


بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمدٍ وعلى
آله الطيبين الطاهرين المعصومين
الشيخ الطوسي ـ حياته وآثاره
هو أبو جعفر ،
محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، ولد بمدينة «طوس» في شهر رمضان عام ٣٨٥ ه
، وكانت طوس في تلك الأزمنة إحدى مراكز العلم المهمة في خراسان. ونسبته إلى طوس
ترجع إلى ولادته ـ على الأرجح ـ بها وقضاء عقدين من عمره فيها.
__________________
وتَعتبر الشيعة
الشيخ الطوسي ـ رحمهالله ـ أعظم شخصية علمية بعد الأئمة المعصومين عليهمالسلام وهو من أعلام الفكر الإِسلامي في أزهى عصوره وأبهاها ،
ومن النوابغ الذين أحاطوا بمجموعة من العلوم بلغ منتهاها وغايتها ، وقد أقرّ له
الجميع بالسبق ، والقِدم ، والفضل ، وعُلوّ الرُّتبة ، والإِمامة ، والزعامة ، ولا
تُطلق صفة (شيخ الطائفة) بل مطلق (الشيخ) إلّا عليه ، وقد وصفه أعلام الإِمامية
بنعوت شتّى وصفات قلّ أنْ اجتمعت في غيره ، فقيل فيه : إنّه (شيخ الإمامية ووجههم
ورئيس الطائفة) ، و (امام وقته ، وشيخ عصره ، رئيس هذه الطائفة وعمدتها ، بل رئيس
العلماء كافة) ، و (شيخ الطائفة ، ورئيس المذهب ، إمامٌ في الفقه والحديث) ، و (رئيس
المذهب ، شيخ الطائفة ، قدوة الفرقة الناجية ، وباني مباني كلّ علم وعمل) ، و (إمام
الفقه والحديث والتفسير والكلام ، لا نظير له في كلّ علماء الإسلام في كلّ فنون
العلم ، وصنّف كتباً لم يسبقه أحدٌ
__________________
في الإسلام إلى مثلها) ، و (كان في زمانه المُجمع على فضله ، وإليه الرحلة
من جميع البلاد).
نبدأ حديثنا عن
الشيخ الطوسي :
أولا : عن حياته ، وذلك عن ثلاث مراحل هامة في حياته وهي :
١ ـ فترة خراسان
٢ ـ فترة إقامته ببغداد : وفي هذه المرحلة نتحدث عن مشايخه ، وزعامته ،
والأوضاع الاجتماعية والسياسية ببغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري ،
وعن خصائص مدرسته ببغداد.
٣
ـ الشيخ الطوسي في النجف الأشرف
٤
ـ تلاميذ الشيخ الطوسي
ثانياً
: تراث الشيخ الطوسي
ثالثاً
: دراسة حول كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)
١
ـ دور الشيعة في تأسيس علم أُصول الفقه
٢
ـ مراحل تطور علم أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية
٣
ـ الشيخ الطوسي ودوره في تطوير علم أُصول الفقه
٤
ـ منهج الشيخ الطوسي في تدوين كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)
٥
ـ مخطوطات كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)
رابعاً
: عملنا في التحقيق
أولاً : حياة الشيخ الطوسي ـ رحمهالله ـ
١ ـ الطوسي في خراسان
لا نمتلك
معلومات تفصيلية عن حياة الطوسي في الفترة التي عاش فيها في خراسان ، بل الطوسي
نفسه لم يتعرض إلى هذه الفترة من حياته ـ والتي دامت مدة ثلاث وعشرين سنة ـ سوى
أنه أشار لسنة دخوله إلى بغداد بقوله : (... من وقت دخولي إلى بغداد وهي سنة ثمان
وأربعمائة) ، وسوى هذه الإِشارة لا نعرف كيف قضى الطوسي حياته خلال
مدة ثلاث وعشرين سنة ، ولا شك أنّه ـ وبمقتضى القاعدة ـ قضاها في طوس وسائر مدن
خراسان ، ذلك الإِقليم الواسع الّذي أنجب كثيراً من المفكرين وينسب إليه خلق كثيرٌ
من العلماء في كل فن ، ولم يتعرض المترجمون لحياة الطوسي في هذه الفترة إلّا إلى
إشارة عابرة ، واحتملوا أنه درس فيها علوم اللغة والأدب والحديث وعلم الكلام
وشيئاً من الفقه والأُصول على
__________________
مشايخ خراسان ، وأول من تنبه إلى أهمية هذه الفترة هو العلامة السيد عبد
العزيز الطباطبائي ـ رحمهالله ـ فانه تتبع مشايخ الطوسي فعثر على ثلاثة منهم تتلمذ
عليهم الشيخ الطوسي في نيشابور ومشهد وطوس . وهكذا ظهر أنّ الشيخ قضى فترةً من حياته العلمية في
نيسابور وطوس ، وقد كانتا حاضرتين من حواضر العلم المهمة في خراسان. وتبرز أهمية
حضور الطوسي في نيسابور ومدى تلقيه العلم بها أنّه حينما هاجر إلى بغداد كان يملك
قسطاً وافراً من العلوم الإسلامية بحيث مكّنه من الجلوس في مجالس العلم المهمة
ببغداد.
وهؤلاء المشايخ
الثلاثة هم :
١ ـ أبو حازم النيسابوري (؟ ـ ٤١٧ ه):
هو أبو حازم ،
عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس بن علي بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة بن مسعود ، العبدوي ، الهذليّ ، الأعرج النيسابوري ، الأشعري ،
الشافعي. وصفه الخطيب البغدادي بقوله : (قدم
بغداد قديماً (سنة تسع وثمانين وثلاثمائة) وحدّت بها فسمع منه ... وبقي أبو حازم
حياً حتى لقيته بنيسابور وكتبت عنه الكثير ، وكان ثقة ، صادقاً ، عازماً حافظاً
يُسمع الناس بإفادته ، ويكتبون بانتخابه.) .. وقد أطراه آخرون أمثال : ابن مأكولا (في الإِكمال ٢
: ٢٨٠) وعبد الغافر (في
__________________
السياق بذيل تاريخ نيسابور) والذهبي (في تذكرة الحفّاظ ٣ : ١٠٧٢). وصرّح
الشيخ الطوسي بتلمذته عليه في كتاب (الفهرست) رقم ٨٥٢ حينما قال : «أبو منصور
الصّرام ، من جملة المتكلمين من أهل نيسابور ، وكان رئيساً مقدماً ، وله كتب كثيرة
منها : كتابٌ في الأصول سمّاه (بيان الدين) ... قرأت على أبي حازم النيسابوري أكثر
كتاب (بيان الدين) ...». ويستفاد من أقوال هؤلاء أن أبا حازم حجّ سنة ٣٨٧ ه ودخل
بغداد سنة ٣٨٩ ه ومكث بها قليلاً وأملى أحاديثه على جماعة ، ثم عاد إلى مسقط رأسه
نيسابور وبقي فيها حتى وفاته سنة ٤١٧ ه ، فلو لاحظنا عودة أبي حازم إلى نيسابور
سنة ٣٨٩ ه وإقامته بها إلى حين وفاته سنة ٤١٧ ه وتصريح الشيخ انه قرأ عليه كتاب (بيان
الدين) يثبت لدينا ان الطوسي لم يلتق به إلّا في نيسابور ولم يأخذ العلم منه الا
في مجالسه بهذه الحاضرة وذلك في الفترة الممتدة من سنة ٣٩٠ ه لغاية ٤٠٨ ه حيث
ترك الشيخ خراسان متوجهاً إلى بغداد.
٢ ـ المُقري النيسابوري (٤٢٧ ـ؟):
هو أبو محمد
عبد الحميد بن محمد المُقري النيسابوري المتوفى سنة ٤٢٧ ه ، عدّه العلامة الحلي
في إجازته لبني زُهرة من مشايخ الطوسي ، لكن لم يرد له ذكر في كتب الطوسي ، ووصفه
عبد الغافر الفارسي في (السياق بذيل تاريخ نيسابور) بقوله : «عبد الحميد بن محمد
بن أحمد بن جعفر المشهدي ، أبو محمد ، مستورٌ ، قال الحسكاني : قرأت عليه بالمشهد
ونيسابور وكان يحضر أحياناً ويخرج ، توفي في سنة سبع
وعشرين وأربعمائة». ولعل الشيخ الطوسي قرأ عليه في نيسابور أو طوس أو مشهد
الرضا عليهالسلام.
٣ ـ أبو زكريّا محمد بن سليمان الحمراني :
تعرض الطوسي له
في فهرسته حيث ذكره في عداد مشايخه وذلك في نهاية ترجمته للشيخ الصدوق محمد بن علي
بن الحسين بن بابويه القمّي قال : «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته جماعة من أصحابنا
منهم : الشيخ المفيد ، والحسين بن عبيد الله ، وأبو الحسين جعفر بن الحسكة القمي ،
وأبو زكريا محمد بن سليمان الحمراني ، كلهم عنه» وقد اختُلف في ضبط لقبه :
الحمراني ، الحرّاني ، الحمداني. ثم انّ العلامة الحلّي حينما عدّد مشايخ الطوسي
في إجازته لبني زُهرة قال عن الحمراني : «من أهل طوس» فاستظهر الشيخ آغا بزرگ
الطهراني منها أنّ الحمراني من مشايخ الطوسي في فترة ما قبل هجرته إلى بغداد ، ولم
يرد ذكرٌ وترجمة له في كتب التراجم سوى ما ذكره ابن بشكوال في كتاب (الصلة) عن
تاجرٍ قدم الأندلس سنة ٤٢٣ ه وهو محمد بن سليمان بن محمود الخولاني ثم روي عن ابن
الخزرج في (تاريخ الأندلس) وصفه : أنّه عالمٌ ، حافظٌ ، ثقة ، شاعر ، تلقى الحديث
عن المشايخ بالعراق وخراسان ، عالي السند ، وأجاز ابن الخزرج برواية أحاديثه سنة
٤٢٣ ه وكان عمره آنذاك أربع وسبعون عاماً. ويُحتمل اتحاد الرجلين وأنّ لقب
الخولاني قد حُرّف في النُّسَخ إلى الحمراني والحرّاني والحمداني ، فيكون الشيخ قد
تلقى عند الحديث والعلم بخراسان أو في العراق.
وبعد ان نال
الطوسي قسطاً وافراً من العلوم في الحواضر العلمية بخراسان ، اشتاقت نفسه إلى طلب
المزيد فباتت خراسان بحواضرها ومشايخها وفقهائها ومحدثيها ومتكلميها عاجزة عن
إشباع رغباته العلمية ، فاتجهت أنظاره صوب العراق وعاصمتها مدينة السلام بغداد. ولعل
السبب الرئيسي وراء هجرة الشيخ الطوسي إلى بغداد هو الأجواء التي كانت تحيط
بخراسان وما وراء النهر في تلك الفترة الزمنية ، فان هذه المنطقة المهمة والكبيرة
، بمدنها العامرة وحواضرها العلمية كانت من المعاقل الشيعية المهمة في القرنين
الثالث والرابع الهجريين ، فانه برغم وجود أكثرية سنيّة في المنطقة إلّا ان الشيعة كانت تتمتع بنفوذ وشأن قويين وكانت دعاة
الشيعة منتشرة في مدن خراسان وقراها تدعو الناس إلى مذهب أهل البيت عليهمالسلام وكانت البيوتات والعوائل العلوية منتشرة في نيسابور
وقراها وخاصة بمشهد الرضا عليهالسلام وكانت موضع احترام الجميع ، كما أنَّ مثوى الإِمام علي
بن موسى الرضا ـ عليهالسلام ـ بطوس كان له تأثير معنوي قوي على انتشار الولاء
والحُبّ لآل البيت عليهمالسلام ، فقد صار قبر الإمام مزاراً وقصده المسلمون ـ سنةً
وشيعة ـ للتبرك وقضاء الحوائج ، فهذا أبو حاتم محمد بن حبّان البُستي ، من أعلام
السُّنة ومن أئمة الجرح والتعديل حينما يتعرض لترجمة الإمام الرضا عليهالسلام يقول : «وقبره بسناباد خارج النوغان ، مشهورٌ يزار
__________________
بجنب قبر الرشيد ، قد زرته مراراً كثيرةً ، وما حلّت بي شدة في وقت مُقامي
بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عني
، إلّا استجيب لي وزالت عني تلك الشدة ، وهذا شيءٌ جربته مراراً فوجدته كذلك ،
أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم أجمعين» . وأيضا يمكن معرفة مدى نفوذ الشيعة وانتشارها ونشاطها
وحريتها في إبداء الرّأي في هذه المنطقة إذا لاحظنا المراسلات المتبادلة بين شيعة
المنطقة ورءوس الإِمامية وأعلامها ببغداد وقم والرّي ، فالشيخ الصدوق محمد بن علي
بن الحسين ابن بابويه القُمّي له رسالة كتبها جواباً على سؤال وُجّه إليه من أهالي
نيسابور ، كما يجب ملاحظة أنّ كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه) وهو أحد الأصول الأربعة
التي عليها اعتماد الشيعة في استنباط الأحكام قد ألّفها الصدوق بما وراء النهر ،
فانه حينما سافر إلى تلك المنطقة سنة ٣٦٨ ه طلب منه شريف الدين أبو عبد الله محمد
بن حسن بن إسحاق المعروف بنعمة أن يُصنِّف له كتاباً في الحلال والحرام ، وله أيضا
كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) ألّفها لإِزالة بعض الشبهات حول المهدوية والتي
أُثيرت عند الشيعة بما وراء النهر. وللشيخ المفيد والسيد المرتضى أيضا مثل هذه
الرسائل الجوابية .
__________________
لكن وقعت
الانتكاسة الخطيرة في منتصف القرن الرابع وذلك حينما استولى محمود الغزنوي على
خراسان وما وراء النهر وبسط نفوذه على جميع المنطقة ، ولم يقنع بهذا المقدار بل
أراد دعم موقفه أمام الخصوم فرفع شعار المناصرة من أهل السُّنة ، فاشتد الأمر على
الجميع عدا من كان معتقداً بمذاهب الدولة ، وهكذا مرت فترة قاسية على الذين كانوا
يدرسون العلوم العقلية ومن كان لا يدين بمذاهب أهل السُّنة وخاصة الشيعة ، وقد
بالغ السلطان محمود الغزنوي في قتلهم (ونفى خلقاً كثيراً من المعتزلة ، والرافضة ،
والإِسماعيلية ، والجَهْميّة ، والمُشَّبهة ، وأمر بلعنهم على المنابر) . وانتهز فقهاء أهل السُّنة ـ كعادتهم في موالاة سلاطين
الجور ـ الفرصة فأفتوا بالقتل والحرق والنفي للفلاسفة والمتكلمين والعقلانيين
والشيعة والمعتزلة ، وحتى المساجد لم تسلم من اضطهادهم ، روى الحافظ عبد الغافر
الفارسي في (ذيل تاريخ نيسابور ـ المنتخب من السياق : ١٣) في ترجمة أبي بكر الواعظ
أنه كان : «زعيم أصحاب أبي عبد الله ورئيسهم ، صاحب القول في وقته عند السلطان ،
بسيط الجاه ، كان مقرباً عند الأمير يمين الدولة محمود ، دعا إلى السُّنة وهدم
المسجد الجديد الّذي بناه الروافض» !! ، وفي عام ٤٢٠ ه قام
__________________
السلطان محمود الغزنوي بحملة ضارية أُخرى «وحُوّل من الكتب خمسون حملاً ما
خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فانها أُحرقت تحت جذوع المصلوبين إذ كانت
أُصول البدع» .
ففي أثناء هذه
المحنة عزم الشيخ الطوسي مغادرة خراسان فيمّم وجهه صوب مدينة السلام ، تلك المدينة
التي كانت مهبط العلماء ، ومهوى الطلاب ، وموئل الفقيه والمحدّث والفيلسوف
والمتكلم ، بل الدهري والزنديق والملحد ، حيث مجالس العلم والإملاء والاستملاء والمناظرة
عامرة ، كلّ ذلك في ظلال الدولة البويهية ، تلك الدولة الشيعية التي استضافت
وبرحابة الصدر جميع المذاهب والفرق والنِّحل وحتى تلك التي كانت تعادي الشيعة بل
وتكفّرها ، فسلكوا سبيلاً وسطاً تجاه جميع الميول والاتجاهات والفِرَق ، فلم
يتحزبوا لفئة معيّنة على حساب فئة أُخرى ، ولم ينحازوا إلى رأي خاص بل تركوا الناس
أحراراً في معتقداتهم وآرائهم ، وهكذا بسطوا الأمن في تلك الربوع الشاسعة التي
حكموها قرناً من الزمن ، وسوف نعود إلى الحديث عنهم حين استعراضنا للأوضاع
الاجتماعية ببغداد في القرن الخامس الهجري.
__________________
٢ ـ الشيخ الطوسي في بغداد
غادر الطوسي
خراسان نهائياً وإلى غير رجعة واتجه صوب العراق فوصل إلى بغداد سنة ٤٠٨ ه ، وتعتبر فترة إقامته ببغداد
فترة هامة له فقد دخلها شاباً مغموراً في بدايات العقد الثاني من عمره وخرج منها
شيخاً بعد أربعين سنة ، وهو حينذاك زعيم الشيعة وشيخها المُقدّم وإمامها المطاع ،
وبعد ان ملأ الخافقين صيته وشهرته ومؤلفاته.
ارتبط الشيخ
الطوسي في بغداد بمجموعة كبيرة من الأعلام ، فحضر
__________________
مجالسهم واستمع منهم العلم وسوف نعدّد أسماءهم لاحقاً ، لكنه ارتبط باثنين
من هؤلاء ارتباطاً وثيقاً فلازمهما واستفاد منهما كثيراً وكان لهما تأثيرات بعيدة
المدى في تفكير الشيخ ـ وإن فاقهما الشيخ لاحقاً ـ وهما الشيخ محمد بن محمد بن
النعمان العُكبري البغدادي المشهور بالمفيد أولا ، ثم الشريف المرتضى ثانياً ،
فحضر الطوسي أولا مجالس المفيد (وهو يوم ذاك شيخ متكلمي الإمامية وفقهائها وانتهت
رئاستهم إليه في وقته في العلم) مدة خمس سنوات (٤١٣ ـ ٤٠٨ ه) فظهرت خلال مدة
قليلة فضائله وملكاته وشرع في تأليف كتاب (تهذيب الأحكام) يشرح فيه كتاب (المُقنعة)
لأُستاذه الشيخ المفيد ، وقد أكثر في شرحه من عبارة (قال الشيخ أيّده الله تعالى)
ويقصد به الشيخ المفيد حيث كان لا يزال حياً وتوفي سنة ٤١٣ ه وقبل أنْ يكمل الشيخ
تأليفه ، وهذا الكتاب أحد الأُصول الأربعة التي يرجع إليها المجتهدون من الإمامية
لاستنباط الأحكام الشرعية. وبعد وفاة الشيخ المفيد ارتبط الطوسي بخليفة المفيد في
الزعامة وأبرز تلاميذه أي الشريف المرتضى ، وكانت للمرتضى منزلة اجتماعية راقية
عند عامة الناس والدولة ، فقد كان نقيب الطالبيين ، وأمير الحاجّ ، وقاضي القضاة ،
ومتولي ديوان المظالم ، هذا فضلاً عن علمه الّذي لم يدانه فيه أحدٌ في زمانه ،
وقيل عنه : إنّه كان أكثر أهل زمانه أدباً وفضلاً. وأمّا ثروته الطائلة فقد بذلها
في سبيل العلم وتربية الطلاب فأجرى على تلامذته رزقاً كلٌّ حسبَ مرتبته العلمية ،
فكان للشيخ الطوسي أيام قراءته عليه كل شهر اثنا عشر ديناراً. وخلال فترة تلمذة
الطوسي على الشريف أنجز تلخيص كتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى وحاول من
خلال تلخيصه تبسيط مسائل الشافي وتقريبه إلى أذهان المتعلمين والتركيز على
المسائل الهامة فيه ، ويعدّ هذان الكتابان من أهم الكتب الكلام عند الإمامية.
١ ـ شيوخ الشيخ الطوسي ـ رحمهالله ـ
تتلمذ الشيخ
الطوسي خلال فترة عام ٤٠٨ ه ولغاية ٤٣٦ ه على جماعة آخرين من الأعلام ـ فضلاً عن
المشايخ الثلاثة الذين سبق وان تحدثنا عنهم ـ ونكتفي بذكر أسمائهم لورود تفاصيل
حياتهم في أكثر المصادر التي تحدثت عن حياة الشيخ الطوسي وهم :
٤ ـ أحمد بن
إبراهيم القزويني (؟)
٥ ـ أحمد بن حسين بن علي الحضرميّ
، البيّع المعروف بابن السُّكري (٣٦٢ ـ ٤٥٠ ه)
٦ ـ أحمد بن عبد الواحد بن عبدون
البرّاز (؟ ـ ٤٣٢ ه)
٧ ـ أحمد بن محمد بن الصَّلت
الأهوازي (٣٢٤ ـ ٤٠٩ ه)
٨ ـ أبو الحسين جعفر بن حسين بن
حَسكة القميّ (؟)
__________________
٩ ـ أبو علي
حسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البرّاز الأشعري ، الحنفي ، المتكلم (٣٣٩ ـ ٤٢٦ ه)
١٠ ـ الشريف أبو محمد حسن بن أحمد
العلوي (كان حياً سنة ٤٢٥ ه)
١١ ـ أبو على حسن بن محمد بن
إسماعيل بن أشناس البزّاز المعروف بابن أشناس وابن الحمّامي (٣٥٩ ـ ٤٣٩ ه)
١٢ ـ أبو محمد حسن بن محمد بن يحيى
السّامرائي ، المُقري ، المعروف بالفحام وابن الفحام (؟ ـ ٤٠٨ ه)
١٣ ـ أبو عبد الله حسين بن إبراهيم
القزويني (؟)
١٤ ـ أبو عبد الله حسين بن إبراهيم
بن علي ، ابن حنّاط القميّ (؟)
١٥ ـ أبو عبد الله حسين بن أحمد بن
محمد البزّاز المعروف بابن القادسي البغدادي (٣٥٦ ـ ٤٤٧ ه)
١٦ ـ أبو عبد الله حسين بن عبيد
الله بن إبراهيم الغضائري البغدادي (؟ ـ ٤١١ ه)
١٧ ـ أبو عبد الله حمويه بن علي بن
حمويه البصري (؟)
١٨ ـ أبو عمر عبد الواحد بن محمد
بن عبد الله المشهور بابن المهدي ، البزّاز الفارسي (٣١٨ ـ ٤١٠ ه)
١٩ ـ أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر
المعروف بابن الحمّامي المُقري (٣٢٨ ـ ٤١٧ ه)
٢٠ ـ أبو الحسين ابن جيد علي بن
أحمد بن محمد الأشعري القميّ (؟)
٢١ ـ أبو القاسم علي بن شبل بن أسد
الوكيل (؟)
٢٢ ـ أبو القاسم علي بن محسن بن
علي بن محمد القاضي التّنوخي
(٣٦٥ ـ ٤٤٧ ه)
٢٣ ـ أبو الحسين علي بن محمد بن
عبد الله بن بشران (٣٢٨ ـ ٤١٥ ه)
٢٤ ـ أبو الحسن محمد بن أحمد بن
علي بن شاذان القميّ
٢٥ ـ أبو الفتح محمد بن أحمد بن
محمد بن فارس المعروف بابن أبي الفوارس البغدادي (٣٣٨ ـ ٤١٢ ه)
٢٦ ـ أبو الحسين محمد بن محمد بن
علي المعروف بالعُبيدلي النسّابة (٣٣٨ ـ ٤٣٧ ه)
٢٧ ـ أبو الحسن محمد بن محمد بن
إبراهيم بن مُخلَّد البزّاز البغدادي الحنفي (٣٢٩ ـ ٤١٩ ه)
٢٨ ـ أبو الفتح هلال بن محمد بن
جعفر الكَسْكَريّ البغدادي المعروف بالحفّار (٣٢٢ ـ ٤١٤ ه) ٢٩ ـ أبو الحسن محمد
بن حسين المعروف بابن الصَّقال
٣٠ ـ أبو طالب حسين بن علي بن محمد
بن غرور الأنماطي
٣١ ـ أبو عبد الله أخو سروره
٣٢ ـ أحمد بن علي بن أحمد النجاشي
الأسدي (٣٧٢ ـ ٤٥٠ ه)
هذه الكوكبة
اللامعة من الأعلام الذين قلّ نظيرهم كانوا مشايخ الطوسي وبينهم الشيعي والسُّني ،
فاستفادَ الطوسي من السُّني كما تعلم من الشيعي ، والمتتبع لتراث الشيخ الطوسي
يلاحظ أثر هذا التنوع من المعارف المُتلقاة حيث استوعب معارف الطائفتين فأبرزها
بجدارة فائقة في إطار جديد. وأيضا يُظهر لنا تتبع تراجم هؤلاء المشايخ أمراً آخر
وهو
أنّ كل واحد من هؤلاء الرّجال كان رأساً في فن من الفنون والمرجع الوحيد في
ذلك العلم من العلوم الإسلامية ، وكان يعدّ قوله الحُجّة والقول الفصل ، فبينهم
المتكلم البارع ، والأديب اللامع ، والأُصولي ، والمحدّث ، والفقيه ، والنحوي ،
والمُقري والعالم بالقراءات والتفسير ، والرّجال والأنساب وغيرها. ويكفي أن نتصفح «تفسير
التبيان» أو «الأمالي» أو «التهذيب» أو «العُدّة في أُصول الفقه» لنقف على قدرة
الشيخ وسعة معلوماته وعمقها في مختلف العلوم الإسلامية.
وفي نهاية
المطاف ينبغي أنْ نشير إلى أمرين وهما :
أولاً : مجلس الشيخ المفيد وداره اللتان كان يحضرهما جماعة من
العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية ، ودار العلم لسابور بن أردشير وخزانة كتبه
حيث كانت ملتقى رجال الفكر والأدب ، ومنتدى العلماء والباحثين يشدّون إليها
الرِّحال ، وإليها كان يتردد أبو العلاء المعري وأضرابه ، وأيضا دار علم الشريف
المرتضى ومكتبته العامرة التي كانت تحتوي على ثمانين ألف مجلد وأصبحت ملتقى
العلماء والأُدباء والباحثين ، كما أن دار الشريف المرتضى كانت دار علم ومناظرة.
فقد استفاد الشيخ الطوسي من جميع هذه المناهل العذبة فنمت قابلياته وترعرعت وأنتجت
مدرسة عظيمة خالدة على مرّ الدهور ألا وهي مدرسة الشيخ الطوسي وتراثه الخالد.
ثانياً : نسب الذهبي في (سير أعلام النبلاء) ، والسُّبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) الشيخ الطوسي
إلى المذهب الشافعي ، قال :
__________________
«محمد بن الحسن بن علي ، أبو جعفر الطوسي ، فقيه الشيعة ومصنّفهم ، كان
ينتمي إلى المذهب الشافعي ، قدم بغداد وتفقه على المذهب الشافعي ...».
أقول : إنهما
أخطئا في هذه النسبة فان شهادتهما باطلة من جهات عديدة :
١ ـ بشهادة
الطوسي نفسه حيث يقول حين ترجمته لعُثمان بن سعيد العمريّ ـ وهو أحد النوّاب
الأربعة للإِمام الثاني عشر عليهالسلام ـ إنّه كان يزور قبره مُشاهرة منذ دخوله بغداد قادماً
من خراسان ، وكان العمريّ من أعيان الإِمامية وعَمَد الشيعة
ببغداد ، فمواظبة الشيخ على زيارة قبره مشاهرة من حين دخوله إلى بغداد سنة ٤٠٨ ه
ولغاية عام نيف وثلاثين وأربعمائة ينفى كونه شافعياً.
٢ ـ فان جماعة
من أعيان الإِمامية ترجموا حياة الشيخ قبل الذهبي والسُّبكي ولم ينسبوه للشافعية ،
كالنجاشي المتوفى سنة ٤٥٠ ه وغيره.
٣ ـ صنف الشيخ
الطوسي في بدايات دخوله إلى بغداد كتابه الشهير (التهذيب) وهو شرح لكتاب شيخه
المفيد في الفقه الإِمامي واستمر في شرحه له إلى عدة أعوام بعد وفاة شيخه عام ٤١٣
ه وهذا ينفى أن يكون خلال هذه الفترة التي امتدّت ما يقارب عشر سنوات شافعياً.
هذا فضلاً
__________________
عن بقية مؤلفاته التي جميعها تشهد بإماميته وتشيّعه وأنه لا يمتُّ للشافعية
بصلة لا من قريب ولا من بعيد.
نعم قد يكون
السُّبكي صادقاً في نسبته أنه (تفقه على المذهب الشافعي) إذ كان من ديدن الشيخ
معرفة جميع الآراء والمذاهب ولعله حضر دروس بعض فقهاء الشافعية فظنّه البعض أنّه
منها ، كما يوجد في عداد مشايخ الطوسي بعض أعيان الأحناف والشوافع ولعل وجودهم في
طبقة مشايخه سبّب هذه النسبة الباطلة.
٢ ـ زعامة الشيخ الطوسي
توفي الشريف
المرتضى ـ رحمهالله ـ في ربيع الأول سنة ٤٣٦ ه فخلفه في زعامة الإِمامية
تلميذه الأقدم والأبرز الشيخ الطوسي. ولا يخفى أنّ بلوغ الرّجل إلى هذه الرتبة
والمقام لا يتم إلّا إذا كان يمتلك الصفات اللازمة التي تؤهله لبلوغها ، وقد أهلّت
المكانة العلمية التي كان الشيخ يمتلكها أن يتصدر هذه الزعامة دون منازع ، حيث مرّ
على دخوله إلى بغداد مدة ثمان وعشرين سنة وخلال هذه الفترة قد استفاد الشيخ
واستزاد من العلوم بحيث صار علماً بارزاً من أعلام مدينة السلام لا يجاريه أحدٌ ،
فمناظراته العلمية ومباحثه وآراؤه الجزئية ومؤلفاته القيّمة كلها بالإضافة إلى
العناية الربانية كانت السبب في أن تشخص إليه الأبصار وتتجه إليه الأنظار حتى قبل
وفاة شيخه الشريف المرتضى ، وحينما لبّى الشريف ـ رحمهالله ـ نداء ربه تفرغ الشيخ الطوسي للتدريس والتعليم وانشغل
بالأمور التي تخصُّ الزعامة الدينية لطائفة مهمة وكبيرة ، فأصبح «شيخ
الطائفة وعمدتها» والإِمام الأعظم عند الشيعة الإِمامية التي كانت منتشرة
في طول البلاد الإسلامية وعرضها بدءاً بما وراء النهر وخراسان ومروراً ببلاد
الدّيلم وطبرستان وبلاد فارس وبلاد الجبل وآذربايجان وانتهاءً بالعراق والشام
والحجاز واليمن ومصر ، وهكذا صار الشيخ الطوسي مرجع الإِمامية على الإطلاق وبلا
منازع ، وقد دان الجميع له بالفضل والعلم والقِدَم وسُمو الرُّتبة والمكانة ،
فتقاطر عليه العلماء والطلاب لحضور مجلسه حتى عدّ تلاميذه أكثر من ثلاثمائة من
مختلف المذاهب الإسلامية. ولا ريب أنّ شهرته العلمية المستفيضة وانعقاد الإجماع
على أهميته بالإضافة إلى تحرر الفكر الإِمامي على عهده من التقية كانت وراء هذا
الإقبال الّذي لا نظير له في مختلف الأوساط والمذاهب على حضور درسه والاستماع إلى
محاضراته والتعويل عليه في الأمور العلمية ، وقد منحه الخليفة العباسي القائم بأمر
الله (٤٩٧ ـ ٤٢٢ ه) كرسي الكلام وكان هذا الكرسي لا يعطى الا للقليلين من كبار
العلماء ولرئيس علماء الوقت . واستمرت زعامة الطوسي في بغداد مدة اثنتي عشرة سنة (٤٣٦
لغاية ٤٤٨ ه) وكان يتمتع بالمكانة التي كان يتمتع بها قبله أستاذاه الشيخ المفيد
والشريف المرتضى ، وإنْ فاقهما في بعض مراتب العِلم والفضل والكمال. وقد استطاع
والطوسي خلال هذه الفترة أن يُربّي نخبة من التلاميذ وأن يضيف إلى التراث الإسلامي
مصنفات جديدة ، هذا فضلاً عن متابعته لشئون الشيعة في العراق وخارجها والاتصال بهم
عبر وكلائه ، والإجابة عن أسئلتهم واستفتاءاتهم ، ولكن عادت المشكلة التي ترك من
أجلها
__________________
الشيخ الطوسي خراسان إلى بغداد من جديد ، إذا وصلت إلى بغداد موجة جديدة من
الأتراك الأجلاف المتعصّبين الجهلة الذين لم يكن لهم همٌّ سوى السَّلب والنَّهب
والاستيلاء على مقاليد السلطة ، فأحرقوا في طريقهم من خراسان وما وراء النهر إلى
الرّي والعراق دور العلم والمكتبات والمدارس وأعدموا الفلاسفة والمتكلمين
والمثقفين والعقلانيين ، وأماتوا الثقافة الإسلامية الناهضة ، وأحيوا الجهل
والخرافة ، وزكّوا نار العصبية والسلفيّة. وهذه الموجة كانت موجة السلاجقة وعلى
رأسهم طُغرل بيك فهو بدأ حملته صوب غرب خراسان منذ سنة ٤٢٩ ه فاستولى على بلخ
وجرجان وطبرستان والخوارزم ، وخلال فترة سنة ٤٣٣ ه ولغاية ٤٣٧ ه مدّ نفوذه
وسلطانه على بلاد الجبل وهمدان والرّي ودينور وحُلوان وأصفهان ، وفي سنة ٤٧٧ ه (١٠٥٥
م) دخل بغداد فاتحاً ، وهكذا فتحت بدخول قواته صفحة جديدة من تاريخ مدينة السلام.
وكان المستهدف الأول من بين أهداف السلاجقة هم الشيعة ومدارسها ودور علمها
وأعلامها ، وفي سنة ٤٤٨ ه اشتدت الفتن وبلغ العنف والقتل والإِحراق ذروته ، وبعد
ان أُحرقت دور الشيعة وبعض محالّها وصلت النوبة إلى الشيخ الطوسي فقد كُبست داره
ونُهبت وأُحرقت ، كما وأُحرقت كتبه وآثاره ودفاتره ، وأُحرق كرسي التدريس الّذي
كان قد منحه إياه الخليفة العباسي القائم بأمر الله ، وقُتل أبو عبد الله الجلّاب (وهو
من علماء الشيعة) على باب دكانه. وكانت الخلافة العباسية وأجهزتها عاجزة عن إقرار
الأمن والنظام إذ كانت آنذاك في ضعف وتدهور حيث فقدت هيبتها وسلطانها على النفوس ،
هذا فضلاً عن انّ بعض السلفيين المتشددين الذين
كانوا يستفيدون من الخلاف والفرقة بين عناصر المجتمع إذا هم ما لمسوه من
تقارب نسبي بين الطوائف المسلمة ، فجنّدوا أنفسهم لتعكير صفو الأمن ، وأظهروا كل
ما تكنّه نفوسهم من تعصب ضد خصومهم في المذهب ، فاعتدوا على رجال العلم ، وعرّضوا
قسماً مهماً من التراث الإسلامي إلى الضياع بإحراقهم المعاهد ودور الكتب والعلم .
٣ ـ الأوضاع الاجتماعية والسياسية في بغداد في النصف الأول من القرن الخامس
الهجري
كان القرن
الخامس الهجري عصر انهيار سياسي بالنسبة إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية ،
ولكنّه في الوقت ذاته كان عصر نضجٍ فكريّ ، فقد احتضنت هذه المدينة نخبة صالحة من
كبار المفكرين وشيوخ المحدثين وأماثل العلماء والمتكلمين ومنهم شيخنا الطوسي الّذي
دخلها سنة ٤٠٨ ه ، وقد صوّر الباحث الفاضل حسن عيسى الحكيم في كتابه القيّم «الشيخ
الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن» هذه الحقبة الزمنية والتي تبدأ بسيطرة البويهيين
على العراق وينتهي بدخول طُغرل بيك إلى بغداد عام ٤٤٧ ه خير تصوير حيث يقول :
تميّز العصر
الّذي نتحدث عنه بظاهرة الصراع الفكري بين أرباب
__________________
المدارس الكلامية والفقهية ، وكان يتأرجح بين الحُرّية والتزمّت تبعاً
لموقف السلطة الفعلية منه ، وكان أهم مظهر له هو الصراع بين النزعة السَّلفية
والنزعة العقلية ، وربما انعكس هذا الصراع على الواقع العملي للناس ، وكانت السلطة
في الخلافة العباسية قد انحازت ـ خصوصاً منذ عصر المتوكل على الله (٢٤٧ ـ ٢٣٢ ه)
ـ إلى الاتجاه السَّلفي المتشدد ، وأخذت تضطهد الفئات الأُخرى المخالفة له وفي
مقدمتها المعتزلة والشيعة ومَن على شاكلتهم ممن له ميول فلسفية ونزعة إلى التوفيق
بين أحكام العقل وأحكام الشرع ، وقد انتهز السَّلفيون المتشددون فرصة موقف الخلافة
هذا فزادوا في تقوية نفوذهم ، وصاروا يفرضون آراءهم على الناس بالقوة ، ويتدخلون
في كلّ صغيرة وكبيرة ، سواءً ما يتعلق بشئون الأفراد أم الدولة ، حتى كانوا حكومة
داخل حكومة ، فزالت هيبة الدولة ووقعت الفتن والاضطرابات داخل الدولة مما أدّى إلى
استقلال الأُمراء بأطرافها وأجزائها ، ولم يبق للخليفة العباسي سوى بغداد ونواحيها
ما بين دجلة والفرات ، فاضطرَّ الخليفة المستكفي بالله العباسي (٣٣٤ ـ ٣٣٣ ه) إلى
دعوة البويهيين لتسلم السلطة في العراق ، ووضع حدٍّ للارتباك والفوضى ، والتَّخلص
من نفوذ الأتراك ، وكان البويهيون آنذاك قوة نامية في شرق مملكة الإسلام. ودخل
البويهيون بغداد سنة ٣٣٤ ه فسلكوا سبيلاً وسطاً تجاه جميع الميول والاتجاهات
والفِرَق فلم يتحزبوا لفئة معينة على حساب فئة أُخرى ، ولم ينحازوا إلى رأي خاص ،
بل تركوا الناس أحراراً في معتقداتهم وآرائهم ، ذلك إنهم كانوا يُدركون أنهم رجال
دولة ، وأرباب سياسة ، وأنّ همّهم الأكبر يجب أن يتّجه إلى إقرار الأمن
والنظام. ويدلّ على ذلك أنهم على الرَّغم من كونهم شيعة كانوا يفرضون أوامر
مشدّدة على هذه الطائفة التي يلتقونها في الانتماء المذهبي لحدّ منعهم من إقامة
شعائرهم الدينية تلك التي قد تُسبب إثارة الحزازات ، ونشوب الفتنة ، وقد
نفوا من بغداد الشيخ المفيد وهو فقيه الشيعة في ذلك الوقت فغادرها في عامي ٣٩٣ ه و
٣٩٨ ه بعد الحوادث الطائفية . ومع أنّ البويهيين كانوا شيعة إلّا أنهم لم يحاولوا
تسليط أبناء مذهبهم على أهل السُّنة ، والّذي مكّن البويهيين من الاستقرار والأمن
في البلاد سياستهم الحكيمة المتسامحة تجاه جميع السكان ، فهدأت الأحوال ، واستقرّت
الأمور في أغلب الأوقات ، وانصرف الناس إلى العمل من أجل ترقية الحياة المادّية
والرُّوحية ، وعادت بغداد كعبة العلم والثقافة على النحو الّذي كانت عليه في العصر
العباسي الأوّل (٢٣٢ ـ ١٣٢ ه) أيام خلافة المأمون. والواقع أنّ المجتمع الإسلامي
خطا في العصر البويهي خطوات واسعة في مضمار التقدم العلمي لا زالت آثاره باقية حتى
الوقت الحاضر ، ولهذا اعتُبر من أزهر العهود الثقافية في هذه البلاد لإِطلاق
الحُرية الدينية ، والحُرية الفكرية ، والحُرية القلمية ، وقد تميَّز بذلك بوجه
خاص عضد الدولة (٣٧٢ ـ ٣٦٧ ه) ، وهذه الحُرّيات كانت السبب في كثرة من نبغ في
العلوم والآداب في ذلك العصر من مختلف المذاهب الإسلامية أمثال : الكليني ، وابن
قولويه ، والصدوق ، والشيخ المفيد ، والشريف الرضي ، والشريف المرتضى ، والشيخ
الطوسي ، والكثير من شيوخ المذاهب
__________________
الإِسلامية والفرق الكلامية أمثال : الماوردي ، والشيرازي الفيروزآبادي ،
وإمام الحرمين الجُويني ، والباقلاني وأبو الحسين البصري ، وابن الصّباغ الشافعي ،
والدامغاني الحنفي ، وأبو الوفاء البغدادي الحنبليّ ، وغيرهم من العلماء الذين عجّ
بهم القرن الخامس الهجري. والواقع أنّ رجال الفكر والعلم كان الكثير منهم في عهد
الدولة البويهية في مأمنٍ من الفوضى والاضطرابات. كما وامتاز عهد آل بويه بالخصب
العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاصّ أو بتأثير وزرائهم ، إذ كان بيت الوزير بمثل مدرسة
بل جامعة تحوي ألواناً مختلفة من الثقافة وضروباً من العلم والأدب ، وكانوا لا
يستوزرون أو يستكتبون إلّا العلماء والشعراء والكتّاب ، وقد لعبت دُور العلم ببغداد دَوراً مهماً وبارزاً في
إنعاش الحركة الفكرية ، منها «دار العلم» التي شيّدها الوزير البويهي أبو نصر بن
سابور بن أردشير في سنة ٣٨١ ه ، وكان فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد ، وبقيت هذه
المكتبة تؤدّي دورها في خدمة العلم والفكر حتى عام ٤٥١ ه حيث احترقت عند دخول
طغرل بيك بغداد. وأنشأ الشريف المرتضى ببغداد داراً أُخرى سمّاها «دار العلم»
وكانت دار علمٍ ودراسةٍ وسكن للطلاب ، وألحقَ بها خزانة كتب حافلة وكبيرة .
وهكذا غدت هذه
المدينة خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة مركزاً مهماً من مراكز العلم والثقافة
ومبعث الحرية الفكرية.
وقد تعكَّر صفو
هذه الحرية مرات عديدة بسبب الأحداث الطائفية
__________________
التي كانت تثيرها الحنابلة غالباً ، إلّا أنّ السّمة الغالبة لهذه الفترة
هي الهدوء والأمن ، لكن حدثت الانتكاسة الخطيرة والقاضية في العقد الرابع من هذا
القرن وذلك حينما دخل طُغرل بيك السلجوقي بغداد بقواته واحتلها وطرد منها
البساسيري. ونتج عن ذلك رجحان كفة السلفيّة والحنابلة ودعاة طرد العقلائية ،
فهجموا على دُور العلم ، والمكتبات العامة ، والمدارس ، ومجالس النّظر والمناظرة ،
فأحرقوها وقتلوا جماعة وهدّموا بعض دروب محلة الكرخ ـ والتي كانت تسكنها أغلبية
شيعية ـ وهكذا وبدخول طغرل إلى بغداد سنة ٤٤٧ ه انتهى العهد الذهبي الثاني لبغداد
وإلى الأبد ، ففرَّ الكثيرون إلى أماكن أُخرى نجاةً بأرواحهم من القتل ، ومنهم
الشيخ الطوسي حيث فرّ إلى النجف الأشرف بعد حوادث العنف التي حدثت في بغداد عام
٤٤٨ ه ،
وفي نهاية
المطاف يمكن أن نُلخّص أسباب سقوط بغداد ونهاية عهدها الذهبي وخسران الشيعة لبغداد
كمركز ديني وثقل سياسي لها إلى العوامل التالية :
١ ـ ضعف
الدَّيالمة وتفرّقهم وصراعهم الداخليّ.
٢ ـ ازدياد
العُنصر التركي ونفوذهم وميلهم إلى السلفيّة.
٣ ـ اجتماع
السببين السابقين أدى إلى حدوث اضطرابات خطيرة في عموم بغداد وخاصة المحلات
الشيعية.
٤ ـ ظهور
السلاجقة في خراسان وتوجههم نحو العراق أدّى إلى زيادة الضغط على الشيعة وارتفاع
معنويات أعدائهم.
٥ ـ ظهور حركة
البساسيري (٤٤٩ ـ ٤٤٧ ه) بدعم من الخلافة الفاطمية
في مصر وبعض أمراء الشيعة في العراق ، وما أعقبها من خلع الخليفة ووزيره
عميد الملك الكندري ، وقيام دولة ذات ميول إسماعيلية في بغداد زاد من الضغط على
الشيعة وأوقعهم في حرجٍ شديد ، وتحميل قوياً أنّ الشيخ الطوسي هرب من بغداد لئلا
يضطرّ إلى تأييد البساسيري أو مماشاته ، وحينما سحب الخليفة الفاطمي ـ بتحريض من
الوزير المغربي ـ تأييده ودعمه من البساسيري خَمَدت حركته وقُتل على أيدي جنود
طُغرل.
٤ ـ خصائص مدرسة الشيخ الطوسي في بغداد
سبق لنا في
الصفحات السابقة أن تحدّثنا عن القابليات الفذة للشيخ الطوسي حيث تمكَّن خلال فترة
قصيرة بعد دخوله إلى بغداد من الالتحاق بمدرسة الشيخ المفيد ، وصار من أعلامها
والمبرّزين فيها ، وقد اعتنى به شيخه المفيد وخصَّه بنفسه وأودعه مواهبه وعلمه ،
ولا يخفى أنّ الذهبي ـ وهو من ألدّ أعداء المفيد وعامة من ينتهي إلى مذهب أهل
البيت عليهمالسلام ـ قال في وصفه : «كان أوحد زمانه في جميع فنون العلم
الأصلين الفقه والأخبار ، ومعرفة الرّجال ، والتفسير ، والنحو ، والشعر ، وكان
يُناظر أهل كلّ عقيدة مع العظمة في الدولة البويهية ... كان مُديماً للمطالعة
والتعليم ومِنْ أحفظ الناس ، قيل إنّه ما ترك للمخالفين كتاباً إلّا وحفظه وبهذا
قَدر على حلّ شُبه القوم ، وكان مِنْ أحرص الناس على التعليم ، يدور على المكاتب
وحوانيت الحاكة فيتلمّح الصبيّ الفَطن فيستأجره من
أبويه ـ يعني فيضلّه! ـ وبذلك كثرت تلامذته» ، فلا بدّ أنّ المفيد فطن في هذا الشاب القادم من
خراسان ذكاءً نادراً وقدرة هائلة على تلقي العلم ، فقرّبه إلى نفسه وربّاه خلال
تلمذته عليه. ومراجعة سريعة للأجزاء الأولى من كتاب (تهذيب الأحكام في شرح المقنعة)
الّذي صنّفه في حياة شيخه المفيد يدلّ على علمه وقدرته على التصنيف والتفريع
وإرجاع الفروع إلى الأصول ، وهذا الكتاب دليلٌ على أنّ المفيد اختار من بين
تلاميذه ـ وبينهم من هو أسنّ من الطوسي وأسبق في التلمذة ـ أقربهم إلى نفسه
وأقدرهم على شرح كلماته. ولا حاجة للإطالة في الحديث عن عظمة الطوسي وعلوّ مقامه
بل تكفي الإشارة إلى أنّ كتابه هذا والّذي ألّفه ولم يبلغ الثلاثين من عمره عدّ من
يوم تأليفه إلى الآن أحد الأصول الأربعة الّذي يعوّل عليه الإمامية.
وينبغي التنبيه
على نقطة هامة أُخرى إلا وهي أنّ الشيخ الطوسي لم يتخصص في فرع من فروع العلوم
الإِسلامية ، بل استوعب جميعها وفاق فيها ، وقد انعكست هذه الميزة على مدرسته ،
ويمكن لنا التركيز على المميزات الهامة لمدرسة الطوسي في بغداد وهي :
١ ـ تغييره
للمنهجية التي كانت متبعةً عند الإمامية وهي المنهج والأسلوب الروائي حيث كان
الحديث عماد أبحاثهم في الفقه والأُصول والتفسير وغيرها فقد أدخل الشيخ الطوسي
عنصر العقل والأدلّة العقلية في تفسير الروايات ورفع التعارض بينها ، ومن الملفت
أن اعتماده على العقل والأدلة العقلية لم يكن على حساب النقل أو التقليل من أهميته
في
__________________
عملية الاستنباط ، بل جعلهما ركيزتان للوصول إلى نتائج مرضية دون الإخلال
بجوهر العقيدة.
٢ ـ ومن نتائج
وآثار تغيير الشيخ للأسلوب الروائي هو اعتماده المتزايد على علم أُصول الفقه حيث
استلزم ذلك أن يطوّر هذه القواعد التي كانت موجودة عند الإمامية لكنها لم تتطور
لعدم ممارستها ، بخلاف المذاهب السنّية التي كانت قد عملت بها لمدة قرنين قبل أن
تتداول عند الشيعة ، فكان من نتائج هذا التطور أن خلق الشيخ الطوسي كتابه الأصولي
الخالد (العُدَّة في أُصول الفقه) ولعله أول كتاب مبسوط في هذا العلم عند
الإمامية.
٣ ـ إنّ تعدد
المذاهب واختلاف الطوائف وتنافسها في بغداد خلق أجواءً علمية منقطعة النظير وتسبّب
في تطور علم الكلام الّذي برع فيه الإمامية والمعتزلة ، وكان الشيخ المفيد وتبعه
الشيخ الطوسي من المتكلمين البارزين الذين لا يجاريهما أحدٌ ، وفي هذه الأجواء
اضطر الشيخ الطوسي إلى ممارسة علم الكلام في مدرسته ، ولم يقتصر في ذلك على
الأبحاث الكلامية ، بل استعمله في أغلب أبحاثه الفقهية والأُصولية والتفسيرية
وغيرها ، ثم تطور بعد ذلك ، ونتيجةً للحاجة الملحة التي كانت تطلبها أجواء بغداد
والمدارس الفقهية المتنوّعة فيها اضطرّ الشيخ الطوسي إلى إدخال عنصر آخر في أبحاثه
ومدرسته ألا وهو الفقه المقارن ، والأُصول المقارن ، وقد برع الشيخ في هذا المجال
أيضا وأبدى استعداداً فائقاً فخلّف لنا في مجال الفقه المقارن كتابه الخالد (كتاب
الخلاف) حيث بسّط فيه الكلام عن الفقه الإمامي وقارنه مع آراء معظم
المذاهب الفقهية السُّنّية ، فكان في عرضه لآراء المذاهب السُّنية دقيقاً
وصادقاً لا تفوته حتى أقوالهم النادرة وفتاواهم الشّاذة.
٤ ـ مما امتاز
به الشيخ الطوسي هو قدرته الفائقة والفريدة في طرح أفكاره الجديدة وآرائه المتميزة
على طلابه في مجالس درسه ، وعلى الآخرين من خلال تراثه المكتوب ، فقد كان للشيخ
الطوسي أسلوباً وبياناً متميزاً وفريداً جعله محطّ أفئدة طلابه حيث كان يسحرهم
ببيانه ، ويأخذ بألبابهم ، ويقودهم إلى حيث كان يريد ، ويفرض عليهم بقدراته
العلمية الفائقة وسعة معلوماته في جميع المجالات آراءه وأفكاره ، ومراجعة متعمقة
ودقيقة لتراثه تكفي للوقوف على جانب من قدرات الشيخ الهائلة ألا وهو تمكنه من
تصنيف المسائل واستقصاء كل ما يتعلق بمسألة معينة ودعمها بأدلّة نقليّة وعقليّة
ودحض أدلّة المخالفين بردود عديدة بحيث لا تقوم لهم بعدها قائمة ، بحيث لا يبقي في
النهاية مجالاً أمام القارئ إلّا الاستسلام والخضوع لمنطقه العلمي القويم.
وكانت هذه
الميزة هي السبب في انبهار فقهاء الشيعة امام فتاوى الشيخ الطوسي وعدم جرأتهم على
مخالفته مما أدّى إلى انغلاق باب الاجتهاد عندهم ـ كما قيل وسمّوا فقهاء هذه الفترة
بالمقلّدة ـ مدة قرن من الزمن أي منذ وفاة الشيخ الطوسي سنة ٤٦٠ ه وحتى بزوغ نجم
الفقيه الشيعي الكبير أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (المتوفى
سنة ٥٩٨ ه) حيث تمكن هذا الفقيه من كسر طوق التقليد وأعاد إلى مدرسة الإمامية روح
الاجتهاد والتجدد.
٥ ـ ومما تمتاز
به مدرسة الشيخ الطوسي ببغداد هو النشاط
والحيويّة التي كان الشيخ يتمتع بهما ، فقد جدّ الشيخ ودأب ونشط نشاطا
منقطع النظير فكان لا يتوانى ولا يكلّ عن إلقاء الدروس والمحاضرات في مختلف العلوم
الإسلامية والكتابة عنها وتربية الطلاب وتنشئتهم ، فخلال فترة أربعة عقود (٤٤٨ ـ ٤٠٨
ه) أنتج الشيخ ٤٥ مؤلفاً ، وربّى عشرات الطلاب ، وساهم مساهمة جليلة في تنمية
الحضارة الإسلامية ببغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري ، لكن بعد أن
هوجم الشيخ في داره ونُهبت كُتُبه وأُحرق كرسيّه ونجا بنفسه ولجأ إلى النجف الأشرف
خَبَتْ تلك الشُّعلة الوهاجة ، وأُطفئت إشعاعاته الفكرية ، واقتصر نشاطه على إلقاء
بعض المحاضرات ـ وفي فترات متباعدة ـ على مجموعة صغيرة من الطلاب ، وتلك المحاضرات
لم تكن من حيث الشمول والسعة والتنوع كما كانت ببغداد. وخلال السنوات الاثنتي عشرة
التي قضاها الشيخ في النجف لم يؤلف سوى كتابين ـ إن صدقت التسمية ـ الأول وهو كتاب
«اختيار معرفة الرّجال» حيث لخّص كتاب «رجال الكشي» ، وتأليفه هذا لا يعدو تلخيصاً
وتهذيباً لكتاب الكشّي دون أن يُضيف إليه الشيخ من نفسه شيئاً ، والآخر كتاب «الأمالي»
وهو عبارة عن مجموعة الروايات التي كان الشيخ يقررها على مستمعيه وأغلبها روايات
في فضائل أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ سمعها الشيخ من مشايخه ببغداد وقد جمع معظمها ولده
الشيخ أبي علي الطوسي ـ رحمهالله ـ ويتحدث الباحث حسن عيسى الحكيم عن هذه الفترة بقوله :
(ويلاحظ الدارس ظاهرة غريبة في حياة الشيخ الطوسي في الفترة الأخيرة التي عاشها في
النجف الأشرف وخلص فيها كلياً للدرس والمحاضرة ، هي قلة إنتاجه الفكري رغم أنّها
فترة امتدت نحو اثني عشر عاماً ... ولعل هذا ناتج من قناعته لكفاية إنجازاته
الفكرية في بغداد) .
٦ ـ برغم
النشأة الفارسية والمحتد غير العربي للشيخ الطوسي ، فان الملاحظ في سيرته الذاتيّة
، وخاصة بعد هجرته إلى العراق انصهاره وذوبانه في الثقافة العربية الإسلامية ،
فبرغم أنّ مدينة السلام كانت في تلك الأزمنة مدينة تعجُّ بمختلف المذاهب والقوميات
والملل ، وبرغم أنّ العنصر الفارسي كان من أهم العناصر الناشطة في بغداد ، إلّا
أنّ الغلبة كانت للعنصر العربي وللثقافة العربية الإسلامية ، وهذا ما أدّى إلى أن
يصطبغ ـ قليلاً أو كثيراً ـ كلّ من دخل إلى بغداد بالصبغة العربية وأن تصير
الثقافة العربية الإسلامية جزءاً من كيانه ومقوماته كما هو الحال بالنسبة إلى معظم
أعلام الفكر والثقافة ببغداد من الفرس أو ممن انحدروا من أُصول فارسية ، إلا أنّ
الملاحظ أنّ الشيخ الطوسي بالرغم من أنّه وُلد بطوس وهي قاعدة هامة من قواعد
العنصر الفارسي حيث وُلد ونشأ وترعرع فيها الفردوسي ـ أعظم شاعر فارسي على الإطلاق
وصاحب أكبر ملحمة فارسية وهي (الشاهنامه كتاب الملوك) ـ لكن الشيخ الطوسي حين دخل
مدينة السلام ارتبط بمجموعة من مشايخه الأعلام من العرب أو المستعربين الذين أنسوه
الفارسية وثقافتها فهجرهما نهائياً ولم يعد إليهما إلى حين وفاته ، فدرّس ، وناظر
بالعربية ، وكتب جميع مؤلفاته بها حيث لم يُعهد له كتاب أو رسالة باللغة الفارسية.
__________________
٣ ـ الشيخ الطوسي في النجف الأشرف
تعدّ هذه
المرحلة الأخيرة في حياة الشيخ الطوسي ـ رحمهالله ـ حيث امتدت فترة اثني عشر عاماً (٤٦٠ ـ ٤٤٨ ه) وكانت
النجف حين هاجر إليها الشيخ قرية صغيرة نائية على مشارف البادية وليس ما يُغري
أحداً بالبقاء فيها إلّا مثوى الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه أفضل
الصلاة والسلام ـ فاختار الشيخ داراً بالقرب من المقام الشريف ، فاجتمع حوله جماعة
صغيرة من الطلاب بعضهم من الهاربين وممن نجوا بأرواحهم من أحداث بغداد ، وآخرون
جذبتهم شهرة الشيخ وصيته ، وهكذا وضع الشيخ اللَّبِنات الأولى للمدرسة التي بقيت
تشع لمدة عشرة قرون ولا زالت إلى أن يشاء الله. وقد واجه الشيخ الطوسي في النجف
ظرفاً غير الّذي كان قد ألفه ببغداد ، وينبغي لنا أن نتعرض للحياة والظروف التي
واجهها الشيخ في النجف حيث كان له الأثر البالغ في منحى حياته وأسلوب دراسته
وخصائص مدرسته ومستقبلها.
واجه الشيخ
الطوسي بعد هجرته إلى النجف الأشرف عام ٤٤٨ ه ظروفاً جديدة تختلف من أوجه عدة عن
ظروف بغداد منها خلو النجف من تنافس مذهبي ، وصراع فكري ، وعدم وجود طبقة من كبار
العلماء الذين يرتكز عليهم فن المناظرة والجدل ، والهدوء الّذي تمتعت به النجف
بفضل ابتعادها عن التيارات السياسية ، كل هذه الأمور أتاحت للشيخ الطوسي فرصة
العمل بحريّة كاملة ، فأنشأ في النجف مدرسة ذات خصائص ، من أهمّها أن تكون الدراسة
فيها ضمن حلقات يجتمع الشيخ فيها بتلاميذه ويُملي عليهم معارفه في التفسير والحديث
والرّجال والفقه والأُصول وغيرها ، وقد قرأ بعض طلابه جميع تصانيفه بالغريّ وعند
مشهد الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام ودوّنت أمالي الشيخ الطوسي التي كان يلقيها على تلاميذه
بكتاب يعرف اليوم «بأمالي الشيخ الطوسي» الّذي احتوى على عدد مما يدور في تلك
المجالس من أحاديث متنوعة. فبناءً على ما ذكرناه نستطيع أن نعدّ مدرسته الشيخ في
النجف من المدارس المسجدية وليس من المدارس المستقلة عن الجوامع.
ومن الخصائص
البارزة الأُخرى لمدرسة النجف العلمية أنها آحادية المذهب تقوم فقط بتدريس علوم آل
البيت عليهمالسلام ، ولم يكن ما ينافس المذهب الجعفري من المذاهب
الإسلامية الأُخرى في النجف ولذا اختلفت هذه المدرسة عن مدارس بغداد المعاصرة لها
إذ كانت بعضها ثنائية المذهب أو أكثر ، وقد أخذت مدرسة النجف منذ عام ٤٤٨ ه في
التقدم والتوسع حتى أصبحت أوسع وأهم جامعات
العالم الدينية ، ولعل الحوزة التي ضمتها مدرسة النجف والتي أنشأها
الشيخ الطوسي فيها كانت فتية لأنه في أغلب الظن قد انفصل الشيخ عن تلامذته وحوزته
العلمية في بغداد بدليل أنّه لم يكن هربه من بغداد ولجوؤه إلى النجف اعتيادياً ،
بل كان فيه مطلوباً مطارداً ومبتعداً عن الفتن والاضطرابات التي تجددت هناك. وعدا
كتاب (الأمالي) فقد اختصر الشيخ الطوسي كتاب (اختيار الرّجال) وهذا الكتاب تهذيب
لكتاب (رجال الكشي المعروف ، وقد أخبرنا عنه الشيخ الطوسي بقوله : «هذه الأخبار
اختصرتها من كتاب الرّجال لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز واخترت ما فيها» . والظاهر أنّ الشيخ استمر في تدريسه وإلقاء محاضراته
حتى أواخر حياته.
فيقول ابن
شهريار الخازن ـ من تلاميذ الشيخ الطوسي «حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن
علي الطوسي رحمهالله بالمشهد المقدس الغروي وعلى ساكنه أفضل الصلوات في شهر
رمضان من سنة ثمان وخمسين وأربعمائة» وبينما كان الشيخ الطوسي مشغولاً بإعداد كتابه (شرح
الشرح) إذ وافته المنيّة فحالت دون إكماله.
يقول الحسن بن
مهدي السليقي ـ من تلاميذ الشيخ الطوسي ـ (وإنّ من مصنفاته التي لم يذكرها في
الفهرست كتاب (شرح الشرح) في
__________________
الأُصول ، وهو كتاب مبسوط ، أملى علينا منه شيئاً صالحاً ، ومات ولم يتمّه
، ولم يصنّف مثله) .
ويلاحظ الدارس
ظاهرة غريبة في حياة الشيخ الطوسي في الفترة الأخيرة التي عاشها في النجف الأشرف
وخَلُص فيها كلّياً للدرس والمحاضرة ، هي قلة إنتاجه الفكري رغم أنّها فترة امتدت
نحو اثني عشر عاماً ولم نعرف له من الكتب خلالها سوى (الأمالي) و (اختيار معرفة
الرّجال) و (شرح الشرح) الّذي شرع بتأليفه دون أن يتمه ، ولعلّ هذا ناتج عن قناعته
بكفاية إنجازاته الفكرية في بغداد إذ هو بما تميزت به آثاره من غزارة وتنوع قد
شارك بكثير من الأصالة والإبداع والتجديد في تحديد الاتجاه العام للثقافة
الإسلامية في زمنه وتحديد مستقبلها كذلك. وقد بقيت آراء الشيخ الطوسي في القضايا
الرئيسية الفقهية والأصولية تتمتع بنوع من الإكبار لدى الأُصوليين والفقهاء دهراً
طويلاً ، وقد تحاشى العديدون الخروج عليها أو نقضها إلّا بعد أجيال عدّة وقد اتسمت
محاولاتهم هذه بالجُرأة .
ويستفاد من
تتبع تواريخ محاضرات الشيخ الطوسي والتي دوّنت في كتابه (الأمالي) أنّه قد ضَعُفت
قوى الشيخ ، وحَلَّ به الوهن في السنتين الأخيرتين من عمره الشريف ، فآخره محاضرة
للشيخ (هذا بناءً على أنّ الأمالي يحتوي على آخر محاضرات الشيخ حيث يعدّ كتاب «شرح
الشرح» مفقوداً) كان يوم التروية من سنة ٤٥٨ ه وأملي فيها ثلاث روايات ،
__________________
وقبلها محاضرته يوم ٦ صفر سنة ٤٥٨ ه وأملى فيها ٤ روايات ، وقبلها محاضرته
في مجلس يوم الجمعة ٣ ذي القعدة سنة ٤٥٧ ه أملى فيها ٥ روايات ، فالبعد الزمني
الشاسع بين هذه المجالس فضلاً عن قلة الروايات التي أملاها الشيخ على مستمعيه
بالقياس إلى مجالسه السابقة التي كان يملي فيها عشرات الأحاديث وفي فترات متقاربة
خير دليل على ما قلناه.
وأخيراً توفي
الشيخ الطوسي ـ رحمهالله تعالى ـ ليلة الإثنين الثاني والعشرون من محرم سنة ٤٦٠
ه ـ كما هو المتفق عليه عند مترجمي الشيخ من الإمامية ـ عن خمس وسبعين سنة ،
وتولى غُسله ودفنه عدد من تلاميذه كالشيخ حسن بن مهدي السليقي ، وأبي محمد الحسن
بن عبد الواحد العين زربي ، والشيخ أبو الحسن اللؤلؤي ، ودُفن في داره بوصية منه ،
ثم تحولت الدار بعده مسجداً ـ حسب وصيته ـ فصار من أشهر مساجد النجف الأشرف حيث
عُقدت فيه منذ تأسيسه حتى اليوم عشرات حلقات التدريس مِنْ قبل كبار علماء الشيعة
ومجتهديهم ، وظلّ قبر الشيخ طيلة القرون العشرة الماضية مزاراً يتبرك به عامة
الناس . وبقيت الجامعة الإسلامية والحوزة العملية التي أسسها الشيخ حيّة ، نابضة
، فعّالة ، تمدّ العالم الإسلامي بمجموعة صالحة من العلماء الاعلام ، وكان الشيخ
أبي على الطوسي أول من سدّ الفراغ الّذي أحدثته وفاة أبيه في النجف الأشرف فتولّى
الحفاظ على استمراريتها وبقائها (وكانت الرحلة إليه والمعول عليه في التدريس
والفُتيا وإلقاء الحديث وغير ذلك من شئون
__________________
الرئاسة العلمية) ، وهكذا استمرت نشاطات الجامعة بعده وطوال القرون
العشرة الماضية ، فنمت وتطورت الدراسات فيها ، وبرغم تأسيس مدارس وحوزات علمية
شيعية كبيرة في أنحاء أُخرى من البلدان الإسلامية كمدرسة الحلب ، والحلة ، وجبل
عامل ، وأصفهان ، وخراسان ، وشيراز ، والأحساء ، والبحرين ، وكربلاء ، وسامراء ،
وأخيراً قم ، وكانت بعض هذه الحوزات تحتضن المرجعية الشيعية العليا في بعض الفترات
، لكن ظلت جامعة النجف الدينية لها سحرها الخاصّ تجذب إليها أفئدة الأُلوف من طلاب
العلوم الدينية ولا زالت إلى أن يشاء الله تعالى.
__________________
٤ ـ تلاميذ الشيخ الطوسي
لا نملك
معلومات دقيقة عن السنة التي فيها بدأ الشيخ إلقاء محاضراته ودروسه ببغداد ، وبرغم
انه كان مؤهلاً لأن يتصدر حلقة طلابه ويلقى عليهم دروسه بعد وفاة الشيخ المفيد ،
لكن لم تصلنا معلومات تفيد حصول ذلك ، ولعل الشيخ كان متفرغاً للاستزادة من العلوم
خاصة أيام زعامة الشريف المرتضى (٤١٣ ـ ٣٣٦ ه) ، حيثُ لحق به ، ولازمه ملازمة
قريبة ، وكان من المقربين عنده ، والمؤيّدين لزعامته ، ويُستبعد أن لا يكون للشيخ
طلابٌ أو حلقة دراسية في هذه الفترة الطويلة التي دامت ثلاث وعشرين سنة ، خاصة إذا
لاحظنا أنّ الشيخ كان مؤهلاً لذلك في بداية هذه الفترة ، ويكفي للدّلالة على
أهليته أنّه شرع تصنيف كتابه (تهذيب الأحكام) في حياة شيخه المفيد وأكمله بعد
وفاته ، والكتاب بنفسه كافٍ لإبراز شخصيته العلمية وتبحره في الفقه. وفي كل
الأحوال فانّ الشيخ تصدّر زعامة الإمامية عام ٤٣٦ ه ، فصار شيخ الطائفة ، وزعيمها
، ومعلّمها
الأول ، فتقاطر الطلاب إليه ، وتحلّقوا حوله يستزيدون من علومه ، ثم بعد
ذلك حينما هاجر إلى النجف الأشرف عام ٤٤٨ ه استمر فيها بالتدريس إلى حين وفاته ،
فخلال هذه الفترة التي استمرت مدة ربع قرن تتلمذ على الشيخ مئات الطلاب ، لكننا لم
نعثر على أسمائهم في كتب التراجم والرّجال إلّا قلة قليلة لا تتعدى أسماء ثلاثين
أو أربعين من مشاهيرهم ، وهؤلاء ينقسمون ، إلى ثلاثة أقسام : قسمٌ يعدّون من طلابه
ببغداد ، وآخرون في النجف الأشرف ، وقسم ثالث يُشك في تلمذتهم على الشيخ نفسه ولعل
بعضهم تتلمذ على ولده الشيخ أبو على الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي. وإليك أسماؤهم
:
القسم الأوّل :
١ ـ آدم بن
يونس بن أبي المهاجر النسَفي.
٢ ـ أحمد بن
الحسين بن أحمد النيسابوري (ت ٤٨٠ ه)
٣ ـ إسحاق بن محمد بن بابويه
القُميّ
٤ ـ إسماعيل بن محمد بن الحسن بن
بابويه القميّ (ت ٥٠٠ ه)
٥ ـ بركة بن محمد بن بركة الأسدي
٦ ـ تقي بن نجم الحلبي المكنّى
بأبي الصلاح الحلبيّ (ت ٤٤٧ ه)
٧ ـ جعفر بن علي بن جعفر الحسيني
٨ ـ الحسن بن عبد العزيز بن
الجبهاني
٩ ـ الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي
(توفي حدود سنة ٥١٥ ـ ٥١١ ه)
١٠ ـ السيد ذو الفقار بن محمد بن
معبد الحسيني المروزي
١١ ـ زيد بن
علي بن الحسين الحسيني
١٢ ـ السيّد زيد بن الدّاعي
الحسيني
١٣ ـ سليمان بن الحسن بن سلمان
الصهرشتي
١٤ ـ صاعد بن ربيعة بن أبي غانم
١٥ ـ عبد الرحمن بن أحمد
النيسابوري
١٦ ـ عبد العزيز بن نحرير بن عبد
العزيز البرّاج (ت ٤٨١ ه)
١٧ ـ علي بن عبد الصمد التميمي
السبزواري
١٨ ـ غازي بن أحمد بن أبي منصور
السّاماني الكوفي
١٩ ـ كُرد بن عُكْبَر بن كُردي
الفارسي الحلبيّ
٢٠ ـ محمد بن عبد القادر بن محمد
أبو الصَّلت
٢١ ـ محمد بن علي بن الحسن الحلبيّ
٢٢ ـ محمد بن هبة الله بن جعفر
الورّاق الطرابلسي
٢٣ ـ المُطهَّر بن أبي القاسم علي
بن أبي الفضل الديباجي
٢٤ ـ منصور بن الحسين الآبي (ت ٤٢٢
ه)
٢٥ ـ ناصر بن عبد الرضا بن محمد بن
عبد الله العلوي الحسيني
القسم الثاني :
١ ـ الحسن بن
الحسين بن بابويه القُميّ المشهور بحَسَكا (ت ٥١٢ ه)
٢ ـ الحسن بن مهدي السليقي العلوي
٣ ـ الحسين بن المظفر بن علي
الحمدانيّ أو الهمداني
٤ ـ عبد الجبار بن علي النيسابوري
المُقري (ت ٥٠٦ ه)
٥ ـ محمد بن
أحمد بن شهريار الخازن
٦ ـ المنتهى بن أبي زيد بن كَيابكي
الحسيني الجرجاني
القسم الثالث :
١ ـ أبو الحسن
اللؤلؤيّ (كان أحد الذين تولوا تغسيل الشيخ الطوسي ودفنه)
٢ ـ الحسين بن الفتح الواعظ
البكرآبادي الجرجاني
٣ ـ الشيخ شهرآشوب المازندراني
السرَويّ
٤ ـ أبو محمد بن الحسن بن عبد
الواحد العين زربي (كان أحد الذين تولوا تغسيل الشيخ الطوسي ودفنه)
٥ ـ محمد بن الحسن بن علي الفتّال
الفارسي (ت ٥٠٨ ه)
٦ ـ محمد بن أبي القاسم الطبريّ
الآملي (ت ٥٢٥ ه)
٧ ـ محمد بن علي بن حمزة الطوسي
المشهدي
٨ ـ محمد بن علي بن عثمان الكراجكي
(ت ٤٤٩ ه)
٩ ـ عبيد الله بن الحسن بن بابويه
القُميّ (ت ٤٤٢ ه)
ثانياً : تراث الشيخ الطوسي
يُعدّ الشيخ
الطوسي من النوابغ الذين أحاطوا بمجموعة من العلوم إحاطة تامة وكاملة بلغ منتهاها
وغايتها ، فألّف في جميع أصناف العلوم وصارت تصانيفه المنبع الأول والمصدر الوحيد
لمعظم المؤلفين في القرون اللاحقة ، لأنّها كانت تحتوي على الأُصول القديمة
المفقودة وإضافات الشيخ وإبداعاته ، وقد صنّف الشيخ في كافة العلوم الإسلامية
وخلّف بذلك تراثاً ضخماً استفاد منه الشيعة خلال القرون العشرة الماضية ولا زال.
وللدلالة على أهمية مصنفات الشيخ الطوسي يكفي أن نُشير إلى أن الشيعة تمتلك ٨
أُصول ، أربعة في علم الحديث وأربعة في علم الرّجال ، وقد صنف الشيخ خمسة (٢ في
علم الحديث و ٣ في علم الرّجال) من هذه الأصول الثمانية وهي : (التهذيب) و (الاستبصار)
و (الفهرست) و (الرّجال) و (اختيار معرفة الرّجال). وأيضا يُعدُّ الطوسي منتهى
إجازات علماء الشيعة في علم الحديث حيث أن انتشار ونقل
أحاديث الكتب الأربعة وغيرها في الأُصول القديمة يبدأ بالشيخ الطوسي وينتهي
إليه ، فالشيعة تنقل روايات (الكافي) للشيخ الكليني ـ رحمهالله ـ و (مَن لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق القمّي بأسانيد
الشيخ الطوسي وطرقه إلى هذه الكتب ، وجميعها مذكورة في كتبه الرجالية ومشيخته. وإليك
سرد مؤلفاته مرتباً حسب العلوم التي صنّف فيها وهي :
ألف : علم الحديث
١ ـ تهذيب
الأحكام : وهو أوّل تصنيف للشيخ ببغداد ويتضمن ١٣٥٩٠ حديثاً ويُعدُّ أحد الأُصول
الأربعة المعروفة عند الإمامية.
٢ ـ الاستبصار
فيما اختلف من الاخبار : ويحتوي على ٥٥١١ حديثاً.
ب : علم الفقه
١ ـ كتاب
النهاية في مجرد الفقه والفتاوي
٢ ـ كتاب مسائل الخلاف
٣ ـ كتاب المبسوط في الفقه
٤ ـ كتاب الجُمَل والعقود في
العبادات
٥ ـ كتاب الإيجاز في الفرائض
٦ ـ كتاب مسألة في تحريم الفقّاع
__________________
٧ ـ كتاب
المسائل الجُنبلائيّة
٨ ـ كتاب المسائل الدمشقية
٩ ـ كتاب المسائل الحائرية
١٠ ـ كتاب مسألة في وجوب الجزية
على اليهود ()
ج : علم الكلام
١ ـ كتاب
المُفصِح في الإمامة
٢ ـ كتاب تلخيص الشافي في الإمامة
٣ ـ كتاب مختصر ما لا يسع المكلف
الإخلال به
٤ ـ كتاب ما يُعلّل وما لا يُعلّل
٥ ـ كتاب مقدمة في المدخل إلى علم
الكلام
٦ ـ كتاب شرح مقدمة في المدخل إلى
علم الكلام (قيل إن اسمه رياضة العقول)
٧ ـ كتاب مسألة في الأحوال
٨ ـ كتاب شرح ما يتعلق بالأُصول من
جُمل العلم والعمل (تمهيد الأصول)
٩ ـ كتاب المسائل الرازية في
الوعيد
١٠ ـ كتاب المسائل في الفرق بين
النبيّ والإمام
١١ ـ كتاب النقض على ابن شاذان في
مسألة الغار
١٢ ـ كتاب الاقتصاد فيما يجب على
العباد
١٣ ـ كتاب الغيبة
١٤ ـ كتاب في
الأصول كبيرٌ خرج منه الكلام في التوحيد وبعض الكلام في العدل
١٥ ـ كتاب الكافي في الكلام ()
١٦ ـ كتاب تعليق ما لا يسع ()
١٧ ـ كتاب مسألة في الحُسن والقبح ()
١٨ ـ كتاب ثلاثون مسألة كلامية ()
١٩ ـ كتاب اصطلاحات المتكلمين ()
٢٠ ـ كتاب الاستيفاء في الإمامة ()
د : علم أُصول الفقه
١ ـ كتاب
العُدّة في أُصول الفقه
٢ ـ كتاب مسألة في العمل بخبر
الواحد
٣ ـ كتاب شرح الشرح
ه : علم الرّجال
١ ـ كتاب
الرّجال الذين رووا عن النبي والأئمة الاثني عشر عليهمالسلام ومن تأخر عنهم
٢ ـ كتاب فهرست كتب الشيعة وأُصولهم
، وأسماء المصنفين منهم ، وأصحاب الأصول والكتب ، وأسماء من صنّف لهم وليس هو منهم
٣ ـ كتاب اختيار الرّجال أو اختيار
معرفة الرّجال المعروف برجال
الكشّي
و : التفسير وعلوم القرآن
١ ـ كتاب تفسير
التبيان ()
٢ ـ كتاب المسائل الرجبية في تفسير
القرآن
ز : الأدعية
١ ـ كتاب
مختصرٌ في عمل يوم وليلة
٢ ـ كتاب مناسك الحج في مجرد العمل
والأدعية
٣ ـ كتاب مصباح المُتهجد في عمل
السُّنة
٤ ـ كتاب أُنس الوحيد
٥ ـ كتاب مختصر المصباح في عمل
السُّنة
٦ ـ كتاب هداية المسترشد وبصيرة
المتعبد
ج : التاريخ والأخبار
١ ـ كتاب مختصر
أخبار المختار بن أبي عُبيدة رحمهالله
٢ ـ كتاب المجالس في الأخبار (الأمالي)
٣ ـ كتاب مقتل الحسين عليهالسلام
ط : الكتب المتفرقة
١ ـ كتاب
المسائل الإلياسية ، وهي مائة مسألة في فنون مختلفة
٢ ـ كتاب مسائل
ابن البرّاج ()
٣ ـ كتاب المسائل القُميّة ()
ثالثاً : دراسة حول كتاب (العُدَّة في أُصول الفقه)
١ ـ دور الشيعة في تأسيس علم أُصول الفقه
يُعدّ أُصول
الفقه من العلوم التي أبدعها فقهاء الإسلام ، وهو علمٌ يُعطي الفقيه القدرة
الكافية واللازمة لاستنباط الأحكام الشرعية عن عدد معين من المصادر الشرعية. ويرجع
تاريخ نشأة هذا العلم إلى القرون الهجرية الأولى ، وبالتحديد فانه بعد وفاة الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم أحسَّ الفقهاء بالخلل الّذي حصل لهم ، حيث كان الرسول صلىاللهعليهوآله هو المرجع الأول والأخير في بيان الأحكام الشرعية ،
وكان الصحابة لا يواجهون مشكلةً إلّا وسألوا عنها الرسول صلىاللهعليهوآله فكانت تأتيهم الأجوبة وافية شافية ، لكنهم بعد أن فقدوه
عليه الصلاة والسلام أحسّوا بعظم المصيبة وفداحتها خاصة وأن الإسلام بدأ ينتشر
وواجهوا مشاكل ومستجدّات لا بد من العثور على الجواب المناسب لها بحيث لا يتعارض
مع الأصول الثابتة للإسلام. ومن هنا انقدحت وبرزت عندهم بذرة علم
الأُصول فبدأ فقهاء الصحابة بإعمال بعض القواعد الأُصولية المستقاة كالأدلة
اللفظية والعقلية ، واستعانوا في استخراج بعضها بالسُّنة النبوية الشريفة ، فكانوا
يحملون الأوامر الواردة في الكتاب والسُّنة على الوجوب والنهي على الحرمة ،
ويجمعون بين الخاصّ والعام بحمل العام على الخاصّ وتخصيصه ، والمطلق على المُقيّد
وتقييده ، والعمل بظواهر الكتاب والسُّنة وحجيته ظاهرهما ، وحمل المتشابه من
الآيات على محكماتها ، والاعتماد على الإجماع ، وخبر الثقة ، والمتواتر ، وغيرها
من القواعد الأُصولية التي بدأت تتطور شيئاً فشيئاً كلما بَعُد المسلمون عن عصر
الرِّسالة ، وتطورت الأمور والأحداث عندهم وواجهوا مشاكل ومستحدثات جديدة. وينبغي
التنبيه إلى نقطة هامة في تاريخ نشأة علم الأُصول وتطورها إلا وهو الفارق الزمني
بين المذاهب السُّنية والشيعة الإمامية في استعمال علم الأُصول وتطبيقه على
الوقائع والأُمور المستحدثة ، فانه لا شك أن فقهاء العامة ومذاهبهم أقدم من الشيعة
في استعمال القواعد الأصولية وتطبيقها والاستفادة من معطياتها وذلك لسبب بسيط وهو
أن إبداع علم الأُصول جاء نتيجة (ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع وانفصالها
عن ظروف النصوص الشرعية وملابساتها ، لأن الفاصل الزمني عن ذلك الظرف هو الّذي
يخلق الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط ، وهذه الثغرات هي التي توجد الحاجة
المُلحة إلى علم الأُصول والقواعد الأصولية) ، فالعامة فقدوا بموت النبي صلىاللهعليهوآله مصدر التشريع فاضطروا للاعتماد على مصدر
__________________
آخر يستقي مادته من الكتاب وسنة الرسول صلىاللهعليهوآله ولا تتعارض معطياته مع القواعد العامة التي شرعها النبي
صلىاللهعليهوآله ، فبدءوا شيئاً فشيئاً بتطبيق القواعد الأصولية مثل
تقديم الخاصّ على العام ، والمقيد على المطلق ، وحمل الأمر على الوجوب ، والنهي
على الحرمة ، والاعتماد على الإجماع وأقوال الصحابة ، والقياس ، والاستحسان ،
وحجيّة الظواهر في ألفاظ الكتاب والسُّنة وغيرها ، ومع تطور الأمور والأحداث وتعقيدها
وابتعاد المسلمين عن عصر التشريع والصحابة ازدادت صعوبة فهم ظواهر الآيات
والأحاديث فتطور علم الأُصول أكثر من ذي قبل وتتمثل قمة التطور في علم الأُصول في
تلك العصور عند أهل السّنة بظهور كتاب (الرِّسالة) للشافعي الّذي عدّه أهل السُّنة
أوّل مدوّنة في هذا العلم. يقول الشيخ محمد أبو زهرة : «والجمهور من الفقهاء [من
أهل السُّنة] يقرّون للشافعي بأسبقية بوضع علم الأُصول» ثم ينقل في كتابه الّذي وضعه عن حياة (الإمام الشافعي)
عن فخر الدين الرازي قوله : «اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأُصول كنسبة أرسطو
إلى علم المنطق ، وكنسبة الخليل ابن أحمد إلى علم العروض) .
أمّا الشيعة
الإمامية فانهم كانوا في غنىً عن هذه القواعد واستعمالاتها إلى بداية عصر الغيبة
الكبرى (سنة ٣٢٩ ه) لاعتقادهم بأنه وإن انتهى عصر التشريع بوفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولكن الأئمة المعصومين عليهمالسلام كانوا امتدادا له صلىاللهعليهوآله في بيان الأحكام وتبليغه
__________________
وتفسير القرآن والسُّنة وبيان المقصود من ظاهرهما ، فكانت الإمامية
مستغنيةً مدة قرنين ونصف عن قواعد علم الأُصول ومعطياتها لسبب بسيط إلا وهو وجود
المرجع والمصدر الّذي يمكن الركون إليه والاعتماد عليه حين مواجهة المستحدثات ،
وهذا المرجع هو الإمام المعصوم. واستمر استغناء الإمامية إلى حين غيبة الإمام
الثاني عشر عليهالسلام حيث بدءوا بتطبيق القواعد الأُصولية التي كانوا قد
أخذوها وتلقّوها عن الأئمة ولكنهم لم يطبقوها لعدم حاجتهم إليها حينذاك ، وعند ذاك
بدأ العصر التمهيدي في علم الأُصول عند الإمامية ـ بعد ان كانت العامة وأهل
السُّنة قد اجتازت هذا العصر وخطت خطوات كبيرة في مجال تطبيق القواعد الأُصولية
ودخلت عصر التصنيف ـ وهو عصر وضع البذور الأساسية وجمع شتات القواعد العامة
الصادرة عن الأئمة عليهمالسلام والتي كانت متفرقة في أبواب الفقه المختلفة ، ويبدأ هذا
العصر بعَلَمين من متقدمي أعلام الإمامية وهما : ابن أبي عقيل العُمّاني ، وابن
الجنيد وينتهي بظهور الشيخ الطوسي.
والملاحظ هنا
تقدم أهل السُّنة في تطبيق قواعد الأُصول وتأخر الإمامية في ذلك ، لكن لا يعني
تقدم أولئك وتأخر هؤلاء سبق الأول في إبداع علم الأُصول وانتسابه إليه حتى يعدّ
الإمامية تابعاً لهم في ذلك ، بل إنّ الإمامية أسبق من العامة في مجال وضع الأبحاث
الأصولية وان كانت العامة أسبق في مجال الممارسة والتطبيق بل وحتى تأليفٍ جامع مثل
كتاب (الرِّسالة) للشافعي.
يقول الباحث
الدكتور أبو القاسم گُرجي : «إنّ لعلم الأُصول أدواراً
تاريخية عديدة ولكلّ مرحلةٍ سماتها ومزاياها وخصائصها المعيّنة ، وتختص بعض
هذه المراحل التاريخية بأهل السُّنة وبعضها بالشيعة الإمامية وبعضها مشتركة بينهما
، وأوّل هذه الأدوار هو مرحلة التأسيس حيث يصرّ أهل السُّنة على أنّ مؤسس علم
الأُصول وواضعه هو الشافعي ، يقول الشيخ أبو زهرة : (والجمهور من الفقهاء يقرّون
للشافعي بأسبقيته بوضع علم الأُصول).
أقول : ان
الحقيقة تباين هذا الرّأي ، فانه لو كان مقصوده من (وضع علم الأُصول) التأسيس
والإبداع فلا ينبغي الترديد في بطلان هذا الانتساب في أمثال هذه العلوم ، لأن علم
الأُصول علمٌ مركب من مسائل عديدة ومن مواضيع وأبحاث شتى ، ففيه أبحاث اللُّغة
والأدب والعلوم العقلية وبناء العقلاء والتعبد الشرعي وغيرها ، فانتساب علم الأصول
إلى واضعي هذه العلوم أصحّ وأولى من انتسابه إلى الشافعي ، إذ كيف يُعقل أن ننسب
إبداع وتأسيس قاعدة دلالة الأمر على الوجوب والنهي على الحرمة ، وحكم العقل بحُسن
الأفعال وقبحها ، والعمل بخبر الثقة ، وحجيّة الاستصحاب ، وغيرها إلى الشافعي؟
وإن كان مقصوده
من (وضع علم الأُصول) الكشف عن قواعده وتبيينها وتطبيقها في مجال الاستنباط ، فانه
وإن فرضنا صدق انتسابه للشافعي في بعض الموارد ، لكن لا يمكن تعميمه على جميع
قواعد علم الأُصول ، لأنّه من المُتّفق عليه عند الجميع أنه بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله كانت جماعة من فقهاء الصحابة والتابعين مجتهدون ،
فكانوا يمارسون عملية الاستنباط باعمال القواعد الأُصولية ـ ولو على نحو الارتكاز
ـ فكانوا
يحملون الأوامر الشرعية على الوجوب ، ونواهيها على الحرمة ، والعام على
الخاصّ ، والمطلق على المفيد ، والمنسوخ على الناسخ ، فهل يُعقل أن نقول أنّ ابن
عباس أو ابن مسعود ، أو الشعبي ، أو ابن سيرين ، أو ابن أبي ليلى ، أو أبي حنيفة ،
أو مالك ، أو محمد بن الحسن الشيباني ، وغيرهم ممن سبقوا الشافعي في الاجتهاد
وإعمال القواعد الأُصولية لم يكونوا مجتهدين ، أو كانوا ولكنهم لم يعرفوا القواعد
الأُصولية!! وهذا يعني ان الحكم على مثل أبي حنيفة بأنه : (فقيه ، أو صاحب الرّأي
والقياس) ، سيكون حكماً مجازياً ، وبطلانه من أوضح البديهيات. نعم كانت الأُمور
والمستحدثات قد تطورت وتعقدت أيام الشافعي واستعصى حلّها إلّا بإمعان النّظر
والتدقيق وإفراغ الوسع في استنباط أحكامها ، خلافاً للبساطة التي كانت عليها
الأمور والأحداث في زمن الصحابة. ومن المناسب أن نشير إلى نصين يفيدان وجود عملية
الاجتهاد منذ عصر الرسالة وهما :
قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لابن مسعود : «اقض بالكتاب والسُّنة إذا وجدتهما ، فان
لم تجد الحكم فيها اجتهد رأيك» .
قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : «بم تَحكُم؟ قال : بكتاب
الله ، قال : فان لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : فان لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي» .
ونتساءل أليس
هذا الاجتهاد هو إعمال القواعد الأُصولية لأجل
__________________
استنباط الحكم الشرعي بعد خلو الكتاب والسُّنة من الحكم الصريح في الموضوع
أو الحكم المشتبه؟
وأيضا لو كان
مقصود الشيخ أبو زهرة بقوله : (وضع علم الأصول) أن الشافعي أوّل من صنف في أُصول
الفقه ، فانه أيضاً لا يخلو عن المناقشة إذ ان هشام بن الحكم (شيخ متكلمي الإمامية)
، ويونس بن عبد الرحمن وهما من أصحاب الإمامين الصادق جعفر بن محمد والكاظم موسى
بن جعفر عليهماالسلام وتلامذتهما قد ألّفا رسالتين في مباحث الأُصول وهما : (كتاب
الألفاظ ومباحثها) و (كتاب اختلاف الحديث) وهما أسبق زماناً من الشافعي ورسالته
الشهيرة. وقد تحدث العلامة آية الله السيد حسن الصدر في كتابه (تأسيس الشيعة لعلوم
الإسلام) عن هذين الكتابين أو الرسالتين وعن مؤلفيهما طويلاً وأثبت سبق الشيعة في
هذا العلم ، وعَلّق الشيخ أبو زهرة على كلام السيد الصدر بقوله : «إنّ الصدر يقول
إنّ الإمامين أمليا ولكنه لم يقل إنهما صنّفا وأنّ الكلام في أسبقية الشافعي إنّما
هو في التصنيف وانّ مثل الإمامية في نسبتهم القول في هذه الأصول إلى الإمامين
الكبيرين كنسبة الحنفية في أُصولهم أقوالاً لأئمة المذهب الحنفي كقولهم في العام
أنّ دلالته قطعية ، وقولهم في الخاصّ انّه لا يخصص العام إلّا إذا كان مستقلاً
ومقترناً به في الزمن إلى آخره. فان هذه الآراء أثرت عن الأئمة مطبقة على الفروع ،
ولقد سلّم السيد الجليل (أي الصدر) بأنه لم يكن ثمة تصنيف للإمامين الجليلين وانّ
ثمة إملاءٌ غير مرتب. فإذا قيل إنهما قد سبقا الشافعي في الفكر؟ فقد قررنا أنّ
المناهج كانت مقررة ثابتة لدى المجتهدين من الصحابة والتابعين وجرت على
ألسنة بعضهم واستقام عليها فقههم ، فإذا كان الإمام جعفر قد أملى بعضها على
صحابته وتناولوه بعده بالترتيب والتبويب فقد كان الزمن كله ينحو في الجملة إلى
ناحية ملاحظة المناهج وتمييز المدارس الفقهية في مناهجها.
وإذن فالإمامان
لم يسبقا الإمام الشافعي بالتأليف ، وأمّا سبق هشام بن الحكم بكتاب الألفاظ ،
ويونس بن عبد الرحمن بكتاب اختلاف الحديث ، فنحن لا نستطيع أن نقرر بهذا أنّهما
سبقا الشافعي إلى تدوين علم الأُصول لأن الكتابة في جزء من هذا العلم هو مشترك
بينه وبين غيره كبحث الألفاظ وكاختلاف الحديث لا يُعدُّ تأسيساً لهذا العلم بمباحث
الألفاظ ، والدلالات من المباحث المشتركة بين الأصول وبين اللغة وهي في الأُصول
جزءٌ مكملٌ لفهم القرآن والسُّنة ... لا يعدّ هذان العالمان بهذين البحثين قد أسسا
علم الأُصول كما فعل الشافعي ذلك ، ان الشافعي رتب أبوابه ، وجَمَع فصوله ، ولم
يقتصر على مبحث دون مبحث بل بحث في الكتاب والسُّنة وطرق روايتهما ومناهج
الاستدلال بها ، ومقامها من القرآن ، وبحث الدلالات اللفظية فتكلم في العام
والخاصّ ، والمشترك والمجمل والمفصل ، كما بحث الإجماع ... وهو بهذا لم يُسبق ، أو
على التحقيق لم يُعلم إلى الآن أنّ أحداً قد سبقه) .
وهكذا يقر
الشيخ أبو زهرة بأسبقية الإمامين عليهماالسلام وتلميذيهما في فتح باب الأُصول وفتق مسائله لكنه يرى :
أولا
: أنّ رسالة
الشافعي كتابٌ جامع يحتوي على معظم مسائل
__________________
أُصول الفقه ، واما كتابي هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن فهما يتحدثان
عن موضوع معين من مباحث الأصول.
وثانياً : يمكن عدّهما من أمالي الإمامين لا تصنيفاً مستقلاً.
وثالثاً : لا يمكن عدّ تصنيفهما كتاباً أُصولياً مجرداً عن بقية
العلوم ، بل هما مشتركان مع علوم أُخرى.
ورابعاً
: وعلى فرض
اختصاصهما بعلم الأُصول فانهما يعدّان تصنيفاً في مسألة من مسائل علم الأُصول لا
جميعها.
أقول أولا : في
رأيي يمكن إيراد نفس هذه المناقشات على مصنف الشافعي ، فان الشافعي لم يكن مُبدع
هذا العلم ولا كان صاحب أول تصنيفٍ عنه ، وانّما أضاف من نفسه وعلمه الغزير إلى ما
كان قد توصل إليه أسلافه من مشايخ وفقهاء أهل السُّنة.
ثانياً
: اما كتاب (الرِّسالة)
فانه أيضا لا يُعدُّ تصنيفاً مستقلاً كتبه الشافعي بنفسه ، بل هو أيضا مجموع
أماليه التي أملاها في مجالس متعددة على تلاميذه ، والشاهد عليه عبارة راوي الكتاب
في بداية كثير من فصوله وأبوابه : (قال الشافعي) واستنتج أحمد شاكر ـ محقق كتاب
الرسالة ـ في مقدمته أنّ الكتاب من أمالي الشافعي وليس تصنيفه .
ثالثاً
: لم تكن
المواضيع المطروحة في (الرِّسالة) أبحاث مستقلة ـ كما هو الشائع في التصانيف
الأُصولية في الأدوار اللاحقة ـ وإنّما طرح الشافعي أبحاثه في إطار الكتاب
والسُّنة ، ويتضح لنا حقيقة أسلوبه بملاحظة عناوين الأبواب في (الرِّسالة) مثل : (باب
ما نزل من الكتاب عاماً
__________________
يراد به العام ويدخله الخصوص) ، و (باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو
يجمع العام والخاصّ) و (باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاصّ)
وغيرها.
ورابعاً
: بالرغم من
اشتهار كون (الرِّسالة) مُدوّنة أُصولية لكنها مجموعة خليطة من مباحث في علم
الأُصول وغيره وليس فيها غلبة للمباحث الأُصولية على غيرها ، مثلاً يمكن أن نقرأ
هذه العناوين فيها : (باب فرض الله طاعة رسوله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها) ،
و (باب ما أمر الله من طاعة رسوله) ، و (باب ما أبان لخلقه من فرضه على رسوله
اتّباع ما أوحى إليه وما شهد له به من اتّباع ما أمر به ومن هداه وانه هادٍ لمن
اتبعه) ، و (باب فرض الصلاة الّذي دل الكتاب ثم السُّنة على من تزول عنه بالعذر
وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية) ، و (باب الفرائِض التي أنزله الله نصاً) ، و (الفرائض
المنصوصة التي سنَّ رسول الله معها) ، و (جُمل الفرائض) ، و (في الزّكاة) ، و (في
الحجّ) ، و (في العدد) ، و (في محرمات النساء) ، و (في محرمات الطعام) ، وغيرها من
العناوين ، وفي الحقيقة يمكن عدّ (الرسالة) خليطاً من أبحاث أُصولية ، وكلامية ،
وفروع فقهية ، وآيات الأحكام وتفسيرها .
وهكذا ثبت أن
الشيعة الإمامية سبقت غيرها في مجال التدوين في علم الأُصول ، لكنها تأخرت عن
المذاهب السُّنية في مجال الممارسة والتطبيق للسبب الّذي مرّ ذكره.
__________________
٢ ـ مراحل تطور علم الأُصول عند الشيعة الإمامية
قلنا إنّ
الشيعة بدأت بممارسة علم الأُصول عملياً وتطبيقياً في بدايات القرن الرابع الهجري
، أي منذ حدوث الغيبة الكبرى عام ٣٢٩ ه ولكنهم سبقوا هذا التاريخ بقرنين من الزمن
بالتصنيف والتأليف وإملاء الأبحاث الأُصولية ـ لكن الملاحظ في مدوّنات هذه الفترة
، أي منذ ظهور أوّل مُدوّنة أصولية للشيعة في القرن الثاني الهجري وهي رسالة هشام
بن الحكم وحتى عصر الشيخ المفيد (توفي ٤١٣ ه) :
أولا
: اختصاصها
بموضوع معين وبحث مفرد من الأبحاث الأُصولية مثل خبر الواحد ، القياس ، مباحث
الألفاظ وغيرها.
وثانياً
: اختلاط علم
الأُصول مع علم الكلام ، بل كون الأبحاث الأُصولية فرعاً وتابعاً لأبحاث علم
الكلام ، والظاهر أنّ منشأ هذا الاختلاط هو تسرب آراء أُصوليي أهل السُّنة إلى
مدوّنات الشيعة ، إذ أنّ
أعيان الأُصوليين عند أهل السُّنة كانوا من المتكلمين فملئوا مصنفاتهم
الأُصولية بالمباحث الكلامية التي كانت السبب في تنمية علم الأُصول وتطوره ،
ويُمكن عدّ الباقلاني ، والجبائيّان ، والقاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصريّ
من أعيان هذه الطبقة ، وقد تناول أُصوليّو الشيعة في مصنفاتهم آراء هؤلاء بالبحث
والتمحيص والمناقشة والقبول أو الرّد.
وإليك أسماء
مصنفي الإمامية في علم الأُصول منذ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري وحتى عصر
تدوين كتاب (العُدَّة في أُصول الفقه) للشيخ الطوسي :
١ ـ هشام بن الحكم
الشيباني الكوفي ، من أصحاب الإمامين الصادق جعفر بن محمد والكاظم موسى بن جعفر عليهماالسلام ، له مصنفات عديدة في علم الكلام والجدل والحديث ،
ويعدّ أوّل من صنف في علم الأصول وله (كتاب الألفاظ) توفي عام ١٩٩ ه ببغداد .
٢ ـ يونس بن عبد الرحمن
مولى آل يقطين ، وصفه النجاشي بقوله : (كان وجهاً في أصحابنا ، مُتقدماً ، عظيم المنزلة
، ولد في أيام هشام بن عبد الملك ، ورأى جعفر بن محمد عليهماالسلام بين الصفا والمروة ولم يرو عنه ، وروى عن أبي الحسن
موسى والرضا عليهماالسلام ، وكان الرضا عليهالسلام يشير إليه في العلم والفُتيا) له تصانيف كثيرة في
الحديث والفقه والتفسير والكلام ، واما تصنيفه في علم الأُصول فهو (كتاب علل
الحديث) أو (كتاب اختلاف الحديث) .
__________________
٣ ـ الحسن بن موسى
النوبختي ، وصفه
النجاشي بأنه (شيخنا المتكلم المُبرّز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها)
، وقال عنه النديم في الفهرست : (متكلم ، فيلسوف ، كان يجتمع إليه جماعة من
النقَلة لكتب الفلسفة مثل أبي عثمان الدمشقي وإسحاق بن ثابت وغيرهم) له مصنفات
عديدة في أصناف الفنون ، وله تصانيف في علم الأُصول وهي : (كتاب الخصوص والعموم) و
(كتاب في خبر الواحد والعمل به) .
٤ ـ إسماعيل بن علي بن
إسحاق النوبختي ، شيخ متكلمي الإمامية في القرن الثالث كان عالماً ، فاضلاً ، متكلماً ،
وله جلالة في الدين والدنيا ، له مصنفات عديدة في مختلف الفنون ، وصنَّف في
الأُصول (كتاب الخصوص والعموم والأسماء والأحكام) ، و (كتاب نقض رسالة الشافعي) ، و
(كتاب إبطال القياس) ، و (كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد) .
٥ ـ الحسن بن علي بن أبي
عقيل العُمّانيّ الحذّاء ، فقيه ، متكلم ، ثقة ، في القرن الثالث الهجري ، ويعدّ
ابن أبي عقيل أوّل من أبدع نظام الاجتهاد في الفقه الإمامي وصنّف كتاباً في الفقه
باسم (المتمسك بحبل آل الرسول) وهذا كتاب اجتهادي في الفقه الإمامي حيث أدرج فيه
آراءه الأُصولية ، قال عنه النجاشي : (كتاب مشهور في الطائفة ، وقيل : ما ورد
الحاج من خراسان إلّا طلب واشترى منه نسخٌ) .
__________________
٦ ـ محمد بن أحمد بن
الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي ، من أعيان الإمامية ، ثقة ، جليل القدر ، له مصنفات
كثيرة ، وله مصنف في الأُصول وهو (كتاب كشف التمويه والالتباس في إبطال القياس) . توفي عام ٣٨١ ه.
٧ ـ أبو منصور الصرَّام
النيسابوري ، من المتكلمين ومن مشايخ الطوسي بخراسان ، كان رئيساً مقدماً وله كتب
كثيرة ، مدحه الشيخ الطوسي في فهرسه وذكر له كتاباً في علم الأُصول وهو (كتاب
إبطال القياس) .
٨ ـ الشيخ المفيد محمد بن
محمد النعمان العُكْبَري البغدادي ، شيخ الإمامية وزعيمها ببغداد في أواخر القرن الرابع
وبدايات القرن الخامس الهجري ، يُعدُّ أعظم متكلمي المسلمين ، وقد مدحه كلّ من
ترجم له ووصفوه بالإجلال والإكرام ، وكان ملوك آل بويه ووزراؤهم يزورونه.
توفي ببغداد
سنة ٤١٣ ه. له تصانيف كثيرة في شتى الفنون والعلوم ومنها علم الأصول ، ويبدو أنه
أوّل من ألّف تصنيفاً يتضمن جميع مباحث علم الأُصول عند الإمامية ، وقد أشار الشيخ
الطوسي إلى كتابه في مقدمة (العُدّة في أُصول الفقه) وقد وصلنا مختصره الّذي صنعه
الشيخ أبو الفتح الكراجكي (ت ٤٤٩ ه) وأدرجه في كتابه (كنز الفوائد) وسمّاه (المختصر
في أُصول الفقه).
٩ ـ الشريف المرتضى علي
بن الحسين الموسوي ، تلميذ الشيخ المفيد وزعيم الشيعة بعده ، ومن أعيان ومشاهير علماء
المسلمين في
__________________
القرنين الرابع والخامس الهجريين ببغداد ، توفي عام ٤٣٦ ه ، وتصنيفه
الأُصولي هو كتاب (الذريعة إلى أُصول الشريعة) حيث جمع فيه جميع مباحث الأُصول عند
الإمامية في عصره.
١٠ ـ الشيخ محمد بن الحسن
الطوسي مُصنّف كتاب (العُدَّة في أُصول الفقه).
٣ ـ الشيخ الطوسي ودوره في تطوير علم الأُصول
يمكن عدّ الشيخ
الطوسي من الرُّواد الأوائل في علم الأُصول ومن منظريه ، فبالرغم من أنّه عاش في
القرن الخامس الهجري وسبقه آخرون من الإمامية ومن أهل السُّنة في تدوين مصنفات في
علم الأُصول ، لكن نبوغ الشيخ أدّى إلى أن يتطور علم الأُصول على يديه تطوراً
ملحوظاً بحيث (جاء كتابه «العُدَّة في أُصول الفقه» فريداً في بابه لم يصنّف مثله
قبله ، في غاية البسط والتحقيق) ، فلو لاحظنا المدونات الأُصولية عند الإمامية والتي
سبقت كتاب (العُدَّة) وهما كتابا (المختصر في أُصول الفقه) للشيخ المفيد و (الذريعة
إلى أُصول الشريعة) للشريف المرتضى وقارنّا بينهما وبين كتاب (العُدّة) لتمكّنا من
معرفة مدى التطور الحاصل في هذا العلم خلال هذه الفترة القصيرة التي لم تتجاوز ربع
قرن ، فاما (المختصر)
__________________
للمفيد فانه كما وصفه الشيخ الطوسي بأنه (لم يستقصه وشذّ منه أشياء يحتاج
إلى استدراكها وتحريرات غير ما حرّرها) . واما كتاب (الذريعة) فبالرغم من أنّه يعدّ قمة الفكر
الأُصولي عند الإمامية وتطوراً ملحوظاً مقارنة عما سبقه من مؤلفات المسلمين في علم
الأُصول ، لكن فيه من الثغرات مما كان من الضروري أن يُستدرك بتصنيف آخر يُمثّل
رأي الشيعة ويتوافق مع التطورات الحاصلة في الفكر الأُصولي الإمامي ، هذا فضلاً عن
أنّه يبدو أنّ (الذريعة) لم تكن قد دوّنت بعدُ حينما شرع الشيخ الطوسي في تأليف (العُدَّة)
، وقد وصف الطوسي الآراء الأُصولية عند شيخه الشريف المرتضى بقوله : (وإنّ سيّدنا
الأجل المرتضى ـ أدام الله علوّه ـ وإنّ كثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك ،
فلم يُصنّف في هذا المعنى شيئاً يُرجع إليه ويُجعل ظهراً يستند إليه) . ويمكن إرجاع جانب من التطور الحاصل في الفكر الأُصولي
عند الشيخ الطوسي والمتمثل في كتابه (العُدّة) إلى ضلوعه وتعمقه في الأبحاث
الفقهية ، فقد كان الطوسي فقيهاً قبل كل شيء وقد أدّى غوره في البحوث الفقهية
الوقوف على الثغرات الموجودة في الفروع الفقهية مما يصعب على الفقيه تجاوزها وحلها
الا بالاعتماد على قواعد أصولية متينة مبنيّة على الأُسس الصحيحة والتي تؤدي
ممارستها إلى سدّ تلك الثغرات وإيجاد الحلول المناسبة وتسهيل عملية الاجتهاد
والفتوى.
وقد وصف الإمام
الخوئي ـ رحمهالله ـ هذا التطور بقوله : (قد فرض
__________________
التفاعل الفكري بين الفقه والأُصول أن يواكب هذا التوسع الفقهي نحو محسوس
في الفكر الأُصولي تَمثل هو الآخر في كتاب (العُدّة) للشيخ الطوسي قدسسره ، ولم يحقق هذا مرحلة جديدة في تطوير الفكر الفقهي
الشيعي ومناهجه الأُصولية فحسب ، بل حقَّق مكسباً عقائدياً كبيراً إذ ردّ على ذلك
الاتهام الّذي وجهه الخصوم الفكريون إلى مدرسة أهل البيت وتحميلها مسئولية عجز
الفقه الشيعي عن النموّ والامتداد) . ويكفي لملاحظة التطور الهائل في كتاب (العُدّة) أن
نقارن بين أبحاث وآراء الشيخ الطوسي فيه وآراء شيخه المرتضى في (الذريعة) ،
فالعُدّة جامع لكل مباحث الأُصول ومسائله وعلى غاية البسط والاستقصاء والتحقيق ،
وقد لاحظت خلال تحقيقي عمقه في عرض الأبحاث والمسائل ، ودقته وبُعد نظره في فرز
الآراء الأصولية ومناقشة ما لا يتطابق مع رأيه وفكره الأُصولي ، وقبوله للآراء
الصائبة ثم إبداء آرائه التي لا يَصدرها إلّا بعد تمحيص وتدقيق لآراء جميع
الأُصوليين من الشيعة وأهل السُّنة ، فهو خبير ، نقادٌ ، بصير بآراء عامة
الأُصوليين وخاصة المعتزلي منهم ، وللطوسي عشرات النظريات الأُصولية التي تفرد بها
مثل : نظريته عن الخبر الواحد ، وعن حدّ العلم ، وعن تقسيمه للعلوم الضرورية ، وعن
مفهوم الظن عند الشيعة ، وعن معنى الدلالة ، والدّال ، والشّاك ، والمقلّد ،
والعقل ، والأمارة ، والحُسن والقُبح ، والاستعارة ، وعن حُكم الأمر الوارد عقيب
الحظر ، وعن الأمر المعلّق بصفةٍ أو شرطٍ ، وعن الأمر المُعلّق بوقتٍ ، وفي اقتضاء
الأمر ، وعن حقيقة النهي ، وعن معني الخاصّ ، والاستثناء ،
__________________
والشروط والغايات ، وعما أُلحق بالعموم وليس منه ، وعن تخصيص العموم ، وعن
الألفاظ المُجملة ، وعن شرائط النسخ والمنسوخ ، وكيفية نسخ الكتاب والسُّنة ، وعن
مفهوم البِداء عند الشيعة ، وشروط تحقيق الإجماع عند الإمامية ومدى حجيته ، وعن
القياس ، والاجتهاد (بالمعنى المصطلح عليه عند المذاهب السُّنية) وعدم حجيتهما عند
الإمامية وغيرها من الآراء التي كانت لها تأثيرات كبيرة في الفكر الأُصولي الشيعي
، ولقوة هذه الآراء وعلوّ مكانة الشيخ الطوسي عند الإمامية بقيت آراؤه الأصولية
إلى قرون عديدة تمثل رأي الشيعة (وإن حصلت فيها تغييرات في فترات لاحقة في عصر
العلامة الحلّي وبعده) وبقي كتاب (العُدَّة) مادة أساسية في المناهج المدرسية
لطلاب مدارس العلوم الإسلامية عند الشيعة ، وقام بعض أُصوليي الإمامية بالتعليق
عليه وشرح غوامضه.
وفي نهاية هذا
البحث ينبغي التنبيه إلى نقطة هامة إلا وهي الإشارة إلى التطور الهائل الّذي حصل
في الفكر الأُصولي عند الشيعة بعد الشيخ الطوسي وخاصة منذ القرن السابع الهجري
وحتى عصرنا الحاضر ـ خلافاً للركود والجمود الّذي حصل في الفكر الأصولي عند أهل
السنة والّذي لا زال مستمراً ـ حيث لو أردنا بيان النسبة بين علم الأُصول في عصر
الشيخ الطوسي وعصرنا الحاضر لما كنا مجازفين ولا مُغالين في القول بأنّ النسبة
بينهما نسبة الواحد إلى الألف!! وللحديث عن هذا التطور وأسبابه وعوامله مجالٌ آخر.
والله تعالى هو الهادي إلى الصواب.
٤ ـ منهج الشيخ الطوسي في تدوين كتاب (العُدّة في أصول الفقه)
يحتوي كتاب (العُدّة)
على اثني عشر باباً ، ويتضمن كلّ باب على فصول عديدة تقلّ ويكثر تعدادها حسب سعة
أبحاث الباب وقلته. وقد تحدث المصنف في الباب الأول وخلال ستة فصول عن ماهية أُصول
الفقه ، وعن أمور أخرى خارجة عن موضوع علم الأصول ولكنها مرتبطة به ارتباطاً
وثيقاً ، كما حاول تحديد بعض المفاهيم اللغويّة والاصطلاحات الكلامية ومباحث
الألفاظ ، مثل مفهوم العِلم ، والعلم الضروري ، والظَّن ، والشَّك ، والدّلالة ،
والعقل ، والأمارة ، والحسن والقبح ، والحقيقة ، والاستعارة ، والمجاز ، والأسماء
، واللفظ المشترك والكناية وغيرها.
ثمّ تكلم
المصنف في الباب الثاني عن الخبر وحَدّه وأقسامه ، ثم تحدث طويلاً عن الخبر الواحد
وخالف فيه مذهب شيخه الشريف المرتضى فذهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأقام على
مذهبه أدلة
عديدة ودَحض خلال أربعين صفحة أدلة خصومه.
وأوسع الأبواب
في كتاب (العدّة) هو الباب الخامس الّذي عقده للتكلم عن العموم والخصوص خلال ٢٢
فصلاً ، وفي هذه الأبواب ومن خلال فصوله وأبحاثه يبدو لنا شيخ الطائفة بحّاثاً
قديرا ، وأصوليا ماهرا ، وعالما نحريرا ، عارفا بأساليب الأصوليين وأدلتهم وطرق
مناقشاتهم ، فالطوسي في بداية كل فصل يطرح آراء جميع الأصوليين من الشيعة وأهل
السُّنة ، وآراء أرباب المذاهب ، فهو أمين في طرحه لآرائهم ويحاول أن ينقله كما
طرحه صاحبه دون أن ينقص منه شيئا أو يزيد عليه ، ثم يبدأ بمناقشة الأدلة الواحدة
تلو الأخرى ويحاول أن يدعم رأيه ومذهبه بالكتاب والسُّنة واللُّغة وأدلة العقل.
وأخيرا وبعد أن يرد قول الخصم يبرز رأيه المختار. والمصنف خلال أبحاث الكتاب يتعرض
لآراء مجموعة من فقهاء أهل السُّنة وأئمة مذاهبهم أمثال : أبي حنيفة ، الشافعي ،
داود بن علي الظاهري ، مالك بن أنس ، أبو الحسن الكرخي ، محمد بن الحسن الشيباني
وغيرهم. كما يتعرض المصنف لآراء جماعة من أعيان الأصوليين من أهل السُّنة ـ المعتزلي
منهم والأشعري ـ أمثال أبو عبد الله البصري ، القاضي عبد الجبار ، أبو علي
الجبّائي وابنه أبو هاشم ، وأبو القاسم البلخي ، وأبو العباس بن سريج وآخرون.
وأمّا من الشيعة فانّ الطوسي يطرح رأي شيخيه الشيخ المفيد والمرتضى ـ رحمهماالله ـ في جميع أبواب الكتاب تقريبا ، والملاحظ أنه يهتم
كثيرا برأي المرتضى وينقل مقاطع كبيرة من عباراته لكن لم يشر إلى المصدر المنقول
عنه بل يكتفي بالإشارة إلى أنه : قال سيدنا المرتضى ـ أدام الله علوّه ـ أو ـ قدس
الله
روحه ـ بل يتجاوز الطوسي في بعض الأحيان الحدود المتعارفة في نقل النصوص ،
فينقل فصلا كاملا عن المرتضى ، كما هو الحال في باب القياس ، حيث أورد فقرة طويلة
بدأت من صفحة ٦٤٩ وختمت في صفحة ٧٢١ ، ولم يشر المصنف في هذا المورد أيضا إلى
مصدره الّذي نقل عنه سوى قوله في نهاية الفقرة : (وقد أثبتت في هذه المسألة أكثر
ألفاظ المسألة الّتي ذكرها سيِّدنا المرتضى رحمهالله في إبطال القياس لأنَّها سديدة في هذا الباب) ، وجميع
هذه النصوص والفقرات مأخوذة من كتاب (الذَّريعة إلى أصول الشريعة) . ولا نعرف السبب في عدم إشارة الطوسي لكتاب المصدر ،
وأظنّ أنّ المصنف نقل هذه النصوص مشافهة عن شيخه المرتضى في أيام تلمذته عليه وقبل
أن يكتمل ترتيب ، وتبويب ، وتصنيف (الذَّريعة) ، ويستنتج من هذا الأمر أنّ الطوسي
صنَّف كتابه ببغداد قبل عام ٤٣٠ ه وهي السُّنة التي أكمل الشريف المرتضى تصنيف
كتابه (الذَّريعة) وأخرجه إلى الملأ العلمي . وهكذا يبدو أنّ الطوسي رحمهالله قد سبق شيخه الشريف المرتضى في تأليفه ، فصدور كتاب (العدّة)
أسبق زمانا من (الذَّريعة) ، بالرَّغم من سبق المرتضى في طرح أبحاث كتابه على
طلابه ومنهم الطوسي الّذي استفاد مما كتبه في مجالس درس المرتضى في أبحاث كتابه ،
وهناك قرينة أخرى دالة على سبق صدور (العدّة) على (الذَّريعة) وهي قول الشيخ
الطوسي في ديباجة
__________________
(العدّة) : «فان سيّدنا الأجلّ المرتضى ـ قدس الله روحه ـ وإن كَثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك ، فلم
يصنّف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه ، ويجعل ظهرا يستند إليه) ، حيث يصرّح بأنه لم يصدر للمرتضى ـ رحمهالله ـ كتابٌ في مباحث الأصول سوى بعض الأبحاث المتفرقة
المذكورة في أماليه.
__________________
٥ ـ مخطوطات كتاب «العُدَّة في أصول الفقه»
توجد لكتاب (العدَّة)
مخطوطات عديدة في المكتبات الخاصة والعامة ، فبعضها مدرجة في ضمن كتاب (حاشية
العدَّة في أصول الفقه) للمولى خليل بن غازي القزويني ، وبعضها مستقلة ، وهنا
نحاول إحصاء مخطوطات الكتاب مجردة عن حاشيته ، واما نُسَخه مع الحاشية فانها كثيرة
والسبب في ذلك أنّها كانت تعدّ من الكتب الدراسية في الحوزات العلمية الشيعية ،
ومؤلف الحاشية ـ كما وصفه العلامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني ـ بقوله : «المولى خليل
بن الغازي القزويني المولود في ٣ رمضان ١٠٠١ ه والمتوفى ١٠٨٩ ه ، ترجمه وأرّخه
وفصّل تصانيفه صاحب (الرياض) وذكر انّه لم يوفّق لملاقاته في حياته لكن وفق
لزيارته بعد وفاته ، وذكر أنّ حاشيته على (العدّة) التي عبّر عنها في (الأمل)
بالشرح في مجلدين يعرف أحدهما بالحاشية الأولى والآخر بالحاشية الثانية
أورد فيها مسائل كثيرة من الأصول والفروع وغيرهما ... وقد طبعت (حاشية
العدَّة) مع (العدَّة) في إيران في ١٣١٤ ه وذلك بعد طبع العدَّة في بمبئي في ١٣١٢
ه» . ونظرا لأهمية كتاب (العدَّة) فقد طبع لأول مرة في الهند قبل أكثر من قرن
من الزمن على الحجر (سنة ١٣١٢ ه) ثم تلتها طبعة أخرى حجرية أيضا بطهران عام ١٣١٤
ه حيث الحق بآخرها حاشية القزويني.
وإليك سرد
لمخطوطات هذا الكتاب وهي :
١ ـ نسخة كاملة
بخط النسخ ، كتبها عبد الصمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد سنة ٥١٨ ه ، وهي من
مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) ورقمها ٢٩١٦.
٢ ـ نسخة كاملة
بقلم نسخي مؤرخة سنة ١٠٥٠ ه ، مجهولة الكاتب في (كتابخانه آستان قدس رضوي) ورقمها
٣٠٠٣.
٣ ـ نسخة ناقصة
الأواخر ، كتبها محمد مؤمن مشهدي بن علي سراج الأسفراييني في ذي القعدة سنة ١٠٥٥ ه
وهي من مخطوطات (كتابخانه ملي ملك) بطهران برقم ١٩٦٦.
٤ ـ نسخة كاملة
في مكتبة (مدرس يزدي) بمدينة يزد ، كتبها محمد شفيع بن محمد شريف حسني فدكي بتاريخ
١٠٥٧ ه.
٥ ـ نسخة ناقصة
الأوائل ، كتبها شمس الطالقاني سنة ١٠٨٠ ه وهي من
__________________
مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) برقم ٢٩١٧.
٦ ـ نسخة كاملة
، بخط نسخي ، مجهولة الناسخ ، مؤرخة جمادى الثاني سنة ١٠٥١ ه وهي من مخطوطات (كتابخانه
وزيري يزد) ورقمها ١٠٣٣.
٧ ـ نسخة بقلم
نسخ ، كتبها حسين بن منصور السبزواري بطوس سنة ١٠٨٢ ه عن نسخة بخط حسين بن هلال
مؤرخة سنة ٧٢٣ ه ، وهي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد).
٨ ـ نسخة كاملة
، كتبها كمال الدين محمد بتاريخ ١٠٩٠ ه ، وهي من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس
رضوي) ورقمها ٢٩١٣.
٩ ـ نسخة ناقصة
الأواخر ، مجهولة الكاتب ، وهي من مخطوطات القرن العاشر في (كتابخانه ملي إيران)
بطهران.
١٠ ـ نسخة
كاملة ، مجهولة الناسخ ، كتبت في محرم عام ١١٢٦ ه وهي من مخطوطات (كتابخانه ملي
ملك) ورقمها ٦٣٦٠.
١١ ـ نسخة بقلم
نسخي ، كتبها محمد بن محمد مهدي سنة ١٢٣٢ ه وهي من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس
رضوي) ورقمها ٦٩١٣.
١٢ ـ نسخة
كاملة ، في مكتبة (مدرسة الإمام البروجردي) في النجف الأشرف ، كتبها محمد حسين بن
شيخ علي بقزوين يوم الخميس ١٤ جمادى الآخر سنة ١٢٤٠ ه ، ورقمها ٢٨٢.
١٣ ـ نسخة
كاملة ، بقلم نسخي ، كتبها علي محمد ديزي لنجاني بتاريخ ٥ ربيع الثاني سنة ١٢٢٦ ه
، وهي من مخطوطات (كتابخانه آية الله مرعشي) بقم ورقمها ٥٢٩٥.
١٤ ـ نسخة
كاملة ، بقلم نسخي ، كتبها محمد علي بتاريخ ١٩ رجب ١٢٠٧ ه ،
وهي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد) ورقمها ١٥٩٢.
١٥ ـ نسخة
كاملة ، بقلم نسخي ، نسخها محمد تقي الكاشاني في جمادى الأوّل سنة ١٢٦٢ ه وهي من
مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد) ورقمها ١٩٠٨.
١٦ ـ نسخة بقلم
نسخي ، ناقصة الآخر من القرن الثالث عشر ، وهي من مخطوطات (كتابخانه آية الله
مرعشي) ورقمها ١٤٢.
١٧ ـ نسخة
ناقصة الآخر كتبها محمد أمين بن صفي قلي خان ، مجهولة التاريخ والظاهر أنّها من
نسخ القرنين الأخيرين ، وهي من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) في خراسان.
١٨ ـ نسخة بقلم
نسخي ، كتبها سعيد بن علي بن حسين الحسيني التنكابني في غرة جمادى الأول سنة ١٣١١
ه (الجزء الأول) و ١٣١٢ ه (الجزء الثاني) ، وهي من مخطوطات (كتابخانه آية الله
مرعشي) ورقمها ٥١٤٠.
١٩ ـ نسخة بقلم
نسخي ، كتبها محمد جعفر بتاريخ ٤ شعبان ١٢٧٢ ه ، وهي من مخطوطات (كتابخانه سيد
محمد علي روضاتي) بأصفهان.
٢٠ ـ نسخة بقلم
نسخي ، كتبها علي رضا يزدي بتاريخ الثلاثاء ١٦ رمضان ١٢٧٩ ه ، وهي من مخطوطات
مكتبة (مدرس يزدي) في يزد.
٢١ ـ نسخة بقلم
نسخي ، مجهولة الناسخ ، كتبت بتاريخ ٢٢ رجب ١٢٨٢ ه وهي من مخطوطات (كتابخانه
دامغاني) في مدينة همدان.
٢٢ ـ نسخة
كاملة من مخطوطات (مكتبة كاشف الغطاء) في النجف الأشرف ، مجهولة الناسخ والتاريخ.
٢٣ ـ نسخة في
مكتبة منچستر ببريطانيا ، وهي مجهولة التاريخ ، ورقمها
١٦٤.
٢٤ ـ نسخة
مجهولة الناسخ والتاريخ في مكتبة الموصل بالعراق.
٢٥ ـ نسخة
ناقصة الأواخر ، مجهولة الناسخ والتاريخ ، وهي في (كتابخانه آستان قدس رضوي)
ورقمها ٢٩١٢.
٢٦ ـ نسخة
ناقصة الأواخر ، مجهولة الناسخ والتاريخ ، وهي في (كتابخانه آستان قدس رضوي)
ورقمها ٢٩١٤.
٢٧ ـ نسخة بقلم
نسخي ، مجهولة الناسخ والتاريخ ، وهي في (كتابخانه آستان قدس رضوي) ورقمها ٢٩١٥.
٢٨ ـ نسخة بقلم
نسخي ، مجهولة الناسخ والتاريخ ، وهي في (كتابخانه آستان قدس رضوي) ورقمها ٨٤٩٧.
٢٩ ـ نسخة
ناقصة ، بقلم نسخي مجهولة الناسخ والتاريخ ، وهي من مخطوطات (كتابخانه آية الله
مرعشي) ورقمها ٦٣٣٩ .
__________________
٦ ـ أوصاف النسخة التي اعتمدتها
بالرَّغم من
الكثرة النسبية لنُسخ مخطوطات كتاب (العدَّة في أصول الفقه) لكنَّ تاريخ جميعها لا
يتجاوز القرن العاشر الهجري ، إلّا نسخة واحدة وهي تعدُّ من نفائس وأعلاق
المخطوطات في خزانة مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) في مدينة مشهد المقدسة
بخراسان ، وقد اعتمدت في تحقيقي للكتاب على هذه النسخة اليتيمة والتي مر ذكرها
برقم (١) عند عرضي لمخطوطات الكتاب ، وأوصاف هذه النسخة كما يلي :
النسخة بقلم
نسخي قديم ، ٢٠٥ ورقة ، قياس ١٠ في ١٩ سم ، ٢٤ سطر. أوراق هذه النسخة نظيفة وخطها
مقروء ، ويبدو أنّ الناسخ الّذي نسخها كان من أهل العلم والفضل والمعرفة وذلك
بدليل سلامة النسخة عن التصحيف ، والتحريف ، واللحن ، والأغلاط الفاحشة ، والأخطاء
الإملائية التي غالباً ما تبتلى بها النسخ التي ينسخها الورّاقون. يوجد في آخر هذه
النسخة سقط بمقدار ورقتين ، ونتيجة لذلك خفي علينا تاريخ نسخها الحقيقي
واسم الناسخ ، لكن قام ناسخٌ آخر بإكمال هذا السقط فنسخ الصفحة الأخيرة وأثبت فيها
اسمه وتاريخ كتابته حيث قال :
تَمَّ
الكِتاب وربُّنا محمود
|
|
وله المكارم
والعلى والجود
|
على النبيّ
محمّد صلواته
|
|
ما ناح
قمريٌّ وأورق عود
|
وقع الفراغ من
كتبه عبد الصَّمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد في ذي الحجَّة سنة ثمان عشرة وخمس
مائة هجرية ، حامداً لله ، ومصلّيا على نبيه محمد [وآله الطاهرين».
ويستفاد من هذه
الخاتمة أنّ السقط الّذي كان موجوداً في النسخة قد أكمل سنة ٥١٨ ه. واما الناسخ
فلا نعرف شيئا عن تفاصيل حياته ولم يرد له ذكرٌ في تراجم الأعلام إلا ما ذكره
العلامة الطهراني بقوله : «عبد الصمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد ، من فضلاء
عصره ، وقد كتب بخطه (عدَّة الأصول) لشيخ الطائفة في ٥٢٨ ه والنسخة موجودة في
الخزانة الرضوية» . هذا وينبغي التنبيه إلى انّ عبد الصمد بن عبد الله لم
يكن ناسخا لتمام الكتاب بل أكمل الورقتين الأخيرتين من النسخة وأورد في نهايتها
اسمه ، وأيضا لم يكن تاريخ نسخه سنة ٥٢٨ ه (وقد انتقل هذا الخطاء من مفهرس
مخطوطات المكتبة إلى جميع من تحدث عن مؤلفات الشيخ الطوسي) بل هو سنة ٥١٨ ه كما
يظهر لمن يلاحظ تصوير النسخة.
وامّا تاريخ
كتابة أصل المخطوطة فانه كما قال لي مفهرس المكتبة وخبير المخطوطات فيها ، أقدم من
تاريخ الإكمال ، وانه توجد في النسخة
__________________
قرائن وشواهد على أنّها نسخت في النصف الثاني أو الربع الأخير من القرن
الخامس الهجري. وتوجد على هوامش بعض أوراق النسخة تصحيحات وتصويبات لكنها ليست
كثيرة وخطها ليس بقدم قلم النسخة. ويبدو أنّ النسخة كانت من متملكات حفيد السيد
نعمة الله الجزائري ، حيث أثبت ملكيته لهذه النسخة على الصفحة الأولى بقوله : (انتقل
إلى أقلّ عباد الله عملا ، وأكثرهم زللا ، عبد الله بن نور الدين بن نعمة الله بن
عبد الله الموسوي الجزائري التستري في سنة ١١٤٥ ه).
هذا وقد استعنت
في تحقيقي بنسختين من مخطوطات (كتابخانه آية الله مرعشي) أشرت إليهما عند إحصائي
لمخطوطات الكتاب برقم ١٣ و ١٦ ، وكانت استفادتي منهما قليلة ويسيرة ، فقد راجعتهما
للتأكد من بعض الكلمات وإملائها أو صحة الإعراب وحركاتها ، وجميع ذلك في موارد
قليلة جدا حيث انّ جلّ اعتمادي في التحقيق كان على النسخة الأصلية لقدمها ، وقربها
من عصر المؤلف ، وسلامتها من النقص والتحريف والتصحيف واللَّحن.
وقد اعتمدت
أيضا في تحقيقي على الطبعة الحجرية ، وهي الطبعة الثانية للكتاب والتي طبعت بطهران
سنة ١٣١٤ ه ، وسبب اختياري لهذه الطبعة أنّها طبعت في طهران قبل قرن من الزمان
وبإشراف فضلائها وقد اعتمدوا في طبعها على نسخ عديدة مصحَّحة فتداولت النسخة بعد
الطبع ولم يرد عليها أي إيرادٍ خلال هذه الفترة بل مدحوها واعتمدوا عليها في
أبحاثهم وإرجاعاتهم.
رابعا : عملنا في التحقيق
١ ـ قمت بنسخ
المخطوطة الأصلية ، مع تقطيع الأسطر ، والأبواب ، والأقوال ، والأجوبة وجعلها في
المواضع المناسبة لها حسب الأسلوب الحديث في طباعة المخطوطات ، ثم بعد ذلك قمت
بعملية مقابلة النَّص الأصلي المنسوخ مع الطبعة الحجرية وتثبيت الاختلافات ، وقد
توخيت الحذر والدقة في المقابلة لئلا يفوتني شيء وان كان اختلافا بسيطا فثبتُّ
جميع ذلك في الهامش ، ولكنني حين مراجعتي للكتاب لاحظت في بعض الموارد أنّ اللفظة
أو العبارة المستعملة في النسخة الثانية أصحّ وأسلم وأبعد عن اللحن من التي في
نسخة الأصل ، فلأجل سلامة النّص وجعله أقرب ما يكون من الصورة الأصلية التي وضعها
الشيخ الطوسي أبدلت ما في نسخة الأصل بما في النسخة الثانية وأشرت إلى ذلك في
الهامش بقولي : (في الأصل.) ..
٢ ـ ثمَّ وبعد
أن فرغت من المرحلة الأولى شرعت في المرحلة الثانية والأصلية من تحقيق الكتاب ،
إلا وهي مراجعة النَّص من البداية حيث قمت بقراءة النَّص قراءة متأنية ووقفت عند
كل قول نسبه الشيخ الطوسي رحمهالله إلى قائل ما أو لمذهبٍ ما فراجعت المصادر المتاحة
وحاولت العثور على مصدر القول والإشارة إليه في الهامش ، وعند فقد المصدر الأصلي
للقائل ـ كما هو الحال بالنسبة إلى بعض مصنفات القاضي عبد الجبار المعتزلي (كالعمد)
أو الجبّائيين أبي علي وابنه أبي هاشم وغيرهما ـ حاولت اسناد قول الشيخ بذكر مصادر
ثانوية تنسب هذا القول للقائل ، وقد أشرت إلى أرقام صفحات بعض المصادر التي أخذ
منها الشيخ الطوسي نصا طويلا أو قصيرا كما هو الحال بالنسبة إلى (الذريعة إلى أصول
الشريعة) للشريف المرتضى و (المعتمد في أصول الدين) لأبي الحسين البصري وغيرهما.
٣ ـ قمت بتحقيق
النصوص الفقهية التي يذكرها المصنف في كتابه أثناء المناقشة والاستدلال وذلك
بالرجوع إلى كتب الفقهاء ومصنفاتهم ـ سواء من الإمامية أو من المذاهب السُّنية ـ وأشرت
إلى مكان وجودها في تلك المراجع.
٤ ـ قمت بتحقيق
الأحاديث والروايات التي ذكرها المصنف أو اعتمدها في أثناء الاستدلال واستخرجتها
من أقدم المصادر وأصحّها ، ولم أكتف في ذلك بمصدرٍ واحدٍ أو مصدرين ، بل حاولت قدر
الإمكان إرجاعها إلى جميع صحاح أهل السُّنة وغيرها من المسانيد والمجاميع
الروائيّة ، وكذلك الحال إلى مصادر الحديث المعتبرة عند الإمامية ، وقد
أشرت في بعض الموارد إلى رجال الحديث وأقوال الرجاليِّين في توثيقهم أو تضعيفهم.
٥ ـ بما أنّ
هذا الكتاب يعدُّ فريدا من نوعه ووحيدا في بابه وأسلوبه حيث عرض فيه المصنف علم
أصول الفقه المقارن ، وبالرَّغم من أنّ الشيخ الطوسي يتعرض لأقوال وآراء جلّ
الأصوليين المعاصرين له أو المتقدمين عليه لكنه لم يستقصهم ، فرأيت تتميماً
للفائدة أن أذكر في بداية كل فصل جميع الأقوال والمذاهب المعروفة في تلك المسألة
عند أهل السُّنة ـ سواءٌ من سبق المصنف أو عاصره أو تأخر عنه ـ وأقارنها بأقوال
أصوليي الشيعة وبالمذهب المختار عند مشهورهم.
٦ ـ ربما أطلق
المصنف العبارة في بعض المسائل دون أن يشير إلى محل النزاع ويحاول تحريره ، ولذلك
قمت بتحقيق محل النزاع وتنقيحه وبيان موطن الخلاف فيه حتى يسهل على القارئ فرز
الأقوال والآراء ومعرفة سبب الخلاف.
٧ ـ استعنت
بكتاب (حاشية عدَّة الأصول) للمولى خليل بن الغازي القزويني المطبوعة في نهاية
طبعة طهران الحجرية لتوضيح ورفع الإبهام والغموض عن بعض كلمات المصنف وعباراته أو
اصطلاحاته في الجزء الأول من (العدَّة) ، وقد أشرت إلى عبارة الحاشية في الهامش
بعلامة ().
٨ ـ ترجمت لكلّ
رجلٍ من الرّجال الذين ذكرهم الشيخ الطوسي ترجمة موجزة تبيّنُ قدر الرّجل ومنزلته
وسنة وفاته وأهم مؤلفاته إن كانت له مؤلفات ، ولكنني استثنيت منهم من يعدُّ من
المشاهير كالخلفاء الأربعة والمعصومون عليهمالسلام.
٩ ـ قمت بتخريج
الآيات القرآنية وأشرت في موارد معدودة إلى أماكن وجودها في بعض التفاسير المهمة.
١٠ ـ قمت بشرح
بعض الألفاظ الغريبة التي وردت في النَّص مستعينا بكتب اللغة والمعاجم.
١١ ـ لم يستشهد
المصنف بالأبيات الشعرية إلّا في ثلاثة موارد حيث بيت شعر ورجزين ، فقمت بتخريج ما
أمكن من ذلك وترجمت لقائلها ترجمة موجزة مع بيان مصادر الترجمة والتخريج.
١٢ ـ قمت
بترقيم فصول الكتاب وذلك لأجل تسهيل عملية الرجوع والفهرست ، فجعلت لفصول كل باب
رقما خاصا في داخل المعقوفتين [].
١٣ ـ لاحظت
ألفاظا ملحونة ولكنها نادرة جدا وفي موارد غير مهمة مثل تكون ويكون ، كان وكانت ،
فصححتها دون الإشارة إليها لوضوح الأمر فيها.
١٤ ـ بالنسبة
للرسم الإملائي قمت بكتابة النَّص على الرسم المتعارف اليوم لا على ما جرى عليه
الناسخ قبل عشرة قرون ، فكتبت بدل الصلاة الصلاة ، والوطء الوطء ، وغيرهما ، وذلك
إيثارا للتسهيل على من يطالع الكتاب ، وجريا على المتعارف عليه اليوم.
١٥ ـ حاولت قدر
الإمكان تحريك المواضع المهمَّة في الكلمات بالحركات الإعرابية خاصة في الموارد
التي لا يتميز اسم الفاعل عن اسم المفعول الا بالفتح أو الكسر مثل المخبر والمخبر
، وذلك لأجل تسهيل القراءة وفهم مضمون اللفظ ومراد المصنف.
١٦ ـ مما يكثر
المصنف استعماله في الكتاب الإرجاع ، فهو كثيرا ما يقول : (سبق وأن ذكرناه) أو (قد
مرّ ذكره) أو (سوف يأتي ذكره) ونظائرهما ، فقمت بإرجاع جميع الموارد إلى مواضعها
الأصلية ، بل أشرت إلى مواضع بعض الأبحاث المهمة ، وآراء الفقهاء والأصوليين في
الهامش عند تكرار البحث من المصنف أو إشارته إليها.
١٧ ـ ذكر
المصنف أثناء المناقشة والبحث أقوالا لم ينسبها لقائلٍ معين بل اكتفى بالقول : (قالوا
ـ فان قيل ـ قيل) وقد راجعت جميع المصادر المتاحة وعثرت على أغلب القائلين وأشرت
إلى أسمائهم ومصادر أقوالهم في الهامش ، وفي موارد نادرة أشرت إلى اننا لم نتحقق
من قائله.
١٨ ـ وأخيرا
قمت باستخراج فهارس تفصيلية عديدة وهي كما يلي :
فهرس الآيات ،
فهرس الأحاديث ، فهرس الآثار وأقوال الصحابة ، فهرس الأعلام ، فهرس الفرق والطوائف
والمذاهب ، فهرس الكتب الواردة في المتن ، فهرس الأشعار ، فهرس الأماكن والبقاع ،
فهرس مصادر البحث والتحقيق ، فهرس محتوى الكتاب.
وفي الختام
أبتهل إلى الله العليّ القَدير لتوفيقه إيّاي أن أعيش في رحاب هذا الكتاب المبارك
، وأسأله تعالى أن يَتَقبل عَمَلي ، ويخلصَ نيَّتي ، ويَجعله ذخرا لي يومَ لا
يَنفَع مالٌ ولا بَنون .. كما أودّ أن أهدى هذا الجهد المتواضع إلى والدي العلّامة
الحجّة الشيخ أحمد الأنصاري القميّ الّذي لا يزال يرزح تحت نير الظالمين في سجون
العراق ، شاكرا أياديه الكريمة في تربيتي وبرّي ، سائلا المولى القَدير أن يَمنَّ
عليه بالفرج العاجل آمين.
وآخر دَعوانا
أن الحَمد لله رَبِّ العالمين
|
غرّة ذو القعدة الحرام ١٤١٧ ه
محمد رضا الأنصاري القميّ
|






|