة فقوله : لا تبصرون من
رؤية العين ، وإن أراد نفسه تعالى فهو من رؤية القلب (فَلَوْ لا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لو لا هنا عرض كالأولى وكررت للتأكيد والبيان لما طال
الكلام ، والفعل الذي دخلت عليه لو لا الأولى والثانية قوله ترجعونها أي : هلا
رددتم النفس إلى الجسد إذا بلغت الحلقوم ؛ إن كنتم غير مدينين ، وغير مربوبين
ومقهورين ، فافعلوا ذلك إن كنتم صادقين في كفركم. وترتيب الكلام : فلو لا ترجعون
النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فارجعوا إن كنتم صادقين (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) الضمير في كان للمتوفي وكرر هنا ما ذكره في أول السورة من
تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فالمراد بالمقربين
هنا السابقون المذكورون هناك (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) الروح الاستراحة وقيل : الرحمة روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ فروح بضم الراء ومعناه الرحمة وقيل : الخلود أي بقاء
الروح وأما الريحان فقيل : إنه الرزق وقيل : الاستراحة وقيل : الطيب وقيل الريحان
المعروف وفي قوله : روح وريحان ضرب من ضروب التجنيس.
(فَسَلامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ) معنى هذا على الجملة نجاة أصحاب اليمين وسعادتهم ، والسلام
هنا يحتمل أن يكون بمعنى السلامة أو التحية ، والخطاب في ذلك يحتمل أن يكون للنبي صلىاللهعليهوسلم أو لأحد من أصحاب اليمين ؛ فإن كان للنبي صلىاللهعليهوسلم فالسلام بمعنى السلامة والمعنى : سلام لك يا محمد منهم أي
لا ترى منهم إلا السلامة من العذاب ، وإن كان الخطاب لأحد من أصحاب اليمين فالسلام
بمعنى التحية والمعنى : سلام لك أي تحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك ، وهم أصحاب
اليمين ، أي يسلمون عليك فهو كقوله : إلا قيلا سلاما سلاما ، أو يكون بمعنى
السلامة والتقدير : سلامة لك يا صاحب اليمين ، ثم
يكون قوله : من
أصحاب اليمين خبر ابتداء مضمر تقديره أنت من أصحاب اليمين (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) يعني الكفار وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) النزل أول شيء يقدّم للضيف (إِنَّ هذا لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ) الإشارة إلى ما تضمنته هذه السورة من أحوال الخلق في
الآخرة ، وحق اليقين معناه : الثابت من اليقين ، وقيل : إن الحق واليقين بمعنى واحد
، فهو من إضافة الشيء إلى نفسه كقوله : مسجد الجامع ، واختار ابن عطية أن يكون
كقولك في أمر تؤكده : هذا يقين اليقين أو صواب الصواب ، بمعنى أنه نهاية الصواب (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال عليهالسلام :
اجعلوها في سجودكم
، فلذلك استحب مالك وغيره أن يقول في السجود سبحان ربي الأعلى وفي الركوع سبحان
ربي العظيم وأوجبه الظاهرية ، ويحتمل أن يكون المعنى تسبيح الله بذكر أسمائه ،
والاسم هنا جنس الأسماء والتعظيم صفة للرب أو يكون الاسم هنا واحدا والعظيم صفة له
، وكأنه أمره أن يسبح بالاسم الأعظم. ويؤيد هذا ويشير إليه اتصال سورة الحديد بها
وفي أولها التسبيح وجملة من أسماء الله وصفاته ، قال ابن عباس : اسم الله العظيم
الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد ، وروي أن الدعاء عند قراءتها مستجاب.
سورة الحديد
مدنية وآياتها ٢٩
نزلت بعد الزلزلة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا التسبيح المذكور هنا وفي أوائل سائر السور المسبحات
يحتمل أن يكون حقيقة ، أو أن يكون بلسان الحال ؛ لأن كل ما في السموات والأرض دليل
على وجود الله وقدرته ، وحكمته ، والأول أرجح لقوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ،
وذكر التسبيح هنا وفي الحشر والصف بلفظ سبح الماضي ، وفي الجمعة والتغابن بلفظ
يسبح المضارع ، وكل واحد منهما يقتضي الدوام (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ) أي ليس لوجوده بداية ولا لبقائه نهاية (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أي الظاهر للعقول بالأدلة ، والبراهين الدالة على الباطن ،
الذي لا تدركه الأبصار ، أو الباطن الذي لا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته ، وقيل
: الظاهر : العالي على كل شيء فهو من قولك : ظهرت على الشيء إذا علوت عليه ،
والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه ، والأول أظهر وأرجح. ودخلت الواو بين هذه
الصفات لتدل على أنه تعالى جامع لها ، مع اختلاف معانيها ، وفي ذلك مطابقة لفظية ،
وهي من أحسن أدوات البيان (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) قد ذكر في الأعراف [٥٣] وكذلك ما بعده (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) يعني أنه حاضر مع كل أحد بعلمه وإحاطته. وأجمع العلماء على
تأويل هذه الآية بذلك (يُولِجُ اللَّيْلَ) ذكر في الحج ولقمان [٢٩]
(وَأَنْفِقُوا مِمَّا
جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) يعني الإنفاق في سبيل الله وطاعته ، وروي أنها نزلت في
الإنفاق في غزوة تبوك ، وعلى هذا روي أن قوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فإنه جهز جيش العسرة
يومئذ ،
ولفظ الآية مع ذلك
عام وحكمها باق لجميع الناس ، وقوله مستخلفين فيه يعني أن الأموال التي بأيديكم
إنما هي أموال الله ؛ لأنه خلقها ، ولكنه متّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها ،
فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها
فيه ، ويحتمل أن يكون جعلكم مستخلفين عمن كان قبلكم فورثتم عنه الأموال ، فأنفقوها
قبل أن تخلفوها لمن بعدكم ، كما خلفها لكم من كان قبلكم ، والمقصود على كل وجه :
تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا (وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) معناه أي شيء يمنعكم من الإيمان ، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين
القاطعة والمعجزات الظاهرة؟ فقوله : ما لكم استفهام يراد به الإنكار. ولا تؤمنون
في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم. في قوله والرسول يدعوكم واو
الحال (وَقَدْ أَخَذَ
مِيثاقَكُمْ) يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما جعل في العقول من النظر الذي
يؤدي إلى الإيمان ، أو يكون الميثاق الذي أخذه على بني آدم ؛ حين أخرجهم من ظهر
آدم ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا : بلى.
(هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ) يعني سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ،
والعبودية هنا للتشريف والاختصاص ، والآيات هنا القرآن (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) الآية : معناه أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟
والله يرث ما في السموات والأرض إذا فني أهلها. ففي ذلك تحريض على الإنفاق وتزهيد
في الدنيا (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) الفتح هنا فتح مكة ، وقيل : صلح الحديبية ، والأول أظهر
وأشهر ، ومعنى الآية التفاوت في الأجر والدرجات ؛ بين من أنفق في سبيل الله وقاتل
قبل فتح مكة ، وبين من أنفق وقاتل بعد ذلك ، فإن الإسلام قبل الفتح كان ضعيفا ،
والحاجة إلى الانفاق والقتال كانت أشد ، ويؤخذ من الآية أن من أنفق في شدة أعظم
أجرا ممن أنفق في حال الرخاء ، وفي الآية حذف دل عليه الكلام تقديره : لا يستوي
منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. ثم حذف ذلك
لدلالة قوله : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وفي هذا المعنى قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ
أحدهم ولا نصيفه ، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخاطب بذلك
من جاء بعدهم من سائر الصحابة ، ويدخل في الخطاب كل من يأتي إلى يوم القيامة (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي
__________________
كل واحدة من
الطائفتين الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح وبعده ؛ وعدهم الله الجنة.
(مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ذكر في [البقرة : ٢٤٥] (يَوْمَ تَرَى) العامل في الظرف أجر كريم أو تقدير اذكر (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ) قيل : إن هذا النور استعارة يراد به الهدى والرضوان ،
والصحيح هو قول الجمهور أنه حقيقة ، وقد روي ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فالمعنى على هذا أن المؤمنين يكون لهم يوم القيامة نور
يضيء قدّامهم وعن يمين كل واحد منهم. وقيل : يكون أصله في إيمانهم يحملونه فينبسط
نوره قدامهم ، وروي أن نور كل أحد على قدر إيمانه ، فمنهم من يكون نوره كالنخلة ،
ومنهم من يضيء ما قرب من قدميه ، ومنهم من يضيء مرة ويهمّ بالإطفاء مرة ، قال ابن
عطية : ومن هذه الآية أخذ الناس مشي المعتق بالشمعة قدّام معتقه إذا مات (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي يقال لهم ذلك.
(يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ) يوم بدل من يوم ترى أو متعلق بالفوز العظيم ، أو بمحذوف :
تقديره اذكر ومعنى الآية : أن كل مؤمن مظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيبقى
نور المؤمنين وينطفئ نور المنافقين ، فيقول المنافقون للمؤمنين ، انظرونا نقتبس من
نوركم أي نأخذ منه ونستضيء به. ومعنى انظرونا : انتظرونا. وذلك لأن المؤمنين
يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف ، والمنافقون ليسوا كذلك. ويحتمل أن يكون من النظر
أي انظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فاستضاءوا بنورهم.
ولكن يضعف هذا لأن نظر إذا كان بمعنى النظر بالعين يتعدى بإلى ، وقرئ أنظرونا بهمزة قطع ومعناه أخرونا أي أمهلونا في مشيكم حتى نلحقكم (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُوراً) يحتمل أن يكون هذا من قول المؤمنين ، أو قول الملائكة
ومعناه الطرد للمنافقين ، والتهكم بهم ؛ لأنهم قد علموا أن ليس وراءهم نور ،
ووراءكم ظرف العامل فيه ارجعوا وقيل : إنه لا موضع له من الإعراب ، وأنه كما لو
قال : ارجعوا ومعنى هذا الرجوع ، ارجعوا إلى الموقف فالتمسوا فيه النور ، أو
ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل الإيمان أو ارجعوا خائبين ، وتنحوا عنا
فالتمسوا نورا آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بابٌ) أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصل بينهم ، وفي ذلك
السور باب لأهل الجنة يدخلون منه وقيل : إن هذا السور هو الأعراف وهو سور بين
الجنة والنار. وقيل : هو الجدار الشرقي من بيت المقدس وهذا بعيد
__________________
(باطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) باطنه هو جهة المؤمنين ، وظاهره هو جهة المنافقين وهي
خارجه. كقوله ظاهر المدينة أي خارجها. والضمير في باطنه وظاهره يحتمل أن يكون
للسور أو للباب والأول أظهر (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم : ألم نكن معكم
في الدنيا؟ يريدون إظهارهم الإيمان (فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ) أي أهلكتموها وأضللتموها بالنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي أبطأتم بإيمانكم وقيل : تربصتم الدوائر بالنبي صلىاللهعليهوسلم وبالمسلمين (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في الإيمان (وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمانِيُ) أي طول الأمل والتمني ، ومن ذلك أنهم كانوا يتمنون أن يهلك
النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، أو يهزمون إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي الفتح وظهور الإسلام ، أو موت المنافقين على الحال
الموجبة للعذاب (الْغَرُورُ) هو الشيطان (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي هي أولى بكم ، وحقيقة المولى الولي الناصر ، فكان هذا
استعارة منه ، أي لا وليّ لكم تأوون إليه إلا النار.
(أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) معنى ألم يأن : ألم يحن. يقال : أنى الأمر إذا حان وقته ،
وذكر الله يحتمل أن يريد به القرآن أو الذكر ، أو التذكير بالمواعظ وهذه آية موعظة
وتذكير قال ابن عباس : عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن
، وسمع الفضيل بن عياض قارئا يقرأ هذه الآية فقال : قد آن فكان سبب رجوعه إلى
الله. وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية
فكسره ابن المبارك ، وتاب إلى الله (وَلا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) عطف ولا يكونوا على أن تخشع ويحتمل أن يكون نهيا ، والمراد
التحذير من أن يكون المؤمنون كأهل الكتب المتقدمة وهم اليهود والنصارى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي مدة الحياة وقيل : انتظار القيامة ، وقيل : انتظار
الفتح والأول أظهر (اعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يحييها بإنزال المطر وإخراج النبات ، وقيل : إنه تمثيل
للقلوب أي : يحيى الله القلوب بالمواعظ كما يحيى الأرض بالمطر ، وفي هذا تأنيس
للمؤمنين الذين ندبوا إلى أن تخشع قلوبهم ، والأول أظهر وأرجح لأنه الحقيقة.
(إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) بتشديد الصاد من الصدقة وأصله المتصدقين ، وكذلك
__________________
قرأ أبيّ بن كعب
وقرأ بالتخفيف من التصديق ، أي صدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام ، (وَأَقْرَضُوا اللهَ) معطوف على المعنى ، كأنه قال إن الذين تصدقوا وأقرضوا ،
وقد ذكرنا معنى أقرضوا في قوله : من ذا الذي يقرض الله (الصِّدِّيقُونَ) مبالغة من الصدق أو من التصديق ، وكونه من الصدق أرجح ؛
لأن صيغة فعّيل لا تبنى إلا من فعل ثلاثي في الأكثر ، وقد حكي بناؤها من رباعي
كقولهم : رجل مسّيك من أمسك (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) يحتمل أن يكون الشهداء مبتدأ وخبره ما بعده ، أو يكون
معطوفا على الصديقين ، فإن كان مبتدأ ففي المعنى قولان : أحدهما أنه جمع شهيد في
سبيل الله فأخبر أنهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والآخر أنه جمع شاهد ، ويراد به
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأنهم يشهدون على قومهم ، وإن كان معطوفا ففي
المعنى قولان ، أحدهما : أنه جمع شهيد فوصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء :
أي جمعوا الوصفين ، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : مؤمنو أمتي شهداء وتلا هذه الآية ، والآخر أنه جمع شاهد ، لأن المؤمنين
يشهدون على الناس كقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) هذا خبر عن الشهداء خاصة إن كان مبتدأ ، أو خبر عن
المؤمنين إن كان الشهداء معطوفا ، ونورهم هو النور الذي يكون لهم يوم القيامة ،
حسبما ذكره في هذه السورة ، وقيل : هو عبارة عن الهدى والإيمان ، (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ) الآية معناها تشبيه الدنيا بالزرع الذي ينبته الغيث في
سرعة تغيره بعد حسنه ، وتحطمه بعد ظهوره والكفّار هنا يراد به الزراع فهو من قوله
: كفرت الحبّ إذا سترته تحت الأرض : وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالزرع والفلاحة
، فلا يعجبهم إلا ما هو حقيق أن يعجب ، وقيل : أراد الكفار بالله وخصهم بالذكر ؛
لأنهم أشد إعجابا بالدنيا وأكثر حرصا عليها.
(سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سابقوا إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة ، فقيل :
المعنى كونوا في أول صف من القتال ، وقيل : احضروا تكبيرة الإحرام مع الإمام ،
وقيل : كونوا أول داخل إلى المسجد ، وأول خارج منه وهذه أمثلة ، والمعنى العام : المسابقة
إلى جميع الأعمال الصالحات ، وقد استدل بها قوم على أن الصلاة في أول الوقت
__________________
أفضل (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) السماء هنا يراد به جنس السموات بدليل قوله في آل عمران
[١٣٣] ، وقد ذكرنا هناك معنى عرضها (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها) المعنى أن الأمور كلها مقدرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من
قبل أن تكون ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض
بخمسين ألف سنة» وعرشه على الماء ، والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يصيب من
خير أو شر ، وقيل : أراد به المصيبة في العرف وهو ما يصيب من الشر ، وخص ذلك
بالذكر لأنه أهم على الناس ، وفي الأرض يعني القحوط والزلازل وغير ذلك ، وفي
أنفسكم يعني الموت ، والفقر ، وغير ذلك ونبرأها معناه : نخلقها والضمير يعود على
المصيبة أو على أنفسكم أو على الأرض ، وقيل : يعود على جميعها لأن المعنى صحيح في
كلها (لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) المعنى فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تتأسفوا على ما
فاتكم ، ومعنى لا تأسوا : لا تحزنوا أي فلا تحزنوا على ما فاتكم منها ولا تفرحوا
فيها ، وقرأ الجمهور بما آتاكم بالمدّ أي بما أعطاكم الله من الدنيا ، وقرأ أبو
عمرو بما أتاكم بالقصر أي بما جاءكم من الدنيا فإن قيل : إن الإنسان لا يملك نفسه
أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أتي بمال كثير
؛ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا ، فالجواب : أن النهي عن الفرح
إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان ، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم
(كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ) المختال صاحب الخيلاء ، والفخور شديد الفخر على الناس (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بدل من كل مختال فخور أو خبر ابتداء مضمر تقديره : هم
الذين أو منصوب بإضمار : أعني أو مبتدأ وخبره محذوف (وَأَنْزَلْنا
مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) الكتاب هنا جنس الكتب والميزان العدل وقيل : الميزان الذي
يوزن به ، وروي أن جبريل نزل بالميزان ودفعه إلى نوح وقال له : مر قومك يزنوا به (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) خبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال وقيل : بل أنزله حقيقة ، لأن
آدم نزل من الجنة ومعه المطرقة والإبرة (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يعني أنه يعمل منه سلاح
__________________
للقتال ولذلك قال
: وليعلم الله من ينصره ورسله والمنافع للناس : سكك الحرث والمسامير وغير ذلك (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ) أي من ذرية نوح وإبراهيم مهتدون قليلون ، وأكثرهم فاسقون
لأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم.
(وَقَفَّيْنا) ذكر في البقرة [٨٧]
(وَجَعَلْنا فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) هذا ثناء عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف أصحاب سيدنا
محمد صلىاللهعليهوسلم ، بأنهم رحماء بينهم (وَرَهْبانِيَّةً
ابْتَدَعُوها) الرهبانية هي الانفراد في الجبال ، والانقطاع عن الناس في
الصوامع ، ورفض النساء وترك الدنيا ، ومعنى ابتدعوها أي أحدثوها من غير أن يشرعها
الله لهم ، وإعراب رهبانية معطوف على رأفة ورحمة أي جعل الله في قلوبهم الرأفة
والرحمة والرهبانية ، وابتدعوها صفة للرهبانية ، والجعل هنا بمعنى الخلق.
والمعتزلة يعربون رهبانية مفعولا بفعل مضمر يفسره ابتدعوها ؛ لأن مذهبهم أن
الإنسان يخلق أفعاله ، فأعربوها على مذهبهم ، وكذلك أعربها أبو علي الفارسي وذكر
الزمخشري الوجهين (ما كَتَبْناها
عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) كتبنا هنا بمعنى ، فرضنا وشرعنا وفي هذا قولان : أحدهما أن
الاستثناء منقطع ، والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء
أنفسهم ، ابتغاء رضوان الله ، والآخر أن الاستئناف متصل والمعنى كتبناها عليهم
ابتغاء رضوان الله والأول أرجح لقوله «ابتدعوها» ولقراءة عبد الله بن مسعود : ما
كتبناها عليهم لكن ابتدعوها (فَما رَعَوْها حَقَّ
رِعايَتِها) أي لم يدوموا عليها ، ولم يحافظوا على الوفاء بها ، يعني
أن جميعهم لم يرعوها وإن رعاها بعضهم. والضمير في رعوها للذين ابتدعوا الرهبانية
وكان يجب عليهم إتمامها ، وإن لم يكتبها الله سبحانه وتعالى عليهم ، لأن من دخل في
شيء من النوافل يجب عليه إتمامه وقيل : الضمير لمن جاء بعد الذين ابتدعوا
الرهبانية من أتباعهم.
(وَآمِنُوا
بِرَسُولِهِ) إن قيل : كيف خاطب الذين آمنوا وأمرهم بالإيمان وتحصيل
الحاصل لا ينبغي؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أن معنى آمنوا دوموا على الإيمان
وأثبتوا عليه ، والآخر أنه خطاب لأهل الكتاب فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى
وعيسى آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويؤيد هذا قوله : يؤتكم كفلين من رحمته أي نصيبين ، وقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه
وآمن بي الحديث (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يحتمل أن يريد النور
__________________
الذي يسعى بين
أيدي المؤمنين يوم القيامة ، أو يكون عبارة عن الهدى ويؤيد الأول أنه مذكور في هذه
السورة ، ويؤيد الثاني قوله : وجعلنا له نورا يمشي به في الناس (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ
أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) لا في قوله لئلا زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب وكذلك
قرأها ابن عباس وقرأ ابن مسعود لكيلا يعلم ، والمعنى : إن كان الخطاب لأهل الكتاب
: يا أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أن لا يقدروا على شيء
من فضل الله الذي وعد من آمن منكم ، وهو تضعيف الأجر والنور والمغفرة ، لأنهم لم
يسلموا ، فلم ينالوا شيئا ، من ذلك ، وإن كان الخطاب للمسلمين ، فالمعنى : ليعلم
أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أنهم لا يقدرون أن ينالوا شيئا مما أعطى الله المسلمين
من تضعيف الأجر والنور والمغفرة ، وقد روي في سبب نزول الآية : أن اليهود افتخرت
على المسلمين فنزلت الآية في الرد عليهم ، وهو يقوي هذا القول ، وروي أيضا أن
سببها أن الذين أسلموا من أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المسلمين بأنهم يؤتيهم
الله أجرهم مرتين فنزلت الآية معلمة أن المسلمين مثلهم في ذلك.
سورة المجادلة
مدنية وآياتها ٢٢
نزلت بعد المنافقون
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) نزلت الآية في خولة بنت حكيم ، وقيل خولة بنت ثعلبة ، وقيل
خولة بنت خويلد ، وقيل : اسمها جميلة وكانت امرأة أوس بن الصامت الأنصاري أخي
عبادة بن الصامت. فظاهر منها ، وكان الظهار في الجاهلية يوجب تحريما مؤبدا ، فلما
فعل أوس ذلك جاءت امرأته إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله إن أوسا أكل شبابي ونثرت له بطني ،
فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما رأيتك إلا قد حرمت عليه ، فقالت يا رسول الله لا تفعل
إني وحيدة ، ليس لي أهل سواه ، فراجعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها (وَتَشْتَكِي إِلَى
اللهِ) كانت تقول اللهم : إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفقري ،
وروي أنها كانت تقول : اللهم إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا ، وإن
ضممتهم إليه ضاعوا (وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما) المحاورة هي المراجعة في الكلام قالت عائشة رضي الله عنها
: سبحان من وسع سمعه الأصوات ، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي وسمع
الله كلامها ، ونزل القرآن في ذلك فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
إلى زوجها وقال له : أتعتق رقبة؟ ، فقال : والله ما أملكها. فقال : أتصوم شهرين
متتابعين؟ ، فقال والله ، ما أقدر ، فقال له : أتطعم ستين مسكينا؟ فقال لا أجد إلا
أن يعينني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمعونة وصلاة ، يريد الدعاء فأعانه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخمسة عشر صاعا. وقيل : بثلاثين صاعا ودعا له ، فكفّر
بالإطعام وأمسك زوجته.
(الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) قرئ يظاهرون بألف بعد الظاء وبحذفها
__________________
وبالتشديد
والتخفيف والمعنى واحد وهو إيقاع الظهار ، والظهار المجمع عليه هو أن يقول الرجل
لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأة
محرّمة على التأبيد ، كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب ، والمحرمات بالرضاع
والمصاهرة ، سواء ذكر لفظ الظهر أو لم يذكره كقوله : أنت علي كأمي أو كبطن أمي أو
يدها أو رجلها خلافا للشافعي فإن ذلك كله عنده ليس بظهار. لأنه وقف عند لفظ الآية
وقاس مالك عليها لأنه رأى أن المقصد تشبيه حلال بحرام (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ردّ الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة ،
وأخبر تعالى : أن تصير الزوجة أمّا باطل ، فإن الأم في الحقيقة إنما هي الوالدة (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً
مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور ، فالمنكر هو الذي لا تعرف
له حقيقة ، والزور هو الكذب. وإنما جعله كذبا لأن المظاهر يصيّر امرأته كأمه. وهي
لا تصير كذلك أبدا. والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء أحدها قوله تعالى :
ما هن أمهاتهم فإن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني أنه سماه منكرا والثالث أنه سماه
زورا والرابع قوله : (وَإِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فإن العفو والمغفرة لا تقع إلا عن ذنب وهو مع ذلك لازم
للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) جعل الله الكفارة في الظهار على ثلاثة أنواع مرتبة لا ينتقل إلى الثاني حتى يعجز عن
الأول ولا ينتقل إلى الثالث حتى يعجز عن الثاني فالأول تحرير رقبة والثاني صيام
شهرين متتابعين والثالث إطعام ستين مسكينا والطعام يكون من غالب قوت البلد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) مذهب مالك والجمهور أن المسيس هنا يراد به الوطء وما دونه
من اللمس والتقبيل فلا يجوز للمظاهر أن يفعل شيئا من ذلك حتى يكفر ، (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا) قال ابن عطية : الإشارة إلى الرخصة في النقل من التحرير إلى
الصوم وقال الزمخشري : المعنى : ذلك البيان والتعليم لتؤمنوا ، وهذا أظهر لأنه
أعم.
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ) أي يخالفون ويعادون (كُبِتُوا) أي هلكوا وقيل : لعنوا وقيل : كبت الرجل إذا بقي خزيان
ونزلت الآية في المنافقين واليهود (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى
ثَلاثَةٍ) يحتمل أن يكون النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي ، فيكون
ثلاثة مضاف إليه بمعنى
__________________
الجماعة من الناس
فيكون ثلاثة بدل أو صفة ، والأول أحسن (إِلَّا هُوَ
رابِعُهُمْ) يعني بعلمه وإحاطته ، وكذلك سادسهم ، وهو معهم أينما
كانوا.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) نزل في قوم من اليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون
على المؤمنين فنهاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فعادوا ، وقيل : نزلت في المنافقين ، والأول أرجح
لقوله : (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) لأن هذا من فعل اليهود والأحسن أن المراد اليهود
والمنافقين معا لقوله : ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم فنزلت الآية
في الطائفتين (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) كانت اليهود يأتون رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيقولون : السام عليك يا محمد بدلا من السلام : عليكم. والسام
: الموت. وهو ما أرادوه بقولهم وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لهم : وعليكم. فسمعتهم عائشة يوما فقالت : بل عليكم
السام واللعنة. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : مهلا يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش فقالت : أما
سمعت ما قالوا؟ قال أما سمعت ما قلت لهم إني قلت : وعليكم. ويريد بقوله ما لم يحيك
به الله قوله تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل : ٥٩] (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا
يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) كانوا يقولون : لو كان نبيا لعذبنا الله بإذايته فقال الله
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي يكفيهم ذلك عذابا (إِنَّمَا النَّجْوى
مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قيل : يعني النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وحذف
وصفها بذلك لدلالة الأول عليه وقيل : أراد نجوى اليهود والمنافقين ويؤيد هذا قوله
: ليحزن الذين آمنوا.
(إِذا قِيلَ لَكُمْ
تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) اختلف في سبب نزول الآية فقيل : نزلت في مقاعد الحرب
والقتال ، وقيل : نزلت بسبب ازدحام الناس ، في مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحرصهم على القرب منه ، وقيل : أقام النبي صلىاللهعليهوسلم قوما ليجلس أشياخا من أهل بدر في مواضعهم ، فنزلت الآية.
ثم اختلفوا هل هي مقصورة على مجلس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو هي عامة في جميع المجالس؟ فقال قوم إنها مخصوصة ويدل
على ذلك قراءة المجلس بالإفراد ، وذهب الجمهور إلى أنها عامة ويدل على ذلك قراءة المجالس
بالجمع ، وهذا هو الأصح ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس ، والتفسيح المأمور
به
__________________
هو التوسع دون
القيام ولذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه ، ولكن تفسحوا
وتوسعوا وقد اختلف في هذا النهي عن القيام من المجلس لأحد هل هو
على التحريم أو الكراهة (يَفْسَحِ اللهُ
لَكُمْ) أي يوسع لكم في جنته ورحمته (وَإِذا قِيلَ
انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا قيل لكم : ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك ، واختلف في
هذا النشوز المأمور به فقيل : إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة ، وقيل : إذا
أمروا بالقيام من مجلس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنه كان يحب الانفراد أحيانا ، وربما جلس قوم حتى
يؤمروا بالقيام ، وقيل : المراد القيام في المجلس للتوسع.
(يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) فيها قولان أحدهما : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات
فقوله : والذين أوتوا العلم درجات صفة للذين آمنوا كقوله : جاءني العاقل الكريم
وأنت تريد رجلا واحدا ، والثاني : يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا
درجات ، فالدرجات على الأول للمؤمنين بشرط أن يكونوا علماء ، وعلى الثاني للمؤمنين
الذين ليسوا علماء ، وللعلماء أيضا ولكن بين درجات العلماء وغيرهم تفاوت يوجد في
موضع آخر كقوله صلىاللهعليهوسلم «فضل العالم على
العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» ، وقوله عليه الصلاة والسلام «فضل العالم على العابد كفضلي
على أدناكم رجلا» وقوله عليهالسلام : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فإذا كان لهم فضل على العابدين والشهداء ، فما ظنك بفضلهم
على سائر المؤمنين (إِذا ناجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال ابن عباس : سببها أن قوما من شبان المسلمين كثرت
مناجاتهم للنبي صلىاللهعليهوسلم في غير حاجة ، لتظهر منزلتهم ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم سمحا لا يرد أحدا ، فنزلت الآية مشددة في أمر المناجاة ،
وقيل : سببها أن الأغنياء غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهذه الآية منسوخة باتفاق نسخها قوله بعدها
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية : فأباح الله لهم المناجاة دون تقديم صدقة ، بعد أن
كان أوجب تقديم
__________________
الصدقة قبل
مناجاته عليهالسلام ، واختلف هل كان هذا النسخ بعد أن عمل بالآية أم لا؟ فقال
قوم : لم يعمل بها أحد وقال قوم : عمل بها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه روي أنه
كان له دينار فصرفه بعشرة دراهم وناجاه عشر مرات ، تصدق في كل مرة منها بدرهم. وقيل
: تصدق في كل مرة بدينار ، ثم أنزل الله الرخصة لمن كان قادرا على الصدقة ، وأما
من لم يجد فالرخصة لم تزل ثابتة له بقوله : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) التوبة هنا يراد بها عفو الله عنهم في تركهم للصدقة التي
أمروا بها ، أو تخفيفها بعد وجوبها (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم ، دون ما
كنتم قد كلفتم من الصدقة عند المناجاة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من اليهود ، وهم
الذين غضب الله عليهم (ما هُمْ مِنْكُمْ
وَلا مِنْهُمْ) يعني أن المنافقين ليسوا من المسلمين ، ولا من اليهود فهو
كقوله فيهم (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ)(وَيَحْلِفُونَ عَلَى
الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعني أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا على سوء أقوالهم
وأفعالهم حلفوا أنهم ما قالوا ، ولا فعلوا وقد صدر ذلك منهم مرارا كثيرة وهي
مذكورة في السير وغيرها (اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أصل الجنة ما يستتر به ويتقى به المحذور كالترس ، ثم
استعمل هنا استعارة لأنهم كانوا يظهرون الإسلام لتعصم دماؤهم وأموالهم ، وقرئ
اتخذوا بكسر الهمزة (اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي غلب عليهم وتملك نفوسهم (فِي الْأَذَلِّينَ) أي في جملة الأذلين : أي معهم (كَتَبَ اللهُ) أي قضى وقدر.
(لا تَجِدُ قَوْماً) الآية : معناها لا تجد مؤمنا يحب كافرا ولو كان أقرب الناس
إليه ، وهذه حال المؤمن الصادق الإيمان ، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يقاتلون
آباءهم وأبناءهم وإخوانهم إذا كانوا كفارا ، فقد قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه يوم
أحد ، وقتل مصعب بن عمير أخاه عزيزا بن عمير يوم أحد ، ودعا أبو بكر الصديق ابنه
يوم بدر للبراز فأمره النبي صلىاللهعليهوسلم أن يقعد ، وقيل : إن الآية نزلت في حاطب حين كتب إلى
المشركين يخبرهم بأخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والأحسن أنها على العموم ، وقيل : نزلت فيمن يصحب
السلطان وذلك بعيد
(يُوادُّونَ) هذه مفاعلة من المودّة فتقتضي أن المودّة من الجهتين (مَنْ حَادَّ اللهَ) أي عاداه وخالفه (كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أثبته فيها كأنه مكتوب (وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) أي بلطف وهدى وتوفيق وقيل بالقرآن ، وقيل بجبريل (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) هذه في مقابلة قوله : أولئك حزب الشيطان ، والحزب هم
الجماعة المتحزبون لمن أضيفوا إليه.
سورة الحشر
مدنية وآياتها ٢٤
نزل بعد البينة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
نزلت هذه السورة
في يهود بني النضير وكانوا في حصون بمقربة من المدينة ، وكان بينهم وبين رسول الله
صلىاللهعليهوسلم عهد ، فأرادوا غدره فأطلعه الله على ذلك ، فخرج إليهم
وحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى صالحوه على أن يخرجوا من حصونهم ، فخرجوا منها
وتفرقوا في البلاد (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني بني النضير (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) في معناه أربعة أقوال : أحدها أنه حشر القيامة أي خروجهم
من حصونهم أول الحشر والقيام من القبور آخره ، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لهم : امضوا هذا أول الحشر ، وأنا على الأثر : الثاني
أن : المعنى لأول موضع الحشر وهو الشام ، وذلك أن أكثر بني النضير خرجوا إلى الشام
، وقد جاء في الأثر أن حشر القيامة إلى أرض الشام ، وروي في هذا المعنى أن النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لبني النضير : أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى
أرض المحشر. الثالث أن المراد الحشر في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج ، فإخراجهم
من حصونهم أول الحشر ، وإخراج أهل خيبر آخره. الرابع أن معناه إخراجهم من ديارهم
لأول ما حشر لقتالهم ؛ لأنه أول قتال قاتلهم النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ وقال الزمخشري : اللام في قوله لأول بمعنى عند كقولك جئت
لوقت كذا (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا) يعني لكثرة عدتهم ومنعة حصونهم (فَأَتاهُمُ اللهُ) عبارة عن أخذ الله لهم (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أما إخراب المؤمنين فهو هدم أسوار الحصون ليدخلوها ، وأسند
ذلك إلى الكفار في قوله يخربون لأنه كان بسبب كفرهم وغدرهم ، وأما إخراب الكفار
لبيوتهم فلثلاثة مقاصد : أحدها حاجتهم إلى الخشب
__________________
والحجارة ليسدوا
بها أفواه الأزقة ويحصنوا ما خرّبه المسلمون من الأسوار ، والثاني ليحملوا معهم ما
أعجبهم من الخشب والسواري وغير ذلك. الثالث أن لا تبقى مساكنهم مبنية للمسلمين
فهدموها شحا عليها (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) استدل الذين أثبتوا القياس في الفقه بهذه الآية ، واستدلالهم
بها ضعيف خارج عن معناها (وَلَوْ لا أَنْ
كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) الجلاء هو الخروج عن الوطن ، فالمعنى لو لا أن كتب الله
على بني النضير خروجهم عن أوطانهم لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإخوانهم بني
قريظة ، ولهم مع ذلك عذاب النار (شَاقُّوا) ذكر في الأنفال.
(ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ) اللينة هي النخلة وقيل : هي الكريمة من النخل ، وقيل :
النخلة التي ليست بعجوة ، وقيل : ألوان النخل المختلط ، وسبب الآية أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما نزل على حصون بني النضير قطع المسلمون بعض نخلهم ،
وأحرقوه فقال بنو النضير : ما هذا إلا فساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد ، فنزلت
الآية معلمة أن كل ما جرى من قطع أو إمساك فإن الله أذن للمسلمين في ذلك (لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) يعني بني النضير ، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن
كل مجتهد مصيب ، فإن الله قد صوب فعل من قطع النخل ومن تركها ، واختلف العلماء في
قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم ؛ فأجازه الجمهور لهذه الآية ، ولإقرار رسول الله صلىاللهعليهوسلم على تحريق نخل بني النضير ، وكرهه قوم لوصية أبي بكر
الصديق رضي الله عنه الجيش الذي وجهه إلى الشام أن لا يقطعوا شجرا مثمرا.
(وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) معنى أفاء الله : جعله فيئا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأوجفتم من الوجيف وهو سرعة السير ، والركاب هي الإبل ،
والمعنى أن ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير لم يمش المسلمون إليه بخيل ولا
إبل ولا تعبوا فيه ولا حصلوه بقتال ، ولكن حصل بتسليط رسوله صلىاللهعليهوسلم على بني النضير ، فأعلم الله من هذه الآية أن ما أخذه من
بني النضير وما أخذه من فدك : فهو فيء خاص بالنبي صلىاللهعليهوسلم يفعل فيه ما يشاء ، لأنه لم يوجف عليها ، ولا قوتلت كبير
قتال. فهما بخلاف الغنيمة التي تؤخذ بالقتال فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه
وعلى آله وسلم لنفسه من أموال بني النضير قوت عياله ، وقسم سائرها في المهاجرين ،
ولم يعط الأنصار منها شيئا غير أن أبا دجانة وسهل بن حنيف شكوا فاقة فأعطاهما رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها سهما ، هذا قول جماعة ، وقال عمر بن الخطاب
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي
جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
وقال قوم من
العلماء : وكذلك كل ما فتحه الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة يأخذون منه
حاجتهم ويصرفون باقيه في مصالح المسلمين ، (ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية اضطرب الناس في تفسير هذه الآية وحكمها اضطرابا
عظيما فإن ظاهرها أن الأموال التي تؤخذ للكفار تكون لله وللرسول ومن ذكر بعد ذلك
ولا يخرج منها خمس ، ولا تقسم على من حضر الوقيعة وذلك يعارض ما ورد في الأنفال من
إخراج الخمس ، وقسمة سائر الغنيمة على من حضر الوقيعة فقال بعضهم : إن هذه الآية
منسوخة بآية الأنفال ، وهذه خطأ لأن آية الأنفال نزلت قبل هذه بمدة. وقال بعضهم :
إن آية الأنفال في الأموال التي تغنم ما عدا الأرض ، وأن هذه الآية في أرض الكفار.
قالوا : ولذلك لم يقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض مصر والعراق بل تركها
لمصالح المسلمين ، وهذا التخصيص لا دليل عليه وقيل : غير ذلك ، والصحيح أنه لا
تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال ، فإن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ
بالقتال وإيجاف الخيل والركاب ، فهذا يخرج منه الخمس ويقسم باقية على الغانمين ،
وأما هذه الآية ففي حكم الفيء وهو ما يؤخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف
خيل ولا ركاب ، وإذا كان كذلك فكل واحدة من الآيتين في معنى غير معنى الأخرى. ولها
حكم غير حكم الأخرى فلا تعارض بينهما ولا نسخ ، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء وفي
الأنفال لفظ الغنيمة وقد تقرر في الفقه الفرق بين الفيء والغنيمة ، وأن حكمهما
مختلف ، قاله أبو محمد بن الفرس : وهو قول الجمهور وبه قال مالك وجميع أصحابه وهو
أظهر الأقوال.
وأما فعل عمر في
أرض مصر والعراق ، فالصحيح أنه فعل ذلك لمصلحة المسلمين بعد استطابة نفوس الغانمين
بقوله تعالى (ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يريد بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كما كانت أموال بني
النضير ، ولكنه حذف هذا لقوله في الآية قبل هذا : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب
، فاستغنى بذكر ذلك أولا عن ذكره ثانيا ، ولذلك لم تدخل الواو العاطفة في هذه
الجملة لأنها من تمام الأولى فهي غير أجنبية منها فإنه بين في الآية الأولى حكم
أموال بني النضير ، وبين في هذه الآية حكم ما كان مثلها من أموال غيرهم على العموم
، ويصرف الفيء فيما يصرف فيه خمس الغنائم ؛ لأن الله سوّى بينهما في قوله : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وقد ذكرنا ذلك في الأنفال فأغنى عن إعادته ، وقد ذكرنا
في الأنفال معنى قوله : لله وللرسول وما بعد ذلك (كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي كيلا يكون الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى
دولة ينتفع به الأغنياء دون الفقراء ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإنهم كانوا حينئذ
فقراء ، ولم يعط الأنصار منها شيئا ، فإنهم كانوا أغنياء فقال بعض الأنصار : لنا
سهمنا من هذا الفيء فأنزل
الله هذه الآية ،
والدولة بالضم والفتح ما يدول الإنسان أي يدور عليه من الخير ، ويحتمل أن يكون من
المداولة ، أي كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء بينهم ويبقى الفقراء بلا شيء.
(وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) نزلت بسبب الفيء المذكور : أي ما أتاكم الرسول من الفيء
فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفيء ونهي للأنصار
عنه ، ولفظ الآية مع ذلك عام في أوامر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو نواهيه ، ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع
من لبس المحرم المخيط ولعن الواشمة والواصلة في القرآن لورود ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(لِلْفُقَراءِ) هذا بدل من قوله لذي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل ليبين بذلك أن المراد المهاجرين ، ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم
؛ لأنهم هاجروا من مكة وتركوا فيها أموالهم وديارهم (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هم الأنصار والدار هي المدينة لأنها كانت بلدهم ، والضمير
في قبلهم للمهاجرين ، فإن قيل : كيف قال تبوؤا الدار والإيمان وإنما تتبوّأ الدار.
أي تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟ فالجواب من وجهين : الأول أن معناه تبوؤا الدار
وأخلصوا الإيمان فهو كقولك : فعلفتها تبنا وماء باردا : تقديره : علفتها تبنا
وسقيتها ماء باردا ، الثاني أن المعنى أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم
فيه ، كما جعلوا المدينة كذلك. فإن قيل : قوله من قبلهم يقتضي أن الأنصار سبقوا
المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان ، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه
لأنها كانت بلدهم ، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل ، لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل
الأنصار. فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد بقوله من قبلهم من قبل هجرتهم ،
والآخر أنه أراد تبوؤا الدار مع الإيمان معا. أي جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين
، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوّئ الدار فيكون الإيمان على هذا
مفعولا معه ، وهذا الوجه أحسن ، لأنه جواب عن هذا السؤال وعن السؤال الأول ، فإنه
إذا كان الإيمان مفعولا معه لم يلزم السؤال الأول ، إذ لا يلزم إلا إذا كان
الإيمان معطوفا على الدار.
(وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) قيل : إن الحاجة هنا بمعنى الحسد ، ويحتمل أن تكون بمعنى
الاحتجاج على أصلها ، والضمير في يجدون للأنصار ، وفي أوتوا المهاجرين ، والمعنى.
أن الأنصار تطيب نفوسهم بما يعطاه المهاجرون من الفيء وغيره ، ولا يجدون في صدورهم
شيئا بسبب ذلك (وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ) أي يؤثرون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية
الاحتياج ، والخصاصة هي الفاقة ، وروي أن سبب هذه
الآية أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار
: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن
شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم
هذه الغنيمة ، وروي أيضا أن سببها أن رجلا من الأنصار أضاف رجلا من
المهاجرين فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله فقالت له امرأته : والله ما عندنا إلا
قوت الصبيان. فقال لها : نوّمي صبيانك وأطفئي السراج ، وقدمي ما عندك للضيف ،
ونوهمه نحن أنا نأكل ولا نأكل. ففعلا ذلك ، فلما غدا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له : عجب الله من فعلكما البارحة ونزلت الآية (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) شحّ النفس : هو البخل والطمع وفي هذا إشارة إلى أن الأنصار
وقاهم الله شح أنفسهم فمدحهم الله بذلك ، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم لا
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون وأنهم يحبون المهاجرين.
(وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) هذا معطوف على المهاجرين والأنصار المذكورين قبل ، فالمعنى
أن الفيء للمهاجرين والأنصار ولهؤلاء الذين جاءوا من بعدهم ، ويعني بهم الفرقة
الثالثة من الصحابة وهم من عدا المهاجرين والأنصار كالذين أسلموا يوم فتح مكة.
وقيل : يعني من جاء بعد الصحابة وهم التابعون ومن تبعهم إلى يوم القيامة ، وعلى
هذا حملها مالك فقال : إن من قال في أحد من الصحابة قول سوء فلا حظ له في الغنيمة
والفيء ، لأن الله وصف الذين جاءوا بعد الصحابة بأنهم : يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، فمن قال ضدّ ذلك فقد خرج عن الذين وصفهم الله.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا) الآية : نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وقوم من
المنافقين بعثوا إلى بني النضير ، وقالوا لهم : اثبتوا في حصونكم فإنا معكم كيف ما
تقلبت حالكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً) أي لا نسمع فيكم قول قائل ، ولا نطيع من يأمرنا بخذلانكم ،
ثم كذبهم الله في هذه المواعيد التي وعدوا بها ، فإن قيل : كيف قال لئن نصروهم
ليولنّ الأدبار بعد قوله لا ينصرونهم؟ فالجواب : أن المعنى على الفرض والتقدير أي
لو فرضنا أن ينصروهم لولوا الأدبار (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) الرهبة هي
__________________
الخوف ، والمعنى
أن المنافقين واليهود يخافون الناس أكثر مما يخافون الله (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي
قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين إلا وهم في قرى محصنة ؛
بالأسوار والخنادق أو من وراء الحيطان دون أن يخرجوا إليكم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعني عداوة بعضهم لبعض (تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي تظن أنهم مجتمعون بالألفة والمودة وقلوبهم متفرقة
بالمخالفة والشحناء (كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم يعني : يهود بني
قينقاع فإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير ، فكانوا أمثالهم. وقيل
: يعني أهل بدر الكفار ، فإنهم قبلهم ومثلا لهم في أن غلبوا وقهروا. والأول أرجح :
لأن قوله : قريبا يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة ، وذلك أوقع على بني قينقاع
وأيضا فإن تمثيل بني النضير ببني قينقاع أليق لأنهم يهود مثلهم ، وأخرجوا من ديارهم
كما فعل بهم وذلك هو المراد بقوله : (ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ) وقريبا ظرف زمان.
(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) مثّل الله المنافقين الذين أغووا يهود بني النضير ثم
خذلوهم بعد ذلك بالشيطان فإنه يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه ، والمراد بالشيطان
والإنسان هنا الجنس ، وقيل : أراد الشيطان الذي أغوى قريشا يوم بدر وقال لهم : إني
جار لكم ، (فَكانَ عاقِبَتَهُما
أَنَّهُما فِي النَّارِ) الضميران يعودان على الشيطان والإنسان ، وفي ذلك تمثيل
للمنافقين واليهود.
(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ
ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) هذا أمر بأن تنظر كل نفس ما قدمت من أعمالها ليوم القيامة
، ومعنى ذلك محاسبة النفس لتكف عن السيئات وتزيد من الحسنات ، وإنما عبّر عن يوم
القيامة بغد تقريبا له ، لأن كل ما هو آت قريب ، فإن قيل : لم كرر الأمر بالتقوى؟ فالجواب
من وجهين : أحدهما أنه تأكيد ، والآخر وهو الأحسن أنه أمر أولا بالتقوى استعدادا
ليوم القيامة ، ثم أمر به ثانيا لأن الله خبير بما يعلمون ، فلما اختلف الموجبات
كرره مع كل واحد منهما (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) يعني الكفار ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الترك أو
الغفلة ، أي نسوا حقّ الله فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها.
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) الآية : توبيخ لابن آدم على قسوة قلبه ، وقلة
خشوعه عند تلاوة
القرآن فإنه إذا كان الجبل يخشع ويتصدع لو سمع القرآن فما ظنك بابن آدم (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما غاب عن المخلوقين وما شاهدوه ، وقيل : الغيب
الآخرة والشهادة الدنيا ، والعموم أحسن (الْقُدُّوسُ) مشتق من التقديس ، وهو التنزه عن صفات المخلوقين ، وعن كل
نقص وعيب وصيغة فعول للمبالغة كالسبوح (السَّلامُ) في معناه قولان : أحدهما الذي سلّم عباده من الجور ،
والآخر السليم من النقائص ، وأصله مصدر بمعنى السلامة ، وصف به مبالغة أو على حذف
مضاف تقديره ذو السلام (الْمُؤْمِنُ) فيه قولان : أحدهما أنه من الأمن أي الذي أمّن عباده ،
والآخر أنه من الإيمان أي المصدق لعباده في إيمانهم ، أو في شهادتهم على الناس يوم
القيامة ، أو المصدق نفسه في أقواله (الْمُهَيْمِنُ) في معناه ثلاثة أقوال الرقيب والشاهد والأمين ، قال
الزمخشري أصله مؤيمن بالهمزة ثم أبدلت هاء (الْجَبَّارُ) في معناه قولان : أحدهما أنه من الإجبار بمعنى القهر ،
والآخر أنه من الجبر أن يجبر عباده برحمته ، والأول أظهر (الْمُتَكَبِّرُ) أي الذي له التكبر حقا (الْبارِئُ) أي الخالق يقال : أبرأ الله الخلق أي خلقهم ولكن البارئ
والفاطر يراد بهما الذي برأ الخلق واخترعه (الْمُصَوِّرُ) أي خالق الصور (لَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ، قال المؤلف قرأت القرآن على الأستاذ الصالح أبي عبد الله
بن الكماد فلما بلغت إلى آخر سورة الحشر قال لي : ضع يدك على رأسك فقلت له ولم ذلك؟
قال لأني قرأت على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال
لي ، ضع يدك على رأسك وأسند الحديث إلى عبد الله بن مسعود قال : قرأت على النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي : ضع يدك على
رأسك قلت ولم ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قال : أقرأني جبريل القرآن فلما
انتهيت إلى خاتمة الحشر ، قال لي ضع يدك على رأسك يا محمد قلت : ولم ذاك قال : إن
الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه فلما انتهى إلى خاتمة سورة الحشر أمر
الملائكة أن تضع أيديها على رؤوسها. فقالت : يا ربنا ولم ذاك قال إنه شفاء من كل
داء إلا السام ، والسام الموت.
__________________
سورة الممتحنة
مدنية وآياتها ١٣
نزلت بعد الأحزاب
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(لا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) العدو يطلق على الواحد والجماعة ، والمراد به هنا كفار
قريش ، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية ، فورّى عن ذلك بخيبر.
فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر ، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده إلى مكة.
منهم حاطب فكتب بذلك حاطب إلى قوم من أهل مكة ، فجاء الخبر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من السماء. فبعث علي بن أبي طالب والزبير والمقداد وقال :
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فانطلقوا حتى وجدوا
المرأة فقالوا لها : أخرجي الكتاب. فقالت : ما معي كتاب ، ففتشوا جميع رحلها فما
وجدوا شيئا فقال بعضهم : ما معها كتاب. فقال عليّ بن أبي طالب : ما كذب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا كذب الله ، والله لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنك قالت :
أعرضوا عني ، فأخرجته من قرون رأسها وضفائرها وقيل : أخرجته من حجزتها فجاؤوا به
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لحاطب : من كتب هذا؟ قال : أنا يا رسول الله. ولكن لا
تعجل عليّ ، فو الله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ، ولا رغبة في الكفر ، ولكني كنت
أمرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها
في قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : صدق حاطب إنه من أهل بدر ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد
اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. لا تقولوا لحاطب إلا خيرا . فنزلت الآية عتابا لحاطب وزجرا عن أن يفعل أحد مثل فعله ،
وفيها مع ذلك تشريف له ، لأن الله شهد له بالإيمان في قوله يا أيها الذين آمنوا.
(تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ) عبارة عن إيصال المودّة إليهم ، وألقى يتعدى بحرف جر
__________________
وبغير حرف جر
كقوله (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِنِّي) وهذه الجملة في موضع الحال من الضمير في قوله : لا تتخذوا
أو في موضع الصفة لأولياء أو استئناف (وَقَدْ كَفَرُوا) حال من الضمير في لا تتخذوا أو في تلقون (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) أي يخرجون الرسول ويخرجونكم : يعني إخراجهم من مكة ، فإنهم
ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إلى المدينة ، ومنهم من خرج إلى أرض
الحبشة (أَنْ تُؤْمِنُوا) مفعول من أجله أي يخرجونكم من أجل إيمانكم (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي) جواب هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو : لا تتخذوا
، والتقدير إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوّي وعدوّكم
أولياء ، وجهادا مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله وكذلك ابتغاء (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) معناه إن يظفروا بكم (وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ) أي تمنوا أن تكفروا فتكونون مثلهم ، قال الزمخشري : وإنما
قال : ودّوا بلفظ الماضي بعد أن ذكر جواب الشرط بلفظ المضارع لأنهم أرادوا كفركم
قبل كل شيء (لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) إشارة إلى ما قصد حاطب من رعي قرابته (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يحتمل أن يكون من الفصل بالحكم بينهم أو من الفصل بمعنى
التفريق ، أي يفرق بينكم وبين قرابتكم يوم القيامة ، وقيل : إن العامل في يوم
القيامة ما قبله وذلك بعيد.
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) الأسوة هو الذي يقتدى به ، فأمر الله المسلمين أن يقتدوا
بإبراهيم الخليل عليهالسلام وبالذين معه في عداوة الكفار والتبري منهم ، ومعنى :
والذين معه من آمن به من الناس ، وقيل : الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من
عصره ، ورجح ابن عطية هذا القول بما ورد في الحديث أن إبراهيم عليهالسلام قال لزوجته : ما على الأرض مؤمن بالله غيري وغيرك (بَراءٌ) جمع بريء (كَفَرْنا بِكُمْ) أي كذبناكم في أقوالكم ، ويحتمل أن يكون عبارة عن إفراط
البغض والمقاطعة لهم (إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) هذا استثناء من قوله أسوة حسنة ، فالمعنى اقتدوا بهم في
عداوتهم للكفار ، ولا تقتدوا بهم في هذا ، لأن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له ،
فلما
__________________
تبين له أنه عدو
لله تبرأ منه ، وقيل : الاستثناء من التبري والقطيعة ، والمعنى تبرأ إبراهيم
والذين معه من الكفار ، إلا أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) هذا من كلام سيدنا إبراهيم عليهالسلام ، والذين معه وهو متصل بما قبل الاستثناء ، فهو من جملة ما
أمروا أن يقتدوا به (رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في معناه قولان : أحدهما لا تنصرهم علينا فيكون ذلك لهم
فتنة وسبب ضلالهم ؛ لأنهم يقولون : غلبناهم فيكون ذلك لهم ، لأنا على الحق وهم على
الباطل. والآخر : لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا ، ورجح ابن عطية هذا ، لأنه
دعاء لأنفسهم وأما على القول الأول فهو دعاء للكفار ، ولكن مقصدهم ليس الدعاء
للكفار ، وإنما هو دعاء لأنفسهم بالنصر بحيث لا يفتتن الكفار بذلك.
(عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار ومقاطعتهم فامتثلوا
ذلك على ما كان بينهم وبين الكفار من القرابة ، فعلم الله صدقهم فآنسهم بهذه الآية
، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة ، وهذه المودة كملت في فتح مكة فإنه أسلم حينئذ سائر
قريش ، وقيل : المودّة تزوّج النبي صلىاللهعليهوسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب سيد قريش ، ورد ابن عطية
هذا القول بأن تزوج أم حبيبة كان قبل نزول هذه الآية (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) رخص الله للمسلمين في مبرة من لم يقاتلهم من الكفار ،
واختلف فيهم على أربعة أقوال ، الأول أنهم قبائل من العرب منهم خزاعة وبنو الحارث
بن كعب ؛ كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن لا
يقاتلوا ، ولا يعينوا عليه. الثاني أنهم كانوا من كفار قريش لم يقاتلوا المسلمين
ولا أخرجوهم من مكة ، والآية على هذين القولين منسوخة بالقتال : الثالث أنهم
النساء والصبيان ، وفي هذا ورد أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت : يا رسول الله
إن أمي قدمت عليّ وهي مشركة أفأصلها قال نعم صلي أمك . الرابع أنه أراد من كان بمكة من المؤمنين الذين لم
يهاجروا ، وأما الذين نهى الله عن مودتهم لأنهم قاتلوا المسلمين وظاهروا على
إخراجهم فهم كفار قريش.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) أي اختبروهن
__________________
لتعلموا صدق
إيمانهن ، وإنما سماهن مؤمنات لظاهر حالهن ، وقد اختلف في هذا الامتحان على ثلاثة
أقوال : أحدها أن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغضها في زوجها ، ولا لخوف وغير
ذلك من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة ، والثاني أن يعرض عليها
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، والثالث أن تعرض عليها الشروط
المذكورة بعد هذا من ترك الإشراك والسرقة ، وقتل أولادهن وترك الزنا والبهتان ،
والعصيان ، فإذا أقرت بذلك فهو امتحانها قالته عائشة رضي الله تعالى عنها (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) نزلت هذه الآية أثر صلح الحديبية ، وكان ذلك الصلح قد تضمن
أن يردّ المسلمون إلى الكفار كل من جاءهم مسلما من الرجال والنساء ، فنسخ الله أمر
النساء بهذه الآية ، ومنع من رد المؤمنة إلى الكفار إذا هاجرت إلى المسلمين ،
وكانت المرأة التي هاجرت حينئذ أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة ، وقيل :
سبيعة الأسلمية ، ولما هاجرت جاء زوجها فقال يا محمد ردها علينا ، فإن ذلك في
الشرط الذي لنا عليك فنزلت الآية : فامتحنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلم يردها ، وأعطى مهرها لزوجها ، وقيل : نزلت في أم كلثوم
بنت عقبة بن أبي معيط ، هربت من زوجها إلى المسلمين ، واختلف في الرجال هل حكمهم
في ذلك كالنساء فلا تجوز المهادنة على ردّ من أسلم منهم ، أو يجوز حتى الآن على
قولين : والأظهر الجواز لأنه إنما نسخ ذلك في النساء (لا هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) هذا تعليل للمنع من ردّ المرأة إلى الكفار ، وفيه دليل على
ارتفاع النكاح بين المشركين والمسلمات.
(وَآتُوهُمْ ما
أَنْفَقُوا) يعني أعطوا الكفار ما أعطوا نساءهم من الصدقات إذا هاجرن ،
ثم أباح للمسلمين تزوجهن بالصداق (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) العصم جمع عصمة أي النكاح ، فأمر الله المسلمين أن يفارقوا
نساءهم الكوافر ، يعني المشركات من عبدة الأوثان ، فالآية على هذا محكمة ، وقيل :
يعني كل كافرة. فعلى هذا نسخ منها جواز تزوج الكتابيات لقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] ،
وروي أن الآية نزلت في امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلقها (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي اطلبوا من الكفار ما أنفقتم من الصدقات على أزواجكم ،
اللاتي فررن إلى الكفار وليطلب الكفار منكم ما أنفقوا على أزواجهم ، اللاتي هاجرن
إلى المسلمين (وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ
ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا)
__________________
معنى فاتكم شيء من
أزواجكم إلى الكفار : هروب نساء المسلمين إلى الكفار ، والخطاب في قوله (فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ
ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) للمسلمين وقوله : عاقبتم ليس من العقاب على الذنب ، وإنما
هو من العقبى أي أصبتم عقبى ، وهي الغنيمة أو من التعاقب على الشيء ، كما يتعاقب
الرجلان على الدابة إذا ركبها هذا مرة وهذا مرة أخرى ، فلما كان بعض نساء المسلمين
يهربون إلى الكفار وبعض نساء الكفار يهربون إلى المسلمين جعل ذلك كالتعاقب على
النساء ، وسبب الآية أنه لما قال الله : واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا :
قال الكفار : لا نرضى بهذا الحكم ، ولا نعطي صداق من هربت زوجته إلينا من المسلمين
، فأنزل الله هذه الآية الأخرى وأمر الله المسلمين أن يدفعوا الصداق لمن هربت
زوجته إلينا من المسلمين إلى الكفار ، ويكون هذا المدفوع من مال الغنائم على قول من قال : إن
معنى فعاقبتم غنمتم ، وقيل : من مال الفيء ، وقيل : من الصدقات التي كانت تدفع
للكفار إذا فر أزواجهم إلى المسلمين فأزال الله دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه.
وهذه
الأحكام التي تضمنتها هذه الآية ، قد ارتفعت [أي لا يعمل بها] لأنها نزلت في قضايا معينة ،
وهي مهادنة النبي صلىاللهعليهوسلم مع مشركي العرب ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة فلا
تجوز مهادنة المشركين من العرب ، إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف ، وإنما تجوز
مهادنة أهل الكتاب والمجوس لأن الله قال في المشركين : اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم ، وقال في أهل الكتاب : حتى يعطوا الجزية ، وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : في المجوس : سنّوا بهم سنة أهل الكتاب .
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) هذه البيعة بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا ،
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يبايعهن بالكلام ، ولا تمس يده يد امرأة ورد هذا في الحديث
الصحيح عن عائشة (وَلا يَأْتِينَ
بِبُهْتانٍ) معناه عند الجمهور أن تنسب المرأة إلى زوجها ولدا ليس له ،
واختار ابن عطية أن يكون البهتان هنا على العموم ، بأن ينسب للرجل غير ولده ، أو
تفتري على أحد بالقول ، أو تكذب فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل وغير ذلك
، (وَلا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ) أي لا يعصينك فيما جاءت به الشريعة من الأوامر والنواهي ،
ومن ذلك النهي عن النياحة وشق الجيوب ، ووصل الشعر وغير ذلك مما كان
__________________
نساء الجاهلية
يفعلنه ، وورد في الحديث أن النساء لما بايعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه المبايعة ، فقررهنّ على أن لا يسرقن قالت هند بنت عتبة
: وهي امرأة أبي سفيان بن حرب يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، فهل عليّ إن
أخذت من ماله بغير إذنه ، فقال لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فلما قررهن على أن لا يزنين ، قالت هند يا رسول الله أتزني
الحرة؟ فقال عليه الصلاة والسلام لا تزني الحرة يعني في غالب المرأة ، وذلك أن
الزنا في قريش إنما كان في الإماء فلما قال : ولا يقتلن أولادهن فقالت : نحن
ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا ، فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلما وقفهن على أن لا يعصينه في معروف ، قالت : ما جلسنا
هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك.
وهذه
المبايعة للنساء غير معمول بها اليوم ، لأنه أجمع العلماء على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن
هذا فإما أن تكون منسوخة ولم يذكر الناسخ ، أو يكون ترك هذه الشروط لأنها قد تقررت
وعلمت من الشرع بالضرورة فلا حاجة إلى اشتراطها (لا تَتَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني اليهود ، وكان بعض فقراء المسلمين يتودّد إليهم
ليصيبوا من أموالهم ، وقيل : يعني كفار قريش ، والأول أظهر لأن الغضب قد صار عرفا
لليهود كقوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ)(قَدْ يَئِسُوا مِنَ
الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) من قال : إن القوم الذين غضب الله عليهم هو اليهود ، فمعنى
يئسوا من الآخرة يئسوا من خير الآخرة والسعادة فيها ، ومن قال : إن القوم الذين
غضب الله عليهم هم كفار قريش ، فالمعنى يئسوا من وجود الآخرة ، وصحتها لأنهم
مكذبون بها تكذيبا جزما وقوله (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) يحتمل وجهين : أحدهما أن يريد كما يئس الكفار المكذبون
بالبعث من بعث أصحاب القبور ، فقوله : من أصحاب يتعلق بيئس ، وهو على حذف مضاف ،
والآخر أن يكون من أصحاب القبور لبيان الجنس أي كما يئس الذين في القبور من سعادة
الآخرة ، لأنهم تيقنوا أنهم يعذبون فيها.
__________________
سورة الصف
مدنية وآياتها ١٤
نزلت بعد التغابن
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ) في سببها ثلاثة أقوال : أحدها قول ابن عباس أن جماعة قالوا
: وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى الله فنعمله ، ففرض الله الجهاد فكرهه قوم فنزلت
الآية والآخر أن قوما من شبان المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم
يفعلوا ، ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب ، فنزلت الآية زجرا لهم والثالث أنها نزلت
في المنافقين ، لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين : نحن معكم ومنكم ثم يظهر من أفعالهم
خلاف ذلك وهذا ضعيف ، لأنه خاطبهم بقوله : يا أيها الذين آمنوا إلا أن يريد أنهم
آمنوا بزعمهم ، وفيما يظهرون. ومع ذلك فحكم الآية على العموم في زجر من يقول ما لا
يفعل (كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) كان بعض السلف يستحي أن يعظ الناس لأجل هذه الآية ويقول :
أخاف من مقت الله ، والمقت هو البغض لريبة أو نحوها ، وانتصب مقتا على التمييز وأن
تقولوا فاعل وقيل : فاعل كبر محذوف تقديره : كبر فعلكم مقتا وأن تقولوا بدل من
الفاعل المحذوف أو خبر ابتداء مضمر (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن
القتال ، وقال بعض الناس : قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان ، لأن التراص فيه
يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان. قاله ابن عطية وهذا ضعيف ، خفي على قائله مقصد
الآية ، وليس المراد نفس التراص ، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) المرصوص هو الذي يضم بعضه إلى بعض. وقيل : هو المعقود
بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) كانوا يؤذونه بسوء الكلام وبعصيانه وتنقيصه وانظر في
الأحزاب (لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) [٦٩] (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي
رَسُولُ
اللهِ إِلَيْكُمْ) هذا إقامة حجة عليهم وتوبيخ لهم ، وتقبيح لإذايته مع علمهم
بأنه رسول الله ، ولذلك أدخل قد الدالة على التحقيق (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) هذه عقوبة على الذنب بذنب ، وزيغ القلب هو ميله عن الحق (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا
بَنِي إِسْرائِيلَ) إنما قال موسى يا قوم ، وقال عيسى يا بني إسرائيل ، لأنه
لم يكن له فيهم أب (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) معناه مذكور في [البقرة : ٤١] في قوله مصدقا لما معكم و (مُبَشِّراً بِرَسُولٍ) عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله هل بعدنا
من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أتقياء أبرار (اسْمُهُ أَحْمَدُ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو
الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي
بعدي وأحمد مشتق من الحمد ، ويحتمل أن يكون فعلا سمي به ، أو يكون صفة سمي بها
كأحمد ، ويحتمل أن يكون بمعنى حامد أو بمعنى محمود كمحمد (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يحتمل أن يريد عيسى أو محمدا عليهما الصلاة والسلام ويؤيد
الأول اتصاله بما قبله ، ويؤيد الثاني قوله وهو يدعى إلى الإسلام لأن الداعي إلى
الإسلام هو محمد صلىاللهعليهوسلم (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) ذكر في براءة [٣٢]
(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية تفسير للتجارة المذكورة ، قال الأخفش : هو عطف بيان
عليها (يَغْفِرْ لَكُمْ) جزم في جواب تؤمنون لأنه بمعنى الأمر ، وقد قرأه ابن مسعود
آمنوا وجاهدوا على الأمر ؛ لأنه يقتضي التحضيض (وَأُخْرى
تُحِبُّونَها) ارتفع أخرى على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره : ولكم نعمة
أخرى ، أو انتصب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره : ويمنحكم أخرى (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) تفسير لأخرى فهو بدل منها (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) قال الزمخشري عطف على تؤمنون
__________________
بالله ؛ لأنه في
معنى الأمر كونوا أنصارا لله جمع ناصر وقد غلب اسم الأنصار على الأوس والخزرج ، سماهم
الله به وليس ذلك المراد هنا (كَما قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ) هذا التشبيه محمول على المعنى لأن ظاهره : كونوا أنصار
الله كقول عيسى والمعنى : كونوا أنصار الله كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى :
من أنصاري إلى الله وقد ذكر في آل عمران [٥٢] معنى الحواريين وأنصاري إلى الله (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) قيل : إنهم ظهروا بالحجة ، وقيل : إنهم غلبوا الكفار
بالقتال بعد رفع عيسى عليهالسلام ، وقيل : إن ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد صلىاللهعليهوسلم.
__________________
سورة الجمعة
مدنية وآياتها ١١
نزلت بعد الصف
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الْقُدُّوسِ) ذكر في الحشر [٢٤]
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني سيدنا محمدا صلىاللهعليهوسلم ، والأميين : هم العرب ، وقد ذكر معنى الأمي في الأعراف
[١٥٧] (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) عطفا على الأميين ، وأراد بهؤلاء فارس وسئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من هؤلاء الآخرون فأخذ بيد سلمان الفارسي ، وقال لو كان
العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء يعني فارس ، وقيل : هم الروم ومنهم على هذين القولين يريد
به في البشرية وفي الدين ، لا في النسب وقيل : هم أهل اليمن وقيل : التابعون ،
وقيل : هم سائر المسلمين ، والأول أرجح لوروده في الحديث الصحيح (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي لما يلحقوا بهم بالنفي وسيلحقون ، وذلك أن لما لذكر
الماضي القريب من الحال (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) إشارة إلى نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وهداية الناس به (مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ) يعني اليهود ومعنى حملوا التوراة كلفوا العمل بها والقيام
بأوامرها ونواهيها (لَمْ يَحْمِلُوها) لم يطيعوا أمرها ولم يعملوا بها ، شبههم الله بالحمار الذي
يحمل الأسفار على ظهره ، ولم يدر ما فيها (بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) يعني اليهود الذين كذبوا سيدنا محمدا صلىاللهعليهوسلم وهم الذين حملوا التوراة ولم يحملوها ؛ لأن التوراة تنطق
بنبوته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فكل من قرأها ولم يؤمن به فقد خالف
التوراة (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ) ذكر في البقرة [٩٤].
__________________
(إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) النداء للصلاة هو الأذان لها ، ومن في قوله من يوم الجمعة
لبيان إذا ، وتفسير له وذكر الله : يراد به الخطبة والصلاة ، ويتعلق بهذه الآية
ثمان مسائل الأولى اختلف في الأذان للجمعة هل هو سنة كالأذان لسائر الصلوات؟ أو
واجب لظاهر الآية لأنه شرط في السعي لها أن يكون عند الأذان والسعي واجب فالأذان
واجب. الثانية كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم على جدار المسجد وقيل : على باب المسجد وقيل : كان بين
يديه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو على المنبر ، وقد كان بنو أمية يأخذون بهذا ، وبقي
بقرطبة زمانا وهو باق في المشرق إلى الآن. قال أبو محمد بن الفرس. قال مالك في
المجموعة إن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه قال : وهذا دليل على
أن الحديث في ذلك ضعيف. الثالث كان الأذان للجمعة واحدا ثم زاد عثمان رضي الله عنه
النداء على الزوراء [مكان وسط السوق] ليسمع الناس. واختلف الفقهاء هل المستحب أن
يؤذن فيها اثنان أو ثلاثة : الرابعة ، السعي في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري
، وقرأ عمر بن الخطاب : فامضوا إلى ذكر الله وهذا تفسير للسعي ، فهو بخلاف السعي
في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إذا نودي للصلاة فلا تأتونها
وأنتم تسعون. الخامسة ، حضور الجمعة واجب ، لحمل الأمر الذي في الآية على الوجوب
باتفاق ، إلا أنها لا تجب على المرأة ولا على الصبي ولا على المريض باتفاق ، ولا
على العبد والمسافر عند مالك والجمهور ؛ خلافا للظاهرية. وتعلقوا بعموم الآية وحجة
الجمهور قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : الجمعة واجبة على كل
مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض وحجتهم في المسافر أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان لا يقيم الجمعة في السفر ، واختلف هل تسقط الجمعة بسبب
المطر أم لا؟ وهل يجوز للعروس التخلف عنها أم لا ، والمشهور أنها لا تسقط عنه لعموم
الآية ، السادسة اختلف متى يتعين الإقبال إلى الصلاة؟ فقيل : إذا زالت الشمس ،
وقيل : إذا أذن المؤذن وهو ظاهر الآية ، السابعة اختلف في الموضع الذي يجب منه
السعي إلى الجمعة. فقيل : ثلاثة أميال وهو مذهب مالك ، وقيل : ستة أميال وقيل :
على من كان داخل المصر ، وقيل : على من سمع النداء ، وقيل : على من آواه الليل إلى
أهله ، الثامنة اختلف في الوالي هل هو من شرط الجمعة أم لا على قولين ، والمشهور سقوطه لأن
الله لم يشترطه في الآية.
__________________
(وَذَرُوا الْبَيْعَ) أمر بترك البيع يوم الجمعة إذا أخذ المؤذنون في الأذان ،
وذلك على الوجوب ، فيقتضي تحريم البيع. واختلف في البيع الذي يعقد في ذلك الوقت هل
يفسخ أم لا؟ واختلف في بيع من لا تلزمهم الجمعة من النساء والعبد هل يجوز في ذلك
الوقت أم لا؟ والأظهر جوازه ؛ لأنه إنما منع منه من يدعى إلى الجمعة (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا الأمر للإباحة باتفاق ، وحكى الإجماع على ذلك ابن عطية
وابن الفرس (وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللهِ) قيل : معناه طلب المعاش ، فالأمر على هذا للإباحة ، وروي
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : الفضل المبتغى عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع
جنازة وقيل : هو طلب العلم وإن صح الحديث لم يعدل إلى سواه.
(وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) سبب الآية أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة ، فأقبلت عير [قافلة]
من الشام بطعام ، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي ، وكانت عادتهم أن تدخل العير
المدينة بالطبل والصياح سرورا بها ، فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها ،
وتركوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قائما على المنبر ، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا. قال
جابر بن عبد الله : أنا أحدهم. وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة
واختلف في الثاني عشر فقيل : عبد الله بن مسعود وقيل : عمار بن ياسر وقيل : إنما
بقي معه صلىاللهعليهوسلم ثمانية وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال لهؤلاء : لقد كانت الحجارة سوّمت في السماء على
المنفضين. وظاهر الآية يقتضي أن الجماعة شرط في الجمعة وهو مذهب مالك والجمهور ،
إلا أنهم اختلفوا في مقدار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة؟ فقال مالك ليس في ذلك
عدد محدود ، وإنما هم جماعة تقوم بهم قرية. وروى ابن الماجشون عن مالك ثلاثون.
وقال الشافعي : أربعون وقال أبو حنيفة : ثلاثة مع الإمام وقيل : اثنا عشر عدد
الذين بقوا مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن قيل : لم قال انفضوا إليها بضمير المفرد وقد ذكر
التجارة واللهو؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد انفضوا إلى اللهو وانفضوا إلى
التجارة ، ثم حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. قاله الزمخشري. والآخر أنه قال ذلك
مهتما بالتجارة إذ كانت أهم ، وكانت هي سبب اللهو ، ولم يكن اللهو سببها قاله ابن
عطية.
(وَتَرَكُوكَ قائِماً) اختلفوا في القيام في الخطبة هل هو واجب أم لا؟ وإذا قلنا
بوجوبه فهل هو شرط فيها أم لا فمن أوجبه واشترطه أخذ بظاهر الآية من ذكر القيام.
ومن لم يوجبه رأى أن ما فعله النبي صلىاللهعليهوسلم من ذلك لم يكن على الوجوب. ومذهب مالك أن من سنة الخطبة
الجلوس قبلها والجلوس بين الخطبتين وقال أبو حنيفة : لا يجلس بين الخطبتين
لظاهر الآية وذكر
القيام فيها دون الجلوس ، وحجة مالك فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) إن قيل : لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل
هذا على اللهو؟ فالجواب أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه ؛ وذلك أن
العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل كقولك : فلان يخون في الكثير
والقليل فبدأت بالكثير ثم أردفت عليه الخيانة فيما دونه ، وتارة يبتدئون بالأقل ثم
يرتقون إلى الأكثر كقولك : فلان أمين على القليل والكثير فبدأت بالقليل ثم أردفت
عليه الأمانة فيما هو أكثر منه ، ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسنا ؛
فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير. من باب أولى وأحرى ، ولو
قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى ، فلم يكن
لذكره بعد ذلك فائدة وكذلك قوله إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها. قدم التجارة
هنا ليبين أنهم ينفضون إليها ، وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها وقوله
: خير من اللهو ومن التجارة قدم اللهو ليبين أن ما عند الله خير من اللهو ، وأنه
أيضا خير من التجارة التي هي أعظم منه ، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.
__________________
سورة المنافقون
مدنية وآياتها ١١
نزلت بعد الحج
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كانوا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فلذلك كذبهم الله
بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي كذبوا في دعواهم الشهادة بالرسالة ، وأما قوله : والله
يعلم إنك لرسوله فليس من كلام المنافقين ، وإنما هو من كلام الله تعالى ، ولو لم
يذكره لكان يوهم أن قوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون إبطال للرسالة ، فوسطه
بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة ، وعلى هذا
ينبغي أن يوقف على قوله : لرسول الله (جُنَّةً) ذكر في المجادلة [١٦]
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) الإشارة إلى سوء عملهم وفضيحتهم وتوبيخهم ، وأما قوله :
آمنوا ثم كفروا فيحتمل وجهين : أحدهما أن يكون فيمن آمن منهم إيمانا صحيحا ثم نافق
بعد ذلك ، والآخر أن يريد آمنوا في الظاهر كقوله : إذا لقوا الذين آمنوا قالوا
آمنا [البقرة : ١٤].
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) يعني أنهم حسان الصور (وَإِنْ يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) يعني أنهم فصحاء الخطاب ، والضمير في قوله : وإذا رأيتهم
تعجبك وفي قوله : تسمع لقولهم للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ولكل مخاطب (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ) شبههم بالخشب في قلة أفهامهم ، فكان لهم منظر بلا مخبر ،
وقال الزمخشري : إنما شبههم بالخشب المسندة إلى حائط ، لأن الخشب إذا كانت كذلك لم
يكن فيها منفعة ، بخلاف الخشب التي في سقف أو مغروسة في جدار ؛ فإن فيها حينئذ
منفعة. فالتشبيه على هذا في عدم المنفعة ، وقيل : كانوا يستندون في مجلس رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فشبههم في استنادهم بالخشب المسندة إلى الحائط
__________________
(يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) عبارة عن شدّة خوفهم من المسلمين ، وذلك أنهم كانوا إذا
سمعوا صياحا ظنوا أن النبي صلىاللهعليهوسلم يأمر بقتلهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) الدعاء عليهم يتضمن ذمّهم وتقبيح أحوالهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الإيمان مع ظهوره.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي أمالوها إعراضا واستكبارا. وقصص هذه الآية وما بعدها أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج في غزوة بني المصطلق ، فبلغ الناس إلى ماء ازدحموا
عليه ، فكان ممن ازدحم عليه جهجاه بن سعيد أجير لعمر بن الخطاب وسنان الجهني حليف
لعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، فلطم الجهجاه سنانا ، فغضب سنان ودعا
بالأنصار ودعا جهجاه بالمهاجرين ، فقال عبد الله بن أبيّ : والله ما مثلنا ومثل
هؤلاء يعني المهاجرين إلا كما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك. ثم قال : لئن رجعنا
إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني : بالأعز نفسه وأتباعه ، ويعني بالأذل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن معه ، ثم قال لقومه : إنما يقيم هؤلاء المهاجرون
بالمدينة بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم ، ولو قطعتم ذلك عنهم لفرّوا عن مدينتكم.
فسمعه زيد بن أرقم فأخبر بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول. فحلف أنه ما قال من
ذلك شيئا. وكذّب زيدا فنزلت السورة عند ذلك. فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى زيد ، وقال : لقد صدّقك الله يا زيد ، فخزي عبد الله
بن أبي بن سلول ومقته الناس ، فقيل له : امض إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي وقال : أمرتموني
بالإسلام فأسلمت ، وأمرتموني بأداء زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني
أن أسجد لمحمد. ثم مات عبد الله بن أبيّ بعد ذلك بقليل. وأسندت هذه الأقوال التي
قالها عبد لله بن أبيّ إلى ضمير الجماعة ، لأنه كان له أتباع من المنافقين
يوافقونه عليها.
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) روي أنه لما نزلت (إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨] قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لأزيدن على السبعين. فلما فعل عبد لله بن أبيّ وأصحابه
ما فعلوا شدّد الله عليهم في هذه
__________________
السورة ، وأخبر
أنه لا يغفر لهم بوجه. وفي هذا نظر ؛ لأن هذه السورة نزلت في غزوة بني المصطلق قبل
الآية الأخرى بمدّة (لا تُلْهِكُمْ
أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا تشغلكم. وذكر الله هنا على العموم في الصلاة والدعاء
والعبادة ، وقيل : يعني الصلاة المكتوبة والعموم أولى (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) عموم في الزكاة وصدقة التطوع والنفقة في الجهاد وغير ذلك ،
وقيل : يعني الزكاة المفروضة والعموم أولى (وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ) بالجزم عطف على موضع جواب الشرط ، وقرأ أبو عمرو فأكون
بالنصب عطف على فأصدق .
__________________
سورة التغابن
مدنية وآياتها ١٨
نزلت بعد التحريم
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) في تأويل الآية وجهان : أحدهما الذي خلقكم فكان يجب على كل
واحد منكم الإيمان به ، لكن منكم من كفر ومنكم من آمن ، فالكفر والإيمان على هذا
هو من اكتساب العبد. والآخر أن المعنى هو الذي خلقكم على صنفين : فمنكم من خلقه
مؤمنا ومنكم من خلقه كافرا ، فالإيمان والكفر على هذا هو ما قضى الله على كل واحد
، والأول أظهر ، لأنه عطفه على خلقكم بالفاء يقتضي أنّ الكفر والإيمان واقعان بعد
الخلقة لا في أصل الخلقة (خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ذكر معناه في مواضع (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) تعديد نعمة في حسن خلقة بني آدم ؛ لأنهم أحسن صورة من جميع
أنواع الحيوان وإن وجد بعض الناس قبيح المنظر ، فلا يخرجه ذلك عن حسن الصورة
الإنسانية ، وإنما هو قبيح بالنظر إلى من هو أحسن منه من الناس. وقيل : يعني العقل
والإدراك الذي خصّ به الإنسان. والأول أرجح لأن الصورة إنما تطلق على الشكل (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) خطاب لقريش وسائر الكفار (فَقالُوا أَبَشَرٌ
يَهْدُونَنا) معناه أنهم استبعدوا أن يرسل الله بشرا أو تكبروا عن اتباع
بشر ، والبشر يقع على الواحد والجماعة (زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) قال عبد الله بن عمر : زعم كناية عن كذب.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) العامل في يوم لتنبؤن أو محذوف تقديره اذكر ، ويحتمل أن
يكون مبتدأ وخبره ذلك يوم التغابن يعني ، يوم القيامة. والتغابن مستعار من تغابن الناس
في التجارة ، وذلك إذا فاز السعداء بالجنة ، فكأنهم غبنوا الأشقياء في منازلهم
التي كانوا ينزلون منها لو كانوا سعداء ، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن ، وليس على
المتعارف في صيغة تفاعل من كونه بين اثنين ، كقولك تضارب وتقاتل إنما هي فعل واحد
كقولك : تواضع قال ابن عطية والزمخشري : يعني نزول السعداء منازل الأشقياء ونزول
الأشقياء منازل السعداء ، والتغابن على هذا بين اثنين قال : وفيه تهكم بالأشقياء ،
لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن للسعداء (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يحتمل أن يريد بالمصيبة الرزايا ، وخصها بالذكر لأنها أهم
على الناس. أو يريد جميع الحوادث من خير أو شر وبإذن الله عبارة عن قضائه وإرادته
تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قيل : معناه من يؤمن بأن كل شيء بإذن الله يهد الله قلبه
للتسليم والرضا بقضاء الله ، وهذا أحسن إلا أن العموم أحسن منه.
(إِنَّ مِنْ
أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) سببها أن قوما أسلموا وأرادوا الهجرة ، فثبطهم أزواجهم
وأولادهم عن الهجرة ، فحذرهم الله من طاعتهم في ذلك. وقيل : نزلت في عوف بن مالك
الأشجعي ، وذلك أنه أراد الجهاد فاجتمع أهله وأولاده فشكوا من فراقه ، فرقّ لهم
ورجع. ثم إنه ندم وهمّ بمعاقبتهم ، فنزلت الآية محذرة من فتنة الأولاد ، ثم صرف
الله تعالى عن معاقبتهم بقوله : وإن تعفوا وتصفحوا الآية ، ولفظ الآية مع ذلك على
عمومه في التحذير ممن يكون للإنسان عدوا من أهله وأولاده ، سواء كانت عداوتهم بسبب
الدين أو الدنيا (وَاللهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ) ترغيب في الآخرة وتزهيد في الأموال والأولاد ، التي فتن
الناس بها (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) قيل : إن هذا ناسخ لقوله :
__________________
(اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢]
وروي أنه لما نزل حق تقاته شق ذلك على الناس حتى نزل ما استطعتم وقيل : لا نسخ
بينهما ؛ لأن حق تقاته معناه فيما استطعتم ، إذ لا يمكن أن يفعل أحد إلا ما
يستطيع. وهذه الآية على هذا مبينة لتلك ، وتحرز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان
وما لا يؤاخذ به العبد ، وإعراب ما في قوله ما استطعتم ظرفية (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) منصوب بإضمار فعل لا يظهر عند سيبويه ، وقيل هو مفعول
بأنفقوا ، لأن الخير بمعنى المال وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : أنفقوا
إنفاقا خيرا لأنفسكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ) ذكر في الحشر [٩]
(إِنْ تُقْرِضُوا) ذكر في البقرة : ٢٤٥ (وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ) ذكر في اللغات.
__________________
سورة الطلاق
مدنية وآياتها ١٢
نزلت بعد الإنسان
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إن قيل : لم نودي النبي صلىاللهعليهوسلم وحده ثم جاء بعد ذلك خطاب الجماعة؟ فالجواب : أنه لما كان
حكم الطلاق يشترك فيه النبي صلىاللهعليهوآله وأمته ، قيل : إذا طلقتم خطابا له ولهم ، وخصّ هو عليه
الصلاة والسلام بالنداء تعظيما له ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان
افعلوا أي : افعل أنت وقومك ، ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ لأمته ، فكأنه
قال : يا أيها النبي إذا طلقت أنت وأمتك. وقيل : تقديره يا أيها النبي قل لأمتك
إذا طلقتم. وهذا ضعيف لأنه يقتضي أن هذا الحكم مختص بأمته دونه ، وقيل : إنه خوطب
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بطلقتم تعظيما له ، كما تقول للرجل المعظم : أنتم فعلتم ،
وهذا أيضا ضعيف ، لأنه يقتضي اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالحكم دون أمته ، ومعنى
إذا طلقتم هنا : إذا أردتم الطلاق.
واختلف في الطلاق
هل هو مباح أو مكروه؟ فأما إذا كان على غير وجه السنة فهو ممنوع. ولكن يلزم ، وأما
اليمين بالطلاق فممنوع (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) تقديره : طلقوهن مستقبلات لعدتهن ، ولذلك قرأ عثمان وابن
عباس وأبيّ بن كعب : فطلقوهن في قبل عدتهن وقرأ ابن عمر : لقبل عدتهن ورويت
القراءتان عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ومعنى ذلك كله : لا يطلقها وهي حائض ، فهو منهي عنه
بإجماع ، لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله بها وهو استقبال
العدة ، واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض هل هو معلل بتطويل العدة ، أو هو تعبد
، والصحيح أنه معلل بذلك ، وينبني على هذا الخلاف فروع منها : هل يجوز إذا رضيت به
المرأة أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها وهي حامل أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها قبل
الدخول وهي حائض أم لا؟ فالتعليل بتطويل العدّة يقتضي جواز هذه الفروع ، والتعبد
يقتضي المنع ، ومن طلق في الحيض لزمه الطلاق ، ثم يؤمر بالرجعة على وجه الإجبار
عند مالك ، وبدون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم
__________________
تطهر ، ثم إن شاء
طلق وإن شاء أمسك ، حسبما ورد في حديث ابن عمر ، حين طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك
عمر للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال له : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ؛ ثم إن
شاء طلق وإن شاء أمسك. واشترط مالك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه ، ليعتد بذلك
الطهر ، فإنه إن طلقها في طهر بعد أن جامعها فيه ، فلا تدري هل تعتد بالوضع [وضع
الحمل] أو بالأقراء فليس طلاقا لعدتها كما أمر الله (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أمر بذلك لما ينبني عليها من الأحكام ، في الرجعة والسكنى
والميراث وغير ذلك. (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) نهى الله سبحانه وتعالى أن يخرج الرجل المرأة المطلقة من
المسكن الذي طلقها فيه ، ونهاها هي أن تخرج باختيارها ، فلا يجوز لها المبيت خارجا
عن بيتها ولا أن تغيب عنه نهارا إلا لضرورة التصرف ، وذلك لحفظ النسب وصيانة
المرأة ، فإن كان المسكن ملكا للزوج ، أو مكترى عنده ، لزمه إسكانها فيه ، وإن كان
المسكن لها فعليه كراؤه مدة العدة ، وإن كانت قد أمتعته فيه مدة الزوجية ؛ ففي
لزوم خروج العدة له قولان في المذهب [المالكي] والصحيح لزومه ؛ لأن الامتناع قد
انقطع بالطلاق (إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) اختلف في هذه الفاحشة التي أباحت خروج المعتدة ما هي؟ على
خمسة أقوال : الأول أنها الزنا فتخرج لإقامة الحدّ ، قاله الليث بن سعد والشعبي.
الثاني أنه سوء الكلام مع الأصهار فتخرج ويسقط حقها من السكنى ، ويلزمها الإقامة
في مسكن تتخذه حفظا للنسب ، قاله ابن عباس ويؤيده قراءة أبي بن كعب ، إلا أن يفحشن
عليكم. الثالث أنه جميع المعاصي من القذف والزنا والسرقة وغير ذلك ، فمتى فعلت
شيئا من ذلك سقط حقها في السكنى ، قاله ابن عباس أيضا وإليه مال الطبري الرابع أنه
الخروج عن بيتها خروج انتقال فمتى فعلت ذلك سقط حقها في السكنى قاله ابن الفرس :
وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في العدة ، الخامس أنه النشوز قبل الطلاق ،
فإذا طلقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه سكنى قاله قتادة.
(لا تَدْرِي لَعَلَّ
اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) المراد به الرجعة عند الجمهور ، أي أحصوا العدة وامتثلوا
ما أمرتم به ، لعل الله يحدث الرجعة لنسائكم ، وقيل : إن سبب الرجعة المذكورة في
الآية تطليق النبي صلىاللهعليهوسلم لحفصة بنت عمر فأمره الله بمراجعتها (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يريد آخر العدة والإمساك بمعروف هو : تحسين العشرة وتوفية
النفقة ، والفراق بالمعروف هو : أداء الصداق والإمتاع حين الطلاق والوفاء بالشروط
ونحو ذلك (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ) هذا خطاب للأزواج ، والمأمور به هو الإشهاد على الرجعة عند
الجمهور ، وقد اختلف فيه هل هو واجب أو مستحب على
__________________
قولين في المذهب.
وقال ابن عباس : هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة ، وهذا أظهر لأن الإشهاد به
يرفع الإشكال والنزاع ، ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق ، وقد ذكرنا العدالة في
البقرة وقوله : ذوي عدل يدل على أنه إنما يشهد في الطلاق والنكاح الرجال دون
النساء ، وهو مذهب مالك. خلافا لمن أجاز شهادة النساء في ذلك. وقوله : منكم يريد
من المسلمين وقيل : من الأحرار فيؤخذ من ذلك ردّ شهادة العبيد ، وهو مذهب مالك (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) هذا خطاب للشهود ، وإقامة الشهادة يحتمل أن يريد بها
القيام ، فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد وهو فرض كفاية ، وإلى هذا المعنى أشار ابن
الفرس ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض ، وبهذا فسره الزمخشري وهو
أظهر لقوله : لله وهو كقوله (كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥]
شهداء لله (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدم من الأحكام.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قيل إنها في الطلاق ، ومعناها : من يتق الله فيطلق طلقة
واحدة ، حسبما تقتضيه السنة يجعل له مخرجا بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق ، وفي
هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلق ثلاثا : إنك لم تتق الله فبانت منك
امرأتك ، ولا أرى لك مخرجا أي لا رجعة لك. وقيل : إنها على العموم أي من يتق الله
في أقواله وأفعاله يجعل له مخرجا من كرب الدنيا والآخرة ، وقد روي هذا أيضا عن ابن
عباس ، وهذا أرجح لخمسة أوجه أحدها حمل اللفظ على عمومه فيدخل في ذلك الطلاق وغيره
، الثاني أنه روي أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه أسر ولده وضيق عليه
رزقه ، فشكى ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمره بالتقوى ، فلم يلبث إلا يسيرا وانطلق ولده ووسع الله
رزقه ، والثالث أنه روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قرأها فقال : مخرجا من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت
، ومن شدائد يوم القيامة. والرابع روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم «ومن يتق
الله يجعل له مخرجا» الآية : فما زال يقرؤها ويعيدها الخامس قوله : ويرزقه من حيث
لا يحتسب ، فإن هذا لا يناسب الطلاق وإنما يناسب التقوى على العموم.
قال بعض العلماء :
الرزق على نوعين ؛ رزق مضمون لكل حي طول عمره ، وهو الغذاء الذي تقوم به الحياة
وإليه الإشارة بقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ورزق موعود
للمتقين خاصة ، وهو المذكور في هذه الآية (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه بحيث لا يحتاج معه إلى غيره ، وقد تكلمنا على
التوكل في آل عمران (إِنَّ اللهَ بالِغُ
أَمْرِهِ) أي يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء ، هذا حض على التوكل وتأكيد
له ، لأن العبد إذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله توكل عليه وحده ولم يعوّل على
سواه (قَدْ جَعَلَ
__________________
اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي مقدارا معلوما ووقتا محدودا.
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ) روي أنه لما نزل قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء قالوا يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت هذه الآية
معلمة أن المطلقة إذا كانت ممن لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر فقوله : (اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) : يعني التي انقطعت حيضتها لكبر سنها وقوله (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) يعني الصغيرة التي لم تبلغ المحيض وهو معطوف على اللائي
يئسن أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره واللائي لم يحضن كذلك وقوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) هو من الريب بمعنى الشك وفي معناه قولان : أحدهما إن
ارتبتم في حكم عدتها فاعلموا أنها ثلاثة أشهر. والآخر : إن ارتبتم في حيضها هل
انقطع أو لم ينقطع فهي على التأويل الأول في التي انقطعت حيضتها لكبر سنها حسبما
ذكرنا وهو الصحيح وهي على التأويل الثاني في المرتابة وهي التي غابت عنها الحيضة
وهي في سن من تحيض. وقد اختلف العلماء في عدتها على ثلاثة أقوال : أحدها أنها
ثلاثة أشهر خاصة حسبما تقتضيه الآية على هذا التأويل ، والآخر أنها ثلاثة أشهر بعد
تسعة أشهر تستبرئ بها أمد الحمل وهذا مذهب مالك : وقدوته في ذلك عمر بن الخطاب رضي
الله عنه والثالث أنها تعتد بالأقراء ولو بقيت ثلاثين سنة حتى تبلغ سن من لا تحيض
وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
(وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) هذه الآية عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء
عامة في المطلقات والمتوفى عنهن ، فمتى كانت إحداهن حاملا فعدتها وضع حملها. وقال
علي بن أبي طالب وابن عباس إنما هذه الآية في المطلقات الحوامل فهن اللاتي عدتهن
وضع حملهن. وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملا فعدتها عندهما أبعد الأجلين ؛ إما
الوضع أو انقضاء الأربعة الأشهر وعشرا ، فحجة الجمهور حديث سبيعة الأسلمية أنها
كانت زوجا لسعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حبلى ، فلما وضعت خطبها أبو
السنابل بن بعكك ، فسألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لها انكحي من شئت ، وقد ذكر أن ابن عباس رجع إلى هذا
الحديث لما بلغه ولو بلغ عليا رضي الله عنه لرجع إليه ، وقال عبد الله بن مسعود :
إن هذه الآية التي نزلت في سورة النساء القصوى يعني سورة الطلاق نزلت بعد الآية
التي في البقرة (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤]
فهي مخصصة لها حسبما قاله جمهور العلماء (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أمر الله بإسكان المطلقة طول العدة ، فأما المطلقة غير
المبتوتة فيجب لها على زوجها السكنى والنفقة باتفاق ، وأما المبتوتة ففيها ثلاثة
أقوال :
أحدها أنها يجب
لها السكنى دون النفقة ، وهو مذهب مالك والشافعي ، والثاني يجب لها السكنى والنفقة
وهو مذهب أبي حنيفة ، والثالث أنها ليس لها سكنى ولا نفقة ، فحجة مالك حديث فاطمة
بنت قيس ، وهو أن زوجها طلقها البتة ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليس لك عليه نفقة ، فيؤخذ من هذا أن لها السكنى دون النفقة
، وحجة من أوجب لها السكنى : قول عمر بن الخطاب : لا ندع آية من كتاب ربنا لقول
امرأة. إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : لها السكنى والنفقة ، وحجة من لا يجعل لها لا
سكنى ولا نفقة أن في بعض الروايات عنها أنها قالت : لم يجعل لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نفقة ولا سكنى ، وقوله (مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ) معناه : أسكنوهن مكانا من بعض مساكنكم فمن للتبعيض ، ويفسر
ذلك قول قتادة لو لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه (مِنْ وُجْدِكُمْ) الوجد هو الطاقة والسعة في المال فالمعنى : أسكنوهن مسكنا
مما تقدرون عليه ، وإعرابه عطف بيان لقوله : حيث سكنتم ، ويجوز في الوجد ضم الواو
وفتحها وكسرها وهو بمعنى واحد ، والضم أكثر وأشهر.
(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) اتفق العلماء على وجوب النفقة في العدة للمطلقة الحامل
عملا بهذه الآية ؛ سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا ، واتفقوا على أن للمطلقة غير
الحامل النفقة في العدة إذا كان الطلاق رجعيا ، فإن كان بائنا فاختلفوا في نفقتها
حسبما ذكرناه ، وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك
والجمهور ، لأنهم رأوا أن هذه الآية إنما هي في المطلقات ، وقال قوم : لها النفقة
في التركة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) المعنى إن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم فآتوهن
أجرة الرضاع ، وهي النفقة وسائر المؤن حسبما ذكر في كتب الفقه (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) هذا خطاب للرجال والنساء ، والمعنى أن يأمر كل واحد صاحبه
بخير من المسامحة والرفق والإحسان ، وقيل : معنى ائتمروا تشاوروا ومنه : إن الملأ
يأتمرون بك (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) المعنى إن تشططت الأم على الأب في أجرة الرضاع ، وطلبت منه
كثيرا ، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق له ، إلا أن لا يقبل الطفل
غير ثدي أمه ، فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج.
(لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أمر بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله ، ولا يكلف الزوج ما
لا يطيق ، ولا تضيّع الزوجة بل يكون الحال معتدلا. وفي الآية دليل على أن النفقة
تختلف باختلاف أحوال الناس ، وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه اعتبر الكفاية ،
ومن عجز عن نفقة امرأته فمذهب مالك والشافعي أنها تطلق عليه خلافا لأبي
حنيفة وإن عجز عن
الكسوة دون النفقة ففي التطليق عليه قولان في المذهب (فَحاسَبْناها حِساباً
شَدِيداً) أي حاسبنا أهلها قيل : يعني الحساب في الآخرة ، وكذلك
العذاب المذكور بعده ، وقيل : يعني في الدنيا وهذا أرجح لأنه ذكر عذاب الآخرة بعد
ذلك في قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) ، أو لأن قوله : (فَحاسَبْناها
وَعَذَّبْناها) بلفظ الماضي فهو حقيقة فيما وقع ، مجاز فيما لم يقع فمعنى
حاسبناها أي آخذناهم بذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها ، والعذاب هو عقابهم في
الدنيا ، والنكر هو الشديد الذي لم يعهد مثله.
(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) الذكر هنا هو القرآن ، والرسول هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإعراب رسولا مفعول بفعل مضمر تقديره : أرسل رسولا. وهذا
الذي اختاره ابن عطية وهو أظهر الأقوال. وقيل : إن الذكر والرسول معا يراد بهما
القرآن ، والرسول على هذا بمعنى الرسالة. وقيل : إنهما يراد بهما القرآن على حذف مضاف
تقديره ذكرا ذا رسول ، وقيل : رسولا مفعول بالمصدر الذي هو الذكر. وقال الزمخشري :
الرسول هو جبريل بدل من الذكر ، لأنه نزل به أو سمى ذكرا لكثرة ذكره لله وهذا كله
بعيد (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) لا خلاف أن السموات سبع ، وأما الأرض فاختلف فيها فقيل :
إنها سبع أرضين لظاهر هذه الآية ولقوله صلىاللهعليهوسلم : من غصب شبرا من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين . وقيل : إنما هي واحدة فقوله : مثلهن على القول الأول يعني
به المماثلة في العدد ، وعلى القول الثاني : يعني به المماثلة في عظم الجرم وكثرة
العمار وغير ذلك ، والأول أرجح (يَتَنَزَّلُ
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) يحتمل أن يريد بالأمر الوحي أو أحكام الله وتقديره لخلقه.
__________________
سورة التحريم
مدنية وآياتها ١٢
نزلت بعد الحجرات
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) في سبب نزولها روايتان أحدهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاء يوما إلى بيت زوجه حفصة بنت عمر بن الخطاب ، فوجدها قد
خرجت لزيارة أبيها ، فبعث إلى جاريته مارية فجامعها في البيت ، فجاءت حفصة فقالت :
يا رسول الله ما كان في نسائك أهون عليك مني. أتفعل هذا في بيتي وعلى فراشي؟ فقال
لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مترضيا لها : أيرضيك أن أحرمها قالت : نعم فقال : إني قد
حرّمتها ، والرواية الأخرى أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ؛ فاتفقت
عائشة وحفصة وسودة بنت زمعة على أن تقول من دنا منها : أكلت مغافير ، والمغافير
صمغ العرفط ، وهو حلو كريه الريح ، ففعلن ذلك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا ولكني شربت عسلا ، فقلن له : جرست نحله العرفط فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا أشربه أبدا. وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة ،
فدخل بعد ذلك على زينب فقالت : ألا أسقيك من ذلك : فقال لا حاجة لي به ، فنزلت
الآية عتابا له على أن يضيق على نفسه بتحريم الجارية أو تحريم العسل ، والرواية
الأولى أشهر ، وعليها تكلم الناس في فقه السورة ، وقد خرج الرواية الثانية البخاري
وغيره.
ولنتكلم على فقه
التحريم ، فأما تحريم الطعام والمال وسائر الأشياء ما عدا النساء ، فلا يلزم ، ولا
شيء عليه عند مالك ، وأوجب عليه أبو حنيفة الكفارة ، وأما تحريم الأمة فإن نوى به
العتق لزم ، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم. وكان حكمه ما ذكرنا في الطعام. وأما تحريم
الزوجة فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة فقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن
عباس وعائشة وغيرهم : إنما يلزم فيه كفارة يمين. وقال مالك في المشهور عنه : ثلاث
تطليقات في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها فيحكم بما نوى من طلقة أو اثنتين
أو ثلاث ، وقال ابن الماجشون هي ثلاث في الوجهين ، وروي عن مالك أنها طلقة بائنة ،
وقيل طلقة رجعية.
(تَبْتَغِي مَرْضاتَ
أَزْواجِكَ) أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك يعني تحريمه
للجارية ابتغاء رضا حفصة ، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية ، وأما تحريم
العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) في هذا إشارة إلى أن الله غفر له ما عاتبه عليه من التحريم
، على أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له ، وإنما وقع العتاب على تضييقه عليهالسلام على نفسه ، وامتناعه مما كان له فيه أرب ، وبئس ما قال
الزمخشري في أن هذا كان منه زلة ؛ لأنه حرّم ما أحل الله ، وذلك قلة أدب على منصب
النبوة (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) التحلة هي الكفارة وأحال تعالى هنا على ما ذكر في سورة
المائدة [٨٩] من صفتها ، واختلف في المراد بها هنا فأما على قول من قال : إن الآية
نزلت في تحريم الجارية فاختلف في ذلك. فمن قال إن التحريم يلزم فيه كفارة يمين
استدل بها ، ومن قال : إن التحريم يلزم فيه طلاق قال : إن الكفارة هنا إنما هي لأن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حلف وقال : والله لا أطؤها أبدا. وأما على القول بأن الآية
نزلت في تحريم العسل فاختلف أيضا ؛ فمن أوجب في تحريم الطعام كفارة قال : هذه
الكفارة للتحريم ومن قال : لا كفارة فيه قال : إنما هذه الكفارة لأنه حلف ألا
يشربه ، وقيل : هي في يمينه عليهالسلام أن لا يدخل على نسائه شهرا (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) يحتمل أن يكون المولى بمعنى الناصر أو بمعنى السيد الأعظم.
(وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) اختلف في هذا الحديث على ثلاثة أقوال : أحدها أنه تحريم
الجارية ، فإنه لما حرمها قال لحفصة : لا تخبري بذلك أحدا ، والآخر أنه قال : إن
أبا بكر وعمر يليان الأمر من بعده ، والثالث أنه قوله شربت عسلا والأول أشهر وبعض
أزواجه حفصة (فَلَمَّا نَبَّأَتْ
بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) كانت حفصة قد أخبرت عائشة بما أسر إليها رسول الله صلىاللهعليهوسلم من تحريم الجارية ، فأخبر الله رسوله عليهالسلام بذلك ، فعاقب حفصة على إفشائها لسره فطلقها ، ثم أمره الله
بمراجعتها فراجعها. وقيل : لم يطلقها. فقوله فلما نبأت به حذف المفعول وهو عائشة.
وقوله : وأظهره الله عليه أي أطلعه على إخبارها به ، وقوله : عرف بعضه أي عاتب
حفصة على بعضه وأعرض عن بعض حياء وتكريما ، فإن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات
والتقصير في العتاب ، وقرأ [الكسائي] عرف بالتخفيف من المعرفة (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ
أَنْبَأَكَ هذا) أي لما أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم حفصة بأنها قد أفشت سره ، ظنت بأن عائشة هي التي أخبرته
فقالت له : من أنبأك هذا؟ فلما أخبرها أن الله هو الذي أنبأه سكتت وسلمت.
(إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) هذا خطاب لعائشة وحفصة ، وتوبتهما مما
جرى منهما في قصة
تحريم الجارية أو العسل. ومعنى صغت أي : مالت عن الصواب وقرأ ابن مسعود زاغت
والمعنى : إن تتوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ
هُوَ مَوْلاهُ) المعنى إن تعاونتما عليه صلىاللهعليهوسلم بما يسؤوه من إفراط الغيرة ، وإفشاء سره ونحو ذلك فإن له
من ينصره ، ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم ، فيوقف على مولاه ويكون
جبريل مبتدأ وظهير خبره وخبر ما عطف عليه ، ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي
الناصر ، فيكون جبريل معطوف فيوصل مع ما قبله ، ويوقف على صالح المؤمنين ويكون
الملائكة مبتدأ وظهير خبره ، وهذا أظهر وأرجح لوجهين : أحدهما أن معنى الناصر أليق
بهذا الموضع ، فإن ذلك كرامة للنبي صلىاللهعليهوسلم وتشريفا له ، وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه
النبي صلىاللهعليهوسلم مع غيره ، لأن الله تعالى مولى جميع خلقه بهذا المعنى ،
فليس في ذلك إظهار مزية له ، الوجه الثاني أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع
ذلك جاء عمر إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؛ فإن كنت
طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل معك وأبو بكر معك وأنا معك ، فنزلت الآية
موافقة لقول عمر ، فقوله يقتضي معك النصرة (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) اختلف في صالح هل هو مفرد أو جمع محذوف النون للإضافة؟
فعلى القول بأنه مفرد هو أبو بكر ، وقيل : علي بن أبي طالب ، وعلى القول بأنه جمع
فهو على العموم في كل صالح.
(عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَ) الآية ، نصرة للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وروي أن عمر قال ذلك ونزل القرآن بموافقته ، ولقد قال
عمر حينئذ للنبي صلىاللهعليهوسلم : والله يا رسول الله لئن أمرتني بضرب عنق حفصة لضربت
عنقها ، وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان والقنوت ، والسائحات : معناه الصائمات
قاله ابن عباس. وقد روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقيل معناه مهاجرات وقيل ذاهبات إلى الله ، لأن أصل
السياحة الذهاب في الأرض ، وقوله : ثيبات وأبكارا ، قال بعضهم : المراد بالأبكار
هنا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ؛ فإن الله يزوج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إياهما في الجنة وهذا يفتقر إلى نقل صحيح ، ودخلت الواو
هنا للتقسيم. ولو سقطت لاختل المعنى لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان ، وقال
الكوفيون : هي واو الثمانية وذلك ضعيف (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) أي أطيعوا الله وأمروا أهلكم بطاعته ، لتقوا أنفسكم
وأهليكم بطاعته من النار ، فعبر بالمسبب وهو وقاية
__________________
النار عن السبب
وهو الطاعة (وَقُودُهَا) ذكر في البقرة [٢٤]
(مَلائِكَةٌ غِلاظٌ
شِدادٌ) يعني زبانية النار وغلظهم وشدتهم ، يحتمل أن يريد في
أجرامهم وفي قساوة قلوبهم (وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) قيل : إن هذا تأكيد لقوله : لا يعصون الله ، وقيل : إن
معنى لا يعصون امتثال الأمر ، ومعنى يفعلون ما يؤمرون جدهم ونشاطهم فيما يؤمرون به
من عذاب الناس (لا تَعْتَذِرُوا
الْيَوْمَ) يعني يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون هذا خطاب من الله
للكفار أو خطاب من الملائكة.
(تَوْبَةً نَصُوحاً) قال عمر بن الخطاب التوبة النصوح هي أن تتوب من الذنب ثم
لا تعود إليه أبدا ، ولا تريد أن تعود. وقيل : معناه توبة خالصة فهو من قولهم :
عسل ناصح إذا خلص من الشمع ، وقيل هو أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ؛ كتوبة (الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة : ١١٨]
قال الزمخشري : وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي ، والنصح في الحقيقة صفة
التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، وقد تكلمنا على التوبة في قوله :
وتوبوا إلى الله جميعا : في النور [٣١]
(يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَ) العامل في يوم يحتمل أن يكون ما قبله ، أو ما بعده أو
محذوف تقديره : اذكر ، والوقف والابتداء يختلف على ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أن يكون معطوفا على النبي أو مبتدأ وخبره بعده (نُورُهُمْ يَسْعى) ذكر في الحديد [١٩]
(جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ) ذكر في براءة [٨٨]
(امْرَأَتَ نُوحٍ
وَامْرَأَتَ لُوطٍ) قيل اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة ، وهذا
يفتقر إلى صحة نقل (فَخانَتاهُما) قال ابن عباس : خيانة امرأة نوح في أنها كانت تقول : إنه
مجنون وخيانة امرأة لوط بأنها كانت تخبر قومه بأضيافه إذا قدموا عليه ، وكانتا مع
ذلك كافرتين ، وقيل : خانتا بالزنا ، وأنكر ابن عباس ذلك وقال : ما زنت امرأة نبي
قط تنزيها من الله لهم عن هذا النقص ، وضرب الله المثل بهاتين المرأتين للكفار
الذين بينهم وبين الأنبياء وسائل ؛ كأنه يقول : لا يغني أحد عن أحد ولو كان أقرب
الناس إليه ؛ كقرب امرأة نوح وامرأة لوط من أزواجهما. وقيل : هذا مثال لأزواج النبي
صلىاللهعليهوسلم فيما ذكر في أول السورة ، وهذا باطل ؛ لأن الله إنما ضربه
للذين كفروا. وامرأة فرعون اسمها آسية وكانت قد آمنت بموسى عليهالسلام
فبلغ ذلك فرعون
فأمر بقتلها ، فدعت بهذا الدعاء فقبض الله روحها ، وروي في قصصها غير هذا مما يطول
وهو غير صحيح (مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ) تعني : كفره وظلمه ، وقيل : مضاجعته لها وهذا ضعيف.
(أَحْصَنَتْ فَرْجَها) يعني الفرج الذي هو الجارحة ، وإحصانها له هو صيانتها
وعفتها عن كل مكروه (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) عبارة عن نفخ جبريل في فرجها ، فخلق الله فيه عيسى عليهالسلام وأضاف الله الروح إلى نفسه إضافة مخلوق إلى خالقه ، وفي
ذلك تشريف له (وَصَدَّقَتْ
بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) كلمات ربها يحتمل أن يريد بها الكتب التي أنزل الله أو
كلامه مع الملائكة وغيرهم ، وكتابه بالإفراد يحتمل أن يريد به التوراة أو الإنجيل أو جنس
الكتب ، وقرأ أبو عمرو وحفص بالجمع يعني : جميع كتب الله (مِنَ الْقانِتِينَ) أي من العابدين ، فإن قيل : لم قال من القانتين بجمع
المذكر وهي أنثى؟ فالجواب : أن القنوت صفة تجمع الرجال والنساء فغلب الذكور.
__________________
سورة الملك
مكية وآياتها ٣٠
نزلت بعد الطور
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
ورد في الحديث أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ هذه السورة كل ليلة إذا أخذ مضجعه وأنه عليه
الصلاة والسلام قال : إنها تنجي من عذاب القبر (تَبارَكَ) فعل مشتق من البركة ، وقيل معناه تعاظم وهو مختص بالله
تعالى ولم ينطق له بمضارع (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) يعني ملك السموات والأرض والدنيا والآخرة ، وقيل : يعني
ملك الملوك في الدنيا فهو كقوله : مالك الملك والأول أعم وأعظم (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) يعني موت الخلق وحياتهم ، وقيل : الموت الدنيا لأن أهلها
يموتون ، والحياة الآخرة لأنها باقية فهو كقوله : (وَإِنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت : ٦٤]
وهو على هذا وصف بالمصدر والأول أظهر (لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليختبركم ، واختبار الله لعباده إنما هو لتقوم عليهم
الحجة بما يصدر منهم ، وقد كان الله علم ما يفعلون قبل كونه ، والمعنى ليبلوكم
فيجازيكم بما ظهر منكم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأها فقال : أيكم أحسن عملا وأشدكم الله خوفا وأورع عن
محارم الله ، وأسرع في طاعة الله (سَبْعَ سَماواتٍ
طِباقاً) أي بعضها فوق بعض ، والطباق مصدر وصفت به السموات ، أو على
حذف مضاف تقديره : ذوات طباق وقيل : إنه جمع طبقة.
(ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي : من قلة تناسب وخروج عن الإتقان ، والمعنى أن خلقة
السموات في غاية الإتقان وقيل : أراد خلقة جميع المخلوقات ، ولا شك أن جميع
المخلوقات متقنة ، ولكن تخصيص الآية بخلقة السموات أظهر لورودها بعد قوله خلق سبع
سموات طباقا فبان قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت بيان وتكميل ما قبله ،
والخطاب في قوله : ما ترى وارجع البصر وما بعده للنبي صلىاللهعليهوسلم ، أو لكل مخاطب ليعتبر
__________________
(فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الفطور الشقوق جمع فطر ، وهو الشق. وإرجاع البصر : ترديده
في النظر ، ومعنى الآية : الأمر بالنظر إلى السماء فلا يرى فيها شقاق ولا خلل بل
هي ملتئمة مستوية (ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي انظر نظرا بعد نظر للتثبت والتحقق ، وقال الزمخشري :
معنى التثنية في كرتين التكثير لا مرتين خاصة. كقولهم : لبيك فإن معناه إجابات
كثيرة (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ
الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) الخاسئ هو المبعد عن الشيء الذي طلبه ، والحسير هو الكليل
الذي أدركه التعب ، فمعنى الآية أنك إذا نظرت إلى السماء مرة بعد مرة لترى فيها
شقاقا أو خلالا رجع بصرك ولم تر شيئا من ذلك ؛ فكأنه خاسئ لأنه لم يحصل له ما طلب
من رؤية الشقاق والخلل ، وهو مع ذلك كليل من شدة النظر وكثرة التأمل.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) السماء الدنيا : هي القريبة منا ، والمصابيح يراد بها
النجوم فإن كانت النجوم كلها في السماء الدنيا فلا إشكال ، لأنها ظاهرة فيها لنا ،
ويحتمل أن يريد أنه زيّن السماء الدنيا بالنجوم التي فيها دون التي في غيرها. على
أن القول بموضع الكواكب وفي أي سماء هي لم يرد في الشريعة (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي جعلنا منها رجوما ، لأن الكواكب الثابتة ليست ترجم
الشياطين ، فهو كقولك : أكرمت بني فلان ؛ إذا أكرمت بعضهم ، والرجوم جمع رجم وهو
مصدر سمي به ما يرجم به ، قال الزمخشري : معنى كون النجوم رجوما للشياطين : والشهب
تنقض من النجوم لرجم الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء ، فالشهب الراجمة
منفصلة من نار الكواكب ، لا أن الراجمة هي الكواكب أنفسها ؛ لأنها ثابتة في
الفلك. قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاثة أشياء زينة السماء ورجوم الشياطين
ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ
عَذابَ السَّعِيرِ) يعني للشياطين (سَمِعُوا لَها
شَهِيقاً) الشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار ، ويعني به هنا ما يسمع
من صوت جهنم لشدّة غليانها وهولها أو شهيق أهلها ، والأول أظهر (وَهِيَ تَفُورُ) أي تغلي بأهلها غليان القدر بما فيها (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد جهنم ينفصل بعضها من بعض لشدّة غيظها على الكفار ،
فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها ، ويحتمل أن يريد غيظ الزبانية والأول أظهر ؛
لأن حال الزبانية يذكر بعد هذا ، وغيظ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراك يخلقه
الله لها ، أو يكون عبارة عن شدتها (كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ) أي كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألتهم الزبانية هل
جاءكم من نذير؟ أي رسول ، وهذا السؤال على وجه
__________________
التوبيخ وإقامة
الحجة عليهم ، ولذلك اعترفوا فقالوا : بلى قد جاءنا نذير ، وقوله : كلما يقتضي أن
يقال ذلك لكل جماعة تلقى في النار (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار ، أو من قول الكفار
للرسل في الدنيا.
(وَقالُوا) الضمير للكفار أي لو كنا نسمع كلام الرسل ونعقل الصواب ما
كنا في أصحاب السعير (فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ) اعترافهم هذا في وقت لا ينفعهم الاعتراف ، وذنبهم هنا يراد
به تكذيب الرسل (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ
السَّعِيرِ) انتصب فسحقا بفعل مضمر على معنى الدعاء عليهم (بِالْغَيْبِ) فيه قولان : أحدهما أن معناه وهم غائبون عن الناس ، ففي
ذلك وصف لهم بالإخلاص والآخر أن الغيب ما غاب عنهم من أمور الآخرة وغيرها. على أن
هذا القول إنما يحسن في قوله يؤمنون بالغيب (وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) المعنى سواء جهرتم أو أسررتم ، فإن الله يعلم الجهر والسر (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) هذا برهان على أن الله تعالى يعلم كل شيء ، لأن الخالق يعلم
مخلوقاته ، ويحتمل أن يكون من خلق فاعلا يراد به الخالق والمفعول محذوف تقديره :
ألا يعلم الخالق خلقه أو يكون من خلق مفعولا والفاعل مضمر تقديره : ألا يعلم الله
من خلق ، والأول أرجح ؛ لأن من خلق إذا كان مفعولا اختص بمن يعقل ، والمعنى الأول
يعم من يعقل ومن لا يعقل (الْأَرْضَ ذَلُولاً) فعول هنا بمعنى : مفعول ، أي ذلولة فهي كركوب وحلوب (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) قال ابن عباس : هي الجبال وقيل : الجوانب والنواحي وقيل :
الطرق والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض ، فاستعار لها الذل والمناكب
تشبيها بالدواب (وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ) يعني البعث يوم القيامة (أَأَمِنْتُمْ) الآية مقصودها التهديد والتخويف للكفار ، وكذلك الآية التي
بعدها (تَمُورُ) ذكر في الطور [٩]
(حاصِباً) يحتمل أن يريد حجارة أو ريحا شديدة (نَذِيرِ) بمعنى الإنذار وكذلك النكير بمعنى الإنكار (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) تنبيه على الاعتبار بطيران الطيور في الهواء من غير شيء
يمسكها ، وصافّات جمع صافة وهي التي تبسط جناحها للطيران ، والقبض : ضم الجناحين
إلى الجنب وعطف يقبض على صافات ، لأن الفعل في معنى الاسم تقديره : قابضات فإن قيل
: لم لم يقل قابضات على
__________________
طريقة صافات؟
فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران ، كما أن مدّ الأطراف هو الأصل في
السباحة ، فذكر بصيغة اسم الفاعل لدوامه وكثرته ، وأما قبض الجناحين فإنما يفعله
الطائر قليلا للاستراحة والاستعانة ، فذكر بلفظ الفعل لقلته
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي
هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) خطاب للكفار على وجه التوبيخ والتهديد وإقامة الحجة عليهم
، ودخلت أم التي يراد بها الإنكار على من فأدغمت فيها ، وكذلك أمّن هذا الذي
يرزقكم والضمير في أمسك لله أي من يرزقكم إن منع الله رزقه ، بل لجّوا أي تمادوا
في العتوّ والنفور عن الإيمان.
(أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) الآية توقيف على الحالتين ، أيهما أهدى والمراد بها توبيخ
الكفار ، وفي معناها قولان : أحدهما أن المشي هنا استعارة في سلوك طريق الهدى
والضلال في الدنيا ، والآخر أنه حقيقة في المشي في الآخرة لأن الكافر يحمل على
المشي إلى جهنم على وجهه ، فأما على القول الأول فقيل : إن الذي يمشي مكبا أبو جهل
والذي يمشي سويا سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : حمزة وقيل : هي على العموم في كل مؤمن وكافر ،
وقد تمشي هذه الأقوال أيضا على الثاني ، والمكب هو الذي يقع على وجهه يقال : أكب
الرجل وكبه غيره ، فالمعدي دون همزة والقاصر بالهمزة بخلاف سائر الأفعال (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الضمير للكفار والوعد يراد به البعث أو عذابهم في الدنيا (فَلَمَّا رَأَوْهُ) ضمير الفاعل للكفار وضمير المفعول للعذاب الذي يتضمنه
الوعد (زُلْفَةً) أي قريبا وقيل : عيانا (سِيئَتْ وُجُوهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ظهر فيها السوء لما حل بها (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَدَّعُونَ) تفتعلون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به ، والقائلون
لذلك الملائكة أو يقال لهم بلسان الحال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) الآية سببها أن الكفار كانوا يتمنون هلاك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين ، فأمره الله أن يقول لهم : إن أهلكني الله
وأهلك من معي أو رحمنا فإنكم لا تنجون من العذاب الأليم على كل حال ، والهلاك هنا
يحتمل أن يراد به الموت أو غيره ، ومعنى من يجير الكافرين من عذاب أليم : من
يمنعهم من العذاب (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) الآية احتجاج على المشركين ، والغور مصدر وصف به فهو بمعنى
غاير أي ذاهب في الأرض ، والمعين الكثير ، واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول فالمعنى
إن غار ماؤكم الذي تشربون هل يأتيكم غير الله بماء معين؟
سورة القلم
مكية إلا آية ١٧
إلى غاية آية ٣٣ ومن آية ٤٨ إلى غاية آية ٥٠ فمدنية وآياتها ٥٢ نزلت بعد العلق
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(ن) حرف من حروف الهجاء وقد تقدم الكلام عليها في البقرة ،
ويختص ن بأنه قيل : إنه حرف من الرحمن فإن حروف الرحمن ألف ولام وراء وحاء وميم ون
وقيل : إن نون هنا يراد به الحوت ، ومنه ؛ ذو النون يونس (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) اختلف فيه على قولين أحدهما : أنه القلم الذي كتب به اللوح
المحفوظ ، فالضمير في يسطرون للملائكة والآخر : أنه القلم المعروف عند الناس ،
أقسم الله به لما فيه من المنافع والحكم ، والضمير في يسطرون على هذا لبني آدم (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِمَجْنُونٍ) هذا جواب القسم وهو خطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم معناه : نفي نسبة الكفار له من الجنون ، وبنعمة ربك اعتراض
بين ما وخبرها كما تقول : أنت بحول الله أفضل والمجرور في موضع الحال ، وقال
الزمخشري : إن العامل فيه بمجنون (غَيْرَ مَمْنُونٍ) ذكر في فصلت [٨].
(وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) هذا ثناء على خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم القرآن ، تعني التأدب بآدابه وامتثال أوامره ، وعبر ابن عباس عن
الخلق بالدين والشرع وذلك رأس الخلق ، وتفصيل ذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جمع كل فضيلة ، وحاز كل خصلة جميلة ، فمن ذلك شرف النسب
ووفور العقل وصحة الفهم ، وكثرة العلم ، وشدّة الحياء ، وكثرة العبادة والسخاء
والصدق والشجاعة والصبر والشكر والمروءة والتودد والاقتصاد والزهد والتواضع
والشفقة والعدل والعفو وكظم الغيظ وصلة الرحم وحسن المعاشرة وحسن التدبير وفصاحة
اللسان وقوة الحواس وحسن الصورة وغير ذلك ، حسبما ورد في أخباره وسيره صلىاللهعليهوآلهوسلم ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
، وقال
__________________
الجنيد : سمى خلقه
عظيما ، لأنه لم تكن له همة سوى الله عزوجل
(فَسَتُبْصِرُ
وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) قيل : إن المفتون هنا بمعنى المجنون ، ويحتمل غير ذلك من
معاني الفتنة ، والخطاب في قوله : فستبصر للنبي صلىاللهعليهوسلم وفي قوله ويبصرون لكفار قريش ، واختلف في الباء التي في
قوله بأيكم على أربعة أقوال : الأول أنها زائدة ، الثاني أنها غير زائدة والمعنى
بأيكم الفتنة فأوقع المفتون موقع الفتنة كقولهم : ماله معقول أي عقل ، الثالث أن
الباء بمعنى في والمعنى في أي فريق منكم المفتون واستحسن ابن عطية هذا ، الرابع أن
المعنى بأيكم فتنة المفتون ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
(وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) المداهنة هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي ، وروي أن
الكفار قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك ، فنزلت الآية ولم ينتصب
فيدهنون في جواب التمني ؛ بل رفعه بالعطف على تدهن قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري
: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم يدهنون (حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحق والباطل (مَهِينٍ) هو الضعيف الرأي والعقل قال ابن عطية : هو من مهن إذا ضعف
، فالميم فاء الفعل ، وقال الزمخشري : هو من المهانة وهي الذلة والحقارة وقال ابن
عباس : المهين الكذاب (هَمَّازٍ) هو الذي يعيب الناس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي كثير المشي بالنميمة ، يقال : نميم ونميمة بمعنى واحد ،
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا يدخل الجنة نمام (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي شحيح ، لأن الخير هنا هو المال. وقيل : معناه مناع من
الخير ، أي يمنع الناس من الإسلام ، والعمل الصالح (مُعْتَدٍ) هو من العدوان وهو الظلم (أَثِيمٍ) من الإثم وهو ارتكاب المحرمات (عُتُلٍ) أي غليظ الجسم ، قاسي القلب بعيد الفهم ، كثير الجهل (زَنِيمٍ) أي ولد زنا ؛ وقيل : هو الذي في عنقه زنمة كزنمة الشاة
التي تعلق في حلقها ، وقيل : معناه مريب قبيح الأفعال. وقيل : ظلوم ، وقيل : لئيم
وقوله : بعد ذلك أي بعد ما ذكرنا من عيوبه ، فهذا الترتيب في الوصف لا في الزمان ،
واختلف في الموصوف بهذه الأوصاف الذميمة ، فقيل : لم يقصد بها شخص معين ، بل كل من
اتصف بها ، وقيل : المقصود بها الوليد بن المغيرة ، لأنه وصفه بأنه ذو مال وبنين ،
وكذلك كان ، وقيل : أبو جهل وقيل : الأخنس بن شريق ، ويؤيد هذا أنه كانت له زنمة
في عنقه ، قال ابن عباس : عرفناه بزنمته وكان لقيطا من ثقيف ، ويعدّ في بني زهرة ،
فيصح وصفه بزنيم على القولين ، وقيل : الأسود بن عبد يغوث (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) في موضع مفعول من أجله يتعلق بقوله : لا تطع أي لا تطعه
بسبب كثرة ماله وبنيه ، ويجوز أن
__________________
يتعلق بما بعده ،
والمعنى على هذا أنه قال في القرآن أساطير الأولين ، لأنه ذو مال وبنين ، يتكبر
بماله وبنيه ، والعامل في أن كان على هذا فعل من المعنى ، ولا يجوز أن يعمل فيه
قال الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله والأول أظهر ، وقد
تقدم معنى أساطير الأولين (سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ) أصل الخرطوم : أنف السبع [والفيل] ثم استعير للإنسان
استخفافا به ، وتقبيحا له والمعنى نجعل له سمة. وهي العلامة على خرطومه ، واختلف
في هذه السمة قيل : هي الضربة بالسيف يوم بدر ، وقيل : علامة من نار تجعل على أنفه
في جهنم. وقيل : علامة تجعل على أنفه يوم القيامة ليعرف بها.
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ
كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي بلونا قريشا كما بلونا أصحاب الجنة ، وكانوا إخوة من
بني إسرائيل لهم جنة ، روي أنها بمقربة من صنعاء ، فحلفوا أن لا يعطوا مسكينا منها
شيئا ، وباتوا عازمين على ذلك ، فأرسل الله على جنتهم طائفا من نار فأحرقتها ،
فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها ، فحسبوا أنهم أخطئوا الطريق ، ثم تبينوها فعرفوها
، وعلموا أن الله عاقبهم فيها بما قالوا ، فندموا وتابوا إلى الله ، ووجه تشبيه
قريش بأصحاب الجنة ؛ أن الله أنعم على قريش ببعث محمد صلىاللهعليهوسلم ، كما أنعم على أصحاب الجنة بالجنة ، فكفر هؤلاء بهذه
النعمة كما فعل أولئك ، فعاقبهم الله كما عاقبهم وقيل : شبّه قريشا لما أصابهم
الجوع بشدة القحط ، حين دعا عليهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأصحاب الجنة لما هلكت جنتهم (إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي حلفوا أن يقطعوا غلة جنتهم عند الصباح وكانت الغلة ثمرا
(وَلا يَسْتَثْنُونَ) في معناه ثلاثة أقوال : أحدها لم يقولوا إن شاء الله حين
حلفوا ليصرمنها ، والآخر لا يستثنون شيئا من ثمرها إلا أخذوه لأنفسهم والثالث لا
يتوقفون في رأيهم ولا ينتهون عنه أي لا يرجعون عنه (فَطافَ عَلَيْها
طائِفٌ) قال الفراء : الطائف الأمر الذي يأتي بالليل (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) فيه أربعة أقوال : الأول أصبحت كالليل لأنها اسودّت لما
أصابها ، والصريم في اللغة الليل الثاني أصبحت كالنهار لأنها ابيضت كالحصيد ويقال
: صريم لليل والنهار. الثالث أن الصريم : الرماد الأسود بلغة بعض العرب الرابع
أصبحت كالمصرومة أي المقطوعة (فَتَنادَوْا
مُصْبِحِينَ) أي نادى بعضهم بعضا حين أصبحوا وقال بعضهم لبعض : (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) أي جنتكم (إِنْ كُنْتُمْ
صارِمِينَ) أي حاصدين لثمرتها (يَتَخافَتُونَ) يكلم بعضهم بعضا في السر ويقولون : (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ
مِسْكِينٌ) وأن في قوله : أن اغدوا وأن لا يدخلنها حرف عبارة وتفسير.
(وَغَدَوْا عَلى
حَرْدٍ قادِرِينَ) في الحرد أربعة أقوال : الأول أنه المنع الثاني أنه القصد
الثالث أنه الغضب الرابع أن الحرد اسم للجنة وقادرين يحتمل أن يكون من القدرة ، أي
قادرين في زعمهم أو من التقدير : بمعنى التضييق أي ضيقوا على المساكين (إِنَّا لَضَالُّونَ) أي أخطأنا طريق الجنة. قالوا ذلك لما لم يعرفوها ، فلما
عرفوها ورأوا ما أصابها قالوا : (بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) أي حرمنا الله خيرها (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي خيرهم وأفضلهم ومنه أمة وسطا أي خيارا : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي تقولون : سبحان الله وقيل : هو عبارة عن طاعة الله
وتعظيمه ، وقيل : أراد الاستثناء في اليمين كقولهم : إن شاء الله. والأول أظهر
لقولهم بعد ذلك سبحان ربنا. والمعنى أن هذا الذي هو أفضلهم كان قد حضهم على
التسبيح (يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا عزموا عليه من منع
المساكين ، أو على غفلتهم عن التسبيح بدليل قوله : ألم أقل لكم لو لا تسبحون (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً
مِنْها) يحتمل أنهم طلبوا البدل في الدنيا ، أو في الآخرة. والأول
أرجح لأنه روي عن ابن مسعود أن الله أبدلهم جنة يحمل البغل منها عنقودا (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل هذا العذاب الذي ينزل بأهل الجنة ينزل بقريش.
(أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) الهمزة للإنكار أي كيف يسوّي الله بين المسلمين والمجرمين؟
بل يجازي كل أحد بعمله ، والمراد بالمجرمين هنا الكفار (ما لَكُمْ) توبيخ للكفار وما مبتدأ ولكم خبره ، وتم الكلام هنا فينبغي
أن يوقف عليه (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) توبيخ آخر أي كيف تحكمون بأهوائكم وتقولون ما ليس لكم به
علم؟ (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ
لَما تَخَيَّرُونَ) هذه الجملة معمول تدرسون ، وكان أصل إن الفتح وكسرت لأجل
اللام التي في خبرها. وتخيّرون معناه تختارون لأنفسكم ، ومعنى الآية : هل لكم كتاب
، من عند الله تدرسون فيه أن لكم ما تختارونه لأنفسكم (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) المعنى هل حلفنا لكم أيمانا أن لكم ما تحكمون؟ ومعنى بالغة
ثابتة واصلة إلى يوم القيامة ، وقوله : إن لكم هو جواب القسم الذي يقتضيه الأيمان
، ولذلك أكده بإن واللام وما تحكمون هو اسم إن دخلت عليه اللام المؤكدة (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ)؟ أي يا محمد اسأل قريشا أيهم زعيم بهذه الأمور ، والزعيم :
هو الضامن للأمر القائم به (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) هذا تعجيز للكفار ، ومعناه : إن كان لكم شركاء يقدرون على
شيء فأتوا بهم ،
واختلف هل قوله : فليأتوا بهم في الدنيا ، أي أحضروهم حتى يرى حالهم أو يقال لهم
ذلك يوم القيامة ؛ والشركاء هم المعبودون من الأصنام وغيرها. وقال الزمخشري :
معناه أم لكم ناس يشاركونكم في هذا القول ، ويوافقونكم عليه فأتوا بهم. يعني أنهم
لا يوافقهم أحد عليه ، والأول أظهر.
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) قال المتأولون ذلك عبارة عن هول يوم القيامة وشدّته ، وفي
الحديث الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : : ينادي مناد يوم القيامة : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ،
فيتبع الشمس من كان يعبد الشمس ، ويتبع القمر من كان يعبد القمر ، ويتبع كل أحد ما
كان يعبد ، ثم تبقى هذه الأمة وغبرات من أهل الكتاب معهم منافقوهم فيقال لهم : ما
شأنكم فيقولون ننتظر ربنا قال فيجيئهم الله في غير الصورة التي عرفوه فيقول : أنا
ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك ، قال فيقول : أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون نعم
فيكشف لهم عن ساق فيقولون : نعم أنت ربنا ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن ، وترجع
أصلاب المنافقين عظما واحدا فلا يستطيعون سجودا وتأويل الحديث كتأويل الآية (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) تفسيره في الحديث الذي ذكرنا ، فإن قيل : كيف يدعون في
الآخرة إلى السجود وليست الآخر دار تكليف؟ فالجواب : أنهم يدعون إليه على وجه
التوبيخ لهم على تركهم السجود في الدنيا لا على وجه التكليف والعبادة (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود فيمتنعون منه ،
وهم سالمون في أعضائهم قادرون عليه (فَذَرْنِي وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) تهديد للمكذبين بالقرآن وإعراب من يكذب مفعول معه أو معطوف
، وقد ذكرنا في الأعراف [١٨٢] سنستدرجهم وما بعده (أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً) معناه أنت لا تسألهم أجرة على الإسلام فتثقل عليهم ، فلا
عذر لهم في تركهم الإسلام ، وقد فسرنا هذا وما بعده في الطور [٤٠]
(فَاصْبِرْ) يقتضي مسالمة للكفار ، نسخت بالسيف (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) هو يونس عليهالسلام وسماه صاحب الحوت ، لأن الحوت ابتلعه ، وهو أيضا ذو النون
، والنون هو الحوت ، وقد ذكرنا قصته في الأنبياء والصافات ، فنهى الله محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يكون مثله في الضجر والاستعجال ، حتى ذهب مغاضبا ، وروي
أن هذه الآية نزلت لما همّ النبي صلىاللهعليهوسلم أن يدعو على الكفار (إِذْ نادى وَهُوَ
__________________
مَكْظُومٌ) هذا آخر ما جرى ليونس ونداؤه هو قوله في بطن الحوت لا إله
إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، والمكظوم الشديد الحزن (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) هو جواب لو لا ، والمنفي هو الذم لا نبذه بالعراء ، فإنه
قد قال في الصافات فنبذناه بالعراء فالمعنى لو لا رحمة الله لنبذ بالعراء وهو
مذموم ، لكنه نبذ وهو غير مذموم ، وقد ذكرنا العراء في الصافات (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) عبارة عن شدة عداوتهم ، وإن مخففة من الثقيلة بدليل دخول
اللام وليزلقونك معناه يهلكونك كقولك : نظر فلان إلى عدوه نظرة كاد يصرعه ، وأصله
من زلق القدم ، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان وقيل : إن المعنى
: يأخذونه بالعين ، وكان ذلك في بني أسد كان الرجل منهم يجوع ثلاثة أيام فلا يتكلم
على شيء إلا أصابه بالعين ، فأراد بعضهم أن يصيب النبي صلىاللهعليهوسلم فعصمه الله من ذلك ، وقال الحسن دواء من أصيب بالعين قراءة
هذه الآية (وَما هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يعني القرآن أو هو موعظة وتذكير للخلق.
سورة الحاقة
مكية وآياتها ٥٢
نزلت بعد الملك
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الْحَاقَّةُ) هي القيامة ، ووزنها فاعلة وسميت الحاقة لأنها تحق ، أي
يصح وجودها ، ولا ريب في وقوعها ولأنها حقت لكل أحد جزاء عمله ، أو لأنها تبدئ
حقائق الأمور (مَا الْحَاقَّةُ) ما استفهامية يراد بها التعظيم ، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده
والجملة خبر الحاقة ، وكان الأصل الحاقة ما هي ، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة
في التعظيم والتهويل ، وكذلك ، وما أدراك ما الحاقة لفظه استفهام والمراد به
التعظيم والتهويل (بِالْقارِعَةِ) هي القيامة سميت بذلك ؛ لأنها تقرع القلوب بأهوالها (بِالطَّاغِيَةِ) يعني الصيحة التي أخذت ثمود ، وسميت بذلك لأنها جاوزت
الحدّ في الشدة ، وقيل : الطاغية مصدر فكأنه قال : أهلكوا بطغيانهم ، فهو كقوله :
كذبت ثمود بطغواها وقيل : هي صفة لمحذوف تقديره أهلكوا بسبب الفعلة الطاغية ، أو
الفئة الطاغية والباء ، على هذين القولين سببية. وعلى القول الأول كقولك : قتلت
زيدا بالسيف (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عاتِيَةٍ) ذكر في فصلت [١٦] ، وعاتية أي شديدة. وسميت بذلك لأنها عتت
على عاد ، وقيل : عتت على خزانها ، فخرجت بغير إذنهم (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ
سَبْعَ لَيالٍ) روي أنها بدت صبيحة يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال ،
وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكملة الشهر (حُسُوماً) قال ابن عباس : معناه كاملة متتابعة لم يتخللها غير ذلك ،
وقيل : معناه شؤما وقيل : هو جمع حاسم من الحسم. وهو القطع أي قطعتهم بالإهلاك ،
فحسوما على القول الأول والثاني مصدر في موضع الحال ، وعلى الثالث حال أو مفعول من
أجله (فَتَرَى الْقَوْمَ
فِيها صَرْعى) جمع صريع وهو المطروح بالأرض ، والضمير المجرور يعود على
منازلهم ، لأن المعنى يقتضيها وإن لم يتقدم ذكرها ، أو على الأيام والليالي ، أو
على الريح (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ
نَخْلٍ خاوِيَةٍ) تقدم في القمر معنى تشبيههم بأعجاز النخل ، والخاوية هي
التي خلت من طول بلائها
وفسادها (مِنْ باقِيَةٍ) أي من بقية ، وقيل : من فئة باقية وقيل : إنه مصدر بمعنى
البقاء.
(وَمَنْ قَبْلَهُ) يريد من تقدم قبله من الأمم الكافرة ، وأقربهم إليه قوم
شعيب ، والظاهر أنهم المراد لأن عادا وثمود قد ذكرا ، وقوم لوط هم المؤتفكات ،
وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله : لما طغى الماء حملناكم في الجارية ، وقرأ [أبو
عمرو والكسائي قبله] بكسر القاف وفتح الباء ومعناه : جنده وأتباعه (بِالْخاطِئَةِ) إما أن يكون مصدرا بمعنى الخطيئة أو صفة لمحذوف تقديره :
بالفعلة الخاطئة (فَعَصَوْا رَسُولَ
رَبِّهِمْ) إن عاد الضمير على فرعون وقومه ، فالرسول موسى عليهالسلام ، وإن عاد على المؤتفكات : فالرسول لوط عليهالسلام ، وإن عاد على الجميع : فالرسول اسم جنس أو بمعنى الرسالة (رابِيَةً) أي عظيمة وهي من قولك : ربا الشيء إذا كثر (طَغَى الْماءُ) عبارة عن كثرته ، فيحتمل أن يريد أنه طغى على أهل الأرض ،
أو على خزانه يعني وقت طوفان نوح عليهالسلام (حَمَلْناكُمْ فِي
الْجارِيَةِ) هي السفينة ، فإن أراد سفينة نوح فمعنى حملناكم حملنا
آباءكم لأن كل من على الأرض من ذرية نوح وأولاده الثلاثة الذين كانوا معه في
السفينة ، وإن أراد جنس السفن فالخطاب على حقيقته.
(لِنَجْعَلَها لَكُمْ
تَذْكِرَةً) الضمير للفعلة وهي الحمل في السفينة وقيل : للسفينة ، فإن
أراد جنس السفن : فالمعنى أنها تذكرة بقدرة الله ونعمته لمن ركب أو سمع بها ، وإن
أراد سفينة نوح فقد قيل : إن الله أبقاها حتى رأى بعض عيدانها أول هذه الأمة (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير لنجعلها ، وهذا يقوي أن
يكون للفعلة ، والأذن الواعية : هي التي تفهم ما تسمع وتحفظه ، يقال : وعيت العلم
إذا حصلته ، ولذلك عبّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لعلي بن أبي طالب : إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا
عليّ ، قال عليّ فما نسيت بعد ذلك شيئا سمعته ، قال الزمخشري : إنما قال : أذن
واعية بالتوحيد والتنكير ، للدلالة على قلة الوعاة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم
، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله تعالى فهي المعتبرة عند الله
دون غيرها (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) يعني نفخة الصور وهي الأولى (فَدُكَّتا) الضمير للأرض والجبال ، ومعنى دكتا ضرب بعضها ببعض حتى
تندق ، وقال الزمخشري : الدك أبلغ من الدق ، وقيل : معناه بسطت حتى تستوي الأرض
والجبال.
(وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة ، وقيل : وقعت صخرة بيت المقدس وهذا ضعيف
__________________
(واهِيَةٌ) أي مسترخية ساقطة القوة ، ومنه قولهم : دار واهية أي ضعيفة
الجدران (وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) الملك هنا اسم جنس والأرجاء الجوانب واحدها رجى مقصور ،
والضمير يعود على السماء ، والمعنى إن الملائكة يكونون يوم القيامة على جوانب
السماء ، لأنها إذا وهيت وقفوا على أطرافها ، وقيل : يعود على الأرض لأن المعنى
يقتضيه ، وإن لم يتقدم ذكرها ، وروي في ذلك أن الله يأمر الملائكة فتقف صفوفا على
جوانب الأرض. والأول أظهر وأشهر (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال ابن عباس : هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد
عدّتهم. وقيل : ثمانية أملاك رؤوسهم تحت العرش وأرجلهم تحت الأرض السابعة ، ويؤيد
هذا ما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : هو اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم
الله بأربعة سواهم.
(يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ) خطاب لجميع العالم ، والعرض : البعث أو الحساب (خافِيَةٌ) أي حال خافية من الأعمال والسرائر ، ويحتمل المعنى لا يخفى
من أجسادهم لأنهم يحشرون حفاة عراة (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الكتاب هنا صحائف الأعمال (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) هاؤم اسم فعل ، قال ابن عطية : معناه تعالوا وقال الزمخشري
: هو صوت يفهم منه معنى خذ ، وكتابيه مفعول يطلبه هاؤم واقرءوا من ضمير المعنى
تقديره هاؤم كتاب اقرؤا كتابي ثم حذف لدلالة الآخر عليه وعمل فيه العامل ، الثاني
: وهو اقرءوا عند البصريين ، والعامل الأول هو هاؤم عند الكوفيين ، والدليل على
صحة قول البصريين أنه لو عمل الأول لقال اقرءوه ، والهاء في كتابيه للوقف ، وكذلك
في حسابيه وماليه وسلطانيه ، وكان الأصل أن تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة
لخط المصحف وقد أسقطها في الوصل [حمزة] ، ومعنى الآية : أن العبد الذي يعطى كتابه
بيمينه يقول للناس : اقرءوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه (إِنِّي ظَنَنْتُ) الظن هنا بمعنى اليقين (راضِيَةٍ) أي ذات رضا كقولهم : تامر لصاحب التمر. قال ابن عطية :
ليست بياء اسم فاعل ، وقال الزمخشري : يجوز أن يكون اسم فاعل نسب الفعل إليها
مجازا وهو لصاحبها حقيقة (قُطُوفُها) جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالعنقود (دانِيَةٌ) أي قريبة ، وروي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها ، على أي
حال كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع (أَسْلَفْتُمْ) أي قدمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ
الْخالِيَةِ) أي الماضية يعني أيام الدنيا.
__________________
(وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) هم الكفار بدليل قوله : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم فجعل
علة إعطائهم كتبهم بشمالهم عدم إيمانهم ، وأما المؤمنون فيعطون كتبهم بأيمانهم ،
لكن اختلف فيمن يدخل النار منهم ، هل يعطى كتابه قبل دخول النار أو بعد خروجه منها؟
وهذا أرجح لقوله : هاؤم اقرءوا كتابيه ، لأن هذا كلام سرور فيبعد أن يقوله من يحمل
إلى النار (فَيَقُولُ يا
لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) أي يتمنى أنه لم يعط كتابه وقال ابن عطية : يتمنى أن يكون
معدوما لا يجري عليه شيء والأول أظهر (يا لَيْتَها كانَتِ
الْقاضِيَةَ) أي ليت الموتة الأولى كانت القاضية بحيث لا يكون بعدها بعث
ولا إحياء (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) يحتمل أن يكون نفيا ، أو استفهاما يراد به النفي (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي زال عني ملكي وقدرتي وقيل : ذهبت عني حجتي.
(خُذُوهُ) خطاب للزبانية يقوله لهم الله تعالى أو الملائكة بأمر الله
(فَغُلُّوهُ) أي اجعلوا غلا في عنقه ؛ وروي أنها نزلت في أبي جهل (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) معنى ذرعها أي طولها ، واختلف في هذا الذراع فقيل : إنه
الذراع المعروف ، وقيل : بذراع الملك وقيل : في الذراع سبعون باعا ، كل باع ما بين
مكة والكوفة ، ولله در الحسن البصري في قوله : الله أعلم بأي ذراع هي ، وجعلها
سبعين ذراعا لإرادة وصفها بالطول ، فإن السبعين من الأعداد التي تقصد بها العرب
التكثير ، ويحتمل أن تكون هذه السلسلة لكل واحد من أهل النار ، أو تكون بين جميعهم
وقد حكى الثعلبي ذلك (فَاسْلُكُوهُ) أي أدخلوه روي أنها تلتوي عليه حتى تعمه وتضغطه ، فالكلام
على هذا على وجهه وهو المسلوك فيها ، وإنما قدم قوله : في سلسلة على اسلكوه لإرادة
الحصر ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة وكذلك قدّم الحميم على صلّوه لإرادة
الحصر أيضا (طَعامِ الْمِسْكِينِ) يحتمل أنه أراد إطعام مسكين ، فوضع الاسم موضع المضمر أو
يقدر : لا يحض على بذل طعام المسكين ، وأضاف الطعام إلى المسكين ؛ لأن له إليه
نسبة ، ووصفه بأنه لا يحض على طعام المسكين يدل على أنه لا يطعمه من باب أولى ،
وهذه الآية تدل على عظم الصدقة وفضلها ، لأنه قرن منع طعام المسكين بالكفر بالله (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) فيه قولان : أحدهما ليس له صديق والآخر : ليس له شراب (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) فإن الحميم الماء
__________________
الحار ، والغسلين
صديد أهل النار عند ابن عباس. وقيل : شجر يأكله أهل النار ، وقال اللغويون : هو ما
يجري من الجراح إذا غسلت وهو فعلين من الغسل (الْخاطِؤُنَ) جمع خاطئ وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمّدا ، والمخطئ الذي
يفعله بغير تعمد.
(فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة غير نافية (بِما تُبْصِرُونَ
وَما لا تُبْصِرُونَ) يعني جميع الأشياء لأنها تنقسم إلى ما يبصر وما لا يبصر ،
كالدنيا والآخرة والإنس والجن والأجسام والأرواح وغير ذلك (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا جواب القسم والضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل
: لمحمد عليه الصلاة والسلام (قَلِيلاً ما
تُؤْمِنُونَ) قال ابن عطية : يحتمل أن تكون ما نافية ، فنفى إيمانهم
بالجملة أو تكون مصدرية فوصف إيمانهم بالقلة ، وقال الزمخشري : القلة هنا بمعنى
العدم ، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة.
(وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) التقوّل هو أن ينسب إلى أحد ما لم يقل ، ومعنى الآية : لو
تقوّل علينا محمد لعاقبناه ، ففي ذلك برهان على أن القرآن من عند الله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) قال ابن عباس : هنا القوة ومعناه : لو تقوّل علينا لأخذناه
بقوتنا وقيل : هي عبارة عن الهوان كما يقال لمن يسجن : أخذ بيده وبيمينه ، قال
الزمخشري : معناه لو تقوّل علينا لقتلناه ، ثم صور صورة القتل ليكون أهول ، عبر عن
ذلك بقوله : لأخذنا منه باليمين ، لأن السيّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جسده
أخذ بيده اليمنى ليكون ذلك أشد عليه لنظره إلى السيف (الْوَتِينَ) نياط القلب ، وهو عرق إذا قطع مات صاحبه ، فالمعنى لقتلناه
(فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الحاجز المانع ، والمعنى : لو عاقبناه لم يمنعه أحد منكم
ولم يدفع عنه وإنما جمع حاجزين ، لأن أحد في معنى الجماعة (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ) الضمير للقرآن وقيل : لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم والأول أظهر (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ
عَلَى الْكافِرِينَ) أي حسرة عليهم في الآخرة ، لأنهم يتأسفون إذا رأوا ثواب
المؤمنين (وَإِنَّهُ لَحَقُّ
الْيَقِينِ) قال الكوفيون هذا من إضافة الشيء إلى نفسه ، كقولك : مسجد
الجامع ، وقال الزمخشري : المعنى : عين اليقين ومحض اليقين ، وقال ابن عطية : ذهب
الحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه.
__________________
سورة المعارج
مكية وآياتها ٤٤
نزلت بعد الحاقة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ) من قرأ سأل بالهمز احتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء ، أي
دعا داع بعذاب واقع ، وقد تكون الإشارة إلى قول الكفار : أمطر علينا حجارة من
السماء ، وكان الذي قالها النضر بن الحرث ، والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار ، أي
سأل سائل عن عذاب واقع ، والباء على هذا بمعنى عن ، وتكون الإشارة إلى قوله متى
هذا الوعد؟ وغير ذلك ، وأما من قرأ سال بغير همز فيحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون
مخففا من المهموز ، فيكون فيه المعنيان المذكوران ، والثاني أن يكون من سال السيل
إذا جرى ، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس : سال سيل ، وتكون الباء على هذا كقولك ذهبت
بزيد ، وإذا كان من السيل احتمل وجهين : أحدهما أن يكون شبّه العذاب في شدته وسرعة
وقوعه بالسيل وثانيهما أن تكون حقيقة قال زيد بن ثابت : في جهنم واد يقال له سائل
، فتلخص من هذا أن في القراءة بالهمز يحتمل معنيين وفي القراءة بغير همز أربعة
معان (لِلْكافِرينَ) يحتمل أن يتعلق بواقع وتكون اللام بمعنى على ، أو تكون صفة
للعذاب ، أو يتعلق بسأل إذا كانت بمعنى دعا ، أي دعا للكافرين بعذاب ، أو تكون
مستأنفا كأنه قال : هو للكافرين (مِنَ اللهِ) يحتمل أن يتعلق بواقع أي واقع من عند الله ، أو بدافع أي
ليس له دافع من عند الله ، أو يكون صفة للعذاب أو مستأنفا (ذِي الْمَعارِجِ) جمع معرج وهو المصعد إلى علو كالسلم ، والمدارج التي يرتقى
بها قال ابن عطية : هي هنا مستعارة في الفضائل والصفات الحميدة ، وقيل : هي
المراقي إلى السماء ، وهذا أظهر لأنه فسرها بما بعدها من عروج الملائكة.
(وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) أي إلى عرشه ، ومن حيث تهبط أوامره وقضاياه ، فالعروج هو
من الأرض إلى العرش ، والروح هنا جبريل عليهالسلام بدليل قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣]
وقيل : الروح ملائكة حفظة على الملائكة ، وهذا ضعيف مفتقر إلى صحة نقل. وقيل :
الروح جنس أرواح الناس وغيرهم (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ
__________________
خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ) اختلف في هذا
اليوم على قولين : أحدهما أنه يوم القيامة والآخر أنه في الدنيا والصحيح أنه يوم
القيامة لقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حديث مانع الزكاة : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي
زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد» يعني يوم القيامة ثم اختلف هل مقداره خمسون ألف سنة حقيقة؟
وهذا هو الأظهر ، أو هل وصف بذلك لشدة أهواله؟ كما يقال : يوم طويل إذا كان فيه
مصائب وهموم ، وإذا قلنا إنه في الدنيا فالمعنى أن الملائكة والروح يعرجون في يوم
لو عرج فيه الناس لعرجوا في خمسين ألف سنة وقيل : الخمسون ألف سنة هي مدة الدنيا
والملائكة تعرج وتنزل في هذه المدة ، وهذا كله على أن يكون قوله : في يوم يتعلق
بتعرج ويحتمل أن يكون في يوم صفة للعذاب ، فيتعين أن يكون اليوم يوم القيامة
والمعنى على هذا مستقيم.
(فَاصْبِرْ) هذا متصل بما قبله من العذاب وغيره ، أي : اصبر على أقوال
الكافرين حتى يأتيهم العذاب ، ولذلك وصفه بالقرب مبالغة في تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً) يحتمل أن يعود الضمير على العذاب ، أو على اليوم الذي
مقداره خمسين ألف سنة ، والبعيد يحتمل أن يراد به بعد الزمان أو بعد الإمكان ،
وكذلك القرب يحتمل أن يراد به قرب الزمان لأن كل آت قريب ، ولأن الساعة قد قربت ،
وقرب الإمكان لقدرة الله عليه (يَوْمَ تَكُونُ
السَّماءُ كَالْمُهْلِ) يوم هنا بدل من يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، أو بدل من
الضمير المنصوب في نراه أو منصوب بقوله : قريبا أو بقوله يود المجرم أو بفعل مضمر
تقديره : أذكر والمهل : هو دردي الزيت شبه السماء به في سوادها وانكدار أنوارها
يوم القيامة ، وقيل : هو ما أذيب من الفضة ونحوها شبّه السماء به في تلوّنه (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) العهن هو الصوف ، شبّه الجبال به في انتفاشه وتخلخل أجزائه
وقيل : هو الصوف المصبوغ ألوانا فيكون التشبيه في الانتفاش ، وفي اختلاف الألوان ،
لأن الجبال منها بيض وسود وحمر (وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً) الحميم هنا الصديق والمعنى لا يسأل أحد من حميمه نصرة ولا
إعانة ؛ لعلمه أنه لا يقدر له على شيء ، وقيل : لا يسأله عن حاله لأن كل أحد مشغول
بنفسه.
(يُبَصَّرُونَهُمْ) يقال : بصر الرجل بالرجل إذا رآه ، وبصّرته إياه بالتشديد
إذا أريته إياه ، والضميران يعودان على الحميمين لأنهما في معنى الجمع ، والمعنى
أن كل حميم يبصر حميمه يوم القيامة فيراه ولكنه لا يسأله (وَصاحِبَتِهِ) يعني امرأته (وَفَصِيلَتِهِ) يعني القرابة الأقربين (تُؤْوِيهِ) أي تضمه ، فيحتمل أن يريد تضمه في الانتماء إليها أو في
نصرته وحفظه
__________________
من المضرات (ثُمَّ يُنْجِيهِ) الفاعل الافتداء الذي يقتضيه لو يفتدي ، وهذا الفعل معطوف
على لو يفتدى وإنما عطفه بثم إشعارا ببعد النجاة وامتناعها ، ولذلك زجره عن ذلك
بقوله (كَلَّا إِنَّها لَظى) الضمير للنار لأن العذاب يدل عليها ، ويحتمل أن يكون ضمير
القصة وفسره بالخبر ولظى علم لجهنم مشتق من اللظى بمعنى اللهب (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) الشوى أطراف الجسد ، وقيل : جلد الرأس ، فالمعنى أن النار
تنزعها ثم تعود ، ونزاعة بالرفع بدل من لظى أو خبر ابتداء مضمر أو خبر لأنها إن جعلنا لظى
منصوبا على التخصيص أو بدل من الضمير ، أو خبر ثان لأنها إن جعلنا لظى خبر لها
ونزاعة بالنصب حال (تَدْعُوا مَنْ
أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) يعني الكفار الذين تولوا عن الإسلام ، ودعاؤها لهم عبارة
عن أخذها لهم ، وقال ابن عباس : تدعوهم حقيقة بأسمائهم وأسماء آبائهم ، وقيل :
معناه تهلك ، حكاه الخليل عن العرب (وَجَمَعَ فَأَوْعى) يقال : أوعيت المال وغيره إذا جمعته في وعاء ، فالمعنى جمع
المال وجعله في وعاء ، وهذه إشارة إلى قوم من أغنياء الكفار جمعوا المال من غير
حله ومنعوه من حقه.
(إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً) الإنسان هنا اسم جنس بدليل الاستثناء منه ، سئل أحمد بن
يحيى مؤلف الفصيح عن الهلوع فقال : قد فسره الله فلا تفسيرا أبين من تفسيره وهو
قوله : (إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) وذكره الله على وجه الذم لهذه الخلائق ، ولذلك استثنى منه
المصلين ، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا ، فلا يجزعون من شرها ولا
يبخلون بخيرها (الَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) الدوام عليها هو المواظبة بطول العمر ، والمحافظة عليها
المذكورة بعد ذلك هي أداؤها في أوقاتها وتوفية الطهارة لها (حَقٌّ مَعْلُومٌ) قد ذكرنا في الذاريات [١٩] معنى حق والسائل والمحروم ،
ووصفه هنا بالمعلوم إن أراد الزكاة فهي معلومة المقدار شرعا ، وإن أراد غيرها
فمعنى المعلوم ، أن العبد يجعل على نفسه وظيفة معلومة عنده (غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا يكون أحد آمنا منه فإن الأمن من عذاب الله حرام ،
فلا ينبغي للعبد أن يزيل عنه الخوف حتى يدخل الجنة (لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ) ذكر في المؤمنين [٨] وكذلك (لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ)(وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) قال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله ،
__________________
وقال الجمهور :
يعني الشهادة عند الحكام ، ثم اختلف على هذا في معنى القيام بها فقيل : هو التحقيق
لها كقوله صلىاللهعليهوسلم : «على مثل الشمس فاشهدوا». وقيل هو المبادرة إلى أدائها
من غير امتناع ، فأما إن دعي الشاهد إلى الأداء فهو واجب عليه ، وأما إذا لم يدع
إلى الأداء فالشهادة على ثلاثة أقسام أحدها حقوق الناس ، فلا يجوز أداؤها حتى
يدعوه صاحب الحق إلى ذلك ، والثاني حقوق الله التي يستدام فيها التحريم كالطلاق
والعتق والأحباس ، فيجب أداء الشهادة بذلك دعي أو لم يدع الثالث حقوق الله التي لا
يستدام فيها التحريم كالحدود ، فهذا ينبغي ستره ، حتى يدعى إليه.
(فَما لِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أي مسرعين مقبلين إليك بأبصارهم ، كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أقبل [سارع] الكفار ينظرون إليه ويستمعون قراءته ،
ومعنى قبلك في جهتك وما يليك (عِزِينَ) أي جماعات شتى وهو : جمع عزة بتخفيف الزاي وأصله عزوة ،
وقيل عزهة ثم حذفت لامها وجمعت بالواو والنون عوضا من اللام المحذوفة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ
يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) كانوا يقولون إن كان ثم جنة فنحن أهلها (كَلَّا) ردع لهم عما طمعوا فيه من دخول الجنة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) كناية عن المنيّ الذي خلق الإنسان منه ، وفي المقصود بهذا
الكلام ثلاثة أوجه أحدها : تحقير الإنسان والردّ على المتكبرين. الثاني : الردّ
على الكفار في طمعهم أن يدخلوا الجنة كأنه يقول : إنا خلقناكم مما خلقنا منه الناس
، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالعمل الصالح ؛ لأنكم سواء في الخلقة ، الثالث : الاحتجاج
على البعث بأن الله خلقهم من ماء مهين ، فهو قادر على أن يعيدهم كقوله : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنى) [القيامة : ٣٧]
إلى آخر السورة.
(فَلا أُقْسِمُ) معناه أقسم ولا زائدة (بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ) ذكر في الصافات [٥]
(إِنَّا لَقادِرُونَ
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) تهديد للكفار بإهلاكهم ، وإبدال خير منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي مغلوبين ، والمعنى : إنا لا نعجز عن التبديل المذكور أو
عن البعث (فَذَرْهُمْ) وعيد لهم ، وفيه مهادنة منسوخة بالسيف (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة ، بدليل أنه أبدل منه (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) وهي القبور (كَأَنَّهُمْ إِلى
نُصُبٍ يُوفِضُونَ) النصب الأصنام ، وأصله كل ما نصب إلى الإنسان ، فهو يقصد
إليه مسرعا من علم أو بناء أو غير ذلك ، وفيه لغات فتح النون وإسكان الصاد ، وضم النون وإسكان الصاد وضمها ،
ويوفضون معناه : يسرعون والمعنى أنهم يسرعون الخروج من القبور إلى المحشر ، كما
يسرعون المشي إلى أصنامهم في الدنيا.
__________________
سورة نوح عليهالسلام
مكية وآياتها ٢٨
نزلت بعد النحل
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(أَنْ أَنْذِرْ) و (أَنِ اعْبُدُوا) يحتمل أن تكون أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن أنذر وبأن
اعبدوا والأول أظهر (عَذابٌ أَلِيمٌ) يحتمل أن يريد عذاب الآخرة أو الغرق الذي أصابهم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) من هنا للتبعيض أي يغفر لكم ما فعلتم من الذنوب قبل أن
تسلموا ؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، ولم يضمن أن يغفر لهم ما بعد إسلامهم ، لأن
ذلك في مشيئة الله تعالى ، وقيل : إن من هنا زائدة وذلك باطل لأن من لا تزاد عند
سيبويه إلا في غير الواجب. وقيل : هي لبيان الجنس وقيل : لابتداء الغاية وهذان
القولان ضعيفان في المعنى ، والأول هو الصحيح لأن التبعيض فيه متجه (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ظاهر هذا يقتضي أنهم إن فعلوا ما أمروا به أخروا إلى أجل
مسمى ؛ وإن لم يفعلوا لم يؤخروا ، وذلك يقتضى القول بالأجلين. وهو مذهب المعتزلة
وعلى هذا حملها الزمخشري ، وأما على مذهب أهل السنة ، فهي من المشكلات وتأولها ابن
عطية فقال : ليس للمعتزلة في الآية مجال لأن المعنى أن نوحا عليه الصلاة والسلام
لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل؟ ولا قال لهم : إنكم تؤخرون عن أجل قد حان.
لكن قد سبق في الأزل إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير أو ممن قضى له بالكفر
والمعاجلة. وكأن نوحا عليهالسلام قال لهم : آمنوا يظهر في الوجود أنكم ممن قضى له بالإيمان
والتأخير. وإن بقيتم على كفركم يظهر في الوجود أنكم ممن قضى عليه بالكفر والمعاجلة
، فكان الاحتمال الذي يقتضيه ظاهر الآية إنما هو فيما يبرزه الغيب من حالهم ؛ إذ
يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير ، وإما الكفر والمعاجلة ، وأما عند الله فالحال
الذي يكون منهم معلوم مقدر محتوم ، وأجلهم كذلك معلوم مقدر محتوم.
(إِنَّ أَجَلَ اللهِ
إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) هذا يقتضي أن الأجل محتوم كما قال تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس : ٤٩] وفي
هذا حجة لأهل السنة
وتقوية للتأويل
الذي ذكرنا ، وفيه أيضا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين ، ولما كان كذلك قال
الزمخشري : إن ظاهر هذا مناقض لما قبله من الوعد بالتأخير إن آمنوا ، وتأول ذلك
على مقتضى مذهبه بأن الأجل الذي لا يؤخر هو الأجل الثاني. وذلك أن قوم نوح قضى
الله أنهم إن آمنوا عمرهم الله مثلا ألف عام ، وإن لم يؤمنوا عمرهم تسعمائة عام
فالألف عام هي التي تؤخر إذا جاءت والتسعمائة عام هي التي وعدوا بالتأخير عنها إلى
الألف عام إن أمنوا (دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم ، فذكر المغفرة التي هي سبب
عن الإيمان ؛ ليظهر قبح إعراضهم عنه ؛ فإنهم أعرضوا عن سعادتهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) فعلوا ذلك لئلا يسمعوا كلامه ، فيحتمل أنهم فعلوا ذلك
حقيقة أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم حتى كأنهم فعلوا ذلك (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه ، أو لئلا يراهم
ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة ، أو يكون عبارة عن إعراضهم (وَأَصَرُّوا) أي داوموا على كفرهم (دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) إعراب جهارا مصدر من المعنى كقولك : قعد القرفصاء ، أو صفة
لمصدر محذوف تقديره : دعا جهارا أو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار ، ثم ذكر أنه دعاهم
جهارا ، ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار ، وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ
الرسالة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، قال ابن عطية : الجهاد دعاؤهم في المحافل
ومواضع اجتماعهم ، والإسرار دعاء كل واحد على حدته (يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً) مفعول من الدرّ وهو كثرة الماء ، وفي الآية دليل على أن
الاستغفار يوجب نزول الأمطار ، ولذلك خرج عمر بن الخطاب إلى الاستسقاء فلم يزد على
أن استغفر ثم انصرف ، فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال والله لقد استسقيت أبلغ
الاستسقاء ثم نزل المطر ، وشكا رجل إلى الحسن الجدب فقال له : استغفر الله.
(ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) فيه أربع تأويلات : أحدها أن الوقار بمعنى التوقير
والكرامة ، فالمعنى : ما لكم لا ترجون أن يوقركم الله في دار ثوابه. قال ذلك
الزمخشري. وقوله : لله على هذا بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صفة لوقارا. والثاني
أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبت والمعنى ما لكم لا ترجون لله وقارا ، متثبتين حتى
تتمكنوا من النظر بوقاركم وقوله : لله على هذا مفعول دخلت عليه اللام كقولك : ضربت
لزيد وإعراب وقارا على هذا مصدر في موضع الحال. الثالث أن الرجاء هنا بمعنى الخوف
، والوقار بمعنى العظمة والسلطان فالمعنى : ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه
ولله على هذا صفة للوقار في
المعنى ، الرابع :
أن الرجاء بمعنى الخوف ، والوقار بمعنى الاستقرار من قولك : وقر بالمكان إذا استقر
فيه والمعنى : ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في الجنة أو النار (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي طورا بعد طور ، يعني أن الإنسان كان نطفة ثم علقة ثم
مضغة إلى سائر أحواله ، وقيل : الأطوار الأنواع المختلفة ، فالمعنى أن الناس على
أنواع في ألوانهم وأخلاقهم وألسنتهم وغير ذلك (طِباقاً) ذكر في الملك [٣]
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُوراً) القمر إنما هو في السماء الدنيا ، وساغ أن يقول فيهن لما
كان في إحداهن فهو في الجميع كقولك : فلان في الأندلس ، إذا كان في بعضها ، وجعل
القمر نورا والشمس سراجا ، لأن ضوء السراج أقوى من النور ، فإن السراج هو الذي
يضيء فيبصر به والنور قد يكون أقل من ذلك.
(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) هذا عبارة عن إنشائهم من تراب الأرض ، ونباتا مصدر على غير
المصدر أو يكون تقديره : أنبتكم فنبتم إنباتا ، ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) يعني بالدفن (وَيُخْرِجُكُمْ
إِخْراجاً) يعني بالبعث من القبور (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها ، وأخذ
بعضهم من لفظ البساط أن الأرض بسيطة غير كروية ، خلافا لما ذهب إليه أهل التعديل
وفي ذلك نظر (سُبُلاً فِجاجاً) ذكر في الأنبياء [٣١]
(وَاتَّبَعُوا مَنْ
لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) يعني اتبعوا أغنياءهم وكبراءهم وقرئ ولده بفتحتين وولد بضم الواو وسكون اللام وهما بمعنى واحد (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) الكبّار بالتشديد أبلغ من الكبار بالتخفيف ، والكبار
بالتخفيف أبلغ من الكبير.
(وَقالُوا لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي وصى بعضهم بعضا بذلك (وَلا تَذَرُنَّ
وَدًّا وَلا سُواعاً) هذه أسماء أصنامهم ، كان قوم نوح يعبدونها ، وروي أنها
أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا ، فلما ماتوا صوّرهم أهل ذلك العصر من
حجارة ، وقالوا : ننظر إليها لنتذكر أعمالهم الصالحة ، فهلك ذلك الجيل وكثر
تعظيمهم من بعدهم لتلك الصور ، حتى عبدوها من دون الله ، ثم انتقلت تلك الأصنام
بأعيانها ؛ وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل العرب ، فكان ودّا لكلب بدومة الجندل ،
وكان سواع لهذيل ، وكان يغوث لمراد وكان يعوق لهمدان ، وكان نسرا لذي الكلاع من
حمير. وقرئ ودا بفتح الواو وضمها ودا وهما
__________________
لغتان (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) الضمير للرؤساء من قوم نوح ، والمعنى أضلوا كثيرا من
أتباعهم ، وهذا من كلام نوح عليهالسلام ، وكذلك لا تزد الظالمين إلا ضلالا من كلامه ، وهو دعاء
عليهم. وقال الزمخشري : إنه معطوف على قوله : (رَبِّ إِنَّهُمْ
عَصَوْنِي) والتقدير : قال رب إنهم عصوني وقال : «لا تزد الظالمين إلا
ضلالا» (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا) هذا من كلام الله إخبارا عن أمرهم ، وما زائدة للتأكيد
وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضا ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار ، إنما كان
بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي (فَأُدْخِلُوا ناراً) يعني جهنم. وعبّر عن ذلك بالفعل الماضي لأن الأمر محقق ،
وقيل : أراد عرضهم على النار وعبر عنه بالإدخال.
(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ديّارا من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما
في الدار ديار ، أي ما فيها أحد ، ووزنه فيعال وكان أصله ديوار ثم قبلت الواو ياء
وأدغمت في الياء ، وليس وزنه فعال لأنه لو كان كذلك لقيل : دوار لأنه مشتق من الدور
أو من الدار ، وروي أن نوحا عليهالسلام لم يدع على قومه بهذا الدعاء إلا بعد أن يئس من إيمانهم ،
وبعد أن أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَ) يؤخذ من هذا أن سنة الدعاء أن يقدم الإنسان الدعاء لنفسه
على الدعاء لغيره ، وكان والدا نوح عليهالسلام مؤمنين قال ابن عباس : لم يكن لنوح أب كافر ما بينه وبين
آدم عليهماالسلام واسم والد نوح لمك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت أنوش ، حكاه
الزمخشري (وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ مُؤْمِناً) قيل : بيته المسجد ، وقيل السفينة. وقيل شريعته سماها بيتا
استعارة وهذا بعيد وقيل : داره وهذا أرجح لأنه الحقيقة (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) هذا دعاء بالمغفرة لكل مؤمن ومؤمنة على العموم ، وفيه دليل
على جواز ذلك خلافا لمن قال من المتأخرين : إنه لا يجوز الدعاء بالمغفرة لجميع
المؤمنين على العموم ، وهذا خطأ وتضييق لرحمة الله الواسعة ، قال بعض العلماء : إن
الإله الذي استجاب لنوح عليهالسلام فأغرق بدعوته جميع أهل الأرض الكفار حقيق أن يستجيب له
فيرحم بدعوته جميع المؤمنين والمؤمنات (تَباراً) أي هلاكا والله أعلم.
__________________
سورة الجن
مكية وآياتها ٢٨
نزلت بعد الأعراف
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) تقدمت في الأحقاف [٢٩] قصة هؤلاء الجن الذين استمعوا
القرآن من النبي صلىاللهعليهوسلم وأسلموا (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً) أي قال ذلك بعضهم لبعض ، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة لأن
العجب مصدر قولك : عجبت عجبا وقيل : هو على حذف مضاف تقديره ذا عجب (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) جدّ الله : جلاله وعظمته وقيل : معناه من قولك : فلان
مجدود إذا استغنى ، وقرئ أنه في هذا الموضع بفتح الهمزة وقرأ نافع بكسرها وكذلك
فيما بعده إلى قوله : وأنا منا المسلمون. فأما الكسر فاستئناف أو عطف على إنا
سمعنا ، لكنه كسر في معمول القول ، فيكون ما عطف عليه من قول الجن ، وأما الفتح
فقيل : إنه عطف على قوله : أنه استمع نفر وهذا خطأ من طريق المعنى ؛ لأن قوله :
استمع نفر في موضع معمول أوحي ، فيلزم أن يكون المعطوف عليه مما أوحي وأن لا يكون
من كلام الجن. وقيل : إنه معطوف على الضمير المجرور في قوله : آمنا به وهذا ضعيف ،
لأن الضمير المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض.
وقال الزمخشري :
هو معطوف على محل الجار والمجرور في آمنا به كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى
جد ربنا ، وكذلك ما بعده ولا خلاف في فتح ثلاث مواضع هي : أنه استمع ، وأن لو
استقاموا ، وأن المساجد لله ؛ لأن ذلك مما أوحي لا من كلام الجن (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى
اللهِ شَطَطاً) هذا من كلام الجن ، وسفيههم أبوهم إبليس ، وقيل : هو اسم
جنس لكل سفيه منهم ، واختار ذلك ابن عطية ، والشطط : التعدي ومجاوزة الحد (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي ظننا أن الأقوال التي كان الإنس والجن يقولونها على
الله صادقة وليست بكذب ؛ لأنا ظننا أنه لا يكذب أحد على الله.
(وَأَنَّهُ كانَ
رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) تفسير هذا ما روي أن
__________________
العرب كانوا إذا
حل أحد منهم بواد صاح بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء
الذين في طاعتك ، ويعتقد أن ذلك الجن الذي بالوادي يحميه (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) ضمير الفاعل للجن ، وضمير المفعول للإنس ، والمعنى : أن
الجن زادوا الإنس ضلالا وإثما لما عاذوا بهم ، أو زادوهم تخويفا لما رأوا ضعف
عقولهم ، وقيل : ضمير الفاعل للإنس ، وضمير المفعول للجن : والمعنى أن الإنس زادوا
الجن تكبرا وطغيانا لما عاذوا بهم ، حتى كان الجن يقول : أنا سيد الجن والإنس (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) الضمير في ظنوا لكفار الإنس ، وظننتم خطاب الجن بعضهم لبعض
، فالمعنى أن كفار الإنس والجن ظنوا أن لن يبعث الله أحدا ، والبعث هنا يحتمل أن
يريد به بعث الرسل أو البعث من القبور (وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) هذا إخبار عن ما حدث عند مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم من منع الجن من استراق السمع من السماء ورجمهم ، واللمس
المس ، واستعير هنا للطلب ، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام
، ولذلك وصف بشديد وهو مفرد ، ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس ، أو النجوم
الحارسة ، وكرر الشهب لاختلاف اللفظ (وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) المقاعد جمع مقعد ، وقد فسر رسول الله صلىاللهعليهوسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد ، فمتى أحرق
الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون
معها ، ثم يزيد الكهان للكلمة مائة كذبة ، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) الرصد اسم جمع للراصد ، كالحراس للحارس وقال ابن عطية : هو
مصدر وصف به ومعناه منتظر قال بعضهم : إن رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعث
النبي صلىاللهعليهوسلم واختار ابن عطية والزمخشري أنه كان قبل المبعث قليلا ، ثم
زاد بعد المبعث وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية ، والدليل أنه كان قبل
المبعث قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه وقد رأى كوكبا انقض : ما كنتم تقولون لهذا في
الجاهلية؟ قالوا كنا نقول ولد ملك أو مات ملك. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ليس الأمر كذلك ، ثم وصف استراق الجن للسمع وقد ذكر
شعراء الجاهلية ذلك في أشعارهم.
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية : قال ابن عطية معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا
النبي فيرشدوا ، أو يكفرون به فينزل بهم الشر؟ وقال الزمخشري : معناه لا ندري هل
أراد الله بأهل الأرض خيرا أو شرا من عذاب أو رحمة أو من خذلان أو من توفيق؟ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا
دُونَ ذلِكَ) أي منا قوم دون ذلك فحذف الموصوف وأراد به الذين ليس
صلاحهم كاملا ، أو الذين ليس لهم صلاح ، فإن دون قد تكون بمعنى أقل أو
__________________
بمعنى غير (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) الطرائق : المذاهب والسير وشبهها ، والقدد المختلفة وهو
جمع قدة. وهذا بيان للقسمة المذكورة قبل ، وهو على حذف مضاف أي كنا ذوي طرائق (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ
اللهَ فِي الْأَرْضِ) الظن هنا بمعنى العلم ، وقال ابن عطية : هذا إخبار منهم عن
حالهم بعد إيمانهم ، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا هذا الاعتقاد قبل إسلامهم (سَمِعْنَا الْهُدى) يعنون القرآن (فَلا يَخافُ بَخْساً
وَلا رَهَقاً) البخس النقص والظلم ، والرهق تحمل ما لا يطاق ، وقال ابن
عباس : البخس نقص الحسنات ، والرهق الزيادة في السيئات.
(وَمِنَّا
الْقاسِطُونَ) يعني الظالمين : يقال قسط الرجل إذا جار ، وأقسط بالألف
إذا عدل. هاهنا انتهى ما حكاه الله من كلام الجن ، وأما قوله : فمن أسلم فأولئك
تحروا رشدا يحتمل أن يكون من بقية كلامهم. أو يكون ابتداء كلام الله تعالى وهو
الذي اختاره ابن عطية ، وأما قوله : وأن لو استقاموا فهو من كلام الله باتفاق وليس
من كلامهم (تَحَرَّوْا) أي قصدوا الرشد (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) الماء الغدق الكثير وذلك استعارة في توسيع الرزق ،
والطريقة هي طريقة الإسلام وطاعة الله ، فالمعنى لو استقاموا على ذلك لوسع الله
أرزاقهم فهو كقوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦]
وقيل : هي طريقة الكفر ، والمعنى على هذا : لو استقاموا على الكفر لوسع الله عليهم
في الدنيا أملاكهم استدراجا ، ويؤيد هذا قوله (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) والأول أظهر ، والضمير في استقاموا يحتمل أن يكون للمسلمين
أو للقاسطين المذكورين ، أو لجميع الجن أو للجن الذين سمعوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو لجميع الخلق (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) إن كانت الطريقة الإيمان والطاعة ، فمعنى الفتنة الاختبار
هل يسلمون أم لا؟ وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة الإضلال والاستدراج نسلكه
عذابا صعدا معنى نسلكه ندخله والصعد الشديد المشقة ، وهو مصدر صعد
يصعد ، ووصف بالمصدر للمبالغة يقال : فلان في صعد أي في مشقة. وقيل : صعدا جبل في
النار.
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ) أراد المساجد على الإطلاق وهي بيوت عبادة الله ، وروي أن
الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة ، وقيل : أراد الأعضاء التي يسجد عليها ،
واحدها مسجد بفتح الجيم وهذا بعيد ، وعطف أن المساجد لله على أوحي إليّ أنه استمع
وقال الخليل : معنى الآية : لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، أي لهذا
السبب فلا تعبدوا غير الله.
__________________
(وَأَنَّهُ لَمَّا
قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) عبد الله هنا محمد صلىاللهعليهوسلم ووصفه بالعبودية اختصاصا له وتقريبا وتشريفا وقال الزمخشري
: أنه سماه هنا عبد الله ولم يقل الرسول أو النبي؟ لأن هذا واقع في كلام رسول الله
صلىاللهعليهوسلم عن نفسه ، لأنه مما أوحى إليه فذكر صلىاللهعليهوسلم نفسه على ما يقتضيه التواضع والتذلل ، وهذا الذي قاله بعيد
مع أنه إنما يمكن على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفا على أوحي إلي أنه
استمع وأما على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله ، أو من جملة
كلام الجن فيبطل ما قاله (كادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَداً) اللبد الجماعات واحدها لبدة ، والضمير في كادوا يحتمل أن
يكون للكفار من الناس ، أي كادوا يجتمعون على الردّ عليه وإبطال أمره ، أو يكون
للجن الذين استمعوا ، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماع القرآن والبركة به (مُلْتَحَداً) أي ملجأ (إِلَّا بَلاغاً) بدل من ملتحدا أي لا أجد ملجأ إلا بلاغ الرسالة ، ويحتمل
أن يكون استثناء منقطعا (مِنَ اللهِ) قال الزمخشري : هذا الجار والمجرور ليس بصلة البلاغ إنما
هو بمعنى بلاغا كائنا من الله ، ويحتمل عندي أن يكون متعلقا ببلاغا والمعنى بلاغ
من الله (وَرِسالاتِهِ) قال الزمخشري : إنه معطوف على بلاغا كأنه قال : إلا
التبليغ والرسالة ، ويحتمل أن يكون ورسالاته معطوفا على اسم الله.
(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جمع خالدين على معنى من يعص لأنه في معنى الجمع ، والآية
في الكفار ، وحملها المعتزلة على عصاة المؤمنين لأن مذهبهم خلودهم في النار.
والدليل على أنها في الكفار وجهان : أحدهما أنها مكية والسورة المكية إنما الكلام
فيها مع الكفار. والآخر دلالة ما قبلها وما بعدها على أن المراد بها الكفار (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) تعلقت حتى بقوله يكونون عليه لبدا وجعلت غاية لذلك.
والمعنى : أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال ذلك الزمخشري
وقال أيضا : يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل على المعنى كأنه قيل : لا يزالون على ما هم
عليه من الكفر حتى إذا رأوا ما يوعدون ، وهذا أظهر (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
ما تُوعَدُونَ) إن هنا نافية. والمعنى قل : لا أدري أقريب ما توعدون أم
بعيد وعبر عن بعده بقوله : أم يجعل له ربي أمدا ويعني بما توعدون قتلهم يوم بدر ،
أو يوم القيامة.
__________________
(فَلا يُظْهِرُ عَلى
غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي لا يطلع أحدا على علم الغيب إلا من ارتضى ، وهم الرسل
فإنه يطلعهم على ما شاء من ذلك. ومن في قوله : من رسول لبيان الجنس لا للتبعيض ،
والرسل هنا يحتمل أن يراد بهم الرسل من الملائكة وعلى هذا حملها ابن عطية ، أو
الرسل من بني آدم ، وعلى هذا حملها الزمخشري. واستدل بها على نفي كرامات الأولياء
الذين يدعون المكاشفات ، فإن الله خص الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. وفيها
أيضا دليل على إبطال الكهانة والتنجيم وسائر الوجوه التي يدعي أهلها الاطلاع على
الغيب ؛ لأنهم ليسوا من الرسل (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) المعنى أن الله يسلك من بين يدي الرسل ومن خلفه ملائكة
يكونون رصدا يحفظونه من الشياطين ، وقد ذكرنا رصدا في هذه السورة قال بعضهم : ما
بعث الله رسولا إلا ومعه ملائكة يحرسونه حتى يبلغ رسالة ربه (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسالاتِ رَبِّهِمْ) في الفاعل بيعلم ثلاثة أقوال : الأول أي ليعلم الله أن
الرسل قد بلغوا رسالات ربهم أي يعلمه موجودا وقد كان علم ذلك قبل كونه. الثاني ليعلم
محمد أن الملائكة الرصد أبلغوا رسالات ربهم. الثالث ليعلم من كفر أن الرسل قد
بلغوا الرسالة والأول أظهر وجمع الضمير في أبلغوا وفي ربهم حملا على المعنى ، لأن
من ارتضى من رسول يراد به جماعة (وَأَحاطَ بِما
لَدَيْهِمْ) أي أحاط الله بما عند الرسل من العلوم والشرائع ، وهذه
الجملة معطوفة على قوله : ليعلم لأن معناه أنه قد علم قال ذلك ابن عطية ويحتمل أن
تكون هذه الجملة في موضع الحال (وَأَحْصى كُلَّ
شَيْءٍ عَدَداً) هذا عموم في جميع الأشياء وعددا منصوب على الحال أو تمييز
أو مصدر من معنى أحصى.
__________________
سورة المزمل
مكية إلا الآيات
١٠ و ١١ و ٢٠ فمدنية وآياتها ٢٠ نزلت بعد القلم
(بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ) نداء للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ووزن المزمل متفعل فأصله متزمل. ثم سكنت التاء وأدغمت في
الزاي وفي تسمية النبي صلىاللهعليهوسلم بالمزمل ثلاثة أقول أحدها أنه كان في وقت نزول الآية
متزملا في كساء أو لحاف ، والتزمل الالتفاف في الثياب بضم وتشمير هذا قول عائشة
والجمهور ، والثاني أنه كان قد تزمل في ثيابه للصلاة ، الثالث أن معناه المتزمل
للنبوّة أي المتشمر ، المجدّ في أمرها والأول هو الصحيح لما ورد في البخاري ومسلم
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما جاءه الملك وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع صلىاللهعليهوسلم إلى خديجة ترعد فرائصه فقال : زملوني زملوني فنزلت يا أيها
المدثر ، وعلى هذا نزلت يا أيها المزمل فالمزمل على هذا تزمله من أجل الرعب الذي
أصابه أول ما جاءه جبريل. وقال الزمخشري : كان نائما في قطيفة فنودي : يا أيها
المزمل ، ليبين الله الحالة التي كان عليها من التزمل في القطيفة ، لأنه سبب للنوم
الثقيل المانع من قيام الليل. وهذا القول بعيد غير سديد.
وقال السهيلي في
ندائه بالمزمل فائدتان : إحداهما الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب
نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ، كقول النبي صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم لعلي : قم أبا تراب ، والفائدة الثانية التنبيه لكل متزمل راقد بالليل
ليتنبه إلى ذكر الله ، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطب وكل من اتصف
بتلك الصفة (قُمِ اللَّيْلَ) هذا الأمر بقيام الليل اختلف هل هو واجب أو مندوب ، فعلى
القول بالندب فهو ثابت غير منسوخ ، وأما على القول بالوجوب ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها أنه فرض على النبي صلىاللهعليهوسلم وحده ، ولم يزل فرضا عليه حتى توفي ، الثاني أنه فرض عليه
وعلى أمته فقاموا حتى انتفخت أقدامهم ، ثم نسخ بقوله في آخر السورة : إن ربك يعلم
أنك تقوم الآية : وصار تطوعا ، هذا قول عائشة رضي الله عنها وهو الصحيح ، واختلف
كم بقي فرضا فقالت عائشة عاما وقيل : ثمانية أشهر وقيل : عشرة أعوام فالآية
الناسخة على هذا مدنية ، الثالث أنه فرض عليه صلىاللهعليهوسلم وعلى أمته وهو ثابت غير منسوخ ، ولكن ليس الليل كله إلا ما
تيسر منه ، وهو مذهب الحسن وابن سيرين (إِلَّا قَلِيلاً
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)
في معنى هذا
الكلام أربعة أقوال : الأول وهو الأشهر والأظهر أن الاستثناء من الليل ، وقوله
نصفه بدل من الليل أو من قليلا ، وجعل النصف قليلا بالنسبة إلى الجميع والضميران
في قوله : أو انقص منه ، أو زد عليه : عائدان على النصف. والمعنى أن الله خيّره
بين ثلاثة أحوال : وهو أن يقوم نصف الليل ، أو ينقص من النصف قليلا أو يزد عليه.
الثاني : قال الزمخشري : إلا قليلا استثناء من النصف كأنه قال : نصف الليل إلا
قليلا. فخيّره على هذا بين حالتين وهما أن يقوم أقل من النصف أو أكثر منه وهذا
ضعيف ، لأن قوله أو انقص منه قليلا تضمن معنى النقص من النصف فلا فائدة زائدة في
استثناء القليل من النصف ، القول الثالث قاله الزمخشري أيضا : يجوز أن يريد بقوله
أو انقص منه قليلا نصف النصف وهو الربع ويكون الضمير في قوله أو زد عليه يعود على
ذلك ، أي زد على الربع فيكون ثلثا فيكون التخيير على هذا بين قيام النصف أو الثلث
أو الربع ، وهذا أيضا بعيد ، القول الرابع قاله ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى إلا
قليلا الليالي التي يمنعه العذر من القيام فيها ، والمراد بالليل على هذا :
الليالي ، فهو جنس. وهذا بعيد ، لأنه قد فسر هذا القليل المستثنى بما بعد ذلك من
نصف الليل أو النقص منه أو الزيادة عليه ، فدل ذلك على أن المراد بالليل المستثنى
بعض أجزاء الليل ، لا بعض الليالي ، إن قيل : لم قيد النقص من النصف بالقلة. فقال
: أو انقص منه قليلا وأطلق في الزيادة فقال : أو زد عليه ولم يقل قليلا؟ فالجواب :
أن الزيادة تحسن فيها الكثرة فلذلك لم يقيدها بالقلة بخلاف النقص ، فإنه لو أطلقه
لاحتمل أن ينقص من النصف كثيرا.
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلاً) الترتيل هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف ،
وذلك معين على التفكر في معاني القرآن ، بخلاف الهذر الذي لا يفقه صاحبه ما يقول ،
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقطّع قراءته حرفا حرفا ولا يمرّ بآية رحمة إلا وقف وسأل ،
ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ (إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) هذه الآية اعتراض بين آية قيام الليل ، والقول الثقيل هو
القرآن واختلف في وصفه بالثقل على خمسة أقوال أحدها : أنه سمى ثقيلا لما كان النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم يلقاه من الشدة عند نزول الوحي عليه ، حتى إن جبينه ليتفصّد
عرقا في اليوم الشديد البرد ، وقد كان يثقل جسمه عليه الصلاة والسلام بذلك حتى إنه
إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به ، وأوحي إليه وفخذه على فخذ زيد بن ثابت
فكادت أن ترض فخذ زيد ، والثقل على هذا حقيقة ، الثاني أنه ثقيل على الكفار
بإعجازه ووعيده ، الثالث أنه ثقيل في الميزان ، الرابع أنه كلام له وزن ورجحان ،
الخامس أنه ثقيل لما تضمن من التكاليف والأوامر والنواهي ، وهذا اختيار ابن عطية.
وعلى هذا يناسب الاعتراض بهذه الآية ، قيام الليل لمشقته.
(إِنَّ ناشِئَةَ
اللَّيْلِ) في الناشئة سبعة أقوال : الأول أنه النفس الناشئة بالليل ،
أي التي
تنشأ من مضجعها
وتقوم للصلاة ، الثاني الجماعات الناشئة الذين يقومون للصلاة ، الثالث العبادة
الناشئة بالليل أي تحدث فيه ، الرابع الناشئة القيام بعد النوم فمن قام أول الليل
قبل أن ينام فلم يقم ناشئة ، الخامس الناشئة القيام أول الليل بعد العشاء ، السادس
الناشئة بعد المغرب والعشاء ، السابع ناشئة الليل ساعاته كلها (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) يحتمل معنيين أحدهما : أثقل وأصعب على المصلي ومنه قول
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، والأثقل أعظم أجرا ، فالمعنى تحريض على قيام الليل لكثرة
الأجر. الثاني أشدّ ثبوتا من أجل الخلوة وحضور الذهن والبعد عن الناس ، ويقرب هذا
من معنى أقوم قيلا وقرأ أبو عمرو وابن عامر وطاء بكسر الواو على وزن فعال ومعناه
موافقة. أي يوافق القلب اللسان بحضور الذهن (إِنَّ لَكَ فِي
النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) السبح هنا عبارة عن التصرف في الاشتغال ، والمعنى : يكفيك
النهار للتصرف في أشغالك وتفرغ بالليل لعبادة ربك ، وقيل : المعنى إن فاتك شيء من
صلاة الليل فأدّه بالنهار فإنه طويل يسع ذلك (وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ) قيل : معناه قل : بسم الله الرحمن الرحيم في أول صلاتك. واللفظ
أعم من ذلك (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً) أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه وحده. وقيل : التبتل
رفض الدنيا. وتبتيلا مصدر على غير قياس (فَاتَّخِذْهُ
وَكِيلاً) الوكيل هو القائم بالأمور والذي توكل إليه الأشياء ، فهو
أمر بالتوكل على الله.
(وَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ) أي على ما يقول الكفار. والآية منسوخة بالسيف وقيل : إنما
المنسوخ المهادنة التي يقتضيها قوله : اهجرهم هجرا جميلا وأما الصبر فمأمور به في
كل وقت (وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ) هذا تهديد لهم وانتصب المكذبين على أنه مفعول معه أو معطوف
(أُولِي النَّعْمَةِ) أي التنعم في الدنيا ، وروي أن الآية نزلت في بني المغيرة
وهم قوم من قريش كانوا متنعمين في الدنيا (أَنْكالاً) جمع نكل وهو القيد من الحديد. روي أنها قيود سود من نار (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) شجرة الزقوم ومعنى ذا غصة : أي يغصّ به آكلوه وقيل : هو
شوك يعترض في حلوقهم لا ينزل ولا يخرج ، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم قرأ هذه الآية فصعق (يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ) أي تهتز وتتزلزل والعامل في يوم معنى الكلام المتقدم وهو («إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً» وَكانَتِ
الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) الكثيب كدس الرمل ، والمهيل اللين الرخو ، الذي تهيله
الريح أي تنشره وزنه مفعول ، والمعنى أن الجبال تصير إذا نسفت يوم القيامة مثل
الكثيب (إِنَّا أَرْسَلْنا
إِلَيْكُمْ رَسُولاً) خطاب لجميع الناس ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إلى الناس كافة ، وقال الزمخشري : هو خطاب لأهل مكة
__________________
(شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي يشهد على أعمالكم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية ،
وإنما يشهد على من أدركه لقوله صلىاللهعليهوسلم : أقول كما قال أخي عيسى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ
رَسُولاً) يعني موسى عليهالسلام وهو المراد بقوله : فعصى فرعون الرسول فاللام للعهد (أَخْذاً وَبِيلاً) أي عظيما شديدا.
(يَوْماً) مفعول به ، وناصبه تتقون أي : كيف تتقون يوم القيامة
وأهواله إن كفرتم وقيل : هو مفعول به على أن يكون كفرتم بمعنى جحدتم ، وقيل ، هو
ظرف أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره :
اذكروا قوله السماء منفطر به (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ
شِيباً) الولدان جمع وليد وهو الطفل الصغير ، والشيب بكسر الشين
جمع أشيب ووزنه فعل بضم الفاء وكسرت لأجل الياء ، ويجعل يحتمل أن يكون مسندا إلى
الله تعالى أو إلى اليوم ، والمعنى أن الأطفال يشيبون يوم القيامة ، فقيل : إن ذلك
حقيقة ، وقيل : إنه عبارة عن هول ذلك اليوم ، وقيل : إنه عبارة عن طوله (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) الانفطار : الانشقاق ، والضمير المجرور يعود على اليوم أي
: تتفطر السماء لشدة هوله ويحتمل أن يعود على الله أي تنفطر بأمره وقدرته والأول
أظهر ، والسماء مؤنثة. وجاء منفطر بالتذكير لأن تأنيثها غير حقيقة أو على الإضافة
تقديره : ذات انفطار أو لأنه أراد السقف (كانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولاً) الضمير في وعده يحتمل أن يعود على اليوم أو على الله
والأول أظهر ؛ لأنه ملفوظ به (إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ) الإشارة إلى ما تقدم من المواعظ والوعيد (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً) يريد سبيل التقرب إلى الله ، ومعنى الكلام حض على ذلك
وترغيب فيه.
(إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) هذه الآية نزلت ناسخة لما أمر به في أول السورة من قيام
الليل ، ومعناها أن الله يعلم أنك ومن معك من المسلمين تقومون قياما مختلفا ، مرة
يكثر ومرة يقل ، لأنكم لا تقدرون على إحصاء أوقات الليل وضبطها ، فإنه لا يقدر على
ذلك إلا الله فخفف عنكم وأمركم أن تقرأوا ما تيسر من القرآن (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) من قرأها بالخفض [مثل نافع وابن عامر وأبو عمرو] فهو عطف
على ثلثي الليل ، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وثلثه ، ومن قرأ بالنصب [باقي
القراء] فهو عطف على أدنى أي تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه تارة وثلثه تارة (وَطائِفَةٌ) يعني المسلمين وهو معطوف على الضمير الفاعل في تقوم (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام ، أي لن تحصوا
تقدير الليل ، وقيل : معناه لن تطيقوه أي : لن تطيقوا
قيام الليل كله (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عبارة عن التخفيف كقوله : (فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [المجادلة : ١٣] (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ) أي إذا لم تقدروا على قيام الليل كله ، فقوموا بعضه ،
واقرءوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن ، وهذا الأمر للندب ، وقال ابن عطية :
هو للإباحة عند الجمهور.
وقال قوم منهم
الحسن وابن سيرين : هو فرض لا بد منه ولو أقل ما يمكن ، حتى قال بعضهم : من صلى
الوتر فقد امتثل هذا الأمر ، وقيل : كان فرضا ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وقال بعضهم
: هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم (عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) ذكر الله في هذه الآية الأعذار التي تكون لبني آدم تمنعهم
من قيام الليل فمنها المرض ومنها السفر للتجارة وهي الضرب في الأرض لابتغاء فضل
الله ومنها الجهاد ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر ، تأكيدا للأمر به أو تأكيدا
للتخفيف وهذا أظهر لأنه ذكره بأثر الأعذار (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) يعني المكتوبتين (وَأَقْرِضُوا اللهَ) معناه تصدقوا ، وقد ذكر في البقرة [٢٤٥]
(هُوَ خَيْراً) نصب خيرا لأنه مفعول ثان لتجدوه والضمير فصل (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) قال بعض العلماء إن الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه
الآية وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا.
سورة المدثر
مكية وآياتها ٥٦
نزلت بعد المزمّل
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ) وزنه متفعل ومعناه الذي تدثر في كساء أو ثياب وتسميته بذلك
كتسميته بالمزمل ، حسبما ذكرنا في موضعه. وقال السهيلي : في ندائه بالمدثر ثلاثة
فوائد : الاثنتان اللتان ذكرنا في المزمل وفائدة ثالثة وهي أن العرب يقولون :
النذير العريان ، للنذير الذي يكون في غاية الجد والتشمير ، والنذير بالثياب ضد
هذا ، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير ، وقيل : إن هذه أول سورة نزلت من القرآن
: والصحيح أن سورة اقرأ نزلت قبلها (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أنذر الناس وهذه بعثة عامة (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّمه ويحتمل أن يريد قول : الله أكبر ويؤيد ذلك ما روي
عن أبي هريرة أن المسلمين قالوا : بم نفتتح صلاتنا فنزلت : وربك فكبر وقوله : وربك
فكبر : من المقلوب الذي يقرأ طردا وعكسا من أوله وآخره (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه حقيقة في تطهير الثياب من
النجاسة واختلف في هذا هل يحمل على الوجوب ، فتكون إزالة النجاسة واجبة أو على
الندب فتكون سنة ، والآخر أنه يراد به الطهارة من الذنوب والعيوب ، فالثياب على
هذا مجاز ، الثالث : أن معناه لا تلبس الثياب من مكسب خبيث (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أن الرجز الأوثان ، روي ذلك عن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو قول عائشة ، والآخر أن الرجز السخط والعذاب وهذا أصله
في اللغة ، فمعناه اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه ، الثالث : أنه المعاصي والفجور ، قال
بعضهم كل معصية رجز (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ) يحتمل قوله : (تَمْنُنْ) أن يكون بمعنى العطاء أو بمعنى المنّ وهو ذكر العطاء وشبهه
، أو بمعنى الضعف فإن كان بمعنى العطاء ففيه وجهان ، أحدهما : أن معناه لا تعط
شيئا لتأخذ أكثر منه ، قال بعضهم : هذا خاص بالنبي صلىاللهعليهوسلم ومباح لأمّته ، والآخر : لا تعط الناس عطاء وتستكثره ، لأن
الكريم يستقل ما يعطي وإن كثيرا ، وإن كان من المنّ بالشيء ففيه وجهان ،
__________________
الأول : لا تمنن
على الناس بنبوتك تستكثر بأجر أو مكسب تطلبه ، الثاني : لا تمنن على الله بعملك
تستكثر أعمالك وتقع لك بها إعجاب ، وإن كان من الضعف فمعناه لا تضعف عن تبليغ
الرسالة وتستكثر ما حملناك من ذلك (وَلِرَبِّكَ
فَاصْبِرْ) أي اصبر لوجهه وطلب رضاه ، ويحتمل أن يريد الصبر على
المكاره والمصائب ، أو على إذاية الكفار له ، أو على العبادة (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) يعني نفخ في الصور ، ويحتمل أن يريد النفخة الأولى
والثانية.
(ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) هذا وعيد وتهديد ، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة
باتفاق ، وفي معنى (وَحِيداً) ثلاثة أقوال : أحدها : روي أنه كان يلقب الوحيد ، أي لا
نظير له في ماله وشرفه ، وكونه وحيدا نعمة عددها الله عليه ، الثاني : أن معناه
خلقته منفردا ذليلا ، الثالث : أن معناه خلقته وحدي فوحيدا على هذا من صفة الله
تعالى ، وإعرابه على هذا حال من الضمير الفاعل في قوله خلقت وهو على القولين
الأولين حال من الضمير المفعول (وَجَعَلْتُ لَهُ
مالاً مَمْدُوداً) أي كثيرا ، واختلف في مقداره فقيل : ألف دينار ، وقيل عشرة
آلاف دينار ، وقيل : يعني الأرض لأنها مدت (وَبَنِينَ شُهُوداً) أي حضورا ، وروي أنه كان له عشرة من الأولاد ، وقيل : ثلاث
عشرة لا يفارقونه. وأسلم منهم ثلاثة وهم : خالد وهشام وعمار (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي بسطت له في الدنيا بالمال والقوة وطيب العيش (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله ، وهذا غاية الحرص (كَلَّا) زجر عما طمع فيه من الزيادة (عَنِيداً) أي معاندا مخالفا ، والآيات هنا يراد بها القرآن لأن
الوليد قال فيه : إنه سحر ، ويحتمل أن يريد الدلائل (سَأُرْهِقُهُ
صَعُوداً) الصعود العقبة الصعبة ، وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنها عقبة في جهنم ، كلما صعدها الإنسان ذاب ثم يعود ،
فالمعنى سأشق عليه بتكليفه الصعود فيها.
(إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ) أي فكر فيما يقول ، وقدر في نفسه ما يقول في القرآن أي :
هيّأ كلامه ، روي أن الوليد سمع القرآن فأعجبه وكاد يسلم ، ودخل إلى أبي بكر
الصديق فعاتبه أبو جهل ، وقال له : إن قريشا قد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما
يخلصك عندهم إلا أن تقول في كلام محمد قولا يرضيهم ، فافتتن وقال : أفعل ذلك ثم
فكر فيما يقول في القرآن فقال : أقول شعر ما هو شعر ، أقول كهانة ما هو بكهانة ،
أقول إنه سحر وإنه قول البشر ليس منزلا من عند الله (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) دعاء عليه وذم ، وكرره تأكيدا لذمه وتقبيح حاله ، قال ابن
عطية : ويحتمل أن يكون مقتضاه استحسان منزعه الأول حين أعجبه القرآن ، فيكون قوله
: قتل لا يراد به الدعاء عليه ، وإنما هو كقولهم : قاتل الله فلانا ما أشجعه ،
يريدون التعجب من حاله واستعظام وصفه ، وقال الزمخشري : يحتمل أن يكون ثناء عليه
على طريقة
الاستهزاء أو حكاية لقول قريش تهكما بهم (ثُمَّ نَظَرَ) أي نظر في قوله (ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ) البسور هو تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس ، وفعل ذلك من
حسده للنبي صلىاللهعليهوسلم أي عبس في وجهه عليه الصلاة والسلام ، أو عبس لما ضاقت
عليه الحيل ولم يدر ما يقول (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أعرض عن الإسلام (سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي ينقل عمن تقدم (وَما أَدْراكَ ما
سَقَرُ) تعظيم لها وتهويل (لا تُبْقِي وَلا
تَذَرُ) مبالغة في وصف عذابها ، أي لا تدع غاية من العذاب إلا
أذاقته إياها أو لا تبقي شيئا ألقي فيها إلا أهلكته وإذا أهلك لم تذره هالكا بل
يعود للعذاب (لَوَّاحَةٌ
لِلْبَشَرِ) معنى لوّاحة مغيّرة يقال : لوّحه السفر إذا غيره والبشر
جمع بشرة وهي الجلدة ، فالمعنى أنها تحرق الجلود وتسودها وقيل : لواحة من لاح إذا
ظهر ، والبشر الناس أي تلوح للناس ، وقال الحسن : تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام.
(تِسْعَةَ عَشَرَ) يعني الزبانية خزنة جهنم فقيل : هم تسعة عشر ملكا وقيل :
تسعة عشر صفا من الملائكة والأول أشهر (وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) سبب الآية أنه لما نزل عليها تسعة عشر قال أبو جهل : أيعجز
عشرة منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشر أن يبطشوا به ، فنزلت الآية ومعناها أنهم
ملائكة لا طاقة لكم بهم وروي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي جعلناهم هذا العدد ليفتتن الكفار بذلك ويطمعوا أن
يغلبوهم ويقولون ما قالوا (لِيَسْتَيْقِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ليعلم أهل التوراة والإنجيل أن ما أخبر به محمد صلىاللهعليهوسلم من عدد ملائكة النار حق لأنه موافق لما في كتبهم (وَلا يَرْتابَ) أي لا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أن ما قاله محمد صلىاللهعليهوسلم حق ، فإن قيل : كيف نفى عنهم الشك بعد أن وصفهم باليقين
والمعنى واحد ، وهو تكرار؟ فالجواب أنه لما وصفهم باليقين نفى عنهم أن يشكوا فيما
يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن ، فكأنه وصفهم باليقين في الحال والاستقبال ، وقال
الزمخشري ذلك مبالغة وتأكيد (وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المرض عبارة عن الشك ، وأكثر ما يطلق الذين في قلوبهم مرض
على المنافقين. فإن قيل : هذه السورة مكية ولم يكن حينئذ منافقون وإنما حدث
المنافقون بالمدينة ، فالجواب من وجهين أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا
ففيه إخبار بالغيب ، والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك. وقولهم : ماذا أراد
الله بهذا مثلا : استبعاد لأن يكون هذا من عند الله (وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) يحتمل القصد بهذا وجهين أحدهما وصف جنود الله بالكثرة أي :
هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله ، والآخر رفع اعتراض الكفار
على التسعة عشر أي
لا يعلم أعداد جنود الله إلا هو ؛ لأن منهم عددا قليلا ومنهم عددا قليلا ومنهم
عددا كثيرا حسبما أراد الله (وَما هِيَ إِلَّا
ذِكْرى لِلْبَشَرِ) الضمير لجهنم أو للآيات المتقدمة.
(كَلَّا) ردع للكفار عن كفرهم ، وقال الزمخشري : هي إنكار لأن تكون
لهم ذكرى إذ أدبر أي ولى وقرئ دبر بغير ألف والمعنى واحد. وقيل : معناه دبر
الليل والنهار أي جاء في دبره (وَالصُّبْحِ إِذا
أَسْفَرَ) أي أضاء ، ومنه الإسفار بصلاة الصبح (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) الضمير لجهنم ، أو للآيات والنذارة أي هي من الأمور العظام
، والكبر جمع كبرى وقال ابن عطية : جمع كبيرة والأول هو الصحيح (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) تمييز أو حال من إحدى الكبر وقيل : النذير هنا الله ،
فالعامل فيه على هذا محذوف. وهذا ضعيف وقيل : هو حال من هذه السورة أي قم فأنذر
نذيرا وهذا بعيد قال الزمخشري : هو من بدع التفاسير (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) التقديم عبارة عن تقديم سلوك طريق الهدى والتأخر ضده ،
ولمن شاء بدل من البشر أي هم متمكنون من التقدم والتأخر وقيل : معناه الوعيد كقوله
: (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وعلى
هذا أعرب الزمخشري أن يتقدم مبتدأ ولمن شاء خبره والأول أظهر (رَهِينَةٌ) قال ابن عطية الهاء في رهينة للمبالغة أو على تأنيث النفس.
وقال الزمخشري : ليست بتأنيث رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث
، وإنما هي بمعنى الرهن أي كل نفس رهن عند الله بعملها (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) أي أهل السعادة فإنهم فكوا رقابهم بأعمالهم الصالحة ، كما
فكّ الراهن رهنه بأداء الحق وقال علي بن أبي طالب : أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم
لا أعمال لهم يرتهنون بها وقال ابن عباس : هم الملائكة (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين الذين في النار (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي ما أدخلكم النار ، وهذا خطاب للمجرمين يحتمل أن خاطبهم
به المسلمون أو الملائكة فأجابوهم بقولهم : لم نك من المصلين وما بعده أي هذا الذي
أوجب دخولهم النار ، وإنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيما له لأنه أعظم جرائمهم (نَخُوضُ) الخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) هو الموت عند المفسرين وقال ابن عطية : إنما اليقين الذي
أرادوا ما كانوا يكذبون في الدنيا ، فيتيقنونه بعد الموت (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ) إنما ذلك لأنهم كفار ، وأجمع العلماء أنه لا يشفع أحد في
الكفار ، وجمع الشافعين دليل على
__________________
كثرتهم كما ورد في
الآثار ، تشفع الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء والصالحين (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ) يعني كفار قريش (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ) المستنفرة بفتح الفاء التي استنفرها الفزع ، وبالكسر بمعنى النافرة شبه الكفار
بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام ويعني حمر الوحش.
(فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ) قال ابن عباس : القسورة الرماة وقال أيضا هو : الأسد ،
وقيل : أصوات الناس ، وقيل : الرجال الشداد ، وقيل : سواد أول الليل (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) المعنى : يطمع كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتابا من الله ،
ومعنى منشرة : منشورة غير مطوية أي طرية كما كتبت لم تطو بعد ، وذلك أنهم قالوا
للرسول صلىاللهعليهوسلم : لا نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء فيه من
رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر باتباعك (كَلَّا) ردع عما أرادوه (بَلْ لا يَخافُونَ
الْآخِرَةَ) أي هذه هي العلة والسبب في إعراضهم (كَلَّا) تأكيد للردع الأول أو ردع عن عدم خوفهم الآخرة (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) الضمير لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) فاعل شاء ضمير يعود على من ، وفي ذلك حض وترغيب وقيل :
الفاعل هو الله ثم قيد فعل العبد بمشيئة الله (هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي هو أهل لأن يتّقى لشدة عقابه ، وهو أهل لأن يغفر الذنوب
لكرمه وسعة رحمته وفضله.
__________________
سورة القيامة
مكية وآياتها ٤٠
نزلت بعد القارعة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(لا أُقْسِمُ) في الموضعين معناه أقسم. ولا زائدة لتأكيد القسم ، وقيل :
هي استفتاح كلام بمنزلة ألا. وقيل : هي نفي لكلام الكفار (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) هي التي تلوم نفسها على فعل الذنوب ، أو التقصير في
الطاعات ، فإن النفوس على ثلاثة أنواع فخيرها النفس المطمئنة وشرها النفس الأمارة
بالسوء وبينهما النفس اللوامة ، وقيل : اللوامة هي المذمومة الفاجرة ، وهذا بعيد
لأن الله لا يقسم إلا بما يعظم من المخلوقات ، ويستقيم إن كان لا أقسم نفيا للقسم (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظامَهُ) الإنسان هنا للجنس ، أو الإشارة به للكفار المنكرين للبعث
، ومعناه أيظن أن لن نجمع عظامه للبعث بعد فنائها في التراب؟ وهذه الجملة هي التي
تدل على جواب القسم المتقدم (بَلى) تقديره نجمعها (قادِرِينَ) منصوب على الحال من الضمير في نجمع ، والتقدير : نجمعها
ونحن قادرون (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنانَهُ) البنان الأصابع ، وفي المعنى قولان : أحدهما أنه إخبار
بالقدرة على البعث أي قادرين على أن نسوى أصابعه أي نخلقها بعد فنائها مستوية
متقنة ، وإنما خص الأصابع دون سائر الأعضاء لدقة عظامها وتفرقها ، والآخر أنه تهديد
في الدنيا ، أي قادرين على أن نجعل أصابعه مستوية ، ملتصقة كيد الحمار وخف الجمل ،
فلا يمكنه تصريف يديه في منافعه. والأول أليق بسياق الكلام (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ
أَمامَهُ) هذه الجملة معطوفة على أيحسب الإنسان ، ويجوز أن يكون
استفهاما مثلها أو تكون خبرا ، وليست بل هنا للإضراب عن الكلام الأول بمعنى إبطاله
؛ وإنما هي للخروج منه إلى ما بعده ، وليفجر : معناه ليفعل أفعال الفجور ، وفي
معنى أمامه ثلاثة أقوال : أحدها أنه عبارة عما يستقبل من
__________________
الزمان ، أي يفجر
بقية عمره الثاني أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته ، يقال : مشى فلان قدامه إذا
لم يرجع عن شيء يريده ، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان ، الثالث أن
الضمير يعود على يوم القيامة. والمعنى يريد الإنسان أن يفجر قبل يوم القيامة.
(يَسْئَلُ أَيَّانَ
يَوْمُ الْقِيامَةِ) أيان معناها متى وهذا السؤال على يوم القيامة هو على وجه
الاستخفاف والاستعداد (بَرِقَ الْبَصَرُ) هذا إخبار عن يوم القيامة ، وقيل : عن حالة الموت وهذا خطأ
؛ لأن القمر لا يخسف عند موت أحد ، ولا يجمع بينه وبين الشمس وبرق بفتح الراء معناه لمع وصار له برق وقرئ بكسر الراء ومعناه
تحيّر من الفزع ، وقيل : معناه شخص فيتقارب معنى الفتح والكسر (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب ضوؤه ، يقال : خسف هو وخسفه الله والخسوف للقمر
والكسوف للشمس ، وقيل : الكسوف ذهاب بعض الضوء ، والخسوف : ذهاب جميعه ، وقيل :
بمعنى واحد (وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) في جمعهما ثلاثة أقوال : أحدها أنهما يجمعان حيث يطلعهما
الله من المغرب ، والآخر أنهما يجمعان يوم القيامة ، ثم يقذفان في النار ، وقيل :
في البحر ، فتكون النار الكبرى. الثالث أنهما يجمعان فيذهب ضوؤهما (لا وَزَرَ) أي لا ملجأ ولا مغيث (بِما قَدَّمَ
وَأَخَّرَ) أي بجميع أعماله ما قدّم منها في أول عمره وما أخر في آخره
، وقيل : ما تقدم في حياته وما أخر من سنة أو وصية بعد مماته ، وقيل : ما قدم
لنفسه من ماله وما أخر منه لورثته.
(بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) في معناه قولان : أحدهما : أنه شاهد على نفسه بأعماله ، إذ
تشهد عليه جوارحه يوم القيامة ، والآخر : أنه حجة بينة لأن خلقته تدل على خالقه ،
فوصف بالبصارة مجازا لأن من نظر فيه أبصر الحق ، والأول أليق بما قبله وما بعده
كأنه قال : ينبؤ الإنسان يومئذ بأعماله بل هو يشهد بأعماله وإن لم ينبأ بها ،
وكذلك يلتئم مع قوله : (وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ) ، ويكون هو جواب لو حسبما نذكره (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) فيه قولان ، أحدهما : أن المعاذير الأعذار أي الإنسان يشهد
على نفسه بأعماله ولو اعتذر عن قبائحها والآخر أن المعاذير : الستور ، أي الإنسان
يشهد على نفسه يوم القيامة ولو سدل الستور على نفسه في الدنيا ، حين يفعل القبائح (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ) الضمير في به يعود على القرآن دلت على ذلك قرينة الحال
وسبب الآية أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يحرك به شفتيه ، مخافة أن
ينساه لحينه ، فأمره الله أن ينصت ويستمع ، وقيل : كان يخاف أن ينسى القرآن فكان
يدرسه حتى غلب عليه ذلك ، وشق عليه فنزلت
__________________
الآية والأول هو
الصحيح. لأنه ورد في البخاري وغيره (إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ضمن الله له أن يجمعه في صدره ، فلا يحتاج إلى تحريك شفيته
عند نزوله ، ويحتمل قرآنه هنا وجهين ، أحدهما : أن يكون بمعنى القراءة فإن القرآن
قد يكون مصدرا من قرأت ، والآخر : أن يكون معناه تأليفه في صدره فهو مصدر من قولك
: قرأت الشيء أي جمعته (فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي إذا قرأه جبريل ، فاجعل قراءة جبريل قراءة الله ؛ لأنها
من عنده ، ومعنى اتبع قرآنه اسمع قراءته واتبعها بذهنك لتحفظها ، وقيل : اتبع
القرآن في الأوامر والنواهي (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
بَيانَهُ) أي علينا أن نبينه لك ونجعلك تحفظه ، وقيل : علينا أن نبين
معانيه وأحكامه ، فإن قيل : ما مناسبة قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ) الآية لما قبلها فالجواب أنه لعله نزل معه في حين واحد
فجعل على ترتيب النزول.
(بَلْ تُحِبُّونَ
الْعاجِلَةَ) أي تحبون الدنيا ، وهذا الخطاب توبيخ للكفار ، ومن كان على
مثل حالهم في حب الدنيا ، وكلا ردع عن ذلك (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ) بالضاد أي ناعمة ، ومنه (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) هذا من النظر بالعين ، وهو نص في نظر المؤمنين إلى الله
تعالى في الآخرة ، وهو مذهب أهل السنة ، وأنكره المعتزلة وتأولوا ناظرة بأن معناه
منتظرة ، وهذا باطل ؛ لأن نظر بمعنى انتظر يتعدى بغير حرف جر ، تقول نظرتك أي
انتظرتك ، وأما المتعدي بإلى فهو من نظر العين ، ومنه قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣] وقال
بعضهم : إلى هنا ليست بحرف جر وإنما هي واحد الآلاء بمعنى النعم ، وهذا تكلف في
غاية البعد ، وتأوله الزمخشري بأن معناه كقول الناس : فلان ناظر إلى فلان إذا كان
يرتجيه ويتعلق به ، وهذا بعيد وقد جاء عن النبي صلىاللهعليهوسلم في النظر إلى الله أحاديث صحيحة مستفيضة صريحة المعنى لا
تحتمل التأويل فهي تفسير الآية . (باسِرَةٌ) أي عابسة تظهر عليها الكآبة والبسور أشد من العبوس (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي مصيبة قاصمة الظهر ، والظن هنا يحتمل أن يكون على أصله
أو بمعنى اليقين.
(إِذا بَلَغَتِ
التَّراقِيَ) يعني حالة الموت والتراقي جمع ترقوة وهو عظام أعلى الصدر ،
__________________
والفاعل لبلغت نفس
الإنسان دل على ذلك سياق الكلام ، وهو عبارة عن حال الحشرجة وسياق الموت (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي قال أهل المريض : من يرقيه عسى أن يشفيه؟ وقيل : معناه
أن الملائكة تقول : من يرقى بروحه أي يصعد بها إلى السماء؟ فالأول من الرقية وهو
أشهر وأظهر ، والثاني من الرقيّ وهو العلو (وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِراقُ) أي تيقن المريض أن ذلك الحال فراق الدنيا وفراق أهله وماله
(وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ) هذا عبارة عن شدة كرب الموت وسكراته ، أي التفت ساقه على
الأخرى عند السياق وقيل هو مجاز كقوله كشفت الحرب عن ساقها إذا اشتدت ، وقيل :
معناه ماتت ساقه فلا تحمله وقيل : التفت أي لفها الكافر إذا كفر وفي قوله : الساق
والمساق ضرب من ضروب التجنيس (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) هذا جواب إذا بلغت التراقي والمساق مصدر من السوق كقوله : (إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨] (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) لا هنا نافية وصدّق هنا يحتمل أن يكون من التصديق بالله
ورسله أو من الصدقة ، ونزلت هذه الآية وما بعدها في أبي جهل (يَتَمَطَّى) أي يتبختر في مشيته ، وذلك عبارة عن التكبر والخيلاء ،
وكانت هذه المشية معروفة في بني مخزوم الذين كان أبو جهل منهم (أَوْلى لَكَ) وعيد وتهديد (فَأَوْلى) وعيد ثان ثم كرر ذلك تأكيدا ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لبّب أبا جهل وقال له : إن الله يقول لك : أولى لك فأولى
ثم أولى لك فأولى. فنزل القرآن بموافقة ذلك.
(أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) هذا توبيخ ومعناه أيظن أن يترك من غير بعث ولا حساب ولا
جزاء ، فهو كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥]
، والإنسان هنا جنس ، وقيل نزلت في أبي جهل ولا يبعد أن يكون سببها خاصا ومعناها
عام (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) النطفة النقطة وتمنى من قولك : أمنى الرجل ، ومعنى الآية : الاستدلال بخلقة
الإنسان على بعثه ، كقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [ياسين : ٧٩]
والعلق : الدم لأن المني يصير في الرحم دما (فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي خلقه بشرا فسوى صورته أي أتقنها (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى) هذا تقرير واحتجاج ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا قرأ آخر هذه السورة قال بلى وفي رواية : سبحانك
اللهم بلى.
__________________
سورة الإنسان
مدنية وآياتها ٣١
نزلت بعد الرحمن
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) هل هنا بمعنى التقرير لا لمجرد الاستفهام ، وقيل : هل
بمعنى قل ، والإنسان هنا جنس ، والحين الذي أتى عليه حين كان معدوما قبل أن يخلق ،
وقيل : الإنسان هنا آدم ، والحين الذي أتى عليه حين كان طينا قبل أن ينفخ فيه
الروح وهذا ضعيف لوجهين أحدهما قوله : (إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) وهو هنا جنسها باتفاق ؛ إذ لا يصح هنا في آدم ، والآخر أن
مقصد الآية تحقير الإنسان (مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشاجٍ) أي أخلاط واحدها مشج بفتح الميم والشين وقيل : مشج بوزن
عدل ، وقال الزمخشري : ليس أمشاج بجمع وإنما هو مفرد كقولهم : برمة أعشار ، ولذلك
أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا فقيل : اختلاط ماء الرجل والمرأة وقيل
: معناه ألوان وأطوار ، أي يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره وهذه الجملة في موضع الحال أي : خلقناه مبتلين
له وقيل : معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً
بَصِيراً) هذا معطوف على خلقنا الإنسان ، ومن جعل نبتليه بمعنى نصرفه
في بطن أمه فهذا عطف عليه ، وقيل أن نبتليه مؤخر في المعنى أي جعلناه سميعا بصيرا
لنبتليه وهذا تكلف بعيد.
(إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ) أي سبيل الخير والشر ولذلك قسم الإنسان إلى قسمين شاكرا أو
كفورا وهما حالان من الضمير في هديناه والهدى هنا بمعنى : بيان الطريقين ، وموهبة
العقل الذي يميز به بينهما ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإرشاد ، أي هدى المؤمن
للإيمان والكافر للكفر. (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] سلاسلا
من قرأه بغير تنوين فهو الأصل إذ هو لا ينصرف ، لأنه جمع لا نظير له في
الآحاد. ومن قرأه بالتنوين فله ثلاث توجيهات :
__________________
أحدها أنها لغة
لبعض العرب يصرفون كل ما لا ينصرف إلا ما كان على وزن أفعل والآخر أن النون بدل من
حرف الإطلاق ، وأجرى الوصل مجرى الوقف والثالث أن يكون صاحب هذه القراءة راوية
للشعر ، قد عوّد لسانه صرف ما لا ينصرف فجرى على ذلك (الْأَبْرارَ) جمع بار أو برّ ، ومعناه العاملون بالبر وهو غاية التقوى
والعمل الصالح حتى قال بعضهم : الأبرار هم الذين لا يؤذون الذر (مِنْ كَأْسٍ) ذكر في الصافات [٤٥] معنى الكأس ومن هنا يحتمل أن تكون
للتبعيض أو لابتداء الغاية (مِزاجُها كافُوراً) أي تمزج الخمر بالكافور وقيل : المعنى أنه كافور في طيب
رائحته كما تمدح طعاما فتقول هذا مسك (عَيْناً) بدل من كافورا على القول بأن الخمر تمزج بالكافور ، أو بدل
من موضع من كأس على القول الآخر كأنه قال : يشربون خمرا خمر عين وقيل : هو مفعول
يشربون وقيل منصوب بإضمار فعل (يَشْرَبُ بِها) قال ابن عطية : الباء زائدة والمعنى يشربها وهذا ضعيف ؛
لأن الباء إنما تزاد في مواضع ليس هذا منها ، وإنما هي كقولك : شربت الماء بالعسل
لأن العين المذكورة تمزج بها الكأس من الخمر (عِبادُ اللهِ) وصفهم بالعبودية ، وفيه معنى التشريف والاختصاص. كقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم تفجيرا سهلا لا يصعب
عليهم ، وفي الأثر أن في قصر النبي صلىاللهعليهوسلم في الجنة عينا تفجر إلى قصور الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام والمؤمنين (مُسْتَطِيراً) أي منتشرا شائعا ومنه ، استطار الفجر : إذا انشق ضوؤه.
(وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ) نزلت هذه الآية وما بعدها في علي بن أبي طالب وفاطمة
والحسن والحسين رضي الله عنهم فإنهم كانوا صائمين فلما وضعوا فطورهم ليأكلوه جاء مسكين
فرفعوه له ، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين ، فلما وضعوا فطورهم جاء يتيم فدفعوه له
، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين فلما وضعوا فطورهم جاء أسير فدفعوه له ، وباتوا
طاوين والآية على هذا مدنية لأن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة وقيل : إنما هي
مكية وليست في علي (عَلى حُبِّهِ) الضمير للطعام أي يطعمونه مع حبه والحاجة إليه فهو كقوله :
(لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢]
وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] ففي
قوله على حبه تتميم وهو من أدوات البيان وقيل : الضمير لله وقيل : للإطعام المفهوم
من يطعمون والأول أرجح وأظهر (مِسْكِيناً
وَيَتِيماً وَأَسِيراً) قد ذكرنا المسكين واليتيم وأما الأسير ففيه خمسة أقوال
أحدها أن الأسير الكافر بين المسلمين ففي إطعامه أجر لأنه : «في كل ذي كبد رطبة
أجر» وقيل نسخ ذلك
__________________
بالسيف ، والآخر :
أنه الأسير المسلم إذا خرج من دار الحرب لطلب الفدية والثالث أنه المملوك الرابع
أنه المسجون الخامس أنه المرأة لقوله صلىاللهعليهوسلم : استوصوا بالنساء خيرا لأنهن عوان عندكم وهذا بعيد والأول
أرجح ؛ لأنه روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يؤتى بالأسير المشرك فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له
: أحسن إليه (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ) عبارة عن الإخلاص لله ، ولذلك فسروه وأكدوه بقولهم : لا
نريد منكم جزاء ولا شكورا والشكور مصدر كالشكر ويحتمل أنهم قالوا هذا الكلام
بألسنتهم ، أو قالوا في نفوسهم ، فهو عبارة عن النية والقصد (يَوْماً عَبُوساً) وصف اليوم بالعبوس مجاز على وجهين : أحدهما أن يوصف اليوم
بصفة أهله كقولهم : نهاره صائم وليله قائم. وروي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل
الدم من عينيه مثل القطران والآخر يشبّه في شدّته بالأسد العبوس (قَمْطَرِيراً) قال ابن عباس : معناه طويل وقيل : شديد. (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) النضرة : التنعم. وهذا في مقابلة عبوس الكافر. وقوله : وقاهم
ولقاهم من أدوات البيان (بِما صَبَرُوا) أي بصبرهم على الجوع وإيثار غيرهم على أنفسهم ، حسبما
ذكرنا من قصة علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، وقد ذكرنا الأرائك (لا يَرَوْنَ فِيها
شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) عبارة عن اعتدال هوائها أي ليس فيها حر ولا برد ،
والزمهرير هو البرد الشديد ، وقيل : هو القمر بلغة طيء ، والمعنى على هذا أن للجنة
ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس ولا قمر (وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها) معناه أن ظلال الأشجار متدلية عليهم قريبة منهم ، وإعراب
دانية معطوف على متكئين ، وقال الزمخشري : هو معطوف على الجملة التي قبلها وهي :
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، لأن هذه الجملة في حكم المفرد تقديره : غير رائين
فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم ،
أي جامعين بين البعد عن الحر والبرد وبين دنو الظلال ، وقيل : هو صفة لجنة عطف
بالواو كقولك : فلان عالم وصالح. وقيل : هو معطوف عليها أي وجنة أخرى دانية عليهم
ظلالها (وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُها تَذْلِيلاً) القطوف جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ، وشبه ذلك ،
وتذليلها هو أن تتدلى إلى الأرض ، وروي أن أهل الجنة يقطعون الفواكه على أي حال
كانوا من قيام أو جلوس أو اضطجاع ، لأنها تتدلى لهم كما يريدون ، وهذه الجملة في
موضع الحال من دانية ، أي دانية في حال تذليل قطوفها أو معطوفة عليها.
(بِآنِيَةٍ) هي جمع إناء ووزنها أفعلة وقد ذكرنا الأكواب في الواقعة (قَوارِيرَا) القوارير هي الزجاج ، فإن قيل : كيف يتفق أنها زجاج مع
قوله من فضة؟ فالجواب : أن
__________________
المراد أنها في
أصلها من فضة وهي تشبه الزجاج في صفائها وشفيفها ، وقيل : هي من زجاج ، وجعلها من
فضة على وجه التشبيه لشرف الفضة وبياضها ، ومن قرأ قوارير بغير تنوين فهو على
الأصل ومن نوّنه فعلى ما ذكرنا في سلاسل (قَدَّرُوها
تَقْدِيراً) هذه صفة للقوارير والمعنى قدّروها على قدر الأكف أو على
قدر ما يحتاجون من الشراب ، قال مجاهد : هي لا تغيض ولا تفيض ، وقيل : قدروها على
حسب ما يشتهون ، والضمير الفاعل في قدّروها يحتمل أن يكون للشاربين بها أو
للطائفين بها (مِزاجُها
زَنْجَبِيلاً) هو كما ذكرنا في مزاجها كافورا (سَلْسَبِيلاً) معناه سلسل منقاد الجرية ، وقيل : سهل الانحدار في الحلق ،
يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل بمعنى واحد. وزيدت الباء في التركيب للمبالغة في
سلاسته ، فصارت الكلمة خماسية ، وقيل : سل فعل أمر سبيلا مفعول به وهذا في غاية
الضعف (وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ) ذكر في الواقعة (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) شبههم باللؤلؤ في الحسن والبياض ، وبالمنثور منه في كثرتهم
وانتشارهم في القصور.
(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) مفعول رأيت محذوف ليكون الكلام على الإطلاق في كل ما يرى
فيها ، وثم ظرف مكان ، وقال الفراء : تقديره إذا رأيت ما ثم فما مفعوله ثم حذفت ،
قال الزمخشري : وهذا خطاب لأن ثمّ صلة لما ، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة (مُلْكاً كَبِيراً) يعني كثرة ما أعطاهم الله ، حتى إن أدنى أهل الجنة منزلة
له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه ، حسبما ورد في الحديث وقيل : أراد أن الملائكة تسلم عليهم ، وتستأذن عليهم ، فهم
بذلك كالملوك (عالِيَهُمْ) بسكون الياء مبتدأ خبره (ثِيابُ سُندُسٍ) أي ما يعلوهم من الثياب ثياب سندس ، وقرئ عاليهم بالنصب
على الحال ، من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم. وقال ابن عطية : العامل فيه
لقّاهم أو جزاهم ، وقال أيضا يجوز أن ينتصب على الظرف لأن معناه فوقاهم ، وقد
ذكرنا معنى السندس والإستبرق وقرئ (خُضْرٌ) بالخفض صفة لسندس وبالرفع صفة لثياب (وَإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع عطف على ثياب ، وبالخفض عطف على سندس (وَحُلُّوا) وزنه فعلوا معناه جعل لهم حلي (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) ذكرنا الأساور في الكهف ، فإن قيل كيف قال هنا أساور من
فضة ، وفي موضع آخر أساور من
__________________
ذهب؟ فالجواب أن
ذلك يختلف باختلاف درجات أهل الجنة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما
وما فيهما» . فلعل الذهب للمقربين ، والفضة لأهل اليمين ، ويحتمل أن
يكون أهل الجنة لهم أساور من فضة ومن ذهب معا (شَراباً طَهُوراً) أي ليس بنجس كخمر الدنيا. وقيل معناه : أنه لم تعصره
الأقدام ، وقيل معناه لا يصير بولا (إِنَّ هذا كانَ
لَكُمْ جَزاءً) أي يقال لهم هذا يقوله الله تعالى والملائكة (آثِماً أَوْ كَفُوراً) أو هنا للتنويع ، فالمعنى لا تطع النوعين ، فاعلا للإثم
ولا كفورا ، وقيل : هي بمعنى الواو أي جامعا للوصفين لأن هذه هي حالة الكفار ،
وروي أن الآية نزلت في أبي جهل ، وقيل : أن الآثم عتبة بن ربيعة ، والكفور الوليد
بن المغيرة ، والأحسن أنها على العموم ، لأن لفظها عام ، وإن كان سبب نزولها خاصا (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) هذا أمر بذكر الله في كل وقت ، وقيل : إشارة إلى الصلوات
الخمس ، فالبكرة صلاة الصبح ، والأصيل الظهر والعصر ، ومن الليل المغرب والعشاء.
(إِنَّ هؤُلاءِ
يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي الدنيا والإشارة إلى الكفار واليوم الثقيل يوم القيامة
، ووصفه بالثقل عبارة عن هوله وشدته (وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ) الأسر الخلقة وقيل : المفاصل والأوصال ، وقيل : القوة (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي أهلكناهم وأبدلنا منهم غيرهم. وقيل : مسخناهم فبدلنا
صورهم وهذا تهديد (إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ) الإشارة إلى الآية أو السورة أو الشريعة بجملتها (فَمَنْ شاءَ) تحضيض وترغيب ثم قيّد مشيئتهم بمشيئة الله (وَالظَّالِمِينَ) منصوب بفعل مضمر تقديره : ويعذب الظالمين.
__________________
سورة المرسلات
مكية إلا آية ٤٨
فمدنية وآياتها ٥٠ نزلت بعد الهمزة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
اختلف في معنى
المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات على قولين : أحدهما أنها الملائكة والآخر
أنها الرياح. فعلى القول بأنها الملائكة سماهم المرسلات لأن الله تعالى يرسلهم
بالوحي وغيره ، وسماهم العاصفات لأنهم يعصفون كما تعصف الرياح في سرعة مضيهم إلى
امتثال أوامر الله تعالى ، وسماهم ناشرات لأنهم ينشرون أجنحتهم في الجو ، وينشرون
الشرائع في الأرض ، أو ينشرون صحائف الأعمال وسماهم الفارقات لأنهم يفرقون بين الحق
والباطل ، وعلى القول بأنها الرياح ، سماها المرسلات لقوله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الروم : ٤٨]
وسماها العاصفات من قوله : (رِيحٌ عاصِفٌ) أي شديدة ، وسماها الناشرات لأنها تنشر السحاب في الجو
ومنه قوله : (يُرْسِلُ الرِّياحَ
فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨]
وسماها الفارقات لأنها تفرق بين السحاب ومنه قوله : فيجعله كسفا وأما الملقيات
ذكرا فهم الملائكة لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهمالسلام ، والأظهر في المرسلات والعاصفات أنها الرياح لأن وصف
الريح بالعصف حقيقة ، والأظهر في الناشرات والفارقات أنها الملائكة لأن الوصف
بالفارقات أليق بهم من الرياح ، ولأن الملقيات المذكورة بعدها هي الملائكة ولم يقل
أحد أنها الرياح ، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء فقال : والمرسلات فالعاصفات ثم عطف
ما ليس من جنس بالواو فقال : والناشرات ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء وقد قيل في
المرسلات والملقيات أنهم الأنبياء عليهمالسلام (عُرْفاً) معناه : فضلا وإنعاما وانتصابه على أنه مفعول من أجله وقيل
: معناه متتابعة وهو مصدر في موضع الحال وأما عصفا ونشرا وفرقا فمصادر ، وأما ذكرا
فمفعول به (عُذْراً أَوْ نُذْراً) العذر فسّره ابن عطية وغيره بمعنى : إعذار الله إلى عباده
لئلا تبقى لهم حجة أو عذر. وفسره الزمخشري بمعنى الاعتذار. يقال : عذر إذا محا
الإساءة ، وأما نذرا فمن الإنذار وهو التخويف وقرأ الأعشى التميمي بضم الذال في
الموضعين وبقية القراء
بإسكانها ، ويحتمل
أن يكونا مصدرين فيكون نصبهما على البدل من ذكرا أو مفعولا بذكر ، أو يحتمل أن
يكون عذرا جمع عذير أو عاذر ، ونذرا جمع نذير فيكون نصبهما على الحال (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) يعني البعث والجزاء وهو جواب القسم (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي زال ضوؤها وقيل : محيت (وَإِذَا السَّماءُ
فُرِجَتْ) أي انشقت (وَإِذَا الْجِبالُ
نُسِفَتْ) أي صارت غبارا (وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ) أي جعل لها وقت معلوم ، فحان ذلك الوقت وجمعت للشهادة على
الأمم يوم القيامة وقرأ أبو عمرو وقّتت بالواو وهو الأصل ، والهمزة بدل من الواو (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) هو من الأجل كما أن التوقيت من الوقت ، وفيه توقيف [سؤال]
يراد به تعظيم لذلك اليوم ثم بينه بقوله : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي يفصل فيه بين العباد ثم عظّمه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تكراره في هذه السورة قيل : إنه تأكيد وقيل : بل في كل آية
ما يقتضي التصديق فجاء ويل يومئذ للمكذبين راجعا إلى ما قبله في كل موضع منها.
(أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ) يعني الكفار المتقدمين ، كقوم نوح وغيرهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) يعني قريشا وغيرهم من الكفار بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وهذا وعيد لهم ظهر مصداقه يوم بدر وغيره (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي مثل هذا الفعل نفعل بكل مجرم يعني الكفار (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) يعني المني ، والمهين الضعيف (فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ) يعني رحم المرأة (إِلى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ) يعني وقت الولادة ، وهو معلوم عند تسعة أشهر ، أو أقل منها
أو أكثر (فَقَدَرْنا) بالتشديد من التقدير وبالتخفيف من القدرة ، فإذا كان من القدرة اتفق مع قوله
فنعم القادرون ، وإذا كان من التقدير فهو تجنيس (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) الكفات من : كفت إذا ضم وجمع. فالمعنى أن الأرض تكفت
الأحياء على ظهرها ، والموتى في بطنها. وانتصب أحياء وأمواتا على أنه مفعول بكفاتا
لأن الكفات اسم لما يضم ويجمع ، فكأنه قال : جامعة أحياء وأمواتا ويجوز أن يكون
المعنى : تكفتهم أحياء وأمواتا. فيكون نصبهما على الحال من الضمير ، وإنما نكّر
أحياء وأمواتا للتفخيم ودلالة على كثرتهم (رَواسِيَ) يعني الجبال (شامِخاتٍ) أي مرتفعات (ماءً فُراتاً) أي
__________________
حلوا (انْطَلِقُوا) خطاب للمكذبين وقرأ يعقوب بفتح اللام على أنه فعل ماض ثم
كرره لبيان المنطلق إليه (إِلى ظِلٍ) يعني دخان جهنم ومنه ظل من يحموم (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي يتفرع من الدخان ثلاث شعب فتظلهم ، بينما يكون المؤمنون
في ظلال العرش وقيل : إن هذه الآية في عبدة الصليب لأنهم على ثلاثا شعب فيقال لهم
انطلقوا إليه (لا ظَلِيلٍ) نفى عنه أن يظلهم كما يظل العرش المؤمنين ونفى أيضا أن
يمنع عنهم اللهب (إِنَّها تَرْمِي
بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الضمير في إنها لجهنم والقصر واحد القصور ، وهي الديار
العظام شبه الشرر به في عظمته وارتفاعه في الهواء ، وقيل : هو الغليظ من الشجر
واحده قصرة كجمرة وجمر كأنّه جمالات صفر في الجمالات قولان أحدهما : أنها جمع جمال شبه بها الشرر
وصفر على ظاهره ؛ لأن لون النار يضرب إلى الصفرة. وقيل : صفر هنا بمعنى سود يقال :
جمل أصفر أي أسود. وهذا أليق بوصف جهنم. الثاني أن الجمالات قطع النحاس الكبار ،
فكأنه مشتق من الجملة. وقرئ جمالات بضم الجيم وهي قلوس السفن وهي حبالها العظام (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) هذا في مواطن ، وقد يتكلمون في مواطن أخر لقوله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ
عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١] (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تعجيز لهم وتعريض بكيدهم في الدنيا وتقريع عليه (كُلُوا وَاشْرَبُوا) يقال لهم ذلك في الجنة بلسان الحال أو بلسان المقال (هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) نصب هنيئا على الحال أو على الدعاء (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) خطاب للكفار على وجه التهديد تقديره : قل لهم كلوا وتمتعوا
قليلا في الدنيا (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) هذا إخبار عن حال الكفار في الدنيا ، وذكر الركوع عبارة عن
الصلاة وقيل : معنى اركعوا اخشعوا وتواضعوا. وقيل : هو إخبار عن حال المنافقين يوم
القيامة لأنهم إذا قيل لهم : اركعوا لا يقدرون على الركوع كقوله : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا
يَسْتَطِيعُونَ) [القلم : ٤٢]
والأول أشهر وأظهر (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الضمير للقرآن.
__________________
سورة النبأ
مكية وآياتها ٤٠
نزلت بعد المعارج
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أصل عمّ عن ما ثم أدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما لأنها
استفهامية ، تقديرها : عن أي شيء يتساءلون ، وليس المراد بها هنا مجرد الاستفهام ،
وإنما المراد تفخيم الأمر. والضمير في يتساءلون لكفار قريش ، أو لجميع الناس
ومعناه يسأل بعضهم بعضا (عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ) هو ما جاءت به الشريعة من التوحيد والبعث والجزاء وغير ذلك
، ويتعلق عن النبإ بفعل محذوف يفسره الظاهر تقديره : يتساءلون عن النبأ. ووقعت هذه
الجملة جوابا عن الاستفهام وبيانا للمسئول عنه كأنه لما قال : عم يتساءلون أجاب
فقال يتساءلون عن النبأ العظيم. وقيل : يتعلق عن النبأ بيتساءلون الظاهر والمعنى
على هذا لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والأول أفصح وأبرع وينبغي على ذلك أن
يوقف على قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) إن كان الضمير في يتساءلون لكفار قريش ، فاختلافهم أن منهم
من يقطع بالتكذيب ، ومنهم من يشك أو يكون اختلافهم ؛ قول بعضهم سحر ، وقول بعضهم
شعر وكهانة وغير ذلك ، وإن كان الضمير لجميع الناس فاختلافهم أن منهم المؤمن
والكافر.
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع وتهديد ثم كرره للتأكيد (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهاداً) أي فراشا ، وإنما ذكر الله تعالى هنا هذه المخلوقات على
جهة التوقيف [السؤال] ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من البعث كأنه يقول : إن
الإله الذي قدر على خلقة هذه المخلوقات العظام قادر على إحياء الناس بعد موتهم ،
ويحتمل أنه ذكرها حجة على التوحيد ؛ لأن الذي خلق هذه المخلوقات هو الإله وحده لا
شريك له (وَالْجِبالَ
أَوْتاداً) شبهها بالأوتاد لأنها تمسك الأرض أن تميد (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي من زوجين ذكرا وأنثى ، وقيل : معناه أنواعا في ألوانكم
وصوركم وألسنتكم (وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة لكم ، وقيل : معناه
قطعا للأعمال
والتصرف. والسبت : القطع. وقيل : معناه موتا ؛ لأن النوم هو الموت الأصغر ، ومنه
قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) شبهه بالثياب التي تلبس لأنه ستر عن العيون (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي تطلب فيه المعيشة ، فهو على حذف مضاف تقديره ذا معاش ،
وقال الزمخشري : معناه يعاش فيه فجعله بمعنى الحياة في مقابلة السبات ، الذي بمعنى
الموت (وَبَنَيْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) يعني السموات (وَجَعَلْنا سِراجاً
وَهَّاجاً) يعني الشمس. والوهّاج الوقاد الشديد الإضاءة ، وقيل :
الحار الذي يضطرم من شدة لهبه (وَأَنْزَلْنا مِنَ
الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) يعني : المطر. والمعصرات : هي السحاب وهو مأخوذ من العصر ؛
لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء أو من العصرة ؛ بمعنى الإغاثة. ومنه : وفيه
يعصرون ، وقيل : هي السموات وقيل : الرياح والثجّاج السريع الاندفاع (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) الحب هو القمح والشعير وسائر الحبوب والنبات هو العشب (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي ملتفة وهو جمع لف بضم اللام ، وقيل : بالكسر وقيل : لا
واحد له (كانَ مِيقاتاً) أي في وقت معلوم.
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ) يعني نفخة القيام من القبور (فَتَأْتُونَ
أَفْواجاً) أي جماعات (فَكانَتْ أَبْواباً) أي تنفخ فتكون فيها شقاق كالأبواب (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي حملت (فَكانَتْ سَراباً) عبارة عن تلاشيها وفنائها والسراب في اللغة : ما يظهر على
البعد أنه ماء ، وليس ذلك المراد هنا وإنما هو تشبيه في أنه لا شيء (مِرْصاداً) أي موضع المرصاد والرصد هو الارتقاب والانتظار ، أي تنتظر
الكفار ليدخلوها وقيل : معناه طريقا للمؤمنين يمرون عليه إلى الجنة لأن الصراط
منصوب على جهنم (مَآباً) أي مرجعا (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) جمع حقبة أو حقب وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة ،
وقيل إنها محدودة ثم اختلف في مقدارها ، فروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنها ثمانون ألف سنة ، وقال ابن عباس : ثلاثون سنة وقيل
ثلاثمائة سنة ، وعلى القول بالتحديد فالمعنى أنهم يبقون فيها أحقابا ، كلما انقضى
حقب جاء آخر إلى غير نهاية وقيل : إنه كان يقتضي أن مدة العذاب تنقضي ، ثم نسخ
بقوله : (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) وهذا خطاب لأن الأخبار لا تنسخ ، وقيل : هي في عصاة
المؤمنين الذين يخرجون من النار ، وهذا خطأ لأنها في الكفار لقوله : وكذبوا
بآياتنا وقيل : معناها أنهم يبقون أحيانا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، ثم يبدل
لهم نوع آخر
__________________
من العذاب (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا
شَراباً) أي لا يذوقون برودة تخفف عنهم حر النار. وقيل : لا يذوقون
ماء باردا وقيل : البرد هنا النوم والأول أظهر (إِلَّا حَمِيماً
وَغَسَّاقاً) استثناء من الشراب وهو متصل ، والحميم : الماء الحار.
والغساق : صديد أهل النار ، وقد ذكر في سورة داود [ص : ٥٧] (جَزاءً وِفاقاً) أي موافقا أعمالهم لأن أعمالهم كفر وجزاؤهم النار ، ووفاقا
مصدر وصف به أو هو على حذف مضاف تقديره ذو وفاق (إِنَّهُمْ كانُوا لا
يَرْجُونَ حِساباً) هذا مثل لا يرجون لقاءنا وقد ذكر (كِذَّاباً) بالتشديد مصدر بمعنى تكذيب وبالتخفيف بمعنى الكذب أو
المكاذبة ، وهي تكذيب بعضهم لبعض (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما نزل في أهل
النار أشد من هذه الآية» .
(مَفازاً) أي موضع فوز يعني الجنة (حَدائِقَ) أي بساتين (وَكَواعِبَ) جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها (أَتْراباً) أي على سن واحد (وَكَأْساً دِهاقاً) أي ملأى وقيل : صافية والأول أشهر (عَطاءً حِساباً) أي كافيا من أحسب الشيء إذا كفاه ، وقيل : معناه على حسب
أعمالهم (رَبِّ السَّماواتِ) بالرفع مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر وبالخفض صفة لربك ، والرحمن
بالخفض صفة ، وبالرفع خبر المبتدأ أو خبر ابتداء مضمر (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) قال ابن عطية : الضمير للكفار أي لا يملكون أن يخاطبوه
بمقدرة ولا غيرها ، وقيل : المعنى لا يقدرون أن يخاطبهم كقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) وقال الزمخشري : الضمير لجميع الخلق أي ليس بأيديهم شيء من
خطاب الله (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ) قيل هو جبريل ، وقيل : ملك عظيم يكون هو وحده صفا
والملائكة صفا ، وقيل : يعني أرواح بني آدم فهو اسم جنس ويوم يتعلق بلا يملكون أو
لا يتكلمون (لا يَتَكَلَّمُونَ) الضمير للملائكة والروح ، أي تمنعهم الهيبة من الكلام إلا
من بعد أن يأذن الله لهم. وقول الصواب يكون في ذلك الموطن على هذا. وقيل : الضمير
للناس خاصة والصواب المشار إليه قول : لا إله إلا الله أي من قالها في الدنيا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الحق وجوده ووقوعه (فَمَنْ شاءَ)
__________________
تخصيص وترغيب (عَذاباً قَرِيباً) يعني عذاب الآخرة ووصفه بالقرب لأن كل آت قريب ، أو لأن
الدنيا على آخرها (يَوْمَ يَنْظُرُ
الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) المرء هنا عموم في المؤمن والكافر ، وقيل : هو المؤمن وقيل
: هو الكافر والعموم أحسن ، لأن كل أحد يرى ما عمل لقوله تعالى : فمن يعمل مثقال
ذرة الآية (وَيَقُولُ الْكافِرُ
يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) يتمنى أن يكون يوم القيامة ترابا فلا يحاسب ولا يجازى ،
وقيل : تمنى أن يكون في الدنيا ترابا أي لم يخلق ، وروي أن البهائم تحشر ليقتص
لبعضهم من بعض ثم ترد ترابا ، فيتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ، وهذا يقوّي
الأول ، وقيل : الكافر هنا إبليس يتمنى أن يكون خلق من تراب ، مثل آدم وذريته لما
رأى ثوابهم ، وقد كان احتقر التراب في قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].
سورة النازعات
مكية وآياتها ٤٦
نزلت بعد النبأ
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
اختلف في معنى
النازعات والناشطات والسابقات والسابحات والمدبرات ، فقيل : إنها الملائكة وقيل :
النجوم ، فعلى القول بأنها الملائكة سماهم نازعات ؛ لأنهم ينزعون نفوس بني آدم من
أجسادها ، وناشطات لأنهم ينشطونها أي يخرجونها فهو من قولك : نشطت الدلو من البئر
: إذا أخرجتها وسابحات لأنهم يسبحون في سيرهم ، أي يسرعون فيسبقون فيدبرون أمور
العباد ، والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمرهم الله وعلى القول بأنها النجوم
سماها نازعات لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب ، وناشطات لأنها تنشط من برج إلى
برج ، وسابحات لأنها تسبح في الفلك ومنه (كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] فتسبق
في جريها فتدبر أمرا من علم الحساب ، وقال ابن عطية : لا أعلم خلافا أن المدبرات
أمرا الملائكة ، وحكى الزمخشري فيها ما ذكرنا. وقد قيل في النازعات والناشطات أنها
النفوس ، تنزع من معنى النزع بالموت ، فتنشط من الأجساد ، وقيل : في السابحات
والسابقات أنها الخيل وأنها السفن (غَرْقاً) إن قلنا النازعات الملائكة ففي معنى غرقا وجهان : أحدهما
أنها من الغرق أي تغرق الكفار في جهنم ، والآخر أنه من الإغراق في الأمر ، بمعنى
المبالغة فيه ، أي تبالغ في نزعها فتقطع الفلك كله ، وإن قلنا إنها النفوس ، فهو
أيضا من الإغراق أي تغرق في الخروج من الجسد ، والإعراب غرقا مصدر في موضع الحال ،
ونشطا وسبحا وسبقا مصادر ، وأمرا مفعول به ، وجواب القسم محذوف ، وهو بعث الموتى
بدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة ، وقيل : الجواب يوم ترجف الراجفة تتبعها
الرادفة على تقدير حذف لام التأكيد ، وقيل : هو «إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» وهذا
بعيد لبعده عن القسم ، ولأنه إشارة إلى قصة فرعون لا لمعنى القسم.
(يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قيل : الراجفة النفخة الأولى في الصور ، والرادفة النفخة
الثانية : لأنها تتبعها ولذلك سماها رادفة من قولك : ردفت الشيء إذا تبعته ، وفي
الحديث أن بينهما
أربعين عاما ، وقيل : الراجفة : الموت والرادفة : القيامة ، وقيل : الراجفة الأرض
، من قوله (تَرْجُفُ الْأَرْضُ
وَالْجِبالُ) [المزمل : ١٤]
والرادفة السماء لأنها تنشق يومئذ. والعامل في يوم ترجف محذوف وهو الجواب المقدر
تقديره : لتبعثن يوم ترجف الراجفة وإن جعلنا يوم ترجف الجواب فالعامل في يوم معنى
قوله (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ
واجِفَةٌ) وقوله :
(تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ) في موضع الحال ، ويحتمل أن يكون العامل فيه تتبعها (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي شديدة الاضطراب ، والوجيف والوجيب بمعنى واحد ، وارتفع
قلوب بالابتداء وواجفة خبره ، وقال الزمخشري : واجفة صفة ، والخبر أبصارها خاشعة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) كناية عن الذل والخوف ، وإضافة الأبصار إلى القلوب على
تجوز والتقدير : قلوب أصحابها. (يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) هذا حكاية قول الكفار في الدنيا ، ومعناه على الجملة إنكار
البعث ، فالهمزة في قوله «أإنا لمردودون» للإنكار. ولذلك اتفق العلماء على قراءته
بالهمزتين ، إلا أن منهم من سهّل الثانية ومنهم من خففها. واختلفوا في إذا كنا
عظاما نخرة فمنهم من قرأه بهمزة واحدة لأنه ليس بموضع استفهام ولا إنكار ، ومنهم
من قرأه بهمزتين تأكيدا للإنكار المتقدم ، ثم اختلفوا في معنى الحافرة على ثلاثة
أقوال : أحدها أنها الحالة الأولى. يقال : رجع فلان في حافرته إذا رجع إلى حالته
الأولى. فالمعنى أإنا لمردودون إلى الحياة بعد الموت والآخر أن الحافرة الأرض
بمعنى محفورة فالمعنى أإنا لمردودون إلى وجه الأرض بعد الدفن في القبور والثالث أن
الحافرة النار والعظام النخرة البالية المتعفنة وقرأ [حمزة والكسائي وأبو بكر]
ناخرة بألف [والباقون] بحذف الألف وهما بمعنى واحد ؛ إلا أن حذف الألف أبلغ لأن
فعل أبلغ من فاعل وقيل : معناه العظام المجوفة التي تمر بها الريح فيسمع لها نخير
، والعامل في إذا كنا محذوف تقديره إذا كنا عظاما نبعث ، ويحتمل أن يكون العامل
فيه مردودون في الحافرة ولكن إنما يجوز ذلك على قراءة إذا كنا بهمزة واحدة على
الخبر ، ولا يجوز على قراءته بهمزتين. لأن همزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما
بعدها (قالُوا تِلْكَ إِذاً
كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) الكرة الرجعة والخاسرة منسوبة إلى الخسران كقوله : عيشة
راضية ، أي ذات رضى أو معناه خاسر أصحابها ومعنى هذا الكلام أنهم قالوا : إن كان
البعث حقا فكرّتنا خاسرة ، لأنا ندخل النار.
(فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) يعني النفخة في الصور للقيام من القبور. وهذا من كلام الله
تعالى ردّا على الذين أنكروا البعث كأنه يقول : لا تظنوا أنه صعب على الله [بل] هو
عليه يسير ، فإنما ينفخ نفخة واحدة في الصور فيقوم الناس من قبورهم (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) إذا هنا فجائية
والساهرة وجه الأرض ، والباء ظرفية والمعنى : إذا نفخ في الصور حصلوا بالأرض أسرع
شيء.
(هَلْ أَتاكَ) توقيف [سؤال] وتنبيه وليس المراد به مجرد الاستفهام (طُوىً) ذكر في طه : ١٢ (اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ) تفسير للنداء (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ
تَزَكَّى) أن تتطهر من الكفر والذنوب والعيوب والرذائل ، وقال بعضهم
: تزكى تسلم وقيل : تقول لا إله إلا الله والأول أعم (الْآيَةَ الْكُبْرى) قلب العصا حية ، وإخراج اليد بيضاء ، وجعلهما واحدة لأن
الثانية تتبع الأولى ، ويحتمل أن يريد الأولى وحدها (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) الإدبار كناية عن الإعراض عن الإيمان ، ويسعى عبارة عن جده
في الكفر ، وفي إبطال أمر موسى عليهالسلام وقيل : هو حقيقة. أي قام من مجلسه يفر من مجالسة موسى أو
يهرب من العصا لما صارت ثعبانا (فَحَشَرَ) أي جمع جنوده وأهل مملكته (فَنادى) أي نادى قومه وقال لهم ما قال ، ويحتمل أنه ناداهم بنفسه ،
أو أمر من يناديهم ، والأول أظهر. وروى أنه قام فيهم خطيبا فقال ما قال (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولى) النكال مصدر بمعنى التنكيل ، والعامل فيه أخذه الله ؛ لأنه
بمعناه وقيل : العامل محذوف ، والآخرة هي : دار الآخرة والأولى : الدنيا فالمعنى
نكال الآخرة بالنار ونكال الأولى بالغرق. وقيل : الآخرة قوله : أنا ربكم الأعلى
والأولى قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وقيل
: بالعكس فالمعنى أخذه الله وعاقبه على كلمة الآخرة وكلمة الأولى.
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) هذا توقيف [سؤال] قصد به الاستدلال على البعث فإن الذي خلق
السماء قادر على خلق الأجساد بعد فنائها (رَفَعَ سَمْكَها) السمك : غلظ السماء وهو الارتفاع الذي بين سطح السماء
الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها. ومعنى رفعه أنه جعله مسيرة
خمسمائة عام وقيل : السّمك السقف (فَسَوَّاها) أي أتقن خلقتها وقيل : جعلها مستوية ليس فيها مرتفع ولا
منخفض (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي جعله مظلما يقال : غطش الليل إذا أظلم. وأغطشه الله (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أظهر ضوء الشمس في وقت الضحى ، وأضاف الضحى والليل إلى
السماء من حيث أنهما ظاهران منها وفيها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) أي بسطها واستدل بها من قال : إن الأرض بسيطة غير كروية
وقد ذكرنا في فصلت [١١] الجمع بين هذا وبين قوله ثم استوى إلى السماء (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) ومرعاها نسب الماء والمرعى إلى الأرض ، لأنهما يخرجان منها
فإن قيل : لم قال
__________________
أخرج بغير حرف
العطف؟ فالجواب أن هذه الجملة في موضع الحال وتفسير لما قبلها قاله الزمخشري (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي أثبتها ونصب الجبال بفعل مضمر يدل عليه الظاهر وكذلك
الأرض (مَتاعاً لَكُمْ) تقديره : فعل ذلك كله تمتيعا لكم منه (وَلِأَنْعامِكُمْ) لأن بني آدم والأنعام ينتفعون بما ذكر.
(الطَّامَّةُ) هي القيامة وقيل : النفخة الثانية واشتقاقها من قولك : طمّ
الأمر إذا علا وغلب (وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي أظهرت لكل من يرى ، فهي لا تخفى على أحد (مَقامَ رَبِّهِ) ذكر في سورة الرحمن [٤٦]
(وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوى) أي ردها عن شهواتها وأغراضها الفاسدة قال بعض الحكماء :
إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه. وقال سهل التستري : لا يسلم من الهوى إلا
الأنبياء وبعض الصديقين (أَيَّانَ مُرْساها) ذكر في الأعراف : ١٨٧ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها) أي من ذكر زمانها
فالمعنى لست في شيء من ذكر ذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسأل عن الساعة كثيرا فلما نزلت هذه الآية انتهى (إِلى رَبِّكَ
مُنْتَهاها) أي منتهى علمها لا يعلم متى تكون إلا هو وحده (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي : إنما بعثت لتنذر بها ، وليس عليك الإخبار بوقتها ،
وخص الإنذار بمن يخشاها ؛ لأنه هو الذي ينفعه الإنذار (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ
ضُحاها) أخبر أنهم إذا رأوا الساعة ظنوا أنهم لم يلبثوا في الدنيا
أو في القبور إلا عشية يوم أو ضحى يوم ، وأضاف الضحى كذلك إلى العشية لما بينهما
من الملابسة إذ هما في يوم واحد.
__________________
سورة عبس
مكية وآياتها ٤٢
نزلت بعد النجم
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سبب نزول صدر هذه
السورة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان حريصا على إسلام قريش ، وكان يدعو أشرافهم إلى الله
تعالى ليسلموا فيسلم بإسلامهم غيرهم ، فبينما هو مع رجل من عظمائهم قيل : هو
الوليد بن المغيرة وقيل : عتبة بن ربيعة وقيل : أمية بن خلف ، وقال ابن عباس :
كانوا جماعة إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى فقال : يا رسول الله علمني مما
علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم عنه بتشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلىاللهعليهوسلم قطع الأعمى كلامه ، فعبس وأعرض عنه. وذهب الرجل الذي كان
مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فنزلت الآية فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم بعد ذلك يقول : مرحبا بمن
عاتبني فيه ربي ، ويبسط له رداءه ، وقد استخلفه على المدينة مرتين (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي عبس في وجه الأعمى وأعرض عنه ، قال ابن عطية : في
مخاطبته بلفظ الغائب مبالغة في العتب ؛ لأن في ذلك بعض الإعراض ، وقال الزمخشري :
في الإخبار بالغيبة زيادة في الإنكار ، وقال غيرهما ، هو إكرام للنبي صلىاللهعليهوسلم وتنزيه له عن المخاطبة بالعتاب وهذا أحسن (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) في موضع مفعول من أجله ، وهو منصوب بتولى أو عبس. وذكر ابن
أم مكتوم بلفظ الأعمى ليدل أن عماه هو الذي أوجب احتقاره ، وفي هذا دليل على أن
ذكر هذه العاهات جائز إذا كان لمنفعة ، أو يشهد صاحبها ومنه قول المحدثين : سليمان
الأعمش ، وعبد الرحمن الأعرج وغير ذلك (وَما يُدْرِيكَ) أي أيّ شيء يطلعك على حال هذا الأعمى (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يتطهر وينتفع في دينه بما يسمع منك .
(أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تتعرّض للغنى رجاء أن يسلم (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي لا حرج عليك أن لا يتزكى هذا الغني (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) إشارة إلى عبد الله بن أم مكتوم ، ومعنى يسعى يسرع في مشيه
من حرصه في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) الله أو يخاف
__________________
الكفار وإذايتهم
له على اتباعك ، وقيل : جاء وليس معه من يقوده ، فكان يخشى أن يقع وهذا ضعيف (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تشتغل عنه بغيره من قولك : لهيت عن الشيء إذا تركته ،
وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تأدّب بما أدبه الله في هذه السورة فلم يعرض بعدها عن فقير
ولا تعرّض لغني ، وكذلك اتبعه فضلاء العلماء ، فكان الفقراء في مجلس سفيان الثوري
كالأمراء ، وكان الأغنياء يتمنون أن يكونوا فقراء.
(كَلَّا) ردع عن معاودة ما وقع العتاب فيه (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) فيه وجهان ، أحدهما : أن هذا الكلام المتقدّم تذكرة أو
موعظة للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس ، فلا ينبغي أن يؤثر
فيه أحد على أحد ، وهذا أرجح لأنه يناسبه : فمن شاء ذكره ، وما بعده ، وأنث الضمير
في قوله : إنها تذكرة على معنى القصة أو الموعظة أو السورة أو القراءة ، وذكّرها
في قوله : فمن شاء ذكره على معنى الوعظ أو الذكرى والقرآن (فِي صُحُفٍ) صفة لتذكرة أي ثابتة في صحف ، وهي الصحف المنسوخة من اللوح
المحفوظ وقيل : هي مصاحف المسلمين (مَرْفُوعَةٍ) إن كانت الصحف المصاحف فمعناه مرفوعة المقدار ، وإن كانت
صحف الملائكة فمعناه كذلك ، أو مرفوعة في السماء ومطهرة أي منزهة عن أيدي الشياطين
(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) هي الملائكة ، والسفرة جمع سافر وهو الكاتب ؛ لأنهم يكتبون
القرآن ، وقيل : لأنهم سفراء بين الله وبين عبيده ، وقيل : يعني القرّاء من الناس.
والأول أرجح. وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة أي أنه يعمل مثل عملهم في كتابة القرآن وتلاوته ، أو له من
الأجر على القرآن مثل أجورهم.
(قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء عليه على ما جرت به عادة العرب من الدعاء بهذا اللفظ
، ومعناه تقبيح حاله ، وأنه ممن يستحق أن يقال له ذلك ، وقيل : معناه لعن وهذا
بعيد (ما أَكْفَرَهُ) تعجيب من شدّة كفره ، مع أنه كان يجب عليه خلاف ذلك (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) توقيف [سؤال] وتقرير ثم أجاب عنه بقوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) يعني المني ومقصد الكلام تحقير الإنسان ومعناه أنه يجب
عليه أن يعظم الرب الذي خلقه (فَقَدَّرَهُ) أي هيأه لما يصلح له ومنه : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢] ، وقيل : معناه جعله على مقدار معلوم في
إعطائه وأجله ورزقه وغير ذلك (ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ) نصب السبيل بفعل مضمر فسره يسره ، وفي معناه ثلاثة أقوال
أحدها : يسر سبيل خروجه من بطن أمه والآخر أنه سبيل الخير والشر لقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ،
الثالث سبيل النظر السديد المؤدي إلى الإيمان ، والأول أرجح لعطفه على قوله : من
نطفة خلقه فقدره
__________________
وهو قول ابن عباس (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعله ذا قبر يقال قبرت الميت إذا دفنته ، وأقبرته إذا
أمرت أن يدفن (ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ) أي بعثه من قبره يقال : نشر الميت إذا قام ، وأنشره الله
والإشارة إذا شاء ليوم القيامة ، أي الوقت الذي يقدر أن ينشره فيه.
(كَلَّا) ردع للإنسان عما هو فيه (لَمَّا يَقْضِ ما
أَمَرَهُ) أي لم يقض الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله ، قال
بعضهم : لا يقضي أحد أبدا جميع ما افترض الله عليه إذ لا بدّ للعبد من تفريط (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أمر بالاعتبار في الطعام كيف خلقه الله بقدرته ويسره
برحمته ، فيجب على العبد طاعته وشكره ويقبح معصيته والكفر به ، وقيل : فلينظر إلى
طعامه إذا صار رجيعا ، فينظر حقارة الدنيا وخساسة نفسه ، والأول أشهر ، وأظهر في
معنى الآية على أن القول الثاني صحيح وانظر كيف فسره بقوله (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) وما بعده ليعدّد النعم ويظهر القدرة ، وقرئ إنا صببنا
الماء بفتح الهمزة على البدل من الطعام (ثُمَّ شَقَقْنَا
الْأَرْضَ) يعني يخرج البنات منها (حَبًّا) يعني القمح والشعير وسائر الحبوب (وَقَضْباً) قيل : هي الفصفصة ، وقيل : هي علف البهائم واختار ابن عطية
أنها البقول وشبهها مما يؤكل رطبا (غُلْباً) أي غليظة ناعمة (وَأَبًّا) الأبّ المرعى عند ابن عباس والجمهور ، وقيل : التبن وقد
توقف في تفسيره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
(الصَّاخَّةُ) القيامة وهي مشتقة من قولك : صخ الأذن إذا أصمها بشدة
صياحه ، فكأنه إشارة إلى النفخة في الصور ، أو إلى شدة الأمر حتى يصخ من يسمعه
لصعوبته وقيل : هي من قولك : أصاخ للحديث إذا استمعه ، والأول هو الموافق للاشتقاق
(يَفِرُّ الْمَرْءُ
مِنْ أَخِيهِ) الآية ذكر فرار الإنسان من أحبابه ، ورتبهم على ترتيبهم في
الحنو والشفقة فبدأ بالأقل وختم بالأكثر ، لأن الإنسان أشد شفقة على بنيه من كل من
تقدم ذكره ؛ وإنما يفر منهم لاشتغاله بنفسه ؛ وقيل : إن فراره منهم لئلا يطالبوه
بالتبعات والأول أرجح وأظهر ، لقوله (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي هو مشغول بشأنه من الحساب والثواب والعقاب ، حتى لا
يسعه ذكر غيره ، وانظر قول الأنبياء عليهمالسلام ، يومئذ نفسي نفسي (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ) أي مضيئة من السرور ، وهو من قولك : أسفر الصبح إذا أضاء (عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي غبار ، والقترة أيضا الغبار. قال ابن عطية : الغبرة من
العبوس والكرب ، كما يقتر وجه المهموم والمريض ، والقترة هي غبار الأرض ، وقال
الزمخشري : الغبرة : غبار يعلوها ، والقترة سواد فيعظم قبحها باجتماع الغبار
والسواد.
__________________
سورة التكوير
مكية وآياتها ٢٩
نزلت بعد المسد
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
ذكر الله في هذه
السورة أهوال القيامة ، وما يعتري الموجودات حينئذ من التغيير (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال ابن عباس : ذهب ضوءها وأظلمت وقيل : رمى بها وقيل :
اضمحلت وأصله من تكوير العمامة لأنها إذا لفت زال انبساطها وصغر جرمها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تساقطت من مواضعها ، وقيل : تغيرت والأول أرجح لأنه
موافق لقوله (وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ) وروي أن الشمس والنجوم تطرح في جهنم ليراها من عبدها ، كما
قال (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي حملت وبعد ذلك تفتتت فتصير هباء ثم تتلاشى (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) العشار جمع عشراء وهي الناقة الحامل التي مر لحملها عشرة
أشهر ، وهي أنفس ما عند العرب وأعزها فلا تعطل إلا من شدة الهول ، وتعطيلها هو
تركها سائبة أي ترك حلبها (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) أي جمعت وفي صفة حشرها ثلاثة أقوال : أحدها أنها تحشر أي
تبعث يوم القيامة ، ليقتص لبعضها من بعض ثم تكون ترابا. والآخر أنها تحشر بموتها
دفعة واحدة عند هول القيامة قاله ابن عباس وقال : إنها لا تبعث وأنه لا يحضر
القيامة إلا الإنس والجن والثالث أنها تجمع في أول أهوال القيامة وتفر في الأرض فذلك حشرها.
(وَإِذَا الْبِحارُ
سُجِّرَتْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود
بحرا واحدا والآخر ملئت نيرانا لتعذيب أهل النار والثالث فرغت من مائها ويبست
وأصله من سجرت التنور إذا ملأتها فالقول الأول والثاني أليق بالأصل. والأول
والثالث موافق لقوله فجرت (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن التزويج بمعنى
__________________
التنويع لأن
الأزواج هي الأنواع ، فالمعنى جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن والثاني
زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور العين والثالث زوجت الأرواح والأجساد أي ردت
إليها عند البعث والأول هو الأرجح ، لأنه روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم وعن عمر بن الخطاب وابن عباس (وَإِذَا
الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموؤدة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حية من كراهته
لها ، ومن غيرته عليها فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلت على وجه التوبيخ لقاتلها ،
وقرأ ابن عباس (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ
سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بضم القاف وسكون اللام وضم التاء واستدل ابن عباس بهذه
الآية على أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله ينتصر لهم ممن ظلمهم (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل أحد كتابه ، وقبل : هي الصحف
التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء (وَإِذَا السَّماءُ
كُشِطَتْ) الكشط هو التقشير كما يكشط جلدة الشاة حين تسلخ ، وكشط
السماء هو طيها كطي السجل قاله ابن عطية وقيل : معناه كشفت وهذا أليق بالكشط (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي أوقدت وأحميت.
(وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ) أي قربت (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) هذا جواب إذا المكررة في المواضع قبل هذا ، ومعناه علمت كل
نفس ما أحضرت من عمل ، فلفظ النفس مفرد يراد به الجنس والعموم وقال ابن عطية :
إنما أفردها ليبين حقارتها وذلتها وقال الزمخشري : هذا من عكس كلامهم الذي يقصد به
الإفراط فيما يعكس عنه (رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر : ٢]
ومعناه التكثير ، وكذلك هنا معناه أعم الجموع (ما أَحْضَرَتْ) عبارة عن الحسنات والسيئات (فَلا أُقْسِمُ) ذكرت نظائره (بِالْخُنَّسِ
الْجَوارِ الْكُنَّسِ) يعني الدراري السبعة وهي الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ
والمشتري والزهرة وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر ، فيكون النجم في
البرج ثم يكرّ راجعا وهي جواري في الفلك ، وهي تنكنس في أبراجها أي تستتر وهو مشتق
من قولك : كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو موضعه وقيل : يعني الدراري الخمسة لأنها
تستتر بضوء الشمس وقيل : يعني النجوم كلها ، لأنها تخنس في جريها وتنكنس بالنهار
أي تستر ، وتختفي بضوء الشمس. وقيل : يعني بقر الوحش ، فالخنس على هذا من خنس
الأنف والكنس من سكناها في كناسها (وَاللَّيْلِ إِذا
عَسْعَسَ) يقال عسعس إذا كان غير مستحكم الظلام فقيل : ذلك في أوله
وقيل : في آخره وهذا أرجح ، لأن آخر الليل أفضل ولأنه أعقبه بقوله (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي استطار واتسع
__________________
ضوؤه (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل : محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم قال السهيلي : لا يجوز أن يقال إنه محمد عليهالسلام ؛ لأن الآية نزلت في الرد على الذين قالوا إن محمدا قال
القرآن فكيف يخبر الله أنه قوله ، وإنما أراد جبريل. وأضاف القرآن إليه لأنه جاء
به ، وهو في الحقيقة قول الله تعالى وهذا الذي قال السهيلي لا يلزم ، فإنه قد يضاف
إلى محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأنه تلقاه عن جبريل عليهالسلام ، وجاء به إلى الناس ، ومع ذلك فالأظهر أنه جبريل وصفه
بقوله : ذي قوة وقد وصف جبريل بهذا لقوله شديد القوى وذو مرة (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) يتعلق بذي قوة ، وقيل : بمكين ، وهذا أظهر والمكين الذي له
مكانة أي جاه وتقريب (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) هذا الظرف إشارة إلى الظرف المذكور قبله. وهو عند ذي العرش
أي مطاع في ملائكة ذي العرش (وَما صاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ) هو محمد صلىاللهعليهوسلم باتفاق (وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ضمير الفاعل لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وضمير المفعول لجبريل عليهالسلام ، وهذه الرؤية له بغار حراء على كرسي بين السماء والأرض.
وقيل : الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء ، ووصف هذا الأفق بالمبين
لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، وأيضا فكل أفق فهو مبين (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) الضمير للنبي صلىاللهعليهوسلم. ومن قرأ بالضاد فمعناه بخيل أي لا يبخل بأداء ما ألقى
إليه من الغيب ، وهو الوحي ، ومن قرأ بالظاء فمعناه متهم أي لا يتهم على الوحي ، بل هو أمين عليه. ورجح
بعضهم هذه القراءة بأن الكفار لم ينسبوا محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى البخل بالوحي بل اتهموه فنفى عنه ذلك (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) الضمير للقرآن (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) خطاب لكفار قريش أي ليس لكم زوال عن هذه الحقائق. وقد تقدم
تفسير بقية السورة في نظائره فيما تقدم.
__________________
سورة الانفطار
مكية وآياتها ١٩
نزلت بعد النازعات
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ) أي انشقت (وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ) أي سقطت من مواضعها (وَإِذَا الْبِحارُ
فُجِّرَتْ) أي فرغت وقيل : فجر بعضها إلى بعض فاختلط (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي نبشت على الموتى الذين فيها ، وقال الزمخشري : أصله من
البعث والبحث فضمت إليها الراء والمعنى بحثت وأخرج موتاها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
وَأَخَّرَتْ) هذا هو الجواب ومعناه : علمت كل نفس جميع أعمالها ، وقيل
ما قدمت في حياتها وما أخرت مما تركته بعد موتها من سنّتها أو وصيّة أوصت بها ،
وأفردت النفس والمراد به العموم حسبما ذكرنا في التكوير.
(يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ) خطاب لجنس بني آدم (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ) هذا توبيخ وعتاب معناه : أي شيء غرّك بربك حتى كفرت به أو
عصيته ، أو غفلت عنه فدخل في العتاب الكفار وعصاة المؤمنين ، ومن يغفل عن الله في
بعض الأحيان من الصالحين. وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قرأ ما غرّك بربك الكريم فقال : غرّه جهله وقال عمر : غرّه
جهله وحمقه. وقرأ إنه كان ظلوما جهولا ، وقيل : غرّه الشيطان المسلط عليه. وقيل : غرّه
ستر الله عليه وقيل : غرّه طمعه في عفو الله عنه. ولا تعارض بين هذه الأقوال لأن
كل واحد منهما مما يغرّ الإنسان ، إلا أن بعضها يغرّ قوما وبعضها يغر قوما آخرين
فإن قيل : ما مناسبة وصفه بالكريم هنا للتوبيخ على الغرور؟ فالجواب أن الكريم
ينبغي أن يعبد ويطاع شكرا لإحسانه ومقابلة لكرمه ، ومن لم يفعل ذلك فقد كفر النعمة
وأضاع الشكر الواجب (فَعَدَلَكَ) بالتشديد والتخفيف أي عدل أعضاءك وجعلها متوازية فلم يجعل
إحدى اليدين أطول من الأخرى ، ولا إحدى العينين أكبر من الأخرى ولا إحداهما كحلاء
__________________
والأخرى زرقاء ولا
بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود وشبه ذلك من الموازنة (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) المجرور يتعلق بركبك وما زائدة ، والمعنى ركبك في أي صورة
شاء من الحسن والقبح ، والطول والقصر ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من اختلاف
الصور ، ويحتمل أن يتعلق المجرور بمحذوف تقديره : ركبك حاصلا في أي صورة وقيل :
يتعلق بعدلك على أن يكون بمعنى صرفك إلى أي صورة شاء هذا بعيد ، ولا يمكن إلا مع
قراءة عدلك بالتخفيف.
(كَلَّا) ردع عن الغرور المذكور قبل ، والتكذيب المذكور بعد (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) هذا خطاب للكفار والدين هنا يحتمل أن يكون بمعنى الشريعة
أو الحساب أو الجزاء (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ) يعني الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) يعلمون الأعمال لمشاهدتهم لها ، وأما ما لا يرى ولا يسمع
من الخواطر والنيات والذكر بالقلب فقيل : إن الله ينفرد بعلم ذلك ، وقيل إن الملك
يجد لها ريحا يدركها به (إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ) في هذه الآية وفيما بعدها من أدوات البيان المطابقة
والترصيع (وَما هُمْ عَنْها
بِغائِبِينَ) فيه قولان : أحدهما أن معناه لا يخرجون منها إذا دخلوها
والآخر لا يغيبون عنها في البرزخ قبل دخولها لأنهم يعرضون عليها غدوا وعشيا (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تعظيم له وتهويل ، وكرّره للتأكيد والمعنى أنه من شدته
بحيث لا يدري أحد مقدار هوله وعظمته (يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يقدر أحد على منفعة أحد وقرأ [ابن كثير وأبو عمرو]
يوم بالرفع على البدل من يوم الدين ، أو على إضمار مبتدأ ، أو بالنصب على الظرفية
بإضمار فعل تقديره فعل يجازون يوم الدين أو النصب على المفعولية بإضمار فعل تقديره
اذكر ، ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في موضع رفع.
سورة المطففين
مكية وآياتها ٣٦
نزلت بعد العنكبوت وهي آخر سورة نزلت بمكة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف في اللغة هو البخس والنقص وفسره بذلك الزمخشري
واختاره ابن عطية وقيل : هو تجاوز الحد في زيادة أو نقصان واختاره ابن الفرس وهو
الأظهر لأن المراد به هنا بخس حقوق الناس في المكيال والميزان ، بأن يزيد الإنسان
على حقه أو ينقص من حق غيره ، وسبب نزول السورة أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو
جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطى بالأنقص ، فالسورة على هذا مدنية وقيل مكية
لذكر أساطير الأولين وقيل : نزل بعضها بمكة. ونزل أمر التطفيف بالمدينة ؛ إذ كانوا
أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله بهذه السورة (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى
النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) معنى اكتالوا على الناس قبضوا منهم بالكيل فعلى بمعنى من
وإنما أبدلت منها لما تضمن الكلام من معنى التحامل عليهم ، ويجوز أن يتعلق على
الناس بيستوفون وقدم المفعول لإفادة التخصيص (وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) معنى يخسرون ينقصون حقوق الناس وهو من الخسارة ، يقال :
خسر الرجل وأخسره غيره إذا جعله يخسر ، وكالوهم معناه : كالوا لهم أو وزنوهم معناه
وزنوا لهم ، ثم حذف حرف الجرّ فانتصب المفعول لأن هذين الفعلين يتعدى كل واحد
منهما تارة بنفسه وتارة بحرف الجرّ يقال : كلتك وكلت لك ووزنتك ووزنت لك بمعنى
واحد. وحذف المفعول الثاني ، وهو المكيل والموزون ، والواو التي هي ضمير الفاعل
للمطففين والهاء الذي هي ضمير المفعول للناس. فالمعنى إذا كالوا أو وزنوا لهم
طعاما أو غيره مما يكال أو يوزن يخسرونهم حقوقهم ، وقيل : إن هم في كالوهم أو
وزنوهم تأكيد للضمير الفاعل وروي عن حمزة أنه كان يقف على كالوا ووزنوا ثم يبتدئ
هم ليبين هذا المعنى وهو ضعيف من وجهين ، أحدهما : أنه لم يثبت في المصحف ألف بعد
الواو في كالوا ووزنوا فدلّ ذلك على أن هم ضمير المفعول. والآخر أن المعنى على هذا
أن المطففين إذا تولوا الكيل أو الوزن نقصوا ، وليس ذلك بمقصود لأن الكلام واقع في
الفعل لا في المباشر ، ألا ترى أنّ اكتالوا على الناس معناه : قبضوا منهم
وكالوهم أو وزنوهم
معناه : دفعوا لهم. فقابل القبض بالدفع. وأما على هذا الوجه الضعيف فهو خروج عن
المقصود ، قال ابن عطية : ظاهر الآية أن الكيل والوزن على البائعين وليس ذلك
بالجلي. قال : صدر الآية في المشترين ، فهم الذين يستوفون أو يشاحّون ويطلبون
الزيادة. وقوله : وإذا كالوهم أو وزنوهم في البائعين فهم الذين يخسرون المشتري.
(أَلا يَظُنُّ
أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة ، وهذا تهديد للمطففين وإنكار لفعلهم ،
وكان عبد الله بن عمر إذا مر بالبائع يقول له : اتق الله وأوف الكيل ، فإن
المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الظرف منصوب بقوله : مبعوثون وقيل : بفعل مضمر أو بدل من
يوم عظيم ، وقيام الناس يوم القيامة على حسب اختلافهم ، فمنهم من يقوم خمسين ألف
سنة وأقل من ذلك حتى أن المؤمن يقوم على قدر الصلاة مكتوبة (كَلَّا) ردع عن التطفيف أو افتتاح كلام (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) كتاب الفجار هو ما يكتب من أعمالهم ، والفجار هنا يحتمل أن
يريد به الكفار أو المطففين وإن كانوا مسلمين ، والأول أظهر لقوله بعد هذا : ويل
يومئذ للمكذبين. وسجين اسم علم منقول من صفة على وزن فعيل للمبالغة ، وقد عظم أمره
بقوله : (وَما أَدْراكَ ما
سِجِّينٌ) ، ثم فسره بأنه (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسطور بين الكتابين وهو كتاب جامع يكتب فيه أعمال
الشياطين والكفار ، والفجار وهو مشتق من السجن بمعنى الحبس ، لأنه سبب الحبس
والتضييق ، في جهنم ولأنه في مكان الهوان والعذاب كالسجن ، فقد روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه في الأرض السفلى ، وروي عنه أنه في بئر هناك ، وحكى
كعب عن التوراة أنه في شجرة سوداء هنالك ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى
الآية أن عدد الفجار في سجين أي كتبوا هنالك في الأزل (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قد ذكر (بَلْ رانَ عَلى
قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي غطى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب ، فطمس بصائرهم
فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي وفي الحديث : أن العبد إذا أذنب ذنبا صارت نكتة سوداء في قلبه فإذا
زاد ذنب آخر زاد السواد فلا يزال كذلك حتى يتغطى وهو الرين (لَمَحْجُوبُونَ) حجب
__________________
الكفار عن الله ،
على أن المؤمنين لا يحجبون وقد استدل بها مالك والشافعي على صحة رؤية المؤمن لله
في الآخرة ، وتأولها المعتزلة أن معناها محجوبون عن رحمته (إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) عليّون اسم علم للكتاب الذي تكتب فيه الحسنات ، وهذا جمع
منقول من صفة علي ، على وزن فعيل للمبالغة وقد عظمه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) ثم فسره بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) وهو مشتق من العلوّ لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة ،
أو لأنه مرفوع في مكان علي ، فقد روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه تحت العرش ، وقال ابن عباس : هو الجنة وارتفع كتاب
مرقوم في الموضعين على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره هو كتاب ، وقال ابن عطية : كتاب
مرقوم خبر إن والظرف ملغى وهذا تكلف يفسد به المعنى ، وقد روى في الأثر ما روي في
الآية وهو أن الملائكة تصعد بصحيفة فيها عمل العبد فإن رضيه الله قال اجعلوه في
عليين ، وإن لم يرضه قال اجعلوه في سجين (يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ) يعني الملائكة المقربين (الْأَرائِكِ) قد ذكر (يَنْظُرُونَ) روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال ينظرون إلى أعدائهم في النار وقيل : ينظرون إلى
الجنة وما أعطاهم الله فيها (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي بهجته ورونقه ، كما يرى في وجوه أهل الرفاهية العافية
والخطاب في تعرف للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو لكل مخاطب من غير تعيين.
(يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) الرحيق الخمر الصافية ، والمختوم فسره الله بأن ختامه مسك
، وقرئ ختامه بألف بعد التاء ، وخاتمه بألف بعد الخاء وبفتح التاء وكسرها وفي
معناه ثلاثة أقوال : أحدها أنه من الختم على الشيء ، بمعنى جعل الطابع عليه
فالمعنى أنه ختم على فم الإناء الذي هو فيه بالمسك ، كما يختم على أفواه آنية
الدنيا بالطين إذا قصد حفظها ، وصيانتها الثاني أنه من ختم الشيء أي تمامه فمعناه
: خاتم شربه مسك أي يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك ولذته الثالث أن معناه
مزاجه مسك أي مزج الشراب بالمسك ، وهذا خارج عن اشتقاق اللفظ (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ
الْمُتَنافِسُونَ) التنافس في الشيء هو الرغبة فيه ، والمغالاة في طلبه والتزاحم
عليه (وَمِزاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ) تسنيم اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفا ،
ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار ، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة
الأبرار ، فالمقربون هم السابقون والأبرار هم أصحاب اليمين (عَيْناً) منصوب على المدح بفعل مضمر ، أو على الحال من تسنيم (يَشْرَبُ بِهَا) بمعنى يشربها فالباء زائدة ويحتمل أن يكون بمعنى يشرب منها
أو كقولك شربت الماء بالعسل.
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) نزلت هذه الآية في صناديد قريش ، كأبي جهل وغيره مر بهم
عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من المؤمنين ، فضحكوا منهم واستخفوا بهم (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي يغمز بعضهم إلى بعض ويشير بعينيه ، والضمير في مروا
يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للكفار ، والضمير في يتغامزون للكفار لا غير فاكهين من الفكاهة وهي اللهو ، أي يتفكرون بذكر المؤمنين ،
والاستخفاف بهم قاله الزمخشري. ويحتمل أن يريد يتفكهون بنعيم الدنيا (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ
لَضالُّونَ) أي إذا رأى الكفار المؤمنين نسبوهم إلى الضلال ، وقيل :
إذا رأى المؤمنون الكفار نسبوهم إلى الضلال والأول أظهر وأشهر (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي ما أرسل الكفار حافظين على المؤمنين ، يحفظون أعمالهم
ويشهدون برشدهم أو ضلالهم ، وكأنه قال كلامهم بالمؤمنين فضول منهم (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ
الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) يعني باليوم يوم القيامة إذ قد تقدم ذكره ، فيضحك المؤمنون
فيه من الكفار ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا (هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) معنى ثوب جوزي يقال : ثوبه وأثابه إذا جازاه. وهذه الجملة
يحتمل أن تكون متصلة بما قبلها في موضع مفعول ينظرون ، فتوصل مع ما قبلها أو تكون
توقيفا [سؤالا] فيوقف قبلها ويكون معمول ينظرون محذوفا حسبما ذكرنا في ينظرون الذي
قبل هذا وهذا أرجح لاتفاق الموضعين.
__________________
سورة الانشقاق
مكية وآياتها ٢٥
نزلت بعد الانفطار
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ) اختلف في هذا الانشقاق هل هو تشققها بالغمام ؛ أو انفتاحها
أبوابا ، وجواب إذا محذوف ليكون أبلغ في التهويل ، إذ يقدّر السامع أقصى ما يتصوره
، وحذف للعلم به ، اكتفاء بما في سورة التكوير والانفطار من الجواب. وقيل : الجواب
ما دل عليه فملاقيه : أي إذا السماء انشقت لقي الإنسان ربه ، وقيل : الجواب أذنت
على زيادة الواو وهذا ضعيف (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) معنى أذنت في اللغة : استمعت ، وهو عبارة عن طاعتها لربها
، وأنها انقادت لله حين أراد انشقاقها ، وكذلك طاعة الأرض لما أراد مدّها وإلقاء
ما فيها (وَحُقَّتْ) أي حق لها أن تسمع وتطيع لربها ، أو حق لها أن تنشق من
أهوال القيامة ، وهذه الكلمة من قولهم : هو حقيق بكذا ، أو محقوق به. أي : عليه أن
يفعله فالمعنى : يحق على السماء أن تسمع وتطيع لربها ، أو يحق عليها أن تتشقق ،
ويحتمل أن يكون أصله حققت بفتح الحاء وضم القاف على معنى التعجب ، ثم أدغمت القاف
في القاف التي بعدها ونقلت حركتها إلى الحاء (وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ) أي زال ما عليها من الجبال حتى صارت مستوية (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) أي ألقت ما في جوفها من الموتى للحشر ، وقيل : ألقت ما
فيها من الكنوز. وهذا ضعيف ؛ لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال قبل القيامة ، والمقصود
ذكر يوم القيامة ، وتخلت أي بقيت خالية مما كان فيها.
(يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ) خطاب للجنس (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى
رَبِّكَ) الكدح في اللغة هو : الجد والاجتهاد والسرعة ، فالمعنى أنك
في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك ، لأن الزمان يطير ، وأنت في كل لحظة تقطع حظا
من عمرك القصير ، فكأنك سائر مسرع إلى الموت ، ثم تلاقي ربك ، وقيل : المعنى إنك
ذو جد فيما تعمل من خير أو شر ، ثم تلقى ربك فيجازيك به والأول أظهر ، لأن كادح
تعدى بإلى لما تضمن معنى السير ، ولو كان بمعنى العمل لقال : لربك (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ) ذكر في الحاقة (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً
يَسِيراً)
يحتمل أن يكون
اليسير بمعنى قليل ، أو بمعنى هيّن سهل ، وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : من نوقش الحساب عذّب. فقالت عائشة ألم يقل الله فسوف
يحاسب حسابا يسيرا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنما ذلك العرض وأما من نوقش الحساب فيهلك . وفي الحديث أيضا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إن الله يدني العبد يوم القيامة حتى يضع كنفه عليه فيقول :
فعلت كذا وكذا ويعدد عليه ذنوبه ثم يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك
اليوم ، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : «من حاسب نفسه في
الدنيا هون الله عليه حسابه يوم القيامة» (وَيَنْقَلِبُ إِلى
أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي يرجع إلى أهله في الجنة مسرورا بما أعطاه الله ، والأهل
: زوجاته في الجنة من نساء الدنيا أو من الحور العين ، ويحتمل أن يريد قرابته من
المؤمنين ، وبذلك فسره الزمخشري.
(وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) يعني : الكافر. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة
بن عبد الأسد ، وكان من فضلاء المؤمنين وفي أخيه أسود ، وكان من عتاة الكافرين ،
ولفظها أعم من ذلك فإن قيل : كيف قال في الكافر هنا أن يؤتى كتابه وراء ظهره وقال
في الحاقة بشماله؟ فالجواب من وجهين أحدهما : أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه ،
وتجعل شماله وراء ظهره فيأخذ بها كتابه ، وقيل : تدخل يده اليسرى في صدره وتخرج من
ظهره فيأخذ بها كتابه (يَدْعُوا ثُبُوراً) أي يصيح بالويل والثبور (إِنَّهُ كانَ فِي
أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي كان في الدنيا مسرورا مع أهله ، متنعما غافلا عن الآخرة
، وهذا في مقابلة ما حكي عن المؤمن أنه ينقلب إلى أهله مسرورا في الجنة ، وهو ضد
ما حكي عن المؤمنين في الجنة من قولهم : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لا يرجع إلى الله ، والمعنى أنه يكذب بالبعث (بَلى) أي يحور ويبعث (فَلا أُقْسِمُ) ذكر في نظائره (بِالشَّفَقِ) هي الحمرة التي تبقى بعد غروب الشمس ، وقال أبو حنيفة : هو
البياض ، وقيل : هو النهار كله. وهذا ضعيف والأول هو المعروف عند الفقهاء وعند أهل
اللغة (وَاللَّيْلِ وَما
وَسَقَ) أي جمع وضم ، ومنه الوسق ، وذلك أن الليل يضم الأشياء ويسترها
__________________
بظلامه (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي إذا كمل ليلة أربعة عشر ، ووزن اتسق افتعل وهو مشتق من
الوسق ، فكأنه امتلأ نورا. وفي الآية من أدوات البيان لزوم ما لا يلزم ، لالتزام
السين قبل القاف في وسق واتسق.
(لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الطبق في اللغة له معنيان : أحدهما ما طابق غيره. يقال :
هذا طبق لهذا إذا
طابقه والآخر جمع طبقة فعلى الأول يكون المعنى لتركبن حالا بعد حال كل واحدة منها
مطابقة للأخرى ، وعلى الثاني يكون المعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات بعضها
فوق بعض ، ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال ، وفي قراءة تركبن فأما من قرأ بضم الباء
فهو خطاب لجنس الإنسان ، وفي تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال أحدها أنها
شدائد الموت ثم البعث ثم الحساب ثم الجزاء والآخر أنها كون الإنسان نطفة ثم علقة
إلى أن يخرج إلى الدنيا ثم إلى أن يهرم ثم يموت والثالث لتركبن سنن من كان قبلكم.
وأما من قرأ تركبنّ بفتح الباء فهو خطاب للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا ،
وقيل : هي خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم اختلف القائلون بهذا على ثلاثة أقوال أحدها : لتركبن
مكابدة الكفار حالا بعد حال ، والآخر : لتركبن فتح البلاد شيئا بعد شيء والثالث
لتركبن السموات في الإسراء [سماء] بعد سماء وقوله : عن طبق في موضع الصفة لطبقا أو
في موضع حال من الضمير في تركبن قاله الزمخشري.
(فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) الضمير لكفار قريش ، والمعنى أي شيء يمنعهم من الإيمان (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا
يَسْجُدُونَ) هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سجد فيها وليست عند مالك من عزائم السجدات (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني المذكورين ووضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالكفر (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب أو بما يجمعون
في صحائفهم ، يقال أوعيت المال وغيره إذا جمعته (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وضع البشارة في موضع النذارة تهكما بهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني من قضى له بالإيمان من هؤلاء الكفار ، فالاستثناء على
هذا متصل ، وإلى هذا أشار ابن عطية وقال الزمخشري هو منقطع (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قد ذكر.
__________________
سورة البروج
مكية وآياتها ٢٢
نزلت بعد الشمس
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ) البروج هي المنازل المعروفة وهي اثنا عشر ، تقطعها الشمس
في السنة ، وقيل : هي النجوم العظام ، لأنها تتبرج أي تظهر (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) هو يوم القيامة باتفاق ، وقد ذكر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) يحتمل الشاهد والمشهود أن يكون من الشهادة على الأمر ، أو
يكون من معنى الحضور ، وحذف المعمول وتقديره : مشهود عليه أو مشهود به أو مشهود
فيه.
وقد اضطرب الناس
في تفسير الشاهد والمشهود اضطرابا عظيما ، ويتلخص من أقوالهم في الشاهد ستة عشر
قولا يقابلها في المشهود اثنان وثلاثون قولا ، الأول : أن الشاهد هو الله تعالى لقوله وكفى بالله شهيدا ؛
والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أوجه ، أحدها أن يكون الخلق بمعنى أنه يشهد عليهم
والآخر أن تكون الأعمال بمعنى أنه يشهد بها والثالث أن يكون يوم القيامة ، بمعنى
أنه يشهد فيه أي يحضر للحساب والجزاء ، أو تقع فيه الشهادة على الناس ، القول الثاني : أن الشاهد محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [الحج : ٧٨]
والمشهود على هذا يحتمل أن يكون أمته ؛ لأنه يشهد عليهم أو أعمالهم ، لأنه يشهد
بها أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه ، أي يحضر أو تقع فيه الشهادة على الأمة ، القول الثالث : أن الشاهد أمة محمد صلىاللهعليهوسلم لقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣]
والمشهود على هذا سائر الأمم ؛ لأنهم يشهدون عليهم أو أعمالهم أو يوم القيامة ، القول الرابع أن الشاهد هو عيسى عليهالسلام والمشهود أمته لقوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة : ١١٧]
أو أعمالهم ، أو يوم القيامة. الخامس أن الشاهد جميع الأنبياء ، والمشهود أممهم لأن كل نبيّ
يشهد على أمته ، أو يشهد القول بأعمالهم أو يوم القيامة ؛ لأنه يشهد فيه ، القول السادس أن الشاهد الملائكة الحفظة والمشهود على هذا الناس ؛ لأن
الملائكة يشهدون عليهم أو الأعمال لأن الملائكة يشهدون بها أو يوم القيامة ، أو
صلاة الصبح لقوله : (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨]
القول
السابع أن الشاهد جميع
الناس ، لأنهم يشهدون يوم القيامة أي يحضرونها ، والمشهود يوم القيامة لقوله (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] والقول الثامن أن الشاهد الجوارح والمشهود عليه أصحابها ، لقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) [النور : ٢٤] أو
الأعمال ؛ لأن الجوارح تشهد بها يوم القيامة ؛ لأن الشهادة تقع فيه ، القول التاسع أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم لقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨]
والمشهود به الوحدانية ، القول
العاشر : الشاهد جميع
المخلوقات والمشهود به وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة وغير ذلك ، القول الحادي عشر أن الشاهد النجم لما ورد في الحديث : لا صلاة بعد العصر
حتى يطلع الشاهد وهو النجم والمشهود على هذا الليل والنهار ؛ لأن النجم يشهد بانقضاء
النهار ودخول الليل القول
الثاني عشر أن الشاهد
الحجر الأسود والمشهود الناس الذين يحجون. القول الثالث عشر روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وذلك أن يوم
الجمعة يشهد بالأعمال ويوم عرفة يشهده جمع عظيم من الناس ، القول
الرابع عشر أن الشاهد يوم
عرفة والمشهود يوم النحر قاله علي بن أبي طالب.
القول
الخامس عشر أن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. القول السادس
عشر أن الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة.
(قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ) الكلام هنا في ثلاثة فصول : الأول في جواب القسم وفيه
أربعة أقوال أحدها أنه قوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ) والثاني أنه (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وهذان القولان ضعيفان لبعد القسم من الجواب ، وثالثها أنه (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) تقديره : لقد قتل ورابعها أنه محذوف يدل عليه قتل أصحاب
الأخدود تقديره : لقد قتل هؤلاء الكفار كما قتل أصحاب الأخدود ، وذلك أن الكفار من
قريش كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ليرجعوا عن الإسلام ، فذكر الله قصة أصحاب
الأخدود وعيدا للكفار وتأنيسا للمسلمين المعذبين ، الفصل الثاني في تفسير لفظها ،
فأما قتل فاختلف هل هو دعاء أو خبر؟ واختلف هل هو بمعنى القتل حقيقة أو بمعنى
اللعن؟ وأما الأخدود فهو الشق في الأرض كالخندق وشبهه ، وأما أصحاب الأخدود فيحتمل
أن يريد بهم الكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود ، أو يريد المؤمنين
الذين حرقوا فيه ، فيكون القتل حقيقة خبر ، أو الأول أظهر. الفصل الثالث في قصة
أصحاب الأخدود وفيها أربعة أقوال : الأول ما ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حديث طويل معناه : أن ملكا كافرا أسلم أهل بلده ، فأمر
__________________
بالأخدود فخدّ في
أفواه السكك وأضرم فيها النيران فقال : من لم يرجع عن دينه فألقوه فيها ففعلوا ،
حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أماه
اصبري فإنك على الحق. الثاني أن ملكا زنى بأخته ثم أراد أن يحلل للناس نكاح
الأخوات فأطاعه قوم ومنهم أخذ المجوس ذلك ، وعصاه قوم فحفر لهم الأخدود فأحرقهم
فيه بالنار القول الثالث أن نبي أصحاب الأخدود كان حبشيا ، وأن الحبشة بقية أصحاب
الأخدود. القول الرابع أن أصحاب الأخدود ذو نواس المذكور في قصة عبد الله بن
التامر التي وقعت في السير «ويحتمل أن يكون ذو نواس الملك الذي ذكره النبي صلىاللهعليهوسلم فيتفق هذا القول مع الأول فإن ذا نواس حفر أخدودا فأوقد
فيه نيرانا وألقى فيها كل من وحد الله تعالى واتبع العبد الصالح عبد الله بن
التامر.
(النَّارِ ذاتِ
الْوَقُودِ) النار بدل من الأخدود ، وهو بدل اشتمال ، والوقود ما توقد
به النار ، والقصد وصف النار بالشدة والعظم (إِذْ هُمْ عَلَيْها
قُعُودٌ) الضمير للكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود ،
وهم أصحاب الأخدود على الأظهر. والعامل في إذ قوله : قتل فروي أن النار أحرقت من
المؤمنين عشرين ألفا ، وقيل : سبعين ألفا فقتل على هذا بمعنى لعن أي لعنوا حين
قعدوا على النار لتحريق المؤمنين ، وروي أن الله بعث على المؤمنين ريحا فقبضت
أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكفار الذين كانوا عليها ، فقتل على هذا بمعنى القتل
الحقيقي أي قتلتهم النار ؛ وقيل : الضمير في إذ هم للمؤمنين ، والأول أشهر وأظهر
لقوله : (وَهُمْ عَلى ما
يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يحتمل أن يكون بمعنى الشهادة أي : يشهد بعضهم لبعض عند
الملك بأنه فعل ما أمره الملك من التحريق ، أو يشهدون بذلك على أنفسهم يوم القيامة
، أو يكون بمعنى الحضور أي كانوا حاضرين على ذلك الفعل (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ) أي ما أنكر الكفار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله ،
وهذا لا ينبغي أن ينكر. فإن قيل : لم قال أن يؤمنوا بلفظ المضارع ولم يقل آمنوا
بلفظ الماضي لأن القصة قد وقعت؟ فالجواب أن التعذيب إنما كان على دوامهم على
الإيمان ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوهم ، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل فكأنه قال
: إلا أن يدوموا على الإيمان.
(إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنة هنا بمعنى
الإحراق ، وإن كانت في كفار قريش فالفتنة بمعنى المحنة ، والتعذيب وهذا أظهر لقوله
: ثم لم يتوبوا لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا بل ماتوا على كفرهم. وأما قريش فمنهم
من أسلم وتاب ، وفي الآية دليل على أن الكافر إذا أسلم يغفر له ما فعل في
حال كفره لقوله صلىاللهعليهوسلم الإسلام يجبّ ما قبله (وَلَهُمْ عَذابُ
الْحَرِيقِ) يحتمل أن يكون في الآخرة ، فيكون تأكيدا لعذاب جهنم ، أو
نوعا من العذاب زيادة إلى عذاب جهنم. ويحتمل أن يريد في الدنيا ، وذلك على رواية
أن الكفار أصحاب الأخدود أحرقتهم النار (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ) البطش الأخذ بقوة وسرعة (إِنَّهُ هُوَ
يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي يبدئ الخلق بالنشأة الأولى ، ويعيدهم بالنشأة الآخرة
للبعث وقيل : يبدئ البطش ويعيده أي يبطش بهم في الدنيا والآخرة والأول أظهر وأرجح
لقوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٤] وقد
ذكرنا الودود في [مقدمة] اللغات (ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ) أضاف العرش إلى الله وخصه بالذكر لأن العرش أعظم المخلوقات
، والمجيد من المجد وهو الشرف ورفعة القدر ، وقرئ المجيد بالرفع صفة لذو العرش
وقرأ حمزة والكسائي بالخفض صفة للعرش (هَلْ أَتاكَ) توقيف [سؤال] يراد به التنبيه وتعظيم الأمر ، والمراد بذكر
الجنود تهديد الكفار وتأنيس النبي صلىاللهعليهوسلم (وَاللهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) تهديد لهم معناه لا يفوتونه بل يصيبهم عذابه إذا شاء (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) يعني اللوح المحفوظ الذي في السماء وقرئ محفوظ بالخفض صفة
للوح وقرأ نافع محفوظ بالرفع صفة للقرآن ، أي حفظه الله من التبديل والتغيير ، أو
حفظه المؤمنون في صدورهم.
__________________
سورة الطارق
مكية وآياتها ١٧
نزلت بعد البلد
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
(وَالسَّماءِ
وَالطَّارِقِ) هذه السماء التي أقسم الله بها هي المعروفة. وقيل : أراد
المطر لأن العرب قد تسميه سماء ، وهذا بعيد والطارق في اللغة ما يطرق أي يجيء ليلا
، وقد فسره الله هنا بأنه النجم الثاقب وهو يطلع ليلا ومعنى الثاقب : المضيء أو
المرتفع فقيل : أراد جنس النجوم وقيل : الثريا لأنه الذي تطلق عليه العرب النجم
وقيل : زحل (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) هذا جواب القسم ومعناه عند الجمهور : أن كل نفس من بني آدم
عليها حافظ يكتب أعمالها ، يعني : الملائكة الحفظة وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم في تفسير هذه الآية : أن لكل نفس حفظة من الله يذبون عنها
كما يذب عن العسل ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الآفات والشياطين» وإن صح هذا الحديث فهو المعوّل عليه. وقرئ لما عليها
بتخفيف الميم ، وعلى هذا تكون إن مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد وما زائدة وقرئ
لمّا بالتشديد وعلى هذا تكون إن نافية ولما بمعنى الإيجاب بعد النفي.
(فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) حذف ألف ما لأنها استفهامية وجوابها خلق من ماء دافق ،
وسمي المني ماء دافقا من الدفق ، بمعنى الدفع فقيل : معناه مدفوق وصاحبه هو الدافق
في الحقيقة قال سيبويه : هو على النسب أي ذو دفق ، وقال ابن عطية : يصح أن يكون
الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا ، ومقصود الآية إثبات الحشر ، فأمر الإنسان أن
ينظر أصل خلقته ليعلم أن الذي خلقه من ماء دافق قادر على أنه يعيده ، ووجه اتصال
هذا الكلام بما قبله أنه لما أخبر أن كل نفس عليها حافظ يحفظ أعمالها ، أعقبه
بالتنبيه على الحشر حيث تجازى كل نفس بأعمالها (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الضمير في يخرج للماء وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون
للإنسان ، وهذا بعيد جدا والترائب : عظام الصدر واحدها : تريبة وقيل : هي الأطراف
كاليدين والرجلين ، وقيل : هي عصارة القلب ، ومنها
__________________
يكون الولد ، وقيل
: هي الأضلاع التي أسفل الصلب ، والأول هو الصحيح المعروف في اللغة ، ولذلك قال
ابن عباس : هي موضع القلادة ما بين ثديي المرأة ، ويعني صلب الرجل وترائبه وصلب
المرأة وترائبها ، وقيل : أراد صلب الرجل وترائب المرأة (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) الضمير في إنه لله تعالى وفي رجعه للإنسان ، والمعنى : أن
الله قادر على رجع الإنسان حيا بعد موته ، والمراد إثبات البعث.
(يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) يعني : يوم القيامة ، والسرائر جمع سريرة وهي ما أسرّ
العبد في قلبه من العقائد والنيات ، وما أخفى من الأعمال وبلاؤها هو تعرّفها
والاطلاع عليها ، وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة
وهذه معظمها. فلذلك خصّها بالذكر ، والعامل في يوم قوله : رجعه أي يرجعه يوم تبلى
السرائر ، واعترض بالفصل بينهما. وأجيب بقوة المصدر في العمل ، وقيل : العامل قادر
واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم ، وهذا لا يلزم لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد
أخبر الله أن البعث إنما يقع في ذلك اليوم. وقال من احترز من الاعتراضين في
القولين المتقدمين : العامل فعل مضمر من المعنى تقديره : يرجعه يوم تبلى السرائر ،
وهذا كله على المعنى الصحيح في رجعه ، وأما على الأقوال الأخر فالعامل في يوم مضمر
تقديره : اذكر (فَما لَهُ مِنْ
قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) الضمير للإنسان ، ولما كان دفع المكاره في الدنيا إما بقوة
الإنسان أو بنصرة غيره له أخبره الله أنه يعدمها يوم القيامة (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) المراد بالرجع عند الجمهور المطر وسماه رجعا بالمصدر ،
لأنه يرجع كل عام أو لأنه يرجع إلى الأرض ، وقيل : الرجع السحاب الذي فيه المطر ،
وقيل : هو مصدر رجوع الشمس والكواكب من منزلة إلى منزلة (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) يعني ما تصدع عنه الأرض من النبات ، وقيل : يعني ما في
الأرض من الشقاق والخنادق وشبهها (إِنَّهُ لَقَوْلٌ
فَصْلٌ) الضمير للقرآن ، لأن سياق الكلام يقتضيه ، والفصل معناه
الذي فصل بين الحق والباطل كما قيل له : فرقان. والهزل : اللهو يعني أنه جدّ كله (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) الضمير لكفار قريش ، وكيدهم هو ما دبروه في شأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الإضرار به وإبطال أمره (وَأَكِيدُ كَيْداً) هذا تسمية للعقوبة باسم الذنب ، للمشاكلة بين الفعلين (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تستعجل عليهم بالعقوبة لهم أو بالدعاء عليهم ، وهذا
منسوخ بالسيف (أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً) أي إمهالا يسيرا قليلا يعني إلى قتلهم يوم بدر ، أو إلى
الدار الآخرة ، وجعله يسيرا ، لأن كل آت قريب ، ولفظ رويدا هذا صفة لمصدر محذوف ،
وقد تقع بمعنى الأمر بالتساهل كقولك : رويدا يا فلان ، وكرّر الأمر في قوله أمهلهم
وخالف بينه وبين لفظ مهل لزيادة التسكين والتصبير قاله الزمخشري.
سورة الأعلى
مكية وآياتها ١٩
نزلت بعد التكوير
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) التسبيح في اللغة التنزيه وذكر الاسم هنا يحتمل وجهين
أحدهما : أن يكون المراد المسمى ويكون الإسم صلة كالزائد ، ومعنى الكلام سبح اسم
ربك أي نزهه عما لا يليق به ، وقد يتخرج ذلك على قول من قال : إن الإسم هو المسمى
، والآخر أن يكون الإسم مقصودا بالذكر ، ويحتمل المعنى على هذا أربعة أوجه ، الأول
: تنزيه أسماء الله تعالى عن المعاني الباطلة كالتشبيه والتعطيل ، الثاني : تنزيه
أسماء الله عن أن يسمى بها صنم أو وثن : الثالث : تنزيه أسماء الله عن أن تدرك في
حال الغفلة دون خشوع. الرابع أن المراد قول سبحان الله ، ولما كان التسبيح باللسان
لا بدّ فيه من ذكر الإسم أوقع التسبيح على الإسم ، وهذا القول هو الصحيح ، ويؤيده
ما ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال سبحان ربي الأعلى وأنها لما
نزلت قال : اجعلوها في سجودكم. فدل ذلك على أن المراد هو التسبيح باللسان مع
موافقة القلب ، ولا بدّ في التسبيح باللسان من ذكر اسم الله تعالى ؛ فلذلك قال :
سبح اسم ربك الأعلى مع أن التسبيح في الحقيقة إنما هو لله تعالى لا لاسمه ، وإنما
ذكر الإسم لأنه هو الذي يوصل به إلى التسبيح باللسان. وعلى هذا يكون موفقا في
المعنى لقوله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) [الواقعة : ٧٤]
لأن معناه نزّه الله بذكر اسمه ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس أن معنى سبح : صل
باسم ربك أي صل واذكر في الصلاة اسم ربك ، والأعلى يحتمل أن يكون صفة للرب أو
للاسم والأول أظهر.
(الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى) حذف مفعول خلق وسوّى لقصد الإجمال الذي يفيد العموم
والمراد خلق كل شيء فسوّاه ، أي أتقن خلقته وانظر ما ذكرنا في قوله : (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار : ٧] (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قدّر بالتشديد يحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، أو من
التقدير ، والموازنة بين الأشياء ، وقرأ الكسائي بالتخفيف فيحتمل أن يكون من
القدرة أو التقدير ، وحذف المفعول ليفيد العموم. فإن كان من التقدير فالمعنى :
قدّر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به ، وقيل : هدى الناس
للخير والشر والبهائم
للمراتع ، وهذه
الأقوال أمثلة والأول أعم وأرجح ، فإن هداية الإنسان وسائر الحيوانات إلى مصالحها
باب واسع فيه عجائب وغرائب ، وقال الفراء : المعنى هدى وأضلّ واكتفى بالواحدة
لدلالتها على الأخرى وهذا بعيد (وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) المرعى هو النبات الذي ترعاه البهائم ، والغثاء هو النبات
اليابس المحتطم ، وأحوى معناه أسود وهو صفة لغثاء. والمعنى أن الله أخرج المرعى
أخضر فجعله بعد خضرته غثاء أسود ، لأن الغثاء إذا قدم تعفن واسودّ ، وقيل : إن
أحوى حال من المرعى ، ومعناه : الأخضر الذي يضرب إلى السواد وتقديره : الذي أخرج
المرعى أحوى فجعله غثاء ، وفي هذا القول تكلف.
(سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى) هذا خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم وعده الله أن يقرئه القرآن فلا ينساه ، وفي ذلك معجزة له
عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان أميا لا يكتب ، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه
جبريل عليهالسلام من القرآن ، وقيل : معنى الآية كقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) [القيامة : ١٦]
الآية : فإنه عليه الصلاة والسلام كان يحرك به لسانه إذا أقرأه جبريل ، خوفا أن
ينساه فضمن الله له أن لا ينساه ، وقيل : فلا تنسى نهي عن النسيان ، وقد علم الله
أن ترك النسيان ليس في قدرة البشر ، فالمراد الأمر بتعاهده حتى لا ينساه. وهذا
بعيد لإثبات الألف في تنسى (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه وجهان : أحدهما أن معناه لا تنسى إلا ما شاء الله أن
تنساه كقوله : أو ننسها البقرة : ١٠٦ والآخر : أنه لا ينسى شيئا ولكن قال : إلا ما
شاء الله تعظيما لله بإسناد الأمر إليه كقوله في الأنعام : ١٢٨ (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) على بعض الأقوال وعبر الزمخشري : عن هذا بأنه من استعمال
التقليل في معنى النفي ، والأول أظهر فإن النسيان جائز على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن ، أو فيما قضى الله أن
ينساه ثم يذكره ، ومن هذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم حين سمع قراءة عباد بن بشير رحمهالله : لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت قد نسّيتها (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) عطف على سنقرئك ومعناه نوفقك للأمور المرضية التي توجب لك
السعادة ، وقيل : معناه للشريعة اليسرى من قوله عليه الصلاة والسلام : دين الله
يسر أي سهل لا حرج فيه.
(فَذَكِّرْ إِنْ
نَفَعَتِ الذِّكْرى) المراد بهذا الشرط توبيخ الكفار الذين لا تنفعهم الذكرى ،
واستبعاد تأثير الذكرى في قلوبهم كقولك : قد أوصيتك لو سمعت ، وقيل : المعنى : ذكر
إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. واقتصر على أحد القسمين لدلالة الآخر عليه ، وهذا
بعيد
__________________
وليس عليه الرونق
الذي على الأول (سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى) أي من يخاف الله (وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى) يعني الكافر وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن
ربيعة ، والضمير المفعول للذكرى (النَّارَ الْكُبْرى) هي نار جهنم وسماها كبرى بالنظر إلى نار الدنيا ، وقيل :
سماها كبرى بالنظر إلى غيرها من نار جهنم ، فإنها تتفاضل ، وبعضها أكبر من بعض
وكلا القولين صحيح. إلا أن الأول أظهر. ويؤيده قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ناركم هذه التي توقدون جزءا من سبعين جزءا من نار جهنم (ثُمَّ لا يَمُوتُ
فِيها وَلا يَحْيى) أي لا يموت فيستريح ، ولا يحيا حياة هنيئة ، وعطف هذه
الجملة بثم لأن هذه الحالة أشد من صلي النار فكأنها بعده في الشدة.
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) يحتمل أن يكون بمعنى الطهارة من الشرك والمعاصي ، أو بمعنى
الطهارة للصلاة أو بمعنى أداء الزكاة وعلى هذا قال جماعة : إنها يوم الفطر والمعنى
أدّى زكاة الفطر (وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ) في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام وصلى صلاة العيد ، وقد
روي هذا عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقيل المراد أدى زكاة ماله وصلى الصلوات الخمس (إِنَّ هذا) الإشارة إلى ما ذكر من التزهيد في الدنيا والترغيب في
الآخرة ، أو إلى ما تضمنته السورة أو إلى القرآن بجملته ، والمعنى أنه ثابت في كتب
الأنبياء المتقدمين كما ثبت في هذا الكتاب.
__________________
سورة الغاشية
مكية وآياتها ٢٦
نزلت بعد الذاريات
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(هَلْ أَتاكَ) توقيف [سؤال] يراد به التنبيه والتفخيم للأمر ، قيل : هل
بمعنى قد وهذا ضعيف (الْغاشِيَةِ) هي القيامة لأنها تغشى جميع الخلق ، وقيل : هي النار من
قوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) [ابراهيم : ٥٠]
وهذا ضعيف لأنه ذكر بعد ذلك قسمين أهل الشقاوة وأهل السعادة (خاشِعَةٌ) أي ذليلة (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) هو من النصب بمعنى التعب ، وفي المراد بهم ثلاثة أقوال :
أحدهما أنهم الكفار ويحتمل على هذا أن يكون عملهم ونصبهم في الدنيا لأنهم كانوا
يعملون أعمال السوء ويتعبون فيها ، أو يكون في الآخرة فيعملون فيها عملا يتعبون
فيه من جر السلاسل والأغلال وشبه ذلك ويكون زيادة في عذابهم : الثاني : أنها في
الرهبان الذين يجتهدون في العبادة ولا تقبل منهم ، لأنهم على غير الإسلام وبهذا
تأولها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبكى رحمة لراهب نصراني رآه مجتهدا. فعاملة
ناصبة على هذا في الدنيا وناصبة إشارة إلى اجتهادهم في العمل ، أو إلى أنه لا
ينفعهم فليس لهم منه إلا النصب. الثالث أنها في القدرية. وقد روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر القدرية فبكى وقال إن فيهم المجتهد .
(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ
آنِيَةٍ) أي شديدة الحر ، ومنه حميم آن ، [الرحمن : ٤٤] ووزن آنية
هنا فاعلة بخلاف آنية من فضة فإن وزنه أفعلة (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) في الضريع أربعة أقوال : أحدهما أنه شوك يقال له الشبرق وهو
سم قاتل وهذا أرجح لأقوال ؛ لأن أرباب اللغة ذكروه ولأن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : الضريع شوك في النار. الثاني : أنه الزقوم لقوله : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ
الْأَثِيمِ). [الدخان : ٤٣] الثالث : أنه نبات أخضر منتن ينبت في البحر
وهذا ضعيف ، الرابع أنه واد في جهنم وهذا ضعيف لأن ما يجري في الوادي ليس بطعام
إنما هو شراب ، ولله در من قال : الضريع طعام أهل النار فإنه أعم وأسلم من عهدة
التعيين. واشتقاقه عند بعضهم من المضارعة ، بمعنى المشابهة لأنه يشبه الطعام الطيب
وليس به ،
__________________
وقيل : هو بمعنى
مضرع للبدن أي مضعف وقيل : إن العرب لا تعرف هذا اللفظ ، فإن قيل : كيف قال هنا :
ليس لهم طعام إلا من ضريع وقال في الحاقة : ولا طعام إلا من غسلين؟ فالجواب أن
الضريع لقوم والغسلين لقوم ، أو يكون أحدهما في حال والآخر في حال (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) هذه الجملة صفة لضريع ، ولطعام نفي عنه منفعة الطعام وهي
التسمين وإزالة الجوع.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ) أي متنعمة في الجنة أو يظهر عليها نضرة النعيم (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي راضية في الآخرة لأجل سعيها وهو عملها في الدنيا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) يحتمل أن يكون من علو المكان أو من علو المقدار أو الوجهين
(لا تَسْمَعُ فِيها
لاغِيَةً) هو من لغو الكلام ومعناه الفحش وما يكره ، فيحتمل أن يريد
كلمة لاغية أو جماعة لاغية (فِيها عَيْنٌ
جارِيَةٌ) يحتمل أن يريد جنس العيون أو واحدة شرّفها بالتعيين (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) قد ذكرنا أكواب ومعنى موضوعة : حاضرة ، معدة بشرابها وفي
قوله : مرفوعة وموضوعة مطابقة (وَنَمارِقُ) جمع نمرقة وهي الوسادة (وَزَرابِيُ) هي بسط فاخرة [السجّاد في اصطلاح اليوم] وقيل : هي الطنافس
واحدها زربية (مَبْثُوثَةٌ) أي متفرقة ، وذلك عبارة عن كثرتها وقيل : مبسوطة (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) حض على النظر في خلقتها لما فيها من العجائب في قوتها ،
وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف ، وصبرها على العطش ، وكثرة المنافع التي فيها من
الركوب والحمل عليها ، وأكل لحومها وشرب ألبانها ، وأبوالها وغير ذلك. وقيل : أراد
بالإبل السحاب وهذا بعيد وإنما حمل قائله عليه مناسبتها للسماء والأرض والجبال.
والصحيح أن المراد الحيوان المعروف ، وإنما ذكره لما فيه من العجائب ، ولاعتناء
العرب به إذ كانت معايشهم في الغالب منه ، وهو أكثر المواشي في بلادهم (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي قاهر متسلط وهذا من المنسوخ بالسيف (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) استثناء منقطع معناه لكن من تولى (وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) وقيل هو استثناء من مفعول فذكر ، والمعنى ذكر كل أحد إلا
من تولى حتى يئست منه فهو على هذا متصل ، وقيل : هو استثناء من قوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي لا تسلط إلا على من تولى وكفر ، وهو على هذا متصل ولا
نسخ فيه إذ لا موادعة فيه وهذا بعيد ، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي رجوعهم والآية تهديد.
__________________
سورة الفجر
مكية وآياتها ٣٠
نزلت بعد الليل
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَالْفَجْرِ) أقسم الله تعالى بالفجر وهو الطالع كل يوم كما أقسم بالصبح
، وقيل : أراد صلاة الفجر وقيل : أراد النهار كله ، وقيل : فجر يوم الجمعة وقيل :
فجر يوم النحر ، وقيل : فجر ذي الحجة ولا دليل على هذه التخصيصات وقيل : أراد
انفجار العيون من الحجارة وهذا هذا بعيد والأول أظهر وأشهر (وَلَيالٍ عَشْرٍ) هي عشر ذي الحجة عند الجمهور وقيل العشر الأول من المحرم
وفيها عاشوراء وقيل : العشر الأواخر من رمضان ، وقيل العشر الأول منه (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة ، وروي عنه عليه
الصلاة والسلام أنها الصلوات منها شفع ووتر وقيل : الشفع التنفل بالصلاة مثنى مثنى والوتر الركعة
الواحدة المعروفة وقيل : الشفع العالم والوتر الله لأنه واحد وقيل : الشفع آدم
وحواء والوتر الله تعالى ، وقيل الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام ، وقيل :
الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة ، وقيل الشفع قران
الحج والوتر إفراده ، وقيل المراد الأعداد منها شفع ووتر فهذه عشرة أقوال ، وقرئ
الوتر بفتح الواو وكسرها وهما لغتان (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) أي إذا يذهب فهو كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ) [المدثر : ٣٣]
وقيل أراد يسري فيه فهو على هذا كقولهم : ليله قائم والمراد على هذا ليلة جمع
لأنها التي يسري فيها والأول أشهر وأظهر (هَلْ فِي ذلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هذا توقيف [سؤال] يراد به تعظيم الأشياء التي أقسم بها.
والحجر هنا هو : العقل. كأنه يقول : إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول. وجواب القسم
محذوف وهو ليأخذنّ الله
__________________
الكفار ويدل على
ذلك ما ذكره بعده من أخذ عاد وثمود وفرعون (إِرَمَ) هي قبيلة عاد سميت باسم أحد أجدادها ، كما يقال : هاشم
لبني هاشم ، وإعرابه بدل من عاد أو عطف بيان وفائدته أن المراد عادا الأولى ، فإن
عادا الثانية لا يسمون بهذا الإسم. وقيل : إرم اسم مدينتهم فهو على حذف مضاف
تقديره : بعاد عاد إرم ، ويدل على هذا قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة من
تنوين عاد وامتنع إرم من الصرف على القولين للتعريف والتأنيث (ذاتِ الْعِمادِ) من قال إرم قبيلة قال : العماد أعمدة بنيانهم أو أعمدة
بيوتهم من الشعر لأنهم كانوا أهل عمود وقال ابن عباس : ذلك كناية عن طول أبدانهم
ومن قال إرم مدينة فالعماد الحجارة التي بنيت بها وقيل القصور والأبراج (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي
الْبِلادِ) صفة للقبيلة لأنهم كانوا أعظم الناس أجساما يقال : كان طول
الرجل منهم أربعمائة ذراع [كذا] أو صفة للمدينة وهذا أظهر لقوله في البلاد ولأنها
كانت أحسن مدائن الدنيا ، وروي أنها بناها شداد بن عاد في ثلاثمائة عام ، وكان
عمره تسعمائة عام وجعل قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت
وفيها أنواع الشجر والأنهار الجارية ، وروي أنه سمع ذكر الجنة فأراد أن يعمل مثلها
فلما أتمها وسار إليها بأهل مملكته أهلكهم الله بصيحة ، وكانت هذه المدينة باليمن.
وروي أن بعض
المسلمين مر بها في خلافة معاوية ، وقيل : هي دمشق وقيل : الإسكندرية وهذا ضعيف (جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتا والوادي ما بين الجبلين ، وإن
لم يكن فيها ماء ، وقيل : أراد وادي القرى (وَفِرْعَوْنَ ذِي
الْأَوْتادِ) ذكر في سورة داود (ص) (الَّذِينَ طَغَوْا
فِي الْبِلادِ) صفة لعاد وثمود وفرعون ويجوز أن يكون منصوبا على الذم أو
خبر ابتداء مضمر (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) استعارة السوط للعذاب ؛ لأنه يقتضي من التكرار ما لا
يقتضيه السيف وغيره. قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : ذكر السوط إشارة إلى عذاب
الدنيا ، إذ هو أهون من عذاب الآخرة ، كما أن السوط أهون من القتل (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) عبارة عن أنه تعالى حاضر بعلمه في كل مكان ، وكل زمان
ورقيب على كل إنسان ، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار ، وفي ذلك تهديد
لكفار قريش وغيرهم ، والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ) الابتلاء هو الاختبار واختبار الله لعبده لتقوم الحجة على
العبد بما يبدو منه ، وقد كان الله عالما بذلك قبل كونه ، والإنسان هنا جنس وقيل :
نزلت في عتبة بن ربيعة وهي مع ذلك على
__________________
العموم ، فيمن كان
على هذه الصفة وذكر الله في هذه الآية ابتلاءه للإنسان بالخير ، ثم ذكر بعده
ابتلاءه بالشر كما قال في [الأنبياء : ٣٥] (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) وأنكر عليه قوله حين الخير : ربي أكرمني وقوله حين الشر :
ربي أهانني ويتعلق بالآية سؤالان :
السؤال الأول : لم
أنكر الله على الإنسان قوله ربي أكرمني وربي أهانني والجواب من وجهين : أحدهما : أن الإنسان يقول : ربي أكرمني
على وجه الفخر بذلك والكبر ، لا على وجه الشكر ويقول : ربي أهانني على وجه التشكي
من الله وقلة الصبر والتسليم لقضاء الله ، فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك ،
فإن الواجب عليه أن يشكر على الخير ويصبر على الشر. والآخر : أن الإنسان اعتبر
الدنيا فجعل بسط الرزق فيها كرامة ، وتضييقه إهانة وليس الأمر كذلك ؛ فإن الله قد
يبسط الرزق لأعدائه ، ويضيقه على أوليائه فأنكر الله عليه اعتبار الدنيا والغفلة
عن الآخرة ، وهذا الإنكار من هذا الوجه على المؤمن. وأما الكافر فإنما اعتبر الدنيا
لأنه لا يصدق بالآخرة ، ويرى أن الدنيا هي الغاية فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من
ذلك.
السؤال الثاني :
إن قيل : قد قال الله فأكرمه فأثبت إكرامه ، فكيف أنكر عليه قوله ربي أكرمني؟
فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنه لم ينكر عليه ذكره للإكرام ، وإنما أنكر عليه
ما يدل عليه كلامه من الفخر وقلة الشكر ، أو من اعتبار الدنيا دون الآخرة حسبما
ذكرنا في معنى الإنكار. الثاني أنه أنكر عليه قوله : ربي أكرمني إذا اعتقد أن
إكرام الله له باستحقاقه الإكرام ، على وجه التفضل والإنعام كقول قارون : إنما
أوتيته على علم عندي [القصص : ٧٨] الثالث أن الإنكار إنما هو لقوله : ربي أهانني
لا لقوله ربي أكرمني فإن قوله ربي أكرمني اعتراف بنعمة الله ، وقوله : ربي أهانني
شكاية من فعل الله (فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ) أي ضيقه وقرئ بتشديد الدال وتخفيفها بمعنى واحد وفي التشديد مبالغة وقيل معنى التشديد
جعله على قدر معلوم.
(كَلَّا) زجر عما أنكر من قول الإنسان (بَلْ لا تُكْرِمُونَ
الْيَتِيمَ) هذا ذمّ لما ذكر من الأعمال القبيحة ومعنى هذا الإضراب ببل
، كأنه أنكر على الإنسان ما تقدم ثم قال بل تفعلون ما هو شر من ذلك وهو ألا تكرموا
اليتيم وما ذكر بعده ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم ولا تحضون على
طعام المسكين الحض على
__________________
الأمر هو الترغيب
فيه ، ومن لا يحض غيره على أمر فلا يفعله هو ، كأنه ذم لترك طعام المسكين ،
والطعام هنا بمعنى الإطعام ، وقيل : هو على حذف مضاف تقديره : لا تحضون على بذل
طعام المسكين ، وقرئ تحاضون بفتح الحاء وألف بعدها بمعنى لا يحض بعضكم بعضا (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) التراث هو ما يورث عن الميت من المال ، والتاء فيه بدل من
الواو ، واللم : الجمع واللف ، والتقدير : أكلا ذا لمّ وهو أن يأخذ في الميراث
نصيبه ونصيب غيره ، لأن العرب كانوا لا يعطون من الميراث أنثى ولا صغيرا بل ينفرد
به الرجال (وَتُحِبُّونَ الْمالَ
حُبًّا جَمًّا) أي شديدا كثيرا وهذا ذم للحرص على المال وشدة الرغبة فيه.
(دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي سوّيت جبالها (دَكًّا دَكًّا) أي دكا بعد دكّ كما تقول : تعلمت العلم بابا بابا (وَجاءَ رَبُّكَ) تأويله عند المتأولين : جاء أمره وسلطانه وقال المنذر بن
سعيد : معناه ظهوره للخلق هنالك. وهذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب
الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل (وَالْمَلَكُ) هو اسم فإنه روي أن الملائكة كلهم يكونون صفوفا حول الأرض (صَفًّا صَفًّا) أي صفا بعد صف قد أحدقوا بالجن والإنس (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : يؤتي
يومئذ بجهنم معها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ) يومئذ بدل من إذا دكت ويتذكر هو العامل وهو جواب إذا دكت ،
والمعنى : أن الإنسان يتذكر يوم القيامة أعماله في الدنيا ، ويندم على تفريطه
وعصيانه ، والإنسان هنا جنس ، وقيل : يعني عتبة بن ربيعة ، وقيل : أمية بن خلف (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) هذا على حذف تقديره أنى له الانتفاع بالذكرى كما تقول ندم
حين لم تنفعه الندامة (يَقُولُ يا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَياتِي) فيه وجهان : أحدهما أنه يريد الحياة في الآخرة فالمعنى :
يا ليتني قدّمت عملا صالحا للآخرة ، والآخر أنه يريد الحياة الدنيا فالمعنى : يا
ليتني قدمت عملا صالحا وقت حياتي ، فاللام على هذا كقوله كتبت لعشر من الشهر (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ
أَحَدٌ) من قرأ بكسر الذال من يعذب ، والثاء من يوثق فالضمير في
عذابه ووثاقه لله تعالى والمعنى : أن الله
__________________
يتولى عذاب الكفار
ولا يكله إلى أحد ، ومن قرأ بالفتح فالضمير للإنسان أي لا يعذّب أحد مثل عذابه ،
ولا يوثق أحد مثل وثاقه ، وهذه قراءة الكسائي وروي أن أبا عمرو رجع إليها وهي
قراءة حسنة ، وقد رويت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم
(يا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي الموقنة يقينا قد اطمأنت به بحيث لا يتطرق إليها شك في
الإيمان ، وقيل : المطمئنة التي لا تخاف حينئذ. ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب يا
أيتها النفس الآمنة المطمئنة (ارْجِعِي إِلى
رَبِّكِ) هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت ، وقيل : عند البعث
وقيل : عند انصراف الناس إلى الجنة أو النار ، والأول أرجح ، لما روي أن أبا بكر
سأل عن ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال له : يا أبا بكر إن
الملك سيقولها لك عند موتك (راضِيَةً) معناه راضية بما أعطاها ، أو راضية عن الله ، ومعنى
المرضية مرضية عند الله ، أو أرضاها الله بما أعطاها (فَادْخُلِي فِي
عِبادِي) أي أدخلي في جملة عبادي الصالحين. وقرئ فادخلي في عبدي
بالتوحيد [الإفراد] معناه ادخلي في جسده وهو خطاب للنفس ، ونزلت هذه الآية في
حمزة. وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه الكفار بمكة ، ولفظها يعم كل نفس مطمئنة.
سورة البلد
مكية وآياتها ٢٠
نزلت بعد ق
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ) أراد مكة باتفاق ، وأقسم بها تشريفا لها ولا زائدة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) هذه جملة اعتراض بين القسم وما بعده وفي معناها ثلاثة
أقوال : أحدها أن المعنى أنت حالّ بهذا البلد أي ساكن ، لأن السورة نزلت والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بمكة ، والآخر أن معنى حلّ تستحل حرمتك ويؤذيك الكفار مع
أن مكة لا يحل فيها قتل صيد ولا بشر ولا قطع شجر ، وعلى هذا قيل : لا أقسم يعني لا
أقسم بهذا البلد وأنت تلحقك فيه إذاية. الثالث أن معنى حل حلال يجوز لك في هذا
البلد ما شئت من قتالك الكفار وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك ، وهذا هو الأظهر لقوله صلىاللهعليهوسلم : إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ،
لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، وإنما أحل لي ساعة من نهار يعني يوم فتح مكة ، وفي ذلك اليوم أمر عليه الصلاة والسلام
بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، فإن قيل : إن السورة مكية وفتح مكة كان
عام ثمانية من الهجرة؟ فالجواب أن هذا وعد بفتح مكة كما تقول لمن تعده بالكرامة :
أنت مكرم يعني فيما يستقبل وقيل : إن السورة على هذا مدنية نزلت يوم الفتح ، وهذا
ضعيف (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه أراد آدم وجميع ولده ،
الثاني نوح وولده ، الثالث إبراهيم وولده ، الرابع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام
وولده ، الخامس جنس كل والد ومولود وإنما قال : وما ولد ولم يقل ومن ولد : إشارة
إلى تعظيم المولود كقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦]
قاله الزمخشري (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي يكابد المشقات من هموم الدنيا والآخرة قال بعضهم : لا
يكابد أحد من المخلوقات ما يكابد ابن آدم ، وأصل الكبد من قولك كبد الرجل فهو أكبد
إذا وجعت كبده وقيل : معنى في كبد واقفا منتصب القامة. وهذا ضعيف. والإنسان على
هذين القولين جنس ، وقيل :
__________________
الإنسان آدم عليهالسلام ، ومعنى في كبد على هذا في السماء وهذا ضعيف والأول هو
الصحيح.
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فيه قولان : أحدهما أن معناه أيظن أن لن يقدر أحد على بعثه
وجزائه ، والآخر : أيظن أن لن يقدر أحد أن يغلبه ، فعلى الأول : نزلت في جنس
الإنسان الكافر ، وعلى الثاني : نزلت في رجل معين وهو أبو الأشد رجل من قريش ، كان
شديد القوة ، وقيل : عمرو بن عبد ودّ وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن
أبي طالب (يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مالاً لُبَداً) أي كثيرا ، وقرئ لبدا بضم اللام وكسرها ، وهو جمع لبدة
بالضم والكسر بمعنى الكثرة : ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة ، فإنه
أنفق مالا في إفساد أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقيل : في الحرث بن عامر بن نوفل وكان قد أسلم وأنفق في
الصدقات والكفارات ، فقال لقد أهلكت مالي منذ تبعت محمدا (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) يحتمل أن يكون هذا تكذيبا له في قوله : أهلكت مالا لبدا أو
إشارة إلى أنه أنفقه رياء.
(وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) أي طريقي الخير والشر فهو كقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ،
ليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد وقيل : يعني ثديي الأم (فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ) الاقتحام الدخول بشدّة ومشقة ، والعقبة عبارة عن الأعمال ،
الصالحة المذكورة بعد ، وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل لأنها تصعب ويشق صعودها
على النفوس ، وقيل : هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلا من عمل هذه الأعمال ولا
هنا تخصيص بمعنى هلا وقيل : هي دعاء ، وقيل : هي نافية واعترض هذا القول بأن لا
النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها ، وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في
المعنى ، والتقدير ؛ فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة ولا أطعم مسكينا وقال الزجاج
قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على التكرار لأن التقدير فلا اقتحم العقبة ولا آمن (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) تعظيم للعقبة ثم فسرها بفك الرقبة وهو إعتاقها بالإطعام
وقرئ فك رقبة بضم الكاف وخفض الرقبة ، وهو على هذا تفسير للعقبة وبفتح الكاف ونصب
الرقبة وهو تفسير لاقتحم وفك الرقبة : هو عتقها ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من
النار وقال أعرابي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : دلني على عمل أنجو به فقال : فك الرقبة وأعتق النسمة
فقال الأعرابي : أليس هذا واحدا؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا إعتاق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في
ثمنها ، وأما فك أسارى المسلمين من أيدي
__________________
الكافرين فإنه
أعظم أجرا من العتق لأنه واجب ، ولو استغرقت فيه أموال المسلمين ولكنه لا يجري في
الكفارات عن عتق رقبة (أَوْ إِطْعامٌ) من قرأ فك بالرفع قرأ إطعام بالعطف مصدر على مصدر ومن قرأ
فك بالفتح قرأ أطعم بفتح الهمزة والميم فعطف فعلا على فعل (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي مجاعة يقال سغب الرجل إذا جاع (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قرابة ففيه أجر إطعام اليتيم وصلة الرحم (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي ذا حاجة ، يقال ؛ ترب الرجل إذا افتقر ، وهو مأخوذ من
الصدقة بالتراب وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه الذي مأواه المزابل.
(ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) ثم هنا للتراخي في الرتبة لا في الزمان ، وفيها إشارة إلى
أن الإيمان أعلى من العتق والإطعام ، ولا يصح أن يكون للترتيب في الزمان لأنه لا
يلزم أن يكون الإيمان بعد العتق. والإطعام ولا يقبل عمل إلا من مؤمن (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على قضاء الله ، وكأن هذا إشارة
إلى صبر المسلمين بمكة على إذاية الكفار (وَتَواصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ) أي وصى بعضهم بعضا برحمة المساكين وغيرهم ، وقيل : الرحمة
كل ما يؤدي إلى رحمة الله (الْمَيْمَنَةِ) جهة اليمين و (الْمَشْأَمَةِ) جهة الشمال ، وروي أن الميمنة عن يمين العرش ويحتمل أن
يكونا من اليمن والشؤم (نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة مغلقة يقال : أوصدت الباب إذا أغلقته وفيه لغتان
الهمزة وترك الهمزة [يعني : مؤصده وبها قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص وقرأ الباقون :
موصدة].
سورة الشمس
مكية وآياتها ١٥
نزلت بعد القدر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) الضحى ارتفاع الضوء وكماله ، والضحاء بالفتح والمد بعد ذلك
إلى الزوال وقيل : الضحى النهار كله ، والأول هو المعروف في اللغة (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي تبعها وفي اتباعه لها ثلاثة أقوال : أحدها أنه يتبعها
في كثرة الضوء ، لأنه أضوء الكواكب بعد الشمس ، ولا سيما ليلة البدر والآخر أنه يتبعها في طلوعه لأنه
يطلع بعد غروبها ، وذلك في النصف الأول من الشهر والضمير الفاعل للنهار ، لأن
الشمس تنجلي بالنهار فكأنه هو الذي جلّاها وقيل : الضمير الفاعل لله وقيل : الضمير
المفعول للظلمة أو الأرض أو الدنيا ، وهذا كله بعيد لأنه لم يتقدم ما يعود الضمير
عليه (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشاها) أي يغطيها وضمير المفعول للشمس وضمير الفاعل لليل على
الأصح (وَالسَّماءِ وَما
بَناها) قيل : إن ما في قوله وما بناها وما طحاها وما سوّاها موصولة
بمعنى من والمراد الله تعالى وقيل : إنها مصدرية كأنه قال : والسماء وبنيانها ،
وضعف الزمخشري ذلك بقوله : فألهمها فإن المراد الله باتفاق ، وهذا القول يؤدي إلى
فساد النظم ، وضعّف بعضهم كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق فإن قيل :
لم عدل عن من إلى قوله ما في قول من جعلها موصولة؟ فالجواب أنه فعل ذلك لإرادة
الوصفية كأنه قال والقادر الذي بناها (طَحاها) أي مدها (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها) تسوية النفس إكمال عقلها وفهمها ، فإن قيل : لم نكّر النفس؟
فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد الجنس كقوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) التكوير : [١٤] والآخر أنه أراد نفس آدم والأول هو المختار
(فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) أي عرّفها طريق الفجور والتقوى ، وجعل لها قوة يصح معها
اكتساب أحد الأمرين ، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو ، كقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شاكِراً وَإِمَّا
__________________
كَفُوراً) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) هذا جواب القسم عند الجمهور ، وقال الزمخشري : الجواب
محذوف تقديره : ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما دمدم على قوم ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة
والسلام ، قال : وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله (فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وهذا بعيد ، والفاعل بزكاها ضمير
يعود على من ، والمعنى : قد أفلح من زكى نفسه أي طهّرها من الذنوب والعيوب ، وقيل
: الفاعل ضمير الله تعالى ، والأول أظهر ، (وَقَدْ خابَ مَنْ
دَسَّاها) أي حقرها بالكفر والمعاصي ، وأصله دسس بمعنى : أخفى فكأنه
أخفى نفسه لما حقرها وأبدل من السين الأخيرة حرف علة كقولهم : قصّيت أظفاري وأصله
قصصت (بِطَغْواها) هو مصدر بمعنى الطغيان قلبت فيه الياء واوا على لغة من
يقول : طغيت والباء الخافضة كقولك كتبت بالقلم أو سببية ، والمعنى بسبب طغيانها
وقال ابن عباس معناها ثمود بعذابها ويؤيده قوله : (فَأَمَّا ثَمُودُ
فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) العامل في إذ كذبت أو طغواها ومعنى انبعث : خرج لعقر
الناقة بسرعة ونشاط ، وأشقاها : هو الذي عقر الناقة وهو أحيمر ثمود واسمه قدار بن
سالف ، ويحتمل أن يكون أشقاها واقعا على جماعة ، لأن أفعل التي للتفضيل إذا أضفته
يستوي فيه الواحد والجمع والأول أظهر وأشهر.
(فَقالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللهِ) يعني صالحا عليهالسلام (ناقَةَ اللهِ
وَسُقْياها) منصوب بفعل مضمر تقديره احفظوا ناقة الله ، أو احذروا ناقة
الله وسقياها ، شربها من الماء (فَعَقَرُوها) نسب العقر إلى جماعة لأنهم اتفقوا عليه وباشره واحد منهم (فَدَمْدَمَ) عبارة عن إنزال العذاب بهم وفيه تهويل (بِذَنْبِهِمْ) أي بسبب ذنبهم وهو التكذيب أو عقر الناقة (فَسَوَّاها) قال ابن عطية ؛ معناه فسوّى القبيلة في الهلاك لم يفلت أحد
منهم وقال الزمخشري : الضمير للدمدمة أي سواها بينهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) ضمير الفاعل لله تعالى والضمير في عقباها للدمدمة والتسوية
وهو الهلاك : أي لا يخاف عاقبة إهلاكهم ، ولا درك [مسؤولية] عليه في ذلك كما يخاف
الملوك من عاقبة أعمالهم ، وفي ذلك احتقار لهم وقيل : إن ضمير الفاعل لصالح وهذا
بعيد وقرأ أشقاها فلا يخاف بالفاء وبالواو وقيل : في القراءة بالواو الفاعل
أشقاها. والجملة في موضع الحال أي انبعث ولم يخف عقبى فعلته وهذا بعيد.
سورة الليل
مكية وآياتها ٢١
نزلت بعد الأعلى
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى) أي يغطي وحذف المفعول وهو الشمس لقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أو النهار لقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ) [الأعراف : ٥٣] أو
كل شيء يستره الليل (وَالنَّهارِ إِذا
تَجَلَّى) أي ظهر وتبين والنهار من طلوع الشمس واليوم من طلوع الفجر (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ما بمعنى من والمراد بها الله تعالى وعدل عن من لقصد الوصف
كأنه قال : والقادر الذي خلق الذكر والأنثى وقيل : هي مصدرية وروى ابن مسعود أن
النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ والذكر والأنثى (إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى) هذا جواب القسم ومعناه إن عملكم مختلف فمنه حسنات ومنه
سيئات ، وشتى جمع شتيت (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) أي أعطى ماله في الزكاة والصدقة وشبه ذلك ، أو أعطى حقوق
الله من طاعته في جميع الأشياء واتقى الله (وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى) أي بالخصلة الحسنة وهي الإسلام ، ولذلك عبّر عنها بعضهم
بأنها لا إله إلا الله ، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، وقيل : يعني الأجر
والثواب على الإطلاق وقيل : يعني الخلف على المنفق (فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرى) أي نهيئه للطريقة اليسرى ، وهي فعل الخيرات وترك السيئات
وضد ذلك تيسيره للعسرى ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» أي يهيؤه الله لما قدر له ويسهل عليه فعل الخير أو الشر (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي بخل بماله أو بطاعة الله على الإطلاق فيحتمل الوجهين ؛
لأنه في مقابلة أعطى كما أن استغنى في مقابلة اتقى ، وكذلك كذب بالحسنى في مقابلة
صدق بالحسنى ، ونيسره للعسرى في مقابلة نيسره لليسرى ، ومعنى استغنى : استغنى عن
الله فلم يطعه واستغنى بالدنيا عن الآخرة ، ونزلت آية المدح في أبي بكر الصديق ،
لأنه أنفق ماله في مرضات الله ، وكان يشتري من أسلم من العبيد فيعتقهم ، وقيل نزلت
في أبي الدحداح وهذا ضعيف ،
__________________
لأنها مكية وإنما
أسلم أبو الدحداح بالمدينة ، وقيل إن آية الذم نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وهذا
ضعيف لقوله : فسنيسره للعسرى وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك
(وَما يُغْنِي عَنْهُ
مالُهُ إِذا تَرَدَّى) هذا نفي ، أو استفهام بمعنى الإنكار.
واختلف في معنى
تردّى على أربعة أقوال : الأول تردّى أي هلك ، فهو مشتق من الردى وهو الموت ، أو
تردّى أي سقط في القبر ، أو سقط في جهنم ، أو تردى بأكفانه من الرداء (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي بيان الخير والشر ، وليس المراد الإرشاد عند الأشعرية
خلافا للمعتزلة (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى) خطاب من الله أو من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
على تقدير : قل (لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى) استدل المرجئة بهذه الآية على أن النار لا يدخلها إلا
الكفار لقوله : الذي كذب وتولى.
وتأولها الناس
بثلاثة أوجه أحدها أن المعنى لا يصلاها صلي خلود إلا الأشقى ، والآخر أنه أراد
نارا مخصوصة الثالث. أنه أراد بالأشقى كافرا معينا وهو أبو جهل وأمية بن خلف ،
وقابل به الأتقى وهو أبو بكر الصديق ؛ فخرج الكلام مخرج المدح والذم على الخصوص ،
لا مخرج الإخبار على العموم (يَتَزَكَّى) من أداء الزكاة أو من الزكاة ، أي يصير زكيا عند الله ، أو
يتطهر من ذنوبه ، وهذا الفعل بدل من يؤتى ماله أو حال من الضمير (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزى) أي لا يفعل الخير جزاء على نعمة أنعم بها عليه أحد فيما
تقدم ، بل يفعله ابتداء خالصا لوجه الله ، وقيل : المعنى لا يقصد جزاء من أحد في
المستقبل على ما يفعل ، والأول أظهر ويؤيده ما روي أن سبب الآية أن أبا بكر الصديق
لما أعتق بلالا قالت قريش : كان لبلال عنده يد متقدمة فنفى الله قولهم (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) استثناء منقطع (وَلَسَوْفَ يَرْضى) وعد بأن يرضيه في الآخرة.
سورة الضحى
مكية وآياتها ١١
نزلت بعد الفجر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَالضُّحى) ذكر في الشمس وضحاها (وَاللَّيْلِ إِذا
سَجى) فيه أربعة أقوال : إذا أقبل ، وإذا أدبر ، وإذا أظلم ،
وإذا سكن أي استقر واستوى ، أو سكن فيه الناس والأصوات ومنه : ليلة ساجية إذا كانت
ساكنة الريح ، وطرف ساج أو ساكن غير مضطرب النظر. وهذا أقرب في الاشتقاق وهو
اختيار ابن عطية (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَما قَلى) بتشديد الدال من الوداع وقرئ بتخفيفها بمعنى : ما تركك
والوداع مبالغة في الترك (وَما قَلى) أي ما أبغضك ، وحذف ضمير المفعول من قلى وآوى وهدى وأغنى
اختصارا ، لظهور المعنى ولموافقة رؤوس الآي. وسبب الآية أن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم أبطأ عليه الوحي ، فقالت قريش : إن محمدا ودعه ربه وقلاه
فنزلت الآية : تكذيبا لهم وقيل : رمي عليه الصلاة والسلام بحجر في إصبعه فدميت
فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم : فقالت امرأة : ما أرى شيطان محمد إلا قد تركه
فنزلت الآية : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ
لَكَ مِنَ الْأُولى) أي الدار الآخرة خير لك من الدنيا ، قال ابن عطية : ويحتمل
أن يريد بالآخرة حاله بعد نزول هذه السورة ، ويريد بالأولى حاله نزولها ، وهذا
بعيد والأول أظهر وأشهر.
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى) روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : لما نزلت إذا لا أرضى أن يبقى واحد من أمتي في النار
، قال بعضهم : هذه أرجى آية في القرآن ، وقال ابن عباس : رضاه أن الله وعده بألف
قصر في الجنة بما يحتاج إليه من النعم والخدم وقيل : رضاه في الدنيا بفتح مكة
وغيره والصحيح أنه وعد يعمّ كل ما أعطاه الله في الآخرة ، وكل ما أعطاه في الدنيا
من النصر والفتوح وكثرة المسلمين وغير ذلك (أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى) عدد الله نعمه عليه فيما مضى من عمره ، ليقيس عليه ما
يستقبل فتطيب نفسه ، ويقوي رجاؤه ووجد في هذه المواضع تتعدى إلى مفعولين وهي بمعنى
علم ؛ فالمعنى ألم تكن يتيما فآواك. وذلك أن والده عليهالسلام توفي وتركه في بطن أمه ، ثم ماتت أمه وهو ابن خمسة أعوام ،
وقيل : ثمانية فكفله جدّه عبد المطلب ، ثم مات وتركه ابن اثني عشر عاما فكفله عمه
أبو طالب ، وقيل لجعفر الصادق : لم نشأ النبي صلىاللهعليهوسلم يتيما فقال : لئلا يكون عليه حق لمخلوق.
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى) فيه ستة أقوال : أحدها : وجدك ضالا عن معرفة الشريعة فهداك
إليها ، فالضلال عبارة عن التوقيف [السؤال] في أمر الدين حتى جاءه الحق من عند
الله ، فهو كقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢]
وهذا هو الأظهر وهو الذي اختاره ابن عطية وغيره ومعناه أنه لم يكون يعرف تفصيل
الشريعة وفروعها حتى بعثه الله ، ولكنه ما كفر بالله ولا أشرك به لأنه كان معصوما
من ذلك قبل النبوة وبعدها. والثاني وجدك في قوم ضلّال ، فكأنك واحد منهم ، وإن لم
تكن تعبد ما يعبدون ، وهذا قريب من الأول. والثالث وجدك ضالا عن الهجرة فهداك
إليها ، وهذا ضعيف ، لأن السورة نزلت قبل الهجرة. الرابع وجدك خامل الذكر لا تعرف
، فهدى الناس إليك وهداهم بك ، وهذا بعيد عن المعنى المقصود. الخامس أنه من الضلال
عن الطريق ، وذلك أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ضلّ في بعض شعب مكة ، وهو صغير فردّه الله إلى جده ، وقيل
: بل ضلّ من مرضعته حليمة فرده الله إليها ، وقيل : بل ضل في طريق الشام حين خرج
إليها مع أبي طالب. السادس أنه بمعنى الضلال من المحبة أي وجدك محبا لله فهداك
إليه ومنه قول إخوة يوسف لأبيهم ، (تَاللهِ إِنَّكَ
لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [٩٥] أي محبتك ليوسف ، وبهذا كان يقول شيخنا الأستاذ أبو
جعفر بن الزبير (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) العائل : الفقير يقال : عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجا
، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله وهذا الفقر والغنى هو في المال ، وغناؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم هو أن أعطاه الله الكفاف ، وقيل : هو رضاه بما أعطاه الله
، وقيل : المعنى وجدك فقيرا إليه فأغناك به (فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ) أي لا تغلبه على ماله وحقه لأجل ضعفه أو لا تقهره بالمنع
من مصالحه ووجوه القهر كثيرة والنهي يعمّ جميعها (وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ) النهر هو الانتهار والزجر ، والنهي عنه أمر بالقول الحسن
والدعاء للسائل كما قال تعالى : (فَقُلْ لَهُمْ
قَوْلاً مَيْسُوراً) ويحتمل السائل أن يريد به سائل الطعام والمال ، وهذا هو
الأظهر والسائل عن العلم والدين. وفي قوله تقهر وتنهر لزوم مالا يلزم من التزام
الهاء قبل الراء.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قيل : معناه بثّ القرآن وبلغ الرسالة والصحيح أنه عموم
جميع النعم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «التحدث بالنعم
شكر» ولذلك كان بعض السلف يقول ، لقد أعطاني الله كذا ولقد صليت البارحة كذا وهذا
إنما يجوز إذا كان على وجه الشكر أو ليقتدى به ، فأما على وجه الفخر والرياء فلا
يجوز ، وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم ، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث
وصايا فقابل قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً) بقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ) ، وقابل قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) بقوله ، (أَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ) ، على قول من قال إنه السائل عن العلم وقابله بقوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) على القول الآخر ، وقابل : قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) بقوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ) على القول الأظهر ، وقابله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ) على القول الآخر.
__________________
سورة الشرح
مكية وآياتها ٨
نزلت بعد الضحى
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ) هذا لصدره توقيف معناه إثبات شرح صدره صلىاللهعليهوسلم وتعديد ما ذكر بعده من النعم ، وشرح صدره صلىاللهعليهوسلم هو اتساعه لتحصيل العلم ، وتنويره بالحكمة والمعرفة ، وقيل
هو شق جبريل لصدره في صغره ، أو في وقت الإسراء حين أخرج قلبه وغسله (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) فيه ثلاثة أقوال : الأول قول الجمهور أن الوزر الذنوب. ووضعها
هو غفرانها فهو كقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ،
وهذا على قول من جوّز صغائر الذنوب على الأنبياء ، أو على أن ذنوبه كانت قبل
النبوّة الثاني أن الوزر هو أثقال النبوة وتكاليفها ، ووضعها على هذا هو إعانته عليها
، وتمهيد عذره بعد ما بلغ الرسالة الثالث أن الوزر هو تحيره قبل النبوة ، إذ كان
يرى أن قومه على ضلال ، ولم يأته من الله أمر واضح فوضعه على هذا هو بالنبوّة
والهدى للشريعة (الَّذِي أَنْقَضَ
ظَهْرَكَ) عبارة عن ثقل الوزر المذكور وشدته عليه ، قال الحارث المحاسبي
: إنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل ، وهي صغائر مغفورة لهم لهمّهم بها وتحسرهم
عليها ، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله ، وهي خفيفة عند الله ، وهذا كما جاء
في الأثر : إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه ، والمنافق يرى ذنوبه تطير
كالذبابة فوق أنفه . واشتقاق أنقض ظهرك من نقض البنيان وغيره ، أو من النقيض
وهو الصوت فكأنه يسمع لظهره نقيض كنقيض ما يحمل عليه شيء ثقيل.
(وَرَفَعْنا لَكَ
ذِكْرَكَ) أي نوّهنا باسمك وجعلناه شهيرا في المشارق والمغارب ، وقيل
: معناه اقتران ذكره بذكر الله في الأذان والخطبة والتشهد. وفي مواضع من القرآن ،
وقد روي في هذا حديث أن الله قال له ؛ إذا ذكرت ذكرت معي . فإن قيل : لم قال لك
__________________
ذكرك ولك صدرك مع
أن المعنى مستقل دون ذلك؟ فالجواب أن قوله : لك يدل على الاعتناء به والاهتمام
بأمره (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً) هذا وعد لما يسّر بعد العسر ، وإنما ذكره بلفظ مع التي
تقتضي المقاربة ليدل على قرب اليسر من العسر فإن قيل : ما وجه ارتباط هذا مع ما
قبله؟ فالجواب أنه صلىاللهعليهوسلم كان بمكة هو وأصحابه في عسر من إذاية الكفار ومن ضيق الحال
ووعده الله باليسر ، وقد تقدم تعديد النعم تسلية وتأنيسا ، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه
كأنه يقول : إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظهرك ويبدّل لك هذا العسر بيسر
قريب ، ولذلك كرر إن مع العسر يسرا مبالغة وقال صلىاللهعليهوسلم : لن يغلب عسر يسرين وقد روي ذلك عن عمر وابن مسعود وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد ، لأن الألف
واللام للعهد كقولك : جاءني رجل فأكرمت الرجل. واليسر اثنان لتنكيره وقيل : إن
اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة (فَإِذا فَرَغْتَ
فَانْصَبْ) هو من النصب بمعنى التعب ، والمعنى إذا فرغت من أمر فاجتهد
في آخر ثم اختلف في تعيين الأمرين فقيل : إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل
وقيل : إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء. وقيل : إذا فرغت من شغل دنياك فانصب
في عبادة ربك (وَإِلى رَبِّكَ
فَارْغَبْ) قدم الجار والمجرور ليدل على الحصر أي لا ترغب إلا إلى ربك
وحده.
__________________
سورة التين
مكية وآياتها ٨
نزلت بعد البروج
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ) فيها قولان : الأول أنه التين الذين يؤكل والزيتون الذي
يعصر أقسم الله بهما لفضيلتهما على سائر الثمار. روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكل مع أصحابه تينا فقال : لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة
لقلت هذه : لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس.
وقال صلىاللهعليهوسلم : نعم السواك الزيتون فإنه من الشجرة المباركة هي سواكي
وسواك الأنبياء من قبلي . القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هي سواكي
وسواك الأنبياء من قبلي . القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هما جبلان
بالشام أحدهما بدمشق ينبت فيه التين والآخر بإيلياء ينبت فيه الزيتون فكأنه قال
ومنابت التين والزيتون وقيل التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس ، وقيل
التين مسجد نوح والزيتون مسجد ابراهيم ، والأظهر أنهما الموضعان من الشام وهما
اللذان كان فيهما مولد عيسى ومسكنه ، وذلك أن الله ذكر بعد هذا الطور الذي كلم
عليه موسى والبلد الذي بعث منه محمد صلىاللهعليهوسلم فتكون الآية نظير ما في التوراة : «أن الله تعالى جاء من
طور سيناء وطلع من ساعد وهو موضع عيسى وظهر من جبال باران» وهي مكة وأقسم الله
بهذه المواضع التي ذكر في التوراة لشرفها بالأنبياء المذكورين (وَطُورِ سِينِينَ) هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى هو بالشام ، وأضافه الله
إلى سينين ومعنى سينين مبارك فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وقيل : معناه ذو
الشجر واحدها سينه ، قاله الأخفش وقال الزمخشري : ويجوز أن يعرب إعراب الجمع
المذكر بالواو والياء وأن يلزم الياء وتحريك النون بحركات الإعراب (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) هو مكة باتفاق والأمين من الأمانة أو من الأمن لقوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦].
(لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فيه قولان : أحدهما أن أحسن التقويم هو
__________________
حسن الصورة وكمال
العقل والشباب والقوة وأسفل سافلين الضعف والهرم والخرف فهو كقوله تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي
الْخَلْقِ) [يس : ٦٨] وقوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤]
وقوله إلا الذين آمنوا بعد هذا غير متصل بما قبله ، والاستثناء على هذا القول
منقطع بمعنى لكن لأنه خارج عن معنى الكلام الأول. والآخر أن حسن التقويم : الفطرة
على الإيمان وأسفل سافلين الكفر أو تشويه الصورة في النار ، والاستثناء على هذا
متصل ، لأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يردوا أسفل سافلين (غَيْرُ مَمْنُونٍ) قد ذكر (فَما يُكَذِّبُكَ
بَعْدُ بِالدِّينِ) فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم والدين شريعته ، والمعنى المعنى أي شيء يكذبك بالدين بعد
هذه الدلائل التي تشهد بصحة نبوّتك؟ والآخر أنه خطاب للإنسان الكافر ، والدين على
هذا الشريعة أو الجزاء الأخروي ومعنى يكذبك على هذا يجعلك كاذبا ، لأن من أنكر
الحق فهو كاذب والمعنى أي شيء يجعلك كاذبا بسبب كفرك بالدين بعد أن علمت أن الله
خلقك في أحسن تقويم ، ثم ردّك أسفل سافلين ، ولا شك أنه يقدر على بعثك كما قدر على
هذا ، فلأي شيء تكذب بالبعث والجزاء؟ (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)؟ تقرير ووعيد للكفار بأن يحكم عليهم بما يستحقون وكان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إذا قرأها قال : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
سورة العلق
مكية وآياتها ١٩
وهي أول ما نزل من القرآن
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
نزل صدرها بغار
حراء ، وهو أول ما نزل من القرآن حسبما ورد عن عائشة في الحديث الذي ذكرناه في أول
الكتاب (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) فيه وجهان : أحدهما أن معناه اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك
، أو متبركا باسم ربك وموضع باسم ربك نصب على الحال ولذا كان تقديره : مفتتحا ،
فيحتمل أن يريد ابتداء القراءة بقول : بسم الله الرحمن الرحيم أو يريد الابتداء
باسم الله مطلقا والوجه الثاني أن معناه اقرأ هذا اللفظ وهو باسم ربك الذي خلق
فيكون باسم ربك مفعولا وهو المقروء (الَّذِي خَلَقَ) حذف المفعول لقصد العموم كأنه قال : الذي خلق كل شيء ، ثم
خصص خلقة الإنسان لما فيه من العجائب والعبر ، ويحتمل أنه أراد الذي خلق الإنسان
كما قال (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثم فسره بقوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ عَلَقٍ) والعلق جمع علقة ، وهي النطفة من الدم والمراد بالإنسان
هنا جنس بني آدم ، ولذلك جمع العلق لما أراد الجماعة بخلاف قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج : ٥] لأنه
أراد كل واحد على حدته ، ولم يدخل آدم في الإنسان هنا لأنه لم يخلق من علقة وإنما
خلق من طين (اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ) كرر الأمر بالقراءة تأكيدا والواو للحال والمقصود تأنيس
النبي صلىاللهعليهوسلم كأنه يقول : افعل ما أمرت به فإن ربك كريم. وصيغة أفعل
للمبالغة (الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ) هذا تفسير للأكرم فدل على أن نعمة التعليم أكبر نعمة ، وخص
من التعليمات الكتابة بالقلم لما فيها من تخليد العلوم ومصالح الدين والدنيا ،
وقرأ ابن الزبير : علم الخط بالقلم (عَلَّمَ الْإِنْسانَ
ما لَمْ يَعْلَمْ) يحتمل أن يريد بهذا التعليم الكتابة ، لأن الإنسان لم يكن
يعلمها في أول أمره أو يريد التعليم لكل شيء على الإطلاق ، وقيل : إن الإنسان هنا
سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، والأظهر أنه جنس الإنسان على العموم.
(كَلَّا إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى) نزل هذا وما بعده إلى آخر السورة في أبي جهل بعد نزول
صدرها بمدة ، وذلك أنه كان يطغى بكثرة ماله ويبالغ في عداوة النبي صلى الله عليه
وعلى
آله وسلم ، وكلا
هنا يحتمل أن تكون زجرا لأبي جهل أو بمعنى حقا أو استفتاحا (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) في موضع المفعول من أجله ، أي يطغى من أجل غناه. والرؤية
هنا بمعنى العلم ، بدليل إعمال الفعل في الضمير. ولا يكون ذلك إلا في أفعال القلوب
، والمعنى رأى نفسه استغنى واستغنى هو المفعول الثاني (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) هذا تهديد لأبي جهل وأمثاله (أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) اتفق المفسرون أن العبد الذي صلى هو سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأن الذي نهاه أبو جهل لعنه الله وسبب الآية أن أبا جهل
جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يصلي في المسجد الحرام فهم بأن يصل إليه ويمنعه من
الصلاة ، وروي أنه قال : لئن رأيته يصلي ، لأطأنّ عنقه فجاءه وهو يصلي ثم انصرف
عنه مرعوبا فقيل له ما هذا؟ فقال لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا.
(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ
عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أرأيت في الموضوع
الذي قبله والذي بعده بمعنى : أخبرني ؛ فكأنه سؤال يفتقر إلى جواب وفيها معنى
التعجيب والتوقيف والخطاب فيها يحتمل أن يكون للنبي صلىاللهعليهوسلم ، أو لكل مخاطب من غير تعيين ، وهي تتعدى إلى مفعولين
وجاءت بعدها إن الشرطية في موضعين وهما قوله : (إِنْ كانَ عَلَى
الْهُدى) وقوله : (إِنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى) فيحتاج إلى كلام في مفعولي أرأيت في المواضع الثلاثة ، وفي
جواب الشرطين وفي الضمائر المتصلة بهذه الأفعال ، وهي إن كان على الهدى ، وأمر
بالتقوى وكذب وتولى ، على من تعود هذه الضمائر؟ فقال الزمخشري : إن قوله الذي ينهى
هو المفعول الأول لقوله : أرأيت الأولى وأن الجملة الشرطية بعد ذلك في موضع
المفعول الثاني ، وكررت أرأيت بعد ذلك للتأكيد فهي زائدة لا تحتاج إلى مفعول وإن
قوله : ألم يعلم بأن الله يرى هو جواب قوله إن كذب وتولى فهو في المعنى جواب
للشرطين معا ، وأن الضمير في قوله : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للذي نهى عن الصلاة
وهو أبو جهل ، وكذلك الضمير في قوله إن كذب وتولى وتقدير الكلام على هذا : أخبرني
عن الذي ينهى عبدا إذا صلى ، إن كان هذا الناهي على الهدى أو كذب وتولى؟ ألم يعلم
بأن الله يرى جميع أحواله من هداه وضلاله وتكذيبه ونهيه عن الصلاة وغير ذلك؟
فمقصود الآية تهديد له وزجر وإعلام بأن الله يراه.
وخالفه ابن عطية
في الضمائر فقال : إن الضمير في قوله : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للعبد
الذي صلى ، وأن الضمير في قوله : إن كذب وتولى للذي نهى عن الصلاة ، وخالفه أيضا
في جعله أرأيت الثانية مكررة للتأكيد وقال : إنها في المواضع الثلاثة توقيف [سؤال]
وأن جوابه في المواضع الثلاثة قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى) فإنه
يصلح مع كل مع
واحد منها ، ولكنه جاء في آخر الكلام اختصارا.
وخالفهما أيضا
الغزنوي في الجواب فقال : إن جواب قوله : إن كان على الهدى محذوف فقال : إن تقديره
إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أليس هو على الحق واتباعه واجب ، والضمير على هذا
يعود على العبد الذي صلى وفاقا لابن عطية (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أوعد أبا جهل إن لم ينته عن كفره وطغيانه أن يؤخذ بناصيته
فيلقى في النار ، والناصية مقدم الرأس فهو كقوله : (فَيُؤْخَذُ
بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١]
والسفع هنا الجذب والقبض على الشيء ، وقيل : هو الإحراق من قولك سفعته النار وأكد
لنسفعن باللام والنون الخفيفة ، وكتبت في المصحف بالألف مراعاة للوقف ، ويظهر لي
أن هذا الوعيد نفذ عليه يوم بدر حين قتل وأخذ بناصيته فجرّ إلى القليب (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أبدل ناصية من الناصية ، ووصفها بالكذب والخطيئة تجوزا ،
والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها ، والخاطئ الذي يفعل الذنب متعمدا ، والمخطئ
الذي يفعله بغير قصد (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) النادي والنّدي المجلس الذي يجتمع فيه الناس ، وكان أبو
جهل قد قال : أيتوعدني محمد فو الله ما بالوادي أعظم ناديا مني فنزلت الآية تهديدا
وتعجيزا له ، والمعنى : فليدع أهل ناديه لنصرته إن قدروا على ذلك ، ثم أوعده بأن
يدعو له زبانية جهنم ، وهم الملائكة الموكلون بالعذاب ، الزبانية في اللغة الشرط
واحدهم زبنية : وقيل : زبني وفي الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي تقرب إلى الله بالسجود كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاجتهدوا في الدعاء وهذا موضع سجدة عند الشافعي وليست عند
مالك من عزائم السجود
__________________
سورة القدر
مكية وآياتها ٥
نزلت بعد عبس
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
اختلف الناس في
ليلة القدر على ستة عشر قولا وهي أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان ، وليلة ثلاث
وعشرين ، وليلة خمس وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وليلة تسع وعشرين ، فهذه خمسة
أقوال في ليالي الأوتار من العشر الأواخر من رمضان ، على قول من ابتدأ عدّتها من
أول العشر. وقد ابتدأ بعضهم عدتها من آخر الشهر ، فجعل ليالي الأوتار ليلة ثلاثين
، لأنها الأولى وليلة ثمان وعشرين لأنها الثانية ، وليلة ستة وعشرين لأنها الخامسة
، وليلة أربع وعشرين ، لأنها السابعة وليلة اثنين وعشرين لأنها التاسعة فهذه خمسة
أقوال أخر. فتلك عشرة أقوال والقول الحادي عشر أنها تدور في العشر الأواخر ، ولا
تثبت في ليلة واحدة منه. الثاني عشر أنها مخفية في رمضان كله وهذا ضعيف لقوله صلىاللهعليهوسلم : التمسوها في العشر الأواخر . الثالث عشر : أنها مخفية في العام كله. الرابع عشر أنها
ليلة النصف من شعبان وهذان القولان باطلان لأن الله تعالى قال : إنا أنزلناه في
ليلة القدر وقال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، فدل ذلك على أن ليلة القدر في
رمضان. القول الخامس عشر أنها رفعت بعد النبي صلىاللهعليهوسلم وهذا ضعيف. القول السادس عشر أنها ليلة سبعة عشر من رمضان
لأن وقعة بدر كانت صبيحة هذه الليلة.
وأرجح الأقوال
أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان أو ليلة ثلاث وعشرين أو ليلة سبع وعشرين فقد جاءت
في هذه الليالي الثلاث أحاديث صحيحة خرجها مسلم وغيره والأشهر أنها ليلة سبع
وعشرين (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الضمير في أنزلناه للقرآن ، دل على ذلك سياق الكلام ، وفي
ذلك تعظيم للقرآن من ثلاثة أوجه : أحدها أنه ذكر ضميره دون اسمه الظاهر دلالة على
شهرته والاستغناء عن تسميته ، الثاني أنه اختار لإنزاله أفضل الأوقات والثالث أن
الله أسند إنزاله إلى نفسه وفي كيفية إنزاله في ليلة القدر قولان : أحدهما أنه
ابتدأ إنزاله فيها والآخر أنه أنزل القرآن فيها جملة واحدة إلى السماء ثم نزل به
جبريل إلى الأرض بطول عشرين سنة وقيل : المعنى أنزلناه في شأن ليلة القدر وذكرها
وهذا ضعيف
__________________
وسميت ليلة القدر
من تقدير الأمور فيها أو من القدر بمعنى الشرف ، ويترجح الأول بقوله فيها يفرق كل
أمر حكيم (وَما أَدْراكَ ما
لَيْلَةُ الْقَدْرِ) هذا تعظيم لها ، قال بعضهم : كل ما قال فيه ما أدراك فقد
علمه النبي صلىاللهعليهوسلم وما قال فيه ما يدريك فإنه لا يعلمه (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ) معناه أن من قامها كتب الله له أجر العبادة في ألف شهر ،
قال بعضهم يعني في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم
من ذنبه وسبب الآية أن
رسول الله تعالى عليه وسلم ذكر رجلا ممن تقدم عبد الله ألف شهر ، فعجب المسلمون من
ذلك ورأوا أن أعمارهم تنقص عن ذلك ، فأعطاهم الله ليلة القدر وجعلها خيرا من
العبادة في تلك المدة الطويلة.
وروي أن الحسن بن
علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عوتب حين بايع معاوية فقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ،
وأعلمه أنهم يملكون أمر الناس ألف شهر ، فاهتم لذلك ، فأعطاه الله ليلة القدر وهي
خير من ملك بني أمية ألف شهر ، ثم كشف الغيب أنه كان من بيعة الحسن لمعاوية إلى
قتل مروان الجعدي آخر ملوك بني أمية بالمشرق ألف شهر (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) الروح هنا جبريل عليهالسلام ، وقيل : صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك
الليلة وتنزّلهم هو إلى الأرض ، وقيل : إلى السماء الدنيا وهو تعظيم لليلة القدر
ورحمة للمؤمنين القائمين فيها (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) هذا متعلق بما قبله ، والمعنى أن الملائكة ينزلون ليلة
القدر من أجل كل أمر ، يقضي الله في ذلك العام. فإنه روي أن الله يعلم الملائكة
بكل ما يكون في ذلك العام من الآجال والأرزاق وغير ذلك ، ليمتثلوا ذلك في العام
كله ، وقيل : على هذا المعنى أن من بمعنى الباء أي ينزلون بكل أمر وهذا ضعيف وقيل
: إن المجرور يتعلق بعده والمعنى أنها سلام من كل أمر أي سلامة من الآفات ، قال
مجاهد : لا يصيب أحد فيها داء.
والأظهر أن الكلام
تمّ عند قوله : من كل أمر. ثم ابتدأ قوله : سلام هي واختلف في معنى سلام فقيل ؛
إنه من السلامة وقيل : إنه من التحية ، لأن الملائكة يسلمون على المؤمنين القائمين
فيها ، وكذلك اختلف في إعرابه فقيل : سلام هي مبتدأ وخبر وهذا يصح سواء جعلناه
متصلا مع ما قبله أو منقطعا عنه ، وقيل : سلام. خبر مبتدأ مضمر تقديره : أمرها
سلام أو : القول فيها سلام. وهي مبتدأ خبره حتى مطلع الفجر أي هي دائمة إلي طلوع الفجر ، ويختلف الوقف باختلاف
الإعراب وقال ابن عباس : إن قوله هي إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين ، لأن هذه
الكلمة هي السابعة والعشرين من كلمات السورة.
__________________
سورة البيّنة
مدنية وآياتها ٨
نزلت بعد الطلاق
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
ذكر الله الكفار
ثم قسمهم إلى صنفين أهل الكتاب والمشركين ، وذكر أن جميعهم لم يكونوا منفكين حتى
تأتيهم البينة ، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ومعنى منفكين : منفصلين ، ثم اختلف في هذا الانفصال على
أربعة أقوال : أحدها أن المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة
لتقوم عليهم الحجة. الثاني لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم حتى بعثه الله. الثالث اختاره ابن عطية وهو لم يكونوا
منفصلين عن نظر الله وقدرته ، حتى يبعث الله إليهم رسولا يقيم عليهم الحجة الرابع
وهو الأظهر عندي أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا من الدنيا حتى بعث الله لهم سيدنا
محمدا صلىاللهعليهوسلم فقامت عليهم الحجة ، لأنهم لو انفصلت الدنيا دون بعثه : (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] فلما
بعثه الله لم يبق لهم عذر ولا حجة ، فمنفكين على هذا كقولك : لا تبرح أو لا تزول
حتى يكون كذا وكذا (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) يعني سيدنا محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وإعرابه بدل من البينة أو خبر ابتداء مضمر (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) يعني القرآن في صحفه (فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ) أي قيمة بالحق مستقيمة بالمعاني ، ووزن قيّمة فيعلة وفيه
مبالغة قال ابن عطية : هذا على حذف مضاف تقديره : فيها أحكام كتب ولا يحتاج هذا
إلى الحذف لأن الكتب بمعنى المكتوبات.
(وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم إلا من بعد ما علموا أنه حق ، ويحتمل أن يريد تفرقهم في
دينهم كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) [فصلت : ٤٥] وإنما
خص الذين أوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم مع غيرهم في أول السورة ؛ لأنهم كانوا
يعلمون صحة نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه تعالى وآله وسلم ، بما يجدون في كتبهم
من ذكره (وَما أُمِرُوا) الآية : هنا معناها : ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا
بعبادة الله ، ولكنهم حرّفوا أو بدّلوا ، ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في
القرآن إلا بعبادة الله ، فلأيّ شيء ينكرونه ويكفرون به (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء ، وهو بعيد
لأن الإخلاص هنا يراد
به التوحيد وترك
الشرك أو ترك الرياء ، وذلك أن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال ، وهذا
الإخلاص في التوحيد من الشرك الجليّ ، وهذا الإخلاص في الأعمال من الشرك الخفيّ ،
وهو الرياء. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الرياء الشرك الأصغر وقال صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن ربه إنه تعالى يقول «أنا أغنى الأغنياء عن
الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه» .
واعلم أن الأعمال
ثلاثة أنواع : مأمورات ومنهيات ومباحات فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن
خلوص النية لوجه الله ، بحيث لا يشوبها بنية أخرى ، فإن كانت كذلك فالعمل خالص
مقبول ، وإن كانت النية لغير وجه الله ، من طلب منفعة دنيوية ، أو مدح أو غير ذلك
فالعمل رياء محض مردود ، وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال.
وأما المنهيات فإن تركها دون نية خرج عن عهدتها ، ولم يكن له أجر في تركها وإن
تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر ، وأما المباحات كالأكل
والنوم والجماع وشبه ذلك فإن فعلها بغير نية لم يكن فيها أجر ، وإن فعلها بنية وجه
الله فله فيها أجر ، فإن كل مباح يمكن أن يصير قربة إذا قصد به وجه الله مثل أن
يقصد بالأكل القوة على العبادة ويقصد بالجماع التعفف عن الحرام (حُنَفاءَ) جمع حنيف وقد ذكر (وَذلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ) تقديره : الملة القيمة ، أو الجماعة القيمة وقد فسرنا
القيمة ومعناها أن الذي أمروا به من عبادة الله والإخلاص له وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة هو دين الإسلام فلأيّ شيء لا يدخلون فيه؟ (الْبَرِيَّةِ) الخلق لأن الله برأهم وأوجدهم بعد العدم. وقرأ [نافع وابن
عامر البريئة] بالهمز وهو الأصل و [الباقون] بالياء وهو تخفيف من المهموز ، وهو
أكثر استعمالا عند العرب.
(رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) اختلف هل هذا في الدنيا أو في الآخرة؟ فرضاهم عن الله في
الدنيا هو الرضا بقضائه والرضا بدينه قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد
رسولا ، ورضاهم عنه في الآخرة : هو رضاهم بما أعطاهم الله فيها ، أو رضا الله عنهم
لما ورد في الحديث أن الله يقول : يا أهل الجنة هل تريدون شيئا أزيدكم فيقولون يا
ربنا وأي شيء نريد وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول عندي أفضل من ذلك
وهو رضواني فلا أسخط عليكم أبدا (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
رَبَّهُ) أي لمن خافه وهذا دليل على فضل الخوف قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم خوف الله رأس كل حكمة .
__________________
سورة الزلزلة
مدنية وآياتها ٨
نزلت بعد النساء
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ) أي حركت واهتزت (زِلْزالَها) مصدر وإنما أضيف إليها تهويلا كأنه يقول الزلزلة التي تليق
بها على عظم جرمها (وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها) يعني الموتى الذين في جوفها ، وذلك عند النفخة الثانية في
الصور. وقيل : هي الكنوز وهذا ضعيف لأن إخراجها للكنوز وقت الدجال (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) أي يتعجب من شأنها فيحتمل أن يريد جنس الإنسان أو الكافر
خاصة ؛ لأنه الذي يرى حينئذ ما لا يظن (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبارَها) هذه عبارة عما يحدث فيها من الأهوال فهو مجاز وحديث بلسان الحال
وقيل : هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظهرها فهو حقيقة ، وتحدّث يتعدّى إلى
مفعولين حذف المفعول منهما ، والتقدير تحدث الخلق أخبارها ، وانتزع بعض المحدثين
من قوله تحدّث أخبارها أن قول المحدّث حدثنا وأخبرنا سواء ، وهذه الجملة هي جواب
إذا زلزلت وتحدث هو العامل في إذا. ويومئذ بدل من إذا ويجوز أن يكون العامل في إذا
مضمر وتحدث عامل في يومئذ (بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى لَها) الباء سببية متعلقة بتحدث أي تحدث بسبب أن الله أوحى لها ،
ويحتمل أن يكون بأن الله أوحى لها بدلا من إخبارها وهذا كما تقول : حدثت كذا وحدثت
بكذا والمعنى على هذا تحدث بحديث الوحي لها ، وهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما أو
كلاما بواسطة الملائكة ولها بمعنى إليها ، وقيل : معناها أوحى إلى الملائكة من
أجلها وهذا بعيد.
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتاتاً) مختلفين في أحوالهم ، وواحد الأشتات شتيت وصدر الناس : هو
انصرافهم من موضع وردهم فقيل : الورد هو الدفن في القبور والصدر : هو القيام
للبعث. وقيل الورد القيام للحشر ، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار. وهذا أظهر.
وفيه يعظم التفاوت بين أحوال الناس فيظهر كونهم أشتاتا (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ) المثقال هو الوزن والذرة هي النملة الصغيرة ، والرؤية هنا
ليست برؤية بصر
__________________
وإنما هي عبارة عن
الجزاء. وذكر الله مثقال الذرة تنبيها على ما هو أكثر منه من طريق الأولى ، كأنه
قال : من يعمل قليلا أو كثيرا وهذه الآية هي في المؤمنين ، لأن الكافر لا يجازى في
الآخرة على حسناته ، إذ لم تقبل منه. واستدل أهل السنة بهذه الآية : أنه لا يخلد
مؤمن في النار ؛ لأنه إذا خلد لم ير ثوابا على إيمانه وعلى ما عمل من الحسنات ،
وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فقيل لها في ذلك ؛ فقالت : كم فيها من مثقال
ذرة ، وسمع رجلا هذه الآية عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : حسبي الله لا أبالي أن أسمع غيرها (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) هذا على عمومه في حق الكافر ، وأما المؤمنون فلا يجازون
بذنوبهم إلا بستة شروط : وهي أن تكون ذنوبهم كبائر ، وأن يموتوا قبل التوبة منها
وأن لا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها ، وأن لا يشفع فيهم وأن لا يكون ممن
استحق المغفرة بعمل كأهل بدر ، وأن لا يعفو الله عنهم فإن المؤمن العاصي في مشيئة
الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له.
__________________
سورة العاديات
مكية وآياتها ١١
نزلت بعد العصر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
اختلف في العاديات
والموريات والمغيرات هل يراد بها الخيل أو الإبل؟ وعلى القول بأنها الخيل اختلف هل
يعني خيل المجاهدين أو الخيل على الإطلاق؟ وعلى القول بأنها الإبل اختلف هل يعني
إبل غزوة بدر أو إبل المجاهدين مطلقا ، أو إبل الحجاج أو الإبل على الإطلاق؟ ومعنى
العاديات التي تعدو في مشيها ، والضبح هو تصويت جهير عند العدو الشديد ، ليس
بصهال. وهو مصدر منصوب على تقدير : يضبحن ضبحا أو هو مصدر في موضع الحال تقديره :
العاديات في حال ضبحها ، والموريات من قولك أوريت النار إذا أوقدتها ، والقدح هو
صك الحجارة فيخرج منها شعلة نار. وذلك عند ضرب الأرض لأرجل الخيل أو الإبل ،
وإعراب قدحا كإعراب صبحا ، والمغيرات من قولك : أغارت الخيل إذا خرجت للإغارة على
الأعداء ، وصبحا ظرف زمان لأن عادة أهل الغارة في الأكثر أن يخرجوا في الصباح (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) هذه الجملة معطوفة على العاديات وما بعده لأنه في تقدير
التي تعدو ، والنقع : الغبار والضمير المجرور للوقت المذكور وهو الصبح ، فالباء
ظرفية أو لكان الذي يقتضيه المعنى ، فالباء أيضا ظرفية أو للعدو ، وهو المصدر الذي
يقتضيه العاديات. فالباء سببية ومعنى أثرن حركن والضمير الفاعل للإبل أو للخيل أي
حركن الغبار عند مشيهن (فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعاً) معنى وسطن توسطن ، وجمعا اختلف هل المراد به جمع من الناس
أو المزدلفة لأن اسمها جمع والضمير المجرور للوقت أو للمكان أو للعدو
أو للنقع.
(إِنَّ الْإِنْسانَ
لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم والكنود الكفور للنعمة فالتقدير : إن
__________________
الإنسان لنعمة ربه
لكفور ، والإنسان جنس ، وقيل : الكنود العاصي ، وقال بعض الصوفية : الكنود هو الذي
يعبد الله على عوض [بمقابل] (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ
لَشَهِيدٌ) الضمير للإنسان أي هو شاهد على نفسه بكنوده ، وقيل : هو
لله تعالى على معنى التهديد : والأول أرجح لأن الضمير الذي بعده الإنسان باتفاق ،
فيجري الكلام على نسق واحد (وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) الخير هنا المال ، كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠]
والمعنى أن الإنسان شديد الحب للمال ، فهو ذم لحبه والحرص عليه ، وقيل : الشديد :
البخيل ، والمعنى على هذا أنه بخيل من أجل حب المال ، والأول أظهر (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أي بحث عند ذلك عبارة عن البعث (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي جمع ما في الصحف وأظهر محصلا أو ميز خيره من شره (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَخَبِيرٌ) الضمير في ربهم وبهم يعود على الإنسان ، لأنه يراد به
الجنس وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما أن هذه الجملة معمول أفلا يعلم فكان الأصل أن
تفتح إن ، ولكنها كسرت من أجل اللام التي في خبرها الثاني أن تكون هذه الجملة
مستأنفة ويكون معمول أفلا يعلم محذوفا ويكون الفاعل ضميرا يعود على الإنسان
والتقدير : أفلا يعلم الإنسان حاله وما يكون منه إذا بعثر ما في القبور؟ وهذا هو
الذي قاله ابن عطية ويحتمل عندي أن يكون فاعل أفلا يعلم ضميرا يعود على الله ،
والمفعول محذوف والتقدير : أفلا يعلم الله أعمال الإنسان إذا بعثر ما في القبور ،
ثم استأنف قوله إن ربهم بهم يومئذ لخبير على وجه التأكيد ، أو البيان للمعنى
المتقدم ، والعامل في إذا بعثر على هذا الوجه هو أفلا يعلم والعمل فيه على مقتضى
قول ابن عطية هو المفعول المحذوف ، وإذا هنا ظرفية بمعنى حين ووقت وليست بشرطية ،
والعامل في يومئذ خبير ، وإنما خص ذلك بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء بقصد التهديد
، مع أن الله خبير على الإطلاق.
سورة القارعة
مكية وآياتها ١١
نزلت بعد قريش
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بهولها ، وقيل : هي
النفخة في الصور لأنها تقرع الأسماع (مَا الْقارِعَةُ) مبتدأ وخبر في موضع خبر القارعة ، والمراد به تعظيم شأنها
، كذلك (وَما أَدْراكَ مَا
الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) العامل في الظرف محذوف دل عليه القارعة تقديره ، تقرع في
يوم ، والفراش هو الطير الصغير الذي يشبه البعوض ، ويدور حول المصباح. والمبثوث هو
المنتشر المفترق. شبّه الله الخلق يوم القيامة به في كثرتهم وانتشارهم وذلتهم ،
ويحتمل أنه شبههم به لتساقطهم في جهنم. كما يتساقط الفراش في المصباح. قال بعض
العلماء : الناس في أول قيامهم من القبور كالفراش المبثوث ، لأنهم يجيئون ويذهبون
على غير نظام ، ثم يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر ؛ فيكونون حينئذ
كالجراد المنتشر. لأن الجراد يقصد إلى جهة واحدة ، وقيل :
الفراش هنا الجراد
الصغير وهو ضعيف (وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن هو الصوف ، وقيل : الصوف الأحمر وقيل : الصوف الملون
ألوانا ، شبّه الله الجبال يوم القيامة به ، لأنها تنسف فتصير لينة ، وعلى القول
بأنه الملون يكون التشبيه أيضا من طريق اختلاف ألوان الجبال ؛ لأن منها بيضاء
وحمراء وسوداء.
(مَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ) هو جمع ميزان أو جمع موزون ، وميزان الأعمال يوم القيامة
له لسان وكفتان عند الجمهور ، وقال قوم : هو عبارة عن العدل (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) معناه ذات رضا عند سيبويه : وثقل الموازين بكثرة الحسنات
وخفتها بقلتها ، ولا يخف ميزان مؤمن خفة موبقة لأن الإيمان يوزن فيه (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما أن الهاوية جهنم سميت بذلك لأن
الناس يهوون فيها أي يسقطون ، وأمه معناه مأواه كقولك : المدينة أم فلان أي مسكنه
على التشبيه بالأمّ الوالدة لأنها مأوى الولد ومرجعه. الثاني أن الأم هي الوالدة ،
وهاوية ساقطة وذلك
عبارة عن هلاكه كقولك : أمه ثكلى إذا هلك : الثالث أن المعنى أم رأسه هاوية في
جهنم. أي ساقطة فيها ، لأنه يطرح فيها منكوسا ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لرجل : لا أمّ لك فقال : يا رسول الله تدعوني إلى
الهدى وتقول لي لا أمّ لك؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنما أردت لا نار لك ، قال الله تعالى : فأمه هاوية وهذا
يؤيد القول الأول (وَما أَدْراكَ ما
هِيَهْ) الهاء للسكت والضمير لجهنم على القول بأنها الهاوية ، وهو
للفعلة والخصلة التي يراد بها العذاب على القول الثاني والثالث ، والمقصود تعظيمها
ثم فسرها بقوله (نارٌ حامِيَةٌ).
سورة التكاثر
مكية وآياتها ٨
نزلت بعد الكوثر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ) هذا خبر يراد به الوعظ والتوبيخ ، ومعنى ألهاكم شغلكم
والتكاثر المباهاة بكثرة المال والأولاد ، وأن يقول هؤلاء : نحن أكثر ويقول هؤلاء
: نحن أكثر ، ولما قرأها النبي صلىاللهعليهوسلم قال : يقول ابن آدم مالي مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت
فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت (حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقابِرَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما أن معناه حتى متم فأراد بزيارة
المقابر الدفن فيها. الثاني أن معناه حتى ذكرتم الموتى الذين في المقابر ، فعبّر
بزيارتها عن التفاخر بمن فيها ؛ لأن بعض العرب تفاخر بآبائها الموتى. فالمعنى (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) حتى بلغتم فيه إلى ذكر الموتى : الثالث أن معناها زيارة
المقابر حقيقة لتعظيم أهلها والتفاخر بهم فيقال : هذا قبر فلان ليشهر ذكره ويعظم
قدره (كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ) زجر وتهديد ، ثم كرره للتأكد وعطفه بثم إشارة إلى أن
الثاني أعظم من الأول ، وقيل : الأول تهديد للكفار والثاني : تهديد للمؤمنين وحذف
معمول تعلمون وتقديره ما يحل بكم ، أو تعلمون أن القرآن حق ، أو تعلمون أنكم كنتم
على خطأ في اشتغالكم بالدنيا ، وإنما حذفه لقصد التهويل فيقدر السامع أعظم ما يخطر
بباله.
(لَوْ تَعْلَمُونَ
عِلْمَ الْيَقِينِ) جواب لو محذوف تقديره لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة
، فينبغي الوقف على اليقين ومعمول لو تعملون محذوف أيضا وعلم اليقين مصدر ومعنى
علم اليقين : العلم الذي لا يشك فيه. قال بعضهم : هو من إضافة الشيء إلى نفسه
كقولك : دار الآخرة وقال الزمخشري : معناه علم الأمور التي تتيقنونها بالمشاهدة (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) هذا جواب قسم محذوف ، وهو تفسير لمفعول لو تعلمون تقديره :
لو تعلمون
__________________
عاقبة أمركم ثم
فسرها بأنها رؤية الجحيم ، والتفسير بعد الإبهام يدل على التهويل والتعظيم.
والخطاب لجميع الناس فهو كقوله : [وإن منكم إلا واردها] [مريم : ٧١] وقيل : للكفار
خاصة ، فالرؤية على هذا يراد بها الدخول فيها (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها
عَيْنَ الْيَقِينِ) هذا تأكيد للرؤية المتقدمة وعطفه بثم للتهويل والتفخيم ،
والعين هنا من قولك : عين الشيء نفسه وذاته ، أي لترونها الرؤية التي هي نفس
اليقين (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) هذا إخبار بالسؤال في الآخرة عن نعيم الدنيا ، فقيل :
النعيم الأمن والصحة ، وقيل : الطعام والشراب ، وهذه أمثلة ، والصواب العموم في كل
ما يتلذذ به قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بيت يكنّك [يؤويك] وخرقة تواريك وكسرة تشدّ قلبك وما سوى
ذلك فهو نعيم ، وقال صلىاللهعليهوسلم كل نعيم فمسؤول عنه إلا نعيم في سبيل الله ، وأكل صلىاللهعليهوسلم يوما مع أصحابه رطبا وشربوا عليه ماء فقال لهم هذا من
النعيم الذي تسئلون عنه .
__________________
سورة العصر
مكية وآياتها ٣
نزلت بعد الشرح
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(وَالْعَصْرِ) فيه ثلاثة أقوال : الأول أنه صلاة العصر أقسم الله بها
لفضلها ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله : الثاني أنه العشيّ أقسم به كما أقسم بالضحى ، ويؤيد هذا
قول أبيّ بن كعب : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن العصر فقال : أقسم ربكم بآخر النهار : الثالث أنه
الزمان (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) الإنسان جنس ولذلك استثنى منه الذين آمنوا فهو استثناء
متصل (وَتَواصَوْا
بِالْحَقِ) أي وصى بعضهم بعضا بالحق وبالصبر ، فالحق هو الإسلام وما
يتضمنه ، وفيه إشارة إلى كذب الكفار ، وفي الصبر إشارة إلى صبر المؤمنين على إذاية
الكفار لهم بمكة.
__________________
سورة الهمزة
مكية وآياتها ٩
نزلت بعد القيامة
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
(وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) هو على الجملة الذي يعيب الناس ويأكل أعراضهم ، واشتقاقه
من الهمز واللمز ، وصيغة فعلة للمبالغة ، واختلف في الفرق بين الكلمتين فقيل :
الهمز في الحضور ، واللمز في الغيبة وقيل : بالعكس. وقيل : الهمز باليد والعين ،
واللمز باللسان ، وقيل : هما سواء. ونزلت السورة في الأخنس بن شريق لأنه كان كثير
الوقيعة في الناس وقيل : في أمية بن خلف ، وقيل في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع
ذلك على العموم في كل من اتصف بهذه الصفات (وَعَدَّدَهُ) أي أحصاه وحافظ على عدده أن لا ينقص فمنعه من الخيرات ،
وقيل : معناه استعدّه وادّخره عدّة لحوادث الدهر (يَحْسَبُ أَنَّ
مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن لفرط جهله واغتراره أن ماله يخلده في الدنيا ، وقيل
: يظن أن ماله يوصله إلى دار الخلد (كَلَّا) رد عليه فيما ظنه (لَيُنْبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ) هذا جواب قسم محذوف والحطمة هي جهنم ، وإنما سميت حطمة
لأنها تحطم ما يلقى فيها ، وتلتهبه وقد عظّمها بقوله : وما أدراك ثم فسّرها بأنها (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي
تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي : تبلغ القلوب بإحراقها قال ابن عطية : يحتمل أن يكون
المعنى أنها تطلع على ما في القلوب من العقائد والنيّات باطلاع الله إياها (مُؤْصَدَةٌ) مغلقة (فِي عَمَدٍ
مُمَدَّدَةٍ) العمد جمع عمود وهو عند سيبويه اسم جمع وقرأ [حمزة
والكسائي وأبو بكر] في عمد بضمتين ، والعمود هو : المستطيل من حديد أو خشب [أو حجر]
والممددة الطويلة ، وفي المعنى قولان : أحدهما أن أبواب جهنم أغلقت عليهم ، ثم مدت
على أبوابها عمد تشديدا في الإغلاق والثقاف كما تثقف أبواب البيوت بالعمد ، وهو
على هذا متعلق بمؤصدة ، والآخر أنهم موثوقون مغلولون في العمد ، فالمجرور على هذا
في موضع خبر مبتدأ مضمر تقديره : هم موثوقون في عمد.
__________________
سورة الفيل
مكية وآياتها ٥
نزلت بعد الكافرون
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
نزلت هذه السورة
منبهة على العبرة في قصة الفيل ، التي وقعت في عام مولد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإنها تدل على كرامة الله للكعبة ، وإنعامه على قريش
بدفع العدو عنهم ، فكان يجب عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به ، وفيها مع ذلك عجائب
من قدرة الله وشدة عقابه ، وقد ذكرت القصة في كتب السير وغيرها واختصارها : أن
أبرهة ملك الحبشة بنى بيتا باليمن ، وأراد أن يحج الناس إليه كما يحجون إلى الكعبة
فذهب أعرابي وأحدث في البيت [قضى حاجته] فغضب أبرهة وحلف أن يهدم الكعبة ، فاحتفل
في جموعه وركب الفيل وقصد مكة. فلما وصل قريبا منها فرّ أهلها إلى الجبال وأسلموا
له الكعبة ، وأخذ لعبد المطلب مائتي بعير. فكلّمه فيها فقال له : كيف تكلمني في
الإبل ولا تكلمني في الكعبة ، وقد جئت لهدمها وهي شرفك وشرف قومك؟ فقال له : أنا
رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه فبرك الفيل بذي الغميس ، ولم يتوجه إلى مكة فكانوا
إذا وجهوه إلى غيرها هرول ، وإذا وجهوه إليها توقف ولو بضعوه بالحديد ، فبينما هم
كذلك أرسل الله عليهم طيورا سودا وقيل : خضرا عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره
ورجليه ، فرمتهم الطيور بالحجارة ، فكان الحجر يقتل من وقع عليه ووقع في سائرهم
الجدري والأسقام. وانصرفوا فماتوا في الطريق متفرقين في المراحل وتقطع أبرهة أنملة
أنملة.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ) معناه : ألم تعلم وكيف في موضع نصب بفعل ربك لا بألم تر
والجملة معمول ألم تر في تضليل أي إبطال وتخسير (أَبابِيلَ) معناها جماعات شيئا بعد شيء قال الزمخشري واحدها أبالة
وقال جمهور الناس هو جمع لا واحد له من لفظه (بِحِجارَةٍ) روي أن كل حجر منها كان فوق العدسة ودون الحمصة. قال ابن
عباس : إنه أدرك عند أم هانئ نحو قفتين من هذه الحجارة ، وأنها كانت مخططة بحمرة
وروي أنه كان على كل حجر اسم من يقع عليه مكتوبا (سِجِّيلٍ) قد ذكر (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) العصف ورق الزرع وتبنه والمراد أنهم صاروا رميما ، وفي
تشبيههم به ثلاثة أوجه الأول أنه شبههم بالتبن إذا أكلته الدواب ثم راثته فجمع
التلف والخسة ، ولكن الله كنّى عن هذا على حسب آدب القرآن. الثاني أنه أراد ورق
الزرع إذا أكلته الدود. الثالث أنه أراد كعصف مأكول زرعه وبقي هو لا شيء.
سورة قريش
مكية وآياتها ٤
نزلت بعد التين
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) قريش هم حيّ من عرب الحجاز الذين هم من ذرية معد بن عدنان
، إلا أنه لا يقال قريشيّ إلا لمن كان من ذرية النضر بن كنانة ، وهم ينقسمون إلى
أفخاذ وبيوت نحو بني هاشم ، وبني أمية ، وبني مخزوم ، وغيرهم وإنما سميت القبيلة
قريشا لتقرشهم ، والتقرّش التكسب وكانوا تجارا ، وعن معاوية أنه سأل ابن عباس لم
سميت قريش قريشا؟ قال : لدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى [القرش] ،
وكانوا ساكنين بمكة ، وكان لهم رحلتان في كل عام للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن
، ورحلة في الصيف إلى الشام ، وقيل : كانت الرحلتان جميعا إلى الشام ، وقيل : كانوا
يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ، فيقيمون بها ويرحلون في الشتاء إلى
مكة لسكناهم بها ، والإيلاف مصدر من قولك آلفت المكان إذا ألفته وقيل : هو منقول
منه بالهمزة يقال ألف الرجل الشيء ، وألفه إياه غيره فالمعنى على القول الأول أن
قريشا ألفوا رحلة الشتاء والصيف ، وعلى الثاني أن الله ألفهم الرحلتين واختلف في
تعلق قوله لايلاف قريش على ثلاثة أقوال : أحدهما أنه يتعلق بقوله فليعبدوا والمعنى
فليعبدوا الله من أجل إيلافهم الرحلتين فإن ذلك نعمة من الله عليهم : الثاني أنه
يتعلق بمحذوف تقديره : أعجبوا لإيلاف قريش : الثالث أنه يتعلق بسورة الفيل ،
والمعنى أن الله أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، فهو يتعلق بقوله : فجعلهم أو بما
قبله من الأفعال. ويؤيد هذا أن السورتين في مصحف أبيّ بن كعب سورة واحدة لا فصل
بينهما ، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب ، وذكر الله الإيلاف مطلقا ثم
أبدل منه الإيلاف المقيّد بالرحلتين تعظيما للأمر ، ونصب رحلة لأنه مفعول بإيلافهم
وقال : رحلة وأراد رحلتين فهو كقول الشاعر : كلوا في بعض بطنكم تعفّوا.
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ
هذَا الْبَيْتِ) هذا إقامة حجة عليهم بملاطفة واستدعاء لهم وتذكير بالنعم ،
والبيت هو المسجد الحرام (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ
مِنْ جُوعٍ) يحتمل أن يريد إطعامهم
بسبب الرحلتين ،
فقد روي أنهم كانوا قبل ذلك في شدة وضيق حال حتى أكلوا الجيف ويحتمل أن يريد
إطعامهم على الإطلاق ، فقد كان أهل مكة ساكنين بواد غير ذي زرع ، ولكن الله أطعمهم
مما يجلب إليهم من البلاد ، بدعوة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وهو قوله :
(وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَراتِ) [البقرة : ١٢٦] (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) يحتمل أن يريد : آمنهم من خوف أصحاب الفيل ، ويحتمل أن
يريد آمنهم في بلدهم بدعوة إبراهيم في قوله (رَبِّ اجْعَلْ هذا
بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦]
وقد فسرناه في موضعه ، أو يعني آمنهم في أسفارهم لأنهم كانوا في رحلتهم آمنين ، لا
يتعرض لهم أحد بسوء ، وكان غيرهم من الناس تؤخذ أموالهم وأنفسهم : وقيل : آمنهم من
الجذام فلا يرى بمكة [أحد] مجذوما قال الزمخشري : التنكير في جوع وخوف لشدتهما.
سورة الماعون
مكية ثلاث الآيات
الأول ، مدنية الباقي : وآياتها ٧ نزلت بعد التكاثر
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قيل : إن هذا نزل في أبي جهل وأبي سفيان بن حرب ، وقيل :
هو مطلق والدين هنا الملة أو الجزاء (فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه بعنف ، وهذا الدفع يحتمل أن يكون عن إطعامه ،
والإحسان إليه أو عن ماله وحقوقه ، وهذا أشدّ والذي لا يحض على طعام المسكين لا
يطعمه من باب أولى. وهذه الجملة هي جواب أرأيت لأن معناها : أخبرني فكأنه سؤال
وجواب والمعنى : انظر الذي كذب بالدين ، تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة ، والأعمال السيئة
، وإنما ذلك لأن الدين يحمل صاحبه على فعل الحسنات. وترك السيئات فمقصود الكلام
ذمّ الكفار وأحوالهم (فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قيل : إن هذا نزل في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق ،
والسورة على هذا نصفها مكي ونصفها مدني قاله أبو زيد السهيلي. وذلك أن ذكر أبي جهل
وغيره من الكفار أكثر ما جاء في السور المكية ، وذكر السهو عن الصلاة والرياء فيها
، إنما هو من صفة الذين كانوا بالمدينة ، لا سيما على قول من قال : أنها في عبد
الله بن أبيّ ، وقيل : إنها مكية كلها وهو الأشهر ، ونزل آخرها على هذا في رجل
أسلم بمكة ولم يكن صحيح الإيمان ، وقيل : مدنية ، والسهو عن الصلاة هو تركها أو
تأخيرها تهاونا بها.
وقد سئل رسول الله
صلىاللهعليهوسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون ، قال : الذين يؤخرونها عن
وقتها وقال عطاء بن يسار : الحمد لله الذي قال (عَنْ صَلاتِهِمْ
ساهُونَ) ولم يقل في صلاتهم (الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ) هو من الرياء أي صلاتهم رياء للناس لا لله (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) وصف لهم بالبخل وقلة المنفعة للناس. وفي الماعون أربعة
أقوال : الأول أنه الزكاة ، والثاني أنه المال بلغة قريش. الثالث أنه الماء ،
الرابع أنه ما يتعاطاه الناس بينهم كالآنية والفأس والدلو والمقص ، وسئل رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ فقال الماء والنار والملح
وزاد في بعض الطرق الإبرة والخميرة.
سورة الكوثر
مكية وآياتها ٣
نزلت بعد العاديات
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) هذا خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم والكوثر بثاء مبالغة من الكثرة وفي تفسيره سبعة أقوال :
الأول حوض النبي صلىاللهعليهوسلم : الثاني أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله [له] في الدنيا
والآخرة. قاله ابن عباس وتبعه سعيد بن جبير ، فإن قيل : إن النهر الذي في الجنة من
الخير الذي أعطاه الله فالمعنى أنه على العموم. الثالث أن الكوثر القرآن. الرابع
أنه كثرة الأصحاب والأتباع. الخامس أنه التوحيد. السادس أنه الشفاعة ، السابع أنه
نور وضعه الله في قلبه ، ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها ، ولكن الصحيح أن
المراد بالكوثر الحوض لما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : أتدرون ما الكوثر هو نهر أعطانيه الله وهو الحوض
آنيته عدد نجوم السماء .
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ) فيه خمسة أقوال : الأول أنه أمره بالصلاة على الإطلاق
وبنحر الهدي والضحايا ، الثاني أنه صلىاللهعليهوسلم كان يضحي قبل صلاة العيد فأمره أن يصلي ثم ينحر ، فالمقصود
على هذا تأخير نحر الأضاحي عن الصلاة الثالث أن الكفار يصلون مكاء وتصدية وينحرون
للأصنام فقال الله لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم : صل لربك وحده وانحر له أي لوجهه لا لغيره ، فهو على هذا
أمر بالتوحيد والإخلاص. الرابع أن معنى انحر ضع يدك اليمنى على اليسرى عند صدرك في
الصلاة فهو على هذا من النحر وهو الصدر. الخامس أن معناه ارفع يديك عند نحرك في
افتتاح الصلاة (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) الشانئ هو المبغض ، وهو الشنآن بمعنى العداوة ، ونزلت هذه
الآية في العاصي بن وائل ، وقيل : في أبي جهل على وجه الرد عليه إذ قال : إن محمدا
أبتر أي لا ولد له ذكر ، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته ، فأخبر الله أن
هذا الكافر هو الأبتر وإن كان له أولاد لأنه مبتور من رحمة الله أي مقطوع عنها ،
ولأنه لا يذكر إذا ذكر إلا باللعنة بخلاف النبي صلىاللهعليهوسلم فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر ، مرفوع على المنابر والصوامع
مقرون بذكر الله والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه فهو كوالدهم.
__________________
سورة الكافرون
مكية وآياتها ٦
نزلت بعد الماعون
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سبب هذه السورة أن
قوما من قريش منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاصي بن وائل وأبو جهل
ونظراؤهم قالوا : يا محمد اتبع ديننا ونتبع دينك ، أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة
فقال : معاذ الله أن نشرك بالله شيئا ، ونزلت السورة في معنى البراءة من آلهتهم
ولذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من قرأها فقد برىء من الشرك (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) هذا إخبار أنه لا يعبد أصنامهم ، فإن قيل لم كرر هذا
المعنى بقوله : ولا أنا عابد ما عبدتم؟ فالجواب من وجهين أحدهما قاله الزمخشري وهو
أن قوله : لا أعبد ما تعبدون يريد في الزمان المستقبل وقوله : ولا أنا عابد ما
عبدتم يريد به فيما مضى ، أي ما كنت قط عابدا ما عبدتم فيما سلف ، فكيف تطلبون ذلك
مني الآن. الثاني قاله ابن عطية : وهو أن قوله : لا أعبد ما تعبدون لما كان يحتمل
أن يراد به زمان الحال خاصة قال : ولا أنا عابد ما عبدتم أي : أبدا ما عشت. لأن لا
النافية إذا دخلت على الفعل المضارع خلصته للاستقبال فقوله : لا أعبد لا يحتمل أن
يراد به الحال. ويحتمل عندي أن يكون قوله : لا أعبد ما تعبدون يراد به في المستقبل
، على حسب ما تقتضيه لا من الاستقبال ، ويكون قوله ولا أنا عابد ما عبدتم يريد به
في الحال ، فيحصل من المجموع نفي عبادته الأصنام في الحال والاستقبال. ومعنى الحال
في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم ثم أظهر من معنى المضي الذي قاله الزمخشري ، ومن
معنى الاستقبال فإن قولك : ما زيد بقائم بنفي الجملة الاسمية يقتضي الحال.
(وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) هذا إخبار أن هؤلاء الكفار لا يعبدون الله ، كما قيل لنوح
: (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] إلا أن
هذا في حق قوم مخصوصين ماتوا على الكفر ، وقد روي أن هؤلاء الجماعة المذكورين هم
أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبيّ
بن خلف وأبن الحجاج وكلهم ماتوا كفارا ، فإن قيل : لم قال ما أعبد بما دون من التي
هي موضوعة لمن يعقل؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدهما أن ذلك لمناسبة قوله : لا
أعبد ما تعبدون فإن هذا
واقع على الأصنام
التي لا تعقل ثم جعل ما أعبد على طريقته لتناسب اللفظ. الثاني أنه أراد الصفة كأنه
قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق قاله الزمخشري. الثالث أن ما مصدرية
والتقدير : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي وهذا ضعيف ، فإن قيل لم كرّر هذا
المعنى واللفظ فقال بعد ذلك : ولا أنتم عابدون ما أعبد مرة أخرى؟ فالجواب من وجهين
: أحدهما قول الزمخشري : وهو أن الأوّل في المستقبل والثاني فيما مضى والآخر قاله
ابن عطية وهو أن الأول في الحال والثاني في الاستقبال فهو حتم عليهم أن لا يؤمنوا
أبدا (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) أي لكم شرككم ولي توحيدي وهذه براءة منهم ، وفيها مسالمة
منسوخة بالسيف.
سورة النصر
نزلت بمنى في حجة
الوداع فتعد مدنية وهي آخر ما نزل من سور القرآن وآياتها ٣ نزلت بعد التوبة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سأل عمر بن الخطاب
جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن معنى هذه السورة فقالوا : إن الله أمر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بالتسبيح والاستغفار عند النصر والفتح ، وذلك على ظاهر
لفظها فقال لابن عباس بمحضرهم : يا عبد الله ما تقول أنت؟ قال هو أجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى النصر والفتح ، فقال عمر : ما
أعلم منها إلا ما علمت. وقد قال بهذا المعنى ابن مسعود وغيره ، ويؤيده قول عائشة
إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم ويؤيده
قول عائشة إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك
اللهم إني أستغفرك يتأول القرآن ، أي هذه السورة وقال لها مرة ما أراه إلا حضور
أجلي. وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى أيام التشريق في حجة الوداع. وعاش رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بعدها ثمانين يوما أو نحوها ، وقال ابن مسعود : هذه السورة
تسمى سورة التوديع.
(إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) يعني بالفتح فتح مكة والطائف وغيرهما من البلاد التي فتحها
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال ابن عباس : إن النصر صلح الحديبية والفتح فتح مكة
وقيل : النصر إسلام أهل اليمن ، والإخبار بذلك كله قبل وقوعه إخباره بغيب ، فهو من
أعلام النبوّة (وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي جماعات ، وذلك أنه أسلم بعد فتح مكة بشر كثير ، فقد روي
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان معه في فتح مكة عشرة آلاف ، وكان معه في غزوة تبوك
سبعون ألفا وقال أبو عمر بن عبد البر : لم يمت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفي العرب رجل كافر . وقد قيل : إن عدد المسلمين عند موته مائة ألف وأربعة عشر
ألفا بل أكثر (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) قد ذكر التسبيح والاستغفار ومعنى بحمد ربك فيما تقدم ، فإن
قيل : لم أمره الله بالتسبيح والحمد والاستغفار عند رؤية النصر والفتح ، وعند
اقتراب أجله؟ فالجواب أنه أمر بالتسبيح والحمد ليكون شكرا على النصر والفتح وظهور
الإسلام وأمره بذلك وبالاستغفار عند اقتراب أجله ليكون ذلك زادا للآخرة وعدة للقاء
الله.
__________________
سورة المسد
مكية وآياتها ٥
نزلت بعد الفاتحة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سببها أنه لما نزل
قوله تعالى (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤]
صعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الصفا فنادى بأعلى صوته : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش
فقال لهم : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ثم أنذرهم عموما وخصوصا فقال له أبو
لهب : تبا لك لهذا جمعتنا فنزلت السورة.
(تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) معنى تبت خسرت والتباب هو : الخسران ، وأبو لهب هو عبد
العزى بن عبد المطلب بن هاشم وهو عمّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان من أشد الناس عداوة له فإن قيل : لم ذكره الله
بكنيته دون اسمه؟ فالجواب من ثلاثة أوجه أحدها أن كنيته كانت أغلب عليه من اسمه
كأبي بكر وغيره ويقال : أنه كني بأبي لهب لتلهب وجهه جمالا : الثاني أنه لما كان
اسمه عبد العزى عدل عنه إلى الكنية : الثالث أنه لما كان من أهل النار واللهب ،
كنّاه أبا لهب وليناسب ذلك قوله : سيصلى نارا ذات لهب.
(ما أَغْنى عَنْهُ
مالُهُ وَما كَسَبَ) يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية يراد بها النفي ،
وماله هو رأس ماله وما كسب الربح. أو ماله ما ورث وما كسب هو ما اكتسبه لنفسه ،
وقيل : ماله جميع ماله وما كسب (سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ) هذا حتم عليه بدخول النار ومات بعد ذلك كافرا (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) اسم امرأته أم جميل بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان ،
وفي وصفها بحمالة الحطب أربعة أقوال أحدها أنها تحمل حطبا وشوكا فتلقيه في طريق
النبي صلىاللهعليهوسلم لتؤذيه. الثاني أن ذلك عبارة عن مشيها بالنميمة يقال : فلان
يحمل الحطب بين الناس أي : يوقد بينهم نار العداوة بالنمائم. الثالث أنه عبارة عن
سعيها بالمضرة على المسلمين يقال : فلان يحطب على فلان إذا قصد الإضرار به :
الرابع
__________________
أنه عبارة عن
ذنوبها وسوء أعمالها (فِي جِيدِها حَبْلٌ
مِنْ مَسَدٍ) الجيد : العنق والمسد الليف ، وقيل : الحبل المفتول ، وفي
المراد به ثلاثة أقوال : الأول أنه إخبار عن حملها الحطب في الدنيا على القول
الأول ، وفي ذلك تحقير لها وإظهار لخساسة حالها. والآخر أنه حالها في جهنم يكون
كذلك أي يكون في عنقها حبل. الثالث أنها كانت لها قلادة فاخرة ، فقالت لأنفقنها
على عداوة محمد ، فأخبر عن قلادتها بحبل المسد على جهة التفاؤل ، والذم لها
بتبرجها ويحتمل قوله : وامرأته وما بعده وجوها من الإعراب يختلف الوقف باختلافها
وهي : أن يكون امرأته مبتدأ وحمالة الحطب خبره ، أو يكون حمالة الحطب نعت والخبر :
في جيدها حبل من مسد أو يكون امرأته معطوفا على الضمير في يصلى وحمالة الحطب نعت ،
أو خبر ابتداء مضمر.
سورة الإخلاص
مكية وآياتها ٤
نزلت بعد الناس
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سبب نزول هذه
السورة أن اليهود دخلوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فإنه وصف نفسه في التوراة
ونسبها ، فارتعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى خرّ مغشيا عليه ونزل عليه جبريل بهذه السورة ، وقيل :
إن المشركين قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنسب لنا ربك فنزلت. وعلى الرواية الأولى تكون السورة
مدنية ، لأن سؤال اليهود بالمدينة وعلى الرواية الثانية تكون مكية.
واختلف في معنى
قوله صلىاللهعليهوسلم : قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن . فقيل : إن ذلك في الثواب ، أي لمن قرأها من الأجر مثل أجر
من قرأ ثلث القرآن ، وقيل : إن ذلك فيما تضمنته من المعاني والعلوم ؛ وذلك أن علوم
القرآن ثلاثة توحيد وأحكام وقصص ، وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد فهي ثلث
القرآن بهذا الإعتبار ، وهذا أظهر وعليه حمل ابن عطية الحديث. ويؤيده أن في بعض
روايات الحديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء ، فجعل قل هو الله أحد جزءا من
أجزاء القرآن وأخرج النسائي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سمع رجلا يقرؤها فقال : أما هذا فقد غفر له ، وفي رواية
أنه قال وجبت له الجنة ، وأخرج مسلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في الصلاة قل هو الله
أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال : لأنها صفة
الرحمن فأنا أحب أن أقرأها فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخبروه أن الله يحبه وفي رواية خرجّها الترمذي أنه صلىاللهعليهوسلم قال للرجل : حبك إياها أدخلك الجنة.
وخرّج الترمذي أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كل يوم غفرت له ذنوب
خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) الضمير هنا عند البصريين ضمير الأمر والشأن والذي يراد به
التعظيم والتفخيم ، وإعرابه مبتدأ وخبره الجملة
__________________
التي بعده وهي
المفسرة له ، والله مبتدأ وأحد خبره وقيل : الله هو الخبر وأحد بدل منه وقيل :
الله بدل وأحد هو الخبر. وأحد له معنيان أحدهما أن يكون من أسماء النفي التي لا
تقع إلا في غير الواجب كقولك : ما جاءني أحد وليس هذا موضع هذا المعنى وإنما موضعه
قوله : ولم يكن له كفوا أحد والآخر أن يكون بمعنى واحد وأصله وحد بواو ثم أبدل من
الواو همزة وهذا هو المراد هنا.
واعلم أن وصف الله
تعالى بالواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى. الأول أنه واحد لا ثاني
معه فهو نفي للعدد. والثاني أنه واحد لا نظير ولا شريك له كما تقول : فلان واحد
عصره أي لا نظير له والثالث أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض ، والأظهر أن المراد في
السورة نفي الشريك لقصد الرد على المشركين ومنه قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣]
قال الزمخشري أحد وصف بالوحدانية ونفي الشركاء قلت : وقد أقام الله في القرآن
براهين قاطعة على وحدانيته وذلك في القرآن كثير جدا أوضحها أربعة براهين : الأول
قوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] لأنه
إذا ثبت أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات لم يمكن أن يكون واحد منها شريكا له ،
والثاني قوله (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
والثالث قوله (قُلْ لَوْ كانَ
مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) والرابع قوله : (وَما كانَ مَعَهُ
مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى
بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١]
وقد فسرنا هذه الآيات في مواضعها وتكلمنا على حقيقة التوحيد في قوله (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] (اللهُ الصَّمَدُ) في معنى الصمد ثلاثة أقوال : أحدها أن الصمد الذي يصمد
إليه في الأمور أي يلجأ إليه والآخر أنه لا يأكل ولا يشرب فهو كقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) والثالث أنه الذي لا جوف له ، والأول هو المراد هنا على
الأظهر ، ورجحه ابن عطية بأن الله موجد الموجودات وبه قوامها ، فهي مفتقرة إليه أي
تصمد إليه إذ لا تقوم بأنفسها. ورجّحه شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير! لورود
معناه في القرآن حيثما ورد نفي الولد عن الله تعالى كقوله في مريم «وقالوا اتخذ
الله ولدا» ثم أعقبه بقوله (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] وقوله
(بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [البقرة : ١١٧]
وقوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٦]
وكذلك هنا ذكره مع قوله لم يلد فيكون برهانا على نفي الولد ، قال الزمخشري : صمد
فعل بمعنى مفعول لأنه مصمود إليه في الحوائج (لَمْ يَلِدْ). هذا ردّ على كل من جعل لله ولدا فمنهم النصارى في قولهم :
«عيسى ابن الله» واليهود في قولهم : «عزير ابن الله» والعرب في قولهم : «الملائكة
بنات الله» وقد أقام الله البراهين في القرآن على نفي الولد ، وأوضحها أربعة أقوال
: الأول ، أن الولد لا بد أن يكون من جنس والده. والله تعالى ليس له جنس فلا
يمكن أن يكون له
ولد وإليه الإشارة بقوله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥]
فوصفهما بصفة الحدوث لينفي عنهما صفة القدم فتبطل مقالة الكفار والثاني : أن
الوالد إنما يتخذ ولدا للحاجة إليه ، والله لا يفتقر إلى شيء فلا يتخذ ولدا وإلى
هذا أشار بقوله : (قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) [يونس : ٦٨]
الثالث : أن جميع الخلق عباد الله والعبودية تنافي النبوة وإلى هذا أشار بقوله
تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣]
الرابع أنه لا يكون له ولد إلا لمن له زوجة ، والله تعالى لم يتخذ زوجة فلا يكون
له ولد وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ
وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١] (وَلَمْ يُولَدْ) هذا رد على الذين قالوا : أنسب لنا ربك ، وذلك أن كل مولود
محدث ، والله تعالى هو الأول الذي لا افتتاح لوجوده ، القديم الذي كان ولم يكن معه
شيء غيره ، فلا يمكن أن يكون مولودا تعالى عن ذلك (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) الكفؤ هو النظير والمماثل قال الزمخشري يجوز أن يكون من
الكفاءة في النكاح ، فيكون نفيا للصاحبة وهذا بعيد والأول هو الصحيح ومعناه أن
الله ليس له نظير ولا شبيه ولا مثيل ، ويجوز في كفوءا ضم الفاء وإسكانها مع ضم
الكاف ، وقد قرئ بالوجهين ويجوز أيضا كسر الكاف وإسكان الفاء ، ويجوز كسر الكاف
وفتح الفاء والمدّ ويجوز فيه الهمزة والتسهيل وانتصب كفوا على أنه خبر كان ، وأحد اسمها قال ابن عطية :
ويجوز أن يكون كفوا حالها لكونه كان صفة للنكرة فقدم عليها ، فإن قيل : لم قدّم
المجرور وهو له على اسم كان وخبرها ، وشأن الظرف إذا وقع غير خبر أن يؤخر؟ فالجواب
من وجهين : أحدهما أنه قدم للاعتناء به والتعظيم ، لأنه ضمير الله تعالى وشأن
العرب تقديم ما هو أهم وأولى. والآخر أن هذا المجرور به يتم معنى الخبر وتكمل
فائدته ، فإنه ليس المقصود نفي الكفؤ مطلقا إنما المقصود نفي الكفؤ عن الله تعالى
، فلذلك اعتنى بهذا المجرور الذي يحرز هذا المعنى ، فقدم.
فإن قيل : إن قوله
: (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) يقتضي نفي الولد والكفؤ فلم نص على ذلك بعده؟ فالجواب أن هذا
من التجريد ، وهو تخصيص الشيء بالذكر بعد دخوله في عموم ما تقدم ، كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨]
ويفعل ذلك لوجهين يصح كل واحد منهما هنا ؛ أحدهما الاعتناء ، ولا شك أن نفي الولد
والكفؤ عن الله ينبغي الاعتناء به للرد على من قال خلاف ذلك من الكفار. والآخر
الإيضاح والبيان ، فإن دخول الشيء في ضمن العموم ليس كالنص عليه فنص على هذا
بيانا. وإيضاحا للمعنى ومبالغة في الرد على الكفار ، وتأكيدا لإقامة الحجة عليهم.
__________________
سورة الفلق
مكية وآياتها ٥
نزلت بعد الفيل
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ) تقدم معنى أعوذ في التعوذ ومعنى رب في اللغات والفاتحة ،
وفي الفلق ثلاثة أقوال : الأول أنه الصبح ومنه فالق الإصباح قال الزمخشري : هو فعل
بمعنى مفعول ، الثاني : أنه كل ما يفلقه الله كفلق الأرض عن النبات والجبال عن
العيون : والسحاب عن المطر والأرحام عن الأولاد والحب والنوى وغير ذلك ، الثالث :
أنه جب في جهنم ، وقد روي هذا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) هذا عموم في جميع المخلوقات وشرهم على أنواع كثيرة ،
أعاذنا الله منها وما هنا موصولة أو موصوفة أو مصدرية (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) فيه سبعة أقوال ، الأول : أنه الليل إذا أظلم ومنه قوله
تعالى : (إِلى غَسَقِ
اللَّيْلِ) وهذا قول الأكثرين ، وذلك ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر
من الإنس والجن ، ولذلك قال في المثل : الليل أخفى للويل. الثاني : أنه القمر.
خرّج النسائي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأى القمر فقال : يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا ، فإنه
الغاسق إذا وقب ووقوبه هذا كسوفه ، لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة
والسواد وبمعنى الدخول فالمعنى إذا دخل في الكسوف أو إذا أظلم به. الثالث : أنه
الشمس إذا غربت والوقوب على هذا المعنى الظلمة أو الدخول. الرابع : أن الغاسق
النهار إذا دخل في الليل ، وهذا قريب من الذي قبله ، الخامس : أن الغاسق سقوط
الثريا وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده ، وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : النجم هو الغاسق فيحتمل أن يريد الثريا السادس قال
الزمخشري : يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقبه ضربه الرابع أنه إبليس
حكى ذلك السهيلي (وَمِنْ شَرِّ
النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) النفث شبه النفخ دون تفل وريق قاله ابن عطية وقال الزمخشري
: هو النفخ مع ريق وهذا النفث ضرب من السحر وهو : أن ينفث على عقد تعقد في خيط أو
نحوه على اسم مسحور فيضره ذلك وحكى ابن عطية : أنه حدثه ثقة أنه رأى عند بعض الناس
بصحراء المغرب خيطا أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان وهي أولاد الإبل فمنعها بذلك
من رضاع أمهاتها ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل
إلى أمه فرضع في
الحين قال الزمخشري : إن في الاستعاذة من النفاثات ثلاثة أوجه : أحدها أن يستعاذ
من مثل عملهن وهو السحر ومن ائتمن في ذلك والثاني أن يستعاذ من خداعهن للناس
وفتنتهن. والثالث أن يستعاذ مما يصيب من الشر عند نفثهن. والنفاثات بناء مبالغة
والموصوف محذوف تقديره : النساء النفاثات ، والجماعة النفاثات ، أو النفوس
النفاثات والأول أصح لأنه روي أنه إشارة إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي ، وكنّ
ساحرات سحرن هن وأبوهنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعقدن له إحدى عشر عقدة ، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشر
آية بعدد العقد وشفى الله رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن قيل : لم عرّف النفاثات بالألف واللام ونكر ما قبله
وهو غاسق وما بعده وهو حاسد مع أن الجميع مستعاذ منه؟ فالجواب أنه عرف النفاثات
ليفيد العموم لأنه كل نفاثة شريرة بخلاف الغاسق والحاسد فإن شرهما في بعض دون
البعض (مِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ) الحسد خلق مذموم طبعا وشرعا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال بعض العلماء
: الحسد أول معصية عصي الله بها في السماء والأرض أما في السماء فحسد إبليس لآدم
وأما في الأرض فقتل قابيل لأخيه هابيل بسبب الحسد ، ثم إن الحسد على درجات الأولى
أن يحب الإنسان زوال النعمة عن أخيه المسلم وإن كانت لا تنتقل إليه بل يكره إنعام
الله على غيره ويتألم به الثانية أن يحب زوال تلك النعمة لرغبته فيها رجاء
انتقالها إليه. الثالثة أن يتمنى لنفسه مثل تلك النعمة من غير أن يحب زوالها عن
غيره وهذا جائز وليس بحسد وإنما هو غبطة. والحاسد يضر نفسه ثلاث مضرات : أحدها
اكتساب الذنوب لأن الحسد حرام الثانية سوء الأدب مع الله تعالى ، فإن حقيقة الحسد
كراهية إنعام الله على عبده واعتراض على الله في فعله الثالثة تألم قلبه من كثرة
همه وغمه ، فنرغب إلى الله أن يجعلنا محسودين لا حاسدين ، فإن المحسود في نعمة
والحاسد في كرب ونقمة ، ولله در القائل :
وإني لأرحم
حسّادي لفرط ما
|
|
ضمّت صدورهم من
الأوغار
|
نظروا صنيع الله
بي فعيونهم
|
|
في جنة وقلوبهم
في نار
|
وقال آخر :
إن يحسدوني فإني
غير لائمهم
|
|
قبلي من الناس
أهل الفضل قد حسدوا
|
فدام لي ولهم ما
بي وما بهم
|
|
ومات أكثرنا
غيظا بما يجد
|
ثم إن الحسود لا
تزال عداوته ولا تنفع مداراته وهو ظالم يشاكي كأنه مظلوم ، ولقد صدق القائل :
__________________
كل العداوة قد
ترجى إزالتها
|
|
إلا عداوة من
عاداك من حسد
|
وقال حكيم الشعراء
:
وأظلم خلق الله
من بات حاسدا
|
|
لمن بات في
نعمائه يتقلب
|
قال ابن عطية قال
بعض الحذاق هذه السورة خمس آيات وهي مراد الناس بقولهم للحاسد الذي يخاف منه العين
: الخمسة على عينك ، فإن قيل : إذا وقب ، وإذا حسد فقيد بإذا التي تقتضي تخصيص بعض
الأوقات؟ فالجواب أن شر الحاسد ومضرته إنما تقع إذا أمضى حسده ، فحينئذ يضر بقوله
أو بفعله أو بإصابته بالعين ، فإن عين الحسود قاتلة. وأما إذا لم يمض حسده ولم
يتصرف بمقتضاه فشره ضعيف ولذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ثلاث لا ينجو منهن أحد : الحسد والظن والطيرة ، فمخرجه
من الحسد أن لا يبقى ومخرجه من الظن أن لا يحقق ومخرجه من الطيرة ألا يرجع ، فلهذا خصه بقوله إذا وقب ، فإن قيل إن قوله من شر ما خلق
عموم يدخل تحته كل ما ذكر بعده فلأي شيء ذكر ما بعده؟ فالجواب أن هذا من التجريد
للاعتناء بالمذكور بعد العموم ، ولقد تأكد ما ذكر في هذه السورة بعد العموم بسبب
السحر الذي سحر اليهود رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشدة حسدهم له.
__________________
سورة الناس
مكية وآياتها ٦
نزلت بعد الفلق
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ) إن قيل لم أضاف الرب إلى الناس خاصة وهو رب كل شيء؟
فالجواب أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس ، فخصهم بالذكر لأنهم
المعوذين بهذا التعويذ والمقصودون هنا دون غيرهم (مَلِكِ النَّاسِ
إِلهِ النَّاسِ) هذا عطف بيان ، فإن قيل : لم قدم وصفه تعالى برب ثم بملك
ثم بإله؟ فالجواب أن هذا على الترتيب في الارتقاء إلى الأعلى وذلك أن الرب قد يطلق
على كثير من الناس ، فيقال فلان رب الدار ، وشبه ذلك فبدأ به لاشتراك معناه ، وأما
الملك فلا يوصف به إلا أحد من الناس ، وهم الملوك ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس
، فلذلك جاء به بعد الرب ، وأما الإله فهو أعلى من الملك ولذلك لا يدعي الملوك
أنهم آلهة فإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير فلذلك ختم به فإن قيل : لم أظهر
المضاف إليه وهو الناس في المرة الثانية والثالثة فهلا أضمره في المرتين لتقديم ذكره
في قوله برب الناس أو هلا اكتفى بإظهاره في المرة الثانية؟ فالجواب أنه لما كان
عطف بيان حسن فيه البيان وهو الإظهار دون الإضمار ، وقصد أيضا الاعتناء بالمكرر
ذكره كقول الشاعر
لا أرى الموت
يسبق الموت شيء
|
|
يبغص الموت ذا
الغنى والفقير
|
(الْوَسْواسِ) وهو مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي ، فيحتمل أن يكون
الوسواس بمعنى الموسوس فكأنه اسم فاعل وهذا يظهر من قول ابن عطية : الوسواس من
اسماء الشيطان ، ويحتمل أن يكون مصدرا وصف به الموسوس على وجه المبالغة ، كعدّل
وصوّم أو على حذف مضاف تقديره ذي الوسواس وقال الزمخشري : إنما المصدر وسواس
بالكفر (الْخَنَّاسِ) معناه الراجع على عقبه المستمر أحيانا وذلك متمكن في
الشيطان فإنه يوسوس فإذا ذكر العبد الله وتعوذ به منه تباعد عنه ، ثم رجع إليه عند
الغفلة عن الذكر ، وهو يخنس في تباعده ثم في رجوعه بعد ذلك (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ
النَّاسِ) وسوسة
الشيطان في صدر
الإنسان بأنواع كثيرة منها : إفساد الإيمان والتشكيك في العقائد فإن لم يقدر على
ذلك أمره بالمعاصي ، فإن لم يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات ، فإن لم يقدر على ذلك
أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها ، فإن سلم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه ،
واستكثار عمله ، ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد ، والحقد ، والغضب ، حتى
يقود الإنسان إلى شر الأعمال وأقبح الأحوال
وعلاج وسوسته
بثلاثة أشياء واحدها الإكثار من ذكر الله وثانيها الإكثار من الاستعاذة بالله منه
ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة وثالثها مخالفته والعزم على عصيانه فإن قيل
: لم قال في الصدور الناس ولم يقل : في قلوب الناس؟ فالجواب أن ذلك إشارة إلى عدم
تمكن الوسوسة ، وأنها غير حالّة في القلب بل هي محوّمة في صدور حول القلب (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) هذا بيان لجنس الوسواس وأنه يكون من الجن ، ومن الناس ، ثم
إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه وأقواله الخبيثة ، فإنه الشيطان
كما قال تعالى (شَياطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢]
أو يريد به نفس الإنسان إذ تأمره بالسوء ، فإنها أمّارة بالسوء والأول أظهر ، وقيل
: من الناس معطوف على الوسواس كأنه قال : أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر
الناس ، وليس الناس على هذا ممن يوسوس. والأول أظهر وأشهر.
فإن قيل : لم ختم
القرآن بالمعوذتين وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول قال شيخنا
الأستاذ أبو جعفر بن الزبير لما كان القرآن من أعظم النعم على عباده ، والنعم مظنة
الحسد فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله. الثاني يظهر لي أن المعوذتين ختم
بهما لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال فيهما : أنزلت عليّ آيات لم ير مثلهن قط كما قال في
فاتحة الكتاب : لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها فافتتح
القرآن بسورة لم ينزل مثلها واختتم بسورتين لم ير مثلهما ليجمع حسن الافتتاح
والاختتام ، ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما
ينظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها. الوجه الثالث يظهر لي أيضا أنه لما أمر
القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل
الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القراءة ، فتكون الاستعاذة
قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء ، وليكون القارئ محفوظا بحفظ الله الذي
استعاذ به من أول أمره إلى آخره وبالله التوفيق لا رب غيره.
تم بفضل الله كتاب
التسهيل لعلوم التنزيل للإمام محمد بن أحمد بن جزي رحمهالله وأجزل مثوبته راجيا من الله حسن الختام لكل من قرأه وانتفع
به ودعا لمصححه وناشره وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فهرس المحتويات
سورة طه مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة........................................... ٥
سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة......................................... ١٨
سورة الحج مدنية وآياتها ثمان وسبعون.............................................. ٣٢
سورة المؤمنون مكية وآياتها ثماني عشرة ومائة........................................ ٤٨
سورة النور مدنية وآياتها أربع وستون............................................... ٥٩
سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون............................................ ٧٨
سورة الشعراء مكية وآياتها سبع وعشرون ومائتان.................................... ٨٨
سورة النمل مكية وآياتها ثلاث وتسعون............................................ ٩٨
سورة القصص مكية وآياتها ثمان وثمانون.......................................... ١٠٩
سورة العنكبوت مكية وآياتها تسع وستون........................................ ١٢٢
سورة الروم مكية وآياتها ستون................................................... ١٣٠
سورة لقمان مكية وآياتها أربع وثلاثون........................................... ١٣٧
سورة السجدة مكية وآياتها ثلاثون............................................... ١٤١
سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون....................................... ١٤٥
سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون............................................. ١٦٠
سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون............................................ ١٧١
سورة يس مكية وآياتها ثلاث وثمانون............................................. ١٧٩
سورة الصافات مكية وآياتها ثنتان وثمانون ومائة.................................... ١٨٨
سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون............................................... ٢٠١
سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون........................................... ٢١٥
سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون............................................ ٢٢٧
سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون.......................................... ٢٣٧
سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون........................................ ٢٤٤
سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون.......................................... ٢٥٤
سورة الدخان مكية وآياتها تسع وخمسون......................................... ٢٦٦
سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون........................................... ٢٧٠
سورة الأحقاف مكية وآياتها خمس وثلاثون....................................... ٢٧٤
سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون.............................................. ٢٨٠
سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون.......................................... ٢٨٦
سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة.......................................... ٢٩٤
سورة ق مكية وآياتها خمس وأربعون.............................................. ٣٠٠
سورة الذاريات مكية وآياتها ستون............................................... ٣٠٦
سورة الطور مكية وآياتها تسع وأربعون............................................ ٣١١
سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون............................................ ٣١٦
سورة القمر مكية وآياتها خمس وخمسون.......................................... ٣٢٢
سورة الرحمن مدنية وآياتها ثمان وسبعون........................................... ٣٢٧
سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون.......................................... ٣٣٣
سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون......................................... ٣٤٣
سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون......................................... ٣٥١
سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون.......................................... ٣٥٧
سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة.......................................... ٣٦٤
سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة............................................ ٣٧٠
سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة.......................................... ٣٧٣
سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة......................................... ٣٧٧
سورة التغابن مدنية وآياتها ثماني عشرة............................................ ٣٨٠
سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة............................................ ٣٨٣
سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة............................................ ٣٨٩
سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون................................................. ٣٩٤
سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون........................................... ٣٩٨
سورة الحاقة مكية وآياتها ثنتان وخمسون........................................... ٤٠٤
سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون............................................ ٤٠٩
سورة نوح مكية وآياتها ثمان وعشرون............................................. ٤١٣
سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون............................................ ٤١٧
سورة المزمل مكية وآياتها عشرون................................................ ٤٢٢
سورة المدثر مكية وآياتها ست وخمسون........................................... ٤٢٧
سورة القيامة مكية وآياتها أربعون................................................ ٤٤٤
سورة الإنسان مدنية وآياتها إحدى وثلاثون....................................... ٤٣٦
سورة المرسلات مكية وآياتها خمسون............................................. ٤٤١
سورة النبأ مكية وآياتها أربعون................................................... ٤٤٤
سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون......................................... ٤٤٨
سورة عبس مكية وآياتها ثنتان وأربعون............................................ ٤٥٢
سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون......................................... ٤٥٥
سورة الانفطار مكية وآياتها تسع عشرة........................................... ٤٥٨
سورة المطففين مكية وآياتها ست وثلاثون......................................... ٤٦٠
سورة الانشقاق مكية وآياتها خمس وعشرون...................................... ٤٦٤
سورة البروج مكية وآياتها ثنتان وعشرون.......................................... ٤٦٧
سورة الطارق مكية وآياتها سبع عشرة............................................ ٤٧١
سورة الأعلى مكية وآياتها تسع عشرة............................................ ٤٧٣
سورة الغاشية مكية وآياتها ست وعشرون......................................... ٤٧٦
سورة الفجر مكية وآياتها ثلاثون................................................. ٤٧٨
سورة البلد مكية وآياتها عشرون................................................. ٤٨٣
سورة الشمس مكية وآياتها خمس عشرة........................................... ٤٨٦
سورة الليل مكية وآياتها إحدى وعشرون......................................... ٤٨٨
سورة والضحى مكية وآياتها إحدى عشرة......................................... ٤٩٠
سورة الشرح مكية وآياتها ثمان................................................... ٤٩٢
سورة التين مكية وآياتها ثمان.................................................... ٤٩٤
سورة العلق مكية وآياتها تسع عشرة.............................................. ٤٩٦
سورة القدر مكية وآياتها خمس.................................................. ٤٩٩
سورة البينة مدنية وآياتها ثمان.................................................... ٥٠١
سورة الزلزلة مدنية وآياتها ثمان................................................... ٥٠٣
سورة العاديات مكية وآياتها إحدى عشرة......................................... ٥٠٥
سورة القارعة مكية وآياتها إحدى عشرة.......................................... ٥٠٧
سورة التكاثر مكية وآياتها ثمان.................................................. ٥٠٩
سورة العصر مكية وآياتها ثلاث................................................. ٥١١
سورة الهمزة مكية وآياتها تسع................................................... ٥١٢
سورة الفيل مكية وآياتها خمس................................................... ٥١٣
سورة قريش مكية وآياتها أربع................................................... ٥١٤
سورة الماعون مكية وآياتها سبع.................................................. ٥١٦
سورة الكوثر مكية وآياتها ثلاث................................................. ٥١٧
سورة الكافرون مكية وآياتها ست................................................ ٥١٨
سورة النصر مدنية وآياتها ثلاث................................................. ٥٢٠
سورة المسد مكية وآياتها خمس.................................................. ٥٢١
سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع................................................ ٥٢٣
سورة الفلق مكية وآياتها خمس................................................... ٥٢٦
سورة الناس مكية وآياتها ست................................................... ٥٢٩
|