إهداء

إلى الصديق البحرينى

الدكتور على المدنى ، أبو حمزة

تقديرا لوفائه المتميز

ولدوره العلمى والثقافى والإنسانى

ولخدماته للعروبة والإسلام

قصة هذا العمل

فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى ، حصلت من احدى المكتبات التجارية فى انقرة وهى مكتبة صالح الخان على نسخة كاملة من خمسة أجزاء من الأصل التركى العثمانى لكتاب أيوب صبرى باشا الذى عنوانه مرآة مكة المكرمة ومرآة المدينة المنورة ومرآة جزيرة العرب وكانت نسخة نادرة ، واشتريتها أملا فى ترجمتها إلى اللغة العربية. ثم كانت المشاغل العلمية وكثرة السفر فتأخر التفكير فى الترجمة. ولما أراد الله ، تكون فريق عمل متخصص فى اللغة التركية وفى التاريخ لترجمة هذا الكتاب وفريق آخر لمراجعة الترجمة. والجدير بالتسجيل هنا أن جميع من أسهم فى هذا العمل. من مترجمين ومراجعين ومشرفين ، قنعوا بالرمز والقليل فى أداء دورهم وأنتهت علاقتنا المادية بترجمة هذا الكتاب ولكن كان من الضرورى نشر الكتاب ، فاستشرنا الأستاذة الدكتورة / ماجدة مخلوف فدلتنا على دار الآفاق العربية وصاحبها الأستاذ / سليم عبد الحى سليم الذى وجدنا منه كل ترحيب بالنشر ، وشكرناه كثيرا وقدرنا له هذا. وقدر هو لنا أن لم تكن لنا شروطا مادية فى نشر الطبعة الورقية من هذا الكتاب. واهتم بالطباعة وكرس لها الشيخ محمود جيرة الله لهذا أهنى المكتبة العربية والمستفدين من ظهور هذا السفر العظيم

محمد حرب

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الكتاب من درر التراث العثمانى وهو تراث إسلامى مكتوب باللغة التركية العثمانية وهى لغة أسهمت إسهاما واضحا فى مسيرة التراث الإسلامى ، ومعلوم أن التراث الإسلامى لا يقتصر على التراث المكتوب باللغة العربية فحسب ، إنما تتنازعه الفارسية والتركية : الشرقية والغربية وغير ذلك من لغات المسلمين مثل هذه اللغات فى ذلك مثل اللغة العربية ، بالإضافة إلى التراث الشفاهى لهذه الشعوب.

ومصنف هذا الكتاب هو أيوب صبرى باشا ، وهو مؤرخ عثمانى توفى فى استانبول عام ١٨٩٠ م ولما كان ـ يرحمه الله ـ قد تنقّل فى السلك العسكرى حتى وصل إلى رتبة أميرلاى فى البحرية العثمانية وأقام فترة طويلة بالحرمين الشريفين مكة والمدينة أتاح له ذلك أن يثرى علمه ومشاهداته ورؤيته الشخصية ومعرفته الواسعة بالتاريخ الإسلامى ، وبدا هذا واضحا فى تصنيفه لكتابه هذا المشهور جدا والذى يتفوق كثيرا على ما كتب فى فنه فى كل اللغات.

وأهم مصنفات أيوب صبرى باشا هذا العالم المؤرخ الأديب :

١ ـ محمود السير ١٨٧٠ م

٢ ـ تكملة المناسك ١٨٧٥ م

٣ ـ أسباب العناية فى ترجمة بداية النهاية ١٨٨٩ م

٤ ـ شرح قصيدة بانت سعاد ١٨٨٤ م

٥ ـ مرآة مكة ١٨٨٤ م

٦ ـ مرآة المدينة ١٨٨٧ م

٧ ـ مرآة جزيرة العرب ١٨٨٩ م

وتمثل هذه المرايا الثلاثة هذه الموسوعة التى بين يديك عزيزى القارئ ولما كان أيوب صبرى باشا ـ بهذا العمل الموسوعى الضخم ـ يمثل عهد السلطان عبد الحميد صاحب سياسة الجامعة الإسلامية والتقارب الإسلامى ، لذلك وجد هذا الكتاب على ضخامته طريقه إلى المطبعة ، وقد جاء هذا الكتاب موسوعة جامعة شاملة عن هذه البقعة الطيبة قلما توجد فى كتاب واحد وبهذه الصورة الرائعة التى صنف الباشا بها كتابه.

قسم أيوب صبرى باشا كتابه إلى ثلاثة مجلدات فى خمسة أجزاء :

الأول : مرآة مكة فى جزأين

الثانى : مرآة المدينة فى جزأين أيضا

الثالث : جزيرة العرب فى جزء واحد

ويقع الكتاب فى ٣٠٠٠ صفحة تقريبا ، من القطع الكبير.

إن هذا المصنّف الذى يعد ـ بحق ـ موسوعة علمية وثقافية بما حواه من المعارف والفنون والتاريخ والقصص والشعر والإحصاءات قد استغرق تأليفه سبعة عشر عاما فقد قام المؤلف بتنقيح مادة كتابه ، وانتقاها جيدا إذ إنه بجانب اعتماده على المصادر والمراجع كان يسأل الأحياء من الناس من كبار السن يستوثق لمادة كتابه.

يقول المصنف : «تم تأليف المجلد الأول (مكة المكرمة) من أثر مرآة الحرمين الذى شغلت بتأليفه منذ سنة ١٢٨٩. وتم تأليف كل الكتاب وطبعه فى أوائل جمادى الآخرة سنة ست وثلاثمائة وألف من هجرة النبى الأعظم».

هل كانت كلمة المرآة مقصودة من المؤلف؟

وماذا أراد المؤلف باستخدام كلمة المرآة ودلالتها؟

كذلك يقول أيوب صبرى باشا : «ومن البديهى أن الذين يسمعون لفظ المرآة سيلقون نظرة على سطور صفحاتها ثم يظنون أنهم سيرون فيها صور أنفسهم ، يدل لفظ المرآة على الآلة التى تعكس الصورة ولكنهم إذا ما تذكروا أن من وظائف المرآة ومهماتها تقريب البعيد سيقنعون بأن مرآة الحرمين تاريخ كثير المنافع جامع لأحوال البلاد الحجازية العامة».

والغريب أن الترتيب الداخلى لفهرست كل جزء من الأجزاء الثلاثة : (مرآة مكة ـ مرآة المدينة ـ مرآة جزيرة العرب) مكون من ثلاثة أقسام كل قسم منها مقسم تقسيما داخليا إلى ما يسميه المصنف : الوجهة والصورة بحيث تحتوى كل وجهة على عدد معين من الصور.

ودلالة كلمة المرآة ليست ببعيدة عن دلالة كلمة الوجهة وكلمة الصورة.

أسباب تصنيف الموسوعة :

أولا : ـ

رأى أيوب صبرى باشا أن علماء كثيرين ألفوا فى تاريخ هذه البلاد لكن لم يتوفر لهذه المؤلفات أو لبعضها صفة الجمع أو الشمول لتتحدث عن هذه البلاد الثلاثة مجتمعة معا ، فمن ألف قبله فى تاريخ مكة أو تاريخ المدينة أو تاريخ كليهما أو تاريخ جزيرة العرب على حده ، لم يتوفر لأعمالهم صفة الإحاطة بكافة جوانب الموضوع الذي تكتب عنه وكذلك ينقصها الدقة العلمية.

ثانيا : ـ

ما لهذه البلاد من مكانة وقدسية فى قلوب كل المسلمين على السواء سواء أكانوا عربا أم غير عرب خدمة لأبناء هذا الدين يقول المصنف : «وأردت أن أخدم الذين ينتمون إلى ديننا».

إذن فالهدف الأساسى من تأليف الكتاب هو نفع الإسلام وبمعنى أصح نفع المسلمين فى شتى بقاع الأرض عن طريق تعريفهم بأقدس بقعة على وجه الأرض فهى كانت قبلتهم ووجهة حجهم وموطن أشرف خلق الله.

الكتاب المصنّف :

ينقسم هذا السفر الضخم فى أصله العثمانى إلى ثلاثة أجزاء كبار هى مرآة مكة ويشغل الصفحات من ١ ـ ١١٤٥ ، ومرآة المدينة وهى من صفحة ١١٤٦ ـ ٢٥٠٢ ، ومرآة جزيرة العرب من صفحة ٢٥٠٣ ـ ٢٩٠٦.

فى الجزء الأول من هذه الموسوعة ـ وهو مرآة مكة ـ تحدث أيوب صبرى باشا عن كل شىء يمت بصلة إلى مكة سواء من بعيد أو قريب ، فهو يحدثنا عن تاريخها منذ بدء الخليفة إلى زمن تأليف الكتاب (عهد السلطان عبد الحميد الثانى) ، وعن ساكنيها وعاداتهم ، وموقعها الجغرافى وحدودها ، ووصف منازلها ودورها وطرقها ، وما سيأتى فى الحديث عن مرآة مكة وهو حديث مستقل.

وفى الجزء الثانى من هذه الموسوعة ـ وهو مرآة المدينة ويماثل فى الحجم الجزء الأول ـ يتحدث فيه عن مراجعه ومعلوماته الشخصية وما حصل عليه من الأخبار من تحقيقاته الذاتية. ومع هذا فهو أول كتاب يتضمن الأحوال العامة والخاصة للمدينة المنورة باللغة العثمانية ومن هنا حاز شرف السبق والأولية ويصح أن نصف هذا الجزء بأنه دائرة معارف كبيرة عن المدينة المنورة.

أما الجزء الثالث من هذا الكتاب فهو يعد أصغر جزء فى الموسوعة إذا ما قورن بالجزأين السابقين مرآة مكة ومرآة المدينة فهو يبلغ حوالى ٤٠٠ صفحة بينما يربو كل جزء من السابقين على ١٢٥٠ صفحة.

وفى مرآة جزيرة العرب الحديث المستفيض عنها من حيث الموقع الجغرافى والحدود الطبيعية وتاريخ الجزيرة منذ أقدم العصور وذكر الملوك والحكام الذين

تولوا زمامها وكذلك قبائلها ورسومهم وعاداتهم وأحوال ساكنيها وكيف تقلبت بهم الأحداث.

ويبين المصنف فى بداية هذا الجزء أنه جعله ذيلا لكل من مرآة مكة ومرآة المدينة ومن ثم وجب إلحاقه بهما واعتباره جزءا ثالثا للكتاب ، إذ إن معرفة أحوال جزيرة العرب وتاريخها من الأهمية بمكان لمن يريد أن يتعرف على صورة الحرمين حتى تكتمل الصورة فى ذهننا فيقول : «ولكنه من المحال أن نحيط الإنسان علما بأحوال الخريطة الحجازية الواسعة وحقائقها التاريخية بمطالعة بعض التوضيحات التى قدمت عن الأماكن المقدسة والمآثر الفخمة للحرمين الشريفين مطالعة سطحية قبل أن يعرف الأحوال التاريخية والتقسيمات الجغرافية لجزيرة العرب ، ولذلك كتبت هذا التاريخ المختصر وضمنته أحوال قطعة جزيرة العرب وألحقته بالمرآة.

وهذا الجزء يعتبر الخلاصة لمن أراد أن يتعرف على أحوال جزيرة العرب ورغم قلة حجمه عن الجزأين السابقين إلا أنه كتب على ستة أجزاء. ولا تخلو هذه الموسوعة من نزعة أدب الرحلات وخاصة فى الأجزاء التى يذكر فيها الأماكن المقدسة ومواقعه الحربية ووصف الحرمين الشريفين وينبغى العلم أن المصنف زار هذه الأماكن المباركة وهو يصف ذلك لنا من خلال زياراته ولهذا اتضحت لنا صورة البلاد وخريطتها وأحوالها.

يتمتع أيوب صبرى باشا بقوة وكثرة مراجعه ، ودقة رؤيته ، وصواب تحليلاته ، كما يتسم بالتواضع الجم فهو يصر على وضع نفسه موضع تساؤل من جهة القارئ وموضع التقصير أيضا فهو كثيرا ما يصف نفسه بالتقصير والعجز.

كما تتصف هذه الموسوعة بالروح العلمية التى تعتمد التوثيق أساسا لها. ويظهر هذا حرصه كل الحرص على الأمانة العلمية التى تمثلت فى أمور منها :

١ ـ حرصه أن يذكر لنا مصادره ينص على ذلك فى مقدمة مصنفه وفى ثناياه.

٢ ـ حرصه على زيارة الأماكن التى يتحدث عنها غير مكتف بما جمعه من مادة علمية عنها.

ويجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المصنّف كتب بلغة واضحة فى أسلوب سهل وبعيد عن التعقيد اللغوى ، وبذلك فقد ناسب هذا الأسلوب مستويات الكثير من القراء.

كذلك يعد من مميزات هذا المصنف احتوائه على قدر من الطرافة والجدة فى آن واحد. فهو مع ضخامة مادته العلمية يدفع عن القارئ الملل بكل الطرق بذكر موضوع آخر أو حكاية غريبة أو حادثة نادرة وأحيانا تطالع القارئ أبيات من الشعر.

١ ـ مرآة مكة : هو المجلد الأول من هذه الموسوعة وقد تحدث المؤلف فيه عن كل شىء عرفه يمت بصلة لمكة سواء من بعيد أو من قريب ، فهو يحدثنا عن تاريخها منذ بدء الخليقة إلى زمن تأليف مؤلفه هذا ، وعن ساكنيها وعاداتهم ، وموقعها الجغرافى وحدودها ، ثم يصف لنا مكة ومنازلها ودورها وطرقها.

بعد ذلك يحدثنا المؤلف عن أسماء مكة الكثيرة وألقابها وسبب كل لقب من هذه الألقاب ، ثم يعرج على أحوال بناء الكعبة المشرفة فى مرآتها ويعرض لنا ـ بشىء من التفصيل ـ ترجمة سيدنا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ ثم يقص قصة تجديد بيت الله الحرام ـ فى مرآتها ـ التى وصلت إلى إحدى عشرة مرة.

ويواصل المؤلف حديثه بعرضه الجهود التى بذلت فى توسعة بيت الله الحرام منذ القدم حتى زمنه ، وكذا الجهود التى بذلت فى تعميره وإنارته وتزيينه ليظهر فى أكمل صورة تليق ببيت الله الحرام.

ويتحدث بعد ذلك عن كسوة الكعبة المشرفة ، وعمن أهدوا الكسوة إليها ، ونوع القماش الذى كانت تصنع منه ، وكيف تعلق الستائر على الكعبة ، ووصف البيت الحرام وأجزائه الشريفة ، والأبواب ، وأسماء كل منها والأعمدة وعددها والقباب وعددها ووضعها ، والمآذن وأسماء كل منها ، ثم يتحدث بعد ذلك عن فضائل مكة ومساجدها ، وجبالها ودروبها.

وينقسم هذا المجلد من الكتاب إلى سبعة أبواب وواحد وأربعين فصلا :

تحدث المؤلف فى الفصل الأول عن موقع مكة الجغرافى والإستراتيجى ، فى داخل إقليم الحجاز وهى مركز إدارته وحكمه ، ويحدها من الشمال المدينة المنورة وصحارى الشام ، ومن الجنوب جبال نجد واليمن ومن الشرق البحرين ، ومن الغرب البحر الأحمر.

وتنقسم نواحى مكة إلى منطقتين كبيرتين هما : نجد وتهامة.

ففى نجد تقع الطائف ، وتمتاز ، وقرن ، ونجران ، والظهران ، وعكاظ ، ومنحره ، ونعم ، وجرعش ، وسراة.

أما النواحى التابعة لتهامة فهى : نعم ، وزعك ، وخنكان ، ويشى ، ووادى نخلة ، وذات عرق ، ويليل.

أما من الناحية البشرية فإن أهل مكة يتمتعون بروح تجارية عالية نظرا لموقها الخاص ، وكذلك يبين لنا القرآن فى حديثه عن قريش أنها تقع فى ملتقى مناطق ودول كثيرة أضف إلى ذلك الموقع الإستراتيجى بحكم قدسيتها وحج جميع العرب إليها.

ومن الفقرات الهامة فى هذا الفصل التى تحدث عنها المؤلف أديان العرب فى الجاهلية ، ففيها يتحدث عن أديان العرب وعباداتهم قبل الإسلام والتى كانت تتمثل فى اليهودية والمسيحية ، والمجوسية ، وكذلك الأصنام التى كانت تعبدها بعض القبائل فذكر أن بنى حنيفة من قريش اتخذت إلها من طعام اسمه «حيس» وظلوا يعبدونه مذة طويلة ، وعند ما حدثت المجاعة والقحط قاموا بتقسيمه ثم أكله ، وفى ذلك يقول شاعرهم :

أكلت ربها حنيفة من جوع قديم بها ومن إعواز

ومن النقاط الطريفة فى هذا الفصل والتى تعد من أهم ما ذكر المؤلف فيه حديثه عن مكة ، وأسمائها ، وألقابها ، وسبب تلقيبها وتسميتها بهذه الأسماء

معددا ما يقرب من ١٢٩ اسما وخمسة ألقاب معللا فى كل ذلك سبب التسمية ، واللقب ، وكذلك يرجع بالتسمية إلى أصلها اللغوى يستعين به فى التفسير والتعليل.

عن أسماء مكة يقول المؤلف : «عدد الأسماء ذات الدلالة الباهرة التى أطلقت على مدينة مكة المعظمة فى الكتب المقدسة كثيرة وهى : «مكة ، بكة ، بلد ، قرية ، أم القرى ، بلدة ، البلد الأمين ، صلاح ، باس ، البساسة ، ناسة ، الساسة ، حاطمة ، رأس ، كوثى ، عرش ، عريش ، عرش ، قادس ، القادسية ، سبوحة ، حرام ، البلد الحرام ، المسجد الحرام ، معطشة ، برة ، رتاج ، رحم ، أم رحم ، أم الرحمة ، كوثى ، أمينة ، أم الصفا ، مروية ، أم المشاعر ، متخفية ، البلدة المرزوقة ، تهامة الحجاز ، طيبة ، مدينة الرب ، عاقر ، فاران» ، وعددها خمسة وأربعون اسما جليلا. ولها ثمانية ألقاب جليلة مثل «المشرفة ، المكرمة ، المفخمة ، المهابة ، الوالدة ، النادرة ، الجامعة ، المباركة».

سبب إطلاق هذه الأسماء على مكة :

ورد فى أقوال علماء اللغة أن اسم مكة المكرمة يطلق على هذه المدينة المقدسة فقط أو مجموع الحرم الشريف ، أى المناطق الواقعة داخل المواقيت المحدودة ، وسبب تسميتها بهذا الاسم يرجع إلى أسباب متعددة : على قول أنه مأخوذ من معنى «النفض» وكأنها تنفض جميع الآثام ، وعلى رأى آخر أنها تنفض الظلم وتهلك أهل الجور ، وعلى رأى ثالث أن الأرض المقدسة قليلة المياه ، وسكانها كأنهم يمتصون المياه من أراضيها بأفواههم ..

أو أنه مأخوذ من لفظة «مكاكة» التى تعنى النخاع والمخ فى وسط العظام ، وكأن مكة كعبة الله فى وسط الدنيا وخلاصتها ، وعلى قول ، أن الأرض المباركة بيت الله تمتص ذنوب العصاة وأوزارهم وتخرجها ثم تمحوها ، وكأنها تمتص النخاع من العظام ، وكانت هذه البقعة مشهورة بقداستها حتى قبل الإسلام وإبان مجئ الإمبراطورية الرومانية وكانت تذكر باسم «مقربة» وتعرف به.

بكة : وهناك اختلاف حول هذا الاسم وعند البعض أن مكة وبكة اسمان لمسمى واحد ومترادفان ، وبما أن حرفى الباء والميم متقاربان من ناحية النطق والمخرج الصوتى كان كل واحد منهما يحل مكان الآخر ، ويدعون أن مكة وبكة اسمان لمسمى واحد ؛ مع أن «بكة» في نظر البعض هو اسم المدينة المقدسة «مكة المكرمة» ، وعند البعض الآخر أنه اسم البقعة الجليلة الكعبة المشرفة فقط.

والقول الصحيح أن مكة هو اسم الأماكن المباركة داخل حدود الحرم خارج المسجد الحرام ، وبكة هو اسم البقعة التى عليها بيت الله وحرم المسجد الحرام المبارك.

وحسب قول ابن عباس أن سبب إطلاق اسم مكة أنها كانت تذل الملاعين والجبابرة الذين يعادونها.

أم القرى : وسميت بهذا الاسم لكونها أقدم بقعة على وجه البسيطة وقول الشاعر يؤكد أن أقدم الأراضى هى هذه البقعة المباركة. وإن كان هذا دليلا لا يتسرب إليه الشك وسندا كافيا لتصديق تسميتها «بأم القرى» ، إلا أن كون مكة المكرمة قبلة الجميع وامتيازها على بلاد الأرض كلها بالفخامة والعظمة ولاحتوائها على الكعبة الشريفة وخلو الأرض من تراب بقعة الله المباركة يجعلها جديرة بإطلاق هذا الاسم عليها وتبعا لهذا التوضيح لابد وأن يكون (أم القرى) هو اسم الأرض المقدسة التى تقع ضمن مواقيتها.

قال عبد الله بن عباس ، وهو أعلم الناس (أطلق اسم أم القرى على مكة لأنها أعظم بلاد الأرض شأنا وكرامة ولأن الأرض قد بسطت من التراب الذى تحتها).

أما ابن عادل فقد وضح الموضوع فى تفسيره قائلا : إن موضع الكعبة المعظمة كان غثاء قبل أن يخلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأرض والسماوات وعند ما بدأ خلق مكوناتها خلق الأرض وبسطها من تحت الكعبة قبل أن يخلق السماء ، وهذا هو سبب تسميتها «بأم القرى» لأنها هى الأصل.

والفصل الثانى يصف لنا منازل مكة وبيوتها وطرز أبنيتها ، وكذلك فرش البيوت ومتاعها فيصف لنا المبانى بعضها مبنىّ من الحجارة والطوب ، وبعضها أكواخ مصنوعة من الأعشاب والحصر يطلق على الواحد منها عشة.

ثم يتحدث عن طبيعة الجو والمناخ في مكة وحرارته المرتفعة التى من جرائها يذهب السكان إلى حديقة «المعلا» ويذكر لنا كذلك الخضر والفواكه التى تخرجها أرض مكة المعظمة ويبين أى هذه الفواكه ضار بسكان البلاد الباردة الذين يزورون البلاد الحارة وينبه إلى ما لا يجب تناوله فى الأراضى الحجازية ومنها :

الخوخ : وهو صعب الهضم.

المشمش : فهو يصيب من يتناوله بإفراط بالإسهال.

التين : ينبت فى الطائف وهو لذيذ الطعم لكن الإفراط فى تناوله يسبب الفتور.

السفرجل : وهو لذيذ الطعم ، طيب الرائحة ، إلا أن أكله قبل نضجه ضار.

الكمثرى : والإفراط فى أكلها يصيب المعدة بالضعف.

التفاح : مذاقه مزز من ـ ذو مزازة ـ وإذا طهى بالسكر وأكل منه الإنسان قدرا معتدلا فإنه يساعد على الهضم.

البرقوق : وهو يوجد بالطائف واسمه «برقوق مردم» ، وأكله غير مرغوب لأنه يسبب الإسهال.

العنب : يرى الأطباء أن الطازج منه يبرد الدم ورغم أن ضرره أقل من الفواكه الأخرى فإن الإفراط فى أكله يسبب إسهالا مؤلما.

اللوز : وهو بطئ الهضم ، لكن له منقوع يمنع الحرارة ويسكن الألم.

التوت : لا يوجد بها إلا التوت الأسود وهو سريع التلف.

العناب : يجلب من الشام ، وهو مفيد لمرض الصدر.

البطيخ : وأكل البطيخ فى الأيام الحارة يرطب الجسم ويسكن فورة الدم.

الشمام : أكله يسبب أحيانا تعبا فى القلب ، لذا ينصح بعدم أكله طالما كان غير ناضج.

البرتقال : ثمر طيب يجلب من مصر ، وشرب عصيره لا مثيل له فى خفض الحرارة ، وإزالة جفاف الحلق ، وتنقية الدم.

الرمان : فائدته كبيرة إذا ما شرب معصورا ، فشرب الحامض منه يرطب الدم ويسكن السخونة ، ومع هذا فإن أكل الحلو منه ببذور يفسد المعدة.

الموز : ويشبه فى الطول والعرض الخيار الروسى الطازج والذى يسمى الخيار البرى أفضله ما يزرع فى الأراضى اليمنية. والموز الذى يزرع فى منطقة الحجاز ويستساع أكله بعد نزع قشرة الناضج منه مع السكر ، والإفراط فى أكله مضر لصعوبة هضمه.

ويتعرض المؤلف فى الفصل الثالث لسبب تسمية البيت المعظم باسم الكعبة حيث بين أنه فى الزمن الماضى كان يمنع أن ترتفع الأبنية أعلى من البيت المعظم فيما يبنى حوله من أبنية ، واستمر هذا الاعتقاد حتى دخول الإسلام الجزيرة العربية ، ولذا فلم تظهر فى مكة لعدة قرون أبنية تعلو البيت المعظم لذا أطلق اسم الكعبة على البيت المعظم.

وفضائل الكعبة المكرمة أكثر من أن تحصى فهى بيت الله ، وقبلة كل المسلمين فى شتى بقاع الأرض وكذا هى مربط حبهم ، وهى أفضل كل بلاد الدنيا ويقارن المؤلف بين منزلة مكة ومنزلة المدينة المنورة فيقرر بناءا على الحديث الشريف أن مكة أجل منزلة حيث قال صلى الله عليه وسلم إن الصلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وكذا هى أعلى مكانة لأن ماء الحياة الطاهر تفجر من هذا النبع ، وأن نور الإسلام الذى أشرق على هذا الكون من ذلك البرج الرفيع.

كما أن الكعبة المباركة هى مهبط الوحى الجليل ومجمع الأنبياء ، وفيها قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (سورة آل عمران : الآية ٩٦) ومن الطريف جدا فى هذا الفصل حديث المؤلف عن البيئة القاسية الصحراوية لمكة المكرمة ووقوعها فى مكان غير ذى زرع ، فالمؤلف يذكر كذلك خمس حكم هى :

الحكمة الأولى : أن مجاورى البيت الحرام يقطعون الأمل من التعلق بغير الله وذلك بإظهار التوكل التام عليه سبحانه وتعالى تقدست ذاته.

الحكمة الثانية : عدم طمع أحد من الأكاسرة ملوك الدنيا والحكام الجبابرة ، فى الإقامة حول بيت الله ، والواقع أن أحدا من جبابرة الزمان والأكاسرة ملوك الدنيا لم يتمكنوا من السكنى بجوار كعبة الله.

ولا يمكن لهؤلاء الجبابرة أن يجدوا المتعة واللذة الدنيوية التى يسعون إليها فى واد غير ذى زرع. وهكذا طهر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الكعبة الشريفة ونزهها من لوث بنى البشر الذين يعبدون الدنيا.

الحكمة الثالثة : حتى لا تتحول الكعبة إلى متجر لأنها خلقت للحج والزيارة فقط.

الحكمة الرابعة : لتقديس مكانة الفقر وشرفه.

الحكمة الخامسة : من أجل إبراز أن كعبة المعرفة لا تحل إلا فى قلب خال من حب الدنيا وزخرفها.

ويتحدث المؤلف فى الفصل الخامس عن الإقامة فى مكة المكرمة وحكم ذلك لأن كثرة الإقامة في مكة يفقدها الحرمة الموكلة إليها ويورد في ذلك آراء وأقوال فقهاء الإسلام فيقول : «ولما كان أخذ إيجار المنازل من الحجاج الذين يفدون إلى مكة ليس حلالا لذا كان الأوائل يأخذون ثمن الإيجار في السر والخفاء حتى أن

عمر بن الخطاب أمر أن تترك أبواب بيوت مكة مفتوحة فى موسم الحج حتى يسكن الحجاج فى المنازل الخالية ، كما كانت لعمر بن عبد العزيز أوامر مشددة إلى أمراء الإمارة الجليلة مكة المكرمة بألا تؤجر بيوت مكة إلى الحجاج.

وقد أجاز الإمام محمد والإمام أبو يوسف أن تباع بيوت مكة مع الكراهة ، إلا أن الإمام الأعظم قال إنه مكروه في كل الأحوال».

ويتحدث الباب الثانى ـ والذى تضمن ثلاثة عشر فصلا ـ عن بناء الكعبة وتجديدها فيتحدث الفصل الأول عن أوليات بناء الكعبة الشريفة منذ الأزل فيذكر أن بعض الأقوال ترجح أن بداية بناء الكعبة كان من الملائكة المشرفين. وفى الفصل الثانى يتحدث عن بناء الكعبة لأول مرة حتى خاطب الله الملائكة بأنه سوف يجعل فى الأرض خليفة فبينوا المعارضة ثم ما لبثوا أن تابوا وتضرعوا إلى الله أن يغفر لهم ولاذوا بالعرش العظيم فأمرهم الله أن يطوفوا بالبيت المعمور وأن يقام بيت مقدس على وجه الأرض لذا أرسل سبحانه وتعالى عددا من الملائكة لإنجاز هذا الأمر وخاطب الملائكة بقوله «شيدوا على وجه الأرض بيتا معظما ، وعند ما يطاف بالبيت المعمور في السماء ، يطوف أيضا أهل الأرض بهذا المقام الرفيع الذى ستقيمونه على وجه الأرض».

وفى الفصل الثالث يتعرض المؤلف لذكر وقائع بناء الكعبة للمرة الثانية والذى قام بهذا العمل هو أبو البشر سيدنا آدم (عليه السلام) ؛ ذلك أن سيدنا آدم لم يستطع سماع صوت تسبيح الملائكة وتهليلهم بعد هبوطه بمدة ، فاغتم لذلك بذلك فعرف ما فى ضميره حضرة علام السر والخفايا وجأر بالشكوى قائلا : «يا إلهى لا أسمع صوت تسبيح وتهليل الملائكة الكرام».

وبناء على هذه الشكوى صدر الخطاب الشريف من الله عز وجل : «يا آدم إن الزلة الصادرة منك هى المانع أن تجد أساسه وتقيم عليه بيتا مباركا ، وقام سيدنا آدم بتعلية الأساس للبيت الشريف إلى أن ظهر فوق الأرض ، واستخدم في هذا الأحجار التى جلبتها الملائكة الكرام من جبال لبنان وطور سيناء ، وطور زيتا ، والجودى ، وحراء ، ثم وضع فوقه البيت المعمور الذى جئ به من الجنة.

أما تجديد البيت للمرة الثالثة فكان من نصيب أبناء سيدنا «شيث» بن سيدنا آدم ـ عليهما السلام ـ وأولاده وأحفاده ، ذلك أنه بعد غرق الأرض فى الطوفان العظيم زالت آثار البيت الحرام ولكن بعد انحسار الماء ظهر الأساس القديم للبيت الشريف وقام أحفاد شيث ـ عليه السلام ـ بتعميره وتجديده من حين لآخر.

وفى الفصل الخامس يستعرض المؤلف بالتفصيل ترجمة سيدنا إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ من بداية مولده ونشأته ثم مرورا بنبوته ، ثم ما حدث له فى الحريق العظيم وكيف أنجاه العظيم ـ جل شأنه ـ من هذا الخطر العظيم ، وكذلك يحدثنا عن قصة سيدنا إسماعيل وواقعة فدائه بكبش عظيم من قبل الحق سبحانه ، بين لنا فيها كيف كان خلق الأنبياء تجاه ربهم وهى الطاعة الأصيلة ، الطاعة الواثقة فى قدرة الله ورحمته وكيف أطاع إسماعيل أمر ربه وأمر أبيه بتكليفه بذبحه وكيف صبر الإثنان على هذا الأمر واحتملاه.

ومن الطريف بمكان فى هذا الفصل حديث المؤلف عن بئر زمزم وأسمائها وسبب إطلاق هذه الأسماء على زمزم الشريف ، فقد أحصى العلماء لبئر زمزم ثلاثين اسما وبينوا سبب إطلاق كل اسم منها وهنا أمثلة على ذلك :

١ ـ زمزم : سبب التسمية قوة ماء البئر وتدفقها فزمزم اسم للبئر ، وليس للماء الشريف.

٢ ـ همزة : ومعناها الضرب إيماء إلى أن جبريل الأمين قد ضرب الأرض بكعبه أو بجناحه على قول آخر فانفجر ذلك الماء.

٣ ـ شباعة عيال : لأن أهل الجاهلية اعتادوا أن يشبعوا أولادهم حتى يرتووا.

٤ ـ مضنونة : وسبب التسمية لأن المنافقين لا يشربون منها حتى يرتووا.

٥ ـ بشرى : لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بشر المؤمنين الذين يشربون ويرتوون من هذا الماء تكتسب بطونهم نورا وينجون من نار جهنم.

٦ ـ ميمونة : وسبب التسمية أن شربها سبب لليمن والبركة ، كما أنها اتباع للسنة الكريمة للمصطفى صلى الله عليه وسلم.

٧ ـ مؤنسة : لأنها تؤنس سكان حرم كعبة الله.

ومن الأشياء الهامة التى تعرض لها المؤلف فى هذا الفصل اختلاف العلماء فى مسألة الذبح ، فعند ما أمر سيدنا إبراهيم بذبح ولده فلذة كبده ، كان سيدنا إسماعيل حسب أحد الأقوال فى الثالثة عشرة من عمره ، واختلفت الأقوال على حد قوله بينه وبين أخيه إسحاق هل الذبيح هو إسماعيل أم إسحاق وبعد أن يقارن بين أقوال الشيوخ والعلماء يقر فى النهاية الرأى الراجح وهو أن الذبيح كان سيدنا إسماعيل.

ويتحدث المصنف فى الباب الثالث عن عدد المرات التى تم فيها توسعة المسجد الحرام وكان أول توسعة للمسجد الحرام فى عهد الخليفة عمر الفاروق رضى الله عنه فقد كثر عدد المسلمين فاشترى عمر ـ رضى الله عنه ـ الأكواخ والدويرات التى حول المسجد والملاصقة له وضمها إلى المسجد الحرام لكن هذا التوسيع لم يف بالغرض مما أدى إلى ضم بعض المنازل الأخرى إلى الحرم الشريف ، وفى هذه الحالة اعترض أصحاب المنازل وذهبوا إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفاوضوه فى هذا الأمر ، فقال لهم : «لم يبن بيت الله فى وسط بيوتكم ، بل أنتم الذين بنيتم حوله وضيقتم الساحة المقدسة لكعبة الله الحرام.

والتوسعة الثانية للمسجد الحرام كانت فى عهد الخليفة عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ بعد سيل «أم نهشل» ، وأراد سيدنا عثمان توسعة ساحة المسجد الحرام بشراء كثير من المنازل التى تحيط بالمسجد الحرام.

وحدثت التوسعة للمرة الثالثة فى عهد الخليفة أبى جعفر المنصور حين أراد أن يجد الجهة الجنوبية من الجدار الذى يتصل بمسيل الوادى ، ولكنه تركها على حالها حينما رأى أن تعميره غير قابل للإصلاح فاشترى المنازل القريبة

من الجدار الشرقى وهدمها وألحق أرضها بالمسجد الحرام وبنى فى أماكنها مئذنة لا مثيل لها.

وفى الفصل الرابع يحدثنا أيوب صبرى باشا عن التوسعة الرابعة والتى تمت على يد محمد المهدى العباسى ذلك حين رأى فى أثناء حجه أن المسجد الحرام فى حاجة إلى التوسع حين كان مسافرا للحج وزيارة الروضة الشريفة.

ويحدثنا المصنف فى الباب الرابع من الكتاب عن الكعبة المشرفة ، وتزيينها وكسوتها ، وستائرها فاستعرض فى هذا الباب عمليات تزيين الكعبة على مدى العصور ، وكذلك نوع القماش الذى كانت تصنع منه الستائر ، وكسوة الكعبة وشرف من نالوا هذه الكرامة بأن أهدوا هذه الكسوة إلى الكعبة الشريفة وبيت الله الحرام.

أما وصف المسجد وحاله التى كان عليها فى العهد القديم فهذا ما يعرضه المؤلف فى الباب الخامس فيوضح أن البيت الحرام حين وضع قواعده سيدنا إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ لم يكن حوله بيوت ولا منازل ولا محال.

ثم يتحدث فى الفصل الثانى عن أعمدة المسجد الحرام وعددها فيبين أنه كان للمسجد الحرام قبل تجديده ٤٩٦ عمود بإخراج أعمدة دار الندوة ، سبعة وعشرون منها فى أبواب المسجد ، ٤٦٩ تسعة وستون وأربعمائة ، ثمانية وثمانون عمودا من تلك الأعمدة فى الجهة الشرقية ، وخمس وأربعون ومائة منها فى الجهة الشمالية ، وسبعة وثمانون منها فى الجهة الغربية وسبعة وثمانون من أعمدة الجهة الشرقية كانت من قطعة واحدة من الرخام وعمود كان من الطوب اللبن المحروق.

وفى الفصل الثالث يستعرض المؤلف عدد شرفات المسجد الحرام وصفتها فالشرفات جمع شرفة وهى نوع من أنواع الزينة فى المبنى وتطلق على الأماكن البارزة والعالية فوق جدران القلاع.

وكان للمسجد الحرام قبل التجديد عدد أربعمائة من الشرفات الكاملة وسبع

من الشرفات النصفية الداخلية ، اثنتان وخمسون من الشرفات الخارجية الكاملة وشرفة واحدة خارجية غير تامة.

ثم يذكر لنا أبواب المسجد الحرام وأسمائها فى الفصل الرابع والأخير وقد كان للمسجد مقدما تسعة عشر بابا عاليا مبنيّة على عقدين ، وكان باب أقيم على كمرتين يشبه جسرا له فتحتان ، لا تزال بعض هذه الأبواب محتفظة بأشكالها القديمة وهى معروفة للناس.

ويحدثنا المؤلف فى الباب السادس عن قباب المسجد الحرام ومآذنه ، فللمسجد الحرام خمسائة قبة لطيفة ، يطلق أهل مكة على (خمسين ومائة) منها «قبة» ، وعلى (ثمانين ومائتين) منها «طواحن» وعلى (اثنتين وستين) منها «مصليات» ويذكر لنا كذلك أبواب المسجد الحرام.

فالمسجد الحرام به تسعة عشر بابا عظيما ويفتح أربعة من هذه الأبواب إلى الجهة الشرقية وسبعة منها إلى الجنوب ، وثلاثة منها إلى الغرب ، وخمسة منها إلى الجهة الشمالية فالأبواب الشرقية :

باب السلام ـ باب النبى صلى الله عليه وسلم ـ باب العباس رضى الله عنه ـ باب على كرم الله وجهه.

ولكل باب من هذه الأبواب تسع درجات خارجية ، وخمس درجات داخلية

أما الأبواب الجنوبية فهى :

باب بازان ـ باب البغلة ـ باب الصفا ـ باب الجياد ـ باب المجاهد ـ باب مدرسة خجلان ـ باب أم هانئ رضى الله عنها.

والأبواب الغربية :

باب خدورة ـ باب إبراهيم ـ باب العمرة.

والأبواب الشمالية :

باب السدة ـ باب العجلة ـ باب القطب ـ باب دار الندوة الزائد ـ باب الدريبة.

وفى الفصل الخامس يعرض لنا المؤلف فى مرآة مكة مآذن المسجد وعددها فللمسجد الحرام في زماننا سبعة مآذن وتسمى :

مئذنة باب العمرة ، مئذنة باب السلام ، مئذنة باب على ، مئذنة باب الوداع ، مئذنة باب الزيارة ، مئذنة قايتباى ، مئذنة السليمانية.

٢ ـ مرآة المدينة

هو المجلد الثانى من هذه الموسوعة ، وهو يماثل فى الحجم أصله العثمانى.

ويقول المؤلف فى مقدمة هذا الجزء حاكيا عن ظروف تأليفه : «وإننى أقبلت على هذا العمل مدركا بعض قدرتى وقلة حيلتى ومستمدا من كتاب الإمام السمهودى «خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى» هذا الكتاب الذى انتشر فى أرجاء العالم الأربعة حاويا الأفكار البديعة والأخبار الشيقة ، مستمدا منه رأس المال اللازم لكتابى مضيفا إليه معلوماتى الشخصية وما حصلت عليه من الأخبار من تحقيقاتى الذاتية ، وبهذا ألبست تلك المحبوبة الجميلة ما قمت بتفصيله من الزى العثمانى ، وبما أنه سيعكس أنوار عيون أصحاب الدين سميته : مرآة المدينة».

هكذا يوضح لنا المؤلف الظروف التى أدت به إلى تصنيف المجلد الثانى من الكتاب ، وكيف استفاد من كتاب الإمام السمهودى مضيفا إليه خبراته الشخصية.

وواضح أن هذا الجزء صنف للإحاطة بأخبار المدينة المنورة وأحوالها على غرار سابقه «مرآة مكة» فهو يقول : «وإن هذا الكتاب الذى لا يخلو من الأخطاء نتيجة لقلة بضاعتى يبدو عديم القيمة والأهمية ، ومع هذا فهو أول كتاب يتضمن الأحوال العامة والخاصة بالمدينة المنورة باللغة التركية ومن هنا حاز شرف الأولية».

ويعد هذا الجزء كسابقه فهو دائرة معارف كبيرة عن المدينة المنورة كل شىء فيها ، وكل شىء يمت لها بصلة فهو يحوى الأحوال الجغرافية للمدينة المنورة ، وحدودها ، وتاريخها منذ القدم إلى ظهور الإسلام ، وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها إلى زمن السلطان عبد الحميد الثانى ، ويحدثنا عن فضائلها ، وطبيعة المناخ

فيها والحرارة ، وسكانها وعاداتهم وتاريخهم وما تعرضوا له من أحوال وما عرض لهم من حوادث ، وعن أهم المحاصيل فى المدينة ، وعن سورها الذى يحيط بها وطوله البالغ ١٤٠٠ ذراعا ، ثم يعرض لتقسيمات المدينة إلى ثلاثة أقسام هى : المحال ، وخارج السوق ، وداخل السوق.

ثم يتحدث عن عادات ساكنيها وكيف يستقبلون شهر رمضان الكريم بالبشر وكثرة العبادة ، ثم يتحدث عن موكب الشموع فى مسجد السعادة الكريم ، ووصف الحجرة الشريفة ثم يتحدث عن المسجد وموقعه ، ومساحته ، وحوائطه وأبوابه الخمسة وهى : باب السلام ، باب الرحمة ، باب جبريل ، وباب النساء وكذلك نوافذه ، ومآذنه ، ومحاريبه ثم يحدثنا عن صلاة الجمعة فى المسجد الشريف ، وفضائله وشد الرحال إليه.

ويحدثنا عن أسماء المدينة المنورة ، وسبب إطلاق هذه التسميات كما فعل سالفا مع مكة المكرمة ، وفضلها على سائر الممالك ، ويذكر القبائل التى كانت فيها ، وعن أيام العرب المشهورة.

ويحدثنا كذلك بالتفصيل عن حادث الهجرة وسنتها وتفصيلاتها ، وبيعة السابقين من الأنصار ، وكذلك يحدثنا عن الحجرة النبوية وحجرة السيدة الشريفة فاطمة (رضى الله عنها) وتوسعة المسجد لمرات عديدة ، وكذلك يحدثنا عن الأسواق العربية وأيام قيامها.

ويتحدث المؤلف فى الفصل الأول من فصول «مرآة المدينة» عن الأحوال الجغرافية للمدينة المباركة فيذكر أنها من البلاد المعمورة وأنه ليس كمثلها فى البلاد من حيث الخصب والمياه الجارية.

أما من حيث موقعها فهى تقع فوق واد مسطح مرتفع بين درجة ٢٠ ، ٢٥ دقيقة فى الشمال عرضا ، وبين درجة ٣٧ ، و ٣ دقائق فى الشرق طولا ، ويحدها من الشمال «جبل أحد» ومن الشرق جبل «الطبرى».

ويبلغ عدد سكان ضواحيها ثلاثون ألف نسمة لم يبق فيهم من الذرية المباركة إلا عدد قليل.

وهى محاطة بسور على شكل قطع ناقص جميل من جهاتها الأربع ، طول هذا السور أربعة عشر ألف ذراع ، وارتفاعه عشرون ذراعا ، وسمكه عشرة أذرع ، وتنقسم المدينة المنورة إلى ثلاثة أقسام : المحال ، وداخل السوق ، وخارج السوق.

وفى داخل السور وخارجه ما يقرب من عشرة الآف منزل ، وكلها مبنية من الطوب وسكانها مشهورون بكرم ضيافتهم ، وجميع المنازل منتظمة ومبنية على طرز مرتفعة ، ولها منافذ ضيقة تشبه منافذ بلاد الروم.

وفى الفصل الثانى يتحدث المؤلف عن مناخ المدينة المنورة وحرارة جوها ، فمن المعروف أن جو المدينة المنورة مائل إلى البرودة فى الشتاء وحار فى الصيف تقرب حرارتها من حرارة أرض مكة فبرودتها تعود لوقوعها فى وسط واد فسيح لطيف تحيط به الجبال المتسلسلة ، ويعد الشهران «يونيو ويوليو» من أشد المواسم حرارة ويتوالى اشتداد حرارتها إلى شهر أغسطس حيث تبدأ الحرارة بعد ذلك فى الأنخافض.

ثم يتحدث بعد ذلك عن أنواع الخضراوات التى تنمو فى المدينة المنورة وهى خضروات متنوعة فيها كل أنواع الخضراوات المعروفة عدا «الكرنب ، القرنبيط والكراث والخرشوف» ولا سيما «البطيخ والخوخ والتين والليمون والعجور ، العنب ، التفاح ، الرمان ، الموز ، والبلح» وجميع أنواع الفواكه المتنوعة بأجناسها المختلفة ما عدا «الفراولة والكريز» وهى موجودة فى كل وقت وكل موسم بكثرة ، والتمر الذى يطلق عليه «البلدى» لا مثيل له في أى بلد آخر من حيث اللذة وجمال الشكل وهو نوعان : أحمر ، وأصفر ، هو أكثر من ٩٠ نوعا.

ويحدثنا المؤلف فى الفصل الثالث عن موضوع طريف وشائق ، وهو كيف يضع الآباء أبناءهم داخل الغطاء القماشى لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجنازة.

وفى الفصل الرابع يعرفنا الكاتب كيف يستقبل أهل المدينة شهر رمضان

المعظم ، فيبين كيف يجتمع أطفال المدينة ـ كنوع من ألعاب الأطفال ـ فى ميدان ما فى التاسع والعشرين من شهر شعبان وينصبون من بينهم شيخا للحرم طليق اللسان وتعرف هذه اللعبة ب «استقبال الأطفال لرمضان الشريف».

وعند ما يحل وقت الإفطار تطلق المدافع ويؤذن فوق المآذن يدعو أصحاب طعام الإفطار من فى يمينهم ويسارهم لا سيما الضيوف إلى الطعام بأفضل تعبير قائلين : «تفضلوا».

وفى الفصل السادس يتحدث المؤلف عن طريقة أداء صلاة الفجر وصلاة العيد فى شهر رمضان ، ويصلى فيها جميع من قاموا بحمل الشمعدان ثم يبدأون بقراءة القرآن والأوراد اللطيفة الشريفة قبل أذان الفجر بنصف ساعة ، إلى أن يحين وقت الصلاة فيؤذن لها ، ثم يقومون إلى الصلاة ، وبعدها يستمعون إلى الدروس والمواعظ.

أما صلاة العيد فهى معروفة ، وليس فيها أشياء خاصة إلا أنهم بعد تأديتها يتجهون إلى الحجرة المعطرة للدعاء والتضرع.

أما الفصل السابع فيتحدث فيه المؤلف عن المسجد النبوى الشريف حدوده ومساحته ، فعرضه يقدر بخمسين ومائتى ذراع ، وعرضه من الجدار الشرقى إلى جداره الغربى خمسون ومائة ذراع إلا أن طوله وعرضه فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما مائة ذراع.

وللمسجد الشريف خمسة أبواب هى :

باب السلام ، باب الرحمة ، باب جبريل ، باب النساء ، باب التوسل. ونافذتان تعرفان باسم «نافذة جبريل» ، «ونافذة مواجهة» ، وله أربعة محاريب تعرف باسم : محراب النبى صلى الله عليه وسلم ، محراب عثمان ، المحراب السليمانى ، محراب التهجد. ولمسجد السعادة فى جهاته الأربع خمس مآذن وفى داخل الحرم الشريف ثلاثة وعشرون وأربعمائة عمود ، وله اثنتان وأربعون ومائتى قبة ، وله واحد وتسعون وسبعمائة وألف قنديل.

والفصل الثامن يتحدث فيه المؤلف عن الحجرة النبوية المعطرة على صاحبها أفضل صلاة وأتم تسليم ، وللحجرة الشريفة أربعة أبواب هى : باب فاطمة رضى الله عنها ، الباب الشامى ، باب الروضة ، باب الوفود ، ولها أربع وثمانون قنديلا مثل النجوم.

والفصل التاسع فى وصف صلاة الجمعة فى الحرم النبوى الشريف ، فحينما تحين صلاة الجمعة يرفع الأذان ، وتصلى صلاة الجمعة ، ويقوم السيد الخطيب الذى عليه الدور من مكانه المخصوص ويقرأ أمام سيد البشر فائض النور ثلاث آيات مستأذنا ثم يتوجه بتؤدة رويدا رويدا نحو منبر السعادة الذى قد هيئ ويتجه أحد خدم الحجرة الشريفة نحو المنبر الشريف ، وبكل تعظيم وتوقير يرفع ستارة المنبر وينشر الرايتين اللتين على جانبى المنبر ، وينتظر قدوم السيد الخطيب ، وفى خلال ذلك يصلى ويسلم المؤذنون الذين فى المحفل معا ، ويصعد الشيخ الخطيب فوق المنبر وقد لف رأسه بشال قيم وقد سار أمامه الأغا الذى يطلق عليه «مؤذن المنبر» وفى يده عصا مؤذن المنبر ثم يرفع الأذان الداخلى فى مكانين بصوت رخيم ، ثم يقوم الخطيب فيخطب ثم بعد ذلك يصلى وبعد الصلاة يستغفر الحق ـ سبحانه ـ ثم يثنى عليه ـ سبحانه ـ ويصلى على المصطفى أفضل صلاة ثم يدعو الله ما شاء له من الدعاء.

أما الباب الثانى فيتحدث فى فصوله عن فضائل المسجد النبوى الشريف ففى الفصل الأول يتحدث ويذكر الأحاديث الشريفة التى حثت على شد الرحال إلى المسجد النبوى الشريف ومنها الحديث الشريف : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد».

وفى الفصل الثانى يتحدث المؤلف عن فضائل المسجد الشريف ، والمنبر اللطيف ، والروضة النبوية المنيفة ، فالصلاة فى المسجد النبوى الشريف أفضل من حيث الأجر من ألف وألف من الصلوات التى تؤدى فى المساجد الأخرى غير المسجد الأقصى ، وأفضل من ألف صلاة تؤدى فى المسجد الأقصى.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم فى رواية : «من صلى فى مسجدى أربعين صلاة وعلى رواية ـ لا تفوته صلاة كنّ له براءة من النار وبراءة من العذاب وبراءة من النفاق».

وفى الباب الثالث يتحدث المؤلف عن أسماء المدينة وفضائلها ، ففى الفصل الأول يتحدث عن أسماء المدينة المنورة فيذكر أن العلماء ذكروا لها أكثر من سبعة وتسعين اسما مستخرجين إياها من الكتب المقدسة والأحاديث الشريفة ، ومن الواضح أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى وهى لكثرتها فقد رتبها المؤلف على حسب ترتيب الحروف الأبجدية ومنها :

ـ أثرب : وهذه الكلمة على وزن أسعد بفتح الهمزة ، وفى فترة ما أبدلوها بياء وقالوا يثرب. وأثرب اسم شخص من أبناء سام بن نوح ـ عليه السلام ـ الذى يقال إنه أول من سكن فى أرض المدينة.

ـ أرض الله ، أرض الهجرة : وهذا الاسم اللطيف ثبت بالآية : ...؟

ـ أكالة البلدان ، أكالة القرى : إن هذين الاسمين يدلان على أن المدينة الطاهرة تفوق المدن الأخرى فى الفضل.

ـ البارة : فهى منبع فيض ورحمة وبركات.

ـ الجليلة : تسميتها بهذا الاسم ، تبين مدى حب حبيب الله لهذه المدينة.

ـ ذات الحجر : لأنها توجد داخل جبال حجرية.

ـ سيدة البلاد : فهى أفضل البلاد لوجود المبعوث رحمة للعالمين فيها.

ـ شافية : وهو مأخوذ من الحديث الشريف : «ترابها دواء من كل داء».

ـ طيبة وطيّبة : فهى تسعد بجوار النبى صلى الله عليه وسلم وطابت لطهارته وفضله.

ـ عذراء : فهى مصونة من الأشرار محفوظة ببركة النبى صلى الله عليه وسلم وكذا فهى رحبت بالنبى الكريم ولم يدخلها بحرب أو قتال.

ـ فاضحة : سميت بذلك لأنها تفضح أهل البدعة.

ـ مؤمنة : فأهلها وهى آمنون من كل شر وسوء.

وفى الفصل الثانى يذكر المؤلف فضائل المدينة المنورة على سائر البلدان فتحدث عن فضلها على سائر البلدان ، وكذا قارن بينها وبين مكة المكرمة من حيث الأفضلية ، فبها مرقد أفضل خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولذا بارك الله لها وفيها ، وحفظها من سائر الشرور لوجود مرقد النبى الكريم بها.

وفى الفصل الثالث يحدثنا المؤلف عن الذين فضلوا واختاروا الإقامة فى المدينة المنورة ويذكر المؤلف فى الفصل الرابع محاصيل المدينة المنورة من فواكه وخضروات ، ويتحدث كذلك عن طهارة ترابها وكيف يشفى من أمراض خطيرة كالجذام والبرص.

وفى الفصل الخامس : يتحدث عن نجاة المدينة ـ ذاتها ـ من فتنة الدجال ، ومرض الطاعون ببركة دعوة النبى الكريم ـ صلوات الله عليه وتسليمه ـ لها بالسلام من كل شر ففى رواية أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : «يا رب كل من يقصد أهل المدينة بالسوء فأذبه كما يذيب الملح الماء» ، وكذا دعوته المباركة من على المنبر قائلا : «اللهم انقل عنا الوباء» يقصد الطاعون والحمى.

وفى الفصل السادس يتحدث المؤلف عن حدود الحرم اللطيف وحرمته.

وفى الفصل السابع يحدثنا عن أحكام الحرم النبوى الشريف ، فهو حرم لتحريم الصيد فيه أى صيد الحيوان والطير ، وقال الإمام الأعظم : إن التحريم هنا بمعنى التعظيم والاحترام وليس التحريم المطلق وعلى ذلك فبعض الفقهاء أجاز صيد الطيور ، وقطف الثمار داخل الحرم فهو ليس كحرم مكة المنيف.

وفى الفصل الثامن يذكر خصائص البلدة الكريمة ومنها : عدم قطع أعشابها وأشجارها ، وعدم حمل السلاح من أجل القتال ، وعدم جواز نقل ترابها إلى بلاد أخرى.

وفى الفصل التاسع يتحدث المؤلف عن المدينة المنورة وحوادثها المتفرقة الغريبة فيذكر أن الحق ـ سبحانه ـ خلق أرض المدينة المنورة بعد خلق أرض مكة المعظمة ثم يتحدث عن اتساع مدينة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد رحيله ، حتى انزعج سكانها وأخذوا يهاجرون منفردين إلى البلاد الأخرى.

وفى الفصل العاشر يحدثنا المؤلف عن وقوع نار المدينة وانطفائها ففى الحديث الشريف قوله : «لا تقوم الساعة حتى تظهر نار الحجاز» وبهذا الحديث أخبر أصحابه بأنه تندلع نار فى تراب المدينة المنورة نار كالجبال ذات أشعة قوية وأن القيامة لن تقوم حتى تظهر هذه النار ، كما بين موقع ظهور النار وانطفائها.

وفى الباب الرابع يحدثنا المؤلف عن المدينة المنورة تاريخها وقراها وعادات سكانها.

ففى الفصل الأول يحدثنا عن أحوال المدينة منذ سالف الأزمان وبعد الطوفان كما حدثنا المؤرخون فقد هاجر شخص يدعى «يثرب بن عبيل» بعد الطوفان إلى جحفة ـ مكان بالمدينة المنورة ـ وكانت حينئذ مكانا لا اسم له ، ثم يحكى كيف نشأت الحكومة فى يثرب فى عهد كنعان بن حام ، ويحكى حكاية أقوام بنى إسرائيل وتاريخهم فى المدينة المنورة.

ثم يحكى لنا فى الفصل الثانى قصة الأوس والخزرج والقبائل التى هاجرت إلى المدينة ، وقت وجود الأوس والخزرج ابنا ثعلبة إلى المدينة المنورة ، ويذكر أسماء بعض هذه القبائل مثل : بنو الجذماء ، بنو قصيص ، بنو عقبة ، بنو هلال ، بنو عمرو ، بنو نفير ، بنو ثعلبة ... إلخ.

وفى الفصل الثالث يتحدث المؤلف عن حالة قرى ومنازل المدينة التى أسسها بنو الأوس حول المدينة ، فقد نزلت قبائل بنى الأوس المدينة وتفرقوا فيها واختار كل قوم ما راق لهم وناسبهم من الأماكن ، فعلى سبيل المثال اختار بنو عبد الأشهل الإقامة فى دار تسمى ب «دار عبد الدار» فى ربوة عالية من المدينة تحميهم

من هجوم أى أعداء ، ويحكى نحو هذه الأخبار مثل إقامة وسكنى بنى سعد بن مرة بن مالك بن الأوس فى ناحية تسمى «رابح».

وفى الفصل الرابع يعرض لنا كيفية إدارة قرى ومنازل المدينة المنورة وأماكن سكنى بعض القبائل مرة أخرى.

أما الفصل الخامس والأخير فهو يعد من الفصول الشيقة من فصول الكتاب حيث حدثنا المؤلف عما يسمى بأيام العرب وحروبهم وملاحمهم بين قبائل الأنصار وغيرها ومن أشهر هذه الأيام :

١ ـ سلمى : وكانت هذه الحادثة سببا فى اشتهار سلمى ب «المتدلية» حيث ربطت نفسها بحبل وتدلت من الحصن لتخبر قومها بأخبار الحصن وأخبار الواقعة.

٢ ـ فارع : وكان قائد القبائل الأوسية فى يوم فارع معاذ بن نعمان بن امرئ القيس ، وكان قائد القبائل الخزرجية عامر بن الإطنابة ودارت الحرب بينهما سجالا ولم تنته لذا رفعا المخاصمة من بينهما بعد يوم فارع واتفقا ضد اليهود وعقدت روابط الصداقة بينهما وتركا العداوة بينهما وعاشا متآخين مدة طويلة.

أما الباب الخامس فهو خاص بأحداث الهجرة النبوية الشريفة ، وتفصيلاتها وجاء على ثلاثة فصول تعرض المؤلف فى الفصل الأول لذكر بيعة السابقين من الأنصار للإسلام ، ودعوة مصعب بن عمير (رضى الله عنه) أهل المدينة للإسلام.

أما الفصل الثانى فهو يعرض لهجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

وفى الفصل الثالث يتحدث عن بيان وقائع سنن الهجرة الشريفة وتفصيلاتها بالإجمال.

أما الباب السادس فهو الباب الخاص بالحديث عن المسجد النبوى الشريف من حيث بداية بنائه وكذلك تجديده وتوسعته ففى الفصل الأول يتحدث المؤلف عن

الظروف التى بنى فى ظلها المسجد الشريف حيث وقفت ناقة الرسول عليه السلام ـ القصواء ـ فى مكان وربطت فيه فأراد النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يتخذ هذا المكان مسجدا فعرض على مالكى قطعة الأرض أن يشتريها منهم فلبى أصحاب الأرض دعوة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجوه أن يتفضل بقبولها بدون ثمن ورجوا النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك وألحوا ، فقبلها النبى وبدأ تعلية وتأسيس المسجد الشريف.

وفى الفصل الثانى يحدثنا عن توسعة المسجد الشريف فبين أن ذلك كان بعد تحويل القبلة إلى المسجد الحرام فى مكة المكرمة ، وفى الفصل الثالث يذكر الأماكن التى أدى فيها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة وهذا نتيجة لأن المسجد لم يكن له محراب خاص به إلى عهد الخلفاء الراشدين فكان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤدى الصلاة فى اسطوانة يطلق عليها «الأسطوانة المحلقة» فى الجهة الشامية ، ثم تفضل ـ عليه السلام ـ بأداء الصلاة فى المكان الذى عرف ب «محراب النبى صلى الله عليه وسلم» وهذا المكان فى وسط الحجرة اللطيفة.

وفى الفصل الرابع يعرفنا بجزعة المسجد النبوى الشريف وهى التى كانت فى الجهة الجنوبية لصندوق المصحف الشريف قبل أن يحترق المسجد النبوى ، لوحة مصنوعة من الخشب تسمى «جزعة» وكانت كبيرة ، وكان يطلق عليها فى تلك الأوقات «خرزة فاطمة الزهراء».

وفى الفصل الخامس يتحدث عن سبب تأسيس المسجد النبوى ومنبره ، ولما كان مسجد المدينة خاليا من المنبر لإلقاء الخطبة وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقف على رجليه فى أثناء إلقائه الخطبة ويتعب كثيرا ، وتأثر بعض الصحابة الكرام بذلك فوجدوا نخلة وركزوها فى المحل الذى يلقى فيه الخطبة ، ورجوه عليه السلام أن يتكئ عليها فى أثناء إلقائه الخطبة ، ثم فكر سعيد بن العاص أن يقول لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فكرة المنبر وصنعه ، وأخذ الإذن من الرسول الكريم وصنعه وأعجب به النبى صلى الله عليه وسلم.

وفى الفصل السادس والسابع يعرض لعدد مرات تجديد المسجد النبوى وكذا عدد الأعمدة الموجودة به فيذكر أنها ثمانية أعمدة (أساطين) موزونة ومتساوية.

وفى الفصل الثامن والتاسع يعرض لوصف المقام النبوى الشريف ، ووصف الحجرة النبوية الشريفة ، فيذكر مكان ومقام أهل الصفة من المسجد النبوى وأنها كانت تقع فى آخر ونهاية المسجد النبوى الشريف ، ثم يأخذ بعد ذلك فى تعريف أهل الصفة ووصف أحوال فقرهم وزهدهم وتقواهم وحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم ، ثم يحدثنا فى الفصل التاسع عن حجرات بيت النبى صلى الله عليه وسلم وحجرات زوجاته الطاهرات البررة ، فهى حجرات تسع بناها النبى صلى الله عليه وسلم لهن بالحجر والطين اللبن ، وبعضها من خشب النخلة ، وأسقفها جميعا من فروع النخيل ، وارتفاعها ثلاثة أذرع.

وفى الفصل العاشر فى وصف دار السيدة فاطمة الزهراء ـ رضى الله عنها ـ كانت هذه الدار مائلة نحو حجرة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن هنا كانت قريبة له ، فكان كثير الاستفسار عنها وعن حالها ، وهى حاليا بين مربع القبر الجليل وأسطوانة محراب التهجد.

وفى الباب السابع يتحدث المؤلف عن توسيع المسجد النبوى الشريف فبين أن توسعته كانت فى عهد الصديق أبى بكر رضى الله عنه نظرا لتكاثر الجماعة الإسلامية وازدياد عددها فأصبح المسجد لا يحتملها فأرسل إلى عمر بن الخطاب وكبار الصحابة أنه لا بد من توسعة المسجد النبوى الشريف فكانت الثانية بعد الأولى بثلاثة عشر عاما لما طرأ على عدد المسلمين من كثرة وزيادة وكانت فى عهد عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ ، وفى المرة الثالثة وسعه الوليد بن عبد الملك وجدده ، ثم يعرض بعد ذلك لوصف حجرة المصطفى والقبور الثلاثة فكان ارتفاعها فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثمانية أذرع ، وأكثر من ستة أذرع فى العرض وكان لها باب هو باب الرحمة وبنيت الحجرة الشريفة من اللبن وخشب النخلة وظلت على هذه الحال إلى أن أحاطها عمر الفاروق ـ رضى الله عنه بسور وجدار جديد.

وفى الباب الثامن يحدثنا المؤلف عن مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيذكر العلامة المميزة لرأس النبى الشريف ووصفه ، ثم يتحدث بعد ذلك عن علامة جهة رأس النبى صلى الله عليه وسلم وهو فى جهة المسمار الذى يبعد عن الجهة الغربية ، قدر خمسة أذرع ثم يحدثنا عن مقام جبريل ومكانه بالقرب من مربع القبر الشريف.

ثم يحدثنا عن حجر إبراهيم وهو الحجر الملاصق للقبر الجليل وبعد ذلك يحدثنا عن ستارة الحجرة النبوية المعطرة التى كانت مزركشة ومصنوعة من الحرير المنسوج المسطور عليه سورة يس ، وبعد ذلك يذكر لنا قناديل الحجرة الشريفة وهى قناديل من الذهب والفضة معلقة على جوانب وسقف الحجرة الشريفة.

وفى الباب التاسع يحدثنا المؤلف عن مقتنيات الحجرة الشريفة وما يوجد بها من المصاحف أو الشمعدانات ، والفضيات والستائر والأشياء الجميلة المتبرع بها للحجرة المعطرة فيذكر أنه يوجد بها ١٣٣ مصحفا ، وعدد من المسابح وعدد من كتب الأدعية المأثورة وأقراص من الذهب والفضة ، وبعض اللوحات الذهبية والمرمرية ولوحة مرصعة بالماس ولوحة من الزمرد والعقيق وبعض التعليقات المرصعة المهداة من بعض الباشوات.

وفى الباب العاشر يعود المؤلف فيصف المؤلف الحجرة الشريفة بالتفصيل كما فعل من قبل.

وفى الباب الحادى عشر يتحدث عن احتراق المسجد النبوى وتجديده ، وكان سبب الاحتراق اشتعال أحد القنابل التى توجد بالمسجد فى عصر الصديق أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ وسرى الحريق من قفص القنديل إلى سائر الأقفاص الأخرى وبقية أجزاء المسجد.

وفى الباب الثانى عشر يعرض المؤلف لفرش الحجرة النبوية ، وكيف كان يعتنى بهذه الحجرة الشريفة من تنظيف وتعطير وتزيين وصيانة وكيف فرش المسجد الحرام بعد أن انهالت عليه الأمطار فى ليلة من ليالى الشتاء الممطر فسالت المياه المتراكمة ودخلت إلى داخله وجاء الصحابة لتأدية الصلاة فلم يستطيعوا نظرا

لامتلائه بالمياه فأتى رجل بمقدار من الرمل وفرش المسجد به وصلى الناس بعد ذلك ، وبعد ذلك يحدثنا عن تعطير المسجد النبوى وذكر الذين عطروه بالعطر والبخور والرياحين والأزهار الجميلة الرائحة فكانت بداية العناية منذ عصر أبى بكر الصديق إلى الذين جاءوا بعده وفى كل مرحلة جديدة كانت تزداد درجة العناية بالمسجد النبوى الشريف.

ويحدثنا بعد ذلك عما يحيط بالمسجد الشريف من منازل وديار وأرصفة المسجد وسوق أهل المدينة الذى بدأ فى سوق «بنى قينقاع» ثم سوق المدينة والذى عنده ضرب النبى برجله الكريمة قائلا «ها هنا سوقكم».

وفى الباب الرابع عشر يحدثنا المؤلف عن المساجد التى صلى فيها النبى صلى الله عليه وسلم ، ووصف مسجد قباء ، وكذلك المساجد التى صلى فيها النبى صلى الله عليه وسلم.

وبعده يحدثنا عن قبر البقيع المشهور وفضائله واسمه بقيع الغرقد نسبة إلى الأشجار التى تنبت فيه وتسمى أشجار الغرقد ، وهى مكان يحيط به الأشجار والزهور وأنه مكان مبارك كريم شريف ، ثم بعد ذلك يذكر لنا من دفن فيه من الصحابة وسادات أهل البيت ، فيذكر أنه دفن به من الصحابة الكرام اثنا عشر ألفا.

وفى الفصل الرابع يحدثنا عن جبل أحد فيذكر أنه خلق منفصلا عن الجبال التى حوله ولذا سمى بجبل أحد وكان النبى يقول عنه : «أحد يحبنا ، ونحن نحب أحد» و «أحد جبل فوق جنان الجنة».

وفى الباب السادس عشر يتحدث عن أسواق المدينة المنورة وآبارها وعيونها فيذكر الأوقات التى تقام فيها الأسواق ، ويذكر كذلك الشهور والأيام التى تقام فيها الأسواق من هذه الشهور مثل أسواق وأيام شهر محرم : يوم الزينة ، وورود المحمل العراقى ، صفر الخير (فى بداية شهر صفر).

وفى الفصل الثالث يذكر لنا اسم العيون المنسوبة إلى النبى ـ صلى الله عليه

وسلم ـ ومنها : عين كهف حرام ، عين الخيف ، عين الأزرق ، عين النبى ، عين الوادى.

وفى الباب السابع عشر يحدثنا المؤلف عما ينسب إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مساجد فى طريق مكة والحرمين الشريفين ، والمساجد التى صلى فيها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما ينسب إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صدقات فيذكر أن جميع الصدقات النبوية تتكون مما ترك وتبرع «مخيريق» من أحبار اليهود.

وفى فصل آخر يحدثنا المؤلف عن المساجد التى بين الحرمين الشريفين فيذكر أن هذه المساجد تقع فى الطريق الذى سلكه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى المدينة ومنها : مسجد الشجرة ، مسجد المغرس ، مسجد شرف الروحاء ، مسجد عرق الطيبة ، مسجد المنصرف ، مسجد الروثية ، مسجد الإثالة إلى أن يصل بها إلى ثلاثين مسجدا.

وفى الباب الآخر من أبواب الكتاب وهو الثالث عشر يحدثنا المؤلف عن أودية المدينة ومنها وادى العقيق ، وأحراش المدينة وجبالها ، فيذكر وادى العقيق وكيف يمتد من موقع قصر المراجل إلى البقيع ، ويسمى «عقيق الأرض» ثم يذكر بعد ذلك أسماء وديان المدينة ومنها : وادى البطحان ، وادى رانوناء ، وادى قناة ، وادى زينب ، وادى مهزو ، مع التعريف المجمل بكل واد.

وبعد ذلك يحدثنا عن أحراش المدينة المنورة ـ وهى أماكن رعى الدواب والجمال ـ والمراعى مثل : حمى البقيع وأحراشه ، ومرعى حمى الربذة. ثم بعد ذلك يذكر لنا آكام وقرى المدينة المنورة مرتبة على حسب الحروف الهجائية ومنها «آوة ، آبار ، أبلى ، ..».

ثم يصل بنا الحديث إلى مرآة جزيرة العرب .. يعد هذا المجلد أصغر مجلد فى هذه الموسوعة إذا قورن بالمجلدين السابقين ـ مرآة مكة ، ومرآة المدينة ـ فهو يبلغ حوالى ٤٠٠ صفحة بينما يربو كل مجلد من السابقين على ١٢٥٠ صفحة.

وفى هذا المجلد يحدثنا المؤلف عن جزيرة العرب من كل الجوانب : الموقع

الجغرافى والحدود الطبيعية ، وتاريخ الجزيرة منذ أقدم العصور حتى عصر السلطان عبد الحميد الثانى ، والملوك والحكام الذين تولوا زمامها ، وكذا أحوال ساكنيها وكيف تقلبت بهم الأحداث وتاريخهم وعاداتهم.

ويبين المؤلف فى بداية هذا المجلد أنه يعده ذيلا لكل من : مرآة مكة ، ومرآة المدينة.

كما أن هذا المجلد يعتبر الخلاصة لمن أراد أن يتعرف على أحوال جزيرة العرب ، ويحتوى هذا الجزء على ستة أبواب ، الباب الأول منها عن تاريخ جزيرة العرب ، ويحوى فصلين.

يتحدث أيوب صبرى باشا فى الفصل الأول عن أنساب العرب القدامى ساكنى الجزيرة العربية فوضح أن أقوام العرب هى : العرب البائدة ، والعرب العاربة ، والعرب المستعربة ، والعرب المستعجمة ـ وهؤلاء هم أقسام العرب ذات أربع طبقات ، فطبقة العرب البائدة هى أولى القبائل العربية التى وجدت بعد أربع طبقات ، الأقوام شعوبا وقبائل بعد نوح عليه السلام ، وهذه الطبقة ليس لدينا عنهم معلومات صحيحة بخصوص أحوالهم وتاريخهم ومنهم عاد الأولى ، وثمود ، وعمالقة ، وطسم ، وجديس ، وحضر موت.

أما العرب العاربة فهم الطبقة التى تنتهى بجميع قبائلها إلى قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، ولما اختلط هؤلاء بأفراد العرب البائدة وتلقوا عنهم اللغة العربية وتعلموها منهم قيل لهم «العرب العاربة».

أما العرب المستعربة فظهرت مع كثرة اختلاط أفراد العرب المستعربة بأفراد الممالك الأجنبية وأهاليها عندها ظهرت الأخطاء فى لغتهم التى يتحدثون بها لأن القبائل العربية انتشرت إلى البلاد التى استولت عليها فى الجزيرة العربية لإعلاء كلمة الله عقب سطوع نور الإسلام.

والقبائل العربانية التى تسكن اليوم الجزيرة العربية تنتسب كافة لطبقة العرب المستعجمة. والقبائل العربية التى تكون هذه الطبقة وإن لم تترك وطنها الأصلى

جزيرة العرب إلا أنها عاشت مختلطة بالملل المسلمة والعربان الأجنبية لذا فقد طرأ بعض التغير على لغتهم.

أما حالة العرب الحضارية قبل الإسلام وبعده فهم ينقسمون إلى :

١ ـ أهل المدر :

وهم أهل المدن والأمصار وهم النوع الأول من أهل الجزيرة والذين يعرفون فيما بينهم ب (حفدى ـ بلدى) ويسكنون فى المدن والقرى ، ويعملون ـ على قدر ما يساعد مناخ بلدهم واستعدادهم ـ بالزراعة وتربية أشجار النخيل والعناية بالحدائق والبساتين ، ويبذلون جهودهم على تأمين معيشتهم بما ينتجون من المحاصيل كما أنهم يؤمنون معيشتهم من جهة أخرى بالأخذ والعطاء مع سكان البلاد المجاورة وبالتجارة.

٢ ـ أهل الوبر :

وهم سكان البادية الذين يعيشون تحت الخيم ودائمى التنقل والترحال من مكان لآخر وراء الطعام والماء ، وهم النوع الثانى من العرب وهم البدو الذين يمضون حياتهم بين الجبال والصخور والتلال والفيافى والصحارى ولما كان عرب الوبر دائمى التحرك والتنقل أضحوا عديمى الرغبة فى اكتساب العلوم والمعارف والفنون فهم يختلفون اختلافا كليا عن أهل المدر فى سبيل تأمين وسائل معيشتهم. فالمساكن فقط لتقى أجسامهم من شدة حرارة الشمس خالية تماما من علامات التجمل.

وفى الفصل الثالث : يذكر مؤلفنا الملوك والجبابرة الذين حكموا الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام ومنهم :

ملوك عاد الأولى ـ كانت بلدتى حضر موت وشحر دارى ملوك عاد الأولى وكانت رعاياهم القبائل العربية التى تسكن فى الصحارى الواقعة بين البلاد اليمانية وعمان.

وقد حكم قوم ثمود سكان حجر وادى القرى بعد هلاك قوم عاد ، وعصوا الله وأخذوا يعبدون الأصنام التى صنعوها بأيديهم وهكذا طغوا فأرسل الله ـ سبحانه وتعالى ـ لهم صالحا ـ عليه السلام ـ نبيا لهم.

ثم يحكى عن سد مأرب وسبب بنائه لحماية بلدة مأرب من السيول التى كانت تنزل بها فلا تبقى ولا تذر ، وبلدة مأرب التى مدحت فى القرآن الكريم بلدة طيبة كانت تبعد عن صنعاء ثلاث مراحل ، واختلاف الروايات حول بانى السد وطوله وعرضه وما إلى ذلك.

ويعرض الباب الثانى للخلفاء والملوك المسلمين الذين ظهروا فى جزيرة العرب بعد ظهور الإسلام يعرض فى الفصل الأول لسيرة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه ولد بعد ميلاد عيسى ـ عليه السلام ـ بخمسمائة تسعة وستين عاما فى اثنى عشر من شهر ربيع الأول والسابع عشر من شهر أبريل ، وبعث نبيا فى الحادى والأربعين من عمره الشريف.

وهاجر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة عام ستمائة اثنين وعشرين من الميلاد والسادس عشر من شهر يوليو مبدأ التاريخ الهجرى من قبل المؤرخين ، مدة نبوته ثلاثة وعشرون عاما ، عمره ثلاث وستون سنة.

ثم يتحدث بعد ذلك عن الخلفاء الراشدين ـ رضى الله عنهم ـ الذين حكموا بعد وفاة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويذكر منهم أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ وعمر الفاروق ـ رضى الله عنه ـ وعثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ وعلى بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ ومن بعدهم خلفاء الدولة الأموية ، وأمراء بنى العباس.

ثم يتحدث بعد ذلك عن الأمراء الذين حكموا مكة المكرمة وهو يقسمهم إلى أربع طبقات.

١ ـ الطبقة الأولى : طبقة سادات بنى حسن ويطلق عليهم بنو «أخيضر» وقد

حكموا تسعا وتسعين سنة وظهروا فى سنة خمسين ومائتين للهجرة وانقرضوا فى أواخر سنة ثلاثمائة وخمسين هجرية.

٢ ـ الطبقة الثانية : من طبقات أمراء مكة الأربع السلسلة السليلة ، لأولاد موسى الذين ينتهى نسبهم إلى الحسن بن على رضى الله عنهما ، والأشراف الكرام والذين يكنون هذه الطبقة هم الأشراف الكرام الذين يطلق عليهم المؤرخون «الموسويين» و «بنى موسى» وأول من تولى منهم الإمارة هو الشريف موسى ، والثانى عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله ، وعدد أفراد الموسويين الذين حكموا البلاد الحجازية أحد عشر أميرا.

٣ ـ الطبقة الثالثة : ويطلق عليهم السادة الأشراف الذين يكونون الطبقة الثالثة من الطبقات الأربع «الهواشم» وأشراف طبقة «الهواشم» الذين عرفوا ب «بنى فليته» ظهروا سنة (٤٥٣ ه‍) وانقرضت حكومتهم سنة (٥٩٨ ه‍) وحكم منهم فى خلال هذه الفترة ثلاثة عشر أميرا.

٤ ـ الطبقة الرابعة : شكل الطبقة الرابعة من أمراء مكة الشريف أبو عزيز قتادة بن إدريس الحسنى وسلسلة نسبه.

ويتحدث المؤلف فى الفصل الثالث عن ظهور طبقة القرامطة باعتبارها من الفرق الخارجة فى البلاد الحجازية التى اشتعلت شرارتها فى زمن المعتمد بن عباد ، وفى رواية فى عهد الخليفة المنتصر بالله ، وأخمدت شرارتها سنة (٣٧٣ ه‍) أى فى عصر الطائع بالله وعلى قول سنة (٣٨٤ ه‍) فى ابتداء خلافة القادر بالله واستمروا فى شقاوتهم ثمانين عاما أو ثلاثا وعشرين ومائة عام إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقيموا حكومة قوية فى هذه المدة.

وأول من خرج من القرامطة أبو سعيد حسن بن بهرام جنابى من قرية جنالة القريبة من أهواز وكان يعمل بالبصرة وزانا ، ثم ذهب إلى البحرين حيث تظاهر بالتقوى والدين واخترع اعتقادات عجيبة باطلة وضعها وخدع بها الناس وتبعه بعض الحمقى من العربان والبلهاء.

وكانت غاية ابن سعيد هذا أن يحلل ما حرمه الشرع وأن يخرج بهذه الدسيسة ما فى نفسه إلى حيز العمل ، لأن التمرد الذى فى ضميره لم يكن جائزا شرعا.

ولقد فعل الكثير من الجرائم واستولى على أقاليم نجد ، يمامة ، واليمن واعتدوا على حجاج المسلمين سنة (٣١٧ ه‍) بغتة وذبحوا من قبضوا عليهم من الحجاج وبعد ذلك هجموا على مكة المكرمة وانتزعوا الحجر الأسود من مكانه ، وحملوه إلى بلادهم واحتفظوا به عندهم.

وهناك اختلاف كثير فى بيان حقيقة عقائد القرامطة الباطلة ، وبناء على قول فريق من المؤرخين فإن أول شخص ظهر فيهم قد تجرأ أن يدعى النبوة وحاول أن يقنع الناس بكتاب ألفه من الكتب السماوية ، وبناء على قول فريق آخر من المؤرخين أن أول من ظهر من القرامطة هو من الأئمة الإسماعيلية وأنه مبعوث من قبل الإمام المهدى وأراد أن يقنع الناس بذلك ، وهؤلاء الخبثاء يروجون لمذهب الرفض والإلحاد.

ومن عقائدهم أنهم يقتنعون بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ـ رضى الله عنه ـ ويعلنون أنهم ينتمون للطائفة الإسماعيلية إلا أنهم يستحلون المحرمات الشرعية ويعتقدون أن سفك دماء المسلمين مباح ، كما يقولون بكفر من لا يعتنق المذهب القرمطى.

ومن جملة عقائدهم الباطلة حصر الصوم ليومين فى السنة ، وعدم الغسل والاغتسال من الجنابة وجعل الخمر حلالا وقولهم «أشهد أن محمدا بن الحنفية رسول الله».

وفى الباب الثالث يحدثنا المؤلف عن أحوال جزيرة العرب الجغرافية فهى تقع فى الجهة الجنوبية الغربية من قارة آسيا ، وتسكنها القبائل البدوية العربية منذ القدم وهى شبه جزيرة كبيرة.

يحدها شمالا الشام وصحراء الجزيرة وشرق خليج البصرة ، وجنوبا المحيط الهندى وغربا البحر الأحمر ، ومضيق باب المندب.

وطولها تقريبا من الطرف الشمالى إلى جنوبها ألفان وخمسمائة كيلو متر تقريبا ، وعرضها من الجهة الغربية إلى جهتها الشرقية ألفا كيلو متر تقريبا وتتسع عرضا من جهتها الجنوبية ومساحتها ثلاثة ملايين وست وخمسين ومائة ألف كيلو مترا مربعا وسكانها اثنا عشر مليونا.

ثم يحدثنا بعد ذلك عن البحار والمحيطات التى تحيط بالجزيرة العربية فى الفصل الثانى من الكتاب فالبحار والمحيطات تحدها من جهاتها الثلاثة ـ البحر الأحمر ـ وهو يعرف بالخليج العربى ، وبحر القلزم ، وبحر شيب الشعب أو بحر جدة ، وهو بحر قليل الجزر وإن كان به شعب مرجانية إلا أنها غير مفيدة ، وهذه الشعب منتشرة بجانب الشواطئ مما يسبب الكثير من الحوادث لاصطدام السفن بها.

بحر الشب ـ ويصل بحر عمان الذى يعد جزءا من المحيط الهندى بالشواطئ الجنوبية لجزيرة العرب من باب المندب إلى مضيق هرمز.

وتنقسم الجزيرة العربية إلى ست قطع وتطلق على الأراضى التى فى الجهة الغربية الشمالية «الحجاز» والتى فى الجهة الجنوبية الغربية «اليمن» والجهة الجنوبية «حضر موت» وعلى الأراضى التى فى الجنوب الشرقى «عمان» والأماكن التى فى الجهة الشرقية «الأحساء» ، «البحرين» ، هجر ، والأراضى التى فى وسط الجزيرة العربية «نجد».

وفى الفصل الثالث يحدثنا عن الأحوال الجغرافية لبلدتى جدة والطائف فجدة : من مدن الحجاز المشهورة وهى مدينة ، وتقع فى الجهة المعمورة فى الجهة الغربية لمكة المكرمة وعلى تسعين كيلو متر منها ، وعلى ساحل بحر السويس فى درجة خط الطول الحادية عشرة وتسع وعشرون دقيقة فى خط العرض الشمالى وهى أكبر موانى الحجاز ازدحاما بالسفن.

وصادراتها : «جلد البقر ، والبن ، والصمغ العربى ، والعطور المتنوعة ، ريش

النعام ، سن الفيل ، الصبارة ، اللؤلؤ ، الصدف ، البلح ، الحناء ، اليسر ، الباغة ، العسل».

ووارداتها وهى التى تستورد من مصر ، وأفريقية ، وأوربا هى : «الأرز ، والقمح ، الشعير ، الدقيق ، الزجاج ، الصابون ، الأقمشة الصوفية ، والقطنية».

ويبلغ عدد سكانها مع مجاورى وتجار مصر والشام والهند واليمن وكلهم مسلمون إلى خمسة وعشرون ألف نسمة ، وأهالى جدة عموما يحبون العمل وأغلبهم أغنياء ، ويشتغلون بجميع أنواع التجارة قد اكتسب ميناء جدة أهمية عظمى لموقعه الجغرافى الطبيعى.

وكافة أهليها ، غير بضعة من الأوروبيين مسلمون ، ويتاجر بعضهم بالهند والمستعمرات الأجنبية الأخرى.

الطائف : تقع بلدة الطائف والتى تسمى أيضا «وادى عباس» على الجانب الشرقى من مكة وعلى بعد ثمانى عشرة ساعة ، ترتفع عن سطح البحر ١٥٧٥ مترا ، عدد سكانها ألف نسمة تقريبا.

ولما كانت أرض الطائف أكثر ارتفاعا من أرض مكة المكرمة فتقل درجة حرارتها عن درجة حرارة مكة المكرمة ست أو سبع درجات ويجود هواؤها ، لأجل ذلك يصعد معظم أهل مكة إلى الطائف عند ما تشتد درجة الحرارة فى أشهر الصيف ، ويقيمون هناك إلى أن تزول درجة الحرارة.

ويعرض المؤلف فى الباب الخامس للقبائل التى سكنت الجزيرة العربية حاكيا تاريخ كل قبيلة وطبيعة عاداتها وشعوبها ومن هذه القبائل.

ـ بنو هاشم ـ ويطلق بنو هاشم على الأشراف والسادات الذين تسلسلوا من أصلاب الإمامين الحسن والحسين (رضى الله عنهما).

ـ قبيلة عنزة ـ وهى التى تستوطن فى شمال الجزيرة العربية ، وخاصة الأقطار الحجازية ويعيش أهلها حياة البداوة وتنقسم إلى أربع قبائل :

١ ـ أولاد على

٢ ـ الحسنة

٣ ـ حلال

٤ ـ بشر

والفصل الثانى : يحدثنا عن قبيلتى حويطات وجهينة.

وتقيم أفراد قبيلة حويطات فى سواحل البحر الأحمر الشرقية التى تمتد من العقبة ، وقلعة «الأزلم» إلى السويس ، والأماكن التى تسكنها أراضيها قليلة الإنبات ومجدبة وعندما يجدبون يتجهون إلى عنزة.

ثم يذكر بعد ذلك فروع قبيلة حويطات والتى وصلت إلى اثنتى عشرة قبيلة.

ثم يذكر بعد ذلك فروع قبيلة جهينة التى تسكن شاطئ البحر من جبل حساين إلى ينبع البحر ، وتنقسم هذه القبيلة إلى القسمين اللذين يعرفان ب (أولاد مالك) ، (أولاد موسى).

وفى الفصل الثالث يتحدث عن عربان قبائل بجاله وبنى حرب ، وقبيلة نحاولة قبيلة فى غاية الاحتقار على حد وصفه بين أهالى الحرمين ذلك لتأصل عادات السلب والنهب والكر والفر فيهم منذ القدم على عهد يزيد بن معاوية.

قبيلة حرب ـ وانقسمت قبيلة حرب إلى قبيلتين كبيرتين وهما بنو سالم وبنو مسروح ، كما أن بنى سالم انقسموا إلى شعبتين وهما «ميمون ومراوحة».

وفى الفصل الرابع يذكر قبيلة مطير ، وبنى سليم وبنى عتيبة ، وقريش ، وثقيف ، وبنى عدوان.

وفى الفصل الخامس يحدثنا عن القبائل التى تسكن بين مكة المعظمة وجدة وقنفذة ، وفى ساحل البحر الأحمر الذى يعد جزءا من تهامة الحجاز.

بنو لحيان : يقيم عربان قبيلة بنى لحيان فى الأماكن الواقعة بين مكة المكرمة

وجدة ، وتقتصر معيشة بعض هؤلاء على ما يحصلون من المبالغ من المسافرين والحاج الذين يسلكون هذه الطرق.

وهناك قبيلة (بنى فهم) غير القبائل المذكورة وتقيم فى وادى خضر ، وقبيلة (يزيد) ، والتى تقيم فى وادى يزيد ، وقبيلتا (بجالة وبنى متعان).

ويتحدث الكتاب فى الفصل السادس عن اليمن وحدوده ووصفه ، والقبائل المستقرة فيه.

واليمن قطعة كبيرة من جزيرة العرب تقع فى الطول الشرقى من درجة ثلاث وأربعين إلى درجة خمسة وأربعين ، وفى العرض الشمالى ، فى درجة اثنتى عشرة وتقع على الطرف الجنوبى الغربى من جزيرة العرب.

ويحيط بها من الجانب الغربى البحر الأحمر وفى الطرف الجنوبى خليج عدن ويحيط بها من الشرق حضر موت ، ومن الشمال الحجاز ، ومسافتها الطولية خمسة وخمسون وسبعمائة كيلو متر ، ومسافتها العرضية خمسون وثلاثمائة كيلو متر ، عدد سكانها مليونان وخمسمائة ألف نسمة تقريبا ، وتنقسم جغرافيا بالإجمالى إلى قسمين : والقسم الأول من الخطة اليمانية : الأراضى الواسعة المستوية على ساحل البحر الأحمر ويسمى «تهامة» وتمتد من شاطئ البحر إلى الداخل ما يقرب من اثنتى عشرة ساعة وهى أراضى سهلة مستوية.

والقسم الثانى من الأراضى المقابلة لتهامة وهى أراضى مرتفعة يطلق عليها نفس اليمن وهى فوق جبال متسلسلة تسمى جبال «سروات» وتمتد من الطائف إلى صنعاء.

أما سكانها فهم يسكنون القرى والمدن ويقومون بكسب قوتهم بالزراعة والتجارة ، لذا نجد أن العرب الرحل يقلون فيها بالنسبة إلى الأماكن الأخرى لجزيرة العرب.

ومن ضمن ما تشتهر به اليمن من زراعة شجرة البن وكانت قديما خاصة

باليمن ولكنها نقلت فيما بعد إلى البلاد الأخرى حيث أنبتت فيها وقد جربها أول مرة أهل اليمن وعرفوا بعد التجربة خواصها النافعة فأخذوا يستعملونها ويشربونها فتبعهم بعد ذلك أهالى البلاد الأخرى.

والقهوة اليوم وسيلة رئيسية لإكرام الضيوف وتحيتهم ، ومن أجود أنواعها البن الذى ينبت فى أرض اليمن.

وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى أمتع أبواب الكتاب وأطرفها على الإطلاق وهو الباب السادس الذى تعرض فيه المؤلف بالحديث لعادات أهل الجزيرة وتقاليدهم والذى تفرد ببعض الفصول التى لم ترد فى كتب غيره.

ففى الفصل الأول يذكر عادات سكان الجزيرة العربية منها العادات التى اخترعها عمرو بن لحى ومنها عادات خاصة بالنوق مثل إذا ولدت عشرة صغار يفقئون إحدى عينيها ويمنعون ركوبها ويسمونها «حام».

والعادات القديمة كان منها وأسوأ ما يكون منها : عادة وأد البنات التى حكاها القرآن الكريم حين قال عز وجل : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). [النحل : ٥٨]

ومنها أيضا : الوشم ، والتعمية ، وبكاء المعتزلين ، التفقية ، رمى السن ، خضاب النحر ، نصب الراية ، جز النواصى ، الالتفات ، النهق ... إلخ وهذه أيضا يروى أنها من اختراعات عمرو بن لحى وهى من العادات التى لم ينزل الله بها من سلطان فجاء الإسلام الكريم وأبطل هذه الخرافات والخزعبلات وبين أنها من دعاوى الجاهلية.

وقد ظهر بينهم بعض السحرة ، والكهنة ، وأخذوا يخبرونهم عن المغيبات ولما صادف أن تحقق بعضها وأخبروه فانخدعوا بهم وأخذوا يستعينون بهم فى حل مسائل دينهم ومشكلات حياتهم.

أما عن عقائدهم فكانوا على عقائد وملل شتى كثيرة متفرقة منها :

١ ـ فرقة منكرة : كانت تنكر الخالق والبعث والحساب وتحاول أن تثبت أن الطبيعة هى التى تحيى وتميت والدهر يفنى فكانوا يقولون : «ما يهلكنا إلا الدهر».

ومن ذلك قول شاعرهم :

حياة ثم موت ثم بعث

حديث خزافة يا أم عمرو

ومن ذلك قولهم :

ما هى إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ، نموت ونحيا ، ولا يهلكنا إلا الدهر.

٢ ـ الفرقة الثانية : كانت تعترف بالخالق ، وابتداء الخلق ولكنها تنكر المعاد.

٣ ـ الفرقة الثالثة : تعترف بالخالق وابتداء الخلق ونوعا من البعث ثم أنكروا ذلك وعبدوا الأوثان ظانين أنها ستكون شفيعا لهم لدى الله ـ سبحانه وتعالى.

وكان من بينهم من يعبد النجوم والكواكب مثل الأشوريين ، ومن يعبد الحيوانات مثل المصريين ، ومن يعبد الملائكة والجن وكان منهم من انحرف لمذهب من يعتقد فى تناسخ الأرواح.

ويحدثنا المؤلف بعد ذلك عن كرم العرب وسخائهم وتحملهم للجوع والعطش فالقبائل البدوية تشتهر شهرة واسعة بين العرب بالكرم ، والكرم البدوى معروف لدى البسيطة كلها ، حتى الفقراء منهم يتصفون بهذه الصفة وهم يقدمون لضيوفهم أفضل ما يكون عندهم من طعام أو شراب وإن لم يجد الواحد منهم ما عنده لذلك فقد يذبح حصانه وناقته وهو أحوج ما يكون إليهما ، وهم لشهرتهم بالكرم ، فالكرماء منهم ممدوحون أبدا ، والبخلاء مذمومون نادمون أبد الدهر.

ولما كان بعض العربان يفرحون بقدوم الضيف فرحا شديدا فينتظرون كل صباح ورود الضيف ، ويناجون الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يبعث لهم ضيفا وسواء أكان الضيف معروفا أم غير معروف فالواجب يحتم إكرامه بغض النظر

عن معرفته أو عدمها ، بل هم يتنافسون فى بذل هذا الشرف والترحيب بالضيف الغريب ويأخذونه إلى منازلهم حيث يعدون لهم أجود أنواع الطعام والشراب.

ومن عاداتهم تقديم ثلاثة فناجين قهوة متتالية ولكن بن هذه القهوة لا بد أن ينضج بعد ورود الضيف ويطحن فى المطحن ويسوى فى إبريق من الفخار ، وقد يضحى صاحب البيت فى سبيل حماية ضيفه بنفسه وماله وعلى الضيف أن يعد نفسه واحدا من أهل البيت وأن يدافع عنهم إذا ما تعرضوا للأذى.

ومن صفاتهم أيضا تحمل الجوع والعطش والجو الشديد الحرارة وليس فى العالم قوم يتحملون هذه الأشياء مثلهم والذى يشبع منهم مرة فى أربع وعشرين ساعة يعد نفسه سعيدا.

وهم يعيشون على تناول الأعشاب التى تنمو بجانب الغدران التى تكونت من أثر الأمطار ، وعند ما يتجهون إلى مكان ما للإغارة على بعضهم بما أنهم لا يملكون كثيرا من الزاد فإنهم يطحنون الدخن وشيئا من الدقيق وكلما يجوعون يضعون فى أفواههم قدرا منه ويشربون ماء.

ومع كل هذا التحمل فصحتهم جيدة وأجسامهم قوية إلا أن قوة أجسامهم لا تكتمل فبنية أجسامهم نحيفة وهم فى غاية من خفة الدم.

وفى الفصل الرابع من الباب السادس يحدثنا المصنف عن باب من الأبواب الطريفة والنادرة وهى عادات العرب وأساليبهم فى السلب والإغارة والعرب الذين يخرجون للسلب والنهب يتخذون أحدهم رئيسا وقائدا ولا يخرجون عن طاعته ورأيه ، ومن أحكام السلب والنهب عندهم أن يكون نصف الخارجين ركبانا ، والنصف الآخر من المترجلين وفى أثناء قتالهم لا يستخدمون الأسلحة النارية ، ولكنهم يقاتلون بالأسلحة البيضاء مثل السيف والرماح وما يشبهها من الآلات.

وبعد ما يهيئون مهماتهم الحربية ويتخذون تدابيرهم القتالية ويقتربون من مقر

القبيلة التى يريدون أن يقتحموها ، يختفون فى مكان ما ثم يبعثون باثنين منهم للتجسس ويصعد الجاسوسان على قمة جبل ويرصدون أحوال العدو وأغنامهم وكل ما يملكون من أموال ، وإذا قنعوا بقدرتهم على العدو أغاروا عليهم واقتحموا القبيلة صباحا ونهبوا أموالهم وأغنامهم ، وإذا كانت الإغارة ليلا قيدوا الرعاة على جذع الشجر ثم يسوقون ما نهبوا فى سرعة شديدة.

وفى الفصل الخامس يحدثنا المؤلف عن عادات العرب فى تربية أطفالهم وكذلك عاداتهم فى الوليمة والختان.

تربية الأطفال

يكلف العربان أولادهم إذا بلغوا سن الثالثة برعى الجدى والحملان حول قريتهم ، وعند ما يبلغون السنة الرابعة يرعون الحمير والحملان فى أماكن أبعد من ذلك.

وإذا بلغوا الخامسة من عمرهم يعلمونهم الجلوس على ظهور الجمال ، فإذا بلغوا السادسة يعلمونهم ركوب الجمال بمفردهم.

ويكتسب أطفال البدو مهارة عظيمة فى ركوب الخيول والجمال حتى إنهم يستطيعون أن يركبوا جملا مهما جرى سريعا ، ومهما كان الحصان العربى سريعا فركوبه والجرى به يعتبر بالنسبة للطفل العربى من قبيل اللهو.

وتظل الصبايا إلى أن يبلغن السنة العاشرة من عمرهن مع الأطفال يعملن معهم فى رعى الغنم والمعز ، ويعلموهن فى هذه السّن حلب النعاج والمعزات وصنع اللبن الرائب والجبن.

الزواج وعاداته

يعد أبناء العم وأبناء الأخوات أكفاء للبنات العربيات إذا كان الواحد من هؤلاء غير مقيد بالزواج أو متزوجا غير راض بزواج البنت من طالب يدها فمثل هذه البنت لا تتزوج.

والمهر بالنسبة للأغنياء عبارة عن «بسط» (سجادة أو كليم) كبير من الصوف ، وسوارين للمعصم من الذهب وفساتين وبعض الإبل والأغنام.

وليمة العرس :

ويقدم فى وليمة العرس الأرز المطبوخ وعليه لحم الغنم الذى ذبح من قبل وأعد للضيوف ، وهذا من العادات العربية الجارية.

حفل الختان

يختن العرب أولادهم الذكور فى اليوم السابع من ولادتهم ، وبعضهم في يوم الأربعين ، وبعضهم فيما بعد ، كما يقرر عرب من هذيل الذين يسكنون بجانب مكة المكرمة ألا يختنوا أبناءهم إلا عند الزواج فعند ما يقررون عقد زواجهم عندئذ يختنونهم ، وعند ما يقرر ختان ذلك الفتى فمن عادة هؤلاء القوم أن يدعوا لحفل ختانه أحباءه وأقاربه وجماعات القرى المتجاورة ، وكل واحد من المدعوين يهدون لصاحب الحفل على حسب قدرته خروفا واحدا أو أكثر وجملا ومعزة أو ثورا.

كما أن من عاداتهم أن يسوق كل فرد ما يريد أن يهديه من الحيوانات أمامه وأن يذهب إلى القرية التى سيحتفل فيها قبل الختان بيوم أو بيومين.

وفى الفصل السادس يتحدث المؤلف عن سبب حب العرب للنخيل والجياد الأصيلة ، وصورة الأوسمة التى تطبع على الجمال فى الأراضى الحجازية وبما أن هذه الأشجار المباركة لا تنمو فى كل أماكن الحجاز لذلك يحرص غارسوها أن يغرسوها على أطراف ممرات السيول ، وحيث الماء قريب من سطح الأرض والأماكن الرطبة ، ثم يتعهّدونها بالسّقيا أربعين يوما حتى تتمكن جذورها فى الأرض ثم يتركونها لحالها.

يقال للتمر أول ما يظهر «زهوا» وعند ما يحمر ويبدأ فى النضج يطلق عليه «رطب» ، والتمر فاكهة مغذية قوية ، والبدو وأهل المدينة يفضلون أكل الطازج منه ، ويبيعون الرطب.

الخيل :

يطلق فى بلاد العرب على ذكر الحصان (الخيل) ولأنثاه يقال (فرس) وهم يربون الخيل ليأخذوا ذريته فقط ، لذا لا يحتفظون بذكر المهر بل يبيعونها للبلاد المجاورة لهم ولكنهم يحتفظون بأنثى المهور ليركبوها فى الحروب ويحرصون على الاحتفاظ بها ولا يستطيع أن يمتلك هذه الفرس إلا الأغنياء ، أو يشترك عدة أشخاص في ملكيتها.

ويمكننا تلخيص موضوعات هذا الجزء فى :

١ ـ الموقع الجغرافى والواقع الاجتماعى للجزيرة العربية.

٢ ـ التاريخ السياسى والاجتماعى لجزيرة العرب.

٣ ـ القبائل التى سكنتها قديما وحديثا ، وتاريخها.

٤ ـ عادات أهل الجزيرة وأخلاقهم وصفاتهم.

والحق أن هذا الجزء تفرد ببعض الموضوعات الطريفة والشيقة والتى قلما تجتمع فى غيره من المصادر ومنها :

١ ـ حديثه عن الأصول والقواعد الخاصة بالحروب عند العرب والتدابير الحربية واللصوصية ، وهو كذلك من الموضوعات التى تخلو منها كثير من الكتب.

٢ ـ سرده لعادات العرب فى تربية أطفالهم ، وعادات الختان ، والوليمة.

عناصر مجلد «مرآة جزيرة العرب» :

تاريخ وخبر جزيرة العرب ـ خلفاء وملوك الجزيرة العربية ـ الخارجين فى البلاد اليمنية ـ طائفة القرامطة وخبرهم.

أحوال الجزيرة الجغرافية والمناخية ـ ما يحيط بالجزيرة من بحار ومحيطات ـ جده وأحوالها الجغرافية ـ أماكن المدينة ، وحدودها.

طرق المدينة ـ الطريق السلطانى ـ طريق فرع ـ طريق غاير ـ طريق مكة والمدينة ـ طريق ينبع ـ طرق مؤدية لمكة.

قبائل الجزيرة العربية ـ قبيلة حويطات وجهينة ـ قبائل بجاولة ، وأحوالها ـ قبائل مطير وبنى سليم ـ قبائل مكة المكرمة ، والمدينة ـ وصف اليمن وحدوده.

وعادات وتقاليد أهل الجزيرة العربية ومذاهبهم ـ وصف وتعريف «سمية وخمسة ومنن» من قوانين العرب ـ وصف كرم العرب وصلابتهم ـ ذكر تقاليد العرب الحربية ـ تربية أطفال العرب ـ حب العرب للنخيل والجياد.

***

مرآة الحرمين

مرآة مكة

إن الحمد والشكر والثناء بالصدق والإخلاص لأعظم المستحقين سبحانه «تعالى شأنه عما يقولون» حمدا يفوق فى الكثرة أنفاس قوافل الحجاج المتقاطرة وشكرا يزيد عن حاجة الأرامل فى مختلف المراحل.

له الحمد والشكر إذ أنشأ مبنى العزة الكعبة المعظمة فى مدينة (مكة المكرمة) مهتدى الضالين فى صحراء العصيان ، ودعا لدار الضيافة عميم النوال ، دعا جميع سكان بلاد الموحدين أطعمهم من المائدة العظيمة الفائدة والنفع من قوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (آل عمران : ٩٧) وأحاط بالعظمة والفخامة جميع السلاطين والحكام الذين وقفوا فى تجديد قبلة جميع الرسل والأنبياء وتعمير بيت الله العظيم.

وأعرض الصلوات الصافيات المتنوعات لنبينا خاتم الرسل والأنبياء نتيجة مقدمة الأكوان والشئون «عليه وعلى آله سلام الله المنان» وأفرش حجرة نبينا الطاهرة وروضته المضيئة بالصلاة والسلام.

وأخص منير مضاجع آل البيت وأهله والأصحاب الكرام برفع تحياتى الوافرة إذ بينوا لنا فضائل المآثر المبروكة والمساجد المسعودة التى عينها لهم نبى الإنس والجن «عليه صلوات الله الرحمن» وهكذا أبرزوا خدماتهم فى سبيل الدين المبين وحبيب الله رب العالمين وزادوا فى أجر جموع الحجاج الكرام ومثوبتهم بزيارة هذه الأماكن المقدسة.

وبعد فيعرف أهل النهى جيدا أن كل قطعة من حجارة البلدتين الطيبتين أغلى وأكرم من جواهر ملك سليمان ، وكل ذرة من ترابهما المطوية بالغفران أعز من إكسير العظمة وجوهرها ، ومن هنا فإنّ أفضليّة البلدتين الطيبتين على جميع الممالك على وجه البسيطة ظاهرة للعيان. ووجوب زيارتهما على كل مسلم قادر أمر بديهىّ واضح ، يزورهما فيستطلع فوائدهما وفضائلهما ويستكشف خصالهما وخصائصهما ، وهذه الزيارة لها شديد اللزوم لكل موحد يلبى الدعوة الروحانية الإبراهيمية «على نبينا وعليه التحية» بالصلاة والسلام وعلى الذين يأتون لهذا المكان مثل حمائم الحرم طالبين الراحة النفسية.

وقد ألف العلماء الكرام كثيرا من الكتب ليبرهنوا على أن الأرض المضيئة التى تحتوى على الأقطار الحجازية المنجية أقدس مكان على وجه الأرض ونشروا هذه الكتب وليعرفوا الخلف ما تمتاز به الأراضى الحجازية من فضل وقدسية في نشأتها. كما أن شعراء القبائل البدوية قد أنشدوا قصائد بليغة وفقرات مسجوعة فى ذات الموضوع تناقلتها الألسن.

إلا أنه لا يخفى على أصحاب الاطلاع والبحث والتدقيق أن تلك الكتب المؤلفة فى هذا الموضوع والقصائد التى قيلت فيه ظلت فى زاوية منسية في أصونة دور الكتب.

وبما أنه لم يكتب إلى الآن فى لغتنا التركية كتاب مستقل خاص بهذا الموضوع فالروايات التى تتناقلها الألسن وتسمعها الآذان من البديهى ألا تخلو من التناقض ، وهذا ما يجعل التأكد من حقائق الأمور من الصعوبة بمكان ، وبناء على هذا فكل أبناء الوطن الذين يريدون أن يطلعوا على حقائق الأماكن المشحونة بالمحاسن ـ حقائق الحرمين الشريفين ـ ومواقع آثارهما وفضائلهما لا يجدون مراجع يستقون منها ما تتوق أنفسهم إلى معرفته من حقائق الحرمين الشريفين ، فأحسّ هذا الفقير العاجز بالحاجة إلى أثر فوائد موائده لم ير ولم يسمع بمثله إلى الآن ، أثر عظيم القدر لا يستغنى عنه ، وإننى كنت قد عرضت على أنظار العامة

فى ظل الكرم السلطانى المؤلفات الآتية : محمود السير ـ عزيز الآثار ـ تكملة المناسك ـ تاريخ الوهابيين ـ رياض الموقنين ـ ترجمة الشمائل.

وقد رأيت بعين الفخر والابتهاج مدى ما حازته هذه الكتب من حسن القبول لدى أهل الكمال الذين يتجاوزون عن الأخطاء ، وهذا ما شجعنى على أن أطلع على الوقائع المبروكة لمكة ذات الفيوض والمدينة المفخمة ذات السعادة المدوية ، وذلك من الكتب القيمة الموثوق فيها والتى تحتوى على أحوال الأوائل ، تسطر أوصاف تلك المدينتين التى زخرفت على سطور حريرية ، كما أننى ذكرت فى كتابى عادات أهل الجاهلية في ذلك بأقلام الفحول والرسائل النادرة من المصنفات العربية والفارسية ، فأمعنت النظر فى ثناياها لأستنبط من فحواها ما يفيد معظم الملة العثمانية.

أنشر منها ما هو نافع ومفيد وهكذا أردت بأن أكتب تاريخا باللغة التركية عن البلاد الحجازية المتسعة ، أبين فيه أحدائها الماضية وأحوالها التاريخية جامعها كلها فى مجلدات خاصة ، وأقدم لأبناء الوطن ما يفيدهم وينفعهم.

إن الخاطر الذى طرأ على ذهنى كان فى حاجة للتنظيم والترتيب مع قلة المعلومات فى الموضوع. كما أن الأقوال التاريخية المتباينة فى مواقع «يثرب» و «بطحاء» وإعمال الفكر والتدقيق والبحث فيها كانت مرهونة بالسفر إلى الأراضى الحجازية السعيدة للمشاهدة والتفقد. ولكن المشكلات التى صادفتنى فى هذا السبيل أدت إلى التردد والتراخى فترة ما لإجراء ما فى الضمير.

فى النهاية قدر للعاجز السفر إلى الحجاز وتيسرت له هذه السياحة وتحقق المرام ، ومما ساعد على تحقيق مثل هذه الغاية المرجوة ، ما يضمره الإنسان من إفادة أهل الإيمان من مثل هذه الأعمال المؤيدة بالأدلة العقلية القطعية والبراهين النقلية القوية ، كما أنّ تصحيح ما يتوقع من الأخطاء فى أثرى من قبل أصحاب المروءة فى زماننا ساعدنى علي إنجاز ما فى ضميرى وعلى المضى قدما إلى إتمام هذا العبء الثقيل الذى جعلته على عاتقى وإن كان فوق قدرتى فقد مضيت فى

إنجاز ما بدأته مستظلا بالحماية السلطانية دون خوف أو رهبة في عهد السلطان التركى منير الفؤاد ومحمود السير ملك الملوك حميد الخصال ، ممدوح السريرة ، خادم الحرمين الشريفين خليفة رسول الثقلين ، السلطان ابن السلطان الغازى «عبد الحميد» خان الثانى ابن السلطان الغازى عبد المجيد وفى عهده الذى تميز بإنجاز الأعمال الخيرية واستكمالها وانتشار العلوم والمعارف تحت ظل الأمن والأمان والطمأنينة.

وإننى أقدمت على إنجاز هذا العمل نازلا لحكم المصراع الشعرى المعروف :

«لا تبقى تحت هذه القبة إلا ذكرى طيبة ولحن عذب».

لذلك رغبت فى أن أترك ذكرى طيبة تدفع الناس للدعاء بالخير لصاحبها وهكذا جمعت ورتبت ما عزمت عليه ، بعد أن دققت النظر بعمق شديد فى الكتب التى سيأتى ذكرها والتى اتخذتها مرجعا واستصوبت أن أنقل من الأدب العثمانى بعض المباحث ولا سيما من الرسالة التى ألفها الدكتور (رائف أفندى) وضمنها تدقيقاته الواقعية الشاملة ، ثم توكلت على هادى السبل وبعونه شرعت فى كتابة الوقائع والأحداث لأرض بيت الله المنيرة من بدء الخليقة إلى عصرنا هذا ، عصر الخلافة العثمانية ، عصر العناية بالمعارف ، مستعينا فى ذلك بالكتب التى اتخذتها مراجع ولم أهمل أن أضمن كتابى أقوال الذين شاهدوا المواقع التى يمكن مشاهدتها رؤية العين والتى يمكن التأكد من صحتها.

وكانت غايتى الخيرة من هذا العمل ترغيب الذين حجوا فى الحج مرة أخرى وحث وترغيب الذين لم يحجوا بعد فى الحج.

وحاولت أن تكون لغتى واضحة وعباراتى سلسلة على قدر الإمكان وضمنت كتابى صور بعض المآثر وخريطة الحرمين الأنورين المسطحة.

وقسمت أثرى هذا القاصر إلى ثلاثة أقسام وسميته ب (مرآة الحرمين) وقدمته للعتبة السلطانية الناشرة للعدل وللسلطان الذى يرفع رأسه عاليا مفتخرا بخدمة الحرمين الشريفين ، وبحفظ الخرقة النبوية الشريفة ـ على صاحبها أفضل

التحيات ـ ويرفع علم سيّد بنى آدم المعظم صلى الله عليه وسلم ، وقدمته لإمام المسلمين وخليفة خلفاء الدين.

وإننى آمل أن ينال مؤلفى هذا حسن القبول ، وأين هذا الأثر من المؤلفات العثمانية المتنوعة التى تحير العقول ، إلا أننى أردت أن أخدم الذين ينتمون إلى دينى مستفيدا من عهد السلطان الفاروقى الشعار ومن العهد المصون من الجور والظلم.

وبما أننى من موظفى القصر وقرناء السلطان الذين يعرضون أفكارهم بإخلاص فى العتبة السلطانية لأعد نفسى من أعظم السعداء إذا ما نال أثرى هذا شرف مطالعة السلطان المفطور على الرحمة ، وإن هذا العاجز الذى لا ملجأ له سوى ظل السلطان يرجو ألا يتعرض للخجل ، وأن يحظى مؤلفه بعطف السلطان وكرمه ولطفه.

وإننى أرجو من الفضلاء الذين سيمعنون النظر بين سطور مؤلفى هذا المتواضع أن يغضوا النظر عما سيظهر فيه من سهو وخطأ وكفى أن هذه الصفحات تحتوى على الجواهر القدسية.

والله ولى التوفيق

الوجهة الأولى

تحتوى هذه الوجهة على خمسة صور تتعلق بتعريفات أحوال مكة المعظمة الجغرافية الأولية ، وأوضاع بيوتها وأشكال دورها وهيئاتها وأحوال إيجار بيوتها والمسائل المهمة حول مجاورة البيت ، كذلك درجات حرارتها وبرودتها وسبب إطلاق اسم الكعبة على البيت الشريف وفضائل الكعبة الجليلة وخواصها وتعريف حدودها بالتفصيل.

إفادة مخصوصة :

الكتب التى اتخذت مراجع لكتابة «مرآة الحرمين» هى :

القسطلانى على البخارى ، شروح الشفاء ، روح البيان ، التفسير الكبير ، تفسير الكشاف ، تفسير لأبى السعود ، القاضى على الشهاب ، تفسير الخازن ، تفسير النسفى ، تفسير ابن كثير ، تفسير ابن عادل ، فتاوى قاضى خان ، منظومة ابن وهبان ، روح التوشيح ، صحيح مسلم ، الطحاوى ، درجات مرقات الصعود ، تاريخ الإمام الأزرقى ، تاريخ الإمام الفاكهى ، خلاصة الوفا بأخبار مدينة المصطفى ، مسلك المتقسط على منسك المتوسط ، وفاء الوفاء ، تاريخ نفيس خميس ، أنس جليل ، تاريخ ابن هشام مسامرات الشيخ محيى الدين ، خبر البشر بخير البشر ، خطابات أحمدية ، نخبة الدهر فى عجائب البر والبحر ، العقد الثمين فى فضائل البلد الأمين ، بدائع الزهور فى وقائع الدهور ، تدقيقات الدكتور رائف أفندى ، تحقيقات الدكتور بكر أفندى ، روضة الصفاء لمحمد خاوند شاه ، فتوح الحرمين ، التواريخ التركية ، فضائل بيت الله ، ذراع الكعبة المشرفة ، ذراع المدينة المنورة ، مضبطة سهيلى أفندى ، تاريخ نوح أفندى ، سراج الملوك ، الأحكام

السلطانية ، فذلكة كاتب جلبى ، كتاب النسب ، تاريخ رضوان باشا ، سبل الرشاد ، شفاء الغرام ، خلاصة الكلام فى بناء بيت الله الحرام ، تحفة الكرام ، الزهر الباسم ، المناهل العذبة فى إصلاح ما وهى من الكعبة ، استقصاء البيان في مسألة الشاذروان ، كتاب المعارف ، التحفة المرضية فى الأخبار القدسية ، نور العين فى مشهد الحسين ، قرة العين فى أخذ ثأر الحسين ، كتاب حكم الإسكندرى.

المباحث التى تحتوى عليها «المرآة» هى خلاصة ما أخذ واقتبس من الكتب التى ذكرت أسماؤها آنفا.

وإننى كنت تصورت أن أكتب تاريخا عن الخطة الحجازية أبين أحداثها الماضية وأحوالها التاريخية بنية تقديمه لأبناء الوطن باللغة التركية فى مجلدات خاصة. وأن أبين فيه ما حدث لأبنيتها المقدسة إلى هذا العصر الذى نفتخر بإدراكه من حيث كم مرة جددت وعمرت المبانى المقدسة ومن الذين قاموا بهذا العمل؟ وما الجهد الذى بذل فى سبيل توسيعها وتعميرها؟ وكيف كانت أشكالها القديمة وهيئاتها السابقة؟ وكيف أصبحت فيما بعد؟ وما الأماكن التى تحظى بشرف الزيارة إلى البلاد الحجازية؟ وما المآثر المبروكة فى البلاد الحجازية؟ وأين تقع؟ والأحوال الجغرافية للمسجد الحرام والروضة المطهرة لسيد الأنام مستقرها الأساسى؟ وآثارها العتيقة ومحاصيلها الزراعية وأحوال مجاورة البيت الحرام وكيفية إيجار بيوت مكة ، وتقسيم الكسوة المباركة للكعبة الشريفة.

ومن هؤلاء الملاعين سكان الجحيم الذين تجرؤا على هدم بيت الله وتخريبه؟ وما العوامل التى دفعتهم إلى ذلك؟ وماذا كان مصير كل من أراد أن يحقر أيّا من الحرمين الشريفين؟ وما مصير سفهاء الأسلاف والملاحدة الظالمين؟ ومتى اتخذ إرسال الصرة عادة؟ وفى عهد من من السلاطين؟ وكم كان مقدار المبلغ الذى تحتويه الصرة السلطانية فى العصور السابقة؟ وكيف ترسل الآن؟ وما مقدار

النقود التى ترسل؟ وما معنى المحمل الشريف؟ ومتى ابتدع إرسال المحمل وما دواعيه؟ وكم ظلت كعبة الله العلام بيتا للأوثان والأصنام؟

والحاصل أنه قد كتبت جميع الأحداث والوقائع والانقلابات الخاصة بالأقطار الحجازية ، واختصصت أحداث مكة بمجلد ، كما اختصصت أحداث المدينة بمجلد وإتماما لهذين المجلدين كتبت تاريخا للجزيرة العربية.

وإن كانت المرآة لا يمكن أن تبين تاريخ تأسيس بيت الله وزمنه بحيث تطمئن إليه جميع قلوب الناس ، ولكنها تبين جميع الحقائق والأحوال متسلسلة بالنقل والروايات والأحداث التى ثبت وقوعها تاريخيا من عهده صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا ، وتذكر جميع الانقلابات والوقائع بعد التدقيق والبحث بعمق ومع كل واقعة تعريفها وأحداثها.

إن ما ستعرضه المرآة أمام القراء عبارة عن الصور التى عرضت أعلاه وما يتفرع من هذه الصور.

ولم تجمع محتويات الكتاب حسب أدوار الملوك والسلاطين ولكنها قسمت لبعض الوجهات والصور.

وكان الغرض من هذا التفريق أن نبين بالترتيب ما حدث فى البقعة المفخمة لكعبة الله الحرام والمسجد الشريف لرسول الله العلام منذ تأسيسهما إلى يومنا هذا ، وما شاهدته الأقطار الحجازية من ثورات وانقلابات وما تحملته المواقع المسعودة من الصدمات والأحداث.

ومن البديهى أن الذين يسمعون لفظ المرآة ، سيلقون نظرة على سطور صفحاتها ثم يظنون أنهم سيرون فيها صور أنفسهم بدليل لفظ المرآة التى تعكس الصور ، ولكنهم إذا ما تذكروا أن من معانى المرآة ومهماتها تقريب البعيد حينئذ سيقولون بأن مرآة الحرمين كتاب تاريخ كثير المنافع جامع لأحوال عامة البلاد الحجازية.

الخلاصة :

قد بينا فيما سلف أن هدفنا من تأليف مرآة مكة : أن نعرف إخواننا فى الدين ببيت الله وما حوله من المواقع وأشكالها وأحوالها وما لهذه الأماكن والمآثر من الفضائل.

ويتحقق هذا الهدف على الوجهة الآتية والصور المقبلة ؛ كلما يأتى دور موقع مقدس نقوم بتعريفه بالتفصيل وحتى نصل إلى الهدف المرجو رأسا رئى أن نرتب خلاصة مجملة.

بيت الله (الكعبة):

ويطلق على ظاهر الكعبة «بيت الله» وترتفع جدران البيت الشريف ابتداء من أرض المطاف سبعة وعشرين ذراعا وإصبعا وعرضها ذراعان (١).

ويطلق على زاوية منها اسم «ركن الحجر الأسود» وعلى الأخرى «الركن اليمانى» وعلى الثالثة «الركن الشامى» والرابعة «الركن العراقى». وطولها من ركن الحجر الأسود إلى الركن العراقى اثنان وثلاثون ذراعا. ومن الركن اليمانى إلى الركن الشامى واحد وثلاثون ذراعا ، ومن الركن اليمانى إلى ركن الحجر الأسود عشرون ذراعا ومن الركن العراقى إلى الركن الشامى اثنان وعشرون ذراعا.

ويوجد باب فى الجدار الشرقى للكعبة المشرفة ، وآخر فى الجدار الغربى ، وقد سد هذا الباب الآن وما زال الباب الشرقى مفتوحا. وطول الباب الشرقى سنة أذرع وأربعة أصابع وعرضه ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا ، وجناحا الباب مثبتان بالمسامير ، وهما من شجر (الساج) الذى ينبت فى الهند ، وارتفاع عتبة الباب الشريف المذكور من الأرض أربعة أذرع وثمانية أصابع ، واتساعه ثلاثة أذرع وثمانية عشر أصبعا.

__________________

(١) إن الذراع المذكورة فى الصفحات من المرآة هى الذراع التى تستعمل فى مكة للقياس ويطلق عليها الذراع الهاشمية ، وطولها (٦٤) أربعة وستون سنتيمترا.

وللبيت الشريف مآثر عديدة تقع فى أماكن مقدسة مبروكة ، تزار حتى الآن وهذه المآثر هى : الملتزم ، المستجار ، الحجر الأسود ، داخل الكعبة ، حجر إسماعيل ، حفرة المعجن ، ستار الكعبة ، المطاف الشريف ، المقام الشريف ، المقامات الأربعة ، قبة الفراشين وقبة السقاية.

الملتزم :

ويطلق على الجزء الواقع بين ركن الحجر الأسود والباب الشرقى الشريف ، وسبب تسميته بهذا الاسم التزام الحجاج بالدعاء في هذا المكان المبارك بعد الطواف.

وقد أخبرنا المخبر الصادق عليه سلام الله الخالق حضرة رسولنا صلى الله عليه وسلم أن المكان المذكور موضع استجابة ، لذا يقف الحجاج بمحاذاة هذا الموقع المبارك ويجأرون بالدعاء ويمسحون حوائط الكعبة بأيديهم ويناجون الله تعالى فى تضرع.

المستجار :

هو موضع الباب الغربى المسدود الذى يقع بين الركن الشامى والركن العراقى فى مواجهة الملتزم الذى ذكر فيما سبق ، وعند ما حددت قريش بيت الله أغلقوا هذا الباب المبارك بالحجارة ، وما زال مغلقا من ذلك العهد. وعرض المستجار أربعة أذرع وخمسة أصابع أما عرض الباب المسدود فثلاثة أذرع ، وسبب تسميته بالمستجار لاستجارة الحجاج عنده من ذنوبهم ولأنهم يسألون الله سبحانه وتعالى المغفرة لاصقين صدورهم به.

الحجر الأسود :

ويطلق على الحجر الأسود الموضوع فى الزاوية التى يحاذى فيها باب الكعبة المعظمة المقام الحنبلى وهو مبتدأ الطواف ، والمكان الموضوع به الحجر الأسود يرتفع عن الطواف بثلاثة أذرع وأربعة أصابع أو يزيد ، والغرض من وضع الحجر الأسود فى هذا الموضع إبرازه بحيث يمكن رؤيته.

لقد استلم الملائكة المقربون الحجر الأسود ولمسته شفاه كل الأنبياء لذا فإن استلام هذا الحجر الشريف أو تقبيله يجب أن يتم بمنتهى الخشوع والخضوع ، ويقتضى من الطائفين مزيدا من الدقة والعناية حتى لا يؤذوا المتزاحمين.

داخل الكعبة :

يطلق على المكان الطاهر المقدس الموجود داخل جدران بيت الله ، ورغم أن الوجه الداخلى لهذه الجدران من الرخام المصقول فإن رؤيتها أصبحت مستحيلة فى وقتنا الحالى لما علق عليها من الأستار المزركشة.

وعند ما كان يجلس سلطان جديد على العرش كانت تغير هذه الأستار والزينات ، والهدف من هذا العمل توفير هذا المكان وتقديره بتزيينه بالذهب وغيره إلا أن العلماء لم يجيزوا أن تزين الكعبة الشريفة بالزينات الظاهرة ، كما أن أوائل العلماء المسلمين لم يحسروا عن الإفتاء بجواز تزيين داخل بيت الله تزيينا مبالغا فيه ، ولقد أرسل أثرياء المسلمين وأغنياؤهم هدايا مصنوعة من الذهب والفضة إلا أن علماء الحرمين الأجلاء رفضوا قبولها.

والواقع أن هذه البقعة الطاهرة المليئة بالفضائل الذاتية غنية عن مثل هذه الزينات.

وبما أن اهتمام أهل الصلاح بالزينات الظاهرة مستحيل فعلى العاقل أن يهتم بما حازته الكعبة من تقدير وتبجيل عند الله سبحانه وتعالى ، ولو كان تزيين الكعبة المكرمة بالذهب والفضة جائزا شرعا لأصبحت جدران حرم المسجد الحرام وأرضه موشاة بالذهب والفضة.

وليته لم يسمح بوجود الزينات الحالية حتى يخلو حرم كعبة الله من كل ما يرمز إلى طغيان العزة الدنيوية.

وهل يأمل المسلمون إرضاء الله بتزيين الكعبة الشريفة بشىء بغيض عند الله سبحانه وتعالى؟ والأجدر بالمؤمنين اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه ومادام الله

سبحانه وتعالى قد أمر بتعظيم بيت الله وتوقيره يجب أن يوجه التوقير والتعظيم لحجارة الكعبة الشريفة وترابها ورعاية جيرانها.

وهذا العرض الموجز تعريف وبيان للبيت الشريف أول بيت وضع للناس لعبادة الله سبحانه وتعالى.

(محاضرة الأوائل).

فى الطرف الغربى من جدران داخل بيت الله جذع شجرة ملون بالأبيض والأسود طوله اثنا عشر ذراعا وكذلك عرضه ، وفى أعلى الجذع كمر اتساعه ثلاثة أصابع.

ويروى أن لحية سيدنا صاحب الشريعة ـ عليه أكمل التحية ـ قد لامست هذا الجذع.

حجر إسماعيل :

وهو اسم آخر للحطيم الكريم ، ويقع فى الطرف الشمالى من الكعبة المعظمة ويمتاز بجدار على هيئة نصف الدائرة وطرفه الداخلى مغطى بالرخام.

والموضع المبارك الممتد من جدار الحطيم الشريف حتى حائط الكعبة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع منها حوالى ستة أو سبعة أذرع تعد من داخل الكعبة المعظمة والباقى كان حظيرة لما عز إسماعيل ـ عليه السلام ـ وفيما بعد أدخل فى الحجر ، تمتد حدود الحطيم من الركن العراقى إلى الركن الشامى والمساحة بين هذين الركنين عشرون ذراعا.

وللحطيم بابان أحدهما عند الركن الشامى والآخر عند الركن العراقى ، وارتفاع جدران الحطيم ثلاثة أذرع ومساحته من الداخل ثمان وثلاثون ذراعا.

ميزاب الكعبة :

هو اسم الميزاب الذى يقع بين الركنين سالفى الذكر ـ أى وسط الجدار المفعم بالنور ـ الذى يلى حجر إسماعيل ويلتصق بسقف الكعبة.

حفرة المعجن :

ويسمى أيضا مقام جبريل ، وهى عبارة عن الحفرة الموجودة فى جهة الركن العراقى من الجدار الشرقى للكعبة المعظمة عند مقام إبراهيم. على مسافة ثلاثة أصابع من الكعبة ، وطول حفرة المعجن ثمانية أشبار وثمانية أصابع ، وعرضها خمسة أذرع ، وعمقها أربعة أصابع ، ويروى أن سيدنا إبراهيم أعد فى هذه الحفرة الطين الذى استخدمه فى بناء الكعبة.

ويروى أنه حينما فرضت الصلاة على المسلمين صلى إمام الأنبياء سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلوات الخمس فى هذا المكان المبارك.

الشادروان :

ويطلق هذا الاسم على الأماكن البارزة المتصلة بأسس جدران الكعبة المعظمة وعلى هذه الأجزاء البارزة حلقات كثيرة يربطون بها أستار الكعبة الشريفة.

الستارة الشريفة :

هو اسم القماش الذى يغطى الكعبة الشريفة. وهذه الستارة منسوجة من الحرير الأسود.

وقد نقش فوقها ـ بخط جميل ـ بعض الكلمات الطيبة والآيات الكريمة. ويوجد وسط الستارة حزام معروف بحزام بيت الله وهذا كحزام يحيط بستارة الكعبة المفخمة من جوانبها الأربعة ، وقد كتب عليه بخط جلى نفيس السورة الكريمة سورة الفتح كاملة.

المطاف الشريف :

وهو الموضع المبارك الذى يسير فيه حجاج الكعبة المكرمة فى أثناء الطواف.

والجهة الشرقية لهذا المطاف المبارك تمتد من سياج المقام الشريف إلى شادروان الكعبة بمقدار أربعة وأربعين قدما (١) ، والجهة الشمالية تمتد من جدار الكعبة إلى المقام

__________________

(١) القدم : وحدة قياس توازى ثلث ياردة ، وهى ما بين (٣٢ سم ـ ٣٥ سم).

الحنفى بطول ثمان وأربعين قدما ، والجانب الغربى يمتد إلى الرصيف الذى يتصل بحدود المطاف خمسة وستين قدما ، والجانب الجنوبى يمتد من زاويتى الركن اليمانى وركن الحجر الأسود إلى حدود رصيف المطاف الشريف بطول سبعة وأربعين قدما.

المقام الشريف :

هو الحجارة التى استخدمها سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بمثابة منصة فى أثناء قيامه برفع بناء الكعبة ، وأعلى مقام إبراهيم مربع بقطر ثلث ذراع.

وروى الشيخ عز الدين وهو من مجاورى البيت فى سنة سبعمائة وخمسين هجرية أن المقام الشريف يرتفع عن الأرض واحدا وعشرين أصبعا. وقد رفع أثر القدم المبارك لسيدنا إبراهيم من فوق المقام وغطى بطبقة من الفضة. وأدخلت هذه الفضة من خلف آثار قدم خليل الرحمن بسبعة خطوط ونصف.

والمقام الشريف الذى وصفنا شكله صندوق متين بلوحات قامة رجل وجوانبه الأربعة ذات شبكة حديدية. وهذا الصندوق مكسو بلوحات من الفضة ومغطى بقماش لامع موشى غاية فى الجمال ، وقد شيدت قبة من الخشب فوق صندوق مقام إبراهيم وزينت هذه القبة من الداخل والخارج بنقوش متنوعة ، وزيد على واجهتها الشرقية سقف يؤدى تحته الحجاج ركعتين بعد الطواف ، وهى صلاة واجبة ، وإذا لم يجد الطائفون مكانا تحته لإقامة الصلاة فإنهم يؤدونها داخل الحطيم ، وعرض هذا السقف خمسة أذرع وثمانية أصابع يمتد من المقام الشريف إلى شادروان الكعبة بطول عشرين ذراعا ونصف ذراع.

فقد المقام الشريف منذ طوفان نوح إلى عهد «إلياس بن مضر». وبعد أن عثر عليه إلياس بن مضر عرضه على أهل الحجاز الذين أخذوا فى توقيره وتعظيمه وبالتالى حذا أهل الإيمان حذوهم فى التكريم والتعظيم.

(محاضرة الأوائل).

المنبر اللطيف :

يقع فى الجهة الشمالية للمقام الشريف عند الطرف الجنوبى لبئر زمزم وبين مقام إبراهيم والمنبر تسعة أذرع ، وبين زمزم والمنبر اللطيف عشرون ذراعا والمسافة من مقام إبراهيم إلى الحجر الأسود سبعة وعشرون ذراعا ، وعمق بئر زمزم الشريف بدءا من حافته يبلغ سبعة وستين ذراعا.

المقامات الأربعة :

فى الجهات الأربعة من كعبة الله أربع مقامات لأئمة المذاهب الأربعة واجبة الاحترام حيث يؤم إمام المذهب جماعته فى أوقات الصلوات الخمسة.

المقام الحنفى : يقع هذا المقام فى شمال بيت الله أمام ميزاب الرحمة ، ويستقبل أهل المدينة المنورة والشام والقدس الشريف هذه الناحية من الكعبة عند الصلاة كذلك سكان بلاد المسلمين الواقعة فى ناحيتها.

المقام الشافعى : ويقع فى مواجهة الكعبة فى الجهة الشرقية من بيت الله ، خلف مقام إبراهيم الشريف ، وهذه الجهة من الكعبة هى قبلة أهالى ما وراء النهرين والصين وأكثر بلاد خراسان.

المقام الحنبلى : ويقع فى الجنوب من الكعبة مع ميل قليل فى اتجاه الشرق ، وهو قبلة سكان بلاد الهند ، وكان المقام الحنبلى قريبا جدا من بناء بئر زمزم ويكاد يتصل به ، لكن هذا الموقع قد تغيّر فى عهد السلطان المعظم بهمة عثمان باشا والى الحجاز المشهود له بالخدمات الجليلة التى قام بها لتعمير البلاد المباركة وأصبح ـ الآن ـ فاصل معقول بين المقام المذكور وأبنية بئر زمزم إذ جعل المقام الحنبلى فى مواجهة المقام الحنفى. وذلك فى سنة ١٢٩٧.

المقام المالكى : ويقع فى الجانب الغربى من الكعبة خلف بيت الله ، وهذه الجهة قبلة مسلمى بلاد المغرب وبلاد الحبشة. وكل المقامات الأربعة المذكورة تقع خارج حدود المطاف.

لم يكن هناك مكان خاص بالمؤذنين وكانوا كلهم يؤدون مهامهم فى المحفل الشافعى الموجود فوق بئر زمزم ، والمحفل الواقع فوق المقام الحنفى ، وكان المؤذنون حتى عصر هارون الرشيد يجلسون فوق سطح المسجد تحت وهج الشمس ، وعند ما صدر الأمر إلى عبد الله بن محمد بن عمر أمير مكة ـ المشار إليه ـ بضرورة إيجاد محفل خاص بالمؤذنين ، استراح المؤذنون بإنشاء محفل خاص بهم فى ذلك العهد ، وبعد ذلك تقرر أن يؤدى المؤذنون مهام وظيفتهم في المحافل السالفة التعريف. (محاضرة الأوائل).

قبة الفراشيين :

وتقع قرب بئر زمزم وتسمى أيضا قبلة الخزانة ، وتوضع فى هذه الخزانة الأشياء اللازمة والقناديل والسّرج والمسابح الموقوفة ويحفظ كذلك بداخل القبة المذكورة كل ما يحتاجه المسجد.

قبة السقاية :

وهذه أيضا تقع قريبا من قبة الخزانة وتسمى أيضا سقاية الحج ، وقد تأسست سقاية الحج على يد العباس بن عبد المطلب ـ رضى الله عنه ـ واعتاد أن يقدم ماء زمزم إلى الحجاج ويسقيهم. وتحيط القباب بكل جوانب الكعبة ولها تسعة عشر بابا وسبع مآذن ، المسافة من باب السلام إلى باب العمرة أربعمائة ذراع ، وعرضها من باب الصفا إلى باب الندوة ستون وثلاثمائة ذراع.

مسألة :

إذا كانت قبلة المسلمين الموحدين لدى أئمة الشافعية هى مبانى الكعبة المعظمة التى سبق تعريفها. فإنها عند علماء الحنفية تبدأ من الأرض التى أقيمت عليها مبانى الكعبة الشريفة وترتفع فى الهواء إلى عنان السماء.

***

الصورة الأولى التعريف بالأحوال الجغرافية للبلدة المعظمة مكة المكرمة

وأحوال الأوائل ووضع المبانى الفخمة للبيت المعظم شكلا وصورة

من البلاد التى تحكمها الدولة العليّة فى قارة آسيا الجزيرة العربية وتنقسم إلى قسمين : الرقعة الحجازية والرقعة اليمانية.

ومنطقة الحجاز كبيرة متسعة وتشمل ربع جزيرة العرب ، وقد عرفناها فى موضوع الحجاز الوارد فى الصورة الثانية من الوجهة الثالثة من المجلد الثالث من مرآة الجزيرة وتقع فى الشمال والشمال الغربى من جزيرة العرب وعلى الساحل الشرقى للبحر الأحمر الممتد من السويس إلى اليمن.

يحدها شرقا بلاد نجد وصحراء الأحفال وغربا البحر الأحمر ، وجنوبا الرقعة اليمانية وشمالا الفرات وبادية الشام وسوريا العرب ، وتحيط بها جبال وأودية.

ولأن هذه المنطقة السعيدة تحجز بين تهامة ونجد وتفصل بين المنطقتين ؛ لهذا سميت الحجاز ، ومنطقة الحجاز المباركة تغلب عليها الصحارى الفيافى (١).

ولا تسقط فيها الأمطار بالدرجة المطلوبة ولذا فإن نباتاتها الأرضية من العشب الجاف تكاد لا تكفى حاجات قبائل البدو وحاجات دوابهم.

ومع هذا ففى جبالها ووديانها ، حيث المياه الجارية والآبار ، والينابيع الوفيرة تنبت الأشجار المثمرة والمحاصيل النافعة المتنوعة ، وبما أن الهواء فى مناطق الوديان والصحارى شديد الحرارة فإن القادمين من المناطق الباردة يتضررون من هذه الحرارة ولذا فإن السكنى فى المناطق الجبلية المرتفعة حيث الجو المعتدل يبدو

__________________

(١) الفيافى : الصحراء الواسعة المستوية. واحدتها : الفيفاء.

أصلح لهم ، ورغم هطول الأمطار بغزارة فى فصل الشتاء فإنها لا تؤثر فى تغير طقس أى من المناطق باستثناء بلدة الطائف.

والمعروف أنه مع نزول المطر تنمو كل أنواع الحبوب لكن رياح السموم دائمة الهبوب تدمر وتحرق كل النباتات والثمار ما عدا الحمص والعدس والأشجار التى تقل حاجتها إلى الماء لذا فليس من الممكن أن تنمو الخضراوات والحبوب فى أى مكان سوى الأودية والجبال القابلة للزراعة.

ومناطق الشمال الغربى والجنوب مناطق خصبة بالنسبة لبقية مناطق الجزيرة. لذا فإن هواءها طيب وأراضيها صالحة للزراعة ، وتزدان الجبال والمرتفعات بكثير من البساتين والحدائق الجميلة.

وفى مثل هذه المناطق تنمو نباتات كثيرة مثل السفرجل ، التفاح ، الخوخ ، الصفصاف ، الليمون ، والتين ، النارنج ، واللوز ، التمر الهندى ، الطرفاء ، الفستق ، والنخيل ، الورد ، والياسمين ، النرجس ، الحناء ، الزنجبيل ، شقائق النعمان ، والتيلو ، القمح ، الشعير ، جذور الدهان الأحمر ، البن ، الدخان ، الفلفل الأسود ، الباذنجان ، نبات النيلة ، نبات القنب ، ونباتات أخرى شبيهة لما ذكرناها.

البلدة المعظمة مكة المكرمة

البيت السامى المنير الذى ولد فيها سيد الثقلين الإنس والجن عليه الصلاة والسلام ، وعاش فيها نخبة من كبار العلماء ذوى البيان الذين أضاءوا الكون بعلمهم بين فخر الكائنات عليه أتم التسليمات ، مكة المكرمة التى شرفها الله تعالى إلى يوم الدين. وتقع هذه المدينة الشهيرة فى داخل إقليم الحجاز السعيد ذى المغفرة الذى عرفناه منذ قليل ومعظمه فى داخل الجزيرة العربية ومكة المكرمة مقر إدارة الحجاز وعاصمته.

وموقعها وسط منطقتى الشام واليمامة ؛ لذا يبعد كل من البلدين عن مكة المعظمة مسافة ثلاثين ـ المقصود بها ٣٠ منزلا للراحة أثناء السفر ـ والطرف

الشمالى للبلدة المباركة مكة المكرمة تحده جبال يثرب والمدينة المنورة وصحارى الشام ، والطرف الجنوبى تحده جبال اليمن ، والطرف الشرقى تحده وديان البحرين والبصرة ونجد والحجاز ، والطرف الغربى يحده البحر الأحمر وتبعد مكة المعظمة عن مدينة إستانبول عاصمة الدولة العثمانية ـ باعتبار مبدأ الطول ـ ٣٠ دقيقة ١٥ درجة طول شرقا ، وتبعد عن ميناء جدة الواقع فى الساحل الشرقى للبحر الأحمر المعروف باسم «بحر الشب» مسافة ثلاثين ميلا أى ٦٧٦٧٤ ذراعا فى جهة هبوب الرياح الجنوبية بإحدى عشرة درجة «بحساب البوصلة».

وتنقسم النواحى الملحقة بمكة المعظمة إلى قسمين هما : نجد وتهامة.

والنواحى التابعة لنجد هى : «الطائف ، تمنار ، قرن ، نجران ، مر الظهران ، عكاظ ، منجرة ، كنبة جرش ، سراة ، أما النواحى التابعة لتهامة فهى نعم ، عك ، خنكان ، ويشى ، وادى نخلة ، ذات عرق ، يليل.

وكل ناحية من هذه النواحى تقع فى واد مستقل ، ولها مصادر مياهها المعروفة ومزارعها الوفيرة. وقد تجاوز سكانها ثمانين ألف لعدة قرون ، ثم تضاءل عددهم بالتدريج ولكن فى الوقت الحاضر تجاوز عددهم كل العصور السابقة ، وذلك بضم سكان البادية وسكان البلاد الساحلية إليها والبلاد الساحلية هى جدة ، حلى سوسين ، هجم ، ثرجة ، أبيات حسنين.

وقد أجرى رائف أفندى دراسات كاملة فى هذا الشأن حينما كان موظفا فى ديوان الصحة ما يقرب من ثمانى سنوات أو عشر فى مكة والمدينة ، وأمضى وقته فى دراسة أحوال البدو ، وقام بالإحصاء الدقيق وأخبر أن عدد سكان مكة المعظمة من الأشراف والأهالى ، والمجاورين يصل تقريبا إلى سبعين ألفا. ولما كانت الأمطار لا تسقط بوفرة سواء فى مكة المكرمة أو فيما يجاورها كما يحدث فى الرومللى والأناضول لعدم وجود المياه الجارية أصبح سكان هذه البلدة المباركة مضطرين إلى السفر لجلب المؤن الغذائية والبضائع من البلاد الأخرى ، وكان من

عاداتهم إرسال القوافل فى فصل الشتاء إلى نواحى اليمن وفى فصل الصيف إلى الشام لاستيراد البضائع اللازمة من تلك المناطق.

وقد أثبتت السورة الجليلة «سورة قريش» ذهاب أهل قريش فى الجاهلية إلى اليمن مع حلول الشتاء وإلى الشام مع دخول فصل الصيف. وقد أسهب المفسرون العظام فى عرض تفاصيل تتعلق بهذا البحث فى تفسيرهم للسورة الكريمة.

واستمر تردد القرشيين على الشام واليمن بغية جلب البضائع حتى عصر النبوة ، وبعد ذلك أخذ الحجاج المسلمون يترددون أفواجا على مكة والمدينة لأداء فريضة الحج ومناسك العمرة ، واشتغل أهالى مكة بأعمال الدلالة والإرشاد وسقاية ماء زمزم الشريف وسائر الخدمات التى تقدم للحجيج والعيش عليها مهما كان مقدار ما تدره من نقود. لذلك لم تعد لهم حاجة إلى التردد إلى تلك المناطق.

وغالبية أهالى مكة المفخمة من حضر موت ، واليمن والهند والسند والشام ومصر وبلاد المغرب وبلاد الروم وكردستان ومجاورى سائر البلاد على وجه الأرض ؛ أى أن كل سكان مكة المعظمة ما عدا الأشراف الكرام من أبناء بنى زبير وأحفاد بنى مخزوم وأولاد بنى شيبة ممن دخلوا الإسلام الذين جاءوا من خارج الحجاز واستقروا بها ؛ لذا أصبح أهل مكة الأصليين قلة نادرة.

وولاية الحجاز الجليلة ولاية كبيرة مثل سائر الولايات السلطانية وقد أسندت الإمارة ـ للأشراف من أجل الإشراف على العربان والآخرين ـ لشخصية جليلة القدر وقدرة عالية على القيام بالنظارة ، كما أسندت إدارة الأمور المدنية والمسائل المالية وأشياء أخرى تتعلق بالإدارة إلى شخص حكيم هو من المختارين من المشيرين العظام. واتخذت مدينة مكة المفخمة مقرا للإمارة ومركزا للحكومة.

إن الموقع السعيد للبلدة المباركة ـ مكة المكرمة ـ عبارة عن واد مقوس ومقدس

ممتد بالطول بين سلسلة جبال تتكون من أحجار سوداء. يشمل هذا الوادى السعيد الذى تقع فيه هذه المدينة المقدسة على مبتدأ واحد ونهايتين : بدايته مقبرة المعلى ونهايته من ناحية جدة الشيخ محمود ونهايته من ناحية اليمن «مسجد حمزة» وهذه المواقع السامية تزين الخريطة بهذه الأسماء.

ومدينة مكة الشهيرة تتكون من أحياء : حارة الباب ، الشبيكة ، جياد ، المسفلة ، المدعا ، المعلى ، شعب على ، مولد النبى ، الكشاشية ، المسعى ، الشامية جبل قبيس ، جبل عمر والسليمانية. وأنشئت بيوت هذه الأحياء ومنازلها وفقا لانحراف الوادى الوعر.

وبسبب استحالة السير بالحيوانات ونقل الأثقال والأحمال بالإبل والدواب بداخل هذه الأحياء حيث اصطفت بعضها فوق بعض حتى منتصف هذه الجبال الواقعة فى كلا جانبى الوادى ، فإنه يتم إدخال المؤن والبضائع الواردة إليها من الخارج من شوارع أحياء «المعلا» والشبيكة والمسفلة.

والمكان المزين بالحوانيت والبيوت فى الوادى السالف الذكر يمتد بطول المدينة من باب «المعلا» إلى باب «مغازة» ، وكذلك يمتد من ناحية المعلا إلى «الشبيكة» ومنها إلى «الشيخ محمود» حتى السويقة بمسافة تبلغ ٦١٩٣ قدم وثمانى بوصات أى ما يعادل ٤٣٧٢ ذراع ، وعرضه يمتد من سفح جبل «جزل» حتى منتصف جبل أبى قبيس بمقدار ٣٠٩٦ قدم وأربع بوصات أى ما يعادل مسافة ٣١٨٦ ذراع ، أى أن مساحته طولا من ناحية الشمال إلى الجنوب تبلغ ميلين ، ومساحته عرضا تمتد من سفح جبل «أبو قبيس» الواقع فى الجهة الشرقية من المدينة إلى جبل «جزل» الواقع فى الجهة الغربية من المدينة ومساحته السطحية قدر ميل واحد.

وطرق الأحياء المذكورة ليست على ما يرام من ناحية الاتساع والعظم ، ورغم هذا فإن مبانيها المبنية بالحجر والطوب غاية فى الرصانة ويطلق اسم «الأخشبين» على جبال جزل وأبى قبيس والجبل الأحمر. وجبل أبى قبيس هو الجبل الكائن

فوق جبل الفا ، حيث أن الجبال المذكورة غير منفصلة بل هى سلسلة من الجبال يتصل كل منها بالآخر.

وبالنظر إلى تعريف الأزرقى فإنه يلزم أن يكون اسم الجبل المقابل لجبل «أبى قبيس» قعيقعان ولما انتهى إليه تدقيق صاحب معجم البلدان وتحقيقه أنه يقتضى العثور على اسم جبل يظهر من قمته مسافة المسجد الحرام جليا.

وعلى هذا التقدير فإن الاسم الأصلى لجبل «جزل» قعيقعان ، ولما كان أقرب من ناحية الغرب من طائفة «جزل» التى تنصب خيامها فوق الجبل المذكور عند ترددهم إليه من حين إلى آخر وتقيم به فترة للاستراحة أطلق عليه اسم «جبل جزل».

والبقعة المشرفة للكعبة المكرمة قصر عزة الملك العلام ، وقبلة قبائل الإسلام تقع وسط المدينة المقدسة التى أسهبنا فى تعريفها ، كما تتوسط المسجد الحرام دائرة الفيوضات الإلهية ، وتحيط بالموضع المقدس وتحده مجموعة من البيوت والمنازل العالية الرصينة الأركان وسلسلة الجبال سالفة البيان.

إن البيت المعظم قد بناه الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما ـ صلوات الله الجليل ـ صدعا بالأمر الإلهى المشرف فى البقعة التى لا مثيل لها ولا نظير ، حسبما سنوضح ونعرف به فى الصورة الخامسة من الوجهة الثانية ، ويقال إن بناءها تم فى المحاولة الأولى وعلى قول فى المحاولة الرابعة. وبعد أن انتهى من بنائه دعوا جميع الخلق إلى الطواف حوله وزيارته.

إن أغلب العرب المنتسبين إلى السلالة التى ينتهى إليها نسب إسماعيل ـ عليه السلام ـ عكفوا على أداء فريضة الحج كل عام بعد وفاة إسماعيل ـ عليه السلام ـ ووالده خليل الرب الجليل ، وبذلوا جهدهم لأداء الفرائض الأخرى ، ورأوا أن أداء مثل هذه الأمور الشرعية والواجبات الدينية فرض عليهم.

واستمرت هذه الحمية الدينية عند العرب إلى أن انتقلت إدارة مكة إلى بنى خزاعة ، حيث إن عمرو بن عامر الخزاعى (فصلت سيرته فى الوضع الخاص به) قام قبل البعثة النبوية بخمسمائة عام بانتزاع حكم مكة المكرمة من يد أجداد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذوى النسب العريق ، بمساعدة قومه ، ودفع العرب لعبادة الأصنام وبهذا أصبح جميع سكان مكة المكرمة ومن بجوارها من عبدة الأوثان.

وبعد ظهور عمرو بن عامر بثلاثمائة سنة وقبل الهجرة النبوية بمائتى سنة دارت الحرب بين قصى بن كلاب «أحد أجداد النبى» لإمالة العرب إلى قبول دين إبراهيم الحنيف وبين بنى خزاعة وكان النصر حليفه ، وأخرج كل بنى خزاعة من مكة ، غير أن عبادة الأصنام تلك العادة الباطلة كانت قد تمكنت من قلوبهم ، فاستمرت بينهم حتى عصر النبوة والهداية عصر سيد البشر ـ عليه الصلاة والسلام ـ بسبب ـ شكل العبادة المشئومة التى جلبها عمرو بن عامر قامت قريش وقد اعتنقت عبادة الأوثان بإدخال الأصنام إلى المسجد الحرام حينما سمح الزمان به ، وصنعت ثلاثمائة وست وستين صنما مجسما من الحجر والشجر ووضعتها داخل الكعبة المعظمة التى تمثل قطعة من الجنة.

وظلت هذه الأصنام داخل البقعة المقدسة «الكعبة المشرفة» إلى أن تم فتح مكة على يد سيد الأنبياء الذى كانت بعثته ورسالته رحمة خالصة.

أديان العرب فى الجاهلية

كان للعرب فى جاهليتهم عدة أديان مثل المسيحية ، اليهودية ، المجوسية ، والزندقة ، فكانت قبائل ربيعة بن غسان وبعض آل قضاعة على دين المسيحية ، وأهل حمير وبنو كنانة وبنو الحارث بن كعب وأهل كندة على اليهودية ، وبنو تميم على المجوسية ، وكانت قريش على الزندقة.

ومن المخذولين الذين اعتنقوا المجوسية آنذاك زرارة بن عدس وابنه حاجب

بن زرارة ، وبدافع من هذه المجوسية تزوج زرارة من ابنته التى من صلبه ، ثم ندم بعد ذلك وخجل من فعلته وطلقها.

وكان الأقرع بن حابس وأبو سود من المجوس وأبو سود هذا جد وكيع بن حسان. وقد صنع بنو حنيفة من قريش إلها لهم من طعام اسمه (حبس) وظلوا يعبدونه لمدة طويلة ، وعند ما حدثت المجاعة والقحط قاموا بتقسيمه ثم أكلوه وقد سجل أحد شعراء بنى تميم هذه الواقعة فى بيت من الشعر قال فيه :

أكلت ربها حنيفة من جوع

قديم بها ومن عوز

وقال آخر :

أكلت حنيفة ربها

زمن التفحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم

سوء العواقب والنياعة (١)

ورغم أن هذه الواقعة حدثت قبل البعثة النبوية الجليلة فقد كان هناك من يسعى فى طلب الدين الحق ومن جملة هؤلاء : أرباب بن رئاب ، وكان يعتنق المسيحية دين عيسى عليه السلام ، وابن نوفل بن أسد بن عبد العزى ـ أى ورقة بن نوفل ـ الذى انصرف عن عبادة الأوثان واعتنق المسيحية التى لم تكن قد تبدلت تماما ، وذلك للوصول إلى الدين الحق ، كذلك زيد بن عمرو بن نفيل أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة ، والذى استشهد فى رحلته إلى الشام طلبا للدين الحق. كذلك أمية بن أبى الصلت الذى تظاهر فى بادئ الأمر بطلب الدين الحق لكنه فيما بعد ، اختار الكفر حسدا للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على نبوته. فإذا ما جئنا إلى أسعد بن أبى كرب الحميرى فقد أسلم قبل البعثة النبوية بسبعمائة عام. كذلك كان كلا من قس بن ساعدة الإيادى و «أبو قيس» صرمة بن أبى أنس أيضا من المسلمين فى الجاهلية. وكان قس بن ساعدة من مشاهير حكماء العرب واعتاد أن يخطب فى الناس من فوق ظهر الجمل فى سوق عكاظ. وقد أدرك أبو قيس الإسلام وأسلم.

__________________

(١) النياعة : العطش.

وقد عرفت الخطابة من فوق ظهور الحيوانات فى بادئ الأمر مع قس بن ساعدة «كتاب المعارف».

لقد امتد العمر طويلا بقس بن ساعدة المشهود له بالفصاحة وقد أنبأ وبشر بمجىء الرسول خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام قبل البعثة.

وقد حضر الرسول فخر العالم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات مرة إحدى خطب قس بن ساعدة قبل بعثته فى سوق عكاظ بدون علم منه ، هذه الخطبة التى نالت شهرة واسعة بين بلغاء العرب. وحفظها ورددها كل الكبار والصغار فى ذلك العصر.

فى ذلك اليوم اعتلى «قس بن ساعدة» ظهر جمله الأحمر وقال خطبته التالية أيها الناس : اسمعوا واعوا :

من عاش مات ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، المطر يسقط ، والعشب ينبت ، والأطفال يولدون ويقومون مقام الأمهات والآباء وبعد ذلك كل هذا يفنى ، وتتابع الأحداث ، ويتبع الواحد الآخر ، أنصتوا وانتبهوا ففى السماء خبر ، وفى الأرض عبر ، وجه الأرض فرش إيوان ووجه السماء سقف عال ، النجوم تتحرك والبحار تقف ، القادم لا يبقى والذاهب لا يأتى ، هل يا ترى يبقون حيث يذهبون معجبين به أم يحجزون هناك ويغشاهم يوم طويل! إننى أقسم أن عند الله دين أحب من دينكم الذى أنتم عليه ، وهناك رسول سيأتى أو شك زمان ظهوره.

وقد أظلكم زمانه ، فما أسعد من يؤمن به ويهتدى وما أشقى من يعصيه ويخالفه ، زمانه يا للأسى على الأمم التى قضت عمرها فى الغفلة.

يا قوم إياد .. أين آباؤكم وأجدادكم؟ بالله أين قصوركم المزينة؟ أين عاد وثمود الذين نحتوا بيوتا من الحجارة؟ وأين فرعون؟ أين النمرود الذى غرته الدنيا وقال لقومه إنى أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم ثروة وقوة وقدرة؟ ألم يكونوا أكثر منكم عددا؟ لقد طوتهم هذه الأرض فى دورانها ، فأصبحوا ترابا تذروه الرياح ، وبليت عظامهم وصارت رمادا وتهدمت بيوتهم فأصبحت خاوية

الكلاب تعوى فى أراضيهم وبلادهم. احذروا من الغفلة ولا تكونوا مثلهم ، ولا تسلكوا طريقهم ، كل شىء فان ولن يبقى إلا الحق الواحد الذى لا شريك له ولا نظير هو وحده المعبود ، لم يلد ولم يولد ، وما أكثر الأحداث الجارية لنا فيها عبرة. نهر الموت مداخله كثيرة ، لكن ليس له مخرج ، الكل سيمضى الكبير والصغير الذاهب لا يعود وأوقن أن ما يجرى لعامة الناس سيصيبنى أيضا.

«قصص الأنبياء ـ لجوتب باش»

استمرت عادات العرب الباطلة فى الجاهلية إلى ما بعد الإسلام ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلطان عرش الدين المبين قام ـ مؤيدا بالوحى الإلهى ـ بتمزيق العقائد الباطلة والقضاء عليها وعلى العبادات البدوية الفاسدة. وأبقى على بعض أحكام دين إبراهيم ـ عليه السلام ـ الحنيف التى توافق فطرة الإنسان وتعاليم الإسلام الجليلة ، وأيدها وجعلها من أحكام الشريعة الإسلامية.

ومن الأحكام الشرعية التى أخذت من إبراهيم ـ عليه السلام ـ ما ينص عليه القول الكريم : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران : ٩٧).

الذى يدعو إلى الأخوة الإسلامية التى تتحقق باتحاد الأمة المحمدية والذى يدعو إلى وحدة المسلمين حتى تتحقق للأمة الإسلامية قوة الشوكة ، وهكذا فرض الحج ليجتمع المسلمون متحابين فى الأرض الطاهرة المباركة «مكة المكرمة» حيث يطلعون على الأسرار الخفية الحقيقية للدعوة ، ويجتمعون فى عرفات فى يوم أخضر قدسى لتزداد الأخوة بين أفراد الأمة الإسلامية ، وهكذا انتشرت أنوار الجماعة الإسلامية التى تحمى المدينة الطاهرة.

وإنه لمن المسلم به لدى ذوى التجارب وأهل البصيرة من الملل الأخرى أن الاتحاد الدينى يؤدى إلى التقدم المدنيّة والقوة. وإننا نشكر الله مع أمتننا أنه شرفنا بالإسلام الذي كان مبعث سعادتنا وسلامتنا ومبعث قوة حضارتنا وشوكتها فى الدنيا والآخرة.

أسماء مكة الله السامية

عدد الأسماء ذات الدلالة الباهرة التى أطلقت على مدينة مكة المعظمة فى الكتب المقدسة كثيرة وهى : «مكة ، بكة ، بلد ، قرية ، أم القرى ، بلدة ، البلد الأمين ، صلاح ، باس ، البساسة ، ناسة ، النساسة ، حاطمة ، رأس ، كوثى ، أم عرش ، عريش ، عرش ، قادس ، القادسية ، سبوحة ، حرام ، البلد الحرام ، المسجد الحرام ، معطشة ، برة ، رتاج ، رحم ، أم ، أم رحم ، أم الرحمة ، أم كوثى ، أمينة ، أم الصفا ، مروية ، أم المشاعر ، متحفة ، البلدة المرزوقة ، تهامة ، الحجاز ، طيبة ، مدينة الرب ، عاقر ، فاران» وعددها خمسة وأربعون اسما جليلا. ولها ثمانية ألقاب جليلة مثل «المشرفة ، المكرمة ، المفخمة ، المهابة ، الوالدة ، النادرة ، الجامعة ، المباركة».

ولا يجوز الدخول بلا إحرام داخل حدود مكة الميمونة التى وضحناها فى المقالة الرابعة.

منظومة

تذكر الأخبار خمسة وأربعين اسما للكعبة

ألا فاحفظها لتنير قلبك بها

بلد ، أم رحم ، أم القرى ، مكة ، بكة

صلاح ، قرية ، باسم ، رأس ، ناسة ،

بلدة الستار

حجاز ، قادسية ، قادسى ، طيبة ، متحفة

تهامة ، مروية ،

أم المشاعر أم عرش ،

عرش ، عريش ، حاطمة ، أم الصفا ، كوثى

رتاج ، البساسة ، نساسة ، سبوحة ،

برة مقدسة ،

حرام ، أم رحمة ، البلد الحرام ،

مدينة الرب ،

أم كوثى ، معطشة ، مرزوقة

باسة ، رحم وكذلك المسجد الحرام ، أمينة ،

عاقر فاران

فإن حسبتها يا طالب الأخبار ألفيتها

خمسا وأربعين.

سبب إطلاق هذه الأسماء على الكعبة

اسم مكة المكرمة يطلق على هذه المدينة المقدسة فقط أو مجموع الحرم الشريف أى المناطق الواقعة داخل المواقيت المحدودة ، وسبب تسميتها بهذا الاسم يرجع إلى أسباب متعددة :

على قول أنه مأخوذ من معنى «النفض» وكأنها تنفض أى تفنى جميع الآثام.

وعلى رأى آخر أنها تنفض الظلم وتهلك أهل الجور.

وعلى رأى ثالث أن الأرض المقدسة قليلة المياه وسكانها كأنهم يمتصون المياه من أرضها بأفواههم ، أو أنه مأخوذ من معنى «المص» والرشف ، وكأنها تمتص الناس كل سنة من جميع الجهات وتجذبهم إليها ، أو أنها تمحو وتدفع عصيان العصاة. أو أنه مأخوذ من لفظ «مكاكة» التى تعنى النخاع والملخ فى وسط العظام ، وكأن كعبة الله فى وسط الدنيا وخلاصتها.

وعلى قول ، إن الأرض المباركة بيت الله تمتص ذنوب العصاة وأوزارهم وتخرجها ثم تمحوها ، وكأنها تمتص النخاع من العظام. وكانت هذه البقعة

مشهورة بقداستها حتى قبل الإسلام وإبان مجد الإمبراطورية الرومانية وكانت تذكر باسم «مقربة» وتعرف به.

رواية :

خلق تراب بيت العزة العاطر قبل خلقة وجه الأرض وأن الكرة الأرضية قد بسطت من ذيل بقعة الكعبة المعظمة وخلقت.

نظم :

أكثر من أهل الدنيا وفى كثير لا خباب

لها الحصين المستحكم من الأبواب

ويمر عام ثم أعوام لا يحدها إحصاء

ومن مادتها تنبسط الغبراء

أول بناء أقيم من بعده

إنما كان على أساس له

يطوف حولها من يطوفون

وهم الأقمار يشبهون

حينما خلقت مكة على وجه الغبراء

ما كان إلا الجبل والصحراء

وكان لمكة على الماء قرار

وما كان للدنيا إلا الخراب أثار

وبها الأرض اتسعت

أصبحت وكأنها مجلس أنس

ولما الأرض بسطا جعلت

دارت الأفلاك من بعد ودارت

صحبت وكأنها مجلس أنس

دارت الأفلاك من بعد ودارت

(فتوح الحرمين لجامى)»

حسب رواية ابن عباس ، أن العرش الرفيع المقام كان فوق بحر كبير اسمه «صاد» وفى أثناء رفعه إلى أعلى تموج البحر وثارت زبدة وخلقت أرض مكة المباركة من هذا الزيد ، وخلق وجه السماء من بخاره. وبعد هذا أخذت الأرض تنسحب من أسفل أرض الكعبة المعظمة واتسعت قدر ما أمرت به.

وكان موضع البيت المعظم آنذاك فوق مكان يرتفع قليلا ذى تربة حمراء تزوره

الملائكة ، وقد قبلت توبة سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ بعد زيارته هذه الأرض الطاهرة. وبنى البيت المعمور فوق ذلك الموضع الملئ بالأنوار المرتفع لكى يزول الخوف ورهبة الفراق من نفس آدم ـ عليه السلام.

بكة :

وهناك اختلاف حول هذا الاسم ، وعند البعض أن مكة وبكة اسمان لمسمى واحد ومترادفان ، وبما أن حرفى الباء والميم متقاربان من ناحية النطق والمخرج الصوتى كان البعض يحل كلا منهما مكان الآخر ، ويدعون أن مكة وبكة اسمان لمسمى واحد مع أن «بكة» فى نظر البعض هو اسم المدينة المقدسة «مكة المكرمة» وعند البعض الآخر أنه اسم البقعة الجليلة الكعبة المشرفة فقط.

والقول الصحيح أن مكة هو اسم الأماكن المباركة داخل حدود الحرم خارج المسجد الحرام. وبكة هو اسم البقعة التى عليها بيت الله وحرم المسجد الحرام المبارك. وحسب قول ابن عباس أن سبب إطلاق اسم مكة أنها كانت تذل الملاعنة والجبابرة الذين يعادونها.

بلد :

يقول اللغويون إن لفظ بلد يعنى صدر البلاد وإن لفظ بلد يطلق على مكة المكرمة ، لأن كل البلاد والممالك مخلوقة من تراب مكة المعظمة ، وبما أن الآية الجليلة (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (سورة البلد : ١) تؤكد التسمية ، فمن المحقق أن لفظ البلد اسم مكة المكرمة.

قرية :

سبب تسميتها بهذا كونها مكان اجتماع الجموع الغفيرة.

أم القرى :

وسميت بهذا الاسم لكونها أقدم بقعة على وجه البسيطة. وقول الشاعر :

أقدم مكان الحرم الأكبر

جعل الله لقبه أم القرى

يؤكد أن أقدم الأراضى هى هذه البقعة المباركة. وإن كان هذا دليلا لا يتسرّب إليه الشك وسندا كافيا لتصديق تسميتها ب «أم القرى» ، إلا أن كون مكة المكرمة قبلة الجميع وامتيازها على بلاد الأرض كلها بالفخامة والعظمة ولاحتوائها على الكعبة الشريفة ، وخلو الأرض من تراب بقعة الله المباركة يجعلها جديرة بإطلاق هذا الاسم عليها وتبعا لهذا التوضيح لابد وأن يكون أم القرى هو اسم الأرض المقدسة التى تقع ضمن مواقيتها.

قال عبد الله بن عباس ، وهو أعلم الناس «أنه أطلق اسم أم القرى على مكة ، لأنها أعظم بلاد الأرض شأنا وكرامة ، ولأن الأرض قد بسطت من التراب الذى تحتها». أما ابن عادل فقد وضح الموضوع فى تفسيره قائلا : إن موضع الكعبة المعظمة كان غثاء قبل أن يخلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأرض والسموات ، وعند ما بدأ خلق مكوناتها خلق الأرض وبسطها من تحت الكعبة قبل أن يخلق السماء وهذا هو سبب تسميتها «بأم القرى» لأنها هى الأصل.

البلد :

البلد الأمين من الأسماء الشريفة للكعبة التى ذكرت فى القرآن الكريم ، وسبب تسميتها بهذا الاسم مجهول وعلمه عند الله.

أم رحم :

ومعناها عند الإمام مجاهد : (أم بمعنى أصل ورحم بمعنى الرحمة) ولأن مكة المشرفة هى أصل الرحمة وموضع حب كل الموحدين الذين يحرصون على تسميتها بهذا الاسم.

باسة :

وسميت بهذا الاسم لكونها تفتت الذنوب وتجعلها هباء وتسمى أيضا «الساسة».

صلاح :

لكونها موضع الصلاح والفلاح.

ناسة :

أطلق عليها هذا الاسم لأنها كانت فى الجاهلية قليلة المياه لدرجة انعدام الرطوبة بها. وكان الملاحدة الذين يظلمون ويسرقون بداخلها يطردون خارج حدودها وينفون منها ، وتسمى أيضا «نساسة».

حاطمة :

لأن ذنوب الحجاج وأوزارهم تحطم فيها وتكسر كما تحطم الملاحدة الذين يكفرون بالدين المبين.

رأس :

وذلك لأنها تشبه رأس الإنسان من حيث الشرف ، ويزعم العلماء أنها تتوسط الدنيا ، أو أن سماءها خلقت قبل سائر البلاد لذا سميت بهذا الاسم.

والواقع أن رأس الإنسان أشرف من جميع الجسم كما أن هذا العضو عجيب الخلقة يعد أفضل من سائر أجزاء الجسم الإنسانى ، كذلك تعد مكة المعظمة أشرف البقاع على وجه الأرض ، وتشبه رأس الإنسان لوقوعها فى وسط الدنيا.

كوثى :

على وزن طوبى ، وكوثى هو اسم حى بنى عبد الدار فى مدينة «مكة المعظمة» لأنهم توارثوا حجابة البيت لفترة طويلة لهذا السبب أطلق عليها اسم «كوثى».

عرش وعريش وعرش :

وهى أسماء مترادفة ، وسبب إطلاق هذا الاسم أن بيوت مكة فيما مضى كانت تصنع من مجموعة من غصون الأشجار ومن أشياء مثل أعواد القصب ، وكانت عبارة عن منازل ذات أسقف دون جدران.

وتسمى المظلة على الإطلاق باسم عرش ، أما العريش فهى البيوت الصغيرة التى تبنى على هيئة المظلة. كما أن عرش جمع كلمة عريش ولدى البعض أن

عرش هو اسم الأحياء الموجودة فى أطراف مكة المعظمة والعرش والعريش يطلق على البيوت القديمة والعرش أيضا اسم كل بيت قديم.

قادس ، قادسية :

سميت بذلك لوجودها فى الأرض المقدسة.

سبوحة :

وهو اسم أرض منخفضة قريبة من جبل الرحمة «جبل عرفات» وسميت بهذا الاسم لأن وقفة عرفات هى من أعظم مناسك الحج.

حرام :

البلد الحرام والمسجد الحرام ـ من الأسماء المذكورة فى القرآن الكريم وسميت بهذا لحرمة أراضى الكعبة المقدسة.

معطشة :

وذلك لأن الكعبة تقع فى مكان قليل الماء.

برة :

لكونها بلد الأبرار.

رتاج :

بمعنى الباب العظيم وسميت بهذا الاسم لأن باب المعلى مدخل البيت الأكرم وله علاقة بلقب مكة المعظمة.

أم :

بمعنى الأصل ، وسبب التسمية أن قدر ومكان الكعبة المعظمة وشرفها يفوق كل البلاد والقرى ، أو أنها قبلة كل الأمم ومقصدها ، أو أن الموقع الأنور لبيت الله العزيز يقع ـ على ما زعم ـ فى النقطة المفخمة فى وسط الكرة الأرضية.

رحم وأم الرحمة :

من الأسماء المترادفة وقد ذكر سبب تسميتها بهذا الاسم.

أم كوثى :

وقد بينا سبب إطلاق هذا الاسم.

أمينة :

وسبب إطلاق هذا الاسم أنها مطلع شمس وجود النبى الأمين عليه وعلى آله صلاة المعين.

أم الصفا :

وسبب التسمية أن الذين يؤدون الحج بصدق نية وخلاص طوية يتحصلون على هدوء الخاطر وصفاء البال.

مروية :

وسبب إطلاق هذا الاسم هو لما يرويه الخلف عن السلف عن عظمة قدر هذا المكان ومزاياه ، والواقع أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد قص فى القرآن المبين وبين قدر كعبة الله الجليل ، وأن كل الأنبياء العظام والرسل الكرام قاموا بالحج الشريف إليها ووصفوها وأثنوا عليها ثناء جميلا.

متحفة :

وسبب التسمية ما أنعم به الحق ـ سبحانه وتعالى ـ من بر وإحسان على جيران بيت الله.

أم المشاعر :

وسبب التسمية أنها أصل مشاعر الحج ومركز الأماكن المسعودة التى تؤدى بها مناسك الحج.

البلدة المرزوقة :

وسبب إطلاق هذا الاسم هو الدعاء الذى تفضل به سيدنا إبراهيم «على نبينا وعليه السلام» بالمنهج بقوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) (البقرة : ١٢٦).

رواية :

(يروى أنه عند ترديد سيدنا إبراهيم هذا الدعاء أصدر الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمره إلى جبريل ـ عليه السلام ـ بأن ينقل إلى جوار كعبة الله أوفر قرى أرض فلسطين فاكهة ، فاقتلع جبريل الأمين قرية كثيرة الفواكه من. الأرض المذكورة وطاف بها سبع مرات حول بيت الله العزيز ثم تركها فى مكان يقع على بعد ثلاث مراحل من مكة.

وكانت هذه القرية المنقولة هى بلدة الطائف ذات اللطائف وسميت بهذا الاسم لأن جبريل ـ عليه السلام ـ طاف بها حول البيت المعظم) انتهى.

ومنذ ذلك الزمان الذى حددته الرواية وفواكه أراضى كعبة الله وثمارها فى نمو وازدياد ، ومع هذا فإن فاكهة مكة لم تقتصر على الطائف بل تزيد ببركة دعاء الخليل ـ عليه صلاة الله الجليل ـ وبركة الله المعظم بما يتوارد عليها من كل أنواع الفواكه من أقطار الشرق والغرب.

ومدينة «مكة» المعظمة المكرمة مليئة بالفواكه حتى أن كل أنواع فواكه الفصول الأربعة توجد بها فى الفصل الواحد.

حكمة :

كل إنسان يدخل مكة فى أى ساعة من ساعات الليل يجد من غير عناء كل الأشياء التى يعانى فى الحصول عليها فى أثناء النهار ، ولا ينام إنسان أبدا فى مكة المعظمة جائعا.

حكاية مليئة بالعبر :

يحكى فى رواية موثوق بها أن رجلا من بلاد الشام ، جاء إلى مكة المكرمة

لأداء فريضة الحج ، فشاهد قوافل الإبل لا تنقطع عن حمل كل أنواع الفواكه والثمار إلى تلك البلدة المقدسة ليل نهار ، فاعتراه العجب والتأمل.

وجلس الرجل الشامى فى ركن يتعجب ويتفكر فيما بينه وبين نفسه عاجزا عن تفهم هذا الأمر. وقال لنفسه : «لا بد أن وراء هذا الأمر العجيب سرّا ، فرغم ما تحفل به بلاد الشام من حدائق وبساتين فى كل أطرافها ، ومع هذا لا يتوفر فيها هذا القدر من الفواكه ، بل من المحال أن يرى فى الشام دابة تحمل فاكهة فى أحد الشوارع بعد وقت الضحى ، يبدو أن حدائق هذه البلدة وغاباتها وبساتينها تفوق حدائق وغابات وبساتين ولايتنا «الشام» وبعد أن أمعن فى التفكير فى هذا الأمر فترة طويلة خرج خارج المدينة بغرض مشاهدة بساتين هذا البلد الإلهى حسبما صور له خياله وذلك ليتحقق من صدق النتيجة التى انتهى إليها تفكيره ، لكنه لم ير حول المدينة سوى جبال عارية جرداء ، فازداد حيرة وتعجبا واستغرق فى التفكير وطاف من جبل إلى جبل حائرا حتى دخل المساء ، فأقام حيثما كان ، وراح فى النوم ، ثم استيقظ فجأة وكان الوقت فجرا ، وإذا به يرى حوله مجموعة من الجمالين يحملون إبلهم أحجارا.

اندهش الرجل الشامى واعترته الحيرة لما رآه من تصرف هؤلاء الجمالين الذين صعدوا إلى الجبال فى هذه الظلمة الدامسة ، وأخذوا فى تحميل إبلهم الحجارة.

وبعد فترة وجيزة عاد الجمالون ، وسار الرجل فى أعقابهم واستمر الجمالون فى السير إلى أن وصلوا إلى المدينة الشهيرة مكة الله.

وأنزلوا أحمال إبلهم ووزعوها على أصحاب الحوانيت وبدءوا فى جمع ثمنها من النقود ، وإذا بالأحجار المحمولة على ظهور الإبل كانت نوعا من الفواكه اللذيذة الطعم.

وظن الشامى أن ما جمعه الجمالون من الجبل وحملوا ظهور إبلهم أحجارا لم يكن سوى أنواع من الفاكهة ذات المذاق الطيب التى تثير بمذاقها الطيب تعجب الإنسان. عند ما رأى هذا تذكر الآيات الجليلة : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى

إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) (القصص : ٥٧) و (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش : ٤) واقتنع بأن الذين يسكنون مكة المعظمة يكون رزقهم على الله ، فطابت نفسه.

تهامة :

وهذه التسمية ترجع إلى شدة ارتفاع درجة حرارتها.

الحجاز :

وسميت بهذا الاسم لوجود الكعبة المعظمة داخل المنطقة التى تضم نواحى مكة والمدينة والطائف.

البلدة الطيبة :

لكونها مكانا طيبا ومباركا لعباد الله من المسلمين.

مدينة الرب :

ومعناه البيت الحرام. وهو من الأسماء المذكورة فى الإنجيل الشريف.

عاقر :

وهذا الاسم مذكور فى كتاب شعيا ـ عليه السلام ـ بمعنى المسجد الحرام.

فاران :

من الأسماء المذكورة فى التوراة.

ورغم أن هذه الكلمة بمعنى المسجد الحرام فإنها اسم أحد الجبال فى مكة أيضا ، ويلزم أن يكون هذا الجبل أحد الجبال التى تسمى جبال بنى هاشم. وكان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتعبد فوق هذا الجبل.

وقد التقى جبريل ـ عليه السلام ـ أول مرة بسلطان الرسل نبينا ـ عليه السلام ـ فى هذا الجبل حينما أتى حاملا الوحى الإلهى إليه ، وهذا الجبل مكون من ثلاثة أجزاء وثلاثتها من الجبال المبجلة المعروفة يقال لأحدها جبل أبو قبيس ،

والآخر جبل قعيقعان ، والثالث جبل فاران ، ويطلق شعب بنى هاشم على المكان الواقع فى الجانب الشرقى من جبل أبى قبيس فى مواجهة جبل قعيقعان ، ويروى أن النبى ـ عليه صلاة الله الأكبر ـ ولد هناك.

عند ما حرفت طائفة اليهود التوراة الشريفة اتفق أحبار اليهود على نسخة جديدة وجاءت فى هذه النسخة عبارة (تجلى الله من «سيناء» وأشرق من «ساعير» واستعلن من «فاران»).

والمقصود من كلمات : تجلى ، أشرق ، استعلن : الظهور ، والانكشاف ، لأن التوراة نزلت على موسى فى طور سيناء والإنجيل نزل على عيسى فى «ساعير» كما نزل القرآن الكريم على نبينا عليه الصلاة والسلام ، فى جبل فاران. وطور سيناء اسم الجبل الذى تجلى فيه ـ سبحانه وتعالى ـ عليه لنبيه موسى كليم الله. ساعير اسم المكان الذى كلّم فيه سيدنا عيسى. قد بشر موسى ـ عليه السلام ـ بالرسالة فى «سيناء» كما بشر عيسى ـ عليه السلام ـ بالرسالة فى مكان يسمى «ساعير».

وقد أطلق اسم «النصارى» على الذين يدينون بدين عيسى ـ عليه السلام ـ وذلك لأن المسيح كان يقطن فى قرية الناصرة الموجودة فى أرض الخليل فى ساعير.

وإن كان أهل الكتاب يؤولون «فاران» بمعان مختلفة ، فإن ما تفيده الآية الكريمة الواردة فى التوراة «إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران» تؤكد بلا شك أنه جبل «فاران» المبارك فى مكة المعظمة.

عتيق :

وهو اسم من أسماء البيت المعظم ويقول حسن البصرى إن سبب إطلاق هذا الاسم ، أن البيت المعظم هو أول بيت أسس ليزوره من بنى البشر ، وعند الإمام مجاهد أن الله تفضل بإسباغ حمايته عليه من الجبابرة الذين يريدون هدمه وتخريبه ، وعند قتادة ـ رضى الله عنه ـ أن الله حماه من طوفان نوح.

أسباب تلقيب بيت الله بالألقاب الجميلة

المشرفة :

وذلك لأن مدينة مكة المشهورة هى أشرف وأجمل وأفضل من كل البلاد. ويكفى دليلا على أن هذه المدينة المقدسة أشرف الممالك وأسعدها على وجه الأرض ، أنها كانت مهد إشراق نور سيد الكونين ، وأنها مطاف طوائف الموحدين.

مكرمة :

وذلك لأنها كرمت بالذكر الجميل فى الكتاب المبين ، ولأنها كانت مزارا لجميع الرسل والأنبياء وكل الأولياء والصالحين لصدور الأمر الإلهى بزيارة كعبة الله الكائنة داخل مكة السعيدة والحج إليها.

مهابة :

حيث لا يجرؤ أحد من الملحدين على دخول حرم الله ، وبما أنّ الملاحدة والجبابرة ذوى المهابة يخافون كعبة الله ويتحاشونها ؛ لذا سميت بهذا الاسم.

والدة :

حيث إنها مرجع الحجاج والزوار بعد قضاء مناسك الحج.

نادرة :

اتساع مكة تلك البلدة المقدسة من حين لآخر سبب تسميتها بهذا الاسم. وحسب ما يروى أن هذه المدينة المباركة تمتلئ أحيانا كما تمتلئ بطون النساء بالحمل ، وبدء الامتلاء والزيادة فى شهر رجب الشريف أو فى شهر ربيع الأول ، ففى بداية هاذين الشهرين تبدأ المدينة فى الاتساع ، وتزداد كل لحظة حتى اليوم الثالث عشر من شهر ذى الحجة ، وبعد ذلك يعود الحجاج ذوى الابتهاج فوجا تلو فوج.

فى الواقع أن من يرى كثرة سكان مدينة مكة المعظمة فى غير أيام الحج يظن أن الحجاج الذين يغدون إليها من أجل أداء فريضة الحج لن يجدوا داخل المدينة

مكانا للإقامة والاستراحة ، وأداء العبادات والطاعات داخل دائرة الفيوض الباهرة لحرم المسجد الحرام ، ولكن عند حلول موسم الحج ومع تدفق وفود الحجيج من البر والبحر ، يرى أنهم يجدون أماكن للراحة والإقامة فى بيوت الأحياء ويقيمون الصلاة بلا عناء فى كل أرجاء الحرم الشريف ، ويطوفون حول كعبة الله المقدسة فى جماعات كبيرة ويعبدون الله خفى الألطاف ، أدرك أنه كلما ازداد زوار تلك البلدة النادرة اتسع الحرم الشريف حسب الحاجة.

ومهما زاد عدد الحجاج فلا يبقى فى مكة المفخمة شخص واحد يبيت فى العراء ، والحجيج يستطيعون أن يؤدوا العبادات فى حرية تامة وراحة كاملة داخل حرم بيت الله الموقر مثلهم مثل السكان والمجاورين الذين يقيمون فيها فى غير أوقات الحج. وهذا الواقع حقيقة مسلمة.

وقد وصلت ـ أنا الفقير جامع هذه الحروف ـ إلى مكة المشرفة فى منتصف شعبان الشريف سنة ١٢٨٩ ، وعند ما رأيت ازدحام الحرم الشريف تصورت أنه لن يكون هناك مكان لإقامة الصلاة لمن سيأتى بعد ذلك من الحجاج.

حيث بلغ الزحام فى هذه البلدة المكرمة مبلغا عظيما ، حتى إنه إذا ألقيت إبرة فى الأسواق والأماكن التجارية لن تسقط على الأرض من شدة الزحام. ولم يعد هناك مكان واحد خاليا داخل المسجد الحرام ليجلس فيه إنسان ، وبعد مرور فترة قصيرة تبينت أن ضيق مساحة البلدة لا يمكن أن يمنع الحجاج من الطواف والزيارة فصححت أفكارى.

وقرب حلول ساعة الخير والبركة للوقوف فى عرفات ، وقد إلى مكة المكرمة كل أسبوع ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف حاج وزائر وسكنوا فى دور الأحياء المختلفة ووجدوا أماكن لأداء الطاعات والعبادات فى فخر وسرور.

كانت السنة المذكورة سنة الحج الأكبر وتجاوز عدد الحجاج خمسمائة ألف حاج حسب تخمينى وقد أدى جميعهم مناسك الطواف والعبادة بدون مشقة ، كما أدوا

الصلوات المفروضة كلها فى جماعة واحدة فى يسر وتنزّهوا فى الأسواق والشوارع بكل راحة.

جامعة :

وسميت بذلك لأنها نقطة تجمع كل طوائف المسلمين على اختلاف قبائلهم وأجناسهم.

وبما أن كل المسلمين من أجناس مختلفة على وجه الأرض ملزمين دينيا بزيارة أرض الحجاز للمشاهدة والفرحة ؛ فالذين يأتون محرمين لأداء فريضة الحج إلى الحجاز ذات الفيوضات الإلهية يسعدون برؤية أجناس المسلمين المختلفة فى مكان واحد ونقطة واحدة.

ومن الطبيعى أن تنطوى هذه الجماعات العظيمة على أولياء الله الصالحين المستغرقين فى التفكر فى الله وعظمته ، وتنطوى كذلك على الذين غرتهم الدنيا بزينتها من أولاد وأملاك وأموال.

والأمر يقتضى أن ينظر كل عاقل نال شرف التواجد فى هذا الجمع الكبير ، بعين الاعتبار إلى عجائب المخلوقات الإلهية وبديع صنع الله وأن يستيقظوا من غفلتهم.

المباركة :

وسبب إطلاق هذا الاسم واضح ومفهوم.

المفخمة :

وسبب التسمية له علاقة بقدر ومزية وعظم كعبة الله المشرفة ، وذلك لما فى معنى الكلمة من التفخيم انتهى.

المشرفة :

فى المعلومات التى تلقيناها عن كبار شيوخ مكة وتصفح الصحائف القديمة

والتواريخ التى تتضمن أحوال المسجد الحرام ، نعرف أن البلدة المباركة كانت محدودة باثنين من الأسوار الضخمة فى الأزمنة القديمة ، ويفهم من بقايا هاذين السورين اللذين كانا قائمين إلى وقت قريب أن هاذين السورين ـ كما جاء فى الأخبار ـ كانا ليصلان بين جبل عبد الله بن عمر الواقع ناحية معلى بسفح الجبل الواقع أمامه بجدار متين ذى أبواب عديدة ومنافذ لمجارى السيول ، لكنها كلها خربت بمرور الوقت.

وقد أخبر بعض المكيين أن هناك بعض خرائب الجدران التى تعد من الآثار العتيقة ، كما أكد ذلك تاريخ «قطب مكى» وقيل إن هناك خرابة جدار عتيق بجانب السبيل الفخم الذى أنشأه السلطان «سليمان خان» ابن السلطان سليم خان ، جانب جدول حسنين ، إلا أنه لم يبق فى عصرنا الحالى سوى المبانى القديمة للسبيل المذكور. وهذا السبيل فى مكان مرتفع بقصر متشابك من جهاته الأربعة ، وهذا القصر أصبح طريقا لأقدام سكان الخيم الذين أقاموا بجانبه ، وتقرر كتب التاريخ أن للأسوار سالفة الذكر جداران وبابين فى ناحية الشبيكة وقد ظلت أكمار هذه الأبواب قائمة حتى وقت قريب. والسور الواقع ناحية المسفلة هو سور آخر لا سيما أن الإمام الفاسى أثبت أنه يوجد سور بين الجبل المسمى لعلع الذى يقع على مقربة من مسجد الراية والجبل المقابل له. فقال (لقد رأيت أطلال وبقايا هذه الأسوار على الجبل المذكور وفهمت أن مكة المعظمة كانت بين أسوار متعددة متصل بعضها ببعض ولكنى لم أستطع معرفة بانى هذه الأسوار) وهذا دليل على أن كل هذه الأسوار قد انمحت ولم يبقى لها أثر.

لقد عد الإمام الفاكهى فى كتابه «ران أنبيا» أن أبنية المسجد الشريف الذى بنى فى الموقع اللطيف الذى أمر الرسول بنصب الراية فيه يوم فتح مكة من الآثار العتيقة ، فكتب فى تاريخه (يوجد مسجد يزوره الناس وهو قريب من بئر جبير ، والمنازل والبيوت التى بجواره خالية خاوية) ولكن الآن فى عصر السلطان العالى القدر قد امتدت البيوت والمنازل حتى خارج مقبرة المعلا ، ولهذا فإن المنازل والبيوت التى قال عليها الإمام الفاكهى أنها خالية ، ليست كذلك الآن.

إن الأسوار التى قال الإمام الفاكهى إنه رأى أطلالها بنى أحدها المرحوم أبو عزيز قتادة بن إدريس الحسينى وهو من الأجداد العظام لأشراف مكة. وظلت آثار هذا السور مرئية حتى انتهت الخلافة العباسية فى مصر القاهرة.

إن أبا عزيز قتادة قد عزز وأكثر من قوته فى عهد الأمير مكثر من بنى فليتة التى كانت تحكم ينبع البحر لمدة ، وفى خلال عام ٥٩٧ انتزعوا الإدارة من بنى هاشم عنوة. إن الجد الخامس لأبى عزيز المشار إليه هو الإمام الحسن بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ الغالب.

فى زماننا هذا من الصعب حتى توضيح علامة يمكن القول إنها من بقايا الأسوار التى عرفها المؤرخون ، وتوجد ثلاثة قلاع صغيرة بأسماء قلعة الجياد ، قلعة الفلفل ، قلعة الهندى فى الوادى الكائن بين جبل جياد وجبل عمر ، حيث يوجد مقر المدفعية والمعسكر الهمايونى وهذه الأشياء جديدة جدا. إن قلعة جياد تقع على جبل جياد وقلعة فلفل تقع على طريق قرارة ، وقلعة هندى أسست على قمة جبل هندى الواقع ناحية حمام العمرة ، بعد واقعة دلخراشنى الوهابية لحماية مكة المعظمة المفخمة من هجمات العربان.

لا سيما فى الفترة التى كان فيها المرحوم حالت باشا والى الحجاز والمرحوم حسين باشا أمراء لمكة ، إذ أحسوا بالحاجة إلى توسيع قلعة فلفل ، وجعلوا بها مستشفى عسكرى ، فهدم عثمان باشا والى الحجاز قلعة هندى وأسس هذا المعسكر على أصول جديدة ولأن هذا المكان دفعت نفقات إنشائه من قبل أهل كريت أطلق عليه اسم غريتية عام ١٣٩٧. كما هدم قلعة جياد وأنشأ مكانها قلعة متينة على الطراز الحديث عام ١٣٠١.

أعلام قلاع الحرمين الشريفين

إن السلاطين العظام يطلق عليهم اللقب المستلزم للفخر وهو لقب خادم الحرمين المحترمين ، وتشكل الحكومة فيهما باسم السلطنة العلية ، ومع هذا لم

ترفع الرايات ـ رمز سطوة الدولة العثمانية فوق المبانى العسكرية والقلاع ولم ترفرف عليها فى الحرمين الشريفين.

وإذا كانت تقاليد الاحترام تقتضى عدم رفع الألوية السلطانية فوق قلاع الحرمين الشريفين ، إلا أنه من غير المناسب حسب مقتضيات العصر ضياع العلاقة التى تدل على التبعية المشروعة للحرمين الشريفين التى هى قبلة الموحدين ، إلى دولة الخلافة ، وبناء على هذا الرأى الصائب قد قرر السلطان عبد العزيز فى أواسط حكمه رفع الراية العثمانية فوق معسكرات مكة المكرمة ، والمدينة المنورة وفوق قلاعهما مثل سائر البلاد التابعة للدولة العثمانية.

وجهزت الأدوات اللازمة والبيارق ، وأرسلت إلى ذلك المكان السامى جالب الفيض الإلهى وبذلك أصبح المعتاد رفع الأعلام فى المدينة المنورة ، لكن تأخر هذا التقليد بالنسبة لمكة المكرمة وتأجل آنذاك لبعض الأسباب.

وكان سكان البلاد الإسلامية الواقعة تحت سيادة دول غير مسلمة يترددون على الحرمين الشريفين وكان بعض هؤلاء يفضلون الإقامة فى أحد الحرمين الشريفين ومجاورتهما بعد أداء الحج لذا اتخذ الإنجليز والفرنسيون والروس والبرتغاليون والهولنديون الذين يستعمرون الهند وآسيا الوسطى والجزائر وجاوه وغيرها قنصليات فى جدة لخدمة رعاياهم فى ظاهر الأمر وقضاء مصالحهم ولكنها فى الحقيقة للتجسس.

وكان لتدخل المسلمين من رعايا الدول الأجنبية فى شئون أهالى الحرمين عواقب وخيمة حاليا ، ولا سيما أن أفرادا كثيرين من جماعات القبائل البدوية والعشائر المجاورة وأهالى الحرمين أنفسهم يدعون أنهم لا يعرفون لهم مرجعا سوى الإمارة الجليلة للحرمين ؛ لذا رئى أنه من الحكمة رفع الراية العثمانية على قلاع مكة المكرمة ليعرف الحاقدون والأعداء أن مكة المكرمة من الأجزاء المقدسة المتممة لأراضى الممالك السلطانية.

وقد روعى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة ما قد يعكر الصفو.

أولا : قد استدعى لذلك سرا محمد جاويد أغا من قدماء ضباط القلاع وأمر بأن تجلب الأعلام وأن تتخذ التدابير العسكرية لمواجهة ما يحدث من مشاغبات.

ثانيا : صدر الأمر بسرعة اتخاذ التدابير والتحفظات وتوفير الأعلام اللازمة وصواريها وأوصالها السميكة والحبال الرفيعة التى تسحب بها الأعلام ، وتم إعداد كل شىء وتجهيزه وتهيئة الجند اللازم للمحافظة على الأمن ، وأن يذهب إلى دائرة الإدارة الجليلة لمقابلة الأمير السابق الشريف عبد المطلب والقيام بالخدمات اللازمة لإقناع الأمير بأن رفع العلم لن يسبب أى إزعاج. وأن تعد الأدلة المقنعة على أن رفع العلم لن يؤدى إلى اضطرابات ومشاغبات فى الإمارة فى ظل الاستعدادات العسكرية التى تم اتخاذها للحفاظ على الإمارة ويؤخذ موافقته على ذلك.

كما يؤخذ منه الإذن بارتداء الملابس الرسمية فى أثناء إطلاق المدافع بعد رفع الأعلام والتوجه إلى المسجد الحرام.

لترديد الأدعية بطول العمر لجلالة السلطان ، بعد ذلك يعود إلى المواقع العسكرية وفى الصباح الباكر ترفع الرايات العثمانية على القلاع كلها فى لحظة ، واحدة وتطلق المدافع إحدى وعشرين طلقة ، بينما تعزف الموسيقى فى أثناء ذلك ، ويصطف عدد من الجنود السلطانية على هيئة طابور ويتحركون مع قواتهم من معسكر المدفعية العثمانى متوجهين إلى الحرم الشريف للمسجد الحرام وفق الأوامر الصادرة.

وفى اليوم التالى عند ما رفعت الأعلام على القلاع فى وقت السحر ، وأخذت المدافع فى إطلاق طلقاتها ، ارتدى الباشا المشار إليه ملابسه الرسمية على الفور وتوجه ومعه العدد اللازم من الجنود السلطانية ، قاصدا قصر الشريف عبد المطلب أفندى واصطحبه معه وكان متهيئا للتحرك وقفل راجعا مع الموكب العظيم إلى الحرم الشريف للمسجد الحرام. وكان فى معية الشريف المذكور أشراف مكة وساداتها الممثلون للإمارة وتفضل الباشا بإلقاء خطبة بليغة أمام الجمع الغفير من السادة وأهالى مكة الكرام وبعد ذلك أم القضاة الأربعة الكرام وكل العلماء

المعروفين وخاصة عمر شيبى أفندى حاجب بيت رب الأرباب وكل الحضور فى داخل بيت الله قاموا كلهم بترديد الأدعية المناسبة لحضرة الخليفة ثم انصرف الجميع شاكرين فرحين وذلك فى عام ١٢٩٦ ه‍.

وهذا الخوف الذى شغل بال الجميع لسنوات طويلة من سوء عاقبة رفع العلم لم يظهر له أثر ، بل إن الأهالى الكرام والمجاورين ذوى الاحترام شعروا بالسعادة والافتخار ، وإن رفع العلم فى الواقع كان عملا موفقا وينتظر منه فوائد جمة فى المستقبل. ونحن بالنيابة عن الأمة الإسلامية العظيمة نقدم شكرنا للباشا المشار إليه على هذه الخدمة الجليلة.

إن مكة المفخمة بلدة مباركة ومقدمة سعيدة تفوق كل بلاد الدنيا عظمة ويمنا ، ولحكمة ما كانت ممرا لكثير من الأحداث المفزعة المؤلمة والانقلابات الدامية والمصادمات التى عانتها تفوق كل وصف وحصر ؛ لذا رأينا أن نذكر بعضها للتدليل على صحة ادعائنا.

استيلاء طائفة القرامطة المفسدين على مكة المعظمة

ظهرت بوادر طائفة القرامطة الباغية المفسدة ولم تنج هذه البلدة المباركة من فسادهم وشرهم وفوضاهم ، بل إن فرقة «ابن زكرويه» التى استولت على منطقة الشام هاجمت إحدى قوافل الحجاج المتجهة إلى المدينة المنورة وأعملوا فيهم سيوفهم حتى لم يبق واحد منهم على قيد الحياة ، وذلك فى عام ٢٨٩ ه‍.

يروى أن عدد الحجاج والمسلمين الذين قتلتهم سيوف أجداد القرامطة من هذه القافلة تجاوز عشرين ألف حاج ، أما الفرقة الملعونة التى تسلطت على الأراضى الحجازية المباركة والتى تنتسب إلى أبى طاهر القرمطى فقد هجموا على مكة المعظمة بغتة وعاثت أقدامها فسادا وشؤما فى الحرم المطهر للمسجد الحرام.

عند ما هجم أبو طاهر على مكة المعظمة كان بداخل المسجد الحرام ثلاثون ألفا من الأبرياء وكان أكثرهم فى ملابس الإحرام وكان القليل منهم داخل كعبة الله فلم ينج أحد منهم من سطوة سيف الغدر والعذاب ، وهدموا كثيرا من المبانى

العالية فى هذه المدينة المشهورة وخربوها واقتلعوا الحجر الأسود لينقلوه إلى ناحية هجر التى هى مسقط رأس أبى طاهر الملعون ثم انزاحوا إلى بلادهم مدحورين سنة ٣١٧ ه‍.

وكان هدف أبى طاهر من اقتلاع الحجر الأسود من الركن الجليل لكعبة الله وأخذه إلى ديار هجر هو أن يصرف الناس من التوجه إلى الكعبة وأن يحرمهم من الفيض الإلهى. وأن يوجه طريق الحج المفروش بالفيض الإلهى إلى ناحية هجر بل إنه أنشأ فى هجر دار شقوة أسماها دار الهجرة وحجز الحجر الأسود فى دار الهجرة عشرين سنة.

وفى اليوم الذى أجرى فيه أبو طاهر المذبحة فى ساحة المسجد الحرام اقتلع بيده ـ شلت يده ـ اللوحات المزينة التى على باب الكعبة مستقر الرحمة ، وانتزع أيضا الستارة الشريفة والهدايا القيمة الموجودة فى خزانة البيت انتزاع الطيف وقام بتوزيعها على جنده. وعند ما أراد خلع الميزاب الذهبى أمر بعض أتباعه بذلك ، ولكن القرامطة الملحدين الذين تسلقوا السقف وقعوا على الأرض وماتوا وهكذا لم ينجح فى سعيه.

وأخذ ذلك الخائن الكافر الحجر الأسود ووصل ناحية هجر ، وقضى أربه ثم أبلغ عبد الله المهتدى جد ملوك الفاطميين بالطريقة التى وصل بها إلى تحقيق ما يصبو إليه. وعرض عليه تبعيته وأنه سيقرأ اسمه فى خطبة الجمعة ولكنه تلقى منه جوابا مفاده لقد وجدت فى نفسك الجرأة على نقل الحجر الأسود إلى هجر بعد هتكك ستار وحرمة بيت الله الذى ظل موضع الإعزاز والتكريم دائما فى الجاهلية والإسلام وبعد ذلك تريد أن تقرأ الخطبة باسمى! فأعلن القرمطى عصيانه عليه أيضا.

***

فى ذكر وصف شكل وطراز بيوت مكة المعظمة ومنازلها ودرجات الحرارة والبرودة فى هذه المدينة المقدسة وفوائد الفواكه والخضر ومضارها التى توجد بها وأسباب ظهور الأمراض التى يروى تفشيها فى الأراضى الحجازية المنورة.

معظم مبانى مكة المشرفة مبنية بالحجارة والطوب وهى متينة وبعضها أكواخ مصنوعة من الأعشاب والحصير يطلق عليها عشة «بضم العين» وسقوف أغلب المبانى المصنوعة من الحجر والطوب مسطحة ومملوءة بالتراب وسقوف القليل منها حجرات بعضها مغطاة بمادة الطابطات الأسمنت وأغلب النوافذ مغطاة بحصير معروف باسم «كيريته».

استطراد

بعض الأوربيين الذين نجحوا فى الدخول إلى مكة المكرمة والتجول فيها أشاروا فى ما كتبوا عن رحلاتهم إلى أن نوافذ بيوت مكة مصنوعة من الحصير الخشن ، استخدموا فى إيماءاتهم ألفاظا غير مناسبة وأشاروا إلى فساد ذوق أهالى مكة الكرام ، إلا أن ما تصوره السياح المشار إليهم فى هذا الخصوص ليس صحيحا فأكثر بيوت مكة المعظمة ومنازلها تطل مباشرة على الحرم الشريف للكعبة وتتعرض لسخونة الشمس وحرارتها القوية.

ولذا استصوب أهل السلف بعد طول تفكير أن يعلقوا أشياء من الحصير على نوافذ البيوت حتى تحمى الناس من تأثير حرارة الشمس ، وفى نفس الوقت تصون الحرم الشريف للمسجد الحرام من جلبة المنازل وأصداء أصواتها ، وقرروا تنفيذ هذا العمل. ولما كان هذا القرار يعبر عن مدى تعظيم الأهالى لكعبة الله

واحترامها فإنه أيضا يشير إلى مصانة بيوت مكة ومتانتها وأن نساء الحرمين أهل حياء وعفاف لا يتجاوزن الدائرة التى حددتها لهم الشريعة ، لأن حصر «الكيريتة» التى تبدو خارج نوافذ بيوت مكة لا تقوم مقام الستار ولكنها تقوم مقام المشربيات.

ويوجد فى الطرف الداخلى من «الكيريتة» ستار مصنوع من الخشب وهو ما نسميه فى بلادنا «الجناح» وعند ما يزداد الهواء سخونة فإن أهل البيت يغلقون هذا الجناح لحماية أنفسهم من حرارة الشمس. وتختلف هذه الستارة الخشبية تبعا لشكل المبنى وحجمه وبما أن الحصول على خشب البناء فى مكة صعب فإن الستائر الخشبية لنوافذ المبانى الكبيرة الفخمة تصنع من خشب شجر الساج المشهور فى الهند وتنقش عليها نقوش فى منتهى الدقة والجمال. ويصل ثمن كل جناح من الأجنحة إلى ألفين وخمسمائة ليرة وأقله ثمنا يكون بألف وخمسمائة ليرة. وأرخصها يباع بليرتين ونصف وثلاث ليرات يصنع من خشب الصنوبر الرخيص. وإنفاق هذا القدر من النقود فى ستارة نافذة يدل على طبع الكرم عند أهل مكة وجودهم مما يجعل تطاول سياح أوربا وأقوالهم واهية لا أسس لها.

والبيوت التى صنعت سقفها من «الطابطاب» الأسمنت أقل تأثرا بحرارة الشمس من المنازل التى صنعت من التراب في أثناء النهار ، ولن تسخن غرف الأدوار العليا المغطاة «بالطابطاب» كما تسخن الغرف المغطاة بالتراب فقط بدرجة مخيفة ومن هنا تختلف المنازل المغطاة بالطابطاب عن المنازل غير المغطاة من حيث القواعد الصحية.

والمساكن المغطاة بالطابطات أقل رطوبة من المنازل غير المغطاة بهذه المادة ، كما أنها أسهل فى التنظيف ولا يعرف المقيمون فيها قدر المساكن الأخرى.

إخطار :

وهذه المادة المسماة بطابطات عبارة عن خليط جامد مصنوع من رماد المواقد والطين والرمل والجير وهو نوع من الرخام الصناعى ، وهو غير مادة الأسمنت

التى تصنع بها الأرصفة فى دار السعادة استانبول ، والأكواخ المصنوعة من الحصير والعشب مهما تم بناؤها بعناية فإنها تسخن بحرارة الشمس ولا تخلو من الرطوبة.

والذين يسكنون فى هذه الأكواخ لا يمكن أن يكونوا بمنأى عن الأخطار ، كما أن السكن فى مثل هذه المبانى يكون تصرفا مغايرا لأحكام وقواعد المحافظة على الصحة ، وبناء عليه فإنه لا يجوز لأهل البلاد الباردة أن يستأجروا مثل هذه الأكواخ لأن شدة الحرارة تستدعى تبريد الجسم بالخروج إلى الأماكن ذات الهواء الطلق ويؤدى هذا إلى إصابتهم بنزلات البرد لجلوسهم غير مستورين شبه عراة ، كما يؤدى إلى تفشّى العلل والأمراض بينهم.

وبما أن الحرارة ترتفع فى أيام الصيف فى المدينة المعظمة إلى حدّ يصعب تحمله يذهب أغلب الأغنياء من أهلها إلى بلدة الطائف اللطيفة ، والكثير منهم يقضى وقته فى حدائق المعلى ، وفي أيام الشتاء يتجولون في مناطق الحسينية ووادى فاطمة ، وفى كل الأماكن المخضرة التى تبعث الرضى فى النفس ويتنزهون فيها ، وأيام الشتاء فى خط العرض لمنطقة الحجاز المقدسة تشبه أيام فصل الربيع فى مناطق الرومللى والأناضول.

الحسينية

وتقع المنطقة المسماة بالحسينية فى الطريق من مكة إلى اليمن ، خلف جبل ثور الواقع على مسافة ساعتين من مكة وهو مكان جميل يتكون من حوالى خمس أو ست حدائق مخضرة وينمو على المياه الجارية الواقعة حول هذا المكان البطيخ والليمون وكل أنواع الخضر والمحاصيل مثل التمر والبرسيم.

وادى فاطمة :

يقع وادى فاطمة على مسافة خمس أو ست ساعات من مكة من ناحية المدينة المنورة ، وبها عدد من الحدائق المنتجة للمحاصيل وبضع قرى وما يعرف من عيون الماء الجارية وهى (ماء الجموم ، ماء خضرة ، ماء هنية ، ماء حسينية ، ماء أبو

عوردة ، وماء روضة ، ماء حيف ، ماء تونذوب ، ماء قورفه ، ماء بان ، ماء مبارك ، ماء جديدة ، ماء جفح ماء سعلة ، ماء مضيق ، ماء غريمه ، ماء أبو شعب ، ماء مدرار ، ماء فيدة ، ماء سماشه ، ماء جديدة ، ماء هيمه ، ماء حرامز ، ماء بحرين ، ماء قريز ، ماء حامدة ، ماء بربر ، ماء حديدة ، ماء سروعة ، ماء ربكان وأنقى هذه المياه وأخفها هو ماء هنية وأقلها قبولا فى المذاق أعسرها هضما هو ماء الجموم. وينمو فى الحدائق التى حول مصادر المياه : الشمام والبطيخ.

وأنواع مختلفة من التمر والخضر واعتاد أهالى القرى المجاورة صيد دودة العلق الموجودة في المياه ذات المجارى الواسعة بكثرة ويحملونها إلى مدينة مكة المعظمة ويبيعونها هناك.

وتقع على مسافة ثمانى عشرة ساعة من مكة المعظمة منطقتا «سويلة» «ومضيق» وتبعد كل واحدة عن الأخرى ساعة ونصف وتمتازان بلطف جوهما ، كما أنهما تزدانان بالأشجار الجميلة والحدائق البديعة ، وتنمو فيها أشجار الليمون الحلو (النارنج) والموز وينبت فى حدائق جبل كرا والطائف أشجار العنب والرمان والسفرجل والتين ، الكمثرى والخوخ والمشمش ، واللوز ، والجوز ، والتوت الأسود. وتقع على بعد من الطائف بخمس أو ست مراحل مياه جارية وحقول خصبة وأشجار اللوز والياسمين البرى وأشجار الزيتون البرى والصفصاف.

تنبيه :

يوجد فى الأراضى الحجازية نوع من العنكبوت السام اسمه «لاديغ» فإذا لدغت هذه الحشرة أى إنسان لا بد وأن يموت خلال ثلاث أو أربع ساعات ورغم وجود هذا العنكبوت فى كل مكان إلا أنه يكثر فى وادى فاطمة ، لذا يجب على الذين ينزلون به أن يتخذوا الاحتياطات اللازمة ضده. وأقدام هذا العنكبوت اللادغ كثيرة الشعر ويوجد فى قمته أربع شوكات سوداء خشنة كل اثنتين منهما متشابكتان ويعتبر سمه كثيرا أو شديدا بالنسبة لحجم جسمه ويصعب أن يلحق به الإنسان إذا هرب من أمامه.

العلاج :

ليحفظنا الله جميعا من شره إذا لدغ هذا العنكبوت إنسانا ما ، فإذا لم يتم كى المكان الملدوغ على الفور وبشكل جيد فمن المستحيل أن ينجو هذا الإنسان ، وهذا لأن سمه قاتل فتاك لدرجة كافية انتهى.

ويقضى العنكبوت المذكور نهاره مختبئا بين الصخور وفى الليل يزحف حيث الضوء فعند ما يرى الضوء فى أن مكان ليلا ومهما كان الزحام يهاجم فريسته دون تردد. وبناء عليه فعلى من يحل فى أى بقعة من الأراضى المقدسة واضطر لإيقاد النار ليلا يجب عليه الجلوس بعيدا عن النار. ولا سيما من يوقد نارا أو يشعل سراجا أو شمعة فى وادى فاطمة فعليه أن يحرص أن يكون بعيدا عن مصدر الضوء. ورغم أن هذه الحشرة هى نفس الحشرة الموجودة فى الأراضى العثمانية حيث يسمونها «بوى» ، فحشرة الأراضى الحجازية لحكمة ما ذات سم أكثر وأفتك ويكثر في وادى فاطمة خاصة. لذا يجب على الذين يعيشون فى هذه المنطقة أو ينزلون إليها أن يحذروا هذه الحشرة كثيرا.

درجات الحرارة

بما أن مدينة «مكة المعظمة» تقع فى مكان منخفض وتحيط بها سلاسل الجبال كما سبق أن بيناه ، فهى شديدة الحرارة بالنسبة للأماكن ذات المناخ المعتدل التى ذكرناها وتستمر شدة حرارتها ستة أشهر أو سبعة متواصلة ، وتشتد حرارتها خلال أربعة أشهر ويطرد تأثيرها من ساعة إلى أخرى.

درجة الحرارة فيها بميزان (زومبورك) فى شهر يونيو ٢٩ درجة وفى يوليو ٢٩ درجة وفى أغسطس ٣٠ درجة وتصل درجة الحرارة فى أشد أيام شهر أغسطس حرارة إلى ٣٥ ، ٣٦ درجة ولكنها لا تستمر طويلا وتهبط إلى ٣٢ و ٣٣ درجة ، وتظل لفترة ما حول هذا المعدل. وبعد هذه الشهور تأخذ درجة الحرارة فى الهبوط من يوم إلى آخر إلى أن تصل درجة الحرارة فى سبتمبر إلى ٢٨ درجة وفى أكتوبر إلى ٢٥ درجة.

ويقضى أهل مكة نهارهم فى الشهور المذكورة داخل المبانى ، ويمضون ليلهم فوق الأسطح ويتراوح الفرق بين بعض هذه الأماكن وبعضها الآخر فى درجات الحرارة ما بين درجة إلى أربع درجات ، لذا تكون الحجرات في النهار أبرد من الأسطح وتكون الأسطح أبرد من الحجرات فى الليل بمقدار أربع درجات. وفى بداية نوفمبر تكون درجة الحرارة ٢٤ درجة وبعد خمسة عشر يوما منه تهبط درجة الحرارة إلى ٢٢ درجة فينام السكان فى الحجرات.

وفى بداية ديسمبر تكون درجة الحرارة ٢١ درجة وبعد اليوم الخامس والعشرين منه تنخفض درجة الحرارة إلى ١٩ درجة وتستقر عند هذه الدرجة ويروى أنها قد تهبط إلى ١٧ درجة وهذا من الأمور النادرة. وبعد الخامس والعشرين من شهر يناير تهبط درجة الحرارة فى الصباح إلى ١٨ درجة لكن وقت الظهر ترتفع بمقدار درجة ونصف درجة وأحيانا درجتين.

وإذا كان انخفاض درجة الحرارة بين المساء والصباح في كل فصل يصل إلى درجتين مما يلطف من حرارة الجو فإن درجة الحرارة بين الظهر والعصر ترتفع أيضا درجتين وتزيد درجة الحرارة نسبيا عن الصباح. وفى بدايات أيام شهر فبراير تكون درجة الحرارة ٢٠ درجة ، وترتفع عند الظهر إلى ٢٢ درجة ، وفى صبح أيام شهر مارس تقل درجة الحرارة عن ٢٣ درجة ، ويحدث التفاوت بمقدار درجة واحدة فى أثناء نهاية هذا الشهر ، وتصل فى شهر أبريل إلى ٢٤ درجة.

وترتفع درجة الحرارة فى شهر مايو إلى ٢٧ درجة وتزيد فى وقت الظهر والعصر من شهر مايو لتصل إلى ٢٩ درجة.

وتهب فى أغلب أراضى الحجاز الرياح الجنوبية ونظرا لسخونة هذه الرياح لا يوجد فى البلدة المعظمة مكة المكرمة ماء بارد. ومن يتجول قليلا لا يستطيع أن يمنع جسمه من التبلل بالعرق.

وإذا لم تهب الرياح لا يمكن للإنسان أن يشعر بالراحة أما إذا هبت رياح الشمال تبرد المياه ويعتدل الجو ويستريح الأهالى.

إفادة خاصة :

ارتفاع درجة الحرارة إلى هذا الحد يرجع إلى أنّ مدينة مكة المكرمة محاطة بسلسلة من الجبال المرتفعة.

حيث تعكس أحجار هذه الجبال الحرارة التى تكتسبها من الشمس على البلدة ، وفى فصول الصيف تستمر هذه الحرارة حتى منتصف الليل .. لذا احتاج الأمر إلى مساحة خضراء تقلل من تأثير الحرارة على البلدة وتجلى العيون بخضرتها.

وهذا ممكن بالنسبة لمكة المعظمة بحيث تغرس على واجهات الجبال المحيطة ببلدة الله والمطلة عليها أشجار مناسبة وتبذر عليها بذور الأشجار البرية التى تنمو سريعا لتتحول الجبال إلى ما يشبه الغابات وفى الواقع أن هذه الغابات لا تنمو فى ظرف عام أو عامين إلا أن الروابى تكتسب اللون الأخضر فى العام الأول وتساعد على تقليل ارتفاع درجة سخونة الأحجار ، وتمنح البلدة نوعا من البرودة وبعد خمسة عشر عاما تصبح هذه المدينة وسط غابة كبيرة ، ويستحسن أن تكون هذه الأشجار والبذور من نوع الصنوبر الموجود بقارة أمريكا الذى ينمو كل سنة بارتفاع ثلاثة أو أربعة أمتار أو من أنواع الصنوبريات الشبيهة بها ، وهو ما يؤدى إلى تحسين الجو.

كما يزين طريق العمرة بغرس أشجار مناسبة على جانبيه. وإذا تم تسوية الأرض وتعبيد الطريق يسمح بسير العربات عليه ذهابا وإيابا ، ويرتاح المعتمرون الكرام وتتحول تلك المنطقة إلى متنزّهات ومن الإصلاحات المرجوة بغرض إراحة الحجاج وتأمينهم تزيين طريق عرفات بغرس الأشجار المناسبة ، وإيجاد أنفار كافية من قوة الشرطة في أماكن مثل «مأزمين» وغيره حيث يجتمع اللصوص ويحتشد قطاع الطرق.

تنبيه :

يجب على الذين يقميون فى مكة المكرمة فى فصل الصيف الإقامة فى الأماكن ذات التهوية الجيدة ، وأكثر مناطق مكة المكرمة هواء هى الأماكن المتصلة

بالمسعى الشريف من حرم المسجد الحرام ، وسفوح جبل أبى قبيس وفوق جبل الصفا وأطراف قلعة فلفل من حى غرارة. وأعلى مناطق مكة المعظمة هى المناطق التى ذكرناها بإضافة نواحى «قشاشية».

إن أرض هذه الأماكن فى مكة المكرمة أعلى من الجهات الأخرى وبما أن أزقتها أوسع وأراضيها أعلى فلا تخلو هذه الأماكن من نسمات الهواء فى أى وقت من الأوقات.

وهواء أحياء «المعلى» و «القشاشية» و «الشبيكة» أفضل من هواء الأحياء الأخرى ، لذا لا يتأثر أبدا سكان هذه المناطق من سوء الجو. ومع هذا فإن نوافذ بيوت هذه الأماكن يلزم أن تكون مواجهة للرياح الجنوبية فى جميع الحالات.

والمنازل الكائنة فى أحياء أخرى غير التى ذكرناها تكون الشوارع فيها ضيقة وساخنة مثل مستوقد الحمامات ، ومملوءة بالقمامات المتراكمة والقاذورات. مما يؤدى إلى ظهور مجموعة من الأمراض ومن هنا يجب على الأغنياء الذين يسكنون فى هذه المناطق وخاصة الحجاج الذين استأجروا البيوت بالوكالة فيها أن يذهبوا إلى الوظائف بغية تغير الجو ومع اقتراب موعد الحج يعودون إلى مكة المكرمة فيؤدون مناسك الحج ويحافظون على صحة أبدانهم.

وفى مكة المكرمة فواكه مثل : الخوخ ، المشمش ، التين ، السفرجل ، الكمثرى ، التفاح ، البرقوق ، التمر هندى ، العنب ، التمر ، اللوز ، الجوز ، التوت ، العناب ، الشمام ، البطيخ ، البرتقال ، الليمون ، الليم ، الرمان ، الموز ، الخيار ، العجور ، وأشياء أخرى مثل : الخس ، الخرشوف ، البامية ، الكرفس ، الفاصوليا الخضراء ، السلق ، الجزر اليمانى ، الطماطم ، الباذنجان ، الفاصوليا الناشفة ، والفول الناشف ، الحمص ، الفجل ، الشبت ، البقدونس ، الثوم ، الكمون الكراث ، القرنبيط ، والكرنب وجميع أنواع الخضروات وكل رأس من الكرنب يصل إلى ١٤ أقة ولا يمكن أن ينبت كرنب كبير بهذا الحجم إلا فى الحجاز فقط.

استطراد

بالرغم من وجود الفواكه من كل نوع فى الأراضى الحجازية إلا أن أكثر هذه الفواكه ضار بسكان البلاد الباردة الذين يزورون البلاد الحارة ، لذا لزم أن نوجز في هذا المقام ذكر أنواع الفواكه والخضر التي يجب أن يتجنب أكلها ويحترز منها في الأراضى الحجازية.

الخوخ : رغم أن طعمه لذيذ وشكله الخارجى لطيف ، إلا أن الإفراط في أكله ضار لصعوبة هضمه.

المشمش : طعمه لذيذ ورائحته تسيل اللعاب ، ومع هذا فإن الإفراط في أكله بشكل دائم فى الأراضى المقدسة ضار ويسبب الإسهال. وإذا أكل النوع الصغير من المشمش دون طبخه بسكر يؤدى إلى الإصابة بالحمى الصفراء وفساد المعدة.

التين : ينبت فى الطائف ، ورغم أنه ليس بحجم التين الذى يزرع فى بلاد الروم إلا أنه لذيذ الطعم ، لكن الإفراط في تناوله يصيب الجسم بالفتور.

السفرجل : يبدو في حالة نضجه التام لذيذ الطعم ، طيب الرائحة وبما أن له تأثيرا قابضا فأكله نيئا قبل طبخه ضار.

الكمثرى : وليست بحجم الكمثرى فى بلاد الروم وهى فى حجم كمثرى مدينة أخلاط. والإفراط في أكلها يصيب المعدة بالضغط.

التفاح : وأكبر حجم للتفاح فى تلك الأراضى يكون فى حجم الخوخ العادي ونظرا لجنيه قبل نضجه تماما فمذاقه مزز ، وإذا طهى بالسكر وأكل قدر كاف منه يساعد على هضم الطعام.

البرقوق : ويوجد فى الطائف ما يسمى ب «برقوق مردم» فقط وأكله غير مرغوب لأنه يسبب الإسهال.

التمرهندى : الجاف منه مثل قشر الشجر الأحمر إذا بلل بعضه في الماء يصبح لونه أحمر ويكون شرابا ذا طعم حمضى وشرابه الممزوج بالسكر خافض للحرارة.

العنب : يرى الأطباء أن الطازج منه يبرد الدم ورغم أن ضرره أقل من الفواكه الأخرى فإن الإفراط فى أكله يسبب إسهالا مؤلما. والعنب الموجود فى مكة المزروع فى الطائف له قشرة سميكة بعض الشىء وهو لذيذ الطعم.

التمر : رغم أنه لذيذ الطعم ولزج فإذا ما أكله سكان البلاد الباردة بكثرة وشربوا الماء عقب أكله شعروا مباشرة باضطراب فى القلب فأكله بإفراط مضر.

اللوز : وهو بطئ الهضم لكن منقوعه يمنع الحرارة ويسكن الألم.

الجوز : ويزرع فى الطائف وأكل قدر كاف منه بعد نزع قشرته الداخلية لا ضرر منه ومع هذا فإن أكل الجاف منه مضر فى الأراضى الحجازية.

التوت : يمكن أن يعثر فى الحجاز على التوت الأسود فقط وبما أنه سريع التلف لا بد من توخى الحرص عند أكله.

العناب : ويجلب من الشام الجاف المطبوخ منه مفيد لمرضى الصدر ، يطبخه أهل جدة ومكة مع الكمون الأسود أو الكزبرة ليتناوله من يصاب بالحمى الصفراء.

البطيخ والشمام : وأكل البطيخ فى الأيام الحارة يرطب الجسم ويسكن فورة الدم وسخونته ، ومع هذا فإن الإسراف فى أكله يسبب الانتفاخ والضيق للإنسان.

أما بالنسبة للشمام فإن أكله أحيانا يسبب تعبا فى القلب ، لذا لا يصح أكله طالما أنه غير ناضج.

البرتقال : رغم أنه يزرع فى الأراضى الحجازية منذ عدة سنوات إلا أن أغلبه يجلب من مصر وأكل ثمرته أمر طيب وشرب عصيره فى أوقات القوة والصحة لا مثيل له فى خفض الحرارة وإزالة جفاف الحلق وتنقية الدم.

الليمون : ويضاف إلى الأطعمة المناسبة له ويعمل منه عصير الليمون ويشرب. ولكن الإفراط في أكل الليمون الحلو ضار.

الليم : نوع من النارنج ، وفير الماء حامض الطعم وتختص به مكة المكرمة ويستعمل بها بدلا من الليمون.

وليكن معلوما لدى الذين يشربون «الليمونادة» المعمولة من الليم أن هذا المشروب أفضل من عصير الليمون من حيث الرائحة وملائمته للمعدة. وعند عصره ينزع قشره الخارجى وإذا لم ينزع القشرة تزيد من مرارة الشراب.

الرمان : وفائدته كبيرة إذا ما شرب معصورا سواء المر منه أو الحلو ، فشراب المر منه يرطب الدم ويسكن السخونة. ومع هذا فإن أكل الحلو منه ببذوره يفسد المعدة.

الموز : ويشبه فى الطول والعرض الخيار الروسى الطازج والذى يسمى الخيار البرى أفضله ما يزرع فى الأراضى اليمنية. والموز الذى يزرع فى منطقة الحجاز ويستساغ أكله بعد نزع قشرة الناضج منه مع السكر. الإفراط فى أكله مضر لصعوبة هضمه.

الخيار : ملين وملطف وأكله أثناء الطعام مع السلاطة فاتح للشهية.

العجور : وهو من فصيلة الخيار وتأثيره يشبه تأثير الخيار ويستعمل الطازج منه فى جزيرة العرب فى «السلاطة» مثل الخيار ويؤكل بعض أنواعه مطبوخا مثل القرع.

ويصنع منه نوع من المحشى ، لكن نظرا لصعوبة هضمه ، فالإكثار من تناوله ضار بأهل البلاد الباردة.

الهندباء : أحد أنواع الخضر في مكة المعظمة ، وطعمها لطيف وهضمها سهل وجيد ، ورغم مرارة مذاقها بعض الشىء عند أكلها فإنها تكسب المعدة قوة لأنها تساعد على هضم الطعام.

الخرشوف : رغم حداثة زراعته فى حدائق الطائف فإن أهل مكة يعتبرونه من الخضر وهو مستساغ الطعم. وإذا طبخ جيدا يلذ مذاقه ولا ضرر منه لسرعة هضمه.

البامية : وهى ملينة وإذا طبخ الطازج منها بطريقة جيدة لا ضرر من أكلها وذلك

لسرعة هضمها. ولا تخلو منها مكة المكرمة صيفا وشتاء وهى مستساغة بين أهل مكة.

الكرفس : إذا طهيت جذوره وأوراقه بشكل جيد يكون طعمه مستساغا وسريع الهضم.

الفاصوليا الخضراء : وهضم الطازج منها ليس عسيرا وإذا طبخت بطريقة جيدة فأكلها شهى جدا.

السلق : يجب الحذر من أكله بسبب بطء هضمه.

الجزر اليمانى : هو الخضار المعروف باسم «الجزر اليمانى» وبما أنه يحتوى على مادة الدقيق لذا يشعر الإنسان بالشبع عند أكله. ويؤكل مسلوقا أو مطبوخا وفى كلتا الحالتين يشبه مذاقه مذاق الكستناء. ومع هذا فإن الإكثار فى أكل النوع البرى منه المسمى «جزر المدينة» يوجع البطن لأنه بطئ الهضم.

الباذنجان : بما أنه بطئ الهضم فهو يسبب عسر الهضم ، لذا وجب التحرز من أكله فى الأراضى المباركة.

الفاصوليا الجافة والفول الجاف : والحبوب المذكورة إذا أكلت قبل طهيها جيدا تسبب الانتفاخ فى البطن وعسر الهضم ، كما أن أكلها مطبوخة يسبب الرياح لذا أكلها فى الأراضى الحجازية ضار.

الفجل : رغم أنه مهضم إلا أنه مدر للبول ومسبب للرياح لذا فأكله بكثرة مضر حتى لو كان فى «السلطة».

شبت : مصلح للمعدة ، إذا أضيف إلى أى نوع من الأطعمة يكسبها نكهة لذيذة ورائحة طيبة. ويساعد على سرعة الهضم لأنه يفقد خواصه عند طبخه يجب إضافته إلى الطعام بعد طهيه.

الثوم : رغم أنه عند طبخه يساعد على هضم الطعام ؛ إلا أن رائحته قوية ولا

تزول بسرعة. كما يحظر أكله فى المناطق الحارة وذلك لأنه يكسب الجسم حرارة عند تناوله.

الكمون : عند ما يضاف إلى الأطعمة فإنه يقوى المعدة ويفتح الشهية.

أسباب ظهور الأمراض فى مكة المفخمة

فيما مضى كان الحجاج الذين يأتون مع المحمل الشامى ينصبون خيامهم بجانب الآبار التى فى طريق العمرة ، كما كان حجاج المحمل المصرى ينصبون الخيام فى السطح أى المسطح الذى أمام الموقع المسمى «الشيخ محمود» ، وكانوا يتركون فى الميدان مخلفات الأغنام التى يذبحونها مكشوفة ، كما كانوا يتركون بين الخيام جيف الإبل والخيول التى تنفق من المرض والتعب فى أثناء الطريق.

وكان الحجاج الذين يهبطون إلى منى لرمى الجمرات فى أثناء عودتهم من عرفات يتركون مخلفات الأضحيات فى المكان المخصص للذبح أمام الخيام ، وأما من يذبحون الماعز فكانوا يتركون أجساد الماعز كاملة فى المكان الذى كانوا يذبحونها فيه وكانوا يتركون جيف الإبل التى تنحر خلف الجمرة الكبرى فى مكان نحرها وعند ما يتفق وجود الفضلات المتراكمة والقمامات من جيف الحيوانات وسط الخيام المنصوبة بين طريق العمرة وساحة «الشيخ محمود» كان المارة يعجزون عن المرور يسبب الرائحة الكريهة المنبعثة منها ، ويصاب أغلب سكان الخيام بالأمراض مثل الصداع والغثيان. ولهذا كان الحجاج المساكين يعانون بجانب شدة الحرارة من تعفن جثث الأضحيات الملقاة هنا وهناك بين الخيام ، وهذه الحالة الكئيبة يعجز القلم عن وصفها.

وهكذا كان الحجاج يتعذبون ثلاثة أيام مدة مكثهم فى منى. ولا يخلون من الشعور بالغثيان ويظلهم الخوف والتفكير فى الموت.

ولما كان المراد أن يقضى الحجاج الكرام فى هذا المكان الكئيب الموبوء الأيام الثلاثة فى صفاء الخاطر وطمأنينة ، وأن يؤدوا مناسكهم فى هدوء بال وراحة وأن يصانوا من المخاطر القاتلة ، اقترحت بعض الجهات المهتمة بالأمور ـ نتيجة

للتصور الحكيم السابق أن يحفر بجانب كل خيمة بئر يلقى فيها مخلفات الأضحيات ثم تغطى بعد ذلك ؛ ولكن هذا الاقتراح لم يحظ بالقبول بين جماعات الحجاج ـ لأنه من قبيل ـ التكليف بما لا يطاق ـ ورفضوه قائلين إننا لن نظل هنا بصفة دائمة.

وقد فطن فى النهاية إلى أن الإصابة بالعلل الضارة مثل : الحمى والغثيان والصداع كان نتيجة لعدم الاهتمام بالأمور الصحية وعدم المبالاة بالنظافة والطهارة.

لذا كان من الإرادة السنية العادلة الكثيرة المحامد أمر السلطان «عبد المجيد» ـ جعل الله مثواه الجنة ـ أن تحل جميع المشكلات التى يشاع وقوعها فى أثناء موسم الحج ، وأن يبحث عن حلول مناسبة للقضاء على جميع متاعب الحجاج الكرام الطالبى المغفرة.

وبما أن أغلب الحجاج ـ فى زماننا ـ يذهبون لأداء فريضة الحج عن طريق البحر فقد قل عدد الحجاج المشتركين فى قوافل المحامل ، كما أنه قد تم حفر كثير من الحفر فى أماكن الحجاج بين طريق العمرة وميدان «الشيخ محمود» ، ودفن فيها مخلفات الأضاحى المذبوحة فى «منى» عند العودة من «عرفات» ابتداء من سنة ١٢٦٧ ه‍ ، وهكذا خلت أماكن تجمع الحجاج من المخلفات التى كانت تفسد الهواء فى الماضى.

والآن قد اختفت تماما آثار التعفن ولم يعد لها أدنى أثر فى أماكن تجمع الناس فى مدينة مكة المعظمة ، فى عهد السلطان ـ ظل الله على أرضه ـ واستراح الحجاج المسلمون وسكان البلد الأمين من المنغصات ، وأصبحوا فى مأمن من كل الأمراض.

ومع هذا فإن أغلب الحجاج الذين يتوجهون لأداء فريضة الحج جهلة لا يعرفون أن كل ما ينفق فى سبيل زيارة أراضى الحجاز المقدسة تعد بمثابة صدفة. كما لا يعرفون أن الإقامة فى الأماكن المكشوفة الجيدة التهوية للمحافظة على

صحة الأبدان ، قدر المستطاع والاهتمام بنظافة أماكن إقامتهم وتطهيرها من القاذورات من الأمور التى أوجبها دينهم.

ونتيجة لهذا الجهل وطمعا فى تقليل النفقات يستأجرون غرفا صغيرة ضيقة ، ويسكن سبعة وثمانية منهم فى هذه الغرف السيئة التهوية ، حيث لا يستطيعون أن يتنفسوا إلا بصعوبة ، ويأخذون فى طهى طعامهم فوق «الكانون» وهم أحرص الناس على شراء العطور والهدايا التى سيحملونها إلى بلادهم.

نعم يطبخون ويرمون فضلات أطعمتهم أمام الباب لكنهم يغفلون عن أن هذه الفضلات ستفسد بفعل الرطوبة وتصيبهم بالعلل والأمراض فيمرض الواحد منهم تلو الآخر. وهكذا يحرمون من زيارة أكثر الأماكن المقدسة.

إن ارتفاع درجة الحرارة في فصل الصيف من لحظة لأخرى ورائحة الطعام المطبوخ فوق «الكانون» فضلا عن حرارة الموقد كل هذا يجعل الغرف تلتهب مثل الآسن المسلوق ، ومع زيادة آثار الروائح العطرية والماء القذر الذى يسكب أمام الأبواب ، مع القاذورات التى تتراكم بعضها فوق بعض تفسد وتتحلل بتأثير الرطوبة فتزيد عفونة المكان ، فتنتشر جميع أنواع الحمى وكل الأمراض الضارة وسرعان ما تنتقل العدوى من أحد المقيمين فى هذه الحجرات إلى زملائه فيمرضوا كلهم دفعة واحدة ويعانون من قسوة المرض.

وبناء على هذا الوصف فإن مكة المعظمة لا تخلو فى أى وقت من الأوقات من الحمى ، ويلزم أن يتعرض أكثر الحجاج لهذا المرض ويصبحون على مشارف الموت. إلا أن هواء هذه البقعة المقدسة جاف ونقى وصحى لذا ، فمن النادر أن يتطور المرض تطورا شديدا فيتحول إلى الحمى المهلكة كما يحدث فى الأماكن الرطبة ، وذلك بلطف الله وفضله.

وبالرغم من أن أمراض الرقعة الحجازية السعيدة كلها من أنواع الحمى ؛ فإن هذه الأمراض تنتشر فى أوقات الجفاف عند ما يقل معدل هبوط الأمطار. وعلى العكس من هذا إذا انهمر المطر بغزارة وتصادف معه ظهور الأمراض فإن المطر

يقضى عليها لأن المطر عند ما ينزل كالرذاذ يبلل القمامات والمخلفات المتراكمة حول الأحياء السكنية ، فتتخمر بتأثير الحرارة وتتصاعد منها أبخرة ضارة وعند ما تغيب الشمس فإن المواد الضارة المذكورة تهبط فى الليل على هيئة الندى فتصيب الذين يتعرضون لها بالعلل والأمراض.

ولكن إذا ما انهمر المطر بغزارة فإن السيل الناجم عنه يدفع القمامات والمخلفات المتراكمة من الطرقات إلى أماكن بعيدة ولا يبقى أثر للعفونة. كان فيما مضى ناحية «المعلى» حوض كبير قديم خرب يسمى «بركة مصر» وكان هذا الحوض الواسع جديرا بأن يسمى منبع مرض الحمى ، فقد كانت قمامة البيوت والحوانيت الموجودة بجواره وجثث الحيوانات النافقة مثل الإبل والخيل والقطط والكلاب التى تهلك فى المناطق القريبة منه تلقى فى هذا الحوض ، وأصبح هذا الأمر بمثابة العادة المرعية لدى الناس ؛ لذا كلما هطلت الأمطار تتراكم المياه فى الحوض وتؤدى بتأثير حرارة الشمس إلى تحلل الجيف وتتصاعد منها رائحة العفن ، وتنتشر الأبخرة فى كل الأماكن مما يفسد نقاء الهواء وصفاء الجو فى تلك المنطقة ويكون سببا في ظهور الأمراض القاتلة.

ولما كان مصطفى جامى باشا ـ المغفور له صاحب التصانيف التى لا حصر لها ـ ياورا فى إمارة الحجاز ، قام بسد الحوض المذكور ومقالب القمامة القريبة منه وملأها بالحجارة والتراب ، واقتلع تماما الأسباب التى تؤدى إلى ظهور كل أنواع الأمراض ، التى يروى أنها تظهر فى مكة المكرمة متبعا القواعد الصحية فى هذا ولهذا لم يبق في الأرض العطرة لكعبة الله أى من الأسباب الظاهرة التى تؤدى إلى انتشار الحمى وكل أنواع الأمراض.

نصائح لمن يذهبون إلى الحجاز :

أن يكون طعام الإنسان وشرابه ولبسه وتنزهه ونومه وقيامه يوافق عادات موطنه الذى تربى فيه ، بل إن مزاجه وميوله وطباعه تكون متوافقة لهواء هذا الموطن. وبناء على هذا عند ما يغادر الإنسان المكان الذى ولد فيه وعاش وتربى

فيه فعليه أن يتخذ الاحتياطات التى تنجيه من المخاطر والمهلكات ، وأن يحرص على قضاء مدة رحلته بالشكل الذى اعتاده جسمه فى وطنه لأن جسمه قد يضطرب بسبب التغيرات التى سيتعرض لها.

واتخاذ كل الإجراءات السابقة أوجب بالنسبة للذين اتجهوا محرمين إلى أرض الحجاز أرض المغفرة ، حتى لا يقضى على آمالهم وحلمهم بالحج إلى الأراضى المقدسة تعريض أنفسهم للأمراض المهلكة.

وبعض الأشخاص من أهل البلاد الباردة لا يراعون اتباع التوجيهات المذكورة فى تلك المناطق فيعرضون للإصابة بكل صنوف الأمراض والعلل فى الأراضى الحجازية المباركة ، وبالتالى يعجزون عن زيارة الأماكن المقدسة.

ويتعرض المسافرون إلى أرض الحجاز لتعب شديد ، لأنهم عزموا على زيارة بلاد لم يمروا بها من قبل عن طريق البحر أو البر ، بلاد يتعرضون فيها لتقلب الجو برودة وحرارة ويضيقون ذرعا كذلك من كثرة النوم أو قلته.

أما بالنسبة للطعام فإن الحجاج يعانون مشقة فائقة يعجزون عن الحفاظ على صحة أبدانهم ؛ وينجم عن هذا الأمر تغيرات كبيرة وخيمة فى أبدانهم مما يؤدى إلى اضطراب أمزجتهم وفساد أمعائهم ، وبما أن كل إنسان ينام ويستيقظ وفق نظام اعتاده فى بلده ويأكل ويشرب حسبما يرغب إلا أنه فى هذا الطريق يتعرض لحرارة لم يعتدها فى بلده ويظل لمدة عشرين أو ثلاثين يوما على التوالى يأكل الجبن والزيتون وما شابههما من أنواع الطعام فعليه أن يراعى ما اعتاده.

عند وصول الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة من الطبيعى أن يستفيدوا من جودة الهواء ونقائه ، لكن لانعدام المعلومات عندهم عن طبيعة المنطقة الحجازية وجوها ، واستغراقهم فى العبادة بشكل مبالغ فيه يفوق التحمل وبتناولهم الأطعمة الضارة بهم والفواكه المتنوعة بدون نظام فإن ذلك يسبب أضرارا كثيرة للحجاج ذوى الابتهاج ويعرضهم للأخطار.

وقد ثبت فى الآثار الصحيحة والأخبار المتوافرة تضاعف ثواب أداء العبادات

فى الحرمين وتزايد ثوابه ولما كانت عبادة الله الواحد الأحد تعتمد على صحة الجسم يلزم الحفاظ على صحة الجسم وقوته للمواظبة على أداء العبادات.

وبناء عليه يجب على الحجاج الكرام أن يحملوا معهم ملابس مناسبة لجميع الأجواء ، وأن يرتدوا من الملابس ما يناسب طقس كل مكان يحلون فيه ، وأن يبذلوا عناية فائقة للحفاظ على أبدانهم حتى لا يصابوا بالمرض المفاجئ فى أثناء ذهابهم أو عودتهم.

ويجب عليهم أن يأخذوا معهم أشياء مثل : الحبوب الملينة والأدوية القابضة للإسهال وأنواع الشاى وزهور التليو وأن يواظبوا على شرب الشاى فى الصباح والمساء فى البر والبحر.

وإذا أمكنهم المواظبة على تناول الماء والأطعمة المطبوخة صباحا ومساء يجب ألا يمتنعوا كما اعتادوا ذلك فى بلادهم.

وإذا حدث نوع من الإسهال أو الإمساك بتقصير الجسم فى وظيفته الطبيعية يجب أن يقضى على أسبابه قبل أن تمر ٢٤ ساعة.

وإذا شعر الحاج بالتدهور فى صحته على الباخرة بتأثير البرودة أو الحرارة يجب عليه أن يدخل القمرة فورا ، ولا يلتفت إلى الأموال التى سينفقها فى استئجار القمرة محافظة على صحته ، أليس هذا أفضل من ضياع صحته فلا يستطيع تحقيق أمله فى أداء فريضة الحج ، إن النقود التى تنفق من أجل المحافظة على صحة الجسم والبدن تدخل ضمن المبالغ التى تدخر لأداء فريضة الحج كما سبق أن ذكرناه من قبل.

ولا يتطرق أدنى شك إلى الحاج فى أن الحافظ والحامى الحقيقى هو «الله عز وجل» ، لكن الأخذ بالأسباب فى كل شىء شرط أساسى ؛ لذا يجب بعد الإحرام الامتناع عن النوم فى العراء ، وعند الوصول إلى جدة يجب عدم تناول الأطعمة بلا داع.

ويجب للحفاظ على صحة المعدة وسلامتها سلق اللحم فى الماء وتناول حسائه والامتناع عن تناول الفاكهة التى لا يوجد منها فى وطنه ، ويجب أن يحترس فى كل الأحوال من الإفراط فى أكل الأطعمة مثل البلح والفطائر.

وبمجرد أن تظهر علامات المرض على الجسم أو المعدة يجب عليه أن يسرع فورا وبلا تراخ إلى الأطباء المتخصصين والذين لهم دراسة بمياه تلك المناطق وهوائها والانصياع بعد ذلك لنصائحهم.

وعند الخروج للطريق للذهاب من جدة إلى مكة المعظمة يجب على الحاج المداومة على تناول الماء والأرز واللحم المقلى ، ويجب الاحتراس والتريث أثناء ركوب الجمل أو النزول منه حتى لا يؤلم أحد أطرافه أو يصيبها بأذى.

وعند ما يتيسّر الوصول إلى مكة المكرمة يتحلل من الإحرام بعد الانتهاء من أداء شعائر الطواف والسعى.

وحسب عادات هذه البلدة يقيم السادة الأدلاء والسقاة مأدبة.

ولأن هذه المآدب قد تكون ضارة بالحجاج لما تحتويه من أنواع الطعام الشهية والتى يعدونها على أكمل وجه ؛ يجب الاحتراس من تناول الأطعمة مثل الفطائر والحلوى والأطعمة التى تحتوى على دهون زائدة ، ويكتفى بتناول أقل القليل منها ، وإذا ظهر اضطراب فى معدته يجب عليه أن يحرص على علاج معدته دون إضاعة وقت وذلك بتناول الأدوية المناسبة.

ولأن الإمساك ضار بذوى البدانة لذا يجب عليهم الامتناع عن تناول الأطعمة التى تفسد المعدة والعناية بهذا الأمر أعظم عناية فى هذه البلاد.

ويحدث اضطراب المعدة من تناول مختلف الأطعمة والمشروبات بغير نظام. ولأن شدة الحرارة تعطش الإنسان لذا يجب الابتعاد عن تناول الطعام بلا داع وكذلك عن شرب الماء أكثر من اللازم ويشرب الشاى من حين إلى آخر على ألا يؤدى إلى الإصابة بالإمساك.

وعلى الحجاج ـ ليلا ونهارا ـ الاكتفاء بتناول طعام مفيد للجسم والابتعاد عن النوم تحت الشمس.

ومن الأمور الجديرة بالعناية اختيار حجرات ذات تهوية جيدة وفى الطبقات العليا أو الوسطى من المبنى عند الاستئجار وألا يزيد عدد المقيمين فى حجرة واحدة عن ثلاثة أشخاص ، ويجب على الحاج عدم شرب الماء عند العرق وكذلك عدم النوم فوق الأسطح ليلا كما يجب مراعاة المداومة على الاستحمام.

ولأن أجسام المقيمين فى منطقة الحجاز تتعرض للعرق كثيرا ويؤدى هذا العرق إلى ظهور مادة دهنية فوق سطح الجلد. فتنغلق مسام الجلد وتحول دون خروج العرق إلى سطح الجلد.

وبالتالى تظهر على الجلد حبوب حمراء دقيقة تؤدى إلى ظهور بثور ممتلئة بالماء.

وحتى لا تتحول هذه البثور الصغيرة إلى قراح (خراج) يجب الاستحمام مرتين أو ثلاث مرات على الأقل فى الأسبوع والاهتمام بتغيير الملابس باستمرار.

وطوال فترة الإقامة فى وادى عرفات ومنى يجب الجلوس فى الخيام ، وعدم تناول الفاكهة والأطعمة الضارة بالجسم وعليه تجنب السير تحت أشعة الشمس وهذا من الأمور اللازمة للحفاظ على صحة الجسم. وعند الإقامة فى منى لا بأس من الأكل من لحم الأضحية لكن من اللحم المشوى فى السفود بلا دهون وسلق اللحم فى الماء مع الأرز وتجنب أكل اللحم فى الزيت وكل أنواع الطعام الأخرى لضررها ويجب إحضار اللحم الذى يؤكل فى هذا المكان المقدس من عرفات أو من مكة المعظمة لأن لحم الماشية التى ترعى فى هذه الصحراء المباركة يؤدى إلى الإصابة بالإسهال ؛ لأن صحراء منى ينتشر بها عشب السنامكى.

ولأن الإنسان يتردد فى الطريق بين الحرمين بصورة دائمة لذا يجب قبل التحرك من مكة المكرمة أو المدينة المنورة إعداد القدر الكافى من اللحم المقلى والأرز ويكون الطعام الذى يؤكل أثناء الطريق عبارة عن ماء اللحم المقلى والليمونادة وما شابههما من أنواع الأطعمة.

الصورة الثالثة

ونتعرض فيها لتعريف وذكر لماذا أطلق على البيت المعظم اسم الكعبة وما كانت عليه الأحوال فى البلدة المفخمة مكة المكرمة فى العصور الأولى.

فى الأزمنة القديمة كانت القاعدة المرعية أنه ممنوع بناء أبنية داخل المدينة المقدسة مكة المكرمة أعلى من البناء الشريف لكعبة الله. وقد سمع من الحجاج الذين يترددون على تلك الأماكن أن من يخالف هذه القاعدة سرعان ما يتهدم ما شيدوه من مبانى ويصير جزازا.

اتخذ هذا المنع حكم الاعتقاد العام بين أهل مكة لذا كانوا يمنعون إقامة أى أبنية ترتفع عن بناء البيت المعظم وقوى هذا الاعتقاد عندهم وأن من يتجرءون على إقامة أبنية تعلو على الكعبة ممن يرفضون هذا الاعتقاد كانوا يرون أن ما يشيدون سرعان ما يتهدم ويصير جزازا.

واستمر هذا الاعتقاد سائدا لفترة بين أهل مكة فى صدر الإسلام أن ابنا لشيبة بن عثمان ـ رضى الله عنه المنان ـ صعد جبل أبى قبيس ، وأمر بهدم المبانى التى رآها أعلى من بناء الكعبة المعظمة ، كما أمر بهدم المنزل الفخم الذى بناه محمد بن على بن عبد الله بن عباس أمام الحرم المحترم فى شارع المسعى الشريف ، لأنه يرتفع على البناء السعيد للبيت الأكرم. واهتم أهل مكة بالمحافظة على هذا الاعتقاد القديم السائد بينهم بشأن البناء الفخم للبيت المعظم.

وبناء على هذا الاعتقاد لم تظهر فى مكة المعظمة طوال عدة قرون أى مبان تعلو على بناء البقعة المشرفة للكعبة المكرمة. ولأنها ظلت تتميز على كافة الأبنية الموجودة لأزمنة طويلة بعلوها وارتفاعها ، لذا أطلق اسم الكعبة على البيت الأعظم. وذكروا أن هذا الاسم الشريف مشتق من كلمة كعب وإذ يوجد بعض

الرواة ممن يقول بأن تسمية الكعبة يرجع إلى أنها ذات أربعة زوايا أو أنها مرتفعة عن سطح الأرض مثل كعب الرجل ، لكن جمهور المؤرخين يصدقون القول الأول. ولأن الكعبة هى أشرف من كل البيوت والقصور الموجودة على وجه الأرض.

كما أنها من ناحية القدم الأفضل والأقدم كان ذلك سبب إطلاق هذا الاسم الشريف «البيت العتيق» على البيت المحترم وهو الدليل المطلق على شرف وارتفاع مكانة هذه البقعة المقدسة لأن البيت العتيق أحد أسماء البيت المكرم.

ويروى الحسن البصرى أن سبب إطلاق هذا الاسم أنه أول بيت أسس ليزوره بنو البشر ، وهو عند الإمام مجاهد أن الله حفظه وحماه من الجبابرة الذين أرادوا هدمه وتخريبه ، وفى قول قتادة سببه أن الله حفظه من طوفان نوح عليه السلام. وقال الفخر الرازى إن هناك عدة وجوه لاشتقاق هذا الاسم والقول أنه قديم له علاقة بكونه أقدم البيوت على وجه الأرض والسماء ، وأن الله قد حفظه من الطوفان وأهلك كل من أراده بسوء وأنه وجد قبل أن يكون لأحد مكان. والله تعالى يعتق من نار جهنم عباده الذين يزورون هذه البقعة المباركة.

وهذه الأقوال وما شابهها من أسباب كانت تقتضى أن يطلق على البيت المحترم اسم البيت العتيق.

وإلى أن انتقل حكم مكة المكرمة من أجداد حضرة الرسول عريق الأصول ذوى المعالى إلى قصى بن كلاب لم يكن فى هذه المدينة المعظمة بيوت أو مساكن. وكما وضحنا فى الصورة الثانية من الوجهة الثانية أنه عند ما أصبح ابن كلاب حاكما لمكة المكرمة ارتضى بإنشاء بيوت حول الكعبة ، وإذا كان رضاء ابن كلاب هذا قد جاء شديد الوطأة على الناس. ولم يجرؤ أهل مكة على بناء منازل بجوار كعبة الله دفعة واحدة رعاية للقاعدة القديمة إلى حد ما فإن عمرو بن السهمى لم يرع هذه القاعدة فبنى لنفسه منزلا خاصا بناه بناء على رأى وتصويب قصى بن كلاب واتبعه آخرون بعد ذلك فى هذه الخطوة الجريئة. وبدأ واحد تلو

الآخر فى بناء بيوت لهم. وسرعان ما أقيمت بيوت وحوانيت كثيرة لا مثيل لها واتسعت هذه المدينة المقدسة وملأها العمران.

الشكل الأول :

لم يكن العمران فى المدينة المقدسة مكة المشرفة عمرانا دائما ، فكانت فى بعض العصور حافلة بالعمران وفى البعض الآخر تعانى من الخواء وتصبح منازلها خاوية مهجورة ، وفى أوقات خلوها تكون خالية من الأهالى لدرجة أن حركة البيع والشراء فى الحوانيت التى فى شارع المسعى الشريف تتوقف تماما ، فتهبط الظباء من الجبال وتدخل الحرم الشريف ثم تخرج منه بعد الطواف وتعود من حيث أتت ، حتى إن قوافل بجيلة لا تجد إنسانا واحدا حتى تبيع له بضاعتها التى أتت محملة بها فتضعها فى مكان ما وترجع.

أما سبب كل هذا الفراغ فيرجع إلى أن أهل مكة لا يستطيعون تحمل ارتفاع درجة الحرارة ؛ فيهجرونها إلى الأطراف المحيطة بها.

وتراوحت أحوال هذه البلدة المشرفة بين القحط والرخاء والبركة والغلاء ، ولم يكن الأمر فيها يسير على وتيرة واحدة فتارة لا يوجد بها شىء يؤكل وتارة أخرى لا تستوعب الأسواق ما يرد إليها من حبوب ومواد غذائية. ويذكر فى تاريخ القطب المكى أحد مؤرخى مكة وهو يصف ويذكر أحوال مكة المعظمة قائلا : «إنى فى مرحلة الصبا كنت كثيرا ما أرى المطاف السعيد خاليا من الناس فكنت أطوف بمفردى». ، وهو يريد بهذه العبارة الإشارة إلى الفترات التى كانت مكة المكرمة خاوية بشكل ملحوظ ، وإلى المعاناة الكبيرة التى قاستها من القحط والغلاء فى الأوقات التى ذكرها القطب المكى ، كان أهل مكة قلة قليلة ، وكانت النقود المتداولة التى تزين الصناديق نادرة ، لذا لم يكن فى حوزة أحد من الأهالى قطعة نقود واحدة ، كما انتهت البضائع التى فى الأسواق ولم يكن يوجد فيها شىء من البضائع والأغذية.

واستمرت هذه الحال إلى عام ٩٥٠ ه‍ وعند ما انتقلت الإدارة المقدسة

للحرمين الشريفين إلى سلاطين آل عثمان ، بدأ الأهالى المجاورون فى التقاطر عليها يوما بعد يوم فتوفرت الأطعمة والبضائع بالتدبير وأصبحت هذه البلدة المشرفة فى موسم الحج تستوعب كل قوافل الحجاج التى ترد إليها واتسعت أرجاؤها وأصبحت قادرة على إيواء وإسكان كل الحجاج الذين يفدون إليها.

الشكل الثانى :

ما يقصده القطب المكى من قوله «إننى كنت أطوف بمفردى» هو إيضاح أن أجره وثوابه يكون أكبر لكونه يطوف منفردا ، والواقع أن الطواف عبادة خاصة فإذا استطاع إنسان أن يوفق فى طواف البيت الأكرم منفردا فلا شك أنه لن يحرم من ثواب كبير يكفى لطواف كل المؤمنين ، وخلو الحرم الشريف يكون قاصرا على بنى البشر فقط إنما لا يمكن أن تمر دقيقة واحدة عليه يكون خاليا من تدفق الملائكة الكرام وأصحاب الأجسام الشفافة اللطيفة ، ومن الأولياء ذوى الاحترام الذين تخطوا مراتب الزمان والمكان العالية.

ولأن هذه الحال فى الظاهر مخالفة لعادات واعتقاد أهل الاستدلال ، فإن كثيرا من الأشخاص قضوا أعمارهم كلها للحصول على لحظة واحدة للطواف بمفردهم حول الكعبة الشريفة.

لما كانت جميع العبادات وأقسام الطاعة الإلهية يشترك فيها الناس ، فطواف الكعبة منفردا يعتبر عبادة لله بدون شريك وإذا استطاع إنسان ما أن يطوف الكعبة بمفرده يكون قد عبد الله تعالى بدون أن يشاركه فيها أحد حسب ظاهر الأمر.

حكاية : يروى أن واحدا من الأولياء كانت لديه رغبة حقيقية فى أن يطوف بالكعبة المعظمة بمفرده ، وظل يتحين الفرصة لمدة أربعين سنة وفى النهاية وجد المطاف خاليا ذات ليلة فأخذ يطوف بمفرده. وفجأة رأى حية ضخمة تطوف معه فسألها قائلا «من أنت»؟ فأجابته الحية «إننى أتحين الفرصة التى تنتظرها من أربعين عاما بمائة عام من قبلك.

فأجابها الرجل الصالح : «أنت لست من بنى البشر لذا أعتبر من المحظوظين بنيل هذه الأمنية ، ثم أكمل طوافه.

ينقل أهل مكة هذه الحكاية ويروونها بشكل آخر فيقولون إن عبد القادر الجيلانى ـ قدس الله روحه ـ ظل يقيم بجوار العمود الأحمر الواقع أمام باب الزيارة لمدة سبع سنوات ، حتى يتمكن من الطواف بمفرده ولم يستطع أن يبلغ مراده طول هذه المدة وفى النهاية حدث سيل عظيم وبلغ ارتفاع الماء داخل المطاف السعيد حوالى ثلاثة أذرع ، ووجدها القطب الجيلانى الوقت المناسب لتحقيق أمنيته وبدأ الطواف سابحا لكنه رأى ثعبانا كبيرا يطوف معه سابحا فتأسف قائلا» وأسفاه لم أتمكن من تحقيق أملى».

ويروى محيى الدين بن عربى فى المسامرات نقلا عن طلق بن حبيب رواية قريبة من هذه الرواية ، يقول ابن حبيب بينما كان يجلس معه عبد الله بن عمرو بن العاص فى الحجر العظيم بدأ فجأة ظلام شبح داخل الحرم الشريف وأثار الموجودين فيه ، وإذا بثعبان عظيم دخل من باب شيبة ، واتجه نحو البيت الأكرم ، وخاف الذين شاهدوه وأفسحوا الطريق أمامه ، فطاف الثعبان سبع مرات ثم وقف خلف مقام إبراهيم مدة أداء ركعتين ثم بعد ذلك انصرف إلى جهة ، واقترب ابن حبيب وعبد الله بن عمرو بن العاص من الثعبان وقالا : أيها المعتمر تقبل الله نسكك وعبادتك ، فى بلدتنا بعض السفهاء ونحن ننذرك من عدم حذرك شرهم.

ما إن قلت هذا حتى راح واختفى فى طرفة عين ولم يعد له أى أثر وما كان الطواف حول الكعبة المشرفة للبشر وحدهم بل للحيوان كذلك ، كان يطوف طبق أصول مرعية.

(الإمام الأزرقى).

ولكى يثبت هذا الأمر فى تاريخه المسلسل الذى كتبه عن أحوال مكة ، يذكر صورة غريبة نقلها عمن رأوه يطوف بالبيت المحترم كما يطوف الناس.

طواف طائر بالبيت المعظم :

يقول الإمام إنه فى يوم السبت السابع والعشرين من شهر ذى القعدة فى العام السادس والعشرين بعد المائتين من الهجرة بينما الحجاج يطوفون فى وقت السحر إذا بطائر عجيب الهيئة يخطف البصر يدخل الحرم الشريف للمسجد الحرام مع طلوع الشمس عن طريق أجياد الصغير ويحط بجوار أحد قناديل زمزم الشريف الذى يقع بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم ، ويظل واقفا لمدة طويلة وأكثر الظن أنه من طيور البحر ، وبعد ذلك طاف وحط فى مكان بين الحجر الأسود الذى فى الكعبة والركن اليمانى ، ولكنه كان أقرب إلى الحجر الأسود. وكانت أجنحة هذا الطائر سوداء ممزوجة بالحمرة ، وكانت قدماه طويلتان دقيقتان وكذلك منقاره وعنقه. وطار من المكان المذكور يحط فوق كتف حاج يقف بمحاذاة الحجر الأسود ثم طار من فوق كتفه ليحط فوق الكتف الأيمن لحاج من حجاج خراسان. وبما أن الخراسانى كان محرما أخذ يلبى بصوت مرتفع وعند اللزوم يجرى ويدور فى وسط الحجاج.

وظل الطائر فوق كتف الخراسانى غير خائف من الحجاج وكان الحجاج الذين يطوفون مع الخراسانى ينظرون إلى تصرفاته بتعجب أما الطائر فكان يزداد سكونا وهدوءا رغم ازدياد تعجب الناس ودهشتهم ، ويبدو أن حال الطائر قد أثر فى الخراسانى لأن المسكين كان يطوف ويبكى والدموع التى تسيل من عيونه تبلل لحيته وتسقط على الأرض.

قال محمد بن أبى عبد الله بن ربيعة الذى رأى بنفسه هذا الحادث الغريب : «لقد رأيت ذلك الطائر فوق الكتف الأيمن للحاج الخراسانى وكان الناس يتدافعون لرؤيته. أما هو فلم ينفر ممن يتفرجون عليه بل أنه لم يول لهم أى اهتمام.

وكنت فى ذلك اليوم من الطائفين وكنت كل سبع مرات من الطواف أصلى ركعتين خلف مقام إبراهيم ثم أستأنف الطواف حتى أكملت واحدا وعشرين

شوطا حول الكعبة ، وكنت فى كل مرة أرى الطائر فوق كتف الخراسانى ، ومد أحد الطائفين يده ليلمس الطائر لكنه لم يطر ، وفى النهاية طار من تلقاء نفسه واستقر فى مكان بالجانب الأيمن من بناء المقام الشريف ، وحشر منقاره تحت جناحه ووقف لفترة طويلة ، واجتمع الناس حوله ليتفرجوا عليه وفجأة مد أحد أغاوات بيت الله يده وأمسك به ليريه لأحد أصدقائه ، فخاف الطائر وصاح صيحة مفزعة ، وكان الصوت لا يشبه صيحة الطائر.

وفزع الرجل من صوت الطائر وأطلقه فطار الطائر وحط فوق العمود الأحمر القريب من دار الندوة ، ثم طار من بين باب «زيادة الندوة» وباب العجلة فتوجه إلى نواحى جبل قعيقعان.

طواف الجن :

جاء فى رواية أبى الطفيل المدرجة فى كتاب المسامرات ، أن الكعبة كانت مطافا للإنس والجن قبل البعثة النبوية قال : كانت امرأة من الجن ساكنة فى الجاهلية فى مكان يسمى. «ذى طوى» ولم يكن لهذه المرأة سوى ابن واحد فقط وربت المرأة المذكورة ابنها حتى كبر وأصبح من أشراف القوم وتزوج ، وبعد سبعة أيام من ليلة زفافه أراد أن يدخل مدينة مكة المعظمة ليطوف بالبيت العزيز.

وأرادت الأم ألا تأذن لابنها بالذهاب فقالت «يا ولدى إننى أحفظك من سفهاء» قريش وأضن بك» ولكنها فى النهاية سمحت له استجابة لتوسلاته ، وبما أنها كانت تحب ابنها حبا جما ولن تستطيع على فراقه صبرا فقالت.

أعيذه بالكعبة المستورة

ودعوات ابن أبى محذورة

وما تلا محمد من سورة

إنى إلى حياته فقيرة

وإننى بعيشه مسرورة

وما أن أخذ الابن الإذن من والدته وسمحت له بالذهاب حتى تحولت هيئته إلى جنى وتوجه إلى الحرم الشريف ، وبعد الطواف عاد من طريق حى «بنى

سهم» فقابل فى الحى المذكور رجلا أحمر الوجه أحول العينين ، مفتوح الحاجبين ، أعسر اليد فقتله بدون وجه حق.

وعند ما علمت الأم بقتل ابنها وموته دعت أبناء قومها وشرحت لهم الأمر ، وحرضتهم على أهل مكة فانطلق داخل مكة فجأة ضجيج مدو وغمر المدينة تراب كثيف ودخان أسود واختفت تحته كل البيوت والجبال ، فلم يعد يرى شىء.

وكانت طوائف الجن وراء هذا العمل ، ضد قبيلة «بنى سهم» حتى إن رجال هذه القبيلة كانوا يموتون فجأة وهم فى فرشهم.

وأخيرا أدرك ما يقرب من سبعين شيخا أولى بأس لا يعرف الخوف سبيلا إلى قلوبهم حقيقة الأمر ، فجمعوا أفراد قبائلهم وصعدوا الجبال وظلوا هناك ثلاثة أيام متتالية ، مشغولين بقتل كل ما يرونه من الحيات والعقارب وسائر الحيوانات المؤذية وفى الليلة الثالثة سمعوا نداء من فوق جبل أبى قبيس يقول :

الإنصاف يا معشر قريش أصلحوا بيننا وبين رجال «بنى سهم» فقد قتل رجال القبيلة المذكورة الغالبية منا. بناء على هذا النداء عقد أكابر قريش صلحا بين «بنى سهم» وقبيلة الجان وأخذوا من كل واحد فيها العهد والميثاق على الآخر بألا يتعدى أحد على الآخر ، وقد أطلق بنى سهم على هذه الواقعة اسم عياطلة.

***

الصورة الرابعة التعريف بحدود كعبة الله بالفضائل الجليلة لمكة المكرمة

اتفق جمهور العلماء على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق البلدة المفخمة مكة المعظمة ، كما خلق المدينة المنورة ، وهما أفضل من كل بلاد الدنيا وممالكها وبالتالي فليس هناك بلد على وجه الأرض أجمل وأشرف من هاتين المدينتين المشهورتين.

يقول القاضي عياض في مؤلفه «الشفاء الشريف» : إن المدينة المنورة دار حضرة صاحب الرسالة هي أفضل وأشرف من كل البلاد والممالك ومن بعدها البلدة المفخمة «مكة المكرمة» وهو بهذا القول يريد أن يرجح «المدينة المنورة» على «مكة المعظمة» جاعلا حجته بأنها تضم قبر الرسول.

نظم

جزم الجميع بأن خير الأرض ما

قد حاط ذات المصطفي وحواها

ونعم لقد صدقوا بساكنها علت

كالنفس حين زكت مأواها

وإذا كان هناك من يؤيد القاضى المشار إليه فى هذا الشعر الصحيح المعنى ، إلا أن علماء السلف يختلفون فى تحديد صحة هذه المشاركة أى فى ترجيح كفة أى من «مكة المشرفة» والمدينة المنورة على الأخرى.

فيرى الإمام الأعظم أبو حنيفة والإمام الشافعى والإمام أحمد بن حنبل وكل التابعين لهم ، أن الحديث الصحيح القائل «بأن الصلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، والصلاة فى المسجد

الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فى مسجدى» هذا يعنى أن مكة المكرمة أفضل من المدينة المنور.

ويقولون إنها أفضل لأن ماء الحياة الطاهر تفجر من هذا المنبع ، وأن نور الإسلام الذى أشرق على الكون من ذلك البرج الرفيع انتشر وأضاء ولقد أنعم خالق الكون على هذه البقعة المقدسة بكثير من الفضائل الجليلة والخصال الحميدة.

كما أن المسجد الحرام سيد كل المساجد ، وكما أن موضع الكعبة المباركة قبلة الأحياء والأموات وهى سيدة كل البيوت المقدسة. وهو مهبط الوحى الجليل ومجمع الأنبياء وفيه دفن الرسل والأنبياء كما أنه يفضل كل البلدان بموجب الآية الآتية : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (سورة آل عمران : ٩٦).

وفى هذا المقام لا تستطيع أن تستبعد هذا السؤال الذى قد يجول بذهننا وهو هل يمكن الجمع بين هذه الآية الكريمة والآية العظيمة (طَهِّرا بَيْتِيَ) (سورة البقرة : ١٢٥).

بمعنى أن ملكية البيت المعظم أضيفت إلى الناس فى الآية الأولى وفى الثانية أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى.

وإذا أمعنا النظر فى هذا الموضوع وفكرنا قليلا يمكننا الإجابة على هذا السؤال على النحو الآتى : ـ

كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ يشير فى هاتين الآيتين إلى الآتى : «أيها المؤمن الموحد إذا كان البيت الحرام هو بيتى فإننى لم أضعه ولم أقمه لنفعى لأننى لست بحاجة إليه بل إننى وضعته لك أنت حتى يكون قبلتك عند ما تتوجه إلى بالدعاء.

ويذكر البيت الشريف فى الآية الكريمة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) (سورة آل عمران : ٩٦) بلفظ مبارك ويفهم من هذا أن للبيت الأكرم أفضال أكثر من أى بيت.

ويقول سيدنا على ـ كرم الله وجهه ـ «ومن دخله كان آمنا» أنه أول مكان اختصه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالأمان وبالبركة ويقول الحسن البصرى ـ رضى الله عنه ـ إن البيت الأكرم هو أول بيت خلق للعبادة على وجه الأرض ويقول الإمام مطرف إن البيت المحترم جعل أول قبلة للناس.

وكل هذه الأقوال تؤكد أن فضائل الكعبة المعظمة لا تعد ولا تحصى.

وفى الآية الكريمة ـ سالفة الذكر ـ كلمة «مبارك» الشريفة وهذا اللفظ الجليل يعنى أن هذه البقعة الشريفة مباركة إلى الأبد وأن بركتها فى تزايد مستمر فى كل لحظة وفى كل زمان وستدوم إلى الأبد.

ولأن الماء يدخلها باستمرار يشبهونها بحوض ماء العرض الإلهى ، من استخدام لفظ البركة وتشبيه البيت الأعظم بالحوض هو الإخبار عن دوام وبقاء وزيادة ونمو خيرات بيت الله والفضائل التى تدل على ذلك لا حدود لها وإنه بركة ونمو وتزايد.

وفضل الطاعة والعبادة بها يفوق أداء الطاعات والعبادات فى بقية البلدان وهذه الزيادة سمة جليلة يختص بها البيت الحرام.

هناك أحاديث كثيرة تفيد هذا المعنى والأحاديث الآتية التى سنذكرها تبين اثنان منها تزايد بركة الصلاة ، والآخران يبينان تزايد بركة الحج. وهذه الأحاديث هى قوله صلى الله عليه وسلم فيما معناه.

«أن فضل المسجد الحرام بالنسبة لمسجدى هذا كفضل مسجدى على سائر المساجد» و «أن الصلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه» و «من حج فلم يفسق ولم يرفث خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» و «وأجر الحج المبرور الجنة» (حديث شريف).

وعلى هذا التقدير يجب علينا أن نتصور أن المؤمنين الذين يقفون للصلاة جاعلين الكعبة الشريفة نقطة التوجه ويحيطون بها فى صفوف متلاحقة ، يجب

أن نتخيل ونتذكر أن المسلمين فى جميع أنحاء العالم ، متوجهين إلى تلك النقطة للصلاة فيزيد من عدد الصفوف فى أذهاننا قدر ما نستطيع.

بناء على هذا الحساب فإن الدوائر التى تحيط بالكعبة تخرج عن حصر عددها. وإن بين هؤلاء المحيطين بالكعبة مكان وجود بعض الصالحين المتوجهين نحو كعبة المعرفة.

لذا يجب على كل مصل عند ما يقف للصلاة أن يعرف أنه يقف بين كثير من أولياء الله الذين يتجهون بقلوبهم إلى كعبة المعرفة ، بينما يتجهون بأجسادهم لتلك النقطة المحسوسة ، وعليه أن يستفيد من أنوار أرواحهم العلوية.

إن هؤلاء الذوات الذين أردنا أن نحترمهم يتمتعون بنيات منيرة وقلوب وضمائر مقدسة طاهرة ، وأنهم بأجسادهم الظاهرة يتوجهون إلى تلك النقطة الموهومة أى الكعبة المشرفة بينما تتجه أرواحهم الضالة إلى كعبة المعرفة.

وأى إنسان نالت روحه فضل الاتصال بهذه الأرواح النيرة تزيد فى قلبه الأنوار الإلهية ، وتعظم فى أعماقه لمعات احتوائه للروحانية وأسرارها ، وهذا أكبر دليل على أن بيت الله مكان مبارك ، بما يحتوى من أسرار الهيبة وبقاؤه دائم وأبدى.

لأنه لا يخلو لحظة من العاكفين والساجدين والراكعين من الموحدين المؤمنين. وفى كل لحظة وآن يتجه الناس إلى كعبة الله للصلاة وقد قرر بقاؤه منذ أن خلق.

إذا ما تناولنا بالبحث لفظ «هدى» فكعبة الله كانت هدى للعالم بصورتين.

الصورة الأولى : أنها قبلة العالم التى يهتدى إليها فى الصلاة أو دلالتها على وجود صانع مختار ، وصدق نبوة نبى الله ، أو أنها تهدى إلى جنة الفردوس لأن الصلاة التى تؤدى بالتوجه إلى ناحية الكعبة الشريفة تدخل الجنة.

الصورة الثانية : لأنها تحتوى على الآيات البينات ، وإن كان المقصود بالآيات

البينات أن كل من وجد فى داخل حدود حرم كعبة الله المحرمة يتمتع بالأمن والذين يهتكون حرمة بيت الله يهلكون .. إلا أن الآيات المذكورة عبارة عن مقام إبراهيم عليه السلام.

وإن كان المقام الشريف قطعة من الحجر ، إلا أنها تجمع كثيرا من الآيات من هذه الآيات وجود آثار أقدام خليل الله فوق قطعة الحجر ، وانغراس قدميه الشريفتين فى هذا الحجر إلى الكعبين.

وبقاؤه محفوظا آلاف السنين خلافا لمعجزات الأنبياء الآخرين ، رغما على وجود كثير من الأعداء مثل اليهود والنصارى والمشركين والملحدين وكل ما ذكرناه من الآيات العجيبة الخاصة بالمقام الشريف ، يدل على أن المقام الشريف يشتمل على آيات كثيرة.

هناك ثلاث روايات عن مقام إبراهيم

الرواية الأولى : عند ما كان إبراهيم ـ عليه السلام ـ يبنى الكعبة ، استخدم حجرا كسقالة وقد طبع عليه آثار أقدامه.

الرواية الثانية : عند ما ذهب إبراهيم ـ عليه السلام ـ من الشام للحجاز لرؤية ابنه إسماعيل غسلت زوجة ابنه قميصه وهو واقف على حجر آثار قدميه المباركتين فوق الحجر.

الرواية الثالثة : أنه هو الحجر الذى صعد فوقه إبراهيم ـ عليه السلام ـ حينما دعا الناس لأداء الحج والذى أطلق عليه مقام إبراهيم وقد انطبعت آثار قدميه المباركتين فوق الحجر.

النتيجة : وتبعا للأبحاث التى قام المفسر «القفال» رحمة الله عليه ، يقرر أن هذه الوقائع الثلاث كلها صحيحة لأنها كلها وقعت فوق حجر واحد ، لكن الرواة لم يستطيعوا أن يبينوا الحقيقة فى أثناء نقل الروايات. انتهى.

والذين يزورون المشاعر ويؤدون مناسك الحج ثم يعودون ، وعد الله برفع وإعلاء درجاتهم ومحو ذنوبهم.

والحج مرة واحدة فرض عين على المستطيعين وحج جميع الناس فرض كفاية ولقد جعل الله المسجد الحرام حرما يوم خلق السموات والأرض.

والمقام الشريف لسيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ من المسجد الحرام ، ومكة المكرمة هى مسقط الرأس الشريف لمفخرة الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

أقام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذه البلدة ، ونشر الدعوة فيها بعد البعثة مدة ثلاثة عشر عاما على اختلاف الروايات وقد أشرقت شمس أفق الإيمان في هذه المدينة المشهورة ، ونزلت فيها أكثر آيات القرآن الكريم.

وهذه المدينة مقر «الحجر الأسود» والحجر السعيد وبئر زمزم ، ومع أنه فى واد غير ذى زرع إلا أن الأرزاق فيه متوفرة تأتيه من كل أقطار العالم وأهله فى تزايد مطرد يوما بعد يوم.

إخطار :

تكمن حكم كثيرة خفية وراء وجود مكة المكرمة فى واد غير ذى زرع ، ولكن العلماء الأعلام اكتفوا بذكر الحكم الخمس التالية.

الحكمة الأولى :

أن مجاورى البيت الحرام يقطعون الأمل من التعلق بغير الله ، وذلك بإظهار التوكل التام عليه سبحانه وتعالى تقدست ذاته.

الحكمة الثانية :

عدم طمع أحد من الأكاسرة وملوك الدنيا والحكام والجبابرة ، فى الإقامة حول بيت الله أو من السكنى بجوار كعبة الله.

ولا يمكن لهؤلاء الجبابرة أن يجدوا المتعة واللذة الدنيوية التى يسعون إليها فى واد غير ذى زرع.

وهكذا طهر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الكعبة الشريفة ، ونزهها من لوث بنى البشر الذين يعبدون الدنيا.

الحكمة الثالثة :

حتى لا تتحول الكعبة إلى متجر لأنها خلقت للحج والزيارة فقط.

الحكمة الرابعة :

لتقديس مكانة الفقر وشرفه.

الحكمة الخامسة :

من أجل إبراز أن كعبة المعرفة لا تحل إلا فى قلب خال من حب الدنيا وزخرفها ، وهذا يدل على علو فضل الكعبة المباركة علوا فوق العادة انتهى.

وإذا وضع مفتاح باب المعلا مفتاح مصباح السعادة فى فم طفل ألثغ (١) فبقدرة الله تحل عقدة لسان هذا الطفل.

ولا تحلق طيور السماء فوق الكعبة ، والحمام المريض يرقد فوق الكعبة فيشفى. تظل ساكنة بلا حركة فوق الكعبة المعظمة إلى أن تشفى. وبعضها يرقد فوق ميزاب الرحمة ليشفى ، وإذا هبطت الأمطار من أى جهة من أركان الكعبة المعظمة تعم البركة ، وتفيض بالخير والنماء البلاد التى فى تلك الجهة.

وأقصى ما يستوعبه بيت الله ـ المملوء بالفيض ـ خمسمائة شخص كما ذكرنا فى الصورة السادسة من الوجهة السادسة لأن مساحته ٦٥٦ قدم مربع ، ومع هذا إذا دخله بضعة آلاف من البشر دفعة واحدة ، فإنه يستوعبهم ويمكنهم أن يؤدوا عبادتهم فرحين فخورين.

وفى موسم الحج تدخله أعداد غفيرة من البشر ، ولو دخلت هذه الأعداد الكبيرة إلى أن مكان آخر لا بد أن يموت عدد منهم بأى حال من الأحوال. أما

__________________

(١) اللّثغ : فعله لثغ فلان لثغا : تحّول لسانه من حرف إلى حرف غيره ، كأن يجعل السين ثاء أو الراء غينا.

فى البيت الحرام ، فلم يحدث هذا إلا فى عام ٥٨١ ه‍ فقط ، ولأسباب قهرية توفى فيه أربعة وثلاثون شخصا.

ويقول «نورشتى» رحمه الله من شراح «المصابيح» فى إطار حديثه عن فضائل بيت العزة : «لقد رأيت الكثير من كرامات البيت الكريم فى فترة وجيزة منها : أن حمام الحرم الشريف لا يحلق فوق كعبة الله في أثناء طيره لا يعلو أكثر من ارتفاع تلك البقعة المباركة وبعد التقاط الحبوب التى تلقى له فى كل وقت يحلق فى الهواء ، ويطوف بالكعبة الشريفة ولا يرتفع بأى حال من الأحوال أعلى من بيت الله ، ومع هذا فإنه يقف فوق الشرفات والقباب التى بداخل الحرم الشريف. ولا يحط فوق سطح الكعبة الشريفة.

وقد رأيت عدة مرات أن المريض من هذا الحمام يرتفع فوق الأرض ارتفاعا مساويا لسطح بيت الله ويحلق بجناحيه. ويقف فوق الميزاب الذهبى أو فوق أحد أركان الكعبة ، ويظل واقفا هناك لفترة فى خشوع تام وخضوع.

وهو يرتعد. وبعد ذلك يتحرك معافى فيسلم تماما لكنه لا يطير أعلى من مستوى السقف الشريف» انتهى.

وفى أثناء الطوفان كان السمك الكائن في داخل حدود الله كان الكبير منه لا يأكل الصغير.

وعند حلول أوقات الصلاة ، وفى النصف الأخير من ليالى الأعياد وفى المناسبات التى يكثر فيها الناس فإن الحرم الشريف للمسجد الحرام يستوعب طولا وعرضا أية جماعة من الناس مهما زاد عددهم. كما لا ينبعث دخان من النيران التى توقد فى الشوارع وخاصة في البيوت والمساكن.

ومبانى بيت العزة ما زالت قائمة إلى الآن على صورتها وهيئتها التى أسسها عليها سيدنا إبراهيم ـ عليه وعلى نبينا التكريم ـ وهذا فى نظر أهل الاستدلال علامة وإشارة وضاءة تسترعى الانتباه يرتجف معها الوجدان ، لأن المبانى التى لم توضع تحت غطاء لا يمكن أن تحتمل تأثير الرياح والأمطار بضع مئات من السنين ،

مهما كانت درجة متانتها وقوتها. وإذا تم تجديدها مرة فإنها لا تبنى على نفس الشكل السابق لها.

وما زالت الأبنية المفخمة الشريفة حتى هذه اللحظة عرضة للرياح العاصفة والأمطار الغزيرة المستمرة ، وقد تم تجديدها لمسوغ شرعى إحدى عشرة مرة ، فلم يحدث أى خلل فى جدرانها كما لم يتغير شكل أصغر حجر وضعه عند التجديد فالركن اليمانى قد ارتج فى سنوات ٤٣٣ ، ٥١٥ ، ٥٩٢ ، ورغم أنه فى المرة الأولى سنة ٤٣٣ ، سقط منه قدر أصبع بعد أن تشقق ؛ إلا أنه لم يتغير أى طرف منه اكتفى فقط بإصلاح الموضع الذى سقط منه الحجر.

ومن خواص الكعبة المقدسة أن من يراها أول مرة إما يضحك أو يبكى.

وقد انتابنى البكاء ـ أنا الفقير كاتب هذه الحروف ـ عند رؤيتى الكعبة وظللت أبكى فترة. وكل من يتواجد حدود حرم الله ، سواء كان إنسانا أو شجرا ، أو حيوانا ينعم بالأمن التام بفضل الله تعالى.

وقال المفسر «النقاش» عليه رحمة القادر : «يا إلهى إنك تفضلت قائلا إن الداخل فى حرم المسجد الحرام يكون آمنا ، ولقد تحيرت فى فهم هذا الأمر!! فمم أكون آمنا؟! ودار هذا الخاطر فى وجدانى ذات ليلة؟ وعقب ذلك سمعت من ورائى من يقول «آمنا من النار» وعند ما لم أجد خلفى أو حولى أحدا أدركت أنه جواب من عند الله».

هذه الرواية تشير إلى المعنى الحقيقى للآية الكريمة : (مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (آل عمران : ٩٧) ويرى فحول العلماء فى هذه الآية معان كثيرة مثل : من اعتمر بنية التقرب إلى الله فهو يأمن نار جهنم يوم القيامة وقال خاتم الأنبياء ـ عليه أفضل السلام : «كل من يموت فى أحد الحرمين يحشر يوم القيامة فى زمرة الآمنين». (حديث شريف).

«وكل من يصبر على حر مكة المكرمة ساعة واحدة فى اليوم يباعد بينه وبين نار جهنم مسافة مائتى سنة».

«من حج فلم يرفث ، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (حديث شريف). وأن الله تعالى يلقى الرحمة والشفقة بقلوب الناس تجاه من يلجئون إلى كعبة الله.

ومن هذا القبيل : أن صحابة الرسول الكرام الذين كانوا فى معيته المباركة السعيدة ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أداء العمرة ، أمنوا عند دخولهم الكعبة من أذى المشركين والذين يحجون مرة واحدة فى العمر لا يعاقبون على ذنوبهم التى ارتكبوها قبل الحج. أما من أمن الحيوانات والأشجار ، فإن قطع النباتات والأشجار وصيد الحيوانات حرام تماما فى أرض حرم الله السعيدة.

وعلى هذا فالحيوانات الموجودة داخل الحرم الشريف. لا تخاف ولا تنفر من بعضها البعض ، فعلى الحيوانات أيضا أن تراعى الحكم الإلهى ، ولو أن كلبا تعقب غزالا وطارده ، واستطاع الغزال أن يلوذ بحدود الحرم ، فإن الكلب ينصرف عن مطاردة الغزال وينتظر إلى أن يخرج بعيدا عن الحرم. وإذا دخل الكلب أيضا أرض الحرم ، فإنه يمشى بجانب الغزال ، يتحاشى أن يصيبه بأذى.

ومن يدخل فى حدود الحرم من بنى البشر لا يحاسب على ذنبه وهو داخل الحرم.

وبما أن هذا الأمر كان مرعيا فى صدر الإسلام وكذلك فى الجاهلية ، فلو ارتكب شخص إثما أو قتل إنسانا ثم دخل المسجد الحرام لائذا به فيكون فى أمن من سلطة الدولة ، أو من ورثة القتيل وهكذا ينجو من المطاردة والفزع ، وتقى الحيوانات إضرار بعضها بعض فما بالك بإضرار بنى البشر ، وفى أيام «منى» التى هى أيام رمى الجمرات لا يهاجم النمل. والحشرات الطعام الملقى هنا وهناك ولا يلوثه ، رغم وجود كل أنواع الطعام مثل : العسل ، والمربى ، فإنها تلف حوله ولكنها لا تدخل فيه.

ومهما زاد عدد الحجاج ، فإن الأحجار التى يلقونها والجمرات ، لا تزيد ، ومعروف أن هذه الجمرات ترمى منذ آلاف السنين. ففى كل سنة ، يلقى حوالى

ستمائة ألف إنسان بالجمار أى يلقون حوالى سبعين حجرا لكل منهم ومع هذا فإنه لا تتراكم هناك الجمرات.

وإذا افترضنا أن الأماكن التى تتجمع فيها الجمرات في مجرى السيل أو فى مهب الرياح الشديدة ، لقلنا إن الماء الذى يسيل والرياح التى تهب تحمل الحجارة التى يلقيها الحجاج بعيدا إلا أن هذا المكان ممر ضيق بين سلسلة جبال ولا يتعرض للسيول ولا للرياح الشديدة العاصفة.

وهذه المميزات تدل على الأفضال المعنوية التامة لكعبة الله وهى مؤيدة بالخبر الصحيح الذى يقول : «كل من كان حجه مبرورا مقبولا فالجمرات التى يلقيها ترفع إلى السماء» (حديث شريف). بناء على بحث عبد الله المرجانى أنه لو نزف أنف إنسان وكتب على جبهته بدمه عبارة «مكة وسط الدنيا والله رؤف بالعباد» فإن النزيف ينقطع بإذن الله.

لو إن كان اليهود والنصارى يقدمون بيت المقدس على الكعبة فإن بانى بيت المقدس سليمان ـ عليه السلام ـ وبانى الكعبة خليل الرحمن الذى يفوق من حيث المناقب سيدنا سليمان ، ويلزم أن تكون الكعبة أشرف وأفضل من بيت المقدس.

أليس من الخطأ المحض أن يتصور أن هناك بيت أشرف وأفضل من بيت مالكه هو صاحب الجلالة الرب الكريم ، ومهندسه جبريل ـ عليه السلام ـ وبانى جدرانه خليل الرحمن ، وجالب أحجاره ولوازم بنائه وخادمه. إسماعيل عليه السلام.

استطراد

الميزات الخاصة ببيت الله ـ الكعبة ـ لا تعد ولا تحصى. ومما يختص به هذا البلد الأمين أن أحدا من السياح الأجانب لا يجرؤ على اقتحام حدودها.

وفى الرسالة التى نشرها سائح أوربى اسمه «جبون» تحامل على الإسلام واستخدم لهجة شديدة إذ قال «بما أن أهل مكة لا يسمحون للسياح الأجانب بالدخول إليها فإنهم يضطرون فى الكتابة عن وقائع الحجاز أن يستمدوا أخبارهم

من التواريخ الإسلامية ، أو من هؤلاء الذين يترددون على الحجاز «غير أن عددا من السياح المشهورين مثل : برق جارد من إيطاليا ، لودو ويقو بارتاما من روما وجوزيف تبس من أهل اكستر (١) قد زاروا المناطق الحجازية ، وسجلوا مشاهداتهم ، ووصفوا مشاهداتهم وصفا كاملا. وهذا يبين كذب ادعاء المدعو «جبون» من أخطائه. وترهاته نجمت عن تعصبه الفطرى الشديد.

لودو ويقو بارتاما ـ قد طاف فى عام ٩٢٠ هجرية بالأراضى الحجازية المباركة ، وكذلك «جوزيف تبس» فى عام ١١٠٧ هجرية وتجولا فى كل أرجائها وبعد عودتهما ، سجل كل منهما رسالة شاملة ، مفصلة فى معلوماتها عن أحوال منطقة الحجاز.

وكانت رسالة لودو ويقو بارتاما» التى طبعها عام ٩٢٨ ه‍ مكتوبة باللغة الإيطالية ، وقد ترجمت إلى اللغة الإنجليزية ، وطبعت ونشرت عام ٩٧٢ ه‍ ، كما طبعت رحلة «جوزيف تبس» باللغة الإنجليزية ونشرت فى إنجلترا عام ١١١٧.

وقد جاء فى رسالة «لودو ويقو بارتاما» أنه تظاهر بالإسلام ودفع إلى أحد الجمالين أموالا كثيرة ، ليرافق قافلة الشام إلى الحجاز حتى يستطيع أن يطلع بنفسه على أحوال الحجاز.

أما «جوزيف تبس» فقد ذكر فى رسالته أنه وقع أسيرا فى طفولته فى يد أحد الجزائريين ، وظل لفترة طويلة فى خدمته ، ثم رافق سيده فى رحلة الحج إلى الحجاز ، وعند عودته سجل مشاهداته كلها.

وقال «برق جارد» فى كتابه الذى نشره : «فى أثناء عودتى من واد فاطمة ، إلى مكة مررت بمكان يسمى وادى النعمان ، وكان مزدحما أشد الازدحام بالمترددين هناك من الحجاج أو المعتمرين ، رغم أنه مكان موحش مخيف وهبت عاصفة فاحتميت بسفح جبل لعدم استطاعتى الاستمرار فى السير ، وبقيت محتميا بسفح الجبل إلى أن هدأت شدة السيل والعاصفة».

__________________

(١) اكتسر اسم مدينة مشهورة فى إنجلترا.

ويقول مؤرخ آخر هو (يوما) : «لا يسمح لغير المسلمين بدخول مكة» ، ونحن شاكرون لهذا لأن برق جارد ، ذهب إلى هناك ، وجاء فى رسالته أن مكة المكرمة محاطة بمجموعة من الجبال السوداء والوديان خالية من الأشجار والأزهار.

والذى يرى منازل مكة وبيوتها ـ لأول وهلة ـ بعد الخروج من بين الجبال لا يستطيع إلا أن يشبه هذه المدينة بخزينة مجوهرات وضعت فى داخل محفظة خشنة غليظة سوداء ، لا يستطيع أن يقدر قيمة هذه الخزينة إلا المسلمون.

فشوارعها متوسطة ، ومبانيها منتظمة عالية والذى يرى مكة بعد رؤيته لبلاد أخرى لا يمكنه إلا أن يعجب ويتحير من انتظام مبانيها ودقة ترتبيها. وهذا القول منه يوضح خطأ ما ادعيناه فى هذا الأمر. وهذه العبارة المليئة بالثناء الجميل توضح كذب ادعاء الأوربيين.

وبناء على الفقرة الواضحة لبرق جارد والإفادة المفصلة ل «يوما» نستطيع أن نحكم أن الدخول فى مكة المعظمة ليس ممنوعا ، سواء كان من قبل الحكومة أو من قبل الأهالى. فإذا كان بعض السياح الأجانب لم يجدوا فى أنفسهم الجرأة الكافية لدخول حدود مواقيت مكة المكرمة فإن ذلك يرجع إلى الرهبة الإلهية المعنوية للبيت المعظم.

نعم لم يمنع أحد من زيارة الحرمين المعظمين ، حتى لو كان هدف الزائر هو الخيالة والسخرية والاستهزاء ، لكن فى هذه الحالة تأديب ذلك الشخص ومنعه من الزيارة يكون أمرا واجبا.

نعم باب الزيارة مفتوح فى كل لحظة وساعة ، إلا أن الزائر يجب أن يراعى لبس ملابس أرض الحجاز مثل الجبة والعباءة الطويلة والعمامة والكوفية حتى يحظى باحترام الناس ، وأما الأجانب بملابسهم الغربية لا ينالون التوقير بل يتعرضون للسخرية والاستهانة بهم وهذا أمر طبيعى.

لذا فالأمر يتطلب ممن يذهبون إلى تلك البقعة المباركة أن يلبسوا ملابسهم وهذا الأمر لمن يجوبون الوديان والصحارى فى غير أوقات الحج ، ولكن الذين

يقيمون فى مكة المكرمة أو المدينة المنورة يستطيعون أن يرتدوا الملابس الخاصة ببلدانهم دون أن يتعرضوا لسوء معاملة من الأهالى بل على العكس يلقون منهم ترحيبا واحتراما.

وكل أهالى الحرمين الكرام مجبولون على حسن استقبال الضيف فهذا من طباعهم الفطرية ، وهو أمر لا مجال لإنكاره ومن ينكر هذا فعليه أن يتذكر مجاورى الحرمين.

ورغم تحقيق الإمام مالك ـ رحمة الله عليه ـ صحة ما ذكر عن فضائل مكة المكرمة وآثارها المتدثرة بآيات الحكم ، إلا أنه يرى أن المدينة المنورة أفضل من «مكة المكرمة» ويؤيد رأيه قائلا : «إن المدينة المنورة مدفن رسول الرحمن أفضل من مكة المكرمة ، لأن رسولنا باعث خلق العالم ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا الله بقوله يا ربّ أنت تعلم أن قريشا أخرجتنى من البلدة التى أحبها فأسكنى يا رب البلدة التى تحبها» وكرر هذا الدعاء فاختار الله ـ سبحانه وتعالى ـ معطى العطايا المدينة المنورة دارا للهجرة النبوية. وإذا كان المكان هذا أحب البلدان إلى الله ـ عز وجل ـ فلا بد أن يكون ذلك المكان أفضل وأشرف من سائر البلدان.

وقد رأينا أنه من الأفضل التزام الصمت بخصوص هذه المسألة قائلين : الله سبحانه وتعالى أعلم ببواطن الأمور.

شعر

مكة التى هى قبلة أهل النجاة

حرسها الله من الحادثات

ترابها يبعث الحياة فى الموات

إن الورد خجل من شوكه وغثائه

لأن حصباء أرضه نجوم سمائه

حقا إنه لمن ضل الطريق دليله

جعل الأرض القاحلة جنة

جمع الدر وأصبح نعيم الجنة

ليس وردا ولكن نسيم سحره ينفح عطرا

ليس خمرا ولكن حانته تموج بالضجّة

ليس زرعا ولكن بيدره يهب الحب

ليس عرشا ولكن طوباه وارفة الظلال

ليس بستانا ولكن ثمره موفور

ليس سهلا ولكن زرعه مخضوضر

ليس زهرة حمراء مشتعلة ولكن فيه نبراسا

فى قلبه جراحات من الحسرات

حدود حرم الله ومواقيت كعبة الله المكانية :

قال المؤرخون : إن حدود الحرم الشريف لكعبة الله ، تبلغ ستة أميال من ناحية الشرق ، وثمانية عشر ميلا من ناحية الغرب ، واثنى عشر ميلا من ناحية الشمال وأربعة وعشرين ميلا من ناحية الجنوب.

أما مؤلف «تاريخ خميس» ، فقد قال : «لقد قست بنفسى بقياس المسافة ، ووجدتها ثلاثة أميال من طريق المدينة المنورة وتسعة أميال ، من طريق شعب آل عبد الله بن خالد الواقع ناحية جعرّانة».

وفى قول آخر : «عشرة أميال وسبعة أو تسعة أميال من طريق عرفات المسمى بطن نمرة».

وكتب مؤلف «نخبة الدهر» فى كتابه المذكور :

أنها ثلاثة أميال من جهة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وعشرة من طريق جدة ، وأحد

عشر ميلا من طريق الطائف ، وستة أميال من ناحية العراق. والأرض التى خارج هذه الحدود ليست من الحرم (١)».

وهذا الاختلاف لم يكن فيما يتعلق بتحديد أماكن ومواقيت مكانية أو تعريف نقاطها وإنما فى مقياس المساحة ، لذا فالمساحة بالنسبة لكل واحد منهم تخضع لحسابه وكلها صحيحة بالنسبة لحساب كل واحد منهم.

ويقول على بن بلبان الفارسى الحنفى مؤلف الكتاب المستطاب المسمى «عمرة السالك فى المناسك» نقلا عن الإمام الأزرقى (٢) : إن ميقات أهل المدينة عند التنعيم وهو مكان قريب من «بيوت تغاره» الواقعة جهة المدينة على مسافة ثلاثة أميال من مكة المعظمة.

ويقول : الإمام مالك رضى الله عنه : إن أهل المدينة المنورة يحرصون ويبدءون فى التلبية من قرية ذى الحليفة.

وهذا المكان اللطيف يقع عند البئر المسمى بئر على ومسجد الشجرة وهو على مسافة تسع ـ وعلى رواية عشر ـ مراحل من مكة المعظمة من ناحية المدينة المنورة ويقول البعض عن سبب تسمية بئر على أن الكرار ـ عليه رحمة الله ـ قاتل الجن هناك ، لذا أطلق على هذا البئر اسم بئر على ، لكنها رواية مختلقة لا أصل لها.

و «ذو الحليفة» أبعد مكان عن مكة من ناحية الميقات وهى أطلال قرية مشهورة ، وقد أراد رسول الملك المتعال أن يحرم أهل المدينة هناك تعظيما لأجرهم

__________________

(١) الجبال والوديان والصحارى.

(٢) الإمام الأزرقى هو الإمام أبو الوليد محمد بن عبد الكريم المكى ، المعروف بالأزرقى وهو من أعلم العلماء وهو أول من كتب عن تاريخ مكة. وتلاه فى كتابة التاريخ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهى. وثالثهم سيد تقى الدين محمد بن أحمد بن على الحسينى وبعده الحافظ نجم الدين عمر بن محمد بن فهد الشافعى ، ثم الشيخ عز الدين بن عبد العزيز وهو ابن الحافظ نجم الدين وآخرهم القطب المكى. وقد كتب كل منهم كتابا فى التاريخ باللغة العربية أما القطب المكى فى تاريخه فقد نقل وروى بالذات عن الشيخ عز الدين ونقل وروى بالواسطة عن سائر المؤرخين.

وثوابهم وقد ذكر «ابن بلبان الفارسى» فى صدد تعريفه وتعيينه لميقات أهل اليمن أن المكان الذى يحرم عنده اليمنيون هو منطقة «أضاة اللبن» الواقعة على مسافة سبعة أميال من مكة المفخمة من جهة اليمن ، وقد ركز هناك علمان لتعيين هذا المكان الذى يبدأ عنده ارتداء ملابس الإحرام.

و «أضاة اللبن» لا بد وأنه الموضع المسمى «يلملم» على مسافة مرحلتين من مكة المعظمة. ومكان إحرام المصريين هو مدينة «رابغ» القريبة من الجحفة ميقات أهل الشام. أما المكان الذى يحرم منه أهل نجد فهو أعلى ربوة فى تهامة ، أما الذيت يتوجهون للحج عن طريق الشام الشريف فإنهم يحرمون في المكان المسمى جحفة ، وجحفة هذه أطلال قرية تقع على مسافة خمس مراحل وعلى قول ست مراحل من مكة المكرمة ، والاسم الأصلى لقرية جحفة كان على وزن مهيعة ، ذلك أن جماعة من العمالقة سكنوا فيه وذات ليلة اجتاحهم السيل وقضى عليهم تماما ، لذا أطلقوا على سكان أطلال هذه القرية اسم جحفة.

قال ابن بلبان الفارسى : رغم أن الرواية تقول إن الحجاج القادمين من طريق العراق يحرمون من نقطة «ثنية الهيك» الواقعة على بعد سبعة أميال من مكة المعظمة ، إلا أن الإمام مالك قال ـ كما جاء فى كتاب ـ أحسن المسالك : إن قوافل حجاج العراق تحرم من موقع قرية قرن وهو المكان المسمى قرن المنازل. وقد استقر حول المكان المذكور جماعة «قرن» التى انفصلت من قبيلة «مراد» وحضرة «أويس القرنى» (١) من أفراد هذه الجماعة.

وإذا قرئ لفظ قرن بسكون الراء فهو اسم جبل ، وإذا قرئ بفتح الراء فهو اسم طريق يقع بجوار الجبل المذكور ، وتقع مكة المشرفة شرق الجبل المذكور بمرحلتين. ورغم أن الإمام الفاكهى قد ذكر أنه يوجد جبل باسم قرن على بعد

__________________

(١) سيد التابعين : له ذكر فى صحيح مسلم وكان ـ رحمه الله برّا بأمه ، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «من لقبه منكم فمروه فليستغفر لكم» ، الحديث. لقى الله شهيدا يوم صفين مع على رضى الله عنه. ترجمته مطولة فى الإصابة ١ / ١١٨ ـ ١٢٠ رغيرها.

ألف وخمسمائة ذراع من مسجد الخيف (١) إلا أنه غير «قرن المنازل» لأن ذلك الجبل يسمى ، قرن الثعلب.

وقد قام شخص بترتيب ونظم الأبيات الآتية للتوفيق بين الروايات المختلفة.

شعر

عرق العراق يلملم اليمنى

وذى الحليفة يحرم المدنى

للشام جحفة إن مررت بها

ولأهل نجد قرن فاستبن

وقد ذكر فى هذه الأبيات اسم الميقات الخاص بأهل كل جهة ، وفى الأبيات التالية سنعرف أبعاد كل ميقات فى مكة.

شعر

وللحرم التحديد من أرض طيبة

ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه

وسبعة أميال عراق وطائف

وجدة عشر ، ثم تسع جعرانة (٢)

فتوح الحرمين

إن جبل رابغ ، هو ميقات حجاج بلاد الروم والأناضول ومن يتوجهون للحج بحرا عن طريق قناة السويس ، وكل باخرة تحمل الحجاج عند ما تصل إلى محاذاة جبال رابغ ، يبلغ الحجاج الذين على ظهرها مبدأ الإحرام ويستخدم مرشد ماهر من أبناء العرب فوق كل باخرة للقيام بهذه المهمة.

__________________

(١) يقع هذا المسجد أمام مسجد المرسلات فى «منى».

(٢) هذه الأبيات لشخص يدعى ابن الملقن.

أسماء الذين جددوا أميال المواقيت :

إن حدود حرم كعبة الله هى المواقيت التى ذكرت وعرفت فيما سبق ، يقول الإمام الأزرقى أنه عند ما هبط آدم ـ عليه السلام ـ على الأرض انتابه إحساس بالخوف والرهبة من وحشة الفراغ ، واستعاذ بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ولجأ إليه فأنزل الله إلى الأرض ملائكة كثيرين لإزالة هذا الخوف والرهبة من نفس آدم ـ عليه السلام ـ وأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الملائكة أن يقيموا حول مكة المعظمة ، وبذلك تعين حدود حرم كعبة الله ، وهو المكان الذى أحاط به الملائكة من كل الجهات.

وفى قول آخر أنه عند ما أنزل الحجر الأسود من خزائن الجنان فى البلدة المقدسة لكعبة الله ، تحددت حدود الحرم بما بلغه من النور والضياء المنعكس من الحجر الأسود فى كل الاتجاهات ، وهذه الحدود هى المواقيت المكانية السابق ذكرها.

ويقول الإمام الأزرقى : إن آدم ـ عليه السلام ـ ثبت علامات فى المواقع المذكورة لتعين حدود حرم الله ، وللحفاظ على هذه الحدود أرسل الله ـ سبحانه وتعالى ـ كثيرا من الملائكة العظام للقيام بهذه المهمة.

وقد طمست هذه العلامات التى وضعها آدم ـ عليه السلام ـ ولم ير لها أثر ، فعرف الله ـ سبحانه وتعالى ـ حضرة الخليل الأماكن التى وضعت فيها هذه العلامات من قبل أبى البشر ـ عليه السلام ـ فأعاد إقامة الأحجار فيها مرة أخرى. وكان برفقة إبراهيم ـ عليه السلام ـ عند ما أعاد وضع العلامات ابنه إسماعيل ـ عليه السلام.

وبمرور الوقت طمست الرمال الأحجار التى وضعها إبراهيم ـ على نبينا وعليه التفخيم ـ وغابت عن العيون ، وفى عهد عدنان بن أد أصبح من الضرورى تعيين هذه الحدود بين مناطق الحل والحرم ، لذا تقصى عدنان بن أد المشار إليه أماكن الأحجار التى وضعها خليل الرب الجليل حتى وجدها فأقام فى أماكنها مبان قوية

من الطين والحجارة هى تلك العلامات لكى لا تطمس بسهولة وبعد ذلك قام قصى بن كلاب بن مرة بإعادة ترميم العلامات وتجديد بناءها وجعلها أمتن وأقوى.

وبعد قصى بن كلاب لم يتم ترميم العلامات وتعميرها ، وفى يوم فتح مكة «ذلك اليوم الميمون» كلف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوحى من قبل الله بترميم مبانى المواقيت وتقويتها.

وبعد ارتحال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان بن عفان ومن بعده معاوية بن أبى سفيان ومن بعده عبد الملك بن مروان ، قاموا كلهم بتقوية مبانى العلامات التى بناها عدنان بن أد وذلك لتحديد المواقيت المكانية الشريفة.

وفى عهد خلافة المقتدر بالله العباسى تم إصلاح وتصويب علامات مسافات الأميال المذكورة. وفى سنة ٣٢٥ ه‍ قام الراضى بالله من خلفاء العباسيين بوضع علامات «العمرة كما قام بعده بفترة مظفر حاكم أربل بوضع علامات «عرفات» وهذا لأنه لم تكن قبل عهد «الراضى بالله» علامات للعمرة ، ولم تكن هناك علامات لتحديد أماكن عرفات قبل حكم المظفر. وكان للسلطان» أحمد خان الأول العثمانى ـ طيب الله ثراه ـ شرف تجديد علامات عرفات.

ومن ذلك الوقت يطلقون اسم الحرم على المكان الذى داخل حدود العلامات الموضوعة لتحديد حدود الميقات ، ويطلق اسم الحل على خارجها.

***

الصورة الخامسة فى توضيح المسائل الهامة الخاصة بإيجار واستئجار بيوت هذه المدينة المفخمة للإقامة فى مدينة مكة المعظمة

الإقامة فى مكة المكرمة مكروهة عند العلماء ، وقد قيل فى هذا أن طول فترة البقاء يورث فقدان حرمة بيت الله فى النفوس. وبمقارنة ما يشعره الإنسان من ألفة واستئناس عند ما يسكن فترة طويلة فى البلاد الأخرى يخشى أن الإقامة الطويلة قد تزيل من القلوب ما يجب من التعظيم والتوقير نحو كعبة مكة المعظمة ، وهذا شىء طبيعى فى الناس. والأولى بأهل الإيمان أن يقيموا فى بلادهم مبدين الشوق والحب لكعبة الله من بعيد.

وكان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى زمن خلافته يأمر أن يعود الحجاج إلى بلادهم بمجرد عودتهم من عرفات حتى يحافظ على حرمة الكعبة فى قلوب الناس وهيبتها. وكان يستحث القوافل على الرحيل مرددا النداء يا أهل اليمن ، يا أهل الشام ، يا أهل العراق ، سيروا إلى بلدكم ، فإنه أبقى لحرمة بيت ربكم» وكأنه كان يعيد معنى الحديث الشريف : «من فرغ من حجه فليعجل بالرجوع إلى أهله» (حديث شريف).

أصح مثال الذين يرومون مجاورة الحرم الشريف يستأنسون بغير الله بينما يقيم الرجال الصالحون في بلاد بعيدة وممالك نائية وقلوبهم أكثر قربا لبيت الله ممن يطوفون حول المقام السعيد.

وحيثما يكون الإنسان فى أى مكان وتغويه نفسه بعصيان الله بارتكاب ما يحرمه ثم ينصرف عن هذه النية قبل أن يشرع فى تنفيذها أو القيام بما جال بخاطره فلا تكتب عليه سيئة. أما من يقيم فى مكة المكرمة ويجول بخاطره القيام

بما حرمه الله فيكون آثما ، وإن لم يرتكب ما جال بخاطره وتكتب عليه سيئة فى صحيفة أعماله.

وبناء على هذا الأمر استوطن عبد الله بن عباس الطائف ، وقال ابن مسعود : «لا يوجد بلد غير مكة يؤاخذ فيه بالهمّ قبل الفعل ـ يعنى فعل السوء».

حكاية : يقال إن رجلا استودع أحد أحبابه أمانة ليحفظها له لفترة ، ولكنه كان امرأ سوء فقرر ألا يعيد الأمانة إلى صاحبها وأنكر أنه أخذها بل اجترأ على القسم بذلك أمام كعبة الله. وفي نفس الليلة التى أقسم فيها مات وتحول وجهه إلى وجه كلب.

حكاية أخرى : يروى أن رجلا آخر فى أثناء طوافه بالكعبة لمح معصم امرأة جميلة كانت تطوف بجواره ، فمد يده لذراع المرأة ليتلذذ بملامستها. ولأن المرأة كانت عفيفة صالحة فقد تضايقت من تصرف الرجل ، وتعلقت بجدار الكعبة وهى تنوى أن تشكو هذا الأمر إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ صاحب البيت المشرف.

ولكن الرجل لم يقتنع بالوقاحة التى ارتكبها ، وسار فى أعقابها ومد يده إلى المرأة للمرة الثانية وعلى الفور شلت يده التى مدها فصار أكتع «نعوذ بالله تعالى» انتهت.

وهكذا تكون نهاية من يرتكبون الآثام فى الحرم الشريف ويلقون جزاءهم بما اقترفوا ـ حفظنا الله جميعا ـ آمين. الحرم الشريف للمسجد الحرام ليس مكانا خاصا لأداء الصلاة فقط مثل سائر المساجد ولا يحد بجدران المسجد ، بل يمتد ليحتوى كل الأراضى المقدسة داخل المواقيت المكانية المعلومة ، لذا فإن الباحثين المدققين من الأسلاف الذين اختاروا المجاورة فى مكة المكرمة ، كانوا يخدمونه بتبصرة تامة وانتباه كامل.

قصة غريبة : كان وهب بن رودكى أحد أولياء الله الذين لهم باع طويل بحقائق المسجد الحرام ، انتهز الفرصة المناسبة لتنبيه الذين اختاروا المجاورة في مكة المكرمة فقال : «كنت أصلى ذات ليلة فى حجر إسماعيل ، وفجأة سمعت صوتا

من وراء ستار الكعبة ، فأنصت إليه فإذا بالكعبة ذاتها تقول : «يا جبريل أشكو إليك بعد الشكوى إلى الله الحق من أهل الهوى الذين يتفوهون بكلمات تدل على انصرافهم للهو ولغو الكلام فى أثناء وطول مصاحبتهم ، فإن لم يستغفروا ويتولوا عن ذنوبهم ويتخلصوا مما اقترفوا فسوف أنتفض انتفاضة قوية بحيث يتطاير كل حجر من أحجارى إلى الجبل الذى أخذ منه وهكذا أزول فى الحال «وما إن سمعت هذه الشكوى والحوار بين الكعبة والرسول الجليل حتى اعترانى الاضطراب والرجفة.

ويتناقل هذه الحكاية الغريبة من سمعوها من وهب نفسه ، ويوصون الحجاج بألا يحرصوا على الإقامة بمكة بعد الرجوع من عرفة.

وقد أجاب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ على سؤال طرح عليه لتوضيح هذه المسألة وكان السؤال : هل العودة بعد الحج أفضل أم الإقامة بمكة للمجاورة؟

فأجاب : إن العودة بعد الحج أفضل.

وإذا كان الإمام مالك يرى أنه يكره المجاورة ، فإن الإمام أبا حنيفة يروى عنه فى رواية صحيحة أنه قال «يجب على الذين ينتهون من أداء الحج أن يعودوا إلى بلادهم وأولادهم وزوجاتهم» غير أن الإمام أبا يوسف والإمام محمدا والإمام الشافعى والإمام أحمد بن حنبل لم يتشددوا فى هذا الأمر اتفقوا بأن مجاورة مكة أمر مستحب.

أما الإمام الأعظم فأفتى بكراهية مجاورة مكة المكرمة ، وذلك لملاحظة أن عامة الناس يعجزون عن رعاية حقوق الحرم المحترم ، وفى الواقع أن طوائف العامة لا يراعون حرمة الكعبة المعظمة حق رعايتها.

والمقصود من كراهة المجاورة بالنسبة للإمام الأعظم ليس مجرد الإقامة في مكة المكرمة ، بل إنه يذكر محظورين يجب اجتنابهما أحدهما : أنه كلما طالت الإقامة فيها يأنس القلب بالبيت ويألفه لأن تكرار المشاهدة وكثرتها تؤدى إلى

التقليل من حرمة بيت الله عند النظر إليه. والآخر الخوف من ارتكاب المعاصى التى تؤدى إلى فساد الأخلاق والفسق فى حرم الله نعوذ بالله تعالى من هذا وما أتعس المؤمن الذى تعرض لارتكاب هذين المحظورين. وهذا ما تؤكده الآية الكريمة : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (الحج : ٢٥) وما تفيده الآية الكريمة أن كل من يعدل عن الحق ويرتكب الظلم والجور قاصدا معصية الله فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سيذيقه عذابا أليما.

أما من كانوا مفطورين على إعزاز البيت الشريف وإجلاله عند ما يرونه كل مرة يعتريهم الخشوع والمهابة والدهشة. كأنهم يرونه أول مرة إذا كانوا قادرين على ذلك فمما لا شك فيه ولا شبهة أن نعمة المجاورة سعادة فوق الوصف ومبعث الفخر والسرور.

ومع هذا فإن كراهية مجاورة مكة خاصة بالمسلمين الذين عاشوا فى العصور السابقة ، وأما الآن فقد تغيرت الدنيا واضطر المسلمون أن يختلطوا بالأجانب وأن يتأثروا بأخلاقهم ، كما أن أسباب المعيشة اضطرت الناس إلى المقابلة بالتقى والشقى ، لذا فأولى بالنسبة لصفاء النفوس أن يلجئوا إلى بلدة الله أو إلى البلدة الطيبة لرسول الله حيث يلوذون إلى الله الغفار راجين عونه ورحمته.

وبما أن الكعبة وما حولها مقر الأنبياء والأولياء فمن المرجو أن يتأثر هؤلاء الضعاف من المسلمين بهم ويقتدوا بهم وهم يداومون فى الطواف حول بيت الله.

يقول الإمام اليافعى فى كتابه المسمى «روض الرياحين» :

«يرى أحيانا الملائكة الكرام والأنبياء العظام وخاصة الأولياء الكرام ذوى الاحترام حول الكعبة وجوارها ، وأكثر ما يرى فى ليالى أيام الاثنين والخميس والجمعة ، ويروى أنه يشاهد إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأولاده عيسى عليه السلام وجماعته فى حجر إسماعيل وفرق الملائكة عند الحجر الأسود ، وسيد الأنبياء عليه وعليهم التحيات ، وأهل بيته والصحابة والأولياء أمام الركن اليمانى.

وقد ثبت تضاعف الأجر والمثوبة الحسنة عند الأكثر فى مكة المكرمة ، إلا أن السيئة تظل سيئة واحدة بينما الحسنة يضاعف ثوابها.

ومن المتفق عليه أن أولياء الله يترددون على المسجد الحرام عند ما يكون خاليا ، ومن يحظى بنظرة أو التفاتة من هؤلاء الصالحين ينل سعادة عظيمة كما برهن عليه كبار العلماء. نفعنا الله ببركات أنفاسهم.

وقصر النظر على البقعة المقدسة للكعبة المعظمة هو عين العبادة ، وتغفر ذنوب الذين ينظرون إليها بمحبة كاملة وإيمان صادق واحتساب ، ومن يقصرون نظرهم على الكعبة وحدها فلهم أجر طاعة وعبادة سنة كاملة.

وينظر الله الحق إلى الخلائق ٣٦٠ مرة كل يوم ، وأول من يكون محط نظره ـ سبحانه وتعالى ـ هم أهل مكة ، ومن ينل من هؤلاء نظرة الله وهو قائم يصلى أو فى حالة طواف أو حال استقبال الكعبة يغفر لهم ذنوبهم ، أو حتى النائمين يلحقون بزمرة المغفور لهم.

وثواب من يكون فى مكة المفخمة ويقضى أيام رمضان صائما ولياليه قائما يعادل ثواب من يقضى الليل قائما والنهار صائما فى رمضان مائة ألف رمضان فى غيرها من البلدان ، وسوف تحشر مكة المعظمة يوم القيامة مثل العروس عند الزفاف ويتعلق بأستارها الحجاج والطائفون ويدخلون رياض الجنة وهم يطوفون حولها.

نظم

بما أنك تسكن هذا الدير بأدب

فعليك أن ترعى أصول الأدب

إن الشوق يزداد لأن ما كان إنما كان نارا

أيما امرئ كان مجاورا في هذه المحلة

كان زواره أكثر من أحجارها

يجدر بمن هو كامل الأدب

أن يصل الليل بالنهار بشوقه

يحكى أنه أكثر من ذلك

من كثرة ما خربت بالدره

من خلف عن قافلة الحج

فلن يتسع العذر لذلك

ولا يحترم حرمة هذا البيت

حينما يفكر فى الطواف به

لا يرعى أصول الأدب

أنت تتغافل عن التشكيك

وأصبحت بذلك آثما عاصيا

لقد تجاوزتنا فى سوء الأدب

وليس لنا موضع من هذا الوضع

(فتوح الحرمين).

خلاصة مسألة إيجار البيوت :

بمراجعة الكتب الفقهية لمعرفة ما إذا كان إيجار البيوت والمنازل فى مكة المكرمة جائزا أو غير جائز شرعا ، وإن فهم هذا الموضوع يكون ممكنا بالرجوع إلى الكتب الفقهية.

ولما كان أخذ إيجار المنازل من الحجاج الذين يفدون إلى مكة ليس حلالا ، لذا كان الأوائل يأخذون ثمن الإيجار فى السر والخفاء حتى أن عمر بن الخطاب أمر

أن تترك أبواب بيوت مكة مفتوحة فى موسم الحج حتى يسكن الحجاج فى المنازل الخالية ، كما كان لعمر بن عبد العزيز أوامر مشددة إلى أمراء الإمارة الجليلة لمكة المكرمة بألا تؤجر بيوت مكة إلى الحجاج.

وقد أجاز الإمام محمد والإمام أبو يوسف أن تباع بيوت مكة مع الكراهة ، إلا أن الإمام الأعظم قال إنه مكروه فى كل الأحوال. وقد أفتى صاحب الواقعات فى هذه المسألة ورجح القول الأول.

وحسب قول مؤلف «عيون المسائل» إن الإمام الأعظم قال فى رواية : «إن بيع بيوت مكة جائز». كما أن الإمام أبا يوسف قد رجح هذا القول على ما عداه من أقوال. وبالنظر إلى قول المرحوم «قوام الدين» فى شرح الهداية أن بيع بيوت مكة جائز باتفاق العلماء. وبما أن كل بناء ملك بانيه وأن المبانى التى أقامها الأشخاص على أراض موقوفة يستطيعون بيعها شرعا فبيع بيوت مكة جائز أيضا.

وطبقا لما نقله ورواه صاحب التقريب ، فقد رأى الإمام الأعظم أن إيجار بيوت مكة مكروه ، وقال : والذين يفدون إلى مكة من خارجها. إذا لم يجدوا مبانى خالية لسكناهم أفلا يسكنوا فى بيت بالإيجار ، كما أيد الإمام محمد هذا القول بما ورد فيما معناه «أن من يعيش حتى يأكل من ثمن إيجار بيوت مكة يدخل النار». إلا أن الدار قطنى عد هذا الحديث من الأحاديث الموقوفة.

وفى رواية أخرى للإمام الأعظم عن كراهية الإيجار لمن يأتون فى مواسم الحج وليس للمقيم. فبما أنه لا توجد ضرورة بالنسبة للمقيم فمن الجائز إيجار المنازل لهم. ولا يجوز إيجار البيوت لمن تتبين حاجتهم الضرورية فى موسم الحج. وقال لنسكن هؤلاء فى المنازل الخالية رحمة الله ـ تعالى ـ عليه وعلى سائر الأئمة أجمعين رحمة واسعة.

وفى عصرنا الحالى يؤجر أهل مكة بيوتهم للحجاج ويسكنون هم فى وقت الحج فوق أسطح منازلهم ، وبهذه الطريقة يسكبون أموالا تكفى لإعاشتهم وأولادهم سنة كاملة.

الوجهة الثانية

تحتوى على ثلاث عشرة صورة مرتبة تضم أقوال المؤرخين التى ذكرت حول تفاصيل بناء مكة المعظمة وعمارتها ، وعن الذين قاموا ببناء هذه البقعة المقدسة المباركة ، وأسباب تجديدها وتعميرها وإنقاص مساحتها وتوسيعها.

الصورة الأولى

تعرض الأقوال التى ذكرت فى أوليات بناء الكعبة

ذكر مؤرخو السلف أقوالا متباينة كثيرة حول عدد مرات تجديد بناء كعبة الله العليا ، واختلفوا فى أقوالهم وأطالوا فيها وقرروا أخيرا أنها جددت سبع مرات على قول بعضهم ، وعشر مرات بناء على أقوال الآخرين.

واعتمادا على الرواية المنقولة عن زين العابدين والد الإمام الباقر ـ رضى الله عنه ـ قال المؤرخون : «إن الملائكة هم البناة الأوائل لهذه البقعة المقدسة».

والذين يقولون إنه تم تجديدها سبع مرات يذكرون أن تجديدها تم على النحو التالى : المرة الأولى بناها الملائكة الكرام ، وفى الثانية جددها سيدنا إبراهيم ، وفى الثالثة جددها العماليق ، وفى الرابعة طائفة الجراهمة ، وفى الخامسة قبيلة قريش ، وفى السادسة عبد الله بن الزبير ، وفى السابعة جددها الحجاج الظالم.

أما الذين يقولون إنها أعيد بناؤها عشر مرات فيذكرون أن الملائكة العظام بنوها فى المرة الأولى وفى الثانية بناها أبو البشر آدم ـ عليه السلام ـ وفى الثالثة سيدنا شيث وأولاده وأحفاده. وفى المرة الرابعة إبراهيم الخليل ، وفى الخامسة أفراد قبيلة العماليق وفى السادسة عشائر جرهم ، وفى السابعة قصى بن كلاب بن مرة وفى الثامنة قريش قبل البعثة النبوية وفى التاسعة عبد الله بن الزبير ، وفى العاشرة جددها الحجاج بن يوسف الثقفى الظالم ، كما قام السلطان مراد خان الرابع من سلاطين العثمانيين العدول بتجديد البناء الرصين الأركان لكعبة الله فى المرة الحادية عشرة ، وما زالت على تلك الصورة التى جددها عليها إلى الآن.

شعر

بنيت الكعبة أحد عشر مرة فاعلم

الملائكة وآدم وأولاده والرابع إبراهيم

والعمالقة وجرهم وقصى وقريش أقاموها

وتاسعهم الزبير الذى أقامها وكرمها

كذلك الحجاج شىء أتمه

لقد فرق الحطيم وكأنما رممه

وأرادها السلطان مراد التجديد

وكان الحادى عشر بتاريخه المجيد

سنة ١٠٤٠

الصورة الثانية فى تفصيل وبيان كيفية بناء الكعبة المعظمة للمرة الأولى

خاطب خالق الأرضين والأفلاك تعالى شأنه عن الفهم والإدراك الملائكة العظام بقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة : ٣٠) ، وذلك ليبدى لهم بأنه ـ سبحانه وتعالى ـ سيخلق أبا البشر آدم ليكون خليفة فى الأرض وأدركت الملائكة بشفافية وجدانهم الملائكة أو بإلهام رب العزة أو بالنظر فى اللوح المحفوظ ، أن بنى البشر سيسفكون الدماء ويفسدون على وجه البسيطة ، وأرادت أن تعرف الحكمة من إعطاء خلافة الأرض إلى بنى آدم الميالين إلى الظلم وسفك الدماء ، ولم تعط إلى طائفة معصومة وتساءلت : لماذا تخلق من يفسد فى الأرض؟ ونحن نسبح بحمدك ونقدسك بذكرك فأجابهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ حاسما الأمر بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣٠) ، ولم يكن الغرض من تساؤل الملائكة الاعتراض على أفعال الله حسب تقديرهم ، ولكن فى هذا السؤال نوعا من الاحتجاج كما يفهم من قول الله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ولذا ندم الملائكة ولاذوا بالعرش الأعظم يبكون ويتضرعون طلبا للعفو والصفح عما اقترفوه ليتجنبوا الغضب الإلهى ، واستمروا لمدة ثلاث ساعات يطوفون بالعرش الإلهى ويستعطفون فى تذلل وخضوع وهم فى قلق وخشوع زائدين ، وفى النهاية بلغ منهم الرجاء والتضرع العفو والمغفرة واستجلبت توسلاتهم شفقة ورحمة صاحب الكبرياء ، وأمرهم أن يطوفوا بالبيت المعمور الواقع تحت العرش الأعظم ، ثم أمرهم بأن يبنوا على وجه الأرض بقعة مقدسة فصدعوا بالأمر الإلهى ، وقاموا ببناء ورفع بنيان الكعبة المعظمة التى أصبحت مطافا إلى الآن.

تفصيل :

شاء خالق العالم أن يقام بيت مقدس على وجه الأرض ، وأرسل كثيرا من الملائكة لإنجاز هذا الأمر ، وخاطب الملائكة آنذاك بقوله : «شيدوا على وجه الأرض بيتا معظما وعند ما يطاف بالبيت المعمور فى السماء الدنيا ، يطوف أيضا أهل الأرض بهذا المقام الرفيع الذى ستقيمونه على وجه الأرض ، بناء على ذلك قام الملائكة الكرام الذين هبطوا إلى الأرض ببناء بقعة مفخمة مباركة فى الموقع المقدس للكعبة المعظمة.

وعند ما صدر الأمر الإلهى للملائكة الذين سكنوا على وجه الأرض ببناء البيت الشريف تحت مستوى البيت المعمور ومحاذاته ، وأن يقوموا بالزيارة والطواف حول هذا البيت لم يكن آدم ـ عليه السلام ـ قد هبط على وجه الأرض.

وإذا كانت هذه الروايات تشير إلى أن بناء البيت المعظم كان بعد خلق الأرضين فإن على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ قال : إن البيت الشريف خلق قبل خلق الأرض والسماء بأربعين سنة ، وكان فوق الماء مثل فقاعة بيضاء أو رغوة وبسطت الأرض من تحته وحفظ ، وقال الإمام مجاهد مصدقا ما قاله الإمام على «إن خلق موقع بيت الله كان قبل خلق الأرض بألفى سنة ، ثم بسطت الأرض تحت الكعبة» بناء على هذا فلا شك فى أن الموضع الطيب لبيت العزة خلق قبل الأرض وأن كعبة الله المقدسة قد شيدت بعد خلق السموات والأرض. وحسبما جاء فى الكتب الموثوق بها أن حضرة الخالق المطلق عند ما أراد خلق وجه الأرض وإيجادها بسط بيد الجلال وقبضة القدرة التى لا نظير لها تراب الموقع المبارك لكعبة الله بعد خلق وجه الأرض ، وهكذا ظلت الكعبة المعظمة فى وسط الأرض تحيط بها القشرة الأرضية من جميع الجهات.

وفى الواقع أن الساحة المفخمة للكعبة المعظمة كانت موجودة قبل خلق وجه

الأرض وقبل خلق طبقات الأرضين ، وقام ملكان بأمر الله بالتسبيح والتقديس لله تعالى وتهليله لمدة ألفى عام فوق المساحة المباركة.

ونقلت هذه الرواية من قبل الإمام الفاكهى عن طريق عبد الله بن أبى سلمة عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ لذا لا شك في صحتها.

قد نقل حضرة أبو هريرة الكيفية بهذه الصورة : خلقت الكعبة المعظمة قبل الأرضين وكان تراب موقع الكعبة المعظمة من نفس تراب الأرض ، وكان عليها ملكان عظيمان وكانا يسبحان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لفترة ألفى سنة وعند ما تعلقت إرادة الله بخلق الأرض بسطها تحت الكعبة وجعل مكة فى وسط الأرض.

وقال ابن خلدون مستشهدا بالحديث الصحيح لما سئل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الواقف على أسرار الكتاب عن خلق مكة المكرمة والمدة بين خلقها وخلق بيت المقدس ، أجاب بما يفيد بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق البيت قبل السموات والأرض بأربعين سنة وهذا يدل على أن بين خلق البيت المعظم وخلق الأرض فترة أربعين عاما.

ملاحظة : وبمقتضى هذه الإجابة السامية ، لا بد وأن يكون بيت المقدس قد خلق بعد الكعبة المعظمة بأربعين سنة. والواقع أن حوالى ألف سنة تفصل بين سيدنا إبراهيم وسليمان بن داوود عليهما صلوات الله الودود.

وإذا جال بالخاطر نوع من الالتباس بين ظاهر إحالة الرسول الجليل وبين هذا السؤال ، فإن عقدة هذا الالتباس ليست صعبة الحل لأن ما يعنيه صاحب الرسالة ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لم يكن البناء الظاهر للكعبة المعظمة ، إنما المكان المخصص للعبادة على وجه الأرض ، فقد تم تعيين بيت المقدس ليكون مكانا للعبادة قبل حوالى ١٠٠٠ سنة من سليمان وبعد البيت الأكرم بأربعين سنة.

وفى تلك الأثناء وضعت القبائل الصابئة هيكل الزهرة على الصخرة وعبدوها.

وصادف هذا الأمر عصر الخليل الشريف ، لذا يكون الفارق بين اتخاذ البيت المعظم قبلة واتخاذ البيت المقدس قبلة هو أربعين سنة. وكانت أرض الصخرة آنذاك خالية لا يبعد أن تبقى على هذه لصورة مدة من الزمن إلى أن قام سليمان ببناء المسجد الأقصى.

***

الصورة الثالثة توضح صورة بناء الكعبة المعظمة فى المرة الثانية

قام أبو البشر سيدنا آدم ـ على نبينا وعليه الصلاة والسلام ـ بتجديد البيت المعظم فى المرة الثانية.

إجمال ـ بناء على رواية الإمام أبو الوليد أحمد الأزرقى عن المرحوم ابن عباس ، أن سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ أنزل به على وجه الأرض قبل الهجرة النبوية ب ٦٢١٦ عام.

ولأنه لم يستطع سماع صوت تسبيح وتهليل ملائكة السماء بعد هبوطه بمدة اغتم لذلك فعرض ما فى ضميره على حضرة عالم السر والخفايا ، وجأر بالشكوى قائلا : «يا إلهى ، فضلا عن بقائى وحيدا فريدا على وجه الأرض ، أصبحت لا أسمع صوت تسبيح وتهليل الملائكة الكرام».

وبناء على هذه الشكوى ، صدر الخطاب الشريف من الله عز وجل «يا آدم إن الزلة الصادرة منك هى المانع من سماع صوت الملائكة المسبحين».

لكن لى بيت على وجه الأرض ، عليك أن تجد أساسه وتقيم عليه بيتا مباركا وبعد ذلك قدّسنى وطف حوله دائما فقام سيدنا آدم على الفور سائحا على وجه الأرض باحثا عن البيت إلى أن وصل إلى مكة المكرمة وعثر على أساس البيت الحرام فابتدر مع جبريل الأمين الذى نزل إلى الأرض لمعاونته ـ بتجهيز أساس كعبة الله وتعميقه.

وفى قول آخر ، إن جبريل ـ عليه السلام ـ حفر حفرة بضربة من جناحه فشوهدت أحجار الأساس التى وضعها الملائكة الكرام فى الحفرة.

وقام سيدنا آدم بتعلية الأساس للبيت الشريف إلى أن ظهر فوق وجه الأرض. واستخدم فى هذا الأحجار التى جلبتها الملائكة الكرام من جبال» لبنان

وطور سيناء وطور زيتا وجودى ، وحراء» ثم وضع فوقه البيت المعمور الذى جئ به من الجنة. وقد ضبط» وهب بن منبه (١) «الجبال الخمسة المذكورة بحيث تكون جبال : لبنان ، وطور سيناء ، طور زيتا ، أحد ، وثبير» ووضع بعض الرواة فيما نقلوا جبل جودى مكان جبل «أحد» وجبل حراء مكان جبل ثبير.

ويروى المؤرخون أن الحجر الأسود نزل أيضا مع البيت المعمور ليكون كرسى أبى البشر عليه السلام.

تفصيل : كتب المؤرخون كلمات كثيرة فى كيفية تكليف سيدنا آدم ببناء البيت وتحديد الصورة التى سيكون عليها بناء بيت العزة وبمعاونة من سيكون تأسيس تلك البقعة السعيدة؟ وكيف حج سيدنا آدم عليه السلام؟

ولما كان هذا الموجز لا يكفى لاستيعاب كل الروايات المنقولة فقد رئى أنه من الصواب نقل وبيان الروايات باختصار ، مازجا بين مختلف الروايات.

عندما أمر موجد الكائنات ـ تنزهت ذاته عن الإدراك والإثبات ـ ببناء الكعبة المكرمة بواسطة أبى البشر ـ عليه السلام ـ خاطبه قائلا : يا آدم ابن لى بيتا تحت العرش ، وعليك بالطواف حول البيت الذى أمرتك ببنائه ، مثل طواف ملائكة السماء بالعرش الأعظم ، وإننى أستجيب لدعاء أولادك وأحفادك المطيعين والمنقادين الذين يتوجهون بالدعاء إلى بجوار هذا البيت الذى لا مثيل له».

وعند ما تأوه سيدنا آدم مظهرا عجزه قائلا : «يا إلهى كيف يمكننى ـ بمفردى أن أبنى وأؤسس البيت الشريف الذى أمرت ببنائه وأنى لى أن أجد محاذاة العرش الأعلى؟! إن عجزى وعدم قدرتى واضح فى تنفيذ هذا الأمر».

فأوحى الله ـ سبحانه وتعالى ـ له وأمره بالنهوض فورا والذهاب إلى وادى غير ذى زرع. فى مكة المكرمة برفقة ملاك وألهمه بالشكل الذى سيبنى عليه البيت الحرام.

وبناء على ذلك تحرك آدم ـ عليه السلام ـ من المكان الذى كان به ، وكلما مر بمكان يرى فيه بدائع خلق الله وحسن تنسيقه والأشكال العجيبة كان يبدى رغبته

__________________

(١) كنى وهب بأبى عبد الله الزمارى وتوفى سنة ١١٤ ه‍ أو ١١٦ منها.

للملك الذى يصاحبه بالبقاء فى هذا المكان ويفصح عما فى نفسه قائلا : «أيها الملك اتركنى هنا» فيتلقى الجواب منه : «المكان الذى أمرنا بالنزول فيه ما زال بعيدا أمامنا». وفى النهاية ، وصلا إلى مكة المكرمة وسارعا بنقل الأحجار من الجبال الخمسة على الوجه المذكور آنفا وقاما ببناء وتأسيس بيت الله قوى الأركان.

وبعد الانتهاء ذهبا إلى عرفات ، وأديا مناسك الحج وفقا لشروطه ورجعا. وفى أثناء عودة آدم ـ عليه السلام ـ من عدفات. خرج الملائكة الأرض لاستقباله فى وادى «أبطح» (١) وقالوا : «يا آدم : كنا فى انتظار قدومك الموسوم باليمن. وقد كان لنا فخر الزيارة والحج والطواف بالبيت الشريف قبلك بألقى سنة.

وبعد أن التقى حضرة أبو البشر بالملائكة الذين استقبلوه فى وادى أبطح ، ذهب إلى مكة المكرمة ، وأدى طواف الوداع بصحبة الملك الذى رافقه ، ثم ذهب إلى بلاد الهند ، وبعد ذلك اعتاد أن يأتى كل سنة للحج وزيارة كعبة الله.

وقد كتب فى ترجمة الشفاء الشريف أن آدم ـ عليه السلام ـ قد حج أربعين مرة سيرا على الأقدام ، وكان طول قامته ستين شبرا ، وعرض جسمه ستة أذرع أى تسعة أقدام وإحدى عشرة بوصة. ومع ذلك قال مؤلف «زين المجالس» لقد حج سيدنا آدم ثلاثمائة مرة واعتمر ألفى مرة إلى أن قبلت توبته.

هل كان يحج سيدنا آدم راكبا أم ماشيا؟ وجه هذا السؤال إلى ابن عباس رضى الله عنهما فأجاب بقوله «كيف يمكن لحيوان أن يتحمل حضرة أبى البشر عند ركوبه؟! فقد كان يحج ماشيا وكان يقطع فى كل خطوة مسافة مسيرة ثلاثة أيام.

وعند ما صدر الأمر إلى آدم ـ عليه السلام ـ بتأسيس بناء الكعبة كان فى بلاد الهند التى تشرفت بموطئ قدميه مناطق عامرة والمكان الذى كان يطأه بقدميه أصبح بعد ذلك قرية ، والأماكن التى أقام بها قليلا أقيمت بها مدن صغيرة

__________________

(١) وادى أبطح : اسم مجرى عظيم من مجارى سيول مكة المكرمة ، وهذا المجرى واسع جدا ، ويقع بين منى. ومكة المكرمة ويتصل بجبل حجون ، وحبات رماله كبيرة بعض الشىء ومثل الحصى.

وكبيرة. والأماكن التى صلى بها أقيمت فيها الجوامع والمدارس والمساجد وكان فى كل خطوة يقطع فرسخا ، إذ كانت الأرض تطوى تحت قدميه طيا ، والأراضى التى لم يطأها بقدميه تحولت إلى الصحارى.

قال كعب الأحبار عن البيت المعمور الذى أرسل من الجنة وهو يخبر سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ بهذا الأمر :

وعند ما هبط آدم ـ عليه السلام ـ إلى وجه الأرض ، أنزل الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قطعة ياقوت حمراء ، ذات بابين من الزمرد الأخضر ، تفتح إلى الشرق والغرب وكانت الياقوتة على شكل خيمة. وبعث معها رسالة تقول : «يا آدم هذه الياقوتة هى بيتى ، وكلما طيف بالعرش الأعلى وصلى حوله فليطاف ويصلى كذلك حول بيتى».

وبعد إكمال آدم ـ عليه السلام ـ قواعد بيت الله بمعاونة الملائكة وضع عليها الياقوتة المجوفة الحمراء المذكورة وأخذ يعبد الله حولها فى ذلّة وخضوع. وكان فى أركان الياقوتة الحمراء ، أربعة أعمدة مستوية موزونة وكان داخلها مجوفا كقبة جامع. وقد استخدم فى إنزال هذه الياقوتة المجوفة على وجه الأرض سبعين ألفا من الملائكة العظام.

أقوال الجمهور فى تعريف البيت المعمور :

أقدم المفسرون الكرام على وصف البيت المعمور بنقل روايات مختلفة متباينة. وقد رئى أنه من المناسب تثبيت بعض هذه الروايات فى هذا الموضع على أمل نفع أهل الإطلاع.

وهكذا بنى حضرة خالق الكاف والنون ـ تعالى شأنه عما يقولون ـ مقاما عاليا فوق أربعة أعمدة مستوية موزونة تحت العرش من أجل الملائكة الذين يطوفون بالعرش الأعظم ، أعمدته من الزبرجد وغطاؤه من الياقوت الأحمر وسماه باسم «البيت المعمور» وبعده ـ كما ذكر من قبل ـ أوجد بواسطة الملائكة الكرام على وجه الأرض ، وبمحاذاة البيت المعمور بيتا مكرما ، وأمر أهل الأرض وسكانها

بزيارته والطواف حوله. وأصل اسم البيت المعمور «صراح» واسم خادمه الخاص «رزين» وأطلق عليه البيت المعمور لكونه مقر الملائكة ، وبناء على ما كتب فى تفسير «السمرقندى» أن الملائكة الكرام بنوا البيت المعمور على وجه الأرض قبل خلق آدم عليه السلام ، أو أن سيدنا آدم قد بناه بنفسه. وفى قول آخر أن البيت المعمور أرسل من الجنة لرفع وحشة فراق سيدنا آدم ليأتنس به وكان قطعة واحدة من الياقوت الأحمر ، وقد أنزل فوق ساحة الكعبة المشرفة ، ورفع إلى السماء فى طوفان نوح وكان ارتفاعه مثل ما بين الأرض والسماء (١).

وحسب ما يفيده حديث المعراج الذى ورد فى صحيحى مسلم والبخارى ، أنه الآن فى السماء السابعة ، وتبعا لتفسير البيضاوى والكشاف ، فى السماء الرابعة.

وبالنظر إلى تحقيق تفسير «الكواشى» أنه فى السماء الثالثة أو فى السماء السادسة أو فى السماء السابعة.

ويقول مؤلف تفسير (الواحدى) مؤيدا قوله بحديث خاص : ـ «إن البيت المعمور فى السماء الدنيا ، وأن سيدنا جبريل يغوص كل يوم فى نهر الحياة الكائن فى السماء الرابعة ثم يخرج وينتفض فتنقطر من أجنحته حين يهزها سبعون ألف قطرة ماء ، ويخلق من كل قطرة منها ملك ويقوم هؤلاء الملائكة المأمورين بزيارة البيت المعمور وأداء الصلاة ثم يعودون.

والملائكة المشار إليهم لا يعدون ولا يحصون لدرجة أن من أدى الصلاة مرة واحدة هناك لا يأتى عليه الدور مرة أخرى إلى الأبد.

وبناء على قول آخر أن اسم البيت الذى كان فى السماء الدنيا هو «صراح» وهو فوق الكعبة المشرفة وبمحاذاتها بحيث لو فرض سقوطه يسقط فوق السطح الشريف لبيت الله.

وقد سطر فى تفسير «اللباب» : كان البيت المعمور بقعة مثيرة لامعة مصنوعة

__________________

(١) هو القول المرجح على الأقوال الأخرى.

من الياقوت الأحمر ، ولها بابان من الزمرد يفتحان : أحدهما إلى الشرق والآخر إلى الغرب.

وكان الحجر الأسود ـ أيضا ـ من ياقوتة بيضاء ، وسبب تحوله إلى السواد هو لمس النساء الحائضات فأطلق عليه الحجر الأسود. وقد أنزل حضرة الحق البيت المعمور والحجر الأسود إلى وجه الأرض قبل هبوط أبى البشر بألفى سنة ، وبعد هبوطه كان آدم يجئ من الهند ويحج ويطوف بالبيت المعمور ثم يعود ، وقد تكرر منه ذلك أربعين مرة.

وعند البعض أن البيت المعمور بنى فى السماء ، وفى النهاية صدر الأمر ببناء البيت الحرام على سطح الأرض بمحاذاة موضعه فى السماء وبنفس الحجم. وحسب قول صاحب «المواهب» إن الملائكة المسبحين بجوار البيت المعمور لا يحصى عددهم وبعدد تسبيحات كل واحد منهم يخلق ملك.

ويقول مؤلف «تفسير بحر العلوم ،» أنزل الحق ـ سبحانه وتعالى ـ على وجه الأرض ، خيمة من خيام الجنة المتلألئة بالأشعة وأمر بوضعها فوق ساحة البيت المعظم فى مكة المكرمة ، ولم يكن البيت الحرام قد بنى ـ بعد ـ آنذاك ، وكانت الخيمة المذكورة قناديل واحدة حمراء مجوفة من يواقيت الجنان ، وكان بالقرب منها ثلاثة قناديل من الذهب يعادل نورها مجموعة الثريا من النجوم ، وبابا هذه الخيمة كانا مرصعين بلآلئ الجنة وكان أحدهما يفتح إلى الشرق والآخر إلى الغرب ، وكان نور الجنان يلمع ويتلألأ فى داخلها. وقد أرسل مع الخيمة المذكورة الحجر الأسود لكى يكون كرسيا لسيدنا آدم يجلس عليه وهو من ياقوتة وضاءة ناصعة البياض شديدة اللمعان.

وجاء فى الحديث الصحيح «أن البيت المعمور ياقوتة حمراء من قطعة واحدة لها بابان فى الجهتين مصنوعان من الزمرد ، وداخلها مزين بالياقوت والجواهر بما يعادل عشرة آلاف قنديل مثل الثريا. وأمام بابها منبر ومئذنة من الفضة الخام الخالصة ، وفى كل يوم يغوص سبعون ألفا من الملائكة فى بحر النور ويرتدون

ملابس الإحرام المنسوجة من خيوط النور فيزورون البيت ويطوفون به. مرددين «لبيك ، لبيك» ثم يذهبون والملك الذى يطوف مرة لا يرجع مرة أخرى.

ويحكى مؤلف «معارج النبوة» ، ناقلا من بعض الكتب المعتمدة فيقول : اعتاد الملائكة العظام على الاجتماع داخل البيت المعمور فى أيام الجمعة. وفى أيام الاجتماع يصعد سيدنا جبريل فوق المئذنة ، ويؤذن ، ويخطب سيدنا إسرافيل ، ويؤمهم سيدنا ميكائيل ـ عليهم السلام.

ويتفاخر كل واحد منهم ملقيا خطبة مؤثرة تتضمن ما يهبونه إلى الأمة الإسلامية وبعد أداء الصلاة يقف جبريل الأمين ويهب ثواب آذانه إلى مؤذنى الأمة المحمدية ، ويهب سيدنا إسرافيل ثواب خطبته إلى خطباء الأمة الإسلامية ، ويقف سيدنا ميكائيل ويهب الأجر الجزيل الناتج عن إمامته إلى أئمة الأمة الإسلامية ، يعلنون ذلك مفتخرين مباهين فى خطب بليغة مؤثرة ، كما أن الملائكة الكرام يهبون ثواب صلواتهم التى أدوها إلى الأمة المحمدية ويشهدون على ذلك المقربين الكرام من الملائكة.

وعندئذ يصدر الخطاب الإلهى إلى الملائكة ـ يا أصناف الملائكة!! هل أنتم تنفقون جواهر السماء التى أنعمت بها عليكم بالمباهاة والفخر بكرمكم وجودكم؟ ألا فاشهدوا أننى حفظت الأمة المحمدية من عذاب الآخرة ، وهذا مقرونا برحمتى وعفوى الإلهى.

وهكذا يعود الملائكة إلى أماكنهم محاطين بالألطاف الإلهية ، وتنتهى إلى هنا أقوال المفسرين.

وعلى حد قول الإمام الأزرقى أنه عند ما وطأت قدم آدم سطح الأرض صدر إليه الأمر الجليل من رب العزة قائلا : يا آدم إن لى بيتا فى الأرض فى حذاء بيتى الذى فى السماء. وإذا كانت الملائكة الكرام يطوفون حول عرشى فطف أنت وأولادك وأحفادك كذلك حول بيتى فى الأرض ، وصل وتعبد حوله.

يا آدم إنى أقمت أول بيت وضع للناس فى بطن مكة ، يأتى الناس من كل فج

عميق لزيارته ، وكل من جاءه معتمرا لا يبتغى إلا وجهى فقد زارنى وأكرمنى.

يا آدم اعتمر ما دمت حيا ، وسوف يعتمر أنبياء وأمم القرون القادمة من بعدك ، وقد اخترت موضع ذلك البيت قبل خلق السموات والأرض ، ونفخت فيه من جلالى وكرامتى.

ولأن الله أرسل طائفة من الملائكة لمعاونة أبى البشر فى بناء البيت الشريف ، ملأ آدم حفرة الأساس التى ذكرناها آنفا ، ثم أقام على هذا الأساس الياقوتى هذا الجدار المتين الذى ارتفع عن الأرض قليلا.

ويروى أئمة الحديث أن فى كل سماء بيتا يعلو البيت المعظم حتى السماء السابعة ، وبيتا فى كل أرض تحته حتى الأرض السابعة.

طبق هذا الحساب فإن «كعبة الله العليا» هى دار العبادة الخامسة عشرة.

وإذا افترضنا أن سقط أحد هذه البيوت حل محله غيره على سطحها.

لكل كعبة منها مخلوقات تطوف حولها من أهل السماء والأرض ، ولا يمكن أن تخلو ممن يطوفون حولها.

البيت المعمور الذى اشتهر ب «رضاض» أو «صراخ» حسب القول المشهور يعلو الكعبة المعظمة ويأتيه كل يوم سبعون ألف ملك لزيارته والطواف حوله بنية عدم العودة حتى تقوم الساعة ، ثم يعودون بعد الطواف.

وعلى الرغم من أن الروايات التى جاءت بشأن تأسيس الكعبة المعظمة للمرة الثانية مخالفة الإفادة إلى الآن ، فإنه سواء ما قاله الأزرقى أو كعب الأحبار صفوة الرواة فهم يؤيدون قول عبد الله بن عباس سالف الذكر.

وبعد أن أسس آدم ـ عليه السلام ـ البقعة المقدسة للكعبة الشريفة على نحو ما سلف ذكره ، التمس رحمة الله داعيا : يا رب إن كل من حج بيتك المعظم الذى بنيته امتثالا لأمرك وطاف حوله هل هو مثاب مأجور؟

فقال الله تعالى :

يا آدم لقد تجاوزت عن ذنبك كما تجاوزت كذلك عن ذنوب أولادك الذين سوف يحجون بيتى.

عاد آدم إلى بلاد الهند بعد أن تلقى جواب الرحمة هذا من الله.

وجاء فى رواية أخرى أنه بعد أن أتم آدم ـ عليه السلام ـ بناء الكعبة طلب مثوبة معطى العطايا مانح النعم ، ولما كان آدم قد تلقى من رب العزة قوله : «سل منى أجرك حتى أعطيك».

فإذا بآدم ـ عليه السلام ـ يدعو الله أن يدخله الجنة ثانية فرد عليه الله قائلا : «يا آدم سوف أدخلك الجنة وكل من زار الكعبة من ذريتك وسأدخل الجنة كل من يزورون بيتى هذا» فظهرت علامات السرور عليه.

فائدة : بعد الطواف صلى آدم ـ عليه السلام ـ ركعتى الطواف ثم دعا فى مواجهة الملتزم (١) الشريف وقال : اللهم إنك تعلم سرى وعلانيتى فاقبل معذرتى وتعلم ما فى نفسى ، وما عندى ، فاغفر لى ذنبى ، وتعلم حاجتى فأعطنى سؤلى. اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبنى إلا ما كتبت لى والرضا بما قضيت على.

فتلقى خطاب ربه ذى العزة «يا آدم لقد قبلت دعاءك وكل من يعرض على من أولادك وأحفادك حاجة له ، وهو يقرأ هذا الدعاء فإننى أستجيب لدعائه وأقضى حاجاته ، كما أزيل همه وغمه وألبى له حاجات الدنيا والآخرة ، وإذا لم يقبل هذا الدعاء فى الدنيا سيجده فى الدنيا والآخرة.

ولأن هذا الطواف هو أول طواف لجنس بنى البشر فقد اتخذ آدم ـ عليه السلام ـ الملائكة قدوة فى طواف بيت الله.

__________________

(١) الملتزم : يطلق على ما بين باب بيت الله والحجر الأسود.

وعند ما أنهى أبو البشر ـ على نبينا وعليه صلاة الله ـ البناء الأول للبيت الشريف وبدأ الطواف. هنأه (١) الملائكة الذين استقبلوه فى وادى أبطح قائلين : حجك مبرور يا آدم وسعيك مشكور لقد طفنا بالبيت الحرام قبلك بألفى سنة.

فإذا بآدم ـ عليه السلام ـ يدعو الله أن يدخله الجنة ثانية فرد عليه الله قائلا : فلما سألهم سيدنا آدم قائلا : «وماذا كنتم ترددون فى أثناء الطواف؟»

أجابوا : «كنا نردد فى أثناء الطواف التسبيح الجليل : «سبحان الله ، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» ، وبناء على هذا ردد آدم ـ عليه السلام ـ التسبيح المذكور وبدأ الطواف لمدة أسبوع وكان يطوف ليلا سبع مرات ، وفى النهار خمس مرات ، وبهذا الحساب يكون قد طاف ببيت الله تسعا وأربعين مرة ليلا وخمس وثلاثين مرة بالنهار لأن كل سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة تعد طوافا واحدا.

ويروى أن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت فى أثناء الحج لمدة أسبوع ، سبع مرات ليلا وخمس مرات نهارا وذلك عملا بسنة أبى البشر.

بشرى :

إذا طاف أى إنسان سبع مرات بكعبة الله ، مرددا التسبيح سابق الذكر غير متفوه بكلام متعلق بالدنيا إلى أن يكمل الطواف يعطى عشر حسنات ويرفع عشر درجات وتحط عشر من سيئاته. أما إذا تكلم فإنه فى تلك الحالة أيضا يدخل حوض الرحمة كأنه يغوص بالماء ، وهذه البشرى هى مضمون الحديث الشريف الذى نقله ورواه الصحابى الجليل أبو هريرة : كما أنه منقول بالآثار الصحيحة ، ويروى بسند موثوق به «إن ثواب الذين يصلون بعد الطواف ركعتى الطواف مثل ثواب تحرير رقبة» ،.

إخطار :

لما كان طواف بيت الله عبادة خاصة مثل إقامة الصلاة ، لذا يجب الامتناع عن الكلام فى أثناء الطواف وإذا اقتضى الأمر التكلم فيجب أن يقول خيرا» انتهى.

__________________

(١) الملائكة إذن هم الذين علموا سيدنا آدم دعاء الطواف كما علمه جبريل الأمين أصول المناسك.

وفيما يتعلق باستقبال الملائكة الكرام لمن يدخلون المدينة المباركة مكة المكرمة قاصدين أداء حج البيت الحرام ، فإن الملائكة الكرام يقومون فقط بإلقاء السلام عليهم وتكريم الذين يدخلونها وهم يركبون الإبل ويحيون من يدخلونها وهم يركبون الحمير بمصافحتهم ، أما الذين يدخلونها سائرين على أقدامهم يظهرون لهم الترحيب الحار ويعلون قدرهم بمعانقتهم.

وبناء على هذا الأساس فإن السلف الصالح كانوا عند استقبال الحجاج ذوى الابتهاج يسارعون بتقبيل عيونهم حتى ينالوا دعواتهم الصالحة قبل أن يتدنوا بارتكاب المعاصى والآثام.

***

الصورة الرابعة توضح كيفية تجديد الكعبة المحرمة فى المرة الثالثة

بنى سيدنا «شيث» بن سيدنا آدم ـ عليهما السلام ـ بيت الله العالى المقام فى المرة الثالثة ، وقام أولاد وأحفاد المشار إليه بتعميره إلى طوفان نوح.

لأنه عند ما وضع آدم ـ عليه السلام ـ قدميه على وجه الأرض ، كانت ياقوتة منيرة على شكل الخيمة موضوعة فوق الموضع المبارك المقدس للبيت الأكرم على نحو ما أوضحت سالفا. وعند ما رفعت هذه الخيمة إلى السماء عقب وفاة أبى البشر ـ عليه السلام ـ بنى سيدنا شيث بن آدم ـ عليهما السلام ـ بيتا من الحجر ليحل مكان الخيمة المذكورة.

وإذا كانت واقعة الطوفان الهائلة التى أغرقت أقطار العالم قد دمرت أيضا البيت الحجرى الذى بناه سيدنا شيث وأزالت آثاره فإنه بعد انحسار الماء ظهر الأساس القديم للبيت الشريف المذكور. وكان أولاد وأحفاد المشار إليه يقومون بتعميره وترميمه من حين لآخر.

حكمة :

لدى وصول نوح ـ عليه السلام ـ إلى أرض مكة ، كان الموضع المبارك الذى كان فيه الأساس المنهار لبيت العزة معلوما وأكثر من هذا أن سفينة نوح ـ عليه السلام ـ عند ما وصلت إلى حدود حرم الله ، أخذت تطوف بالموضع السعيد لكعبة الله. وقد طاف سبع مرات كاملة ، وفى أثناء هذا شرح سيدنا نوح طريقة الطواف للموجودين داخل السفينة وأمر ألا يقترب أى إنسان من زوجته تعظيما لبيت الله. وعند ما خالف حام بن نوح أمر والده ، دعا نوح على ابنه حام بالسوء فتغيرت نطفة حام على أثر هذا الدعاء وبدأ فى إنجاب أبناء ذوى بشرة سوداء.

ونسى العباد طوفان نوح مع مرور الوقت ، واتخذوا الأصنام آلهة وأهملوا العناية ببيت الله فقد غطت الرمال الأساس القديم لبيت الله الذى ظهر بعد الطوفان واختفى تماما عن الأنظار.

والموقع اللطيف لبيت الله أصبح ربوة من الرمال الحمراء ومع هذا ظل الناس يعتقدون أن هذه الربوة الحمراء مكان مقدس ، لذا كانوا يسعدون بالطواف حوله وزيارته وبهذا التقدير يحتمل أن الخيمة المذكورة الموضوعة فوق الأساس الذى بناه أبو البشر كانت البيت المعمور ، أو أن فوق البيت المعمور خيمة مثل الخيمة المذكورة ويفهم من هذا أن الخيمة قد رفعت عقب وفاة آدم ـ عليه السلام ـ وأن البيت المعمور ظل على الأرض حتى قبيل الطوفان ، ورفع فى أثناء الطوفان حتى لا يتلوث بمياه الأرض القذرة.

***

الصورة الخامسة

فى بيان ترجمة حال سيدنا إبراهيم عليه التحية والتكريم الذى وفق فى تجديد الكعبة المعظمة فى المرة الرابعة ، وسبب ذهابه إلى مكة المكرمة ، والقصة الهامة لذبح إسماعيل ، والمهمة التى كلف بها لتأسيس البيت الحرام ، وإقامة أولاد إسماعيل فى تلك البلدة المقدسة ، وبيان أحوال تلك الأيام وكيفية معيشة الناس

قال سيدنا على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ دون أن يخوض فى أوليات بناء البيت قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ «أول من بنى البيت الشريف سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه التعظيم».

وقد كذب ابن كثير وخرج الروايات التى تقول «إن الكعبة المفخمة قد جددت ثلاث مرات قبل بناء إبراهيم ، كما جاء فى تفسيره الشريف (١) وبهذا صدق قول على بن أبى طالب ، إلا أن الروايات المشهورة تؤكد أن سيدنا الخليل ـ عليه السلام ـ قد بنى البيت المعظم للمرة الرابعة. وسواء صح القول الأول أو القول الأشهر فلا شك فى أن النبى المشار إليه قد جدد مقر العزة الإلهية.

وهناك أسئلة كثيرة ترد فى الخاطر ومنها : كيف ترك إبراهيم ـ عليه السلام ـ مسقط رأسه بابل؟ وكيف اتجه نحو واد غير ذى زرع؟ وأين قضى أوقاته قبل تشريفه إلى مكة المكرمة؟ وأين أقام بعد تأسيس البيت الشريف واستراح؟ وبما أن هذه الأسئلة فى حاجة إلى الحل والإجابة ، وذلك يحتاج إلى تلخيص الأخبار الطويلة المبسوطة فى الكتب لذا رأينا أننا مضطرون لكتابة تاريخ حياة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وترجمة حاله ملخصين تلك الأخبار الطويلة.

__________________

(١) هناك إيضاحات مقنعة فى هذا الخصوص فى بحث مقام إبراهيم.

ترجمة حال سيدنا الخليل عليه سلام الله الجليل :

سيدنا إبراهيم ـ على نبينا وعليه التفخيم ـ من الأنبياء أولى العزم من الرسل ، يصل نسبه العالى إلى البطن الخامس من هود ـ عليه السلام.

ولد إبراهيم عليه السلام فى قرية كوثى على وزن طوبا ـ مهد زينة الوجود ـ وكانت تابعة لمدينة «بابل» أو «برسد» الملحقة بالكوفة ، وولد بعد هبوط الذات النبوية المتصفة بالهداية أبى البشر آدم عليه السلام ـ على وجه الأرض ب ٣٣٢٣ سنة وعلى قول ب ٣٣٦٣ سنة ، وبعد واقعة طوفان نوح المفجعة ب ١٧١١ سنة ، وقبل الهجرة النبوية ب ٢٨٩٣ سنة.

وهناك من يقول إنه ولد قبل الهجرة النبوية ب ٢٥٩٦ سنة. ويخمن جماعة من المؤرخين الأجانب أن مولده كان قبل ميلاد عيسى ب ٢٣٦٦ ، أو ب ٢١٢٢ عند جماعة أخرى. ويروى أنه ولد فى مدينة حران وبعد ذلك هاجر إلى «بابل» وفى رواية أخرى أنه ولد فى مدينة «أورفة» فى تركيا ثم هاجر إلى حران ومنها إلى بابل. وقال بعض المؤرخين أيضا إنه ولد فى قرية برزة «من قرى دمشق بالشام ، وأصبحت المغارة التى ولد فيها مزارا للعارفين ، بل هناك من يقول إن الدعاء فى هذه المغارة يستجاب من الله سبحانه وتعالى.

(بدايع الزهور) (١).

كان وجهه الشريف أحمر مائلا للبياض ، قامته متوسطة موزونة معتدلة أشهل العينين ضخم السرة ، عظيم الصدر مستوى المنكبين.

ولد فى زمن هاصر بن كوفى بن حام بن نوح ـ عليه السلام ـ أو فى عهد نمرود بن كنعان الذى كان من جبابرة الملوك وتصادف ليلة ميلاده ليلة الجمعة فى يوم عاشوراء.

وفى ذلك التاريخ خرج النمرود التعس عن الطريق المستقيم وجادة الصواب

__________________

(١) هذه الرواية من الروايات المرجحة لدى صاحب بدايع الزهور.

بمساعدة الظروف ، وأقام مجموعة من الأصنام على أشكال مختلفة وادعى الألوهية ودعا الناس إلى عبادته ، وهكذا أضل الناس عن عبادة الملك المتعال جل جلاله. وكان يقول : «إن الذين يعبدون صورتى ، سواء خفية أو علانية ويتقربون إلي ينالون درجة الكمال وأعلى المناصب». وذات ليلة رأى فى منامه أن كوكبا لامعا براقا يضئ حتى أن نوره حجب ضياء القمر المنير فاختفى ، فقلق قلقا شديدا وأحضر كبار الكهنة والمنجمين وأمرهم بتفسير ما تدل عليه الرؤيا وبناء عليه قال المنجمون : سيولد مولود ذو طالع ميمون مرتفع محمود العاقبة ، وسيكون سببا فى تحطيم بنيان سلطنتك حتى تصير خرابا وأن هذا الطفل ما زال فى صلب أبيه.

وتبعا لقول آخر أن (جليد بن عاص) وهو من أشهر الحكماء ومجموعة البؤساء الأشقياء التابعين له والذين اختصوا بتفسير رؤيا النمرود قالوا : «بالنظر فى أحكام كتبنا المتداولة ، فإنه سيولد هذه السنة غلام محظوظ سعيد فى عاصمة بلدكم ، وبعد أن يكبر هذا الغلام سيأتى بدين جديد وسيدعى أنه رسول لهذا الدين ، وسيدعونا لاتباعه وإذا عجزنا عن إيجاد حل لهذا الأمر من الآن ، فإن دولة النماردة ستزول وتمحى بلا ريب.

وتحير النمرود التعس من هذه المعلومات الفلكية التى تلقاها من كهنته ، وبدافع من حماقته وبلاهته هب ليغير حكم القضاء وأصدر أوامره بالتفريق بين الرجال والنساء لكى يحول دون اجتماع الأزواج فى الفترة التى جددها الكهنة ، وعين لكل عشرة رجال رقيبا عليهم ، وعلاوة على هذا التضييق على الناس أمر بقتل كل الأطفال الذين سيولدون في تلك السنة».

وفى الواقع أنه لم يستطع تغيير القدر الإلهى ، إذ التقى آزر (١) فى تلك الليلة بزوجته (٢) (أدنى بنت نمرة) وانتقل سيدنا إبراهيم إلى رحم أمه.

__________________

(١) آزر هو لقب لتارخ أبو سيدنا إبراهيم لقب بهذا الاسم للإله الذى يعبده على قول ، وفى قول آخر هو عمه أخو أبيه. وهذا ما رجحه الشيخ محمد متولى الشعراوى ـ رحمه الله ـ من العلماء المعاصرين.

(٢) هناك اختلاف فى اسم «أدنى» فبعض الرواة يصرون على أن اسم والدة إبراهيم عليه السلام «أدنى» بينما يقول الثانى أن اسمها «ملكا» ويدعى الثالث أنه «نونا» بينما يقول الرابع أنه «ليوثا».

رباعية :

إذا المولى أمرا من الأمور شاء

فلا قدرة لأحد علي رده ولا القضاء

ويثبت ذلك لمن أنكر

حكاية البيت والولد وهمة العنقاء

عرف المنجمون تلك الساعة التى انتقل فيها إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى رحم أمه ليلا ، وأبلغوا توا النمرود بالخبر ، فقام الشقى متهورا وقد تحول إلى قطعة نار تحرق ـ فأمر بقتل آلاف من الأبرياء إذ أدرك أن المولود ذا العاقبة المحمودة سوف يولد ولم يقنع بهذا ، بل عين موظفا لفحص السيدات الحوامل ، وذلك بغية قتل كل طفل ذكر سيولد مستقبلا إلا أن حداثة حمل (ادنى ابنه نمرة) ساعدها على إخفاء علامات الحمل وبذلك نجت من تلك المعاينة الجبرية من أتباع نمرود ، ورغم أن والدة سيدنا إبراهيم استطاعت إخفاء حملها (١) بسبب شبابها ونجت من الذين فحصوها ، فإنها عند ما أتمت مدة حملها وبدأت مظاهر الحمل في الظهور عليها وكانت تعرف مصير فلذات الأكباد الذكور من القتل ، حدثت نفسها قائلة : «إننى إذا وضعت غلاما فسوف يقتلونه ، لذا يجب على أن أضعه فى مكان خال بعيدا عن العيون «وبناء عليه ذهبت إلى حافة واد بين جبلين خارج المدينة وبعد أن وضعت حملها ، لفت ذلك المولود السعيد في قطعة قماش وتركته فى كهف داخل هذا الوادى ، حتى لا يقتل ، ثم رجعت وأقنعت زوجها آزر بأن قالت له «فى أثناء وجودى فى وادى بيابان وضعت غلاما ، لكنه توفى فقمت بدفنه هناك ورجعت.

أما آزر فقد أظهر السرور وقد اقتنع بما قالته الزوجة وشكر الأصنام التى كان يعبدها ، وتمتم ببعض الكلمات مسريا عن نفسه.

__________________

(١) لم يستطع أحد كائنا من كان أن يلحظ أمارات الحمل على أم نبينا إبراهيم عليه السلام ، لأنه لم يظهر عليها شىء من علامات الحمل.

فى الليلة تركت (أدنى ابنة نمرة) إبراهيم عليه السلام ـ فى الغار ، ذهبت إليه وهى تردد سرا يا ترى كيف حال فلذة كبدى ألا أذهب إليه ثانية لأرى ما إذا كان حيا فأرضعه ، وقد وجدته على قيد الحياة ، فأرضعته ورجعت.

وكان جبريل الأمين قد قطع حبل سرة سيدنا إبراهيم ، وألبس على ظهره حلة بيضاء وأذن فى أذنه وأجرى الأصول الإسلامية المعتادة.

ولدى مجئ أم سيدنا إبراهيم كان ـ عليه السلام ـ يضع أصابعه فى فمه ويرضع منها وكان يقطر من أحد أصابعه عسل ومن الآخر ماء ومن الثالث سمن ، ومن الرابع لبن ، ومن الخامس لبن التمر. وتعجبت الأم من هذا الحال وسعدت به.

وكانت تذهب دائما إلى الغار المذكور لإرضاع ابنها ، لكنها اجتهدت فى كتم ما يحدث وإخفائه حتى عن زوجها آزر.

أما سبب هذا التكتم والإخفاء ، فقد كان لسلوك آزر غير المناسب ، فعند ما علم بحمل زوجته ـ بدافع من إخلاصه للنمرود ـ فقرر تسليم المولود إذا كان غلاما للنمرود ، وأخذ من زوجته عهدا وميثاقا في هذا الشأن.

أما زوجته وبدافع من طبيعتها كامرأة ، فقد اتبعت آزر وعقدت معه هذا العهد ، ولكنها ندمت بعد ذلك وأخذت تفكر تفكيرا عميقا وتحدث نفسها قائلة : يا ترى كيف يمكننى أن أجد حلا لهذا الأمر؟ وكيف يمكننى أن أخلص فلذة كبدى ـ إذا جاء غلاما ـ من يد آزر.

ولعلمها بمدى محبة آزر لها وميله نحوها ، ولتأمن أيضا من قتل وليدها إذا جاء غلاما من قبل أبيه ، أخذت تحدث نفسها عند ما اقترب أوان وضع حملها قائلة وإننى إذا وضعت غلاما فإنه سيقتل ساعة ولادته وهذا سيؤدى لفرط عطفى عليه وشدة حبى له لقتل نفسى ولا شك فى ذلك. وبدلا من التعرض لمخاطرة كهذه أقول فبحق الحب السائد بيننا أن تتجه إلى آلهتك وترجوهم ساجدا ألا أضع غلاما بل أنثى «وهكذا أرسلت آزر (١) إلى دار الأصنام معبد آلهتهم ، بينما ذهبت

__________________

(١) كان هدف أدنى بنت نمرة من هذه الحيلة أن تحفظ مولد سيدنا إبراهيم بعيدا عن أبيه آزر وإنها كانت حيلة فى محلها.

هى إلى حافة الوادى حيث وضعت حملها ـ كما سبق الذكر ـ وكانت قد أقنعت زوجها بما حدثت به نفسها.

وبناء على ذلك كلما ذهب آزر إلى ديوان النمرود كانت (أدنى) ، تذهب إلى الغار الذى به فلذة كبدها وترضعه لفترة ثم تعود. وقد امتد هذا الحال لمدة سنتين وحسب قول مؤلف «بدايع الزهور» استمر سنة واحدة.

تفصيل

فى هذا الموجز الذى كتبناه إلى هنا فإن أكثر الرواة يتفقون عليه فى لسان واحد ، لكن صاحب الكتاب القيم المسمى «الأنس الجليل» الذى قام بالبحث والتدقيق أضاف إلى الموضوع رواية موثوقة إذ يقول : إن رئيس كهنة الشقى (حليد بن عاص) ذهب من رفقائه الضالين إلي ديوان النمرود فى تلك الليلة العجيبة التى انتقل فيها سيدنا إبراهيم إلى رحم أمه وقالوا له : «إن كل جهودنا إلى الآن لم تثمر ، حيث إن ذلك الكيان الذى يجب أن نتخلص منه سينتقل هذه الليلة إلى رحم أمه ، فإذا اتخذت جميع الاحتياطات الشديدة هذه الليلة وبذلنا كل جهدنا محاولين تغيير خط سير القدر ربما حققنا آمالنا».

بناء على تحريض «حليد بن العاص» وأتباعه من الكهنة الضالين وحثهم المستمر للنمرود» أمرا قاطعا بأن يخرج من عاصمة ملكه كل الذكور ويبعدوا عنها ، وأن يعين على كل بوابة من مداخل المدينة مراقبون من أهل الثقة ، وأمرهم بألا يسمحوا بدخول أى رجل إلى داخل المدينة فى ذلك اليوم ليلا ونهارا ، حتى لا يجتمع زوج بزوجته. وفى أثناء تلك الفترة المذكورة أبعد كل الذكور عن مساكنهم وبيوتهم ، وكلف المنجمون بتحرى دقائق أحكام النجوم. واختبأت (أدنى بنت نمرة) لفترة بجوار باب المدينة الواقع بمحاذاة البيت الذى تسكن فيه وركزت تفكيرها لفهم نتائج ما يجرى ورآها زوجها آزر بطريقة ما وضاجعها فانتقل سيدنا إبراهيم إلى رحم أمه.

وعرف (حليد) الشقى من رؤية إشارات النجوم وعلامات الكواكب أن سيدنا

إبراهيم قد انتقل إلى رحم أمه فذهب إلى قصر «النمرود» عقب افتراق (أدنى) عن آزر صائحا صارخا يخبر جماعة النماردة الضالين وقال : «مولانا يائسا» لقد قضى الأمر ـ الآن وذهبت جميع الجهود والمساعى هباء ، فذلك الكيان محمود العاقبة قد انتقل فى هذه الساعة ـ إلى رحم أمه ، وأشار إلى نجم لامع ليريه للنمرود (١). وكانت أضواء شعاع هذا النجم قد غطت الشرق والغرب ما بين السماء والأرض ، ولم يكن قد رأى أو سمع ـ حتى ذلك اليوم المنير ـ عن بزوغ كوكب سعيد كهذا.

وأفاق نمرود بعد فترة من دهشته وسارع بإجراء التحقيقات والبحث اللازم وسعى للقبض على الرجل الذى ضاجع امرأته فى اللحظة التى أنبأ عنها حليد بن عاص الشقى.

ولما لم يستطع أن يتبين ما جرى رأى أن يترك هذا الأمر لحين ولادة الغلام ، مع اتخاذ جميع الاحتياطات. وقال : «إذا كنا لم ننجح فى منع انتقال هذا الكيان السعيد إلى رحم أمه فعلى الأقل علينا أن نبذل كل الجهود لنهتدى إليه فى وقت ولادته».

وعند ما آن أوان ولادة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ علم المنجمون الأمر ، وأبلغو النمرود اللعين قائلين : «سيولد ذلك الكيان السليم الجسم فى أسبوع كذا وفى يوم كذا وساعة كذا».

ورغم الاستمرار فى اتخاذ لوازم الحيطة ؛ إلا أن أدنى عند ما أحست بآلام الوضع وأوجاعه ومقدمات الولادة أرسلت زوجها آزر إلى بيت الأصنام لكى

__________________

(١) وقد ظهر نجم يشبه لهذا النجم عند ما ألقى إبراهيم عليه السلام فى النار إلا أنه لم يكن مثل الكوكب الذى طلع عند ما استقر إبراهيم فى رحم أمه ؛ ولكنه كان مثل الكوكب الذى ظهر فى زمن نوح عليه السلام. يقول الإمام ربانى فى رسالته الثامنة والستين من رسائله «هناك مذنب سيره نحو الشرق وظهره نحو الغرب لامع ، ويشرق عموديا ثم يميل إن هذا المذنب قد ظهر عند ما هلك قوم نوح وألقى إبراهيم إلى النار ، وعند ما قوم فرعون وعند ما استشهد سيدنا يحيى ، ويحتمل أن يطلع عند ما يظهر الإمام المهدى.

يتضرع للآلهة على الوجه الذى أوضحناه آنفا ، وخرجت من بيتها عازمة على وضع حملها فى حافة واد جاف يقع خارج المدينة.

وفى طريقها قابلت ملكا منير الوجه ، جميل المنظر ، قادها إلى الغار وقال لها : «كونى يقظة ولا تقلقى من أن ينال الطفل الذى ستضعينه أى أذى أو ضرر ، فهذا الطفل خليل صاحب الكبرياء ، والجد الجليل لخير الأنبياء ، لذا فهو مصون فى كل الأحوال من ضرر ومن كيد الأعداء ، ثم انسحب من الغار بعد أن أعد لها كل لوازم الوضع».

واستقر حضرة خليل الله على مهده المزين الذى نزل به جبريل ـ عليه السلام ـ وقرأ الأذان فى أذنه بعد أن قطع حبل سرته وألبسه الحلة. وبعد أن ألبسه الرداء الذى أتى به من الجنة ، دخل الملك سالف الذكر إلى الغار وظل لفترة بجوار (أدنى ابنة نمرة). وفى الساعة التى ولد فيها إبراهيم ـ عليه السلام ـ تزلزل القصر الذى أقامه النمرود العنيد ، وسمع هاتف بصورة تثير الفزع والدهشة قال : «لقد اقترب أوان هلاك ذلك الخبيث الذى أنكر إبراهيم» وجن جنون جماعة الشرك النماردة.

وتبعا للبحوث التى قام بها مؤلف «بدايع الزهور» فقد نتج عن اهتزاز قصر «النمرود» سقوط بعض شرفاته فجأة كما انقلبت الأصنام الموجودة به رأسا على عقب. وقد سمع صوت ذلك الهاتف عدة مرات فى ذلك اليوم المذكور وبعد هذا اليوم كان نمرود يسمع مقولة الهاتف فى كل مكان يذهب إليه.

وذات ليلة رأى فى رؤياه أن ضوء قمر يسطع من ضلع «آزر» ويغمر الأرض والسماء ، نور بهى وأقلق سكان الأرض ، وترددت فى أنحاء العالم وسمعت (جاء الحق وزهق الباطل) فأسقطت معابد الأصنام على الأرض.

وأوقعت النماردة ـ ذوى العاقبة السيئة ـ فى يأس وحرمان ، وطاش صواب النمرود من هذه الرؤيا المخيفة وعند ما أفاق واسترد وعيه استدعى «آزر» وبادره بقص تفاصيل حلمه المخيف الذى رآه. إلا أن «آزر» دفع الهواجس عنه إذ قال : إن رؤياك تشير وتلمح إلى شدة عبوديتى لكوكب القمر.

بقى إبراهيم ـ عليه السلام ـ فى المغارة المذكورة مدة خمسة عشر شهرا ـ على اختلاف الروايات. وعند ما بلغ سن التمييز وجال بخاطره فكرة الخروج من المغارة قال لوالدته جاء الأوان للخروج من هذه المغارة.

يقول مؤلف «بدايع الزهور» بقى سيدنا إبراهيم فى الغار اثنى عشر شهرا ، ولما كان يكبر فى كل شهر مقدار سنة ، كان مظهره فى مظهر الأطفال البالغين عشرة أعوام من عمرهم عند ما أراد الخروج من الغار. وبهذا أيد الرواية السابقة.

ولما رجا إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أمه أن تخرجه من الغار ، رجعت (أدنى) إلى بيتها وبعد تأمل عميق قالت لزوجها : قد ذكرت لك فيما مضى أن ابنك مات ، ولم أكن صادقة فابنك لم يمت ، وقد أصبح الآن شابا ملائكيا جميل الطلعة وهو الآن فى الغار وشرحت له الأمر كله.

وذهب آزر إلى الغار المذكور ولما رأى إبراهيم أعجب به وأحبه لجماله وكماله وقال لأمه : أخرجي الآن هذا الطفل لنقدمه للنمرود. وأخرجت الأم ذلك الغلام الموسوم بهداية البشر إلى خارج الغار. ولما خرج إبراهيم من الغار تأمل فى الكون ، ورأى عجايب الأرض والسموات وأدرك بعلم اليقين وأذعن أن هناك مبدع وموجد حقيقى للأجرام العلوية والسفلية ، فسارع بالاعتراف والإقرار بوجود الحق الذى ليس له مثيل من خلال هذا القول : «إن الذى خلقنى ورزقنى وأطعمنى وسقانى لربى الذى ليس لى إله غيره. ولم يكن فى ذلك الوقت فرد واحد على وجه الأرض يعترف بوجود إله واحد قهار».

وكان آزر كغيره من بنى البشر فى تلك الأوقات يعبدون النمرود ويشربون من كأس الندامة المتصف بالكفر. وكانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب والأصنام المنحوتة ويقدمون نجوم السماء ويهتمون بعبادة الكواكب لتوهمهم أن لها تأثيرا فى سير الكون وإحداث الأشياء.

وكان أهل بابل ـ آنذاك على دين الصابئة يعبدون الشمس وضوء النجوم ويسجدون لنهرى دجلة والفرات.

كما أنهم عبدوا حكامهم وأقاموا لهم التماثيل ، واتخذوا هذه التماثيل آلهة وشغلوا بعبادتهم كانوا يعتقدون أن الروح شمعة فريدة منبثقة من النور الأصلى.

والطائفة الخبيثة التى كانت تعيش في بابل فى زمن النمرود هم جماعة معلومة متفرعة من أولاد سام وكانت لغتهم السريانية ودينهم الصابئة.

وكان الصابئة قديما تابعين لشريعة شيث وإدريس ـ عليهما السلام ـ وكانت كتبهم فى الصحف الشريفة التى نزلت على سيدنا شيث ، وكان كتاب شيث ـ عليه السلام ـ يتضمن محاسن الأخلاق ، ويدعو إلى الصدق والشجاعة ونجدة الغريب ، وينهى أهل الإيمان عن الميل إلى الباطل والانغماس فى الرذائل.

ويصلى الصابئة علاوة على الأوقات الخمسة فى وقت الضحى الأولى ، وفى الساعة السادسة من الليل ويصلون على الجنازة بدون ركوع أو سجود ويصومون فى السنة ثلاثين يوما وأحيانا تسعة وعشرين يوما. وبالنسبة لوقت الصوم يحرصون على أن يبدأ من الثلث الأخير من الليل حتى غروب الشمس.

والعيد عندهم فى ختام الصوم ، ويهتمون بمكة المعظمة وتفخيمها. ويحرصون على أداء الحج ، بزيارة مكان فى مدينة حران ويقدرون قبرين فى مصر ، إذ يظنون أن أحد هذين القبرين لسيدنا «شيث» والآخر قبل الصابئى «ابن شيث».

ولما كان الدين الذى ينتسبون إليه غاية في القدم وكان دينا حقا لم يستطيعوا أن يستمروا على مبادئه ، بل ضلوا فى النهاية وأخذوا يعبدون الأصنام والشمس والنجوم وتماثيل الحكام. ولما لم يستطع إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يجد بين الصابئة مرشدا يدله على الطريق المستقيم راح يبحث بنفسه عن حقيقة وحدانية الله.

وقد رأى أولا «الزهرة» أو الكوكب المضئ و «المشترى» ومن بعده «القمر» ثم رأى بعد ذلك «الشمس المشرقة» ، وقال بأسلوب الاستفهام الإنكارى : هذا ربى؟!

وعند ما رأى أن هذه الكواكب قد توارت خلف حجاب الأفول وغابت ، اتجه

إلى حضرة الواحد واجب الوجود ـ تعالى شأنه عن الولد والمولود ـ وهو حزين على الذى صدر منه بغير اعتقاد ، وهو لا معنى له ، وعبر بقول جليل وجميل المبنى : «لا أحب الآفلين».

وتبعا لبعض الروايات ، أن سيدنا الخليل بعد بقائه فى الغار مدة اثنتى عشرة سنة ، قال لأمه ـ ذات يوم من يكون ربى؟! وعند ما أجابته أمه : ربك ربى .. بادرها بالسؤال التالى ، ومن يكون ربك.

قالت (أدنى) ربى هو أبوك «آزر» فلما سألها ومن يكون ربه؟ قالت : رب «آزر» هو «النمرود» وبالتالى سألها : ومن يكون رب النمرود؟!

وهنا نهرته بقوله : «يا ولدى هذه الأسئلة لا ضرورة لها ، واحذر أن تقول كلمة واحدة أخرى حول هذا الأمر ورغم أنها بهذا أرادت تهديد سيدنا إبراهيم ، إلا أنه قال : «يا أمى ، هل وجهى أجمل أم وجهك؟ وهل وجهك أجمل أم وجه أبى «آزر»؟.

وهل وجه والدى أجمل أم وجه النمرود؟

وعند ما أجابته بقولها : يابنى وجهك أجمل وأحسن من وجهى ووجهى أجمل وأحسن من وجه آزر ووجه آزر أجمل وأحسن من وجه النمرود.

وقال : «مادمت أنت خالقتى ، وأبى خالقك والنمرود خالق أبى فلماذا لم تخلقى نفسك أجمل منى؟ ولم يخلق آزر نفسه أجمل منك؟ ولم يخلق النمرود نفسه أجمل من آزر؟

ورغم أنه قد وضح بيان بطلان اعتقاد أمه بهذه الملاحظة الدقيقة ، فإن أمه كررت نفس الإجابة السابقة وصحبته إلى المدينة ، نقلت الحادثة التى وقعت بالتفصيل إلى زوجها آزر ، وقالت له : أظن أن ابنك هذا سيكون ذلك الكيان الهادى الذى أخبر عنه بأن ظهوره سيكون سببا فى خراب وانهيار بناء سلطنة النمرود من أساسه ، وأنه سيقضى على أديان أهل الأرض الباطلة.

ويظن البعض أن الذى أخرج سيدنا إبراهيم من الغار هو والده آزر ، إذ ذهب إلى الغار عند ما علم من زوجته بوجود ابنه هناك وفى نيته قتله ، وذلك لكى يثبت إخلاصه للنمرود. ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ مقلب القلوب جعل آزر يخاطب ابنه ـ وقد رأى جماله الآسر فعامله برفق ورقة وأظهر له المودة والعطف ، وذلك من حكم الله ـ سبحانه وتعالى ـ الخفية.

قطعة

سلبتنى قلبى يا إبراهيم وهو نار

بالحسن وليس لى فى ذلك اختيار

وفى نار تركتنى

وليس لنار النمرود من شرار

وبينما يبدى آزر محبته على ذلك النحو ، أبصر سيدنا إبراهيم من خلال باب الغار مجموعة من الإبل وقطعان خيل وغنم وقال ما هذا؟.

فأشار «آزر» إلى كل واحد منها على حدة ، وأجابه هذا يسمى غنم ، وذلك يسمى جمل ، وذلك يسمى خيل وعندئذ سأله : لا مخلوق بغير خالق ، ترى من يكون خالقى؟ فلما أجابه آزر خالقك هو أمك. وإذا سألت عن خالقها فأنا خالقها وخالقى هو نمرود. وعندئذ قال إبراهيم إذن فمن يكون خالق النمرود؟ وهنا غضب ولطمه بكفه على وجهه المبارك وأخرجه من الغار.

وعند ما خرج إبراهيم ـ عليه السلام ـ من الغار ، رأى كوكب الزهرة ، أو «المشترى» ثم «القمر» ومن بعده «الشمس» وقال وهو يشير إلى كل واحد منها «هذا ربى» أبى أليس هذا ربى؟ وعند ما غابت كل الكواكب المذكورة واحد تلو الآخر ، وأفلت كلها ، أفهم والده أنه على الدين الباطل وقال مقولته البليغة التالية «يا قومى أنا لست على دينكم ، إنكم تشركون بالله وأنا أتوجه إلى خالق السموات والأرض ـ سبحانه وتعالى ـ وأنا لست من المشركين». ولم يستطع «آزر» أن

يحس وأن يفهم صحة ما ذهب إليه ابنه فيما يعتقده ، وأخذه إلى قصر النمرود وقدمه للنمرود وهو شخص كريه المنظر قائلا : ها هو ذا النمرود ربنا كلنا.

وقال بعض المؤرخين إن آزر تأثر من تمسك ابنه إبراهيم برأيه وإصراره عليه وهو ضد دينه فبكى. ولما أدركت (أدنى بنت نمرة) أن النمرود الشقى عند ما يرى إصرار ابنه على رأيه سيقتله بدون شك. راحت تبكى هى الأخرى. فقال سيدنا إبراهيم وهو يسرى عنهما لا تحزنا من أجلى ولا تقلقا فالحافظ الحق الذى تكفل بحفظى وحمايتى فى صغرى ، يحمينى ويحفظنى أيضا فى كبرى.

ورغم أنه أراد أن يطمئن أباه وأمه بأنه لا يوجد احتمال تمكن النمرود من إصابته بضرر ما فى أى وقت من الأوقات ، إلا أن آزر فكر فى أن أعداءه سيزيدون من كراهية النمرود للطفل ، وعدائه عن طريق الوشاية ، ولذا عزم أن يبلغ النمرود الخبر بنفسه وأمر ابنه إبراهيم. فذهب إليه وقال : أيها الملك إن الطفل الذى كنت تخشى من ولادته هو ابنى إبراهيم ، لقد ولد فيما مضى خارج بيتى ولم أعلم بالأمر إلا اليوم. والآن وقد علمت أقدمه لك وافعل به ما تود أن تفعله ، حتى لا تلومنى أو ترجمنى بعد ذلك.

وأخذ ابنه ـ بناء على الأمر الصادر من النمرود ـ إلى قصره ولما كان النمرود قبيح الوجه أشد القبح ، ويستخدم في حاشيته كثيرا من الشباب ذوى الشكل الملائكى فى الجمال فتعجب سيدنا إبراهيم من هذا الوضع الغريب وبدأ فى السخرية والاستهزاء بالنمرود تحقيرا له وقال : «ياله من خالق عجيب! فقد خلق نفسه غاية فى القبح وسوء المنظر وخلق هؤلاء الفتيان غاية فى الجمال».

وتبعا لبحث وتحقيق مؤلف «بدايع الزهور» فبرغم غضب النمرود على سيدنا إبراهيم بسبب كلماته تلك فإنه صمت فترة لحكمة يجهلها بنو البشر ، وأمر بحبسه إلى الصباح وأن يمثل أمامه فى المجلس الذى سيعقد بعد يوم وفى اليوم التالى أتو بإبراهيم إلى المجلس المنعقد فى حضور النمرود وعند ما رآه فى هذه المرة غضب لأنه لم يستطع أن يقنعه بترك دينه.

ورغم أنه أظهر علامات الحدة والغضب وبالغ فيهما إلا أن حسن جمال إبراهيم ولطف مقاله أوجد فى القلوب ـ سواء قلب النمرود أو غيره من الموجودين فى المجلس ـ محبة عميقة خالصة فأظهر لسيدنا إبراهيم الود وقال لأبيه يا آزر ابنك هذا صغير السن ولا يعرف ما يقول ومن العيب أن يظهر حاكم عظيم القدر مثلى ، معاملة غير لائقة لصبى صغير السن كهذا.

خذ ابنك إلى بيتك وأحسن معاملته وبين له قدرى وعظمتى ، وحذره من مغبة شدة غضبى وعظمة عقابى فأخذ آزر ابنه إلى بيته.

وكان آزر يسترزق من نحت الأصنام زاعما بالباطل كسب المال الحلال ولم ينس وصية النمرود فى تحذير ابنه وتهديده من غضبه. وأشرك إبراهيم ابنه فى عمله وكان يأخذ الأصنام التى يصنعها الأب ليلا إلى السوق نهارا ويبيعها وفق أوامر أبيه ، وتحمل حضرة الخليل لفترة مهمة القيام بهذه الخدمة الكريهة وهى بيع الأصنام رعاية لحقوق الأبوة ، وكان إذا خرج إلى الطريق لبيع الأصنام التى سلمت له يظهر أنواع التحقير والاستهانة والكراهية لهذه الأصنام وكان ينادى «من يشترى هذه الأصنام التى لا تضر ولا تفيد؟ وكان يربطها أحيانا ـ ويجرها فى الأسواق ممرغا وجوهها بالتراب كالجيفة القذرة. ويأخذها إلى حافة الماء ويقول اشربى الماء ويقلب رؤوسها إلى الأسفل.

وكان لا بد أن تثير هذه الأعمال النماردة المتعصبين ، إلا أنهم لم يقدروا أن يتعرضوا له بسوء ، احتراما لآزر وخوفا منه لأنه كان يشغل منصب «حارس الأصنام» وهو بحكم منصبه هذا يتمتع بمكانة لدى موظفى حكومة النمرود وكان له رأى مسموع وحكم نافذ.

وكانوا يشترونها منه حيثما يرونه. ورغم أن هذا الأمر وصل إلى سمع «النمرود» إلا أنه كان قد نسى الرؤيا وتحذيرات الكهنة ، لذا لم يهتم بما ظنه شائعات مغرضة إلى أن حل عيد النماردة المشهور.

وكلما كان يحل هذا العيد يقوم كل إنسان بإعداد كل ما يستطيع إعداده فى

بيته من أنواع الأطعمة اللذيذة ، ويضعونها حول الأصنام التى فى المعابد ويذهبون إلى الصحراء ، ولدى العودة مساء يسعون لعبادة أصنام المعبد ويأخذون بقايا الطعام المتروك فى المعبد.

ويقسمونه فيما بينهم. وكانوا يعتقدون أن أكل الأطعمة التى أخذوها من هناك ستجلب الخير والبركة لمنازلهم. وكان الفئران وسائر الحيوانات تلتف حول الأطعمة وتأكل أكثرها. وكان أفراد النماردة الذين يرون نقص الطعام يقولون إن آلهتنا قد رضيت عنا إذا أكلت من طعامنا ويظهرون السعادة والسرور والفخر لهذا.

وكان هذا المعبد فى ذلك العصر من أمتن المعابد وأجملها حيث توضع الأصنام فيها وقد غطيت جدرانه بالرخام الأبيض والأخضر. وكان فى داخل هذا المعبد ثلاثة وسبعون صنما مصنوعا من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس والحجر والأشجار وقد وضع كل واحد منها فى مكانه اللائق.

وكان كل صنم من الأصنام المذكورة موضوعا فوق كرسى من الذهب ، كما وضع على رأس أكبرها ـ ويسمى «بهو» تاج مرصع بالجواهر الفاخرة ، وكانت عيناه مصنوعة من الياقوت الأحمر (١). ورصت بقية الأصنام عن يمينه وشماله. «بدايع الزهور».

وعند حلول العيد المذكور ، شغل صغار النماردة وكبارهم بإعداد وترتيب لوازم العيد ، وذهب جمع غفير من الناس إلى حضرة الخليل وطلبوا منه مرافقتهم قائلين : «يا إبراهيم سنذهب غدا إلى ساحة العيد الواقعة فى صحراء كذا فإذا ذهبت معنا ورأيت ما أقيم من الزينات وآلهتنا بعد العودة ستؤمن بأننا على دين أفضل ، ومنهج مرغوب ومستحسن ولكن الخليل تمتم قائلا سأحطمها وعزم فيما بينه وبين نفسه على عدم الذهاب إلى الصحراء مع هؤلاء الكفرة ونظر إلى السماء ـ مثل العارفين بعلم الفلك مسايرا لما يعتقده النماردة وقال : يبدو فى اتصال

__________________

(١) إن صنع عينيه من الياقوت كان يغرى الحمقى المشركين بتصديق الكهنة بسرعة.

الكواكب أن مرض الطاعون قد يلم بى واستأذن من والده آزر أن يسمح له بالبقاء فى المدينة وادعى المرض.

وتركه النماردة خوفا من أن يعديهم بالطاعون وذهبوا إلى الصحراء. وخلت المدينة من الناس.

وذهب إبراهيم وحيدا فريدا إلى معبد الآلهة التى كانوا يقدسونها ويعتزون بها ودخل فيه ، وأخذ يسخر من الأصنام قائلا : ألا تأكلون هذا الطعام؟ ماذا أصابكم حتى لا تجيبوا؟ ثم أسقط الأصنام الاثنين والسبعين المرصعة والأوثان المزينة بطلاء الذهب من فوق كراسيها فصارت جزازا وعلق الفأس فى رقبة أكبر صنم منها وهو «بهو» وبعد أن فعل هذا رجع إلى بيته (١).

وكانت حكمة سيدنا إبراهيم من تعليق الفأس فى رقبة «بهو» أن يقول للنماردة «سلوا الأصنام التى تعبدونها وقد صارت ألف قطعة ليقولوا من الذى فعلها ، وجعلهم على هذه الحال» فهو يريد أن يعرفهم بأن الأصنام لا يمكنها أن تتكلم حتى يشعر النماردة المتعصبون بالحقارة ويستحيوا من أنفسهم.

ورجع النماردة الضالون من ساحة العيد وذهبوا إلى معبد آلهتهم كعادتهم. وعند ما رأوا الأصنام المطلية بالذهب التى يعبدونها ويقدسونها منذ سنوات طوال ـ وقد تحطمت جزازا بكوا بحزن وحرقة وتألموا ، وارتموا على الأرض من شدة الخوف وتأوهوا ، وأخذ كل واحد منهم يبدى رأيه فيما حدث. وقال أحدهم : «لقد سمعت ابن آزر يهدد بتحطيمها فمن المحتمل أن ينفذ ما عقد عليه العزم ليحقر ديننا ، واتفقوا كلهم على هذا الرأى وقالوا «إن إبراهيم بن آزر حطم آلهتنا وسحبوا المشار إليه إلى النمرود لاستجوابه وبدءوا فى تحقيق الأمر بسؤاله أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ وبعبارة بليغة أجاب سيدنا إبراهيم» بالنظر إلى الفأس المعلق فى رقبة «بهو» لا بد وأن يكون هذا التصرف الحقير قد بدر منه ، فاسألوه

__________________

(١) عند ما دخل حضرة الخليل إلى ذلك المعبد وحطم الأصنام إلى ألف قطعة كان فى السابعة عشرة من عمره ـ بدايع الزهور.

عما حدث إذا كان فى استطاعته أن ينطق ، وهو بهذا قد ألمح وصرح بأنه لا يليق بهم أن يعبدوا هذه الحجارة العاجزة عن إخبارهم بالضرر الذى أصابهم ولجأ النمرود وآزر إلى التهديد الذى لا يليق بالإنسانية لكى يسكتوا ذلك الرسول سعيد الطالع وتجرءوا على تعذيبه ، لإجباره على الكلام واشتدوا عليه فى القول وأغلظوا عليه حتى يعترف بما فعل. وأصروا فى حوار غير لائق لاستنطاقه.

ولما رأى النماردة إصرار النبى الجليل على ترديد الفقرات التى تشمل على حقائق ثابتة «أتعبدون ما صنعت أيديكم ، فى حين أنها وأنتم من خلق الحق سبحانه وتعالى».

عندئذ أدركوا أنهم لن يستطيعوا إجبار سيدنا إبراهيم على السكوت ، وبعد مناقشات مطولة ظهر عجزهم فى اتخاذ القرار اللازم ، واضطروا لحبسه وسجنه مدة ثلاث عشرة سنة وفى النهاية قرر النمرود ـ وفى قول آخر عمل برأى رجل قبيح المظهر من أكبر بلاد فارس اسمه «هيوم» ـ وعزم على إحراقه فى النار. وبنى مبنى ذا جدران عالية أمام الجبل الواقع مقابل قرية «كوثى (١)» من ملحقات الكوفة أو البصرة ونقل إليه حطبا يكفى حرقه لأربعين يوما وعلى رواية لثلاثمائة وست وستين يوما (٢).

وكذلك أشياء أخرى قابلة للحرق وملئوا بها المبنى المذكور وسكبوا عليها الزيت وأضرموا النار فيها من الجهات الأربعة.

استطراد

نظرا لوجود حى فى مدينة «أورفة» معروف باسم «كوثى» وبه مزار على اعتبار أنه المكان الذى ولد به سيدنا إبراهيم وبناء على هذا يتحتم أن يكون موقد النار المعد لحرق سيدنا إبراهيم فى «أورفة» وقد عرف أن هناك صندوقا أخضر على أنه مهد حضرة الخليل وهو داخل الغار الواقع أسفل قلعة «أورفة» وهم

__________________

(١) اسم هذه القرية حسب بحوث المؤرخ «سدّى» هو غوطة ـ بدايع الزهور.

(٢) هذه المدة حسب رواية سدّى هى ثلاثة أشهر كاملة. بدائع الزهور.

يطلقون اسم «كوثى» على الحى الواقع بمحاذاة هذا الغار وهو متصل به كما يوجد فى هذه المدينة خرابة يطلق عليها قصر النمرود.

ويوجد غير هذا فى أحد الأبراج أطلال قلعة «أورفة» أطلال عمودين من الحجر يبعد أحدهما عن الآخر مسافة خمسين ذراعا.

وهذان العمودان معروفان بين الأهالى على أنهما المنجنيق الذى أعد لسيدنا إبراهيم.

وحسبما سمع من أهل أورفة ، فقد مد إلى هذه الأعمدة حبلان سميكان ، مثل الحبال التى تمتد بين المآذن ثم علقت هذه الحبال بشجرة وتركت فجأة وهكذا ألقى سيدنا إبراهيم فى خرائب المنجنيق الذى سنبين شكله فيما بعد. انتهى.

الشكل الثالث

كان طول المبنى الذى أعد موقدا لسيدنا إبراهيم ستين ذراعا (٨٥ قدما) وعرضه أربعين ذراعا (٥٦ قدما و ٨ بوصات) وكان ارتفاع الجدران ٨٥ أو ٤٢ قدما وعلى قول ٢٨ قدما وأربع بوصات.

بيت

أيها الواعظ ما فى جهنم من نار بها تفزعنا

إنهم يأتون منها بالنار ليحرقوا كلامنا

وحسب مضمون هذا البيت ، فإن كل الدواب التى نقلت المحروقات إلى المحرقة كانت تتحرك ببطء ما عدا فصيلة البغال ، فقد كانت تسير بسرعة ، ومنذ ذلك الوقت حرم عليه التوالد والتناسل.

وكذلك الحيوان المسمى بالضب فقد أصبح قتله واجبا شرعا ، لأنه ساعد النماردة الضالين فى إشعال حطب المحرقة المذكورة.

أضرمت النيران فى الحطب ـ الذي يملأ المحرقة ـ مدّة أربعين يوما متتالية ، واشتدت حرارتها لدرجة أنها لفحت وجه السماء وكانت الطيور التى تحلق مرتفعة تتساقط إلى الأرض مثل قطرات المطر ، حتى إن سكان المدن والقرى المجاورة أشرفوا على الهلاك من شدة دخان النيران المشتعلة.

وأعد بعض الأفراد سراديب تحت الأرض لحماية أنفسهم من شدة الحرارة ، فقد كان لهيب النيران يمتد إلى الأماكن المتناهية فى البعد. «بدايع الزهور» عند ما بلغت حرارة المحرقة منتهاها ، جردوا سيدنا إبراهيم من ملابسه ، وربطوا يديه وقدميه بسلسلة من الحديد بشكل محكم ـ ثم أجلسوه فى كفة المنجنيق الذى

صنعه النماردة بوحى شيطانى ، وكان عمر سيدنا الخليل ـ آنذاك ـ قد تجاوز السابعة عشرة. وفى قول آخر التاسعة والعشرين.

وعند ما أراد النماردة ـ المشركين ـ أن يجردوه من لباسه الذى يستخدمه كسروال داخلى لجسمه الشريف ، ليكشفوا عورته للنيران شلت الأيدى التى امتدت للباسه الشريف. ولم تتحرك ، وجاء النمرود وهو فى غمار هذه الحال التى تبعث الدهشة واستدعى حضرة الخليل ـ على نبينا وعليه التبجيل ـ وقال له : يا إبراهيم إننى سألقى بك فى هذه النار فلترى إلى أى إله ستتضرع وينجيك؟ فلما أجاب ربى الذى يحيى ويميت. واستدعى اثنين من المحكوم عليهما بالقتل ، فعفا عن أحدهما وأطلقه ، وقتل الآخر ، كأنه يقول أنا أحيى وأميت مثل ربك.

وعند ما ما تلقى سيدنا إبراهيم هذا الرد الذى يوحى بالبلاهة تعجب من حماقة النمرود وبمقتضى المثل عديم المثيل قال : إن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فسكت النمرود ولم يستطع الرد ، وبهت.

ولكن النمرود المغرور العاتى العنيد لم يتعظ من هذا الحوار وأمر بإلقاء إبراهيم فى النار المشتعلة الملتهبة.

وفى نفس اللحظة جاء ملكان وأمسكا بحضرة الخليل من جانبيه وأنزلاه وسط النار بمنتهى الهدوء والوقار. وجاء جبريل ـ عليه السلام ـ بخلعة من خزانة الجنة وألبسها له. وأعد ـ بأمر الخالق ـ بساطا مزركشا لا مثيل له وفرشه فى المكان الذى سيقيم فيه ونمت خمائل كثيرة فى الجهات الأربعة ، عرضها وطولها عشرون ذراعا (٢٨ قدما و ٤ بوصات).

وفى وسط هذه الخميلة التى تفوق الخيال ، وعلى حافة المكان الذى جلس فيه سيدنا إبراهيم كان يجرى ماء فرات يبعث الحياة.

أبيات

شاء النمرود الدون للخليل إحراقا

إلا أن تلك النار أصبحت نورا براقا

ولما بلغت النار عابد الرحمن

أصبحت روضة تبدو سعيرا للعيان

وفى أثناء وضع سيدنا إبراهيم على كفة المنجنيق لإلقائه فى النار ، أجهش ساكنو الملأ الأعلى بالبكاء وكذلك العالم الأسفل ، ودعوا الله قائلين :

«يا مالك الملك على الإطلاق ، إن أعداءك يلقون بحضرة الخليل فى النار ، فبعد هذا لن يبقى على وجه الأرض من يعبدك ، لأنه لا يعترف بوحدة وجودك ـ على الأرض ـ سوى سيدنا إبراهيم ، فإذا أذنت فإننا ننصره» بلغ طنين النداء عنان قبة السماء والأفلاك واسودت طبقات أعتاب السماء وأضحت مثل لون الأرض ولكن الخطاب الإلهى دوى : (إبراهيم خليلى ، وليس لى خليل سواه وأنا ربه وليس له رب سواى فإذا طلب منكم النصرة فساعدوه ، فقد أذنت لكم. ولكننى متأكد بأنه لن يدعو سواى) وهكذا سعى الكل إلى عرض نصرته وعونه لسيدنا إبراهيم بصورة ما ، فأجابهم سيدنا إبراهيم : «حسبى الله ونعم الوكيل».

فأصبحوا فى حزن وهم وقد سمعوا هذا الجواب من إبراهيم. وفى أثناء إلقاء الخليل فى النار كان يردد :

«لا إله إلا أنت ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك»

فانصهرت السلاسل الحديدية التى كبلت جسمه النبوى المغمور بالنور وسقطت على الأرض ، من شدة حرارة لهيب النار التى لم تستطع أن تؤثر فى جسمه الميمون ـ عليه التعظيم وفى وقت إلقائه فى النار ـ ظهر جبريل الأمين وخاطبه قائلا : يا إبراهيم ، إذا كان لديك طلب منى فقله ، فالوقت قد ضاق فأجابه قائلا : لقد وجهت وجهى إلى واهب الآمال الذى هو قبلة المحتاجين فى العالم ولا حاجة لدى أعرضها عليك فقال : إذا كان الأمر كذلك فاعرض ما فى ضميرك لكى تنال مرامك ، فأجاب إبراهيم عليه السلام : إننى أعتبر الدعاء فى هذه الحالة سماجة ، فعلم الله بحالى يغنى عن سؤالى.

بناء على هذا ، فإن النار الموقدة منذ أربعين يوما أصبحت بأمر الله روضة أزهار يانعة ، تنعش الروح ، وتأسر القلب بمقتضى الخطاب الكريم الجليل.

((يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)) (الأنبياء : ٦٩) وبالخطاب الإلهى تحول داخل المحرقة إلى عالم آخر ، وانقلبت نار النمرود إلى هواء عليل ، وفقدت النار قوة إحراقها وإن بقى لهيبها عاليا. وتفجر داخل هذه المحرقة التى تشبه جهنم ماء عذب بارد ، ونبتت فى جهاتها الأربعة فصائل الأزهار المختلفة الألوان وتزينت بكل أنواع الرياحين. وخلق ملك ، له شكل وصفات سيدنا إبراهيم ـ عليه التحية والتعظيم وأخذ يؤنسه بالتحدث معه.

(شمس التبريزى).

ذكرها الخليل محبورا

وأصبحت نار الخليل كلها

النسرين حمراء كالورد

لخليل رب الوجود

إذا جال التساؤل الآتى بالخاطر ما الحكمة من امتحان الله تعالى نبيه إبراهيم بإلقائه فى نار النمرود؟! مع أنه خليله؟ بينما لم يمتحن مخلوق قط ، حتى زمن إبراهيم بإلقائه فى النار؟! يكون الجواب.

إن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان يخاف من نار جهنم خوفا شديدا ، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يبين أن النار لا تستطيع أن تضر أحدا إلا بإذنه ، لذا ابتلاه بإلقائه فى النار.

(بدايع الزهور).

بعد هذه الواقعة بأربعين يوما ، كانت النار التى انشغل النمرود بإيقادها مدة طويلة يراها من نافذة قصره المنيف وقد أصبحت روضة من بساط أخضر ، وصحراء تبهج القلب وتسعد الفؤاد ، مزينة بزهور النسرين الندية ، وكان سيدنا إبراهيم يجلس على حافة المياه التى تجرى داخل روضة الأزهار النادرة ، والحديقة

الغناء وهو يرتدى القميص الذى جلب له من خزانة الجنان ، وقد غرق فى بحر المحبة والصحبة مع الملاك الذى يشبهه قلبا وقالبا واستولى على النمرود قلق وحيرة مما يرى ، وقال مخاطبا إبراهيم لو أن المكان الذى أنت فيه كما يتراءى لعينى يدل على أن ربك إله عظيم ذو مقدرة خارقة وعظمة هائلة فأنا أومن به ، وإن أمكنك التحرك من هذا المكان الذى تحيط به النار وتحرق ما حولك. فتعالى ، وجاء الجواب نعم إن النار لا تستطيع أن تحرق قدمى ، فناداه قائلا إذا كان الأمر كذلك فتعال إلى لأرى فخرج سيدنا إبراهيم من النار التى تشبه الجحيم وهو حافى القدمين وذهب إلى ناحية النمرود.

حكمة

قال مؤلف بدايع الزهور عند ما كان نمرود يمعن النظر من قصره إلى حضرة الخليل ، تطايرت شرارة من المحرقة ، فأحرقت كل الملابس التى كان يرتديها النمرود المشئوم الطالع الملعون ، لكنها لم تمس جسده بضرر وهذه إشارة لطيفة توضح أن النار لا يمكن أن تصيب أى إنسان بضرر ، طالما لم يأذن الله القادر بالأذى.

وعند ما رأى النمرود أن النار لم تصب حضرة الخليل بضرر أو أذى قال : يا إبراهيم كنت تتحدث مع شخص يشبهك ، وأنت بداخل هذه الروضة ، من كان هذا الشخص؟ ولماذا كان يطوف حولك؟ وتلقى جواب إبراهيم : هو ملك الظل أرسله إلىّ حضرة القادر لأتحدث معه ، عندئذ كف يده عن إيذائه وإرهابه وقال : يا إبراهيم لا يمكننى أن أقبل دينك وأترك كل هذه الرفاهية والأبهة والسلطنة ولكننى سأنحر القرابين تقربا لإلهك لأنال رضاءه وأذبح أربعة آلاف ثور ومثلها من الشياه.

إلا أنه زاد طغيانه فيما بعد وهبّ لتحدى خالق الإنس والجن ومحاربته ، فسلطت عليه بعوضة وهى أضعف مخلوقات الله فكان موته من قرصتها.

وفى تلك الأوقات كانت النار تحرق الحيوانات التى يذبحها الأفراد قربانا لله

دليل قبوله. وعند ما رأى النمرود أن القرابين التى ذبحها لم تلق قبولا عند الله ، لأن النار لم تمسها خجل من الذين يعبدونه ودخل داره ولم يسمح لأحد بالدخول إليه. أما تصرفه هذا كان سببا فى دخول كثيرين من أتباعه فى الإسلام وهكذا لاذ هؤلاء السعداء بقلعة الإسلام المتينة.

وكان للنمرود بنت تسمى «رغفت (١)» وكان نور الهدى والسعادة يتألق فى جبين هذه البنت. وقد استأذنت «رغفت» والدها فى الذهاب إلى حافة المحرقة لرؤية إلقاء حضرة الخليل فى النار. وأراد النمرود أن يمنع «رغفت» من الذهاب فادعى كذبا موت إبراهيم قائلا : «يا ابنتى لم يبق أثر حتى لرماد إبراهيم».

لكن «رغفت» ألحت فى الرجاء ، وأخذت الإذن من والدها وذهبت إلى حافة المحرقة التى ألقى فيها سيدنا إبراهيم حضرة الخليل وسط روضة عجيبة الأزهار ، فقالت : «يا إبراهيم ، ما أحسن حالك النار لم تحرقك» فلما أجابها «إن النار لا يمكن أن تحرق أولئك الذين فى قلوبهم معرفة الله الكريم وفى لسانهم الكلمة المنجية» بسم الله الرحمن الرحيم فقالت «إذا أذنت لى أن أذهب إلى جوارك» ودخلت وسط النار وهى تردد الكلمات المنجيات بلسان الصدق والإخلاص على النحو الذى علمها حضرة إبراهيم «لا إله ، إلا الله إبراهيم خليل الله.

ولما لم تحترق أقرت واعترفت بلا تردد بوجود الله موجود الوجود وسعدت بنيل الوصول إلى سعادة الإيمان السرية. وعند ما ضاق والدها النمرود وتكدر من إيمان «رغفت» بإله إبراهيم ، ولم تؤثر فيها النصائح التى ظل ينصحها بها كثيرا لكى ترتد فقيدها من يديها وقدميها ، ولكنه لم ينجح فى صرف ابنته عن دين إبراهيم ، لأن حضرة الخليل نقل «رغفت» إلى مكان آخر ، صور الله سبحانه وتعالى القادر المطلق إحدى بنات النماردة ممن أمعن فى الكفر والشرك على هيئة «رغفت» فقتلها النمرود ظنا منه بأنها «رغفت».

__________________

(١) يروى أيضا أن اسمها رعفه.

وبعد هذا نقلت «رغفت» إلى المكان الذى هاجر إليه سيدنا إبراهيم ، وتزوجت من مدين بن إبراهيم ، وأصبح لها من مدين عشرون ابنا وحفيدا واكتسى أكثر هؤلاء خلع النبوة الفاخرة.

وعند ما نجا إبراهيم ـ عليه السلام ـ من ضغوط النمرود ، صدق بنبوته لوط بن هارون والآخرون من الوجهاء وسعدوا بنيل مرامهم ، أما سارة بنت هارون فسبقت الجميع فى الاعتراف بنبوة إبراهيم وردت على تساؤل (أدنى) يا سارة ألا تخافين أن يقتلوك؟

أجابت : كيف أخشى وقد آمنت بإله ابنك خليل الله ، ولا بد أن يكون هدف (أدنى) من هذا السؤال هو اختبار مدى قوة إيمان سارة ، لأن الحافظ السهيلى. نقل رواية تتصل بهذا الموضوع والتى تبين أن (أدنى) كانت من أهل الإيمان لكنها أخفت إيمانها وكتمته عن النماردة.

وقد اختلف المؤرخون السابقون فى تحديد شخصية هارون ، فقال بعضهم إن هارون كان ملكا على مدينة حران.

وقد تزوج حضرة الخليل من ابنته سارة لما هاجر إلى حران ، وقال بعض المؤرخين إن هارون كان أخا إبراهيم.

وقال الآخرون : إنه كان عمه الأكبر ، وكان الزواج من ابنة الأخ جائزا شرعا فى تلك الأوقات.

وهناك من يدعى أن أخا إبراهيم وعمه يحملان اسما واحدا وهو هارون وأن ناحور جد سيدنا لقمان بن باعور أخو هارون ويفهم من هذه الرواية أن السيدة سارة كانت ابنة ناحور ، والله أعلم بالصواب.

الشكل الرابع

إخطار :

على رغم عدم وجود المعلومات الصحيحة حول ما إذا كان المنجنيق الذى علمهم صنعه إبليس ذو التلبيس لإلقاء سيدنا إبراهيم فى النار هو نفس الآلة التى بينا شكلها أم لا. ولكننا نستطيع أن نحكم أنها تشبه المنجنيق الذى اخترع فى زمن النمرود الشقى ، خاصة أن هذه الآلة من الآلات الحربية القديمة المستعملة فى الحروب قبل اختراع الأسلحة النارية.

ونقول فى وصف شكل الآلة المذكورة ، إنها عبارة عن قطعتين من الخشب قويتين ورصينتين ، وربطت كل منهما بالأخرى فى شكل أفقى ، ومدت بينهما أحبال وغرست فيها ـ فى نهاية الخشبتين والموضوعتين بشكل أفقى ، بواسطة وتر طويل بقدر كاف مثل الملعقة ، وقد ربطت بوتر أفقى ثالث من أطرافها العلوية.

أما طريقة استعمال هذه الآلة ، فإن الوتر «م» ينتقل إلى الوضع الأفقى بواسطة البكرة «دد» مرميها وتوضع الأشياء التى ستلقى فى الوتر (م) المذكور ويتم إرخاء ذلك المسمار وتلك البكرة وهكذا تصطدم الخشبة (م) بالوتر ق وتلقى الأشياء إلى النقطة المطلوبة.

صورة هجرة سيدنا إبراهيم إلى مصر :

بعون الحق وعناية فيض الله المطلق نجا إبراهيم من نار النمرود ، وتزوج بسارة ابنة أخيه وعلى قول ابنة عمه ، وظل لفترة طويلة منتحيا جانبا ، يعالج الآلاف من أهل معقل العصيان مرضى القلوب من خلال إرشاداته الشافية.

ولما أخبره ابن أخيه لوط أن النمرود يريد أن يزعجه (١) بالكيد والإساءة إلى

__________________

(١) كان سيدنا إبراهيم آنذاك على اختلاف الروايات فى الخامسة والسبعين من عمره.

الآخرين ، اصطحب سارة وابن أخيه واتجهوا نحو مصر ليبتعدوا عن شرور النماردة المستحقين اللوم واللعنة. وقبل ذلك أقاموا قليلا فى حران ، ثم فى بعلبك الشام ولم يمكثوا فى مصر ذات الأهرامات طويلا ، وغادروا راكبين إلى الشام ونزلوا فى وادى السبع وكان قد اصطحب معه أمه مع والده آزر ، غير أن آزر انتقل إلى دار الآخرة فى مدينة حران وقد بلغ الخمس بعد المائة.

إضافة :

وادى السبع موضع فى «طريق الرقة» وقد قال «وائل بن قاسط» عن سبب تسميته «ما أدرى عن هذا شيئا إلا أنه وادى السباع» ووائل هذا رجل من مشاهير العرب دخل بالصدفة إلى خيمة أسماء ابنة ريم فى أثناء عبوره من المكان المذكور. وكانت أسماء فائقة الحسن ونظرا لوجودها بمفردها فى خيمتها عند مجئ «وائل بن قاسط» فطمع فى أن يقضى وطره منها فامتنعت وهى تدافع عن نفسها قائلة : «إذا لم تكف يدك عنى فإننى سأستدعى سباعى ، ولم يكن وائل يرى أحدا سواها ، وعند ما قال لها يا ترى أين سباعك؟!

نادت أسماء بصوت عال : يا كليب يا ذئب ، يا دب ، يا فهد ، يا سرحوف ، يا أسد ، يا ضبع ، يا نمر.

وهذه الأسماء كانت أسماء أبنائها فظهر كل واحد منهم من ناحية وهو شاهر سيفه فخاف وائل منهم وظل يقول «ما أدرى هذا إلا وادى السباع» ، لذا أطلق اسم «وادى السباع» على الموضع المذكور.

وقلة من المؤرخين الذين بينوا سبب هجرة سيدنا إبراهيم : «فى اللحظة التى نجا فيها حضرة الخليل من نار النمرود صدق بنبوته لوط بن أخيه هارون وسيويل بن ناحور ابن أخيه الآخر وسارة ابنة هارون ابنة عمه وسارعوا بالاعتراف والإقرار بوجود واجد الوجود.

وتكاثر أتباع خليل الرحمن بإقبال الناس على الإيمان بوحدانية الله ـ سبحانه

وتعالى ـ أما صناديد النماردة فكانوا قلقين من تزايد عدد المسلمين وأخذوا يبحثون عن وسيلة للقضاء على حضرة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وإبعاده من كل بابل وما حولها.

وأخذ النماردة يؤسسون الجمعيات فى كل مكان ويوسعون دائرة الشر ويعملون على تقوية أنفسهم حينئذ عثر النمرود على حضرة الخليل ، وقال له :

«يا إبراهيم! أصبحت إقامتك هنا غير مأمونة الآن ، وربما ستكون خطيرة ، لذا يستحسن أن تهاجر إلى مكان أمين تقيم هناك فترة وتستريح.

ووافقت فكرة الهجرة فكر إبراهيم أيضا فترك مدينة بابل متجها إلى مصر ، وعند دخول حضرة إبراهيم إلى الحدود المصرية علم أن شرفه وعرضه لن يسلم من اعتداء فرعون. وبناء عليه وضع السيدة «سارة» فى داخل صندوق فى أثناء دخوله إلى مصر ولكن الموظفين المنتشرين خارج المدينة وداخلها كسروا هذا الصندوق بالقوة ، وأخرجوا السيدة سارة رضى الله عنها.

ولما أعجبوا بحسنها الأخاذ وجمالها أبلغوا فرعون بالأمر وتكفل به الجواسيس الذين كانوا معهم إذ أسرعوا إلى فرعون قائلين : قد جاء إلى مقر عرشك رجل وزوجته تمتاز بجمال فريد وحسن لم ير أو يسمع عن مثله حتى هذه اللحظة وسهلوا له استدعاء إبراهيم.

وبناء على هذا أحضروا إبراهيم ـ عليه السلام ـ وزوجته إلى فرعون.

إخطار :

كان فراعنة مصر فى ذلك الوقت يقيمون فى بلدة منف. وكانوا يأخذون الرسوم والضرائب من المسافرين الذاهبين والقادمين بواسطة حراس الطرق وفق نظم موضوعة.

رغم وجود أقوال كثيرة ومختلفة حول السن التى كان بلغها حضرة الخليل عند هجرته إلى مصر ، فإن صاحب تاريخ العالم قد قبل الرواية التى تخبر أن سيدنا

إبراهيم كان فى السبعين من عمره ، كما اتفق المؤرخون على أن فرعون مصر فى ذلك الوقت كان «سنان بن علوان» من أبناء سام بن نوح عليه السلام.

ومع هذا يدعى صاحب «بدائع الزهور» أن اسم فرعون الملك هو طوطيس «انتهى».

عند ما رأى فرعون جمال سارة وحسنها ـ رضى الله عنها ـ سحر بهذا الجمال الذى وصف بأنه قطعة من نور السماء. تحركت رغبته الشهوانية ، استدعى خليل الرحمن وسأله ما صلة سارة بك؟ وسرعان ما أدرك نيته تجاه أمنا سارة.

ولم يكن فى ذلك الوقت فى مصر من يعبد الله الحق ، لذا خاف إبراهيم ـ عليه السلام ـ من تعرض «سارة» لسوء فأجاب قائلا : «إن سارة أختى وبهذا كان يريد أن يلمح أن سارة أخته فى الدين ولم يكن هنا أحد يعرف حقيقة الأمور.

وإن كان فرعون اقتنع بأن سارة أخت إبراهيم من بطن واحد إلا أنه قرر فى قرارة نفسه ألا يمنعه هذا الأمر من ارتكاب ما صمم عليه ، وأمر بأن يخرج إبراهيم من قصره. وتدخل «سارة» إليه فى خلوته ، وبدأ رأسا تنفيذ ما فى نفسه قائلا : «وإن كان إبراهيم أخاك فأنا لست أخاك» ومد يده إليها وتوهم أنه سينال منها. وبما أن زوجات الأنبياء مصونات لا تمسهم أيادى الأجانب والأعداء فلما أراد أن ينفذ ما يريده وإذا بجدران القصر المشيد وأسقفه تهتز وإذا باليد التى مدت إليها تشل (١) رأى (سنان بن علوان) هذا الحادث الشريف المخيف المرعب فاستولى عليه الخوف والفزع وطلب من السيدة سارة أن تدعو الله لتعود يده إلى حالتها الأولى. وأخذت السيدة «سارة» تدعو إلى الله وتبتهل فترة دون أن تنظر لما ارتكبه فرعون مصر. وإذا باليد التى شلت وجمدت تعود إليها الحياة كما كانت من قبل.

__________________

(١) سنان بن علوان هو أخو ضحاك من ملوك القبط واسمه عند البعض «صاروق» وإن الشخص الدنئ الذى أراد أن يسيئ إلى سارة هو «حلاون» ملك الأردن.

وكان هذا الفرعون الذى إنكب على الظلم والإهانة وأصر عليها ، قد تكررت محاولته ثلاث مرات وعلى رأى مؤلف ـ بدائع الزهور ـ سبع مرات ، فاندهش فرعون وسألها ما هذه الحال؟ وكان جوابها إن الرجل الصالح إبراهيم زوجى. وفهم فرعون حقيقة الأمر.

فأخذ يستعطفها وقال لها معظما موقرا : «يا سارة إننى لن أحاول أن أتعدى عليك مرة أخرى وإننى تخليت عن شهواتى النفسية» لذا أطلب منك أن تدعو ربك مرة أخرى حتى تعود يدى لحالتها الأولى. وقامت سارة تدعو الله سبحانه وتعالى قائلة : «إذا كان فرعون صادقا فى قوله أعد يده إلى حالتها الأولى» وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لدعائها فرجعت يد فرعون لحالتها الأولى.

إتعظ (سنان بن علوان) من هذه الحادثة المليئة بالحكم ، وأهداها جارية قبطية لا نظير لها وملكها لسارة ثم تركها تذهب إلى زوجها إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذى كان خارج القصر يعانى من القلق والاضطراب والحيرة كأنه غارق بين أمواج البحر المتلاطم.

إخطار :

بناء على بعض الروايات أن هاجر لم تكن جارية رقيقة بل كانت من بنات ملوك القبط. وقد أهداها فرعون لسارة قائلا : «ها أجر دعائك» وهذا يفيد سبب تسميتها «بهاجر».

أما إبراهيم ـ عليه السلام ـ فحينما أخذت سارة إلى خلوة فرعون أصيب الزوج حسب بشريته بالهم والغم واضطرب اضطرابا شديدا فلم يكن منه إلا أن يتوجه إلى عتبة قاضى الحاجات داعيا. وأراد الله سبحانه وتعالى أن يخلص إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أوهامه ووساوسه ، فحول جدران قصر فرعون الكثيفة إلى زجاجة شفافة لطيفة كأنها مرآة تعكس ما فى داخلها وهكذا رفعت من أنظار إبراهيم ـ عليه السلام ـ ستائر الظلام والحجاب وهكذا قد اطلع على ما جرى بين (سنان بن علوان) وبين سارة زوجته. ولما جاءت المشار إليها.

أبيات

مرت فى بحر الحسن هاجر

والصدف يجدر بالدر

وصلب الخليل الطاهر

وهبها ذلك الجوهر

فظهر على الفور حملها

كانت درة ، لا درة مثلها

كابن من جوهر ينفق فى أيام

أما هى فوديعة على الدوام

رغم أن المشهور هو أن ولادة سيدنا إسماعيل ـ باهر السعادة ـ كانت عام ٢٧٨٢ قبل الهجرة النبوية ، وعلى قول إنه كان سنة ٢٧٦٣ ، فإن هناك من يدعى أن ولادته كانت عام ٢٥٢٨ أو ٢٩٠٢ قبل الهجرة النبوية ، وكان سيدنا إبراهيم آنذاك فى السادسة والستين من عمره.

سبب سفر خليل الرب الجليل إلى واد غير ذى زرع

ومكة وطريقة سفره

سكن إبراهيم ـ عليه السلام ـ فى قرية تسمى «فسط» تقع بين البلدة المسماة «رملة» (١) و «أيلة» (٢) فى أرض فلسطين (٣).

وأصبح واسع الثراء مما ساعده على استضافة المسافرين الغادين منهم والرائحين.

__________________

(١) أيلة تضم ولايتى القدس وغزة.

(٢) اسم بلدة فى الشام.

(٣) اسم آخر للقدس الشريف تعنى فى اللغة السريانية بيت الله.

وعند ما اقترب وقت هلاك قوم لوط الخبثاء أخرج سيدنا لوط من بين الطائفة الخبيثة. ونزلت الملائكة ضيوفا على بيت خليل الله ، وبعثت السعادة فى نفس السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ بتبشيرها بولادة سيدنا إسحاق باهر السعادة.

ويروى أن هؤلاء الملائكة كانوا اثنى عشر ملكا ، وفى رواية أخرى أن الملائكة هم : جبريل وميكائيل وإسرافيل ـ عليهم السلام.

لم يعرف سيدنا إبراهيم أن ضيوفه كانوا الملائكة وقام بنفسه بخدمتهم وتوفير ما يلزمهم وذلك تعظيما لشأنهم.

وأعد لطعامهم عجلا صغيرا سمينا ، ولما رأى أن الضيوف لا يمدون أياديهم إلى الطعام علاه الخوف والوهم وبدت عليه مظاهر الخشية والرهبة فخاطبه الملائكة قائلين : «لا تخف يا إبراهيم إنا مرسلون لقوم لوط» (إبراهيم : ٧٠)

حينئذ أدرك أنهم رسل مكلفون من عند الله ، وصرح الملائكة بحقيقة الأمر وأفهموه أنهم نزلوا من السماء لكى يقهروا ويدمروا قوم لوط الذين زاد فجورهم وبغيهم ، كما بشروه بأن السيدة «سارة» ستلد له غلاما سعيد الطالع اسمه إسحاق.

كان هذا الحوار قبل هجرة نبينا عليه أفضل التحية ب ٢٧٩٢ سنة ، وفى قول آخر ٢٧٧٣ ، وفى قول ثالث ب ٢٥٣٨ سنة وفى رابع أنه كان قبل الهجرة ب ٢٩١٢ سنة.

كانت السيدة «سارة» فى ذلك الوقت تقف بجوار زوجها المكرم إبراهيم ـ عليه السلام ـ وسمعت ما قاله الملائكة الكرام ، ولكنها استبعدت أن يكون لها ولزوجها أولاد ، فهى ترى نفسها عجوزا كما أن زوجها شيخ كبير.

فقد كانت فى التسعين من عمرها ، وكان سيدنا إبراهيم فى السادسة والتسعين من عمره ، ولذلك تبسمت لبشرى الملائكة هذه ، ومع ذلك فقد جاءها الحيض ، وبعد انقضائه حملت ثم ولدت إسحاق ـ عليه السلام ـ بعد عشر سنوات من ولادة إسماعيل.

استطراد

فى الليلة التى سيولد فيها سيدنا إسحاق رأى سيدنا إبراهيم فى الرؤيا ، أن ألف كوكب مضىء يجتمع فى برج واحد ، وقص ما رأى على جبريل الأمين ورجاه أن يفسر له دلالة هذه الرؤيا. فقال له جبريل الأمين فى تفسير رؤياه إنها تشير إلى أنه سيخرج من الصلب الطاهر لابنك إسحاق الذى سيولد من زوجتك سارة ، ألف رسول سيكونون زينة الدنيا.

سر إبراهيم ـ عليه السلام ـ من التأويل وأخذ فى التضرع إلى الله قائلا : «اللهم اجعل لابنى إسماعيل أيضا نصيبا من هذه النعم الجليلة» وبمجرد ما انتهى من دعائه استمع إلى صوت هاتف يتردد بصداه يا إبراهيم ، سيأتى من نسل إسماعيل الطاهر نبى عظيم القدر ، كريم الخلق واجب التعظيم ، وسيكون هذا النبى بداية رسالة المرسلات وخاتم باب النبوة ، وهو مخلوق محمود ، وسبب وجود الرسل والأنبياء واسمه الشريف (محمد المصطفى).

فبدت عليه علامات السعادة ، وكان سببا فى ظهور تلك الساحة المزينة بالأنبياء وشكر الله معربا عن امتناعه وحمد الله على نهج الآية الكريمة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (إبراهيم : ٣٨).

(قصص النيسابورى)

إن السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ قد أنعم الله عليها بابن تسعى السعادة فى ركابه ، عالى القدر مثل إسحاق عليه السلام ، وقد غلبت عليها فى نهاية عمرها نوازع غيرة النساء بصورة تجاوزت كل الحدود. وكانت تغار من السيدة هاجر أم إسماعيل ـ عليه السلام ـ ولما رأت أن سيدنا إبراهيم يحب امرأته هاجر وابنه إسماعيل حبا جما قررت «سارة» ألا تألو جهدا لتكدير زوجها باستخدام جميع الأساليب المؤذية.

لم يستطع إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يتحمل أعباء الشيخوخة وظلم «سارة» وسخريتها فأراد أن يجأر بالشكوى من تصرفات «سارة» ولكنه قال فى نفسه «سارة ناقصة العقل وأنت من فحول العقلاء فعليك أن تتحمل سلوك غير المتزن كالرجال الشهماء» وعزم على السكوت. ومع ذلك حدث ذات يوم أن أعرب عن حبه لإسماعيل ابنه الأكبر فى وجود أخيه الأصغر إسحاق.

غار إسحاق من كلام أبيه بحكم صغر سنه ، وغضب من والده وخاصمه فأثار هذا غضب أمه سارة ، ولهذا أقسمت بالله أن تشوه جاريتها هاجر بقطع جزء من لحمها.

عند ما سمعت هاجر قسم السيدة سارة ملأها خوف شديد فأسرعت بالخروج إلى الوادى وقررت الهرب إلى مكان تأمن فيه على نفسها ثم ربطت فى خصرها (١) وتركت ذيل ثيابها يجر على الأرض ليخفى آثار أقدامها.

وعند ما هدأت غيرة النساء فى نفس السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ بعد فترة ندمت على ما بدر منها من قسم فى حق السيدة هاجر ، ووجهت كل أفكارها واجتهادها لتجد سبيلا للوفاء بقسمها دون أن تؤذى هاجر.

فقال لها زوجها المكرم : «يا سارة» اقطعى جزءا من اللحم الزائد من عضو هاجر المستور ليكون ختانا ، وافتحى ثقبا فى الموضع الرقيق من أذنها ، فإذا علقت به قرطا تكونى قد وفيت بقسمك. فختنت السيدة سارة السيدة هاجر وثقبت أذنها وعلقت بها قرطا وهكذا برت بقسمها.

إخطار :

كان هدف سارة ـ رضى الله عنها ـ من هذا القسم أن تنفر سيدنا إبراهيم من جاريته هاجر. ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أراد أن يجعل ختان هاجر سنة يتبعها المسلمون فاختتن إبراهيم ـ عليه السلام ـ وزوجته «سارة» أما ما يتعلق بثقب أذن

__________________

(١) يروى أن ربط النساء وسطهم بزنار هى عادة اكتسبنها من هاجر.

هاجر فقد أصبح ـ بالنسبة لسائر النساء ـ وسيلة من الوسائل للتزين والتحلى باللآلئ والجواهر. وتثقب النساء ـ الآن ـ آذانهن ، ويلبسن الأقراط ، بل إن هذه العادة تعتبر من مكملات الزينة لدى النساء.

وبعد فترة جد نزاع ـ من نزاعات الصبية ـ بين الأخوين ، جعل السيدة سارة فى ضيق وقلق دفعاها لإظهار ما فى قلبها صراحة وقالت لزوجها المكرم «إننى لن أستطيع بعد اليوم أن أعيش مع هاجر فى مكان واحد فخذها إلى مكان بعيد واتركها هناك».

وبناء على هذا أخذ حضرة الخليل زوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى أرض الحجاز العطرة وتركهما هناك.

وفى اللحظة التى أعربت فيها السيدة سارة عما فى ضميرها ، وأقسمت على عدم قدرتها على الحياة مع هاجر فى بيت واحد هبط براق من السماء كريح الصبا ، وقال إنه مأمور من الله بحمل حضرة إبراهيم إلى مكة. فما كان من النبى إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلا أن يركب البراق حاملا ابنه أمامه وزوجته خلفه ، وطاروا صوب مكة المكرمة ؛ وفق إرادة الله.

وفى أثناء الرحلة كان جبريل الأمين دليلهم ، وكلما مروا بمكان فى أثناء الطريق سأله حضرة الخليل هل سنهبط هنا؟ يجيبه جبريل الأمين : «لا سنذهب إلى مكان أبعد» وقابلوا فى مكان قرب حدود مكة المعظمة طائفة من قوم العمالقة أحبت هذه الطائفة سيدنا إسماعيل ولا طفوه وأعطوا له عشرة من الغنم (١).

والمعروف بين المؤرخين أن سلالة الماعز الموجودة الآن فى مكة وما حولها هى بقية نسل الماعز الذى أهداه العمالقة ـ آنذاك إلى سيدنا إسماعيل.

وعند ما وصلوا إلى جبل «كدا» المواجه لجبل «حجون» (٢) قال جبريل الأمين :

__________________

(١) هذه طبقا لتحقيقات بعض المؤرخين أهداها الجراهمة إلى إسماعيل ـ عليه السلام ـ بعد السيدة هاجر.

(٢) حجون : على وزن حبور ، وهو اسم جبل من الجبال الموجودة فى الناحية المسماة «المعلا من معلاة الكعبة ، أى من مدينة مكة.

«ستهبطون هنا فهذا المكان مقام عال. وهنا سيخرج من ذريتك رسول له شأن عظيم وبه تتم كلمة الإسلام».

ثم أنزل سيدنا الخليل فى المكان المقدس للبيت الشريف وكانت أرض مكة فى ذلك الوقت بيئة مليئة بأشجار البلوط وكانت خالية من الناس وتشبه الغابة ومحاطة بأشجار السنط المسماة «أم غيلان» من أشجار البوادى وكانت هادئة ساكنة.

وكان المكان المقدس للبيت الحرام مكانا مباركا مرتفعا بعض الشىء مغطى بالرمال الحمراء.

نظم

وفى النهاية خليل الله

عمر هذا البناء وأعلاه

وبقدم هاجر المهاجرة

أصبحت بها الصحراء عامرة

وشاهدت عيون تسعة أبناء

أن حمل الفلك كبش الفداء

تبعه عين ماء الحياة التى سالت

وجرى الماء وجرى قدم الحوض ليسلم

فتفجر ماء زمزم

وبعد أن أعطى سيدنا إبراهيم للسيدة هاجر جرة ماء ومقدارا من التمر ، وعلى قول ، إنه أعطاها ملء كيل من الدقيق وبين لها المكان الذى فيه حجر إسماعيل الجوهرة الخضراء داخل المطاف السعيد الآن. أو مكان بئر زمزم (١) الشريف وقال «يا هاجر ، أقيمى خيمة هناك ، واسكنى فيها ـ فهذا ما جرى به أمر قضاء الله».

__________________

(١) ذلك المكان الشريف كان مكانا لا نظير له ، يحتوى على أشجار غير مثمرة ذات ظلال وأفرع تحمى من حرارة الشمس.

فأجابته : «إذا كان هذا هو أمر الحق؟ فإن الله خير الحافظين سيحمينا ويحفظنا ، فتلقى إبراهيم هذه الإجابة من زوجته ورجع ـ وكان سيدنا إسماعيل فى ذلك الوقت فى الثانية عشرة من عمره.

تنبيه :

لا يجوز لأى إنسان أن يترك أولاده وزوجته فى البرية والخلاء تقليدا لسيدنا إبراهيم ، فحضرة الخليل عمل بالوحى الإلهى وتوكل على الله وهو يعلن أن الله خير الحافظين سيتولى حفظهم.

وتوكل عامة الناس لا يمكن أن يشبه توكل الرسل الكرام أولى العزم ، الذين ذكروا فى هذا البيت :

أولو العزم نوح والخليل بن آزر

وموسى وعيسى والحبيب محمد

وتقليد هذا العمل غير مشروع ، وجاء فى بعض الروايات أن السيدة هاجر عند ما رأت نفسها وقد تركت وحيدة فى ذلك الوادى الغير ذى زرع تتبعت زوجها وقالت له : «هل تتركنا وتمضى عائدا؟ ولم تتلق منه إجابة بنعم أو لا فسارت وراءه حتى جبل» «كدا» وعند ما وصل سيدنا إبراهيم إلى الجبل المذكور التفت وقال : يا هاجر ، إننى أستودعك الله أمانة عنده ؛ فقالت له : إذا كان قد أوحى إليك بهذا. فإن الله الواحد الأحد ـ الذى تركتنا فى كنفه ـ كافينا وكافلنا .. ثم عادت إلى جانب إسماعيل وصعد زوجها المكرم إلى قمة الجبل سالف الذكر.

فلما رأى أنه ترك زوجه وابنه فى مكان موحش خال من آثار العمران والزرع ، تأثر من فرط الرحمة والشفقة ودعا الله قائلا :

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم : ٣٧) ثم رجع إلى الشام.

وفى قول آخر ، إن السيدة «سارة» أصابتها الغيرة من إسماعيل ـ عليه السلام ـ وقالت : يا إبراهيم ، إذا كنت تريد لى راحة البال وهدوء الحال فاحمل هاجر وابنها إلى مكان قفر بلا ماء واتركهما هناك. ولما كان الوحى الجليل قد نزل آنذاك بأن يعمل تبعا لرأى سارة فإن ، حضرة الخليل ترك المشار إليهما مع جرة ماء فى واد غير ذى زرع بمكة ، ودعا على النحو السابق.

ولما كان دعاؤه مقبولا مجابا؟ فقد ظهرت قبائل «جرهم» و «قطورا» وعمرت مكة المكرمة ، وأصبحت آهلة.

كيف ظهر بئر زمزم الشريف :

عند ما نفذ الماء من الجرة التى تركها الزوج المكرم ـ عليه السلام ـ فى ثلاثة أيام ، ورأت السيدة هاجر أن ابنها إسماعيل أصبح على وشك الموت من العطش ولا حيلة له ، وهى أيضا لا حيلة لها ولا قوة ، فلبن ثدييها قد انقطع (١).

وبعد أن تأملت وبكت لفترة ، وهى فزعة جزعة من وحدتها فى ذلك الوادى الموحش ، تركت ابنها إسماعيل أسفل الخيمة التى أقامتها من قبل وصعدت فوق قمة جبل الصفا للبحث عن الماء. ومن فوق هذا الجبل نظرت تجاه ابنها ، حيث لا أثر لماء ، أو لإنسان يروح أو يغدو ، ونزلت إلى بطن الوادى ، وكان المكان المنخفض الذى تركت فيه ابنها يوارى ويحول دون رؤيته فألقت فوق كتفيها بالزائد من الملابس الموجودة وراء ظهرها ، وصعدت بسرعة فوق ربوة جبل المروة ، فرأت ابنها من هناك ثم نزلت إلى الوادى ومع ذلك لم تستطع أن ترى ابنها ، فأسرعت بالصعود إلى أعلى قمة جبل الصفا وابتهجت عيناها برؤية ابنها الذى يبعث السعادة فى النفوس. استمرت على هذا المنوال سبع مرات (٢) تذهب وتغدو من الصفا إلى المروة ، ومن المروة إلى الصفا ، بنحو لم يفعله مخلوق من بنى البشر وهى تقول «ليس من الممكن أن يوجد هنا ماء أو أن أقابل بشرا

__________________

(١) هذه الرواية تختلف عما يدعيه المؤرخون بأن سيدنا إسماعيل أثناء الهجرة ، كان فى الثانية عشرة من عمره.

(٢) لم يكن هناك من سعى بين الصفا والمروة قبل السيدة هاجر. لذا فإنها أول الساعين.

ورجعت إلى إسماعيل وقد امتلأت يأسا وخيبة أمل. وهناك سمعت صوتا يشبه صدى صوت إنسان فأحست بالفرح ، لكنها لم تستطع أن تحدد ناحية مصدر الصوت وتحيرت ، فماذا تفعل؟! وقد كف الصوت المذكور وبدأت تتلفت حولها وهى حزينة.

بعد ما أفاقت بفترة قالت : «يا صاحب الصوت الندى الذى شغف سمعى. عند ما سمعت صوتك الملائكى غرقت فى بحر الأمل ، إذا كنت نصيرا إلى فعجل ، لأننى وابنى قد استولى علينا الألم واليأس. فقد بلغنا درجة الموت عندئذ اضطر صاحب الصوت أن يظهر ، وكان جبريل الأمين وأن يظهر ماء زمزم بضربة من جناحه.

وسرت السيدة هاجر بظهور الماء سرورا عظيما وبعد أن شربت (١) وارتوت أخذ ضرعاها اللذان جف لبنهما فى الإدرار ، وأحاطت الماء بالرمال حتى لا يسيل الماء فى الوادى ، وفى قول آخر إنها عند ما حفظت بعض الماء للإدخار أظهرت نوعا من عدم التوكل ، لذلك غاض الماء فى الحال فى باطن الأرض وكان هذا سببا فى توارى (٢) الماء عن وجه الأرض بعد ما كان الماء جاريا.

لو لم تحاول هاجر ـ رضى الله عنها ـ أن تمنع الماء من الجريان بإحاطته بالرمال ، لظل جاريا إلى يوم القيامة كما جاء فى الحديث الشريف. ظهر ماء زمزم على النحو المذكور وكانت السيدة هاجر فى أمان وسعادة ولما رأى ذلك جبريل الأمين خاطب هاجر قائلا : «يا هاجر لا يحزن قلبك من هذا المكان الساكن هما وغما ولا يجول بخاطرك أن هذا الماء ينضب ، فقد انفجر هذا الماء الذى يهب الحياة لحرمة ماء وجه إسماعيل الذى يزين حضنك ، وإن ابنك هذا سيتشرف بشرف النبوة وسوف يبنى مع زوجك إبراهيم هذه الساحة المباركة التى تزيل الهم

__________________

(١) يروى أن السيدة هاجر سقت ابنها قبل أن تشرب.

(٢) لم يكن حول بئر زمزم حتى زمن أبى جعفر المنصور خرزة من الحجارة والرخام ولم يوجد حول فوهته خرزة يحيط بها وفى زمن خلافة المشار إليه أقاموا خرزة كما غطى ما حولها بالرخام.

والغم وهى بقعة مفخمة مشرفة ، وبناء على هذا سيزيد عمران هذا الوادى من سنة إلى أخرى.

سيق أفراد من الأقوام والقبائل ليزوروا هذا المكان المقدس الذي سيعمره المشار إليهما.

وبما أن هذا المقال قد أزال الحزن من نفس هاجر وبشرها بأن هذا المكان سيكون فى دائرة المسجد الحرام الذى سيسبب الفرح والإبتهاج فى النفوس. فما كان منها إلا أن قامت وأدت فرائض العبودية والشكر لله ـ تعالى ـ وقررت أن تمضى حياتها فى هذا المكان المبارك المقدس.

وقد اختلف العلماء فى بيان كيفية تفجر ماء زمزم الشريف ، فقال فريق إنها ظهرت من أثر ضربة جناح جبريل ـ عليه السلام ـ وذهبت جماعة إلى أنها ظهرت من أثر ضربة كعب سيدنا إسماعيل ، ولكن القول الأرجح حسبما ذكرنا أن جبريل ضرب الأرض بجناحه فتفجرت المياه وأحاطتها هاجر ـ رضى الله عنها ـ بما حولها من رمال ، ثم قام إبراهيم بعد ذلك بحفرها وتعميقها حتى أصبحت على شكل بئر وهذا ما قرره الجمهور.

كما اختلف المؤرخون فى تعريف سبب تسمية زمزم الشريف أيضا ، ففى بعض الأقوال إنها سميت زمزم لكثرة تدفقها ، وعند البعض أن تسميتها تعود إلى معنى «اجر بطيئا بطيئا» أى زم زم (١) وثبت هذا الاسم على البئر وعرف به.

وإننا سنبين فى موضوع كيفية انتقال الحكم من يد حكومة مكة إلى أيادى بنى خزاعة ، أن هذا الماء ضاع وغاب فى زمن الجراهمة الذين كانوا عنوانا للضلال والطغيان ، وبمرور الأيام نسى اسمه وجسمه ومكان وجوده.

وبالصدفة أقام أهل مكة صنمين لهما عند طرفى بئر زمزم الشريف الذي كان مجهول المكان.

__________________

(١) إذا عرفنا أن معنى زمزم باللغة اليونانية «قف» يجب علينا أن نحمل التسمية لهذا السبب.

فأقاموا نائلة فى طرف وإساف فى الجانب الآخر. وكانوا يذبحون القرابين بين هذين الصنمين فوق فوهة بئر زمزم الشريف وعند ما آل حكم مكة ورئاسة قريش إلى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وكان قد اقترب الزمن الذى ستجد فيه قلوب عطاش الجاهلية ماء حياة الهداية وستتحول أرض يثرب البطحاء القاحلة إلى جنات مأوى بفضل الماء الزلال الذى يفيض من نور النبوة.

وفى زمن عمرو بن حارث الجرهمى ، كان زمزم قد اختفى عن العيون وظل خفيا مدة خمسمائة عام بعيدا عن العيون. وصدرت الإرادة الإلهية لحكمة ما بظهور زمزم الشريف ، وكلف عبد المطلب ذات ليلة من الليالى فى رؤياه بأن يقوم بحفر زمزم مفتخرا.

ورغم أن عبد المطلب قد أمر بهذه المهمة ، إلا أن مكان البئر المذكور كان غير معروف فى ذلك الوقت ، لذا رأى أنه لن يستطيع بمفرده القيام بهذا العمل واضطر للاستعانة بقريش قديما ورؤساء قبائل قريش ووجه إليهم هذا السؤال «قد كلفت بحفر بئر زمزم وإظهارها فهل تعينونى فى هذا العمل؟».

فسألوه هل تعرف مكان بئر زمزم؟ فقال : لم ألهم بذلك أيضا يعنى لم أعرفه فقال الرؤساء : «يا عبد المطلب يجب أن تستخير هذه الليلة إذا كنت مأمورا بهذا العمل من قبل الرحمن فإنه سيخبرك بمكانه ، وإذا كانت الرؤيا شيطانية فلن ترى مثل هذه الرؤيا مرة أخرى.

وقد أعجب عبد المطلب برأى الرؤساء وأسرع بكل إخلاص وتوكل يستخير فى تلك الليلة.

وبناء على هذه الاستخارة ظهر لعبد المطلب فى رؤياه فى تلك الليلة شخص تحدث بهذه العبارات المسجوعة : «احفر زمزم إن حفرتها لن تندم وهو تراث من أبيك الأعظم ، لا تنزف أبدا ولا تندم فسقى الحجيج الأعظم ليس كبعض ما تقدم وهى بين الفرث والدم» ولما رجا عبد المطلب من الهاتف أن يبين له المكان القديم للبئر المذكورة ، فأشار له قائلا «عند قرية النمل حيث ينقر الغراب» وكأنه أراد من

عبد المطلب أن يحفر فى مكان يعيش فيه النمل حيث يأتى غراب فى الصباح وينقر فوق بيت النمل وينكشه. ورغم هذا لم يستطع عبد المطلب أن يهتدى إلى المقصود من هذا الرمز والإشارة ثم وصاه بأن يبدأ فى الحفر مسترشدا بهذه الأقوال إذ قال له بعد ليلة «زمزم وما زمزم هزمه جبريل برجله وسقياء إسماعيل وأهله زمزم البركات روى الرماق الواردات شفاء سقم وخير طعام» ، وفى الليلة التالية قال «احفر تكتم بين الفرث والدم وعند نقر الأعصم وفى قرية النمل مستقبل الأصنام الأحمر» تكتم اسم من أسماء زمزم المكرم بمعنى «مكتوم» كما سيبين فيما بعد.

الغراب الأعصم :

يطلق على غراب إحدى رجليه حمراء على قول ابن شيبه. وبناء على رأى حاكم يطلق على غراب أحمر الرجلين والمنقار ، وبناء على قول صاحب الإحياء يطلق على غراب بطنه بيضاء ، وبناء على تدقيق صاحب حياة الحيوان يطلق على غراب أبيض الجناحين أو أبيض الرجلين أو يطلق على غراب أبرش.

على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ بناء على القول الموثوق الذى يروى عن على بن أبى طالب بن عبد المطلب عند ما رأى الرؤيا السابقة الذكر ، غشيته الرهبة والدهشة وتحير فيما يفعله ، ولم يستطع أن يبدأ فى حفر البئر ، وبعد فترة رأى عبد المطلب فى رؤياه أن شخصا يقول له «أحفر بئر طيبة. وبعد ليلة يقول له احفر بئر مضنونة وعمقها وفى ليلة أخرى بعد أن ذكر الفقرات السابقة المسجوعة عرفه بموقع البئر وبين بعض خواصها؟ ولكن عبد المطلب لم يستطع أن يفهم معنى هذه العبارات المبهمة وراح فى تفكير عميق. وفى ليلة من الليالى استغرق فى النوم ورأسه مشغول بهذه الأفكار فى حجر إسماعيل. وإذا به رأى فى منامه أن هذا الرجل المبارك يقول له : «هل تعرف معنى زمزم ، زمزم بئر الماء الذى فجره جبريل عليه السلام بضربة من رجله وهو اسم ماء إسماعيل ـ عليه السلام ـ وأتباعه. وهو البركة ذاتها وإنه يروى العطاش الذين يردون للشرب ويشفى

المرضى ، وهو أنفس أنواع الطعام ، وبهذا الإيضاح وضح شأن بئر زمزم وخواص مائها».

عبد المطلب ـ عرف عبد المطلب بدلالة هذه الرؤيا معنى زمزم لدرجة ما؟ ولكنه لم يستطع أن يعرف موقعه بالضبط.

لذا توجه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ متضرعا مبتهلا قائلا : «يا ربى العليم ومولاى الكريم ، دلنى على موقع البئر الذى كلفت بحفره. وقد أصاب سهم دعاته هدفه ونال قبولا إذ رأى فى رؤياه من يقول له : يا عبد المطلب احفر بئر زمزم وإذا أردت أن تعرف مكانها فإنها بين صنمى «إساف» و «نائلة» ، حيث يذبح فيه القرشيون قرابينهم وفوق بيت نمل. وغدا سيأتى غراب أبرش وينبش بمنقاره فضع علامة حيث ينبش ثم عجل بحفر وتعميق المكان الذى فيه بيت النمل فتنال مطلبك».

وهكذا وضحت الرؤيا الأمر ، ولم يبق أدنى شك فى مكان زمزم ، واستيقظ عبد المطلب من نومه واتجه صوب المسجد الحرام ورأى الغراب ينبش ما بين إساف ونائلة فى وقت السحر ، وذهب هناك حيث وجد بيت النمل وبدأ مع ابنه الحفر فى هذا المكان ومعه أدوات الحفر مثل الفأس والمجرفة.

حينما رأى أفراد قبيلة قريش أن عبد المطلب يحفر المكان المذكور شاع الخبر سريعا فيما بينهم وهجموا على عبد المطلب قائلين :

«إننا لن نتركك تحفر المكان الذى نذبح فيه القرابين وخاصة المكان الذى يوجد فيه إساف ونائلة. وأرادوا أن يمنعوه من الحفر ، وقد زادت جلبتهم وصياحهم حتى إنهم قد أطالوا الكلام والجدال وتحول الموقف إلى ما يشبه القتال فمات كثيرون».

لم يكن لعبد المطلب حينذاك أبناء غير الحارث وقد رأى أنه لن يستطيع أن يقاوم القرشيين مع ابنه ، لذا ترك مقاومتهم واتجه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ مخلصا يائسا «يا إلهى ، إذا ما نصرتنى على قريش وأبلغت عدد أولادى إلى عشرة فإننى أفدى واحدا منهم قربانا لك» وكان هذا نذر منه.

وبظهور بعض العلامات أدرك عبد المطلب أن دعاءه قد حاز القبول فتوكل على الله وقام بأداء ما كلف به ، وغلب هو وابنه الوحيد كل قبائل قريش وكفت القبائل المعتدية يدها عنه ووقفوا فى موقف المشاهدة والتفرج.

وفى اليوم الثالث عند ما ظهرت العلامات التى تشير إلى وجود بئر زمزم مثل (١) الأسلحة وتماثيل صغار الغزلان (٢) التى ألقاها الجراهمة فى بئر زمزم ، عند ما أجبروا على ترك مكة المكرمة والجلاء عنها ، عندئذ قال عبد المطلب : «إن كل هذه الأشياء لدليل كاف للإثبات أن بئر زمزم فى هذا المكان» ومن فرط سروره أخذ يكبر بصوت مرتفع.

عند ما سمع القرشيون تكبير عبد المطلب اجتمعوا كلهم حوله وأدركوا أنه نال مراده ورأوا الأشياء القيمة التى أخرجها من البئر فطمعوا فيها وظهرت عليهم بوادر النزاع والخصومة وقالوا «يا عبد المطلب إن لنا نصيبا فى الأشياء التى أخرجتها من داخل البئر».

لأن البئر بئر جدنا إسماعيل ـ عليه السلام ـ وهذا يوجب تقسيم ما وجدته بين أفراد قبائل قريش فقال لهم لاحق لكم فى هذه الدفينة لأنكم لم تساعدونى فى حفر البئر بل أردتم منعى من الحفر مما أدى إلى إراقة الدماء ، ولكنهم اعترضوا عليه مهددين بتجدد النزاع وقالوا : «إذا رفضت إشراكنا فى المال كله فعلى الأقل نقسمه مناصفة بينك وبين القبائل ، فإذا رفضت هذا الحل أيضا فإننا نقاتلك من جديد».

ولما رأى عبد المطلب أن المعارضة قد استفحلت وأنها قد تؤدى إلى قتل بعض الأشخاص ، خاطب الذين استمروا فى الضغط عليه «عليكم أن تختاروا حكما نافذ الكلمة ليفصل بيننا فى هذا الأمر» وقد ارتضت قريش هذا الرأى الصائب وقرروا اللجوء إلى كاهنة قبيلة «بنى سعد بن هذيم» التى تسكن قريبا من بلاد

__________________

(١) عند ما ألقى الجراهمة هذه الأشياء الثمينة فى بئر زمزم ألقوها ليخفوها عن أعدائهم ثم سدوها بالحجارة والتراب حتى يجبروا أعداءهم على ترك المكان تحت وطأة العطش.

(٢) صغار الغزلان هذه كانت مصنوعة من الذهب الخالص ومرصعة بأنواع الجواهر.

الشام العامرة لتحكم بينهم ، وخرجوا جميعا للذهاب إلى حيث تقيم الكاهنة المشار إليها ، ولما كانت منطقة الحجاز فى ذلك الوقت خالية من الطرق المنتظمة وليس بها قرى متقاربة أو عيون ماء أو آبار ممرات ضيقة لدفع الوحشة. ولا شك أن السير فى مثل هذه الطرق أمر مخيف ، كما أن السير فى تلك الصحارى الخالية من المياه من الصعوبة بمكان ، لذا حمل عبد المطلب ومن معه من صناديد قبيلة قريش ما يحتاجون إليه من أطعمة ومال يكفيهم إلى أن يصلوا إلى حدود الشام.

وعند ما ابتعدوا عن مكة ووصلوا إلى واد موحش عديم الماء نفد الماد الذى كان مع عبد المطلب وفئته وأوشكوا على الهلاك ، وبعد أن احترقت أكبادهم من العطش. وطلبوا بعض الماء من خصومهم حتى ينجو من هذه المصيبة العظيمة ، ولكنهم رفضوا قائلين : «نحن الآن فى واد تنعدم فيه فرصة العثور على نقطة ماء فإذا ما أعطينا لكم الماء فإننا سنتعرض للعطش الذى تعرضتم له كما أن الماء الذى معنا قليل يكاد أن يكفينا وهذا عذر مقنع فى عدم إمدادكم. فزادت حيرة عبد المطلب وجماعته وقلقهم عند ما تلقوا هذا الرد.

وعند ما رأى عبد المطلب هذا الجحود والإساءة من معارضيه سأل من معه مستطلعا رأيهم «ما رأيكم فى هذا الأمر؟! فقالوا نحن طوع أمرك ، ننفذ ما تراه. عندئذ قال : «رأيى أن يحفر كل واحد منكم قبرا لنفسه فى انتظار الموت ، ومن يموت أولا يدفنه الذى ما زال على قيد الحياة ، فإذا دفن كل من يموت يبقى فى النهاية جثمان شخص واحد بدون دفن والأفضل أن يبقى جثمان واحد فقط بدون دفن من أن تبقى أجسادنا جميعا فى العراء مكشوفة فليحفر كل واحد منكم قبرا طالما فيه القدرة على الحفر. وافق رفاقه على رأيه وحفر كل واحد منهم قبرا لنفسه وانتظر حلول أجله.

وبعد مدة قال عبد المطلب : «يا رفاقى ـ إن حفر قبر انتظارا للموت شىء عجيب لم يحدث منذ عهد آدم ـ عليه السلام ـ ويدل على عجزنا وضعف هممنا ، فإذا قمنا وسرنا ربما يكتب الله لنا النجاة بأن نصل إلى بلدة أو قرية ويبعث لنا ماء

الحياة برحمته ، هيا انهضوا لتستمروا فى الطريق سنستعين بالله تعالى» ، وبتأثير هذه الكلمات المشجعة التى كانت كالماء الزلال ، انبعث فى أبدان أصدقائه الذين كادوا أن يهلكوا قوة كافية ، وجهز كل واحد منهم دابته للسير.

أما رجال القبائل المعارضة كانوا يراقبون حركاتهم متيقظين مبتهجين وهم يرون المصيبة الشديدة التى تعرض لها عبد المطلب وأصحابه بسبب قلة الماء ويتحدثون فى استهزاء.

وعند ما امتطى عبد المطلب جواده وأراد أن يستمر فى السير تفجر من تحت قدمى دابته التى تحركت للسير ماء عذب سائغ ولما رأى عبد المطلب وأنصاره هذه النعمة غير المنتظرة فرحوا فرحا شديدا بالماء وكبروا كلهم فى صوت واحد ونزلوا عن جيادهم وشربوا الماء مكبرين حتى ارتووا وملئوا جرارهم ، وقربهم ودعوا معارضيهم الذين كانوا قالوا لهم ، إننا نرفض أن نعطيكم شربة ماء وقالوا لهم ، إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد سقانا وأحيانا بظهور هذا الماء وهو يكفى لنا ولكم اشربوا كما تشاءون واملئوا قربكم ، ربما لا نتمكن من العثور على الماء فى المسافة الباقية من الطريق.

وتحير القرشيون مما ناله عبد المطلب من نعمة غير مرتقبة واستغربوا ثم تذكروا موقفهم منه وإساءتهم إليه بمنع الماء عنه فعلاهم الخجل واستحيوا وقالوا لعبد المطلب لقد فصل الله فى قضيتنا بظهور هذا الماء لم يعد لنا حق المعارضة فى ماء زمزم.

وما دام الله الوهاب الذى لا يمن عليه ـ جل شأنه ـ قد من عليك بإظهار هذا الماء وأنقذك من العطش فلا شك أنه قد أنعم عليك بزمزم المكرم والأشياء القيمة التى ظهرت فى بئر زمزم.

فكل هذه الأشياء حقك الحلال فتصرف فيها كما تشاء ، ولم تعد هناك حاجة إلى حكم الكاهنة. ثم رجعوا جميعا بعد ما أقنعوا عبد المطلب بالعودة.

سعد عبد المطلب مما أظهره أفراد القبائل المختلفة من احترام وندموا على ما بدر منهم ، لذا دعاهم كلهم بمجرد عودته إلى مكة المعظمة وخطب فيهم قائلا :

«إذا كان لا حق لكم فى الأشياء الثمينة التى أخرجت من بئر زمزم بسبب معارضتكم لى فإننى بما أتصف به من مروءة وشهامة أود أن يكون لكم نصيب منها فلتقسم هذه الأشياء إلى قسمين» وتسحب القرعة ، وكل من تصيبه القرعة تكون هذه الأشياء من نصيبه.

وعقب قوله هذا ، جعل صغار الغزلان حصة ، وبقية الأشياء حصة أخرى وأجرى القرعة بين قريش والبيت الأعظم وبينه فخرجت الغزلان من نصيب الكعبة وبقية الأشياء من نصيب عبد المطلب ولحكمة ما خرج القرشيون صفر اليدين من هذه القرعة ، وقد باع عبد المطلب نصيبه من هذه الأشياء وأنفق ثمنها على أعمال الكعبة ، وفى قول آخر أنه صهر الغزلان وزين باب المعلا من الكعبة ، وفى قول ثالث إنها ظلت كما هى وعلقها على باب الكعبة الشريفة».

وعند ما خرج القرشيون من القرعة بلا نصيب فلم يسعهم إلا أن يتفرقوا وأن يقفوا موقف المتفرج ، ولما فهموا أنه لم يعد لهم من الأمر شىء تغاضوا تماما عن منازعة عبد المطلب حول بئر زمزم.

ورأى عبد المطلب أن الأمور هدأت واستمر فى تعميق البئر على النحو الذى يريده ، ونجح فى إظهار ماء زمزم العذب الذى قد اختفى منذ خمسمائة سنة وبما أن الناس والحجاج والأهالى يلقون مشقة إحضار الماء من الآبار البعيدة ويتكبدون فى سبيل ذلك مشقات بالغة زادت مكانته وقدره بين الناس. مما حمله على أن يرفع يديه بالشكر لله ـ سبحانه وتعالى ـ من فرط سعادته وفخره ونذر نذرا بقوله «يا رب لو أنعمت على بعشرة من الأبناء الذكور وبلغوا جميعا مبلغ الرجال فى حياتى لأذبحن أحدهم قربانا وفداء لك وعند ما بلغ عدد أبنائه عشرا ، أو فى بنذره على النحو المذكور في الصورة الثانية من الوجهة الثانية.

ويدعى بعض المؤرخين أن نذر عبد المطلب كان عند ما عارضته قريش فى حفر البئر ، والبعض الآخر يقول إنه كان فى أثناء ظهور ماء زمزم.

ولكن ليس ببعيد أن يكون عبد المطلب قد نذر مرتين مرة حينما كان يدعو الله لينصره على قريش ومرة ثانية عند ما ظهر ماء زمزم شكرا لله.

أسماء زمزم الشريف

ولزمزم ثلاثون اسما مشهورا عند العلماء وهى «زمزم» همزة ، هزمة جبريل ، ظبية ، طيبة ، برة ، عصمة ، مضنونة ، شباعة العيال ، عونة ، سقيا الله إسماعيل ، بركة سيدة نافعة ، بشرى ، صافية ، معذبة ، طاهرة ، حرمية ، مروية ، سالمة ، ميمونة ، مباركة كافية ، عافية ، طعام طعم ، مونسة ، شفاء سقم ، شراب الأبرار ، تكتم».

سبب إطلاق هذه الأسماء على زمزم الشريف ، أحصى الشيوخ الكرام فى مكة المشرفة ثلاثين اسما لماء زمزم المكرم وبينوا سبب إطلاق كل اسم منها على الوجه التالى :

١ ـ زمزم : رغم أن المؤرخين من السلف يقولون إن إطلاق اسم زمزم لأنه يفيد معنى «اجر بطيئا» فهذه الرواية ليس لها قيمة كبيرة ، وحسب أرجح الأقوال وأقواها للعلماء أن وفرة ماء البئر وتدفقه بقوة سبب تسميته بزمزم وعلى هذا التقدير فزمزم اسم للبئر وليس للماء الشريف.

٢ ـ همزة : ومعناها الضرب ، إيماء إلى أن جبريل الأمين قد ضرب الأرض بكعبه أو بجناحيه وعلى قول آخر بجناحه.

٣ ـ هزمة جبريل : هزمة بمعنى تعميق ، بما أن جبريل ـ عليه السلام ـ عمق البئر بجناحه وتسبب فى ظهور الماء وهذا هو وجه التسمية.

٤ ـ ظبية : وسبب التسمية أن حفرة البئر تشبه الجراب.

٥ ـ طيبة : وسبب التسمية ظاهر من المعنى.

٦ ـ برة : سميت بهذا الاسم لأن تفجرها كان من أجل الأبرار.

٧ ـ عصمة : وسبب التسمية أنها غابت واختفت عن الكفار الفجرة.

٨ ـ مضنونة : وسبب التسمية لأن المنافقين لا يشربون منها حتى يرتووا.

٩ ـ شباعة العيال : لأن أهل الجاهلية اعتادوا أن يشبعوا أولادهم بهذا الماء المبارك.

١٠ ـ عونة : لأن الناس فى الجاهلية اتخذوا هذا الماء الصافى الشفاف وسيلة لإشباع أولادهم وأزواجهم ، لأن الجوعى كانوا يشبعون بشرب ماء زمزم.

١١ ـ سقيا الله إسماعيل : بما أنه لا يوجد ماء غير زمزم فى مكة المكرمة فقد تكرم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بسقيا إسماعيل بهذا الماء المبارك وهذا هو سبب التسمية.

١٢ ـ بركة : سبب التسمية ظاهر من اللفظ.

١٣ ـ سيدة : وسبب التسمية أن ماء زمزم الشريفة ، سيدة كل المياه ما عدا ماء الحياة الذى نبع من الأنامل النبوية الشريفة.

١٤ ـ نافعة : سبب إطلاق هذا الاسم أنه ذو فائدة عظيمة للمؤمنين الموحدين.

١٥ ـ بشرى : لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بشر المؤمنين الذين يشربون ويرتوون من هذا الماء تكتسب بطونهم نورا وينجون من نار جهنم.

١٦ ـ صافية : سبب هذه التسمية صفاء مائه وشفافيته.

١٧ ـ معذبة : ويرجع هذا الاسم لعذوبتها وحلاوتها.

١٨ ـ طاهرة : وسبب التسمية هو الإشارة القرآنية إلى هذا الماء الشريف حسبما جاء فى الآية الجليلة : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (الإنسان : ٢١).

١٩ ـ حرمية : وذلك لوجوده داخل الحرم الشريف لكعبة الله.

٢٠ ـ مروية : ووجه التسمية أنها تبعث فى كل أعضاء الجسم الصفاء كما تولد الإحساس بالشبع مثل الطعام.

٢١ ـ سالمة : ووجه التسمية أنها لا تتعفن ولا تفسد.

٢٢ ـ ميمونة : وسبب التسمية أن شربها سبب لليمن والبركة كما أنها اتباع للسنة السنية للرسول الكريم صاحب السعادة.

٢٣ ـ مباركة : وسبب إطلاق هذه التسمية واضح من اللفظ.

٢٤ ـ كافية : لأنه يقوم مقام الطعام.

٢٥ ـ عافية : لأنه يكسب شاربه الصحة والعافية.

٢٦ ـ طعام طعم : مفهوم من اللفظ.

٢٧ ـ شفاء سقم : إنه شفاء من المرض كما سيرد فى الحديث الشريف الآتى فيما بعد.

٢٨ ـ مؤنسة : أنه يؤنس سكان حرم كعبة الله.

٢٩ ـ شراب الأبرار : ذلك لأن جميع الأنبياء وأولياء الله الكرام شربوا مرتوين من هذا الماء كما أن ماء زمزم اكتسب شرفا وقيمة حينما امتزج ماءه بريق النبى صلى الله عليه وسلم.

٣٠ ـ تكتم : سبب تسميته بهذا الاسم اختفاؤه وانقطاعه فى زمن «مضاض بن عمرو».

نظم

لزمزم ثلاثون اسما فاذكر

منها خلوص إيمانك يظهر

همزة وهزمة شفاء سقم ميمونة

طاهرة مروية سقيا وشراب الأبرار

سيدة بركة ومضنونة مبارك عصمة

عافية معذبة طعام طعم أحرار

مونسة تكتم وبرة ، حرمية عونه

ظبيه ، زمزم وطيبة ، وبشرى كبار

صافية ، كافية ، وأيضا نافعة وسالمة

وأيضا شباعة كما قال عنها شيوخنا الأخيار

وقد جاء فى الخبر واتفق عليه جمهور العلماء أن زمزم الشريف أفضل ماء وأعذبه بعد الماء الزلال الذى نبع من أصابع النبى المباركة وهو معجزة من معجزاته عليه السلام.

تفضلت أم أيمن ـ رضى الله عنها ـ حاضنة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت طول مدة قيامى بحضانة وخدمة مستوجب المغفرة الدر اليتيم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم أجده يشكو من الجوع والعطش فى أى وقت من الأوقات ، وكان فى الصباح يأكل قليلا من الطعام ثم يشرب عليه من زمزم المبارك وبعد ذلك كلما أردت أن أطعمه كان يجيبنى قائلا إننى شبعان.

ويجب أن يقال فى أثناء شرب ماء زمزم : «اللهم إنى أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا وشفاء من كل داء وسقم» يروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن نفع ماء زمزم يتوقف على نية شاربه «إذا شرب بنية الشفاء فالله سبحانه وتعالى ، ينعم بالشفاء وإذا شرب بنية الاستعاذة فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يحفظ شاربه من كل سوء. وإذا شرب بنية إزالة الحرارة تنطفئ.

وهى تكون هكذا بالنسبة لمن يشربونها بصدق نية وسلامة طوية بدون أن يكون شربهم لتجربة مدى صحة الحديث الشريف. لأن الخصائص المذكورة لماء زمزم الشريف موجودة الآن وباقية وظاهرة إلى قيام الساعة ، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يفضح المجرمين الذين يشربونه بقصد التجربة وقد قال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات مرة وهو يوضح الخواص الجليلة لذلك الماء المبارك إنها مباركة وذات مرة قال إنها طعام طعم وفى مرة إنها طعام طعم وشفاء سقم ، وذات مرة : «إن ماء زمزم لما شرب له» ، وذات مرة قال : «التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق» وقال مرة : «لا يجتمع ماء زمزم المكرم ونار جهنم فى جوف عبد أبدا» ، وفي مرة «خمس من العبادة ، النظر فى المصحف ، والنظر إلى الكعبة ، والنظر إلى الوالدين ، والنظر فى زمزم وهى تحط الخطايا ، والنظر إلى وجه العالم ومرة : «خير بئر على وجه الأرض ماء زمزم». ومرة أخرى : «من جاء هذا البيت ، حاجا

فطاف به ثم أتى مقام إبراهيم عليه السلام فصلى عنده ركعتين ثم أتى إلى زمزم ، ثم شرب من مائها أخرجه الله من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

ذهب عبد الله بن المبارك ذات يوم إلى بئر زمزم الشريف ، وطلب جرعات من ماء زمزم وأخذ كوبا منه وتوجه إلى كعبة الله وقال : «إلهى إن حبيبك محمد المصطفى عليه وعلى آله من التحيات أذكاها ، قال إن ماء زمزم لما شرب له ، وأنا أشرب هذا الماء بنية إزالة عطش يوم القيامة هذا اليوم الملئ بالهول وإطفاء نار حرارة هذا اليوم ، وشرب كوب الماء.

بناء على تعريف صاحب كتاب «البحر العميق ومناسك ابن العجمى».

إن الذين يشربون ماء زمزم الشريف طلبا للمغفرة قائلين «اللهم إنه بلغنى أن رسولك ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : «ماء زمزم لما شرب له» (حديث شريف) اللهم إنى أشربه لتغفر لى ، اللهم اغفر لى فيغفر له ذنوبه ، والذين يشربونه طلبا للشفاء من العلل والأمراض يجب أن يقولوا «اللهم إنى أشربه مستشفيا به اللهم فاشفنى».

قال محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق (رضى الله عنهم) بينما كنت يوما فى مجلس عبد الله بن عباس جاء رجل وقال له ابن عباس من أين أتيت فأجابه من بئر زمزم ، فقال ابن عباس هل استطعت أن تشرب من الماء المبارك وفقا للطريقة المسنونة؟ فقال الرجل : «إنى شربت من ماء زمزم وسوف أشكركم إذا ما بينتم لى الطريقة المسنونة لشرب زمزم» ـ فقال له : «عند ما تشرب ماء زمزم استقبل القبلة واذكر الله واشرب حتى ترتوى وتنفس ثلاث مرات فى أثناء الشرب وبعد الشرب احمد الله سبحانه وتعالى» ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال : الفرق بين المسلمين والمنافقين أن المنافقين لا يشربون ماء زمزم حتى يبلغ حلوقهم وبذلك بين الطريقة المثلى لشرب ماء زمزم.

وقد صدق الدار قطنى والحاكم قول ابن عباس وبيّنا أنه يطابق تماما الأحاديث النبوية الشريفة وشرحا أن زمزم يشرب على ثلاث دفعات ويبدأ كل مرة بالبسملة وتنتهى بحمد الله. والمقصود بكلمة حتى تبلغ الحلق أنه لا بد أن يملأ البطن بماء

زمزم حتى تصل إلى ما بين عظام الضلوع ومن الجائز نقل ماء زمزم الزلال إلى خارج الحرم أى يؤخذ إلى بلاد المسلمين للتبرك به. والتوضؤ بماء زمزم غير مكروه ويجوز الاغتسال به ، لكن من يستنجون به يصابون بمرض البواسير.

وبما أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منبع الحكمة قد نقل ماء زمزم الشريف إلى خارج الحرم ، فمن السنة السنية الأحمدية نقل الحجيج ماء زمزم معهم عند العودة.

من عجائب زمزم المكرم من الأمور المجربة إذا شرب إنسان ما من ماء زمزم حتى بلغ حلقه وقد أخلص النية ثم قال «يا زمزم زمى» شفى من مرض الشراهة فى الأكل.

قال أحد الصالحين للإمام اليافعى عليه رحمة الله : كنت أجلس ذات يوم عند كعبة الله ، وفجأة جاء رجل غطى وجهه بشال ودخل إلى مبنى بئر زمزم وملأ جرته ماء وشرب قدرا من الماء ورجع ، وعند ما جاء إلى جانبى طلبت منه الجرة المذكورة ، وعند ما شربت الماء المتبقى بداخلها أحسست بلذة عجيبة لم أتذوقها طوال عمرى فكان ماء زمزم بداخل الجرة كأنه شرابا حلوا ممزوجا بالعسل المصفى ، وعند ما أردت أن أنظر إلى وجه الرجل لأتبين من هو فإذا به يأخذ الجرة من يدى وانصرف.

وفى اليوم الثانى ذهبت إلى المسجد الحرام من الفجر وجلست بجانب بئر زمزم عسى أن أراه مرة أخرى وبعد مرور وقت قصير ظهر الرجل بوجهه المغطى وتقدم إلى داخل مبنى بئر زمزم وملأ دلو ماء من زمزم وشرب منه وشربت ما تبقى فى الدلو وكأن ما شربته لم يكن ماء زمزم المكرم إنما كان حليبا ممزوجا بالسكر.

وينقل أن رسولنا سيد الكائنات عليه ألطف التحيات ، شرف بئر زمزم ذات يوم وسحب السقاة دلو ماء ، وقدموه له فشرب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ القليل منه ومزج الباقى بريقه المبارك وسكب السقاة ذلك الماء الممزوج داخل بئر زمزم للتبرك ، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن ماء زمزم يشفى المرض ويدفع الجوع عن الذى يشربه بنية الطعام.

وعن أبى ذر الغفارى ـ رضى الله عنه البارى ـ أنه فى الأيام التى لا يجد طعاما صالحا للأكل يشرب ماء زمزم الشريف ويكسب طاقة وهكذا كان يدفع الجوع والحرارة. إن خواص زمزم الموضحة أعلاه يصدقها الأطباء أيضا.

وحسبما قال المجربون. إنه يقوى المعدة ويسهل هضم الطعام وإذا شرب والمعدة خاوية ، فإنه يطهر الأمعاء. ويهدئ سخونة الجسم بناء على هذا يجب الارتواء منه والمعدة خاوية والتبرك به.

وقد ثبت بالحديث الصحيح أن ماء زمزم الشريف أفضل من الكوثر ويزيل من شاربه الحرص والطمع ، ويسهل هضم الطعام ، ويبرئ الأمراض المزمنة وغير المزمنة ويحث على الطاعة والعبادات ، ويزيد نور البصيرة ويقوى الفهم والطاعة والعلم ، ويزيل أمراض الجسم وغضب الله واجد الوجود ، ويضفى على القلب رقة ، والذين يشربونه اتباعا للسنة السنية الأحمدية يرضون الله ـ سبحانه وتعالى ـ ويغيظون الجن والشيطان الرجيم ويؤلمونهما ويبعثون فى إيمانهم القوة والنضارة.

وقد كتب الإمام السمهودى فى كتابه (خلاصة الوفاء) ، وهو من مؤرخى المدينة المنورة المشهورين المتأخرين : يوجد مثل هذا الماء فى المدينة المنورة أيضا حتى أنه يطلق على بئره «بئر زمزم» ، ويحمل ماؤه إلى البلاد الأخرى بقصد التبرك به.

***

الشكل الخامس

هجرة قبائل الجراهمة وقطورا إلى مكة المكرمة

بعد مدة من ظهور زمزم الشريف لسقى هاجر ـ رضى الله عنها ـ كما سبق توضيحه ، حدث أن مرت قبائل جرهم وهى من الأقوام اليمنية المرتحلين إلى الشام بالقرب من مكة المكرمة ، وباتوا هناك حتى إن بعضهم صعدوا فوق جبل أبى قبيس ورأوا بعض الطيور.

وفى قول : إن شابين من طائفة العمالقة التى كانت تسكن فى وادى عرفات آنذاك فى خيمها ، صعدا فوق الجبل المذكور للبحث عن إبلهم الضائعة ، وبينما كانا يجولان رأيا بضعة طيور (١) بالوادى فتساءلا قائلين : «وجود الطيور تنبئ عن وجود ماء ، يا ترى أين ذلك الماء؟ وتنقلا من جبل إلى جبل بحثا عن الماء ، وإذا بهما يريان فى وسط الوادى تماما امرأة تحتضن طفلا ، فاقتربا منها وأخذا يسألانها عن وقت ظهور ماء زمزم وكيف كان ظهوره بقولهما «يا أنت هل أنت من طائفة الجن»؟ أم من جميلات الجن التى تسكن هذا المكان الخالى؟ ومتى وكيف ظهر هذا الماء الجارى الذى أنت بجواره؟!.

فلما أجابت السيدة هاجر قائلة : هذا الطفل قرة عين إبراهيم خليل الله ، قد أنعم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ فأجرى هذا الماء الذى يمنح الحياة إكراما لماء وجهه. وقد أنبأنى بواسطة جبريل الأمين أن هذا الوادى سيصبح بعد فترة عامرا ومأهولا.

لما عرفا القصة رجواها أن تسمح لقبيلتهما بالإقامة فى هذا المكان ، قالوا لها إذا أذنت لنا أن نحضر أهل قبيلتنا ليعيشوا بجوارك بعد أن يقيموا خيامهم فى هذا المكان الموحش ويشربوا من ماء الحياة هذا ، ويزيلوا آلام هذا المكان وأكداره ، لأن

__________________

(١) هذا الوادى هو المكان الذى أسست فيه كعبة الله.

هذا الماء ماؤك وملك يمينك فأذنت لهما ، وما كان منهما إلا أن ذهبا إلى قومهما وعادوا جميعا (١).

وكانت هذه الطائفة من أبناء عمومة سيدنا إبراهيم وكان رئيسهم مضاض بن عمرو ، وكان بصحبة القبيلة المذكورة عشيرة قطورا أيضا وكانت برئاسة سميدع بن هوشك أو سميدع بن العاص وكان كل أفراد هذه العشيرة من أقارب أفراد القبيلة التى تحت رئاسة مضاض بن عمرو.

وبعد مدة استدعى مضاض بن عمرو وسميدع بن العاص أقاربهما من اليمن وأقاموا جميعا بجوار زمزم الشريف ، وبدأوا جميعا فى تأسيس مكة المكرمة ، وزراعة ما حولها رعاية لسيدنا إسماعيل وهكذا تحول الوادى غير ذى الزرع إلى مدينة.

ورغم أن سيدنا الخليل قد ترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل وانقطع عنهما فترة ، إلا أنه كان يعلم أخبارهما من جبريل ـ عليه السلام ـ ويشكر لله لذلك.

وأخذ إبراهيم يتردد على مكة المكرمة بعد الاستئذان من سارة زوجته ـ كما سيذكر فيما بعد ـ ثم أمر بزيارتهما بالوحى الإلهى ، وكان يزورهما أول كل شهر تنفيذا للوحى أو بناء على قول آخر كان يزورهما كلما خطرا على باله ، ولما رأى تزايد الجماعات المهاجرة إلى تلك البقعة المقدسة من يوم لآخر ، ملأته السعادة إذ رأى زوال وحشة العزلة فى هذا الوادى.

وكان يذهب لزيارتهما بعد تناول الإفطار مع السيدة سارة ويرجع قبل أن يحل وقت القيلولة.

زواج سيدنا إسماعيل وذهاب سيدنا إبراهيم إلى مكة لمقابلة ابنه

تربى سيدنا إسماعيل وسط أطفال الجراهمة وتعلم لغة العرب العذبة وقبيل انتقال (٢) أمه الرحيمة السيدة هاجر ـ رضى الله عنها ـ إلى جنات النعيم تزوج من

__________________

(١) القبيلة المذكورة من الجراهمة أول من سكنت مكة المعظمة.

(٢) عند ما توفيت السيدة هاجر كان ابنها إسماعيل فى الخامسة عشرة من عمره وفى قول آخر كان قد بلغ العشرين من عمره وكان عمرها آنذاك قد بلغ ستين سنة.

سيدة (١) بنت مضاض بن عمرو ولكنه تأثر بوفاة والدته هاجر أشد التأثر ولم يكن هناك شىء يسرى عنه ، لذلك انغمس فى الخروج للصيد ، وكان يتوهم أن الصيد سيدفع عنه الآلام والأحزان.

وذات يوم ذهب سيدنا إبراهيم إلى مكة المعظمة مستأذنا من زوجته السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ بنية العودة سريعا ليطمئن على ابنه دون أن يترجل من على ظهر حصانه.

ولما وصل إلى مكة المكرمة عرف أن السيدة هاجر قد انتقلت إلى دار البقاء ، وأن سيدنا إسماعيل ذهب إلى صحراء بعيدة بعض الشئ من أجل الصيد ، ولما كان جائعا طلب من زوجة ابنه «سيدة بنت مضاض بن عمرو» قليلا من الطعام فلما أجابته المذكورة قائلة : لا يوجد عندى طعام قال لها : عند ما يعود زوجك أقرئيه منى السلام ، وقولى له أن يغير عتبة بيته ومضى.

وعند ما رجع إسماعيل ـ عليه السلام ـ من الصحراء قالت له زوجته «جاءنا اليوم شيخ صالح وقد ألمح إلى مسألة غريبة بقوله : إنه يقرئك السلام وعليك أن تغير عتبة بيتك» بناء على هذا طلّق سيدنا إسماعيل زوجته سيدة ، وتزوج من «رعلة بنت عمرو الجرهمى» وأنجب منها أولادا كثيرين.

يطلق اسم العرب المستعربة على القبائل العربية المنحدرة من صلب سيدنا إسماعيل ، واسم العرب العاربة أو العرب العرباء على القبائل التى ينتهى نسبها إلى قبائل قحطان وجرهم.

واستمر سيدنا الخليل بعد ذلك لفترة يستأذن من السيدة سارة. ويذهب إلى مكة كما كان يذهب من قبل ليطمئن على أحوال ابنه إسماعيل. وفى زيارة من زياراته لم يجد ابنه إسماعيل وسأل عنه زوجته. وكانت (٢) رعلة بنت عمرو بحق الزوجة الوفية المخلصة اللائقة بإسماعيل ، إذ أخبرت عن ذهاب زوجها إلى واد قفر من أجل الصيد.

__________________

(١) وفى قول آخر إنه تزوج عمارة بنت سعيد بن أسامة بن اكيلى من رؤساء العمالقة.

(٢) يروى على قول أنها سيدة بنت مضاض بن عمرو.

وبعد ذلك أطعمت والد زوجها بطعام لذيذ مكون من اللحم واللبن السهل الهضم ، وبذلك أظهرت له مظاهر التعظيم والإجلال والاحترام ، وبعد الطعام قالت له وهى ترجوه «يبدو أنكم أشرفتم من مكان بعيد فإذا تفضلت بالوقوف على هذا الحجر لكى أغسل لك رأسك وأمشط شعرك تكن قد أنعمت على جاريتكم بسرور بالغ ، وأشارت إلى الحجر الذى استخدم فيما بعد بمثابة الوصلة عند بناء بيت الله المقدس».

وكان الطعام الذى أتت به رعلة مكون من قطعة من اللحم المطبوخ ومقدارا كافيا من لبن وتمر ، ونظرا لصعوبة توفير الخبز قالت وهى تقدم له هذا الطعام ، لو كان هناك خبزا لقدمته فأرجوك أن تعذرنى ، فرد عليها قائلا : فليبارك الله فيكم وفى طعامكم هذا واستجيب لهذا الدعاء من قبل الله فأثره باق إلى الآن فالتمر واللحم متوفران بكثرة فى مكة المعظمة.

نظم

إنها امرأة ذلك الشاب الأغر

أهل البيت بالنعمة غمر

بعينيها أنها رجلا تطهر

فبوجهين العورة تستر

وسر سيدنا إبراهيم من المعاملة الطيبة التى أظهرتها رعلة بنت عمرو نحوه.

وعند ما وقف فوق الحجر الذى أشارت إليه قامت السيدة «رعلة» بغسل جانبه الأيمن ، ثم الأيسر وبعد ذلك غسلت كل جسمه المبارك فقال لها حموها : «أقرئى زوجك السلام ، وأبلغيه أنه ليس عليه أن يغير عتبة بيته ثم انصرف».

وبعد فترة قصيرة شرف سيدنا إسماعيل بيته ، واشتم رائحة والده العزيز المباركة وسأل عمن جاء ، فأجابته قائلة جاء شيخ كريم ، ذو جمال باهر وذو رائحة عطرة ، وأبديت له ما يستحقه مقامه الرفيع من آيات التكريم وأحضرت له

الموجود من الطعام ، وبعد الطعام غسلت له جسمه المغمور بالنور فوق هذا الحجر ، فسر وقال : «قولى لإسماعيل ألا يبدل عتبة بيته بعد الآن وأقرأك السلام ، ثم قفل راجعا وترك أثرا فوق الحجر الذى وطأت قدماه الشريفتان توأم السعادة. فقال لها شارحا وموضحا ذلك الشيخ ذو السمات الجليلة هو أبى ويقصد بقوله : لا تغير عتبة بيتك. يأمرنى بأن أقضى بقية عمرى معك واتجه إلى الحجر الذى ترك فوقه أثر قدميه فقبله ووضعه فوق مكان مرتفع قليلا.

وقد أصبح ذلك الحجر المبارك التى غسلت فوقه رعلة والد زوجها فى ذلك اليوم هو الحجر المبارك الذى صعد فوقه إبراهيم عند بناء الكعبة المعظمة ، وهو الآن فى مكة ومحفوظ داخل شبكة من حديد. وقد ذكر هذا الحجر فى القرآن الكريم باسم (مقام إبراهيم) ، واشتهر بين الناس بهذا الاسم والحجاج الكرام يزورونه بكل لهفة وحماس. وما زالت آثار قدمى إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فالحجاج يضعون ماء زمزم عليه ويشربونه تبركا والحجر المذكور والحجر الأسود. هما ياقوتتان سعيدتان من يواقيت خزانة الجنان وقد أزال الحق ـ سبحانه وتعالى ـ نورهما المشع ، لأنهما لو ظلا محتفظين بنورهما الذى تفضل الله بإنزالهما به من الجنة لأضاء نورهما ما بين الشرق والغرب.

مسألة :

اختلاف العلماء فى مسألة الذبيح الهامة

عند ما أمر سيدنا إبراهيم بذبح فلذة كبده كان سيدنا إسماعيل حسب أحد الأقوال ، قد بلغ الثالثة عشرة من عمره. وقد اختلف العلماء فى الذبيح هل هو إسحاق أم إسماعيل؟ كما أن الآيات القرآنية الخاصة بهذا الموضوع مشتبه فيها وأعلن بعضهم أن الذبيح هو إسحاق ، وقال الآخرون إنه إسماعيل.

ورغم أن مؤرخى اليهود والنصارى يسوقون مجموعة من الأدلة ، ويؤيدون العلماء الذين قالوا إن الذبيح هو إسحاق ، فإن جماعة الصحابة الكرام والتابعين منهم عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار

وسعيد بن جبير ومسروق وأبو الهذيل والزهرى وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو الطفيل عامر بن واثلة ومقاتل وعبد الله بن مسعود وقتادة وعكرمة وعباس بن عبد المطلب «رضى الله عنهم أجمعين وكذلك كبار التابعين مثل : الإمام جعفر الصادق وسعيد بن المسيب ومجاهد والحسن البصرى والشعبى رحمهم الله ، يذهبون إلى أن إسماعيل ـ عليه السلام ـ هو ذبيح الله كما أن ابن كثير قد حكم بصحة الرأى القائل بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.

لأن أصحابه يستندون بالاتفاق إلى أقوال صحيحة فيما يعلنون أما بالنسبة لنا نقول : «إن كون إسماعيل ـ عليه السلام ـ المقصود بالذبيح قد بلغ إلى درجة اليقين بالأدلة العقلية ، لأن سيدنا إبراهيم بلغ السادسة والثمانين من عمره ولم يكن قد أنجب ولدا بعد ، لذا كان من الطبيعى حسب النزعة البشرية أن تكون ولادة سيدنا إسماعيل زينة الوجود موضع حب والده لهذا ابتلى إبراهيم فى أعز شىء عنده ، ولأن السيدة سارة كانت عاقرا وانكسر فؤادها لمولد إسماعيل فخر العالمين وقد أدى هذا إلى صدور أمر الذبح الجليل والإشارات الإلهية حول ولادة سيدنا إسحاق ويعقوب زدلة قاطعة لكون الذبيح إسماعيل عليه السلام.

إذ أن سيدنا إسحاق لو كان قد ذبح ، لكان يلزم ألا تتشرف الدنيا بسيدنا يعقوب ، وبغض النظر عن هذا فإن الأمر المؤكد أن سيدنا إسحاق لم يقطن مكة والكعبة المعظمة وكان مقيما فى الشام. كما أن قرون الكبش السماوى قد ظلت معلقة في ميزاب كعبة بيت الله حتى حادثة ابن الزبير المؤلمة وقد انتقلت مهمة حراستها إلى أولاد وأحفاد إسماعيل بطنا تلو بطن وكل هذه الأحداث أدلة كافية لإثبات أن سيدنا إسماعيل هو ذبيح الله.

وقال مولانا الصنهاجى نقلا عن الإمام الثعلبى : «بينما أنا فى مجلس سيدنا معاوية بن أبى سفيان ودار الحديث طويلا فى القيل والقال بين بعض الناس حول الاختلاف فى قصة الذبح ، فخاطبهم سيدنا معاوية قائلا : «كنت ذات يوم فى حضرة المجلس النبوى الرفيع ـ عليه أفضل التحية ـ وجاء واحد من الأعراب

وصاح قائلا : «يا ابن الذبيحين «فتبسم الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ تصديقا على قول القائل ابن الذبيحين فتفضل ذاته العالية بالتصديق على قول الأعرابى المذكور تلميح وتصريح بأن سيدنا إسماعيل هو ذبيح الله.

لأن عبد الله بن عبد المطلب والد سيدنا رسول الله رفيع المقام كان أيضا ذبيحا مثل جده إسماعيل عليه السلام. وإذا كان سيدنا إسماعيل قد افتدى بكبش فإن عبد الله قد نجا بمائة ناقة.

وفى الحديث الشريف «أنا ابن الذبيحين» تأكيد على أن إسماعيل ـ عليه السلام ـ هو الذبيح حيث أنه مما لا شك فيه عند أحد قط فى أن المشار إليه هو جد النبى العظيم ومع أن علماء اليهود يعلمون يقينا أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل ورغما عن هذا ادعو أن سيدنا إسحاق هو ذبيح الله كما أن بعض مؤرخى النصارى أيدوا اليهود فى ادعاءاتهم ولكنهم لم يستطيعوا حتى أن يجدوا دليلا واحدا على صحة أقوالهم.

والرواية التالية تدل دلالة واضحة على بطلان ادعاءات اليهود ، الرواية تقول : أسلم واحد من علماء اليهود فى عهد عمر بن عبد العزيز. وسأله الخليفة الأموى مستفسرا «هل الذبيح إسماعيل أم إسحاق؟» وبما أن سيدنا إسماعيل هو جد العرب فإنهم ينكرون أن يكون هو ذبيح الله ويدعون أن جدهم إسحاق ـ عليه السلام ـ هو الذبيح.

كيفية حدوث قصة الذبح الجليلة

نقل عن كعب الأحبار أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمر حضرة الخليل ـ على نبينا وعليه التبجيل قبل بناء الكعبة المشرفة (١) بسبع أو ثلاث عشرة سنة ، عن طريق الرؤيا ، أن يذبح إسماعيل ـ عليه السلام ـ قربانا. وكان سيدنا إسماعيل فى ذلك الوقت فى الثالثة عشرة وحسب قول بدائع الزهور أنه كان فى العشرين (٢)

__________________

(١) القول الأول مرجح على القول الثانى.

(٢) القول الأول مرجح على الثانى.

من عمره وأن سيدنا إسحاق قد ولد بعد هذه الواقعة بسبع عشرة سنة ، وحسب رواية بدائع الزهور ، ولد بعد عشر (١) سنوات وأنه مات سنة سبع وثلاثين بعد المائة.

ولما أدرك سيدنا إبراهيم أن ما رآه ليس وساوس الشيطان صدع بالأمر ، وقال لزوجته هاجر وقد عقد على إنفاذ حكم الله وقضائه ـ هيأ إسماعيل بغسل رأسه وتمشيط شعره وإلباسه ملابس جديدة بعد أن عطر كل أعضاء جسمه بعطور ذات رائحة طيبة ثم خاطب فلذة كبده بقوله : «يا بنى هات حبلا وسكينا حادا لنذهب معا لإحضار الحطب من ذلك الجبل وحسب قول بدائع الزهور «لنذبح شاة» وأحضر سيدنا إسماعيل الحبل والسكين اللذين أمر والده بإحضارهما وصحبه معه إلى المكان المسمى مذبح إسماعيل فى منى.

فى هذا الوقت ظهر إبليس ذو الوساوس متوهما أنه وقت غواية وإضلال إبراهيم عن طريق زوجته فذهب إلى هاجر وقال لها : «هل تعلمين أين أخذ إبراهيم إسماعيل؟ فلما ردت قائلة : نعم أخذه إلى الجبل لنقل الحطب ، قال لها» لا أخذه للذبح».

فردت عليه قائلة : إن إسماعيل محبوب من والده ، حتى إن والده ينفر من الذين يعادونه ويبغضهم حاشا أن يرتكب هذا الفعل غير المشروع.

فقال لها : «ربما يذبحه ظنا أنه أمر الله؟ ردت السيدة هاجر ـ رضى الله عنها ـ وقالت : «ما دامت هذه هى إرادة الله الحكيمة فهو ملزم بتنفيذها إذن فليعمل على تنفيذ أمر الله «ولم تفتنها غواية الشيطان!.

نظم

ولما تخوف الشيطان فى الحال

التقى بأمه للإضلال

__________________

(١) الرواية الثانية أقوى من الرواية الأولى.

فقال لها لا تفعلى وإلا ندمت خذى حذرك

خليل الله يجعل القربان ولدك

فهجمت فى الحال بما وجدته قريب

أما شمس عقلها فأوشكت على المغيب

اتجهت بحينها والقلب إلى الرب

قائلة الق إلى سمعا هذا أولى وأنسب

الحذر من أن تبعدى تلك الروح من يدك

لا نطفى : سراج الأنبياء

لا ترضى أن يذهب معه حيث شاء

عند ما أدرك الشيطان أنه لن يستطيع أن يضل السيدة هاجر ذهب إلى إسماعيل.

وقال : يا إسماعيل لقد حملك أبوك إلى الجبل لكى يذبحك ، فأجاب إسماعيل : إنى أطيع أمر الله وأوافق على رأى والدى العزيز وأخضع لما يقرره فانصرف الشيطان عنه.

وغشى اليأس الشيطان بسبب عجزه عن خداع إسماعيل ـ عليه السلام ـ فأسرع إلى حضرة الخليل وقال له متسائلا :

«أيها الشيخ مضئ القلب إلى أين أنت ذاهب؟ وماذا تتصور أنك فاعل؟ فلما أجابه حضرة الخليل «لدى أمر هام وأنا ذاهب لإنجازه» فقال له : أتظن أن الشيطان يضلك عن طريق الرؤيا ويفسد عليك عقلك وإحساسك ويدفعك لقتل ابنك فإذا انخدعت بوساوسه وما يلقيه فى نفسك فإنك ستفقد ثمرة فؤادك الذي هو برعم بستان مناك!! ولا شك أنك ستتجرع كأس الندم وستضل عن طريق السلامة».

لكن الخليل فاجأه قائلا «أيها الملعون انصرف عني إننى أنفذ إرادة الله وأمره» فظل الشيطان ناشرا من خلفه.

وبعد أن صرف نبينا سيدنا إبراهيم ـ على نبينا وعليه التعظيم ـ الشيطان من عنده ووصل إلى جبل ثبير ووجه حديثه إلى فلذة كبده إسماعيل عليه السلام قائلا :

نظم

قال اعلم يا ولدى البر يا خير ولد

إن الله يدعوك إلى جنة الخلد

بمال عمرك يا ولدى لا تبخلن

وفى تردد طريق الحق لا تسلكن

اطرح عنك تراب جسمك وعجل بروحك

يخف عنكا عليك من ثقلك

اجعل الجسد الترابى فى الأرض طريح

وانعم وانفض التراب عن عين الروح

لا تلق الروح فى فزع وهلع

وحذار من أن يكون ثوبك أبقع

جد فى سبيل الحبيب بروحك

لا لا تكترث بعمرك

«أى» يا قرة عينى وجودى ، رأيت فى منامى أننى مأمور بذبحك ، لذا فإننى مضطر لإنقاذ إرادة الله ذى الكبرياء فانظر ماذا ترى؟! وبهذا الأسلوب يهىء ابنه زهرة عمره فى إنفاذ ما أمر به «فلما أجابه سيدنا إسماعيل بما جاء فى الآية الجليلة : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات : ١٠٢).

وقال : «يا والدى العظيم فاصدع بالأمر الذى كلفت به ستجدنى إن شاء الله صابرا وأحتمل ما جرى به حكم الله». وبعد هذا قال لوالده طائعا مختارا «اعلم أن بذل الروح أمر عسير ، لذا شد وثاق يدى وقدمى حتى لا أضطرب فينتقص أجرى أو يحرك اضطرابى رقة قلبك فتتألم وألقنى على وجهى حتى لا تدعوك رؤية وجهى عند الذبح إلى عدم القدرة على تنفيذ أمر الله ذى الجلال فإن توافق خذ قميصى أيضا إلى أمى هاجر كى يكون لها سلوى وأقرئها منى السلام وقل لها أن تتّسم بالصبر فى تحمل أمر الله وقد يساعدها هذا القميص الذى أرسله لها على ذلك «وبهذا القول أظهر طاعته لأمر الله بوضوح».

نظم

وقال إسماعيل للخليل الآن

يا خير من خلق الرحمن

قيد اليد والقدم منى

علنى لا أشعر وأنت تذبحنى

علني لا أشعر وأنت تذبحنى

فإذا ما صعدت منى الروح إلى السماء

لا يصبح جسدى بحرا يتلاطم فيه الماء

عر جسدى وسربالى

لئلا يكون حائلا عن وصالى

جرد جسدى من ثمر وورق

وضمها كلها فى غض متسق

بردائك استر منى الجبين

لا تنظر إلى وجهى أكره لك أن تكون حزين

وإذا ما أطرقتنى كالعنقاء

فاجعل لها عشا فى الخفاء

عند ما تشاهد فى تصعد زفرتك فى ألم

وفى التو تندم كل الندم

احذر يا من أنت ظل الرحمن

أن تنال النبوة بأى سوء كان

أنت بكل رحمة تغمرنى

لكن فى تلك اللحظة لا ترحمنى

أتعلم ما سوف تؤول إليه الحال

وإذا ما لم تطع أمر الله فى الحال

عند ما سمع إبراهيم ـ عليه السلام ـ هذا الجواب من ابنه قال :

«يا بنى ما أجمل استسلامك لإرادة الله. وأوثق رباط قدمى ابنه ويديه ثم ألقاه على وجهه ، ثم أغلق عينيه ووضع السكين الحار على رقبته البلورية وسحبها بقوة؟ لكن جبريل الأمين بأمر ربه قلب حد السكين فلم يقطع رقبة إسماعيل البيضاء كالفضة.

وفى قول آخر إن سيدنا إبراهيم قيد سيدنا إسماعيل على النحو المذكور وعند ما قلبه على وجهه ، قال إسماعيل ـ عليه السلام ـ يا أبتى! حل رباط يدى وقدمى ، حتى لا أكون قد استجبت لأمر الله مجبرا ، فحل والده وثاق يديه ورجليه ، وأوقفه على قدميه عندئذ نام إسماعيل على جنبه الأيمن وقال : يا والدى الآن ضع سكينك على رقبتى دون أن تشفق على حتى يرى الملائكة أن ابنك إسماعيل قد انقاد لأمر الله وأطاعه كما أطاع والده ويشهدوا بذلك.

وضع سيدنا إبراهيم السكين على رقبة سيدنا إسماعيل ليذبحه وضغط عليه بشدة لكن السكين لم يقطع فغضب حضرة الخليل من السكين وضرب حده فى صخرة عظيمة فشطرها نصفين فتعجب إبراهيم وقال : «ترى ما الحكمة؟ وأخذ يفكر فى الأمر وبينما هو كذلك سمع هاتفا ذا خطاب مستطاب» يا إبراهيم قد

صدقت الرؤيا وقد أرسلنا لك كبشا ليكون بدلا وفداء لابنك ، وظهر جبريل الأمين عند صفح جبل ثبير ومعه كبش عظيم وحمل سيدنا إبراهيم الكبش إلى مكان مسجد المنحر وبعد أن كبر هو أولا والكبش ثانيا ثم سيدنا إسماعيل أرقده على الأرض وذبحه قربانا لله!!.

نظم

أخذ الفزع كل مأخذ من نبى الله

وسرعان ما ستر وجهه وأخفاه

وفى هيبة أخرج شفرة كالهلال

ليذبح من هو البدر فى الجمال

الشفرة على رقبة إسماعيل وضعها

فما أثرت فيها وما قطعها

وشحذه على الحجر فانشطر فى الحال

وأصبح جزءين من النّخالة

وأنزل من السماء كبشا جميلا

فذبحه بدلا منه فى الحال

وفى رواية أخرى «بينما كان سيدنا إبراهيم مندهشا مما حدث كان ابنه المطيع على الدوام لكل أوامر الله سبحانه يقول يا أبى ما بك حتى إنك تتكاسل عن إنفاذ أمر الله سبحانه؟ فلما أجابه «إن السكين لا يقطع» قال له إذا كان الأمر كذلك فاضرب رأسى بمقبضه حتى تنفذ مهمتك بهذه الصورة» ، وبهذا بين له ابنه الطريقة التى يتبعها فى إنجاز مهمته وبينما كان الأب الرحيم يهم بفداء ابنه بأن يضرب على رأسه بمقبض ذلك السكين الذى فى يده إذ جاءه الهاتف. «يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا لقد أرسلنا لك كبشا ليكون فداء لابنك ـ دع إسماعيل وأمسك بهذا الكبش الذى تراه فى ذلك الجبل واذبحه بدل ابنك وفى لحظة سماع عبارة يا

إبراهيم قد صدقت الرؤيا سقط السكين الذى فى يد الخليل الجليل على الأرض من رهبة الصوت المذكور.

وكان سيدنا جبريل ممسكا بالكبش سابق الذكر من أذنه ، وأراه لسيدنا إبراهيم وبإشارة من الرسول الجليل كبر الكبش كما بينا سابقا ، وقد نبه هذا التكبير إسماعيل عليه السلام فرفع رأسه من الأرض التى يرقد عليها ، وقال بلسان عذب العبارة المنجية (الله أكبر ولله الحمد) وأمسك سيدنا إبراهيم الكبش الذى أراه إياه جبريل الأمين وذبحه. وفى رواية أخرى إذ رأى سيدنا الخليل مدى طاعة إسماعيل الذى هو ثمرة بستان عمره واستسلامه لأوامر الله سبحانه وتعالى غشيته الحيرة وقال وهو حزين «يا إلهى ، لقد أنعمت على وأسعدتنى فى آخر عمرى بابن وبعد ذلك أحزنتنى بفراقه إذ أمرتنى بذبحه ولو أن هذه الرؤيا التى رأيتها مصونة من وساوس الشيطان ومقرونة برحمتك ورضائك الشريف سأبدأ فى تنفيذها ، أما إذا كانت ضد إرادتك الإلهية فإننى أنصرف عنها وأستغفرك لك.

ثم وضع حد السكين الذى فى يده على عنق إسماعيل عليه السلام الذى يرقد على الأرض مقيد اليدين والقدمين وسحب السكين ثلاث مرات ولكن فى كل مرة كان حد السكين ينقلب وتنجو رقبة إسماعيل عليه السلام من الذبح وغضب نبينا إبراهيم عليه التحية والتكريم وضرب بالسكين صخرة كبيرة لا يقدر ثلاثون أو أربعون رجلا على تحريكها فانشطرت تلك (١) الصخرة السوداء الضخمة من شدة الضرب إلى نصفين وتدحرج أحد النصفين فى جانب والثانى إلى جانب آخر.

***

__________________

(١) هذه الصخرة موجودة أمام المزار المسمى مذبح إسماعيل ويظهر عليها أثر السكين حتى الآن.

الشكل السادس

بينما وضع سيدنا إبراهيم السكين على رقبة ابنه واجتهد أن يذبحه أظهر سيدنا إسماعيل لوالده نهاية الطاعة ومنتهى الاستسلام الذى يفوق كل ما أصف. وإذا بصوت مثير للشوق يقول «يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ولقد أرسلنا كبشا فداء لابنك فأمسك به واذبحه».

شمس التبريزى

إسماعيل قد جاء به

وجعله قربان كبش له

فاستدار إبراهيم عليه السلام على عقبيه بمجرد أن وصل الصوت إلى مسامعه ورأى عند سفح جبل ثبير كبشا فريدا متناسق التكوين ومن فرط سعادته ترك ابنه إسماعيل ملقى على الأرض مقيد اليدين وذهب للإمساك بالكبش الذى رآه ولكن الكبش المذكور انطلق ناحية مسجد الحنيفة متبعه وألقى فى ثلاثة أماكن سبع جمرات وأمسك به بالقرب من جمرة العقبة ، وأخذه إلى مكان مسجد المنحر وذبحه.

والمواضع التى ألقى فيها سيدنا إبراهيم بالحجارة على الكبش هى الأماكن التى يوجد بها الآن : الجمرة الأولى ، والجمرة الثانية وجمرة العقبة.

وكان الشيطان اللعين قد ظهر لإبراهيم فى تلك الأماكن وحاول أن يصرفه عن تنفيذ الأمر الإلهى ولكن لما رأى نفسه لا يستطيع أن يحقق أمله انسحب إلى ناحية ما خائبا مدحورا. وإشارة إلى هذه الحادثة يرمى الحجاج الكرام الجمرات الثلاث.

قطعة

ما يرمى به إبليس من حجر

إما حصى وإما جمر

وفى المآل إذا قلبت الكلمتان

فالرجمة تكون جمرة

بينما كان سيدنا إبراهيم منهمكا فى ذبح الكبش عند مسجد المنح ، حل جبريل الأمين وثاق يدى إسماعيل ـ عليه السلام ـ وقدميه وقال له «يا إسماعيل اطلب من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ما تشاء فى هذا الموقف المبارك الذى يستجاب فيه كل الأدعية. وقف سيدنا إسماعيل بين يدى عتبة الرب الجليل وأخذ فى الدعاء قائلا : «يا إلهى أدعوك وأتوسل إليك أن تغفر للمؤمنين الذين أتو إلى الدنيا ثم ذهبوا إلى الآخرة حتى هذه اللحظة» وخلال دعائه جاء والده المكرم وقال : يا بنى أنت مؤيد من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقد سمع فى الآفاق صوت الهاتف يقول يا خليل يا أصدق القائلين ويا إسماعيل يا أصبر الصابرين.

حكمة :

إذا قيل ما الحكمة فى إرسال «كبش» فداء لإسماعيل ـ عليه السلام ـ وعدم إرسال ثور أو جمل مثلا؟ نقول إنه أرسل كبش لكى لا يكذب والده إبراهيم ـ عليه السلام ـ لأنه إذا أرسل جمل أو أى حيوان آخر لما صدق سيدنا الخليل ، لأنه عند ما أخذ إسماعيل ـ عليه السلام ـ طلب منه أن يأتى بحبل وسكين ، ولما سأله إسماعيل عن سبب ذلك قال له أبوه لأننا سنذبح شاة. لذا أنزل كبش دون سائر الحيوانات.

يقول عبد الله بن عباس ـ رضى الله عنهما ـ إن الكبش الذي جاء به جبريل الأمين آنذاك كان القربان الذى تقبله الله من هابيل بن آدم ـ عليه السلام ـ ، وقد أخرج من فرعى الجنان قبل واقعة ذبح إسماعيل بأربعين سنة وامتنع عن الطعام والشراب أربعين سنة كاملة إلى أن أنزل إلى مراعى البسيطة.

وكان الكبش المذكور كبير القرنين أسود العينين ولونه يميل إلى السواد وظل القرنان معلقين فوق ميزاب الكعبة المعظمة ، وعلى قول آخر فوق باب المعلا ، إلى وقعة الحجاج الظالم واحترقا فى أثنائها.

وكان المكان الذى شوهد فيه جبريل الأمين مع الكبش فى مضيق منى. وسفح جبل «ثبير» حيث توجد صخور كثيرة. وقد بنى فوقه قبة من الحجر على أربعة قوائم ظنا أن الحجاج يزورون هذا المكان ويطلق على هذه القبة «قبة الكبش» من قبل سكان مكة.

***

الشكل السابع

استطراد

إن أسلافنا من المؤرخين تناولوا بالبحث الكيفية التى تم بها أمر إسماعيل بالذبح واختلفوا فى هذا الموضوع كثيرا ولكنهم بعد ذلك اتفقوا على كلمة واحدة ، وقالوا : «إن بلوغ خليل الله إبراهيم الرابعة والثمانين من عمره دون أن يكون له ولد مما أحزنه وآلمه. ولذا توجه لربه قائلا : إذا أنعمت على بولد نجيب حليم ـ حتى لا ينقطع نسبى فلكنت أفديه طالبا رضاك وكان هذا نذرا منه ومن فرط سعادته بولادة سيدنا إسماعيل ذا السعادة الباهرة غاب عن ذهنه أن يوفى النذر ، وبعد ثلاث عشرة سنة من الواقعة اقتضى صدور الخطاب الإلهى تنفيذ إبراهيم نذره إذ قال الله سبحانه وتعالى : «يا إبراهيم كنت ستذبح إسماعيل قربانا فلماذا لا توفى بنذرك».

وتردد إبراهيم فى تصديق هذه الرؤيا وظل فى ذلك اليوم حتى المساء يفكر فى هذا الموضوع! لذا أطلقوا على اليوم المذكور يوم التروية».

وإن كان معنى التروية لغة التفكير إلا أنه قد اصطلح على أن يطلق هذا الاسم على اليوم الثامن وأخذ يفكر بعمق فى صباح تلك الليلة وكان اليوم التاسع من شهر ذى الحجة إسماعه الصوت الهاتف : «يا إبراهيم إن إبليس يبعدك عن طاعة الله ، فقرر أن ينفذ أمر القضاء ، وقد عرف أن الهاتف الإلهى يوحى له بإنفاذ الأمر ، ولذا أطلق على هذا اليوم اسم «عرفة». واليوم الثالث وكان اليوم العاشر من ذى الحجة وأطلق عليه يوم النحر لأن إبراهيم عليه السلام بادر فيه بذبح فلذة كبده.

لاحقة :

الحكمة من أمر إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ كما ينقلها على بن أبى طالب ـ رحمه الله ـ وقد قال العالم الواقف على سرائر نبينا صلى الله عليه وسلم : إنه بينما كان خالق السموات والأرضين يرى سيدنا إبراهيم عليه السلام السموات والأرض ويوقفه على جمالهما وما فيهما رأى حضرة الخليل ـ عليه السلام ـ رجلا يرتكب معصية ، فلما دعا الله أن يهلكه هلك ذلك الرجل ، وبعد قليل دعا على بضعة أشخاص من المذنبين فلما هلكوا صدر خطاب رب العزة له يا إبراهيم إن دعاءك مستجاب دائما فلا تدع على عبادى فإنهم مجبولون على ثلاث خصال : إما أن يتوبوا وإما أن يسبحوا وإما أن يفوضوا أمورهم ، فإذا شئت غفرت لهم وإذا لم أشأ عاقبتهم ، ويرى البعض أن سبب صدور الأمر لسيدنا إبراهيم أن يذبح إسماعيل ـ عليه السلام ـ هو إظهاره القسوة على العباد وأنه لم يرحمهم.

وقال جماعة من المفسرين العظام عقب تفسير الآية الجليلة (كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الأنعام : ٧٥) إنه ذات ليلة فى أثناء عروج إبراهيم عليه السلام إلى السماء رأى عبدا عاصيا يرتكب ذنبا فقال : يا رب إن هذا العبد يأكل رزقك ويمشى ويتحرك فوق الأرض التى خلقتها ، ومع هذا يخالف أوامرك فأهلكه!! ولما كان دعاؤه مستجابا فقد هلك ذلك الرجل ثم رأى بعد ذلك مذنبا آخر فلما دعا الله أن يهلكه ، خاطبه الله ـ سبحانه وتعالى ـ معاتبا يا إبراهيم لا تدع على عبادى أمهلم وأمنحهم فرصة ، فإنهم يا إبراهيم كثيرا ما يقترفون الذنوب. وفى تلك الليلة أمر فى رؤياه بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام.

ولكى ينفذ سيدنا الخليل الجليل «عليه التحية والتبجيل» ما رآه فى رؤياه ألقى ابنه على الأرض وهو مقيد اليدين فى سفح جبل ثبير على النحو الذى ذكرناه مفصلا فى موضعه ، وعند ما أمسك السكين بيده غلبت عليه رقته فقال : «يا رب

إن هذا الابن الذى استعد لوضع السكين على عنقه هو ثمرة فؤادى وابنى الغالى. وإنه أحب الناس إلى» ، وكان قصده من هذا أن يعرض على أرحم الراحمين ما بقلبه من رقة وشفقة ، ولما انتهى من كلامه إذا به يسمع هاتفا من الوحى يقول : «يا إبراهيم أنسيت الليلة التى دعوت فيها بهلاك عبادى؟! إذا كنت رحيما بابنك على هذا النحو وأنا أيضا رحيم وشفيق على عبادى ألا تعرف أننى أنا الرحيم؟! لقد أردت هلاك عبادى وأنا فى المقابل أريد ذبح ابنك.

تكليف حضرة الخليل ببناء الكعبة المعظمة :

كانت إقامة إسماعيل ـ عليه السلام ـ مع أمه السيدة هاجر فى الوادى المقدس غير ذى زرع مقدمة لتأسيس قواعد البيت المعظم ، لذا تحمل إبراهيم ـ عليه السلام ـ كل ما سبق ذكره من الصدمات تحملها صابرا دون قنوط. قد أمر إبراهيم ـ عليه السلام ـ بتأسيس كعبة الله. قبل ولادة إسحاق ـ عليه السلام ـ بثمانية أو (١٤) أو (١٨) أو (١٧) عاما (١) وبعد حادثة الذبح بسبعة أو (١٣) ، أو (١٧) أو (١٦) (٢) عاما (٣).

وبما أنهم لا يعرفون حسب عجزهم البشرى مكان بيت الله فقال رب العزة «يا إبراهيم اتبع سكينة» وهى ستدلك على مكان الكعبة.

ذلك لأن الموضع المقدس لكعبة الله كان معروفا للبشر حتى طوفان نوح الذى أغرق الدنيا غطّى الطوفان ببحر رماله مكان البيت فتركه مجهولا بدون أية علامة ، ومع هذا فإن السيول التى تكونت من شدة هطول الأمطار كانت تتحاشى الأرض المباركة للبيت الشريف وتطوف من حول أركانها الأربعة. والذين رأوا هذه العلامة الميمونة عرفوا أن هذا المكان بالذات مكان مبارك مقدس واعتقدوا

__________________

(١) القول الثالث مرجع على القول الأول والثانى.

(٢) الرواية الثالثة مرجحة على الروايات الأخرى.

(٣) كان عمر إسماعيل فى ذاك الوقت ثلاثين أو عشرين عاما كما أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان قد دخل فى المائة من عمره المبارك.

فى ذلك. حتى إن المرضى والمظلومين والمهمومين كانوا يطوفون بهذا المكان ويرون أن أدعيتهم قد استجيبت.

عند ما كلف سيدنا إبراهيم ببناء وتشييد كعبة الله بوحى من الله الكريم وتشرف بخطاب رب العزة أن اتبع السكينة ركب البراق الذى نزل من السماء وسار مستظلا بظل السكينة سالفة الذكر.

وكانت «السكينة» المذكورة ريح (١) عجيبة الآثار فى صورة حية ذات رأسين أسمها حجون. كما أن لها رأس وأيضا جناحان وقد ظهرت على شكل سحابة ذات أربعة أركان وكانت بحجم الكعبة المعظمة وأوصلت «السكينة» إبراهيم عليه السلام إلى مكة المكرمة ووقفت فوق أرض وساحة البيت الشريف وقالت بلسان حالها إن المكان الذى تظله هو الموضع الأنور لبيت الله المقدس.

وكانت السكينة المذكورة تبدو أحيانا على هيئة أسد أو على هيئة جمل ، وكانت تجيب على أسئلة إبراهيم ـ عليه السلام. سارع حضرة الخليل بمعاونة ابنه إسماعيل تحت إرشاد السكينة التى بينت لهما حجم البيت ومكانه أسرعا فى حفر وتعميق أسس البيت المعظم.

وعند ما عزم إبراهيم ـ عليه السلام ـ على الذهاب (٢) إلى مكة المكرمة متتبعا «السكينة رجته زوجته المحترمة السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ ألا يقابل السيدة هاجر ولا يكلمها ، وعند ما اهتدى إلى الموقع الأنور للبيت الأعظم الذى دلته عليه السكينة وعرفه ، ذهب إلى دار ابنه السعيدة إسماعيل ـ عليه السلام ـ ودق الباب فردت زوجة ابنه قائلة ماذا تريد؟ سألها عن سيدنا إسماعيل وأمه الرحيمة هاجر ، وعرف منها بخروج إسماعيل إلى الصحراء للصيد كما علم بوفاة (٣) هاجر

__________________

(١) يقول الإمام الكلبى إن هذه الريح كانت سحابة على شكل رأس إنسان.

(٢) هذه هى المرة الثالثة التى يذهب فيها حضرة الخليل إلى مكة.

(٣) كانت السيدة هاجر عند وفاتها فى الستين من عمرها ، وكان ابنها إسماعيل قد بلغ العشرين من العمر.

ودفنها فى المكان المسمى (١) حجر إسماعيل ، رجع إلى الحرم الشريف ، واغتسل بماء زمزم ثم انتحى وجلس ينتظر قدوم ابنه.

وعند ما رجع إسماعيل ـ عليه السلام ـ من الصيد وجد والده فى انتظاره عند بئر زمزم فصافحه وقبّل يده ، ثم أحضر مقدارا من الحليب واللحم المطبوخ واستضافه. وبعد أن أكل سيدنا إبراهيم الطعام الذى أعده ابنه إسماعيل قال له : «يا بنى إن الله قد أمرنى برفع قواعد بيته ـ عز وجل ـ فوق تلك الربوة الحمراء ، فساعدنى فى إنجاز هذا الأمر وأفهمه أنه مكلف بوضع أساس بناء كعبة الله ، وشرع بسم الله فى تعميق الحفرة بعون إسماعيل عليه السلام.

وفى قول آخر إنه عند ما خرج سيدنا الخليل من بيته السعيد كلف الله «السكينة» سالفة الذكر وطائرا سريع الطيران وملكا ليرشدوا إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى موضع الكعبة المباركة ، وعند ما وصلوا إلى مكة المشرفة وقفت «السكينة» المذكورة فوق ساحة البيت المعظم وقالت لإبراهيم : «إن كعبة الله التى أمرت بتأسيسها وبنائها فى المكان الذى يحيط به ظلى». وهكذا رأى مكان بيت الله المقدس وعينه.

وكان مع حضرة إبراهيم سبع من الملائكة يعاونون فى ذلك الوقت. وكان الموضع الذى أرته إياه «السكينة» ذا أربعة أركان غير متساوى الأضلاع. وبعد مدة قد أطلقوا على أحد أركانه الركن الشرقى يعنى الحجر الأسود وعلى الركن الآخر الركن العراقى وعلى الركن الثالث الركن الشامى وعلى الركن الرابع الركن اليمانى.

إخطار :

إن الموضع الحقيقى لبيت الله كان ذا ثلاثة أركان وذلك إيماء إلى أن فى قلوب الأنبياء العظام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ثلاث خواطر وهى «إلهية وملكية ونفسية» وأن قلوبهم لن تفتح لأية خاطرة أخرى غيرها ثم شاءت الإرادة الإلهية

__________________

(١) يوجد داخل الحطيم الكريم وتحت الميزاب الذهبى ويشار إلى مكانه بعلامة وهى حجر أخضر.

أن يشيد بناؤه أربعة أركان وكان هذا إشارة إلى إمكان وجود أربع خواطر فى قلوب المؤمنين.

(روح البيان).

والطرف الشرقى لكعبة الله فيما بين ركنى الحجر الأسود والعراقى يميل قليلا إلى الشمال وفى هذه الجهة من بيت الله مقام إبراهيم ، بئر زمزم ، باب بنى شيبة.

وجهة الشمال ما بين الركن العراقى والركن الشامى تميل بعض الشىء ناحية الغرب ويقع حجر إسماعيل والميزاب الذهبى والمقام الحنفى الكائن محل دار الندوة فى هذا الجانب من البيت الأعظم ، والجانب الغربى ما بين الركن الشامى والركن اليمانى يميل قليلا ناحية الجنوب ويقع فى هذا الجانب من بيت الله عز وجل الباب المسدود الغربى ، وباب العمرة باب الوداع ، وباب إبراهيم.

وجهة الجنوب ما بين الركن اليمانى وركن الحجر الأسود ، وهى مائلة بعض الشىء ناحية الشرق ويوجد فى هذه الجهة من الكعبة المعظمة باب الصفا وكل الأبواب الجنوبية وبناء على ما يتضح من الشكل التالى للساحة المطهرة للكعبة المعظمة نجد أن طول المسافة بين ركن الحجر الأسود إلى الركن العراقى ٣١ ذراعا ومن الركن الشامى إلى الركن اليمانى ٣٢ ذراعا والطول من الركن العراقى إلى الركن الشامى ٢٢ ذراعا ومن الركن اليمانى إلى ركن حجر الأسود ٢٠ ذراعا.

مساحة هذا الشكل قد قيست بالمقياس المسمى «ذراع اليد» والمقياس المذكور يساوى المسافة ما بين مرفق الرجل إلى طرف الإصبع الأوسط فى يده.

وبما أن كل الذين قاموا بقياس المسجد الحرام قد استخدم كل واحد منهم ذراعه الشخصى لذا لم يوافق مقياس أحدهم الآخر.

مثلا : إن صاحب تشويق الساجد وجد أن ارتفاع «الكعبة المعظمة» الأعلى ٢٧ ذراعا وستة أصابع بينما وجد الإمام النووى ارتفاعها ٢٧ ذراعا فقط كما ضع فى كتاب الإيضاح ووافق مؤلف تاريخ خميس على مقياس الإمام السابق ، لأن ذراع اليد يختلف من شخص إلى آخر. ولا يعد مقياسا متفقا عليه.

يقول مؤلف هذا الكتاب إننى قد اختبرت كثيرا من الأذرع وقمتها فوجدتها مساوية لسبع عشرة بوصة إنجليزية واعتبرت هذا هو المقياس المتوسط للذراع وحولت متوسط طول الأذرع إلى القدم الإنجليزى وقست به الأماكن المقدسة ، وبما أن المقياس الذى يطلق عليه «ذراع اليد» لا يشبه الذراع الحديدى ولا الذراع العادى ، يجد الإنسان صعوبة فى تعيين المقياس الصحيح ولكن القدم الإنجليزى يمكن تحويله بسهولة لأى نوع من أنواع الأذرع وبهذا التقدير يقتضى أن يكون الطول الشرقى للكعبة المعظمة الذي يظهر في الشكل المذكور أعلاه وهو ٤٤ قدما و ٦ بوصات والطول الغربى أيضا ٤٣ قدما ١١ بوصة وعرض الجانب الشمالى ٣١ قدما وبوصتان وعرض الجانب الجنوبى ٢٨ قدما و ٤ بوصات.

ابتدأ نبينا حضرة الخليل «عليه الصلاة والسلام» فى حفر المكان الذى بينته له السكينة بمقتضى الإرادة الإلهية الحكيمة ، ونقل الأحجار من جبال لبنان ، وطور سينا ، طور زتيا ، والجودى ، وحراء (١) بمساعدة الملائكة وبعد أن انتزع صخورا ضخمة لا يستطيع ثلاثون أو أربعون رجلا أن يرفعوها من مكانها إلى أن وصلوا إلى الأساس القديم الذى وضعه سيدنا آدم أبو البشر. وأخذ فى بناء الجدران جاعلا مبدأ الطواف المكان الذى وضع فيه الحجر الأسود الذى أتى به جبريل الأمين من جبل أبى قبيس ـ وما زال فى مكانه إلى الآن.

__________________

(١) قد وضع أبو البشر أساس البيت الحرام بالحجارة من نفس الجبال المذكورة.

وكان الحجر الأسود قد أودع أمانة فوق جبل أبى قبيس فى واقعة طوفان نوح.

وقد أخذه جبريل الأمين من الجبل المذكور وأحضره إلى سيدنا إبراهيم الذى رأى أن يجعله بتفكيره الصائب والرفيع علامة بداية الطواف فوضعه فى جدار الركن الشرقى للكعبة المعظمة.

وما زال إلى الآن فى المسجد الذي فوق قمة جبل أبى قبيس حجر أمام المحراب يزوره الناس على أنه كان الموضع الذى حفظ فيه الحجر الأسود فى وقت طوفان نوح.

وفى قول آخر إن إسماعيل ـ عليه السلام ـ وجد حجرا رآه مناسبا ليكون علامة بداية الطواف بناء على رأى والده ومشورته ولكن الحجر لم يعجب سيدنا إبراهيم وذهب للبحث عن حجر آخر وفى هذه اللحظة نطق جبل أبو قبيس وقال : «يا إبراهيم لدى حجر محفوظ أمانة لك وأظنه الحجر الذى تبحث عنه ليكون بداية الطواف ولا بد أنه الأمانة الكبرى المحفوظة عندى» وأخذ حضرة الخليل عليه صلاة الله الجليل ، الحجر المذكور بنفسه ووضعه فى المكان الذى أعده.

قطعة :

الخليل الجليل الذى أرسله الحق إن شمل الجماد برحمة فنطق ولا ريب أن بيت الله إذا تكلم حجر الركن بالكلام فاه ونار الشوق أبو قبيس تحرق أمام جمال الكعبة فذاك أليق

نظم

تقوم الدار بحجر فوق حجر

وبذاك اللون أو بلون آخر

محل برعم تفتح فى روضة الخليل

أنار به للخليل الجليل

ونادى أبو قبيس فى العلاء

قائلا سمعت منه ذاك النداء

إن طوفان هذه الدنيا مسح

وهذا البيت للسماء تفتح

ذلك البيت وجبريل الذى أنزله

إن لدى حجرا وديعة أحمله

وبيعتى حتى تسلموها

وفى موضع شئتم ضعوها

(فتوح الحرمين).

ارتفعت جدران البناء المبارك للكعبة المعظمة ، وعند ما رأى إبراهيم ـ عليه السلام ـ أنه فى حاجة إلى استخدام إسقالة عثر على حجر واستخدمه في مكان الإسقالة وهذا الحجر الشريف هو الحجر القيم الذى غسلت فوقه رعلة بنت عمرو بن جرهم حماها إبراهيم عليه السلام.

ويعرف هذا الحجر المبارك في ساحة المسجد الحرام باسم مقام إبراهيم الآن وقد استخدمه إبراهيم ـ عليه السلام ـ إسقالة عند بناء البيت وارتفعت جدران

البناء السعيد لبيت الله وكان المقام الشريف المذكور يرتفع مع ارتفاع البناء وعند ما ينزل إبراهيم إلى الأرض كان يعود إلى هيئته الأصلية.

وقد ذكر شكل وصورة الأبنية التى أقيمت فوق المقام الشريف المذكور فى الصورة الأولى من الوجهة السابعة.

وعند ما وصل ارتفاع جدران الأبنية الشريفة لبيت العزة إلى تسعة أذرع ترك حضرة الخليل سقفه مفتوحا وألحق جانب باب المعلا إلى أرض المطاف وصنع سقفا من الخشب متصلا بالبيت والمسمى بحظيرة أغنام إسماعيل. وحفر حفرة كبيرة العمق ثلاثة أذرع فى الأرض التى تقع جهة يمين الداخل فى بيت الله ، لكى يوضع بها الهدايا التى ترسل من الأطراف والأكناف وبذلك أتم بناء كعبة الله المعظمة سنة ٣٥٧٤ ق. م.

والمكان المسمى حظيرة أغنام إسماعيل يطلق عليه الآن اسم «حجر إسماعيل» وهذا المكان الشريف هو مدفن السيدة هاجر.

ويروى المؤرخون الكرام أن البقعة السعيدة للكعبة المعظمة ظل بابها دون مصراع ولما مر بها الملك الحميرى قام بأداء الحج والزيارة ولما رأى باب الكعبة بدون مصراع ركب بابا خشبيا عليه مفتاحه كما علق فوق البناء المقدس كسوة مزينة ، كما جاء بيانه فى الصورة الثالثة من الوجهة الرابعة.

وفى أثناء قيام سيدنا إبراهيم ـ عليه التحية والتكريم ـ بحفر أساس الكعبة المعظمة رأى حجرا بين أحجار الأساس القديم وكان مكتوبا عليه العبارة البديعة التالية «أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها اسما من أسمائى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته». وترجمة هذه الفقرة المترجمة للعربية باللغة التركية» أنا الله صاحب مكة خلقت الرحم وجعلته اسما من أسمائى وهو الرحمن. وكل من يتصف بهذه الصفة ويعمل بمقتضاها أجزيه جزاء حسنا ، وكل من يخالفها أعاقبه أشد العقاب».

ويروى «الإمام الواقدى» أن الحجر المذكور حجر أخضر اللون وكتب عليه السطور الآتية ونقلها على أنها من جملة تدقيقاته.

السطور التى نقلها إلينا الإمام الواقدى هى :

١ ـ السطر الأول : «لا إله إلا أنا رب البيت مغلبها وهى قرار ومرخيها وهى قفار».

٢ ـ السطر الثانى : «لا إله إلا أنا رب البيت مهلك الطغاة ومفقر الزناة ومخزى تارك الصلاة».

٣ ـ السطر الثالث : «أنا الله لا إله إلا أنا رازق من لا حيلة له حتى يعلم من له حيلة أن لا حيلة له».

وبعد أن فرغ إبراهيم ـ عليه السلام ـ من بناء كعبة الله المقدسة رفع يديه وابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ متجهين إلى أبواب رحمة الله راجين منه ـ سبحانه وتعالى ـ أن يكون ما قاموا به رهن قبول معطى العطايا.

وبعد هذا نزل جبريل ـ عليه السلام ـ باسطا أجنحته وقال «إن عملكم قد حاز القبول عند الله» ثم تقدمهما وعلمهما مناسك الحج.

وأدى إبراهيم ـ عليه السلام ـ مقتديا بجبريل ـ عليهما السلام ـ فريضة الحج ، وثبت جميع شروط الحج ومناسكه فى خزينة حافظة ثم ودع ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ عازما على العودة وصعد فوق قمة جبل الرحمة ونظر مرة إلى جهة بلاد الشام وأخرى إلى ناحية مكة المعظمة السعيدة وتذكر جودة جو الشام ولطافة هوائها وعذوبة مائها ومر بخاطره حرارة الحجاز الشديدة المتعبة فتأسف على بقاء ابنه فى هذا المكان الذى تحيط به الحجارة ودعا له طويلا. ثم ضغط برجليه على المهماز قاصدا ناحية الشام. وفى هذه الفترة صدرت الإرادة الإلهية «أذن فى الناس بالحج» وهكذا أمر بدعوة الناس إلى الحج فأخرج رجليه من المهماز وقال مخاطبا ربه : «يا ربّ قد فرضت طواف البيت على عبيدك وأمرت عبدك المطيع هذا بدعوة هؤلاء جميعا لينالوا من هذه المائدة العامة نصيبهم ولكننى كيف

أستطيع أن أدعو هؤلاء جميعا حتى يؤدوا مناسك الحج والطواف آتين من الشرق والغرب» فتلقى هذا الجواب ذا الحكمة : «يا إبراهيم؟ فإذا ما دعوتهم بصيحة عالية فإننا نوصل صوتك إلى آذان الخلائق كلهم».

حينئذ اتجه للجهة اليمنى من باب الكعبة السعيدة حيث كان قد ترك المقام الشريف وصعد فوق الحجر حتى صار مساويا للجوهر وسد أذنه بأصابعه وصاح متجها إلى الشرق والغرب : «يا عباد الله إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمركم أن تحجوا إلى الكعبة الشريفة التى أمرنى ببنائها وأن تطوفوا حولها ، فأسرعوا إلى إيفاء هذا الغرض تكونوا قد استجبتم للدعوة الإلهية التى تستوجب المغفرة.

وبهذا القول البليغ ذاع الأمر الإلهى وأعلنه على العالم وقد سمع نداء الخليل سواء من كان حاضرا فى وقتها أو من كانوا فى أصلاب آبائهم أو فى أرحام أمهاتهم والذين قدر حجهم فى العالم الأزلى من الأمة واستجابوا قائلين «لبيك».

رواية : قد سر حضرة الخليل من استجابة الأمة المحمدية قائلين «لبيك» وقال «يا ربّ إننى أريد أن أستضيف هؤلاء» وبالأمر الإلهى أخذ قبضة من تراب الأرض ونثره إلى الجهات الأربعة وفى الأماكن التى أصابها التراب المنثور ظهر الملح وإن هذا المعدن سيكون وليمة مقدمة إلى أهل الأرض إلى يوم القيامة بطلب من إبراهيم وباستجابة الله ـ سبحانه وتعالى ـ لدعائه وحيا.

وإذا قيل ألم يكن قبل ذلك ملح؟ يجاب عليه أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ علق ظهور المعادن لسبب ما وكان نثر إبراهيم ـ عليه السلام ـ التراب سببا فى ظهور الملح. «محاضرة الأوائل».

كان أول من أحس بصيحة دعوة إبراهيم أهل اليمن وعند البعض أن جرهم كان أو أول من سمع الدعوة ومع ذلك فجرهم من أهل اليمن.

نظم

ما العمل إنه جاءه على أنه التواب

وجاءه الأمر «أذن فى الناس»

ما لم يكن بيت القلب من طين وماء

فلتكن الضجة منها حتى تسمع أذن القلب

إن كل من كان فى الأصلاب والأرحام

سمع منه ذبذبة الصيت

إن كل سامع معجل

جعل من رأسه قدما للعبودية

إن الخلق منذ القدم فى هذه المحبة

وبلا سبب لم يسلكوا هذا الطريق

(فتوح الحرمين).

بناء على ما يروى أن عدد مرات حج شخص يتوقف على عدد إجابته لصيحة خليل الرحمن وكان الذى سيحج مرة واحدة قال «لبيك» مرة واحدة والذى قدر حجه مرتين قال «لبيك» مرتين وهكذا.

إذا ما نظرنا إلى حج الأمة المحمدية اليمنية كل عام يدل على أنهم فاقوا جميع المسلمين فى البلاد الأخرى فى التلبية. قال بعض المؤرخين إن إبراهيم عليه السلام عند ما أراد أن يدعو الناس للحج لم يدعهم من فوق المقام الشريف بل صعد فوق جبل أبى قبيس أو جبل «ثبير» ونفذ أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا أن القول الأول هو المصدق عند الجمهور ومرجح على الأقوال الأخرى.

وبهذه الصورة أتم سيدنا إبراهيم مهمته ونزل من فوق المقام الشريف نزل جبريل ـ عليه السلام ـ وأخذ إبراهيم ـ عليه السلام ـ وابنه إلى جبل الصفا ومن

هناك إلى جبل المروة وأراهما حدود المسجد الحرام وأوصى بأن يوضع حجر كعلامة فارقة فى الأماكن التى عينها. ووضع خليل الرحمن (١) العلامات فى الأماكن التى بينها الرسول الجليل. وفى السابع من شهر ذى الحجة تلا إبراهيم ـ عليه السلام ـ خطبة بليغة مقابل البيت الشريف. والآن تلقى الخطبة فى السابع من ذى الحجة من فوق منبر المسجد الحرام تشرح فيها بالتفصيل مناسك الحج والمسائل الخاصة بالحج.

وفى أثناء الخطبة كان إسماعيل ـ عليه السلام ـ يستمع إلى خطبة أبيه فى خضوع وخشوع وصدق وأدب جم.

وفى اليوم الثانى أحرما من الحرم الشريف بنية الحج وسارا إلى منى ملبين ومهللين ، وقضيا ليلهما فى الموقع الذى يوجد فيه الآن مسجد «الخيف» وكلما يحين وقت الصلاة كانا يؤديان الفرائض الخمسة فى أوقاتها وأطلق على هذا اليوم يوم «التروية» والحكمة من إطلاق هذا الاسم أنه قد كان انتظاره قبل وقعة ذبح إسماعيل بيومين مترويا كما سبق أن بيناه.

وبعد ذلك بيوم كان اليوم التاسع من ذى الحجة وبعد أن أديا صلاة الصبح وانتشر ضوء الشمس فوق جبل «ثبير» ذهبا إلى وادى الفيوضات «عرفات» ووقفا فى المكان الذى يسمى الآن مسجد «نمرة».

وأحد أسماء هذا المسجد «مسجد إبراهيم» ويؤدى الحجاج فرضى الظهر والعصر جمع تقديم.

وفى اليوم المذكور صحبهما جبريل الأمين ليريهما الجبال التى فى الوادى وليعرفهما مناسك الحج وفعلا بين لهما الحدود المطهرة والجبلين اللذين يقطعان حدود «عرفات».

وبعد ذلك دخل إبراهيم ـ عليه السلام ـ فى مكان يطلق عليه الآن مسجد «الصخرة» ، وأجلس ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ فى مكان ما ، وتمتم ببعض الكلمات وهو واقف على قدميه وصلى هو وابنه صلاتى الظهر والعصر متصلتين جمعا ، وأخذا يذكران الله ويسبحانه وعادا بعد الغروب إلى وادى «المزدلفة».

__________________

(١) قد بين فى بحث الميقات كيفية وضع هذه العلامات وإلى أى وقت ظلت معووفة.

ويروى أن المكان الذى جلس فيه إسماعيل ـ عليه السلام ـ وكان عاليا وغير مستوبين الصخور ، وإنه الآن المكان الذى وقف فيه رئيس قافلة الأنبياء على نبينا وعليهم التحايا ، والمحل الذى تمتم فيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ بكلمات وهو المحل الذى يلقى فيه الآن قضاة مكة خطبة عرفات.

وقد أدى إبراهيم ـ عليه السلام ـ هو وابنه صلاتى المغرب والعشاء متصلتين جمعا جمع تأخير ، ثم أخذا يجمعان الحصى كل واحد منهما (٤٩) حصاة لرمى الجمرات وقضيا ليلتهما تلك فى المزدلفة ، وبعد أن صليا صلاة الصبح نهضا وواصلا سيرهما نحو مكان يسمى وادى المحسّر (١) وسارا فى هذا الوادى قدر خمسمائة ذراع سيرا سريعا.

وبعد ذلك أعدّا ذبيحة وذبحاها فى مكان يسمى مسجد «منحر» ، وهو مسجد لطيف فى ناحية مسجد «الخيف» من منى.

وفى اليوم الثالث من وصولهم إلى «منى» رميا الجمرات التى جمعاها من المزدلفة بعد الزوال حسب الأسس الشرعية ثم توجها إلى مكة المكرمة بعد أن استراحا فترة فى وادى «محصب» (٢) وصليا فيه صلاة الظهر ثم عادا إلى مكة المكرمة.

وأخيرا عاد إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى الشام وفى العام التالى أدى مع زوجته سارة وابنه إسحاق ـ عليهم السلام ـ فريضة الحج الشريف.

__________________

(١) المحسر اسم واد بين «منى والمزدلفة» وطوله خمسة وأربعون وخمسمائة ذراع. يقال إن أصحاب الفيل قد تعبوا فى هذا المكان وأصبحوا غير قادرين على السير ، لذا سمى الوادى بهذا الاسم وبما أن السير فى هذا الوادى ببطء سنة نبوية فإن الحجاج يسيرون فيه بتؤدة وبطء ولا يجوز وقوف وقفة عرفات فى هذا الوادى أو فى وادى عرنة.

(٢) ويقال لهذا المكان أبطح أيضا وهو مكان ذو حجارة فى مدخل مكة المكرمة وبالقرب من مقبرة حجون ومن السنة السنية أن يقف فيه الحجاج الكرام ويصلوا الظهر والعصر والمغرب والعشاء وأن يقضوا ليلهم فيه ثم يدخلون مكة المكرمة.

وفى هذه الرحلة نالت سارة الرعاية التامة والاحترام الفائق من إسماعيل ـ عليه السلام ـ وكلما تذكرت ما صدر منها نحو إسماعيل ـ عليه السلام ـ فيما مضى خجلت وندمت ، إلى أن توفيت أظهرت نحو إسماعيل ـ عليه السلام ـ الود والمحبة.

واستمر حضرة الخليل طول حياته يذهب إلى مكة المكرمة ويعود مستصحبا ابنه إسحاق ـ عليه السلام ـ وكذلك فعل ابنه ـ إسحاق ـ بعد وفاة والده (١) إذ كان يذهب كل عام إلى أرض الحجاز العطرة ويتلاقى مع أخيه وهكذا يشيد بنيان الحب والمودة بينهما ويوالى فى المصافاة.

قطعة

كان فى الرسالة أخوان

كلاهما نهج الخليل منتهجان

أولهما فى الشام بدر يتألق

والثانى فى الحجاز شمس تشرق

أولهما كان فى آية حسن سارة يرغب

والثانى معجزة هجرة هاجر يطلب

أحدهما جده أمجد الأطهار

والآخر من الأسباط المختار

ذكرهما فى لساننا

على الدوام فى صلواتنا

وقد واظب المتوجون بتاج النبوة بعد إسحاق ـ عليه السلام ـ وكل من آمن بنبوتهم ورسالتهم على الحج الشريف حتى سيدنا المسيح كانوا عند ما يصلون إلى حدود المسجد الحرام ينزلون من فوق دوابهم تعظيما له ويسيرون حفاة.

__________________

(١) وقد توفى إبراهيم ـ عليه السلام ـ قبل الهجرة النبوية ب ٢٧١٨ سنة.

لائحة فى ذكر كيف قدمت وتشكلت حكومة العمالقة والجراهمة فى مكة المكرمة.

لإسماعيل ـ عليه السلام ـ من رعلة ابنة مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن حسن بن نبت بن جرهم بن قحطان اثنا عشر ابنا كانوا زينة الحياة الدنيا.

ويروى فحول المؤرخين أن أسماءهم مجهولة باستثناء نابت وقيدار وقطورا ، وكل طوائف العرب صحيحة النسب هم من شجرة سلالة قيدار ونابت.

ورغم أن ابن هشام عدد بالترتيب أسماء أبناء إسماعيل فى السيرة التى كتبها ، على أنهم :

ثابت أو نابت ، قيدار ، ذيل ، منشى ، مسمع ، ماش ، دماء ، طيما ، انطور ، أزر ، تيش ، قبذها ، فإن صاحب مفتاح العبر أيضا ، قد صححها على أن تكون : «نابت أو نبت ، قيدرا ، أدييل ، بسام ، مشمع ، ذومان ، ما ، حراه ، تيما ، بطور ، ناقش ، قدما».

وكلتا الروايتين خاليتان من جلية الصدق والقبول.

كما اختلف المؤرخون أيضا فى تعريف وبيان قحطان أبى جرهم فقد اعتقد بعض المؤرخين أن قحطان كان فى الأصل ملكا.

وقد خلعت منه صفة الملائكة بسبب ما اقترفه من ذنوب وأخطاء وأهبط به على وجه الأرض على شكل إنسان!!

وعند ما هبط إليها تزوج واحدة من كريمات العمالقة فأنجب منها جرهم ـ سالف الذكر ـ لكن خطأ من يعتقدون صحة هذه الرواية بيّن واضح.

فإن قحطان الذى يقال إنه ملك هو عابر بن شالح من أبناء نوح ـ عليه السلام ـ وعند حدوث تبلبل ألسنة الناس ذهب إلى أرض اليمن حيث أصبح حاكما على من قبلوا الدخول فى طاعته أصبح أول حاكم على اليمن.

وعند ما بلغ إسماعيل ـ عليه السلام ـ التاسعة والثمانين من عمره كان والده قد توفى.

كما توفى هو أيضا وترك الحياة الدنيا بعد مرور واحد وأربعين عاما على وفاة والده (١).

وأسندت إدارة حكومة مكة الجليلة إلى قيدار ونابت وقطورا ورغم أن نابت بن إسماعيل ـ عليه السلام الله الجليل ـ قد نجح فى حسن إدارة حكومة مكة المكرمة التى ورثها بعد وفاة والده ، فإنه عند ما توفى ، تولى الحكومة الجليلة لبلدة الله مضاض بن عمرو الجرهمى والد رعلة ، وصهر إسماعيل ـ عليه السلام ـ واشترط عليه أن يضم إلى كنفه أولاد نابت المتوفى وهكذا تولى رياسة قبيلة وحكومة مكة برضا القبائل الكبيرة وصعد فوق جبل «قعيقعان» الواقع ناحية شعب أبى طالب من جيل أبى قبيس ، والتلال الواقعة حول هذا الجبل ، ونصب الخيام هناك حيث أقام وأخذ سميدع بن هوش رئيس قبيلة قطورا (٢) جماعة العمالقة التى كانت تحت إمرته ثم توجه بهم إلى أسفل مكة وبعد فترة قصيرة صعد بهم فوق قمم جبال أجياد (٣) وبهذا تكونت داخل مكة المعظمة حكومتان صغيرتان وتم الاتفاق ـ بعد فترة ـ على أن يقوم مضاض بأخذ عشر البضائع التى تأتى من ناحيتى الشرق والشام ويأخذ سميدع رسوم البضائع التى ترد من ناحيتى الغرب واليمن بشرط ألا يتدخل أحدهما فى شئون الآخر.

وفيما بعد زاد عدد جماعة مضاض بن عمرو وعدد أتباع وأشياع سميدع بن هوش ، وبمقتضى الحكمة القائلة «إن وجود حكومتين فى بلدة واحدة مضر» ، نشب بين الجراهمة وقوم قطورا نوع من النزاع حول الملك.

__________________

(١) حدود الجبال المحاذية للحجر الأسود المقام الشريف لإبراهيم ـ عليه السلام ـ كانت مقر قبيلة مضاض بن عمرو أيضا.

(٢) كان قطورا والجراهمة أولاد عمومة وقد هاجروا مع أفراد قبيلتهم من بلاد اليمن إلى الحجاز. وفى أثناء الهجرة اختار الجراهمة مضاض بن عمرو رئيسا لهم كما اختار أفراد قبيلة قطورا سميدع رئيسا لهم ولما كانت مكة المكرمة فى تلك الأوقات مكانا كثير الماء وفير الأشجار اختاروا النزول بجوارها وسكنت الجراهمة فوق جبل قعيقعان فى أعلى مكة كما سكنت أفراد قطورا جبل جياد حذاء جبل قعيقعان.

(٣) الجهات الواقعة فى ناحية جدة من البيت المحترم كانت ضمن مقر الجماعة التى تحت رياسة سميدع بن هوش.

وبظهور بعض الأشرار من الجانبين كان يقوم نزاع من حين إلى الآخر بينهما. واستمرت هذه الحالة غير المستقرة فترة قصيرة ثم اتحد الجراهمة وهزموا جماعة قطورا وقتل سميدع ، لذا عقد مضاض صلحا مع من بقى حيا من قوم قطورا الذين طلبوا الصلح وهكذا أصبح مضاض الحاكم الأوحد لمكة المفخمة.

وحتى هذه الواقعة ـ أى تاريخ استقلال مضاض بن عمرو الجرهمى بالحكم كانت حجابة الكعبة وسدانتها لبنى إسماعيل وكانت إدارة حكم البلدة المشرفة ـ مكة المكرمة لرؤساء الجراهمة وعقب وفاة نابت ، ومقتل سميدع بن هوش استولى الجراهمة على سدانة بيت الله أيضا. ورأينا إدراج هذه الأبيات الصريحة فيما يتعلق بهذا الأمر.

نظم

وكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بتلك البيت والخير ظاهر

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى كنا أهلها فأزالنا

صروف الليالى والحدود العواصر

والأبيات المذكورة من قصيدة طويلة نظمها عمرو بن الحارث الجرهمى وتحكى طرد وإخراج الجراهمة من مكة المعظمة وانتقال حكومة مكة الجليلة إلى بنى خزاعة.

وعند ما اختلت نظم إدارة حكومة جرهم وقطورا أخذ مضاض بن عمرو أبناء قبيلته المسلحين ونزل من جبل قعيقعان ، كما اصطحب سميدع أيضا قومه المقاتلين ونزل من جبل أجياد ، عازما ملاقاة مضاض الجرهمى والتقى الجمعان فى المكان المسمى «فاضح».

وكانت سيوف وسهام وحراب الجراهمة تقعقع وتصدر صوتا ، ولهذا سمى الجبل الذى صعدوا عليه باسم «قعيقعان».

كما أن جند سميدع هبطوا من جبل «أجياد» وهم متفرقون ثم أطلقوا على الجبل المذكور اسم أجياد.

وقد التحم جند الطرفين فى القتال فى موقع «فاضح» سالف الذكر وفى النهاية قتل سميدع ، وتعرض أفراد عشيرة «قطورا» للإذلال والإهانة كما أنهم لم يستطيعوا حماية رئيسهم لذلك سمى ذلك المكان «فضيح» لأنهم فضحوا بين العرب.

وعند ما تشتت شمل جماعة «قطورا» أرسلوا رجلا إلى مضاض بن عمرو وطلبوا الصلح.

فقرر أن ينتخب رجالا ذوى ثقة من الجانبين ليحددوا شروط الصلح وأرسلوا إلى مكان يسمى «مطابخ» (١).

وبعد أن تداول هؤلاء المبعوثون شروط الصلح وتشاوروا لمدة طويلة ، تقرر إسناد أمر إدارة الطرفين إلى عمرو بن جرهم.

فرح عمرو الجرهمى بهذا القرار ، واستدعى جند الطرفين إلى الوادى المسمى «مطابخ» وأقام لهم جميعا مأدبة كبيرة.

وأول حرب وقعت فى المدينة المقدسة مكة الفخمة هى حرب مضاض بن عمرو وأول من قتل فيها هو رأس عشيرة قطورا.

وبالتدريج قوى نظام الحكومة المستقلة التى تشكلت بحكمة مضاض بن عمرو وزادت مكانتها. وتكاثر أبناء وأحفاد قبائل الجراهمة التى كانت ترعى بنى إسماعيل وتحترمهم ، لهذا اكتسبت حكومة مكة المكرمة قوة واسعة فى وقت قصير ، وأصبح رؤساؤها من الملوك أصحاب الصولات فى ذلك العصر.

ورغم هذا لم تتسع أرض مكة الله المقدسة بالقدر الذى يليق لاستيعاب أهلها ، ولهذا اضطرت القبائل للجلاء عن موطنها وانتشرت جماعات فى أطراف الممالك وبسبب صلة النسب ، أظهر الجراهمة الرعاية والاحترام إلى أحفاد بنى إسماعيل ،

__________________

(١) مطابخ : مكان واسع فى أعلى مكة المعظمة وسبب تسميتها أنه تم فى هذا المكان طهى طعام المأدبة التى أقامها مضاض بن عمرو الجرهمى للجند.

ولهذا لم يرسلوا جندا إلى أى مكان قط إلا وحققوا النصر والظفر ونالوا القوة والعظمة حتى طردوا عدوهم القديم ، طائفة العمالقة الباغية وأخرجوهم من البلدان ، والطائفة المذكورة من الأمم السامية ، ومن أحفاد «عمليق» بن لاو بن آد بن سام بن نوح ـ عليه السلام ، وعند ما تفرقت الألسنة نزلوا بساحة صنعاء اليمن ، ثم رحلوا بعد ذلك إلى منطقة الحرمين الشريفين وانتصروا على كل من أظهر لهم العداوة وأهلكوهم وقد أقامت جماعة منهم فى بوادى الشام وعند ما عصوا الله أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ موسى ويوشع ـ عليهما السلام ـ بقتالهم.

ورغم أن الملوك الجبابرة الذين استولوا على يثرب وخيبر وتلك النواحى وحكموها ، كذلك فراعنة مصر كانوا من هذه الطائفة ، إلا أن بنى إسرائيل قضوا عليهم جميعا وحكموا البلاد التى كانوا يحكمونها حتى قبيل مجئ الأوس والخزرج. وكان ديانة طائفة العماليق عبادة الأحجار والأشجار.

ورغم أن الجراهمة طردوا العمالقة الطغاة الغدارين وأخرجوهم من أرض الحجاز الطاهرة إلا أنهم انقسموا إلى قبائل متعددة وحكموا كل أرجاء مكة المكرمة لفترات طويلة.

ولا يستطيع أحد أن ينكر أن العمالقة كانوا من الأقوام الجبارة ويتصفون بشجاعة فطرية هذه الشجاعة التي غطت شهرتها الآفاق.

ولكنهم لما بدأوا فى الاستخفاف بحرمة الحرم الشريف الواجب التعظيم ، وقصروا في رعاية بيت الله وفسقوا فيه ابتلاهم الله باليأس والحرمان فسلط عليهم الجراهمة الذين كانوا يستصغرونهم ويحقرونهم فغلبهم الجراهمة وأخرجوهم من منطقة الحجاز.

تفاصيل هذا البحث موجودة فى الصورة الثانية من الوجهة الرابعة من مرآة المدينة.

انتقال حكومة مكة إلى يد بنى خزاعة

بعد أن نجحت قبائل الجراهمة الباغية فى طرد طائفة العمالقة من الأراضى الحجازية المقدسة ، نكلوا بهم واختار الجند مضاض بن عمرو أميرا لأنفسهم.

وبعد فترة من مقتل سميدع اتخذت عشيرة قطورا مضاض بن عمرو رئيسا لها بعد الانتصار عليها وزادت قوتهم وقاموا ببدع لا تليق بالمكانة الرفيعة لكعبة الله واتسموا بسوء الخلق وقاموا بما يستدعى غضب الله الجليل عليهم وظهرت آثار البغض والشقاوة والطغيان بانقطاع ماء زمزم الذى غار تماما.

واستخفوا بحرمة كعبة الله الشريفة ، واستحلوا المحارم وما نهى عنه ، وجرأوا على الاستيلاء على الأموال والهدايا التى يرسلها الملوك والحكام إلى البيت الشريف.

أحلوا الحرام وأخذوا يظلمون الناس ويعتدون عليهم بل تجاوزوا ذلك بأن منعوا الناس من زيارة مكة المعظمة فى خسّة ودناءة.

وكان مضاض بن عمرو رئيس هؤلاء المشئومين من الجراهمة قد جمعهم ذات يوم وخطب فيهم واعظا فقال : «يا طائفة الجراهمة اجتنبوا المظالم والمعاصى فى جوار بيت الله الشريف ، وقوموا بالأفعال الخيرة تنالوا القبول والرضا عند صاحب الكبرياء. فقد سلطكم الله القادر على العمالقة البغاة ، عند ما انتهكوا حرمة الحرم الشريف وقد تم طرد هؤلاء المشئومين من دائرة الفيض الإلهى ورأيتم كيف حرموا من دخول دائرة الحرم الشريف وسمعتم ما ابتلى به قوم هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلام ـ من النوازل وأنواع البلاء.

وإذا تمسكتم بما أنتم عليه من رذائل الأخلاق فليس ببعيد وجود طائفة أقوى منكم فتطردكم وتخرجكم ـ مثل العمالقة ـ من حدود أرض الحجاز الميمونة «فأجابوه بقول يملأه الغرور (١) وهل يوجد بين العرب قوم أشجع وأجرأ منا ، وهل

__________________

(١) اسم الشقى الجرهمى الذى هذا القول لمضاض بن عمرو هو مجدع.

هناك من لديهم الرجال الأقوياء والأسلحة البتارة الأكثر والأكمل منا؟ حتى تجرؤ على حربنا وقتالنا وطردنا وإخراجنا من أرض مكة؟ فلماذا تزعجبنا بهموم الحرب والقتال واحتمال طردنا من ساحة مكة الله؟!

وعند ما شعر مضاض بن عمرو أن إصلاح أحوال القبيلة الضالة أمر غير ممكن وأن هذا الحال مقدمة لداهية كبرى ، قام ذات ليلة وأخذ الغزالين الذهب وكانا محفوظين فى خزينة بيت الله ، وبقية الهدايا القيمة وألقى بها كلها فى بئر زمزم الذى قد نضب ماؤها ، ثم سد البئر المذكور بالحجارة والتراب. ثم اصطحب أولاد وأحفاد إسماعيل وأسرع راحلا إلى الأطراف حتى لا يتعرضوا للخذلان.

كما أوضحنا سابقا فى الوجهة الخاصة أن الأشياء القيمة التى أخفاها مضاض بن عمرو فى بئر زمزم أخرجها عبد المطلب بن هاشم فيما بعد فى أثناء حفره للبئر وأجريت قرعة بالاتفاق مع الرأى العام وكانت نتيجتها أن الغزالين كانا من نصيب البيت الأعظم وبقية الأشياء من نصيب عبد المطلب.

وقد قام عبد المطلب بتعليق الغزالين على جانبى باب الكعبة فزين بهما الكعبة وباع بقية الأشياء أنفق ثمنها كله على بيت الله ، وأظهر بهذا مدى إخلاصه وعبوديته.

عقب خروج مضاض بن عمرو مصطحبا أحفاد بنى إسماعيل إلى أطراف البلدان اشتد بغى وطغيان الجراهمة ، وتصرفوا حسب هواهم.

وعند ما أدرك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وقبائل غبشان الخزاعى ، قلة عدد الجراهمة ، استعانوا بالقبائل المجاورة المقيمة فى البوادى لكى يغيروا على الجراهمة وكونوا جمعا كبيرا وأعلنوا الحرب على الجراهمة.

وبعد معارك كثيرة ، حاصروا مكة المعظمة وضيقوا الخناق على الجراهمة البغاة ، وطردوهم خارج حدود كعبة الله المحفوفة بالهدى.

وأول من تبوأ مقعد الحكم فى مكة المكرمة بعد الجراهمة هو غبشان الخزاعى.

ومن بعده أصبح عمرو بن الحارث الغبشانى أميرا لمكة ، وقد توارث أبناؤه وأحفاده الولاية الجليلة لحكومة مكة حتى مجئ خليل بن حبشة بن سلولة صهر قصى بن كلاب.

وكان بنو خزاعة من ساكنى بلدة مأرب الواقعة على بعد ثلاث مراحل من مدينة صنعاء اليمن المشهورة.

وعند ما علموا أنها ستنهار نتيجة لخرق السدود والنقب وسيهجم سيل العرم ويغرق سكان بلاد «سبأ» ويمحوهم.

ولما قضت هذه الشائعة راحة الناس وكان منهم عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان فخرج وقد أخذ معه قبيلته المنقادة له وباع أملاكه ومتاعه وأسرع يبحث عن بلدة يسكنها. وكان يقابل أهل البلاد التى يمر بها ويغلبهم ، مع هذا لم يستطع التكيف والتآلف مع ماء البلاد وهوائها التى يمر بها ، لهذا عزم على الذهاب إلى أرض الحجاز المقدسة بناء على ما أخبرته به كاهنة تسمى ظريفة وبعد فترة وصل إلى حدود ميقات مكة.

وفى أثناء إقامته بلغه أن قبائل الجراهمة مصرون على رأيهم بمنع غيرهم من دخول مكة ، فتشاور مع حكماء القبيلة. ورأى أن يرسل برسالة إلى الجراهمة يستأذنهم فى البقاء بأرض مكة المشرفة لفترة قصيرة ، ولكن الجراهمة رفضوا رجاء عمرو بن عامر. ولما بلغ قولهم إنه يتحتم عليه ـ فى كل الأحوال ـ أن يزيل خيامه من عند حدود كعبة الله ، وأن يرتحلوا إلى أى بلد آخر عندئذ قال لهم عمرو بن عامر : إننى أرى البقاء فى أرض مكة بلاد قيد أو شرط ، فإذا كان هذا ملائما لكم فحددوا لنا مكانا مناسبا بجانبكم نكن إخوة لكم نعاونكم وننصركم ، حسبما يقتضى الأمر. أما إذا صممتم على المعارضة والرفض ، فسأسلب راحتكم وأستعمل معكم أساليب العنف والسيطرة والقوة القهرية ، فأخرجكم من مساكنكم وبيوتكم وأطردكم خارج الحدود ، وإذا تصديتم لقتالى فسأنتصر عليكم بعون الله وسأهين رجالكم بقتلهم بالسيف وأقيد أطفالكم ونساءكم بأصفاد الأسر.

ومع هذا القول فإنهم عارضوه فاستجمع كل قوته وحاربهم ثلاثة أيام وثلاث ليال متواصلة ، وفى النهاية لاذ الجراهمة بالفرار فدخل مكة المكرمة ، واستولى عليها وقضى على جماعات الجراهمة الذين قبض عليهم وقهرهم.

واشترك فى هذه الحرب غبشان الخزاعى مع أبناء بكر بن عبد مناة بن كنانة.

وقد هلك وقتل كثير من الجراهمة ، جزاء وفاقا لما اقترفوه من مظالم ومساوئ وكانت عاقبتهم جميعا أن أخرجوا من مكة وأبعدوا مطرودين إلى جبال اليمن.

والواقع أنه ما من حاكم اعتاد على أن يظلم داخل مكة إلا وهلك ، وأخرج هو وقومه وقبيله منها! حتى أطلق على مكة اسم بكة نظرا لأن المدينة المباركة تبك أعناق الجبابرة.

وعلى الذين يرغبون فى معرفة تفاصيل هذه الواقعة الرجوع إلى الصورة الرابعة من الوجهة الرابعة من مرآة المدينة.

وخرجت حكومة مكة المشرفة من أيدى الجراهمة ، وما أن أصبحت فى قبضة الخزاعيين وتصرفهم حتى رجع إليها بنو إسماعيل المنتشرون فى الممالك والبلدان وأقاموا داخل الأرض المقدسة لكعبة الله ، بعد أن استأذنوا الخزاعيين فى هذا.

وبعد فترة قصيرة التمس مضاض بن عمرو الجرهمى إذنا بالإقامة فى مكة المكرمة فلم يوافق أفراد بنى خزاعة علي إقامة مضاض أو أى فرد من الجراهمة فى أرض مكة الطاهرة وأجابوه إذا تجاوز أحد منكم حدود الحرم الشريف سنقتله بلا تردد.

واستقبل مضاض بن عمرو رد بنى خزاعة بالصمت وحدث نفسه قائلا : «سأجد لى حيلة فيما بعد لأقيم فى مكة».

وذات يوم صعد فوق جبل أبى قبيس يبحث عن إبله. فرأى إبله المفقودة بين يدى بنى خزاعة يذبحونها ويقسمونها بينهم ، فراقبهم لفترة طويلة ثم قطع الأمل فى استرداد إبله وقال فى نفسه : «إذ هبطت إلى الوادى لن تسلم من القتل كما

سبق أن هددوك من قبل «ثم أخذ أنصاره وأتباعه وشيعته الذين معه ووجه رجاله تجاه اليمن وخرج من أرض الحجاز المقدسة».

وكما يفهم من قصيدة عمرو بن الحارث بن مضاض التالى ذكرها أنه عند ما خرجت البلدة السعيدة المباركة من يد مضاض بن عمرو الجرهمى البلدة التى لا مثيل لها فإنه سقط من فوق كرسى الحكم ، وأصبح شيخ قبيلة عادية أصابه الحزن والألم الشديد.

ومضاض بن عمرو هو الحادى والعشرون من ملوك الجراهمة الذين تولوا أمر السلطة فى البلاد الحجازية المقدسة.

وأول من تبوأ مقعد الحكم من ملوك الجراهمة هو جرهم بن قحطان ، عاد وقد استولى على الأراضى الحجازية عند ما كان أخوه يعرب يتولى الحكم فى أرض اليمن مكان والده قحطان وهزم جرهم العمالقة واستولى على زمام الحكم.

وعند ما توفى جرهم بن قحطان آلت حكومة الحجاز إلى ابنه عبد ياليل بن جرهم وعند وفاته آلت إلى جرشم بن عبد ياليل وعند ما توفى جرشم آلت إلى عبد المدان بن جرشم ، ومن بعده إلى ثقيلة بن عبد المدان وفى النهاية إلى عبد المسيح بن ثقيلة ومن بعده إلى مضاض بن عبد المسيح ومن بعده إلى عمرو بن مضاض وعند ما توفى عمرو آلت إلى أخيه حارث بن مضاض بن عمرو بن الحارث ولما توفى عمرو آلت إلى أخيه الحارث بن مضاض ومن بعده إلى عمرو بن الحارث وبعد وفاة عمرو آلت إلى أخيه بشر بن الحارث وبعده إلى مضاض بن عمرو بن مضاض وفى حياة مضاض هذا خرج حكم مكة من يد الجراهمة كما فصلنا القول فيه أعلاه. وأخذ بنو خزاعة حكم مكة فى أيديهم.

وهذه القصيدة من نظم عمرو بن الحارث وتحكى انتقال حكومة مكة المشرفة إلى إدارة بنى خزاعة.

القصيدة :

وقائلة والدمع سكيب مبادر

وقد شرقت بالدمع منها المحاجر

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

فقلت لها والقلب منى كأنها

يلجلجه من الجناحين طائر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا

صروف الليالى والحدود العواثر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بذاك البيت والخير ظاهر

ونحن ولينا البيت من بعد نابت

بعز يخطى لنا المكاثر

ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا

فليس لحى غيرنا كإثم فاخر

ألم تنكحوا من خير شخص علمته

فأبناؤه منا ونحن الأصاهر

فإن تنثنى الدنيا علينا بحالها

كذلك بالناس تجرى مقادر

أقول إذا نام الخليل ولم أنم

إذ العرش لا يبعد سهيل وعامر

وبدأة منها أوجها لا أحصاها

قبائل منها حمير ويحابر

وصرنا أحاديثا وكنا يغبطه

بذلك عفتنا السنون الغواير

فسحت دموع العين تبكى لبلدة

بها حرم آمن وفيها المشاعر

وتبكى لبيت ليس يؤذى حمامه

يظل به آمنا وفيه العصافر

وفيه وحوش لا ترام أنيسة

إذا خرجت منه فليست تغادر

وآلت الحكومة الجليلة مكة المكرمة إلى يد بنى خزاعة على النحو المذكور واستقل بنو خزاعة بزمام إدارتها وبعد ذلك أصابت الحمى كل أفراد القبيلة المنسوبة إلى عمرو بن عامر ، وأدركوا أنهم لا مقام لهم بعد ذلك فى أرض مكة.

وبرأى ومشورة الكاهنة «ظريفة» هاجر «آزر» إلى «عمان» وثعلبة بن عمرو بن عامر إلى الشام والأوس والخزرج أجداد الأنصار الكرام إلى جوار «المدينة المنورة».

وبقى ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر المشهور بلقب (لحى) داخل مكة وتولى القيام بمهام حكومة مكة وأمور حجابة الكعبة.

إخطار :

تولى بنو خزاعة إدارة حكومة مكة المكرمة لمدة ثلاثمائة عام ، وخلال هذه الفترة هزموا الجند الذين أرسلهم ملوك اليمن لتخريب بيت الله شجاعة فى الدفاع عنه.

ورغم أن بنى إسماعيل طوال فترة إقامتهم فى مكة المعظمة كانوا تحت إدارة الحكومة المستقلة لبنى خزاعة ، ولم يتدخلوا فى مسائل الحكم ، ولم يخالفوا أحدا قط إلا أن قصى بن كلاب بن مرة بعد ثلاثمائة سنة من حكم بنى خزاعة استطاع أن يحقق قوة وسطوة ويتولى إدارة حكومة مكة ، وجمع كل أفراد القبيلة التى ينتسب إليها وأسكنهم داخل حدود مكة ، وعززهم وأكرمهم. وبناء على ذلك أطلق عليه بين القبائل لقب «المجمع» وأصبحت قريش التى تنتسب إليه تشكل القبيلة الغالبة.

وقبيلة قريش الجليلة هى جماعة تنتهى إلى النضر بن كنانة وبناء على الجرائم التى ارتكبها الجراهمة كما ذكرنا سالفا تفرقوا فى أطراف البلاد حتى لا يتعرضوا لغضب الله ذى الجلال.

وكما ذكرنا فى الصورة الثامنة من هذه الوجهة أنه بجهد قصى بن كلاب تجمعوا وتقرشوا في مكة المكرمة ولهذا أطلق عليهم اسم «قريش».

***

الصورة السادسة

توضح كيف تم تجديد البيت العتيق فى المرة الخامسة وكيف نجح العمالقة فى تجديده

على الرغم من أن بعض المؤرخين قالوا : إن بناء العمالقة حدث فى المرة الخامسة ، إلا أن الرواية التى نقلها الإمام الأزرقى عن عبد الله بن عباس تلمح وتشير إلى أن بناء الجراهمة حدث بعد عمارة العمالقة للكعبة ، حيث يقول الإمام الأزرقى فى تاريخه : فى الأزمنة القديمة ، توطنت فى مكة المكرمة طائفة تسمى العمالقة وكان كل أفرادها ـ بصفة عامة ـ مفرطين فى الثراء ، وكانوا أقوى الطوائف على وجه الأرض وكانت حكومة البلدة فى أيديهم.

هذه الطائفة المذكورة ، كانت كلها تملك الخيول الأصيلة المرغوبة لدى العرب ، وكذلك الإبل وسائر الدواب الجميلة والمرغوبة يشتغلون برعى الدواب فى المراعى بضواحى مكة. أما قوتهم وقدرتهم فكانت مفرطة. وفى زمانهم كانت البقعة المقدسة التى بناها سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد أوشكت على الخراب والانهيار وذلك بعد انقضاء زمن طويل على عصر الخليل الجليل.

وبناء على ذلك اتفق رؤساء القبائل فيما بينهم على تجديد ما تهالك من بيت العزة وفى أثناء ذلك كان الجراهمة أيضا فى مكة ، لكن حكومة مكة الله وسدنتها كانت مقصورة على رؤساء العمالقة. وعند ما حازت هذه الطائفة القوة والثروة وأصبحت جوانب مكة المكرمة الأربعة مزدانة بالمروج الخضراء والأشجار المثمرة التى تثير البهجة مالت الطائفة المذكورة إلى متع الحياة واللهو وغاصوا فى الفجور والفسوق ، وسار الأمر على هذا المنوال فطغوا وبغوا باعتيادهم الظلم والفساد.

وبلغت مفاسدهم إلى الحد الذى لا يستطيع فيه الرجل أن يستظل بظل شجرة ، أو أن يأخذ شربة ماء من أية عين للماء ما لم يدفع نقودا وكانت عاقبة

الأمر أن زالت دولتهم وشوكتهم وأفل نجمهم وأدبر سعدهم حيث تسلط عليهم نوع من النمل فاضطروا للرحيل.

ورحلوا إلى ديار اليمن حيث مساكنهم ومبانيهم القديمة ولم يستطيعوا العيش هناك ، وهلكوا جميعا وطوال فترة قيامهم بالمحافظة على البناء المقدس لبيت الله ، ولهذا فإن الجدران العالية (١) للبقعة المقدسة لبيت الله ـ التى جدودها ـ خربت تماما ومحيت كلها ، وبقيت بقية الحجارة التى وضعت فوق الأساس الخالد الذى وضعه إبراهيم ومنها عرف الناس الموضع المبارك لبيت الله فأصبحوا يطوفون به وفى النهاية حددته طائفة الجراهمة.

***

__________________

(١) كانت جدران كعبة الله التى جددها العمالقة مرتفعة جدا وكانت مزينة من الداخل والخارج بنقوش متنوعة.

الصورة السابعة

تبين طريقة تجديد البيت الأكرم فى المرة السادسة

قام الحارث بن مضاض الأصغر (١) من طوائف الجراهمة بتجديد البناء القديم لكعبة الله فى المرة السادسة ، فقام بتركيب مصراعين لباب المعلا بالكعبة ثم وضع عليه قفلا. أما سبب هذا التجديد فهو السيل الذى روى عنه أبو جهم بن حذيفة ـ رضى الله عنه ـ أنه خرب بيت العزة. وقد نزل السيل المذكور من أعلى مكة ودخل البيت الشريف وهدم البناء الكريم لبيت الله الذى سبق وأقامه العمالقة والملوك الذين جاءوا بعد قيام الحارث بن مضاض بتجديده على النحو السابق.

عمر الجراهمة الكعبة المعظمة ورمموها مرة تلو مرة ، ولما ضلت قبائل بنى جرهم بمرور الأيام وانحرفوا ، ظلموا وفسقوا وفجروا وعمتهم الفوضى ، مثل العمالقة البغاة.

وكما ذكرنا فى البحث الخاص بانتقال حكومة مكة إلى بنى خزاعة فإنهم لم يصمدوا لهجوم بنى خزاعة ، وتركوا البلدة المكرمة.

وبعد فترة من انتقال حكومة مكة إلى بنى خزاعة ، خرب ودمر بيت الله بسيل عظيم اجتاح مكة المكرمة.

وقد سمى هذا السيل «القارة» إشارة إلى غرق امرأة اسمها «قارة» من قبيلة بنى بكر.

وبعد انحسار مياه السيل أقام بنو خزاعة جدارا منخفضا حول البيت الشريف للوقاية من السيول التى تكررت من بعد وتركوا البيت الحرام على حاله القديم وظل البيت على نفس الحال حتى زمن قصى بن كلاب.

__________________

(١) هو الحارث بن مضاض ـ تاسع ملوك الجراهمة.

الصورة الثامنة

فى ذكر طريقة تجديد وبناء كعبة الله فى المرة السابعة

بنى قصى بن كلاب بن مرة البيت المعظم فى المرة السابعة وقصى بن كلاب بن مرة من الأجداد الكرام لحضرة النبى صلوات الله عليه وسلامه. وهو الجد الرابع لسلطان الأنبياء عليه وعليهم التحية والذى علا بنسبهم.

إخطار :

إن إحصاء أجداد النبى حتى الجد الواحد والعشرين ومعرفتهم بالترتيب أمر جائز ، وقد قام به المرحوم عثمان عريانى أفندى الكليسى فى شرح القصيدة النونية التى أطلق عليها اسم «جبر القلائد فى شرح جوهر العقائد». ليس من شروط صحة الإيمان معرفة أسماء آباء وأجداد وحفدة سيدنا النبى عليه أكمل التحيات ويكفى لصحة الإيمان معرفة اسمه الشريف فقط.

وعدنان هو الجد الحادى والعشرون من الأجداد المعروفين لحضرة النبى ، وأنه آخر الأشخاص الجائز تعدادهم من أجداد حضرة نبينا صلى الله عليه وسلم ـ ولا يوجد مسوغ شرعى لتعداد من سبقوه.

وحسب ما جاء فى كتاب النسب الذى ألفه زيد بن بكار أن قصى بن كلاب بن مرة ، عند ما استقل بحكومة مكة المشرفة شرع فى هدم البيت العتيق بعد أن أعد كل ما يلزم لبنائه.

وقام ببنائه وتجديده وجعله بناء ضخما رصين الأركان وكان تجديده له على نسق وشكل لم يسبقه إليه أحد.

ولم يكن هدفه من هذا تزيين بيت الله محط الإخلاص وبناءه وإنما أراد أن ينقذ تلك البقعة المقدسة من حالة الخراب.

ولم يعترف مجموعة من المؤرخين السابقين بالانهيار الذي حدث للكعبة فى

المدة ما بين حضرة الخليل وقصى بن كلاب وقالوا : إن قصى بن كلاب هو أول من هدم البناء المقدس لبيت الله الأكرم وبناه من جديد.

وقال أيضا الإمام الماوردى هذا القول وذكر فى كتابه «الأحكام السلطانية» رأيه مفصلا وقال : «إنه بعد سيدنا الخليل ـ عليه السلام ـ قام قصى بن كلاب بن مرة بهدمه وتجديده ودعمه ببناء مسقوف بأشجار النخيل ومن أخشاب بلاد الروم وكان ارتفاع جدرانه يزيد تسعة أذرع عن بناء الخليل ، وبنى كل مواضعه فى صورة جميلة لطيفة وفق الأسلوب القديم لسيدنا إبراهيم.

وعلى هذا التقدير فإن العمالقة والجراهمة لم يجددوا بناء البيت العتيق بل رمموه وأصلحوه مرة أو مرتين فقط.

انتقال حكومة مكة المكرمة إلى قصى بن كلاب بن مرة :

عند ما توفى كلاب بن مرة بن كعب ، كان ابنه قصى صغير السن أما والدته فاطمة بنت عمرو بن سعد بن سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جشعمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نضر بن الأزد فى أعقاب وفاة زوجها سالف الذكر تزوجت من شخص يدعى ربيعة بن خرام بن حبة بن عبد بن كبير بن عذرة بن زيد بن سعد الذى جاء إلى مكة المكرمة مع حجاج بنى قضاعة وذهبت مع ابنها قصى بن كلاب إلى أراضى الشام حيث يقيم زوجها الجديد (١).

وسعد هذا الذى يعتبر من بين أجداد ربيعة بن خرام كتب عنه واحد من شعراء عصره أنه أجرأ وأشجع أبطال عصره ومدحه وأثنى عليه بهذه القطعة.

لا أرى فى الناس شخصا واحدا

فاعلموا ذاك كسعد بن سيل

فارس أضبط فيه عسرة

وإذا ما عاين القرن نزل

فارس يستدرج الخيل كما

يدرج الحر الفطام الجمل

__________________

(١) كان ربيعة بن خرام يسكن فى أرض عذره من ملحقات الشام.

وعند ما بلغ قصى بن كلاب سن التمييز وأصبح قادرا على التفوق بين الحسن والردئ ـ إذ نمت قوة إدراكه ـ نشبت نار النزاع واشتد الاضطراب بين القبائل واشتعلت الفتنة بين جماعة آل ربيعة التى ينتمى إليها زوج أمه اضطرب مزاجه وسلبت منه راحته وطمأنينته ، ذلك لأنه لم يكن من قبيلة ربيعة رجل يعرف أن كلاب بن مرة هو والد قصى سوى ربيعة ، ولهذا كان أرباب السوء من القبيلة يؤلمونه ويعيرونه بأقوال مثل : إن والدك غير معلوم لنا وما ألجأك إلى قبيلتنا سوى انتسابك إلى قبيلة مجهولة لا اسم لها ولا شهرة فلو كان قومك معروفين لك لكنت تحتمى بهم تستنصرهم لتنجو من شرنا.

وقد التوى ابن كلاب من هذا الأمر وانزعج من نباح كلاب بنى ربيعة وقص ما جرى بالتفصيل على أمه فاطمة وشكا لها باكيا متألما وأبدى ما أصيب به من جرح فى نفسه.

وكانت فاطمة أم قصى من أعقل النساء فقالت لابنها لكى تطفئ نار حزنه وتسرى عنه وكأنها تصب عليه ماء الحياة : يا بنى أنت من الصلب الشريف لكلاب بن مرة فأنت أكرم من أبناء آل ربيعة ومن كل الوجوه وأنت أشرف نسبا وأعظم حسبا من كل قبائل العرب ، إن قومك وقبيلتك يقيمون فى نواحى مكة المعظمة ويسكنون منذ زمن طويل حول حرم الله.

وهكذا أخبرته أنه ينتسب إلى قبيلة كبيرة من أشرف القبائل العربية.

وعند ما سمع «قصى» هذا الكلام من أمه أراد أن يلحق بقبيلته ويذهب إلى مكة المكرمة وعزم على ألا يعود إلى أرض قضاعة بعد ذلك أبدا فنصحته أمه قائلة : يا بنى لا تتعجل وانتظر إلى أن يحل الشهر الحرام واذهب آنذاك ـ مع قوافل الحجاج العرب فأنا لا أحبذ سفرك بمفردك ولما حان وقت الحج ذهب إلى منطقة الحجاز برفقة حجاج قبيلة قضاعة وبعد انتهاء الحج أقام خيمة حول كعبة الله وأقام فيها.

وكان قصى حازما بارعا جلدا ، وبعد فترة من إقامته فى مكة عرف أهلها شرف حسبه وفضل نسبه فأكرموه كرما شديدا.

وزاد توقير الناس له وتعظيمهم إذ تزوج ابنة حليل بن خبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى وهو من أعظم رجال بنى خزاعة آنذاك تولى حجابة البيت بعد أن استولى على حكم مكة المكرمة ورئاسة القبائل.

وعلى قول آخر إنه تزوج من عاتكة ابنة فالخ بن مليك بن قالخ بن ذكوان السليمى وحظى منهم بكل مظاهر التوقير والاحترام والقول الأول مرجح على الثانى وقد ثبت أن حليل بن خبشية صهر قصى بن كلاب حقا وعلى هذا فإن «حبا» هى الجدة الرابعة من جدات الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبعد هذه المصاهرة بين قصى بن كلاب وحليل بن خبشية اتسع نطاق قدرته ومكانته بالتدريج وتزايد أبناؤه وخدمه وحشمه وأصبح واحدا من صناديد القبائل العظام. وفى أثناء مرض صهره حليل بن خبشية ، ترك مفتاح البيت تبعا للقواعد المرعية فى ذلك الوقت وأوصى به إلى ابنته «حبا» زوجة قصى بن كلاب.

ولما كانت «حبا» عاجزة عن إدارة أمور البيت وزوجها ليس من أفراد بنى خزاعة فهى لا تتجرأ أن تعطى مفتاح البيت الشريف لزوجها ، ولكن لطول مدة مرض والدها كلفت زوجها قصى بن كلاب مهمة فتح وإغلاق بيت الله. وعلى قول آخر أنها أسندت هذه المهمة إلى أبنائها. ولما اتضح لحليل بن خبشية أنه أصبح على قاب قوسين من الموت عين زوج ابنته ولى عهد له وسلمه مفتاح بيت الله.

وبالرغم من هذا ، أخذ صناديد خزاعة المفتاح من قصى بن كلاب عقب وفاة صهره وأعطوه ـ حسب العادة ـ إلى أبى غبشان سليم بن عمرو بن لؤى بن ملكان من كبار طائفة بنى خزاعة ، وفوضوه فى أمور حجابة وسدنة وخدمة كعبة الله المقدسة. وكان أبو غبشان رجلا فاسدا مدمنا للخمر لا يهتم بأمور الدنيا وهمومها وفى يوم من الأيام وهو فى بلدة الطائف غارق فى ملذاته حسب عادته فقد وعيه ونفذ صبره وثرثر بكلام كثير فقال من ضمن ما قاله

لرفاقه فى مجلس اللهو ، إنه لا يهمه أن يبادل مفتاح كعبة الله الأمانة الكبرى بقدح من خمر.

وتداولت الألسن هذه الشائعة حتى بلغت سمع قصى بن كلاب فأخذ لتوه قربة شراب وأعطاها (١) لأبى غبشان وأخذ منه المفتاح الشريف فى حضور عدة أشخاص وأرسل ابنه عبد الدار ليلا إلى مكة المباركة ، يبلغ أهلها بالأمر فأصبح بهذا صاحب المفتاح الشريف ، وسعد أعظم سعادة.

وعند ما أفاق أبو غبشان واسترد وعيه أراد أن يسترد مفتاح الكعبة من ابن كلاب ، ولكن الأمر كان قد شاع بين أهل مكة ولما رفع الأمر إلى ما يشبه المحاكمة بين المتخاصمين ثبت بشهادة الشهود أن أبا غبشان قد أضاع المفتاح وليس له أحقية فى استرداده وضربت الأمثال فى ذلك إذ يقال «أحمق من أبى غبشان» و «أخسر من أبى غبشان».

ويضرب العرب ـ الآن ـ مثل «أخسر صفقة من أبى غبشان» للذين يخدعون فى البيع والشراء والذين يتعرضون لمصيبة كبيرة.

وقد انزعج أشرار بنى خزاعة لامتلاك ابن كلاب للمفتاح الشريف ، وكثر القيل والقال فى هذا الموضوع وأخذت نار الخصام تشتعل بينهم لأتفه الأسباب فى مبدأ الأمر إلى أن اندلعت فتنة عظيمة أدت إلى الحرب.

ولما كان طالع الحرب فى عون قصى ، فقد سعد بشرف الحصول على إدارة حكومة مكة.

وفى أثناء اتحاد آل خزاعة ضد ابن كلاب ، جمع قصى قومه من قريش وبنى إسماعيل للتصالح والاتفاق مع آل خزاعة فى مجلس صلح ، ولكن بمجرد النقاش فى الموضوع ارتفعت الأصوات وتحول النقاش الجارى بينهما إلى نزاع وشجار.

__________________

(١) يروى أيضا أن «قصى» أعطى أبا غبشان فى تلك الليلة مع قرية مملوءة بالخمر خروفا أيضا.

وأعد كلا الطرفين من فى جانبهما من المتحاربين وتهيئا للقتال والمبارزة والحرب ووجهوا كل ما فى طاقتهما للصراع الشرس وتشابكا.

ولاحت علامات النصر والظفر فى جانب قصى بن كلاب بن مرة وانفرد ابن كلاب بإدارة الحكومة الجليلة للحرم الشريف ورئاسة القبائل ، وطرد آل خزاعة من أرض مكة المباركة العطرة وأقصاهم عنها ، وتأمر ذوو الشأن وكبار القبائل التى انطوت تحت جناح ابن كلاب ، برئاسته واستقلاله فأظهروا له الولاء والتبعية والاستسلام.

وقد أورد مؤلف كتاب «الاكتفاء» هذه القصة بطريقة أخرى إذ قال : «عند ما توفى كلاب بن مرة» كان ابنه قصى حديث الفطام من الرضاعة وتزوجت أمه فاطمة بنت سعد من ربيعة بن خرام من قبيلة قضاعة. واصطحب ربيعة هذا فاطمة أم قصى. إلى بلاد بنى قضاعة وأنجبت من زوجها الجديد غلاما اسمه «زراح».

تربى ابن كلاب مع أخيه من الأم «زراح» وعند ما بلغ سن الرشد ، ذهب إلى مكة المكرمة مع حجاج بنى قضاعة للزيارة وبعد الحج أقام بجوار حرم الله وأعلن لأهل مكة أنه من فروع نسل إسماعيل وتزوج من «حبى» ابنة حليل بن خبشية وهو من رؤساء آل خزاعة وهناك قول أن اسمها «حسبا» وفى رأى أنها عاتكة بنت فالج فأصبح بذلك ذا عزة وشأن.

وأنجب قصى أربعة أبناء يتصفون بالشجاعة هم : عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبد قصى وبعد ذلك انتزع سدانة الكعبة المباركة وإمارة مكة المكرمة من أيدى بنى خزاعة وكانت حكرا لهم.

وأخذ يفكر فى وسيلة لإلغاء نظام «الإجازة» الجائرة التى كانت مرعية بين العرب لكنه كتم آماله فى قلبه إلى أن يجد طريقة لتنفيذها فى ذهنه. وأدرك أن هذا الأمر فى حاجة إلى إعداد قوة عسكرية كبيرة وتهيئة الأسباب التى تحقق هذا.

كما أنه متوقف على عقد أوهام الإتحاد والائتلاف والاتفاق مع شيخ قبيلة قريش وبنى كنانة وعرض ما فى ضميره على رؤساء القبائل المذكورة.

وبرأى ومشورة أكبر حكماء هذه القبائل أبلغ أخاه من الأم «زراح» ابن ربيعة الذى يقيم فى بادية بلاد قضاعة ونشر «زراح» أفكار أخيه قصى العادلة وأبلغه بأن أبطال قبيلة قضاعة سيساندونه. وفى الميعاد المحدد انطلق زراح نحو مكة ، ومعه عدد كبير من الأبطال الذين جمعهم إخوته من الأب حسن ومحمود وجمعهم تحت لوائهم وقد أعدوا أقوى أسلحة ذلك العصر مستعدين للهجوم والحرب.

وفى ذلك الوقت كانت قبيلة صوفة التى تنسب إلى غوث بن مرة قد تولت ـ كابرا عن كابر ـ إجازة عرفات ورمى الجمار وكذلك الأمر بالنسبة للقبيلة التى تنتهى إلى عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان إذ كانت مختصة بإجازة المزدلفة ، وكانوا يتولون توصيل حجاج بقية القبائل فى موسم الحج إلى عرفات ويعودون بهم كما كانت قبائل بنى خزاعة تقوم بحفظ وحراسة البقعة المفخمة للكعبة المشرفة.

وقد بلغ هذا التحكم والطغيان مداه لدرجة أن قبيلة صوفة وهى تضم من بقى من الجراهمة ـ لم تكن تسمح لأحد من الحجاج بالصعود إلى عرفات ثم العودة إلى المزدلفة ، ما لم تكمل أفراد القبيلة رمى الجمرات وكذلك طائفة «عدوان» لم تكن تسمح بالمرور طالما لم تكمل الوقوف بالمزدلفة.

حتى إن قبيلة «صوفة» فى يوم رجوعها إلى مكة ، كانوا بموجب ميثاق مكتوب يقطعون عمرة منى ولا يفسحون الطريق إلى حجاج بقية القبائل طالما لم يمروا هم جميعا من الممر.

استطراد :

ولفظ «صوفة» هو لقب «غوث بن أد» الذى ينتسب آباؤه إلى جماعة قبيلة مضر ، وعلى قول ، إنه لقب غوث بن مرة بن قرة بن طابخة بن إلياس بن مضر.

والأفراد الذين ينتسبون إلى هذه الجماعة توارثوا خدمة الكعبة المشرفة منذ الجاهلية على النحو الذى وضحناه آنفا. وقد انتقلت إلى أفراد هذه القبيلة مهام الإجازة والإفاضة من عرفات واقتصرت عليهم لهذا يقف أحد أفراد هذه الجماعة بعد الوقوف بعرفات ويصيح بصوت عال «أجيزى صوفة» ويعقبه آخر صائحا «أجيزى خندف».

بناء على هذا تتحرك من عرفات كل البطون التى تنتسب إلى هاتين الجماعتين ثم يتحرك بعدهم بقية الحجاج.

نشأة الإجازة :

ابتدعت وظيفة الإجازة فى زمن غوث ، وحصل غوث على هذه الوظيفة من قبل أمه.

كانت أم غوث امرأة من الجراهمة وقد ظلت لفترة طويلة عاقرا بدون أبناء وذات يوم نذرت قائلة : «يا رب إن أنجبت ولدا سوف أنذره للكعبة» وسرعان ما حملت وعند ما وضعت غوثا بعد مرور تسعة أشهر قدمته لخدام الكعبة المفخمة وفاء بنذرها وكبر غوث وعند ما بلغ السن الذى يقدر فيها على العمل أخذ يقوم بخدمة الكعبة المشرفة لفترة طويلة. وهكذا اكتسب حب الناس واحترامهم وزادت مكانته فى أعينهم وكان وفيا بعهده ، لذا كان الناس يستشيرونه فى كل أمر ويعملون وفق مشورته.

وزاد نفوذ غوث بالتدريج حتى أصبح أمر الذهاب إلى عرفات والعودة منها مقصورا عليه.

وفى تلك الأثناء وضع قواعد الإجازة وعند ما وهبت أم غوث ابنها للكعبة المشرفة وفاءا بنذرها أنشد والدها مرة أو أد هذه الأبيات

إنى جعلت رب من بنية

ربيطة بمكة العلية

فباركن لى بها إليه

واجعله لى من صالح البرية

وكان غوث يقول عند ما يعطى أمر القيام من عرفات :

لا هم إلى تابع بتاعه

وإن كان إثم فعلى قضاعة

وبعد وفاة غوث انتقل السماح للحجاج بالتحرك من عرفات والبدء فى رمى الجمرات إلى أبنائه وأحفاده.

ولما أوشكت هذه القبيلة على الانقراض أخذ أمر الإجازة أبناء بنى سعد بن زيد مناة بن تميمة إلى أن انتقلت هذه المهمة إلى أيدى بنى سعد وكان رؤساء الجماعة سواء من جاءوا من صلب غوث ، أو من نسل أبنائه وأحفاده كلهم يقال لهم ، صوفة.

وجماعة بنى سعد هم الذين ذكرناهم من قبل أفراد قبيلة تنتهى إلى آل صفوان بن شحنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.

وصفوان بن شحنة أول من تولى من هذه القبيلة وظيفة إعطاء الإجازة إلى الحجاج فى عرفات.

وسلسلة نسب كرز بن صفوان الذى تشرف بإدراك عصر النبوة الميمون ترتبط بشجرة هذه القبيلة وتحكم آل صفوان فى ممارسة مهمة الإجازة إلى الحجاج لم يكن يقل عن استبداد قبيلة صوفة.

لم يكن باستطاعة أحد من الحجاج أن يتجرأ على العودة من عرفات ورمى الجمار فى صحراء منى قبل أفراد آل صفوان حتى ضاق بهم الناس أشد الضيق واستاءوا أشد استياء.

وكان الحجاج كلما ألحوا فى الرجاء والتوسل إلى رجال بنى صفوان فى أيام رمى الجمار قائلين أغيثونا إن الوقت يمضى. كانوا يجيبون عليهم بكلمات غير لائقة قائلين : «كلا كلا ما زال الوقت مبكرا فلم تمل الشمس بعد إلى الغروب» فإذا رجوهم وتوسلوا إليهم أن يستعجلوا بعض الشىء كانوا يمعنون فى التأخر

ولم يكن الحجاج فى فترة الانتظار يكفون عن الشتائم والسباب والدعاء عليهم كما كان إحساسهم بالانكسار مفرطا.

وكانوا يماطلونهم ، فى ممر منى ويسمحون بالمرور أولا لأتباعهم ببطء ثم يأذنون للناس بالمرور.

وقد تحمل الحجاج هذه المضايقات التى توغر الصدور رضوا بها أم لم يرضوا حتى انقرضت سلالة «آل صوفة» أو «آل صفوان».

يكفى لإثبات مدى تحكم آل صفوان واستبدادهم هذه الأبيات التى قالها (أوس بن تميم السعدى) فى أثناء توليهم ممارسة إعطاء الإجازة للحجاج.

لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم

حتى يقال أجيزوا آل صفوانا

وبناء على ما قيل أعلاه ـ عند ما كان رؤساء آل صوفة وآل صفوان يضيقون على الحجاج ويتحكمون فيهم كما ذكر كانت الإفاضة من المزدلفة ، وإعطاء الأمر والإجازة فى يد بنى عدوان وحكرا عليهم كما يتضح ذلك من الأبيات الآتية كيف أنهم توارثوا كابرا عن كابر مهمة الإجازة.

غدير الحى من عدوان

كانوا حية الأرض

بغى بعضهم ظلما

فلم يرع على بعض

والموفون بالفرض

والموفون بالفرض

بالسنة والفرض

بالسنة والفرض

فلا ينقض ما يقضى

فلا ينقض ما يقضى

كان أبو سيارة عميلة بن الأعزل ممّن بقى من أفراد قبيلة عدوان. وقد أدرك عصر النبوة (١).

__________________

(١) عميلة (مصغرا) بن خالد بن سعد بن الحارث بن عابس بن زيد بن عدوان العدوانى ، أبو سيارة. ذكر الفاكهى أن أبا سيارة كان قبل أن يغلب قصى على مكة. فهذا يدل على تقدم عصره عن زمن البعثة. وهو غير أبى سيارة المتعىّ (بضم الميم وفتح التاء) الذى ذكره ابن السكن وغيره فى الصحابة. أخرج حديثه أحمد والبغوى وابن ماجه. راجع الإصابة للحافظ ابن حجر ٧ / ٩٤ ، ترجمة رقم (٥٨٠).

وفى العصر الذى أشرقت فيه شمس الإسلام وأصبحت تبعث الضوء فى عيون الأنام ، كان أبو سيارة هذا يتولى إجازة المزدلفة كما يفهم من خلال هذه القطعة الشعرية التالية.

نحن دفعنا عن أبى سيارة

وعن مواليه بنى فزارة

حتى أجاز سالما حماره (١)

مستقبل القبلة يدعو جاره

قوله «سالما حماره» يشير إلى إعطاء أبى سيارة رخصة الإفاضة من المزدلفة للناس ، من فوق ظهر الحمار وهو مطابق تماما لرواية سيرة ابن هشام.

وقد قلنا فى بداية الاستطراد إنه عقب وقفة عرفات ، يقف واحد من آل صفوان ، ويقول أجيزى صوفة ثم يقف شخص آخر بعده يصيح قائلا «أجيزى خندف» ، وقد عرفنا من الذى يلقب صوفه والآن يجب أن نعرف ما المقصود بخندف.

و «خندف» : هو لقب سيدة تسمى ليلى بنت حلوان بن عمران وهذه السيدة هى زوجة إلياس بن مضر (٢) من أجداد النبى الكرام.

وتبعا لما ذكره الذين نقلوا أو تحدثوا عن سبب تسمية ليلى بنت حلوان باسم خندف (٣) مسوق فى الرواية الآتية : إن ليلى هذه أنجبت ثلاثة أبناء من إلياس هم : عمرو وعامر وعميرة. وذات يوم وبينما كان هؤلاء يرعون إبل أبيهم إلياس جفلت الإبل من وثبة أرنب نافر. وعند ما رأى عمرو جفول الإبل وتفرقها ، قفز سريعا من داخل الخيمة وجرى من خلف الأرنب حتى أدركه وأمسك به فسمى مدركة.

__________________

(١) قيل إن حماره هذا عمّر أربعين سنة من غير مرض حتى ضربوا به المثل فقالوا : «أصح من عير أبى سيارة». الإصابة ٧ / ٩٤.

(٢) هو الشخص الذى أهدى أول قربان للكعبة المعظمة.

(٣) عند ما يسير الإنسان ضاما أصابع قدميه كاشفا كعبه مديرا باطن قدميه يقال له خندف.

ولما أخذ عامر الأرنب وطبخه فأسموه طابخة ولمّا فضل عمير البقاء فى داخل الخيمة والانقماع فيها قيل له قمعه ، ولما رأت الأم ليلى ابنيها خرجا مسرعين من الخيمة أسرعت تجرى خلفهما ، وفى أثناء الطريق قابلت زوجها «إلياس» الذى سألها قائلا : إلى أين أنت ذاهبة؟ فلما أجابت : قد جئت من خلفكم مخندفة أطلقوا عليها خندف ، لأنه كان من عادات العرب فى الجاهلية تلقيب الناس اقترانا بالأحداث.

جاهلية العرب :

أطلق على جميع العرب الذين عاشوا قبل البعثة المحمدية أهل الجاهلية وذلك لشدة جهالتهم.

وبناء على بعض الأقوال يطلق الجاهلية للفترة التى خلت من الأنبياء. وادعى بعض المؤرخين أن فترة الجاهلية تطلق على الفترة التى سبقت الذين عاشوا بعد هذه الحادثة التى وقعت بسبب جهل العرب وهى أن «كنانة بن خزيمة» تزوج من مطلقة والده وزوجة ابنه «مرة» وأنجب منها نضر والظاهر أن هذه الرواية خاطئة وأثر من آثار البلاهة.

وتبعا لما نقل وروى المرحوم الشيخ (تاج الدين اليمنى أبو عثمان عمرو بن بحر) الذى حقق هذا الأمر بدقة وكذلك كل أئمة السير يؤكدون أن برة التى تزوجها كنانة ـ سالفة الذكر ـ فيما بعد ليست هى برة زوجة أبيه ومطلقة ولده خزيمة.

وإن كان كنانة قد تزوج مرة ثانية من امرأة اسمها برة إلا أنها كانت بنت أخ امرأته الأولى برة أخت مرة بن أد. لم ينجب كنانة من زوجته الأولى برة ولأجل ذلك تزوج مرة أخرى بموافقة زوجته وتصويبها لرأيه تزوج برة بنت مرة بن أد أخو امرأته الأولى وأنجب منها كنانة.

وبما أن بنت مرة التى تزوجها كنانة كانت تشترك فى اسم برة مع امرأة أبيه خزيمة ولوجود صلة القرابة بين الاثنتين قد أدى إلى وقوع الخطأ فى أقوال كثير من المؤرخين.

وبناء على ما قرره أئمة علم الأنساب الذين صاغوا لآلئ بحر نسب معلم الكائنات ـ عليه أطيب الصلوات ـ أن الجوهر النقى لحضرة سيد الكائنات نبينا ـ عليه أطيب الصلوات ـ انتقل من مستودع الأصلاب الطاهرة وقوة ظهر العرب العرباء إلى درة وشاح ظهور الأمهات إلى أن آلت إلى الصلب الطاهر لعبد الله بن عبد المطلب ووصلت منه إلى رحم أمه آمنة بنت وهب ، وكل هذه السلسلة من الآباء والأجداد من أعرق الأصول من جهة الآباء والأمهات لذا خلا من دم فاسد إذ تم زواج هؤلاء وفق الشريعة الغراء لعصرهم وجاء طاهر النسب بعيدا من دنس السفاح. انتهى.

ولا بد أن وصول زراح بن ربيعة ـ أخى قصى بن كلاب من أمه ـ إلى مكة المكرمة مع القوة العسكرية الكافية ، قد صادف موسم الحج ، حيث أعلن ابن كلاب بن مرة على الناس أنه لا يجوز إبقاء عادة الإجازة ، ورأى ذلك فرصة مناسبة لطرد بنى خزاعة عن الحدود الميمونة لحرم الله.

وأسرع بمطالبة أصحاب الإجازة أن يكفّوا أيديهم عن تنفيذ ما يأملونه ووجه الحديث إلى رؤساء قبيلة صوفه الذين قطعوا الطريق على الحجاج ليمنعوهم من المرور فى مضيق منى يوم رجوع الحجاج إلى مكة المكرمة وقال لهم : يا معشر قبيلة صوفة إن المطلعين منكم على علم الأنساب يعلمون أن حبل نسبى المتين يتصل بعدنان وأن وشيجة نسب عدنان تتصل ب قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم ـ على نبينا وعليه أفضل التسليم ـ ولهذا فإننى أرى أن كتفى يليق بخلعة الإجازة الموشاة وإننى أستحق أعلى المناصب ، ولذا أرى أنه قد حان الوقت لإزالة العادة غير المشروعة لنظام (١) الإجازة واعتبارا من هذا اليوم ، فإن لكل إنسان الحق فى أن يجتاز ممر منى وقتما يريد.

وإننى إذ أعلن هذا أبين لكم أننى فى صدد اصطحاب أتباعى الشجعان وأمر من ممر منى قبلكم وأخذ جنود قبيلة قضاعة الذين لا يحصى عددهم ولا يعد وتحرك صوب مكة المكرمة.

__________________

(١) الإجازة : ترخيص يتضمن مرور وعبور أبناء السبيل من مكان ما بأمن وسلام ويقال إنه المرشد الذى يرافق جماعة لكى تعبر من طريق مخيف ومعناها اللغوى هو الإذن لرجل بالعبور من مكان إلى مكان.

وأراد فتيان قبيلة صوفة الشجعان أن يعترضوا طريقهم ولكن قصى قد مر بالقوة وشدة البأس.

وقد أدرك وجهاء قبائل بنى خزاعة ورؤساؤهم وقد أصابهم القلق الشديد أن الأمر يكاد أن يخرج من أيديهم وأنهم سيفقدون حكومة مكة فيما بعد ، لذا تعقبوا مجموعة ابن كلاب معهم قبيلة بنى بكر والتقى الجمعان فى وادى أبطح وافتعل بنو خزاعة أسباب التحرش ودخلوا (١) فى معركة لا داعى لها.

والتحم الفريقان وتداخلا وتقاتلا ونال كل واحد منهما من الآخر ومات كثيرون من الجانبين. وكان حجاج العرب القادمين من اليمن وأنحاء الجزيرة لأداء الحج واقفين لمشاهدتهم.

وأخيرا طلب آل خزاعة الصلح ، وعينوا رجلا انتخبوه للفصل فى قضيتهم وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن ليت بن بكر بن عبد مناف بن كنانة وتدخلت القبائل العربية الأخرى حتى رضى ابن كلاب بالصلح.

وعند ما قبل الطرفان الصلح جمع يعرب جنود الطرفين ودخل بينهما وحكم أن تدخل سدانة الكعبة المعظمة ورئاسة وإمارة مكة المكرمة فى عهدة «ابن كلاب» وقال :

إن وجود الكعبة المعظمة وسدانتها وإمارة مكة المكرمة فى يد وعهدة ابن كلاب خير من استيلاء بنى خزاعة وبنى بكر على الأماكن المقدسة.

وقد قبل جميع رجال كل القبائل هذا الحكم قبولا حسنا وهكذا تحققت آمال ابن كلاب ونال مرامه.

الذيل :

عقب فصل «يعمر بن عوف» فى هذا الأمر تمت كتابة وثيقة صلح تتضمن ما اتفق عليه رؤساء قبائل الطرفين وتقرر الاحتفاظ بنسخة معتمدة منها لدى قصى بن كلاب.

__________________

(١) كان القتال فى موقع بين منى ومأزمين وقد أطلق على ذلك المكان اسم مفجر لأن آل خزاعة كانوا يجرأون على ممارسة الفسق والفجور وسفك الدماء ، وهتك حرمة بيت الله فى هذا المكان.

ومن جملة الشروط التى تضمنتها وثيقة الصلح هذه أن يرفع الظلم والتعدى عن أى إنسان داخل حدود حرم الله وألا يمر ناحية مكة المعظمة وألا يتجاوز بطن مر أى إنساب من جماعات البطون التى تنتسب إلى قبائل خزاعة ، ولكن يسمح لمن يريدون منهم أن يسكنوا فوق سلسلة جبال البلد الحرام بشرط عدم دخول مدينة مكة الشهيرة.

وقد حوفظ على الأحكام المدرجة فى وثيقة الصلح المذكورة حتى صلح الحديبية.

وبناء على رجاء بنى خزاعة وطلبهم فى الواقعة المذكورة تفضل سيدنا سلطان الأنبياء ـ عليه وعليهم أفضل التحية ـ بقبول انضمام بقية القبائل التى تنتسب إلى بنى خزاعة فى حلف مع المسلمين.

وأدرجوا فقرات إلى وثيقة الصلح التى عقدت فى الحديبية تضمن السماح لجماعات قبائل بنى خزاعة بالدخول إلى مكة المكرمة.

امتدت الفترة المشئومة التى قامت فيها قبيلة بنى خزاعة بحكم مكة المكرمة حوالى ثلاثمائة سنة كاملة.

وكانت الأقوام المنتسبة إلى قبائل خزاعة فى ذلك الوقت تعبد كوكبا لامعا أطلق عليه اسم الشّعرى اليمانى.

والمعروف أن الشّعرى هما كوكبان منيران فى الفلك يسمى أحدهما الشّعرى العبور والآخر الشّعرى الغميضا وهذه النجوم كما يزعم العرب هى أخوات كوكب سهيل أحدهما الشّعرى اليمانى (١) والآخر الشّعرى الشامى (٢) وموضعهما حيث

__________________

(١) قد قسم علماء الفلك النجوم إلى أقدار وأشعتها إلى درجات. ووفق هذا التفسير أن الشّعرى اليمانى نجم القدر الأول لبرج الكلب الأكبر من البروج الجنوبية وكذلك الشّعرى الشامى نجم القدر الأول من برج الكلب الأصغر من البروج الجنوبية ومن حيث اللمعان يعتبر الشّعرى اليمانى فى الدرجة الأولى بين الكواكب الثابتة والشّعرى الشامى يعتبر فى الدرجة الثامنة الجوزاء ، وبرج مشهور من أبراج النصف الشمالى من الكرة ويتكون من ثمانين عددا من الكواكب. كما يعد علماء الفلك كوكبا يسمى رجل الجوزاء وهذا الكوكب يعتبر النجم الأول لبرج الجبار من الكواكب الجنوبية ومن حيث الضوء يعد فى الدرجة الخامسة.

(٢) هذا النجم هو الشّعرى العبور.

يبزغان بعد الجوزاء ويبعد أحدهما عن الآخر طول رمحين. وإذا نظرنا إلى صورتهما ، نجد أحدهما كبيرا جدا لامعا ومائلا إلى الجنوب والآخر صغير ومائل نحو الشمال ويسمى المائل نحو الجنوب الشّعرى اليمانى والمائل إلى الشمال الشّعرى الشامى وحسب اعتقاد العرب القدامى فإن الشّعرى اليمانى عبر ذات ليلة خفية مع سهيل المجرة واغترب وإن الشّعرى الشامى بكى لفراقهما إلى أن أصيب بغمض العين لذا أطلقوا على هذا النجم اسم الشّعرى الغميض (١).

وأول من عبد الشّعرى من طائفة خزاعة أحمق يدعى أبو كبش وكان من أشراف بنى خزاعة. وقد وقف ذات يوم على رأس قومه وقال : إن كل النجوم التى فى السماء تتحرك بشكل عرضى ، ما عدا كوكب الشّعرى فإنه يتحرك بشكل طولى ، يعنى أنه يشير إلى أن الشّعرى ليس كبقية النجوم. وإننى الآن سأترك عبادة الأوثان وأعبد الشّعرى وأصبح كل من يتبعونه يعبدون الشّعرى وخالفوا فى هذا آل قريش.

وقد أطلق مشركو قريش لقب أبو كبش على نبينا صلى الله عليه وسلم إيماء إلى هذا السر ويريدون بهذا أن يشبهوه بأبى كبش لأنه أتى بدين جديد يخالف قريش.

والواقع أن نبينا صلى الله عليه وسلم بهجة العالم ، قد خالف قريش فى أمر عدم عبادة الأصنام وأبو كبش خالفها فى أمر عدم عبادة الأوثان انتهى.

تأسيس مدينة مكة المعظمة المشهورة

كان بنو خزاعة الذين استولوا على مكة المعظمة يتحاشون ويتجنبون الإقامة داخل حدود الحرم تعظيما للبيت الحرام ، فكانوا يقيمون نهارهم حول الكعبة ويخرجون فى ليلهم خارج حدودها حيث يبيتون.

وكانوا يقولون إنه من الحرام المطلق اقتراف ما نهى عنه داخل حدود الحرم المحترم بناء عليه كانوا يبنون المنازل حول بيت الله.

__________________

(١) يسمى هذا الكوكب الشّعرى الغميضا.

وعند ما بلغ «قصى بن كلاب» مرامه بالحكومة الجليلة لأم القرى أتى بقومه وقبيلته وجمعهم وقال لهم : أيها القوم الكرام إذا بنيتم بيوتا ومساكن حول كعبة الله ، لن تتمكن بقية الطوائف من طردكم وإبعادكم عن الأراضى الحجازية المباركة ، بناء عليه أوصيكم أن يبدأ كل واحد منكم فى تهيئة مسكن له وبنائه حول بيت الله من جميع جوانبه فلما أجابه ذوى الأمر والنهى من جماعات قبائل قريش بقولهم أنت رئيسنا وسيدنا ، ونحن نوافق على كل ما تأمر به ونتقبله قبولا حسنا فبادر بنفسه ببناء دار الندوة (١) بعد أن أعلن أنه سيتخذ من هذه الدار مقرا للحكم وقسم جوانب البيت الشريف الأربعة على طوائف قريش وعينها لهم ، وأمر أن يقوم أفراد القبائل على الفور بوضع أساس البيوت والمنازل وأن يتركوا مكانا خاليا حول بيت الله للطواف. ولما استصوبت قريش رأى قصى بن كلاب ، قدحوا زناد فكرهم وبدءوا فى بناء منازل وتزيينها فى الأماكن التى بينها لهم. ولم يبنوها حول أطراف بيت الله الأربعة ، وجعلوا أبواب البيوت كلها تفتح فى اتجاه الكعبة المعظمة ، وتركوا طريقا واسعا بين كل منزلين يسمح بالدخول إلى المطاف السعيد.

والمكان الخالى الشريف الذى تركوه بين بيت الله وبين البيوت التى بنوها هو المكان المقدس الذى يطلق عليه الآن اسم المطاف السعيد.

وبقيت البيوت التى بنيت فى عهد ابن كلاب على شكلها وطرازها الذى شيدت عليه فى البداية حتى عصر الفاروق الأعظم ، وفى زمن خلافة سيدنا (عمر بن الخطاب) هدمها كلها وأدخل أراضيها ضمن ساحة المسجد الحرام ، ووسع (عثمان بن عفان) وبقية أصحاب البر والإحسان دائرة الفيوضات الباهرة للحرمين الشريفين على النحو الذى سنذكره بالتفصيل فى موضعه ، وجددوه على الصورة التى عليها الآن.

***

__________________

(١) رغم أن مجموعة من المؤرخين يقولون إن كعب بن لؤى قد بنى دار الندوة إلا أن ظنهم هذا غير صحيح.

الشكل الثامن

ولما لم يكن فى أولاد كعب بن لؤى حتى مجئ ابن كلاب رجلا متبوئا مقعد السلطة لذا جمع قصى بن كلاب كل مناصب الجاهلية : الحجابة ـ السقاية ـ اللواء ـ الندوة ـ النظارة (١) ـ صاحب القبة ـ الأزلام ـ خازن الأموال ـ الرفادة ـ القيادة. وأصبح صاحب المقعد والرياسة والحكم. ولكنه لم يستطع أن ينجح فى تغيير عادات الجاهلية التى تعد بين العرب من الأحكام الدينية ، لذا ظلت العادات المذكورة حتى بعثة نور الهدى فى يد آل صفوان وآل عدوان وآل نسئة وآل مرة بن عوف.

استطراد :

أهل «نسئة» ، كما ذكر المفسرون العظام بالبحث والتعريف ، هم طائفة من عرب الجاهلية احترفوا القتل والسطو واعتادوا الصيد والقنص وحياة القلق. وحسبما تقضى شرائع إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ بمنع الحرب والجدال فى شهور رجب وذى القعدة وذى الحجة ومحرم ، وكان ترك العادات المألوفة لمدة ثلاثة شهور متصلة أمرا ثقيلا على هذه الطائفة المذكورة فإنهم قالوا : لا طاقة لنا ولا نستطيع الصبر على ترك الحرب والقتال من ذى القعدة إلى صفر بشكل متصل.

أى الجلوس فى الخيام والاستراحة لمدة ثلاثة أشهر متصلة. وأعلنوا وأشاعوا بغير تردد عن ضيقهم من حكم هذه الشريعة الإبراهيمية (على رسولنا وعليه التحيات).

(قلمس بن عبد بن فقيم) الذى ينتسب إلى جماعة قبيلة ينتهى نسبها إلى كنانة ، لجأ هذا الرجل إلى طريقة غريبة لكى يبطل ويفسد حكم عدم القتال فى

__________________

(١) وتسمى أيضا ركز القبة.

الشهور المذكورة ، إذ ركب ناقة فى موسم الحج السنوى الذى يعلن فيه البدو عن أفكارهم وخاطب أفراد القبائل الموجودة بالقرب منه وهو يريد أن يختبر درجة قوة عقيدة الذين هم على دين إبراهيم وإخلاصهم لها ، فقال ما معناه : يا معشر العرب إن إلهكم قد أحل لكم هذه السنة شهر محرم ونقل حرمته إلى شهر صفر ، وعلى الفور قامت مجموعة ممن أخذوا برأى قلمس وقوله بالإغارة وقتل قبائل البدو اعتبارا من تلك اللحظة ، وعند ما رأى قلمس أن حكمه فى هذا الأمر قد استقبل باستحسان وعرف أن فكره سيروج وقف فى موسم الحج فى السنة التالية خطيبا بينهم وأعلن أن حرمة شهر محرم قد تأجلت بأمر الله إلى شهر صفر ، أى أن شهر محرم حلال وأن شهر صفر سيكون حراما بدلا منه واستقبل هذا الأمر عند أفراد جميع القبائل بسرور زائد.

وتصديقا لهذا اعتاد أن يخطب فى كل موسم حج ويؤجل حرمة الشهر الذى يريده إلى شهر آخر.

وبعد قلمس انتقلت هذه العادة السيئة إلى ابنه عبادة وبعد وفاته إلى «قلع بن عبادة» ، ومن بعد أيضا إلى «أمية بن قلع» ومن بعده إلى «عوف بن أميه» وعند ما توفى عوف انتقلت إلى ابنه «أبى ثمامة جنادة بن عوف» وعند ما أشرقت شمس الإسلام وظهرت أشعتها فى الأفق فى زمان أبى ثمامة جاءت الآية الجليلة لتبطل العادة المذكورة وتلغيها.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (التوبة : ٣٧).

واختلف المفسرون فى تحديد اسم الشخص الذى تجرأ وابتدع هذه العادة القبيحة فادعى بعضهم أنه نعيم بن ثعلبة من بنى كنانة ، وادعى البعض الآخر أنه جنادة بن عوف وبعضهم ادعى أنه قلمس بن عبد بن فقيم ، والذين قالوا إنه قلمس بن عبد بن فقيم يؤيدون ادعاءهم بذكر قول الشاعر :

وفينا ناسئ الشهر قلمس

والقول الأخير مصدق عند الجمهور وجدير بالقبول والشخص المدعو قلمس (١) هو الجد الخامس لجنادة بن عوف الذى أدرك عصر النبوة.

ورغم أنه يوجد من يقولون بما ذهب إليه عبد الله بن عباس وأبو هريرة رضى الله عنهما ، أن من وضع العادة السيئة بتأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ، هو عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف إلا أن المفسرين اتفقوا على صحة القول الأول ورواة القول الثانى لم يستطيعوا أن يرتقوا بقولهم إلى مرتبة الصحة والتواتر.

وقد نقلنا هذه التفصيلات التاريخية عن أهل السنة من التفسير القيم للإمام فخر الدين الرازى ـ عليه رحمة الله الهادى ـ ويقول الإمام الرازى قبل أن ينقل ويروى الأخبار والدراسات المتواترة للمفسرين إن حسابات عرب الجاهلية كانت مرتبة حسب السنة القمرية ، ولهذا فإن شهور العرب فى زمن الجاهلية ، كانت تعد اعتبارا من رؤية الهلال وقد اعتادوا أداء فريضة الحج فى اليوم العاشر من شهر ذى الحجة اتباعا لسنة سيدنا الخليل. وبهذا الحساب كان موسم الحج لا يتفق مع فصل بعينه كل سنة فكان أيضا يصادف أبرد أيام الشتاء وأحيانا يصادف أكثر أوقات فصل الصيف حرارة ولهذا فإن بعض المتأخرين من زمن الجاهلية لم يكونوا يجرأون على الذهاب أو المجئ إلى مكة المكرمة فى أوقات اشتداد البرودة والحرارة ، وكان من يترددون عليها بسبب التجارة لا يتمكنون من البيع والشراء فى هذه الأوقات التى توافق وقت التجارة بسبب قلة عدد الحجاج.

وفى النهاية أحيل الأمر إلى مجلس قومى (٢) يتكون من ممثل لكل قبيلة لإيجاد حل مناسب لهذا الأمر. وذهبت الهيئة المذكورة إلى أن الشهور المرتبة للسنة القمرية دخل بالمصالح الدنيوية ورأوا حلول موسم الحج فى وقت معتدل ومثمر حيث تزدهر حركة البيع والشراء على الوجه المطلوب ويسهل التردد على الأسواق والملاهى التى تقام عند أطراف مكة وقالوا : فإن أضيف شهر إلى شهور

__________________

(١) اسمه حذيفة وهو ممن اشتركوا فى واقعة أصحاب الفيل.

(٢) إن إمكان إحالة رياسة هذا المجلس إلى قلمس بن عبد بن فقيم بعيد الاحتمال لذا لا يوجد بين أقوال المفسرين وبين رواية الإمام الرازى.

هذه السنة نسأ أفراد القبائل شهرا. وأنه إذا روعيت هذه الأصول مرة كل ثلاث سنوات ، فإن موسم الحج سيأتى فى كل سنة فى فصل ثم واحد من المحاصيل وبناء عليه يأتى الناس بمحاصيلهم فيكون حجا وزيارة وفى الوقت نفسه تجارة ورتبوا الشهور وفقا للسنة الشمسية ولأن السنة الشمسية تفترق قليلا عن السنة القمرية ، احتاجوا إلى إضافة أيام فجمعوا الفروق التى تحدث بينهما وأضافوا شهرا إلى بعض السنوات واعتبروا أن شهور تلك السنوات ثلاثة عشر شهرا. وبعد هذا الترتيب صادف الحج فى بعض السنوات بشهر ذى الحجة ونقل من شهر إلى آخر.

وظهر نتيجة هذا النقل أمران هما زيادة شهر على بعض السنوات من فائض الأيام التى تنتج عن تجميع أيام السنة الكبيسة وتأخير شهر حرام إلى شهر آخر ولأن العبادات المرتبطة بالسنة القمرية تخل بالمصالح الدنيوية على زعمهم ، تركوا حساب السنة القمرية وربطوا عباداتهم بحساب السنة الشمسية وأخروا ونقلوا شهرا حراما إلى أشهر أخر.

والواقع رغم أنه قد تبدو فائدة دنيوية فى تركهم هذا إلا أن الله ـ تعالى ـ قد أمر باتباع حساب الشهور القمرية منذ عهد إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ عهد الهداية.

وبينما الحال يجرى على هذا الوضع ترك أهل الجاهلية الأمر الإلهى باتباع حساب السنة القمرية من أجل أن يحققوا حسن سير المصالح الدنيوية ، وأخذوا بترتيب السنة الشمسية ونتيجة لحدوث هذا الترتيب بدئ فى تأدية الحج فى شهور غير الأشهر الحرم وكانت هذه الجرأة الجاهلية سببا فى إمعانهم فى الكفر ، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان قد حدد حجهم فى الأشهر الحرم وحدها وإنهم فضلوا مصالحهم الدنيوية على التعليمات الدينية ، إذ اتبعوا العمل بالسنة الشمسية وحجوا فى غير شهور الحج بوجود أيام كبيسة فى السنة الشمسية وتجرّأوا على القول لحمل أتباعهم على قبول فكرتهم والعمل بحسابهم وليس باتباع حساب الشهور القمرية.

وازداد كفرهم بترك وإنكار أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذى تطيعه كل الكائنات ، وقد قام نبينا صاحب الشريعة ـ عليه أكمل التحية ـ بأداء الحج الشريف فى شهر ذى الحجة من السنة التى تكمل فترة دور النسئ (١) ولكى ترجع الأشهر الحرم إلى وضعها القديم أى لكى يصادف الحج اليوم العاشر من شهر ذى الحجة بعد مرور اثنى عشر شهرا من موسم الحج فقد قال : «أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم : ثلاثة متوالية ورجب الذى بين جمادى وشعبان» أو كما قال.

والمناصب التى جمعها «قصى بن كلاب» كانت كلها محترمة ومرغوبة عند عرب الجاهلية وتعتبر كل وظيفة منها من أقدس وأعظم الوظائف بين القبائل وكانت كل الوظائف المذكورة مسندة إلى أكثر الرجال مكانة وثراء من قبائل قريش ، وكانوا يتوارثونها أبا عن جد بطنا بعد بطن.

الحجابة :

وكان أهل الجاهلية يطلقونها على مهمة حفظ أستار باب الكعبة المعظمة.

وفى زمن جاهلية العرب كانت خدمة بيت الله مفتاح مصباح السعادة ، لذا استحوذت على الحجابة الأيادى القوية الخيرة وأخيرا انحصر منصب سدانة كعبة الله فى أسرة بنى عبد الدار بنى قصى بن كلاب.

وأشرق نور نبينا كاسر الأصنام والأوثان وناشر أنوار الإيمان عليه صلوات الله المنان ، وسدانة الكعبة المعظمة فى يد «عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى.

وتلطف ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثمان بن طلحة ـ رضى الله عنه ـ وأسعده بأن أعاد إليه وأنعم عليه مرة أخرى بالمفتاح الشريف لكعبة الله بموجب الآية الكريمة التى نزلت بأن يطهر الحرم الشريف من الداخل والخارج من رجس الأصنام.

__________________

(١) سنة حجة الوداع.

وسبب الخدمة الجليلة لحجابة كعبة الله ، فى أولاد عبد الدار هو الآتى : عند ما تقدم العمر بقصى بن كلاب وصار شيخا كان ابنه الثانى «عبد مناف» قد أصبح له من الشرف والمكانة بين قبائل العرب القدر الكبير ولم يتمكن أحد أن ينال مثل هذا الشرف وهذه المكانة ليس فقط من بين إخوته بل من بين صناديد أشراف قريش قبل والده وبعده.

ولما كان ابن كلاب يحب ابنه الأكبر عبد الدار من بين أولاده حبا جما واتفق مع زوجته «حبى» فى هذا الحب ، لذا كانا يأملان أن ينال من الشرف والمكانة مثل ما ناله أخوه الأصغر عبد مناف.

واستبدت رغبة «حبى» بهذا الأمر حتى لم تعد تطيق صبرا على كتمانها ، فقالت ذات يوم لزوجها قصى إننى سأغضب منك إن لم تؤمن لعبد الدار فى أثناء حياتك ما يجعله يحظى بالفخر والشرف بين القبائل فقال لها : بل اسعدى ، فإننى سأسند إليه أمرا يجعله يشرف من يقوم به بين الناس ، أتريدين أن تعرفى أية خدمة جليلة هى؟ إنها حجابة الكعبة العظمى ورئاسة دار الندوة حيث لا يستطيع أحد من أشراف قريش وسادات القبائل أن يدخل البقعة المقدسة لكعبة الله طالما لم يحصل على إذن من صاحب هذا المنصب. كما لا يمكن أن يرسل الجند إلى أية ناحية ما لم يصدر ، وبناء على هذا قام قصى بن كلاب بتقسيم مناصب السنة المكرمة المعززة بين الناس وهى «السدانة والرئاسة والسقاية والرفادة والقيادة واللواء» بين ولديه عبد الدار وعبد مناف فأعطى عبد الدار سدانة الكعبة ، ورئاسة دار الندوة واللواء ، وأعطى عبد مناف خدمات السقاية والرفادة والقيادة.

وظل قصى يؤدى بنفسه هذه الخدمات الجليلة إلى أن وافته المنية ، وعند وفاته أصبحت هذه الخدمات بموافقة صناديد القبائل لابنه عبد الدار وعند وفاة عبد الدار أصبحت سدانة الكعبة لعثمان بن عبد الدار ، ورئاسة دار الندوة لعبد مناف بن عبد الدار ، وقد تولى رئاسة دار الندوة أيضا أبناء عبد مناف بن عبد الدار فى

حياة أعمامهم وذلك بأمر وتكليف منهم ، ولهذا إذا أراد أحد من قريش أن يتناقش فى أمر مشكل كان يرجع إلى «عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار» ، فيفتح دار الندوة ويرأس الأشراف الصناديد المجتمعين وكان أمر الرئاسة مسندا أحيانا إلى أبناء هاشم بن عبد مناف ، وأحيانا أخرى إلى أبناء أخيه.

وقد انتقلت حجابة كعبة الله بعد عثمان بن عبد الدار إلى أبنائه وفى النهاية انتقلت إلى «عبد العزى بن عبد الدار» وعند وفاته انتقلت إلى «أبى طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار» ثم إلى أولاده وأحفاده بعد وفاته.

عند ما هاجر «عثمان بن طلحة» إلى المدينة المنورة وانفرد ابن عمه «شيبة بن عثمان» بمفتاح الكعبة الشريفة ومازال إلى الآن فى حوزة يد أولاد وأحفاد شيبة بن عثمان.

السقاية :

على وزن النهاية وكانت وظيفة خاصة بتقديم الماء العذب إلى الحجاج القادمين وذلك فى الجاهلية.

وفى نهاية فترة الجاهلية وبداية صدر عصر الإسلام ونتيجة لقلة الماء العذب فى مكة المكرمة كانوا يجلبون المياه من أماكن بعيدة ، ويخلطونها بأشياء مثل التمر والزبيب ، ثم يوزعونها على الحجاج كالشراب. وكان القيام بهذه المهمة الجليلة يسند إلى من يتولى المنصب الجليل «سقاية الحج».

وكان الذين يوكل إليهم سقاية الحجيج إلى ظهور ماء زمزم المكرم كما ذكرنا يملئون قربا كثيرة بالماء الذى يحصلون عليه ويتخذون لهم مكانا فى جانب الكعبة ويقدمون الماء لسقاية العطاش من الحجاج وكان السبب الرئيسى لابتداع هذه المهمة فقدان الماء فى مكة.

ذلك لأنه فى أواخر العهد الجاهلى لم يكن فى مكة المعظمة آبار للماء سوى الآبار التى أمر بحفرها «عبد شمس بن عبد مناف» فى ذى طوى وهاشم بن عبد

مناف فى المكان المسمى (شعب أبى طالب ومطعم بن عدى ابن نوفل بن عبد مناف فى المسفلة) ، والآبار الآتى ذكرها والتى خص أصحابها بها أنفسهم وهم أمية بن عبد شمس ، وبنو أسد بن عبد العزى وبنو الحجاج وبنو سهم ومرة بن كعب (١) وبنو كلاب بن مرة. ولهذا كان سواء الأهالى أو الحجاج يعانون من متاعب كثيرة بسبب قلة الماء ، بناء عليه أنشأ قصى بن كلاب وظيفة سقاية الحج. وأنقذ أهل مكة إلى حد كبير من أزمة المياه.

__________________

(١) كانت بئر مرّة بن كعب خارج المدينة.

الآبار الموجودة فى مكة المعظمة

قبل ظهور بئر زمزم الشريف

كان يوجد فى مكة المكرمة قبل ظهور زمزم الشريف ثمانية آبار معروفة مخصصة لسقاية الأهالى وهى : طوى ، بذر ، سجله ، حفر ، سقية ، أم حراد ، سنبلة ، غمر.

ولهذا كان المكلفون بمهمة السقاية يأتون بالماء من هذه العيون ويعدون الشراب على النحو الذى وضحناه آنفا وكانوا يسارعون لسقاية الحجيج القادمين.

طوى :

اسم البئر التى حفرها عبد شمس بن عبد مناف على النحو الذى سبق التعريف به. وكانت هذه البئر تقع بجوار قصر محمد بن يوسف الثقفى المعروف باسم «بيضاء» الواقع فى الطرف العلوى من مكة المقدسة. وهى الآن من الآثار القديمة والتى تقع فى مكان يسمى «ذى طوى».

بذر :

اسم البئر التى حفرها هاشم بن عبد مناف ، ويروى أنها كانت تقع فى ميدان شعب أبى طالب فى جبل خندمة وهى مندثرة الآن.

سجله :

هى البئر التى حفرها مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف ، وحسب ظن واعتقاد بنى نوفل أن مطعم بن عدى قد اشترى هذه البئر من أسد بن هاشم ، ويقرر بنو هاشم أنه عند ما ظهر زمزم الشريف وأغنى عن سائر الآبار قدم هاشم بن عبد مناف البئر المذكورة هبة منه إلى مطعم بن عدى.

حفر ، سقية ، أم أحراد ، سنبلة ، غمر :

هذه الآبار لا تعرف الجهات الكائنة بها ، وبناء على الروايات التى تقول أن «حفر» هى البئر التى حفرها أمية بن عبد شمس وبئر بنى أسد «سقية» حفرها بنو أسد بن عبد العزى ، و «أم أحراد» حفرها بنو عبد الدار ، وسنبلة «بئر خلف بن وهب حفرها بنو جمح ، و «غمر» حفرها بنو سهم لأنفسهم ، وهذا يقتضى أن هذه الآبار موجودة فى عصر الصحابة.

وكانت الآبار الثلاثة المسماة «رم» ، «خم» و «حفر» خارج مدينة مكة الشهيرة. وقد أمر مرة بن كعب بن لؤى بحفر بئر رم. وكلاب بن مرة بحفر خم ، وحذيفة بن غانم بحفر بئر حفر ، وأصبح فى حكم العادة فى مكة أن يجلب كبراء قريش الماء الذى يشربونه من هذه الآبار.

وعند ما ظهر ماء زمزم وكان أصفى وأحلى من كل المياه ، بدأ الناس فى الامتناع عن شرب مياه الآبار المذكورة ليس فقط لعذوبة مائه ولكن لقرب موقعه أيضا.

وفى الواقع فإن بئر زمزم الشريف الذى هو أحلى من مياه كل الآبار والعيون ؛ لأنه بئر سيدنا إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام.

وعند ما توفى عبد مناف بن قصى انتقلت مهمة سقاية الحجيج الجليلة ، وخدمة الرفادة إلى ابنه هاشم بن عبد مناف ، قام هاشم بمهمة السقاية هذه على أكمل وجه طوال فترة حياته ، وبعد وفاة هاشم بن عبد مناف أسندت هذه الخدمة إلى أمية بن عبد المطلب ، وقد استمر فى القيام بمهمته حتى ظهور بئر زمزم الشريف.

وبما أن عبد المطلب كان يملك كثيرا من الإبل ، فقد كان يحلب ألبانها فى موسم الحج ويمزج لبنها بالعسل ، ويمزج ماء زمزم بالزبيب ، يقدمه للحجاج ليشربوا منه ويرتووا. وعند ما توفى عبد المطلب بن مناف ، انتقلت مهمة سقاية الحج إلى ابنه الأصغر عباس «رضى الله عنه».

وعند ما انتفت الحاجة إلى سقاية الحجاج على النحو السالف لوجود ماء زمزم ، كان عباس يجفف عنب الحدائق التى اشتراها فى الطائف ويمزج ماء زمزم بالزبيب ، ويقدمه للحجاج وذلك اقتفاء لأثر والده.

ولما كان القيام بمهمة سقاية الحج فى زمن الهادى الذى منح النضارة لقلوب الناس القاحلة بماء حياة الإسلام ، موكلة إلى عباس بن عبد المطلب بن هاشم ، فقد تفضل النبى صلى الله عليه وسلم بإلقاء هذه المهمة فى يده بإسنادها إليه رضى الله عنه.

مسألة :

ـ هل يجوز سحب السقاية من بنى عباس؟

والجواب : لا يجوز لأنها أسندت إليهم من قبل نبينا صاحب الشريعة عليه أجمل التحية وإذا كان إسناد خدمة السقاية المستقلة فى ظل نور الإسلام حقه أن يسند إلى أبى طالب بن عبد المطلب ، فإنه كما سنوضح فيما بعد ، فإن أبا طالب عند ما استبدت به الحاجة ، اقترض مبلغا من المال من سيدنا عباس ولما لم يستطع سداد هذا المال ، ترك سقاية الحج المسندة إليه عن طيب خاطر وتبرع بها إلى عباس بن عبد المطلب تسوية للدين.

وعند ما كان عباس بن عبد المطلب ـ رضى الله عنه ـ على قيد الحياة ، كان يتولى بنفسه متابعة مهام سقاية الحجيج ، وبعد وفاته انتقلت هذه الخدمة المقدسة إلى أولاده وأحفاده ثم إلى خلفاء بغداد ، وفى النهاية انتقلت إلى يد أبناء الزبير ابن العوام.

لاحقة :

فى أثناء خلافة وليد بن عبد الملك عين خالد بن عبد الله القسرى واليا على مكة ، وبناء على رأيه المجانب للصواب أصدر الأوامر بأن يحفر بئرا فى كل من «ذى طوى» و «حجون» وذلك ليخفف عن الناس أزمة المياه (١).

وبما أن مياه هذه الآبار التى تم حفرها كانت أعذب من مياه بقية الآبار ، فقد

__________________

(١) فيما يتعلق بانتقال السقاية إلى الزبير انظر ما جاء فى الصورة الأولى من الوجهة السابعة.

سعد أهل مكة من حفر هذه الآبار واعتادوا على شرب مياهها دون أن يشربوا من مياه الآبار الأخرى.

وعند ما رأى خالد بن عبد الله ميل الأهالى وتعلقهم بمياه هذه الآبار صعد المنبر على الفور وقال : «أيها الناس من الأعظم ، الخليفة الذى تم اختياره وعين لإدارة شئون الأهالى أم الرسول الذى بعثه الله ، فمن الممكن ألا تعرفوا عظمة الخليفة بينما سقى خليل الله إبراهيم ـ عليه التحية والتعظيم ـ ملح أجاج قد سقى خليفتكم ماء عذب فرات.

وبهذا كان يريد أن يفضل مياه هذه الآبار على ماء زمزم الشريف وأمر بصنع حوض من الجلد المدبوغ فى الحرم الشريف ، وأن يملأ بماء هذه الآبار التى حفروها ، وكأنه كان يريد أن يشير إلى أن مياه هذه الآبار أفضل من ماء زمزم الشريف.

والحال أنه بعد فترة انقطع ماء الآبار المذكورة تماما وانطمست الآبار ولا يوجد الآن من يعرف مكان هذه الآبار.

اللواء :

هو اسم مهمة فى الجاهلية مشهورة بين القبائل باسم اللواء.

وإن كانت هذه المهمة مقصورة على رجال أسرة بنى أمية ، إلا أن ألوية قبائل قريش المسماة (العقاب) كانت مع حامل اللواء الذى يتولى المهمة المذكورة.

ومن جملة عادات الجاهلية أنه إذا استدعى الأمر تعبئة الجنود وتوجيههم إلى مكان ما ، كان الشخص الذى يتباهى بالقيام بهذه المهمة يعقد مجلس الحرب. ويغرس الراية المذكورة حيث يشاء فيحتشد حولها أبطال قريش وكانت تعلن الحرب بغرس اللواء المذكور فى المكان الذى حدده عاقد اللواء عند وقوع الحرب ويجتمع الرجال المسلحون عند اللواء المذكور ويتم توجيههم إلى المكان الذى ستدور فيه الحرب.

وقد ظهر لواء الإسلام السعيد أثناء تولى أبى سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس مهمة حمل لواء قريش.

وقد انتقلت مهمة حمل اللواء بعد قصى بن كلاب إلى أبيه عبد الدار وعند ما توفى انتقلت إلى أولاده وأحفاده. وظلت فى حوزة أكثر أفراد هذه الأسرة نفوذا حتى زمن غزوة أحد الجليلة ، أيا من كان هذا الشخص ، لكن جميع أفراد هذه الأسرة قتلوا جميعا فى الغزوة المذكورة.

الندوة ـ معناها الاجتماع :

وكانت الندوة تطلق على المجلس الذي يجتمع فى دار الندوة (١) التى بناها قصى بن كلاب فى الجاهلية. وكانت القرارات التى تصدر عن هيئة هذا المجلس تلقى قبولا حسنا بين القبائل بدون النظر إلى هذه القرارات هل هى صحيحة أم خاطئة ، حسنة أم قبيحة؟

وبما أن المسائل الهامة المتعلقة بأهالى مكة المعظمة كان يتم بحثها فى هذا المجلس حتى إعطاء الإذن بزواج البنات كان يصدر من الهيئة المجتمعة فى دار الندوة ، لذا كان ممنوعا منعا باتا أن يحضر الاجتماع فى دار الندوة من لم يبلغ العقد الرابع من عمره أى لم يبلغ أربعين سنة من عمره من رجال القبائل باستثناء أبناء قصى بن كلاب.

وكانت إدارة الهيئة المذكورة مسندة إلى أحد أصحاب النفوذ من بنى أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب رئيسا وعدد محدود من الأعضاء.

ولما كانت رئاسة هيئة دار الندوة موكلة إلى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فقد أذن سيدنا محمد النبى رئيس مجالس الأنبياء أن يستمر يزيد فى أداءه مهمته بادئا بالبسملة فى اتخاذ الإجراءات الشرعية.

السفارة :

تم إنشاء هذه الوظيفة لإصلاح ذات البين ، فإذا وقع نزاع بين أى قبيلتين أو جرى شجار أو نزاع بين رجلين ، فإن الشخص القائم بمهمة السفارة يقوم مقام الحد الفصل فى القضية. وحكمه وقراره الذى يصدره لا يرد مهما كان القرار. وبذلك ينتهى النزاع.

__________________

(١) يطلق عليه أيضا منصب مشورة الأمور.

وكان منصب السفارة حكرا على أسرة بنى عدى بن كعب وعند ما آل منصب السفارة إلى سيدنا عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب رضى الله عنه تولاه بنفسه وقد حان الوقت السعيد الذى ظهر فيه الذى أظهر المعجزات فى حل أصعب المشكلات ـ صلى الله عليه وسلم.

النظارة :

كانت وظيفة مثل إدارة الرسوم فإذا نقلت أحمال أو أثقال أو البضائع من مكان إلى آخر ، كان من الأصول المرعية فى الجاهلية أخذ رخصة حمولتها أو موقعة من الموظف الذى يتولى مهمة النظارة.

وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ لنظارة قبائل بنى تيم ، يتولى هذه المهمة.

صاحب القبة ومعناه ناصب الخيمة :

وكانت هذه الوظيفة وظيفة متواضعة فالذى يكلف بها كان ينصب خيمة لعظماء قريش.

إذا ما حدث شىء يشغل قريشا أو يحزنها أو إذا أيد بعث حملة عسكرية إلى جهة ما أو إذا اقتضى الأمر المشورة فى حادث مهم فكان صاحب القبة بحكم وظيفته ينصب خيمة فيجتمع فيها زعماء قريش يديرون الأقداح ويتشاورون.

ولما ثبت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ روح خيمة الإيمان كان هذا المنصب فى بنى مخزوم بن نقيط بن مرة وكان خالد بن الوليد بن المغيرة يتباهى ويفتخر بمنصب نصب الخيمة هذا.

الأزلام :

جمع زلم يطلق على سهام القرعة ، كان العرب فى الجاهلية يقتسمون أموالهم بالسهام التى تسمى «الأزلام» ويتفاءلون بها.

وكانت وظيفة استخدام السهام وحفظها وظيفة مهمة إلى حد ما ، لذا كانت لا تسند إلى أى شخص. وكل من يريد القيام بعمل ما كان يرجع إلى هذا الموظف ليعرف وجه الخير أو الشر. فى هذا الأمر وكانوا يعملون برأى هذا الموظف بعد إجراء القرعة.

طريقة التفاؤل وإجراء القرعة بالأزلام :

كان يؤتى بالسهمين ويوضعان فى جراب وقد كتب على واحد منهما كلمة «أمر» وعلى الآخر كلمة «نهى» ثم يكلف الشخص الذى يريد أن يتفاءل أن يخرج سهما من الجراب اعتباطا. وكان يلزم العمل بما كتب على السهم الذى أخرجه.

وكان يحتكر هذه الوظيفة بنو جمح بن عمرو بن كعب ويديرونها ، وكان أفراد القبائل الأخرى يحبذون طريقتهم فى إجراء القرعة ويرضون بها.

وقد بعث خاتم الأنبياء ـ عليه صلوات الله الرحمن ـ وصفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يتولى هذه العملية.

قرعة العرب فى الجاهلية

إن وظيفة التفاؤل بالأزلام كانت وظيفة مهمة عند العرب وكانوا يتفاءلون بثلاثة سهام ؛ إلا أن العرب فى الجاهلية كانوا يقومون بإجراء أنواع أخرى من القرعة ، وإنهم كانوا يلعبون القمار بالسهام فى شكل غريب.

من أشهر أنواع القمار عندهم كانت القرعة التى تسحب بالأزلام الكائنة عند «هبل» وكان يجمع بين هذه السهام وسهام الطالع وهو الذى كان يطلق عليه الميسر.

لأن العرب فى الجاهلية كانوا يحتفظون بجانب «هبل» صنمهم الكبير بسبعة سهام ، وعند اللزوم كانوا يقترعون بهذه السهام ويعملون بموجبها.

وكان مسطورا على كل سهم من السهام كلمات مختلفة مثل : «دية المقتول» أو

«نعم الأمر» أو «لا» أو «منكم» أو «من غيركم» أو «ملصق» فإذا ما اختلف فى دية المقتول كانت تجرى القرعة بين أسماء المظنونين وبين سهم «دية المقتول» وكان الشخص الذى تصيبه «دية المقتول» يضطر لدفع الدية.

وكان أهل الجاهلية يقترعون بسهام «نعم ولا» فإذا ظهر سهم «نعم» يحكمون أن هذا العمل خير وعند ظهور «لا» يحكمون بأنه شر ، وفى الحالة الأولى يمضون رأسا فى عملهم ، وفى الحالة الثانية يؤجلون العمل سنة أخرى ، ويجددون القرعة لنفس العمل.

إذا ما شك فى نسب شخص ما كانوا يقترعون بسهام «منكم ـ من غيركم ـ ملصق» ، فإذا أصابت قرعة منكم ، فيكرمون ذلك الشخص ويعزونه ويسعدونه ، فإذا أصابت القرعة «من غيركم» يعتقدون أن القبيلة التى ينتمى إليها ذلك الشخص فى حلف معهم ، أما إذا أصابت القرعة «ملصق» يحكمون بأن ذلك الشخص مجهول النسب ، وإنهم يثقون ثقة تامة فى نتائج الاقتراع بتلك السهام.

وإذا أرادوا أن يحفروا بئرا أو أن يكشفوا عن منبع ماء كان يكتب على السهم كلمة «مياه» وكانوا يقترعون به لتعيين محل الحفر أو الكشف.

وإذا أرادوا أن يختنوا طفلا أو أن يزوجوا بنتا أو يدفنوا ميتا كانوا يقترعون كما ذكرناه من قبل ، ويعملون بموجب تلك القرعة.

إن الاقتراع بتلك النيات لم يكن يجرى فى أى مكان بل كان يجرى أمام هبل المنصوب داخل الكعبة ، ويقوم به خادم ذلك الصنم.

وكان على الشخص الذى يرغب فى إجراء القرعة إعطاء خادم هبل مائة درهم وعدة رءوس من الإبل أو الغنم أو حيوانات أخرى ، لتذبح قربانا ، ثم يتجه إلى هبل قائلا : إن فلان بن فلان قد اشتبه فى نسبه ، أو نريد أن نختنه ـ أو نزوجها ـ فدلنا على الحقيقة ووجهنا إلى ما يجب عمله.

وبعد ما يلهج بمثل هذه الكلمات يذكر الأمر الذى من أجله يريد أن يجرى القرعة ، ويتضرع لهبل طالبا منه أن يظهر الحق والصواب فيما هو مقدم عليه ،

وبعد ما يذبح الحيوانات التى جلبها معه ويوزعها على الفقراء ثم يشير بإجراء القرعة ، وهذه من جملة شروط القرعة ومن هنا كان على الذين يريدون إجراء القرعة أن يوفروا مقدارا من النقود ، وأن يعدوا بعض الحيوانات ليقدموها لخادم هبل الذى يذبح الحيوانات ويوزع لحمها للفقراء ، ثم يأمر بإجراء القرعة وكانوا يعملون بما جاء فى القرعة.

ولا يقتصر مكان إجراء القرعة على هبل بل يجوز لأى واحد من أهل الجاهلية إجراء القرعة فى أى مكان كان ، وهذا نوع من أنواع قراءة الطالع ، وكانت هذه القرعة تتم ـ أيضا ـ باستقسام الأزلام وقطع الخشب سالفة الذكر.

وكان يطلق سواء على قطع الخشب التى بجانب هبل أو قطع الخشب التى فى حوزة الناس أزلام ـ أقلام ـ أقداح. وإذا ما ترجمناها إلى اللغة التركية فمعناها سهام ، إن الأخشاب التى يستعملها قارئ الطالع ثلاث قطع كتب على أحدها «أمرنى ربى» وعلى الثانية «نهانى ربى» وترك الثالث بدون كتابة أو إشارة. وكان قارئ الطالع فى الجاهلية يباشر عمله ؛ ليبين للذين يلجأون إليه طالبين حكم الأزلام فيما يقدمون عليه من عمل ، فيقوم بخلط الأسهم الثلاثة ثم يضعها فى جراب ويختار أحد الأشخاص الذين يثق فيه أصحاب الشأن ، ويطلب منه أن يدخل يده فى الجراب ويخرج السهام واحدا تلو الآخر ، ويقرأ ما كتب عليها ويبين حكم القرعة.

وكان لا بد أن يعتقد أهل الجاهلية إذا أصابت القرعة كلمة «أمرنى ربى» أن هذا العمل خير وإذا أصابت القرعة السهم الذى يكتب عليه «نهانى ربى» أن هذا الفعل شر ، وإذا أصابت القرعة السهم الخالى من الكتابة كانت إعادة إجراء القرعة بعد مرور سنة من الضرورات الدينية.

وبناء على هذا فالذين يريدون القيام بعمل ما ويريدون أن يعرفوا وجه الخير أو الشر فى هذا العمل ، يلجأون إلى قراءة الطالع ويجرون القرعة بثلاثة أسهم يضعونها فى جراب بعد أن يخلطوها ، ثم يكلفون أحد الذين يثق بهم صاحب

الشأن فى حسن طويته ويجعلونه يمد يده داخل الجراب ، ويخرج السهام واحدا واحدا وينظرون على المسطور فوق السهام وينطقون ببعض الكلمات يبينون إذا ما كان فعل هذا الأمر خيرا فيمضون فى فعله أو شرا يمتنعون عنه.

ومن جملة شروط إجراء القرعة أن يلف الرجل الذى يدخل يده فى الجراب قطعة من الجلد المدبوغ الناعم حول يده تسمى ريانة والغرض من هذا ألا يحس الرجل بعلامة ما على السهم فيخرجه ويجامل الأشخاص الذين يحبهم ويخرج لهم ما يريدون من السهام.

وكانت مهمة الرجل الذى يقوم بإجراء القرعة بالأزلام مهمة رسمية يقوم بحل الخلافات التى تحدث بين الحكومة والقبائل ، ويفصل بينهما بينما يقوم الآخر بالفصل فى الخلافات التى تحصل بين الأفراد بعضهم بعضا ومن هنا كان يختلف كل منهما عن الآخر.

وذهب بعض المؤرخين فيما نقلوه من روايات ، أن الاستقسام بالأزلام هو إنه عند ما يهم إنسان بالقيام بعمل مهم يأخذ معه ثلاثة سهام أو سبعة منها ويضعها فوق الحجارة التى نصبت حول المسجد الحرام والتى يقال لها نصب (١) ويستمد من هذه الحجارة المعونة فى تحقق تلك الأعمال ، ويذبحون لها قرابين طلبا لرضاها.

لعب القمار فى الجاهلية

كان الناس فى الجاهلية يلعبون القمار بضم وجمع عشرة سهام واسم هذه اللعبة «ميسر» وهذا بناء على تدقيق علماء التفسير العظام ـ رحمهم الله العلى ـ وأخبارهم ، وإطلاق لفظ ميسر لهذه اللعبة ، لأنه يمكن كسب المال بيسر وسهولة فيها.

وكان يجتمع عدة من أغنياء الجاهلية ويشترون بالدين كثيرا من الجمال على أن تدفع أثمانها فيما بعد ويذبحون هذه الإبل ويقسمون لحومها ثمانية وعشرين جزءا

__________________

(١) ومن الروايات الموثوقة أن هذه النصب كانت أصناما وكان عندها ثلاثمائة وستين قطعة.

ثم يقسمون هذه الأجزاء على عشرة سهام وهذه السهام هى ١ ـ فذ ٢ ـ توام ٣ ـ رقيب ٤ ـ حلس ٥ ـ نافس ٦ ـ مسبل ٧ ـ معلى ٨ ـ منيح ٩ ـ سقيح ١٠ ـ وغد.

وبناء على أصول لعبة الميسر يجعل ويفرز لكل سهم أنصبة معينة وتترك بعضها من غير نصيب وكان لفذ نصيب واحد وللتوأم نصيبان وللرقيب ثلاثة أنصبة ولحلس أربعة ولنافس خمسة ولمسبل ستة ولمعلى سبعة وتترك سهام منيح وسقيح وغد بدون أنصبة.

ويذبح المقامرون الأغنياء هذه الإبل ويقسمونها أنصبة حسب حصص الأسهم المذكورة ، ويضعون كل نصيب فى مكان معين ثم يضعون السهام فى جراب أو إناء بعد أن يخصص لكل مشترك جرابا باسمه ، ثم يسحبون بواسطة رجل موثوق سهما من جراب كل مشترك ويعطون نصيب كل واحد منهم حسب ما جاء فى السهم.

والشخص الذى أصابه سهم من السهام التى لا نصيب لها لا يأخذ شيئا من لحوم الإبل ولكنه يجبر على دفع نصيبه من ثمن الإبل.

وبعد سحب القرعة وجمع نقود الإبل وتوزيعها وتسليمها إلى أصحابها ، يقوم كل واحد منهم بتوزيع كل اللحم الذى كسبه على الفقراء مباهيا مفتخرا.

وكانوا يذمون الذين لا يشتركون فى اللعبة ويصفونهم بالبخل والتقتير ، بل وينشدون قصائد الهجاء فى ذمهم. «انتهى»

خازن الآلات والأموال :

هذه الوظيفة عبارة عن نظارة الخزانة (١) العامة وكانت الأموال والأسلحة التى تدخر للحرب توضع تحت عهدة هذا الموظف ، وظهرت شوكة الإسلام حينما كانت هذه الوظيفة فى عهدة حارث بن قيس بن عدى بن سهم من بنى سهم بن عمرو بن هصيص ، ورفعت حجب الكفر والظلام عن الأنظار.

رفادة :

على وزن إفادة وتأتى بمعنى المسئول عن نفقات أصحاب الحرف وكانت وظيفة هامة وذات مكانة وقد ابتدعها قصى بن كلاب بن مرة.

__________________

(١) يطلق عليها بيت المال أيضا.

وكانت قريش بناء على تصويب ابن كلاب وترتيبه تجمع مقدارا من النقود وتشترى بها التمر والزبيب والحبوب وتقدمه تحية لقوافل الحجاج فى مواسم الحج.

وكان فقراء الحجاج حتى زمن قصى بن كلاب يعانون من مشكلة كبيرة ، لهذا فكر ابن كلاب بينه وبين نفسه فى سبيل لحل هذه المشكلة وقرر ترتيب هذه الرفادة.

إذ جمع رجال قبيلته يوما وقال لهم يا معشر قريش إنكم تسكنون حول كعبة الله وتتميزون بلقب سكان أهل البيت ، وتتمتعون بالإقامة داخل حدود بلد الله ، لذا فأنتم مدينون بإطعام الحجاج الذين يأتون استجابة لدعوة الله.

ولكى تظهروا للضيوف القادمين مظاهر الاحترام على الشكل اللائق بهم ، عليكم أن تسارعوا فى مد موائد المآدب لفقراء الحجاج فى كل عام أما إقامة هذه المآدب فيكون بتخصيص مقدارا من المال سنويا وإعطائه إلى وكيل الصرف ليشترى به البضائع اللازمة لإطعام الحجاج. وبما أنه كان نافذ الكلمة بين القبائل العربية فقد استحسن اقتراحه وهكذا وضع نظام الرفادة الشامل النفع وبناء على ذلك أخذت قريش تجمع فيما بينها النفقات اللازمة لهذا الغرض ، وكأنها ضرائب مفروضة ، وتسلمها لابن كلاب ، وهو بدوره يتولى توفير البضائع اللازمة لإطعام فقراء الحجاج فى مواسم الحج وهكذا برزت مظاهر كرمه واحترامه للحجاج.

وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم ونظام الرفادة فى يد الحارث بن عامر بن عبد مناف.

وقد أطعم الحجاج فى السنة التاسعة الهجرية بواسطة أبى بكر الصديق وقد أطعم الحجاج فى حجة الوداع بلا واسطة.

وقد قام سادتنا الخلفاء الراشدين بمراسم الرفادة على الوجه الأكمل فى سنوات خلافتهم.

إن نظام الرفادة أو عادة إطعام الفقراء من الحجاج قد انتقلت إلى الخلفاء العباسيين وإلى سلاطين البلاد الإسلامية وكانت تتم بواسطة ولاة ولاية الحجاز الجليلة فى سوق منى فى مواسم الحج.

حكى المرحوم تقى الفاسى من مؤرخى مكة المكرمة ومن الذين شاهدوا رأى العين إقامة سماط الرفادة وكتب فى كتابه «تاريخ مكة» وقال : كانت الرفادة فى الجاهلية وفى صدر الإسلام وأوائل الدول الإسلامية من الأصول المقررة والمرعية وقد رأيت أنا أيضا إقامة موائد الرفادة. كان الطعام الذى سيقدم إلى فقراء الحجاج يطبخ فى صحراء منى السعيدة ويطعم الحجاج إلى نهاية الحج ، وذلك بناء على أوامر السلاطين وقد ألغى هذا النظام فيما بعد ولكننى لا أعرف تاريخ إلغائه ولا أتذكر فى عهد من من الحكام قد ألغى.

وظلت عادة الرفادة ملغاة إلى يومنا هذا إلا أن القائمين بإمارة مكة يقومون بتوزيع مختلف أنواع الأغذية ومقدار كاف من اللحوم على جنود السلطان وخاصة الحجاج الفقراء الموجودين فى منى منذ عودتهم من المزدلفة حتى يوم توجههم إلى مكة المكرمة.

وفى الليلة الثانية للعودة من المزدلفة تقام احتفالات كبيرة أمام خيام شريف مكة ووالى الحجاز ويتم إطلاق الألعاب النارية خارج خيام المحمل الشامى والمصرى ليبعث الفرح والسرور فى قلوب الحجاج ذوى الابتهاج بمشاهدة هذه المناظر. وفى اليوم الأول من عبد الفطر يقوم شريف مكة كرما منه بمد سماط المآدب الرفيعة إلى رجال الأهالى وموظفى الدولة الموجودين وقد بلغت هذه المآدب من الفخامة ما يفوق الوصف.

وقد حضرت مأدبة سنة ١٢٨٩. قد مدت مائدة يطلق عليها «السماط» فى غرفة مستطيلة وتزينت بكل ما يمكن توفيره من أنواع الأطعمة اللذيذة والفواكه النادرة وقد جلس حولها أمير مكة ووالى المدينة والضيوف.

وكانت المائدة ترتفع عن الأرض مقدار قدم ونصف قدم وكان طولها ٣٩ قدما وكان عرضها تسعة أقدام.

وترك للمدعوين حرية اختيار الطعام الذى يرغبون فى تناوله حسب الأصول وبالتالى كان كل شخص حرا فى القيام أو الجلوس وفق رأيه.

وقد استمر إطعام الضيوف إلى المساء إلا أن حضرة الشريف لم يمكث إلى نهاية الطعام بجانب المائدة.

وقد تم إطعام الضيوف جماعة بعد جماعة ثم أكرم الضيوف بحضور الأمير بتقديم فنجان قهوة لهم.

وفى هذا اليوم الذى بسط فيه السماط لم يبق إنسان فى مكة إلا وأكل وشبع من هذه النعم ، وبما أن هذه الضيافة تقام كل سنة من قبل شريف مكة فإن ما يصرف فيها يساوى ما كان ينفق من أجل الرفادة.

إن كل لقمة مما أعد لإطعام الناس تفوق من حيث الفخامة ما كان يقدم فى العصور السابقة عدة مرات ومع هذا فإن ما يقدم من طعام فى سماط مكة وما يقدم لجنود السلطنة والفقراء من اللحوم والأغذية فى منى لا يوافق أصول الرفادة لأن الأصول المرعية فى الرفادة إطعام الحجاج وبدون استثناء. ويجب ألا تقتصر هذه الضيافة على إطعام الفرقة العسكرية وبعض الفقراء.

ولكننا لو تذكرنا أن عدد الحجاج الواقفين على جبل الرحمة كانوا قلة قليلة فى العصر الجاهلى وكان ما يقدم لهم فى أثناء ضيافتهم التمر والزبيب فإن القيام بمثل هذا العمل غير ممكن فى عصرنا هذا.

فعدد الحجاج فى عصرنا الراهن تجاوز ثلاثمائة أو أربعمائة ألف ، ومأدبة الرفادة من تمر وزبيب قد تحولت إلى أطعمة متنوعة ولحوم مطبوخة لذا فإن القيام بهذا العمل حسب أصول الرفادة فى العصر الجاهلى يكاد يكون مستحيلا وغير قابل للتنفيذ.

وبما أن مأدبة الضيافة التى أقيمت من جانب الإمارة السنية قد عمت المعايدة الرسمية وكانت سببا فى اختلاط الفقراء مع الأغنياء والوجهاء والأشراف فحسناتها زادت مرات ومرات على أصول الرفادة ونظامها.

شكل السماط

أصول المعايدة : يبدأ أهالى مكة المكرمة مع حلول مواسم الأعياد فى تحسين صلتهم بعضهم مع البعض ، وبهذا يجددون علاقات المودة والإخاء فيما بينهم.

ومن العادات القديمة المرعية أن أهل مكة المكرمة يقسمون أيام عيد الفطر ، بحيث يكون الاحتفال به فى أحد الأحياء إذ يعلن أصحاب الشأن أن العيد اليوم فى حى فلان ويستقبل أعيان وعظماء هذا الحى فلان وفلان وفلان زوارهم فى منازلهم. وفى هذا اليوم يتفق الأعيان والعظماء والأغنياء فيما بينهم ويحددون الشخص الذى سيستقبل الزوار للمعايدة. لذا يسرع سكان الأحياء الأخرى إلى الحى الذى سيحتفل فيه بالعيد.

كما أن سكان هذا الحى يذهبون فى اليوم التالى إلى بيوت أعيان الحى وأثريائهم وهكذا يسرعون فى أداء مراسم المعايدة المتبعة. إن سكان مكة المكرمة يهتمون بهذه العادة ويرعونها أعظم الرعاية حتى إنه لا يبقى فى مكة أفراد صغارا كانوا أو كبارا إلا لقى بعضهم بعضا ويدعون لهم بالخير.

وتشمل هذه المعايدة ، أصحاب القبور من الموتى ، لذا يذهب الرجال ثم النساء فى اليوم الأول من عيد الفطر الشريف للمعايدة ويظلون هناك إلى وقت الزوال فى مقبرة المعلى وسائر المقابر حيث يزورون أقاربهم ويتلون بعض السور القرآنية ثم يعودون إلى منازلهم.

ومما لا شك فيه أن هذا الأمر من السنن السنية الحسنة إلا أنه قد أسئ استغلال هذه العادة إذ أصبح اختلاط الرجال بالنساء فى المقابر حكم عادة وبما أن هذه العادة ستؤدى إلى الاختلاط والفساد فمن الواجب منع اختلاط الرجال بالنساء هناك. انتهى.

إن طريقة المعايدة الحسنة التى ذكرناها من العادات المتبعة فى بعض بلاد الأناضول والرومللى.

إننى قد حضرت العيد فى بعض ولايات الأناضول وكذلك فى ولايات الرومللى كما حضرت مراسم العيد فى مكة المعظمة ، إذ إن المعايدة فى تلك الولايات لا تطابق تماما المعايدة فى مكة المكرمة (١).

__________________

(١) لا يحتفل بعيد الأضحى بهذه الصورة لأن الأهالى فى أيام عيد الأضحى يتواجدون فى عرفات ومنى يؤدون الشعائر.

ولما كان أهالى كل قرية فى تلك الولايات يذهبون إلى القرى الأخرى يتزاورون للمعايدة فيمكن أن نعتبر ذلك مشابها لأصول معايدة مكة المكرمة.

القيادة :

تعنى إمارة الجيش وهى عبارة عن قيادة الجيش فى الحرب والقتال.

إن هذه المناصب كانت خاصة بقريش لذا فإنها تتفوق على القبائل الأخرى بهذا المنصب وتفتخر به.

لما أسند ابن كلاب مهام الحجابة والسقاية واللواء والرفادة الهامة إلى ابنه عبد مناف وهو مازال على قيد الحياة فكأنه اختاره وليا للعهد.

وأسند إلى ابنه الكبير عبد الدار مهمة إدارة دار الندوة لتسوية نزاعات قريش. وقد أوصى عبد مناف بإدارة حجابة البيت واللواء والسقاية والرفادة بموافقة بقية أخوته وخاطب عبد الدار قائلا «يا بنى إننى أجعلك رئيسا على القبيلة ، حيث لا يستطيع أى إنسان من أشراف القبائل أن يدخل كعبة الله طالما لم تفتح لهم بابها ، ولا يستطيع إنسان أن يعقد لواء الحرب دونك ، واللواء المزمع عقده يجب أن يكون فى يدك بلا منازع ولا يستطيع إنسان فى مكة أن يشرب من ماء زمزم إلا إذا سقيته أنت ولا يستطيع إنسان أن يأكل طعاما فى موسم الحج إلا إذا أكل من طعامك. ولا يبت فى أمر من أمور قريش الهامة إلا إذا تم الحكم بذلك فى بيتك.

اختلاف قريش :

بعد وفاة «قصى بن كلاب» أدار أبناؤه بموجب وصيته لعبد الدار حكومة مكة متفقين ، ولكن فيما بعد ظهر بينهم الخلاف ، فإن بنى عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس وعبد المطلب ونوفل تباحثوا عن شرفهم وفضلهم وفكروا فى انتزاع مناصب الحجابة والسقاية واللواء والرفادة من أيدى بنى عبد الدار فدبت بينهم الخصومة ، وتباهوا وقالوا : إنهم أجدر وأحق منهم بالقيام بهذه الخدمة الجليلة وادعوا أنهم الأفضل والأشرف ـ فى كل الجوانب ـ من أبناء عمهم عبد الدار ، وأخذوا يتحرشون ببعضهم باستمرار ، وفى النهاية اتفقوا على أن يحال الفصل فى النزاع الدائر بينهم إلى زعماء القبائل للحكم فيه.

أما زعماء القبائل فقد اختلفوا فى أمر هذا النزاع إذ التزمت جماعة منهم جانب بنى عبد الدار حتى لا يخالفوا وصية قصى بن كلاب ، والتزم البعض الآخر جانب بنى عبد مناف تحكمهم فى ذلك بعض المصالح العصرية.

وعند ما ظهر هذا النزاع كان صاحب النفوذ فى أبناء عبد الدار هو عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار أما صاحب الكلمة النافذة والأمر فى أبناء عبد مناف فهو عبد شمس بن عبد مناف.

وبعد مناقشات ومجادلات ومحاورات بين رجال القبائل المختلفة التى التزمت جانبا من الجانبين ، قرروا إسناد مناصب السقاية والرفادة إلى بنى عبد مناف وتظل إدارة دار الندوة فى يد بنى عبد الدار وهكذا أسكتوا الجانبين وألزموهما بهذا الاتفاق وأجبروا الطرفين على توقيع معاهدة بهذا الأمر.

وبناء على هذا الاتفاق أعطيت مهمة السقاية والرفادة إلى أبناء بنى هاشم بن عبد مناف وبقية المناصب إلى بنى عبد الدار وقد أظهر كلا الطرفين رضاهما وموافقتهما على هذا الحكم ، إلى أن توصلوا إلى هذا الحكم والنتيجة كانت ست بطون من قريش قد اتفقت وتعاهدت على أن تحمى بنى عبد الدار من غدر بنى عبد مناف وأطلق على هؤلاء أحلاف قريش وهذه البطون الست هى : بنو عبد الدار وبنو عمرو بن هصيص بن كعب وبنو جمح عمرو بن هصيص ابن كعب وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو عدى بن كعب ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر. وقد سعى كل هؤلاء على أن يصطحبوا أحد أبناء عبد الدار وأن يكونوا عونا ونصرا لهم حتى لا يهزموا أمام بنى عبد مناف.

واتفقت قبائل بنى أسد بن عبد العزى بن قصى وبنو زهرة ابن كلاب وبنى تيم بن مرة بن كعب ، مع أبناء عبد شمس بن عبد مناف أما قبائل عامر بن لؤى ومحارب بن فهر فقد بقيت على الحياد ووقفوا موقف المتفرج انتظارا لما سينتهى إليه الأمر.

وأقسمت كل جماعة من الجماعات المتفقة على ألا يتخلوا أو ألا يتراجعوا عما أقسموا واتفقوا عليه.

وعقب ذلك أحضرت نساء عبد مناف إناءا مملوءا بالطيب الرطب ، وتركته أمام الجماعة الموجودة عند كعبة الله وتبعا لعادة الجاهلية غمس رجال الجماعة المتفقة أيديهم فى هذا الإناء ومسحوا أيديهم الملطخة بالطيب على جدران الكعبة المشرفة تأكيدا لقسمهم وأقسموا مرة أخرى على المحافظة على القرار الذى اتخذوه.

وكان قصدهم من هذا أن يؤكد كل فريق منهم للآخر ثباته على هذا فأقسم بشأن ذلك القرار المتفق عليه.

وعلى الرغم من حمل الفريقين المتفقين أسلحتهم بعد هذا القسم واستعدادهم للحرب ، إلا أن زعماء القبائل قرروا فيما بينهم التوسط بين أبناء عبد الدار وأبناء عبد مناف وأسفر هذا التوسط عن إجبارهم على قبول ما تم الاتفاق عليه. فانطفأت نار الحرب والقتال التى كادت أن تنشب بينهم بماء الصلح المقترح. وبهذه الصورة تم الحفاظ على الاتفاق الذى تم التوصل إليه حتى عصر النبوة. انتهى.

وكان لعبد مناف ابنان آخران غير عبد المطلب ، ونوفل وهما عبد شمس وهاشم ، وكان لكليهما نصيب فى مناصب الرفادة والسقاية بناء على قرار القبائل الست. وكان عبد شمس شديد الفقر مع كثرة العيال وكان أخوه هاشم من الأغنياء ، ولما كانت إدارة السقاية والرفادة من الأمور المرتبطة بالمال والثراء فقد أسندت كل منها إلى هاشم ، فتولى مهمتهما وفق هذا القرار.

واسم هاشم الأصلى هو عمرو ، وقد أطلقوا عليه هذا الاسم لأنه هو الذى ابتدع طعام الثريد فى مكة المكرمة.

وهاشم هذا هو الذى ابتدع تسيير القوافل إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا للتجارة ، وسارت قريش على نهجه فيما بعد لأن قريشا وإن كانت تشتغل بالتجارة قبل ذلك إلا أن تجارتهم كانت مقصورة على أطراف مكة فقط.

وحدث فى أثناء سفره إلى الشام أن علم القيصر حاكم الشام بأمر شرفه وحسبه وعلو قدره بين قومه فاستدعاه وأظهر له الشىء الكثير من الاحترام والاهتمام ، وفى خلال حديثه معه ألمح له أنهم يأتون بأمتعة الحجاز واليمن إلى الشام فى الصيف ولما كان هذا الأمر يتطلب رخصة تتضمن عهدا بالأمان فأعطاه

القيصر حاكم الشام هذه الرخصة رعاية لمكانته بين قومه وسمح له بأن يتردد رجال قريش على الشام للتجارة.

وبعد فترة قصيرة حصل أخوه عبد شمس من حاكم الحبشة على رخصة مماثلة ومطلب من حكام اليمن.

وكذلك حصل نوفل من حكام بلاد فارس على رخصة مماثلة وهكذا عودوا قريش على التجارة مع هذه البلاد ، وكان هذا نوع من الأصول والعقبات التى أزلها قصى عن طريق الإجازة.

وكانت قريش التى تسكن مكة ـ آنذاك ـ آمنة من غارات لصوص البدو الذين يغيرون على القبائل التى تسكن حول مكة لأنهم ينهبونها.

وكان الشعار الذى ترفعه قريش أمام اللصوص قولهم : نحن سكان حرم الله وأهل بيت الله الحرام ، إلا أن هذا الشعار كان يفيد عند ما يتجرءون على دخول مكة المكرمة ، لذا كانوا لا يتجرءون على الابتعاد عن مكة كثيرا وفيما بعد استطاعت قريش تحت حماية وظل أبناء عبد مناف أن تتمتع باستيراد البضائع وتصديرها إلى كل مكان.

وقد أحسن هاشم بن عبد مناف القيام بأداء المهام التى أسندت إليه بموجب قرار القبائل الست وذهب إلى الشام لغرض التجارة وفى أثناء وجوده فى ولاية غزة (١) انتقل إلى رحمة الله فانتقلت مناصب السقاية والرفادة التى كانت مسندة إليه إلى أخيه عبد المطلب أعظم وأكبر شخصية فى قريش حينئذ.

وبعد وفاة هاشم بفترة قصيرة مات أخوه عبد المطلب فى مكة ومات أخوه نوفل بن عبد مناف فى أثناء رحلة فى العراق وبذلك انتقلت أعباء إدارة المنصبين الجليلين إلى عبد المطلب جد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وولده عبد الله.

بلغ عبد المطلب من الشرف والجاه ما لم يبلغه آباؤه وأجداده ونال محبة الناس ، ولم يكن له من أبناء سوى الحارث ولهذا كنى بأبى الحارث.

وذات يوم قال ابن عمه عدى بن نوفل بن عبد مناف ليس لك أبناء سوى

__________________

(١) اسم بلد مشهور فى أرض فلسطين.

الحارث فإنك إذا تصورت أن تتولى رئاسة قبائل قريش لفترة طويلة ، فهذا الأمل واه وعبث بالنسبة لك. أما نحن فأبناؤنا وأتباعنا كثيرون ، وسيئول لنا ـ ذات يوم ـ زمام الرئاسة وهو أمر غنى عن التعريف أو التذكير به.

فأجابه عبد المطلب : أتخيفنى بسبب قلة أولادى؟ إن شاء الله سيكون لى من الأبناء عشرة ، وعندئذ أذبح أحدهم قربانا عند الكعبة ابتغاء مرضاة الله (١).

وحسب حكمة الله ، فبعد فترة نال عبد المطلب ما تمناه وبلغ عدد أبنائه عشرة كاملة وعندئذ جال بخاطره ما نذر وأقلقه هذا الخاطر طويلا وأطال التفكر فى هذا الموضوع ثم قرر أن يستدعى أبنائه ويشرح لهم الأمر وأخذ موافقتهم واحدا بعد الآخر ، ورأى أن يكتب أسماءهم كل على حدة على عشرة سهام من سهام القرعة ، ثم أخذ هذه السهام ، واصطحب أبناءه عند الصنم الكبير المسمى هبل داخل كعبة الله. وضرب القرعة لاستكشاف الطالع حسب العادة المتبعة فى الجاهلية ، وخرجت القرعة باسم عبد الله والد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحب أولاده إليه وأفضلهم ، ولم يأت هذا التفضيل والحب البشرى من الفراغ لأنه رأى فى المنام عدة مرات ما يبشر بأن هذا الابن سيكون له شأن كما رأى فى ولده هذا أشياء خارقة تدل على أنه سيكون والدا للجوهر النادر لسيد البشر ، ونتيجة لكل هذا فإنه كان يفضل ابنه ويقدمه على إخوته ، ويأمل بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سينجيه من الذبح ونروى واحدة من الخوارق التى جعلت عبد المطلب يأمل أن يكون ابنه أبا سيد البشر.

أفشى عبد الله ـ ذات يوم ـ سرا لأبيه حيث قال : يا والدى العظيم ، إننى متى أخرج من مكة وأصعد جبل ثبير وحيثما أجلس ، يظهر فى ظهرى شعاعان من نور لامع يتجه أحدهما وينتشر ناحية الشرق وينتشر الآخر ناحية الغرب ، وبعد فترة يتجمعان مثل السحاب الممطر الذى يسطع ويعلو نحو السماء ثم يعودان إلى ظهرى مرة أخرى ، ويتم كل هذا فى لحظة واحدة ، كما أننى أسمع فى الأماكن التى أجلس فيها هاتفا يقول : السلام عليك أيها المستودع فى ظهره نور محمد

__________________

(١) جرى هذا الحوار أثناء قيام عبد المطلب بحفر بئر زمزم ، وتفصيل هذه الواقعة مدون فى الصورة الخامسة من الوجهة الأولى أى فى قصة زمزم.

صلى الله عليه وسلم ، وإذا جلست تحت شجرة جافة ، إذا بها تخضر وتكتسب نضرة وعند ما أبرح المكان تعود الشجرة متلفة الساق إلى حالتها الأولى.

وهكذا كان ينقل لوالده ما رأى من الخوارق بعين بصيرته وبصره فقال له أبوه : يا بنى إننى أبشرك وأهنئك بحملك النور المحمدى ، وقد بشرت بهذا عدة مرات وكل الرؤى التى رأيتها قبلك ـ تدل على أنه سيولد من صلبك الشريف من سيزين القماط.

والواقع أنه كلما كان يتقرب من اللات والعزى وهى من أكابر أصنام قريش كانا يخاطبان عبد الله بصوت مشابه لصوته قائلين : أنت لا تحفل بنا ولا تعبدنا! إن النور الذى سيضئ الدنيا قريبا ذلك النور الذى فى ظهرك هو نور محمد عليه سلام الله الأحد ، وإن صاحب هذا النور سيحطمنا كما سيحطم كل الأصنام ويقضى علينا جميعا.

ولدلالة الأسباب الظاهرة السابق ذكرها أحب عبد المطلب ابنه عبد الله أكثر من بقية إخوته ولأجل ذلك كان يخاف عليه حتى من هبوب الرياح ومع ذلك كان يثق أيضا فى السهام التى بجانب هبل عند إجراء القرعة بالقدح (١).

وبناء على ذلك عند ما أصابت القرعة اسم عبد الله وقضت بذبحه راح الأب فى بحر عميق من التفكير ، وبعد ما أفاق من تفكيره قال : ما العمل؟ هكذا قدر الله ثم أخذ والد النبى ذا المكانة العالية إلى جوار الصنم الذى أطلقت عليه قريش اسم إساف (٢) وأرقده على الأرض. وبمجرد أن علم عباس الأخ الأكبر لعبد الله بما ينوى الأب لأخيه أسرع إليه ، وأدركه وسحب أخاه من تحت يدى والده عبد المطلب. وفى أثناء هذا جرح عبد الله فى وجهه ، وظل أثر هذا الجرح ظاهرا إلى أن توفى.

__________________

(١) القدح يطلق على السهم الذى بلا ريش. ويطلق على السهم السابع فى الميسر القدح المعلى ، ونصيب هذا السهم عند أهل الجاهلية يفوق أنصبة السهام الأخرى ، وكان أهل الجاهلية يلعبون القمار بهذه السهام ويتفاءلون بها ، ومن يريد معرفة مزيد من المعلومات حول كيفية لعب الميسر أو كيفية التفاؤل بها يمكن أن يتفضل بالرجوع إلى البحث الخاص بإجراء القرعة عند العرب.

(٢) كان هذا الصنم من قبل بجوار بئر زمزم.

مطالعة :

إن انتزاع حضرة العباس أخاه عبد الله من تحت قدمى عبد المطلب يقتضى أن يكون العباس أكبر من عبد الله ، وهذا من سهو الرواة لأنه وفقا للروايات الصحيحة أن عبد الله أكبر من أخيه العباس.

حيث إن عبد المطلب تزوج من هالة أم ابنه حمزة ـ رضى الله عنه ـ بعد أن وفى بنذره ، وبناء على هذا أن حمزة رضى الله عنه وأخاه العباس ـ من الأم ـ رضى الله عنه لم يكونا قد ولدا بعد حينما قرر عبد المطلب ذبح ابنه عبد الله (١).

وبناء على هذا يلزم أن يكون عبد الله أصغر أبناء أمه وليس أصغر أخوته جميعا.

ورغم أن ابن إسحاق قد أخطأ فى تأويل قول المرحوم البكائى الذى يعتبر من الأئمة الثقاة ، وذهب إلى ما يخالف الرواية السابقة ، فإن بعض أهل السير ردوا وخرجوا ما ذهب إليه ابن إسحاق ، وقالوا إن حمزة ـ رضى الله عنه ـ أصغر من عبد الله ، والعباس أصغر من حمزة ـ رضى الله عنهم جميعا ـ وأيدوا رأيهم بما قاله العباس : عند مولد خاتم الأنبياء ـ عليه وعليهم التحية ـ كنت قد بلغت الثالثة من عمرى ، وعند ما شاهدت وجهه المنير المبارك قالت لى النساء قبل وجه أخيك ، فتشرفت بتقبيل وجهه الكريم.

وقول سيدنا العباس هذا لم يترك أى شك فى أنه أصغر من عبد الله بن عبد المطلب ، ولهذا فإن قول المرحوم الإمام البكائى يحمل على أن عبد الله كان أصغر أبناء أمه عند ما حمل للذبح.

ورغم أنه لا حاجة إلى إطالة القول لإثبات هذا الأمر فما لا شك فيه أن سيدنا حمزة وأخاه العباس ـ رضى الله عنهما ـ قد ولدا بعد الوفاء بالنذر. وهو أمر ثابت بدلالة الروايات الصحيحة ، حيث إن عدد أبناء عبد المطلب كان اثنى عشر. انتهى.

__________________

(١) هذه الرواية تؤكد صحة ادعاء الرواة من أن أبناء عبد المطلب كانوا اثنى عشر ابنا.

ولما كان الموقف الصعب الذى بدر من عبد المطلب قد أثار قلق قريش ، واضطربوا وتوترت نفوسهم وقالوا : نحن غير راضين من هذا الأمر ، وعلينا أن نبحث عن حل حتى لا يصبح ما يريد أن يقوم به عبد المطلب عادة متبعة بيننا.

لذا استفسروا رأى الكاهنة سجاح (١) العاقلة والتى تقيم فى بلاد خيبر. وسجاح هذه كانت كاهنة لها صلة بطائفة الجن وفق اعتقاد أهل الجاهلية وتستعين بهم ؛ ولهذا فقد فهمت ما فى ضمير مبعوثى قريش ، وقالت لهم سأسأل الطائفة التى أتبعها فى هذا الأمر وسأخبركم بالجواب الذى سأتلقاه منها.

ورجع رجل قريش إلى محل إقامتهم وقد اعتراهم اليأس ثم رجعوا إلى سجاح مرة ثانية فى اليوم التالى.

وقد سألتهم سجاح فى هذه المرة قائلة : ما مقدار الرجل عندكم؟ فأجابوا عشر من الإبل ، فقالت لهم : أحضروا عشرا من الإبل واضربوا القداح على اسم عبد الله ، وعلى اسمها فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم ورجع وفد قريش إلى موطنهم.

تعريف الكهانة

كهنة : جمع كلمة كاهن وتعنى المشتغل بمعرفة الفأل أو الطالع.

كان من عادات أهل الجاهلية العمل وفق ما يقوله الكهنة وكان الكهنة يزعمون أنهم على صلة بالشياطين ، ويستقون منهم الأخبار المتنوعة ويخبرون بها من يلجأ إليهم. وقد ادعى بعض الكهنة أنهم يستخدمون خدما من طائفة الجن وأنهم يتلقون منها أخبار الغيب.

ولكن الآية الكريمة حسمت هذا الموضوع عند ما أخبرتنا (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (النمل : ٦٥) بمعنى أن الجن لا يمكنهم أن

__________________

(١) يروى كذلك أن اسمها قطية.

يطلعوا على الغيب ومن هنا كانت ادعاءات الكهنة فى هذا الأمر كاذبة ولا أساس لها.

ومن الكهنة الذين نالوا شهرة كبيرة بين كهان الجاهلية : سطيح ـ خطر ـ سجاح.

والذين اطلعوا على أحوال الكهنة فى الجاهلية أخبروا أن الكهانة أنواع مختلفة.

فمنهم من يأتى بسبع قطع من الحجارة ، ويضع على كل واحدة منها علامة ويطلق عليها اسما ويأخذ هذه القطع فى قبضة ثم يحركها ويتمتم ببعض الكلمات الخاصة به ، ثم يفتح قبضته وينظر إلى أوضاع الحجارة ، ثم يحكم إن كان ما يريده خيرا أم شرا (١).

ومن أنواع الكهانة أيضا الزجر ، العرافة ، الطيرة وهى تختلف من حيث الإجراء.

العرافة :

مثلا معناها الإخبار عن الغيب بواسطة الجن بالنظر إلى الأشياء الشفافة والبراقة ، كالنظر إلى كوب من الماء أو إلى قرص الشمس أو إلى الزجاج أو البللور ، حيث يرون فيها الجن ويستقون منها الأخبار ، وإن هذه الصنعة ما زالت موجودة فى أيامنا ، ويكسب المشتغلون بالخرافات أموالا طائلة.

الزجر والطيرة :

استقاء الأخبار عن كيفية طيران الطيور ، وعن أصواتها والاستدلال بها على وقوع الأمر.

كان أهل الجاهلية عند ما يسافرون أو يخرجون لرحلة صيد أو قنص يتفاءلون من ظهور ثور وحشى من جانبهم الأيمن ، ويحملونه على أنه خير لهم ، وإذا ما

__________________

(١) هذا النوع من قراءة الطالع أو الكهانة نوع من أنواع الكهانة التى عرفناها فى موضوع الأزلام.

ظهر هذا الحيوان من الجانب الأيسر يتشاءمون منه ، ويعتقدون أنه شر محض. وكانوا يراقبون محط الغربان ويتأملون صورة هبوطها على الأرض وكيفية صياحها. وإذا ما تحركت الغربان وفق ما يزعمون أنه خير يفرحون ، ويبتهجون أما إذا لم تحط الغربان فى الأماكن التى يريدون أن تحط فيها أو إذا لم يصح كما يريدون تشاءموا من طيرانها وتحركاتها وهبوطها هنا وهناك ويغضبون ويطردونها من محطها بإلقاء الحجارة عليها.

وقد ظهر كهنة قبل البعثة المحمدية وأخبروا بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدقوا واعترفوا بهذه النبوة.

حكاية :

مروية عن حضرة لهيب بن مالك (١) إذ قال : كان لقبيلتنا كاهن من أعلم كهنتها يدعى خطر فى ٣٨٠ من عمره ، وعلى رواية تاريخ خميس فى ١٨٠ سنة من عمره.

وقد اجتمعنا عنده يوما وقلنا له يا خطر أخبرنا بأشياء بواسطة علم النجوم وسنعمل وفق ما تنبئنا به وقال إذا ما أتيتم غدا سأخبركم عن الخير والشر ، وفى اليوم التالى ذهبنا إليه مجتمعين فى الفجر. فوجدناه فى هذه المرة واقفا منتصف القامة وقد فتح عينيه من الحيرة والدهشة ، وركزهما نحو السماء فكأنه فى حالة الاحتضار.

ولما رأيناه واقفا ساكنا لا يحرك رموش عينيه اعتقدنا أنه قد مات ، وناديناه قائلين : خطر ، وأخيرا أشار لنا أن نمسكه من جانبيه فأمسكناه. وبعد مدة سقط من السماء كوكب كبير كأنه طائر يحط على الأرض بخفة.

حينئذ صاح خطر صيحة عالية وأخذ يتحدث بشدة وجد قائلا : أصابه وجع عظيم قد عجز عن الإتيان بالأخبار ، وقد تشتت أفكاره المضطربة قد عاودته المشقة والصعوبة إلام ستنتهى حالته قد انقطعت حبال من كانوا يسترقون السمع وقد حزن.

وبعد ما وقف هادئا ساكنا فترة توجه نحونا وقال : يا أولاد بنى قحطان

__________________

(١) إن هذا الشخص من الأصحاب الكرام ومن قبيلة أزد التى تنتهى إلى لهب وقبيلة أزد من سكان اليمن.

سأخبركم بالحق والحقيقة أقسم بالكعبة الشريفة ذات الأركان الأربعة. أقسم بالبلدة المباركة التى يسكنها المؤمنون قد منع المستمعون من الجن عجزوا عن الاستماع إلى الأخبار ؛ وذلك بسبب بعثة نبى ذا شأن ورفعة وكأنه فى لمعانه نجم ثاقب ، وقد بعث للإنس والجن. إن هذا النبى السعيد قد بعث مؤيدا بالفرقان والقرآن وأبطل عبادة الأوثان. وقد حدثنا بعبارات مسجعة ما يفيد المعانى السابقة وهكذا تركنا فى ذهول وخبره بهذه الأقوال.

وقلنا لخطر يا خطر إننا لنأسف على كهانتك إنك لتخبرنا بشىء عجيب ... والمنتظر منك أن ترحم قومك الذين يتبعونك وتراعى جانبهم. فأجاب خطر إننى أحب قومى أكثر من نفسى لذلك سأدفعهم إلى تبعية نبى عظيم الشأن هو أعظم الأنبياء جميعا وأفضلهم ودليل عظمته ظاهر مثل شعاع الشمس ، وقد بعث فى مكة ويدعو إلى أداء صلوات خمس وإنه تنزل عليه من قبل الله آيات بينات.

فاستوضحوا الأمر قائلين : يا خطر من هذا الشخص النبيل الذى تعرفه وتصفه لنا؟ فتحدث خطر قائلا : إنه ينتمى إلى قبيلة قريش السعيدة ، ويعيش بين أفرادها لا خفة فى حلمه ، وأنه لا يظهر بعض كلامه ويخفى الآخر وخلقه خال من الفساد والخلل ، وإن ذاته الشريفة السعيدة تنتمى إلى آل قحطان وآل ديش بن الهون ، وينتهى نسبه إلى قبيلة خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وقد أجاب خطر على تساؤلاتنا التى طلبنا فيها أن يبين لنا القبيلة التى ينتمى إليها من قبائل قريش ، قال إنه من آل هاشم بن عبد مناف ، ومن أكارم أهل مكة المعظمة وقد بعث لغزو المشركين وقتل الملحدين ، وأضاف خطر قائلا بما أن هذا الكلام أخبر به رئيس الجان نفسه فهو صحيح تماما ، وغاب عن الوعى قائلا الله أكبر قد ظهر الحق وانقطعت ألا عيب الجن وأفاق بعد ثلاثة أيام.

وقبل الإسلام إذ قال لا إله إلا الله وأغرانا وحثنا على قبول الدين المحمدى المبين. وقد قص لهيب بن مالك هذه الحكاية الغريبة بالتفصيل على أحبائه ، ثم عرض ما جرى على نبى الإنس والجان ـ عليه وعلى آله صلوات الله المنان ـ فتفضل نبينا صادق القول قائلا : «سبحان الله قد نطق صدقا إن هذا الشخص سيبعث يوم القيامة أمة وحده» (١).

__________________

(١) الخبر فى ترجمة لهيب فى الإصابة ٦ / ٩ ـ ١٠.

وقد ثبت من هذه الحكاية إلى درجة ما شأن قراءة الطالع فى الجاهلية ، وأحوالهم فى مد الناس بالأخبار واستراق الشياطين السمع لمعرفة الأخبار من السماء.

وفى الواقع أن مردة الشياطين كانوا يسترقون السمع فى السماء لمعرفة الأحداث إلى زمن ولادة عيسى ـ على نبينا وعليه السلام ـ ويلقون بالأخبار إلى قلوب الكهنة. وقد انقطعت ثلث الأخبار التى تأتى بواسطة استراق الشياطين السمع فى السماء فى زمن عيسى ـ عليه السلام ـ وانقطع ثلثاها الباقيان بولادة نبينا الذى بعث رحمة للعالمين وهكذا لم يبق أثر من استراق السمع ، ولم يبق مجال لأخبار الكهنة.

وقد عرف عبد المطلب بالطريقة التى أوجدت بها سجاح فى إجراء القرعة ، واتبع عبد المطلب الطريقة كأنها دستور مكتوب ، وضرب القرعة فخرجت تسع مرات واحدة تلو الأخرى على عبد الله وأصابت فى المرة العاشرة اسم الإبل ، ولما كان عدد الإبل الذى تجرى عليه القرعة قد بلغ المائة ناقة قالت قريش : يا عبد المطلب إذا ذبحت هذه النوق المائة قربانا تكون قد أوفيت بنذرك ، وأديت حق الله وأخبروه بما وصفت به سجاح.

ولكن عبد المطلب لم يلق سمعا إلى قول سجاح ولا إلى أقوال قريش ، وقال : لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات فضرب فخرج القدح على الإبل فى المرات الثلاث.

ولما رأى عبد المطلب ذلك قام فذبح مائة من الإبل ووزع لحمها على أهل مكة طلبا لرضاء الله ، وأفهم الناس أن دية الرجل بين العرب ستكون مائة من الإبل بمقتضى ما حدث.

قد ظل حكم عبد المطلب هذا مرعيا إلى ظهور نور النبوة ، وقد أبقى صاحب الشريعة ـ عليه أكمل التحية ـ هذا الحكم نافذا بحيث تكون دية الرجل مائة من الإبل.

الصورة التاسعة

فى تفصيل كيفية بناء الكعبة المعظمة للمرة الثامنة

قد حدث هذا التعمير والبناء بعد بناء إبراهيم عليه السلام ب (٢٤١٩) سنة ، أو على رواية أخرى بعد (١٧٠٣) سنة.

وكان بانى بناء الشريعة ـ عليه السلام ـ فى ذلك الوقت قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره السعيد ، وكان بيت العزة الذى بناه إبراهيم ـ عليه السلام ـ قائما بعينه.

وقال المؤرخون متبعين الإمام مجاهد : إن هذا الحادث كان قبل البعثة النبوية بخمسة عشر عاما ، والذين اتبعوا (١) ابن إسحاق قالوا إن البناء كان قبل البعثة النبوية بخمس سنوات (٢).

ـ فتوى :

قد أدرجنا صورة من فتوى رضا أفندى والذى يؤيد قول ابن إسحاق فى هذا الموضع لما عهدنا فى فتواه من صراحة متبركا بها.

ـ صورة الفتوى الشريفة :

إذا تفرق أهالى حى أحد المساجد وخلا من المصلين فهل يجوز لورثة الواقف أن يمتلكوه؟

الجواب : لا يجوز ذلك.

لأن الكعبة المعظمة فى فترة الخلو من الرسل ـ امتلأت أطرافها بالأصنام

__________________

(١) ابن إسحاق هو التابعى المشهور صاحب المغازى والسير وبحر العلوم والخبر محمد بن إسحاق بن أبى بكر ، وقد تلاقى بالإمام على وأسامة ومغيرة بن شعبة وتوفى سنة ١٥١ ه‍.

(٢) ورأى ابن إسحاق أيضا ـ بلوغ النبى صلى الله عليه وسلم ـ الخامسة والثلاثين من عمره السعيد.

وخربت ، فلم تنتقل إلى ورثة آخرين. وعلى هذا من بانى الكعبة المشرفة وواقفها؟

الجواب : إن الكعبة الشريفة شرفها الله ، قد جدد بنناءها خمس مرات إلى الآن ، كما أنها عمرت بتجديد حوائطها.

أولا : بناها الملائكة بأمر الله ـ سبحانه وتعالى.

ثانيا : بناها حضرة إبراهيم عليه السلام.

ثالثا : قد بنيت فى الجاهلية على ستة أعمدة بعد هدمها وإخراج حجر إسماعيل من البيت من قريش.

وكان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الخامسة والثلاثين من عمره السعيد. واشترك فى بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود فى مكانه بيديه الشريفتين.

وفى المرة الرابعة بناها عبد الله بن الزبير إذ احترقت الكعبة فى «عهد يزيد اللئيم» ـ فهدمها عبد الله وبناها وفق رسم إبراهيم ـ عليه السلام ـ وعلى أساسه وأدخل حجر إسماعيل داخل البيت وفى المرة الخامسة جدد بناءها فى ٧٤ هجرية إذ اقتلع بناء ابن الزبير وأعيدت إلى سابق عهدها بأن أخرج حجر إسماعيل من الكعبة الشريفة ، وفى سنة ألف وتسع وثلاثين وفى عهد السلطان مراد الرابع قد جددت جدرانها وعمرت بيد قاضى مكة المكرمة السيد محمد الأنقروى. وقد صرح فى صدر الشريعة أن واقف البيت هو حضرة إبراهيم ـ عليه السلام.

إخطار :

لم يذكر المرحوم رضا أفندى فى فتواه بناء وتعمير البيت فى عهد آدم عليه السلام وأولاده وعهود العمالقة والجراهمة وقصى بن كلاب ، لأنه تفادى التطويل فى الكلام وإلا فمن المحقق أن البيت الشريف قد جدد إحدى عشرة مرة.

وقال الشيخ محمد صالح فى كتابه البليغ «سبل الهدى والرشاد فى هدى خير العباد» وهو يتحدث عن تجديد البيت المعظم للمرة الثامنة : بينما كانت سيدة من

سيدات قريش تبخر داخل كعبة الله المملوءة بالفيض الإلهى ومعها مجمرة خاصة ، فجأة احترق ملبسها بشرارة انتشرت من المجمرة. وسرت النار التى حرقت ملبسها إلى جدران الكعبة وستائرها وسقفها فأحرقت جدران الكعبة وخربت حوائطها ثم حدث سيل عظيم ، وهدم السد الذى أقيم أمام ممر السيل ومجراه وخربه ، واتجه نحو داخل كعبة الله وأضرت المياه أسس الجدران السهلة الانهيار.

وقرر زعماء قريش بعد هذا الحادث الأليم أن يجددوا بيت الله (١) مسقفا وأن يراعوا فى صنع باب معلا لبيت الله المعظم يراعى فيه والمتانة والعلو عن الأرض مقدرين ما قد يحدث من السيول وألا يسمحوا بالدخول فى داخل كعبة الله لكل من هب ودب وأخذوا يجتمعون من حين لآخر لمذاكرة هذه الأمور إلا أن الاجتماعات كانت تنفض دون أن يعلنوا ما وصلوا إليه من نتائج وذلك لعدم وجود الأشياء اللازمة لتعمير البيت ولضيق ذات أيديهم.

وفى أثناء ذلك عرفوا أن سفينة كبيرة قد جنحت أمام جدة ، وأنها تحمل كثيرا من الأخشاب وأنواع الرخام واللوازم الحديدية الأخرى. كما عرفوا أن ربان السفينة بارع فى فن العمارة والبناء لذا بعثوا بوليد بن المغيرة ومعه بعض النجارين البارعين فى حرفتهم حتى يطلعوا على صلاحية الأشياء المذكورة للبناء.

واستطاع الوليد بن المغيرة أن يقابل الربان سالف الذكر ويشترى منه حمولة السفينة بثمن بخس ثم فاتحه فى أن هذه الأشياء من أجل بناء كعبة الله المقدسة وأنها ستستعمل فى أعمال البناء والعمارة. وهكذا حمل معه الأشياء المشتراة وفى رفقته الربان المذكور ووصل إلى مكة.

وبناء على ما ينقله المؤرخون فإن هذه السفينة كانت قد حملت من قبل قيصر الروم وأرسلت لبناء وتعمير كنيسة فى الحبشة أحرقتها قبيلة قريش أو أحرقتها طائفة من بلاد الفرس ، وعين ربانها للقيام بترميم وتعمير خرائب الكنيسة.

__________________

(١) حتى ذلك الوقت لم يكن هناك سقف للكعبة المعظمة ومن ثم كانت الهدايا الثمينة المحفوظة فى خزينة بيت الله تتعرض للسرقة.

وبناء على الحكمة القائلة «إذا أراد الله شيئا هيأ أسبابه» فالسفينة قد تعرضت لعاصفة شديدة وجنحت على اليابسة فى مياه جدة وهكذا وقعت فى يد العربان لتكون سببا فى عمارة كعبة الله.

ولما وصل الربان المذكور إلى مكة المكرمة تفقد مع نجار من أصل قبطى كلفته قريش بمصاحبته فى بناء الكعبة المعظمة ، وابتدئ فى هدم بناء البيت الشريف حتى يستطيع أن يسقفه وتخلى الأهالى عن فكرتهم فى عدم السماح بهدم البيت.

ـ ظهور حية كبيرة فوق الكعبة :

من الأحداث الغريبة أن حية عظيمة الجثة صعدت فوق مخزن الهدايا الذى حفره سيدنا إبراهيم ، وكانت الحية تصعد فوق جدران كعبة الله وتظل هناك منحنية الرأس للشمس ، والذين يرون هذه الحية يخافون من شكلها المرعب ويعتقدون أنها من حراس البيت.

وكان جسم الحية لامعا متلألأ ترسل أشعة إلى الأطراف كألسنة النار ، وكانت تخيف من يحاول الاقتراب منها بفتح فمها المخيف وإخراج أصوات مفزعة.

وكانت الحية بيضاء الجسم وكان رأسها فى حجم جدى وزيلها أسود كسواد الغراب وكانت كبيرة الحجم مهيبة المنظر ، وكانت تمنع الخونة والمتسلطين عند الاقتراب من الكعبة المعظمة.

وفى يوم من الأيام حينما كانت الحية فوق جدران الكعبة كعادتها ظهر طائر جسمه أكبر من العقاب ، وانقض على هذه الحية الضخمة وأخذها بين براثنه وطار بها إلى ناحية الشرق وتركها فوق جبل «حجون».

والمؤرخون الذين قصوا سبب ظهور هذه الحية قالوا : إن المخزن الذى حفره إبراهيم ـ عليه السلام ـ وسماه (أخسف) ليحفظ فيها الهدايا التى قد ترد من أنحاء مختلفة لبيت الله الأعظم لم يكن للكعبة فى ذلك الوقت سقف وكانوا يقدمون الهدايا إلى كعبة الله من الذهب والمجوهرات المرصعة وأشياء قيمة وكانت هذه طريقتهم فى التقرب من الله وإظهار الود لإبراهيم عليه السلام.

وبعد مضى الوقت امتلأ المخزن وجوف الكعبة المنير بالهدايا مما دفع بعض السفلة من الناس إلى مد يدهم لسرقة أشياء من هدايا الكعبة عند ما كانت تسنح لهم الفرصة وعند ما ضبط بعضهم متلبسين بالسرقة قطعت أيديهم ليكونوا عبرة للآخرين. وسقط بعضهم وهلكوا وهم يمدون أيديهم ليسرقوا الأشياء المحفوظة.

بينما ضل أقوام الجراهمة فى مكة المعظمة ورفضوا الاستماع إلى نصائح «مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض» مقتدين بشقى يسمى «مجدع» اتبع أحد التعساء إغواء نفسه ونزل فى داخل الخزانة المذكورة ليسرق الأشياء المحفوظة فيها ولحكمة ما انهارت جهات الخزينة الأربعة فجأة وهلك الشقى تحت الأنقاض.

وفى رواية أخرى أن الشخص الذى دخل كعبة الله كان معه أربعة من رفقائه وأن كل واحد منهم وقف فى ركن من أركان البيت المحترم وحملوه على أكتافهم وأنزلوه فى داخل كعبة الله وكان غرضهم أن يسرقوا الأشياء الثمينة التى فى داخل الكعبة ، بأن يناول كل واحد منهم الآخر الأشياء المسروقة إلا أن الشخص الذى رفع إلى أعلى جدران الكعبة زلقت رجله ووقع على أرض المطاف ومات ، أما رفقاؤه فهربوا حتى لا يقعوا فى أيدى السلطة.

وبناء على ذلك خلقت تلك الحية التى سبق ذكرها وظلت تحرس وتحفظ خزينة كعبة الله ما يقرب من خمسمائة سنة وكانت تتراءى فوق جدران الكعبة كما سبق توضيحه وتثير الخوف والدهشة فى الأطراف.

وحينما رأى أهل مكة هلاك الحية بهذه الصورة اعتبروا هذا إيذانا من قبل الله بعمارة الكعبة وسروا بذلك وابتدروا فى هدم بنائها.

وبينما كان القرشيون مشغولين بهدم الجدران ضرب أبو وهب عمرو بن عائذ بن مخزوم ـ خال والد مجدد بنيان الشريعة رصينة الأركان عليه أقوى التحية ـ على حجارة بفأسه وأخذ قطعة منها.

إلا أن تلك القطعة طارت من يد عائذ وعادت إلى مكانها القديم ، وقال عائذ لعظماء قبيلته وقد اهتز وخاف من وثوب قطعة الحجر طائرة من يده إلى مكانها

القديم قائلا : يا معشر قريش يجب أن نتجنب إعمار البيت من مال الربا والفواحش والأموال المشكوك فيها والتى جمعت بالظلم ويجب أن نحرص فى بناء بيت الله على إنفاق المال الحلال.

وأراد بهذا أن يبين لأهل مكة أن إعمار بيت الله يجب أن يتم بالمال الحلال ، وبناء على هذا جمع أهل مكة للمرة الثانية ما استطاعوا جمعه من المال الحلال ، وسلموه إلى اللجنة التى تشكلت للاهتمام ببناء وتجديد بيت الله.

ولكن مع هذا لم يكونوا واثقين من مدى حلّيّة النقود التى جمعوها أول مرة والتى أنفقت فى سبيل تجديد بيت الله ، لذا خافوا من نزول المصيبة بهم إذا شرعوا فى هدم بيت الله وترددوا كثيرا ، وفى النهاية خاطبهم وليد بن المغيرة قائلا : يا قبائل قريش إذا كنتم فعلا تنوون إصلاح كعبة الله فالله لا يهلك المصلحين. ثم أخذ فأسا وأخذ يهدم بمفرده جدران بيت الله. ومع ذلك لم يتجرأ أحد من قريش على المشاركة فى هدم البيت وظلوا ينتظرون ما سوف يحل وليد ، ولما رأوا أن وليد قد نجا من أى ضرر اتفقوا جميعا على هدم البناء وفى ختام الهدم اقتسموا بناء البيت ، بناء على رأى عائذ وتعهد بنو عبد مناف مع بنى زهرة ببناء الجهة التى يوجد فيها باب الكعبة العالى كما تعهد بنو مخزوم وبنو تميم وبعض القرشيين ببناء ما بين الركنين الشرقى واليمانى (١) وبنو عبد الدار بن قصى وبنو أسد ابن عبد العزى بن قصى وبنو عدى بن كعب بن لؤى الجهة التى فيها الميزاب الذهبى ، وبنو جمح مع بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى جهة ظهر الكعبة ، وشغل بعضهم بنقل الحجارة من جبل الكعبة (٢) وحرص الآخرون على هدم البناء.

ولما هدموا جدران البناء المقدس بحثا عن الأساس الإبراهيمى ظهر حجر

__________________

(١) قد بنى هذا الركن غلام سعيد بن العاص الذى يسمى باقوم ، ولما كان المذكور من أقباط اليمن المهرة فى فن العمارة لذا أطلق على هذا الركن الركن اليمانى.

(٢) جبل الكعبة فى حي الشبيكة بقرب مدفن الشيخ محمود بن إبراهيم بن أدهم ، وفى مكان مقابل لجبل أجياد. وكلما يقتضى الأمر تعمير كعبة الله وترميمها تؤخذ الحجارة اللازمة لها من هذا الجبل.

أخضر كعلامة (١) للأساس القديم ، ولما أرادوا أن ينتزعوا ذلك الحجر الأخضر برقت نار عظيمة (٢) هزت أرض مكة ، فخافوا من تعميق الأساس أكثر من ذلك ، وبنوا أسس الجدران فوق ذلك الحجر الأخضر ، ووجدوا تحت الحجر الأسود الكائن فى الركن الشرقى ورقة كتب عليها باللغة السريانية ، وبحثوا عن واحد من طائفة اليهود ليقرأها.

وكان مفاد تلك الورقة الآتى :

أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض ، وصورت الشمس والقمر وحفظتها (٣) بسبعة أفلاك (٤) حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى الماء واللبن.

يقول البعض أن ورقة أخرى وجدت فى مقام إبراهيم وقد كتبت عليها الآية الكريمة : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (البقرة : ١٩٧).

والعبارة البديعة الآتية : مكة بيت الله الحرام ، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل ، لا يحل لها رجل من أهلها.

وأيد هذا المعنى الشامل ما قاله النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى يوم فتح مكة بما أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حرم مكة المكرمة فلا يجوز لأحد من قبلى ولا من بعدى أن يحلها إلا أنها قد أحلت لى ساعة من نهار.

ولما ارتفعت جدران كعبة الله من جوانبها الأربعة وحان وقت وضع الحجر الأسود فى مكانه ظهر نزاع شديد بين القبائل ، وصاح أفراد كل قبيلة قائلين نحن سنضع الحجر الأسود فى مكانه ، وأخذ النزاع صورا مختلفة من الحوار والمناقشة

__________________

(١) أن الحجارة التى أسس بها إبراهيم ـ عليه السلام ـ الكعبة خضراء اللون مثل الزمرد ولمعته وفى شكل وحجم سنام الجمل.

(٢) إن هذه الشعلة قد برقت من تحت الحجر الأخضر المسمى حجر إسماعيل ، وقد اهتزت من شدة اشتعالها جميع بيوت مكة المكرمة.

(٣) كتب فى نسخة أخرى «حففتها».

(٤) سقطت كلمة أفلاك فى نسخة أخرى.

والمشاجرة حتى أطلق على قبائل (بنى عبد الدار ، بنى عدى ، بنى مخزوم ، بنى سهم ، بنى جمح) لقب لعقة الدم.

واستمر الخصام بين القبائل فى هذه المشكلة خمسة أيام ، ولكن أبا أمية بن المغيرة (١) وكان أكبر المعمرين فى قريش كلها ومن حكماء قومه ، جمع عقلاء القبائل واقترح عليهم بأن يحكموا فى هذا الموضوع أول الداخلين من باب الصفا وعلى قول من باب بنى شيبة ، فى وقت محدد يعينونه ووافق على هذا الاقتراح عقلاء القبائل.

وقد حاز هذا الاقتراح حسن القبول لدى القبائل الأخرى أيضا ، وحدد الميعاد وجلس القوم وعيونهم صوب الباب ينتظرون ، وكان أول من دخل فخر العالم وسبب راحة الأمم صلى الله عليه وسلم.

وفرح المترصدون بقدوم سلطان الرسل الموسوم باليمن ورطبوا ألسنتهم بذكره إذ قالوا هذا محمد الأمين رضينا به ثم قالوا له : إننا أقسمنا على أن يكون أول الداخلين حكما لفض النزاع بين القبائل ، وبما أنك كنت أول الداخلين سنقبل رأيك الخاص لحل هذا الخلاف. وبهذه الطريقة نقلوا للذات النبوية العالية خلاصة ما حدث بين القبائل.

وبما أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان معروفا بين القبائل بالصدق والاستقامة كانت قريش تحيل إليه حل ما عجزوا عن حله من القضايا.

ولما استقر منشأ النزاع فى ضمير النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفهمه جيدا وضع الحجر الأسود فى داخل ثوب (٢) وجعل رؤساء القبائل الأربع العظيمة يمسك كلا ركنا من أركانه وهم :

عتبة بن ربيعة ، زمعة أبو حذيفة بن المغيرة ، وقيس ابن عدى ثم حمل الحجر

__________________

(١) وكان أبو أمية مشهورا بين قومه بفرط الكرم والجود حتى أنه كان يكفى زاد أصحابه فى الرحلات ، لذا أطلق عليه لقب زاد الركب.

(٢) يروى عن ثقة أن هذا الثوب كان جبة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الشريف ووضعه فوق الثوب فرفعوه جميعا حتى إذا بلغ موضعه وضعه بيده الشريفة ، وهكذا أرضى صناديد القبائل وأسكنهم.

وكانت قريش عند ما شرعت فى هدم كعبة الله أخرجت الصنم الكبير هبل من خزانة بيت الله حيث كان ركزه عمرو بن لحى ابن قمعة ، ونقله إلى مكان قريب من مقام إبراهيم ونصبته هناك وفى أثناء إتمام عمليات البناء نقلوا هبل من حيث كان منصوبا إلى مكانه القديم فى الخزانة التى فى داخل بيت الله ، ونصبوه هناك ثم أخذوا يرسمون فوق جدران الكعبة المعظمة فى الداخل والخارج صورا كبيرة ، وكان بينها صور الأنبياء العظام والملائكة الكرام.

إن فاتح أقاليم الرسالة عليه أقوى التحية قد محا وأزال ما كان منصوبا فى داخل الكعبة أو خارجها من الأصنام والأوثان ، وما كان على جدرانها من الصور كلها يوم الفتح الميمون ، وأمر بإزالة صورتى إسماعيل وإبراهيم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ اللتين كانتا مرسومتين فوق طلاء الكعبة فى الداخل.

وكان المشار إليهما مصورين وهما يمسكان فى أيديهما أزلام الميسر. ولما كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرف أن إبراهيم وابنه إسماعيل لا يمارسان الميسر ، دعا على قريش التى صورتهما بهذا الشكل إذ قال «قاتلهم الله». ثم أمر بأن يوضع هبل وهو عبارة عن حجر كبير ـ خارج باب السلام.

ويروى أن أجزاءه المنكسرة أصبحت موطأ القدم فى عتبة باب السلام.

إننى قد رأيت هذه العتبة ودست عليها. ولم يبق له ما يشبه الصورة أو الوجه لذا أتردد فى قبول هذه الرواية ؛ لأن الصنم المسمى ب «هبل» كان منحوتا من العقيق الأحمر كما سبق ذكره فى بحث كيفية دخول الأصنام فى أرض الحجاز ، وكانت يده اليمنى مقطوعة عند ما أحضره عمرو بن لحى من أرض الشام لذا ركب له أهل مكة يدا من ذهب خالص.

صور الأنبياء وقصص مثيرة للعجب والحيرة

كان علماء عبدة الأصنام يهتمون بصنع تماثيل الأنبياء على أكمل وجه

ويحفظونها ويتوارثونها جيلا بعد جيل. ويعتقدون أن هذه الصور تطابق أشكال وشمائل الأنبياء تمام المطابقة.

وبناء على زعم هؤلاء العلماء واعتقادهم أن الصور الموجودة فى خزائنهم قد حصل عليها النبى دانيال بواسطة ذى القرنين ورسم وصور كل واحدة منها على حدة.

قد وجد ذو القرنين هذه الصور فى مغارة من أرض المغرب ، ثم صرها بخرقة (١) حريرية ثم حفظها ، وانتقلت تلك الصرة إلى يد النبى دانيال ـ عليه سلام الله المتعال ـ فنقل صور الأنبياء إلى ألواح متعددة فتكاثر عددها.

وقد يصدق ـ إلى درجة ما ـ تطابق الصور القديمة التى توارثها الملوك ، صور الأنبياء وشمائلهم ، إلا أن الصور التى رسمها القرشيون على طلاء داخل بيت الله لا يمكن أن تطابق شمائل الأنبياء والملائكة.

قد انتقلت عادة توارث صور الأنبياء فيما بعد إلى سلوك عبدة الأوثان ، وتعود كل واحد منهم أن يحفظ هذه التصاوير فى خزانة ولا يريها لأحد.

تأمل الحكاية الآتى ذكرها عن الصور التى توارثها قياصرة (٢) الروم وكانت لصورة الهيكل النورانى المحمدى وصورتى الشيخين المكرمين.

قال دحية بن خليفة الكلبى حامل الرسالة النبوية السابقة إلى هرقل (٣) الرومى ، كما هو مسطور فى السيرة النبوية ذات الرائحة البنفسجية : عند ما حملت الرسالة النبوية الداعية للهداية وجدت قيصر الروم فى دمشق ، وانتهزت وقت خلوه من المشاغل واعتدال مزاجه وأتيت برسالتى.

وتلقى هرقل الرسالة النبوية السعيدة بتعظيم فوق العادة وتوقير شديد ، وقبل

__________________

(١) تطلق خرقة على قطعة قماش.

(٢) يطلق لقب القياصرة على ملوك الروم وهى جمع كلمة قيصر. ومعنى القيصر مشقوق ، قد ماتت أم القيصر الأول وهى حامل وأخذ الطفل بعد شق بطنها ، وبعد جلوسه على العرش أطلق على ملوك الروم لقب قيصر.

(٣) اسم ملك الروم المعاصر للنبى صلى الله عليه وسلم.

الخاتم الذى فوقها. ثم فتحها وقرأها ووضعها فوق كرسى بجانبه ، وكان هذا الكرسى خاصا لوضع الكتب المقدسة.

ثم استدعى البطارقة وعلماء النصارى وجمعهم ، ثم صعد فوق كرسى لإلقاء خطبة ـ وفق آداب تلك العصور ـ وألقى مقدمة مثيرة مشوقة أجبرت الحاضرين للاستماع ثم قال : يا بطارقة النصارى إن هذه الرسالة الشريفة التى زينت يدى ونالت احترامى رسالة من قبل نبى آخر الزمان ومن أحفاد إسماعيل الذى بشرنا بظهوره المسيح ـ عليه السلام ـ وأتى فى كلامه بكثير من الأقوال التى تصف ما يتحلى به نبينا من المكارم الأخلاقية.

إن أقوال هرقل كانت ذات تأثير سيئ على الحاضرين ، إذ قام البطارقة من أماكنهم معترضين بتهور ، وتجرءوا على السير نحو ملكهم هاجمين ، فلما رأى هرقل أن البطارقة غير مستعدين للاعتراف بنبوة محمد والتصديق بها ، أراد أن يسكن غضبهم وتخلى عن الحمد والثناء وقال : لا ، لا إنما أردت بهذا الكلام التأكد من مدى تمسككم بدين عيسى ومدى ثبات عقيدتكم فيه.

إننى لا أريد أن أصدق بمحمد ، كما أننى لا أحثكم على قبول الإسلام دينا ، وإننى قد سررت إذ رأيت مدى صلابة عقيدتكم. الرجل الحق يجب أن يثبت فى دينه مثلكم .. إننى أحبكم.

وهكذا أسكن غضهم وفى اليوم الثانى أدخلنى فى حجرة خالية ووجه إلى أسئلة وتلقى إجابة ، ثم أدخلنى فى حجرة واسعة مزينة.

وكانت هذه الحجرة بيت الأصنام ، وتحتوى على ٣١ قطعة من التصاوير وأشار هرقل لهذه الصور وقال : لأى صورة من هذه الصور يشبه نبيكم؟

وبينما أجيل النظر فى الصورة جذبت نظرى صورة تشبه أجمل الأنبياء فقلت إن هذه الصورة تشبه نبى الإنس والجن ، وكانت هذه الصورة قد رسمت بشكل كأنها توجه خطابا لشخص ما فازددت عجبا لذلك. ثم أشار هرقل إلى صورة منصوبة على يمين الصورة السابقة ، وسألنى : هيكل من هذا؟ فقلت إنه رجل من

أمة محمد ويطلق عليه أبو بكر ؛ لأن الصورة كأنها نفس أبى بكر. ثم أشار إلى الهيكل القائم على الجهة اليسرى من الصورة التى تشبه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسألنى هيكل من هذا؟ فأجبته لا بد أنها صورة رجل شهير يسمى عمر بن الخطاب ؛ لأنها كانت تشبهه شبها كبيرا وكأنها ذاته.

ثم قال لى هرقل : بعد أن تلقى منى الإجابات السابقة إنه قد ذكر فى الإنجيل أن الإسلام سيبلغ كماله بمعاونة هذين الرجلين. وقال : جاء فى الإنجيل أن الناقص من الدين سيبلغ حد الكمال بمعاونة المشار إليهما. وقد أعادنى معززا إلى المدينة دار السكينة.

وبعد فترة مثلت أمام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكيت ما رأيته من هرقل الرومى ، فقال حضرة النبى الصادق القول :

«لقد قال هرقل الصدق فالله سيعز الإسلام بأبى بكر وعمر ، وسيوفقهما فى الحصول على الفتوحات العظيمة».

ـ حكاية :

كان الحكيم بن حزام (١) إذا اجتمع فى مجلس من المجالس مع قومه ، وانتقل الحديث لذكر هرقل كان يقول : قبل أن أتشرف بالإسلام ، ذهبت إلى الشام فى تجارة ، ولم يكن سلطان الأنبياء ـ عليه أعظم التحية ـ قد هاجر بعد إلى المدينة المنورة ، وكان بصحبتى «أمية بن الصلت بن عبد الله بن ربيعة» وهو من الطائف ، وعند ما علم هرقل أننا من أهل مكة استدعانا وقال : من أى قبيلة أنتما؟ وهل لكم صلة قرابة بمحمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب دعوة النبوة؟

فأجبته : نحن من قريش ، ومحمد الأمين من أبناء عمومتنا ويتصل نسبنا به فى

__________________

(١) حكيم بن حزام ابن أخى سيدتنا خديجة الكبرى رضى الله عنها ، وقد ولد داخل الكعبة قبل واقعة الفيل بثلاثة عشر عاما ، وقد أمضى نصف عمره فى الإسلام والنصف الآخر فى الجاهلية ، وعاش عشرين ومائة عام حيث توفى فى العام الستين من الهجرة فى المدينة المنورة. ويروى أن سيدنا على أيضا ولد داخل الكعبة المشرفة ولكن هذه الرواية لا أصل لها. انظر : الإصابة ٢ / ٣٢.

الدرجة الخامسة. فقال هرقل : أتجيبوننى عما أسألكم عنه فيما يتعلق بهذا الرجل بدون خلاف؟ وهل أنتم ممن يصدقونه ويؤمنون بدعوته لله؟ فأجبته عن سؤاله الثانى وقلت : ونحن ممن يرفضونه ويرفضون أحكام دينه ودعوته.

لكننا لن نكذب فى حضورك وسنجيبك بصدق على كل ما تسأل عنه ، وأقسمت بآلهتنا بأننى سأقول الصدق.

وسأل هرقل عن أحكام الشريعة المحمدية الغراء ، فلما أجبناه إجابة واحدة لا خلاف فيها ، قام من مكانه ، وسار إلى الأمام وذهبنا معه كذلك. وكان بداخل قصره كنيسة مزينة فأمر بفتح بابها ، واصطحبنا معه لداخلها.

وكانت هذه الكنيسة حجرة ملكية فخمة لا نظير لها ، ويوجد فى وسطها صنم كبير مغطى بأستار من الذهب وموضوع فوق كرسى مرصع ، رفع هرقل الأستار وقال : هذه الصورة صورة من؟!

فأجبناه : لا نعرف! لم نر صورة كهذه من قبل.

فقال : إنها صورة وجه أبى البشر.

ثم أخذنا من غرفة إلى أخرى وأرانا تماثيل مختلفة ، وسألنا هل الشخص الذى يدعى النبوة يشبه إلى واحد من هذه القبائل؟

وكانت هذه التماثيل تماثيل أنبياء مختلفة ، وكانت مغطاة بستائر ثمينة مزركشة وجميلة.

وبما أننا لم نر تمثالا يشبه الذات النبوية العالية أجبناه بقولنا : «إنها لا تشبه محمد بن عبد الله عليه السلام».

وبعد ذلك ، أمر بفتح قاعة كبيرة ومزينة أيضا ، وهى أكبر من كل القاعات التى رأيناها من قبل وكان فى وسطها تمثال مغطى ذو هيئة نورانية ، فكشف التمثال بأن رفع الستار وسأل : من يكون هذا؟ قلنا : نعم.

إن هذه الصورة تشبه محمدا الأمين الذى يدعى النبوة فى بلدنا. وفى الواقع أنها كانت صورة لا تختلف عن شكله أبدا.

بناء على هذا وجه هرقل خطابه إلينا ، وقال :

(إن هذه التماثيل التى شاهدتموها قد نحتت قبل ألف سنة ، لو كان هذا التمثال هو تمثال محمد الأمين الذى ذكر تماما فمما لا شك فيه أن الرجل نبى مرسل. فعند وصولكما إلى مكة فعليكما بتصديق نبوته بلا تردد. وإذا قدر لى لقاءه فسوف أغسل رجليه المباركتين وأشرب ماء غسيلهما).

ـ حكاية :

كان «جبير بن مطعم» من الصحابة (١) الكرام ، ومن أولاد نوفل القرشى ، ويتصل نسبه بعبد مناف الجد الثالث للنبى صلى الله عليه وسلم ، وقد قال : كنت قد ذهبت إلى الشام فى بدء البعثة النبوية ، فاستدعانى رئيس أساقفة نصارى الشام وسألنى : أتعرف الرجل الأمى الذى يدعى النبوة فى بلدتكم؟ فلما أجبته : نعم! إنه ابن عمى! أمسكنى من يدى وأدخلنى غرفة مليئة بصور الأنبياء المزينة ، وأشار إلى الصور واحدة تلو أخرى وسألنى : أيمكن أن ترى بينها صورته؟ فلما أجبته : بالنفى أخذنى إلى حجرة أخرى ، وكانت بيت التماثيل وكان فى داخلها تماثيل مزينة ومجسمة ، وسألنى رئيس الأساقفة : يا ترى هل يوجد تمثال مشابه لصورة ابن عمك؟! فلما تأملنا رأيت تمثالا نورانيا على شكل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبجانبه صورة تشبه الصديق وصورة أخرى بجانب صورة الصديق تشبه عمر بن الخطاب فأشرت إلى الصورة ، وقلت هذه الصورة تشبه صورة حضرة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولما استفسر عن الصورتين الأخريين ؛ أجبته قائلا : هذا ابن عمى ابن أبى قحافة وذلك ابن عمى عمر بن الخطاب. بناء على ذلك أنهى كلامه قائلا : إن هذا الرجل الذى ظهر فى بلدتكم مدعيا النبوة ، أشهد أنه المبعوث الحق والرسول المطلق وهذان خليفتيه.

ـ حكاية :

تروى حكاية ذات عبر حدثت فى عهد أبى بكر الصديق ؛ إذ بعث فى أثناء خلافته ـ رضى الله عنه ـ هشام بن العاص سفيرا إلى إمبراطور الشرق هرقل ، وقد تحدث هشام عن ماهية هذه السفارة وحقيقتها.

__________________

(١) انظر : الإصابة ١ / ٢٣٥ ، والخبر فى دلائل النبوة للبيهقى ١ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

قال هشام بن العاص (١) : كنت أرسلت أنا وصديق لى من قبل أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ لدعوة هرقل إلى الإسلام ، وعند ما وصلنا إلى المدينة عاصمة إمبراطورية هرقل أنزلونا فى قصر غاية فى الفخامة ، وبعد ثلاثة أيام استدعانا هرقل ، وأجرى لنا مراسم الاستقبال ، وفى أثناء الحديث أمر بإحضار صندوق كبير جدا ومزين بالذهب ذى أدراج كثيرة ، ففتح أحد هذه الأدراج وأخرج منه لوحة حمراء اللون ملفوفة بقطعة قماش سوداء. وقد رسم عليها صورة شخص حسن الطلعة طويل القامة ، فأشار هرقل إلى اللوحة المذكورة ، وسألنا هل تعرفون هذا الرجل؟

أجبناه بالنفى. فقال : إنها صورة سيدنا آدم عليه صلوات الله الأعظم. وكانت هذه الصورة لرجل أحمر الوجه واسع العينين ، ذو قامة طويلة شعره مفرق إلى جانبين وقد جدل بصورة منسقة ، وبعد أن وضع هرقل صورة سيدنا آدم فى مكانها فتح درجا آخر من أدراج الصندوق ، وأخرج لوحة أخرى ناصعة البياض لامعة وملفوفة داخل قطعة قماش سوداء. وكانت الصورة المرسومة فى هذه اللوحة ، صورة لرجل أحمر العينين فسأل هرقل : صورة من هذه؟

وكانت الإجابة بالنص : لا نعرف!!

فقال : إنها صورة سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ وقد رسمت هذه الصورة لرجل أبيض اللون ، عيناه تميلان إلى اللون الأحمر كبير الرأس ، كثيف اللحية. وفى النهاية فتح هرقل درجا ثالثا ، وأخرج لفافة قماش سوداء ، بداخلها لوحة بيضاء. وكانت اللوحة تحوى صورة رجل أبيض البشرة ، وضاء الوجه وكأنه يبتسم وهو فى أبهى صورة.

وسأل هرقل : أتعرفون هذا الرجل؟ ولما أخذ الرد بالنفى ، قال : هذه صورة إبراهيم عليه التحية والتعظيم ، ثم فتح درجا آخر ، وأخرج صورة صاحبها فائق الجمال وساطع الأنوار ، وتذكرنا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقد بكينا فى أول مشاهدتنا للصورة كأننا رأينا حضرة صاحب الرسالة القدسية. وقد أظهر هرقل لهذه الصورة توقيرا وتعظيما أكثر من الصور الأخرى.

__________________

(١) الخبر فى دلائل النبوة ١ / ٣٨٦ ـ ٣٩٠ بطوله ، ونظر أيضا تفسير ابن كثير ٣ / ٥٦٤ ـ ٥٦٧.

وعند ما سأل هل تعرفون صاحب هذه الصورة؟ وقد تلقى الجواب منا إذ قلنا : إن هذا التمثال اللطيف يشبه صورة محمد عليه السلام ، قال : الله يعلم أنه هو ونهض من مكانه وجلس عدة مرات. ثم قال : إذا كانت هذه الصورة هى الشكل المبارك لمحمد ـ عليه السلام ـ فاعلموا أن دينكم هو الدين الحق.

وأراد أن يبين شك فى كون هذه الصورة لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ نطق بهذه الجملة. ولكننا قلنا له : يا ملك بلاد الروم إن هذه الصورة صورة الحبيب ذى الكبرياء عليه أفضل التحيات ولا شك فى ذلك ، وبها الكثير من شمائله الشريفة ، حتى إننا ظننا أنفسنا فى حضرته السعيدة فائضة النور. وبهذه الإجابة زال شك هرقل إلى درجة ما ، ولكنه لم يجرؤ على تصديق أن هذا التمثال صورة مشابهة لرسول الله العالى المقام ، وظل يوجه إلى وجهنا نظرات بلهاء لمدة ساعة ثم أفاق ، واستجمع عقله وسألنا وقد ظهرت عليه الحيرة :

احذرا أن تكونا قد أخطأتما فى تمييز صاحب الصورة إذ قد تكون لشخص آخر. ثم فتح درجا آخر وأخرج منه تمثال رجل غائر العينين متراكب الأسنان مقلص الشفتين. وكانت هذه الصورة تبدى علامات الغضب والحدة وتبعث الخوف فى مشاهديها. وإذا بها صورة سيدنا موسى بن عمران عليه صلوات الرحمن. وبجانب صورة موسى ـ عليه السلام ـ صورة أخرى تشبه صورة موسى الذات العالى إلى حد ما. أخبرنا هرقل أنها صورة هارون بن عمران ـ عليه سلام المنان ـ ثم فتح ثمانية أدراج درجا بعد درج ، وأخرج من كل واحد منها صورة ملفوفة فى قطعة حرير سوداء ، وقال إنها الأشكال المنيرة لحضرات سادتنا : لوط ـ إسحاق ـ يعقوب ـ إسماعيل ـ يوسف ـ داود ـ سليمان ـ عيسى عليهم السلام.

وكانت صورة سيدنا لوط داخل صرة من الحرير الأبيض ، وتبدو صورته جميل الوجه عليها علامات الغضب. كما كانت صورة إسحاق داخل صرة بيضاء وقد رسمت بلون مائل للحمرة ، وكانت صورة يعقوب ـ عليه السلام ـ داخل صرة بيضاء وكانت تشبه شكل إسحاق المبارك إلا أنها كانت تتميز بوجود خال

أسود اللون فى الشفة السفلى. أما صورة إسماعيل ـ عليه السلام ـ فقد كان أبيض اللون ، حسن الوجه ، أقنى الأنف ، متناسق القوام ، وكان يلمح فى وجهه السعيد نور محمد ساطع اللمعان.

وقد وصف هرقل هذه الصورة الجميلة أن صاحبها إسماعيل ـ عليه السلام ـ جد نبيكم ـ عليه أفضل الصلاة والسلام.

وكانت صورة يوسف ـ عليه السلام ـ ساحر زليخا فى صرة بيضاء ، وكان فى الخلقة يشبه آدم ـ عليه السلام ـ تماما لكنه فى صورة أجمل ، متناسق الأعضاء حتى إن من يرونه يقولون : لا بد أن تكون شمس الملاحة هذا النور.

وكانت صورة داود ـ عليه السلام ـ داخل صرة بيضاء ، وقد بدا فيها أحمر اللون ضخم البطن متقلدا السيف.

وإذا جئنا إلى صورة سليمان بن داود فنجده ممتطيا جوادا ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، وكانت هذه اللوحة ملفوفة بقطعة حريرية بيضاء.

أما هيكل عيسى ـ عليه السلام ـ فكان ملفوفا فى داخل صرة بيضاء ، وكانت صورة ذاته الشريفة تبديه فتيا صلبا أسود اللحية ، كثيف الشعر حسن الوجه.

وكنا نشاهد الصور المذكورة واحدة تلو الأخرى ، وننظر فى كل واحدة منها بكل رقة بالبصر والبصيرة. وغرقنا فى بحر الحيرة من شدة التعجب والاستغراب. ولم نجرؤ على القول بأن هذه هى صورة الأنبياء المشار إليهم ، قلنا للملك : أيها الملك ، كيف حصلتم على صور الأنبياء هذه؟!

فإذا ما نظرنا إلى الرسم اللطيف لسيدنا محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نبينا رأينا أنها تحمل نفس شمائله الشريفة ؛ فلا بد أن تكون كل هذه الصور مطابقة لصور الأنبياء مع العلم أنه من الصعب إيجاد دليل قوى وسند يعتمد عليه الحكم على هذا الأمر ، وبهذه العبارة لم نصدق ولم نكذب صحة تلك الصور المشروحة.

وعند ما رأى هرقل ترددنا الواضح فى تصديق حكاية الصور قال : إن هذه الصور بقيت من الأزمنة الغابرة ، وإن كان من الصعب إثبات مدى مطابقة الصور لشكل أصحابها ما لم نرهم ، إلا إننى عندى البينة الكافية لتأكيد صحة هذا الأمر.

يجب ألا ترتابوا فى أن الصور الشريفة للأنبياء ذوى الشأن الذين ذكرت أسماؤهم هى لهم. فإن سيدنا أبا البشر ـ عليه سلام الله الأكبر ـ أراد رؤية من اتصفوا بخير الصفات والذين سيتبوأون مقام النبوة من أولاده وأحفاده. ولما عرض أبو البشر ما فى ضميره على عالم السر والخفايا ، أنزل الرحمن من عنده الصور المذكورة مرسومة على لوح مزين لحكمة لا يعرفها سواه.

وقد وضع سيدنا آدم اللوح المذكور فى مغارة فى بلاد المغرب بعد رؤيتها وهال عليها التراب والحجارة إلى أن وجدها ذو القرنين. ولفها فى قطعة من الحرير وحفظها ، ولهذا انتقل اللوح المذكور مع قطعة الحرير هذه إلى يد النبى دانيال ـ عليه السلام ـ وقام المشار إليه برسم كل واحدة منها فى لوحة مستقلة ، وبذلك نجح فى عمل صور كثيرة للأنبياء.

إن الذى ابتهجتم برؤيته وقررتم عينا بمشاهدته من الصور فجميعها من جملة الصور التى رسمها النبى دانيال ، وقد ورثها الناس كابرا عن كابر إلى أن وصلت إلينا فى نهاية الأمر. وهكذا طيب خاطرنا وأعادنا إلى وطننا.

ورغم أننا لم نصدق أن الصور التى رأيناها عند هرقل تشبه شمائل الأنبياء الكرام ، إلا أن الأمر ظل يتفاقم فى ذهننا وقد اضطررنا أن نعرض الأمر على الخليفة حتى نستوضح حقيقة الأمر منه.

وحينما وصلنا إلى المدينة المنورة توجهنا للقاء حضرة الخليفة الصديق وقبل أن نتحدث بما حدث أخبرنا بكل ما حدث أمام هرقل من مشاهدة الصور وما تحدث به بلا زيادة ولا نقصان وبعد ما بكى قليلا قال : إن طوائف اليهود وطوائف النصارى قد قرءوا فى كتبهم صفات النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونعوته ولكنهم تمردوا وعاندوا ولم يؤمنوا به.

إن خلاصة هذه الحكاية مكتوبة فى كتاب دلائل النبوة منقولا عن الإمام البيهقى الذى نقله عن أبى أمامة الباهلى وهو قد نقله عن هشام بن العاص الأموى (١).

وقد نقل عن كعب الأحبار أن حضرة آدم ـ عليه السلام ـ حينما اقترب أجله ، استدعى أبناءه الذين كانوا على قيد الحياة وأراهم تابوتا ، ونظر أبناؤه إلى التابوت ، فوجدوا به أدراجا كثيرة صغيرة بعدد الأنبياء الكرام ـ على نبينا وعليهم السلام ـ والدرج السعيد الذى فى نهاية الأدراج ، كان خاصا بخاتم الأنبياء وكان تحفة لامعة الأنوار مصنوعا من الياقوت الأحمر.

وفى داخل البيت كان إمام الأنبياء ـ عليه وعليهم السلام ـ قائما يصلى وعن يمينه الصديق وعن يساره الفاروق ومن خلفهم ابن عفان وأمامهم صاحب القرآن على بن أبى طالب ـ رحمهم الله ، ورضى عنهم أجمعين.

وكان مسطورا على جبهة الصديق الكريم عبارة : «هذا أول من تبعه من أمته» وعلى الجبين المبارك للفاروق عبارة «قرن من حديد ، أمين شديد لا تأخذه فى الله لومة لائم» وعلى جبهة ابن عفان «ثالث الخلفاء» وعلى جبهة على بن أبى طالب «هذا أخوه وابن عمه المؤيد بنصر الله» وعلى قول «ليث كرار غير فرار يحب الله ورسوله» وكان يرى فى جوانب هؤلاء المهاجرون والأنصار النقباء والخلفاء الآخرون.

صورة دخول عبادة الأصنام إلى أرض الحجاز :

إن القبائل التى تقطن الخيم حول كعبة الله عبدة أصنام مصنوعة من الأحجار والأشجار ، والزمن الذى مالوا فيه إلى الضلالة كان فى عهد (أردشير بن شابور) من ملوك الفرس وكان «عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف» الذى لا دين له حاكما لأرض الحجاز المقدسة.

وقد نقل الإمام «الراشطى» أن عمرو بن لحى بن قمعة هو الحارث بن عمرو بن مزيقيا بن عامر ماء السماء بن الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة مازن بن أزد

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقى ١ / ٣٨٦ ـ ٣٩٠.

من نسل زيد بن كهلان بن سبأ ، وأن نسبه هو نهاية نسب أفراد قبائل بنى خزاعة. ورغم هذا فإن بعض علماء النسب انتقدوا هذه الرواية المنقولة عن الراشطى وخرجوها قائلين : إن هذه الرواية رأى من يدعون أن خزاعة من أهل اليمن. ورفعوا سلسلة نسب عمرو إلى إلياس بن مضر.

والواقع أنه عند ما توفى قمعة بن خندف كانت زوجته حاملا وتزوجت من الحارث بن عمرو مزيقيا وبعد فترة ولدت لحى وتربى لحى فى كنف الحارث ونسب إليه.

وعلى هذا يكون لحى ربيب الحارث بن عمرو مزيقيا وابن قمعة بن إلياس بن مضر. وهذا القول هو المرجح وأكثر صحة من القول الآخر.

واسم لحى بن قمعة ربيعة وجدته لأبيه : خندف المسماة بليلى بنت حلوان بن عمران بن الحان بن قضاعة وزوجها هو إلياس بن مضر.

أما سبب إطلاق اسم خندف على ليلى فقد ذكر فى البحث الخاص بانتقال حكومة مكة إلى قصى بن كلاب. وقد انفصلت قبيلة خزاعة من عمرو بن لحى وبما أن ليلى «خندف» وكانت والدة قمعة أطلقت أفراد قبيلة خزاعة على ليلى اسم الأم.

قال المؤرخون الذين ذكروا سبب إطلاق اسم خزاعة لبنى عمرو قد هاجر أهل سبأ عقب وقعة سيل العرم من بلادهم ، وهاجر كل جماعة إلى مكان ما واشتهروا باسم ذلك المكان.

وفى ذلك الوقت استقر أولاد وأحفاد مازن الأزد بن الغوث بن ليث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان فى جانب ماء اسمه غسان (١) القريب من المكان المسمى «مشلل» واختاروا الإقامة فيه قبل بنى مازن ، ولما انقطع وانجزعت جماعة عمرو بن لحى عن القبائل الأخرى ، وسكنوا بأطراف مكة المكرمة قيل لبنى عمرو بن لحى بنو خزاعة.

__________________

(١) هناك رواية تقول إن الماء المسمى «بغسان» من مياه سد مأرب وإنه اسم ماء منسوب لأبناء مازن بن الأزد بن الغوث ولذلك يطلق على بنى مازن الغسانى إلا أن الرواية الأولى أصح.

الأوس والخزرج أجداد الأنصار الكرام هم أبناء حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة مازن بن عبد الله بن الأزد بن الغوث.

وعند ما أخرج بنو خزاعة قبائل الجراهمة من مكة المعظمة بالقوة وأبعدوهم إلى بلاد اليمن اتخذوا عمرو ـ مستحق الجمر ـ رئيسا لقبيلتهم واجتهدوا على أن ينفذوا كل ما جاء به من البدع والخزعبلات عن طيب خاطر (١).

إن الأسباب الرئيسية لرضا بنى خزاعة العمل بما كلفهم به عمرو دون تفكر ترجع إلى تكريمه للقبائل البدوية وجوده معهم وإلباسه الخلع للعظماء والوجهاء فى مراسم الحج.

وكان عمرو بن لحى ، الذى نال رئاسة بنى خزاعة يسافر إلى بلاد الشام فى أثناء حكومته. وقد رأى أحفاد العمالقة يعبدون الأصنام فى مدينة مأرب من أرض البلقاء التى استوطنوا بها فسألهم : ما أسباب عبادتكم لهذه الجمادات؟ فأجابه عبدة تلك الأصنام بقولهم : إنها مجموعة من الآلهة صنعت على غرار الهياكل العلوية والصور البشرية وإننا نستمر فى عبادتها واحترامها وتوقيرها وقد اتخذناها آلهة لنا وعلى هذا فهى تستجيب لتضرعاتنا ، فإذا ما طلبنا منها مطرا فى أى وقت تنزل مطرا وإذا استعنا بها فى حاجة من حوائج الدنيا فتحقق مطالبنا ؛ فصدق قولهم وطلب منهم أن يعطوه واحدا منها قائلا : إذا أعطيتمونى واحدا منها أحمله إلى أرض الحجاز وأدعو بنى إسماعيل لعبادته وأرغبهم فيه ، فقاموا على الفور بإهدائه صنما ثقيلا يسمى هبل.

وفى رواية أخرى أن إساف ونائلة من الأصنام التى أهديت إلى عمرو بن لحى من قبل العمالقة.

وقد سر عمرو بن لحى إذ أهدى له إله وأخذ هبل المذكور ووضعه فى المخزن الذى صنعه إبراهيم لحفظ الهدايا المقدسة لعتبة الكعبة الشريفة ، وعلى قول آخر ركزه فوق جبل الأخشب (٢) وطلب من الأهالى أن يظهروا له الاحترام اللازم ويتعبدوا له ليلا ونهارا.

__________________

(١) إن هذه الكيفية قد حررت بالتفصيل فى المكان الخاص به من كتاب مرآة المدينة.

(٢) هذا القول ضعيف.

وقد عرف فاضل أبو الفوز البغدادى فى كتابه القيم المسمى «سبائك الذهب فى معرفة قبائل العرب» أصل هبل الذى اعتقد عمرو فى ألوهيته. وقال : إن هبل الذى حمله عمرو بن لحى من الشام إلى مكة كان تمثالا لإنسان عجيب الشكل. وكان مصنوعا من العقيق إلا أن يده اليمنى كانت مكسورة.

وقال إن قريشا الذين صدقوا ألوهيته قاموا بتركيب يد من الذهب له وأخذوا يعبدونه مظهرين له الاحترام والتوقير والإخلاص.

قال ابن إسحاق فى تعريف هبل : هبل صنم كبير مصنوع من العقيق على شكل إنسان لكن يده اليمنى كانت مكسورة ومفقودة ، ولما رأى آل قريش أنه بلا يد صنعوا له يدا من ذهب وركبوها فيه.

وكان لهبل خزينة خاصة لوضع الهدايا التى تقدم له وتحفظ فيها. وكذلك كان له سبعة أقداح لإجراء القرعة (١) ولا يمكن للذى يريد إجراء القرعة استخدام القداح ما لم ينذر بذبح مائة من الإبل. انتهى.

وبعد ذلك بمدة شاع خبر هبل الذى جلبه عمرو ـ متسحق الجمر ـ بين مشركى البدو ، حيث أخذوا يوقرون ويعظمون ذلك الصنم بتحريض من عمرو وتشجيعه وأشركوا هبل المصنوع من الحجر بخالق الأفلاك ـ تنزهت ذاته عن الشرك ـ وهكذا كفروا.

ورغم أن مشركى العرب قد اعتنقوا الكفر فقد ظل بينهم بعض الأفراد محافظين على دين الخليل وتمسكوا به.

وكان هؤلاء يقومون بتعظيم بيت الله ، والطواف حوله وأداء الحج ويخرجون لأداء العمرة ويصعدون عرفات والمزدلفة ويذبحون الأضاحى ويعتمرون اقتفاء لآثار سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل ـ عليهما السلام.

وكانت دعوة عمرو بن لحى قبائل العرب البدو لعبادة الأصنام قبل البعثة

__________________

(١) توجد معلومات وافية حول هذا الموضوع فى البحث الخاص بالقرعة عند العرب فى الجاهلية.

النبوية بألف عام وعلى قول بثلاثمائة وخمس وعشرين سنة ، وبعد فترة قصيرة كان كل ساكنى منطقة الحجاز من أولاد إسماعيل ـ عليه السلام ـ قد اتجهوا إلى عبادة الأصنام المنحوتة من الأشجار والأحجار ولهذا فإذا خرج أى واحد منهم أو أى قبيلة خارج ميقات كعبة الله كان يأخذ معه ـ بهدف تعظيم بيت الله ـ حجرا من المسجد الحرام على النحو الذى سنذكره مفصلا فيما بعد ـ ويضعه فى الأماكن التى ينزل فيها ويأخذ فى الطواف حوله كما كان يطوف بالكعبة.

وبمضى الوقت غاب عن الذهن سبب تعظيم الأحجار واستبدل دين الخليل بعبادة الأصنام وتحول الناس عن عبادة خالق العباد إلى عبادة الأصنام.

وبعد ذلك اهتم الذين غيروا دينهم بتعظيم حجارة المسجد الحرام حتى إنهم فاقوا فى عبادة الأصنام الضالين من أفراد الأمم الأخرى الذين يعبدون الأصنام.

وبلغ الأمر حدّا حتى إن قبيلة قريش وطائفة بنى كنانة كانوا يلبون فى وقت الحج قائلين «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» ويدخلون داخل الكعبة ممسكين بأيديهم غير المباركة الأصنام التى صنعوها بأيديهم ، واستمر هذا الحال المشؤوم حتى يوم إشراق نور النبوة.

وخلال تلك الفترة اهتم أهل الحجاز بعمل أصنام كثيرة مثل : اللات ـ العزى ـ مناة ـ ذو الخلصة ـ ذو الكفين ـ ذو الشرى ـ قلس ـ رضاء ـ ذو الكعبات وغيرها من الأصنام وقد سميت بعض هذه الأصنام بأصنام عبدة الأصنام فى عهد نوح ـ عليه السلام.

وقد ظهر فى الفترة التى بين آدم ونوح ـ عليهما السلام ـ خمسة أشخاص (١) وكانوا حريصين على طاعة الله وعبادته وبهذا نالوا حب الناس واحترامهم وعند ما أتم هؤلاء آجالهم وارتحلوا إلى عالم العقبى لم يستطع أولادهم وأتباعهم أن يتحملوا آلام فراقهم وتحسّروا عليهم ، فصنعوا ـ بإيعاز من الشيطان ـ لكل واحد منهم صورة ليعلقوها فى مساجدهم. وفعلا قد وضعوا هذه الصور فى مساجدهم وظلوا يزورونها بكثرة ليخففوا شدة حزنهم وليزيلوا وطأة حسرتهم.

__________________

(١) توجد تفاصيل وافية فى هذا الموضوع فى البحث الخاص ببدء ظهور الأصنام.

وبطبيعة الحال ، مات الأبناء والأتباع فأوعز الشيطان إلى بقية الناس بعبادة الصور. إذ قال : «أيها الناس! إن هذه الصور (١) كانت صور من عبدهم آباؤكم فأنتم باتخاذكم إياها آلهة وعبادتها تعملون على نشر الدين وعلى إدامة الطقوس التى قام بها آباؤكم». ودفع الناس إلى عبادة صور هؤلاء الأفراد الخمسة إلى قبيل زمن نوح عليه السلام.

وفى واقعة الطوفان المشهورة دفنت هذه الصور المجسمة تحت التراب ، واختفت عن أعين الناس ، ورغم هذا فإن إبليس اللعين ـ كما سنذكر فيما بعد ـ استطاع أن يبرز جميع هذه الصور إلى الأعين بطريقة ما دفع العرب إلى عبادة الأصنام وأثار هذا العمل ضيق أهل الإيمان وأزعجهم.

وقامت جماعات حمقى من القبائل من أحفاد بنى إسماعيل وبتدخل الشياطين بصناعة أصنام مشابهة للأصنام التى أخرجت من تحت الأرض وسموها بأسماء هؤلاء الصالحين الذين ذكروا آنفا وأخذوا يعبدونها بكل إخلاص وخضوع.

وتبعا لدراسة المؤرخين فإن أسماء هؤلاء الصالحين المشار إليهم كانت : سواع ـ ود ـ يعوق ـ يغوث ـ نسر.

والأصنام التى صنعت لتختص بهذه الأسماء :

سواع : وصنعت على شكل امرأة ، ود : على صورة رجل ، يغوث : على صورة أسد ، يعوق : على صورة حصان ، ونسر على صورة طائر النسر وفى النهاية كانت تلك الأصنام التى عبدتها القبائل العربية البدوية على أشكال الحيوانات المذكورة.

بدء ظهور عبادة الأصنام على وجه الأرض

لم يكن على وجه الأرض أحد من بنى البشر يعبد الأصنام حتى تاريخ رفع سيدنا إدريس إلى السماء وأصبح مظهرا للسر الإلهى القدسى.

__________________

(١) المقصود بهذه الصور هى صور الخمسة أشخاص الذين سلف بيانهم ويروى ـ على نحو ما سنبينه فى محله ـ إن أحدهم سيدنا إدريس والأربعة هم خلفاؤه ، أو أولاد سيدنا آدم أبى البشر.

وبناء على قول المؤرخين فإن رفع إدريس إلى السماء كان بعد هبوط سيدنا آدم أبى البشر ب ١٤٧٢ سنة وكان أبوه يزد يبلغ من العمر ٥٢٩ سنة فى ذلك الوقت وكانت ذاته النبوية على اختلاف الروايات ٣٢٥ أو ٣٧٠ أو ٤٥٠ أو ٣٦٥ سنة من عمره وبعد هذه الواقعة ظل يزد والده على قيد الحياة مدة ٤٣٥ سنة أخرى.

ومع اعترافنا بأن الله قادر على كل شىء ، فإن بقاءه على قيد الحياة هذه الفترة الطويلة أمر خارق للعادة ولهذا لو حكمنا بأن هذه الروايات لا تخلو من الخطأ فإننا نعتقد أن أحدا من القراء لن ينتقدنا ولن يخطئنا.

وعند ما أصبح سيدنا إدريس مظهر الله الجليل (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (مريم : ٥٧) لم يحتمل أحد خلفائه المخلصين ألم الفراق وأخذ يصيح ويصرخ حتى وصل صوت صراخه إلى الملأ الأعلى وأزعج سكانه.

وذات يوم ذهب إبليس اللعين إلى حجرة الخليفة المشار إليه وقال له : أيها العاشق المشتت القلب والوجدان ما أصعب تحمل نار الفراق الحارقة وإيجاد حل لهذا الأمر من أصعب الأمور بل هو مستحيل.

فإذا ما رسمت صورة تحتوى على شمائل حضرة إدريس ثم تضعها فى مكان ما فى حجرتك وأبرزتها بحيث تشاهدها أمامك دائما وتتذكر أوقات مصاحبته لك لعلك تجدد الود المؤثر لآلام فراقك. قال هذا وصنع صورة الجسم لسيدنا إدريس وقدمها لهذا المحب الوفى المتحسر.

وكان ذلك الخليفة صافى القلب ساذجا غافلا عما يهيئ له إبليس من شر ودسيسة وفى نفس الوقت ثملا من شراب فراق إدريس فأخذ الصورة الخالية من الروح التى قدمها له الشيطان ، وظل ينظر لها إلى أن حان أجله.

وبهذه الطريقة خفف من نار الشوق لكنه لم يعلن لأحد قط حقيقة الأمر. حيث ظل على هذه الحال طوال فترة حياته.

وعند وفاة الخليفة عجز الناس الذين رأوا هذه الصورة فى حجرته الخاصة عن معرفة صاحب الصورة وعن سبب وجودها فى حجرة الرجل فظلوا فى حيرة من أمرهم.

ورأى الشيطان أن الفرص سانحة فى هذا الوقت لغواية البشر وإضلالهم فتمثل فى هيئة رجل من الزهاد العابدين وتوجه إلى حيث يجتمع الحيارى فى فهم كنه الصورة التى وجدت فى غرفة الخليفة فتحدث قائلا : إن فى رأيى أن هذه الصورة ـ وحاشا ـ صورة الله ـ سبحانه وتعالى ـ خالق السموات والأرض.

ولا شك أن العبادة الخفية أكثر قبولا عند الله ، لهذا كتم عنا حضرة إدريس ـ عليه السلام ـ وخليفته الذى ترك ملذات الدنيا وأخفيا تعبدهم لهذه الصورة وبهذه المقدمة دفع الناس إلى الضلالة وأراهم أول طريق للضلالة.

وانخدع الناس بمظهر الشقى الأبدى المتخفى فى زى المتصوفة وأعدوا صنما وأخذوا يمارسون طقوس عبادة الأصنام.

وقد نقلت هذه الحكاية عن مؤلف (روضة الصفا مولانا محمد خاوند).

والشخص الذى قال عنه إنه أحد خلفاء سيدنا إدريس هو الحكيم أسقلينوس أعقل وأرشد خلفائه وأفضلهم إلا أن عبارة : «أخذ من الشيطان الصورة المجسمة لسيدنا إدريس ولم يغيبها عن نظره» ، لا بد وأن تكون غير صحيحة لأن سيدنا إدريس اتخذ لنفسه أربعة من الخلفاء هم «إيلادس» و «أوس» و «أسقلينوس» و «بسلوخس» وأسند إدريس ـ عليه السلام ـ لكل واحد منهم إدارة جهة من جهات الدنيا الأربع ، وكان «أسقلينوس» أكثرهم زهدا وورعا ؛ لذا نال لقب خليفة الخلفاء.

وفى أثناء رفع سيدنا إدريس إلى السماء كان «أسقلينوس» فى بلاد اليونان ، مركز الجهة التى كلف إدارتها ولما علم بالأمر ظل يبكى وينوح لفترة طويلة وأزعج الناس فى الدنيا ببكائه ونواحه ، وفى النهاية قام بعمل رسمين مجسمين لسيدنا إدريس ـ عليه السلام ـ أحد الصورتين وهو جالس على كرسى والأخرى وهو يرفع يده إلى السماء واعتاد فى أثناء عبادته أن يلقى نظرة على هذين الرسمين.

وبما أنه لا شك فى أن «أسقلينوس» كان مؤمنا موحدا بالله فلم يكن هدفه من إقامة الصورتين المجسمتين عبادة الأصنام وإنما كان من أجل تعظيم سيدنا إدريس وتوقيره.

ولكن وآسفا!! عند ما توفى «أسقلينوس» لم يستطع «صاب بن إدريس» وسائر الحكماء البلهاء أن يدركوا نيته وعقيدته وحملوا ما فعله هذا على أنه من عبدة الأصنام وبعد مدة بنوا بيوتا للأصنام ونظموها وأصبحوا من عبدة الأصنام وثملوا إذ شربوا من خمر الضلال واتخذ كل واحد منهم صنما فأضلوا الناس وحملوهم على عبادة الأصنام.

وقال بعض المؤرخين : إن ابتداع الأصنام كان أولا بين أبناء قابيل ، وقد ابتدعت فى زمن حكم (اليارد بن مهلائيل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم عليه السلام).

وطبقا للنتائج التى أسفرت عنها الدراسات التى قام بها ناقل هذه الرواية إن أبا شيث ـ عليه السلام ـ قد تلقى أمرا خاصا من سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ لكى يخفى التابوت الذى وضع فيه أبو البشر عن أولاد وأحفاد قابيل.

وبسبب هذا الأمر نقم أولاد قابيل على شيث ـ عليه السلام ـ واتجهوا للعمل ضده ولهذا ظلوا لفترة طويلة يظهرون عدم رضاهم ويبدون علامات الألم والضيق.

ولأن هذا الأمر كان سببا كافيا لدى إبليس اللعين لضلالة الناس ، فقد أقام تمثالا مباركا لسيدنا أبى البشر ، وضعه فى تابوت ، ثم أعطاه إلى أحفاد قابيل قائلا لهم : إن الشىء الذى أخفى عنكم هو نفسه هذا الشكل فأخذه الأحفاد وهدأ هذا الشكل المجسم من روعهم بعد ما رأوه لفترة ، وبعد ذلك سعى كل واحد منهم إلى الحصول على صنم. ثم أصبحت بدعة أن يوجد صنم فى منزل كل إنسان وفى مركز ومجمع كل قبيلة تابوت على صورة خاصة.

وأظهروا جميعا لها الاحترام الشديد والتوقير والتعظيم وأخذوا يعبدونها حيث أصبحت من الضرورات الدينية بين آل قابيل.

والأصنام التى عبدت فى زمن نوح ـ عليه السلام ـ هى : ود ، سواع ، يعوق ، يغوث ونسر ، صنعت على غرار الأصنام التى عملت فى زمن أبناء قابيل.

وكما حقق وصف حضرة إسماعيل حقى ـ قدس سره الجلى ـ مؤلف «روح البيان» فأسماء هذه الأصنام الخمسة هى أسماء أولاد سيدنا آدم من صلبه ، وإنه بواسطة الشيطان اللعين ، قد عمل نموذجا لكل واحد منهم ، وكان ذلك فى عهد يارد بن مهلائيل ، وظلت تعبد حتى عهد نوح ـ عليه السلام.

وعند ظهور طوفان نوح دفنت هذه الأصنام فى الأرض واختفت عن العيون. ورغم هذا فإن إبليس الملعون أخرجها من باطن الأرض فى فترة من الفترات ـ ولما نقلت إلى مكة المكرمة برأى ومشورة «عمرو بن لحى بن قمعة بن إلياس بن مضر» أخذ الناس يتعبدون لها ثم اتخذها كل عرب الجاهلية آلهة لهم وظلوا يعبدونها إلى البعثة النبوية لخير الورى عليه أفضل التحايا.

وكانت قبيلة هذيل تعبد سواع وقد اتخذت طقوسا خاصة بها ونظمت مواسم حج وزيارة لإلهها سواع رغم القبائل الأخرى المخالفة.

وحسبما قال فاضل أبو الفوز البغدادى فإن الأسماء التى أطلقت على الأصنام المذكورة هى أسماء الصالحين الخمسة السالفة التعريف والذين كانوا على قيد الحياة فى عهد «يارد أو يرد» والد سيدنا إدريس ولما توفى هؤلاء الخمسة فى عهد يارد فى خلال شهر واحد الواحد تلو الآخر ، تأثر الناس أعظم التأثر وأبدوا مظاهر الحزن والألم لوفاتهم وعندئذ ظهر شخص يتصل نسبه بنسب قابيل فأقام تماثيل لهؤلاء الخمسة وأطلق على كل واحد منها اسم أحدهم ووضعها فى ميدان الميادين.

وأخذ الخزانى يزيلون حزنهم وألمهم بالطواف حول هذه التماثيل وفى هذه الفترة كان طواف الناس حول التماثيل لإظهار التعظيم والتوقير والحب لهؤلاء الصلحاء الخمس وفيما بعد اتخذ الناس هذه التماثيل آلهة يعبدونها واستمرت هذه الحالة إلى زمن نوح ـ عليه السلام.

وادعى بقى بن مخلد أن هذه الأسماء انتقلت إلى الهنود وأطلق الهنود هذه الأشياء على أصنامهم العظام.

ولما كان فى داخل كل صنم هندى جن يخبر المتعبدين بأخبار الغيب كان يظن الهنود أن أصنامهم تتكلم وتتحدث وتسمع.

ولما بدأت أصنام مكة أيضا تخبر مشركى قريش ببعض الأخبار عما سيحدث فيما بعد اعتقدوا مثل الهنود أن أصنامهم تنطق وتتحدث.

الكلمات المسموعة من أصنام أهل مكة

قال سيدنا عبد الله بن عباس وهو يتحدث عن سبب إسلام عمر الفاروق : وعد سيدنا عمر بن الخطاب صناديد قريش بقتل الذات النبوية الشريفة وذهب إلى بيت فى داخله صنم يتعبد له بعض البلهاء من بنى خزاعة ، ذهب ليؤكد لقريش بالقسم أمام الصنم بأنه سيوفى بوعده.

وبينما كان سيدنا عمر يستعد للقيام بقسمه صدر من داخل الصنم صوت هاتف. وقد تعجب أفراد قريش من صدور مثل هذا الصوت وأنصتوا فى قلق وخوف وحيرة لما يقوله الصنم فأدركوا أنه يردد الأبيات الآتية :

شعر

يا أيها الناس ذو الأجسام

ما أنتم وطايش الأحلام

ومسندو الحكم إلى الأصنام

أصبحتمو كراتع الأصنام

أما ترون ما أرى أمامى

من ساطع يجلو دجى الظلام

قد لاح للناظر من تهامه

حتى بدا نورا بأرض الشام

محمد ذو البر والإكرام

أكرمه الرحمن من أمام

قد جاء بعد الشرك بالإسلام

يأمر بالصلاة والصيام

والبر والصلات للأرحام

ويزجر الناس عن الآثام

فبادروا سبقا إلى السلام

بلا نفور وبلا إحجام

وتفرق القرشيون الموجودون فى معبد الأصنام المذكور كما تتفرق صغار الحجل ، واتجه كل واحد منهم إلى ناحية ، بينما اتجه الفاروق الأعظم ـ رضى الله عنه ـ إلى بيت أخته فاطمة بنت الخطاب ، ومن هناك إلى بيت حمزة وعلى قول إلى دار الأرقم ابن الأرقم. ولكن قبل وصوله إلى ذلك البيت السعيد المشار إليه قابل رجلا من بنى سليم فقال له ما يدور فى نفسه. وحينئذ استصوب الرجل أن يذهب عمر قبل اتخاذ أى قرار إلى صنم قبائل بنى سليم الذى اتخذوه إلها والمسمى ب ضمار (١) ليفصل فى القضية ، وهكذا توجه الرجل إلى بيت أصنام بنى سليم ، ولكن عمر سمع منه الأبيات الآتية فحطم ضمار الضخم من شدة غضبه.

شعر

أودى الضمار وكان يعبد مرة

قبل الكتاب وقبل بعث محمد

إن الذى ورث النبوة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهند

سيقول من عبد الضمار ومثله

ليت الضمار ومثله لم يعبد

أبشر أبا (٢) حفص بدين صادق

تهدى إليه وبالكتاب المرشد

واصبر أبا حفص قليلا إنه

يأتيك عز فوق عز بنى عدى

لا تعجلن فأنت ناصر دينه

حقا يقينا باللسان وباليد

وبعد ما حطم سيدنا عمر ضمار وجعله ألف قطعة ، قد تحولت العداوة التى كان يضمرها للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مودة أبدية ؛ لهذا رجع فورا إلى المنزل أخته ومن هناك إلى دار ابن الأرقم السعيدة بصحبة زوج أخته ، ودخل فى دائرة الإسلام المنجية على النحو المذكور فى كتب السيرة بالتفصيل. رضى الله عنه.

ـ حكمة :

وائل بن حجر «بن ربيعة بن وائل بن يعمر الحضرمى» أحد الصحابة الكرام (٣) ، ومن ملوك حضر موت المشهورين كان يعبد صنما لامعا من العقيق

__________________

(١) ضمار على وزن كتاب وهو الصنم الذى كان يعبده عباس بن مرداس وقومه.

(٢) كنية سيدنا عمر.

(٣) انظر ترجمته فى الإصابة ٦ / ٣١٢.

الأحمر ، وكان يسجد احتراما وتوقيرا له وكان يذبح له قرابين كثيرة كل يوم بغية نيل رضاه.

قال هذا الصحابى : كنت نائما فى قصرى وقت الظهر فى يوم من الأيام ، فاستيقظت إذ سمعت صوتا حادا يصدر من خزانة الصنم ، فوثبت من فوق سريرى وأخذت أسجد بجانب الصنم ، فسمعت فى ذلك الوقت هذه الأبيات التى تخرج من بطن الصنم.

الأبيات :

يا عجبا لوائل بن حجر

يخال يدرى وهو ليس يدرى

ماذا يرجى من نحيت صخر

ليس بذى عرف ولا ذى نكرى

ولا بذى نفع ولا ذى ضر

لو كان ذا حجر (١) أطاع أمرى

وعند ما سمعت هذا الشعر رفعت رأسى وقد ملأنى العجب والحيرة وما لبثت أن قلت :

يا أيها الناصح ـ بما تأمرنى؟ فسمعت صوتا يقول فى عبارات منظومة :

«شد الرحال إلى يثرب المباركة .. حيث يكثر النخيل .. فليس لفضلها حصر».

وفى نهاية الشعر المذكور سقط الصنم على وجهه وتحطم وتفتّتت أجزاؤه ، وعقب ذلك ارتحلت إلى دار السكينة المدينة المنورة وأسرعت بالدخول فى المسجد النبوى الشريف ، ودعانى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبسط طرف ردائه المبارك ، وأقعدنى عليه ثم صعد المنبر وألقى خطبة بليغة وقال عقب الخطبة : «أيها الناس إن هذا الرجل هو وائل بن حجر ، وقد جاء من بلاد بعيدة كحضرموت راغبا فى الإسلام» وما لقيت بعد ذلك رجلا من الصحابة فى المدينة إلا وقال لى : يا وائل إن النبى ـ عليه صلوات الله الأكبر ـ قد بشرنا بمجيئك إلى المدينة المنورة منذ ثلاثة أيام.

__________________

(١) يعنى وائل بن حجر.

الأبيات التى سمعها وائل من داخل الصنم

ارحل إلى يثرب ذات النخيل

وسر إليها سير مشمعل (١)

قبل تقضى العمر المولى

تدين بدين الصائم المصلى

محمد المرسل خير الرسل

وكان الصنم الذى تعبده قبيلة خطامه سببا فى إسلام «مازن بن غضوبة» (٢) رضى الله عنه وهو من وجهاء تلك القبيلة.

وكان هذا الصنم إله قبيلتى (خطامة وصامت) وقد عين أفرادهما مازن بن غضوبة خادما له.

وقال مازن بن غضوبة هذا وهو يتحدث عن الحادثة التى أدت إلى إسلامه : «كنت قد ذبحت ضحية للصنم الذى أخدمه تقربا له وطلبا لنيل رضاه ، وفجأة سمعت من جوف الصنم صوتا يخاطبنى ، ويقول : يا مازن استمع إلى لعلك تسر وتسعد لقد بعث رسول من أحفاد بنى مضر لإظهار الدين الحق وإعلائه ، فاترك الآن عبادة الحجارة المنحوتة وانج بنفسك من نار جهنم المحرقة.

وهكذا سلب منى عقلى وشعورى ، وتعجبت من حال الصنم وتحيرت حتى لم أدر ما أفعله تجاه هذا الأمر ، وبعد أيام جاء رجل من قبيلة أزد وقال هل تعلمون أنه قد ظهر فى مكة المكرمة رجل يسمى «محمد» ، ويدعو من يقابله واستجيبوا لدعوة الله ، وهكذا أخبرنا بظهور النبى صلى الله عليه وسلم.

بينما تعجب الناس من هذا الخير ، قلت لنفسى ، هذه هى حقيقة ما سمعته من الصنم فى اليوم السابق ، وبعد أمد حطمت ذلك الصنم جذاذا ، وقد نلت عز المثول أمام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقبلت الإسلام دينا.

هناك كهنة فى الجاهلية دخلوا الإسلام بإغراء الجن وتحريضهم ، يقول عبد الله بن كعب ـ رضى الله عنه ـ : بينما كنت جالسا مع عمر بن الخطاب ومعنا أناس آخرون فى المسجد النبوى السعيد ، دخل أحد الأعراب فى المسجد وجاء إلى

__________________

(١) المشمعلّ : السريع. يكون فى الناس والإبل انظر اللسان : شمعل. ص ٢٣٢٨. ط. دار المعارف.

(٢) انظر ترجمة مازن بن غضوبه فى الإصابة ٦ / ١٥ ـ ١٦ ، وثقات ابن حبان ٣ / ٤٠٧. وقصة إسلامه هذه فى دلائل النبوة للبيهقى ٢ / ٢٥٥ وما بعدها.

جانبنا ، فقال حضرة الخليفة عند ما رأى الرجل : إن هذا الإنسان كان من كهنة أهل الجاهلية ورد على سلام الأعرابى وقال له هل أسلمت؟ فأجابه الرجل : نعم يا أمير المؤمنين نعم أسلمت ونجوت من دنس الكفر والضلالة.

قال : ألم تكن كاهنا فى الجاهلية؟ فأجابه قائلا : يا أمير المؤمنين لا داعى لذكر الماضى ، قال عمر إذ تلقى هذه الإجابة الدالة على الندامة ـ داعيا رافعا يديه : «يا رب لقد كنا نعبد الأصنام إلى أن أنعمت علينا وأكرمتنا ببعث الرسول الكريم والنبى الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رب إننا نادمون آسفون على ما مضى من زمان قضيناه فى عبادة الأصنام يا رب تجاوز عن ذنوبنا واغفر لنا».

وبعد هذا الدعاء وجه كلامه إلى الأعرابى المذكور قائلا : حدثنا عن قرينك الذى كان يخبرك بالغيب فى زمن كهانتك ، وكيف أغراك ودفعك إلى قبول دين محمد؟!.

فأجاب الأعرابى على النحو التالى جاء الجن الذى يرافقنى قبل شهر من إسلامى وقال هذه الأبيات :

شعر

عجبت للجن وإبلاسها

وشدها العيس بأحلاسها

تهوى إلى مكة تبغى الهدى

ما مؤمن الجن كأرجاسها

رغم أن رفيقى لم يقل شيئا آخر غير هذا الشعر إلا أنه رجع فى اليوم التالى وأنشد الأبيات الآتية :

عجبت للجن وإجلابها

ونصبها العيس وأعمالها

تهوى إلى مكة تبغى الهدى

ما مؤمن الجن كضلالها

ورجع رفيقى فى الليلة الثالثة ، وقرأ الأبيات التالية :

عجبت للجن وإجلابها

وشدها العيس بأقتابها

تهوى إلى مكة تبغى الهدى

ما زمّع الجن كصيّابها

عند ما أتم الأعرابى كلامه وسكت قال حضرة الخليفة مصدقا المشار إليه : ذات

يوم كنت أجلس بجوار الصنم وقد ذبحت عجلا قربانا إلى أحد الآلهة التى كنا نعبدها فى الجاهلية ، فخرج من جوفه صوت رقيق يثير الشوق وقال : أيها الشيخ أعلن بلسانك الفصيح صحة أمر لا إله إلا الله ، وانشره بين الناس.

وقال «جبير بن مطعم» أيضا أن أباه سمع بعض الكلمات من أحد الأصنام التى يعبدها. قال مطعم حسب ما يرويه ابنه وينقله : كنت جالسا يوما فى بيت الأصنام إذ تكلم الصنم الذى كنت جالسا بجانبه ، فقال : استمع إلى ما يثير عجبى استمع إلى تخمين حان وقته سيظهر من العرب رسول من سلالة هاشم بن عبد مناف. إن مسقط رأسه سيكون مكة المكرمة ومهجره سيكون المدينة المنورة.

وبعد أن قص سيدنا جبير هذه الحكاية التى سمعها أبوه من الصنم المذكور ، أضاف أنها قد حدثت قبل البعثة المحمدية ـ عليه وعلى آله أفضل التحية ـ بفترة طويلة.

ومن الصحابة الكرام الذين أسلموا بإغراء من الجن هو «تميم الدارى» (١) قال : حضرة تميم وهو يعرفنا بسبب اعتناقه الإسلام : وأنا فى طريقى إلى الشام ذات يوم ـ أقبل الليل ، فقررت أن أنام فى مكان هادئ فى أحد الوديان ، فترجلت من فوق دابتى واتجهت ناحية المكان الذى اخترته ، وبعد برهة سمعت هاتفا يقول : نلجأ إلى الله الواحد ، وآمنا مع كوننا من الجن لم نجد أحدا غيره نلوذ به لقد ظهر حضرة رسول الثقلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد صلينا خلفه فى جبل حجون (٢) بعد أن اتبعناه ، قد اعتنقنا الإسلام وآمنا برسالته ، فأسلم أنت أيضا حتى تسلم.

وقد سمعت كلاما بهذا المعنى وبادرت فى ترك المكان وذهبت إلى دير أيوب ، وحكيت ما سمعته إلى راهب الدير الذى قال : نعم لقد ظهر خير الأنبياء فى الحرم ـ وسيهاجر إلى الحرم فتوجهت فورا ـ إذ سمعت هذا الكلام إلى مكة المعظمة فوجدت حضرة النبى صلى الله عليه وسلم واحتميت بدائرة الإسلام المنجية (٣).

__________________

(١) دار بن هانى بن حبيب ، هو والد بطن من العرب ، وهو تميم بن أوس الدارى ، من الصحابة الكرام. انظر الإصابة ١ / ١٩١.

(٢) اسم جبل فى مكة المكرمة.

(٣) نقل الإمام الواقدى هذه الرواية عن خالد بن سعيد ، وقد نقل هو أيضا عن تميم الدارى.

من الذين آمنوا بإغراء الجن أيضا خريم بن فاتك بن الأخرم يروى أن الحكاية الآتية قد نقلت عن خريم بن فاتك ذاته (١).

«ذات يوم ، كنت أبحث عن دابة ضالة لى وسرت حتى وصلت إلى مكان موحش ، ولما وجدتها كان قد أنهكنى التعب ، فربطت دابتى التى كنت أمتطيها ورأيت الاحتماء بهذا المكان وكان هذا المكان واسعا ثم استندت على حلس البعير ، وقبل الاستغراق فى النوم سمعت من الهاتف الشعر الذى سيكتب فيما بعد.

ولأن قلبى كان قد امتلأ بنور الإسلام قلت : أيها الهاتف من أنت؟ فجاء الجواب : أنا بن مالك بن مالك فإذا أردت أن تسلم فأنا أكفيك مؤونة البحث عن جملك الضائع وأوصله إلى بيتك إلى أن تعود إلى أهلك وعيالك فسمعت هذا الكلام وذهبت إلى المدينة المنورة بلا تأخير.

وتصادف وصولى إلى مدينة طيبة ظهيرة يوم الجمعة ، فتوجهت رأسا إلى المسجد النبوى الشريف وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلقى الخطبة فقلت لنفسى لأقف خارج المسجد إلى أن تنتهى الخطبة الشريفة إلا أن أبا ذر الغفارى جاءنى وقال يا خريم ، قد وصل إسلامك إلى مسامع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد بعثنى إليك لأبلغك سلامه وسروره بإسلامك ادخل إلى المسجد وأدّ الصلاة مع الجماعة وبعد الصلاة قابلت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى قص لى ما حدث فى ذلك الوادى وأن الهاتف سالف الذكر قد أوصل جملى إلى بيتى وأوفى بوعده.

هذا هو الشعر الذى استمع إليه خريم من الهاتف (٢).

تعوّذ بالله ذى الجلال

ووحّد الله ولا تبال

ما هول الجن من الأهوال

فتحير خريم بن فاتك عند ما سمع هذه الأبيات وقال : يا هاتف ـ يرحمك الله ـ وضح لى صراحة ما تريد أن تقوله فقال الجن الذى ظل مختفيا.

__________________

(١) إن حضرة خريم من الأصحاب الكرام ترجمته فى الإصابة ٢ / ١٠٩.

(٢) هذا الهاتف كان من الجان الذين آمنوا بنبينا سيد الثقلين.

هذا رسول الله ذو الخيرات

يدعو إلى الجنة والنجاة

يأمر بالصوم وبالصلاة

وكانت المنظومة المذكورة التى أجاب بها الهاتف تعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذه الخيرات وأنه يدعو إلى الجنة والنجاة ويأمر بالصوم والصلاة ، وهى إشارة إلى صدق ما يدعو إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم.

ومن الذين آمنوا أيضا بناء على ما أخبره به الجن سيدنا سلمة بن زيد (١).

قال حضرة سلمة الذى ينتهى نسبه إلى بطن من بطون قبيلة خثعم كان أفراد قبيلتنا لا يعتقدون فى حرمة أى شئ قط وبينما كانوا ذات يوم يعبدون أصنامهم ويجرون طقوسهم فجأة سمعوا صوت الهاتف يقول يا أيها الناس أصحاب الوجود. لماذا تنظرون إلى أوهام الرؤيا؟ لماذا تستمعون إلى الناس (٢) الذين يسندون الحكمة إلى الأصنام وينسبون إليها. إن هذا النبى (٣) سيد الناس وإنه أحكم الحكام يعلن عن نور الإسلام وإنه أسد فى بلد الله الحرام ، وإذ سمع أفراد قبيلتنا ما يفيد تلك المعانى فاهتموا كثيرا وتفرقوا وقفلوا راجعين إلى منازلهم حتى إن أفراد القبيلة قد حفظوا هذه الأقوال وظلوا يذكرونها إلى أن ظهر النبى ـ صلى الله عليه وسلم.

قالت فاطمة بنت النعمان (٤) النجارية : كان هناك جن يأتى كل يوم إلى منزلى ويعاكس هذا وذاك ، وذات يوم جاء وصعد فوق الجدار وبدا إلى حائرا هادئا وإننى لم أكن قد شاهدته حائرا وساكنا هكذا فزاد اهتمامى فسألته ماذا حدث لك هذا اليوم حتى تقف هكذا مهذبا هادئا؟ فبدأ الكلام قائلا : لقد أرسل الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيا يحرم اليوم الزنا ، وهكذا فهمت أن نبينا قد بعث عليه الصلاة والسلام.

ومن الذين اعتنقوا الإسلام بنطق الأصنام عبد الله بن ساعدة الهزلى. قال

__________________

(١) حضرة سلمة بن زيد من الأصحاب الكرام.

(٢) المقصود منه الشخص الذى جعلهم يتخذون الأصنام آلهة.

(٣) المقصود به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

(٤) نعمان النجارى من الأصحاب الكرام. انظر الإصابة ٦ / ٢٤٤ ، ترجمة ٨٧٥١.

حضرة عبد الله : كان الصنم الذى نعبده ونقدسه «سواع» وكنت أعتقد كما يعتقد أفراد القبيلة التى أنتسب إليها أن سواع قادر على فعل كل شىء وبناء على هذا الظن كنا نعبده ونجله وبدا يظهر أشياء خارقة ولعله نتيجة لإيماننا به ـ وهذا مما زاد وقوى عقيدتنا فيه. وأنا أيضا ذهبت إليه يوما من الأيام حاملا معى غنما مصابا بالجرب طلبا للشفاء عنده. وإذا بجن فى بطن سواع يخاطبنى قائلا : وآسفا ـ أن الستائر قد أسدلت وقد صعق الجن بالشهب الأصنام فقدت حكمها وسيطرتها. قد نزل خير الكتب (١) وبعث خير العرب (٢). وهذا كان مفاد (٣) كلماته.

وعند ما سمعت هذا القول. رجعت إلى بيتى وكرهت عبادة الأصنام وأسرعت لاستكناه الأحوال ومعرفة الأخبار فعلمت أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بعث فى مكة المكرمة وفى الحال ذهبت هناك واعتنقت الدين الإسلامى المبين.

خرج مالك بن نفيع (٤) يوما إلى الحقول للبحث عن جمله الضائع وبعد أن ظل يبحث عنه مدة طويلة وجده فى مكان ما وعزم على العودة ولكن المساء قد فاجأه ولم يرد أن يسير ليلا كعادة العرب ونام فى سفح جبل وراح فى سبات.

يقول مالك هذا : بينما كنت فى حالة يقظة لم يغلبنى النوم بعد ما سمعت هاتفا يقول : يا مالك! يا مالك! لو حضرت المكان الذى برك فيه جملك قليلا ستجد شيئا يسرك ويجعلك محظوظا ، فسحبت جملى إلى مكان آخر وحضرت إلى المكان الذى كان فيه جملى ، ووجدت فيه صنما قد نحت على شكل امرأة فأخذته ونصبته فى نفس المكان ، إن ظهور هذا الصنم ملأنى فرحا وسرورا حتى إننى وهبت أحد جمالى قربانا له وسميته غلاب وحملته على جملى الآخر وعدت إلى بلدى.

وقد حسدنى الناس على حسن حظى وأرادوا أن يأخذوه منى وينصبوه فى مكان عام ، ولكننى لم أهتم بجلبتهم وصياحهم فأخذت غلاب ونصبته فى مكان معين من بيتى.

__________________

(١) هو القرآن الكريم.

(٢) هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

(٣) لابد أن هذا الجن كان كافرا لأنه يتأسف على نزول القرآن وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم.

(٤) مالك وأخوه حارث بن نفيع الأنصارى من الصحابة الكرام. انظر الإصابة ٧ / ٨٤ ترجمة ٥٢٧.

وحينما أخذت غلابا إلى بيتى كنت قد نذرت أن أذبح له كل يوم قربانا وذبحت فى ظرف ثلاثة أيام ما كنت أملكه من الأغنام ولما لم يبق معى ما أقدمه له قربانا ذهبت إليه لأعتذر له.

وعندئذ خرج من جوف الصنم صوت يقول : يا مالك! يا مالك! لا تأسف على مالك الذى تلف بل أذهب إلى جانب البئر الواقعة فى بلاد قبيلة «أرقم» فستجد هناك كلبا أسود ، فخذه واذهب إلى الحقول للصيد فتغتنى.

بعد ما وضح مالك ما قال غلاب وعرفه قال وهو يبين كيف وجد ذلك الكلب وكيف استخدمه فى الصيد بالأمر : خرجت إلى الطريق وذهبت إلى البئر التى فى بلاد قبيلة أرقم فاستقبلنى كلب أسود فربطته من عنقه وأخذته معى وتوجهت إلى الحقول للقنص ، وسرنا فى الحقول مدة وإذا بالكلب الذى فى يدى قد رأى غزالا وهاج حتى كاد أن يقطع الحبل الذى فى عنقه ، ولكننى ترددت فى إطلاقه وفى نهاية الأمر أطلقته فجرى الكلب وقبض على الغزال.

وإننى قد سررت من جهد الكلب ورجعت إلى البيت وذبحت الفريسة قربانا لغلاب ، وهكذا خرجت للصيد فى اليوم الثانى والأيام الأخرى حتى أصبحت من عادتى أن أخرج للصيد وأذبح ما أصطاده قربانا لغلاب وأوزع لحمه.

وفى يوم معهود جرى الكلب وراء نعامة ولكنه لمح فى الطريق غرابا ، ونفر منه وتراجع ، وكاد أن يدخل بين أرجل الفرس التى كنت أمتطيها. وبما أننى لم أر الغراب استغربت من حالة الكلب وترجلت من الدابة لأستطلع الأمر. حينما رآنى الغراب خاطب الكلب قائلا : يا كلب فأجابه الكلب ماذا يوجد؟ لقد هلك هذا وظهر الإسلام وأسلم أنت أيضا لتجد النجاة!! وعند ما قال هذا اختفوا فجاءة من أمام عينى وأعتقد أن كلاهما كان من الجن والسبب فى دخول «ابن النفيع» فى الإسلام كان هذا الحادث.

اتفق أن «مالك بن مرداس السلمى» كان يتجول بين أشجار النخيل ، وفى وقت الظهيرة ظهر رجل يرتدى ثوبا أبيض من أخمص قدميه إلى أعلى رأسه وهتف له قائلا : يا عباس بن مرداس! إن الشياطين والجن الذين يسترقون السمع للأحداث السماوية قد تفرقوا وإن أحوال الدنيا قد تغيرت ـ من أولها إلى آخرها ـ

ألا تعلم أن نبيا بارا تقيا ملهما من قبل الله قد ظهر مساء الأثنين وليلة الثلاثاء ـ وهو صاحب الجمل المقطوع الأذنين ـ ففزع عباس بن مرداس فزعا شديدا ومضى إلى صنم قبيلة ضمار فأخبره ما سمع من كلام هذا الرجل وبينما كان يتحدث إليه خرج من بطن الصنم صوت عجيب يلقى هذه الأبيات :

قل للقبائل من سليم كلها

هلك الضمار وفاز أهل المسجد

هلك الضمار وكان يعبد قبل أن

نزل الكتاب على النبى محمد

إن الذى ورث النبوة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهند

يقول عباس بن مرداس (١) حطمت «الضمار» ألف قطعة إذ سمعت فيه هذا الكلام ثم مضيت إلى المدينة المنورة ومعى ثلاثمائة من قبيلتنا ونلنا شرف المثول بين يدى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبناء على أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصصت ما حدث وأسلمنا كلنا فى حينه رضى الله عنهم.

إن هذه الواقعة مروية من قبل «عبد الرحمن بن أنس السلمى» وليس الضمار هذا الصنم الذى حطمه حضرة عمر بن الخطاب الفاروق بل هو صنم آخر يحمل نفس الاسم.

وعند ما اقترب ظهور النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع عن كثير من الأصنام مثل هذا الكلام الموثوق من صحته والتى أخبرت بظهور النبى ـ صلى الله عليه وسلم.

وبما أن أكثر ما سمع من أصنام مكة قبل البعثة كان الإخبار بما سيحدث والتنبؤ بالغيب وكان عبدة الأوثان يلاحظون أن ما يخبرهم به أصنامهم صحيح والأحاديث التى يخاطب بها الناس تطابق الواقعة لذلك زاد تقديسهم لهذه الأصنام والتمسك بها واعتمادهم عليها وتأكد إيمانهم بها فأقبلوا بإخلاص على عبادة هذه الأصنام.

والأصنام الخمسة التى مر ذكرها والتى وضعت فيما بعد فى مكة والتى حصل عليها عمرو بن لحى بن قمعة وحملها إلى مكة المكرمة وأخذ يتعبد لها ويحمل

__________________

(١) عباس بن مرداس السلمى من الأصحاب الكرام وشجعان العرب وهو شاعر منقطع النظير. انظر : الإصابة ٤ / ٣١ ترجمة ٤٥٠٢.

الناس على عبادتها قد اتخذها عرب الجاهلية آلهة لهم وأطلقوا على كل واحد منها اسما خاصا.

ويبين المؤرخون كيفية انتقال هذه الأصنام لبلاد العرب على يد عمرو بن لحى الضال على هذا الوجه :

كان عمرو هذا ـ بناء على اعتقاد أهل الجاهلية ـ تابعا للجن وكان دائم الاتصال به ودائم الحديث معه.

وقال له الجن يوما : يا عمرو! إن تماثيل الآلهة الخمسة التى كان يعبدها الناس فى عهد نوح وإدريس ـ عليه السلام ـ قد ظهرت على سواحل جدة ، فابحث عنها وبعد ما تجدها انقلها إلى مكة.

وأسرع عمرو ـ وقد سمع ما قاله الجن ـ بالسفر إلى جدة وحمل تلك الأصنام من شواطئ جدة وعاد إلى مكة وأجبر الناس على عبادتها وقسمها بين القبائل المتفرقة وبعث لكل قبيلة فى موطنها بصنم خاص لها وهكذا بدأت عادة عبادة الأصنام بين العرب وأخذ كل سكان الحجاز من تلك الأوقات فى عبادة الأصنام.

وإن كانت هذه الرواية تكذب الرواية التى تقول أن عمرو بن لحى قد جلب هذا الصنم من أرض البلقاء فى الشام إلا أن إحضار عمرو الأصنام الخمسة إلى مكة من أرض الشام حدث بعد جلبة هبل.

ومع كل هذا قد ركز عمرو هبل (١) داخل الكعبة ، وأهدى الأصنام الخمسة إلى رؤساء القبائل وهكذا حمل جماعات العربان على عبادة الأصنام ووفق فى نشر الوثنية فى الحجاز.

إن اللعين الذى حمل أحفاد بنى إسماعيل على الارتداد عن دين إبراهيم إلى الوثنية هو عمرو بن لحى الذى عاش ما يقرب من (٣٤٠) سنة وقد كتب له أن يرى ألف مقاتل من أحفاده وقد استمر حكمه وحكم أبنائه فى مكة المكرمة ٥٠٠ عام. ووفق هذا الحساب قد ظل بيت الله فى يد المشركين ألف عام وهو مكان لعبادة الأصنام.

__________________

(١) أول صنم أدخل الكعبة هو هبل وهو من أعظم أصنامهم.

ادعاء جمشيد الألوهية

يقول المؤرخون إن عبادة الأصنام قد بدأت فى أيام جمشيد العنيد من ملوك البشدادية.

وبناء على ما جاء فى ترجمة تفسير أبو الليث أن (جمشيد) أخو الملك (طهمورث بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام).

ويقال إن جمشيد أول من كشف وأوجد الأدوية المركبة والمفردة والتداوى بالنبات ، كما كشف عن المعادن المتنوعة واستخدم الذهب والفضة وأنواع الزينة والجمال والملابس الحريرية المتنوعة وتطيب بأعواد العنبر ، وصنع الخمر وأنواع الطيب والمعطرات.

دام ملك جمشيد ثمانمائة عام ودخلت الأقاليم السبعة فى حوزته وسخر الأنس والجن وحكم أهل المشارق والمغارب مما قوى شوكته وزاد فى عظمته.

وقد اعتلى جمشيد عرش الحكم فى عهد إدريس (١) ـ عليه السلام ـ وأقام العدل بين الناس وحرص على الوئام والمحبة لذا سمى رعيته يوم جلوسه على العرش نوروز وأصبح هذا اليوم من كل سنة عيدا لهم يحتفلون به كل عام.

ويقال إنه فى فترة حكمه قد رفع عن الناس ـ لحكمة ما ـ الموت والمرض والشيخوخة فما عرف فى ظرف ثلاثمائة عام من حكمه أن أحدا قد مات أو مرض أو شاخ.

وقد ظهرت فى زمانه بدائع الصنائع ومختلف آلات الحرب وطبقات الأمراء ودرجات المقاتلين ونصبت الخيام كما تم استخراج الجواهر واللآلئ من البحر وصناعة الإسبيداج والكلس وبناء الحمامات.

ولقد أمضى جمشيد أواخر أيامه فى الرفاهية والسعادة لا يفكر إلا فى ملذات طعامه وشرابه إذ بلغ ملكه أقصى ما كان يتمناه من قوة وعزة واحتشام.

وكان يفكر أحيانا فى حالته الصحية وكيف أنه لم يتعرض لمرض وكيف أنه لم يشعر بآلام فى أعضاء جسمه ولا أوجاع واضطرابات وكان يتساءل أحيانا قائلا : يا

__________________

(١) فى قول أنه فى عهد إدريس وفى قول آخر فى زمن صالح عليهما السلام.

ترى هل هناك شخص يشبهنى فى عظمتى وقدرتى ولم يصبه مرض فى مدة حياته؟!.

وحينئذ نسى بشريته وأخذ يحاول أن يفهم ماهيته ، وغشيه يوم من الأيام نوم وعقب هذا حدث نفسه قائلا : على أغلب الظن أننى لست من جنس البشر ، إذ كيف أكون بشرا ولم يصبنى مرض وتقلب المزاج والشعور بالكآبة. ولكنه نسى أنه فى حاجة إلى كل ما يحتاجه البشر من الأكل والشرب وقضاء الحاجة ، وبعد فترة دخل الشيطان فى غرفته دون أن يشعر به حراسه وأيقظه من نومه.

ولما اقتحم عليه الشيطان حجرته وهذا لم يكن له فى الحسبان لأن اقتحام أحد عليه حجرته دون أن يراه أحد من الحراس كان ضربا من المستحيل بدون رؤية أحد من الحراس؟ لذلك تملكته الحيرة وقال له حينما رآه فجأة أمامه : من أنت؟ وتلقى ردا من إبليس المضلل : إننى ملك نزل من السماء قد جئت لأعرفك من أنت.

ولما كان جمشيد مشتاقا لمعرفة نفسه فكر أن هذا الشخص الذى يقتحم عليه حجرته لا بد أن يكون شخصا ذا قدرة فائقة وربما يستطيع أن يعرفه بنفسه لذلك وجه إليه سؤال إذن أخبرنى من أنا؟ لأننى لا أشبه بنى البشر فى شىء؟ فرد الشيطان قائلا : لعلك نسيت من أنت؟

إنك رب سكنة السموات والأرضين!! .. وكنت فى السماء منذ ثمانمائة عام .. حينما استغرقت فى النوم فإننى هبطت بك على الأرض وفق أمرك ..

إن عدم إصابتك بالمرض طول حياتك وانتصارك على ملوك العالم جميعا أليس دليلا كافيا على أنك إله.

كما أن دخولى إلى الحجرة بدون أن يرانى أحد ألا يثبت أننى رسول السماء؟! وهكذا خدع إبليس جمشيد الأبله بقوله المزخرف.

وقد قبل جمشيد الأدلة الواهية التى ساقها له إبليس واقتنع بألوهيته واستفسر منه الطريقة التى سيتحرك بها بعد ألوهيته فأجابه إبليس اللعين : يجب أن توقد فى هذا الميدان نارا عظيمة ثم تدعو الناس جميعا وتعلن لهم أنك إله وتطلب

منهم أن يسجدوا لك ، وأن تلقى إلى النار كل من يمتنع عن السجود ، وهكذا عرفه بطقوس المجوسية ، وهكذا جعل إبليس اللعين جمشيد يوقد نارا حامية ويدعو الناس وجعلهم يسجدون له بعد أن أعلن ألوهيته فصدقه الناس. وبعد ذلك نصب خمسة أشخاص خلفاء له ، وأعطى لكل واحد منهم صنما كبيرا وأرسلهم إلى أطراف مملكته بعد ما أمرهم بأن يدعوا الناس إلى السجود إلى هذه الأصنام وأن يعترفوا بألوهيته وأن ينال المصدقون التعظيم والتوقير وأن يعاقب المنكرون بإلقائهم فى النار.

كانت أسماء هذه الأصنام التى أعطيت للخلفاء : ود ـ سواع ـ يعوق ـ يغوث ـ نسر. وهكذا انتشر هؤلاء الخلفاء حاملين أصنامهم فى أرجاء العالم وابتدروا فى إضلال الناس بنشر طقوس الوثنية إلى أن مات جمشيد لعنه الله.

قد مات جمشيد بعد فترة من إرسال الأصنام إلى أطراف ممالكه ، وهكذا نجا ربع سكان العالم من الاحتراق بنار الضلال ، إلا أن مبعوثيه إلى أركان العالم أخذوا ينشرون طقوس الوثنية والمجوسية فى أرجاء العالم وأدخلوا أكثر الناس فى الوثنية.

قد قبض على جمشيد حيّا فى نهاية الأمر فى حربه مع «الضحاك» ابن أخى شداد بن عاد ، وقد جعله قطعتين بعد ما نشره بعظمة شبيهة بالمنشار لنوع من أنواع الأسماك.

عاش جمشيد ألف عام قضى ١٠٠ أو ٣٠٠ أو ٧٠٠ أو ٨٠٠ سنة فى الحكم حسب الروايات المختلفة.

يدعى مؤرخو الفرس نبوة جمشيد ، إلا أن ابن عباس قال إن القول ببعث نبى من الفرس كذب ، وخرج روايات هؤلاء المؤرخين الواهية والذين يدعون نبوة جمشيد من مؤرخى الفرس الجهلة قد اقتنعوا أن سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ هو جمشيد ، إلا أن جمهور أئمة الأخبار بينوا أن هناك أكثر من ألفى سنة زمنية بين سليمان ـ عليه السلام ـ وجمشيد ، كما أن جمشيد قد كفر وأشرك فى أواخر أيام سلطنته ، ويكفى هذا دليلا على بطلان تلك الادعاءات.

ظهور طقوس الوثنية بين أحفاد إسماعيل

قد كثر أحفاد بنى إسماعيل المقيمين فى جوار الكعبة المعظمة. وأدى هذا التكاثر إلى تفرقهم فى أطراف البلاد فهاجر بعضهم إلى بلاد الشام ، والبعض الآخر إلى بلاد اليمن ، وعند هجرتهم حملت كل قبيلة قطعة من الحجر من الكعبة الشريفة تذكارا وتبركا منها ، ووضعت الأحجار فى مكان مرتفع توقيرا لها.

وقد رأى الشيطان اللعين مدى استعدادهم لاعتناق الوثنية وعبادة الأصنام ، فقال : الأولى أن نعبد الأصنام المصنوعة والمصورة بدلا من هذه الحجارة الغليظة الخالية من الذوق والجمال ، وهكذا نحتت وصورت الأصنام الخمس السالفة الذكر ، وحمل رؤساء القبائل على عبادة الأصنام بواسطة عمرو بن لحى ، وقد ابتدر هؤلاء الزعماء فى عبادة الأصنام ، وقد استحسنوا أقاويل الشيطان وانصرفوا إلى الوثنية وتقديس الأصنام بعد أن تركوا قراءة صحف إبراهيم جانبا.

أول من اعتنق عبادة الأصنام من بنى إسماعيل :

أول من اعتنق الوثنية من بنى إسماعيل هو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الأرذل. إن هذا المنحط قد اتخذ الصنم الذى يطلق عليه «سواع» إلها وحمل قومه الذين يسكنون على بعد ثلاثة أميال من مكة المعظمة على تقديسه وعبادته ، واستمرت ضلالة هذه القبيلة التى تعبد سواع إلى بزوغ شمس الإسلام فى عصر السعادة. وقد كلف عمرو بن العاص فى العام الثامن من الهجرة النبوية بهدم وتحطيم معبد أصنام هذيل ، وقد نال الأجر والثواب بأداء عمله على أحسن وجه.

كان فى عصر السعادة لبنى سليم صنما يسمى : سواع يقوم بسدانته (غاوى بن عبد العزى) بينما كان غاوى بن عبد العزى جالسا يوما بجانب ذلك الصنم المنحوس جاء ثعلبان قافزين متواثبين ، وصعدا فوق الصنم الذى تتعبد له قبيلة بنى سليم ورفعا رجليهما وبالا فوق رأس الصنم ، ووسخا الصنم العظيم (سواع) ولطخاه.

وأنشد غاوى إذ رأى هذه الحالة :

أرب يبول الثعلبان برأسه

لقد ذل من بالت عليه الثعالب

وخاطب بنى سليم قائلا أقسم بالله أن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر. ثم كسر سواع وجعله ألف قطعة ، ثم توجه إلى المدينة المنورة حيث أسلم أمام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحينما مثل غاوى أمام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ استهجن اسمه ، وسماه «أرشد بن عبد ربه» وظل اسمه أرشد بعد ذلك.

من المخذولين الذين تركوا دينهم عظيم من عظماء قبيلة قضاعة وهو «كلب بن وبره بن تغلب بن حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة» ، وكان رجال القبيلة المذكورة يسكنون فى بلدة «دومة (١) الجندل» حتى حلول السنة المذكورة ويمضون أوقاتهم فى عبادة «ود» الذى اختاره لهم كلب بن وبره إلها لهم.

إن «ود» الذى اختاره بنو قضاعة إلها لهم ـ كما سبق ذكره ـ نحت على شكل رجل ضخم الجسم ، بقدر لا يتصوره الإنسان ، وقد ألبس طبقتين من الثياب وعلق على عنقه سيفا وقوسا.

إن قضاعة كان أبا لقبيلة كبيرة وإليه نسبت جماعات قبائل قضاعة ، ويتصل نسبه ب «حمير» بن سبأ فى الدرجة السادسة.

وكان لأبى وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة تسعة أبناءهم : «خافى ، عمرو ، سليم ، وبره ، جرم ، ملوان ، أشجع ، سعد ، قدامة» وأحفاد هؤلاء أصبحوا فيما بعد ملوكا آباء قبائل. وقد نصب ابنه الرابع «وبره» خيامه فى «دومة الجندل» حيث استقر ، وبعد موته خلفه ابنه ـ سالف الذكر ـ كلب والذى اعترف بألوهية «ود» وعاش حياته متعبدا له مع أتباعه البؤساء البلهاء.

ومن الأراذل الذين تركوا دينهم الشقى الذى اشتهر باسم «أنعم» من قبيلة طئ ، وقد اتخذ هذا البائس صنما يطلق عليه «يغوث» إلها له وكان هذا سببا فى اتخاذ الناس هذا الصنم إلها لهم إلى سنة فتح كعبة الله.

__________________

(١) إن هذا المكان وقطورا طبقا لما بينه سيد جلبى على بعد ٥ مراحل من الشام و (١٥) مرحلة من المدينة المنورة ، وهو حصن منيع ومدينة بحرية مشهورة».

وقد اتخذ هذا الصنم أهالى جرش من قبائل طئ ابن آدد بن مزحج بن آد إلها لهم وعبدوه.

والجرش اسم مقاطعة فى اليمن كان يسكنها بنو مزحج الذين اتخذوا الصنم المنحوس «يغوث» إلها لهم وعبدوه.

وقد اتخذ سكان حولان صنما يسمى «غم أنس» إلها لهم وحولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، وفى رواية حولان بن عمرو بن برة بن آدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبائك وعلى قول آخر حولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مزحج بن آد ، كانوا يسكنون فى البلاد التى أطلقب عليها حولان.

أن سكان هذه البلاد قد أخلصوا فى العبادة ل «غم آنس» ، حتى إنهم كانوا يعتقدون أن البركة والنماء سينقطع عنهم إذا لم يخرجوا سهما من حيواناتهم ومحاصيلهم ويقدموه إلى هذا الصنم.

من الذين يعبدون الجمادات هم قبائل همدان التى تسكن أرض (همدان) (١).

همدان : على وزن سكبان ، اسم قبيلة يسكن أفرادها فى صحراء «همدان» فى الخيام ، وكانوا يعبدون صنما كبيرا نصبوه فى قرية على شكل «حيوان» يقال له «يعوق» واستمروا فى التعبد له إلى قرب ظهور نور النبوة.

وكانت قبيلة ذو الكلاع فى مكان يطلق عليه حمير من أرض اليمن وتتعبد لصنم يطلق عليه «نسر».

حمير على وزن درهم اسم موقع على الجانب الغربى من صنعاء اليمن. وكان سكان هذه المنطقة وما حولها يعبدون صنما منصوبا فى مكان يسمى «بلخ» من أرض سبأ ويطلق عليه «نسر».

وكان أهل اليمن وحمير يعبدون «نسر» ويترددون كذلك على معبد الأصنام الذى يطلق عليه «رثام» فى صنعاء اليمن. وخلاصة القول أن العرب فى الجزيرة

__________________

(١) همدان اسم قبيلة كبيرة من سكان اليمن وإذا ما كتب همه دان فهو اسم لبلد فى عراق العجم الذى بناه هم دان ابن الفلوج بن شام.

كانوا يتخذون فى أسفارهم صنما كإله لهم ، كما كانوا يوجدون فى بيوتهم أصناما وكانوا يزورونها ويتذللون لها حين خروجهم للسفر أو عودتهم منه وإنهم كانوا لا يعودون إلى بيوتهم قبل زيارة بيت الأصنام ، ويتذللون لها ويظهرون خضوعهم لها بعد رجوعهم من السفر.

فى تلك الفترة التى خلت من الرسل كان بعض أفراد قريش يتعبدون لهبل الذى جلبه «عمرو بن لحى» من أرض البلقاء ونصبه فى داخل الكعبة ، والآخرون يتعبدون لإساف ونائلة المنصوبين بالقرب من الكعبة المعظمة وبئر زمزم ، وكانوا يطوفون حولهما ويذبحون لهما القرابين.

ويقال إن «إساف» المنصوب بالقرب من بئر زمزم بن بقى أو يعلى أو بغا أو عمرو من طائفة الجراهمة و «نائلة» هذه بنت ديك أو زيد بن جرهم أو سهيل أو ذئب أو عمرو بن ذئب من أقوام قطورا.

وبناء على قول منقول عن عبد الله بن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن إساف ونائلة أحبا بعضهما فى أرض اليمن ، وحينما كان الجراهمة على ضلال خرج العاشقان إلى طريق مكة المكرمة بغية الحج ، وحينما وصلا إلى مكة وجدا الكعبة الشريفة خالية من الناس وارتكبا جريمة الزنا فى داخلها ، وكان جزاؤهما لحكمة ما أن تحجرا. وأخرج أهل مكة هذين المتحجرين خارج الكعبة ، وركزوا إساف على جبل الصفا ، ونائلة على جبل المروة ، ترهيبا للذين يفكرون فى ارتكاب مثل هذه الجريمة وتشهيرا لهما ، وبعد فترة نسى سبب تحجرهما ، وفى نفس الوقت تولى رئاسة حكومة الحجاز عمرو بن لحى ، وصدق بين العرب ألوهية هبل ، فما كان من عمرو إلا أن وضع واحدا من الصنمين بجانب الكعبة الشريفة ، والآخر بالقرب من بئر زمزم ، أى وضعهما بين الكعبة الشريفة وبئر زمزم اللطيفة ، وأمر الناس بعبادتهما وتقديسهما.

وأخذ عرب الجاهلية منذ تلك الأوقات يتعبدون لهما ، ويضعون الهدايا الواردة من الأطراف والأكناف بين إساف ونائلة متبركين بهما ، وكانوا يبدءون بالطواف من إساف وينتهون عند نائلة ، وكان من عاداتهم أن يقبلوا الصنمين عند بدء الطواف والانتهاء منه.

وقد نزلت الآية الكريمة : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (البقرة : ١٥٨).

عند ما كره أهل الإيمان الطواف بينهما ، نزلت للتبيان أنه لا حرج من السعى بين الصفا والمروة ، وفى يوم الفتح كسر هذين الصنمين ، وجعلا جزازا مثل سائر الأصنام التى كانت موجودة فى أطراف الكعبة المعظمة.

إن بعض قريش من أحفاد وأبناء ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر كانوا يتعبدون لصنم كان يقال له : «سعد الصخر» وعمرو بن حمة من أولاد أوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأسد بن الغوث وقبيلته كانوا يتعبدون مع قبائل خثعم وبجيلة لصنم كائن فى أرض دوس ويسمى «ذو الخلصة» (١) كما كان يتعبد بعض الجماعات من قبيلة بنى كنانة وطائفة من قريش لصنم كائن خارج مكة المعظمة فى بطن نخلة يطلق عليه «عزى» الذى هيأه للعبادة سعد بن ظالم ، وقد أسند سدانة البيت الذى توجد فيه عزى إلى بنى شيبان الذين ينتهى نسبهم إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.

قال بعض المؤرخين الذين عرفوا «عزى» إنها شجرة عظيمة (٢) وقال الآخرون إنه بيت أصنام ، وقال قسم منهم إنها صنم كبير (٣).

يقول الذين يدعون أن عزى «شجرة عظيمة» أن سعد (٤) ابن ظالم رئيس قبيلة بنى غطفان ذهب يوما إلى مكة ، وأخذ يطوف بالبيت المعظم وبعد الطواف رأى أهالى مكة يسعون بين الصفا والمروة ، فحسدهم على ذلك فأخذ من ساحة المسجد الحرام ثلاث قطع من الحجارة ، كما أخذ من جبلى الصفا والمروة من كل

__________________

(١) ذو الخلصة اسم واحد من العرب. قد قتلوا أبا هذا الرجل ، ولما أراد أن يثأر لأبيه ذهب ليسحب القرعة بالأزلام ، وأمرته الأزلام بألا يطالب بثأر أبيه ، واستجاب لأمر الأزلام وترك الثأر وقال هذه الأبيات :

لو كنت يا ذى الخلص الموتورا

مثلى وكان شيخك المقبورا

لم تنه عن قتل العداة زورا

(٢) قد قبلت هذه الرواية من الجميع لصحتها.

(٣) فالذين يدعون أنها صنم يقولون إن أطلال وبقايا هذا الصنم ما زالت باقية خارج حصن الطائف مع بقايا الأصنام الأخرى.

(٤) اسم والد سعد فزارة ولكنه كنى بهذا الاسم لكون اسم أخيه ظالما.

واحد منهما حجرا ، ورجع إلى موطن قومه بنى غطفان فى بطن نخلة وركز الحجر الذى أخذه من الصفا فى مكان ، كما ركز الحجر الذى أخذه من المروة فى مكان آخر ، وأسند الحجارة التى جمعها من ساحة البيت الحرام على شجرة بينهما ، ثم جمع قومه وخاطبهم قائلا : «يا قومى! إن أهل مكة يطوفون حول الكعبة كما إنهم يسعون بين الصفا والمروة ، وإنهم اعترفوا بألوهية الكعبة والصفا والمروة وأقروا بها ، ثم أشار إلى الحجارة التى جلبها من مكة وقال فليكن لنا واحد من أحجار الصفا والأخرى من المروة ، وهذه الشجرة كعبتنا فلنتخذ هذه آلهة لنا ونطيعها».

وهكذا حمل أهل غطفان على عبادة هذه الحجارة ، وقد استحسن أهل غطفان رأى سعد وأسندوا سدانتها إلى بنى شيبان من أولاد «سليم» بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. وقد استمرت عبادتهم لها إلى عصر النبوة.

وقد أقاموا مبان حول هذه الشجرة وهكذا أصبحت الشجرة يظللها السقف وكانت هذه الشجرة من فصيلة نمرة وكان أهل غطفان يخلصون لها العبادة ، إذ يستمعون إلى أقوال الجن الذى حل فى داخل الشجرة.

وبناء على هذا التعريف أن «عزى» بيت للصنم أقيم فوق شجرة من فصيلة «نمرة» وفى موطن قبيلة بنى غطفان ، وعلى قول آخر إنها فى مكان آخر ، وهى عبارة عن بناء أقيم فوق ثلاث أشجار كبيرة. وكان الذين يتعبدون لها يسمعون منها أصواتا مختلفة.

وقد كلف سيدنا خالد بن الوليد بقطع هذه الشجرة وقلعها ، وفى أثناء قيام خالد بمهمته خرجت من داخل «عزى» عجوز شمطاء قبيحة المنظر ، مبعثرة الشعر عارية ، وأخذت تشد شعرها ، بينما أخذ خادم البيت يصرخ ويولول إلا أن سيدنا خالد عجل بقتل العجوز ، وقلع الشجرة من جذورها وهكذا محاها من الوجود.

وكان فى ذلك الوقت معبود بنى ثقيف الذين يقيمون فى الطائف صنما يقال له «مناة» وكانت قبيلة بنى ثقيف تقوم بخدمتها.

مناة ـ كانت مناة معبود الجماعات التى تقيم حول مكان يسمى قديد الذى يقع على الجانب البحرى من جبل «مشلل» ، كما كان يعبدها أهل يثرب وقبائل الأوس والخزرج الذين عرضوا تبعيتهم لسكان قديد.

مشلل ـ على وزن معظم اسم جبل ويهبط إلى قديد المذكور من هذا الجبل. وبناء على قول آخر أن مشلل اسم مطلع مقابل قديد وإن الصنم المذكور كان منصوبا فوق المطلع (١).

وعلى قول آخر أن مناة صخرة عظيمة كان يعبدها قبائل هذيل وقضاعة وأقوام من بنى ثقيف يزورونها ويطوفون حولها ويتقربون لها بالذبائح (٢).

قد حطم هذا الصنم سعد بن زيد الأشهلى فى سنة الفتح وخربه. وظهرت من بطن مناة عجوز شمطاء سوداء الوجه ، عارية الجسد ، وأخذت تقتلع شعرها تصرخ وتنوح وتدق صدرها ، وقتل سعد هذه العجوز ، وحطم الصنم ألف قطعة.

وعند البعض أن مناة واللات والعزى كانت فى داخل الكعبة المكرمة ، كما أن هبل كان داخل مخزن الهدايا لبيت الله مثل ما سبق ذكره عدة مرات.

لات : اسم فاعل من لت السويق ، كان من عادة العرب فى الجاهلية وفى مواسم الحج لتّ السويق بالماء والسمن ، ويخلطونه وينضجونه ويقدمونه للحجاج وكان اللات صورة هذا الرجل الذى اعتاد أن يقدم السويق للحجاج.

وبما أن هذا الرجل قد اتخذ لنفسه صنع السويق مهنة له أطلق عليه اللات.

وفيما بعد صنع أحد رؤساء قبيلة بنى ثقيف صورة لهذا الرجل وأخذ يتعبد لها مع أفراد قبيلته.

إن الرواية التى تقول إن بنى ثقيف قد اتخذوا الصنم الذى أطلق عليه اللات إلها لهم هى أصح الأقوال.

__________________

(١) أكد الإمام السمهودى هذه الرواية.

(٢) وهذه الرواية مقبولة مصدقة عن الأكثرين.

وهناك رواية أخرى تقول : إنه لم يكن صنما ، إذ كان هناك حيث يسكن بنو ثقيف فى الطائف صخرة (١) وكان رجل غنى قد فتح محلا فوق هذه الصخرة ، يبيع فيه سمنا ، وفى مواسم الحج كان يصنع سويقا ويخلطه بالسمن الذى يبيعه ، ويطعم به الحجاج. وبما أن هذا الرجل كان يلت السويق فوق هذه الصخرة أطلق عليها اللات.

وبعد فترة ترك الرجل تجارته ، وهجر الصخرة إلا أن عمرو بن لحى الملحد صحب بنى ثقيف إلى الصخرة ، وقال لهم : إن الشخص الذى كان يصنع السويق ويطعم به الحجاج قد دخل فى هذه الصخرة ، ومن هنا يجب أن نتعبد لها ، وتلقى بنو ثقيف قول عمرو باستحسان وأخذوا يتعبدون لها.

وكان عمرو بن لحى يخدع بنى ثقيف قائلا : يا بنى ثقيف إن ربكم يبعث البرودة إلى الطائف بواسطة اللات ، كما يرسل الحرارة إلى تهامة بواسطة العزى.

وعند البعض أن لاة مخففة من إله ، وفى زعم بنى ثقيف أن اللاة وسيلة للتقرب إلى الله. وكان مشركو العرب يطلقون «اللاة» بمعنى الاحتجاب أو الارتفاع على كل صنم ، وعلى هذا الاعتبار يعنى به المعبود. سواء أكانت اللاة المناة أو العزى أو الأصنام التى كانت عند زمزم المكرم.

إساف ونائلة كلها كانت من معبودات العرب الباطلة فى الجاهلية ، ومعبودات أهل مكة وقد حطمت بتمامها يوم فتح مكة ، وعند توسيع الحرم الشريف ترك كبيرها خارج باب السلام تحت موطئ الأقدام (٢).

ومما يروى ، أنه عند فتح مكة ـ اليوم المؤلم للمشركين ـ وجد خارج كعبة الله وداخلها ثلاثمائة وستون صنما ، وكان كل صنم موضوعا فوق قاعدة مصنوعة من النحاس الأصفر.

__________________

(١) إن هذه الصخرة ما زالت فى الجهة الغربية من مدينة الطائف إلى يومنا هذا.

(٢) كما ذكر آنفا أن الصنم الذى وطئته الأقدام هو هبل ، وغالب الظن أن الصنم الذى ديس بالأقدام ليس هبل بل صنم آخر.

إن قائد الأنبياء ـ عليه أقوى التحايا ـ أشار بأصابعه الشريفة إلى كل صنم فوقعت كلها على الأرض ، وتحطمت أجزاءها ، وكان كلما أشار إلى وجه صنم وقع على ظهره وكلما أشار إلى ظهره وقع على وجهه.

عند ما حطمت نائلة ـ خرجت من جوفها عجوز دميمة سوداء الوجه عارية ، وأخذت تنوح وتولول ، وقال سلطان الدين ـ عليه سلام الله المعين ـ مخاطبا أصحابه ومشيرا إلى العجوز ـ هذه هى نائلة الى يتعبد لها المشركون ، وإنها تنعى نفسها وتبكى لأنها لن تعبد بعد اليوم.

قد جمع الإبليس الأكبر ـ ولم يستطع صبرا على ما جرى ـ وأخذ يصرخ بحرقة حتى جمع أتباعه الشياطين حوله.

إخطار :

ينقل أن الشيطان قد صرخ وبكى وصاح مرتين قبل هذا ـ أول مرة عند ما لعن من قبل الرحمن ، والمرة الثانية عند ما صلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول مرة.

ومما يروى عن الإمام الشافعى ـ رضى الله عنه ـ أن الشيطانين اللذين نالا شرف الإيمان : أحدهما قرين نبىّ آخر الزمان ، والآخر ملازم نوح عليهما السلام (١).

معلومات خاصة بالجن والشياطين

من الوجهة الأولى إلى هذه الصفحة كتبت بحوث وحكايات ـ كلما جاءت المناسبة ـ عن الجن والشياطين وكان بعض الجن يحلون فى الأصنام والأوثان ويخبرون على لسانها بأخبار الغيب التى يطلعون عليها بالاستراق إلى الملأ الأعلى. يخبرون أهل الجاهلية الذين كانوا يتعبدون للأصنام ، وحتى نؤيد هذا الادعاء سردنا هنا بعض الحكايات المروية والموثوقة ، كما ذكرنا وقيدنا بعض الأبيات والفقرات المسجوعة المسموعة من الأصنام ، ولا حاجة إلى إثبات وجود الجن والشياطين لأصحاب الفضل والإيمان.

__________________

(١) وفى الكلام عن الجن تفصيل ذلك.

ولأن كتاب «مراة الحرمين» قد يقع كذلك فى أيدى العوام من الناس ، رأيت وجوب إيراد معلومات خاصة بالجن والشياطين فى هذا المقام.

فيا أيها القراء الكرام!! لا تعجبوا من وجود الجن والشياطين وما ينسب إليهم من أقوال ، فقد ورد ذكر الجن والشياطين فى القرآن الكريم ، كما رويت أشعار نسبت إلى الأصنام ، وأخبر صحابة النبى الكرام بما روى من أشعار وأسجاع هاتين الطائفتين من المخلوقات لأن لهما القدرة على التشكل فى هيئات مختلفة ، ويتكلمون بكل اللغات ، ويقلدون البشر فى أصواتهم كما أنهم يضلون الناس عن سواء السبيل ، وبين قبائلهم وعشائرهم نزاع وصراع وحروب ، وكانوا يسترقون السمع إلى عهد النبى صلى الله عليه وسلم ثم منعوا من ذلك.

ومما جاء فى كتاب (اليواقيت والجواهر) لعبد الوهاب الشعرانى : «إن وجود الجن ثابت بالقرآن الكريم والكتب المنزلة الأخرى ، ويصدق من الخلف إلى السلف ، وإن هذه الطائفة مخلوق ناطق يأكلون ويشربون ويتزوجون ويلدون».

ويقول الشيخ أبو طاهر القزوينى : «إن ما يدل على وجود الجن تخيل الناس آثارهم الخفية ، وينكر المعتزلة وجود الجن ، ويقولون إن الجن هم دهاة الناس ، كما أن الشياطين هم المردة من الناس ، وأولوا ما جاء فى القرآن الكريم عن وجود الجن وأوصافهم».

سؤال : من كم أصل يتكون المخلوقات عامة؟

جواب : يتكون الخلق من أربعة عناصر وفق قول الإمام الماوردى. وهى : الماء ، التراب ، الهواء ، والنار.

المخلوقات الخفية من الهواء والنار ، والمخلوقات الظاهرة من الماء والتراب. والنار ، كما هو معروف ، تتكون من الغور واللهيب أو الشعلة والدخان ، والنور ضياء محض والدخان ظلام محض ، والشعلة مارج متوسط ـ يعنى شر محض ـ وبما أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الجن من مارج من النار فهو ينتسب إلى الملائكة من الناحية النورانية ، كما ينتسب إلى الشياطين من ناحية الظلمة

والدخان ، ومن هنا كان من الجن من هو مطيع ومن هو عاص ، ومن هو مؤمن ومن هو كافر ، وقد ورد فى القرآن الكريم : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (الحجر : ٢٧) وقد اختلفوا فى هذه النار ولذا قال بعضهم إنها نار الشمس ، وقال الآخرون إنها نار البرق.

لننتقل للبحث عن إبليس :

هل إبليس من الملائكة؟ أم هو من الجن؟ وقد اختلف فى هذه المسألة أيضا.

بناء على رأى فريق أن إبليس كان من طائفة الجن التى استكبرت على وجه الأرض وعصت ، وقد سل الملائكة سيوفهم وأسروا إبليس وساقوه إلى السماء وبهذا دخل فى زمرة الملائكة وإذا ما قلنا إن إبليس من الجن والملائكة نكون قد أصبنا الحقيقة الآن.

وبناء على قول فريق آخر إن إبليس من حيث الفعل من الجن ومن حيث النوع من الملائكة ، فهو من ناحية فعله من الكفار.

يقول الإمام الماوردى فى كتابه المسمى (النبوة) وهو ينقل أقوال المنكرين : «إن خالق الكائنات خلق سكنة البحر والبر مثل الإنسان والنعامة والحيوانات المفترسة والطيور العادية والحشرات من الماء والطين كما خلق الحيوانات التى تعيش فى داخل الماء مثل الضفدع والسمك من نباتات الماء وأن هذه الأجناس الأربعة التى خلقت من أربعة من أصول صاعدة مثل الملائكة والجن فهم الصاعدون ، واثنين من الأصول الأربعة هابطة مثل حيوانات البر والبحر فهى من الهابطة.

وقد اعتذر الإمام الماوردى عن نقله هذا الكلام قائلا : «إن ما ينقله ليس من رأيه ولكن هدفه من نقل هذا الكلام أن يفحم خصمه ويسكته بنقل ادعائه وكلامه».

وقال الشيخ أبو طاهر ـ رحمه الله ـ مرة أخرى : إن هؤلاء الجن عند ما تكتمل صورتهم تزول صورتهم الأصلية بالقدرة الإلهية ، يتشكلون بشكل آخر لا يشبه صورتهم الأصلية.

كما أن الإنسان قد تحول إلى لحم وعظم وبشرة بعد أن غابت عنه صورة الماء والطين والتراب ، وكما اختلفت أشكال الحيوانات المفترسة والطيور والحيوانات الأخرى ، وتشكلت بأشكال متغيرة كذلك زالت من الملائكة والجن والشياطين صورة الهواء ، وداخلهم مكون من مصنوعات العالم ـ جل شأنه ـ إلى أشكال وهيئات لطيفة خاصة بهم لذا يطلق عليهم المخلوقات الروحانية.

إن المخلوقات الروحانية تتميز بعضها عن بعض بأشكال لطيفة خاصة بكل نوع ؛ إلا أنه لا يعرف هيئاتهم إلا خالق العالم ـ سبحانه وتعالى ـ إذ يقول : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر : ٣١). إن تشكل المخلوقات الروحانية ودخولهم إلى صور متنوعة نستطيع أن نشبهه بتغيير ملابسنا.

وإن هذه المخلوقات الروحانية تمر فى هواء الجو مثل علائم السماء المخضرة المحمرة أو المصفرة أو ألوان أخرى مختلفة. كما أن «عبد الله بن عباس» بينما كان جالسا فى المسجد النبوى الشريف مع والده رأى بمفرده صورة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع جبريل ، ولما أخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك أخبره أنه سيصيبه العمى ولكنه سيتفقه فى أمور الدين ويتفوق فى التأويل والتفسير.

إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد قدر لهذه المخلوقات أوضاعا تستطيع بها أن تتشكل بصور مختلفة وقت ما تريد مثلما نحن نقدر أن نغير ملابسنا وقتما نشاء تغيير الملابس لنا وتغيير الصور لها. وكل موجود يتصرف بالشكل الذى قدر له فإن ملابسنا الثقيلة تتكون من الصوف والمنسوجات والحرير وملابس المخلوقات الروحانية تتكون من المنسوجات اللطيفة مثل الهواء والأشعة ومع ذلك فأجسام الملائكة والجن أخف من الهواء وأرق منه.

وعند ما يريد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يرى لنا الملائكة والجن يجعل للهواء كيفية خاصة ويأمر الملائكة والجن أن يتشكلوا بالشكل الذى يريدونه فيشاهدهم الناس حينئذ على الشكل الذى تشكلوا به.

قال الله ـ تعالى ـ فى حق الملائكة : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (الأنعام : ٩).

وإن كان من المستحيل أن يتحول الملك فى الحقيقة إنسانا ولكنه يدخل فى شكل الإنسان بواسطة الهواء ، لأن الهواء إذا تكاثف مثل السراب يمكن رؤيته.

وإذا قيل ما معنى قول الله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الأعراف : ٢٧). يجاب بأنه لا يمكن رؤية الجن على شكله الذى خلقه الله سبحانه وتعالى؟ ولكن يمكن رؤيته على شكل الكلب أو الهر بل إن رؤيته على هذا الشكل هو ما يحدث فى أكثر الأوقات.

تفضل الشيخ الجليل وقال : «إن واحدا من الجن وجه إلى سبعين سؤالا خاصا بالتوحيد وطلب منى الإجابة بعد أن تشكل على شكل فصيلة الكلاب التى تسلم من الدنس وحدث ذلك فى ليلة من الليالى وقد غسل فرش المسجد الجامع بالماء والطين وطهره ظنا منه أنه كلب حقيقى».

قد أجبت على أسئلة الجن فى تأليفى اللطيف المسمى ب «كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان».

وإذا ما قيل «هل سيحتجب الجن منا فى الجنة أيضا؟» يجاب عليه : بأن الأمر سينعكس فى الجنة كما أننا لم نرهم فى الدنيا وهكذا لن يروننا فى الجنة من حيث نراهم نحن كما أن بعض الخواص منا يراهم فى الدنيا وهكذا سيرانا بعض الخواص منهم».

سؤال ـ هل تتغير أصواتهم وفق تغير أشكالهم أم تظل أصواتهم الأصلية دون تغيير؟

جواب ـ تتغير أصواتهم وفق الشكل الذى يتشكلون به إنسانا كان أو بهيما أو حيوانات أخرى.

سؤال ـ إذا ما تشكل الجن بصورتنا هل يستطيعون أن يتلفظوا بكل الحروف كما نتلفظ نحن؟!

جواب ـ تطابق بعض حروفهم حروفنا بينما تخالف بعض حروفهم حروفنا عند الحديث لأن أجسامهم اللطيفة لا تتحمل الحروف الغليظة والصلبة التى نلفظها.

سؤال ـ كيف نستطيع أن نفهم كلامهم ناقص الحروف؟

جواب ـ إنهم لا يتحدثون بحقيقة حروفنا بل بالحروف المماثلة لها ، فإذا تكلموا بحقيقة حروفنا وأنقصوا حرفا من كلامهم لما فهم منهم شيئا.

سؤال ـ هل يستطيعون الحديث بكلامنا وهم متشكلون فى صورة غيرنا؟

جواب ـ لا يستطيع أى مخلوق روحانى أن يقوم به إلا إذا كان شيئا خارقا للعادة.

سؤال ـ قيل فيما سبق «خلق الجن من مارج من نار» والمارج معناه المختلط ما كنه هذا الاختلاط؟

جواب ـ المارج «نار تحتوى على مواد رطبة ومن هذه ينشأ اللهيب والشعلة اشتعال الهواء لذا تحتوى على الرطوبة.

سؤال ـ الشياطين هم المردة والأشقياء من الجن فلم يدخلون فى كلمة الجان اسم الجنس؟

جواب ـ إن سبب دخول الشياطين فى اسم الجنس لأن الجان مخلوق بين الإنسان والملائكة.

والجان مخلوق عنصرى وهذا هو علة تكبره ـ لو كان خلق طبيعيا خالصا لما تغلبت عليه طبيعته العنصرية ولظل دون تكبر مثل الملائكة.

الجان مخلوق برزخى فى نشأته. فهو يحتجب ويتشكل فهو أقرب إلى الأرواح النورية لاحتوائه على لطافة النار من جهة كما أن له وجهة أخرى عن طريق النيابة فهو من عنصر الرماد كما أشار إليه الإمام الماوردى رحمه الله.

ويجرى الشيطان فى جسم الإنسان مجرى الدم ، ولكن الإنسان لا يشعر به ، لو لم ينبهنا لذلك النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لظلت ملابسة الشيطان لنا وإلقائه الوسوسة فى صدورنا مجهولا لدينا. إن الشياطين لا يظهرون لنا إلا فى حالة تجسمهم إلا أنهم أكثر قدرة على الاستتار من الجان.

سؤال ـ ما الفرق بين الجسد والجسم؟

جواب ـ هناك فرق بين الجسم والجسد : والجسم يرى عادة ، فهو إما لطيف لا يرى وأما شفاف أو كثيف.

وأما الجسد فهو حالة المخلوقات الروحانية حينما تظهر فى اليقظة بالأجسام. وبعض الأجساد تظهر فى صورة تشبه الأجسام فى شعور النائم ومع هذا كل ما ذكر ليس أجساما بذاته ونفسه.

سؤال ـ هل صورة الجن أو الملك هى عين صورتهما عند ما يظهران ويشاهدان؟

جواب ـ نعم إن الملك والجن هما حقيقة نفسيهما كما أن الكلام المكون من الحروف والأصوات فى الحقيقة كلام الله. قيل لأحد الناس عرّف الجن فقال :

«إن الجن حيوان ناطق هوائى».

سؤال ـ هل هناك من الجن من لا يصدق القسم الذى يحلفه الإنسان بأسماء الله تعالى الحسنى؟

جواب ـ نعم يصدقون جميع الأيمان التى تحلف بأسماء الله ـ بخلاف الإنسان ـ إذ ليس بمقدورهم ردها.

يقول الشيخ أبو طاهر «إن الجن لا يتخابر ولا يجاوب إلا بالرقى إذا ما قرئت رقية على مجنون فكأنك تلقى على الجن شعاعا من الشمس فيضطر إلى الطاعة وتمنعه من العصيان. قد سخرت لسيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ الريح كما سخر الجان. إن الجان مخلوقات بالغة اللطف والدقة والرقة والخفاء حتى إذا اختلطت بالفضة المذابة فى البوتقة فتسبب الرجرجة والاضطراب كما يسبب للإنسان الذى يحل فى جسمه. وعند ما تقرأ الرقى على مجنون يزعجونه وهذا ثابت بالحديث الشريف الذى يخبرنا بأن «الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم».

سؤال ـ ما الدليل على أن الجن مكلف بالإيمان؟

جواب ـ الدليل هو قول الله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (الأحقاف : ٢٩).

وقد رأى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبعة نفر من الجن تحت نخلة ثم خط خطا حول عبد الله بن مسعود وأمره بألا يخرج من هذه الدائرة.

يقول عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه : «قد استمعت إلى نبى الإنس والجان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يحاكمهم ويفصل منازعاتهم كما سمعت أصواتهم».

ثم علمهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ «سورة الرحمن» كما جاء فى كتب التفسير وأمرهم بأن يؤدوا الصلاة.

سؤال ـ هل هناك دليل على دخولهم الجنة؟

جواب ـ نعم يدخلون ، فقد سئل ابن عباس مثل هذا السؤال وبعد ثمانية أيام من البحث والتدقيق أجاب أن قول الله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (الرحمن : ٥٦). دليل على دخول الجن فى الجنة.

قال الضحاك : إن الجن يدخلون الجنة ويجازون وفق أعمالهم مثل الإنس. وقال «سفيان» إنهم سينجون من النار بثواب إيمانهم ولكنهم سيمتثلون لقول الله ـ تعالى لهم «كونوا ترابا».

وبناء على قول الشيخ أبى طاهر أن أكثر الجن لا يعتقدون فى البعث كما جاء فى الآية الكريمة : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (الجن : ٧).

سؤال ـ هل سيظل الجن ممنوعا من استراق السمع منذ بعثة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يوم القيامة؟! أم المنع لوقت معين؟

جواب ـ الحقيقة أنهم سيمنعون إلى يوم القيامة ، وبما أن الشهب تحرقهم عن الاستراق لذا لن يستطيعوا أن

يخبرونا بأخبار الغيب.

سؤال ـ ما حقيقة الشهب؟

جواب ـ هناك قولان فى هذا الخصوص :

١ ـ أنّ الشهب نور بعد ما يحرق بشدة نوره الجن ، يعود إلى مكانه ثانيا.

٢ ـ أنّ الشهب نجوم ، تنزل من تحت السماء فتحرق الجن ولا تعود.

سؤال ـ هل إبليس أبو الجن كما يروى فى أقوال الناس؟

جواب ـ ليس إبليس أبا الجن. بل وجد الجن قبل إبليس ولكن إبليس أول العصاة.

سؤال ـ ما مدى قدرة إبليس؟

جواب ـ عمل إبليس هو أن يأتى الناس من حيث لا يشعرون ويهلكهم أو يلقى فى قلوب الناس الوسواس بحيث ينقص منزلة الناس عند الله ، وإبليس لا يستطيع أن يؤثر فى عباد الله المؤمنين الأتقياء ولا أن يتسلط عليهم كما بينه الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولكنه يتسلط على الغافلين عن وحدانية الله ومن يشركون به. إن الذين يتجنبونه ويحذرونه ولا يتبعونه ينجون من دسائسه وكيده.

وما أعظم دسائس إبليس وما أشدها وأكثرها فإذا ما انصرف الإنسان عن دسيسة من دسائسه فإنه يأتيه من طريق آخر ويسلك جميع السبل ليحمل الإنسان على اتباع طريق العصيان.

ومن جملة دسائس إبليس أنه يحمل للناس كشوفا صحيحة وعلوما تامة ويحاول أن يخفى الذى يقوم بهذا العمل ، ومن إحدى دسائسه أنه يكشف للناس معاصى الآخرين ويهتك خفاء الأشياء ويظهر عورات الناس والشخص الذى يطلع على مثل هذه الأحداث يظن أنه وصل إلى درجة عظيمة من الفراسة دون أن يعرف أنها عطية الشيطان له وقد أصبح الشيطان سمعا له وبصرا.

إن مثل هذا العبد يجب أن يبادر بالتوبة حتى لا يكون من الهالكين.

ومن دسائس إبليس الخفية لأكثر الأولياء. هو الظهور فى قلب الولى وأن يدخل حيث يتوجه إليه بالتضرع والابتهال فيدخل العرش حينا والكرسى حينا والسماء حينا آخر. وإذا كان فى علم الله أن ينجى هذا العبد عرّفه أن كل هذه من حيل الشيطان ، وهكذا يخيب إبليس فى سعيه ويضيع وقته سدى أما إذا لم يحفظ الله ـ سبحانه وتعالى ـ عبده هذا ـ نعوذ بالله ـ فيكون من الهالكين.

سؤال ـ هل يتسلط الشيطان لظاهر الإنسان أو لباطنه؟

جواب ـ إن شياطين الجن يتسلطون لباطن الإنسان بينما يتسلط شياطين الإنس لظاهره وباطنه وإذا ما وقع إغواء أو وسواس لظاهر الإنسان من قبل شياطين الجن إنما يقع بناء على إذن من شياطين الإنس.

سؤال ـ هل عداوة الشيطان أكثر شدة لأبى البشر أم لذريته؟

جواب ـ عداوة الشيطان أكثر لبنى آدم ، لأن بنى آدم خلقوا من ماء والماء ضد النار واليابس يجمع بين آدم وإبليس ، فقد خلق أحدهما من التراب والآخر من النار واجتماع التراب مع النار ليس كاجتماع الماء والنار. لأجل ذلك صدقه عند ما أقسم أنه كان ينصح آدم ولكن الأنبياء ذوى الشأن لم يصدقوه لأنهم خلقوا من مادة مضادة للمادة التى خلق منها الشيطان.

وقد سلحنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعلامات تقوم مقام «البصر الظاهر» وأودعها فى قلوبنا بواسطة الشرع الشريف حتى نقاوم هذا العدو الشرس كما جند الملائكة فى عالم الغيب لحراستنا.

سؤال ـ يخبروننا أن هناك نوعا من الشيطان ليس بإنس ولا جن ، هل هذا الخبر صحيح؟

جواب ـ نعم إنه صحيح. إن الشيطان فى جميع أحواله شيطان ـ صحيح ، أن الشيطان فى جميع أحواله شىء حسى ويمكن أن يكون معنويا أيضا. وهذا يحدث عند ما يجتمع أباليس الجن مع شياطين الإنس ويتحاورون ويتشاورون فيما بينهم عندئذ يظهر شيطان جديد معنوى.

سؤال ـ ما الفرق بين هؤلاء الشياطين الثلاثة؟

جواب ـ إن شياطين الإنس أو الجن يفتحون أبوابا فى قلوب العباد للتوجه لغير الله ـ سبحانه وتعالى ـ بوساوسهم ، أما الشيطان المعنوى فيستنبط من هذه الوساوس شبهات وضلالات لا يستطيع أن يستنبطها لا إبليس ولا غيره.

ويتخذ الشيطان أحيانا جسما إنسانيا ويبذل جهده لإغواء الناس وإضلالهم ، كما تدل عليه الآية الكريمة : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) (ص : ٣٤).

والمثل على ذلك يأتى الشيطان ويحاول أن يخالف العبد أوامر الله وإذا ما رأى أن دسيسته لن تقبل ، يغير طريقته قائلا : «إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لن يؤاخذك إذا فعلت كذا» محاولا خداعه ، وإذا ما أحس أنه لن يفلح فى هذه الطريقة أيضا يقول بحسن نية «إنك إذا أحسنت ظنا بالله تعالى فهو لا يؤاخذك لأنك عبد الله سواء فى طاعتك أو عصيانك والله ـ سبحانه وتعالى ـ يصنع شيئا ويقدره».

إن الشيطان يعلم جيدا أن المؤمن لن يعصى الله بدون تأثير خارجى كالتأويل والتزيين والوسوسة. لو كان المؤمن يعصى الله بدون وسوسة إبليس لما أوجد الله ـ سبحانه وتعالى ـ الشيطان.

سؤال ـ كيف يتناكح الجن؟

جواب ـ إن تناكح الجن يشبه تداخل الأدخنة المنبعثة من فرن للفخار ، ويتلذذ الشخصان بتداخل بعضهما فى البعض ويشبه حملهم بتلقيح النحل ويتم بمجرد الرائحة.

سؤال ـ هل للجن قبائل وعشائر مثل الناس؟

جواب ـ نعم لهم قبائل وعشائر. وقد قامت فيما بينهم حروب كبيرة. وما نعرفه ونراه من الأعاصير ما هى إلا أثر من آثار حروبهم ، وأحيانا يسدون الطريق لهبوب الرياح فى أثناء حروبهم فتنتج عنه قيام الأعاصير المثيرة للتراب والغبار ، ولكن ليس كل إعصار نتيجة لحروب الجن.

سؤال ـ من الذى سمى أولا باسم الشيطان؟

جواب ـ أطلق على شخص اسمه الحارث. وقد عصى الحارث هذا ربه فطرده الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتناسل الشياطين كلهم منه. ولكن من آمن منهم مثل «هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس» التحق بصنف الجن المؤمنين ومن ثبت منهم على الكفر ظلوا شياطين.

ـ حكاية :

هناك كثير من الجن قد نالوا شرف اللقاء مع الأنبياء العظام ـ على نبينا وعليهم الصلاة والسلام ـ وبناء على رواية منقولة عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أن أحد الجن قد جاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى وضح النهار وطلب منه أن يتفضل بتعليمه القرآن الكريم.

قال أنس ـ رضى الله عنه ـ وهو ينقل هذه الحادثة :

كنا نتنزه فى يوم من الأيام بجوار المدينة المنورة مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فظهر أمامنا رجل عجوز وأقبل يسير نحونا وإذا به جن قد تشكل فى صورة إنسان.

قد أخبرنى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه من طائفة الجن. ولما أتى إلى جانبنا بدأ حوار بينه وبين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم.

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن هذا السير سير الجن.

الرجل العجوز : نعم يا رسول الله.

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من أى جن أنت؟

الرجل العجوز : من هامة بن همام بن لاقيس بن إبليس.

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذن بينك وبين إبليس أبوان؟

الرجل العجوز : هو كذلك يا رسول الله.

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما عمرك؟

الرجل العجوز : قد أمضيت عمر الدنيا كلها ـ حينما قتل قابيل هابيل كنت بلغت بضعة أعوام وفى تلك الأوقات كنت أمضى أيامى بصيد البوم فوق الهضاب ، وإفساد الأطعمة المطبوخة أو إثارة النزاعات بين الناس.

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقبح به من عمل!!

الرجل العجوز : لا تلمنى يا رسول الله! إننى أسلمت أمام نوح ـ عليه السلام

ـ وتعرفت على هود ـ عليه السلام ـ وصاحبت إبراهيم ـ عليه السلام ـ فى المنجنيق ويوسف ـ عليه السلام ـ فى البئر ، وتشرفت بصحبة المسيح بن مريم ـ عليه السلام ـ وطلب منى عيسى ـ عليه السلام ـ أن أبلغك سلامه.

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه السلام ـ ما طلبك منى؟

الرجل العجوز : قد علمنى موسى التوراة الشريفة وعيسى الإنجيل المنيف وأتمنى لو تعلمنى القرآن الكريم ، وفى نهاية هذا الحوار تفضل فخر الكائنات عليه السلام بتعليم العجوز القرآن الكريم ، وبعد ذلك عاد العجوز بعد أن ودع الرسول صلى الله عليه وسلم.

ـ حكاية :

عند ما أضاءت بعثة الباعث لخلق الكائنات ـ عليه وعلى آله أفضل التحيات ـ الأقطار الحجازية بالهداية والنور ، سرت شرارة نار الفتنة والانشقاق بين سكان «أم القرى» وبين عربان البادية مما حمل الناس على نقل أمتعتهم من مكان إلى آخر وفى أثناء هذه الفوضى تشكل مسلمو الجن بأشكال مختلفة ، وأخذوا يعلنون أن نبى الثقلين قد بعث وحاولوا أن ينشرو الإسلام.

وقد أسلم خال الصحابى الجليل ربيعة بن أبى براء فى تلك الآونة فى صورة غريبة.

ينقل لنا حضرة ربيعة بن أبى براء ـ رضى الله عنه ـ سبب إسلام خاله بصورة غريبة ويقول :

عند ما ألبس السلطان الكريم السّير ـ عليه وعلى آله صلوات الله الأكبر ـ خلعة النبوة رأى خالى أخو أمى ثعبانا مخيف الشكل وأسلم من خوفه وعند ما حكى لى هذه الوقعة قال لى :

بينما كنت أتنزه فى الحقول رأيت حية مخيفة وكانت تطارد ثعلبا ضعيفا فأردت أن أنقذ هذا الحيوان المسكين فأخذت من فوق الأرض حجرا إلا أن الثعلب وقع على الأرض فجأة وهلك. ولكن الثعبان أيضا قد قطع نفسه وكان الحجر الذى أخذته من فوق الأرض مازال فى يدى.

فقلت إن الثعلب المسكين قد مات من شدة خوفه من الحية. ولكننى لم أجد تفسيرا لموت الحية منقطعة إربا وهذا ما حملنى إلى تفكير عميق ، وبينما أنا غارق فى حيرتى سمعت صوتا يقول : «ما أتعسك!! لأنك تسبّبت فى قتل نفس» وفى عقبه سمعت من ينادى :

«يا داثر» فانتبهت واتجهت صوب الصوت الذى ينادى لأعرف ماذا سيكون رد داثر وفى ذلك الوقت ظهر داثر قائلا : ماذا هناك؟ وعندئذ تلقى داثر الأمر الآتى اذهب إلى بلاد بنى عذافرة (١) وأخبرنا عن مدى جرأة هذا الكافر وما الجناية التى ارتكبها فزادت حيرتى إذ سمعت الهاتف والجواب الذى تلقاه وزاد خوفى وفزعى فنظرت حولى فاضطررت أن أوجه الخطاب إلى جهة الهاتف الغائب إذ لم أجد ملاذا ولا ملجأ.

فقلت ـ يا هاتف! أنا لم أقترف ذنبا ولم أقدم على جناية عمدا!

فقال ـ كنت سببا فى قتل نفس.

فقلت ـ لا علم لى بهذا!

فقال ـ ولكن عندى علم بذلك.

فقلت ـ أنا أعوذ برحمتك.

فقال ـ ماذا تريد أن تقول؟

فقلت ـ اعف عنى.

فقال ـ أفى الإمكان عفو كافر قتل نفسا مؤمنة؟

فقلت ـ أنا مسلم.

فقال ـ إذن تكون قد نجوت.

فقلت ـ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

فقال ـ نجوت ، نجوت. ألا تستطيع أن تعود من حيث جئت ، إن الحوار الذى

__________________

(١) عذافرة اسم قبيلة من الجن.

جرى بينى وبين الهاتف الغائب أدى إلى فائدتين ، أسلمت ونجوت من الموت. وقد اهتز جسمى من الفرح وزادت حيرتى ودمعت عيناى ، ولما أردت أن أعود إلى عملى إذا بى أتلقى الأمر الآتى «اركب الوحش بن الذئب واذهب حيث يسكن أبو عامر» فركبت الوحش الذى ظهر بجانبى وصعدت فوق الجبل العظيم الذى كان أمام طريقى وبعد مدة هبطت إلى الناحية الأخرى من الجبل ، ولكن هنا ظهر أمامى فارسا وقال لى لا تتحرك ، وسلم سلاحك. إن أمر الفارس الشديد قد أثر فى جسمى المضطرب وظننت أن حياتى قد قضى عليها ، فاضطررت لتسليم سلاحى له. وقال الفارس بعد ما أخذ سلاحى.

ـ من أنت.

ـ أنا مسلم.

ـ السلام عليكم.

ـ وعليك السلام ـ فليجعلك الله ـ سبحانه وتعالى ـ فى ظل رحمة أبى عامر وحمايته.

ـ ومن أبو عامر؟

ـ أنا أبو عامر.

ـ معذرة ، لم أعرفك.

ـ لا بأس ـ بشرى لك!! لا مجال للخوف لأهل الإيمان فى هذه البلاد.

ـ قد سرنى ما أخبرتنى به.

ـ كنت راكبا فوق الجبل. لماذا بقيت الآن مترجلا؟

ـ أين ركابك؟

وهنا وقفت وانتبهت لنفسى وحكيت له كل ما جرى بالتفصيل فأخذنى من يدى وأوصلنى إلى مقر جماعة الهوازن (١) استودعنى هناك وعاد إلى بلده.

انتهى.

وكل هذه القصص تدل على صحة ما ينقل عن إسلام بعض الجن.

__________________

(١) إن هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وهو أب لقبيلة كبيرة وأولاد هوازن بكر وسييع ، وحرب ، ومنبّه ، ولا عقب لسييع ، وحرب ابنى هوازن.

وقد أخبر الشيخ عبد الوهاب الشعرانى عن وجود المسلمين والكفار من الجن ، ويتفضل بالاستمرار فى حديثه ليبين هل هناك بين كفار الجن من يعتنقون الإسلام.

سؤال ـ هل يستطيع الشياطين الذين كفروا أن يصبحوا مؤمنين بعد قبولهم الإسلام؟

جواب ـ هذا موضع خلاف بين العلماء. وسبب الخلاف الآتى : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما من أحد إلا وله قرين يأمره بالسوء ، فقال الأصحاب الكرام : وأنت يا رسول الله فقال مجيبا : «نعم ولكن الله أعاننى عليه فأسلم» (حديث شريف).

فاختلف حفاظ الأحاديث فى حركة حرف الميم فى «فأسلم» فقرأها بعضهم بضم الميم ويكون معنى الحديث عندئذ إننى أنجو من شره وقرأها بعضهم بفتح الميم وأشاروا إلى أن قرين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قبل الإسلام دينا.

وأيد بعض أئمة الحديث هذا المعنى برواية الخبر اللطيف الذى يقول : «فلا يأمرنى إلا بخير». (١)

ولكن لا يمكن لإبليس أن يسلم بدليل حكم هذا الحديث ، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد لعن إبليس إلى يوم القيامة.

سؤال ـ ما دام إبليس أول العصاة هل يجب أن يتساوى مع قابيل؟

جواب ـ نعم وهو كذلك. فقابيل أول أشقياء بنى البشر كما أن إبليس أول عصاة الجن ، ألم يقل الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (الكهف : ٥٠). ومعناها أن هذا المخلوق من جنس العصاة.

سؤال ـ قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ فى كتابه المنزل على لسان إبليس (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (الحشر : ١٦) ، ألا يشير معنى الآية الكريمة إلى أن إبليس موحد فى أعماق نفسه؟

__________________

(١) أخرجه مسلم فى ٥٠ كتاب صفات المنافقين ، (١٦) باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس ، حديث رقم ٦٩ ، ٧٠ ص ٢١٦٨ والبيهقى فى الدلائل ٧ / ١٠٠ ـ ١٠٢ (الروايتين) وانظر الهامش بدلائل النبوة ٧ / ١٠٠ ـ ١٠٢.

جواب ـ لا يدل هذا على توحيده ، لأنه هو الذى كان سببا فى وجود الشرك. وإذا فرضنا أنه قد وحد فى ذلك الوقت ، فمن المحتم أنه بعد قليل أصبح كافرا.

سؤال ـ الكفر الذى يأمر به إبليس ليس شركا : لأن الكفر هو اتخاذ المخلوق إلها آخر غير الله بينما الشرك هو جعل مثيل وند الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعلى هذا التقدير فكيف يكون إبليس أوجد الشرك؟

جواب ـ : إن المقصود هنا من الكفر هو الشرك ، كما قال لقمان مخاطبا ابنه. وقال الله ـ تعالى ـ (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (المائدة : ٢٩) والمقصود من الظالمين هنا هم المشركون. وكذا تفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ جل من قائل (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان : ١٣) ، وقال (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام : ٨٢) ، إن المقصود والظاهر من كل هذه الآيات هو التوحيد ومقابل الشرك هو التوحيد.

سؤال ـ الجلوس مع الجن مذموم أم محمود؟

جواب ـ مذموم وليس بمحمود. فالعلماء الذين يجيزون الجلوس معهم جهلة ، لأن الجن فضوليون كفساق الناس فبما أن العاقل يفر من مجالسة الفساق يجب عليه أن يفر من مجالسة الجن ، وفى الواقع ـ لكون أصلهم من النار ـ فهم كثيرو الحركة ومن هنا فهم ميالون للفضول. فجلساء الجن لم ينالوا خيرا وإن شرهم لشديد لجلاسهم وإنهم كفساق البشر يحاولون أن يطلعوا على عورات الناس وهذا ليس من شأن العقلاء.

ويقول الشيخ محيى الدين ـ قدس سره ـ فى باب ٥١ من الفتوحات لم يستطع أحد أن يعلم شيئا عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بمجالسة الجن ، لأن الجن أجهل من الناس بصفات الله تعالى والعالم الطبيعى ، ويمكن أن يتخيل جلاس الجن أنهم يستطيعون الاطلاع على أحداث العالم ووقائعه لكن هذا الموضوع مرتبط بإرادة الله وكرمه مهما يعلمون فقط بعلم السيماء الخاص بالنباتات والأحجار والأسماء والحروف والذين يتعلمون هذا يتعلمون ما ذمته الشريعة الإسلامية. لأن الذين يجالسون الجن يكتسبون صفة التكبر والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد ذم المتكبرين ونص على دخولهم النار. انتهى.

هذا وإن كان أهالى مكة المعظمة انشغلوا بالتعبد للأصنام إلى يوم الفتح ، إلا أنهم كانوا يحترمون الكعبة المعظمة حق الاحترام ويرعونها.

كما أن عرب الجاهلية يفدون إليها فى مواسم الحج من جميع جهات الجزيرة ويقومون بأداء الحج.

وكانوا ينبهون أولادهم بأن يتجنبوا ارتكاب المعاصى والبغى والشقاوة ، ويغرسون فى قلوبهم احترام بيت الله ويأمرونهم بمراعاة حرمة بيت الله والابتعاد عن جميع ما يسئ إليه وإلى مكة المكرمة وينشدون القصائد فى مدح بيت الله ويحرصون على تفهيم أولادهم كيفية احترام الملك التابع لبيت الله الحرام وكيف هلك الجبابرة من الأسلاف الذين أساءوا إلى البيت ، وخاصة كيفية هلاك أصحاب الفيل الذين أتوا لتخريب البيت الحرام.

وقد أدرجنا هنا بعض الأبيات من القصيدة المطولة التى قالتها سبيعة بنت الأحبّ بن زبينة بن جذيمة بن عوف (١) بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان لابنها «خالد» بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة فى تعظيم بيت الله ، وذلك لنثبت صدق مدعانا.

الأبيات :

أبنى لا تظلم بمكة

لا الصغير ولا الكبير

واحفظ محارمها بنىّ

ولا يغرنك الغرور

أبنى من يظلم بمكة

يلق أطراف الشرور

أبنى يضرب وجهه

ويلح بخديه السعير

أبنى قد جربتها

فوجدت ظالمها يبور

الله آمنها وما

بنيت بعرصتها قصور

ولقد غزاها تبع

فكسا بنايتها الحبير

وأذل ربى ملكه

فيها فأوفى بالنذور

__________________

(١) انظر المعارف لابن قتيبة ص ٦٨ ـ وسيرة ابن هشام ١ / ٢٥ ط دار الفكر بتحقيق محمد فهمى السرجانى.

ويظل يطعم أهلها

لحم المهارى والجزور

يسقيهم العسل المصفى

والرحيض من الشعير

والفيل أهلك جيشه

يرمون فيها بالصخور

والملك فى أقصى البلا

دوفى الأعاجم والجزور

فاسمع إذا حدثت واف

هم كيف عاقبة الأمور (١)

إن شدة تقديس أهل مكة للبقعة المباركة لكعبة الله وعظيم تقديرهم لها وكذلك وفود الحجاج إليها من كل فج عميق من أنحاء الجزيرة العربية ، ملأ قلوب بعض الملحدين حسدا وعيظا وحقدا ، لذا حاولوا أن يهدموا بيت الله الحرام وأن يبنوا فى بلادهم كعبة أخرى. ومن هنا كانت قصة أصحاب الفيل المليئة بالعبر قبل ولادة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الباهر السعادة بأربعة وخمسين يوما.

قد أراد «أبرهة» الوثنى من حكام اليمن وقد جمع حوله بعض القبائل وأقدم.

على هدم وتخريب كعبة الله المعظمة ـ كما سيأتى تفصيله فيما بعد ـ ولكنه خر بجيشه وأضمحل.

قصة الفيل العجيبة :

بلاد الحبشة :

قد انقرض ملوك التبابعة فى عهد أصخمة النجاشى (٢) وهكذا انتقل حكم اليمن إلى قبضة «أبرهة بن الصباح» الأشرم قائد جيش النجاشى أصخمة نيابة عن ملكه.

وقد انزعج «أبرهة» عند ما رأى أن عرب الجاهلية يزورون الكعبة المعظمة فى مواسم الحج متبعين فى ذلك ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ الحنيفية ، ويفد إليها من الناس من أماكن بعيدة متكبدين فى ذلك مشقات عظيمة.

__________________

(١) الأبيات فى سيرة ابن هشام ٢٦ / ١.

(٢) النجاشى لقد أصخمة ، إلا أنه علم على ملوك الحبشة مثل قيصر الروم وأكاسرة الفرس. ومعناه فى اللغة النبطية «العطية» ، كان النجاشى ملك عظيم القدر وقد آمن بسلطان الملوك نبينا صلى الله عليه وسلم وعرض عليه أشواقه فى مكاتباته.

قد تساءل هذا المغرور محدثا نفسه : يا ترى لماذا حاز هذا البناء المسمى بالكعبة كل هذا التوقير والتعظيم من قبل العرب؟! ما يا ترى مكانة هذا البناء وما مدى جماله وزينته حتى يجذب إليه كل هؤلاء الناس؟!.

ولما عرف أن الكعبة بيت من الحجارة المأخوذة من الجبال الكائنة حولها وأنها بناء حجرى عال عزم ـ بناء على رأيه الفاسد ـ أن يبنى معبدا أعظم وأضخم من الكعبة الشريفة وكتب إلى النجاشى طلبا يقول له فيه إننى أبنى بجانب قصر غمدان (١) فى صنعاء قصرا عظيما رصين البناء فخما يليق بعظمتكم وعلو شأنكم وسوف أجتهد على أن يكون هذا القصر مزينا لا مثيل له فى الفخامة فى العصور السابقة.

وبما أن النجاشى لم يلتق بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يعد ـ عند من يشترط اللقاء مع النبى صلى الله عليه وسلم ـ من الصحابة الكرام وإن كان بعض العلماء يعدونه من الذين يؤمنون بالمعاهدة من الأصحاب الكرام. قد مات النجاشى فى رجب من السنة التاسعة من الهجرة وصلى على جنازته فى المدينة المنورة وهذا يرجح كونه من الصحابة.

يروى أن هذا القصر قد هدم فى عهد عثمان بن عفان أو خلافة عمر وقصر غمدان أحد عجائب الدنيا وكان أحد جدرانه الأربعة أصفر اللون والثانى أبيض والثالث أخضر والرابع أحمر اللون داخل هذا القصر ، وفوقه قصر آخر من سبعة طوابق وكان بين طوابقه فواصل قدرها أربعون ذراعا وكان ارتفاع جدرانه الخارجى ٣٠٠ ذراع وكان فى كل ركن من أركانه الأربعة صورة أسد فاغر الفاه مكشوف من الأسفل فارغ البطن وعند ما كان يدخل الهواء فى أسفله يخرج من فيه محدثا صوتا غريبا شبيها بصوت القنفذ.

__________________

(١) قصر غمدان من القصور التى بناها يشرح من ملوك اليمن. وقال بعض الرواة : إن يعرب بن قحطان هو الذى وضع أسسه وأكمله وائل ابن حمير بن سبأ. وقال بعضهم (أن بانيه ضحاك ومع مرور الزمان انتقل أسسه إلى سيف بن ذى يزن) ، والرواية الأخيرة أقرب إلى الصحة وقال المؤرخون (أن ضحاكا قد بناه ونسبه إلى «نجم الزهرة» وبناء على هذا فإن قصر غمدان أحد البيوت السبعة التى نسبت إلى الروحانية وسميت بأسماء الكواكب السبع السيارة).

وعند ما أرسل أبرهة (١) الطلب إلى النجاشى أخذ يحفر أسس المعبد وفى ظل نفوذه وقوة دولته أخذ يستدعى من البلاد البعيدة الأساتذة من المهندسين والمتخصصين فى فن العمارة وجلب أنواع الرخام الصافية اللامعة كالفضة وأعمدة متنوعة وملونة ومتينة وحجارة قيمة ملونة ذات أشكال مختلفة والحجارة المنتزعة من قصر بلقيس ذات نقوش ومرصعة بالذهب والفضة وبنى فى صنعاء (٢) اليمن عاصمة ملكه ، كنيسة تثير الحيرة والدهشة بما تحتوى فى خارجها وداخلها من اليواقيت والمجوهرات التى رصعت بها الجدران كما صنع فيها منابر مصنوعة من الأبنوس والعاج ووضع فى أرجاء الكنيسة المذكورة أصناما مصنوعة من الذهب والفضة ، وعلق فى أبراجها نواقيس ضخمة ثم أعلن وأشاع (٣) فى أطراف الجزيرة أنه سيمنع الناس من زيارة الكعبة والطواف حولها وسيجبرهم على زيارة كنيسته هذه.

وبما أن الكنيسة قد بنيت فى مكان عال كما كان مبناها شاهق العلو فأطلق عليها بيت (القليس) إيماء إلى علوها. ثم بعث الرسل يدعون الناس لزيارة الكنيسة والحج إليها.

وكان غرض أبرهة من هذا صرف أبناء العرب عن زيارة الكعبة والحج إليها مرة فى السنة ويحملهم على التوجه إلى كنيسة صنعاء باليمن.

وعلى هذا أكره العرب على زيارة بيت الأصنام الذى فى صنعاء وتوجهوا إليه وأصبحوا لا يريدون أن يروا وجوه الذين يتحدثون عن هذا المعبد المنحوس ، وبناء على كراهيتهم الشديدة لهذه الكنيسة قتل أفراد قبيلة كنانة ، الرسول الذى بعثه «أبرهة بن صباح الأشرم» ليدعوهم ، فقتلوه رميا بالسهم.

__________________

(١) لم يشر أبرهة فى طلبه الذى كتبه للنجاشى إلى عزمه على هدم الكعبة حتى لا يغضبه.

(٢) إن مدينة صنعاء الشهيرة فى القسم الخامس من أقسام البلاد اليمنية وعاصمة البلاد الكائنة فى هذا القسم وتقع بين درجة (٥) (٢٢) دقيقة فى العرض الشمالى وبين (٣٢) درجة و ٤٤ دقيقة فى الطول الشرقى وفوق صحراء واسعة.

(٣) وقد روى هذه الواقعة أبو الوليد وابن هشام وابن إسحاق وإن كان فى أقوال كلهم زيادة أو نقصان إلا أن كلها مؤيدة لرواية ابن إسحاق.

وعند ما شاع بين سكان اليمن متانة بيت القليس ورصانته أخذ أبرهة يبعث الرسائل والرسل إلى سكان اليمن ومن حولها ، ويقول مفتخرا مباهيا إننى قد وفقت فى بناء معبد فخم وضخم لن ينس العرب معه اسم الكعبة فقط ولكنهم سيأنفون من ذكر اسمها.

وأخذت مثل هذه الأخبار تنتشر تدريجيا فى بلاد الحجاز حتى ذكرت فى خيم البدو واستثقلها القرشيون ؛ لذلك اختاروا شابا بطلا من سادات العرب يتصل بنسب بنى فقيم بن مالك ومن قبيلة كنانة وهو «نفيل بن حبيب الخثعمى» ، وبناء على القول المختار «قلمس (١) بن عبد الله بن فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر» من أهل نسئة ، ومعه رفيق شجاع وذهبا إلى صنعاء ودخلا فى بيت القليس حيث قضيا حاجتهما ثم لطخا جدرانه بالقاذورات لينفرا أهل اليمن من زيارة الكنيسة ، وأرادا بهذا أن يلمحا أن الدار القذرة التى يلجون فيها صبح مساء لا تصلح إلا أن تكون بيت خلاء.

لما عرف أبرهة ما جرى زاد غضبه وحزنه وتألم جدا ، ولما عرف أن الذين تجرأوا على فعل ما حدث هم من سكان مكة المكرمة أقسم على هدم وتخريب الكعبة المعظمة وقال : «إننى أستطيع أن أثأر من العرب بهدم البيت المعظم بالفيلة» وأعد جنده وجمع ـ بناء على قول ـ فيلين مشهورين ، وعلى قول ثمانية أفيال ، وفى رواية أخرى عشرة وعلى قول اثنا عشر أو ثلاثة عشر وبناء على روايات أخرى ألف فيل أو أربعة آلاف (٢) فيل شجاع كما أخذ معه فيل النجاشى المسمى محمود (٣) وساق كتائبه وجيشه نحو مكة سنة «٥٧٠ م».

اقتنع أبرهة الذى أعد كل هذه الفيلة وكل هذه الحشرات الحبشية لإدارة الأفيال عندما رأى كل هذه القوة بأنه لن يتعب فى هدم الكعبة المعظمة.

__________________

(١) قلمس بن عبد الله بن فقيم فهو من أفراد أهل نسأة ، اسمه الحقيقى «حذيفة» والزمن الذى ينتسب له يقال له «دور نسأة» أيضا. قيل ذلك لبنى فقيم لأنهم كانوا ينسأون الشهور. انظر المعارف لابن قتيبه ص ٦٠ ، ولسان العرب مادة نسأ

(٢) كان ثلاثة عشر فيلا من هذه الفيلة مدربين أحسن تدريب بينما كان الباقى من الفيلة العادية.

(٣) كان هذا الفيل أبيض اللون ويسمى محمودا وكنيته أبو العباس.

وكان يسوق أمام جنده أربعة صفوف من الفيلة وكان يظن أنه سينتصر حيثما يتجه بهذه الفيلة ويعتقد أنه لن يجد صعوبة فى هدم البيت المعظم وتخريبه.

قد زحف أبرهة نحو مكة الله ومعه ٦٠٠٠٠ (١) ألف أو ثلاثمائة ألف (٢) من الحشرات الحبشية لإدارة وسوق الفيلة وفى رأسه فكرة هدم البيت وتخريبه المستحيلة.

وقابل فى طريقه العرب الذين خرجوا للدفاع عن بيت الله ، وحاربهم وداسهم بسنابك خيوله وانتصر عليهم وأسر قوادهم وقيدهم بسلاسل الأسر ، وضرب خيامه فى مكان بين الطائف ومكة المكرمة المسمى «بمغمس» وأغار على حيوانات أهل مكة واستولى عليها ونهبها.

من الذين رفعوا السلاح فى وجه جيش أبرهة أولهم «ذو نفر» من أشراف اليمن ، والثانى الذى واجهه فى أرض خثعم «نفيل (٣) بن حبيب الخثعمى» أو «باعس» وأخوه «غفرس بن أقبل (٤) ونهران وناهس» تحت قيادة نفيل وبعض أفراد القبائل العربية.

وقد وقع «ذو نفر» ونفيل بن حبيب وهما من قواد الجيش وملوك اليمن أسيرين ، وتفرق العرب الذين كانوا تحت قيادتهما وقيدا بالسلاسل بأمر أبرهة. ثم فك أسر نفيل بشرط أن يكون دليلا لهم فى أثناء سيرهم فى أرض العرب.

عند ما وصل أبرهة إلى الطائف بدلالة «نفيل بن حبيب ضم مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف» من بنى ثقيف أحد أتباعه الضالين إلى جيش أبرهة ليكون دليلا لهم وهو «أبو رغال».

وقد سار «أبو رغال» مع جيش أبرهة إلى أن وصلوا إلى مكان يسمى

__________________

(١) صاحب هذه الرواية كان يحب أن يبالغ فى كلامه لأن ابن إسحاق لم يذكر عدد الفيلة ولا عدد الجنود.

(٢) هذا القول أقرب إلى الصحة ، لأنه لم يقصد عدد الجنود بل أراد أن يكنى عن كثرتهم كما تشير إلى ذلك الأبيات التى ستقيدها فيما بعد والتى نظمها عبد الله الزبعرى.

(٣) نفيل ـ هو أكمل بن ربيعة بن غفرس وكان من رؤساء قبائل شهران وباعس.

(٤) خثعم لقب أقبل.

«مغمس» حيث تشقق ومات لحكمة ما ، والبدو سكان البادية يرجمون حتى الآن قبر «أبو رغال» ويستحقرونه. (١)

اسم ثقيف أبو عوف ـ قسى بن النبيت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أقصى بن دعمى بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان ، لما قابل مسعود بن معتب الثقفى أبرهة عظمه وحدثه بفرح وسرور وقال له : «يأيها الملك إننا سندلك على الطريق ، إن عامة أبناء قبيلتنا عبيدك وكل ما تأمر به مجاب .. الكعبة التى تريد أن تهدمها وتخربها لا قيمة لها عندنا ، إن بيتنا بيت اللات وهو فى الطائف وكل أهل الطائف يعظمون هذا البيت كما تعظم الكعبة ثم قدم لهم «أبو رغال» السالف الذكر ليدلهم على طريق مكة.

عند ما انفلق أبو رغال وهلك كان أبرهة قد بعث بكتيبة من الجنود فى رفقة أسود بن مقصود الحبشى الذى كان فى مغمس للتعرف على أحوال مكة المكرمة ، عند ما وصل هؤلاء الجنود إلى أطراف مكة نهبوا وسلبوا الحيوانات التى كانت ترعى هناك.

بناء على هذه الوقعة ركب «عبد المطلب بن هاشم» سيد قريش وخادم الكعبة المعظمة ذو الرأى السديد بغله واتجه نحو معسكر الحبشة ، وقد استقبله أبرهة استقبالا عظيما ورحب به أيما ترحيب ـ إذ بلغه علو شأنه بين قومه وأشار له أن يجلس فوق كرسى فخم مزين.

وفى قول آخر إن أبرهة لم يستطع أن يقاوم ما كان عليه «عبد المطلب» من الوجاهة والمهابة فنزل من كرسيه وجلس فوق البساط وأجلس المشار إليه بجانبه وقاله له : «اطلب منى ما تشاء» فأجابه قائلا : «لا أريد منك شيئا غير أن ترد لى أربعمائة جمل نهبتها جنودك. والصحيح مائتان».

قد تحير أبرهة من هذه الإجابة الساذجة واندهش وقال له : ظننتك قد جئت ترجونى ألا أهدم الكعبة إنك تعرف جيدا أننى جئت لأهدم الكعبة التى تشكل ركنا من دينكم وأخربها.

__________________

(١) السيرة النبوية ١ / ٤٩. والعرب تستحقره لأنه كان دليلا لصاحب الفيل. وفى جامع معمر بن راشد أن أبارغال من ثمود وأنه كان بالحرم حين أصاب قومه الصيحة ، فلما خرج من الحرم أصابه الهلاك كما أصاب قومه فدفن هناك.

ثم أراك لا تطلب منى أن أنصرف عن هذا العمل بل تريد أن تسترجع ما نهبه جنودى من إبلك وهذا أمر لا يمكن أن يثير إلا عجبى ودهشتى.

فتلقى من عبد المطلب هذه الإجابة الحكيمة :

«لما كنت صاحب الإبل فإننى أريد أن أستردها. وللكعبة صاحب أيضا فإذا أراد سيمنعك من التسلط عليها».

واستغرق أبرهة فى تفكير عميق إذ تلقى هذا الرد ثم قال مستهزئا : «أذهب وانظر كيف سيحافظ ربك على الكعبة ضد قوتى القاهرة وسطوتى الجبارة» ثم أعاد لعبد المطلب جماله ورده معززا مكرما وبين له أنه لم يأت ليحارب أهل مكة إنما جاء لهدم الكعبة المعظمة ، وتخريبها ، ومن هنا ليس لأهل مكة ما يثير قلقهم أو يخوفهم.

قد رأى سكان مكة ـ بناء على رأى عبد المطلب ـ أن يخلو مكة وينسحبوا إلى الجبال وألا يحاولوا الدفاع عن مكة ولكنهم فى نفس الوقت كانوا يتمنون أن يروا المصيبة التى سوف يتعرض لها أبرهة.

قال بعض المؤرخين : «قد أخبر الجنود المكلفون بالذهاب إلى مكة أبرهة أنهم لم يوفقوا في قتل عبد المطلب بعد ما نهبوا جماله».

وقد أرسل أبرهة إلى عبد المطلب حميريا يقال له «حناطة» ليخبره بأن هدفه من المجئ إلى مكة هو هدم الكعبة وإذا كان بين الأهالى من يريد أن يدافع عن الكعبة يجب عليهم أن يستعدوا للحرب والقتال.

وكان رد عبد المطلب إننا لا نحارب إن البيت بيت الله إذا ما صانه وحفظه فهو بيته. أما إذا لم يحفظه ، فليس لنا قبل للدفاع عن البيت. ثم ذهب مع «حناطة» إلى أبرهة وعند ما مثل أمامه قد نزل من سريره وأجلسه بجانبه ورحب به أعظم ترحيب وكرمه تكريما.

لو كان أبرهة رأى من عبد المطلب أدنى علامة تدل على رغبته فى عدم هدم

البيت لتنازل عن فكرته ورجع إلى بلده لأن هيئة البيت المحتشمة وما فيه من روحانية فى طريقة وضعه وما فيه من عظمة ومهابة قد ألقى فى قلبه خوفا وخشية فوق العادة ـ فالأمين إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد بناه تنفيذا لإرادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا أن عدم صدور أدنى التماس أو رجاء بخصوص عدم هدم البيت من عبد المطلب حمل أبرهة على المضى فى عزمه لأنه لم يجد سببا يثنيه عما أقدم عليه.

وبلهجة كلها ثقة رد عبد المطلب على أبرهة ردا قاطعا مما أيأسه وآنس أهل مكة ببشارة خفية ، لأنه كان واثقا أن أى فرد مهما كانت قوته لن يستطيع إلحاق الخسارة ببيت الله المعظم وذلك تكريما وحرمة لخاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وسلم.

لأن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتقل إلى رحم أمه فى الفترة التى غزا فيها أبرهة الحجاز ووصل بالقرب من مكة وبدأت تظهر علامات خارقة للعادة ، كما سعد عبد المطلب بالرؤى الجميلة فى منامه ، وكل هذه القرائن كانت تنم عن قرب تشريف النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الدنيا ، ولكل هذا كان عبد المطلب يأمل ألا يستطيع أبرهة هدم كعبة الله بتخريبها ، أخذ حناطة الحميرى عبد المطلب مع بعض أولاده وأتى بهم إلى خيمة أبرهة.

وعلم عبد المطلب بأن سيف ذى نفر فى السجن فالتقى معه واستمع إليه إذ يقول : يا عبد المطلب ماذا تنتظر من أسير يترقب قتله اليوم أو غدا وماذا تأمل منه ، ومع هذا سايس الفيل «محمود» من أحبائه وهو شخص يسمى «أنيس» وهو من الذين يثق فيهم أبرهة ويعتمد عليهم وقد أرسلت له بأنباء. فاذهب إليه وفعلا ذهب إليه عبد المطلب وتلاقى معه.

كان النبأ الذى أرسله ذو نفر إلى أنيس (١) يشمل المعانى الآتية :

__________________

(١) قد رأت السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنيس وسائق الفيل محمود ، فى مكة يتسولان. وكما تقول المشار إليها إن كليهما كان أعمى وبما أنهما قد نبهوا أبرهة بحسن قبول عبد المطلب أنجاهما الله بما حل بجيش أبرهة وأصيبا بالعمى.

«إن الشخص الذى نهبت حيواناته ، هو سيد قريش وهو صاحب عين زمزم الموجودة بمكة إن هذا الشخص يطعم الناس فى الصحراء والوحوش على رءوس الجبال».

إن المطلوب منكم هو إبلاغ أبرهة بأن جنوده قد استولت على مائتين من إبل عبد المطلب سيد قريش ، فإذا استطعت فاشرح الموضوع لأبرهة واحمله على تكريمه ورد إبله له ، وقد نقل أنيس هذه الأقوال إلى أبرهة لذا أكرمه أعظم إكرام وأعاد له جماله.

إن «يعمر بن نفاثة بن عدى بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة» رئيس قبيلة بنى بكر وخويلد بن وائلة الهذلى رئيس قبيلة «بنى هذيل» أرادا أن يصرفا أبرهة عن هدم الكعبة وذلك بعرض ثلث واردات تهامة (١) الحجاز السنوية ، ولما رفض طلبهما استعدا للحرب بالاتفاق مع قبائل (قريش وكنانة وخزاعة وهذيل والقبائل الأخرى) ، ولكنهم غيروا رأيهم واتبعوا فكرة عبد المطلب إذ أحسوا أنهم سيتعرضون للهزيمة.

وعند ما رأى أبرهة أن أهل مكة لا يدافعون عن بلادهم ، ساق حشراته إلى «وادى المحسر» (٢) الواقع بين المزدلفة ومكة المعظمة واستعجل فى تنظيم صفوف جيشه وطلب من ساسة الفيلة أن يهيئوا أفيالهم للهجوم على مكة ودفعوا الفيل «محمود» نحو الكعبة ، ورغم جهود السايس المضنية لسوق الفيل محمود ناحية الكعبة المعظمة لم يتحرك الفيل خطوة واحدة نحو الهدف ، ولم تفد جميع محاولاتهم وما بذلوه من سعى لدفع الفيل نحو الكعبة كلما كانوا يسوقونه إلى الأمام يقع ولا يتحرك.

ولما رأوا أن المحاولات المضنية لدفعه إلى الأمام لم تأت بنتيجة ، لذا سقوه

__________________

(١) إنها مدينة زبيد المشهورة فى الناحية الجنوبية من قطعة الحجاز.

(٢) إن سبب إطلاق محسر على هذا المكان لأن أصحاب الفيل قد تعرضوا هناك لعذاب الله وعقابه. لأن الفيل محمود لم يتقدم إلى الأمام بعد هذا المكان وتبعته الأفيال الأخرى ولم تتحرك خطوة إلى الأمام.

خمرا ـ بأمر أبرهة ـ حتى يفقد عقله وتمييزه ثم وجهوه إلى جهة أخرى.

وأسرع محمود السير لتلك الجهة وتبعته الأفيال الأخرى وأخذت تجرى بسرعة خلف محمود وعند ما أرادوا أن يوجهوها إلى الكعبة كانت تبرك ولا تتحرك وكأنها لا تريد أن تهاجم الكعبة المعظمة.

عند ما رأى «نفيل بن حبيب الخثعمى» الأسير المصفد ، بالأغلال لدى أبرهة هذه الحالة المليئة بالحكم للفيل «محمود» ـ إذ كان يمتنع من السير نحو الكعبة وعند ما يوجهونه ناحية الشام أو اليمن كان يسرع ـ أمسك نفيل بن حبيب أذن الفيل وقال له : «يا محمود احذر من التقدم لأنهم يريدون أن يستغلوك في تخريب بيت الله مع أنك في بلدة الله ، فابرك محمود أوعد راشدا من حيث جئت».

أراد نفيل بن حبيب بفعله هذا أن ينبه الجيش الحبشى أن ما يريده أبرهة يشبه خيالا مستحيلا وأن محمودا والفيلة الأخرى لن تهاجم كعبة الله المعظمة. إلا أن أبرهة لم يتنبه لما يريده ابن حبيب الخثعمى كما لم يستطع أن يدرك شيئا من حركات الأفيال الحكيمة بل أصر على تنفيذ ما في ضميره وأخذ يضرب الفيلة ويشتمها حتى كاد يهلكها.

وفى تلك الأثناء أخذ عبد المطلب «عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى وبضعة من رجال قريش المخلصين معه ومضى إلى باب المعلى من الكعبة المعظمة واحتضن حلقاته وأخذ يتضرع ويناجى قاضى الحاجات وهو ينشد الأبيات الآتية :

يا رب إن المرء يم

نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصلي

ب وعابديه اليوم آلك

إن كنت تاركهم وقب

لتنا فأمر ما بدا لك

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم أبدا محالك

فلئن فعلت فإنه

أمر يتم به فعالك

بينما كان أبرهة مشغولا بسوق الفيلة نحو كعبة الله التصق عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن عبد الدار بباب الكعبة العظيمة أيضا وأخذ يناجى ربه وينشد بعض الأبيات التى تبين نهب أسود بن مقصود الحميرى (١) حيوانات أهل مكة واستيلائه عليها.

وبينما كان عبد المطلب ورفاقه منهمكين عند كعبة الله بالتضرع والابتهال وكان أبرهة يبذل جهده لحمل الفيلة للسير نحو الكعبة إذ ظهر فجأة فى السماء مجموعة من الطيور الصغيرة تشبه طائر «السنونو» من ناحية البحر يحمل كل واحد منها فى منقاره حجرا واثنين بين مخالبه وكان أكبرها فى حجم حبة الحمص وأصغرها فى حجم حبة العدس أى ثلاثة أحجار من سجيل (٢) واتجهت أسراب الطيور نحو مكة المكرمة.

جاء في رواية أن هذه الطيور الصغيرة أقبلت من ناحية البلاد الهندية ، وكانت مناقيرها حمراء ورءوسها سوداء ، رقابها طويلة أجسامها شبيهة بأجسام الخفافيش وبناء على قول آخر أن مناقيرها كانت صفراء رقابها خضراء وأجسامها شبيهة بأجسام العصافير وقد سطر على كل حجر تحمله اسم الشخص الموكول بهلاكه.

قد فسر عكرمة (طَيْراً أَبابِيلَ) (الفيل : ٣) كلمة أبابيل عنقاء المغرب.

يقول صاحب القاموس إن (عنقاء المغرب) ظهرت فى عصر موسى ـ عليه السلام ـ قد خلق أولا أنثاها ثم خلق ذكرها وهكذا تناسلا وتكاثر نسلهما وبعد وفاة النبى المشار إليه انتقلت هذه الطيور إلى حجاز نجد حيث أخذت تؤذى

__________________

(١) أسود بن مقصود هو من رؤساء الحشرات الحبشية التى أرسلها أبرهة من مغمس للاستيلاء على حيوانات أهل مكة. والأبيات التى كان يرددها عكرمة يدعو بها على أسود بن مقصود أوردها ابن هشام فى السيرة ١ / ٥٣.

(٢) إن هذه الحجارة خليط من التراب والحجر والذى أطلق عليه فى القرآن الكريم اسم «السجيل» وكان أصغره فى حجم حبة العدس وأكبره فى حجم حبة الحمص.

الأطفال الصغار ولكنها طارت إلى أعشاش الهلاك والعدم بفضل استجابة دعاء «خالد بن سنان العبسى (١)» الذى عاش فى عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم.

يروى أن أجناسا من طيور الأبابيل تعيش فى زماننا فى نواحى الهند الصينية وأنها تبعت إلى دار السعادة استانبول كهدايا.

إن هذه الطيور لا تشبه طيور الأبابيل تمام الشبه إلا أن الذين ينظرون إليها بعين الإمعان يجدون فيها علامات تحمل الناس على تشبيهها بتلك الطيور ، ويعتقد أنها تعرضت لتغير شكلها بمرور الزمان وقد نقلت روايات كثيرة عن شكل ولون وصورة هذه الطيور ، حتى أن «عبد الله بن عباس» يروى أن لها مناقير كخراطيم الفيل وأسنانا شبيهة بأنياب الكلاب. ويدعى بعض الرواة أن الطيور الموجودة الآن فوق باب إبراهيم ووالزرازير من بقايا طيور الأبابيل والله أعلم بالصواب.

لم يكن يعرف شيئا عن ظهور هذه الطيور لا أبرهة ولا عبد المطلب ورفقاؤه الذين كانوا يتضرعون إلى الله ممسكين حلقات كعبة الله. وفى فترة نظر عبد المطلب إلى السماء ورأى كثيرا من الطيور الأبابيل تقبل نحو مكة المفخمة وتعجب من أشكالها وقال لرفقائه : «أيها الأصدقاء إن هذه الطيور لا تشبه طيور نجد وتهامة ولا بد أن يكون فى هذا حكم ما» ثم اتفقوا على أن يصعدوا فوق قمة جبل أبى قبيس ليروا الطيور جنود الله المجندة ـ التى ظهرت من ناحية البحر وبعد فترة وقفت حذاء جنود أبرهة الذين أزعجوا العالم. ثم تركت الحجارة التى كانت ذات آثار نارية الواحد تلو الآخر وكان كل حجر يدخل من فوق رءوس الأعداء الحشرية وينفذ فى أجسامهم ويخرج من أدبارهم ويقضى عليهم بالهلاك في التو واللحظة.

لم يبق بين جنود الأعداء فرد متنفسا لم يهرب إلا أبرهة والفيل محمود والأفيال التابعة له.

وكل من يمسك بجثة أحد هالك كان يستطيع أن يحملها كما يحمل البيضة لأن الحجارة كانت قد أحرقت أجسامهم كما تحرق النار الفتيل. ثم ظهر سيل عظيم

__________________

(١) انظر خبره فى : المعارف لابن قتيبة ص ٦٢.

بالبحر مثير للدهشة وحمل جثث الأعداء المنتنة وكنسها إلى البحر وهكذا طهرت ساحة مكة الله.

وهناك قول يدعى أن الحجارة التى ألقيت من قبل طيور الأبابيل إذا ما أصابت شخصا تظهر فى جسمه بثور مثل البثور التى تظهر فى الشخص المصاب بالحصبة والجدرى ، والذين أصيبوا بها ماتوا وهلكوا من شدة أوجاعها والبقية الباقية وصلوا إلى الحدود اليمنية بكل صعوبة ونجوا بجلدهم فارين.

حينما تشتت جيش أبرهة واضمحل كما سبق تعريفه ، هجم أهالى مكة على معسكره وأخذوا ما وجدوه من أموال وأسلحة وأشياء ونالوا ثروة وأصبحوا من أهل اليسر والغنى ونالوا غنائم بدون أن يتعبوا ودون أن يتعرضوا للمحاق والمشاق وذلك لحرمة حبيب الحق رسول رب الفلق وتضاعفت شهرتهم عن ذى قبل ونجوا من شر العدو القوى الشرس الذى أخاف عربان جزيرة العرب ، كما أن القبائل المعارضة لهم انصرفت عن حربهم وقتالهم لأنهم اعتقدوا أن أهل مكة مؤيدون من قبل الله.

وقد ولد خاتم الأنبياء سيدنا محمد بعد واقعة الفيل بأربعة وخمسين يوما وبناء على هذا التقدير قد حدث قدوم أبرهة إلى مكة ومغادرته لها فى أواسط شهر المحرم ويوافق ولادة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شهر ربيع الأول الموافق لشهر أبريل من الشهور الرومية.

قد أطلق العرب على السنة الميلادية التى توافق خمسمائة وتسع وستين «عام الفيل» وقد اتخذوا هذه الواقعة مبدأ تاريخ لهم وتفاخروا بها وأنشدوا فى حقها أناشيد وألقوا القصائد وأخذوا يعظمون أهل قريش ويوقرونهم قائلين «هؤلاء أهل الله ، لذلك أهلك الله أعداءهم» ، لا يستطيع إنسان أن يحصى الأشعار والقصائد التى ألقيت بخصوص هذه الواقعة وإننا قد أدرجنا بعض هذه القصائد المختارة من قبل المؤرخين.

والقصيدة الآتية من جملة تلك القصائد وقد أنشدها عبد المطلب بن هاشم.

قلت والأشرم تردى خيله

إن ذى الأشرم غربا لحرم

كاده يتبع فيمن جندت

حمير والحى من آل قدم

فانثنى عنه وفى أوداجه

جارح أمسك فيه بالكظم

نحن أهل الله فى بلدته

لما يزل ذلك على عهد أتم

إن للبيت لربا مانعا

من يرده بآثام يصطلم

والأبيات التالية من قصيدة طويلة لعبد الله بن الزبعرى بن عدى بن قيس بن عدى بن سعيد (١) بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر ، يقول عبد الله بن الزبعرى :

يتكلموا عن بطن مكة أنها

كانت قديما لا يرام حريمها

لم تخلق الشعرى ليالى حرّمت

إذ لا عزيز من الأنام يرومها

سائل أمير الجيش عنها ما رأى

ولسوف ينبى الجاهلين عليمها

ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم

بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

كانت بها عاد وجرهم قبلهم

والله من فوق العباد يقيمها

وعرض ابن الزبعرى فى المصراع الذى قال فيه «بل لم يعش بعد الإياب سقيمها» بأن أبرهة هلك أيضا في صنعاء. كما أنشد هذه الأبيات أبو قيس صيفى بن الأسلت بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك الأوسى :

ومن صنعه يوم فيل الحبو

ش إذ كلما بعثوه رزم

محاجنهم تحت أقرابه

وقد شرموا أنفه فانخرم

وقد جعلوا سوطه

مغولا إذ يمموه قفاه كلم

فولى وأدبر أدراجه

وقد باء بالظلم من كان ثم

__________________

(١) كذا نسبه ابن إسحاق ، والصواب سعد بن سهم ، وسعيد أخو سعد بن سهم انظر : السيرة النبوية ١ / ٥٨.

وينسبون القطعة الآتية إلى أمية بن أبى الصلت ـ الأبيات :

فقوموا فصلوا لربكم وتمسحوا

بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاء مصدق

غداة أبى يكسوم (١) هادى الكتائب

فلما أتاكم نصر ذى العرش

ردهم جنود المليك بين ساف وحاصب

فولوا سراعا هاربين ولم يؤب

إلى أهله الأحباش غير عصائب

أراد أبرهة أن ينجو من هذه الكارثة المهولة وطلب من «نفيل المكى» الذى مازال فى أسره أن يدله على الطريق فأجابه قائلا :

«أين المفر والإله الطالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب»

حينئذ اعتمد على نفسه في الفرار ووصل إلى بلاد الحبشة بصعوبة يقع تارة فى الطريق ويقوم أخرى ، وقص كل ما حدث على النجاشى بالتفصيل ، واصفا شكل الطيور وصورها فقال النجاشى : ما أعجبه من حادث أيا ترى ما نوع هذه الطيور؟! فأشار أبرهة إلى طائر قائلا : كانت تشبه لهذا الطائر الصغير وإذا بالطائر يرمى الحجارة التى يحتفظ بها على أبرهة ويقضى عليه بحيث قطع الحجر يديه من منكبيه ، ورجليه من فخذيه بينما أصابه واحد من الحجارة فى رأسه وأهلكه.

وبناء على رواية أخرى أن أبرهة لم يهلك بحجارة طير الأبابيل بل مرض بمرض الجذام الخبيث وعاد إلى اليمن بعد ما ترك أبا يكسوم نائبا عنه حيث لقى حتفه (٢).

إن أبا يكسوم هذا أخذ يقص للنجاشى أحداث طيور الأبابيل ، وإذا بأحد طيور الأبابيل الذى كلف بإهلاك أبى يكسوم هذا يلقى بحجر على أبى يكسوم بمجرد الانتهاء من كلامه وهكذا تأسف النجاشى إذ عرف كيف هلك جيشه فى أرض مكة.

قد حدثت وقعة الفيل الغريبة في اليوم السابع عشر من شهر المحرم فى وقت

__________________

(١) أبو يكسوم اسم الشخص الذى تركه أبرهة فى المعسكر نائبا عنه.

(٢) انظر السيرة لابن هشام ١ / ٥٥ ، المعارف لابن قيتبة ص ٦٣٨.

الفجر. كما أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرف الوجود ليلة الاثنين من الثانى عشر من شهر ربيع الأول ، فكانت ولادة النبى صلى الله عليه وسلم بعد حادثة الفيل بأربعة وخمسين يوما بالتمام.

بعد ما هلك أبرهة على الوجه الذى ذكر اختلف الأحباش فيما بينهم وتركوا العناية بالقليس.

وأهملت كنيسة الأحباش فترة طويلة حتى تحول ما حولها إلى غابات وأصبحت مقرا للوحوش والسباع ، حتى أن الذين يرون منظرها الذى يثير الدهشة ـ يخافون أن يمروا من جانبها.

وبعد فترة باتت بجانبها قبيلة من عربان البادية فى ليلة من اليالى وأوقدوا نارا فسرت شرارة منها إلى تلك الكنيسة فاحترقت وانمحت من الوجود.

ويزعم بعض المؤرخين أن الخليفة الأول أبو العباس السفاح من خلفاء الدولة العباسية قد عرف أن القليس قائمة كما هى فأمر والى اليمن بهدم تلك الكنيسة وهكذا استطاع أن يستولى على الدر واليواقيت التى لا تعد ولا تحصى.

استطراد :

بناء على ما قرره علماء طبقات الأرض بعد الكشف على الفيل محمود أنه من فصائل الأرض الثالثة إلا أنه قد شوهد في الأرض الرابعة أيضا.

ويستدل من الحكاية التالية على أن محمود كان من الحيوانات الضخمة فى الجثة وإقدام أبرهة على هدم الكعبة بفيلين أو اثنى عشر فيلا فقط. إلا أنه إلى وقتنا هذا لم ير حيوان فى ضخامته كما أن علماء طبقات الأرض والطبيعة لم يكتبوا شيئا عن وجود حيوان ضخم مثله فى كتبهم.

إلا أن صياد السمك قد وجد جثة حيوان ضخم متجمد بين الثلوج قبل هذا بست وسبعين سنة في مصب نهر (لنا) بسيبريا.

إلا أنه لم يستطع أن يعرف كنه هذه الجثة ، لذا تركها على حالها وعاد. وبعد ما ذابت الثلوج بخمسة أعوام ظهرت الجثة للعيان واستطاعت المياه أن تدفعها إلى شاطئ النهر بالقرب من قرية فانتزعها سكان القرى المجاورة.

كما أن كلاب العراء والوحوش التى أقبلت من فوق الجبال ظلت تأكل لحمها فترة ولم يبق منها إلا هيكلها العظمى بدون رجليها الأماميتين.

وأرسلت أكاديمية بطرسبورج متخصصا ليعاين الجثة وبعد المعاينة قرر ذلك المتخصص أن الجثة جثة الفيل محمود واسترجع بقايا الجثة من أيدي القرويين ولم يكن قد بقى منها غير الرأس والأنياب ومع هذا لم يستطع أن ينقلهما إلا بهمة عشرة من الحمالين.

قد وزن أنياب هذا الحيوان فوجدها (١١٢) أقة ، فإذا ما سلمنا بضخامة جسم الفيل محمود بهذا القدر وعرفنا بناء على الروايات أن أبرهة قد ساق أربعة آلاف فيل لهدم الكعبة ـ المستحيل التنفيذ ـ نستطيع أن نفهم بأدنى ملاحظة عدد السياس الذين يحتاج إليهم أبرهة للعناية بالفيلة ومن هنا لا يستبعد أن يكون عدد المشتركين في الجيش ستين ألفا.

معلومات خاصة فى صورة خلقة الفيل وكيفية العناية به :

إن الحيوان الذى نطلق عليه الفيل قد خلق بخصائص تميزه عن جميع الحيوانات ، لقد استخدم الناس فى الأزمنة القديمة الفيل فى الحرب وفى أعمال شاقة أخرى.

بما أن الفيل يتصف بالصدق والوفاء والحلم والذكاء وهى من الصفات الحميدة فما لا شك فيه أن الإنسان يمكنه أن يستفيد منه.

ومن صفاته الحدة والغضب أيضا إلا أنه يعرف مدى قوته ، لذلك يكظم غيظه وحدته ولا يتهور إلا إذا تعرض للخطر.

وبما أن قوته تامة وكاملة فإن هذا يدفعه إلى أخذ ثأره ممن أساء إليه ، ولكنه يشكر نعم من أحسن إليه ويبين له صداقته.

إن عينيه صغيرتان بالنسبة لضخامة جسمه. وبما أن عينيه الصغيرتين مرآة لما يعتمل فى أعمال نفسه يمكن أن يفهم من حركة عينيه شكره ومجاملته وغضبه وتهوره.

أذناه مبسوطتان كبيرتان عريضتان وأرجله غليظة وجلده تخفيه طبقة فوق طبقة وله خرطوم يرتخى من فيه.

وبما أن خرطومه فيى غاية القوة فهو يدافع به ضد كل شىء وغير هذا له نابان قويان بارزان من جانبى فمه فإذا اضطر استخدمهما فى الهجوم أو الدفاع.

وقد استخدمه الناس فى الأزمنة القديمة مستفيدين من طبيعته الحليمة في جميع الأعمال. والآن يستخدمه الناس فى آسيا والهند كحصان عادى ، حتى إنهم يقدمون على صيد الحيوانات المفترسة بواسطة الفيلة.

كان الأوائل يبنون قلاعا صغيرة ويملأونها بالأسلحة الخاصة بزمنهم مثل الخنجر ، الرمح ، السهم ، القوس السكين ويقومون بتعبئتها بالجنود القادرين على الحرب والضرب ثم يحملون الفيلة بهذه القلاع والحصون الصغيرة ويسوقونها إلى ميدان المعركة.

يروى أن «بدوس» ملك الهند قد ساق مثل هذه الحصون فى حروبه ضد الإسكندر الأكبر الشهير فى آسيا فى سنة ثلاثمائة قبل ميلاد عيسى عليه السلام.

والخلاصة أن الأقوام الهندية كانوا يسوقون فى حروبهم الفيلة المدربة لنظم قتالهم قبل اختراع الأسلحة النارية وتعد أقوى جيوشهم وفيالقهم ، تلك التى تضم هذه الحصون المتنقلة. وبما أن الفيلة تخاف وتنفر من دخان البارود وضوئه ومن أصوات المدافع والبنادق فقد أهمل سوق الفيلة فى ميادين الحرب ، منذ اختراع الأسلحة النارية.

فى تعريف رصانة أبنية القليس :

إن معبد الأصنام الذى بناه أبرهة فى صنعاء اليمن كان بناء متينا مربع الشكل ، وكان ارتفاع جدرانه ستين ذراعا «٨٥ قدما» وكان سمك جدرانها ستة أذرع «٨ قدم و ٨ بوصة».

وكانت قاعدتها السفلية قد ملئت قدر عشرة أذرع وفرشت بحجارة ملونة مصقولة ووضعت أمام الباب سلالم من الرخام المجلو الصقيل.

إن مقدار ٢٠ ذراعا «٢٨ قدم ٤ بوصة» من الجدران ابتداء من الأرض كانت مبنية من الحجارة المنقوشة التى يطلق عليها اليمانيون «حورب» والجزء الأعلى منها كان مصنوعا من الرخام الملون العجيب فى أشكال مثلثة وركزت فوق زوايا المثلث الرأسية تماثيل مصقولة مصنوعة من خشب الآبنوس ونصبت فوق كل هيكل أعمدة مصنوعة من المرمر.

وكان يحيط ـ دائرا ما دار ـ ببيت القليس حائط عال فى غاية العلو ومتين وفى اتساع مائتى ذراع أى ٣٨٢ قدم و ٤ بوصات بينه وبين البيت ، وكانت بوابة كبيرة تفتح فى محاذاة باب بيت القليس ، وكان ارتفاع مصراع البوابة ١٤ ذراعا أى ١٩ قدم ، ١٠ بوصات وعرضه أربعة أذرع أى ٥ أقدام و ٨ بوصات وكان مصنوعا من قطعة واحدة من النحاس.

وكان يربط بين بوابة الحائط الخارجى ودرج باب بيت القليس جسر معلق فى طول ثمانين ذراعا أى ١١٣ قدم و ٤ بوصات وفى عرض أربعين ذراعا أى ٦٥ قدما و ٨ بوصات وكانت كل مساميره من الذهب والفضة وخشبه من خشب شجرة الساج.

وكان فى داخل بيت القليس قصر عجيب فى اتساع أربعين ذراعا مربعا أى ٥٦ قدما و ٨ بوصات وكان على يمين ويسار هذا القصر شجرة عظيمة مصنوعة من الذهب حاملة الكرة الأرضية وصور الكواكب وكان في داخل هذا القصر قبة كقبة السماء مبنية فوق أربعة أعمدة متساوية متوازية وكان فى مركز استقامة هذه القبة قصر آخر قد زين داخله وخارجه بالذهب والفضة وهو قصر مشع يثير العجب والدهشة وكان فى وسط هذا القصر عمود شفاف مجلو وكان يلمع ويتلألأ كلما انعكس عليه ضوء الشمس والقمر.

وكان العمود المذكور فى ارتفاع عشرة أذرع أى ١٤ قدما ، وبوصتان وقد علق على جوانبه كثير من السلاسل الفضية وقد اتصل به كرسى مصنوع من العاج والأبنوس وغطيت أدراج هذا الكرسى بعضها بالذهب وبعضها بالفضة قد مرت على جانبيه قطعتان من الخشب المنقوش المسميتان ب «كعيب. إمرة كعيب»

وكانت القبائل الحميرية قد اتخذت كعب وإمرة كعيب إلها ويؤمنون بأنه يخبر عن الخير والشر ولذا يتعبدون له ويزورون ويطوفون حول بيت القليس من داخل السور.

وقد بلغ قوة معتقد الحميريين بكعيب أو إمرة كعيب حدا يفوق معه أن كل من يقصر فى تعظيمهما أو إجلالهما سوف يتعرض حتما لغضبهما ، لذا كانوا يفرون منه خوفا من أن يصيبهم شر غضبهما.

قد دام هذا المعتقد مدة طويلة لدرجة أنه لما تهدم بيت القليس وخرب ، وبينما تباع أنقاضه مرض أحد الذين اشترى الشجرة التى كان يطلق عليها أبرهة كعيبا صدفة فقيل إن كعيبا قد أصابه بسوء ، ولما عرفوا أن الرجل قد شفى واعتدل مزاجه استعجبوا من ذلك.

قصة بيت أصنام بنى بغيض :

قد بنى بنو بغيض بن ريث بن غطفان فى فترة ما رغم وجود الكعبة المعظمة ، بيت كفر وأسندوا سدانته إلى بنى مرة بن عوف الغطفانى ، إلا أن زهير بن جناب بن خليل (١) بن كنانة بن بكر بن عذرة الكلبى ، وهو من الكهنة المشهورين ، جمع قوة عسكرية وأحرق معبد الأصنام المذكور وهدم جدرانه ومحاه من الوجود.

كان زهير بن جناب من رؤساء قبائل قضاعة ، عرف بسداد الرأى وعاش (٢٥٠) عام أو على قول آخر (٤٥٠) عام وخاض فى أثناء حياته هذه مائتين من الوقائع.

وقد تغلب زهير على العربان الذين أرادوا أن يدافعوا عن معبد الأصنام الذى خربوه وأسر أولادهم ونساءهم ونهب أموالهم وبناء على توسلات بنى غطفان أعاد لهم أسراهم كلهم.

__________________

(١) يروى بناء على قول آخر أن أبا جناب هو هبل بن عبد الله بن كنانة.

هجوم ملك الروم .. بقصد تخريب كعبة الله القيوم :

إن ملك الروم الذى عاصر ألب أرسلان من ملوك آل سلجوق ، تحرك ضد الإسلام وبناء على ما جاء فى تاريخ رضوان باشا قد نوى وقصد هدم البيت المعظم بسوق مليونين من الجنود ، وحينما عرف ألب آرسلان بهذا الخبر أسرع بإعداد قليل من الأبطال فى شجاعة الأسود ، وخرج من أصفهان وقابل المعاندين الروم فى مكان قريب من ديار بكر وابتدر بحربهم واستطاع أن يأسر رومانوس ملك الروم بينما كان مشغولا بالصيد كما أسر من كان معه من الصيادين وكبلهم بالسلاسل وأعمل السيف في جنده الذين أعدهم لسوقهم إلى مكة ودمرهم بينما هرب من نجا من السيف (١).

وإن كانت هذه الواقعة منقولة من تاريخ رضوان باشا إلا أن أبا بكر الطرطوشى (٢) مؤلف «سراج الملوك» يكتب عن انتصار ألب آرسلان على رومانوس بهذه الصورة.

إن القيصر رومانوس (٣) حشد جيوشه للاستيلاء على البلاد الإسلامية والقضاء على الأمة الإسلامية من على سطح الأرض.

وكان لهذا الخبر وقعه السيئ فى المدن الإسلامية ، فاضطرب ملوك المسلمين واضطروا إلى أن يتخذ كل واحد منهم وسائل الدفاع ويعد جنودا ـ قدر استطاعته ـ وبقى منتظرا قدوم الأعداء.

وكان ألب آرسلان (٤) فى ذلك الوقت في أصفهان فأعد قوة عسكرية صغيرة

__________________

(١) إن إعداد مليونين من الجنود فى ذلك الوقت بعيد الاحتمال إنما أراد المرحوم رضوان باشا أن يكنى عن كثرة عدد جند الروم لأن تجهيز مليونين من جند مستحيل من الناحية العسكرية والفن العسكرى.

(٢) إن كنية المؤلف المشار إليه أبو بكر ، واسمه محمد بن أبى الوليد بن محمد القرشى ، ولد سنة ١٠٥٩ الميلادية وسنة ٤٥١ الهجرية فى مدينة طرطوش بالأندلس ، وتوفى فى مدينة الإسكندرية سنة ١١٢٦ م و (٥٢٠) الهجرية من شهر جمادى الأولى ، وكان من زهاد عصره وعبادهم.

(٣) رومانوس هو القيصر الخامس والستون وقد تولى الملك ١٠٩٩ م والموافق ٤٩٢ ه‍ ، وفى عام (١١١٣ م الموافق ٥٠٦ ه‍ سملت عيناه وانصرف عن الملك.

(٤) المشار إليه من الشعبة الثانية من السلاجقة الذين حكموا خراسان والعراق وما وراء النهر ، وكان اسمه محمد واشتهر باسم الملك العادل ألب آرسلان ، وقد انتصر على الإمبراطور رومانوس فى هذه الواقعة وارتحل عن الدنيا عام ٤٦٥ ه‍ الموافق ١٠٧٣ م.

وخرج من المدينة ليدافع عن دينه ضد أعدائه وعقب ذلك ظهرت طلائع جيش رومانوس ونصبوا خيامهم أمام معسكر جيش أصفهان.

ولما كانت الليلة ليلة الجمعة كان الأعداء فى حالة إعياء أجلوا القتال للصباح بالاتفاق وعينوا حراسا وباتوا يتكاثرون إذ أخذوا يفدون طول الوقت.

وفى الصباح أرسل المسلمون الجواسيس ليطلعوا على أحوال جيش العدو وقد رأى هؤلاء أن جند العدو أكثر من رمال الصحراء وقد ملئوا الجبال والصحارى وكان معسكر رومانوس بحرا زاخرا وعدة الجيش وعتاده مما يخرج عن الحصر والتخمين.

ولما رأى ألب آرسلان أن قوته بالنسبة للأعداء كخال أسود على جسم ثور أبيض عرف أن مقاومة عدو فى هذه الضخامة غير مجدية ، وأمر بعقد مجلس شورى مع كل الذين يهمهم هذا الأمر.

وكانت نتيجة المناقشات والمشاورات أنه يجب أن يعد جميع أسباب الحرب والمقاومة حفظا لكرامة الأمة الإسلامية ، وعرضت نتيجة المشاورة على ألب آرسلان وقد ساند المسلمون بعضهم بعضا ، وقد تهيئوا للقتال.

وقد سر ألب آرسلان من هذا القرار وقال اليوم الجمعة وهو يوم مبارك ، مادمنا سنحارب فلنصبر إلى أن نصلى صلاة الجمعة لأن الخطباء سيدعون فى هذا اليوم فى جميع أنحاء العالم الإسلامى بانتصار جيش الموحدين ، ثم نخوض المعركة لإعلاء كلمة الله ثم بعث بعيونه إلى معسكر العدو ، وطلب منهم أن يعرفوا مكان خيمة رومانوس وشكله وهيئته ، وبعد ما اطلع على ما يريده جمع رجاله الأبطال ، وقال لهم : أهجموا حيث أهجم ووجهوا سيوفكم وسهامكم ورماحكم حيث أوجه ، ثم هجم على خيمة رومانوس ساحبا جنده خلفه ـ وقتل القيصر وبث هذا العمل الرعب والفوضى فى معسكر الأعداء فاضطربوا باكين مولولين.

حينما رأى العدو أن جنود المسلمين يهاجمون جيوشهم كالأسود الشجعان غير

مبالين بمن يقع منهم اضطربوا أيما اضطراب وقرروا الفرار (١).

وبناء على هذا النصر اغتنم المسلمون أموال أعداء الدين والوطن ؛ وأسروا الذين لم يستطيعوا الهروب.

وقد قبض على القيصر رومانوس أيضا وسيق إلى حضرة ألب آرسلان ، الذى قال له وقد مثل أمامه : أيها القيصر! كيف كنت تعاملنى لو كنت أسرتنى؟ فتلقى منه ردا : حتما كنت قتلتك ، فقال له : إنك أحقر فى نظرى من أن أمد يدى عليك بالقتل.

وعرضه للبيع فى المزاد العلنى في معسكره ، وأعلن عنه بضعة أيام ولم يظهر أحد يرغب فى شرائه ، وأخيرا ظهر شخص يريد أن يبادله بكلبه ، وبلغ الخبر ألب آرسلان وأحضر الكلب وصاحبه والقيصر رومانوس عندئذ قال الملك منصفا صاحب الكلب إننى أرى أن كلبك خير منه ، وأطلق سراح رومانوس وأعاده إلى بلاده.

وكان ألب آرسلان عند ما قال لصاحب الكلب : إن كلبك خير من رومانوس ، يريد أن يشير إلى أن القادة الذين لا يستطيعون حماية جنودهم من الهزيمة لا يستحقون أن يكونوا قادة ، كما أن رومانوس قد تسبب فى هزيمة جيشه وأسره لأنه لم يتخذ الاحتياطات اللازمة.

كتب كاتب جلبى فى موجزه الذى كتبه باللغة العربية قد تملك آلب آرسلان فى ٤٥٥ ه‍ الموافق ١١٦٤ مدينة حلب وسرح جنده مبقيا معه ١٤٠٠٠ ألف مقاتل.

وقد انتهز رومانوس هذه الفرصة واستولى على ملك المشار إليه وهو غافل ، وقرر آلب آرسلان مقاتلة الروم بجنده الذين معه إذ لم يعبأ جنده كلهم عقب محاولة رومانوس الاستيلاء على ملكه ، ولكنه رأى بلاده قد احتلت بجنود أكثر من جراد الصحراء فاضطر لطلب المصالحة.

__________________

(١) يقول المؤرخون إن عدد الجنود الذين ساقهم آلب آرسلان لمحاربة العدو كان ١٢٠٠٠ ألفا أو ١٤٠٠٠ ألفا.

ولما كان هدف رومانوس هو القضاء على الأمة الإسلامية لم يرغب فى الصلح وأعلن أنه لن يتنازل عن القتال ، حينئذ توكل آلب آرسلان على الله وخاض الحرب وأحرز النصر الذى ذكر من قبل ، وهكذا ترك فى صفحات التاريخ ما سيخلد اسمه على مدى الأيام.

فليزد الله ـ سبحانه وتعالى ـ من عمر خليفة وجه الأرض والسلطان العادل السلطان عبد الحميد الثانى ، ولينصر جيوش الموحدين فى كل زمان ومكان ، وليقهر ويدمر أعداء الوطن والدين بجاه سيد المرسلين. آمين.

وإن كان هناك خلاف بين رواية رضوان باشا فى تاريخه ورواية صاحب «سراج الملوك» ومؤلفه ، فبما أن حرب رومانوس كانت ضد جميع المسلمين فليس بمستبعد أن يكون أمله تخريب كعبة الله.

كتب مؤرخو الروم أن جيوش قيصر الروم قد انهزمت فى حروبها ضد السلطان علاء الدين فى الأناضول ، وأسر رومانوس ثم أطلق سراحه بعد أن نال العفو ورجع إلى عاصمة ملكه حيث سملت عيناه.

من بين فروع السلاجقة التى حكمت فى قونيه ملكان حملا اسم علاء الدين وقد مات أحدهما فى سنة ٦٣٤ ه‍ الموافق السنة ١٢٣٧ الميلادية ، والآخر توفى فى السنة ٧٠٠ ه‍ الموافق للسنة ١٣٠١ الميلادية.

وبناء على هذا من قول المؤرخين المشار إليهما فإن رومانوس قد أسر فى حربه ضد السلطان علاء الدين يقتضى أن يكون خطأ ؛ لأن رومانوس قد اعتلى كرسى الحكم سنة ١٠٩٩ الميلادية ، وبعد أربعة عشر عاما من الحكم غادر دنيانا وهذا ثابت باعترافهما.

وعلى هذا التقدير فإن حكم رومانوس كان قبل وفاة السلطان علاء الدين بمائة وثمان وثلاثين سنة ، ويتحقق أنه كان معاصرا لألب آرسلان.

الصورة العاشرة

فى تجديد مبانى الكعبة المقدسة للمرة التاسعة

قد جددت أبنية كعبة الله للمرة التاسعة من قبل «عبد الله بن الزبير بن العوام ـ رضى الله عنه ـ ، وسبب هذا التجديد ضرب «حصين بن نمير» كعبة الله المقدسة وتخريبها بعد حرقها مستخدما المنجنيق.

وبعد ما بلغ خبر استشهاد قائد شهداء كربلاء إلى الأقطار الحجازية غمر الحزن الأسى فى قلوب السكان بموت حفيد النبى (الحسين بن على المرتضى) رضى الله عنهما. ورانت على القلوب علامات الدهشة ، أراد عبد الله بن الزبير أن يعزى أهل مكة واستدعى أكابرها وأعاظمها ثم صعد المنبر وحمد الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأثنى على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفق طريقة خطباء العرب ـ ثم ألقى خطبة بليغة ذات أثر شديد ، وأخذ يعدد معايب يزيد البليد ومظالمه وجذب إليه قلوب الناس.

خطبة ابن الزبير :

(يا صناديد الحرم إن معظم سكان بلاد العراق وأقطاره بلاد الآفاق أهل غدر وفتنة. إنهم قد استدعوا قرة عين الرسول ونور بصر البتول الإمام الهمام «الحسين بن على بن أبى طالب» ـ رضى الله تعالى عنهم ـ بوسائل مختلفة ورسائل عديدة وإن دناءة سكان الكوفة تفوق دناءة سكان الولايات الأخرى الذين تجرءوا على استقبال الإمام بسيوف الغدر المسلولة. إنهم أهانوا وردة الروضة النبوية مع أكثر أهله إذ أوردوهم مورد الشهادة بسيوفهم الغادرة.

إن هذه الطائفة الباغية قد قتلت واحدا من أهل الصلاح والسعادة الذى كان يقضى ليله عابدا ونهاره صائما ، بينما كان الناس يقضون أوقاتهم متمتعين بفرط غناهم ويستمتعون بملذات دنياهم فى سفاهة ، كان هذا الملك الربانى يقضى أوقاته فى البكاء من خشية الله ، بينما كان الآخرون منتشين من ملذات الحياة

وسكارى من جاههم ، كان الإمام الشهيد فى مجلس ذكر الله ومقامه وكان صائما دائما حذر الحرام». انتهى.

قد عرف يزيد العنيد أن عبد الله بن الزبير يمتنع عن البيعة له معتمدا على كعبة الله وأهل الحرمين ، ولذا بعث إليه الرسل يطلب منهم أن يأخذوا بيعة عبد الله بن الزبير ، وإلا يسوقوه مصفدا بالسلاسل إلى الشام ، إلا أن عبد الله بن الزبير رد على رسل يزيد قائلا : لا أبايع يزيد ولا أسافر معكم إلى الشام ، وبناء على هذا عاد رسل يزيد خائبين ونقلوا ما حدث إلى يزيد.

ولم يقنع يزيد بمن بعثه من الرسل بل اختار سبعة من صناديد الشام ومعهم «نعمان بن بشير الأنصارى وعبد الله بن عضاه (١) الأشعرى» و «مسلم بن عقبة المزنى» ، وبعثهم جميعا إلى عبد الله بن الزبير.

لقى رسل الشام عبد الله بن الزبير وبذلوا كل جهدهم ليأخذوا منه البيعة ليزيد ، وعند ما كانوا يلحون على أخذ البيعة منه ، قال عبد الله بن الزبير مخاطبا نعمان بن بشير : من فينا أعلى مكانة بين قومه؟ أنا أم يزيد؟ والدى وعماتى وخالاتى أم والد يزيد وعماته وخالاته؟ وكان رد نعمان بن بشير : يا ابن الزبير إن والدك حضرة الزبير ، ووالدتك ذات النطاقين أسماء بنت أبى بكر ، وخالتك عائشة بنت الصديق ، وعمة أبيك خديجة الكبرى ، ومن هنا فمن جهة أقاربك وقبيلتك فأنت أعلى منزلة من يزيد ، فقال له عبد الله : هل تستصوب بيعتى ليزيد وأنت تعرف كل هذا؟ فهل ترى أنه من المناسب أن أبايع يزيد؟ قال : لا أراه مناسبا وبهذا تمسك عبد الله بن الزبير برأيه ورفض البيعة ليزد رفضا باتا ، وعاد رجال الشام خائبين. بينما كان رسل الشام فى طريقهم إلى بلادهم أخذ عبد الله بن الزبير بيعة أهل الحجاز وتهامة وضمهم فى صفه ما عدا «عبد الله بن عباس ومحمد بن أبى بكر» وطرد ولاة يزيد وموظفيه من حدود أرض الحرمين الميمونة.

__________________

(١) الطبرى ٥ / ٤٧٦ ، ٤٩٠.

اطلع يزيد على ما حدث وأراد أن يؤدب أهالى المدينة المنورة ومكة المكرمة ، وأرسل جيشا تحت قيادة الخائن «مسلم بن عقبة المزنى» وزوده بتعليمات غير لائقة ، إذ أمره أن يجرى مذبحة فى المدينة المنورة وينهب أموالهم ، وبعد ذلك يتجه إلى مكة المكرمة حتى يقبض على ابن الزبير ولما كان مسلم عازما على تنفيذ أوامر سيده حرفيا تعلم من «عبد الملك» فن الدسائس والحيل وطبقه على أهل المدينة ، وقتل منهم ستة آلاف أو أربعة آلاف بناء على قول آخر ، ثم اتجه إلى مكة المكرمة وبعد مرور ثلاثة أيام من خروجه من المدينة ساء مزاجه ويئس من حياته.

استدعى بناء على الأمر الذى كان تلقاه من يزيد فى الشام «حصين بن نمير الكندى» وقال له : قد عينتك قائدا لهذا الجيش. يجب أن تصل إلى مكة وتعلن الحرب وتشعل نار القتال حتى تقبض على ابن الزبير. ولا تقل إن مكة بلد الله ، كيف نحارب جيران بيت الله؟ بل من واجبنا أن نحترمهم ونرعاهم؟! بل بادر بنصب المجانيق على رءوس الجبال ، وألق الحجارة على كعبة الله ناويا تخريبها حتى تثير الفزع فى نفوس الناس وحاصرهم ، وضيق عليهم سبل العيش ، قال هذا وانحدرت روحه إلى جهنم وهلك عند ما وصل إلى جبل مشلل.

حدثت وقعة المدينة المنورة المذكورة الأليمة سنة ٦٢ هجرية (١) الموافق ٢٨ من ذو الحجة وفى يوم الأربعاء ، وكان عدد الذين نالوا ثواب الشهادة من أهل المدينة المهاجرين والأنصار ٧٠٠ شهيد وكان الباقى من التابعين والموالى.

قد تعرضت المدينة المنورة فى تلك الوقعة للنهب والسلب مدة ثلاثة أيام ، وأكثر من ألف امرأة للاغتصاب على ما ينقله الرواة.

قد ذكرت بالتفصيل كيفية وقوع حادثة المدينة فى بحث وقعة الحرة وفى الصورة التاسعة من الوجهة الثالثة من مرآة المدينة فمن يرغب الاطلاع عليه الرجوع لهذا الكتاب.

__________________

(١) ويقول بعض المؤرخين أنها حدثت فى سنة ٦٤ هجرى.

قد نصب «حصين بن نمير» وفق الأوامر التى تلقاها من مسلم ـ الذى يناقض حقيقته اسمه ـ فى شهر المحرم من السنة المذكورة مجانيق فوق جبل أبى قبيس وجبل أحمر ، وحاصر مكة أربعين يوما وقتل كثيرا من المسلمين وعذب أهل مكة ، وضيق عليهم الخناق.

وفى هذه الفترة وصل خبر هلاك يزيد ـ الظاهر الشناعة ـ فاضطر حصين للعودة. دامت هذه الحرب والمحاصرة من اليوم الثالث والعشرين من شهر محرم إلى قرب غرة ربيع الآخر ، واحترقت أستار الكعبة وسقفها وانشقت جدرانها وتحطمت من جراء النار التى سرت من الحجارة المحرقة التى انهالت عليها ، كما احترق قرنا الكبش الذى أنزله الله من السماء لفداء إسماعيل ، واللذان كانا معلقين على سطح الكعبة.

وقعت فاجعة احتراق الكعبة فى يوم السبت الثالث من ربيع الأول ، إلا أن حصين بن نمير قد استمر فى الحرب إلى أن بلغه خبر وفاة يزيد. وقد عرف خبر وفاته بعد احتراق الكعبة بسبعة وعشرين يوما. فترك مكة المكرمة فى ليلة الأحد اليوم الخامس من ربيع الآخر وقفل راجعا.

يروى أن هذا الحريق الهائل بدأ من احتراق خيمة ، والمؤرخون الذين قبلوا هذه الرواية وضحوا الحادث بهذه الصورة : إن الشجعان الذين انضموا إلى عبد الله بن الزبير لجأوا إلى المسجد الحرام مأمن الإسلام ، واحتموا بساحته ونصبوا خيامهم على جوانبه الأربعة ، وكانت غايتهم من ذلك أن يحتموا بها كلما زادت حرارة الشمس وكلما ألقيت الحجارة من المجانيق.

وقد نصب حصين بن نمير المجانيق فوق جبل أبى قبيس وكذلك الجبل الأحمر ، وكانت الحجارة الملفوقة بخرق مبللة بالزيت والملقاه على الكعبة لا تنقطع عن الانهمار.

قد دوام الشوام على إلقاء الأحجار إلى حد أن الأحجار التى أصابت البيت

الشريف مزقت كسوته إربا إربا ، كما أن الأبنية المباركة تداعت وتهاوت وبدأت أحجارها تتساقط.

وفى يوم اشتدت برودته وعصفت رياحه تطايرت شرارة من نار إحدى الخيام فأحرقتها ، وكانت الخيمة منصوبة بين باب الصفا والركن اليمانى ، وانتقلت الشرارة إلى ستارة الكعبة الممزقة فأحرقتها ، وانتقلت النار من الستارة إلى الأحزمة الخشبية التى تحيط بالكعبة فاحترقت ، ومنها إلى حيطان الكعبة وتحول البيت إلى قطعة نار.

وبما أن البيت المعظم كان من المبانى المقدسة التى أقامتها قريش فكان قابلا للاحتراق ؛ لأن القرشيين كانوا قد بنوا البيت من أساسه إلى سقفه جاعلين جدرانه طبقة من الحجارة وطبقة من حزام خشبى. وبينما كانت الأحزمة الخشبية لجدران الكعبة تحترق تحرك الحجر الأسود من مكانه فأراد عبد الله بن الزبير أن يثبته بإذابة فضة وصبها على جوانبه ؛ إلا أن أركانه الأربعة كانت قد تكلست بشدة النار كما أن الركن الكائن فيه أصابه الوهن فلم يمكن عمل شىء.

وكانت جدران بيت الله حيثما يحط عليها الحمام تتفتت تحت تأثير سيقانه ، مما حمل من يشاهده من المؤمنين على البكاء دما بدلا من الدموع ، وفى النهاية مضت جماعة من القرشيين (١). وبنى أمية إلى حصين بن نمير وأخبروه أن الحجارة التى رماها قد خربت الكعبة المعظمة ؛ إلا أنه أنكر أن يكون قد خرب الكعبة ، وفى هذا الوقت بلغه نعى يزيد فكف عن الحرب والحصار وسحب جنده وعاد إلى الشام.

__________________

(١) كان عبد الله بن خالد بن أسد القرشى منهم.

الشكل العاشر

جمع عبد الله بن الزبير الأعيان وعظماء الناس من مكة عقب الحرب ، وذكرهم بأنه يأمل أن يعالج ما تهدم من أبنية الكعبة ويجددها ـ كما ذكرهم بحديث بانى أركان الشريعة الرصينة عليه أكمل التحية إذ قال لعائشة ـ رضى الله عنها ـ «يا عائشة لو لم يكن قومك قريبى العهد بالجاهلية لهدمت أبنية بيت الله وجعلت للبيت بابين يفتح أحدهما على الشرق والآخر على الغرب ، وأدخلت إلى بيت الله من الحجر مقدارا ما طوله ستة أذرع أى ثمانية أقدام» (حديث شريف) وبما أن مال قريش الحلال لم يكف لإدخال الحجر فى البناء عند ذلك الوقت تركوه خارج البيت ، ثم قال لها تعال أريك الجزء الذى أبقوه خارج البيت ثم أخذها إلى تحت الميزاب وقال : هذا هو المكان وأشار إلى مكان حجر إسماعيل ما مقداره سبعة أذرع أى ٩ أقدام و ١١ بوصة ، ثم قال عبد الله للمجتمعين إنما أردت أن أبين لكم أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجاز تجديد الكعبة ، وفى نفس الوقت أردت أن أبحث الموضوع معكم وأستشيركم. وكلكم تعرفون أن الحجر الأسود (١) قد تحطم من أثر ضربة بحجارة حصين النارية وألصق بالفضة المذابة ، كما أخذت حجارة جدران كعبة الله تتساقط من جميع الجهات.

وبهذه الكلمات البليغة ابتدأ عبد الله باستفسار رأى عظماء الحاضرين ثم أخرج الحجر الأسود من مكانه ووضعه فى صندوق بعد أن لفه فى قطعة من الديباج ، وأغلق الصندوق بقفل وحفظه فى دار الندوة ، كما أمر أن تحفظ الهدايا الموجودة فى خزانة الكعبة فى دار شيبة بن عثمان.

__________________

(١) تحطم الحجر الأسود ثلاث قطع ، أخذ بنو شيبان قطعة ليحفظوها عندهم ثم استردها عبد الله منهم ، وألصقها بالقطعتين الأخريين ثم عالج أطراف الحجارة بمادة تشبه الجبس ليحافظ على تماسكها هى والقطعة الثالثة التى ألصقت فى الجهة العليا من الحجر الأسود الآن.

اجتمع أعيان الأشراف ووجهاءهم عند ابن الزبير ووافق بعضهم (١) رأيه وخالفه البعض الآخر (٢) ، غير أن ابن الزبير لم يلق بالا إلى رأى المخالفين ، واستقر رأيه على تنفيذ ما فى ضميره.

وخاف أهالى مكة من هدم كعبة الله وهربوا إلى قمم الجبال ، وأظهر عمال البناء استياءهم من هدم الكعبة بالتراخى فى العمل. ولما رأى عبد الله بن الزبير ذلك جعل بعض عبيده الحبشيين ذوى السيقان الرفيعة يصعدون فوق الكعبة مبطلا الحكم الحديث الذى يحفظه عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة».

وبدأ فى هدم البناء يوم السبت الخامس عشر من جمادى الآخر من السنة المذكورة ، وأراد أن يحضر من اليمن نوعا من المادة المستخرجة من الزعفران ليخلطها بالمونة اللازمة لبناء البيت ، ولكن بناء على اعتراض بعض أهل التخصص بأن هذه المادة تحول دون تحجر المونة انصرف عنها ، واستحضر من صنعاء اليمن كلس بأربعمائة دينار. وحتى لا يمنع الطائفين من الطواف فى أثناء عمليات البناء. وبناء على إخطار عبد الله بن عباس أحاط البيت بسور خشبى ، وغطى السور بستارة من القماش وهدم أبنية البيت حتى وصل إلى أساس إبراهيم القديم ، وكان قد حفظ الحجر الأسود بعد أن وضعه فى صندوق فى دار الندوة.

وشرع فى بناء جدران الكعبة وفق ما جاء فى الحديث الشريف الذى ذكر أعلاه على أسس بناء إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، الذى عثر عليه وأدخل حجر إسماعيل داخل كعبة الله دون أن يراعى قواعد قريش فى البناء ، وفتح بابا عرضه ثلاثة أذرع أى ٤ أقدام و ١١ بوصة فى الجهة الغربية أيضا بلغ ارتفاع الجدران إلى ثمانية وعشرين ذراعا أى ٣٨ قدم و ٣ بوصات ، وجعل سمك الجدران ذراعين

__________________

(١) من الأصحاب الكرام الذين وافقوا على تجديد البيت جابر بن عبد الله بن عمير وعبد الله بن صفوان.

(٢) وكان عبد الله بن عباس موافقا على فكرة تجديد البناء ؛ إلا أنه خالف عبد الله بن الزبير فى الرأى حتى لا يتخذ الملوك هدم البيت وبنائه عادة لهم.

أى قدمين وعشر بوصات. إن ارتفاع الكعبة التى بناها إبراهيم ـ عليه السلام ـ يصل لستة أذرع وارتفاع كعبة قريش (١٨) ذراعا ، حتى قال ابن الزبير إن قريش أضافت (٩) أذرع على ارتفاع كعبة إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، وإن أضفت (٩) أذرع على بنائهم فأصبح ارتفاع الكعبة (٢٧) ذراعا.

قد فرش ابن الزبير عشرة أذرع من الساحة التى حول المطاف بالحجارة التى بقيت من بناء الكعبة ، وزين الكعبة الشريفة بتعليق كسوة مزينة ، وطيب خارج الكعبة وداخلها بالعود والعنبر والمسك وبخرها كما غطى العمودين المسميان بالحنان والمنان بصفائح من الذهب ، كما صنع مفتاحا من الذهب لباب كعبة الله المسمى بالمعلا سنة ٦٤ ه‍.

عند ما حفر الأسس التى لم تندرس إلى عهد سيدنا إبراهيم ، وعمّق ظهر فى الحفر حجارة لامعة وأراد أن يستخرج هذه الحجارة وضرب ضربة شديدة بفأس ، وعند ذلك اهتزت أركان الكعبة الأربعة من أثر الضربة واستولى قلق على أهل مكة وندم الذين وافقوا عبد الله بن الزبير فى تجديد الكعبة.

ولم يتأثر عبد الله بن الزبير من قلق الناس قيد أنملة ، واستدعى عبد الله (١) الصحابة الأجلاء وأراهم قواعد إبراهيم ثم أمر بطرح الأساس ، وأنزل عتبة الباب الشرقى حتى أرض المطاف كما أنزل عتبة باب المعلا الجديد فى الناحية الغربية حتى الحجر الأخضر المتصل بالفسقية الكائنة فى الجهة الغربية.

وكان الحجر الأسود قد ظل فى الحريق الذى حدث فى عهد قريش ، وتجزأ وظل أحد أجزائه محفوظا عند أحد الأشخاص من بنى شيبة ، وعند ما أراد عبد الله بن الزبير أن يضع الحجر الأسود فى الصندوق أخذ الجزء الذى عند ذلك الشخص وألصقه بالحجر الأسود مستخدما الفضة (٢) ثم حفظه ، وعند ما أراد أن

__________________

(١) كان عبد الله بالطبع من بين الموجودين وحينما أخذ فأسا وضرب الحجارة اللامعة اهتزت أركان الكعبة الأربعة كما اهتزت أسس محلات مكة المكرمة ومنازلها.

(٢) حينما حج هارون الرشيد رأى أن الفضة المذكورة قد وهت ؛ لذلك أمر أن يثقب الحجر من فوقه وتحته ، وصب فى الثقب فضة مذابة وهكذا قوى الحجر.

يضعه فى مكانه الذى فى بيت العزة استدعى ابنه عباد وجبير بن شيبة بن عثمان ، وقال لهما بينما أنا أصلى صلاة الظهر اذهبا إلى دار الندوة وخذا الحجر الأسود منها وضعاه فى مكانه ، وكبرا بعد أن تستراه قال هذا وأم الناس ليصلى صلاة الظهر.

قد تشاور عباد وجبير بن شيبة بن عثمان ثم وضعا الحجر الأسود على طرفى الستارة الخشبية الكائنة بين كعبة الله ودار الندوة ، وأحاط بهم الناس من الطرفين ثم وضع الحجر الأسود على ثوب طاهر فى شكل ظاهر ، ومرا من بين الناس ووضعا الحجر الأسود فى مكانه وغطاه ، ثم كبرا مبشرين باستقرار الحجر فى مكانه. وقد وضع الحجر الشريف فى مكانه حضرة عباد ، وساعده فى ذلك جبير بن شيبة.

وقال عظماء قريش بعد أن فرغوا من أداء الصلاة ، وقد عرفوا أن الحجر الأسود قد وضع مكانه إن قريشا عند ما أرادت أن تضع الحجر الأسود فى مكانه تنازعت عدة أيام ، وكادت تدخل مع بعضها البعض فى الحرب والقتال بعد ما استمر القيل والقال فيما بينها عدة أيام فأتى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحسم النزاع بعون رؤساء القبائل الأربعة ؛ وهل من اللائق ألا يتبع عبد الله بن الزبير هذه الطريقة ويرعاها؟! وقد أرادوا بهذا أن يثيروا الفتنة بين سكان مكة إلا أنهم لم يجدوا من يقف بجانبهم فاضطرو للسكوت.

وقد تم تجديد البيت فى يوم الثلاثاء فى الثالث من شهر رجب أو السابع والعشرين منه من العام الرابع والستين من الهجرة ، وعند ما انتهى العمل تماما فى البيت ذهب عبد الله بن الزبير مع جميع أهل مكة إلى التنعيم لأداء العمرة ، ونحر مائة رأس من الجمال كذلك ذبح كل واحد منهم ما معه من قرابين كل على حسب قدرته وهكذا جعل اليوم مبتهجا كالعيد.

وتعرف هذه العمرة بعمرة الأكمة أو العمرة الرجبية بين أهالى مكة ، وكان

المكيون إلى وقت قريب يذهبون إلى التنعيم بنية العمرة ويذبحون القرابين ، ويظلون فى المشهد (١) عدة ليال يفرحون ويبتهجون. وفى وقتنا هذا أيضا يذهب الناس إلى تلك الجهات للاحتفال إلا أنهم لا يسمونه العمرة الرجبية. وليس الآن من العادة أن يخرج للعمرة وتذبح القرابين فى اليوم السابع والعشرين من رجب.

وفى الواقع يخرج الناس إلى ذلك المكان فى كل عام للتمشية والاحتفال إلا أنه يحدث فى الأيام الأخيرة من شهر صفر الخير ، وإن هذه الاحتفالات ذات شهرة وبهجة إلا أن الأهالى يذهبون إلى مكان يسمى سرف حيث دفنت زوجة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ميمونة ـ رضى الله عنها ـ ، ويقومون بأداء مراسم الزيارة لقبرها ويقضون هناك ما يقرب من ليلتين ثم يعودون إلى أرض الصحراء الزاهرة (٢) ، ويمضون فيها فترة من الزمن وأن هذا الاحتفال بمثابة عمرة الأكمة.

***

__________________

(١) هذا المكان هو المقبرة التى دفن فيها عبد الله بن عمر وهو فى طريق العمرة.

(٢) بناء على رواية أن عبد الله بن عمر مدفون فى هذا المكان ، وقبره مزار للناس.

الصورة الحادية عشرة فى تجديد مبانى الكعبة المقدسة للمرة العاشرة

جدد الحجاج الظالم البيت الشريف للمرة العاشرة أيضا. أنه لم يلمس الجدران الأربعة كلها ، ولكنه جدد الجدار الكائن في جهة الميزاب تاركا حجر إسماعيل خارج الكعبة ، وملأ الكعبة بالتراب المتبقي من البناء وأعلى باب الكعبة عن الأرض ، وأغلق الباب الذي فتحه عبد الله بن الزبير في الجهة الغربية بناء على ما جاء في الحديث الشريف الذي سبق ذكره. وكان سبب ذلك عبد الملك بن مروان الذي كان يريد أن يحمل عبد الله بن الزبير على بيعته.

وقد وقعت هذه الحادثة بعد واقعة حصين بن نمير بعشر سنوات ؛ لأن عبد الملك الذي كان يحكم في بلاد الشام ويريد أن يجدد وسيلة للحصول على بيعة عبد الله بن الزبير ، لذا بعث حجاج بن يوسف الثقفي إلى أراضي الحجاز الطاهرة ومعه ثلاثة آلاف من جنود الشام ، وأمره ألا يؤذي المذكور وأتباعه إذا ما بايعه بالخلافة.

وقد حاصر الحجاج بمن تحت قيادته السوداء من جنود الحقد كعبة الله ما يقرب من سبعة أشهر ، وأخذ يتبع مع ابن الزبير ألاعيب الحرب والقتال وقد أضر في أثناء هذه المدة الطويلة بيت الله الحرام وأصابه ، وفي النهاية قتل ابن الزبير وترك جسده الأسعد مصلوبا منتظرا الأوامر من الشام.

وكان من المستحيل أن ينتصر الحجاج على عبد الله بن الزبير إذا لم يصله مدد من الشام ؛ لأن الشهيد كان قد عرف أن الحجاج الظالم قد خرج من الشام ، وأنه قد نصب له الخيام في الطائف لإيواء جنوده لذلك ساق إليهم مقدارا كافيا من الجنود من الشجعان وحاربهم ؛ ولكنه عاد منهزما وقد عجز عن المقاومة.

وإن كانت الهزيمة في الظاهر في ناحية عبد الله بن الزبير ؛ إلا أن جنود الشام

أيضا قد تضرروا ضررا شديدا ، وفهم جيدا أن عودة عبد الله بن الزبير بمدد قليل من الجنود سيؤدي إلى انتصارهم لذا كتب الحجاج إلى عبد الملك ينبئه بأنه قد انتصر على عبد الله بن الزبير ، إلا أن عساكره أيضا قد ضعفوا أشد الضعف وطلب منه أن يبعث له بمدد حتى ينتصر على عبد الله ، فما كان من عبد الملك إلا ابتدأ بإرسال المدد.

واستصحب الحجاج القوة الاحتياطي التي أرسلت له من الشام ، وعجل بحصار مكة المكرمة قبل أن يجمع ابن الزبير القوة اللازمة.

وانتوى ألا يقارب النساء وألا يتعطر وألا يترك السلاح قبل أن يقتل عبد الله ابن الزبير ، وبناء على هذه النية نصب المنجنيق فوق قمم جبل أبى قبيس في السنة الثانية والسبعين من الهجرة ، وضيق على أهل مكة الخناق حتى أصبح من المستحيل الدخول إلى أرض المطاف من جراء تساقط الأحجار.

وقد وجد في هذه الفترة عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ في مكة المكرمة بنية الحج وقد تأثر من هذه الحرب أشد التأثر ، وأرسل إلى الحجاج الظالم يقول له : «يا حجاج إذا كنت تخاف من الله ، فلا تلق الحجارة على المسجد الحرام. إن موسم الحج من الشهور المحرمة ، قد اندهش الصلحاء من الأمة الذين أتوا لأداء فريضة الحج من هذه الوقعة ، وقد أصبح من المستحيل الدخول إلى ساحة المطاف من جراء الحجارة التي تلقيها ، على الأقل اترك الحرب والقتال إلى ما بعد العيد حتى يسقط عن الناس فريضة الحج» ، وبناء على هذا الطلب كف الحجاج عن الحرب والقتال ، وأرجأهما إلى ما بعد انتهاء الحجاج من أداء نسكهم ، وطلب من الحجاج أن يعودوا إلى بلادهم في الوقت الذي حدده ، ثم شرع في الحرب مرة أخرى. وأهان كعبة الله بما أمطر عليها من الحجارة.

حادثة غريبة :

بينما ابتدر الحجاج الغادر في إلقاء الحجارة على الساحة السعيدة الحرام ظهرت على وجه السماء سحابة سوداء مظلمة ، وقد غطى الأقطار الحجازية ظلام دامس

وسمعت أصوات الرعد والبرق ، واستولى على قلوب المخالفين الخوف والخشية.

وحينما رأى حشرات الأعداء هذه العلامات المخيفة تركوا ميدان القتال وأخذوا يبحثون عن مكان يختبئون فيه. ولكن الحجاج المهين للدين خاطب جنوده قائلا : ما الدافع لخوفكم وقلقكم؟ حتى هرب كل واحد منكم إلى جهة إذا كنتم خفتم من أصوات الرعد والبرق فإن هذه ليست أشياء تدعو للقلق والخوف ، إنني نموت في هذه البلاد ولا تنقطع الصواعق والبرق منها ، قال هذا ثم ذهب بنفسه إلى المنجنيق وتجرأ على أن يلقي الحجارة صوب كعبة الله من البقعة المقدسة.

وينقل من المصادر الموثوقة أنه حينما أخذت أستار كعبة الله تحترق متوهجة من جراء الأحجار المحترقة التي أمر الحجاج بإلقائها على الكعبة الشريفة ، ظهرت سحابة من ناحية جدة ذات صواعق ، وبروق أخافت جند الشام ، وتقدمت هذه السحابة حتى وقفت فوق سقف بيت الله وأخذت تمطر بشدة حتى أطفأت أماكن كعبة الله المحترقة. إن السحابة المذكورة كانت فوق سقف بيت الله فقط ، ولم تقع قطرة من المطر خارج المسجد الحرام وخارج المطاف ، ومع هذا سالت سيول شديدة من الميزاب الذهبي ساعات وساعات ، سيول قد تجرف الإنسان.

وفي أثناء ذلك أصابت الصاعقة المنجنيق الذي نصبه الحجاج الظالم فوق جبل أبى قبيس وأحرقته مع أربعة من جنود الشام ، فأعد الحجاج منجنيقا آخر وكلف أربعين نفرا من الجنود بإلقاء الحجر وكان جزاؤهم أن أحرقتهم الصاعقة الثانية فهبطت أرواحهم إلى جهنم وبئس القرار.

وهذا الحال لم يجعل الحجاج ينتبه ويندم على كل ما حدث بل ثار وغضب وهدد جنوده وبهذا اشتد القتال ونسى جنود الشام ما حدث.

وبعد هذه الحادثة الغريبة أصيب اثنا عشر نفرا من جنود الشام وهلكوا. وسفاكو الدماء الذين رأوا هذا انزعجوا بشدة ، وأخذ جنود الشام يهربون من

جانب المنجنيق وقد أصابهم الفزع ، إلا أن موت بعض أهل مكة بالصواعق أيضا أعطى فرصة للحجاج الظالم أن يخاطب جنوده. قائلا : الحق معكم وليس مع أهل مكة إن العلامات المهيبة الخاصة بأراضي الحجاز زالت فاصبروا قليلا.

وقد أدى خطاب الحجاج هذا إلى اشتداد القتال ، ومد الصراع وزاد القحط والغلاء في مكة مما جعل المكيين يسأمون من أرواحهم ، فالتجأ أغلبهم إلى الحجاج طالبين الأمان وترك بعضهم عبد الله بن الزبير متجهين إلى المدينة المنورة.

ولم يكن أهل مكة فقط ممن تخلوا عن عبد الله بن الزبير في محنته ، ولكن ابنيه حمزة وحبيب وهما من صلبه تخليا عنه ، ولجأ كلاهما إلى السفاح الحجاج مبايعين وتركا والدهما بمفرده ؛ ولكن ابنه المسمى بالزبير ظل في عون أبيه ولم يفترق عنه.

وذهب عبد الله بن الزبير إلى أمه إذ رأى أصحابه قد افترقوا من حوله كفرخ الحجل ، وقابل والدته ذات النطاقين وقال لها : يا أماه إن أتباعي الذين كانونا معي خانوني كما خان أهالى الكوفة أتباع الحسين بن على ـ رضي الله عنه ـ سيدهم. ومع هذا ظل أولاده بجانبه ، ولكن أولادي قد خانوني إذ انضموا إلى الحجاج مبايعين وتركوني بمفردي ، إن ذلك الظالم الذي لا يستحيي يبعث لي رسائل واحدة تلو أخرى قائلا : إذا تركت مخالفتي أقبل جميع مطالبك.

فما رأيك في هذا الخصوص فقالت له : يا بني لا يليق بك بعد كل هذه الحروب أن تسلم نفسك إلى يدي بني أمية. إنك رجل مسن ، كم سيطول عمرك؟ وخير لك أن تستشهد ببطولة من أن تعيش في صحراء المذلة والاحتفار ، فلما سمع منها هذا الرد ودعها ، وقضى ليله حتى الصباح في داخل الكعبة متعبدا متضرعا وبعد ما أدى صلاة الفجر أخذ معه بعض الفتيان الذين قرب أجلهم ، وأخذ يقاتل ويهلك في كل هجمة عدو الله وهكذا أخرج جند الشام الموجودين في داخل المسجد الحرام ثم خرج من باب الصفا واتجه صوب جبل أبي قبيس.

وبينما كان عبد الله متجها إلى جبل أبي قبيس تبعه أحد أنجاس الشام ، ورماه بيده الحقيرة بحجارة وأوقع ذلك البطل أسد الوغى على الأرض ، كما تقدم أحد الأنجاس المنكرين وقطع تاج الرءوس ومضى به إلى الحجاج الظالم.

قد سر الحجاج قليل الأدب أيما سرور وسجد شاكرا حامدا وكله فخر وسرور ثم أرسل رأسه الشريف مع رءوس الرؤساء الآخرين من أهل مكة ، وصلب جثته الموعودة بالغفران ، وأمر ألا تنزل حتى ترجو ذلك أمه أسماء ذات النطاقين.

حينما سمعت ذات النطاقين ذلك الأمر قررت ألا تذل نفسها برجاء الحجاج ، ولكنها مرت بالصدفة من جانب المكان الذي كان مصلوبا فيه ، وقالت أما آن لهذا الفارس أن يترجل!؟ وعند ما سمع الحجاج السفاح هذا القول أوله بالرجاء ، وأمر أن تنزل جثة الشهيد المظلوم من مصلبها. ودفنت في مقبرة الحجون صنوان الجنة في جمال منظرها.

ويقول بعض المؤرخين إذ يروون هذا الخبر بشكل آخر. إن أم الزبير ذات النطاقين لم تتذلل إلى الحجاج طالبة منه إنزال ابنها من مصلبه ، وكذلك لم تقل أما آن لهذا الفارس أن يترجل. وقد أنزلت جثة عبد الله من مصلبه بأمر وارد من عبد الملك. وكان عبد الملك يعرف مدى عداوة الحجاج لابن الزبير وقد بلغه أن الحجاج يصر على إبقاء جثة عبد الله على المصلب ؛ لذا بعث برسول إلى الحجاج يأمره أمرا قاطعا بإنزال جثة الشهيد ، وقد أنزلت جثته بعد أربعين يوما من تاريخ صلبها ، وسلمت إلى أمه ذات النطاقين التي ابتدرت بتجهيزها وتكفينها ودفنت في مقبرة المعلا. وبناء على هذا قد مضي أربعون يوما بين استشهاد ابن الزبير ودفنه ، وظلت جثته مصلوبة أربعين ويوما.

قد كبر جموع جند الشام حينما بلغهم استشهاد عبد الله بن الزبير من فم واحد ، مظهرين فرحهم وسرورهم ، وحينما بلغ الخبر إلى أسماء ذات النطاقين التي كانت قد تجاوزت الثمانين من عمرها ، قالت بعد ما استرجعت الآية الجليلة : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (البقرة : ١٥٦) ما هذه الحال؟! وما أعجبه؟! إذا كان

الصحابة الكرام قد كبروا عند ولادة عبد الله ، وفي يوم وفاته أظهر أعداؤه ذوي الخاتمة السوداء فرحهم وسرورهم مكبرين.

وقد أظهر عبد الله بن عمر عجبه وقال مشيرا إلى جند الشام : إنني أتعجب من هؤلاء الناس. إذ يكبرون فرحين مسرورين من فم واحد بمقتل عبد الله بن الزبير ، بينما كان الصحابة الكرام قد كبروا وهللوا فرحين بولادته.

إن تعجب عبد الله بن عمر في مكانه ، لأن عبد الله بن الزبير كان قد ولد بعد الهجرة النبوية بعشرين شهرا ، وكان اليهود يقولون : إننا قد سحرنا المسلمين فإنهم لن ينجبوا ذكورا بعد الآن ، وكان هدفهم من هذا تصديع صف المسلمين وإيذاءهم ، فلما ولد عبد الله بن الزبير فرح المهاجرون والأنصار ـ رضي الله عنهم ـ واحتفلوا بولادته أيما احتفال وهكذا خاب اليهود وانزعجوا.

استدعى الحجاج عقب استشهاد عبد الله بن الزبير أمه ذات النطاقين ، ولما لم تذهب إليه زارها في بيتها وقال لها : كيف وجدتني وقد قتلت ابنك عبد الله؟! قالت له : «إنك قد أفسدت لابني دنياه وأفسدت لنفسك آخرتك. وكان الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخبرنا بظهور كذاب ومهلك في بني ثقيف ، وقد عرفنا الكذاب وهو المختار الثقفي أما المهلك فهو أنت».

ترجمة حال ابن الزبير :

عبد الله بن الزبير (١) هو حفيد العوام أخو السيدة «خديجة بنت خويلد» ـ رضي الله عنها ـ زوج النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم المسلمين ، وابن «أسماء بنت أبي بكر» الصديق ـ رضي الله عنه ـ هو وأبوه من زمرة صحابة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ السعداء وعند ما ولد افتتح حياته بريق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يبعث الحياة وسمي باسم عبد الله المبارك الذي يشرف الناس.

وكان طيلة عمره حريصا على إحياء لياليه بالعبادة ، وكان متصفا بالزهد والتقوى والعفة والشجاعة وعزة النفس والشهامة ، وكان قد قسم ليالي عمره إلى ثلاثة أقسام : إذ حصر ليلة من لياليه للقيام والأخرى للركوع والثالثة للسجود.

__________________

(١) انظر ترجمته في الإصابة ٤ / ٦٩ ـ ٧١ ، المعارف (٢٢٤ ـ ٢٢٦) ، تاريخ الطبرى ٥ / ٦٢٢ ، ٦ / ١٧٤ ـ ١٧٥ ، ١٨٧ ـ ١٩٣ ، وغيرها ..

وقال ابن أبي مليكة يصف صلابة عبد الله بن الزبير في دينه : ـ بينما كان عبد الله بن الزبير يؤدي الصلاة ـ في يوم من أيام المحاصرة إذ مر حجر من بين لحيته المباركة وصدره إلا أنه لم يستمر فقط في صلاته ولكنه لم يتأثر أدنى تأثر في مراعاة التعديل في ركوعه وسجوده في خشوع وخضوع ، وأدى صلاته دون أن يستعجل كما كان يؤديها في الأوقات العادية. ثم استمر في قوله قائلا : إنني أقسم بما أن جلد ابن الزبير اختلط بلحمه ، كما أن لحمه امتزج بأعصابه ، وأن أعصابه قد تألفت بعظامه كان قوي البنية ، كما أن نفسه وروحه بين جنبيه اختلطتا بأعضاء جسمه فكان قوي القلب ، وخلاصة القول إنه كان شخصا نادر المثال في الشجاعة وقد روى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اثنين وثلاثين حديثا ونال شرف أن يكون رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مطيته.

قد طهر الحجاج القذر ساحة المسجد الحرام ذات الفيوضات الإلهية ـ بعد ما قتل عبد الله بن الزبير ـ من الحجارة التي ألقاها ومن الدماء التى أسالها ، وكتب إلى عبد الملك يخبره أن عبد الله بن الزبير قد بنى الكعبة مغايرا لبناء قريش ، وفضلا عن ذلك فتح بابا زائدا في الجهة الغربية من الكعبة.

ومن هنا وجب علينا أن نغير أساس البقعة المقدسة. وقد تلقى ردا من عبد الملك (١) وبناء على تعليماته قد هدم الجدار الموجود في الناحية الشامية ، وترك في ناحية حجر إسماعيل ما مقداره ستة أذرع إلى تسعة أقدام وإحدي عشرة بوصة خارج البيت ، وسد الباب الموجود في الجهة الغربية وجدد الجدار الذي هدمه في الجهة الشامية وفق ما بنته قريش. إن المكان الذي تركه الحجاج خارج البيت هو ما يطلق عليه اليوم حجر إسماعيل ، وكانت قريش تترك حجر إسماعيل خارج البيت لأنهم كانوا يعانون من أزمة مالية في ذلك الوقت إلا أنهم كانوا قد بنوا حوله جدارا مستديرا (٢) في ارتفاع ذراعين أي قدمان وعشر بوصات.

وقد أراد عبد الله بن الزبير أن يبني الكعبة عند تجديدها وفق الحديث الذي

__________________

(١) الطبرى ٦ / ١٩٥

(٢) يطلق على هذا الحائط الآن الحطيم.

ذكرناه فيما قبل ، وأعادها على أسس إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولقد بذل في سبيل ذلك نقودا كثيرة.

ولكن الحجاج بإعادته الكعبة على حالتها القديمة كما بنتها قريش بسد بابها الغربى أسرع بإعلان ما كان يكن لعبد الله بن الزبير من عداء.

مطالعة :

قد نتج عن تغيير عبد الملك لأسس كعبة الله بدون أن تكون هناك ضرورة لذلك بإشعار من الحجاج الظالم وأعوانه زوال سلطنة أمراء بني أمية ، وظهور قوة بني عباس بن عبد المطلب وإشراق شمس دولتهم ، وهكذا تبدلت أصول الخلافة من الإمارة المعصومة وأفل وانخسف بدر الحكومة الأموية ، وانتقلت مقاليد أمور المسلمين إلى آل عباس فيما بعد. إن أول خلفاء بغداد أبو العباس السفاح بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس وآخرهم المستعصم بالله عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر وهم من سلالة العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ.

قد اعتلى عبد الله السفاح كرسي الخلافة في سنة اثنين ومائة الهجرية وفى شهر ربيع الأول وبعد ٥٢٤ سنة استولى هولاكو على بغداد وقتل المستعصم وبهذا بلغت الخلافة العباسية منتهاها في سنة ٦٥٦ الهجرية.

ونقلت الخلافة العباسية بعد قتل المستعصم وفي عهده إلى القاهرة بمصر فقد بايع المصريون في عهد صلاح الدين الأيوبي بموافقة العلماء الناصر لدين الله العباسي خليفة.

وقد حكم في بغداد مع عبد الله سبعة وثلاثون خليفة ومع الذين حكموا في مصر بلغ عددهم ثمانية وأربعين خليفة إلى انقراضهم. وبعد بلوغ خلافة العباسيين في مصر إلى ٢٦٤ سنة ، وفي سنة ٩٢١ الهجرية سلم الخليفة العباسى عبد الرحيم الأمانات النبوية السنية التي كانت شعار الخليفة ومنصب

الخلافة الخطير إلى السلطان سليم خان ، وابتداء من هذا التاريخ أطلق على سلاطين آل عثمان العدول لقب الخليفة.

تعريف مراتب وألقاب الخلافة والسلطنة والمملكة بالإجمال

الخلافة فريضة دينية خطيرة وأمر شرعى واجب ، تقوم برعاية أعمال المسلمين الدينية والدنيوية وتسوية احتياجاتهم المادية والمعنوية. والخلافة منحصرة فى الأشخاص الذين بويعوا بإجماع الأمة بعد الأنبياء العظام ـ على رسولنا وعليهم الصلاة والسلام ـ. وبما أن الخلافة رئاسة عليا وجامعة لأمور الدين والدنيا فهى أعلى المناصب وأعظمها التى يختص بها الملوك والسلاطين.

قد أطلق على الصديق الأكبر ـ رضى الله عنه ـ خليفة رسول الله ، كما أطلق على الفاروق الأعظم ـ رضى الله عنه ـ خليفة خليفة رسول الله ، ثم أطلق عليه أمير المؤمنين (١) تخلصا من تتابع الإضافات الثقيلة.

إن الصحابى الجليل أبو موسى الأشعر هو أول من خاطب الفاروق عمر بلقب أمير المؤمنين : أو مغيرة بن شعبة أو عمرو بن العاص (٢).

إن الخلفاء العباسيين الذين تولوا عرش الخلافة فى بغداد جنة الخلد قد اتخذوا ألقابا مثل المنصور والمهدى والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والمعتز والمعتضد والمتقدر ، وكان غرضهم من ذلك تقليد الصحابة الكرام الذين لقبوا بالصديق والفاروق والمرتضى ، كما أريد به ألا يذكروا بين الناس بأسمائهم كثيرا.

__________________

(١) كان أحد الرسل المبشرين بالنصر سببا فى إطلاق لقب أمير المؤمنين على عمر بن الخطاب ؛ إذ بعث إليه أحد قواده بعد انتصاره فى إحدى المعارك رسولا يبشره بالنصر ، ويعرض عليه الأمور فلما جاء الرسول أخذ يسأل الناس قائلا : أين أمير المؤمنين فاستحسن الصحابة الكرام هذا اللقب وأخذوا يخاطبون به الخليفة.

(٢) يروى أن هذا اللقب قد أعطى لعبد الله بن جحش المجدع بالله من قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما بعثه إلى مكان معين فى مهمة خاصة.

كما اتخذ العبيديون والموحدون وخلفاء بنى أمية الذين حكموا فى الأندلس ألقابا خاصة مقلدين خلفاء بنى عباس ، إلا أن هذه الألقاب قد دعت الناس للنفرة منهم كما تبين ذلك هذه الأبيات التى أنشدها ابن رشيق القيروانى :

ومما يزهدنى فى أرض أندلس

أسماء معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة فى غير موضعها

كالمهر يحكى انتفاضا صولة الأسد

بما أن الخلفاء العباسيين من السلالة الطاهرة القرشية فصحة خلافتهم محققة ، كما أن الخلفاء العثمانيين ـ أيدهم الله تعالى ـ بالتأييدات الربانية يسيرون وفق سيرة الخلفاء الراشدين الحسنة ، وبما أن كل همهم المحافظة على الأحكام الشرعية وينتمون إلى أهل السنة فهم أحق من جميع الملوك الآخرين بالاتصاف بلقب الخليفة.

السلطان : لقب أقل رتبة من الخلافة الجليلة وله معنيان : لغوىّ ، واصطلاحّى.

فمعناه اللغوى : تسوية الأمور المتعلقة بالخلافة والحكم بصورة الاستبداد.

وأما معناه الاصطلاحى : فأن يصبح الإنسان صاحب ملك أو إدارة أمور الدولة بقطع النظر عن الخلافة.

وعلى هذا التقدير يصح أن يطلق على الخليفة سلطانا ولكن ليس كل سلطان خليفة.

قد أطلق لقب السلطان على جعفر بن يحيى البرمكى وإشنان التركى وكان خلفاء الدولة العباسية وملوك الفرنجة والأيوبيون يطلقون على الأمراء والملوك الذين يعينونهم لقب السلطان. كما كانوا يطلقون عليهم ألقابا خاصة مثل : أمين الدولة ، أمير المسلمين ، أمين الملة.

يجب على من يريد أن يكون سلطانا أن يكون تحت تصرفه وإدارته إقليم كبير ، والملك ـ لقب أقل درجة وأدنى من السلطان ،

الأمير ـ يطلق هذا الاسم فى اللغة التركية باللهجة الجغتائية على خاقان وفى الفارسية على شاهنشاه أى ملك الملوك.

الخان ، الشاه ، الميرزا ألقاب خاصة بالملوك والسلاطين العثمانيين يحملون جميع هذه الألقاب.

وقد أخذ سلاطين العثمانيين لقبى خان وخاقان عند ظهور دولتهم من الملوك الأتراك الذين أخذت دولتهم تنقرض وأخذوا لقب السلطان من سلاطين الدول الإسلامية السابقة لعهدهم حتى أن السلطان بايزيد خان قد جعل الخليفة العباسى بمصر المتوكل بالله العباسى يعترف بسلطنته.

شاهنشاه ـ لقب خاص بملوك الدولة الصفوية والأذربيجانية إلا أنه انتقل إلى السلاطين العثمانيين بعد انتصار السلطان سليم على الصفويين فى سنة ٩٢١ ه‍ وبما أن السلاطين العثمانيين قد حملوا لقب الخليفة أيضا كان نصيب ملوك خوارزم وبخارى وبهوبال وعزلهم يتم بأمر السلاطين العثمانيين وإدارتهم.

حكام أوربا :

يستعمل الأوربيون لقب إمبراطور بدلا من لقب السلطان ولقب الملك مكان خان وشاه ، لقب دوق بدلا من بك ، ميرزا تعنى أمير.

وبما أن لقب إمبراطور لم يكن مستعملا فى الأول كان يطلق على حكام أوربا لقب الملك.

وقد استبدّ الملوك برعاياهم وزاد ظلمهم لهم شيئا فشيئا حتى تجاوز حد الصبر والتحمل فثار الناس وبدلوا الحكم الاستبدادى المطلق إلى الجمهورية واختاروا شخصا يطلق عليه قيصر واتخذوه رئيسا لهم.

وتعهد قيصر برضا الأهالى ورأيهم أن يقوم بإدارة الأمور العسكرية والمدنية

وكشف قيصر ما فى ضميره إذ طلب بعض الامتيازات إلا أنه لم ينل غرضه بهذه الطريقة فاتفق مع فرقة عسكرية واستولى عنوة على بلدة روما الكبيرة فى سنة ٤٩ قبل الميلاد واتخذ لنفسه لقب إمبراطور الذى يعنى القائد وانتصر على جميع معارضيه من أصحاب المناصب العالية ، وهكذا استقل وحصل على الامتيازات التى كان يطالب بها وسك عملة خاصة به ومنذ ذلك العهد يطلق إمبراطور على جميع الملوك والحكام الذين يوسعون ملكهم ويزيدون قوتهم.

***

الصورة الثانية عشرة فى ذكر كيفية تعمير أركان بيت الله وتشييده

بعد تجديد الحجّاج للكعبة المقدسة لم يسمح شرعا إلى سنة ١٠٢٠ ه‍ بتجديد الكعبة حتى لا تكون ألعوبة فى يد الملوك ، إلا أن سقف البيت الشريف العالى وأركانه مالت إلى السقوط بعد هذه الفترة الطويلة وظهر ما يدل على أنها قد أوشكت على الانهيار إذا لم تتخذ وسائل لمعالجتها.

وبناء على ذلك أخذ أهالى مكة يبحثون عن وسيلة لمعالجة الأمر فقرروا بالاتفاق مع أمير مكة الشريف إدريس والأعيان والوجهاء أن يعرضوا الموضوع على العتبة السلطانية راجين منه أن ينظر لهذا الموضوع سريعا.

وقد أهم وأقلق الطلب الذى أرسله أهل مكة أولياء الأمور إلا أن الحكم الشرعى بخصوص تجديد البيت المعظم بعد هدمه ونقضه كان مشترطا بأن يقع ركن من أركانه لذا شكلت لجنة من العلماء الأعلام والرجال الكرام ذوى الاحترام حتى يجدوا حلا شرعيا لهذا الموضوع.

واجتمعت تلك اللجنة تحت المجبورية الشرعية وبعد مشاورات كثيرة قررت أن يحزم البيت من مكانين بأحزمة حديدية كما رأى فريق ربط الأماكن المشققة بتلك الأحزمة وبهذا يهدم البيت الشريف ويعالج الموضوع كما ذكروا أن هذا سيوافق أحكام الشريعة وعرض الأمر على حامى الخلافة.

وحينئذ صدر الأمر السلطانى المطاع بإعداد الأحزمة المذكورة على أن تغطى بطبقة من فضة خام وطبقة أخرى من الذهب الخالص وفى نفس الوقت يتغير الميزاب الفضى الذى أرسل فى زمن السلطان (سليمان عليه الرحمة والغفران) بميزاب مذهب كما هيئوا الصناع من الصياغ والحدادين بمهامهم.

وأرسلوهم إلى حديقة استاوروز فى اسكدار وفى يوم الشروع فى العمل أقيم حفل كبير حضره السلطان وعظماء الدولة وأركانها ، وقد هيئت المهمات اللازمة للترميم فى وقت قصير وأعلم بذلك سلطان الزمان أحمد خان بن السلطان محمد خان الثالث ـ عليهما رحمة الله ـ ، وكان السلطان فى ذلك الوقت مقيما فى حديقة داود باشا وبما أنه يريد أن يرى بنفسه ما تم صنعه من المهمات الغالية وطريقة صنعها أصدر أمره بأن تنقل هذه الأشياء إلى مقر إقامته وبناء على ذلك أمر بصنع نموذج من الخشب لبيت الله يطابقه فى أبعاده ثم أمر بأن تنقل جميع المهمات إلى مكان فسيح فى حديقة داود باشا ثم وضعت الأشياء المعدة لترميم البيت فى أماكنها التى فى النموذج وهكذا عرض كيفية وضع هذه الأشياء وجمال صنعها ودقته على الحاضرين الكرام.

الشكل الثانى عشر

وأخيرا بحث عن الحدادين المهرة والصياغ المتخصصين فى مهمتهم والمتدينين وأرسلوا مع المهمات إلى مكة المكرمة برفقة حسن باشا الذى عزل من وظيفة الدفتر دارية فى حلب وعهد إليه الحبشة ، وفى سنة ١٠٢٠ الهجرية وفى وسط شهر رجب الفرد ، وصى والى مصر محمد على باشا بالعمل على توصيل هذه البعثة عن طريق السويس بأقصى سرعة ممكنة إلى الجانب الحجازى.

وقد قام المشار إليه بهذه الخدمة المباركة على أكمل وجه وأمن وصول البعثة السلطانية إلى مكة بعد أن أمدها بكل ما تحتاج إليه.

وكانت الأشياء الغالية المرسلة عبارة عن : ستة عشر عددا من أحزمة حديدية باعتبار أن كل جدار متكون من أربع مناطق وستة عشر عددا من أعمدة حديدية لتوضع على كل ركن أربعة منها لتثبيت الأحزمة وإمساكها وكمر مقوس فوق باب الكعبة المقدس حيث تلتقى الأحزمة الحديدية وثبتوا لوحة فوق العتبة العليا لباب الكعبة تجديدا للكتابة التى هناك كما أحضروا الأخشاب الجيدة الكافية لتعمير وإصلاح سطح الكعبة وكانت اللوحة التى كتبت عليها ألقاب الكعبة فى باب المعلا وكذلك الزاوية التى تلتقى فيها الأعمدة مع الأحزمة كانت مصنوعة من الذهب الخالص وكذلك الكمر المقوس الأحزمة قد غطيت بصفائح من الفضة الخالصة ونقشت عليها أحسن ما أبدعته أقلام الفنانين وزينت بنقوش بديعة.

وقد تحرك حسن باشا المشار إليه فى أواسط شهر رجب من دار السعادة إستانبول وبعد مدة وصل إلى مكة المكرمة وفى يوم الأحد فى غرة محرم الحرام من سنة (١٠٢١ ه‍) أجمعت هيئة من أعاظم سكان مكة المكرمة فى داخل أرض المطاف والمهندسون وبعد الدعاء والتضرع إلى الله صعد المختصون فوق سطح البيت بواسطة إسقالة وضعت تحت ميزاب الرحمة وابتدروا بالكشف والمعاينة حيث اتضح لهم أن سبعا وعشرين من العروق الخشب فى حاجة إلى التغيير ، وبعد ما أصلحوا ثلاث قطع منها وضعوها فى مكانها ورفعوا الرخام إلى

السطح واحدة تلو الأخرى وبعد ما أصلحوا على قدر الإمكان ووضعوا كل واحد منها فى مكانها القديم ووضعوا الميزاب الذهبى مكان الميزاب العتيق وأتموا تعمير السطح فى نفس هذا اليوم وبعد أيام من ذلك وفى ليلة وبعد أداء صلاة العشاء أمر الباشا المذكور الصناع المهرة بأن يسرعوا فى العمل فاستطاع العمال أن يضعوا الأحزمة الحديدية فى أماكنها فى تلك الليلة وفى الليلة التالية ركبوا النصف الثانى من الأحزمة ووضعوا اللوحة التى فى باب المعلا فى مكانها.

ثم أصلحوا الركن الذى كان فى حاجة إلى الإصلاح دون أن يخرجوا فى أثناء تعميرهم عن تعليمات الشريعة. وهكذا استطاع أن يشيد وأن يقوى ويصلح الأركان الأربعة للكعبة الشريفة وسطحها.

وقد ثبت أن رصانة بيت الله ومتانته قد وصلت إلى الدرجة المطلوبة وذلك بشهادة المتخصصين فى فن البناء.

وفى الواقع أن الأشياء اللازمة لترميم البيت والتى أعدت فى دار السعادة قد ركبت فى مكانها فى الكعبة الشريفة كأنها صبت فى قالب بعد المسح والوزن ومع ذلك فإن هذه المستلزمات كانت قد عينت وجربت عدة مرات فى مكة المكرمة.

إن هذا العمل قد أثار فرح الأهالى وابتهاجهم ؛ ولأجل ذلك اجتمعوا حول كعبة الله فى السادس عشر من الشهر المذكور تحت رئاسة أمير مكة الشريف إدريس وأحيوا يومهم بختم القرآن الكريم والتضرع إلى الله والدعاء للسلطان بدوام قوة دولته وعظمتها.

حكاية غريبة :

عند قلع الميزاب القديم ، ورفع رخام سطح البيت الشريف ظهرت فى الجو علامات نزول المطر وسمعت أصوات الرعد والبرق فى الأطراف والأكناف ، مما جعل الناس يقولون : إذا ما أمطرت السماء سيمتلئ داخل كعبة الله بالسيل واستولى عليهم القلق وأخذت قطرات المطر تتساقط متتابعة كأنها در فى سلكه. إلا أنه لم تسقط قطرة مطر على الأرض إلى ميزاب الرحمة فى مكانه إلى أن غطى سطح بيت الله.

وقد انتظم المطر إلى أن غطى السطح الشريف فى ارتفاع أربعين ذراعا من الأرض وعند الانتهاء من تغطية السطح ووضع الميزاب فى مكانه أخذ المطر ينهمر بشدة لم تر فى ذلك العصر مثلها حتى أغرقت السيول الأسواق والمحلات.

الصورة الثالثة عشرة تجديد بيت الله للمرة الحادية عشرة

البانى الحادى عشر لبيت الله هو السلطان مراد خان الرابع ابن السلطان أحمد خان عليهما الرحمة والغفران.

ولما كان تجديد الكعبة غير جائز شرعا إلا أن يسقط أحد أطرافها ويتهاوى ؛ لذلك لم يتجرأ أحد منذ عهد الحجاج الظالم إلى زمن السلطان المشار إليه على تجديد تلك البقعة المفخمة الجليلة.

وأخذت أركانه الأربعة تميل للسقوط ـ بسبب قدمها ـ حتى إن تجديده قد تجاوز درجة الوجوب وبما أنه لم يجدد فى عهود السلاطين السابقين بتلك الحجة الشرعية فقد أوشك البيت الحرام على السقوط فى عهد السلطان أحمد خان الثالث.

ورغب السلطان أحمد خان فى تجديد أبنية ذلك البيت اللطيف السعيد إلا أن الشرع لم يسمح بذلك. كما سبق ذكره فى المقال السابق فقوّى بالأحزمة الحديدية وأعمدة الزوايا كما رمّم وأصلح ركنان من أركانه على قدر الإمكان ، وقد حفظ هذا الترميم البيت المعظم من السقوط والانهدام ما يقرب من ثمانية عشر عاما.

إلا أن البلاد الحجازية قد تعرضت فى يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر شعبان المعظم من سنة ١٠٣٩ الهجرية إلى رعود وصواعق وبروق وأمطار لم ير لها مثيل ، إذ أن المياه التى نزلت من السماء تجمعت وكونت سيولا كسيل العرم وهجمت بشدة إلى داخل المسجد الحرام وزادت ساعة بعد ساعة وارتفعت مقدار ذراعين من فتحة مفتاح باب المعلا.

إن الحوانيت والمدارس والمنازل التى تصادف وجودها فى طريق السيل الشديد

انهارت كلها وعجزت أتربة البيوت ومبانيها عن الوقوف أمام السيل الجارف فانحرفت أمامه كأنها دليل يقود السيل إلى ساحة الحرم الشريف.

ولا يخمن (١) عدد الذين ماتوا تحت أنقاض الحوانيت والمدارس التى تعرضت للسيل الشديد.

وكانت جدران البيت المعظم قد أوشكت على السقوط بعد وقت قليل من أداء صلاة العصر من يوم الجمعة من الحادى والعشرين من شعبان المعظم وفى اليوم الثانى من دخول السيول داخل الحرم الشريف انهارت جدران (٢) الركن الشامى والركن العراقى فجأة. واختلط صخب الانهيار بأصوات الرعود والصواعق. فاستولى على أهل مكة خوف شديد حتى إن بعضهم ماتوا من شدة الفزع. قد حير انهيار جدران بيت الله أهل مكة وملكتهم الدهشة حتى ظنوا أن ما حدث فى ذلك اليوم علامة من علامات يوم القيامة. وهاموا على وجوههم مشتتين ولم يعرفوا ماذا حدث لهم ، حتى تاه الأبناء عن الآباء والأمهات وشغل الآباء والأمهات عن أولادهم فلم يسأل أحدهم عن الآخر.

وظلت المياه داخل الحرم ثلاثة أيام بعد انقطاع السيل وفى اليوم الرابع فتحت ممرات السيول وأخذت المياه تنسحب من داخل الحرم قليلا فقليلا تاركة خلفها ما جرفته السيول من الحجارة والأوحال التى كونت هنا وهناك مرتفعات تبلغ قامة رجل.

قد عقد ـ فى ذلك التاريخ ـ أمير مكة المعظمة الشريف (مسعود بن إدريس) اجتماعا فى داخل الحرم مع الطبقة المختارة من الأشراف وسكان مكة وبعد التشاور أسرعوا بإنزال القناديل الذهبية والفضية المعلقة فى داخل بيت الله وبعد ذلك أخبروا الركاب السلطانية ما حدث فى أثناء السيل أوصلوا خبر انهيار بيت الله بواسطة محمد على باشا والى مصر.

__________________

(١) قد روى بعض المؤرخين أن عدد القتلى الذين أخرجوا من تحت الأنقاض فيما بعد بلغ ألفا.

(٢) قد انهارت جميع جهات البيت باستثناء الركن اليمانى.

وإن كان محمد على باشا قد عرض الخبر على السدة السلطانية حتى يتخذ القرار إلا أنه قرر أن يعد الآلات والأدوات اللازمة لتعمير بيت الله لأنه رأى أنه ليس من الجائز ترك الكعبة فى هذه الحالة والخبر المرسل إلى السلطان سيتأخر لبعد المسافة بين البلدين.

وكتب رسالة إلى مصطفى أغا أمير جدة يأمره بأن ينصاع لكل ما يطلبه منه الشريف مسعود كما أبلغ الشريف أنه يجب تخلية الحرم الشريف مما جرفه السيل وتطهيره وأن يطلب من مصطفى أغا كل ما يلزمه فى سبيل ذلك إلى أن تصل الإدارة السنية من دار السعادة.

واستحضر الشريف «مسعود» بعون أمير جدة «مصطفى أغا» ومهندس مكة المشرفة على «بن شمس الدين أفندى» المقدار الكافى من الأخشاب وأحاط جدران البيت التى نجت من السقوط بأحزمة من ثلاثة أماكن حتى يقويها ثم أقام دعامات كبيرة حول أركان البيت الأربعة بقصد حفظ السقف الشريف للبيت من السقوط ثم ربط هذه الدعامات بعضها ببعض وأحاط بيت العزة حتى سقفه بألواح خشبية.

قد شرع فى هذه العملية يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة وانتهى العمل فى ترميم البيت فى ظرف ثلاثة عشر يوما أى فى يوم الأحد الثالث عشر من شهر شوال وفى هذه الفترة صنعت كسوة من قماش عادى باللون الأخضر وكسيت بها الكعبة العليا يوم الخميس السابع عشر من شهر شوال.

من البديهى أن انهيار كعبة الله قد أزعج المسلمين فى جميع أنحاء العالم إلا أن انزعاج المصريين (١) كان أشد لقرب المسافة بينهم وبين مكة المكرمة.

وأخذوا يبرزون شدة تأثرهم بأقوال مثل : أن موسم الحج قد اقترب ولم يرد

__________________

(١) لأن المصريين أول الناس الذين أخذوا خبر انهيار البيت.

من إستانبول الأمر السنى المنتظر ؛ لذا قرر محمد على باشا والى مصر إرسال مندوب خاص من قبله إلى الأستانة.

استدعى رضوان أغا الذى تربى فى كنف السلطان وكان من رؤساء الشراكسة وألبسه الخلعة ثم قال له : إننى قد عينتك مسئولا عن أبنية كعبة الله إلى أن يرد الأمر السلطانى من الباب العالى ، قد اقترب موسم الحج اقترابا شديدا قم الآن واركب الهجين وتوجه ناحية مكة المكرمة واحرص على إعداد الأشياء اللازمة وبمجرد وصولك هناك ابعث لنا على جناح السرعة كشفا بكل ما تحتاجه من عندنا ، ثم أعطاه خلعة ليقدمها إلى الشريف مسعود كما زوده برسالة توجيه للشريف المذكور وأخرجه إلى الطريق ، ثم واصل رضوان باشا السير حتى وصل إلى مكان قريب من مكة المكرمة يوم الثلاثاء الثانى والعشرين من شوال وأرسل إل الشريف مسعود من يخبره بأنه أتى حاملا له خلعة من قبل والى مصر ، فأرسل الشريف وفدا من عظماء مكة المكرمة وموظفى الدولة ليكونوا فى استقبال رضوان باشا.

وبعد ما تقابل رضوان باشا مع أفراد وفد الاستقبال تحرك نحو مكة ووصل إليها بعد رسوله الذى كان بعثه من قبل بأربعة أيام يوم السبت السادس والعشرين من شوال ونزل فى المنزل الذى كان قد أعده له شريف مكة وفى اليوم التالى يوم الأحد السابع والعشرين من شوال اجتمع الناس داخل ساحة الحرم إذ أقيم فيه احتفال لتقديم الخلعة.

قد حضر مع الشريف مسعود ورضوان أغا ـ عملا بأصول التشريف ـ أشراف مكة وعظماؤها وأعيانها وكبار موظفى الدولة والعلماء الأجلاء ووقفوا كلهم بين باب المعلا لكعبة الله ومقام إبراهيم قرئت الرسالة التى تحتوى على الأوامر السامية كما قرئت الرسالة التى كانت تنصّ على إبقاء موظفى الحجاز فى مناصبهم ثم ألبست الخلعة الفاخرة التى بعثها والى مصر ـ بكل تعظيم وتوقير ـ للشريف مسعود الذى ألبس أيضا خلعة لرضوان ومرافقيه وعقب ذلك رفع المجتمعون

أيديهم داعين الله ليزيد الدولة قوة وشوكة ، والسلطان جلالا ثم انصرفوا عائدين.

وكان داخل الحرم الشريف والطرق المؤدية إليه قد امتلأت بالحجارة والتراب والقمامة مما جرفه السيل. وفى يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شوال واليوم الثالث من وصول رضوان أغا اجتمع بالشريف مسعود والأشراف والعلماء الأجلاء فى الحرم الشريف وتشاور معهم فى تنظيف ساحة المسجد الحرام وتطهيره مما حل به.

وعرض كل واحد رأيه وكانت خلاصة رأيهم أن تنظيف ساحة الحرم فى مدة قصيرة غير ممكن لأن موسم الحج قد حل بل أخذ الحجاج يفدون إلى مكة المكرمة.

إلا أن رضوان أغا فند رأيهم وتصرف بالشهامة والرجولة وحرص على أن يبعث رجاله إلى المدن والقرى الواقعة بين جدة والمدينة المنورة يستدعون كل من يملك حمارا أو حصانا أو جملا وكل من يريد أن يعمل يغرونهم بالأجر الكبير وهكذا جلب كل هؤلاء إلى مكة المكرمة وشرع فى العمل بهمة عظيمة ووفق فى تنظيف الحرم الشريف وتطهيره فى ظرف عشرين يوما فى يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر ذى القعدة.

إن ما جرفه السيل فى داخل الحرم من الطين الممزوج بالحجارة كان قد تحجر عقب انسحاب السيول بفعل الحرارة الشديدة وكون جبلا فى ارتفاع سبعة أذرع أو ثمانية ، واكتسب صلابة بحيث لا ينفذ فيه الفأس أو الإزميل أو المثقاب وحينئذ قد بلل الجبل الترابى بالماء ليلا وفقد صلابته وأخذ العمال يحرثون ذلك الجبل العارض بالفئوس والأزاميل كما تحرث الحقول اللينة.

وكانوا ينخلون التراب المحفور بالغرابيل ، وينقلون رمله على حدة إلى موضع وترابه على حدة إلى موضع آخر وجاء فى سجل سهيلى أفندى ـ رحمه الله ـ أنهم كانوا يخرجون ثلاثين أو أربعين ألف حمل تراب يوميا.

عين زبيدة :

بما أن مجرى تلك العين كان قد غطى بالطين والأحجار وبدأ أهل مكة يعانون شح الماء ، قام رضوان أغا بترميم وإصلاح المواضع الخربة فى مجرى العين المذكور ، وظهر الجزء الممتد من جمرة العقبة إلى مكة ، وقد أنجز هذه المهمة على الوجه الأكمل.

إحدى كرامات بيت الله الحرام :

عند ما سقط جزء من بناء الكعبة الشريفة أصبح ماء زمزم الشريف ملحا أجاجا إلى درجة أنه تعذر شربه.

وعلى الرغم من أن أعلام العلماء والفقراء ذوى المنزلة تشاوروا فيما بينهم وبسطوا رجاءهم مطالبين بتطهير بئر زمزم لشدة حاجة أهل الإيمان إلى مائه المبارك ورغبتهم فيه ، وأن تتولى جهة ما مهمة تنظيف هذه البئر إلى أن ينقى ماؤها ، إلا أن تطهير هذه البئر كان يتكلف ثلاثين ألف قرش وبما أن إنفاق أكثر من خمسة أو ستة آلاف قرش ولو بارة واحدة يتوقف على الاستئذان من أولى الأمر فقد تغاضى رضوان أغا عن فكرة تطهير بئر زمزم قائلا : لا أستطيع أن أنفق هذا القدر من المال من تلقاء نفسى ، وينبغى علىّ الاستئذان من والى مصر ، ولكن حتى يصلنى رده يتطلب الأمر منى أن أشتغل بأمور أخرى لعدم إضاعة وقتى.

واقتضت حكمة الله أن الملوحة الظاهرة فى بئر زمزم بدأت فى الزوال ـ تدريجيا مع أول يوم من إلقاء أساس بيت رب العزة ، وعند ما أوشكت عمليات الأبنية المسعودة على الانتهاء أصبح ماء بئر زمزم عذبا فراتا ، ولم تعد هناك حاجة إلى تطهيرها. انتهى.

وفى أوائل شهر ذى القعدة أرسل رضوان أغا إلى والى مصر بيانا يتضمن ما تحتاج إليه الأبنية المسعودة من الآلات وأدوات ومواد بناء مبينا مقدارها وأنواعها ، ورجاه الإسراع فى إرسال هذه الأشياء المدرجة فى هذا البيان. وقام والى مصر محمد على باشا بإعداد الأشياء التى أرسل رضوان أغا فى طلبها وعلاوة على

هذا استدعى كثيرا من النجارين وسائر الحرفيين ووجه بهم موظفا خاصّا وخرج فى وداعه. ولدى وصول الموظف المذكور إلى ميناء جدة فى أواخر شهر ذى القعدة سلم ما أحضره من مواد ـ بموجب دفتر ـ إلى أحمد قبانى أفندى كاتب المال على ميناء جدة المعمورة.

وبناء على الأمر الذى أرسله رضوان أغا مع سيد على بن هبزع أرسل أحمد قبانى المهمات الواردة من مصر إلى مكة المكرمة على دفعتين ، وقد حفظت المهمات التى أرسلت فى القافلة الأولى فى الخانات المعروفة بمخازن «عبد الرحمن بن عتيق» ١٣ محرم.

وقبيل وصول هذه القافلة اتجه رضوان أغا نحو خليص لتمهيد وإصلاح الطرق التى دمرها ماء السيول الجارى من جهة وادى خليص ، وكانت طرق العين المذكورة قد خربت بأكملها من جراء طغيان السيل ، ولذا انقطعت مياه البئر ، ومكث رضوان أغا أياما فى الوادى المذكور لإعادة مجرى البئر إلى سالف عهدها ، واطلع على بن شمس الدين أفندى مهندس مكة المكرمة على الأماكن المتهدمة.

وفى التاسع من ربيع الثانى أجروا الماء الذى انقطع ـ إلى مكة المكرمة بعد إصلاح العين وجعلها على أحسن وضع لها ، كما أجريت مياه الأحواض.

ثم قفل رضوان أغا راجعا إلى مكة المكرمة ونظف مجارى المياه الواقعة على مقربة من البركة الشامية.

وفى يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الثانى عين من مست إليهم الحاجة من موظفين للقيام بتجهيز كافة متطلبات ومستلزمات الأبنية المسعودة من حطب وفحم وجص ، وبعد أن طيب نفس كل منهم بتحديد مرتباتهم كاملة غير منقوصة أمرهم بجمع الأحجار التى هوت من الأبنية المباركة للكعبة المعظمة ، وأصدر تعليماته وتوجيهاته إلى النجارين بخصوص عمليات الترميم والإصلاح لإعادة جدران الكعبة المشرفة إلى ما كانت عليه.

ولما شاع بين الأهالى أن الأحجار الساقطة سوف تعاد إلى مواضعها فى الأبنية المسعودة كثر القيل والقال ، ولأن كل أحد قال كل ما خطر له من كلام ذهب بعض العلماء إلى عدم جواز ذلك العمل واعترضوا عليه لدى رضوان أغا.

وكان ضمن هؤلاء من طائفة العلماء المعترضين من يسمى «محمد على بن علان» مفتى الشافعية ، وأصدر هذا الرجل فتوى فحواها أنه : (لا يجوز لكائن من كان أن يتدخل فى شئون البيت الشريف ما لم يكن نائبا أعظم عن سلطان العالم وملك ملوكه المعظم ، وينبغى الانتظار لحين وصول التعليمات من الأستانة فى هذا الشأن).

وبناء عليه استدعى رضوان أغا شيوخ الإفتاء على المذاهب الأربعة إلى الحرم الشريف وقال لهم : هناك من أفتى معترضا على ترميم بيت الله ، فهل يجوز أن يبدأ فلان من الناس الذى عين من قبل السلطنة السنية ومنح الإذن فى البناء ، أم أن ذلك غير جائز؟.

وأجاب على سؤاله من أعاظم شيوخ الفتيا الشيخ «خالد بن أحمد المالكى» ، و «عبد العزيز الزمزمى» من شيوخ إفتاء الشافعية ، و «أحمد بن محمد آق شمس الدين المفتى الحنفى» و «عبد الله بن أبى بكر القرشى» مفتى الحنابلة بأن هذا الأمر (فرض كفاية) ، والقائم به مثاب مأجور عند الله ، بيد أن الشيخ محمد على بن علان وهو من مشاهير المعترضين أبدى اعتراضه ثانية ، وجمع كثرة كاثرة من الأهالى وتجرءوا على منع الحجّارين وكافة عمليات البناء ، وعلى أثر ذلك لم يجد رضوان أغا بدّا من استدعاء شيوخ الإفتاء على المذاهب الأربعة للمرة الثانية واستفتاهم فى شرح المسألة على التفصيل.

وبفضل فتاوى هؤلاء الشيوخ المفصلة والتى أجمعوا فيها على جواز العمل قائلين : «يجوز كل فعل ما دعت إليه ضرورة أو حاجة» اقتنع الناس بمشروع رضوان أغا فى عمليات الأبنية المسعودة قبل وصول التعليمات السلطانية.

ولم يكن سبب الاعتراض هو الرغبة فى إعادة الأحجار المنهارة إلى مواضعها

وإصلاحها ، بل الأسباب القهرية التى بينها المهندسون فى تقارير المعاينة والتى نذكرها فيما يلى مع المعترضين :

الأسباب القهرية التى بينها المهندسون فى تقارير المعاينة :

١ ـ أن الأحجار الساقطة من الأبنية المسعودة للبيت الشريف غير صالحة للاستعمال ، ولأن قسما منها تهشم فإنه لا سبيل إلى إكمال بناء بيت الله بهذه الأحجار ، ولذا يتحتم إحضار قدرا كافيا من الأحجار من خارج الكعبة.

٢ ـ وإن كان من الممكن إلصاق الجدران المقامة حديثا مع الجدران المتهدمة فإنه فى خلال فترة وجيزة سوف تنهار ما فى ذلك من شك ، علاوة على أن بعض المواضع فى الجدران القديمة قد آل للسقوط ، وهدم الجدران الآيلة للسقوط أصل مرعى من أصول فن العمارة.

ردود المعترضين :

١ ـ لا يجوز جلب أحجار من خارج الكعبة ، كما لا يجوز كذلك إصلاح الأحجار المتهشمة ، وينبغى استعمال الموجودة على حالتها ، أى أنه يتعين ترميم جدران الأبنية المسعودة بالأحجار القديمة.

٢ ـ لا يجوز اقتلاع حجر واحد من أبنية الكعبة ، فمن باب أولى لا يجوز هدم الجدران المنهارة.

ولا نحسب أن دعاوى المعترضين كانت لهذين السببين ليس إلا ، فقد قالت هذه الطائفة بعد أن اجتمعت كلمتهم : أن صورة سقوط بيت الله عرضت على الباب العالي ، ولا ينبغى الشروع فى البناء قبل ورود تعليمات الإرادة السنية فى هذا الصدد. كما عرجوا على إقامة ستار حول الأبنية المسعودة مع مهمة تنظيف الحرم الشريف ، ولم يجيزوا ـ على أية حال ـ هدم الجدار الواجب هدمه وهو الذى بين الحجر الأسود والركن اليمانى ، وقرروا جواز دخول بيت الله الحرام والجلوس فيه وتدريس صحيح البخارى داخل البقعة المقدسة.

وواقع الأمر أن هذه الدعاوى كانت واهية فإن لم يؤت بأحجار من خارج الكعبة لا يتأتى لجدران الكعبة أن تبلغ ارتفاعها القديم ، وما لم تسو الأحجار المتهشمة وتصلح لا يمكن إعادتها إلى مواضعها القديمة وذلك أخذا بأصول فن العمارة ، أما إلصاق جدار آيل للسقوط بآخر بنى حديثا فغير جائز لأن مصيره الانهيار.

رغبتهم فى عدم تنظيف الحرم الشريف :

وإن كانوا قد أشاروا إلى أن إدخال الجمال والحمر وسائر حيوانات الحمل إلى المسجد الحرام سوف يخل بما ينبغى من نظام ، فإن الاعتماد على الإنسان فقط فى نقل حصى موضع ثبت أنه يخرج منه أكثر من أربعين ألف حمل حصى يوميا قرابة شهر على نحو ما سلف شرحه يستلزم نفقات باهظة ، فضلا عن أن هذا سوف ينفذ فى مدى خمس أو ست سنوات وفى تلك المدة سوف يحرم الحجاج القادمون من الطواف والزيارة فى مواسم الحج وهل صح فى الفهم أن يجيز ذلك جاهل فكيف يجيزه عالم ، وإن جاز إقامة ساتر من الخشب حول الكعبة الشريفة وتنظيف ما يجب تنظيفه من مواضعها ، والوفاء بتعظيماتها طبق ما تفيده الفتاوى الشريفة المدرجة فى خاتمة المقال ، فإن رضوان أغا حصل على فتوى بعدم تدريس صحيح البخارى داخل البقعة المقدسة ، وشرع فى تنفيذ ما تستوجبه مهمته. رضى الله عنه وعمن أصدروا له الفتاوى أجمعين.

تكليف رضوان باشا بإعادة بناء بيت الله :

أرسل محمد على باشا والى مصر رسالة إلى الباب العالى يخطره فيها بسقوط بيت الله على نحو ما سلف ذكره ، وأرفق هذه الرسالة بالتقرير الذى ورد من الشريف مسعود بشأن هذه الحادثة الهامة ، وتلافيا لوقوع أى بلبلة عرض الأمر على حضرة السلطان دون أى تأخير وصدرت أوامر ملجأ الخلافة العظمى ببناء وترميم تلك البقعة المباركة وإعادتها إلى حالتها الأولى.

وفى تلك الأثناء أرسل الصك إلى سيد أفندى الأنقروى نقيب الأشراف الذى أسند إليه قضاء المدينة المنورة ، وأن تكون الأموال اللازمة لترميم الأبنية المقدسة من جزية أقباط القاهرة وقد عين الأنقروى أفندى هذا أمينا للبناء لأمانته ونزاهته وأخطر محمد على باشا والى مصر بذلك وبإسناد نظارة الأبنية المقدسة إلى سيد أفندى الأنقروى ، كما أخطر الشريف مسعود بفرمان خاص من السلطان.

وشكل محمد باشا مجلسا من أعيان الدولة وموظفى الحكومة لبحث انتخاب وتعيين أمينا للبناء بموجب الفرمان السلطانى الرفيع والذى وصل يحمل التوقيع المشرف وقال محمد على باشا : لقد أخطرنا الباب العالى بسقوط بيت الله ، وأرسلنا كذلك تقرير الشريف مسعود إلى مقر الخلافة الجليلة. وصدرت الأوامر السلطانية لنا بإسناد نظام ترميم البيت الشريف إلى سيد محمد أفندى الأنقروى قاضى المدينة المنورة ، وانتخاب أمير من أهل التقوى والورع أمينا للبناء ، وإرسال المال اللازم من الخزانة لإنفاقه على ذلك ، وأرسل فرمان عال لإبلاغ الشريف مسعود بذلك مع خلعة فاخرة وأرسل اللواء السلطانى إلى من ستسند إليه أمانة البناء. ومن قبل أرسلنا إلى الباب العالى نخطره بإسناد هذه الخدمة إلى رضوان أغا ، والآن قدم علينا موظف يسمى «محمود شاووش» لتسلم وحمل المهمات اللازمة للأبنية المسعودة وأحضر معه بيانا بها ، وإذا ما استطاع رضوان أغا النهوض بهذه المهمة على خير وجه فسوف أثبته فى مهمته ، ويتعين على أن أسلم محمود شاووش ما طلبه من مهمات ، وإن وجد من هو أصلح من رضوان أغا أرسلناه واستدعينا رضوان أغا.

وبعد تبادل الآراء طويلا فى المجلس قال محمد على باشا :

إن رضوان أغا أهل تقوى وعفة واستقامة وكفاءة وهو على علم تام بالأبنية المسعودة ، كما أنه موضع ثقة لدينا جميعا ، وانتخب وأرسل من قبل لهذه المهمة ، وبدلا من تضييع الوقت فى البحث عمن هو أهل اقتدار وكفاءة ينبغى أن نثبّت رضوان أغا فى مهمته ، ونحن إذا ما طيبنا خاطره بإرسال الهدايا الواردة من

السلطان الأشراف ، وأرسلنا إليه ما طلبه من مهمات نكون قد أدينا خدمة للكعبة الشريفة من ناحية العمليات والخزانة الجليلة من جهة النفقات.

وقدم هذا الرد الشافى على النحو السالف ، وبناء عليه أرسل محمد باشا رسالة مفصلة فى هذا الخصوص متضمنة التصديق على أمانة رضوان أغا للأبنية المقدسة ، وأرسل موظفا مخصوصا بالفرمان السلطانى الوارد من الأستانة مصحوبا بخلعة فاخرة وخرج محمد باشا لوداع هذا الموظف.

وفى هذه الأثناء أرسل سيد محمد أفندى ـ الذى كان موجودا فى مصر ـ مع الموظف المشار إليه.

وأعدت المهمات المطلوبة لرضوان أغا كما وردت فى البيان ، وبدءوا فى إرسالها تباعا إلى ميناء السويس ، ولما نقلت إلى هناك بتمامها حملت فى سفن السويس مع سويدان زاده محمد بك وسلمت إلى محمود شاووش رجل رضوان أغا وأرسلت إلى جدة.

وفى يوم الأحد التاسع عشر من ربيع الثانى لدى وصول محمود شاووش خرج من السفينة وركب وجناء (١) ، واتجه إلى مكة المكرمة ، ولما وصلها أخبر رضوان بتثبيته فى مهمته ، وإسناد قضاء المدينة المنورة إلى من يدعى سيد «محمد أفندى الأنقروى» وتعيينه ناظرا على الأبنية المسعودة من قبل السلطان.

وقد جعل كل ما يختص بمبانى البيت المعظم إلى والى مصر الوزير محمد على باشا وفوض فيه ، وأرسلت الأوامر السلطانية ببذل كل ما فى وسعه فى هذا الخصوص.

مع أن محمد باشا كان قد وكل من قبله رضوان أغا وعينه للقيام بهذه الخدمات السعيدة ، وبعد بفترة قصيرة وصل سيد محمد أفندى إلى مكة المفخمة وتحدث مع رضوان أغا طويلا.

بينما توجه الشاووش محمود من ميناء ينبع إلى مكة برا كان محمد بك ابن

__________________

(١) الوجناء : الناقة التامة الخلق غليظة لحم الوجنة ، الصلبة الشديدة.

(اللسان مادة : دوجن) ص ٤٧٧٤. ط. دار المعارف.

سويدان قد توجه بحرا إلى بندر جدة المعمورة وقد وصل إلى جدة يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الثانى وسلم ما حمله معه من الأخشاب والآلات والأدوات والمهمات الأخرى الخاصة ببيت الله مع دفاترها إلى أحمد القبانى المسئول المالى لمدينة جدة ، ولما كان أحمد أفندى يعرف مدى حاجة الأبنية المسعودة لهذه الأشياء أعد قافلة وحملها بالأخشاب فى نفس الليلة وبعثها إلى مكة المعظمة وأدركت القافلة المذكورة المدينة الجليلة فى الصباح.

وبمجرد أن وصلت الأخشاب أسرع رضوان أغا بإحاطة الكعبة العليا بستار خشبى وبعده بيوم استحضر اللوازم الباقية من مدينة جدة بواسطة سيد على وخزنها.

وقد شرع فى أعمال إحاطة كعبة الله بستار خشبى يوم الأربعاء الثانى والعشرين من ربيع الثانى وكان هدف رضوان أغا من هذا العمل إخفاء تعمير بيت الله ـ تعظيما له وتوقيرا ـ من أعين الناس ، وعند ما أوشكت عمليات ستر الكعبة بالخشب على الانتهاء وصل إلى مكة ناظر الأبنية السعيدة وتلاقى مع رضوان أغا واتفقا على إجراء مراسم الأمر السلطانى الذى حمله من مقام الخلافة الجليل وكتبت تذاكر الدعوة إلى سيد عبد الكريم (١) أخى مسعود شريف مكة وعظماء مكة وقاضى مكة وشيخ الحرم رجاء أن يكونوا فى الساعة المعينة داخل الحطيم الشريف فى يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر ربيع الثانى وتجمعوا فى الميعاد المحدد وقرأوا (٢) الصحيفة التى تحتوى الأمر السلطانى الموجه إلى الشريف مسعود.

وبما أن الشريف مسعود كان مريضا لم يحضر مراسم قراءة الأمر السلطانى فأرسلت الخلعة السنية الخاصة به إلى منزله العامر وألبست الخلعة الخاصة برضوان أغا أمام الحاضرين كما ألبس سيد على بن هبزع والآخرون خلع لاثقة

__________________

(١) قد دعى سيد عبد الكريم نيابة عن أخيه الشريف مسعود.

(٢) قد أشير للصورة المنيفة لهذا الأمر السلطانى فى خاتمة المقال.

بهم ثم رفع الحضور أياديهم داعين مبتهلين إلى الله بدوام دولة سلطان الأمم وانتصار جنوده وهكذا ختم المجلس.

وقد قدم لرضوان أغا مقابل خدمته الجليلة راية سلطانية أيضا. ولم يرغب رضوان أغا بعد هذه الوظيفة فى وظيفة أخرى ورجا أن تبدل وظيفته بمشيخة الحرم الكائنة فى المدينة المنورة وقبل رجاؤه وأسندت إليه إدارة محافظة المدينة المنورة مشيخة الحرم المدنى فى دار الهجرة.

وبعد ما أتم رضوان أغا خدمته قدم إلى إستانبول ونال شرف المثول بين يدى السلطان الذى عرض عليه وظيفة (بكلربكى) ولكنه لم يقبل هذه الوظيفة أيضا فأحيل إلى المعاش بستمائة ألف أقجة (١) وأنعم عليه ببراءة سنية (٢).

وكانت الرسالة التى كتبها والى مصر الوزير «محمد باشا إلى الشريف مسعود» تحوى فقرة (يرجى أن تبذلوا جميع جهدكم لتعمير البلد الشريف وتجديده متفقا ومتعاونا مع المخلص رضوان أغا على أرض الواقع).

وقد سر الشريف من هذه السطور وابتهج وأخذ يثنى على محمد على باشا ويشكره ثم ألبس الخلع لرضوان أغا ومرافقيه وبعد يومين من ذلك ارتحل مودّعا الدنيا إلى دار إمارة الفردوس فى يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر ربيع الثانى.

وقد أثار موت الشريف مسعود بين أهل مكة القيل والقال مما أقلق الكرام من أهالى مكة والمجاورين ذوى الاحترام وأزعجهم. إلا أن رضوان أغا بما هو مفطور عليه من سجية عالية وروية فى التفكير بذل كل جهده ليحافظ على أمن البلد وضبطه فأصدر الأمر الآتى : ـ

«كل من يسعى للفساد ويثير الخلل فى البلاد يهدر دمه» وأعلن هذا الأمر بواسطة المنادين فى الأسواق والحوانيت حتى يصل إلى مسامع الناس ، ثم كفن وجهز الشريف مسعود وصلى عليه فى الحرم الشريف ودفنه فى مقبرة المعلا ، ثم

__________________

(١) أقجة عملة فضية فى الدولة العثمانية.

(٢) قد أشير إلى هذه البراءة الشريفة برقم (٢) فى خاتمة المقال.

استدعى الأعيان والأشراف وقاضى مكة المعظمة وشيخ الحرم وذوى النفوذ من الأهالى إلى الحرم الشريف وخاطب السيد الشريف عبد الله بن حسن الذى كان فخر أسرة آل عبد مناف ودرة السادات والأشراف.

يا سيدنا إن منصب الإدارة الجليل والرتبة العلية لرياسة الأشراف من حقكم الصريح وذلك بشهادة المجتمعين والأشخاص الموجودين فى الأماكن الأخرى ، فتولوا من الآن الإمارة والبسوا خلعتها المزينة وأسرعوا إلى حكم البلاد حسب الأصول واعملوا على ضبط الأمور وربطها .. هذا هو المرجو منكم وبناء على هذا الخطاب لم يستطع أهل الفساد أن يوقدوا نار الفتنة والفساد".

وإن تردد السيد عبد الله فى قبول هذا التكليف الذى عرض عليه من قبل رضوان أغا إلا أن انضمام الأعيان والأشراف والعلماء الأعلام إلى رضوان أغا بالرجاء إليه. قائلين : ـ إن هذا الأمر المفروض عليك من قبل رضوان أغا نافع للدين والدولة فرجاؤنا أن تتفضلوا بقبوله. وبناء على هذا لبس الخلعة الخضراء لرياسة أشراف الإمارة ، ودعا لسلطان الأنام من صميم قلبه ، وتقيد بإدارة أمور البلد ضبطها وربطها.

وقد أنقذ حسن تدبير رضوان أغا البلد من فتنة عظيمة ونجى الأهالى من الحزن والألم والقلق ، لذا دعوا له وللسلطان وعدوا هذا التدبير المقبول والمستحسن خدمة أخرى قدمها المذكور لمكة الله وقالوا : «قد نجونا من جميع السوء كانت الحجارة المتساقطة من جدران البيت الشريف تناثرت فى جميع أطراف المسجد الحرام وظل كل جزء منها فى ناحية ، وفى يوم الجمعة من أول شهر جمادى الأولى اجتمع الأشراف وأعيان مكة وخدمة بيت الله وموظفى الدولة فى المسجد الحرام توأم جنة الخلد وأخذوا يجمعون الحجارة ثم وضعوها فى صفة قريبة من المقام الحنفى فى الركن العراقى وأقاموا فوقها خيمة ثم كلفوا بجمع البقايا من الحجارة عمالا قاموا بحملها ووضعها فى مكان قريب من المدرسة

السليمانية ، وشرع الصناع المهرة فى نحت الحجارة وتسويتها بعد أن جلبوها من الخارج».

كان المرحوم الشريف مسعود قد وضع القناديل الذهبية والفضية الخاصة ببيت الله فى محل قريب من المدرسة الباسطية وحفظها هناك. وكان عدد القناديل خمسين قطعة ثمانية عشر منها ذهبا وثلاثة وثلاثين منها فضة.

وقد اجتمعت الهيئة المذكورة يوم السبت الثانى من شهر جمادى الأولى ونقلت الأحجار المتروكة فى الركن (١) العراق إلى صفة المقام الحنفى وأمروا بانتزاع الحجارة الرخامية التى كانت تغطى ساحة المطاف ووضعوها فى مكان قريب من باب السدة.

وأخذ الحجارون منذ ذلك اليوم ينحتون ويسوون الحجارة التى تضررت وتجرحت عند سقوطها من جدران بيت الله وكذلك أخذ النجارون يقطعون وينشرون الأخشاب التى وتوفرت.

وفى يوم الأحد الثالث من شهر جمادى الأول انتزع باب خزينة الشموع الذى كان تابعا للسقاية التى يتولى أمرها عباس بن عبد المطلب وأخرجوا الحزام (٢) الحديدى الذى كان قد أرسله المرحوم السلطان أحمد خان.

واستدعى الصياغ ليفصلوا بين ذهب ذلك الحزام وفضته وذلك أمام قاضى مكة وشيخ الحرم والآخرين من أعيان المدينة وعظمائهم. وخرج من حديد هذا الحزام عشرة آلاف درهم من الذهب ومائة وعشرون ألف درهم من الفضة.

وهذا فضلا عن الذهب والفضة المستخرجان من الحزام الكائن بين الحجر

__________________

(١) المدرسة السليمانية التى تحاذى الركن العراقى أصبحت ـ الآن ـ محكمة ، كل الحجارة المنقولة والمحفوظة كانت قد وقعت من الركن الشامى.

(٢) إن هذا الحزام كان قد أرسل من السلطان المشار إليه فى سنة ١٠٢٠ ه‍ لتشييد وترميم بيت الله ولما انهار بيت الله رفع الحزام المذكور بأمر الشريف مسعود ووضع فى المخزن المذكور.

الأسود والركن اليمانى ، وإذا ما ضممنا إلى المجموع ما استخرج من الذهب والفضة من الحزام يجب أن نضم إلى المجموع الكلى ثلث المقدار المذكور.

كان محمد على باشا والى مصر قد جهز مقدارا لازما من الرخام والآلات والأدوات ومقدارا من الخشب والمستلزمات الأخرى وحمل بها سفينة فى السويس لتوصلها إلى جدة ، وقد تعرضت هذه السفينة لعاصفة شديدة وغرقت ولما وصل الخبر المشئوم فى يوم الجمعة الخامس عشر من شهر جمادى الأولى إلى سمع الناس فى مكة المكرمة أصابهم هم شديد.

وفى يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر المذكور شرع بعد التسمية باسم الله فى هدم جدران البيت بعد أن أحيط المطاف الشريف بستار خشبى.

وكان الهدف من هذا إخفاء النجارين الذين سيعملون فى البيت الحرام مقتدين فى ذلك بعبد الله بن الزبير لأنه كان قد أحاط البيت قبل هدمه بستارة خشبية.

بينما كان النجارون مشغولين بصنع الستارة الخشبية اتصل رئيسهم برضوان أغا وأخذا يتذاكران القرار الذى سيتخذ للبدء فى هدم البيت ، وبعد المحادثات الطويلة بين الطرفين قرر أن يشرع فى الهدم يوم الأحد من الشهر المذكور وفى الموعد المقرر بدأت العمليات أمام الأشراف الكرام والعلماء العظام وأهل مكة المحترمين كما أحيط البيت من خارجه بستارة خشبية فى ارتفاع ستة أذرع ، وتركوا فراغا فى الستارة الخشبية حتى يتمكن الطائفون من استلام الحجر أو تقبيله ، وكان عبد الله بن الزبير قد فعل نفس الشىء ، وكان الطائفون يطوفون خارج الستارتين ، ولما شرع فى صنع الستارة الثانية فى ٢٤ جمادى الأولى شرع فى صنع إسقالة قوية متينة على أطراف الستارة الأربعة.

وكان قصد رضوان أغا من صنع هذه الإسقالة هو تسهيل عمل البنائين فى صعودهم ونزولهم وتأمين طريق العمال الذين يحملون الحجارة والطين فى أثناء البناء.

وقد استمرت هذه الأعمال ستة أيام أو سبعة وفى يوم الأحد غرة جمادى الآخرة انتزعت بقية الأحزمة التى كانت فوق الجدار الذى فيه الحجر الأسود ، وفى يوم الاثنين الثانى من شهر جمادى الآخرة اجتمع الشريف على بن بركات وسادات البلد صباحا فى دائرة الحطيم وتفقدوا الجدران التى لم تسقط وخاصة السقف الشريف لبيت الله ومعهم رضوان أغا والمختصون فى فن العمارة والمهندسون.

وأخذ المتخصصون فى فن العمارة والمهندسون يكشفون بعناية تامة ورأوا مدى ضعف الجدران التى لم تتهدم بعد ، والسقف الشريف وشدة وهنه ثم قالوا مخاطبين الجمع : إن مبانى هذه البقعة الشريفة قد اهتزت ووهنت من أسسها وهانحن أولاء نعرض لكم الحقيقة فلا مجال بعد ذلك لتقولوا لماذا لم تخبرونا بالحقيقة فى وقتها؟ وقد صرحنا بحقيقة الأمر أمام المفتين الأربعة والسيد القاضى وأمام عظماء البلد ووجهائهم.

ونكرر القول مرة أخرى : إن إبقاء بيت الله دون تجديد أمر غير جائز ، وقد اهتزت وضعفت جميع نواحيه وأصابها الوهن ومن هنا يجب أن يجدد البيت تجديدا كاملا وأيدوا قول رضوان أغا بشهادة كثير من المسلمين.

إن تصديق المجتمعين كلهم ما ادعاه المهندسون ورجال العمال بلا تردد كان لإسكات محمد بن علان وهو من العلماء المعترضين.

وقد ادعى ابن علان أن الأجزاء الباقية من جدران الكعبة غير جائز هدمها وهكذا خدع بعض العوام من الناس وأثارهم حتى يحولوا دون هدم الأجزاء الباقية التى نجت من السيول ، وتردد رضوان أغا أمام موقف هؤلاء واستفتى المفتين المعروفين بعلمهم فى أرجاء العالم وفقهاءهم وحصل منهم على الفتوى التى ستذكر فى آخر هذا المقال وكانت خلاصة الفتوى : «يجب العمل بما تملى به الضرورة وبشهادة أهل الخبرة ورأيهم ، ومن هنا يجب البدء فى تجديد بناء الكعبة ويلزم من أجل تجديدها المال الحلال».

وبناء على التقرير الذى وضعه المهندسون والمتخصصون فى فن العمارة وبشهادة المسلمين قد رفعت الستائر الخشبية التى وضعت بدلا من الجدران المنهارة وانتزعت الحجارة الباقية ووضعت بكل احترام وتوقير فى مكان قريب من المدرسة الباسطية وذلك فى يوم الثلاثاء الثالث من شهر جمادى الآخرة.

وبما أنه قد شرع فى يوم الأربعاء الرابع من جمادى الآخرة فى إنزال سقف بيت الله لم يفارق رضوان أغا المهندسين والمعماريين وأمر بإنزال الرصاص الذى كان فوق السقف والأخشاب التى تثبت كسوة الكعبة ، ثم وضعت هذه الأشياء بعد إنزالها فى خزينة الشموع ، كما أمر بوضع التراب الذى تخلف من إنزال سقف البيت فى المطاف.

وفى يوم الجمعة السادس من جمادى الآخر اجتمع الشريف على بن بركات والأعيان والعلماء من مفتىّ المذاهب الأربعة فى داخل الحطيم الكريم وشاهدوا وتفقدوا وكان معهم الشيخ محمد على بن علان أحد المعترضين على تجديد الأبنية.

وقام رضوان أغا وعرض على المجتمعين أن ابن علان لا يوافق على هدم ما تبقى من الجدران بعد السيل وأنه يتلفظ بكلمات تؤدى إلى إثارة الفتنة بين عوام الناس ثم قال : ما رأيكم فى هذا؟ فقال الجميع : إن تجديد الكعبة قد أصبح واجبا بناء على أقوال المهندسين والمعماريين وبناء على ما رأيتموه من الجدران المتهدمة وبهذا قد أفتوا مرة أخرى. وفى يوم السبت السابع من جمادى الآخرة أمر بإنزال البقية من السقف اللطيف ووضع جزء من البقايا بجانب المدرسة السليمانية ووضع الجزء الآخر فوق أحجار كعبة الله التى حول الكعبة المعظمة.

وكانت الغاية من وضع الأخشاب فى الأماكن المتفرقة لحفظها من الأذى الذى قد يصيبها فى أثناء هدم جدران الكعبة.

وفى وقت الضحى المذكور شرع فى هدم بقايا الجدران الكائنة فى جهة بئر زمزم وفى الغد ومن يوم الأحد الثامن من جمادى الآخرة شرع فى هدم بقايا الجدار الغربى المقابل لباب إبراهيم وأنزلت الأخشاب التى كانت فوق هذا الجدار

ثم شرع فى هدم بقايا الجدار المقابل لباب الصفا ، وقد تمت إجراءات الهدم للجدار اليمانى يوم الاثنين التاسع من جمادى الآخرة وفى يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة شرع فى هدم البقية الباقية من جدران بيت الله.

وفى يوم السبت الرابع عشر من جمادى الآخرة هدموا إلى قرب عتبة باب المعلا من كعبة الله ، وفى يوم الأحد الخامس عشر من جمادى الآخرة حملت عتبة باب بيت الله إلى المكان الذى ينحت فيه الحجارون الحجارة فقاموا بتسويتها ، ثم قلع الباب السعيد من مكانه وحمل فوق الرءوس ووضعوه فى المكان الخالى تحت بيت المرحوم ميرزا ثم نقلوا حجارة الشادروان والركن اليمانى إلى جهات مختلفة بعد أن نزعوها من مكانها وكان فى حجارة الشادروان حلقات مغطاة بالذهب.

وفى يوم الأربعاء الثامن عشر من جمادى الآخرة لم يكن قد بقى أى حجر فى جدران كعبة الله إلا الحجارة التى فوق الحجر الأسود وتحته لذا طلب البناءون والنجارون إحضار جميع أدواتهم ووضعوها فى المخزن الذى يطلق عليه خزينة المال ، وفى الغد الخميس التاسع عشر من جمادى الآخرة شرع فى تنظيف وحفر الأسس لجدران بيت الله الأربعة وإحضار الحجارة الكبيرة التى ستوضع فى أساس البيت واستمروا فى الحفر حتى وصلوا إلى الحجارة الخضراء وعلامات وإشارات أساس البيت القديمة من حيث بدءوا فى التجديد ورصوا طبقة من الحجارة ابتداء من الركن الشامى.

وكان الشروع فى وضع أسس بيت الله فى يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.

ومن الأحجار الأساسية لكعبة الله إلى سقفها اللطيف يوجد خمس وعشرون طبقة من الحجارة وفق ما رتبه عبد الله بن الزبير وبما أن الأحجار الموضوعة فى الطبقة الأولى فوق الأحجار الخضراء بقيت تحت أحجار الشادروان فهى لا تدخل ضمن الخمس والعشرين طبقة.

وفى يوم الاثنين الرابع والعشرين من جمادى الآخرة جهزت أحواض الكلس ٤٣٧ وأدخلوا الحجارة التى كانت فى الخارج إلى المطاف الشريف وفى الغد الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة أرسلوا الحجارة التى قطعت من جبل الشبكة ونحتت وسويت بجانب مقبرة العارف بالله الشيخ محمود بن إبراهيم أدهم إلى حرم المسجد الحرام وبعد ما غسلت هذه الحجارة بجانب المقام المالكى حملت إلى جانب جدران كعبة الله.

وفى يوم الأربعاء السادس والعشرين من جمادى الآخرة أخذوا يبنون فوق الطبقة الأولى من الحجارة التى وضعت فوق الحجارة الخضراء ورفعوا البناء من الجهات الأربعة إلى أرض المطاف. وقد وجد فى ذلك اليوم فى الحرم الشريف بجانب الكعبة الشريفة قضاة مكة المكرمة والمدينة المنورة وشيخ الحرم والفقهاء والعلماء حتى ينالوا شرف تقديم الخدمة فى أثناء وضع أسس البيت الحرام ، ودعوا لسلطان العصر وأثنوا عليه وحملوا الحجارة بأيديهم وبعد فترة تعبوا وجلسوا فى الحطيم.

وقام رضوان أغا الذى كان معهم وأخرج من جيبه دفترا وقرأ أسماء الشريف عبد الله وقاضى مكة المكرمة وشيخ الحرم ونائبه ووالى مكة ومفتىّ المذاهب الأربعة والآخرين ممن قاموا ببناء البيت وتجاوز عددهم العشرين ثم ألبس كل واحد منهم خلعة فاخرة وختم المجلس بالدعاء للسلطان مرة أخرى.

وقد ارتجل أحد الأشخاص من فضلاء مكة هذا المصراع من البيت يسجل فيه تاريخ اليوم.

(... تاريخ رفع الله قواعد البيت (١))

عاد المدعوون المشار إليهم بعد زيارة بيت الله ذو الأسس الذى لن يندرس بعد ما لبسوا الخلع فى داخل الحطيم وبعد ما تلوا آيات القرآن الكريم ودعوا باليمن

__________________

(١) كان يلزم أن تكون إشارة التعمير فى المصراع الأول من هذا البيت إلا أننا لم نقدر على الحصول على هذا المصراع.

والبركات للسلطان رافعين أكفهم إلى قاضى الحاجات وقد رتب بعد ذلك رضوان أغا حفاظا يجتمعون داخل المقامات الأربعة ويختمون القرآن الكريم كل يوم ثم يقرأون دعاء ختم القرآن فوق الساحة المباركة للبيت الحرام.

كما عين ثلاثة من الحفاظ الفقهاء ليشرعوا فى قراءة سورة الفتح مع بدء العمل فى البناء فى كل يوم ، كما فتح بابا فى السور الخشبى الذى حول الكعبة.

وعهد رضوان أغا بمفتاح هذا الباب إلى بواب معين وكان المذكور حينما يفتح الباب كل صباح يبدأ الحفاظ الذين فى داخل المقامات الأربعة فى ختم القرآن الكريم ويشرع البناءون فى العمل كما يبدأ الحفاظ الذين داخل المقام الحنفى فى قراءة سورة الفتح.

وقد استمر هذا النظام إلى أن انتهى بناء بيت الله المفخم وقد ختم القرآن كل يوم فى المقامات الأربعة كما تليت سورة الفتح ثلاث مرات.

واشتغل البناءون فى يومى الخميس والجمعة والسبت السابع والثامن والعشرين من جمادى الآخرة بإعداد ما يلزم من مؤن لتثبيت ووضع الطبقة الثانية من الحجارة وفى يوم الأحد التاسع والعشرين من الشهر المذكور أخذوا يركبون حجارة الطبقة الثانية وفى اليوم الثلاثين من جمادى الآخرة يوم الاثنين وضعوا فى الركن اليمانى حجر استلام المطوفين المبارك.

وكان الجزء العلوى من هذا الحجر قد انكسر لذا صب البناءون فى هذا الكسر مقدارا كافيا من الرصاص بعد ما سووه جيدا مع الأجزاء الأخرى حتى يتماسك مع الحجارة الأخرى.

وفى أثناء وضع الحجر المسعود فى مكانه من الركن اليمانى جاء الشخص الكريم الذى يحمل مفتاح البيت ومسح الحجر الأسعد وما يتصل به من الحجارة بنوع من الأعشاب والعطور الأخرى.

وبعد ما رص البناءون حجارة الركن اليمانى ورصوها جيدا رصوا حجارة

الطبقة الثانية من جدران الركن الغربى والركن الشامى وفى اليوم الثانى الثلاثاء غرة رجب أنهوا رص حجارة الطبقة الثانية لجميع أركان البيت وسووها جيدا (١).

وفى اليوم الثانى الأربعاء قضى البناءون وقتهم فى إعداد المؤن ونقل الأشياء اللازمة وتجهيزها وفى اليوم الثالث الخميس ركبوا عتبة باب كعبة الله ذات الفيوضات الإلهية فى المكان المعد لها. كما علق الصياغ الطرف النحاسى الذى صنع للحجر الأسود بالفضة ونقلوا بواسطة البنائين والحمالين الثلاثة أعمدة التى ستنصب داخل بيت الله ومصراعى باب كعبة الله فى داخل ساحة بيت الله.

وفى يوم الجمعة الرابع من رجب الفرد انشغلوا بتخمير وتصفية المونة وإعداد اللوازم الأخرى ثم نقلوها من باب الصفا إلى مكان قريب من الأبنية السعيدة وفى يوم السبت الخامس من رجب أخذوا فى رص الطبقة الثالثة وشغلوا إلى مساء يوم الأحد السادس منه برص حجارة الطبقة الثالثة إلى الحجر الأسود وسووها وفى نفس الوقت أخذوا يسوون أطراف الألواح الخشبية التى حزمت بها جدران البيت المنير ومن ناحية أخرى غطوا غلاف الحجر الأسود الجديد بالفضة وزينوه بنقوش ذهبية ، ولكن الحجارة التى كانت بجانبى الحجر الأسود ظلت منخفضة قليلا.

وفى يوم الاثنين السابع من رجب وبعد الشروق اصطحب رضوان أغا سيد محمد أفندى والمعماريين والمهندسيين وأحضر معه العشرة ألواح التى كانت أعدت لأجل الحجر الأسود والتى كانت مغلفة بالفضة ومنقوشة بالذهب وثبت بها الجهة التى ظلت مكشوفة من الحجر الأسود وأمر البنائين بالشروع فى رص الطبقة الرابعة من الحجارة ، وفى يوم الثلاثاء الثامن من رجب رفعوا الحجر الكبير الذى فوق الحجر الأسود وثبتوه فى مكانه وذلك فى حضور الأشراف والأعيان والعلماء والوجهاء واشترك فى رفع الحجر الكبير الذى كان فوق الحجر الأسود

__________________

(١) إن الباب الغربى المسدود كان مقابل الباب الشرقى وفوق أحجار الطبقة الثالثة. حتى إن المهندسين حينما كانوا يرصون الحجارة فى مكان الباب الغربى المسدود تركوا علامة تدل على أن فى الموقع كان باب ، ومن يمعن النظر فى هذا المكان يمكنه رؤية تلك العلامة.

ووضعه فى مكانه جميع الأشراف والأعيان إلا أن رئيس المهندسين «آق شمس الدين أفندى» و «عبد الرحمن بن زيد أفندى» من معمارى الأبنية المسعودة قد اضطلعا بنفسهما بإصلاح أطراف الحجر الأسعد وتسويته وقضيا يومى الأربعاء والخميس فى هذا العمل فقط وهكذا أنهى كل ما يتعلق بأمور الحجر الأسود.

وفى ليلة الجمعة الحادى عشر من رجب الشريف قام قاضى مكة وشيخ الحرم وبعض من فقهاء البلاد بالكشف على كيفية وضع الحجر الأسود فى مكانه وأثنوا على رضوان أغا ورئيس المهندسين والمعماريين وشكروهم لما بذلوا من جهد عظيم وهمة كبيرة.

بينما كان الزوار الكرام يتفقدون وضع الحجر الأسود قال بعض المهرة من العمال الذين رأوا أن ظهر الحجر الأسود أكثر صقلا من وجهه : لو أذنتم بتبديل ظهر الحجر الأسود بوجهه لأن ظهره أصقل من وجهه ولكن رضوان أغا رفض رأى البنائين قائلا : لا ، لا يجوز التلاعب بالحجر الأسود إن وضعه الحالى على أحسن ما يرام.

وكان رضوان أغا مصيبا فى رأيه ، لأن الحجر الأسود ـ كما سبق فى بابه ـ كان متشققا من عدة أماكن ، حتى أنه قد ربط فى أيام العباسيين من طرفيه بأحزمة فضية ، وقد أبقاه رضوان أغا عل هيئته الحالية وغطى جوانبه المكشوفة بصفائح مطلية ومغلفة بالفضة وأحكم تثبيته.

وفى يوم السبت الثانى عشر من رجب الفرد شرعوا فى رص حجارة الطبقة الخامسة وبعد الانتهاء من رص الجهات الأربعة استقدموا الحدادين وكلفوهم بصنع حزام معكوس الرأس من الحزام الذى كان السلطان أحمد بن محمود خان أرسله فى سنة ١٠٢٠ ه‍ لربط بيت الله من جهاته الأربعة.

وقد ثقبت الأحجار الموجودة فى الزوايا من وسطها لتثبيت رءوس الأحزمة الحديدية جيدا وقد أدخلوا رءوس الأحزمة المعكوسة فى داخل الثقوب ثم صبوا فيها الرصاص المنصهر لتثبيتها ، ثم نشروا ألواح الأخشاب اللازمة لتغطية جدران

البيت الحرام ثم ألصقوها بعضها ببعض وسمروها على الجدران ووضعوا الأخشاب المتبقية فى مكان أمين لاستعمالها فى السقف الشريف.

وقد أوصى المسئولون بشراء بعض الخشب من جدة وقد استحضروا هذا الأخشاب فى يوم الأحد الثالث عشر من رجب إلى مكة وحفظوها فى المخازن وفى يوم الاثنين الرابع من رجب شرعوا فى رص حجارة الطبقة السادسة من الجهة الشرقية وانتهوا إلى باب المعلا من بيت الله وبدءوا فى رص حجارة الجهة الغربية وقام النجارون بصنع القواعد التى ستنصب عليها الأعمدة فى داخل كعبة الله.

وفى يوم الثلاثاء الخامس عشر من رجب فتحوا بابا من ناحية القصر المنسوب للملك الأشرف قنصوه الغورى للصعود على قبب المسجد الحرام وأعدو الأخشاب التى استحضرت من جدة بمسحها للاستعمال.

وفى يوم الأربعاء السادس عشر من رجب صعد سيد محمد أفندى الأنقروى مع رضوان أغا لتفقد الأماكن التى فى حاجة للطلاء.

وفى يوم السبت التاسع عشر من رجب قرروا الطلاء وقد وضع البناءون الطبقة السابعة من الحجارة وفى يوم الخميس صفوا الحوض الذى أعده من ناحية ومن جهة أخرى اصلحوا وسووا الأخشاب التى جهزت لتغطية السقف وفى يوم الجمعة أعدوا الحجارة الموجودة وفى يوم السبت قاموا بطلاء أربع قبب ناحية باب العمرة (١).

وفى يوم الأحد العشرون من رجب رصوا الطبقة الثانية من الحجارة وقاموا بتزيين وتحلية الأعمدة التى بجانب باب البيت المطهر والتى غلفت بالفضة بنقوش ذهبية ، ثم وضعوا الخشبة التى فوق القبة العليا للباب وركبوا مصراعى البيت القديمين.

__________________

(١) سجل سهيلى أفندى فى مضبطته أنه قد استخدم فى طلاء كل قبة من هذه القبب ثلاث أرادب من مونة وأنفق أربعة آلاف قطعة ذهب لمونة أبنية الحرم وسبعة آلاف قطعة ذهب للأخشاب التى استخدمت فى البناء.

وقد كتب فوق الخشبة المذكورة بنقوش ذهبية (بسم الله الرحمن الرحيم) وقد نصب العمودان اللذان بطرفى الباب والمغلفان بالفضة فى عهد السلطان المرحوم سليمان خان سنة ١٩٥٠ ه‍.

والمصراعان اللذان قلنا عنهما القديمين كانا قد صنعا أيام الملك الظاهر بيبرس من سلاطين مصر وقد بليا بمرور الوقت ، لذا قد بدّل السلطان سليمان غلافهما الفضى وزينها بالنقوش الذهبية ووضعهما فى مكانهما.

وفى اليوم الذى نقش فيه العمودان بدئ فى رص حجارة الطبقة التاسعة من جهة الركن العراقى وأخذوا فى صنع الإسقالة الداخلية التى احتيج إليها ، لأن الجدار كان قد ارتفع عن عتبة باب كعبة الله.

لما ركب باب البيت الشريف جربه رضوان أغا بأن فتحه وأغلقه عدة مرات ثم أتى بقطعة من إسفنج نظيف وغسل جميع جدرانه بماء زمزم ثم أغلقه بمفتاح.

ولما كان المفتاح يوضع فى باب البيت مع صوت أذان الظهر ارتفعت الأدعية بطول عمر السلطان وزيادة قوة دولته ورقيها. بعد أداء صلاة الظهر أسرع البناءون بإتمام الطبقة العاشرة من جدران البيت وشغلوا إلى يوم الخميس الرابع والعشرين من رجب بطلاء البيت بالكلس وإعداد الأخشاب بمسحها وتسويتها وفى نفس اليوم ركبوا أحجار الطبقة الحادية عشرة.

وفى يوم السبت السادس والعشرين من رجب أعطى ابن شمس الدين بقية الأخشاب الخاصة إلى النجارين لتسويتها وبعد ما رص البناءون حجارة الطبقة الثانية عشرة بدأوا فى نحت وإصلاح أحجار البيت الشريف القديمة.

وفى يوم الأحد السابع والعشرين من رجب استحضرت الأخشاب اللازمة لسقف الكعبة المعظمة وهيئ ثمان وثمانون عمودا خشبيا تماثل الأعمدة الخشبية القديمة فى الطول والعرض والقطر وابتدئ فى إعداد الألواح الخشبية التى تغطى الأعمدة السابقة ، وذلك بمسحها الطبقة الثالثة عشرة كما رصوا قطع الرخام اللازمة لسطح البيت على الأرض بعضها بجانب بعض لفرزها وما وجدوه معيبا

نحوه جانبا لتسويته وإصلاحه ، وبعد ذلك بدءوا فى رص أحجار الطبقة الرابعة عشرة التى تعد مبدأ النصف الأعلى للكعبة المعظمة.

عند ما ارتفعت جدران كعبة الله إلى نصف علوها امتلأت ساحة المسجد الحرام سواء بالحجارة القديمة أو كانت الأحجار الجديدة المنحوتة والمستلزمات الأخرى مثل الكلس والرمال والأخشاب حتى لم يبق مكان للسير فى المسجد الحرام.

وأخذ الناس فى الشوارع والأسواق والمحافل العليا والسفلى وخاصة فى المجالس غير الرسمية التى تجتمع فى داخل الحرم الشريف يتحدثون ويقولون إن رضوان أغا يهين البيت الأعظم وذلك أنه قد نوى أن يكسب أموالا كثيرة بزيادة النفقات غير اللازمة.

إن أحدا من الأسلاف لم يتجرأ بأن يمد يده للحجارة التى بنى بها خليل الله ـ عليه السلام ـ الكعبة. وما الحاجة إلى الحجارة الجديدة؟! ما دامت الحجارة التى بنا بها عبد الله بن الزبير الكعبة متوفرة؟! وقد أطال الناس ألسنتهم على رضوان أغا بمثل هذه الكلمات غير اللائقة وأبلغ بعض العلماء الخيرين رضوان أغا بهذه الأقوال ؛ وبما أن رضوان أغا انزعج انزعاجا شديدا وخاف من حدوث فتنة وبما أنه كان بريئا من كل ما يجرى على ألسنة الناس ظل يطوف البيت سبع مرات بعد أداء الصلاة مدة شهرين أو ثلاثة أشهر ويتضرع لواهب الآمال باكيا ؛ وكان يخاطب ربه فى ختام كل طواف بكل تذلل وانكسار رافعا يديه ويقول :

يا ربّ إنك ترى كل شىء إن الأنبياء العظام والأولياء ذوى الاحترام وكافة الملائكة نالوا المغفرة بخدمة بيتك العظيم. إن هدفى من كل عملى هو نيل رضاك وليس إهانة البيت. يا إلهى أخف واستر بجاه قدرتك وعظمتك الأشياء الزائدة عن عيون الناس وأنج عبدك هذا من اعتراضات الناس وأقاويلهم يا رب إذا زادت الأحجار والأشياء الأخرى عن حاجة البيت. فمر ملائكتك يرفعونها إلى السماء أو يدفعونها فى الأرض ، وبمثل هذه الأقوال أخذ يناجى ربه باكيا منتحبا.

وقد أصاب دعاؤه هدفه فنال الاستجابة ، إذ لم يزد أى شىء عن حاجة البيت سواء كانت الحجارة الجديدة أو الحجارة القديمة أو المستلزمات الأخرى وكأن كل شىء حسب حسابه بدقة شديدة لم يزد حجر ولم ينقص حجر. انتهى.

وفى يوم الأربعاء غرة شعبان رفعت الستارة الخضراء التى كانت تغطى الكعبة إلى نصفها ورأى الأهالى غرة كعبة الله ورفعوا أيديهم بالتضرع إلى الله شكرا ومسحوا وجوههم فى كعبة الله المفخمة. وفى يوم الجمعة الثالث من شهر شعبان فرشوا رخام النصف الثانى للسطح الشريف ووضعوا على كل واحد منه علامات معينة وأعدوا الأخشاب اللازمة ، وفى اليوم الرابع من رجب الموافق يوم الجمعة رفعوا ستارة البيت وطووها.

رفعت ستارة كعبة الله الشريفة وظهر جمال كعبة الله بدون نقاب حينئذ امتلأت قلوب أهل مكة بالفرحة والسرور ولمعت عيونهم بالنور وأخذوا يدعون له ولسلطان العالم خير الدعاء.

وفى يوم الجمعة شرع فى رص الطبقة السابعة عشرة من الحجارة وتم معاينة أخشاب معظم السقف واختير الصالح منها لاستخدامها فى السقف أيضا ونحّيت جانبا ، وفى يوم الأحد الخامس من شعبان كلست ودهنت القباب الثلاثة الشمالية التى أعدت لذلك قبل ثلاثة أيام ، وفى يوم الاثنين السادس من شعبان شرع فى تعمير مئذنة (١) باب الحزورة وفى يوم الأربعاء الثامن منه قد كرّم أحمد قبانى أفندى الذى كان أرسل الأخشاب اللازمة من جدة إلى مكة وذلك بإلباسه الخلعة وبهذا أعلى قدره ، كما حفر أسس الأعمدة التى فى داخل الحرم وجعل لها قواعد من حجر الشمليس ، وفى يوم السبت الحادى عشر من شهر شعبان المعظم رفعت أسقالة أبنية البيت السعيد وعلقت الألواح الخشبية التى أعدت لاستخدامها فى تغطية السقف الشريف فى أربعة أماكن لتكون جاهزة للاستخدام عند الطلب.

وفى يوم الأحد الثانى عشر منه أصلحوا وسووا الرخام المرصوص حول

__________________

(١) تم تعمير هذه المئذنة فى خمسة أيام.

الجهات الأربعة للبيت الحرام ، وفى يوم السبت الحادى والعشرين أخذوا فى تأسيس شادروان كعبة الله مبتدئين من الحجر الأسود إلى حجر إسماعيل ، فنصبوا أحد الأعمدة التى فى داخل الكعبة وثبتوها فوق القاعدة المصنوعة من الحجر ولزيادة المتانة صبوا حولها الرصاص المنصهر.

وفى يوم الثالث عشر نصبوا العمودين الثانى والثالث فى جهة ، ومن جهة أخرى طلوا القباب الغربية وجدران الشادروان التى انتهى بناؤها بعد أن وضعوا بقية الخشب التى وصلت من جدة بالقرب من جدران بيت الله.

وفى يوم الثلاثاء الرابع عشر من شعبان رفعوا الأشياء اللازمة للسقف الشريف.

ورصوا حجارة الطبقة العشرين وفى يوم السبت الثامن عشر منه طلوا الأعمدة التى داخل الكعبة بالزعفران ثم مسحوها بالصمغ العربى والغراء وفى اليوم التاسع عشر (الأحد) انتهوا من ترميم مئذنة باب الحزورة وفى يوم الثلاثاء صنعوا السقف العالى (١) لبيت الله.

وفى يوم الأربعاء الحادى والعشرين من شعبان وضعت أعلام قبب المسجد الحرام فى أماكنها بعد تزيينها وفى يوم الخميس الثانى والعشرين رصت حجارة الطبقة الخامسة والعشرين وجمعت الباقية من مبانى البيت الشريف نقلت إلى جانب المقام المالكى (٢).

وفى يوم السبت الرابع والعشرين وضعت مداخل السقف الثانى وشرع فى صنع السلم (٣) الذى يصعد منه إلى سطح كعبة الله وحلت جميع الإسقالات التى فى داخل الكعبة المعظمة وأخرجت خارجها.

وفى يوم الأحد الخامس والعشرين بعد أن فرشت قطع الرخام فوق السقف

__________________

(١) يوجد فاصل بين السقفين مقداره ما يقرب من ذراع معمارى.

(٢) كان عدد الحجارة خمسين حجرا.

(٣) كان هذا السلم حلزونيّا ويتكون من اثنتى عشرة درجة. عجز النجارون عن إكماله ولكنهم استطاعوا أن يكملوه بعون مهندس مصرى يسمى عبد الرحمن.

الشريف أخرجت الكسوة الحمراء للمقام الشريف وفرشت فى صحن مسجد قريب من باب أجياد وخيطت جيدا ثم أخرجت الستارة السوداء المحفوظة داخل المقام الشريف ووضعوها بجانب سبيل المؤيد. وعلقت الكسوة الحمراء فى سقف كعبة الله وربطت فى الحلقان الجديدة وذلك فى وقت العصر. وكانوا يربطون الستارة من قبل ذلك بمسامير يغرسونها داخل أبنية بيت الله.

رؤيا غريبة

قدم أحد الصالحين الكرام من بخارى لزيارة الحجرة المعطرة النبوية فى المدينة المنورة إلا أنه مرض فى مكة المكرمة فى أثناء تجديد الكعبة واضطر لأن يبقى هناك.

وقد رأى فى منامه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد لبس قميصا أبيض وقال له :

«طب نفسا ... ولا تتألم ولا تحزن ... إن زيارتك قد قبلت ... نحن هنا منذ أن شرع فى تجديد أبنية كعبة الله ولن نغادرها حتى يتم تجديد مبانى كعبة الله».

حكاية أخرى

قد رأى أحد الصالحين فى رؤياه كثيرا من جنود الجن فخاطب واحدا منهم : إنكم كتيبة من طائفة الجن ما سبب بقائكم فى الحرم الشريف؟

فأجابه قائلا : نحن من طائفة الجن. وبما أننا مسلمون قد أمرنا بخدمة بيت الله ، لأجل ذلك دخلنا الحرم الشريف لنقوم بالعمل! قائدنا فى المدرسة الداودية. وكنا هنا منذ الشروع فى بناء البيت ولن نترك هذا المكان حتى ينتهى العمل فى أبنية بيت الله. انتهى.

وفى يوم الاثنين السادس والعشرين تمت خياطة بقية الستارة الداخلية وعلقت فى مكانها. وقدم أمير ينبع سيد على ابن الدراج مع رسول والى مصر محمد على باشا حاملا الخلعة لأمير مكة المعظمة.

وكانت الأحزمة الحديدية ، والميزاب الشريف الذى كان مطليا بالمينا البنفسجى

فوق الفضة والتى أرسلها السلطان أحمد سنة ألف وعشرين حفظت فى دار رضوان أغا فى أثناء تجديد المبانى الكريمة ، وفى يوم الأربعاء الثامن والعشرين أخرجوها حاملين إياها بالتسبيح والتهليل والتوقير والتعظيم ، وركبوها فى مكانها فى البيت المعظم. وكان الأشراف والعظماء والأعيان والعلماء الكرام وأهل مكة فى أثناء ذلك قد اجتمعوا فى المقام الحنفى حيث كانوا يشاهدون كيفية وضع الميزاب الشريف ، ولما تمت العملية عادوا وهم يدعون لسلطان العصر.

وفى يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان نزعوا معظم الأساقيل وقد انتهوا من جميع الأعمال الخاصة بالطلاء والتبييض ورص الحجارة والرخام ، وفى الجمعة الثلاثين من شعبان هيئوا أحواض الكلس وخمروه. وفى غرة رمضان ومع طلوع الشمس نشروا ستارة كعبة الله السوداء أمام باب الصفا ونظفوها جيدا ثم رفعوها إلى سطح كعبة الله فى حضور أمير مكة والأشراف والأعيان والقضاة والعلماء والفقهاء وشيخ الحرم وقاضى مكة المكرمة وصعد رضوان أغا مع العمال فوق السطح الشريف وألبس الكعبة الشريفة الستارة وربطها من أطرافها الأربعة ربطا جيدا ، ثم أحضر ستارة باب المعلا للكعبة الشريفة من مقام إبراهيم وعلقها فوق الباب ذو الفيوضات الإلهية.

وبعد ذلك ترك خادمو البيت الستارة الشريفة من فوق السطح حتى وصلت إلى أرض المطاف. ثم أحضر عشر خلع بأمر رضوان أغا وألبس الشريف عبد الله اثنين منها كما ألبس منها الباشا الوالى وحامل مفاتيح الكعبة وناظر الأبنية السعيدة سيد محمد الأنقروى أفندى وأعطى خلعة للشخص الذى عينه ثم ألبس الباقى لرؤساء العمال من البنّائين والنجارين.

وفى ليلة الأحد اليوم الثانى من رمضان أوقدت قناديل بيت الله وفى يوم الأحد فرشوا رخام السطح الشريف كما تم فى نفس اليوم جميع الأعمال الخاصة بالشادروان.

وفى يوم الاثنين الثالث من رمضان جاء من قبل والى مصر الوزير موسى

باشا ، رسولا يحمل خلعة سلطانية ورسالة إلى الشريف عبد الله وجمع الشريف عبد الله الأشراف والعلماء والفقهاء فى ساحة الحطيم الكريم ليلبسه الخلعة السلطانية أمام الناس ثم قرأت الرسالة السلطانية وأمر بفتح بيت الله. ودخل الناس داخل كعبة الله حيث صلوا صلاة الشكر ودعوا للسلطان بطول العمر ثم تفرقوا.

وزار الرسول الذى حمل الخلعة من مصر ، رئيس المعماريين يوسف أغا والمهندس المصرى عبد الرحمن أفندى والشريف عبد الله بناء على دعوته وكان معهم حامل مفاتيح بيت الله قارئ الأدعية أبو السرور ورئيس المؤذنين. وقد ألبس كل واحد منهم خلعة من قبل الإمارة الجليلة.

وفى يوم الثلاثاء الرابع من رمضان صعد البناءون فوق سطح البيت وحلوا الأساقيل ووضعوا أنقاضها منها فى مكان قريب من رباط الغورى كما انتهوا من ملء شقوق الحجارة وطلاء الجدران وشرعوا فى تجديد محراب المقام الحنبلى. ثم أخذوا فى فرش وتركيب قطع الرخام التى تتصل بأرض المطاف مبتدئين من الركن اليمانى ومتجهين نحو الحجر الأسود ، وفى يوم الاثنين العاشر من رمضان هدم المهندس المصرى عبد الرحمن أفندى جدار المقام الحنبلى وبناه من جديد.

وفى يوم السبت الخامس عشر من رمضان تفقد رئيس المهندسين آق شمس الدين أفندى والمهندس المصرى عبد الرحمن أفندى مع رضوان أغا دار السيدة خديجة ـ رضى الله عنها ـ لإصلاح ما يحتاج للترميم منها وهدموا المقام المالكى وجددوا بناءه بالحجر الشبيكى.

وفى يوم الأحد السادس عشر من رمضان رفعت الآلات والأدوات التى كانت فوق حجر إسماعيل وحفرت الأرض بدءا من جهة مقام إبراهيم من الباب إلى الباب الآخر من الحطيم الكريم وذلك لتجديد وإصلاح جدران الحجر (١) وفى أثناء

__________________

(١) فكلمة الحجر التى جاءت مضافة إلى إسماعيل تقرأ بكسر الحاء وسكون الجيم.

الحفر أخرجوا كثيرا من الحجارة. ويحتمل أن تكون هذه الحجارة من بقايا الجدران التى بناها عبد الله بن الزبير. وقد كتب الإمام الأزرقى فى تاريخه إن الحجاج الظالم قد دفن الحجارة المتبقية فى جوف الكعبة.

وبعد ما تم إصلاح وترميم حجر إسماعيل رفعت الأساقيل وجمع كل ما على الأرض من لوازم البناء وكومت تحت القباب التى فى باب إبراهيم ثم كنست الجهات الأربعة للبيت الحرام ومسحت بالماء. وقد هدمت جدران الحطيم وشرع فى بنائها فى يوم الاثنين السابع عشر من رمضان وانتهى البناءون من بنائها يوم الخميس العشرين من رمضان كما غطوا الجهة التى فى مقام إبراهيم بالرخام.

وقد كتبت على قطعة رخام منها أسماء الخلفاء العظام ، والسلاطين الذين جددوا ورمموا الحطيم الكريم ، وكان جدار الحطيم الذى تهدم بناه سلطان مصر الغورى فى القرن العاشر.

وفى يوم الأحد الثالث والعشرين غطى البناءون جدران الحطيم الداخلى المقابل للكعبة الشريفة.

وفى يوم الاثنين الرابع والعشرين من رمضان نقلت قطع الأخشاب التى بقيت أمام باب إبراهيم. إلى جهات باب الزيارة ، وبعد ذلك رمم الرصيف الذى بين المطاف الشريف والحرم اللطيف.

وفى يومى الثلاثاء والأربعاء الرابع والعشرين والخامس والعشرين من رمضان ركبوا الباب الحديدى الذى يؤدى إلى سلالم سطح الكعبة الشريفة.

وفى يوم الخميس السادس والعشرين من رمضان أسدل المهندس محمود أفندى أمام الحجر الأسود ستارة وأخذ يملأ الشقوق التى حول الحجر الأسود ويثبته وفى يوم الجمعة السابع والعشرين من رمضان تمت الأعمال التى فى داخل الكعبة.

وقد تفقد سادة البلاد وموظفو الحكومة الأماكن التى بنيت والأشياء التى

صنعت وشاهدوا جمالها الظاهرى ورصانة المبانى وقدروها حق قدرها. وسدوا الباب الغربى الذى ظل مفتوحا لذلك اليوم بالحجر الشبيكى وكتبوا محضرا يبينون فيه أن الأبنية السعيدة قد تم العمل فيها على أحسن وجه من الرصانة والجمال. وأبلغوا ذلك إلى والى مصر العام.

وخلع السلم الموقت الذى كان قد صنع لنزول النجارين والبناءين وصعودهم أثناء البناء. وأخذوا بعد ذلك يصيغون داخل القبة الكبير ـ هذا المكان الآن ساحة دار الكتب التى نقلت إلى داخل المدرسة السليمانية ـ وانتهوا منه فى ذلك اليوم.

ونزعوا العمود الذى يحمل قبة سقاية العباس ـ هذا المكان الآن ساحة الدار المؤقتة الذى أدخل ناحية باب السلام ـ وبما أن أسفل ذلك العمود كان قد بلى غيروه بالحديد وصنع البناءون القبب الشمالية من المسجد الحرام ثم غيروا كسوة الكعبة القديمة والستارة التى على الباب وألبسوها الستارة الجديدة كما علقوا الصفحة (١) فوق باب الكعبة وقد تمت هذه العمليات إلى آخر رمضان الشريف.

قد كتبت على الصفحة البنفسجية المذهبة المعلقة فوق باب كعبة الله الآية الآتية : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران : ٩٦ ، ٩٧).

كما كتب تحتها التاريخ الآتى :

تاريخ اللوح

اللوح ذا لما استرم مجددا

قد بدل السلطان أحمد عسجدا

قيدا له من حديد ذو جدا

الله أنعم بالمجدد أيدا

الهمت فى تاريخه لما بدا

للوح ذا السلطان أحمد جددا ١٠٢٠

قد سطر هذا التاريخ فوق الأحزمة الحديدية التى أرسلها السلطان أحمد فى سنة ١٠٢٠ فى ثلاثة أسطر.

بعد ما علقت الستارة المذكورة نزلت الكسوة القديمة وعلقت الستائر الجديدة البديعة. وكان من عادة الملوك كلما بدلت ستائر الكعبة القديمة أن تقسم هذه الستارة بين خادمى بيت الله كما فصل فى الصورة الخاصة بهذا الموضوع.

مكافاة رضوان أغا على جهده وإخلاصه

قد قدر ما بذله رضوان أغا من جهد جهيد وسعى عظيم وما أظهره من إخلاص وحرص شديد فى أثناء بناء الكعبة وقويل بإعجاب شديد ؛ لذا قرر الشريف عبد الله حامل مفاتيح الكعبة والآخرون ممن يقومون بخدمة البيت الحرام أن يتنازلوا عن حصصهم فى الكسوة القديمة وأن يجعلوها هدية وهبة التقدير والتهنئة لرضوان أغا وعرضوا الموضوع عليه قائلين : إن ما بذلتم من الجهود وما أظهرتهم من همة وما قدمتم من سعى لمقدّر عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا شك أنكم ستنالون ثوابه ، إلا أننا نتمنى أن ينال رجاؤنا هذا القبول عندك.

قد قبل رضوان أغا ما عرضوه عليه ولكنه قال : وليس من المعقول أن أحرمكم من فوائد هذه العادة الطيبة ، قد تلقيت هديتكم بحسن قبول ، وإذا ما تفضلتم بقبول هديتى هذه مقابل هديتكم على أن توزع بين خدام بيت الله لزدتمونى فرحا وسرورا ثم أعطى أربعين ألف قطعة ذهب هدية لخدام البيت.

وقد فتح باب البيت الشريف فى يوم الخميس الخامس من شوال ودخله الرجال والنساء وتضرعوا إلى الله منتحبين باكين ودعوا للسلطان بدوام دولته وشوكته.

وفى يوم السبت السابع من شوال غيروا قطع الرخام التى تكسّرت ثم حفروا حفرة بين المدرسة السليمانية وبين دار ميرزا وملئوها بالأدوات والآلات الخاصة بأبنية كعبة الله وهالوا عليها التراب وغطوها بالحصى.

ثم رفعوا مخلفات الهدم المتراكمة بين باب الزيارة وبين المدرسة السليمانية وغيروا الدعائم الخشبية البالية لمقام إبراهيم.

وفى يوم الأحد الثامن من شوال قلعوا باب مقام إبراهيم ووضعوا مكانه ستارة ودهنوا الباب فى داخل هذه الستارة وطلوه وزينوه بالذهب وأصلحوا الطرق التى بين صفة المطاف وباب السلام وباب الزيارة وباب العمرة وباب الحزورة وباب الصفا وسووها وغيروا حجارتها.

وفى يوم الاثنين التاسع من شوال جددوا الأحزمة الحديدية التى حول الدعائم التى تحمل القبب ورمموا قبة سقاية العباس بعد أن نصبوا الإسقالة وجددوا الأماكن التى كان قد رممها شيخ الحرم حسن باشا.

وفى سنة ١٠٢٠ وفى يوم الأربعاء الحادى عشر من شوال دهنوا الشباك الذى بين شبابيك مقام إبراهيم بالدهان الأخضر ثم زينوها بنقوش ذهبية وكتبوا اسم السلطان مراد خان الرابع فى جهة من جهاته.

وفى يوم الأحد الخامس عشر من شوال طهروا مجرى باب إبراهيم بعد ما سحبوا المياه التى كانت قد تراكمت تحت أحجار كعبة الله.

وبعده بيوم فى السادس عشر من شوال طهروا باب الزيارة وباب السلام وأرض المسجد ونقوا البئر التى فى ساحة باب الندوة وكان ماء هذه البئر مشابها لماء زمزم ، وكان حسن باشا قد نقى هذه البئر من قبل إلا أنه كان قد سدها مؤخرا وأما فى هذه المرة فقد طهرت ثم غطوها.

وفى يوم الثلاثاء السابع عشر من شوال غسلوا الرمل المفروش فى الحرم الشريف ثم فرشوه مرة أخرى وأصلحوا سلم السطح الشريف.

وفى يوم الأربعاء الثامن عشر من شوال صبغوا مئذنة باب العمرة.

وفى يوم الخميس التاسع عشر من شوال حفروا حفرة عميقة وبنوا سدا متينا ليمنعوا دخول السيول التى قد تأتى من ناحية جبال أجياد.

وفى يوم الجمعة العشرين من شوال جلوا رخام كعبة الله الذى فى جدرانها الداخلية ، ووضعوا الكرسى الخاص لجلوس حامل مفتاح الكعبة فى مكانه بعد ما زينوه ، وكان هذا الكرسى مرصعا مزينا وقد أهدى فى عصر سلطان مصر الغورى وقد صنع بمصر.

وقد طلى كمر باب بيت الله فى ذلك اليوم وكتبت فوقه الآية المنيفة : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (النمل : ٣٠) كما كتب آية واحدة من أول سورة (إنّا فتحنا) وكتب تحت هذه الآية المنيفة اسم السلطان مراد الرابع وتاريخ الأبنية المقدسة ـ الذى سيحرر فيما بعد ـ بحكمة على أرضية لازوردية وطليت الكتابة بالذهب.

***

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ١

المؤلف: أيوب صبري باشا
الصفحات: 485