
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تتمة كتاب النكاح
النوع السادس
في روافع النكاح وهو أقسام :
الأول الطلاق وفيه آيات
الاولى : [الطلاق : ١] (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ) خاطبه وأراد أمّته معه صلىاللهعليهوآله لأنّه رئيسهم المرجوع إليه في أحكامهم وأفعالهم
وأحوالهم كما هو المتعارف في الرّؤساء ، يخاطبون ويراد جميع رعيّتهم ، وعن الجبائي
تقديره : يا أيّها النّبيّ قل لأمّتك (إِذا
__________________
طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ) أردتم طلاقهنّ ، وإطلاق الفعل على الإرادة القريبة منه
كثير ، ومن ثمّ اعطى المشارف حكم الشّارع في الفعل ، كما أعطى حكم الماشي إلى
الصّلوة حكم المصلّى ، كذا في الكشاف واعتراض بعضهم لا وجه له ، والفرق بين الوجهين أنّه على
الثّاني يكون النّبيّ صلىاللهعليهوآله خارجا عن الحكم.
قال الشّيخ في
التّبيان : وأجمعت الأمّة على أنّ حكم النّبيّ صلىاللهعليهوآله وحكم أمّته في الطّلاق واحد.
(فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) اللّام للتأقيت مثلها في (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)
__________________
والمعنى طلّقوهن في زمان عدّتهنّ ، أي في زمان يصحّ احتسابه من العدّة ،
وهو الطهر الّذي لم يواقعها فيه ، فانّ طهر المواقعة ليس من العدّة إجماعا فخرج عن
كونه مرادا ، والطّلاق في الحيض لا يكون مأمورا به بل منهيّ عنه باتّفاق الأمّة ،
فلم يبق إلّا الطّهر الّذي لم يواقعها فيه ، ويكون العدّة الطّهر على ما ذهب إليه
أصحابنا وتابعهم الشّافعيّة فيه.
وما ذهب إليه
في الكشاف من أنّ المعنى : فطلّقوهن مستقبلات لعدّتهن ،
__________________
كقولك : لقيته لثلاث بقين من الشّهر تريد مستقبلا لثلاث فتكون العدّة
الحيضة الثّالثة ، فبعيد عن الظّاهر وتقديره في الكلام لا يساعد عليه دليل واضح.
وتأييده بقراءة
«في قبل عدّتهنّ» بعيد ، لأنّ القراءة الشّاذّة لا عمل عليها
__________________
ولا حجّة بها ، لعدم كونها كتابا ولا سنّة على ما ثبت في الأصول.
ولو سلّم فهي
محمولة على ما قلناه ، فانّ قول القائل : لثلاث بقين من الشّهر معناه لزمان يقع
الشّروع في الثلاث عقيبه ، فكذا هنا معناه فطلّقوهنّ بحيث يحصل الشروع في العدّة
عقيبه ، ولمّا كان الاذن في التّطليق حاصلا في جميع زمان الطّهر وجب أن يكون
الطّهر الحاصل عقيب زمان التّطليق من العدّة ، ويؤيّد ذلك ورود التّعبير به في بعض
رواياتنا مرادا به ما قلناه كما يعلم ذلك من لاحظ الأخبار.
فتلخّص ممّا
ذكرناه أنّ الطّلاق في الحيض غير صحيح وانّما الصّحيح منه ما وقع في الطّهر
المعلوم ، والقاضي وافقنا في بعض ما نقول وخالفنا في بعض
__________________
قال في تفسيره : وظاهره يدلّ على أنّ العدّة بالأطهار ، وانّ طلاق المعتدّة
بالأقراء ينبغي أن يكون في الطّهر وانّه يحرم في الحيض من حيث إنّ الأمر بالشّيء
يستلزم النّهى عن ضدّه ولا يدلّ على عدم وقوعه إذ النّهي لا يستلزم الفساد ، كيف
وقد ورد؟؟؟ أنّ ابن عمر لمّا طلّق امرأته حائضا امره رسول الله صلىاللهعليهوآله بالرّجعة وهو سبب نزولها.
قلت : ما ذكره
من كون العدّة بالأطهار صحيح على ما عرفت ، والمراد بقوله : ينبغي أن يكون في
الطّهر ، الوجوب ، وإطلاق لفظ ينبغي على الواجب دائر على ألسنة الفقهاء ، وكون
الأمر بالشّيء يستلزم النّهى عن ضدّه مسلّم ، فإنّ المأمور به الطّلاق في العدّة
وهو الطّهر ، وهو يستلزم النّهى عن الطّلاق في الحيض.
امّا ادّعائه
عدم الدّلالة على عدم وقوعه فلا يخفى ما فيه امّا أوّلا فلكون النّهي يقتضي الفساد
مطلقا كما ذهب إليه جماعة من الأصوليّين من أصحابنا ومن العامّة ، واختاره شيخنا
أبو جعفر في كتبه وصرّح في التبيان هنا باقتضائه فساد المنهيّ عنه.
وامّا ثانيا
فلكون الفساد معلوما من الآية فإنّه تعالى يبين للطّلاق وقتا معلوما أمر بوقوعه
فيه ، وهو الوقت الخاصّ الصالح للعدّة كما هو مقتضى لام التّوقيت على ما عرفت ،
فكأنّه قال : إذا أردتم الطّلاق الصّحيح فالواجب عليكم إيقاعه في وقت يصحّ فيه
العدّة ، وهو الطّهر لا الحيض ، وهذا يقتضي أن لا يصح في غيره ، إذ هو بمثابة وقوع
الشيء في غير وقته المحدود له شرعا ، وصحّته يتوقّف على الدّليل.
وما ذكره من
الاستدلال برواية ابن عمر ، غير واضح الدلالة ، فإنّا لا نسلّم انّ المراد
بالرّجعة فيها الرّجعة الشّرعيّة المستحقّة بعد طلاق صحيح ، بل الظّاهر انّها
__________________
بالمعنى اللّغويّ الّذي لم يتقدّمه طلاق صحيح ، فانّ من طلّق فاسدا واعتزل
زوجته بعد الطّلاق صحّ أن يقال له راجعها ، بناء على عدم صحّة الطّلاق.
ويدلّ على ما
قلناه صحيحة الحلبي عن أبى عبد الله عليهالسلام الى أن قال : وردّ
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآله طلاق عبد الله بن عمر إذ طلّق امرأته ثلاثا وهي حائض ،
فأبطل رسول الله صلىاللهعليهوآله ذلك الطّلاق وقال : «كلّ شيء خالف كتاب الله فهو ردّ
الى كتاب الله» وقال : «لا طلاق إلّا في عدّة» ونحوها من الأخبار الدّالة على ذلك .
ويؤيّد ما
قلناه انّه لو كان الطّلاق وقع صحيحا ، لما أمره بالرّجعة ، إذ لا معنى للأمر
بمراجعة امرأة مطلّقة بطلاق صحيح تحقّق به المفارقة ، وان فعل حراما ، إذ لم يصر
ذلك سببا في الرّجوع بعد وقوعه صحيحا.
على انّا نقول
إذا كان سبب نزول الآية طلاق ابن عمر في الحيض كما ادّعاه
__________________
فالآية وإن أفادت التحريم في الحيض فقط من دون الفساد ، لم يكن للأمر
بالرّجوع وجه لوقوعه صحيحا ، والتّحريم انّما علم بعد النّزول ، فلا وجه للحكم
بتحقّقه قبل ، فتعيّن أن يكون الأمر بالرّجوع ليس إلّا لعدم الصحّة.
ويزيد تأييدا
لما قلناه ذهاب سعيد بن المسيّب وجماعة من التّابعين الى عدم صحّة الطّلاق
الواقع في الحيض كما نقله في الكشاف عنهم.
وبالجملة
فالنّكاح عصمة في الشّرع ثابتة بالنّصّ والإجماع وارتفاعها يتوقّف
__________________
على الطّلاق الصّحيح الوارد في الشّرع ، وهو إنّما دلّ على صحّته في وقت
يصلح للعدّة أعني زمان الطهر ، ولم يدلّ دليل على صحة الطلاق الواقع في الحيض
المنهيّ عنه بالنص والإجماع ، فيبقى على حكم الأصل وهو المطلوب.
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
وقد تظافرت
أخبار أهل البيت عليهمالسلام بعدم الصحّة ، وانعقد إجماع علمائهم عليه ، وهو حجّة
قاطعة كما ثبت بالأدلّة القطعيّة ، وحيث أثبتنا أنّ وقت العدّة هي الطّهر ثبت أنّ
الأقراء في الآية الأخرى المذكورة بعدها ، الواردة في بيان العدّة ، محمولة على
الاطهار ، واتّضح بذلك مذهب أصحابنا وسيجيء هناك مزيد دلالة ان شاء الله تعالى.
والطّلاق في الشّرع
عبارة عن تخلية المرأة ، بحلّ عقدة من عقد النكاح ، وذلك أن يقول : أنت طالق
يخاطبها ، أو يقول : هذه طالق ويشير إليها ، أو يقول : فلانة بنت فلان طالق.
ولا يقع الطلاق
عندنا إلّا بهذا اللّفظ ، لا بشيء من كنايات الطّلاق ، سواء أراد به الطّلاق أم لا
، وخالفت العامّة هنا فأجازوه بها ، وقد يحصل الفراق بغير الطّلاق : كالارتداد
واللّعان والخلع ، عند كثير من أصحابنا ، وان لم يتبعه بالطلاق ويحصل أيضا بالفسخ
للنكاح بأشياء مخصوصة وبالردّ بالعيب ، وان لم يكن ذلك طلاقا ولتفصيله شرح يطول
فليطلب من محلّه.
__________________
ثمّ انّ
النّساء في الآية ، وإن كان عامّا في المدخول بهنّ وغيرهنّ ، وذوات الأقراء وغيرهنّ
، لكنّه مخصّص بالإجماع والسنّة بذوات الأقراء المدخول بهنّ ، ودلّ عليه الكتاب
أيضا وهو قوله تعالى (فَما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) وسيجيء ان شاء الله ، سواء قلنا : انّ النّساء اسم جنس بمعنى الجمع ، أو جمع حقيقة للمرأة من غير لفظها ، كما
قاله في الصحاح لظهور أنّ الالف واللّام في مثله يفيد الاستغراق والعموم ، فقول
صاحب الكشّاف : لا عموم ثمّ ولا خصوص ـ ولكنّ النساء اسم جنس للإناث
من الانس ، وهذه الجنسيّة معنى قائم في كلّهنّ وفي بعضهنّ فجاز ان يراد بالنساء
هذا وذاك فلمّا قيل : فطلقوهنّ لعدّتهنّ علم أنّه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول
بهنّ من المعتدّات بالحيض ـ لا يخفى ما فيه بعد ما بينّاه.
(وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ) اضبطوا الأقراء الّتي يعتدّ بها واكملوها ثلاثة قروء
كما ورد بيانها في آية أخرى ولا يبعدان يراد مطلق العدة الثابتة بأي دليل كان ،
بمعنى انّ العدّة بما هي يجب حفظها وحينئذ فتدخل المسترابة وغيرها فيه لثبوت كون
ما يجب
__________________
عليها عدّة ، وانّما أمر باحصائها لانّ لكلّ من الزوجين فيها حقّا فانّ حقّ
الزوجة النفقة والكسوة وحقّ الزّوج المراجعة والمنع من الأزواج وثبوت نفس الولد
فأمر تعالى باحصائها ليعلم وقت المراجعة ووقت فوتها وتحريمها عليه ورفع النّفقة
والكسوة والسّكنى.
(وَاتَّقُوا اللهَ
رَبَّكُمْ) من تطويل العدّة والإضرار بهنّ كذا في الكشاف ، ولا
يبعد أن يراد الاتّقاء في أحكام العدّة من جانب الرّجل بالتطويل والإضرار بالمرأة
، بأن يتركها حتى إذا قاربت الخلاص راجعها ثمّ يطلّقها ، يفعل ذلك للإضرار بها ،
ومن جانب المرأة بالتّقصير والانقضاء بدعوى خروجها منها كاذبة حذرا من أن يراجع
فيها إليها أو إرادة أن تتزوّج بغيره ، ومن إضرار المرأة بالرجل تطويل العدة
لاستحقاق زيادة النفقة.
(لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ) الّتي كنّ ساكنات فيها وقت الطلاق سكون اقامة على وجه
يكون مسكنهنّ عادة وتحريم الإخراج مستمرّ إلى انقضاء المدّة.
(وَلا يَخْرُجْنَ) المطلقات «من بيوتهنّ» الّتي كنّ يسكنّها على ما عرفت ،
وفي الكشاف الجمع بين النّهيين ليشعر بأنّه لا يؤذنوا وليس لاذنهم أثر في رفع الحظر ،
وحاصله أنّ إطلاق النهي عن إخراجهنّ وخروجهنّ يقتضي عدم جواز الخروج لها ، وإن أذن
الزوج ، وإلى هذا يذهب أكثر أصحابنا والعامّة.
ويؤيّده أنّ
ذلك حقّ الله تعالى ، فلا يكون لإذن الزوج فيه دخل بخلاف زمن الزّوجيّة ، فانّ
الحقّ لهما فلو اتّفقا على الانتقال جاز.
وذهب بعض
أصحابنا إلى جواز خروجها مع اذن الزوج واستقربه العلامة في النهاية ، وقد يستدلّ
عليه بحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لا ينبغي
__________________
للمطلقة أن يخرج إلّا بإذن زوجها حتّى تنقضي عدّتها ثلاثة أقراء أو ثلاثة
أشهر ، ونحوها من الاخبار.
وعلى هذا فيقيد
ظاهر الآية بما لا اذن فيه تحصيلا للجمع بين الأدلّة ، ويتوجّه عليه أنّ تقييد
القرآن بخبر الواحد مرغوب عنه عند أكثر الأصحاب فلا يجوز هنا وفيه نظر ، فانّ
الظاهر جوازه على ما ثبت في الأصول ، وكون السكنى حق الله تعالى في محل المنع بل
الظاهر أنّ الحقّ لا يعدوهما ، فلو اتّفقا على الانتقال جاز كما في حال الزوجيّة ،
ومن هنا يعلم انّ جواز الخروج مع الاذن هو الأقوى.
وعلى كلّ حال
فيجوز خروجها لضرورة الى حاجة أو غيرها لكن يكون بعد نصف الليل وتعود قبل الفجر كما
دلّت عليه رواية سماعة قال : سألت عن المطلقة
__________________
أين تعتدّ؟ قال : في بيتها لا يخرج فإن أرادت زيارة خرجت بعد انتصاف الليل
ولا يخرج نهارا ، هذا مع تأدي الحاجة به واندفاعها بذلك والّا جاز خروجها وقت
الضرورة مطلقا.
(إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) مستثنى من إخراجهنّ أي يحرم إخراجهنّ الّا ان تفعل
المرأة فاحشة ظاهرة أو مظهرة على اختلاف القرائتين بفتح الياء وكسرها وقد اختلف
فيها فقيل : هي الزنا فيخرج لإقامة الحدّ عليها ، وهو قول الحسن ومجاهد والشعبي ،
واختاره شيخنا المفيد في المقنعة والشيخ في النهاية ، وقيل أن تعدوا على الزوج أو
تؤذيه أو تؤذي أهله ، فيجوز الإخراج دفعا للضرورة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ،
واليه ذهب الشيخ في الخلاف.
ويدلّ عليه ما
رواه إبراهيم بن هاشم عن بعض رجاله عن الرضا عليهالسلام في قول الله عزوجل (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال : أذاها لأهل الرّجل وسوء خلقها ونحوها رواية عليّ بن أسباط عنه عليهالسلام وهما غير واضحتي الصّحّة مع عدم ظهور الآية في هذا المعنى ، إلّا أنّ القول به
مشهور بين الأصحاب وتردّد فيه العلّامة في المختلف وله وجه.
__________________
وقيل : الفاحشة
هي النشوز ، فإذا طلّقها على نشوز سقط حقّها من السّكنى وهو بعيد ، لانّ السّكنى
يجب للمطلّقة بالنصّ وكونها قبل الطلاق ناشزا لا يسقط حقّها الثّابت بعده ، وقيل :
الفاحشة كلّ معصية لله ظاهرة وهذا أقرب الى الظّاهر إلّا أنّ العامل بها من
أصحابنا قليل.
وعلى اعتبار
الأوّلين فلو أخرجت للأذى لم ترد الى المنزل الأوّل ان لم تتب عند أصحابنا ولو
تابت فوجهان ، ولو أخرجت لإقامة الحدّ فقد اختلف فيه فظاهر جماعة من الأصحاب الرّد
بعد اقامته ، قالوا : ولا تبيت إلّا في المنزل وظاهر آخرين منهم عدم الردّ واختاره
العلّامة في المختلف نظرا الى جواز الإخراج والرد يحتاج الى دليل والأصل عدمه.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة الى جميع الأحكام المذكورة حتى عدم خروج المرأة.
(وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ) ومن يتجاوز ما حدّ الله له بان يخرج عن طاعته الى
معصيته خلاف ما أمر به أو نهى عنه مطلقا سواء كانت المذكورة في الآية أو غيرها ومن
ثمّ أعادها بلفظ الظّاهر.
(فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ) باعتبار أنّه عرّضها للعقاب وسخط الله وغضبه ومقتضاها
إطلاق الظّالم على فاعل المعصية مطلقا ويمكن تخصيصها بالكبيرة وفيه نظر فانّ
الظّلم مقول بالتشكيك يصدق على فاعل أقلّ المعصية وأعلاها كالكفر وما بينهما
والمراد هنا التّأكيد في ترك المنهيّات وفعل المأمورات وخصوصا الأحكام المسوق
بيانها.
(لا تَدْرِي) يحتمل كونه على الخطاب للنّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو المطلق وعلى الغيبة للنّفس لعدم علمها بعواقب
الأمور.
(لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) اي يغير راى الزوج في محبّة الطّلاق ويوقع في قلبه
المحبّة لرجوعها فيما بين الطّلقة الواحدة والثّانية أو فيما بين الثّانية
والثالثة ، أو يحدث ارادة الرجعة في أثناء العدة ، وفي موثقة زرارة قال : سمعت
__________________
أبا جعفر عليهالسلام يقول : أحب للرجل الفقيه ان أراد أن يطلّق امرأته أن
يطلّقها طلاق السنة قال : ثم قال : وهو الّذي قال الله تعالى (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ
أَمْراً) يعني بعد الطلاق وانقضاء العدة التزويج بها ، من غير أن
تتزوج زوجا غيره ، وما أعدله وأوسعه لهما جميعا أن يطلّقها على طهر من غير جماع
تطليقة بشهود ، ثم يدعها حتى يخلو أجلها ثلاثة أشهر أو ثلاثة قروء ثم يكون خاطبا
من الخطاب.
فان قيل :
المأمور به في الآية طلاق العدة فكيف يكون طلاق السنة مقدما عليه كما هو الظاهر من
أخباركم وهو المشهور بين علمائكم؟ ـ قلنا : طلاق السنة أيضا طلاق العدة فإن المراد
بطلاق العدة كون الطلاق واقعا في طهر لم يواقعها فيه ، وهذا هو طلاق السنة بالمعنى
الأعم ، وينبه على ذلك ما رواه ابن بكير وغيره عن أبي جعفر عليهالسلام انه قال : الطلاق الّذي أمر الله عزوجل به والّذي سن رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يخلى الرجل عن المرأة ، فإذا حاضت وطهرت من محيضها
أشهد رجلين عدلين على تطليقه ، وهي طاهر من غير جماع ، وهو أحق برجعتها ما لم تنقض
ثلثة قروء ، وكل طلاق ما خلا هذا فباطل ليس بطلاق.
وما رواه يونس عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليهالسلام قال : الطلاق أن
__________________
يطلّق الرجل المرأة على طهر من غير جماع ، ويشهد رجلين عدلين على تطليقه ،
ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء ، فهذا الطلاق الّذي أمر الله به في
القرآن وأمر به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكل طلاق لغير العدة فليس بطلاق. ونحوها من الأخبار .
إلّا أن
أصحابنا أفردوا قسما من هذا الطلاق وسموه بطلاق السنة مقابل طلاق العدة ، وإن كان
في الحقيقة هو من طلاق العدة بالمعنى الأعم ، ونقلوه عن أئمتهم عليهمالسلام وهو الطلاق في غير طهر المواقعة وترك المرأة حتى تخرج
من العدة ثلاثة أشهر أو ثلاثة أقراء.
وقد بيّنت ذلك
الأخبار : روى زرارة في الحسن عن أبى جعفر عليهالسلام انّه قال : كل طلاق لا يكون على السنّة أو طلاق على
العدّة فليس بشيء قال زرارة : فقلت له : فسّر لي طلاق السّنّة وطلاق العدّة ، فقال
: امّا طلاق السّنّة فإذا أراد الرجل أن يطلّق امرأته : فلينتظر بها حتّى تطمث
وتطهر ، فإذا خرجت من طمثها طلّقها تطليقة من غير جماع ، ويشهد شاهدين على ذلك ،
ثمّ يدعها حتّى تطمث طمثتين ، فتقضي عدّتها بثلاث حيض وقد بانت منه ويكون خاطبا من
الخطّاب ، إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوّجه ، وعليه نفقتها والسّكنى ما دامت في
العدّة ، وهما يتوارثان حتّى تنقضي عدّتها.
وأما طلاق
العدّة الّذي قال الله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) فإذا أراد الرجل منكم أن يطلّق امرأته طلاق العدّة ،
فلينتظر بها حتّى تحيض وتخرج من حيضتها ، ثمّ يطلّقها تطليقة من غير جماع ، ويشهد
شاهدين عدلين ويراجعها من يومه ذلك إن أحبّ أو بعد ذلك بأيّام قبل أن تحيض ، ويشهد
على رجعتها ويواقعها ويكون معها حتّى تحيض.
__________________
فإذا حاضت
وخرجت من حيضتها طلّقها تطليقة أخرى من غير جماع ويشهد على ذلك ثمّ يراجعها أيضا
متى شاء قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها ويكون معها إلى أن تحيض الحيضة
الثالثة ، فإذا خرجت من حيضتها الثالثة طلّقها التّطليقة الثّالثة بغير جماع ويشهد
على ذلك ، فإذا فعلت ذلك فقد بانت منه ، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره الحديث.
والمراد بكون
هذا طلاق العدّة المأمور بها في الآية ، أنّه فرد منه ، فصحّ إطلاقه عليه ،
ولتفصيل ذلك شرح يطول فليطلب من محلّه.
(فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ) قاربن الفراغ منه بحيث لم يبق من العدّة إلّا قليل ،
كآخر جزء منها ، والأجل يطلق لمجموع المدّة ولمنتهاها ، فيقال لعمر الإنسان أجل
__________________
وللوقت الّذي ينتهي
به العمر أجل ، قال الله تعالى (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).
والبلوغ الوصول إلى الشيء.
وقد يقال
للدنوّ منه على الاتّساع ، وهو المراد هنا ليترتّب عليه قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) اى أنتم مخيّرون إمّا في الرّجعة بطريق حسن يحسن معه
المعاشرة والاتفاق الحسن وما يتعلّق بذلك من حقوق الزّوجيّة ، وإمّا المفارقة بترك
الرّجعة وتخلية سبيلها على وجه حسن جميل لا إضرار فيه.
والمراد تحريم
جعلها كالمعلّقة بأن يطلّقها فإذا قرب الفراغ من العدّة راجعها ثمّ يطلّقها يفعل
مثل ذلك للإضرار بها حتّى لا تتزوّج ، وانّما قلنا : انّ بلوغ الأجل بمعنى مقاربة
بلوغه ، لانّه مع بلوغه وانقضائه على الحقيقة لا يملك الزّوج الخيار بين الرّجعة
والمفارقة بل هي تملك نفسها وتبين منه ، ولها أن تتزوّج من شاءت من الرّجال.
(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ) قد اختلف في متعلّق الشّهادة ففي الكشاف
__________________
هو راجع الى الرّجعة والفرقة جمعا على النّدب عند أبي حنيفة كقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعند الشافعي هو واجب في الرّجعة مندوب إليه في الفرقة
وكلا القولين بعيد عن الصّواب :
امّا الأوّل
فلخروجه عن ظاهر الأمر من غير قرينة صارفة عن الوجوب وهو مرغوب عنه. وامّا الثّاني
فلأنّ التّخصيص بأحدهما دون الآخر يتوقّف على المعارض المعيّن وبدونه إلغاز وتعميه
لعدم أولويّة ما ذكروه من العكس.
ولو قطع النّظر
عن هذا ففيه حمل اللّفظ على معنييه الحقيقي والمجازي وذلك مع تسليمه مجاز يتوقّف
على الدلالة وكذا حمله على الرّجحان المطلق الشامل للوجوب في بعض الافراد والنّدب
في الأفراد الأخر وتعيّن الوجوب في قسم والنّدب في آخر ، مع عدم الدليل الواضح ،
لا وجه له مع انّ الإشهاد على ترك الرّجعة لا يكاد يحصل له معنى ، إذ لا يراد من
ترك الرّجعة سوى الاستمرار على موجب الطّلاق المقتضي للفرقة وليس بشيء يتجدّد فعله
فيفتقر إلى إشهاد ، والّذي يقتضيه النّظر الصّحيح من غير تكلّف تعلّقه بأصل الطلاق
لانّ الكلام فيه وهو المقصود الأصلي من سوقه والباقي من توابعه فتوسّطها لا يضرّ
بالحال خصوصا مع ارتباطها به فكأنه قال إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهن لعدّتهنّ
واشهدوا ذوي عدل ، ويكون الأمر باقيا على ظاهره وهو الوجوب ، وقد تظافرت الأخبار
عن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام بوجوب الاشهاد في الطّلاق وعدم اعتباره بدونه وأنّ الأمر بالإشهاد راجع اليه :
__________________
روى محمّد بن
مسلم قال : قدم رجل على أمير المؤمنين عليهالسلام بالكوفة فقال : انّى طلّقت امرأتي بعد ما طهرت من
محيضها قبل أن أجامعها فقال لي أمير المؤمنين عليهالسلام : أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمر الله عزوجل؟ ـ فقال : لا ، فقال عليهالسلام : اذهب فإنّ طلاقك ليس بشيء ونحوها من الأخبار الّتي
بلغت في الكثرة إلى حدّ لا يحصى وانعقد إجماع أهل البيت عليهمالسلام على ذلك وإجماعهم حجّة قاطعة على ما ثبت
__________________
في محلّه.
ومقتضى ما
ذكرناه كون الاشهاد شرطا في الطّلاق وعدم صحّته بدونه وعلى ذلك إجماعهم وتظافرت به
اخبارهم عن الأئمّة صلوات الله عليهم ، والمراد بوجوب الإشهاد إيقاع المشهود به
على وجه يعلم الشّاهد ذلك بأن يوقعه بحضور الشّاهدين دفعة ، لا بان يخبر به ، أو
يشهد عليه بأنّه سيفعل ذلك ولا متفرّقا كلّ شاهد في وقت وقد انعقد إجماعهم على ذلك
أيضا وفي أخبارهم دلالة عليه.
(وَأَقِيمُوا
الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أمر للشهود بإقامة الشهادة عند الاستشهاد لوجه الله لا
لغرض آخر كرضا المشهود له ومحبّته له أو عداوته للمشهود عليه ، أو توقّع جعل على
إقامتها ونحو ذلك من الأمور الموجبة لإقامتها وبالجملة يجب أن يكون المقصود منها
وجه الله واقامة الحقّ ودفع الظّلم كما نبّه عليه قوله تعالى في موضع آخر (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).
ويستفاد منها
الحثّ على الصّدق في الشّهادة حيث انّها لله ، فلا وجه للكذب فيها أو الإيقاع على
غير ما هي عليه ، وعلي كلّ تقدير فلو كان الشّاهد صادقا وأوقع الشّهادة لا لله بل
لغرض آخر صحّ وترتّب الأثر عليها في إثبات حقّ المشهود له وبقي حقّ الله من حيث
مخالفة الأمر متعلّقا بالشّاهد.
(ذلِكُمْ) يريد به الحثّ على الاشهاد والإقامة أو جميع ما في
الآية.
(يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يتّعظ وينتفع به المؤمن فإنّه المقصود لذكر الأحكام دون
من عداه ولا يخفى ما فيه من المبالغة والاشعار بانّ من لا يتّعظ بذلك فليس بمؤمن.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) جملة اعتراضية مؤكّدة لما سبق من الأحكام بالوعد على
الاتّقاء عمّا نهى عنه صريحا أو ضمنا من الطّلاق في الحيض والإضرار بالمعتدّة
وإخراجها من المسكن وتعدّى حدود الله وعدم الاشهاد في الطّلاق وكتمان الشّهادة ،
والمراد انّه تعالى يجعل له مخرجا ممّا في شأن الأزواج من المضايق والغموم ويرزقه
فرجا وخلفا من وجه لم يخطر بباله ولا يحتسبه.
ويحتمل أن يكون
الوعد لعامة المتّقين بالخلاص من مضارّ الدّارين والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون
، ويحتمل ان يكون كلاما جيء به للاستطراد والاعلام بانّ المتّقى يجمع الله له خير
الدّنيا والآخرة ويخلّصه من مضارّهما.
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) كافية (إِنَّ اللهَ بالِغُ
أَمْرِهِ) بالرّفع على قراءة الأكثر أي نافذ أمره ، وقرأ حفص
بالإضافة والمراد انّه يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد ، وقرئ بالغا بالنّصب على
الحاليّة وخبر انّ قوله (قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) تقديرا أو توقيتا أو مقدارا أو أجلا لا يتأتى بغيره وهو
بيان لوجوب التّوكل على الله وتفويض الأمر إليه لأنّه إذا علم كلّ شيء من الرّزق
وغيره لا يكون الّا بتقديره وتوفيقه فلم يبق الّا التّوكّل عليه والتسليم اليه
تعالى.
الثانية (وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) شارفن انقضاء عدتهنّ فان البلوغ قد يطلق على الدّنوّ من
الشّيء على ما عرفت فيترتّب عليه قوله :
(فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) لظهور انّه بعد تقضّى الأجل بتمامه ومضىّ العدّة تملك
نفسها فلا يصحّ التخيير بين الإمساك والتّسريح بل يكون أجنبيّة من شقّ النّاس لا
سبيل له عليها والمراد بالمعروف في الموضعين ما كان موافقا للشّرع من القيام
بمصالح الزوجيّة ان أمسكها والّا تركها حتّى تنقضي عدّتها وتكون أملك بنفسها.
(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً) ولا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ لا الرّغبة في
نكاحهنّ كان يتركها حتّى تشارف الأجل ثمّ يراجعها لتطول العدّة عليها على ما قيل :
انّ الرّجل منهم كان يطلّق المرأة ويتركها حتّى يقرب انقضاء عدّتها ويراجعها لتطول
العدّة فنهى عنه.
ورواه الصّدوق عن المفضّل بن صالح عن الحلبي عن أبى عبد الله عليهالسلام و
__________________
هو منصوب امّا على انّه مفعول له أو على الحال بمعنى مضارّين.
(لِتَعْتَدُوا) اى لتظلموا بالتّطويل أو بالإلجاء الى الافتداء كما وقع
في آية أخرى واللّام متعلّقة بالضّرار.
(وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) الإضرار (فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ) حيث عرضها لعقاب الله.
(وَلا تَتَّخِذُوا
آياتِ اللهِ هُزُواً) بالاعراض عنها والتّهاون بالعمل بما فيها من غير جدّ في
العمل من قولهم لمن لا يجدّ في الأمر : إنّما أنت هازئ ولعلّ المراد بالنّهي عن
الهزء الأمر بضدّه أعنى الجدّ وقيل : كان الرّجل يتزوّج ويطلّق ويعتق ويقول : كنت
ألعب فنزلت ، وأحكام الآية معلومة كما بيّناه.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام ونبوّة النّبيّ محمّد صلىاللهعليهوآله بالشّكر والقيام بحقوقها.
(وَما أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) من القرآن والسّنّة أفردهما بالذّكر إظهارا لشرفهما.
(يَعِظُكُمْ بِهِ) بما انزل عليكم (وَاتَّقُوا اللهَ) اى معاصيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد وتهديد.
__________________
الثالثة (وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) اى انقضت عدتهن وبلوغ الأجل هنا على الحقيقة (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) تمنعوهنّ وتحبسوهنّ (أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَّ) بتقدير من ان ينكحن أزواجهنّ حذف وأوصل الفعل ، والخطاب
في الآية امّا للأزواج الّذين يعضلون نسائهم بعد انقضاء العدّة ظلما وقسرا ولحميّة
الجاهليّة فلا يتركن يتزوّجن من أردن من الأزواج ، وإطلاق الأزواج عليهنّ مجاز
باعتبار الأوّل ، وأما للأولياء الّذين يمنعونهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ فقد روى
انّها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع الى الزوج الأوّل بالاستيناف.
قال القاضي : فيكون دليلا على انّ المرأة لا تزوّج نفسها إذ لو
تمكّنت منه لم يكن لفعل الوليّ معنى ، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهنّ لأنّه بسبب
توقّفه على إذنهن انتهى.
ولا يخفى ما
فيه فأوّلا أنّ الدلالة مع احتمال الأمرين ساقط وانّما يكون مع ظهورها في الأولياء
وهو غير معلوم إذ كما يحتمل الأزواج بل النّاس على العموم ، كما استوجه في الكشاف
أن يكون خطابا للناس على العموم ، أى لا يوجد فيما بينكم عضل ومنع للنّساء من نكاح
الأزواج لأنّه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا في حكم العاصين وحينئذ فلا دلالة.
وثانيا انّا لو
سلّمنا كون الخطاب فيها للأزواج ، فالنهي عن العضل لا يقتضي أن يكون للوليّ حقّ في
ذلك ، بل ولا يقتضي أن يراد به ولى النّكاح بل الظّاهر من كان له اختصاص بالمرأة
لظهور ان الأخ ليس بوليّ على المشهور ، وقد روى هو نزولها فيه فإذا سقطت الدّلالة
من هذا الوجه ، كان قوله (يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَّ) صريحا في استقلالهن وانتفى حمله على المشاركة فيه أو
التوقف على الاذن فتأمّل.
واستدلّ بعض
أصحابنا بظاهرها على سقوط الولاية مع العضل وله وجه مع تسليم الولاية والّا فلا
حاجة إليه.
(إِذا تَراضَوْا
بَيْنَهُمْ) اى النّساء والخطّاب وهو ظرف لان ينكحن
__________________
أولا تعضلوهنّ.
(بِالْمَعْرُوفِ) صفة مصدر محذوف اى تراضيا كائنا بالمعروف أو حال عن
الضّمير المرفوع أي تراضوا عاملين بالمعروف وهو ما يعرفه الشّرع ويستحسنه المروّة
كالتّزويج بالكفو ونحوه ففيها دلالة على انّ العضل عن التّزويج بغير الكفو من
الوليّ بل من غيره لا يكون منهيّا عنه.
وقد يستفاد
منها تحريم الدّخول في خطبة أحد بغير حصول الرّضا والإجابة للآخر كما ذهب إليه
أصحابنا.
(ذلِكَ) إشارة الى ما مضى ذكره وتوحيد المخاطب مع كون المراد
الجمع امّا على تأويل القبيل فإنّه اسم للجمع أو كلّ واحد واحد أو انّ المراد
مجرّد الخطاب والفرق بين الحاضر والمخاطب والغائب من دون تعيين المخاطبين.
ويحتمل أن يكون
المخاطب به الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على طريقة (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) كما تقدّم وفيه تنبيه على أنّ حقيقة المشار إليه أمر لا
يكاد يتصوره كلّ أحد ليخاطب به.
(يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تخصيصه بالمؤمن لانّه المنتفع به ولانّ المراد الاتعاظ
بالقرآن وهو انّما يكون بعد الايمان والمراد بالوعظ الزّجر والتخويف.
(ذلِكُمْ) اى العمل بمقتضى ما ذكر من الأحكام (أَزْكى) أنفع (لَكُمْ وَأَطْهَرُ) من دنس الآثام (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من النفع والصّلاح (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ذلك لقصور علمكم عن إدراك الأمور الحفيّة وفيه دلالة
واضحة على انّ عدم العلم بمصلحة الحكمة لا يقتضي نفيها بل ينبغي الانقياد والتسليم
والاعتراف بانّ حكمتها خفية علينا.
الرابعة : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ) خبر بمعنى الأمر وتغيير العبارة للتّأكيد والاشعار
بأنّه ممّا يجب أن يسارع الى امتثاله كان المخاطب [قصد أن] يمتثل الأمر فيخبر عنه
وقد أشرنا سابقا إلى أنّ إيراد الأمر بصورة الخبر أبلغ ، وبناؤه على
المبتدإ يفيد زيادة تأكيد باعتبار تكرّر الاسناد فيه بخلاف ما لو قدّم.
(بِأَنْفُسِهِنَّ) تهييج وبعث لهنّ على التّربّص فانّ نفوس النساء طوامح
الى الرّجال فامرن بقمعها وحملها على التربّص.
(ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصب على الظّرفيّة أو المفعول به اى يتربّصن مضيّها وهو
جمع قرء بالفتح والضّمّ ويطلق على كلّ من الحيض والطّهر على الاشتراك لنصّ أهل
اللّغة فيه ولاستعماله في كلّ منهما في فصيح الكلام وقد اختلف في المراد به هنا
فاصحابنا أجمع والشّافعيّة على انّ المراد به الطّهر وهو قول جماعة من الصحابة
والتّابعين كزيد بن ثابت وعائشة وابن عمر ومالك وأهل المدينة إلّا سعيد بن المسيب.
ويدلّ على ذلك
أخبارنا المتظافرة وإجماع علمائنا الّذي هو حجّة قاطعة ، وما تقدّم من
قوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) حيث انّ المراد الأمر بالطّلاق في زمان عدّتهنّ أي في
زمان يصحّ الشروع في العدّة عقيبه على ما سلف.
وذهب الحنفيّة
إلى انّ المراد به الحيض واستدلّ لهم في الكشاف بانّ القرء هو الحيض لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : دعى الصّلوة أيّام أقرائك وقوله صلىاللهعليهوآله طلاق
__________________
الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان ، ولانّ الغرض الأصلي في العدّة استبراء
الرّحم والحيض هو الّذي يستبرء به الرّحم دون الطّهر ، وكذا كان من الأمة
الاستبراء بالحيضة وحمل قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) على انّ المراد مستقبلات لعدتهنّ كقولك : لقيته لثلاث
بقين من الشّهر يريد مستقبلا لثلاث [وعدّتهنّ الحيض الثّالث].
وفي الدّلالة
نظر امّا كون القرء بمعنى الحيض فلا ننكره وكونه بمعنى الطّهر في غير هذا الحديث
كثير لا يرتاب فيه ، لكنّ الكلام في انّه المراد من الآية ، مع أنّه يمكن أن يقال
: الآية دلّت على أنّها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمّى أقراء خرجت من العهدة فيكون
متمكّنة من الاعتداد بالأطهار الّتي عدّتها أقلّ ومن الاعتداد بالحيضة الّتي
عدّتها أكثر ، وحينئذ فيكون القدر الزائد على عدّة الأطهار غير واجب.
وحديث تطليق
الأمة لا نسلّم صحّته ، ولانّه لا يقاوم ما رويتم عن مسلم و
__________________
البخاري في قصّة ابن عمر : مره فليراجعها ثمّ ليمسكها حتى تحيض ثمّ تطهر
ثمّ ان شاء أمسك بعد وان شاء طلّق قبل ان يمسّ فتلك العدّة الّتي أمر الله تعالى
أن يطلّق لها النّساء.
وكون الغرض
الأصليّ استبراء الرّحم يدلّ على انّه الطّهر لانّه الدّال على براءة الرّحم فانّ
القرء بمعنى الجمع والمرأة في حال الطّهر تجمع دمها فإذا جاء الحيض فرّقته
والتقدير في الآية بعيد كما سلف ، على انّه راجع الى ما قلناه كما أشرنا اليه ،
ولانّ ما ذكروه من الاخبار معارض بانّ الاعتداد بالأطهار أقلّ زمانا من الاعتداد
بالحيض فيلزم المصير إليه لأنّه الأصل إذ لا يكون لأحد على غيره حقّ الحبس والمنع
وكلما كانت المدّة أقلّ كان أقرب الى هذا الأصل وأوفق له.
ولعلّ النّكتة
في التّعبير بالقروء الّتي هي جمع كثرة دون الأقراء الّتي هي جمع قلّة مع انّ
المناسب هنا جمع القلّة التّنبيه على ارادة الحيض حيث علم جمع القرء الّذي يكون
المراد منه الحيض على الأقراء كما في قوله صلىاللهعليهوآله : دعى الصّلوة أيّام أقرائك ، وان كان كلّ من جمع
الكثرة والقلّة يستعمل مكان الآخر.
قال القاضي
ولعلّ الحكم لمّا عمّ المطلقات ذوات الأقراء تضمّن معنى الكثرة فحسن بناؤها يعنى
لكثرة أفراد المطلقات من حيث انّ كل مطلّقة لها ثلاثة قروء فكان جمع كثرة وهو جيد.
هذا وفي أخبارنا ما يدلّ على أنّ القروء هي الحيضات الثلاث [روى الحلبي عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : عدة التي تحيض ثلاثة قروء وهي ثلاث حيض ونحوها
رواية أبي بصير ] لكنّها مهجورة بين الأصحاب محمولة على ضرب من
__________________
التّأويل كما يعلم ذلك من راجع كتب الأخبار.
وفايدة الخلاف
بين القولين انّ مدّة العدّة عند القائل بالاطهار أقصر منها عند القائل بالحيض
حتّى لو طلّقها في حال الطّهر تحسب بقية الطهر قرءا وان حاضت عقيبه في الحال فإذا
شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدّتها وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة
إن كان الطلاق حال الطهر أو من الحيضة الرّابعة إن كان في حال الحيض : لا يحكم
بانقضاء عدّتها.
واعلم أنّ لفظ
المطلقات وان اقتضى العموم لكنّه مخصوص بالمطلقات المدخول بهنّ من ذوات الأقراء
للآيات والأخبار الدّالة على انّ حكم غيرهن خلاف ما ذكر كذا في الكشاف وتفسير
القاضي والظاهر انّها مخصّصة بالحامل أيضا فإن عدّتها
__________________
وضع الحمل لا ثلاثة قروء الّا أن يقال : الحمل لا يجامع الحيض فلا حاجة الى
التّخصيص وفيه ما فيه ، امّا تخصيصها بالرّجعيات كما ذهب اليه بعض الأصحاب لمكان ضمير (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) الراجع الى الرجعيات فقط فغير واضح وسيجيء التنبيه عليه
ان شاء الله.
وقد يظهر من
الكشاف انّه لا تخصيص فيها مع ارادة المدخول بهنّ نظرا الى انّ اللّفظ مطلق في
تناول الجنس صالح لكلّه وبعضه فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك وفيه نظر
لظهور كون المطلقات عاما لا مطلقا لانّه جمع معرّف باللّام وهو من صيغ العموم وقد
وقع التّصريح به في كلامه كثيرا حيث قال (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) انّه جمع ليتناول كل محسن وفي قوله (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) اى لا تخاصم عن خائن قط ونحو ذلك ممّا يدلّ على العموم
فليكن هذا منه وتخصص بما تقدم.
(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) من الولد أو من دم الحيض استعجالا في العدة وإبطالا لحق
الرّجعة بالنّسبة إلى الزّوج واستدلّ به على انّ قولهن مقبول في ذلك نظرا إلى انّه
لو لم يكن كذلك لما حسن الإيجاب عليهنّ وتحريم الكتمان ولأنهنّ مؤتمنات على
أرحامهنّ ولا يعرف الّا من جهتهن غالبا واقامة البيّنة على مثله عسرة في الغالب
ولحسنة زرارة عن الباقر عليهالسلام قال :
__________________
العدّة والحيض للنساء إذا ادّعت صدّقت.
والمناقشة في
الأول ممكنة إذ لا يلزم من إيجاب الإظهار وتحريم الكتمان القبول ألا ترى أن
الشّاهدين يجب عليهما أداء الشهادة مع أن الحاكم لا يجب عليه القبول وظاهر الاخبار
أنّهن لا يقبل منهنّ غير المعتاد إلّا بشهادة أربع من النساء المطلعات على
باطن أمرهنّ واستقربه الشّهيد في اللّمعة ويؤيده الأصل والظاهر واستصحاب
__________________
حكم العدّة ولإمكان إقامة البيّنة عليه ولا يبعد تقييد القبول بما إذا كانت
المرأة ثقة لا مطلقا وعليه تحمل الأدلة المطلقة.
(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليس المراد منه تقييد نفي الحل بايمانهنّ حتى انّها لو
لم تكن كذلك حل لها الكتمان بل التّنبيه على انّه ينافي الايمان وانّ المؤمن لا
يتجرّء عليه ولا ينبغي له أن يفعله.
(وَبُعُولَتُهُنَّ) جمع بعل والتّاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤولة في جمع
العم والخال.
(أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) الى النّكاح السابق الّذي كان لهنّ من غير عقد مجدّد بل
مجرّد الرّجعة لفظا أو فعلا كان فيه ، والمراد انّه ليس لأحد أن يتزوجهنّ ولا أن
يتزوجن بغيرهم لكونهم في حكم الأزواج.
ويحتمل أن يراد
به ان الرجل ان أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فكان هو أحق
منها بمعنى أنّ ذلك حقه وحده لا أنّ لها حقا في الرجعة فأفعل هنا بمعنى أصل الفعل
اي الرد الى النكاح حقّ البعولة.
(فِي ذلِكَ) أي في زمان التربّص ولا كلام في أن هذا حكم المطلقة
رجعيا فيكون الضمير أخصّ من المرجوع اليه وحينئذ فهل يوجب هذا تخصيصا فيه قيل : نعم
حذرا من مخالفة الضمير المرجع لأنه كناية عنه وعبارة له فلا معنى لمغايرة أحدهما
الآخر.
وقيل : لا بل
هو بمثابة تكرير الظّاهر ، ويجوز ارادة الخاصّ من الثّاني مع بقاء عموم الأول فكذا
هنا وفيه نظر للفرق بين الأمرين من حيث ان الضمير كناية عن الظاهر وعبارة له فلا
وجه لإرادة غيره به ولا كذا الظّاهر فالقياس لا وجه له وتحقيقه في الأصول.
(إِنْ أَرادُوا
إِصْلاحاً) بالرجعة لا إضرارا بالمرأة وليس المراد منه شريطة قصد
الإصلاح للرّجعة وتقييد الأحقية به للإجماع على صحة الرّجوع وان قصد الإضرار بل
المراد منه التّحريض والحث على قصد الإصلاح بالرّجوع والمنع من الرّجوع
بقصد الإضرار وتحريمه وإن ترتّب الأثر وهو عود الزوجيّة عليه ، والحاصل أنّ
التّحريم لا ينافي ترتّب الأثر الّذي هو عود الزوجيّة.
(وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) اي ولهنّ حقوق واجبة على الرجال كما أنّ للرّجال عليهنّ
حقوقا كذلك والمراد المماثلة في الوجوب واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس نفسه
فان حقوق النّساء على الرّجال المهر والنّفقة والكسوة والمسكن والمضاجعة والدّخول
في الأوقات المقررة شرعا وترك الضرار وحقوق الأزواج على النّساء أن يبذلن أنفسهن
لهم ولا يمنعنهم ولا يبذلن لغيرهم ولا يخرجن من البيوت بغير إذنهم بل ولا يخرجن عن
إذنهم حتّى لا يصمن ندبا ولا يحججن كذلك إلا بإذنهم ونحو ذلك مما هو معلوم في
محله.
(وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) زيادة في الحق وفضل فيه لأنّ حقوقهم في أنفسهن كما عرفت
بخلاف حقوقهن فإنها الأمور الخارجة كالمهر والنّفقة والكسوة وترك الإضرار ونحوها
ويحتمل أن يراد بالدرجة الشّرف والفضيلة من جهة أنّهم قوّامون عليهنّ فإنّ المرأة
تنال من اللّذّة ما يناله الرّجل وله الفضيلة بالقيام عليها والإنفاق في مصالحها.
وقد روى محمّد
بن مسلم في الصّحيح عن الباقر عليهالسلام قال : جاءت امرأة إلى
__________________
النّبي صلىاللهعليهوآله فقالت : يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة فقال :
لها أن تطيعه ولا تعصيه ولا تصدّق من بيته إلّا باذنه ولا تصوم تطوّعا إلا باذنه
ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب ولا يخرج من بيتها إلا باذنه وإن خرجت بغير
إذنه لعنتها ملائكة السّماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتّى ترجع
الى بيتها.
فقالت : يا
رسول الله من أعظم النّاس حقّا على الرجل؟ فقال : والده. قالت : فمن أعظم الناس
حقا على المرأة؟ قال : زوجها ، قالت : فما لي عليه من الحق مثل الّذي له عليّ؟ قال
: لا ولا من كلّ مأة واحد الحديث.
(وَاللهُ عَزِيزٌ) قادر على الانتقام ممّن خالف الأحكام (حَكِيمٌ) شرع الاحكام بحكم ومصالح فلا يخلى أحكامه عن المصلحة
والحكمة لأنه عبث وهو تعالى منزّه عنه.
وبعد ما أسلفنا
انّ هذه الآية مخصوصة بالمطلّقة المدخول بها غير الحامل من ذوات الأقراء ، فلا
تنافي بينها وبين قوله (فَما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) في غير المدخول بها ، ولا بين قوله (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لأنها مخصوصة بهما ، فلا معنى لقول بعضهم انهما نسختا
من هذه الآية كما ذكره في مجمع البيان مع انّه خلاف المعهود من بناء العامّ على
الخاص ولا ضرورة تلجئ إليه.
الخامسة (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ) بيّن تعالى أولا عدة المطلقات المتبيّن حيضها ، وأراد
هنا عدّة المطلقات اللّاتي لم يتبيّن حيضهن.
وقد اختلف في
المراد بها هنا ، فالعامّة أجمع على أنّها الكبيرة الّتي بلغت
__________________
سنّ اليأس وبذلك صرّح في الكشاف وتفسير القاضي ورؤيا انّه لمّا نزلت : والمطلقات يتربّصن بأنفسهنّ
ثلاثة قروء قيل فما عدة اللّاتي لم يحضن فنزلت.
وهؤلاء يحملون
قوله (وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ) على الصّغيرة الّتي لم تبلغ ويوجبون عليها العدّة ثلاثة
أشهر أيضا نظرا الى أن الخبر محذوف اى هنّ كذلك ، فعلى هذا يجب العدة على الكبيرة
اليائسة وعلى الصغيرة ثلاثة أشهر مع الدخول ، وإليه يذهب السّيد المرتضى من
أصحابنا تمسّكا بظاهر الآية قال : وهو صريح في أنّ اليائسات من المحيض واللائي لم
يبلغن عدّتهنّ الأشهر على كل حال.
وقوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) معناه على ما ذكره جمهور المفسّرين وأهل العلم بالتأويل
إن كنتم مرتابين في عدد هؤلاء النساء وغير عالمين بمقدارها ، وقد رووا ما يقوى ذلك وهو : أن أبي بن كعب قال : يا رسول الله إن
عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله
تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ) الى قوله (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
وكان سبب نزول
هذه الآية الارتياب الّذي ذكرناه ولا يجوز أن يكون الارتياب بأنّها آيسة من المحيض
أو غير آيسة لأنّه تعالى قطع فيمن تضمّنته الآية على اليأس من المحيض بقوله (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) والمرتاب في أمرها لا تكون آيسة ، وإذا كان المرجع في
وقوع الحيض منها أو ارتفاعه عنها الى قولها ، وهي المصدّقة فيما تخبر به من ذلك ،
وأخبرت بأحد الأمرين ، لم يبق للارتياب في ذلك معنى.
وكان يجب لو
كانت الريبة راجعة الى ذلك أن يقول ان ارتبن ، لأنّ الحكم في ذلك يرجع الى النساء
، ويتعلق بهنّ ، ولا يجوز أن يكون الارتياب بمن تحيض أولا تحيض ممّن هو في سنّها ،
لأنه لا ريب في ذلك من حيث كان المرجع فيه العادة.
__________________
على انّه لا بد
فيما علّقنا به الشّرط وجعلنا الريبة واقعة فيه من مقدار عدة من تضمّنت الآية من
أن يكون مرادا من حيث لم يكن معلوما لنا قبل الآية وإذا كانت الريبة حاصلة بلا
خلاف تعلّق الشرط به ، واستقلّ بذلك الكلام ومع استقلاله يتعلّق الشّرط بما ذكرناه
، ولا يجوز أن يتعلّق بشيء آخر كما لا يجوز فيه لو كان مستقلا اشتراطه.
هذه جملة ما
تمسّك به السّيد في تفسير الآية ويؤيّده قوله ما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : عدّة المرأة الّتي لا تحيض والمستحاضة التي لم تطهر
والجارية التي قد يئست ولم تدرك الحيض ثلاثة أشهر وعدّة الّتي لا يستقيم حيضها
ثلاث حيض متى حاضتها فقد حلّت للأزواج ورواه أبو بصير قال : عدّة
__________________
الّتي لم تبلغ الحيض ثلاثة أشهر والّتي قعدت عن الحيض ثلاثة أشهر.
والجواب انّه
على ما ذكره لا يظهر لقيد (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فائدة ، بل الظاهر عدم الاحتياج اليه ، وحمله على ما
ذكروه من معنى الجهل بعيد ، لعدم فهمه منه ظاهرا مع انّه لم يعهد التّقييد به في
بيان شيء من الأحكام ، وظاهر انّ الاحكام الشرعية قبل ورود الشّرع بها غير معلومة
فلا يكون التعليم في هذه الصورة مشروطا بالريبة دون غيرها لعدم الأولويّة.
على ان الرواية
الّتي ذكروها لا يخلو من ضعف ، فان هذه السّورة مكّية بالاتفاق وتلك مدنيّة ، فلا
وجه لما ذكروه. نعم لو كانت هذه متأخرة النّزول كان له وجه.
ولا نسلّم انّ
المرجع في ارتفاع الحيض الى النساء وهنّ المصدّقات فيه ، فان ارتفاع الحيض من
المرأة إنما يكون ببلوغ السّنّ الّذي حدّه الشارع لا مطلقا وكان معلوما من بيانه ،
وحينئذ فيمكن ارتفاع الحيض عن المرأة ظاهرا قبل بلوغ ذلك الحد ولا يعلم ان انقطاع
دمها وارتفاع حيضها لكبر أو لعارض ، فتقع الريبة هناك ويحتاج في بيان الحكم الى
البيان.
وهذا هو الظاهر
من الريبة فإنها انّما تكون فيمن تحيض مثلها ، فاما من لا تحيض مثلها فلا ريبة
عليها ولا يتناولها الشّرط المؤثر ، والى هذا يذهب أكثر أصحابنا ويحملون قوله (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) على البالغة الّتي لم تحض ومثلها تحيض ، فانّ عدّتها
أيضا كذلك مع الطلاق والدخول.
ويؤيّد قولهم
في غير المعلوم يأسها ، انّ الواجب عليها الأخذ بما هو عليه من الحكم الى أن
يتحقّق المسقط الرّافع له وليس هو إلّا العلم باليأس ، وهو غير حاصل فيستصحب الحكم
المعلوم ثبوته المشكوك في ارتفاعه ، وقد تظافرت أخبارهم عن
__________________
أئمّة الهدى صلوات الله عليهم بعدم وجوب العدّة على اليائسة والصّغيرة
الّتي لم تبلغ وان دخل بها :
روى زرارة في
الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام : في الصّبيّة الّتي لا تحيض مثلها والّتي قد يئست من
المحيض قال : ليس عليهما عدّة وان دخل بهما.
وروى حماد بن
عثمان في الصّحيح قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن التي
__________________
قد يئست من المحيض والتي لا تحيض مثلها قال : ليس عليهما عدّة.
وروى محمّد بن
مسلم في الحسن قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول في التي قد يئست من المحيض يطلّقها زوجها قال :
بانت منه ولا عدّة عليها ، وهي عامّة في المدخول بها وغيرها ونحوها من الأخبار
التي يوجب نقلها تطويلا.
ويجاب عن صحيحة
الحلبي : انّها مشتملة على حكم المستحاضة والقائل به غير معلوم ، وعلى انّ عدّة
المسترابة ثلاثة حيض وهو غير موافق لما يذهب إليه فإنّ عدّتها عندنا أمّا ثلاثة
أشهر أو ثلاثة أطهار وفي متنها أيضا شيء لا يخفى فالاستدلال بمثلها بعيد.
وعن رواية أبي
بصير : بأنّها ضعيفة السّند لانّ ابن سماعة وابن جبلة وعليّ بن أبي حمزة كلّهم
منحرفون عن الحقّ وأبو بصير فيه قول ومع هذا فلم يسندها الى
__________________
امام ، ويمكن حملها مع سابقتها على من يكون في سنّ من تحيض كما قاله الشيخ
في التهذيب ثم قال : والذي ذكرناه ـ وهو حمل خبر أبي بصير على من يكون مثلها تحيض
لانّ الله تعالى شرط ذلك وقيّده بمن يرتاب بحالها ـ مذهب معاوية بن حكيم من
متقدّمي فقهائنا وجميع فقهائنا المتأخّرين.
ويؤيّد حمل
الشيخ ما رواه محمّد بن حكيم عن العبد الصّالح عليهالسلام قلت له : الجارية الشّابّة التي لا تحيض ومثلها تحمل
طلّقها زوجها قال : عدّتها ثلاثة أشهر.
ونقل الكليني
في الكافي عن ابن سماعة : انّه كان يأخذ بظاهر رواية أبي بصير ويحمل الأخبار
الواردة بعدم العدّة على الإماء فإنهنّ لا يستبرين إذا لم يكنّ بلغن الحيض قال :
فأمّا الحرائر فحكمهنّ في القرآن يقول الله عزوجل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وكان معاوية بن حكيم يقول : ليس عليهنّ عدّة.
ثمّ قال : وما
احتجّ به ابن سماعة فإنّما قال الله : ان ارتبتم ، وانّما فعل ذلك إذا وقعت
الرّيبة بأن قد يئسن أو لم يئسن فأمّا إذا جازت الحدّ وارتفع الشك فإنّها قد يئست
، أو لم تكن الجارية بلغت الحدّ فليس عليهن عدّة. انتهى كلامه رفع الله
__________________
مقامه وهو موافق لما يذهب اليه وكفى بمثله مرجّحا.
(وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ) من المطلقات كما يقتضيه سياق الكلام ، فإنّه في عدد
المطلقات سابقا ولا حقا (أَجَلُهُنَّ) تنتهي عدّتهنّ (أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ) فمتى وضعت بعد الطّلاق خرجت من العدّة وعلى هذا يدخل
المتوفّى عنها لو تقدّم الوضع فيها على المدّة المتربّص فيها بإجماع علمائنا.
وقال العلّامة
: انّ الحامل المتوفّى عنها زوجها داخلة في الآية نظرا الى عموم اللّفظ للمطلّقات
والمتوفّى عنهنّ فيعمل بعمومه حتّى نقل عن جماعة منهم خروج عدّة الوفاة بوضع الحمل
وان كان الزّوج بعد على المغتسل.
قال القاضي :
والمحافظة على عمومه أولى من محافظة عموم قوله (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) الآية لأنّ عموم أولات الأحمال بالذات وعموم أزواجا
بالعرض والحكم معلّل هنا بخلاف ثمّة ولانّه صحّ انّ سبيعة بنت الحارث وضعت بعد
وفاة زوجها بليالي فذكرت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : قد حللت فتزوّجي. ولأنّه متأخّر النّزول فتقديمه
تخصيص وتقديم الآخر بناء للعامّ على الخاصّ والأوّل راجح للوفاق عليه.
قلت : في كلّ
الوجوه نظر :
امّا الأوّل
فلانّ معنى قوله (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الى آخره انّ كلّ زوجة يتوفّى عنها زوجها فعدّتها كذا
ودخول الزّوجة الحامل المتوفّى عنها في ذلك ممّا لا يرتاب فيه بخلاف دخولها في
أولات الأحمال خصوصا بعد ملاحظة كون سياق الآية يقتضي كونها في المطلقات لكون ما
قبلها وما بعدها كذلك ، ومثل هذا مرجّح للمحافظة على عموم والذين يتوفّون الآية ،
دون عموم وأولات الأحمال ، وكون العموم بالذات أو العرض لا يظهر له كثير أثر بعد
فهم العموم على حدّ سواء فتأمّل.
وامّا الثّاني
فلان علّة الحكم هنا بالنّصّ وهو ظاهر واستنباط العلّة منه لا اعتبار به ، على انّ
الظّاهر انّ أمر العدّة تعبّديّ غير معلوم الوجه كالكفّارات والتعزيرات وان ترتّب
عليه في بعض الأوقات براءة الرّحم ومن ثمّ تجب العدّة
على الصغيرة المتوفّى عنها وان كانت رضيعة أو زوجها رضيعا.
وامّا الثّالث
أعنى الخبر فلا حجيّة فيه لعدم ظهور صحّته عندنا.
وامّا الرّابع
فالفرق بين البناء والتّخصيص غير نافع هنا وقد تظافرت أخبار أصحابنا بأنّ عدّة
المطلقة إذا كانت حاملا وضع الحمل وسيجيء بيان الاعتداد بأبعد الأجلين في المتوفّى
عنها إذا انتهينا اليه ان شاء الله. ومقتضى ما ذكرناه انّ منتهى عدّة المطلقة
الحامل وضع الحمل وان تأخّر عن الأشهر الثلاثة أو تقدّم عليه وعلى هذا أكثر
أصحابنا وهو المشهور فيما بينهم نظرا الى ظاهر الآية والأخبار الدّالة عليه.
وقال ابن
بابويه : انّ المطلقة الحامل عدّتها أقرب الأجلين ومعنى ذلك
انّها ان مرّت بها ثلاثة أشهر فقد انقضت عدّتها ولا تحلّ للأزواج حتّى تضع ما في
بطنها وان وضعت الحمل بعد طلاقه بلا فصل بانت منه وحلّت للأزواج. ولا يخفى ما في
هذا القول من البعد ومخالفة ظاهر الآية وما ورد به من الأخبار محمول على ضرب من
التّأويل جمعا بين الأدلّة.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بملاحظة أحكامه واتّباع أوامره ونواهيه فيراعي حقوقها.
(يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْراً) اي يسهل عليه أمور الدّنيا والآخرة امّا بفرج عاجل أو
آجل.
السادسة :
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ) الضّمير عائد إلى المطلقات كما يشعر به الايات السّابقة
ومقتضاه وجوب الإسكان لجميعهنّ لكنّ أصحابنا خصّصوا الحكم بالمطلّقة رجعيّة لأنّها
في حكم الزّوجة وقد تظافرت أخبارهم بذلك وانعقد إجماعهم عليه
__________________
مع أنّ الأصل يوافقه وإيجاب الإسكان لها يقتضي إيجاب النّفقة فإنّها تابعة
لها بل أولى لكثرة الاحتياج إليها ومن ثمّ لم يجب السّكنى للحامل المتوفّى عنها
زوجها وان قلنا بثبوت النّفقة لها على احتمال لعدم النّصّ وبطلان القياس.
وبظاهر الآية
أخذ أبو حنيفة والشّافعيّ ومالك واتّفقوا على وجوب الإسكان في كلّ مطلّقة وان كان
الطّلاق باينا وزاد الحنفيّة الإنفاق لهنّ مطلقا وخصّ الشّافعيّ ومالك الإنفاق على
الحامل كما اقتضته الآية بعد ويؤيّد قول الأصحاب ما رواه العامّة عن فاطمة بنت قيس
انّ زوجها أبتّ طلاقها فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا سكنى لك ولا نفقة ومن هنا تبعيضيّة مبعّضها محذوف
تقديره اسكنوهن مكانا بعض مكان من سكناكم وقوله تعالى.
(مِنْ وُجْدِكُمْ) عطف بيان لقوله من حيث سكنتم وتفسير له كأنّه قيل
اسكنوهن مكانا من مساكنكم ممّا تطيقونه وتقدرون على تحصيله بسهولة لا بمشقّة ومن
ثمّ قال قتادة : ان لم يكن له إلّا بيت واحد فأسكنها؟؟؟ في بعض جوانبه والوجد
الوسع والطّاقة وروى بالحركات الثّلاث.
(وَلا تُضآرُّوهُنَّ) ولا تستعملوا معهنّ الضّرار ، والمضارّة معاملة بما
يطلب به إيقاع الضّرر بصاحبه وهي قد تكون من واحد كما يكون من اثنين نحو عافاه
الله ونحوه.
__________________
(لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ) في المسكن ببعض الأسباب كان ينزلوا معهنّ من لا يوافقهن
أو يشغل مكانهنّ فلا يمكنهنّ السّكون أو بالتّقصير في النّفقة أو غير ذلك من
الأسباب.
وروى الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لا يضارّ الرّجل امرأته إذا طلّقها فيضيق عليها
حتّى تنتقل قبل ان ينقضي عدّتها فانّ الله عزوجل قد نهى عن ذلك فقال (لا تُضآرُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ). ونحوه روى أبو بصير عنه عليهالسلام.
(وَإِنْ كُنَّ) المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) سواء كان طلاقهنّ رجعيّا أو بائنا ومنطوق الكلام اقتضى
وجوب النّفقة للحامل المطلقة رجعيّا كان الطّلاق أو بائنا ومفهومه عدم وجوب
النّفقة لغير الحامل من المطلقات وهو حجّة لانّه مفهوم الشّرط لكنّه مخصوص
بالرّجعيّة لإجماعنا على وجوب الإنفاق عليها وان كانت حائلا لأنّها في حكم الزّوجة
على ما تقدّم.
والسّكنى هنا
تابعة للنّفقة بإجماعنا وفي أخبارنا دلالة عليه ووافقنا الشافعيّة في اختصاص
النّفقة بالحامل من بين المطلقات وان خالفونا في حكم الرّجعيّة ، والحنفيّة لمّا
أوجبوا الإنفاق لكلّ مطلّقة أشكل عليهم مفهوم الشّرط.
قال في الكشاف : «ان قلت : إذا كان كلّ مطلّقة عندكم يجب لها الإنفاق
__________________
فما فايدة الشّرط في قوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ). قلت : فائدته انّ مدة الحمل ربّما طال وقتها فظنّ ظانّ
انّ النّفقة تسقط إذا مضى مقدار عدّة الحائل فنفي ذلك الوهم.
ولا يخفى ما
فيه من التّكلّف البعيد مع أنّ الأصل يوجب العدم لما عدا الحامل فإنّه إلزام
وتكليف يتوقّف على الدّليل الواضح.
هذا وقد اختلف
أصحابنا في كون نفقة الحامل المطلقة لها نفسها أو للحمل ذهب الى كلّ جماعة وذكروا
فايدة الخلاف في كتب الفروع والأولى السّكوت عمّا سكت الله عنه والاقتصار على ظاهر
القرآن من وجوب النّفقة للحامل المطلقة وقطع النّظر عن كونها للحمل أولها نفسها ،
ولهذه المسئلة نظائر ربّما يجيء على بعضها ان شاء الله تعالى.
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ) بعد انقطاع علقة النّكاح بالطّلاق وهو الظّاهر ويحتمل
بعيدا العموم.
(فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) على الإرضاع وفيه دلالة على عدم وجوب الإرضاع على الامّ
وانّها لو أرضعت وجب لها الأجرة أي أجرة المثل ولا فرق في ذلك عند أكثر أصحابنا
بين حال الزّوجيّة وعدمها وفي الأخبار دلالة عليه ومنع الشّيخ في الخلاف من الأجرة
حال الزّوجيّة وهو قول الحنفيّة وقد تقدّم الكلام فيه وعلى القول بكون النّفقة
للولد بوجوب الأجرة على الأب يكون مشروطا بفقر الولد وغنى الأب فلو كان للولد مال
وجب ان يعطى الأمّ الأجرة منه.
ولا ينافيه
ظاهر الآية فإنّها اقتضت دفع الأب الأجرة وذلك لا يستلزم كونها من ماله ، فإنّه لو
كان المال من الولد يجب على الأب إعطاؤها منه أيضا لأنّه وليّه
__________________
الإجباري.
ولو كان الولد
فقيرا وكان الأب أيضا كذلك فالظّاهر وجوب الإرضاع على الامّ بلا اجرة كما يجب
عليها الإنفاق عليه لو كان الأب معسرا فإن الإرضاع إنفاق والأظهر اشتراط غنائها عن
اجرة الإرضاع فلو كانت بحيث لا وجه لمعاشها سواه قدمت على الولد فانّ النّفس
مقدّمة على واجب النّفقة بالإجماع وحينئذ فيكون الأجرة من بيت المال لانّ ذلك من
المصالح فتأمّل.
(وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) في الخلاف الايتمار بمعنى التّآمر كالاشتوار بمعنى
التّشاور يقال : ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضا والمعنى وليأمر بعضكم
بعضا ونحوه قال القاضي ونقل في مجمع البيان قولا بانّ معناه قبول الأمر وملاقاته
بالتّقبّل من الله تعالى. وقال الكسائي : أصله التّشاور ومنه يأتمرون بك اي
يتشاورون.
قال في المجمع : والأقوى عندي ان يكون المعنى وأمروا بالمعروف بينكم
في أمر الولد ومراعاة أمّه حتّى لا تفوت الولد شفقتها وغير ذلك ويدلّ عليه قول
امرئ القيس : «ويعدوا على الامّ ما يأتمر» يعني بما تريد نفسه لانّ
الرّجل ربّما دبّر أمرا ليس برشد فيغدوا عليه ويهلكه انتهى.
وهو بعيد
والأولى حمله على الوجه الأوّل وبه صرّح الشّيخ في التّبيان والمراد بالمعروف كونه على الوجه الجميل في إرضاع الولد
بحيث لا يضرّ بمال الولد ولا بنفس الولد فلا يزاد على اجرة المثل ولا ينقص الولد
عن الرّضاع المعتاد.
(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) تضايقتم فيما بينكم ولم يرض أحدكم بما قاله الأخر.
(فَسَتُرْضِعُ لَهُ
أُخْرى) فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الامّ ترضعه وفيه طرف
__________________
من معاتبة الامّ على المعاشرة فانّ المساهلة من جانبها أنسب لأنّها أشفق
عليه بالنسبة إلى الأب ، ولانّه لا ينقص منها شيء بالحقيقة بخلاف الأب فإنّه يخرج
الأجرة من ماله وان كان من مال الولد على ما مرّ ، ولانّه ولدها فلو فرض النّقص من
الأجرة لم يكن ضائعا.
وقد يستفاد من
الآية عدم جواز إرضاع غيرها لو لم يحصل التّعاسر من جانبها ورضيت بما رضى به الغير
على ما قاله الأصحاب ، وجواز إرضاع غيرها لو حصل التّعاسر منها وعدم قبولها بما
يقبل الغير ، وعلى هذا أصحابنا أيضا وفي الأخبار دلالة عليه .
(لِيُنْفِقْ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق على المطلقة بل إلى الإنفاق مطلقا
بالنسبة الى من يجب نفقته.
(ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ) اى بحسب حاله في السّعة والغنى مأكلا ومشربا وملبسا
ومسكنا ولا يخرج عن ذلك الى طرفي الإسراف والتّقتير إذ هما منهيّ عنهما.
(وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ) اى ضيّق عليه وهو الفقير الذي ليس في سعة وغنى.
(فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتاهُ اللهُ) اي قدر حاله وطاقته من البلغة ولا يكلّف بالزّائد عليه
كالأغنياء فإنّه تعالى لم يعطه زائدا على ما عنده فلا يكلّفه الزّائد عليه كما
أشار إليه بقوله :
(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها) من القدرة والطاقة وهو أوضح دليل على انّ التكليف بما
يشقّ لا يقع منه تعالى ، فضلا عن التكليف بالمحال مع انّ العقل يحكم به ضرورة.
(سَيَجْعَلُ اللهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) اي بعد ضيق سعة وبعد فقر غنى أو بعد صعوبة الأمر سهولة
وهو تطييب لقلوب الفقراء بل لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا ،
ويمكن جعله على العموم بالنّسبة الى من يجب نفقتهم عليهم ووعد
__________________
لهم بحصول العوض وتبديل العسر باليسر امّا في الدّنيا أو في الآخرة على
سبيل منع الخلوّ فإنّ رحمة الله أوسع من ذلك.
السابعة :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) أراد بالنّكاح هنا العقد وهو امارة كونه حقيقة فيه
ولعلّ في قصر الحكم على المؤمنات إشعارا بعدم جواز نكاح الكافرات كما سلف أو تنبيها
على أنّ شأن المؤمن أن لا ينكح غير المؤمنة.
(ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) اي تجامعوهنّ كما هو الظّاهر المتبادر من لفظ المسيس.
(فَما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها من عددت الدّراهم فاعتدّها كقولك كلته
فاكتال ، ويحتمل تعدّونها والإسناد إليهم للدّلالة على ان العدّة حق الأزواج كما
أشعر به (فَما لَكُمْ) والتّعبير يتم للدّلالة على عدم تفاوت الحكم بين أن
يطلّقها وهي قريبة العهد من النّكاح وبين أن يبعد عهدها ويتراخى بها المدّة في
حبالة الزّوج ثمّ يطلّقها ، وفي تعليق عدم العدّة على عدم المسيس دلالة ظاهرة على
أنّ الخلوة بمجرّدها لا توجب العدّة كما قاله أصحابنا وتبعهم الشّافعية وقال أبو
حنيفة : حكم الخلوة الصّحيحة حكم المساس في وجوب العدّة وهو خلاف ظاهر القرآن.
(فَمَتِّعُوهُنَّ) ظاهره الأمر بالمتعة على الإطلاق وقد تقدّم ما يدلّ على
الوجوب في المفوّضة غير المفروض لها مهرا امّا المفروضة فلها نصف المهر المفروض
على تقدير عدم الدّخول فيمكن حمل الإطلاق عليه ، ويمكن حمل الأمر على الرجحان
المطلق فيكون مع عدم التّسمية واجبة ومع التّسمية مستحبّة بل يستحبّ في جميع المطلقات
وان دخل بهنّ على ما مرّت الإشارة إليه.
__________________
(وَسَرِّحُوهُنَّ) اي أخرجوهن من منازلكم لعدم حقّ لكم عليهنّ.
(سَراحاً جَمِيلاً) من غير ضرار ولا منع حقّ واجب من متعة ومهر وغيرهما ومن
فسّره بالطّلاق فقد أبعد لأنّه مرتّب عليه كالمتعة.
الثامنة :
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) جمع زوج بمعنى الزّوجة (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ) اي يحبسنّها للعدّة (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً) خبر عن الذين على حذف المضاف أي أزواج الذين يتوفّون
الى آخره ، أو انّ العائد في الخبر محذوف اي يتربّصن بعدهم كقولك : السّمن منوان
بدرهم ، أو أنّ التّقدير يتربّصن أزواجهم فلا حاجة الى تقدير العائد. وقوله عشرا
بالتّأنيث تغليبا للّيالي على الأيّام إذا اجتمعت في التاريخ.
وفي الكشاف :
ولا تراهم قطّ يستعملون التّذكير فيه ذاهبين إلى الأيّام تقول : صمت عشرا ولو ذكّرت خرجت من
كلامهم قال : ومن البيّن قوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا عَشْراً) ثمّ قوله (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا يَوْماً) وقيل في سبب التّغليب انّ مبدأ الشّهر من اللّيل
والأوائل أقوى من الثّواني ، وأيضا هذه الأيّام أيّام الحزن وأيام المكروه فخليق
بأن تسمّى ليالي والخبر بمعنى الأمر كما مرّ غير مرّة.
ومقتضى الآية
وجوب التّربّص المدّة المذكورة على كلّ من توفّى عنها
__________________
زوجها سواء كانت مدخولا بها أو صغيرة أو كبيرة حتّى لو كانت رضيعة أو كان
زوجها المتوفّى عنها رضيعا كانت كذلك حرّة أو أمة لعموم اللّفظ فالتّخصيص يحتاج
الى دليل.
قال القاضي : عموم اللّفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابيّة فيه كما
قاله الشّافعيّ والحرّة والأمة كما قاله الأصمّ والحامل وغيرها لكنّ القياس اقتضى
تنصيف المدّة للأمة والإجماع خصّ الحامل عنه بقوله : وأولات الأحمال أجلهنّ أن
يضعن حملهنّ. ثم قال : وعن عليّ عليهالسلام وعن ابن عبّاس أنّها تعتدّ بأقصى الأجلين احتياطا.
قلت : الحكم
بتساوي المسلمة والكتابيّة فيه ممّا لا شبهة تعتريه ، امّا الحكم بتساوي الحرّة
والأمة كما قاله الأصمّ فعليه أكثر أصحابنا نظرا الى ظاهر عموم الآية ويؤيّده
الأخبار المعتبرة الاسناد الدّالة على أنّ الحرّة والأمة سواء في
الاعتداد من الموت كصحيحة زرارة عن الباقر عليهالسلام قال : انّ الحرّة والأمة كلتيهما إذا مات عنها زوجها
سواء في العدّة إلّا انّ الحرّة تحدّ والأمة لا تحدّ ونحوها من الأخبار.
__________________
وذهب بعض
أصحابنا إلى تنصيف المدّة فيها كما ذهب إليه الشّافعيّ فأوجب عليها شهرين وخمسة
أيّام لا لما ذكره الشّافعيّ من القياس فإنّه باطل عندنا وعلى القول بصحّته فلا
وجه لجريانه هنا لما عرفت من أنّ أمر العدّة تعبّد لا يجري فيه القياس كالكفّارات
سلّمنا العلّة لكنّها من المستنبطة ، وتخصيص القرآن العظيم بمثلها مرغوب عنه بين
محقّقي الأصول من العامّة بل لورود أخبار معتبرة الاسناد عن أئمّة الهدى عليهمالسلام بذلك :
روى محمّد بن
مسلم في الصّحيح عن الباقر عليهالسلام قال : الأمة إذا توفّي عنها زوجها فعدّتها شهران وخمسة
أيّام ونحوها من الاخبار منضمّا الى ما دلّ على ان الرّقيّة مناط التّنصيف وذلك
يوجب تخصيص الآية بها جمعا بين الأدلّة.
وأجابوا عن
الأخبار الأول بحملها على أمّ الولد فإنّها تساوي الحرّة في العدّة كما تدل عليه
صحيحة سليمان بن خالد قال : سئلت أبا عبد الله عليهالسلام عن
__________________
الأمة إذا طلّقت ما عدتها؟ ـ قال : حيضتان أو شهران قلت : فإن توفّي عنها
زوجها؟ ـ قال : ان عليّا عليهالسلام قال في أمهات الأولاد : لا يتزوجن حتى يعتددن أربعة
أشهر وعشرا وهن إماء. والى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته واختاره العلامة
وأكثر الأصحاب وحاصله الفرق بين كون الأمة ذات ولد وغير ذات ولد والتحقيق ان العمل
بظاهر الآية قوى ، وتعارض الأخبار يوجب التساقط ، وظاهر الشيخ في التبيان الميل اليه واما ما ذكره القاضي من الإجماع علي تخصيص
الحامل عنها بقوله : وأولات الأحمال الى آخره فغير معلوم بل ولا مظنون ، وأي إجماع
ثبت عندهم مع مخالفة مثل أمير المؤمنين علي عليهالسلام وابن عباس وجماعة من الصحابة ، وقد عرفت أن آية أولات
الأحمال ظاهرة في المطلقات لدلالة السياق على ذلك.
فان قيل : إذا
كانت هذه الآية في المطلقات فما وجه الحكم بما تقولونه معاشر الإمامية من كون عدة
المتوفى عنها الحامل أبعد الأجلين من الوضع والمدة؟ ـ قلنا : نحن نثبت ذلك بدليل
من خارج فإن الأحكام ليست بتمامها معلومة من القرآن بل السنة قد بينت كثيرا منها
وفيما نحن فيه قد تظافرت أخبارنا به .
روى الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام انه قال : المتوفى عنها زوجها
__________________
تتقضى عدتها بآخر الأجلين ونحوها من الاخبار ، على انا إذا قلنا بعموم
أولات الأحمال للمطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن فلنا ان نثبت أبعد الأجلين في
الحامل باعتبار ان المتوفى عنها مطلقا قد دخلت تحت عامين ولا وجه للجمع بينهما إلا
بذلك فإنها إذا كانت حاملا ووضعت قبل مضى الأشهر لم يكن بدا من الأشهر والا لم نكن
عاملين بآيتها ، ولو تقدمت الأشهر على الوضع لم يكن بد من وضع الحمل وإلا لم نكن
عاملين بآية والّذين يتوفون الآية وعلى ما قلناه يكون عاملين بالآيتين معا فيتم ما
قاله أصحابنا.
واعلم ان
أصحابنا أجمع على ان وجوب العدة على المتوفى عنها من حين بلوغ الخبر وهو قول
الشافعي في الجديد وذهب أكثر العامة إلى ان العدة من حين الموت فلو انقضت المدة أو
أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب ان تعتد بما انقضى قالوا : ويدل عليه ان
الصغيرة الّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها هذه المدة وفيه نظر.
وقد يكون في
قوله (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ) دلالة على ما قلناه إذ المراد به حبس أنفسهن للاعتداد
تلك المدة وهو لا يتحقق بدون وصول الخبر ولوجوب الحداد عليها اي ترك الزينة في
جميع تلك المدة لأجل موت الزوج وهو انما يكون بعد العلم وذلك ظاهر وفي الأخبار
دلالة عليه أيضا كما ان فيها دلالة على ان المطلقة تعتبر حساب
عدتها من حين وقوع الطلاق لا بلوغ الخبر والى هذا يذهب الأكثر وقيل : يشتركان في
الاعتداد من حين بلوغ الخبر وبه روايات أيضا إلا ان الأصحاب حكموا بشذوذها وندرتها
ولم يعملوا عليها.
واستدل العلامة
على الأول بظاهر قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
__________________
ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ)
قال : دل
بمفهومه على ان ابتداء التربص من حين الطلاق لانه وصف صالح للعلية علق عليه الحكم
ظاهرا وعقب بالفاء الدالّة على السببية فتثبت العلية.
وفي الاستدلال
بها نظر فإنها إلى الدلالة على الاعتداد من حين بلوغ الخبر أقرب إذ الظاهر من قوله
(يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ) حمل أنفسهن وحبسها على التربص وذلك انما يكون مع العلم
كما عرفت والاولى عدم التعرض للاستدلال بالاية والاكتفاء بالأخبار ، فإنها تدل على
ان ظاهر الآية غير مراد وان العدة في المطلقة من حين وقوع الطلاق فتأمل.
(فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ) اى انقضت عدتهن (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أيها الحكام أو المسلمون جميعا.
(فِيما فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَّ) من التّعرّض للخطاب وارادة التّزويج وسائر ما حرم
عليهنّ للعدّة (بِالْمَعْرُوفِ) اى بالوجه الّذي لا ينكره الشّرع فيفهم انّهن لو فعلن
ما هو منكر شرعا كان على الحكّام بل على آحاد المسلمين الّذين يقدرون على المنع أن
يمنعوهنّ من باب الحسبة الشّرعيّة والأمر بالمعروف فان قصّروا في ذلك كان عليهم
الجناح والإثم.
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم على أعمالكم وفيه ترغيب وترهيب كما وقع
التّعقيب به في أكثر الأحكام بعثا على الاهتمام بإقامة حدود الله قال في المجمع : وهذه الآية ناسخة لقوله : والّذين يتوفّون منكم
ويذرون أزواجا وصيّة لأزواجهم متاعا الى الحول غير إخراج الآية وان كانت متقدّمة عليها
في التّلاوة وقال عند ذكر تلك الآية : اتّفق العلماء على أنّ هذه الآية منسوخة.
وروى عن أبي
عبد الله عليهالسلام أنّه قال : كان الرّجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب
المال حولا ثمّ أخرجت بلا ميراث ثمّ نسخها آية الرّبع والثّمن فالمرأة ينفق عليها
من نصيبها قال : وعنه عليهالسلام : نسختها يتربّصن بأنفسهن أربعة أشهر
__________________
وعشرا ، ونسختها آية المواريث يعني أن الآية الّتي نحن فيها نسخت المدّة
اعنى الحول وآية المواريث نسخت الوصيّة بالنّفقة.
وليس المراد
بعدم النّفقة لها في أيّام العدّة ثبوت ذلك على الإطلاق بل إذا كانت حائلا امّا لو
كانت حاملا فانّ المشهور بين علمائنا ثبوت الإنفاق عليها لكن من نصيب ولدها الّذي
في بطنها وأنكره ابن إدريس وحكم بعدم وجوب الإنفاق عليها نظرا الى أنّ الإنفاق حكم
شرعيّ يحتاج الى دليل والأصل العدم ، وفي الاخبار ما يدلّ على المشهور وتحقيقه يعلم من خارج ، امّا السّكنى لها فقد أثبتها
الشافعي مدة الأربعة أشهر وعشرا ونفاها أصحابنا وتابعهم الحنفيّة وتمام ما يتعلّق
بذلك من الاحكام يعلم من الفروع.
التاسعة :
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) اى الطّلاق الشّرعيّ تطليقة بعد تطليقة على التّفريق لا
الجمع والإرسال فالمراد بالمرّتين مجرّد التّكرير والوقوع مرّة بعد اخرى نحو ارجع
البصر كرّتين اى كرّة بعد كرّة لا كرّتين اثنتين ومثله الثّنائي الّذي يراد به
مجرّد التّكرير نحو قولهم لبّيك وسعديك وأخواتهما ولفظ الكلام خبر لكنّه
__________________
في معنى الأمر أي طلّقوا دفعتين.
(فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تخيير للأزواج بعد أن علّمهم كيف يطلّقون بين أن يمسكوا
النّساء بحسن العشرة والقيام بحقهنّ الواجب عليهم وبين أن يسرّحوهنّ السّراح
الجميل الّذي علمهم إيّاه من كونه غير مشتمل على إضرار ويحتمل أن يكون حكما مبتدء
لبيان حال الزّوجية من الإمساك وعدمه كما احتمله القاضي.
وعلى هذا ففي
الآية دلالة على اشتراط وقوع الطّلاق مفصّلا بان يطلّق ثمّ يراجع ثمّ يطلّق اخرى
ان شاء وهكذا ولا يجوز الجمع بين طلقتين أو ثلاث على الإرسال في كلام واحد كأن
يقول : هي طالق طلقتين أو ثلاثا ، أو طالق وطالق وطالق أو يكرّر وهي طالق وعلى هذا
أصحابنا أجمع ووافقهم الحنفيّة وفي وقوع الواحدة على ذلك التّقدير خلاف بينهم
وتفصيله يعلم من خارج وحينئذ فتكون الطّلقة الثّالثة مستفادة من قوله : فان طلّقها
فلا تحلّ له الى آخره كما سيجيء.
قال ابن إدريس
: وهذا مذهبنا ولا يستفاد من الآية على هذا الوجه اعتبار تفريق الطّلقات على
الاطهار بمعنى أن يوقع كلّ طلقة في طهر غير طهر المواقعة إذ ليس فيها على هذا
الوجه إلّا نفي الإرسال امّا كون التّطليق الثّاني في طهر غير طهر المواقعة وغير
طهر التّطليق الأوّل فلا.
ومن ثمّ ذهب
أكثر أصحابنا إلى جواز وقوع الطلقات الثّلاث في طهر واحد بل في مجلس واحد مع تخلّل
الرّجعة بين التّطليقات لا بدونه.
واستدلّ
الشّافعيّ على جواز إرسال الثّلاث بحديث العجلانىّ الّذي لاعن
امرأته فطلّقها ثلاثا بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله فلم ينكر عليه وهو عن الدّلالة بمعزل إذ لم يثبت في متن
الخبر ما يدلّ على انّ وقوع الثّلاث كان بطريق الإرسال
__________________
وجاز أن يكون مع الفاصلة بالرّجعة ولو في مجلس واحد كما أشرنا اليه على انّ
في الجمع بين الملاعنة والطّلاق تأمّلا.
ويحتمل أن يكون
معنى الآية : الطّلاق الرّجعيّ الّذي ثبتت فيه الرّجعة مرّتان وذلك أنّ الرّجل في
الجاهليّة كان يطلّق امرأته ثمّ يراجعها قبل ان تنقضي عدّتها ولو طلّقها ألف مرّة
كانت القدرة على المراجعة ثابتة له فجائت امرأة إلى عائشة فشكت أنّ زوجها يطلّقها
ويراجعها يضارّها بذلك فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآله فنزلت.
فعلى هذا الآية
متعلّقة بما قبلها والمعنى انّ الطّلاق الّذي يملك الرّجعة فيه مرّتان إذ لا رجعة
بعد الثّالثة فإمساك بمعروف اى بالرّجعة الثّانية على الوجه الّذي لا ينكر في
الشّرع أو تسريح بإحسان بأن يطلّقها الثّالثة فتبين منه ويؤيده. ما روى انّه سئل صلىاللهعليهوآله اين الثّالثة؟ ـ فقال صلىاللهعليهوآله : أو تسريح بإحسان. أو بأن لا يراجعها حتّى تبين
بالعدّة وليس في أصحابنا من يذهب الى هذا الوجه بل الذّاهب إليه الشّافعيّة
المجوّزين للجمع بين الطلقات الثّلاث :
قالوا : لانّه
تعالى بيّن في الآية الاولى أنّ حقّ الزّوجة ثابت للزّوج ولم يذكر أنّ ذلك الحقّ
ثابت دائما أو الى غاية معيّنة فكان ذلك كالمجمل والعامّ فيفتقر الى مبيّن فذكر
عقيبه أنّ الطّلاق المعهود السّابق الّذي يثبت فيه للزّوج حقّ الرّجعة هو ان يوجد
طلقتان فقط ، فإذا وصلت التّطليقة الى هذه الغاية بطل حقّ الرّجعة.
والطّلاق بمعنى
التّطليق كالسّلام بمعنى التّسليم ويؤيّد الأوّل انّه الظاهر من الآية إذ المتبادر
منه الطّلاق الشّرعيّ لا الرّجعي وسيجيء تمام تفسير الآية.
__________________
العاشرة :
(فَإِنْ طَلَّقَها) اى طلّق الزوج الزوجة الّتي طلّقها مرتين على الوجه
الأول وكذا الثّاني ويزيد فيه احتمال أن يكون تفسيرا لقوله أو تسريح بإحسان كما
قاله القاضي .
(فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ) من بعد الطّلقات الثّلاث (حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ) حتّى تتزوّج غير المطلق ومقتضى مفهوم الآية توقّف حلّها
للزّوج الأوّل مع حصول الطّلقات الثّلاث على نكاح المحلّل سواء كانت العدّة بعد
الطّلاق مستوفاة أم لا وعليه الأخبار الصّحيحة.
وقال عبد الله
بن بكير : انّ استيفاء العدّة الثّالثة يهدم التّحريم فلا يحتاج الى المحلّل استنادا
إلى رواية أسندها إلى زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام
__________________
يقول : الطّلاق الّذي يحبّه الله والّذي يطلّق فيه الفقيه وهو العدل بين
المرأة والرجل أن يطلّقها في استقبال الطّهر بشهادة شاهدين وارادة من القلب ثمّ
يتركها حتّى تمضي ثلاثة قروء فإذا رأت الدّم من أوّل قطرة من الثّالثة وهو آخر
القروء لأنّ الأقراء هي الأطهار فقد بانت منه وهي أملك بنفسها فان شاءت تزوّجت
وحلّت له فان فعل هذا بها مائة مرّة هدم ما قبله وحلّت بلا زوج الحديث.
وهو ضعيف من
وجوه : الأوّل انّ عبد الله بن بكير فطحيّ فلا يعتدّ بروايته.
الثّاني اختلاف
سند الرّواية فتارة أسندها إلى زرارة واخرى إلى رفاعة ومع ذلك نسبها الى نفسه حيث
قال لمّا سئل عنه : هذا ممّا رزقني الله من الرّأي وظاهره انّها ليست برواية وقد
قال الشيخ : انّ إسنادها إلى زرارة وقع نصرة لمذهبه الّذي أفتى به لمّا رأى أنّ
أصحابه لا يقبلون ما يقوله برأيه قال : وقد وقع منه من العدول عن اعتقاد مذهب
الحقّ إلى الفطحيّة ما هو معروف والغلط في ذلك أعظم من الغلط في اسناد وفتيا يعتقد
صحّتها لشبهة دخلت عليه الى بعض أصحاب الأئمّة عليهمالسلام.
الثالث انّها
مخالفة لظاهر الآية فيكون مردودا.
واستدلّ
بظاهرها من اكتفى بنكاح البالغة من دون الوليّ ومن جوّز للمرأة أن تعقد على نفسها
لانّه أضافه إليها ، والقول بأنّ الاسناد إليها من حيث انّ نكاح الوليّ نكاحها أو
انّها في الثّيّب والكلام في البكر لا يخفى ما فيه.
ومقتضى الآية
الاكتفاء بالعقد كما هو الظّاهر من إطلاق النّكاح وأخذ ابن المسيّب بظاهره فاكتفى
بالعقد في التّحليل والإجماع على خلافه سابقا ولا حقا أسقط اعتباره وأوجب الوطي في
القبل في التّحليل ، وفي الاخبار من الفريقين دلالة على اعتبار ذلك أيضا وهو الّذي أوجب تقييد الآية.
__________________
__________________
__________________
__________________
ويمكن ان يراد
من النّكاح هنا الوطي لوروده بمعناه في غيرها من الايات فليكن هنا كذلك ، ويؤيّده
انعقاد الإجماع على عدم الاكتفاء بالعقد ويكون العقد مستفادا من لفظ الزّوج.
__________________
وعلى هذا يعتبر
كون الزّوج الثّاني ممّا يصلح للوطي بأن يكون بالغا وعليه رواية علي بن الفضل قال : كتبت الى الرّضا عليهالسلام : رجل طلّق امرأته الطّلاق الّذي لا يحلّ له إلّا ان
تنكح زوجا غيره فتزوّجها غلام لم يحتلم قال : لا حتّى يبلغ ، الحديث ونحوها.
وإطلاق النّكاح
ينصرف إلى الدّائم لأنّه المتبادر عند الإطلاق ويؤيّده قوله : (زَوْجاً غَيْرَهُ) لظهوره فيه وكذا قوله (فَإِنْ طَلَّقَها) اى الزّوج الثّاني أي المحلل (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) اى لا اثم ولا حرج على الزّوجين (أَنْ يَتَراجَعا) اى يرجع كلّ واحد منهما الى صاحبه بعقد مستأنف بعد
انقضاء العدّة من المحلّل لمكان الوطي المعتبر.
(إِنْ ظَنَّا أَنْ
يُقِيما حُدُودَ اللهِ) المتعلّقة بالزّوجيّة من حسن الصحبة والمعاشرة وبيان
الأمور الواجبة عليهما ، والتّقييد بالظّنّ لانّ العلم مغيب عنهما لا يعلمه إلّا
الله.
ومقتضى
التّقييد عدم جواز التّراجع بدون ذلك الظّنّ سواء تيقّنا العدم أو ظنّاه أو تساوى
الطّرفان عندهما لما في ذلك من استلزام الدّخول في المحرّم فيكون حراما ويحتمل عدم
اعتبار هذا المفهوم وجواز التّراجع بدون القيد نظرا
__________________
الى انّ المفهوم انما يعتبر إذا لم يكن فايدة سواه.
ولعلّ الفائدة
في التقييد الإشارة إلى تأكيد حسن المعاشرة وعدم الخروج عن الطاعة إذ يرجعان إلى
المفارقة على تقدير عدم ذلك فلا يترتب الأثر على الزوجية وكيف كان فلا ينبغي الريب
في صحة العقد إذ نهاية ذلك انه فعل حراما والنهي في غير العبادة لا يوجب البطلان
ولو قلنا بعدم اعتبار المفهوم فلا ريب في الصحة.
واستدلّ بعض
العامّة بظاهر الآية على حصول التحلل للزوج الأول بمجرد التراجع عقيب ما يطلقها
الزوج الثاني من غير عدة بدلالة فاء التعقيب وفيه نظر فان الآية مخصوصة بقوله :
والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية حيث دلّت على وجوب التربص مطلقا.
هذا وقد اختلف
في النكاح بشرط التحليل فجوّزه أبو حنيفة وحكم بصحته على كراهية وقيل : لا يصح
العقد ولا الشرط فلا تحلّ للأول ولا للثاني وعلى هذا أصحابنا والشافعية لأنّ الشرط
مناف لمقتضى العقد إذ مقتضاه صحة بقاء الزوجية وعدم وجوب الطلاق فيكون بمثابة
اشتراط العدم ولان عقد النكاح لا يبطل مع صحته من دون طلاق أو فسخ فيكون الشرط
باطلا وهو يستلزم بطلان المشروط.
وقد يستدل لأبي
حنيفة بعموم الآية وفيه بعد لظهور ان المراد من قوله : حتى تنكح زوجا غيره العقد
الصحيح المتلقى من الشارع وغير معلوم انه مع الشرط كذلك بل قيل ان الاستدلال
بعمومات العقود لا يمكن إلّا بعد تحقق شرائطها.
وقد ظهر من ذلك
انهما لو كان في خاطرهما ذلك ناويين له من غير ان يتلفظ به لم يضر في النكاح فان
الظاهر من الشارع ان تعلق الاحكام على العقود الظاهرة وخطور التحليل في البال لا
دخل له بل الظاهر انه قليلا ما ينفك عن القصد.
وما نقل عنه صلىاللهعليهوآله انه لعن المحلل والمحلل له فالظاهر انه المحلل المشترط
__________________
التحليل في العقد إذ لا شك في جواز فعل ذلك بدون النية كما لو وقع اتفاقا
إذ مع النية على ما عرفت. وذهب مالك وجماعة من العامّة إلى بطلان النكاح على تقدير
أن يكون في خاطرهما ذلك وهو بعيد.
(تِلْكَ) إشارة إلى الأمور المذكورة الّتي بيّنها في النكاح
والطلاق والرجعة.
(حُدُودَ اللهِ) أوامره ونواهيه (يُبَيِّنُها) يذكرها مبينة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يفهمون ويعملون بمقتضى العلم لا من لا يعمل بمقتضاه
بمثابة غير العالم لعدم انتفاعه بعلمه ، وهذا هو الوجه في تخصيص العالمين مع ان
الاحكام ثابتة للجميع ويجوز أن يكون الوجه في تخصيصهم انّهم الرؤساء فاكتفى بهم أو
تشريفا لهم أو أنّ المراد من يصحّ منه العلم فيدخل الجميع وفيه ما فيه.
__________________
الثاني
في الخلع والمبارأة
وفيه آية واحدة
وهي قوله (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) اى من الصّدقات (شَيْئاً) ولو كان قليلا والخطاب فيه يحتمل ان يكون للحكّام نظرا
الى انّ الأخذ والإعطاء بأمرهم وصحّ إسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنّهم السّبب
القوىّ والمعنى لا يحلّ لكم ايّها الحكّام أن تأمروا بأخذ شيء ممّا حكمتم على
الأزواج بإعطائه أوّلا من المهور المدفوعة إليهنّ.
(إِلَّا أَنْ يَخافا) اى الزّوجان (أَلَّا يُقِيما
حُدُودَ اللهِ) مفعول يخافا بنزع الخافض اى من ترك اقامة حدوده فيما
يلزمها من مواجب الزّوجيّة أو غيرها ، قيل : نزلت في ثابت بن قيس كانت زوجته تبغضه وهو يحبّها فأتت رسول الله صلىاللهعليهوآله وقالت : لا أنا ولا ثابت ولا يجمع رأسي ورأسه شيء ،
والله ما أعيبه في دين ولا في خلق ولكنّي أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا
فاختلعت منه بحديقة أصدقها ايّاها. ويحتمل أن يكون الخطاب للأزواج وما بعد ذلك
خطاب للحكّام وفيه شيء من جهة تشويش النّظم على القراءة المشهورة. والمراد بخوفهما
عدم اقامة الحدود ، ظنّهما ذلك.
ويؤيّده قراءة
من قرأ يظنّا وذلك بأن يظنّ من المرأة النّشوز والخروج
__________________
عن الطّاعة إذ تقول لا أغسل لك رأسي من جنابة على ما دلّت عليه الأخبار المعتبرة الإسناد كصحيحة الحلبي عن الصّادق عليهالسلام قال : لا يحلّ خلعها حتّى تقول لزوجها : والله لا أبرّ
لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا اغتسل لك من جنابة ولأوطئنّ فراشك الحديث ونحوه من
الأخبار.
(فَإِنْ خِفْتُمْ) ايّها الحكّام (أَلَّا يُقِيما
حُدُودَ اللهِ) الأحكام المتعلّقة بالزوجية وغيرها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) نفي الجناح عن الزّوجين مع كون الخطاب للحكّام لأنّ نفي
الجناح عنهما يستلزم نفيه عنهم اى لا حرج ولا اثم على الزّوجين (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) المرأة نفسها : لا على الرّجل فيما أخذه ولا عليها في
الإعطاء.
وإطلاق
الافتداء عليه لأنّها تخلّص نفسها من تحت حكمه وكأنّها تخلص من الملكيّة أو القتل
لمكان نقصها أو عتقها أو من المعاصي والظاهر عدم اثم المرأة في إعطاء ما تخلص به
نفسها ولكن هذا لا يستلزم عدم الإثم بإظهار الكراهة والخروج عن الطّاعة.
ويمكن أن يقال
: صحّة الإعطاء مشروط بخوفها وظنّها انّها ما تقدر على ضبط نفسها في الخروج عن
الشّرع وحينئذ فلا بعد في الجواز بل الوجوب تخييرا بينه وبين التّرك ولكن لما عرفت
من نفسها عدم القدرة على التّرك تعيّن الإعطاء
__________________
عليها ، بل الظّاهر هو انّ إعطاء المال لتخليص النفس من المشقة الحاصلة بالمعاشرة
لأنه غير موافق لها طبعا وان كان موافقا لها شرعا مما لا قصور فيه هذا.
ومقتضى الآية
جواز الأخذ مع خوف اقامة الحدود من الجانبين بأن تكون الكراهة من كلّ منهما
والظاهر من الأصحاب بل الرّوايات انّ ذلك ليس بشرط في الخلع نعم هو شرط في
المبارأة عندهم إلّا أن يحمل على خوف الزوج أيضا بسبب خروج الزّوجة عن موجبات
الشرع فيخاف هو أيضا الخروج ، لكونه سببا فيه ولكنّ الظاهر ان هذا غير شرط في
الخلع عندهم.
وبالجملة
فالثابت فيما بينهم انّ شرط الخلع بغض الزّوجة وقولها ما يدلّ على عدم القيام
بحقوق الزّوجية من غير تعرّض لحال الزّوج والأخبار انّما دلّت على هذا ، فيمكن حمل
الآية على المباراة دون الخلع كما هو المشهور فإنّها إنّما ثبتت مع الكراهة من
الطّرفين لكنّ ظاهر الآية قد ينافيه لظهورها في جواز أخذ الزّائد على ما أعطاها
وهو إنّما يصح عندنا في الخلع إذ في المبارأة لا يجوز أخذ الزّائد عليه فالآية على
كلّ تقدير لا تنطبق على شيء منهما.
ويمكن حملها
على الخلع ويكون ذكر الرّجل معها لاقترانهما كقوله تعالى : (نَسِيا حُوتَهُما) وقوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وإنّما هو من الملح دون العذب فجاز للاتّساع كما حمل
قوله (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) على المرأة فقط لأنّ الفدية منها.
قال الشّيخ في
التّبيان وهذا أليق بمذهبنا لأنّ الّذي يبيح الخلع عندنا هو ما
لولاه لكانت المرأة عاصية وظاهر انّه هنا كذلك بالنّسبة إلى المرأة فيحمل عليه قول
القاضي .
«واعلم انّ
ظاهر الآية يدلّ على انّ الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق
__________________
ولا بجميع ما ساق الزّوج إليها فضلا عن الزّائد ويؤيّد ذلك قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيّما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها
رائحة الجنة وما روى من انّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لجميلة امرأة ثابت بن قيس : أتردّين عليه حديقته؟ ـ
قالت : أردّها وأزيد عليها فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : امّا الزّائد فلا ، والجمهور استنكروه ولكنّ بعّدوه
فانّ المنع عن العقد لا يدلّ على فساده وانّما يصحّ بلفظ المفاداة فإنّه سمّاه
اقتداء» انتهى.
وقد تضمّن كلامه ثلاثة أحكام :
الأوّل ـ عدم
جواز الخلع بدون الكراهة والشقاق ولعلّه أراد بعدم الجواز عدم حلّيّة ما يأخذه
بدون ذلك كما هو ظاهر الآية وكان عليه أن يبيّن كون الكراهة والشّقاق من الجانبين
أو من جانب واحد ، كما أشرنا اليه والأمر فيه سهل بعد ما بيّناه.
والثاني ـ عدم
جوازه بجميع ما ساقه إليها ويلزم منه عدم الجواز في الزّائد بطريق أولى ولكن في
دلالة الآية عليه كما ادّعاه بعد بل الظّاهر دلالتها على الزّائد فضلا عن الجميع
لعموم فيما افتدت به والأصل عدم تقييده وتخصيصه بشيء ممّا آتيتموهنّ وان سبق لعدم
ما يوجب التّخصيص.
وحديث ثابت بن
قيس لم يدلّ صريحا على عدم جواز الزّيادة إذ يجوز أن
__________________
يكون قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : امّا الزّائد فلا ، بعد قولها : وأزيد عليه ، لا لعدم
جواز الزّيادة بل لعدم الاحتياج إليها لأنّه يرضى بما دفعه أوّلا إليها فالزّيادة
غير جائزة ولا يبعد أولويّة هذا.
ولو سلّمنا انّ
المراد عدم الجواز لقلنا : انّ المنع امّا أن يقع عن الزّائد فقط أو عن الجميع
والزّائد ، وعلى كلّ تقدير يفيد عدم صلاحيّته للعوضيّة وعدم صحّة تملّكه للزّوج
كما في المنع عن بعض المعاملات مثل عدم جواز بيع المجهول والرّبا ونحو ذلك ممّا
كان المنع فيه راجعا الى أحد الطّرفين ودالا على الفساد فلا وجه للقول بانّ المنع
راجع الى العقد فلا يدلّ على فساده.
سلّمنا انّ
النّهي لا يدلّ على الفساد لكن لا يلزم دلالته على الصّحة بل لا بدّ لها من دليل
يدل عليها الا ترى ان الآية دلّت على صحّة الخلع حال خوف عدم اقامة الحدود
ومقتضاها التّحريم في غير هذه الحالة ولا يمكن أن يقال بالصحّة وان النهي لا يدل
على الفساد لعدم ما يدل على الصّحة.
وبالجملة الظّاهر
من حال الشّرع انّه لا يحكم بترتب الأحكام إلّا على ما رضى به وأجازه إلّا أن ينص
على خلافه أو يقوم دليل على الصحة في عموم ذلك الحكم فيندرج الفاسد تحته وما نحن
فيه ليس كذلك.
وهذا بحث
إلزامي له وإلا فالصحيح جوازه بالجميع والزائد عليه لظاهر الآية وتظافر الأخبار به
وعدم ظهور صحة الخبر الّذي ذكره ولو سلّم فمحمول على ما قلناه من عدم الاحتياج إلى
الزائد مع الرضا بما دفعه فقط.
الثالث ـ صحة
الخلع بلفظ المفاداة نظرا إلى انه تعالى سماه افتداء ولا يخفى بعده كيف والإيقاعات
لها عبارات متلقاة من الشارع يتوقف صحتها على إيقاعها على وجهها وأصالة العدم فيما
سواها ومجرد تسمية إعطاء الزوجة افتداء لا يقتضي ذلك فتأمل.
ثم قال القاضي
: «واختلف في انه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فهل يكون فسخ أو طلاق والأظهر انه طلاق
لانه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق المفوض» انتهى.
ولا يذهب عليك ان
هذا الاختلاف جار بين أصحابنا أيضا ولكن الأكثر منهم على انه طلاق لدلالة الأخبار
الكثيرة عليه وحينئذ فتحتسب من الطلقات الثلاث ، ولو خالعها ثلاثا احتاجت الى
المحلل ونحو ذلك من الاحكام.
وقال الشيخ :
الأولى انه فسخ لا طلاق محتجا بأنها فرقة عريت عن صريح الطلاق ونيته فكانت فسخا
كسائر الفسوخ وفيه نظر إذ لا استبعاد في عرائه عن صريح الطلاق وكونه في حكمه كما
دلّت عليه الأخبار هذا كلّه على تقدير القول بوقوعه مجردا عن لفظ الطلاق كما ذهب
إليه الأكثر ودلّت عليه بعض الأخبار المعتبرة الاسناد ولو اعتبرنا في صحة وقوعه اتباعه بالطلاق فلا كلام في
عده طلاقا.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة الى ما حد من الأحكام السابقة كالعدة والرجعة
والطلاق والخلع وأحكامها اي أوامر الله ونواهيه.
(فَلا تَعْتَدُوها) فلا تجاوزوها وتعملوا بخلافها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) ويتجاوزها بالمخالفة (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) لظلمهم أنفسهم بتعريضها لعقاب الله في الآخرة بل في
الدّنيا أيضا بالحبس والتعزير والحدود إذا كان ممّا يوجبها.
وهنا آية أخرى
قد تدلّ على حكم الخلع في الجملة وهي قوله تعالى :
(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ) تمنعوهن بعض حقوقهنّ اللازمة بالزّوجية (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما
آتَيْتُمُوهُنَّ) من المهور وهو خطاب للأزواج فقد قيل : انّ الرّجل منهم
كان يكره زوجته ويريد مفارقتها فيسيء العشرة معها ويشقّ الأمر عليها حتّى تفتدي
منه بمالها وتختلع فنهوا عن ذلك.
(إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) بالفتح على قراءة بعض اي بيّنها الله أو الشهود الأربعة
، وبالكسر على قراءة آخرين اي ظاهرة متبيّنة ، قيل : هي الزّنا ، وقيل : ما يوجب الحدّ
مطلقا ، وقيل : كلّ معصية حتّى النّشوز وشكاسة الخلق.
والمشهور انّه
استثناء من أخذ الأموال والمراد انّه لا يحلّ له ان يحبسها
__________________
ضرارا لتفتدي إلّا إذا فعلت فاحشة فحينئذ يحلّ لزوجها أن يسألها الخلع فانّ
الاستثناء من النّهي اباحة ، ولأنّها إذا زنت لم يأمن أن تلحق به ولدا من غيره
وتفسد فراشه فلا تقيم حدود الله في حقّه فيدخل في قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ففيها دلالة على جواز الخلع في الصورة المفروضة.
وقيل : انّه استثناء
من العضل نهوا عن حبسهنّ في بيوت الأولياء إلّا بعد وجود الفاحشة.
ومن هؤلاء
القائلين من زعم انّ هذا الحكم منسوخ بآية الحدود وهو بعيد إذ لا منافاة بينهما مع
أنّ الأصل عدم النّسخ وعلى المشهور فهل يختصّ جواز العضل ببذل ما وصل إليها منه من
مهر وغيره فلا يجوز الزّيادة عليه أم لا يتقيّد بذلك بل يجوز الزّيادة حتّى يرضى.
قيل : بالأوّل
حذرا من الضّرر العظيم ولما تقدّم من قوله صلىاللهعليهوآله لجميلة امرأة ثابت : أمّا الزّائد فلا. وقيل بالثّاني
نظرا إلى إطلاق الاستثناء الشّامل للزّائد وعدّ بعض الأصحاب هذا خلعا وهو غير بعيد
وللبحث فيه مجال فانّ المستثنى منه إذهاب بعض ما أعطاها فالمستثنى هو ذلك البعض
فيبقى المساوي والزّائد على أصل المنع فان خرج المساوي بدليل آخر بقي الزّائد.
وإطلاق الخلع
على مثله محلّ نظر لأنّها ليست كارهة بل مكرهة ، ولو سلّم فالكراهة غير مختصّة بها
وهي شرط الخلع وذكرها في باب الخلع لا يدلّ على انّها منه ، وبالجملة الأبحاث
السّابقة واردة هنا ، ويمكن الجواب بما تقدم فتأمّل.
الثالث الظهار
وفيه آيات :
الاولى : (الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) الظّهار ان يقول الرّجل لامرأته : أنت علىّ كظهر أمّي.
واشتقاقه امّا من الظّهر أو من الظّهور وهو الرّكوب والعلوّ ، ومعناه علوي وركوبي عليك حرام
كعلوّ أمّي.
[روى ان أول من
ظاهر في الإسلام أويس بن الصامت من زوجته خولة
__________________
بنت ثعلبة ، على اختلاف في اسمها ونسبها فأتت رسول الله فاشتكت منه ، فأنزل الله تعالى (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ، الآية].
والأصحّ عند
أصحابنا وقوعه إذا شبّه الزّوجة بغير الأمّ أيضا كالأخت والبنت وغيرهما من
المحرّمات ولو بالرّضاع واليه يذهب أبو حنيفة والشّافعي في الجديد لورود الأخبار
الصّحيحة به ، ومن منع من أصحابنا وقوعه بغير الامّ النّسبيّة نظر
الى ظاهر الآية.
ولا يخفى ما
فيه فانّ الآية لا تنفى غير الامّ فيصحّ إثباته بالأخبار الصّحيحة لا بالاية ولا
ينافيه صحيحة سيف التّمار عن الصّادق عليهالسلام قال : قلت له : الرّجل
__________________
يقول لامرأته : أنت علىّ كظهر أختي أو عمّتي أو خالتي ، فقال : انّما ذكر
الله تعالى الأمّهات وانّ هذا لحرام ، لانّ عدم ذكره لغيرهنّ لا يدلّ على
الاختصاص.
فان قيل : يلزم
من ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة أو الخطاب.
قلنا : لا يلزم
فإنّه عليهالسلام أجاب بالتّحريم ولعلّ السّائل استفاد المقصود منه إذ
ليس في السّؤال ما يدلّ على موضع الحاجة بخصوصها فيجوز ان يكون هو التّحريم ، وقد
ذكر في الجواب فتأمّل.
أمّا ما يدلّ
على عموم التّحريم في الرّضاع والنّسب معا ، فقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب ، وظاهر انّ من في الخبر إمّا تعليلية أو بمعنى الباء
والتقدير يحرم لأجل الرّضاع أو سببه ما يحرم لأجل النّسب أو بسببه والتّحريم في
الظّهار بالأم بسبب النّسب ثابت في الجملة إجماعا فيثبت بسبب الرضاع كذلك.
فاندفع ما قيل : ان التحريم في الظهار بسبب التشبيه بالنسب لا نفس
النسب ، فلا يلزم من كون التشبيه بالنسب سببا في التحريم كون التشبيه بالرضاع سببا
فيه فتأمّل.
وهل يقع بغير
لفظ الظهر كالبطن والفخذ؟ الظاهر العدم وحكاه في الكشاف عن
__________________
بعضهم وقطع بوقوعه وتابعه القاضي فيه ، وهو قول الحنفية فإنهم يذهبون إلى
انّه إن شبّهها بعضو من الام يحرم عليه النظر اليه كالبطن والفخذ كان ظهارا وان
شبهها بعضو يجوز النظر اليه كاليد والرأس لم يكن ظهارا.
وذهب
الشّافعيّة الى ان ذلك العضو ان كان مشعرا بالإكرام كقوله أنت على كروح أمي أو
عينها ، وقصد الظهار صح ظهاره وان قصد الإكرام لم يصح وان لم يقصد شيئا فوجهان وان
لم يكن مشعرا بالكرامة كقوله : أنت على كرجل أمي أو كيدها أو بطنها ففي الجديد انه
ظهار وفي القديم لا.
وفي أصحابنا من
يذهب الى بعض هذه الأقوال ويرده أصالة الإباحة حتى يعلم المحرّم وهو غير معلوم
فيما عدا الظهر من الاجزاء ولانه مشتق منه فلا يصدق بدونه ، والاخبار الدالّة على اعتباره ،
وما استند اليه ذلك البعض من رواية سدير عن الصادق عليهالسلام قال : قلت له : الرجل يقول لامرأته أنت على كشعر أمي أو
ككفها أو كبطنها أو كرجلها قال : ما عنى به ان أراد به الظهار فهو الظهار ، مدفوع
بضعف الخبر من وجوه ومثله لا يعارض به الأدلّة القاطعة النّاصة على خلافه.
ثم انّ مقتضى
عموم الآية صحّة الظّهار من الذّميّ لأنّ (الَّذِينَ) يتناول المسلم
__________________
والكافر وأيضا تأثير الظهار انّما هو في التّحريم والذّميّ أهل لذلك ،
بدليل صحّة طلاقه وأيضا إيجاب الكفّارة للزّجر عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول
وزور وهذا المعنى قائم في الكافر والى هذا يذهب ابن إدريس وجماعة من أصحابنا وهو
قول الشافعيّة.
وقال الشّيخ في
الخلاف والمبسوط : لا يصحّ الظّهار من الكافر لانّ التّكفير لا يصحّ منه لاشتراط
نيّة القربة فيه فيمتنع منه النيّة ، وهي من لوازم الوقوع وبوجه آخر من لوازم
الظّهار وجوب الصّوم من الفاقد العاجز عن الإعتاق وإيجاب الصّوم على الذّمي ممتنع
لانّه مع الكفر باطل ومع الإسلام غير لازم لانّه يجبّ ما قبله.
وقد تابع الشيخ
في هذا القول جماعة من الأصحاب وهو قول الحنفيّة والمالكيّة وربّما احتجّوا عليه
بانّ قوله (مِنْكُمْ) خطاب للمؤمنين فلا يدخل الكافر فيه فلا يلحقه الحكم.
والقول الأوّل
أظهر نظرا الى عموم الآية وعدم صلاحية ما ذكروه للمانعيّة فإنّ الظّهار من قبيل
الأسباب الّتي لا يتوقّف على الاعتقاد ، والتمكين من التكفير يتحقّق بتقديمه
الإسلام لأنّه قادر عليه ، فإنّه لو لم يكن قادرا عليه لامتنع التّكليف به ،
وبالجملة عدم صحّتها منه حال الكفر لا ينافي التّكليف بها ، إذ هو قادر على ان
يقدم إسلامه ثمّ يأتي بها وقوله الإسلام يجبّ ما قبله قلنا هو عامّ والتّكفير خاصّ
والخاصّ مقدّم على العامّ.
وأجاب
الشّافعية أيضا بانّ من لوازم الظّهار أنه متى عجز عن الصّوم اكتفى منه بالإطعام ،
فهنا ان تحقّق العجز وجب أن يكتفى منه بالإطعام ، وان لم يتحقّق العجز زال السؤال
رأسا وأيضا الصّوم بدل من الإعتاق والبدل أضعف من المبدل ، ثمّ انّ العبد عاجز عن
الإعتاق مع أنّه يصحّ ظهاره بالاتّفاق ، وإذا كان فوات أقوى اللّازمين لا يوجب منع
الظّهار ، ففوات الأضعف كيف يمنع.
ويجاب عن
الثّاني بأنّ قوله (مِنْكُمْ) خطاب للحاضرين فلم قلتم انّه مختصّ
بالمؤمنين ، على انّ التّخصيص بالذّكر لا يدلّ على نفى ما عداه ، وهل هو
إلّا بمثابة الخطابات المصدّرة بالمؤمنين والحكم فيها يشمل الكافر أيضا هذا.
وانّ عندنا انّ
شروط الظهار هي شروط الطلاق سواء من كون المرأة طاهرا طهرا لا يقربها فيه بجماع
وبحضرة شاهدين ويقصد التحريم فان اختلّ شيء من ذلك لم يقع به ظهار ودليل ذلك
الأخبار والإجماع عندنا وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظّاهارون من الظّاهر وقرأ عاصم يظاهرون بضمّ الياء من ظاهر وقرأ
ابن كثير وأهل البصرة يظّهارون بتشديد الظّاء وفتح الياء وفي قوله منكم تهجين
لعادتهم في الظّهار فإنّه كان من أيمان الجاهليّة دون سائر الأمم.
(ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ) على الحقيقة وعن عاصم على الرّفع على لغة بني تميم.
(إِنْ أُمَّهاتُهُمْ
إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) فلا يشبه بهنّ غيرهنّ في الحرمة ولا يلحق بهنّ فيدخل في
حكمهنّ الّا من ألحقها الله بهنّ في الحرمة كالمرضعات بسبب الرّضاع الموجب
لدخولهنّ في حكم الأمّهات ، وأزواج الرّسول صلىاللهعليهوآله فإنهّن أمّهات المؤمنين قد حرّم الله نكاحهنّ على
الأمّة فدخلن في حكمهنّ.
(وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) ينكره الحقيقة والعرف والشّرع (وَزُوراً) كذبا باطلا منحرفا عن الحقّ فإنّ الزوجة لا تشبه بالأمّ
، وفي الآية دلالة ظاهرة على تحريمه مع ترتب الأحكام (وَإِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عنهم ويغفر لهم ان تابوا أو تفضّلا منه وإحسانا
واستدلّ بعضهم على أنّه لا عقاب فيه وفيه انّه وصف مطلق فلا يتعيّن كونه عن هذا
الذّنب أو انّ ذلك عنه لكن مع التّوبة كما في غيره
__________________
من غيره من المعاصي.
الثانية :
(وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يقولون الّذي حكيناه سابقا.
(ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا) اى يتداركون ما قالوه لانّ المتدارك للأمر عائد اليه
ومنه المثل : عاد الغيث على ما أفسد ، اى تداركه بالإصلاح.
قال الفراء لا
فرق في اللغة بين قولك عاد لما قال والى ما قال وفيما قال ، والمشهور بين أهل
اللغة انّ القائل إذا قال عاد لما فعل جاز أن يريد انّه فعل مرة أخرى وهذا ظاهر ،
وجاز أن يريد أنّه نقض ما فعل ، لانّ التّصرف في الشيء لا يمكن الّا بالعود إليه.
والى هذا يذهب
الأكثر من العلماء الّا انّ الشّافعيّ قال : معنى العود لما قالوا السّكوت عن
الطّلاق بعد الظّهار زمانا يمكنه أن يطلّقها فيه ، وذلك لانّه لمّا ظاهر فقد قصد
التّحريم ، فان وصل ذلك بالطّلاق فقد تمّ ما شرع فيه من إيقاع التّحريم ولا كفّارة
عليه ، فإذا سكت عن الطّلاق دلّ على انّه ندم على ما ابتدأ به من التحريم فحينئذ
يجب عليه الكفّارة.
والذي يذهب
إليه أصحابنا هو القول الأوّل فهو عندنا إرادة الوطي أو نقض ما قاله أوّلا. ويدلّ
على أنّ المراد بالعود ما قلناه بعد ما ذكرنا من قول أهل اللغة انّه لا يجوز أن
يراد به الوطي على ما ذهب اليه قوم بقوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) فأوجب الكفّارة بعد العود قبل الوطي فدلّ على أنّه
غيره.
ولا يجوز أن
يكون العود إمساكها زوجة مع القدرة على الطّلاق على ما قاله الشّافعيّ لأنّ العود
يجب أن يكون رجوعا الى ما يخالف مقتضى الظّهار ، وإذا لم تقتض فسخ النّكاح لم يكن
العود الإمساك ، ولانّه قال (ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا) وذلك يقتضي التّراخي ، وعلى قول الشافعيّ الذّاهب الى
أنّ العود هو السّكوت عن طلاقها يكون المظاهر عائدا عقيب القول بلا تراخ وهو خلاف
مقتضى الآية.
وأجابوا بأنّه
على هذا يلزم أن لا يتمكّن المظاهر من العود إليها عقيب الفراغ من التلفظ بلفظ
الظهار ، حتّى يحصل له التّراخي بالعود والإجماع على خلافه ، فإذا
المعتبر الحكم بالعود ، ونحن لا نحكم بالعود ما لم ينقض زمان يمكنه أن
يطلّقها فيه ، فقد تأخّر كونه عائدا عن كونه مظاهرا بهذا القدر ، وهو يكفي في
العمل بمقتضى كلمة ثمّ.
والتحقيق أن
الكلام وارد على الغالب أو أنّ كلمة «ثمّ» هنا ليست للتّراخى الحقيقي بل للتّراخى
الرتبي الدال على أنّ مرتبة العود بعد الظهار من غير اعتبار التّراخي حقيقة ،
ويكفي في ردّ قول الشّافعيّ انه خلاف المتبادر من العود ما قاله أهل اللغة فإن
الألفاظ انما ثبت معانيها بالنقل عن أهل اللغة لا بالقياس.
(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ حذف خبره والتقدير فالواجب أو
فعليهم تحرير رقبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) اى من قبل أن يجامع إذ هو الظاهر من إطلاق المماسة كما
في قوله : من قبل أن تمسوهنّ. وان كان بحسب اللّغة أعمّ منه. وعلى هذا فلا يحرم
غيره من ضروب الاستمتاعات كالقبلة ونحوها وهو أحد القولين لأصحابنا والعامة ،
والآخر تحريمها مطلقا وهو اختيار الشيخ في المبسوط وجماعة من العامة لإطلاق المسيس
على مطلق الاستمتاع في اللغة والأصل عدم النقل.
وفيه نظر إذ
يجوز أن يكون الإطلاق على التواطؤ بمعنى أنه موضوع لمعنى يشترك فيه كثير وهو تلاقى
الأبدان مطلقا وإطلاقه على الوطي استعمال اللفظ في بعض أفراده الّذي كثر استعمال
اللفظ فيه ، بحيث صار هو المتبادر عند الإطلاق فلا نقل ولا اشتراك لفظ ولا مجاز ،
وظاهر الآية تحريم ذلك على كلّ منهما ، إذ الضمير عائد إليهما ولانّ مقتضى التشبيه
ذلك.
ولكن المشهور
بين الأصحاب اختصاص حكمه بالرّجل دون المرأة الّا أن تكون معاونة له على الإثم ،
فيحرم لذلك لا للظّهار ، وفي الآية دلالة على تقديم الكفارة على المسيس بمعنى
تحريم المسيس حتى يكفر فلو عزم على العود ولم يفعل الاستمتاع ثمّ بدا له في ذلك
فطلقها سقطت عنه الكفارة.
واحتمل بعض
الأصحاب استقرارها بالعود نظرا الى ظاهر قوله تعالى (ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الآية ، وفي الدلالة نظر بل الظاهر وجوبها بالعود
قبل التماس لا مطلقا ، ولو مسّ قبل التكفير قال في الكشاف عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفّر ومقتضاه وجوب كفّارة
واحدة فقط للعود وهو قول أكثر العامة مستدلّين عليه بخبر سلمة البياض لما ظاهر من امرأته وواقعها قبل التكفير ، فسأل النبيّ صلىاللهعليهوآله فقال : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفّر.
وفي الدلالة
نظر ، إذ لم يعلم انها كفارة واحدة أو ثنتان ، والمشهور بين أصحابنا انّه إذا
واقعها قبل ان يكفر فانّ الواجب عليه كفارتان أحدهما للوطي المحرم ، قبل الكفارة ،
والأخرى للعود ، وفي الاخبار دلالة عليه .
وعلى هذا فلو
كرر الوطي قبل التكفير عن الظهار ، تكررت الكفارة التي وجبت للوطي وكفارة الظهار
بحالها ، فلو وطئ ثانيا وجب عليه ثلاث كفّارات ، ولو وطئ ثالثا وجب عليه أربع
كفارات ، وهكذا ويتحقق التكرار بالعود بعد النزع التام.
ثمّ انّ ظاهر
الآية ترتّب الحكم على هذا القول ، فلو ظاهر مرارا احتمل أن يكون لكل ظهار كفارة
لأصالة عدم تداخل الأسباب ، واحتمل وجوب كفارة واحدة لأنه تعالى رتب الكفارة على
مطلق الظهار وهو شامل للمتعدد أيضا.
وإطلاق الرقبة
يقتضي اجزاء أي رقبة كانت ، ولو كافرة ، واليه ذهب بعض الأصحاب نظرا إلى الإطلاق ،
وعدم صلاحية غيرها للتقييد وفيه بعد ، واعتبر القاضي الايمان قياسا على كفارة
القتل ، وهو مذهب الشافعي ، وعليه بعض أصحابنا لا لما ذكروه من القياس فإنه غير
صحيح عندنا ، بل لأدلّة أوجبت التقييد ولا ريب أن الاحتياط فيه.
اما اعتبار
سلامتها من العيوب الموجبة للعتق كالعمى والإقعاد والجذام والتنكيل الصادر من
مولاه فإجماعيّ ولا يشترط سلامتها من غير هذه العيوب فيجزي الأعور
__________________
والأعرج والأقرع والخصىّ والأصمّ ومقطوع أحد الأذنين واليدين ولو مع أحد
الرّجلين والمريض وان مات في مرضه والهرم والعاجز عن تحصيل كفايته ، وكذا من تشبث
بالحرية مع بقائه على الملك كالمدبر وأمّ الولد وان لم يجز بيعها لجواز تعجيل
عتقها.
وفي اجزاء
المكاتب الذي لم يتحرّر منه شيء قولان والاجزاء غير يعيد.
هذا ومقتضى
العموم كون الدخول غير شرط في الظهار لصدق النساء بمجرد العقد وان لم يدخل بهنّ ،
واليه ذهب المفيد وسلار وابن زهرة وابن إدريس ونقله عن السيد المرتضى أيضا وجعل
الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف الدخول شرطا في صحّة الظهار ، ومنع من ظهار غير
المدخول بها وهو قول الصدوق والظاهر من كلام ابن الجنيد.
وهو المشهور
بين المتأخرين لروايات معتبرة الإسناد دلّت عليه كصحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام والصادق عليهالسلام قال في المرأة الّتي لم يدخل بها زوجها لا يقع عليها
إيلاء ولإظهار ، ونحوها صحيحة الفضيل بن يسار عن الصادق عليهالسلام وتخصيص القرآن بالخبر المستفيض جائز على ما ثبت في
الأصول.
ومقتضى العموم
أيضا صحة ظهار الموطوءة بملك اليمين كما هو اختيار جماعة من الأصحاب وتابعهم
المالكية فيه نظرا الى صدق النساء على المرأة المملوكة فيندرج
__________________
تحت عموم الآية.
ويؤيده من
الأخبار صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : سألته عن الظهار على الحرّة والأمة فقال : نعم.
وما رواه إسحاق
بن عمار عن الكاظم عليهالسلام قال سألته عن الرجل يظاهر من جاريته فقال : الحرّة
والأمة في هذا سواء ونحوها من الأخبار .
وذهب جماعة
منهم الى عدم صحته فيها ، وتابعهم الحنفيّة والشّافعيّة نظرا إلى انّ المعهود
انصراف لفظ النّساء إلى الزّوجة فلا يتناول الأمة ، ويؤيّده من الأخبار ما رواه
حمزة بن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل جعل جاريته عليه كظهر امّه قال : يأتيها وليس
عليه شيء.
ويجاب بمنع
انصراف لفظ النّساء الى ما ذكروه ، كيف وهو في قوله (وَأُمَّهاتُ
__________________
نِسائِكُمْ) يتناول الموطوءة بالملك ، فحرمت أمّها كذلك ، والرّواية
ضعيفة السند معارضة بغيرها فبقي العموم سالما كما عرفت.
(ذلِكُمْ) اي الحكم بالكفّارة للعود (تُوعَظُونَ بِهِ) لانّه يدلّ على ارتكاب الجناية فيجب أن تتعظوا لهذا
الحكم حتّى لا تعودوا الى الظهار وتخافون عقاب الله.
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
الثالثة :
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) اي الرّقبة ولا ثمنها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ) امّا مبتدأ أو خبر كما عرفت مرارا اي فعليه أو فالواجب
والتّتابع عند أكثر الفقهاء أن يوالي بين أيّام الشّهرين الهلاليّين أو يصوم ستّين
يوما.
وقال أصحابنا :
إذا صام شهرا ومن الثّاني شيئا ولو يوما واحدا ثمّ أفطر لغير عذر فقد أخطأ إلّا
انّه يبني عليه ولا يلزمه الاستيناف ، وان أفطر قبل ذلك استأنف.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) بالجماع ومقتضى وجوب الصّوم قبل المسيس انّه لو جامع في
حال الصّوم عامدا ليلا أو نهارا بطل صومه ولزمه استيناف كفّارتين لانّه تعالى أوجب
عليه صوما موصوفا بكونه قبل المسيس فلا يجزى غيره وان كان الجماع في وقت لا يجب
عليه التّتابع فيه.
وقال ابن إدريس
: امّا وجوب الكفّارة الأخرى فصحيح ، وامّا وجوب استيناف الكفّارة المأخوذة فيها
بالصّوم إذا وطئ ليلا فبعيد لا وجه له ، ولا دليل على استيناف الصّيام ، لأنّ
الاستيناف ما جاء إلّا في المواضع المعروفة المجمع عليها ، وهي أن يطأها بالنّهار
عامدا من غير عذر المرض قبل أن يصوم من الشّهر الثّاني شيئا فيجب عليه الاستيناف
للكفّارة الّتي يوجبها الظّهار ، وكفّارة أخرى للوطي عقوبة فامّا إذا وطئ ليلا
فعليه كفّارة الوطي ولا يجب عليه استيناف ما أخذ فيه لعدم الدليل عليه.
__________________
قال : فامّا
إذا وطئ عامدا بالنهار بعد ان صام من الشهر الثاني شيئا فعليه كفارة الوطي فحسب
ويبني على ما صام ولا يجب عليه الاستيناف وقول ابن إدريس لا يخلو من وجه وان كان
الاحتياط في الأوّل.
(فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ) اي فمن لم يطق الصوم لعلة من هرم أو مرض أو كبر أو كان
يتضرّر بترك الجماع لما فيه من الشبق المفرط (فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً) اما إشباعا في أكله واحدة أو يسلم ستين مدا لكلّ واحد
مدّ ، على أظهر الوجهين عندنا لمكان الأخبار المبينة له وعلى هذا الشافعية.
وفي أصحابنا من
أوجب المدّين لكلّ واحد ، وهو قول الحنفية ، وفي الأخبار دلالة عليه أيضا إلّا انّ
حملها على الاستحباب طريق الجمع.
وظاهر العدد
انه لا يجزى غيره فلو اطعم مسكينا واحدا ستين مرّة لم يجز وعلى هذا أصحابنا
والشافعية نظرا الى ظاهر الآية ، ولأنّ إدخال السرور في قلب ستين أجمع وأقرب من
رضا الله وقالت الحنفية : يجزى وهو بعيد.
ولم يقيد
الإطعام بكونه قبل التماسّ ، اكتفاء بذكره مع الآخرين ، فيجب تقديمه عليه أيضا
حملا للمطلق على المقيد عند اتحاد الواقعة وحملا للأقلّ وهو صورة واحدة على الأكثر
، حتى أنه لو جامع في أثنائه لم يعتد به وهو المشهور عندنا وقال أبو حنيفة
بالاجزاء من غير استيناف كما لا يستأنف الصوم لو وقع في خلاله حتى قال بعضهم : لم
يذكره للدلالة على انّ التكفير قبله وبعده سواء وهو بعيد.
واعلم انّ
أصحابنا مختلفون في أنّ المظاهر إذا طلّق امرأته قبل أن يكفّر وتركها حتى خرجت من
العدّة ثمّ تزوّجها بعقد مستأنف ، هل ذلك يوجب سقوط الكفارة ويجوز له وطيها وان لم
يكفر؟ قيل : نعم ، لصيرورتها كالأجنبية بعد خروج
__________________
العدّة ، واستباحة الوطي هنا ليس مستندا الى العقد الأوّل.
وذهب جماعة إلى
العدم وأوجبوا التكفير على المظاهر وان طلّقها واستأنف العقد عليها نظرا الى عموم
القرآن لأنه أوجب الكفارة بالعود من غير فصل بين كونه في ذلك النكاح أو غيره
والاخبار متعارضة من الجانبين ولكنّ المشهور الأوّل ولتفصيله شرح يطول فليرجع الى
محلّه.
(ذلِكَ) اي البيان والتعليم للاحكام (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لتصدّقوا بهما في العمل بالشرائع التي جاء بها الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
(وَتِلْكَ حُدُودُ
اللهِ) أحكامه التي شرعها فلا يجوز تعدّيها (وَلِلْكافِرِينَ) اي الجاحدين الّذين يتعدون حدوده (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم في الآخرة وهو نظير قوله (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعالَمِينَ).
الرابع : الإيلاء
وفيه آيتان
الاولى :
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ) اي يحلفون على عدم وطئهن بالله أو باسمه المختص به
والإيلاء في اللغة اليمين وفي الشرع عندنا الحلف على الامتناع من وطئ الزوجة زائدا
على أربعة أشهر ، وعلى هذا فإطلاق الآية مقيد بما زاد على الأربعة أشهر ، فلو حلف
ان لا يجامع أقل منها لم يكن موليا عندنا ، ويعتبر أيضا كونه بقصد الإضرار بالزوجة
، فلو لم يكن قصده ذلك بل قصد دفع ضرر الوطي عنه أو عنها أو عن ولدها أو نحوه لم
يكن إيلاء يترتب عليه احكامه عندنا نعم يقع يمينا.
والإيلاء يتعدى
بعلى لكن لما ضمن هذا القسم من الحلف معنى البعد عدا بمن كأنه قال يبعدون من
نسائهم مولين أو مقسمين ، ويجوز أن يتعلق (مِنْ نِسائِهِمْ) بالذين اي لهم من نسائهم.
(تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ) مبتدأ خبره ما تقدم أو فاعل الظرف والتربص التوقف
والانتظار أضيف إلى الظرف على الاتساع ، اي للمولى حق التثبت والتمهل في هذه المدة
فلا يطالب فيها بفيء ولا يكلف ولا يحبس ، ومن ثم اعتبر أصحابنا في الإيلاء زيادة
المدة على أربعة أشهر ليجبره الحاكم بعدها على الفيئة أو الطلاق ، فلو كانت أربعة
أشهر فقط لم يتحقق الإيلاء لخروجه عن حكمه عقيبها (بمضيها خ ل) فلا يترتّب عليه
الإلزام بأحد الأمرين ووافقنا في ذلك الشّافعيّة واكتفى الحنفيّة بأربعة فما دون
وهو بعيد.
وابتداء هذه
المدّة من حين التّرافع الى الحاكم والحكم عند بعض الأصحاب
فلو سكتت المرأة قبله لم تحسب عليه المدّة كائنا ما كانت الى أن ترافعه الى
الحاكم فينظره المدّة المذكورة ، لأنّ ضرب المدة حقّها فيتوقّف على مطالبتها ،
ولأصالة عدم التسلّط على الزّوج بحبس وغيره قبل تحقّق السّبب.
وعند آخرين
احتسابها من حين الإيلاء فإذا مضى من ابتدائه أربعة أشهر وهو قادر على الجماع فلم
يجامعها ولم تطالب هي بالفيء لم يلزمه شيء ، وان تجاوزت أوقفه الحاكم ، فامّا أن
يفيء إلى الجماع أو يطلّق.
وظاهر الآية
يدلّ على هذا حيث رتّب التّربّص عليه من غير تعرّض للمرافعة ويؤيّده من الأخبار حسنة
بريد عن الصّادق عليهالسلام قال : لا يكون إيلاء ما لم تمض أربعة أشهر ، فإذا مضت
وقف فامّا أن يفيء وإمّا أن يعزم على الطّلاق ، فعلى
__________________
هذا لو لم ترافعه حتّى انقضت المدّة أمره بأحد الأمرين تخييرا ، ولكنّ
المشهور الأوّل.
واعلم أنّ مقتضى
العموم كون الدّخول غير شرط في تحقّق الإيلاء لصدق النّساء بمجرّد العقد وان لم
يدخل بهنّ إلّا أنّ المعهود بين الأصحاب اشتراطه من غير نقل خلاف فيه وقد اعترف
الشّهيد في بعض كتبه بعدم وقوفه على خلاف فيه وفي الأخبار السّابقة تصريح باشتراطه
فيه وفي الظّهار على ما تقدّم.
(فَإِنْ فاؤُ) رجعوا في اليمين بالحنث وعادوا إلى أزواجهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر للمولى اثم حنثه إذا كفّر وما توخى بالإيلاء من
إضرار الزّوجة ونحوه بالفيئة الّتي هي بمثابة التوبة.
فإن قيل : ليس
في الآية دلالة على وجوب الكفّارة مع الفيئة والرّجوع.
قلنا : لا شكّ
في أنّ الإيلاء على ترك الوطي يمين والفيئة حنث له فيجب به الكفّارة كما في مطلق
اليمين لأنّ الدّلائل الدّالة على وجوب الكفّارة عند الحنث باليمين عامّة شاملة
لمثل هذا وغيره وان كان هذا مخالفا له في بعض الأحكام.
وانّما ترك ذكر
الكفّارة في الآية لأنّها مبيّنة في موضع آخر من القرآن أو على لسان الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخذ الشّافعي في قوله القديم بظاهر الآية فحكم بعدم
وجوب الكفّارة إن فاء في خلال المدّة أو بعدها ويردّه ما قلناه (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي وإن صمّموا قصده (فَإِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) بأغراضهم في ذلك.
وحكم الإيلاء
عندنا أنّ المولى في مدّة التربّص لا يطالب بشيء من طلاق أو فيئة ، لكن ان فعل
الفيئة وهي الوطي مع القدرة أو العزم عليه مع العجز فقد خرج عن العهدة ووجبت عليه
الكفّارة للحنث وكذا ان أتى بالطّلاق سقط عنه حقّها أيضا ، وبعد مدّة التربّص
يجبره الحاكم على الفيئة أو الطّلاق ، فان فعل الفيئة على الوجه المتقدّم خرج عن
العهدة ولزمه الكفارة للحنث عند أكثر أصحابنا وظاهر الشيخ في المبسوط أنه إذا وطئ
بعد مدة التربص ، لم يلزمه كفارة وهو بعيد وفي الأخبار ما ينفيه.
ولو فعل الطلاق
ولو رجعيا خرج عن العهدة أيضا وان امتنع منهما ضيق عليه في التصرف والمطعم والمشرب
حتى يفعل أيهما اختار منهما كما يضيق عليه إذا امتنع عن سائر الحقوق. ولا يجبره
الحاكم على أحدهما عينا ، بل ولا يطلّق عنه عندنا.
وقالت الحنفية
: المولى ان فاء في المدة بالوطي ان قدر والوعد إن عجز صح الفيء ولزم الواطئ أن
يكفر ، وإلا بانت منه بعد المدة بطلقة. قال في الكشاف ومعنى قوله (فَإِنْ فاؤُ) في الأشهر ، بدليل قراءة عبد الله «فان فاءوا فيهن» ولا
يخفى بعده مع أنه تقدير في الآية وحمل لها على وجه بعيد من غير قرينة كما يعلم من
سياقها وكون الفاء منافية له ، والقراءة الشاذة لا يصح الاستدلال بها ، لأن الدليل
هو الكتاب والسنة وليست شيئا منهما على ما مرّ مرارا.
وقالت الشافعية
يوقف المولى بعد مدة التربص فاما أن يفيء على الوجه السابق فتلزمه الكفارة أو
يطلّق فيخرج عن العهدة ، وإن ابى طلق عليه الحاكم وهذا القول أقل فسادا من سابقه ،
وفيه شيء من جهة جعل الفيئة بعد المدة فقط وقد بينا صحتها قبلها أيضا.
وربما استدل
على ذلك بقوله (فَإِنْ فاؤُ) وهو يقتضي كون ما بعد التربص من حكم الفيئة أو الطّلاق
مشروعا متراخيا عن انقضاء الأشهر الأربعة ، وفيه نظر فانّ ذلك للجبر على أحد
الأمرين إذا لم يأت بهما سابقا فتأمّل. اما حكم الحنفيّة بأنّها تطلّق بعد المدّة
بطلقة ثانية والشّافعيّة على أنّ الحاكم يطلّق عنه مع إبائه
__________________
عن أحد الأمرين ، فغير واضح الوجه ، إذ حلّ عقدة شخص من غير رضاه غير جائز
حتّى يثبت الدّليل الصّالح لتخصيص الأدلّة النقلية ، على انّ قوله (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ، صريح في أنّ وقوع الطّلاق ، إنّما يكون بإيقاع الزّوج
وفي أنّ الزّوج لا بدّ أن يصدر عنه شيء يكون مسموعا وما ذاك إلّا إيقاع الطّلاق ،
ولو قيل : انّ دليل الشّافعيّة قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ضرر ولا ضرار» ونحوه ، لقلنا : جعل مثله دليلا
لمثل ذلك مع ثبوت التخيير بنصّ القرآن مشكل ، فتأمّل فيه.
واعلم أنّ
الإيلاء في الحقيقة يمين ومن ثمّ كان مشاركا في أصل الحلف وعدم انعقاده بغير اسم
الله تعالى المختصّ به أو الغالب ، وترتّب الكفّارة الخاصّة عليه ولكنّ الفرق
بينهما من جهة جواز مخالفة الحلف في الإيلاء بل وجوبه على وجه مع الكفّارة بخلاف
اليمين ، ومن جهة عدم اشتراط انعقاده مع تعلّقه بالمباح بأولويته دينا أو دنيا أو
تساوى طرفيه بخلاف اليمين ، فإنّه يشترط فيها ذلك ، ومن جهة اشتراطه بالإضرار
بالزّوجة على ما عرفت ولا كذا اليمين ، ومن جهة اشتراط الإيلاء بعقد دائم دون مطلق
اليمين الى غير ذلك من الأحكام.
ويدلّ على
اعتبار الدّوام في الإيلاء ظاهر قوله (فَإِنْ طَلَّقَها) لدلالته على الدّوام إذ النّكاح المؤجّل لا طلاق فيه ،
وظاهر الآية يقتضي عدم الفرق في ثبوت حكم الإيلاء بين العبد والحرّة والحرّ والأمة
في الانعقاد ومدّة التّربّص والتّخيير بين الأمرين.
وقالت الحنفيّة
: تنتصف برقّ المرأة ، والمالكيّة تنتصف برقّ الرّجل كما قالا في الطّلاق ، وهو
بعيد ، لانّ التّخصيص خلاف المطلوب ، ولانّ تقدير هذه المدّة انّما كان لأجل معنى
يرجع الى الجبلّة والطّبع وهو قلّة الصبر على مفارقة الزّوج فيستوي فيه الحرّ
والرّقيق كالحيض ومدة الرضاع ، وتمام ما يتعلّق بذلك يعلم من محلّه.
الخامس اللعان
وفيه آيات
الاولى [النور : ٦].
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أى بالزّنا : أمّا بقذفهنّ ، مثل أنت زانية ، أو زنيت
أو بنفي الولد عنه ، وإطلاق الأزواج وإن شمل العفيفة وغيرها ، إلّا انّها عندهم
مخصوصة بالعفيفة ، فلا يثبت اللّعان بقذف المشهورة بالزّنا ، وهل يشترط في صحّة
اللّعان الدّخول حتّى لو كانت الزوجة غير مدخول بها لم يصحّ لعانها أولا يشترط؟
ظاهر الآية الثّاني ، فإنّ أزواجهم جمع مضاف يشمل المدخول بها وغيرها ، وإليه ذهب
جماعة من الأصحاب.
وقال الشّيخ في
النهاية بالاشتراط مستدلّا عليه بما رواه أبو بصير عن
__________________
الصّادق عليهالسلام قال : لا يقع اللّعان حتّى يدخل الرّجل بامرأته ، ولا
يكون اللّعان إلّا بنفي الولد ، وما رواه ابن مضارب قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما تقول في رجل لا عن امرأته قبل أن يدخل بها؟ قال :
لا يكون ملاعنا حتّى يدخل بها يضرب حدا وهي امرأته ، وفي الروايتين ضعف فيشكل تخصيص الآية بهما.
ويمكن أن يقال
: انّ الرّمي ان كان بالزّنا لم يشترط الدّخول ، لعموم الآية وان كان بنفي الولد
اعتبر الدّخول بها لأنّ ولد غير المدخول بها لا يلحق بالزّوج إجماعا ، وهذا
التّفصيل ممّا ذهب اليه ابن إدريس ، وحمل اختلاف الأصحاب عليه ولا يخفى انّه صلح
من غير تراضى الخصمين ، إذ النّزاع معنويّ. والتّحقيق أنّ النّزاع لا يتحقّق إلّا
في القذف للإجماع على انتفاء الولد عند عدم اجتماع شرائط اللّحوق بغير لعان ،
وكلامهم ينزّل عليه وان كان مطلقا.
وعموم الآية
يشمل الزّوجة الحرّة والأمة المسلمة والذّميّة وإليه ذهب جماعة من الأصحاب أخذا
بظاهر الآية ويؤيّده من الأخبار ما رواه الحلبي في الحسن عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن المرأة الحرّة يقذفها زوجها وهو مملوك ،
قال :
__________________
يلاعنها ، ونحوها من الاخبار وهو قول الشافعيّة.
وذهب الشيخ
والمفيد في مقنعته وجماعة من الأصحاب إلى أنّ اللّعان لا يثبت بين الحرّة والمملوكة
، ولا بين المسلم والكافرة وهو قول الحنفيّة ، وزادوا عليه عدم ثبوت اللّعان بين
المحدود في قذف وبين المرأة المحصنة ، واحتجّوا عليه بحديث عبد الله بن عمرو بن
العاص من النّساء ليس بينهنّ وبين أزواجهنّ ملاعنة اليهوديّة والنصرانيّة تحت
المسلم ، والحرّة تحت المملوك ، والمملوكة تحت الحرّ.
وأيضا اللّعان
في الزّوجات قائم مقام الحدّ في الأجنبيّات فلا يجب اللّعان على من لا يجب عليه
الحدّ ولو قذفها أجنبيّ ، وأيضا اللّعان شهادة وهي لا تقبل من المحدود في القذف
ولا من المملوك ولا من الكافر.
ويجاب عمّا
ذكروه أنّ الحديث المذكور قاصر عن تخصيص القرآن ، وبأنّ الحدّ وان لم يجب في
الصّور المذكورة فلا كلام في وجوب التّعزير فيصحّ دفعه باللّعان وبأنّ اللّعان
يمين مؤكّدة بالشهادة أو يمين فيها شائبة الشّهادة فلا يشترط فيها إلّا أهليّة
اليمين ، على أنّ شهادة الذّمي مقبولة على مثله فينبغي أن يجوز اللّعان بين
الذّمّيين ، وعدم قبول شهادة المحدود بعد التّوبة ضعيف وسيجيء التنبيه عليه.
وأمّا أصحابنا
المانعين من الثبوت في الصور المذكورة فقد استدلّوا عليه بما رواه
__________________
ابن سنان في الصّحيح عن الصّادق عليهالسلام قال : لا يلاعن الحرّ الأمة ولا الذّميّة ولا الّتي
يتمتّع بها ، ونحوها. ولا يخفى أنّ تعارض الأخبار يوجب التّساقط والرجوع إلى ظاهر
القرآن وهو العموم.
ويمكن حمل هذه
الرّواية وأمثالها على كون الأمة أو الذميّة مملوكة له وبذلك يحصل الجمع بين
الأدلّة أو على أنّه تزوّجها من غير اذن مولاها ، فانّ اللّعان لا يجرى بينهما على
ذلك التّقدير كما حملها العلامة في المختلف وغيره على ذلك استنادا إلى صحيحة محمّد
بن مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : سألته عن الحرّ يلاعن المملوكة قال : نعم إذا كان
مولاها زوجه إيّاها لاعنها ، فانّ مقتضى مفهوم الشّرط ، أنّه إذا لم يزوّجها
مولاها فلا لعان وهو كذلك.
والّذي اختاره
ابن إدريس في ذلك أنّ القذف إذا كان بنفي الولد ثبت اللّعان بينهما ، وإن كان
بالزّنا لم يثبت ، وأخذه من كلام الشّيخ في الاستبصار ، فإنّه بعد أن أورد الأخبار الدالّة على ثبوت اللّعان
بينهما وأورد خبرا في آخر الباب مخالفا لتلك الأخبار قال :
__________________
«الوجه في هذا
الخبر أحد شيئين : أحدهما أن يكون محمولا على التقيّة ، لأنّ ذلك مذهب بعض العامّة
على ما قدمنا القول فيه. والآخر أن نقول : بمجرد القذف لا يثبت اللّعان بين
اليهوديّة والمسلم ، ولا بينه وبين الأمة ، وانّما يثبت بمجرّد القذف اللّعان في
الموضع الّذي لو لم يلاعن وجب عليه حدّ الفرية ، وذلك غير موجود في المسلم مع
اليهوديّة ، ولا مع الأمة ، لأنّه لا يضرب حدّ القاذف إذا قذفها ، ولكن يعزّر على
ما نبيّنه في كتاب الحدود ، فكأنّ اللّعان ثبت بين هؤلاء بنفي الولد لا غير».
هذا كلامه وفيه
نظر لانّ القذف في الصّورة المفروضة إذا أوجب التعزير جاز أن يكون اللّعان لدفعه
كما كان لدفع الحدّ فيتم فايدته ، مضافا الى ما دلّ على الثّبوت مطلقا ، ومنه يظهر
أنّ القول بالعموم كما هو ظاهر الآية هو الأصحّ.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) يحتمل أن يكون إلّا بمعنى غير صفة لما تقدّمه ، ويحتمل
أن يكون ذكرها للمبالغة في نفى الشّاهد أى ليس لهم على ما ادّعوه شهداه رأسا فإنّ
النّفوس مدّعية لا شاهدة.
واختلف أصحابنا
في اشتراط ذلك في صحّة اللّعان ، فعن بعضهم هو شرط فلا يشرع اللّعان مع البيّنة
كما يعطيه ظاهر الآية ، وأنكر آخر ذلك فجوّز واللّعان وان كان له بيّنة.
قالوا : ولا
ينافيه ظاهر الآية لأنه مفهوم الوصف وفي حجيّته توقّف ، ولو سلّمت فيجوز أن يكون
التّقييد هنا خرج مخرج الأغلب ، إذ الظّاهر أنّ المدّعى لمثل هذه الفاحشة لا يعدل
الى اللّعان مع وجود البيّنة عنده ، والتقييد إذا خرج مخرج الأغلب لا يدلّ على نفى
الحكم عمّا عداه كما مرّ مرارا ، ولأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لا عن بين العجلاني وزوجته الّذي قيل انّه سبب نزول الآية ولم يسأله أنّ له
__________________
بيّنة وترك الاستفصال أمارة العموم.
__________________
وقد يستدلّ
بظاهر الآية على أنّ الزّوج إذا كان أحد الشّهود الأربعة فإنّها تحدّ ولا لعان كما
ذهب إليه بعض أصحابنا ، إذ الزّوج على ذلك التّقدير له شهداء غير نفسه ، ويؤيّده
قوله تعالى (اللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) فانّ الظّاهر أنّ الخطاب للحاكم لأنّه المرجع في
الشّهادة فيشتمل الزوج وغيره ، ويدلّ على ذلك أيضا بعض الاخبار واليه يذهب الحنفيّة.
وذهب جماعة من
أصحابنا الى عدم جواز ذلك وأوجبوا في هذه الصّورة حدّ الثّلاثة ولعان الزّوج وعليه
بعض الاخبار ، ويؤيّده ظاهر قوله تعالى :
__________________
__________________
__________________
__________________
(لَوْ لا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ). وإليه يذهب الشّافعيّة ، والأوّل غير بعيد ، ويمكن
الجمع بين الأخبار بحمل ما دلّ على حدّ الثّلاثة غير الزّوج على ما إذا اختلّت
شروط الشّهادة كسبق الزّوج بالقذف أو غيره وحينئذ فيحصل الجمع بين الأدلّة.
(فَشَهادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) ان قرئ بنصب أربع كان شهادة أحدهم إمّا مبتدا حذف خبره
، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره فعليهم أو الواجب أن يشهد أحدهم أربع شهادات ، ونصب
الأربع على المصدريّة ، وان قرئ بالرّفع كان خبر الشّهادة.
وقوله (بِاللهِ) متعلّق بها لتقدّمها وقيل بشهادات لقربه (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) اى فيما رماها به من الزّنا أو نفى الولد متلفّظا بذلك
لكونه المشهود به أن يقول أربع مرّات : أشهد بالله انّى لمن الصّادقين فيما رميتها
به من الزّنا.
(وَالْخامِسَةُ أَنَّ
لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) جاعلا للمجرور بعلى ياء المتكلّم (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزّنا أو نفي الولد ، متلفّظا بذلك
على ما عرفت.
وهذه الشّهادات
الأربع تقوم مقام الشّهود الأربعة ، في إسقاط حدّ القذف عنه وهو حكم خصّ به
الأزواج في قذف نسائهم في دفع الحدّ عنهم ، ومن ثمّ لو لم يفعلها حدّ للقذف كما
اقتضاه عموم (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ). الآية لشمولها الزّوجة وغيرها ، وبعد الشّهادات الأربع
يثبت الحدّ على المرأة ولها أن تدفعه باللّعان لقوله (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ) اى يسقط عنها الحدّ (أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به متلفّظة بذلك (وَالْخامِسَةَ) بالنّصب على قراءة حفص لعطفها على أربع وبالرّفع مبتدا
خبره (أَنَّ غَضَبَ اللهِ
عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ
__________________
الصَّادِقِينَ)
فيه.
وخصّت الملاعنة
بان تخمس بغضب الله للتّغليظ عليها لأنّها هي أصل الفجور ومنبعه ولذلك كانت مقدّمة
في آية الجلد ، ويؤيّد ذلك قوله عليهالسلام لمّا أرادت الملاعنة : إن كنت ألممت بذنب فاعترفي
فالرّجم أهون عليك من غضب الله انّ غضب الله هو النّار.
ومقتضى الآية
تقدّم الرّجل في اللّعان على المرأة ولا خلاف فيه ويؤيّده المنقول من فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولانّ لعان المرأة انّما هو لإسقاط الحدّ الّذي وجب
عليها بلعان الزوج ، وهو انّما يكون مع تقدّمه ، ومن ثمّ لو نكلت عن اللّعان وجب
عليها الحدّ عند أكثر العلماء خلافا لأبي حنيفة ، حيث أوجب حبسها حتّى تلاعن ،
وكذا الرّجل إذا نكل فإنّه يجب عليه الحدّ.
وأبو حنيفة
يوجب عليه الحبس حتّى يلاعن مستدلّا عليه بان النّكول ليس بصريح في الإقرار فلا
يجوز إثبات الحد به كاللّفظ المحتمل للزنا وغيره ، ويرده انّا لا نثبت الحد على
النّاكل بمجرد النّكول ، بل نقول المخلّص من الحد اللّعان وحيث لم يأت به وجب
الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد ، ويؤيّده قوله : ويدرأ عنها العذاب» الآية
فإنّ المراد بالعذاب هو الحدّ ، وهي صريحة في أنّ علّة سقوطه اللّعان فإذا لم تأت
به لم يسقط عنها وبالجملة قول أبي حنيفة مخالف للكتاب والسّنّة.
أمّا وجوب قيام
الرّجل حال اللّعان أو قيامهما معا ونحو ذلك من الأمور فمعلوم من خارج الآية.
وقد ظهر ممّا
ذكرنا أنّ سبب اللّعان قذف الزّوجة أو نفى الولد ، ودلالة الآية على ثبوته بقذف
الزّوجة ممّا لا يرتاب فيه ، وأنكر ابن بابويه في المقنع ثبوت
__________________
اللّعان بذلك وقال : لا يكون اللّعان إلّا بنفي الولد ، نظرا إلى ظاهر
رواية أبي بصير المتقدّمة وهي ضعيفة السّند لا تقاوم ظاهر الآية.
وحكم اللّعان
عندنا زوال الفراش بينهما والتّحريم المؤبّد ، بحيث لا يجوز لهما الاجتماع بعد ذلك
بوجه ، وعليه دلّت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام ، وعنه صلىاللهعليهوآله : المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ، وفي كلام بعض العامّة ما يشعر بأنّه لا يحصل به
الفرقة أصلا ، لأنّ أكثر ما فيه أن يكون الزّوج صادقا في قذفه وهو لا يوجب تحريما
كما لو قامت البيّنة عليها ، وهذا القول ممّا انعقد الإجماع على خلافه سابقا ولا
حقا.
ولا يتوقّف
الافتراق عندنا على حكم الحاكم ، واليه ذهب المالكيّة والشافعية وجماعة من العامّة
، وقالت الحنفيّة : لا يقع الفرقة إلّا بتفريق الحاكم لا بدونه وهو ضعيف.
وهذه الأحكام
تتعلّق بلعان الزّوجين معا عندنا فما لم يتمّ اللّعان منهما لم يثبت شيء من تلك
الأحكام ، وقالت الشّافعيّة : تتعلّق الأحكام المذكورة بلعان الزوج
__________________
وحده ، فإذا وجد منه اللعان بكماله فقد ثبت الأحكام المذكورة ، امّا لعان المرأة
فإنّه لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزّنا عن نفسها.
وهو بعيد ،
فإنّه خلاف ظاهر الآية ، وذلك لانّه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لا عنت المرأة وهي
أجنبيّة ، فكان ينبغي أن لا يجوز لانّه تعالى أوجب اللّعان بين الزّوجين.
وعلى المرأة
العدّة بعد تمام اللّعان عدّة طلاق ان كانت من أهلها وقالت الشّافعيّة : انّها
عدّة فسخ لإطلاق وعند الحنفيّة انّ الفرقة لا يقع إلّا بتفريق الحاكم بينهما لا
بدونه ، ولا يتأبد التحريم عندهم بل يكون المراد في حكم التطليقة الثانية وهو
ضعيف.
ولو كان اللعان
لنفي الولد انتفى عنه ولا توارث بينهما ولا نسب بالكلية ، فلا يرث أقرباء الميت
ولا يرثونه ، وفي قول بعيد لأصحابنا يثبت التوارث بينهم مع تصديقهم على نسبه ،
لانّ الإقرار لا يتعدى المقرّ ، ويثبت التوارث بين الولد وبين امه ، ويلحق بها
وبمن يتقرّب إليها ، وتمام ما يتعلق بذلك من الاحكام يعلم من الفروع.
السادس
من روافع النكاح
الارتداد وهو
قطع الإسلام بقول أو فعل كإنكار ما علم من الدّين ضرورة والسجود للصنم وإلقاء
المصحف في القاذورات ونحوها مما علم وجوب تعظيمه.
ويستدلّ على
قطع النكاح بالآيات الدّالّة على تحريم المشركين والمشركات وبقوله (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وقد تقدّم جملة من ذلك وتمامه يعلم من محله.
كتاب
المطاعم والمشارب
والايات
المتعلقة بذلك على أقسام اما تدلّ على أصالة الإباحة في كلّ ما ينتفع به خاليا عن
مفسدة وهو آيات.
الاولى : [البقرة : ٢٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) ذكر تعالى ذلك في معرض الامتنان على عباده ، بعد ان
امتن عليهم بخلقهم أحياء قادرين مرة بعد اخرى ، على ما دلّت عليه الآية السابقة
عليها.
والمعنى أن
الأرض وجميع ما خلق فيها نعم من الله تعالى ، خلقها لكم ، اي لأجلكم وانتفاعكم إما
في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بواسطة أو بغير واسطة ، وإما في دينكم
فبالاستدلال على الصانع القادر الحكيم ، والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة ،
والتذكّر بثوابها وعقابها لاشتمالها على أسباب الأمن واللذة من فنون المطاعم
والمشارب والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة ، وعلى أسباب الوحشة من أنواع المكاره
كالنيران والصواعق ونحوها.
والمراد أن
الغرض من خلقها ذلك وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة وانها في الأكل مباح على
الإطلاق لكل أحد أن يتناولها والامتنان بذلك إنما هو على ذلك التّقدير ولا يمتنع
اختصاص بعضها لبعض الأسباب العارضة فإنّها تدلّ على أنّ الكلّ للكلّ لا أنّ كلّ
واحد لكلّ.
ويحتمل
الاستدلال بها على إباحة الأرض نفسها بان يراد بالأرض في الآية الجهات السفليّة
دون الغبراء كما تذكر السّماء ويراد بها الجهات العلويّة فيدخل الأفلاك أيضا
والمعنى انّه خلق لكم ما في الجهات السفليّة جميعا فيدخل الأرض وما فيها لكونها
داخلة تحت ما العامّة على هذا التّقدير.
الثانية [البقرة : ١٦٨].
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) مثل السّابقة في جعل العموم وقد مرّ تفسيرها في كتاب
المكاسب ولكن نذكر الآية الّتي بعدها وهي :
(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ) الشّيطان (بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشاءِ) بيان لعداوته ووجوب الانتهاء عن اتّباعه لأنّه لا يدعو
إلى خير قطّ ، وانّما يدعو إلى المعاصي وما يسوء الإنسان أي يضرّه في الدّين
والدّنيا ، وأستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على ذلك تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم
حيث انّهم فيه بمثابة المأمور المطيع للآمر وإذا كان الآمر المطاع مرجوما مذموما
فكيف حال المأمور المطيع وفي هذا معتبر البصر أو مزدجر العقلاء.
قال القاضي :
والسّوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه الشّرع والعطف لاختلاف الوصفين فإنّه
سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء لاستقباحه إيّاه وقيل : السوء يعمّ القبائح والفحشاء
ما يتجاوز الحدّ في القبح من الكبائر ، وقيل : الأوّل ما لا حدّ فيه والثّاني ما
شرع فيه الحدّ.
ولا يذهب عليك
انّ كلامه هذا صريح في القبح العقلي الّذي نفاه الأصوليون (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) كاتّخاذ الأنداد وقولهم : هذا حلال وهذا حرام بغير علم
بل مقتضى العموم دخول كل ما يقال على الله من غير علم سواء كان إطلاق اسم عليه أو
وصفه بصفة أو استناد حكم اليه من الوجوب أو النّدب أو الكراهة أو الإباحة أو
التحريم.
قال القاضي :
وفيه دليل على المنع من اتّباع الظنّ رأسا وامّا اتّباع المجتهد لما ادّى اليه ظنّ
مستند الى مدرك شرعيّ فوجوبه قطعيّ والظنّ في طريقه كما بينّاه في الكتب الأصوليّة
، انتهى.
ولا يذهب عليك
انّ مراده بدلالتها على المنع من اتّباع الظنّ فيما ينسب اليه تعالى مطلقا سواء
كان من الاعتقاديّات كأصول الدّين أو المتعلّقة بالعمل
كالفروع. ثمّ اخرج من ذلك اتّباع الظنّ الحاصل للمجتهد من مدرك شرعيّ فإنّه
ممّا يجب اتّباعه وان كان الظنّ في طريقه نظرا الى ما دل عليه من الدّليل.
وذلك لانّ هنا
مقدّمتين وهي قول المجتهد : هذا مظنوني مجتهدا وكلّ ما هو كذلك فهو ممّا يجب عليّ
العمل به والأولى وجدانيّة والثّانية إجماعيّة قطعيّة فيكون الحاصل منهما اعني
وجوب العمل معلوما على القطع له ، فمراده إخراج ذلك ممّا منع من اتّباع الظنّ فيه
لا انّ العلم قد تعلّق بالحكم نفسه ، فانّ كون الحاصل من الدّليل الظنّي أعني أحد
الأحكام الخمسة نفسها معلوما للمجتهد غير ظاهر ، إذ ما يلزم من الدّليل الظنّي
ظنّي قطعا ، إلّا أن نقول بالتّصويب وهو قول مرغوب عنه لقيام الدّليل على التخطئة.
ويمكن ان يراد
من العلم ما يشمل الظنّ أيضا فإنّ إطلاق العلم عليه في القرآن غير عزيز وحينئذ
فيصحّ القول بذلك الحكم الظنّي واستناده الى الله تعالى وكان عليه أن يذكر المقلّد
فإنّه يجب عليه اتّباع ما ادّى اليه ظنّ مجتهده ويعلم ذلك أيضا بدليل مثل قوله :
هذا ظنّ مجتهدي ، وما هو كذلك يجب عليّ العمل به والأولى فرضيّة والثّانية
إجماعيّة ، فلا يحرم عليه اسناد الاحكام المظنونة له اليه تعالى ، بأن يقول : هذا
حرام وهذا واجب ونحو ذلك.
ومن ثمّ قيل :
انّ تقليد المجتهد ليس بتقليد على الحقيقة بل على المجاز فإنّه قبول قول الغير
بغير دليل وهذا له دليل فيكون الإخلال به مع ذكر المجتهد بعيدا من الصّواب إلّا أن
يقال : هو داخل في اتّباع ظنّ المجتهد لكونه مقلّده أو يقال : خرج ذلك بالإجماع
ولولاه لمنعنا العمل به فانّ اتّباع الظنّ مذموم الّا فيما دلّ الدّليل عليه.
ثمّ انّ القاضي
عند قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) قال : هو دليل على المنع من التّقليد لمن قدر على النظر
والاجتهاد وامّا اتباع الغير في الدّين إذا علم بدليل ما انّه محقّ كالأنبياء
والمجتهدين في الأحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتّباع لما انزل الله وهذا
يوجب إدراج المقلّد مع
المجتهد فيما تقدّم.
لكن في كلامه
هذا نظر من وجوه :
الأوّل ـ انّا
لا نسلّم دلالة الآية على ذلك إذ ليس فيها إلّا تحريم ترك ما انزل الله واتّباع
الإباء لا تحريم التّقليد مطلقا لمن قدر على الاجتهاد إلّا أن يقال : الذّمّ انّما
توجّه إليهم بسبب التّقليد إذ لو كان لهم حجّة يستمسكون بها لم يتعلّق بهم الذّمّ
فتوجّه الذّمّ إليهم لذلك يعطى التّحريم مطلقا ويلزم المطلوب.
وقد يستدلّ على
بطلان التّقليد بأن يقال للمقلّد : أعرفت انّ المقلّد محقّ أم لا فان لم تعرف فكيف
قلّدته مع احتمال كونه مبطلا وان عرفت فامّا بتقليد آخر ويلزم التّسلسل وامّا
بالعقل وذلك كاف في معرفة الحقّ والتّقليد ضائع.
الثّاني ـ حكمه
بجواز اتّباع الغير في الدّين إذا علم إلخ لا يخفى ما فيه فإنّه لا يكفي في
الاتّباع مجرّد كون المنع محقا ، بل لا بدّ له من دليل على الاتّباع حتّى يخرج من
التّقليد المذموم ويدخل في اتّباع الدّليل فانّ التّقليد إذا عرى من الدّليل كان
مذموما كما أشرنا اليه.
وأيضا لا يجوز
للمجتهد تقليد مجتهد غيره كما بيّن في الأصول ، مع انّ ذلك الغير محقّ ومتّبع لما
انزل الله إلّا أن يريد غير المجتهد كما يعطيه سياق كلامه الدّالّ على المنع من
التّقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد ، وان كان قوله أخيرا انّ اتّباع المجتهد
ليس بتقليد قد يأباه فتأمّل فيه.
وبالجملة عدم
جواز تقليد المجتهد مجتهدا آخر معلوم قطعا إذ الظنّ الحاصل باجتهاده أقوى ممّا
يحصل له بالتّقليد ومع وجود الأقوى لا يتبع الأضعف.
وأيضا المنع من
اتّباع الظنّ في القرآن كثير إلّا ما خرج بالدّليل ووجوده هنا غير ظاهر لعدم
الإجماع وهو العمدة في جواز التّقليد وانتفاء الحرج والضّيق المتعيّن عقلا بدونه.
ومن ثمّ اختلف
الأصوليون في أصل جواز التقليد حتى ذهب جماعة إلى إيجاب
الاجتهاد على كلّ أحد وحرم التقليد ، نظرا الى انّ الحاصل منه ظنّ مذموم
واعتبر آخرون في جوازه عدم كونه ممن يعرف صحة الدّليل وفساده فلا يجوز التقليد
بالنسبة إلى العارف وهذا غير بعيد كما يظهر بملاحظة أدلّة جواز التقليد وعدمه ولو
لا الضرورة والحرج لكان القول بعدم جوازه مطلقا أوجه.
لكنّ الظاهر
أنّ فيه ضررا عظيما وحرجا وضيقا وهو منفي بالعقل والنقل بل متعذّر من أكثر الناس
وقد بسطنا الكلام هنا في الأصول.
والواو في قوله
(أَوَلَوْ كانَ) للعطف لا للحال على ما وقع في الكشاف وفعل الاستفهام
محذوف وكذا جواب الشرط والمعنى أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدّين
ولا يهتدون من الصواب لا تبعوهم أيضا.
الثالثة : [البقرة ١٧٧].
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي مما تستلذّونه وتستطيبونه من الرّزق الحلال لا
الحرام ، فإنه لا يرزق إلّا الحلال كما ثبت في محلّه ، ولا ما كان خبيثا ينفر عنه
الطبع ويجزم العقل بقبح أكله كالدّم والبول والمني والحشرات وغيرها ، ويبقى بيان
ما لا يدرك العقل كونه طيبا موكولا الى الدّليل الخارجي.
وقد يستفاد منه
اعتبار كونه طاهرا إذ النجس خبيث مضرّ ومن ثمّ فسر بعضهم الطيب بالطاهر ، فهي
بمثابة السابقة في الدّلالة على إباحة أكل جميع ما يعدّه العقل طيبا ولا يجد فيه
ضررا ولا نجاسة وخبثا مما يسمى رزقا لبني آدم وينتفع به في الأكل والأمر فيها
للإباحة ، فإنّ تناول المستلذّات لا يدخل في التعبد.
وما يقال انه
للوجوب نظرا الى وجوب أكل المباح وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس ، فلا يخفى ما
فيه فانّ مرجع الأوّل الإباحة وتحريم ما عداه والثاني لا يعرض في بعض الأوقات
والآية غير مقصورة عليه.
(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما رزقكم (إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ان صحّ أنكم تخصونه
بالعبادة وتقرّون انه مولى النعم فاشكروا له ، فإنّ العبادة لا تتمّ إلا
بالشكر ، إذ هي ضرب منه فإذا كانت هي الغاية فيه وليس وراءها شكر.
قال في مجمع
البيان : وتلخيص الكلام ان كانت العبادة واجبة عليكم لأنه إلهكم فالشكر له أيضا
واجب عليكم لانه منعم محسن إليكم ، وحاصله انّ العبادة من الشكر فمتى كانت واجبة
كان الشكر أيضا واجبا وهو ظاهر في أنّ وجوب الشكر كوجوب العبادة. وقال في مجمع
البيان أيضا : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من تعظيم المنعم فهو على وجهين :
أحدهما
الاعتراف بالنعمة متى ذكر المنعم بالاعتقاد.
والثاني الطاعة
بحسب جلالة النعمة فالأوّل لازم على كلّ حال والثاني انما يلزم في الحال الّتي
يحتاج فيها الى القيام بالحقّ واما العبادة فهي ضرب من الشكر إلّا انها غاية فيه
وليس وراءها شكر ويقترن به ضرب من الخشوع ولا يستحقّ العبادة إلّا الله سبحانه
لانه المنعم بأصول النعم مثل الحياة والقدرة والشهوة وأنواع المنافع ولا يوازيها
نعمة.
الرابعة :
(كُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً)» اى كلوا ما أحلّ الله لكم ورزقكم فانّ جميع ما رزقكم
الله حلال وطيّب فلا تحرّموه على أنفسكم وتجتنبون عنه ، «فحلالا» حال كاشفة لا
مقيّدة لرزقه بالحلال إذ ما يرزقه الله لا يكون حراما ، امّا «طيّبا» فيحتمل أن
يكون كذلك ويحتمل التّقييد كما وقع في الآية السّابقة عليه أعني قوله (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ
اللهُ لَكُمْ) فانّ ظاهرها النّهي عن تحريم ما طاب ولذّ من الحلال.
وفيه نظر ، بل
الظّاهر أنّ قيد طيّبات ما أحلّ الله لبيان الواقع فإنّه محلّ التّحريم الصادر
عنهم على ما قيل : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وصف القيامة لأصحابه يوما وبالغ في إنذارهم ، فرقّوا ،
فاجتمعت جماعة من الصّحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن لا يزالوا صائمين
قائمين ولا يأكلوا اللّحم ولا يناموا على فراش
ولا يقربوا النّساء والطّيب ويرفضوا لذّات الدّنيا ، ويلبسوا المسوح اى
الصّوف ، ويسيحوا في الأرض.
فبلغ رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك فقال لهم : انّي لم اومر بذلك ، انّ لأنفسكم عليكم
حقّا فصوموا وأفطروا وناموا وقوموا فانّى أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللّحم
والدّسم وآتى النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّى فنزلت الآية.
ويحتمل ان يكون
الإضافة بيانيّة أي لا تحرّموا ما أحلّ الله. وبعد ما أسلفنا اندفع قول القاضي :
انّه لو لم يقع الرّزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة فانّا أوّلا
نمنع كون كلّ ما يذكر له فائدة زائدة ولم لا يكفى بمجرّد الفائدة سلّمنا لكنّها
هنا موجودة وهي الإشارة الى انّ ذلك حلال قد رزقكم الله فلا معني لتحريمه
والاجتناب عنه كما بيّنا من كون القيد للكشف والبيان ويجوز أيضا أن يكون المراد
بيان عدم معقوليّة الاجتناب وانّ ذلك الوصف هو الباعث لمذمّة التّارك المجتنب.
(وَلا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) اى لا تتجاوزوا حدود الله بجعل الحلال حراما والحرام
حلالا فانّ ذلك تجاوز عن حدوده واعتقاد مخالف للشريعة فيكون النهي عنه بتجاوز
الحدود في اجتناب الحلال على طريق اعتقاد التّحريم أو المرجوحيّة ، وحينئذ فلا
تنافي كون تركه للزّهد أو لوجه آخر راجح على العقل كعدم الكسل في العبادة وعدم
قساوة القلب ، وإصلاح النّفس وتذليلها ، فإنّه ممّا لا قصور فيه بل هو مندوب اليه
ومن ثمّ نقل عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم انّه ما أكل من الحنطة وما شبع من الشّعير ، وزهد أمير
المؤمنين علىّ بن أبى طالب عليهالسلام قد بلغ الغاية.
وممّا يدلّ على
أصالة إباحة ما ينتفع به قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) اى كالمهد تمتهدونها فهي محلّ لراحتكم كالمهد للصّبيّ
وهو مصدر سمّى به وقرئ مهادا اسم لما يمهد به كالفراش أو جمع مهد.
(وَسَلَكَ لَكُمْ
فِيها سُبُلاً) وجعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية والبراري
تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها وما لكم فيها من الحوائج (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (فَأَخْرَجْنا بِهِ) عدل من لفظ الغيبة إلى صيغة التّكلّم تنبيها على ظهور
ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وإيذانا بأنّه مطلع فتنقاد الأشياء المختلفة
لمشيّته.
ونحوه قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) ومثله في القرآن كثير.
(أَزْواجاً) أصنافا سمّيت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض (مِنْ نَباتٍ) بيان أزواج وكذلك قوله (شَتَّى) ويحتمل أن يكون صفة للنّبات ، إذ النّبات مصدر في الأصل
يستوي فيه الواحد والجمع وهو جمع شتيت كمريض ومرضى ، بمعنى أنّها متفرّقات في الصور
والاعراض من الطّعم واللّون والرّائحة والشّكل وفي المنافع بعضها يصلح للنّاس
وبعضها للبهائم.
(كُلُوا وَارْعَوْا
أَنْعامَكُمْ) حال من ضمير «أخرجنا» على ارادة القول أي أخرجنا أصناف
النّبات قائلين كلوا وارعوا انعامكم والمعنى معدّ بها لانتفاعكم بالأكل والعلف ،
وحملها على الاستئناف أو انّها مفعول له لا يخلو من عدم استقامة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) اى فيما خلقنا وأخرجنا دلائل واضحة لذوي العقول الناهية
عن اتّباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية بالضّمّ وهو العقل لأنّه ينهى عن
القبيح.
وجوّز أبو علىّ
أن يكون مصدرا كالهدي ، وخصّهم بالذّكر ، لأنّهم أهل الفكر والاعتبار فيستدلّون
بها على وجود الصّانع وصفاته من العلم والقدرة والإرادة والحكمة ويتأمّلون في حصول
هذه النّباتات من الأرض الغبراء بسقي الماء ووجود حكم فيها وانّ بعضها سمّ قاتل
وبعضها نافع شاف وبعضها طعام وبعضها فاكهة وبعضها للدواب.
وفيها دلالة
على إباحة الأرض بما فيها من النّبات والمأكل لكل انسان بالتّصرف فيها لنفسه
ولأنعامه لانّه تعالى إذا أباح الأكل أباح سائر وجوه الانتفاع ومن نعم
الله تعالى أنّ أرزاق العباد انّما تحصل بعمل الانعام وقد جعل الله علفها
ممّا يفضل من حاجتهم ولا يقدرون على أكله.
(مِنْها خَلَقْناكُمْ) أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم وهو آدم عليهالسلام أو لأنّ بنى آدم خلقوا من النّطفة ودم الطّمث المتولدين
من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضيّة أو لما ورد في الخبر : انّ
الملك يأخذ من تربة المكان الّذي يدفن فيه الآدمي فيبذرها علي النّطفة.
(وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالموت وتفكّك الاجزاء فتعود أرضا لانّ الجسد يصير
ترابا فيختلط بالأرض إلّا من رفعه الله الى السّماء وهو أيضا يحتمل أن يعاد إليها.
(وَمِنْها
نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) فيؤلّف بين اجزائهم المتفرّقة المختلطة بالتّراب
ويردّهم كما كانوا أحياء أوّل مرّة ويخرجهم الى المحشر يوم يخرجون من الأجداث
سراعا فيكون الإعادة الجسمانيّة بعد الموت معلومة من الآية كما هي من غيرها.
وقريب من ذلك
في الدّلالة قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أنشاهما مقدّرين على سبيل الاختراع المشتمل على الايات
العظيمة امّا السماوات فقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا لكلّ واحد من السّيارات
السبع حركات مختلفة كالبطؤ والسرعة بعد التّوسط في الحركة والوقوف والرّجوع بعد
الاستقامة إلى الحركة على توالى البروج بعد ما حكموا انّ السّماوات لا يتطرّق
إليها الاختلاف الوضعيّ ، وانّ حركة الكواكب في الفلك ليست كحركة السّمك في الماء
، وإنّما تدور بإدارة الفلك إيّاه.
انّ كلّ واحد
من الأفلاك السيّارة تنقسم إلى أفلاك أخر يتضمّنها فلكه الكلّي الّذي مركزه مركز
العالم ، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب ثمّ ان كان مع المخالفة محيطا بالأرض
سمّى الخارج المركز وان لم يكن محيطا بها سمّى بالتّدوير وكان الكوكب فيه مركوزا
كالفصّ في الخاتم ، ويلزم من مجموع الحركات المركّبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة
في النظر ، وان كان كلّ منها متشابها في نفس الأمر ونعني بالتشابه هنا أن يقطع
المتحرّك من المحيط في أزمنة متساوية قيسا متساوية
أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك.
وأثبتوا لكلّ
واحد من السيّارات السّبع أفلاكا تتمّ بها حركاتها الخاصّة بها على وجه تتحيّر فيه
العقول ولا شكّ انّ اختصاص مقادير كلّ واحد من الأفلاك بمقدار معيّن مع اشتراكها
في الطّبيعة الفلكيّة ، يدلّ على مخصّص مدبّر مختار خبير يديرها وكذا تخصيص كلّ
منهما بحيّز معيّن ، وكذا تعيّن نقطته من سطح الفلك لقطبه مع تساوى جميع نقطة
المفروضة عليه في صلوح ذلك ونحوها من الأمور المختصّ كل واحد منها لكلّ واحد من
تلك الأفلاك وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم باذن خالقها.
وبالجملة فإنّ
هذا التّرتيب العجيب والنّسق الغريب في تركيب الأفلاك وايتلاف حركتها وارتباط
أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتّصالاتها وانصرافاتها أترى أنّها منبئة عن
حكمة حكيم وقدرة خبير أم هي واقعة عبثا وجزافا؟ ـ هيهات.
فانّ من جوّز
في بناء رفيع وقصر مشيد ، انّ التّراب والماء انضمّ أحدهما إلى الآخر ثمّ تولّد
فيهما النّبات وتولّد من تركّبهما القصر ، ثمّ تزيّن بنفسه بالنّقوش الغريبة
والرّسوم اللّطيفة ، قضى العقل عليه بالجنون وسخافة الرّأي بل عدّه من زمرة
الأنعام لا من جملة الأنام.
وامّا الأرض
فمن تأمّل في شكلها من الاستدارة وكونها واقعة في مركز العالم حتّى انبعث منها
بوقوع الشّمس عليها مخروط ظلّيّ في مقابلة الشمس حتّى وقع منها الخسف ، ومن انكشاف
بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى
السّماء حتى اختلف مرور الشّمس وسائر الكواكب ، سمت رؤس أقطار البلدان وتباينت
الفصول والأمزجة والأخلاق الى غير ذلك ، علم افتقارها الى مدبّر قدير وصانع خبير
واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند.
وفي جمع
السّماوات دون الأرض إشارة إلى أنّها طبقات متفاضلة بالذّات مختلفة بالحقيقة بخلاف
الأرض (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) النهار عبارة عن مدّة كون الشمس
فوق الأفق ، وفي عرف الشّرع بزيادة ما بين طلوع الفجر الصّادق وبين طلوع
جرم الشّمس وامّا اللّيل فعبارة عن مدّة خفاء الشّمس تحت الأفق أو بنقصان الزيادة
المذكورة فإنّ الشّمس إذا غابت يقع رأس مخروط ظلّ الأرض إلى فوق فتقع الأبصار
داخلة إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشّرقيّ فيكون أوّل الفجر
الكاذب إن كان الضّوء مرتفعا عن الأفق بعد وأوّل الفجر الصّادق إذا قرب من الأفق
جدّا ، وانبسط النّور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأرض طلع مركز جرم الشّمس في
مقابله.
فالمراد
باختلافهما تعاقبهما إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة من قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ خِلْفَةً) ويحتمل أن يريد اختلافهما في الجنس واللّون بالنّسبة
إلى البقاع فانّ نهار كلّ بقعة ليل بقعة تقابلها ضرورة كرويّة الأرض أو يريد
الاختلاف في الطّول والقصر فإنّ زيادة أحدهما تستلزم نقصان الأخر ضرورة كون
مجموعهما أربعة وعشرين ساعة وفي ذلك من الايات مالا يخفى.
(وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) اى ينفعهم أو بالذي ينفعهم من الرّكوب والحمل عليها في
التجارات والمكاسب ونحو ذلك ، والقصد به الى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص
الفلك بالذّكر لأنّها سبب الخوض فيه والاطّلاع على عجائبه ، ومن ثمّ قدّم البحر
على ذكر المطر والسّحاب ، لانّ منشأهما البحر في غالب الأمر وتأنيث الفلك لانّه
بمعنى السفينة ويحتمل أن يراد بما ينفع النّاس ما ينفعهم من الطّيور والسّموك
ونحوهما من الأشياء الحاصلة فيه فيكون فيها دلالة على انّها مباحة في الشرع كما هو
عند العقل.
(وَما أَنْزَلَ اللهُ
مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) من الأولى ابتدائية والثّانية بيانيّة والسّماء إمّا أن
يراد به نفس الفلك أو السّحاب أو جهة العلوّ.
(فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فعمّرها بعد خرابها لأنّ الأرض إذا وقع عليها المطر
أنبتت وإذا لم يصبها المطر لم تنبت فهي كالميّت وعلى هذا فموت الأرض من ترشيح
الاستعارة فإنّه لما عبّر عن بهجتها ونضرتها بالحياة عبر عن جمودها
وكمودها وبقائها على الهيئة الأصليّة بالموت كأنّها جسد لا روح فيه وقيل :
أراد به احياء أهل الأرض بإخراج الأقوات وغيرها ممّا تحيي بها نفوسهم.
(وَبَثَّ فِيها مِنْ
كُلِّ دَابَّةٍ) أي فرّق فيها من كلّ حيوان يدبّ وأراد بذلك خلقها في
مواضع مترقّبة فهو عطف على أحيا لأنّ الدّواب ينمين بالخصب ويعشن بالماء ويحتمل
عطفه على أنزل.
(وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ) في مهابّها وأحوالها اى تقلبها في جهات العالم على حسب
المصالح شمالا وجنوبا وشرقا وغربا أى صباء ودبورا وعلى كيفيّات مختلفة حارّة
وباردة وعاصفة ورخاء ، وقرأ حمزة والكسائي على الافراد.
(وَالسَّحابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا ينزل ولا يتقشّع مع انّ الطّبع يقتضي أحدهما حتّى
يأتي أمر الله وقيل : تسخير الرّياح تقليبه في الجوّ بمشيّته (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكّرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم وفيها دلالة
على جواز الرّكوب في البحر والانتفاع بسمكه وطيره إلّا ما أخرجه الدّليل.
وفيها أيضا
دلالة ظاهرة على وجود الإله ووحدته وحكمته وقدرته من وجوه شتّى يطول شرحها والحاصل
انّ المذكور أمور ممكنة وجد كلّ منها على وجه مخصوص من بين وجوه مختلفة فلا بدّ
لها من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيّته متعاليا عن
معارضة غيره وإلّا لم يتمّ الصّنع على الوجه البديع والنّظام العجيب.
وإنّما خصّ
الايات الثمانية بالذّكر مع أنّ سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها
على وجود الصّانع بل كلّ ذرّة من الذّرات لأنّها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها
نعما على المكلّفين ، ومتى كانت الدلائل كذلك ، كانت أنجع في القلوب وأشدّ تأثيرا
في الخواطر وعنه صلىاللهعليهوآله : ويل لمن قرء هذه الآية فمجّ بها اى لم يتفكّر فيها
ولم يعتبر بها وفيها تنبيه على شرف علم الكلام والحثّ على البحث والنّظر فيه.
الثاني
ما فيه دلالة على تحريم بعض الأشياء
وفيه آيات.
الاولى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) قد تقدّم تفسير الآية الى قوله (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) وهنا نذكر تتمتها اعنى (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي الّتي ماتت بالخنق وهي داخلة في الميتة ، وكذا ما
بعدها لكن ذكرها منفردة عنها للتنصيص على تحريمها وعدم حلها بوجه ردّا على
الجاهليّة حيث كانوا يأكلونها.
(وَالْمَوْقُوذَةُ) وهي الّتي اثخنوها ضربا بخشب أو حجر أو نحوه من الثقل
حتّى تموت ، من وقذته إذا ضربته ضربا شديدا والوقذة شدّة الضرب.
(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الّتي تردت من علوّ أو في بئر فماتت.
(وَالنَّطِيحَةُ) الّتي نطحتها اخرى فماتت بالنّطح فعيل بمعنى مفعول وهو
يقتضي عدم التّاء لاستواء المذكّر والمؤنّث فيه لكنّها هنا للنّقل من الوصفيّة إلى
الاسميّة.
(وَما أَكَلَ
السَّبُعُ) ما أكل منه وبقي بعضه فمات بذلك لأنّ ما أكل السبع فقد
ذهب ولا حكم له وإنّما الحكم للباقي قال القاضي : وهو يدلّ على أنّ جوارح الصّيد
إذا أكلت ما اصطادته لم يحلّ. قلت : في الدّلالة بحث وسيجيء تمام الكلام.
(إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) إلّا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرّة
وسيجيء بيانها ، وقيل : انّ الاستثناء متعلّق بما أكل السّبع وقيل : انّه استثناء
منقطع من المحرمات كأنّه قيل لكن ما ذكّيتم من غير هذا فهو حلال.
والذكاة هي قطع
العروق الأربعة بمحدّد مع الشرائط المعتبرة.
(وَما ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ) هو واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت
يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها يعظّمونها بذلك ويتقرّبون بها إليها وهي ثلاث
مائة وستّون حجرا وقيل : هي الأصنام وعلى بمعنى اللّام كما ورد العكس في : سلام لك
من أصحاب اليمين ، بمعنى سلام عليك أو على أصلها بتقدير وما ذبح يسمّى عليها.
(وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) اى حرم عليكم الاستقسام بالاقداح اى السّهام وذلك انّهم
إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاث أقداح مكتوب على أحدها : أمرني ربّي ، وعلى الأخرى ،
نهاني ربّي ، والثالث غفل لا كتابة عليه فان خرج الآمر مضوا على ذلك أو النّاهي
تجنّبوا عنه وان خرج الغفل أجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم من
الخير والشرّ ، دون ما لا يقسم لهم بالأزلام.
وقيل : المراد
به الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة واحدها زلم كجمل وزلم كصرد وروى
على بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهمالسلام : انّ الأزلام عشرة سبعة لها أنصباء وعددها الى ان قال
: وكانوا يعمدون الى الجزور فيجزؤنه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السّهام
ويدفعونها الى رجل وثمن الجزور على من يخرج له السّهام الّتي لا أنصباء لها وهي
القمار فحرمه الله تعالى وقيل : هي كعاب فارس والرّوم الّتي كانوا يتقامرون بها
وهي الشطرنج.
(ذلِكُمْ فِسْقٌ) تأكيد لما تقدّمه فيحتمل اختصاصه بالاستقسام ويحتمل
رجوعه الى الجميع اى هو ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله الى معصيته فاللازم التّباعد
عنه.
(الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً) اعتراض توسّط بين المحرّمات السّابقة وبين قوله : ـ (فَمَنِ اضْطُرَّ) لانّه متّصل بالمحرّمات السابقة
__________________
ولعلّ فايدة الاعتراض بمثله الإشعار بأنّ تناولها فسوق وحرمتها من جملة
الدّين الكامل والنّعمة والإسلام المرضيّ.
والمعنى فمن
اضطرّ الى تناول شيء من هذه المحرّمات (فِي مَخْمَصَةٍ) في مجاعة بحيث لا يمكنه الامتناع من الأكل ، وأصل الخمص
ضمور البطن.
(غَيْرَ مُتَجانِفٍ
لِإِثْمٍ) غير مائل أو منحرف اليه والتجانف الميل والانحراف من
جنف القوم إذا مالوا وانتصاب غير على الحالية من ضمير اضطرّ اى من اضطرّ إلى أكل
الميتة وما عدّده من المحرّمات عند المجاعة الشّديدة غير مائل إلى الإثم بأن يأكل
زيادة على قدر الحاجة أو يقصد التّلذّذ.
(فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ) لذنوبه (رَحِيمٌ) به فلا يؤاخذه بأكله ولم يرد انّه يغفر له عقاب ذلك
لانّه أباحه له ولا عقاب على المباح ويحتمل أن يكون المراد أنّه غفور لذنوب عباده
رحيم بهم حيث أباح لهم حال الخوف على النّفس ما كان محرّما عليهم ولم يحكم
باستمرار التّحريم وعدم الأكل حتّى يموتوا فإنّ الرّحمة تنافي ذلك.
الثانية :
(قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ) اى في القرآن أو فيما اوحى الىّ مطلقا سواء كان قرآنا
أو لا وفيه تنبيه على أنّ التحريم انّما يعلم بوحي الله اليه وكذا غيره من الأحكام
انّما يعلمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بالوحي لا بغيره فإنّه قول عن الهوى وما ينطق عن الهوى
ان هو إلّا وحي يوحي.
(مُحَرَّماً) طعاما محرّما (عَلى طاعِمٍ
يَطْعَمُهُ) الوصف للتّأكيد كما في (طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ).
(إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً) وهي ما فارقته الرّوح بغير ذبح شرعيّ سواء كان ذكرا أو
أنثى وقرئ الفعل على الغيبة وميتة بالرّفع على انّ كان تامّة.
(أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً) مصبوبا كالدم في العروق لا كالطّحال وان كان حراما
لدليل من خارج وخصّ المصبوب بالذكر لانّ ما يختلط باللّحم منه ممّا لا يمكن تخليصه
منه
مباح ، وفي الجمع بين تقييد الدّم بالمسفوح هنا وبين إطلاقه في قوله :
حرّمت عليكم الميتة والدّم اشكال ، ومن ثمّ أخذ الشّافعيّة بظاهر الإطلاق فحرموا
مطلق الدّم وان تخلّف في العروق بعد الذّبح.
ولا منافاة بين
الإطلاق والتقييد هنا فيعمل على الإطلاق إلّا ما ثبت خروجه بالدّليل ، وقيّده
بعضهم به ويلزمه اباحة غير المسفوح وفيه نظر وفي تفسير القاضي انّ دما معطوف على
أنّ ـ مع ما في حيزه ولعلّ ذلك لاختلاف القراءة المتواترة في رفع ميتة ونصبها ولو
تعيّن نصبها لكان العطف عليها لازما.
(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ) يحتمل رجوعه الى لحم الخنزير أو خنزير نفسه أو كلّ واحد
ممّا تقدّم اى هو قذر أو خبيث تنفر عنه الطّباع.
(أَوْ فِسْقاً) عطف على لحم الخنزير وما عطف عليه وما بينهما اعتراض
للتعليل والمراد أنّ من المحرّمات ما هو فسق لكنّه مجمل لم يبيّنه ولعلّ قوله : (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة موضحة له بيّن المراد منه بها ولا يبعد أن يراد ما
لم يذكر اسم الله عليه سواء ذكر عليه غير الله أم لا والإهلال رفع الصّوت بالشيء.
(فَمَنِ اضْطُرَّ) اى تناول شيئا من المذكورات (غَيْرَ باغٍ) اى غير قاصد أكل الميتة أو باغ على مضطرّ آخر مثله أو
خارج على الامام (وَلا عادٍ) قدر الضّرورة وفي مرسلة البزنطي عن أبى عبد الله عليهالسلام في قول الله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : الباغي الّذي يخرج على الامام ، والعادي الذي
يقطع الطّريق لا تحلّ له الميتة.
(فَإِنَّ رَبَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه على ذلك لانّه أباحه له والآية محكمة دالّة
على انّه عليهالسلام لم يجد فيما اوحى إليه إلى تلك الغاية محرّما غير
المذكورات ،
__________________
فلا ينافيه ورود التّحريم بعد ذلك بالنّسبة إلى أشياء أخر ، وعلى هذا فلو
ورد خبر دالّ على تحريم شيء غيرها لا يكون ذلك نسخا للكتاب بالسنّة كما قد يتوهّمه
جماعة ، لأنّ شرط النّسخ استمرار الحكم وعدم وجدان الحكم في وقت لعدم الوحي لا
ينافيه التّنصيص على الحكم فيما بعد ذلك من الأوقات ، إذ نهاية عدم وجدان الحكم
عدم الحكم ، وهو ليس حكما بالعدم ، حتّى يكون ورود الحكم بعد ذلك ناسخا.
على أنّ ذلك لا
ينافي محرّمات أخر في تلك الحالة إذ قد يكون الحصر إضافيّا أو يكون داخلا بدليل
آخر فيخصّ عموم الإباحة المفهوم من الحصر بدليل من خارج كسائر العمومات ، أو يقال
: إن حاصل القول بأنّه لا محرّم سوى الأربعة انّ ما عداها ليست بمحرّمة وهذا عامّ
فإثبات محرّم آخر تخصيص له لا نسخ فلا نسخ بوجه.
وقد ظهر ممّا
ذكرنا أنه لا يمكن الاستدلال بها على حلّ ما عدا المذكورات الّا مع انضمام
الاستصحاب وتتبع دليل التحريم فإنه بمجرّد أصالة العدم من دون الفحص والتفتيش لا
يثبت الحليّة لجواز التّغيير نعم لا يجب الاستقصاء في الفحص كما بيّن في الأصول.
الثالثة :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ) وهو كلّ شراب خالط العقل فستره وذهب به من أىّ قسم كان
أخذا من التّخمير وهو السّتر ، هذا عند أصحابنا ولهم في ذلك روايات دلّت عليه
وتابعهم الشّافعي وقال أبو حنيفة : هو ما غلا واشتدّ وقذف بالزّبد من عصير العنب.
(وَالْمَيْسِرِ) مصدر كالموعد سمّى به القمار لما فيه من أخذ مال النّاس
بيسر أو سلب يساره تقول : يسرته إذا قمرته وهو عندنا شامل لجميع أنواع القمار من
النّرد والشطرنج والكعبتين حتّى لعب الصّبيان بالجوز ، وان لم يكن على رهن عند
أصحابنا ، وعن النّبيّ صلىاللهعليهوآله : إيّاكم وهاتين الكعبتين المشؤمتين فإنّهما من ميسر
العجم. وعن علىّ عليهالسلام : انّ النّرد والشّطرنج من الميسر ، والمعنى انّهم
يسألونك عن تعاطيهما.
(قُلْ فِيهِما) أي في تعاطيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) وزر عظيم وقرء حمزة والكسائي كثير بالثّاء المثلّثة
ومعنى الكثرة أنّ أصحاب الخمر والميسر يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة لأنّها
مفسدة للعقل ومؤدية إلى ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات كما أشعر به قوله (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ.) الآية.
(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من كسب المال والطّرب وحصول القوّة بشربها والتوصّل
بهما إلى مصادقة الفتيان ومعاشرة الحكّام ونحو ذلك.
(وَإِثْمُهُما) لمترتّب على تعاطيهما (أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِما) فانّ المفاسد بالإثم عظيمة بالنّسبة إلى النّفع بل ليس
هناك نفع بالنّسبة إلى الإثم إذ هو أمر فإن ولذّة قليلة والعقاب عظيم دائم.
ولعلّ ذكر
النّفع للإشارة إلى أنّه أمر هيّن ليس بملتفت اليه عند العقل والشرع بل النفع
الّذي يخيّله الإنسان فيه ليس بنفع حقيقة إذ ما يستلزم دخول النّار وغضب الملك
الجبار ، والفضيحة في دار القرار ، وبين رسل الله وعباده الصّالحين الأبرار ،
والدّخول في سلك الفجّار ، ليس بنفع عند أولي الأبصار ، والّا فالمناسب ترك ذكره
في هذا المقام.
قال القاضي :
ولذلك قيل : انّها محرّمة للخمر فانّ المفسدة إذا رجحت على المصلحة اقتضت تحريم
الفعل والأظهر انّه ليس كذلك لما مرّ ، أراد بما مرّ ما ذكره سابقا من عدم كون
الحسن والقبح عقليّين فانّ تحريم فعل برجحان مفسدته على مصلحته من لوازم ذلك.
ولا يخفى ما في
كلامه من النّظر : امّا أوّلا فلحكمه بعدم كون الآية محرّمة لها والظّاهر انّها
دالّة على التّحريم إذ لا يراد من الحرام سوى ما يلحق فاعله الإثم والذنب وقد صرّح
تعالى فيها بترتّب الإثم على تعاطيهما ووصفه بالكبير وكون الإثم
أعظم من النّفع.
وأمّا ثانيا
فلانّ الفعل إذا اشتمل على مفاسد كثيرة أكثر ممّا يتخيّل أنّه منفعة فإنّ الحكمة
تقتضي تحريمه وإن قلنا بالحسن والقبح الشّرعيّين فقط وأنّ أفعاله تعالى ليست
معلّلة بالأغراض وأنّه يجوز خلوّ الاحكام عن علل ومصالح لانّ ذلك لا يجوز عند ظهور
المفاسد ولم يقل به من يقول بالشّرعيّين ، ومن ثمّ كان أصحاب القياس لا يجوّزون
كون وصف صالح للعلّية غير علّة ولا يقولون بخلوّ الحكم عن علّة مهما أمكن وان جاز
الخلوّ ويحكمون بأنّ التعبد قليل بل ليس له وجود فتأمّل.
«وفي مجمع
البيان» : قال الحسن : في الآية دلالة على تحريم الخمر من وجهين : أحدهما قوله :
وإثمهما أكبر فإنّه إذا زادت مضرّة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع منه
والثّاني انّه بيّن انّ فيهما الإثم وقد حرم في آية أخرى الإثم فقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) هذا.
واعلم انّ
الظّاهر من الأخبار وهو المشهور بين أصحابنا انّ الخمر ما كانت محلّلة أصلا في
الإسلام بل في سائر الأديان كانت حراما ، والّذي يظهر من الكشاف والبيضاوي أنّها
كانت محلّلة في أوّل الإسلام ثمّ نزل تحريمها قال في الكشاف ونحوه قال في تفسير
القاضي : روى انّها نزلت بمكّة (وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. وفي استفادة
التّحليل من هذه الآية نظر ، بل الظّاهر خلافه وسيجيء الكلام فيها قريبا ان شاء
الله تعالى.
ثمّ قالا : انّ
عمر ومعاذا ونفرا من الصّحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة
للعقل ومسلبة للمال فنزلت (فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون.
ولا يخفى ما
فيه فانّ قولهم : أفتنا. ان كان بعد فهم التحليل من الآية السّابقة فلا وجه
للإفتاء بعده بل يجب عليهم متابعة قوله تعالى وارادة التّحريم بالإفتاء بعد ثبوت
التّحليل لا معنى له ، وأيضا شرب قوم بعد نزول هذه الآية امّا لعدم فهمهم
التّحريم أيضا أو لارتكاب الإثم ، والأوّل باطل لأنّهم سألوا النّبيّ صلىاللهعليهوآله أن أفتنا في الخمر وغرضهم بيان تحريمها فنزلت ، وذلك
يقتضي ظهورها في التّحريم والّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو باطل كما ثبت
في محلّه.
ثمّ قالا :
ودعا عبد الرّحمن بن عوف أناسا منهم فشربوا وسكروا وأمّ أحدهم فقرء أعبد ما تعبدون
فنزلت (لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فقل من يشربها. ولا يخفى أنّ السّابقة أدل على التّحريم
من هذه الآية فترك الأكثر الشّرب لهذه دون سابقتها نظرا إلى عدم الفهم منها بعيد.
ثمّ قالا :
ودعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبى وقّاص فلمّا سكروا افتخروا وتناشدوا حتى
أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاريّ بلحى بعير فشجّه موضحة فشكى الى
رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال عمر : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ،
فنزلت : (إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) فقال عمر : انتهينا يا رب.
ولا يذهب عليك
انّ عمر مع ورود هذه الآيات وارتداع جماعة من الصّحابة عن الشّراب بعد ورود كلّ
آية لم يرتدع واستمرّ على شربها مع سماع الأجوبة إلى آخر آية نزلت في ذلك وهو يعطي
قلّة خوفه من الله تعالى حال حياة النّبيّ صلىاللهعليهوآله ونقل في الكشاف عن علي عليهالسلام لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذّن عليها
ولو وقعت في البحر ثم جفّ ونبت فيه الكلاء لم أرعه. وعن ابن عمر : لو أدخلت إصبعي
فيه لم تتبعني يعنى قطعها.
ثم قال : وهذا
هو الايمان حقا وهم الّذين اتّقوا الله حقّ تقاته ، والظّاهر انّه يريد وصف علىّ عليهالسلام وابن عمر بالايمان الكامل إذ رجوع كلامه الى الجميع
بعيد ويلزم منه عدم الايمان في غيرهما وكفى به شاهدا على عدم الايمان في صاحبيه.
__________________
الثالث
في أشياء من المباحات
وفيه آيات :
الاولى [المائدة : ٤].
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ) اى من المطاعم والمآكل بعد ما بين لهم المحرّمات لما
حصل لهم من الشبهة في موضع يحتمل التحريم ولم يكتفوا بالبراءة الأصليّة بل طلبوا
النصّ.
(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ) ما لم تستخبثه الطبائع السليمة ولم تنفر عنه والظاهر
انّ ذلك ممّا لم يدلّ دليل على تحريمه من عقل أو نقل فيكون مؤيّدا للحكم العقلي
بالإباحة ويجتمع العقل والنّقل على اباحته ما لم يدلّ دليل على تحريمه وفهم منه
حرمة المستخبثات المقابلة للطيّبات كما دلّ عليه بالمنطوق قوله : ويحرّم عليهم
الخبائث.
(وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ) عطف على الطيّبات ان كانت ما موصولة على تقدير مضاف اى
وصيد ما علمتم ، وجملة شرطيّة جوابها فكلوا ان كانت شرطيّة ، والجوارح هنا الكلاب
فقط بقرينة قوله :
(مُكَلِّبِينَ) فإنّه مشتق من الكلب اى حال كونكم صاحبي كلاب أو معلّمى
كلاب وهو يقتضي كون المراد بالجوارح هنا الكلاب فقط لانّ المكلب صاحب الكلاب بلا
خلاف بين أهل اللّغة والتقييد به يعطى ما ذكرناه ، إذ لو أراد مطلق الجوارح لم
يحتج الى هذا التقييد بل كان أخذه مضرّا.
وقد انعقد
إجماع علمائنا على أنّه لا يجوز الاصطياد بشيء من الجوارح ، بمعنى أنّه لا يحلّ
مقتولها الّا مقتول الكلب المعلّم فإنّه حلال سواء كان الجارح من جوارح
السباع أو جوارح الطير.
وقيل : انّ
المراد بها مطلق الجوارح من السّباع ذوات الأربع والطيور وإطلاق المكلبين باعتبار
كون المعلّم في الأغلب كلبا ولانّ كلّ سبع يسمّى كلبا لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : سلّط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد.
وفيه نظر إذ هو
خلاف ظاهر الآية وإطلاق الكلب على غيره من السباع تجوّز بلا خلاف فلا يكون داخلا
تحته مع الإطلاق وقد تظافرت أخبارنا عن أئمتنا عليهمالسلام باختصاص حلية ما ذبحه الكلب المعلم دون غيره من
الجوارح.
فان قيل : هب
انّ المذكور في الآية اباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذّكر لا ينفى حلّ غيره
لجواز الاصطياد بالرّمي والشبكة ونحوهما مع سكوت الآية عنها.
قلنا : ظاهر
انّ الآية إذا دلّت على حلية مقتول الكلب كان حلّية ما عداه يتوقف على الدليل
والأصل عدمه وفي مجمع البيان : وروى عن علىّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبى
بكر الحضرمي عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب
فقال : لا تأكل إلّا ما ذكّيت الّا الكلاب قلت : فان قتله؟ ـ قال : كل : فانّ الله
يقول : وما علّمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهنّ مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن
عليكم واذكروا اسم الله عليه. ثمّ قال عليهالسلام : كل شيء من السباع يمسك الصيد على نفسها الا الكلاب
المعلمة فإنّها تمسك على صاحبها وقال : إذا أرسلت الكلب المعلم فاذكر اسم الله
عليه فهو ذكاته وهو أن يقول : بسم الله والله أكبر.
(تُعَلِّمُونَهُنَّ) حال ثانية أو استيناف (مِمَّا عَلَّمَكُمُ
اللهُ) من الحيل وطرق التأديب فيصرن معلمة بتعليمكم أو ممّا
علمكم الله من اتباع الكلب الصّيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وفيه دلالة على أنّ
صيد غير المعلم حرام الا أن يدرك ذكاته فيذكّيه
__________________
ولا خلاف في ذلك.
وقد اختلف
أصحابنا في حدّ تعليم الكلب والمشهور فيما بينهم أن يكون بحيث يذهب إذا استرسل
ويقف إذا زجر ولا يعتاد أكل ما يمسكه ويتحقق ذلك بالتكرار على هذه الصفات الثلاث
مرارا بحيث يعلم في العرف انّه معلم.
وقيل : هو أن
يكون الكلب بحيث يفعل ما يريد صاحبه فيطلب الصّيد إذا شلاه وينعطف عليه إذا راغ من
بين يديه ويمسكه له وإذا جاءه ليأخذه منه لم يحمل الصيد ويهرب منه أو يحميه عنه
بالهرير عليه ، فإذا تحقق ذلك منه مرارا صار معلما وقيل : لأحد له بل متى صدر منه
الترغيب أو المنع امتثل لكن ينبغي أن يعلم أنّ ذلك صار عادة له والأقوال متقاربة.
(فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) يتفرع على ما تقدم ، أو جزاء الشرط كما عرفت و «من» قيل
زائدة نحو كلوا من ثمره وقيل مقيدة فان بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش ،
وفي الكشاف الإمساك على صاحبه أن لا يأكل من الصيد فلو أكل منه كان
قد أمسك على نفسه ولا ريب في أنّ الكلب إذا كانت هذه عادته لم يحل أكل ما قتله من
الصيد لعدم حصول شرط التعليم وأصحابنا لا يخالفون في ذلك.
نعم لو أكل منه
نادرا فالظاهر جواز الأكل على ذلك التقدير للأخبار المعتبرة الاسناد الدالة على
إباحة الأكل مما يقتله الكلب المعلم وان أكل منه.
وفي صحيحة
رفاعة بن موسى عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن الكلب يقتل فقال : كل فقلت : أكل منه
فقال : إذا أكل منه فلم يمسك عليك ، إنما أمسك على نفسه. فحمله الشيخ على ما إذا
كان معتادا أو على التقية لأنّ في العامّة من يمنع من أكل الصيد إذا أكل الكلب منه
والأوجه الحمل الأوّل وبه يجمع بين الأدلّة.
(وَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْهِ) الضمير عائد الى ما علمتم والمعنى سموا عند إرسال الكلب
المعلم وهو شرط آخر في إباحة صيده ، ويحتمل أن يعود الى ما أمسكن عليكم
__________________
والمعنى سموا عليه إذا أدركتم ذكاته وكلا الشرطين معتبر : أما الأوّل فلعدم
حليّة ما ترك التسمية فيه عمدا عند الإرسال واما الثاني فلان مقتول الكلب من الصيد
انّما يحلّ إذا لم يدرك ذكاته فلو أدرك ذكاته وجب عليه التذكية حتى لو أخل بها
حرم.
نعم يظهر من
الشيخ في النهاية انّه إذا أدركه كذلك ولم يكن معه ما يذكيه فليتركه حتّى يقتله
الكلب وهو بعيد والمشهور الأوّل وهو المفهوم من رواية على بن إبراهيم السالفة الّا
أنّها تضمنت ذكر بسم الله والله أكبر والظاهر انّه غير متعين بل المعتبر ذكر الله
المقترن بالتعظيم.
وهل يكفى ذكر
الله مجردا فيه احتمال وبه قطع العلامة اما نحو اللهم اغفر لي أوصل على محمّد وآل
محمّد ففيه قولان ، والظاهر اشتراط وقوعه بالعربيّة لتصريح القرآن باسم الله
العزيز. ولا يرد أنّ مقتضى ذلك عدم الاجزاء مع ذكر أسمائه المختصّة به غير الله
لأنّا نمنع أنّ المقتضى ذلك فتأمل.
(وَاتَّقُوا اللهَ) في محرماته (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) فيؤاخذكم بما جل ودق وفيه إشارة إلى الملاحظة التامة في
أمر الصيد بل في غيره من الأحكام.
الثانية [المائدة ٥]
(الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أكد تحليلها بعد ما تقدم عليها وقد عرفته ولم يرد
باليوم يوما بعينه وانّما أراد به الحاضر وما يتصل به من الأزمنة المستقبلة.
(وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) اختلف في الطعام هنا فقيل : المراد به ذبائح أهل الكتاب
ونسبه في المجمع الى أكثر المفسّرين وأكثر الفقهاء وبه قال جماعة من
أصحابنا ويؤيّده أنّ ما قبل الآية في بيان الصيد والذبائح ، ولأن ما سوى الصيد
والذبائح محللة قبل ان كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم ، فلا يبقى لتخصيصها
بأهل الكتاب فايدة.
وقيل : المراد
به ذبائحهم وغيرها من الأطعمة ، وقيل : انّه مختصّ بالحبوب
__________________
وما لا يحتاج إلى التذكية ورواه الكليني في الحسن عن قتيبة الأعشى قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وأنا عنده فقال له الرجل : قال الله تعالى (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ). فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : كان أبى يقول : انّما هو الحبوب وأشباهها ونحوها ممّا
دلّ على ذلك وإلى هذا القول يذهب أصحابنا وهو الصحيح.
ويدل عليه
مضافا الى الأخبار انه تعالى نهى في كثير من الآيات عن أكل ما لم يذكر اسم الله
عليه وما أهل به لغير الله وظاهر أنّ الكتابي لا يذكر اسم الله عليه.
ولو قيل : انّ
محلّ النزاع ما لو ذكر اسم الله عليه والا فالمسلم مع خلو ذكر اسم الله لا تحل
ذبيحته لقلنا : ظاهر انّ ما يذكره الكتابي من اسم الله ليس باسم الله تعالى حقيقة
فإنّ اليهوديّ إنما يقصد الله الذي عزير ابنه والنصراني يقصد الله الذي المسيح
ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا والذكر على هذا الوجه بمثابة العدم فلا تباح
الذبيحة به ، ولانّه يبعد في العرف إطلاق الطعام على الذبيحة وانّما هو في العرف
عبارة عن البرّ والشعير ونحو ذلك من الحبوب.
على انا لو
سلمنا ذلك لقلنا مقتضى الآية اباحة طعامهم على العموم خرج منه نحو الذبيحة وغيرها
ممّا باشروه بالرطوبة لأدلة اقتضت ذلك وأوجبت التخصيص فيبقى ما عدا ذلك كالحبوب
وغيرها داخلة فيه.
(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ) فيجوز لنا أن نطعمهم إياه وأن نبيعه عليهم وكذا سائر المعاملات
بعوض ولا عوض وخصّ في المجمع الحليّة هنا بان تطعموهم وفيه بعد.
الثالثة [البقرة ١٧٣]
(إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) قد عرفت معناها ، والتحريم المضاف الى العين ينصرف
__________________
الى المنافع كلها الا ما أخرجه الدليل إذ تقدير البعض دون بعض ترجيح من غير
مرجح وذلك يقتضي تحريم التصرف فيها بأيّ وجه كان من إسراج شحمه أو ادهان حيوان به
أو أكله ونحو ذلك ممّا اقتضاه العموم ولم يخرجه الدليل.
وقيل : انّ هذا
التحريم ينصرف الى ما ينتفع بمثله عرفا كالأكل مثلا ويحتمل ترجيحه هنا من حيث ذكر
الأكل قبله وبعده وحينئذ فتحريم غيره من الانتفاعات يعلم من دليل خارج عن الآية
كالأخبار والإجماع ان كان.
(وَالدَّمَ) أطلق تحريم الدم هنا وقيّده في الآية السابقة بالمسفوح
اى المصبوب فقال بعضهم : يجب حمله هنا على المسفوح لوجوب حمل المطلق على المقيد
وفيه نظر :
امّا لانّ
الحمل انّما يجب إذا كان بينهما منافاة وهو غير ظاهر هنا إذ يجوز تحريم مطلق الدم
والدم المسفوح أيضا هذا إذا لم نعتبر مفهوم الوصف ولو اعتبرناه أمكن المنافاة واما
لان قوله تعالى (لا أَجِدُ فِي ما
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الى قوله (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) يقتضي حصر المحرمات المذكورة فيما وجد في ذلك الوقت فلا
ينافيه الورود بعدها بتحريم الدم على الإطلاق وفي كلا الوجهين بعد.
والحق أن
المقام لا يخلو من اشكال وقد استثنى الأصحاب المتخلف في اللّحم مما لا يقذفه
المذبوح فإنّه عندهم حلال طيب ودليلهم عليه الإجماع والخبر وما في التحرز عنه من
الضيق والحرج المنفيين.
(وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ) خصّ اللحم بالذكر مع تحريم جميع أجزائه لحما وشحما
وغيرهما نظرا إلى أنّه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر اجزائه كالتابع له فتدخل فيه
أيضا وفي هذا قرينة على انّ المراد تحريم الأكل في الجميع فيبت تحريم غيره من
الانتفاعات بدليل خارج عن الآية كما دل الدليل على نجاستها وهو يستلزم تحريم
استعمال شيء منها فيما يشترط فيه الطهارة ونحو ذلك.
(وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) وما رفع به الصوت عند الذبح ذاكرين غير الله سواء كان
الصنم أو لم يكن والإهلال في الأصل رؤية الهلال يقال : أهل الهلال وأهللته لكن
لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمى ذلك إهلالا ثمّ قيل
لرفع الصوت وان كان لغيره كذا قاله القاضي ، والمفهوم عرفا من قوله : أهل به لغير
الله أنّ سبب التحريم عدم ذكر الله على الذبيحة ومقتضاه اشتراط الحلية بذكر اسمه
كما قال : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه.
(فَمَنِ اضْطُرَّ) اى تناول أحد الأمور المذكورة وعدم صبره عنه لمكان
احتياجه الى سد الرمق الذي به الحياة (غَيْرَ باغٍ) بالاستيثار على مضطر مثله أو خارج على الإمام أو طالب
أكل الميتة باللّذة (وَلا عادٍ) حد الضرورة أو بقطع الطريق وقد سلف مثله في مرسلة
البزنطيّ فلا اثم عليه لا ذنب ولا تحريم عليه في التناول (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فعل (رَحِيمٌ) يرخص مثل ذلك حال الضرورة وقد سلف الوجه في الجمع بين
الوجهين.
قال القاضي :
فإن قيل : انما يفيد قصر الحكم على ما ذكر ، وكم من حرام لم يذكر قلت : المراد قصر
الحرمة على ما ذكر ممّا استحلوه لا مطلقا أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنّه قيل
: انما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها. وفي الأول خفاء وفي الثاني بعد
مع انّ تحريم كل محرم فإنّما هو على حال الاختيار لا الاضطرار كما يدل عليه العقل
والنقل فعاد السؤال.
ويمكن أن يقال
: المحرم حين النزول لم يكن الا هذه فقط كما دل عليه قوله : قل لا أجد فيما اوحى
الآية فصح الحصر باعتبار ذلك الوقت ، أو انّ الحصر إضافي بالقياس الى ما حرمه
جماعة من الصحابة على أنفسهم كما أسلفناه في قوله تعالى (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ). الآية أي ليس المحرم ما حرمتموه بل هذه الأشياء فتأمل.
الرابعة [الأنعام ١١٨]
(فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) متفرع على ما تقدمه من إنكار اتباع المضلين الذين
يحرمون الحلال ويحللون الحرام فإنهم كانوا يقولون للمسلمين : انكم تزعمون انكم
تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم فنزلت والمعنى كلوا ممّا
ذكر اسم الله على ذبحه لا ما ذكر اسم غيره كالأصنام أو لم يذكر عليه اسم ولا ما
مات حتف أنفه.
(إِنْ كُنْتُمْ
بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) فإنّ الايمان بها يقتضي استباحة ما أحلّه الله واجتناب
ما حرّمه الله وفيه دلالة على وجوب التسمية على الذّبيحة كما أشرنا إليه ، وعلى
أنّ ذبائح أهل الكتاب لا يجوز أكلها لأنّهم لا يسمّون الله عليها ومن سمّى منهم
يعتقد أنّ الّذي يسميه هو الذي أبّد شريعة موسى أو عيسى عليهماالسلام والّذي عزير ابنه أو المسيح فإذا لا يذكرون الله حقيقة.
والمعتبر من
ذكر اسمه تعالى ذكره المقترن بالتّعظيم لانّه المتبادر المفهوم منه كأحد
التّسبيحات الأربع ، وفي اجزاء ذكر الله مجرّدا احتمال قوىّ ، ويراد من ذكره ذكر
اسمه المختصّ به ، وفي اجزاء الصّفة المختصّة به كالرّحمن أو القديم أو القادر على
كلّ شيء وما يجرى مجراه وجهان أقواهما الاجزاء لقوله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وقد تقدم جانب من الكلام.
(وَما لَكُمْ أَلَّا
تَأْكُلُوا) واىّ غرض لكم في التّحرج عن الأكل (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) عند ذبحه وما الّذي يمنعكم عنه.
(وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) الواو للحال اى والحال انّه فصل لكم الحرام من الحلال
بقوله : حرّمت عليكم الميتة الآية وبما أجراه على لسان نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأحكام.
واعترض بانّ
قوله : حرّمت عليكم الميتة إلخ في أوّل المائدة وهي آخر ما نزل بالمدينة وسورة
الأنعام مكيّة والآية تقتضي أن يكون المفصّل مقدّما على هذا المجمل ، والأولى أن
يكون المراد قوله تعالى بعد هذه الآية (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية فانّ هذا القدر من التّأخير غير ضائر هذا. ويمكن
أن يقال : هذه الآية من سورة الأنعام متأخّرة عن المائدة فتأمّل.
(إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) ممّا حرم عليكم فإنّه أيضا حلال لكم حال الضرورة لما في
ترك التّناول من التأدية إلى هلاك النّفس ومقتضى الآية الاقتصار على ما يندفع به
الضّرورة وهو سدّ الرّمق ومن جوّز الشّبع من ذلك كبعض العامّة فقد أبعد.
واستدلّ بها
الجبائي على أنّ المكره على أكل المحرّمات لا اثم عليه لأنّه بمثابة المضطرّ في
الخوف على النّفس وهو كذلك عندنا وعند الأكثر من العامّة.
(وَإِنَّ كَثِيراً
لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) اى باتّباع أهوائهم فيحلّلون الحرام ويحرّمون الحلال (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يستندون اليه ، ومن قرء بضمّ الياء من الكوفيّين أراد
أنّهم يضلّون أتباعهم فحذف المفعول به وهو كثير.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين الحقّ إلى الباطل والحلال الى الحرام وفيه
ترهيب عظيم.
ثم انّه تعالى
بعد ذلك أكّد وجوب التّسمية حال الذّبح بقوله :
(وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ظاهره تحريم أكل ما لم يسمّ عليه سواء كال عمدا أو
نسيانا وبظاهره أخذ داود وهو قول جماعة من العامّة وقال الشّافعيّ : يحلّ أكلها في
الحالين ان كان الذّابح مسلما استنادا الى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ذبيحة المسلم حلال وان لم يذكر اسم الله عليه ،
والخبر غير معلوم الصّحة فلا يصحّ الاستناد إليه في العموم.
والّذي قاله
أصحابنا : إن تعمّد تركها مع اعتقاد وجوبها لم تحلّ لأنّها ميتة وان تركها نسيانا
بعد أن يكون معتقدا لوجوبها وتحريم الأكل مع التّرك عمدا حلّ أكلها ويدلّ على ذلك
بعد الإجماع الأخبار الواردة عن أصحاب العصمة عليهمالسلام.
روى محمّد بن
مسلم في الصّحيح قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرّجل يذبح ولا يسمّى قال : ان كان نسيانا فلا بأس
إذا كان مسلما. وكان يحسن أن يذبح (الحديث) ونحوه من الأخبار وعلى هذا فتخصص الآية
به ووافقنا في ذلك أبو حنيفة. ولو تركها جهلا بوجوبها ففيه وجهان والأحوط
الاجتناب.
__________________
(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وان أكل ما لم يذكر اسم الله عليه فسق وخروج عن الطّاعة
ويحتمل رجوع الضّمير الى ما لم يذكر اسم الله عليه ، فانّ الفسق ما أهلّ لغير الله
به وتمام ما يتعلّق بأحكام الذّبيحة تعلم من الفروع.
الخامسة : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ) يعني الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) دلالة يعتبر بها من الجهل الى العلم (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استيناف لبيان العبرة وتذكير الضمير وتوحيده هنا نظرا
الى لفظه فانّ الأنعام اسم جمع لا جمع حقيقة فيعتبر لفظه مرّة فتذكّر ومعناه اخرى
فيؤنّث كما أنّث في سورة المؤمنين ، وكذلك عند سيبويه المفردات المبنيّة على أفعال
كأخلاق والباس ونحوها يذكّر ضميرها تارة ويؤنّث أخرى ، ومن قال انّه جمع جعل
الضّمير لبعض المفهوم منها فانّ اللّبن لبعضها وهو الإناث دون الجميع ، ويحتمل أن
يراد به الجنس فلا اشكال.
(مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَناً) فإنّه يخلق من بعض أجزاء الدّم المتولّد من الأجزاء
اللطيفة الّتي في الفرث وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش.
وعن ابن عبّاس
: أنّ البهيمة إذا اعتلفت واستقرّ العلف في كرشها طبخته وكان أسفله فرثا وأوسطه
لبنا وأعلاه دما والكبد هو المتسلّط على الأصناف الثّلاثة فيقسمها فيجري الدّم في
العروق واللّبن في الضّرع ويبقى الفرث كما هو ، وأنكر الأطبّاء هذا القول من حيث
أنّه على خلاف الحسّ والتّجربة أمّا الحسّ فلانّ الانعام تذبح ذبحا متواليا ولا
يرى في كرشها دم ولا لبن وامّا التّجربة فلانّ الدمّ لو كان في أعلى المعدة والكرش
كان يجب إذا قاء أن يقيء الدّم وليس كذلك.
بل التّحقيق
انّ الحيوان إذا تناول العلف حصل في معدته أو كرشه هضم أوّل فما كان منه صافيا
انجذب الى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم الّذي يحصل في الكبد ينطبخ فبها
ويصير دما وذلك الهضم الثّاني ويكون مخلوطا بالصّفراء والسّوداء وزيادة المائيّة
امّا الصّفراء فتذهب الى المرارة والسّوداء الى الطّحال والماء إلى الكلية ومنها
إلى المثانة وأمّا ذلك الدّم بأنّه يدخل في الاوردة وهي العروق الثّابتة
من الكبد وهناك يحصل الهضم الثّالث.
وبين الكبد
والضّرع عروق كثيرة فينصبّ الدّم في تلك العروق الى الضّرع وهو لحم غددي رخوا بيض
فيقلب الله الدّم هناك إلى صورة اللّبن.
ثمّ إنّه تعالى
أحدث في حلمة الثّدي ثقوبا صغيرة يخرج اللّبن الخالص منها وقت المصّ أو الحلب فهو
بمنزلة المصفاة للّبن يخرج الطّيب الخالص منها ويبقى الكثيف فبهذا الطّريق يصير
خالصا لا يشوبه الدّم ولا يستصحبه رائحة الكرش والفرث.
(سائِغاً
لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور في الحلق حتّى قيل : انّه لم يغص باللّبن
قطّ فسبحان الله ما أعظم قدرته وأبدع صنعته وألطف حكمته. وفيها دلالة على اباحة
لبن الانعام والحثّ على الاعتبار بها.
وقد احتجّت
الشّافعيّة الذاهبة إلى طهارة المنى على الحنفيّة الذاهبة إلى نجاسته بسبب جريه في
مسلك البول بهذه الآية قالوا : وليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج
اللّبن من بين الفرث والدّم وهو طاهر.
وما ذكروه من
كون السلوك لا يوجب التّنجيس صحيح والسّرّ فيه أنّ المسلك من البواطن ولا حكم لها
في النّجاسة وإلّا لم يصحّ صلاة أحد لعدم خلوّ النّجاسة من بواطنه وهو ظاهر وصرّح
بذلك أصحابنا أيضا.
ولكنّ الظّاهر
أنّ النّجاسة عند الحنفيّة ليس لسلوكه مسلك البول بل لاخبار أوجبت النّجاسة كما
يعلم من محلّه وقد انعقد إجماع علمائنا على النّجاسة وتظافرت النّصوص الواردة عن
أصحاب العصمة عليهمالسلام بذلك كما يظهر لمن راجع كتبهم.
(وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) متعلّق بمحذوف على حذف مضاف أو بإرادته منه مجازا اى
ونسقيكم من عصيرهما وليس متعلّقا بنسقيكم المذكور ولا المقدّر المعطوف إذ يلزم
كونه بيانا لعبرة الأنعام وهو غير ملائم ويحتمل أن يتعلّق بقوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) ويكون منه تكرارا للتّأكيد كقولك : زيد في الدار
فيها ويحتمل خبرا لمحذوف صفته تتّخذون اى ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر
تتّخذون منه ، وتذكير الضّمير على الوجهين الأوّلين لأنّه للمضاف المحذوف اعنى
العصير أو لأنّ الثمرات بمعنى الثّمر ، والسّكر مصدر سمّى به الخمر.
(وَرِزْقاً حَسَناً) كالتّمر والزّبيب والدّبس والخلّ ونحوها. قال القاضي : والآية
ان كانت سابقه على تحريم الخمر فدالّة على كراهتها وإلّا فجامعة بين العتاب
والمنّة. يريد انّها إذا كانت بعد تحريم الخمر كانت جامعة بين العتاب بشرب الخمر
والمنّة بالرزق الحسن بل فيها تنبيها على الحرمة أيضا لأنّه ميّز بينها وبين
الرّزق الحسن في الذّكر فوجب في السّكر أن لا يكون رزقا حسنا بحسب الشّريعة. وعلى
ما قلناه من عدم تحليل الخمر في وقت من أوقات الإسلام فهي للعتاب المذكور وقيل :
انّ الآية منسوخة فانّ السّورة مكيّة وتحريم الخمر نزل في المائدة وهي مدنيّة.
وقيل : المراد
بالسّكر الطّعم وقيل : انّ المراد بالسّكر النّبيذ وهو قول الحنفيّة قال الشّيخ في
التبيان : وقد استدلّ قوم بهذه الآية على تحليل النّبيذ بان قالوا : امتنّ الله
تعالى علينا وعدّد من جملة نعمه علينا أن خلق لنا الثّمار الّتي تتّخذ منه السّكر
والرّزق الحسن وهو تعالى لا يمتنّ بما هو محرّم ، والقوم هم الحنفيّة المجوّزون
شرب النّبيذ الى حدّ الإسكار.
وربّما احتجّوا
عليه بقوله صلىاللهعليهوآله : الخمر حرام بعينها والسّكر من كلّ شراب ، اى حرام حيث
علّق التحريم في غير الخمر بالسّكر وهو يقتضي أن يكون السّكر شيئا غير الخمر وكلّ
من أثبت هذه المغايرة قال : انّه النّبيذ المطبوخ.
ثم قال الشيخ
في التبيان : «والآية لا دلالة فيها من وجوه :
الأوّل ـ انّه
خلاف ما عليه المفسّرون لانّ واحدا منهم لم يقل ذلك بل التّابعون من المفسّرين
قالوا : ما حرم الله من الشّراب ، وقال الشّعبي منهم : انّه أراد ما خلا طعمه من
الشّراب وغيره.
والثاني ـ انه
لو أراد بذلك تحليل السكر لما كان لقوله : رزقا حسنا معنى لأن
ما أحله واباحه فهو أيضا رزق حسن فلم فرق بينه وبين الرزق الحسن والكل شيء
واحد وانما الوجه فيه أنه خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم أنتم منها ما هو
محرم عليكم وتركتم ما هو رزق حسن واما وجه المنة فبالأمرين معا ثابتة لانّ ما
أباحه فالمنة به ظاهرة لتعجيل الانتفاع به وما حرمة أيضا فظاهرة لأنه إذا حرم
علينا وأوجب الامتناع ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعم فهو نعمة على كل
حال.
والثالث ـ ان
السكر إذا كان مشتركا بين السكر والطعم وجب ان يتوقف فيه ولا يحمل على أحدهما إلا
بدليل وما ذكرناه مجمع على انّه مراد وما ذكروه ليس عليه دليل على انه كان يقتضي
أن يكون ما أسكر منه يكون حلالا وذلك خلاف الإجماع لأنهم يقولون : القدر الذي لا
يسكر هو المباح وكان يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحا وذلك لا يقوله أحد وكذلك
يلزم أن يكون النقيع حلالا وذلك خلاف الإجماع» انتهى كلام الشيخ وهو جيد.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) اى فيما ذكره من اتخاذ السكر والرزق الحسن بل خروج
اللبن الخالص من بين الفرث والدم.
(لَآيَةً) دالة على ذلك أيضا ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل فيها ، فإنهم يجزمون
بأنّ الذي قدر على إيجاد مثل هذه الثمرات من الشجر اليابس بل من نواه قادر على
الإعادة وكذا القادر على إخراج اللبن الخالص من بين الفرث والدم قادر على ذلك
أيضا.
(وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) ألهمها وقذف في قلوبها على وجه هو أعلم به ولقد حق
لغريب أمرها وعجيب صنعها أن يطلق عليه لفظ الإيحاء.
(أَنِ اتَّخِذِي) بأن اتخذى وحذف حرف الجرّ قياس مع أن ويحتمل أن يكون
مفسرة لانّ الإيحاء يتضمن معنى القول وتأنيث الضمير على معنى الجماعة الكثيرة
والّا فلفظة مذكّر.
(مِنَ الْجِبالِ
بُيُوتاً ، وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يتخذونه عريشا وهو سقوف
البيوت وذكر من التبعيضية لأنها لا تبنى في كل جبل ولا كل شجر ولا ما يعرش
من كرم أو سقف ولا في كلّ مكان بل في بعضها وهو ما يوافقها ويليق بحالها.
وسمى ما يتعسل
به بيتا تشبيها له بالإنسان لكون ما يبنيه مشتملا على حسن الصنيعة وصحة القسمة
التي لا يقوى عليها حذاق المهندسين الا بآلات وإنظار دقيقة.
ولعل ذكر النحل
بعد ما تقدّم وبيان أقداره على البيت المشتمل على الأمور الغريبة والصنائع العجيبة
التي لا يقدر عليها أقوى المهندسين للتنبيه على كمال القدرة بإلهام مثل هذا الحيوان
مثل هذه الأفعال الغريبة العجيبة وأقداره عليها وهو دليل على كمال قدرته.
(ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) اى ألهمها أيضا أن تأكل من كل الثمرات وسائر الأشجار
التي تشتهيها مرّها وحلوها (فَاسْلُكِي) ما أكلت (سُبُلَ رَبِّكِ) في مسالكه التي تحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا من
اجوافك أو المراد فاسلكي الطرق التي ألهمها الله إياك في عمل العسل أو فاسلكي
راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا يتوعر عليك سلوكها ولا يلتبس ، فقد يحكى انها ربما
اجدب عليها ما حولها فتسافر الى البلد البعيد في طلب الثمر.
(ذُلُلاً) اما حال من السبل اى حالكونها مذللة موطأة ذللها الله
فلا يتوعر عليها سلوكها واما من الضمير في اسلكي اى حالكونك مطيعة منقادة لأمره
غير ممتنعة.
(يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِها) عدل من خطاب النحل الى خطاب النّاس لانّه محل الانعام
والامتنان عليهم وهم المقصودون من خلق النحل وإلهامه ذلك.
(شَرابٌ) يعنى العسل لانه مما يشرب والأكثر على أنّ الله تعالى
يخلق العسل في بطن النحل ويخرجه الى فيه كالريق الذي يخرج من فم بنى آدم وظاهر
البطون دال عليه وقيل : انها تلفظ من أفواهها اجزاء طلية صغيرة متفرقة على الأوراق
والأزهار وتضعها في بيوتها ادخارا فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها حصل العسل
وهذا يفسر البطون بالأفواه.
وقيل : ان
التجربة تعضد الثاني فإن الترنجبين قريب من العسل في الطعم والشكل ولا شك انه طل
يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا العسل ولكن ظاهر الآية تعضد
الأوّل.
(مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ) بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه اصفر وبعضه اسود ، قيل ذلك
بسبب اختلاف سن النحل أو الفصل.
(فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ) اما بنفسه كما في سائر الأمراض البلغمية أو مع غيره كما
في سائر الأمراض إذ قل ما يكون معجون الا والعسل جزء منه مع ان التنكير مشعر بالتبعيض
ويحتمل أن يكون للتعظيم.
وقيل : انّ
ضمير فيه يرجع الى القرآن وشفاؤه للناس لما فيه من بيان الحلال والحرام والفتيا
والاحكام وقيل : الى ما بين الله من أحوال النحل والأوّل أقوى.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فانّ من تدبّر اختصاص النّحل بتلك العلوم الدّقيقة
والأفعال العجيبة حقّ التّدبّر علم قطعا انّه لا بدّ لها من قادر حكيم يلهمها ذلك
ويحملها عليه.
وفي الآية
دلالة على حلّيّة العسل وعلى جواز اتّخاذ النّحل لأجله وعلى الاستشفاء به ، وقد
يستفاد منها الحثّ على ما يعلم به الشّفاء من الأمراض كعلم الطّبّ فإنّه سبب الى
معرفته في الجملة وان كان الشّافي على الحقيقة هو الله تعالى.
(وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) اى جعلكم متفاوتين في زيادته ونقصانه فمنكم غنيّ ومنكم
فقير ومنكم موالي يتولّون رزقهم ورزق مماليكهم ومنكم مماليك حالهم على خلاف ذلك
فرزقكم أفضل من رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ولا ريب أنّ ذلك أمر مقسوم من قبل الله
وإلّا لم يكن الغافل رخى البال والعاقل ردىّ الحال.
(فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) بمعطى رزقهم (عَلى ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) على مماليكهم فان ما يردّون عليهم رزقهم الّذي أجراه
الله.
(فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) فالموالى والمماليك متساوون في أنّ الله رزقهم فلا
يتخيّل الموالي أنّهم يردّون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرّزق.
وعلى هذا
فالجملة لازمة للجملة الأولى المنفيّة ومقرّرة لحكمها ويحتمل أن يكون واقعة موقع
الجواب فيحصل منها معنى غير الأوّل كأنّه قيل ليس الّذين فضّلوا برادّي رزقهم على
ما ملكت ايمانهم فيستووا في الرّزق فهو ردّ عليهم بما يصنعون من التّفاوت اى كان
ينبغي أن يردّوا ممّا رزقوا على مماليكهم حتّى يتساووا معهم في المطعم والملبس.
وفيه تعجّب من
فعل المشركين وإنكار عليهم من حيث انّهم يرون اشتراكهم مع العبيد في ذلك نقصا ولا
يرضونه لأنفسهم وهم يشركون عباد الله معه في العبادة ويوجّهونها إليهم كما
يوجهونها اليه قيل : نزلت في نصارى نجران (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ
يَجْحَدُونَ) حيث يتّخذون له شركاء فإنّه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما
أنعم الله عليهم ويجحدوا أنّه من عند الله ويحتمل كون جحودهم بسبب إنكارهم أمثال
هذه الحجج بعد ما أنعم الله عليهم بايضاحها ويحتمل كونه لعدم التّسوية بينهم وبين
المماليك جعله الله من جحود النّعمة للمبالغة ويلزم من ذلك أرجحية التّسوية بين نفسه
ومماليكه.
ويؤيّده ما
يحكى عن أبى ذرّ انّه سمع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : انّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تلبسون وأطعموهم
ممّا تطعمون فما رئي عبده بعد سماع ذلك الّا رداه رداه وإزاره إزاره من غير تفاوت
وما روى عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه كان يشترى ثوبين فيعطى أفضلهما قنبر ويأخذ الأردى
لنفسه» صلوات الله عليه.
كتاب المواريث
وفيه آيات الاولى :
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ) اى ولكلّ تركة جعلنا موالي اى ورّاثا يرثونها ويحوزونها
فيكون قوله (مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) بيانا لكلّ مع الفصل بينهما بالعامل ، أو ولكلّ قوم
جعلناهم موالي وورّاثا نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون على أنّ جعلنا موالي صفة
لكلّ والضّمير الرّاجع اليه محذوف والكلام مبتدأ وخبر ، أو ولكلّ ميّت جعلنا
ورّاثا ممّا ترك على أنّ من صلة موالي لأنّهم في معنى الوارث.
وفي ترك ضمير
كلّ والوالدان والأقربون تفسير كأنّه قيل : الموالي من هم؟ فقيل : الوالدان
والأقربون وفيه خروج الأولاد فإنّ الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناولهم الوالدان.
(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) مبتدأ تضمّن معنى الشّرط خبره (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ويجوز نصبه على شريطة التفسير والخطاب للموالي وقد
اختلف في المراد به فقيل : انّ الرّجل كان في الجاهليّة يعاقد الرّجل فيقول : دمي
دمك وهدمي هدمك وثاري ثارك وحربي حربك وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتعقل عنّى وأعقل
عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف وقد عاقد بعض الصّحابة بعضا فورثه وهو
المراد بايتائهم نصيبهم اى أعطوهم حظّهم من الميراث ثمّ نسخ بآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).
ويحتمل أن يكون
المراد فأعطوهم نصيبهم من النّصر والعقل والرفد لا من الميراث فعلى هذا تكون الآية
غير منسوخة ، وقيل : انّ المراد بهم قوم آخى رسول الله صلىاللهعليهوآله بينهم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة وكانوا
يتوارثون بتلك
المؤاخاة ثمّ نسخت بالمواريث.
وقيل : انّهم
الّذين يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهليّة وهم الأدعياء ومنهم زيد مولى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصيّة فذلك
قوله : فآتوهم نصيبهم.
وكيف كان فلا
دلالة فيه على نفى ضمان الجريرة على الوجه الّذي يقوله أصحابنا وهو إرثه مع عدم
المناسب والمسايب ، فانّ الوجه الأوّل اقتضى إعطاء الوارث له السّدس وهو غير ما
نقوله ولا على إثباته بل هو معلوم من خارج كالاخبار.
وفي الآية
دلالة على توريث الوارث ممّا ترك الميّت على الاجمال وتفصيل ذلك يعلم من غيرها.
الثانية :
(وَأُولُوا
الْأَرْحامِ) ذو والقرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى
بِبَعْضٍ) في التّوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من
التّوارث بالهجرة والموالاة في الدين لا بالقرابة تألّفا لقلوبهم كما كانت تتألّف
قلوب قوم بإسهامهم من الصّدقات.
روى أنّ النبيّ
صلىاللهعليهوآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة وكان يرث
المهاجريّ من الأنصاريّ والأنصاريّ من المهاجريّ ولا يرثه وارثه الّذي بمكّة وان
كان مسلما وذلك لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ). الآية ثمّ نسخت هذه الآية وارتفع حكمها بالاية
المذكورة وصار التّوارث بالقرابات.
(فِي كِتابِ اللهِ) في اللّوح المحفوظ أو فيما انزل وهو هذه الآية أو آية
المواريث أو فيما فرض الله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ) صلة أفعل التّفضيل والمعنى أنّ ذوي القرابات بعضهم اولى
بميراث بعض من المؤمنين أي من الأنصار لحقّ الولاية في الدين والمهاجرين اى الّذين
هاجروا من مكّة إلى المدينة لحقّ المهاجرة أي ليس
التّوارث لحقّ الايمان والهجرة بل لحقّ القرابة فيكون ناسخة لها على ما
عرفت.
ويحتمل أن يكون
من بيانا لأولي الأرحام اى الأقرباء من المؤمنين والمهاجرين أولى بأن يرث بعضهم
بعضا من الأجانب ، بل من بعض الأقارب أيضا كما يعلم من خارج.
ومقتضى الآية
انّ سبب استحقاق الميراث القربى وتداني الأرحام ومن ثمّ كان الاستواء في الدّرجة
مراعى مع القرابة ولزم أن لا يرث ولد الولد مع ولد الصّلب ونحوه وان كان داخلا في
الأولاد.
ويلزم ممّا
ذكرنا بطلان القول بالتّعصيب كما يثبته المخالفون وعلى ظاهر الآية لا يرث مع البنت
أحد ممّن كان أبعد منها عن الميّت كالاخوة والأخوات والأعمام والعمّات بل يكون لها
جميع المال نصفه بالتّسمية كما سيجيء والباقي بالرّد.
ومخالفونا
يذهبون إلى انّه لو كان مع البنت عمّ أو ابن عمّ لكان له النّصف بالتّعصيب وكذالك
لو كان معها أخت ويجعلون الأخوات عصبة مع البنات ويسقطون من هو في درجة العمّ من
النّساء كالعمّات وبنات العمّ إذا اجتمعوا ويخصّون الميراث بالرّجال دونهنّ لأجل
التّعصيب.
وكلّ هذا خلاف
الظّاهر من القرآن لقوله تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). الآية حيث دلّت على أنّ للرّجال نصيبا وللنّساء نصيبا
ولم يخصّ موضعا دون موضع وسيجيء أنّ الأخت لا ترث مع الولد وان كان بنتا ويلزم منه
بطلان قولهم.
وما استدلّوا
به من رواية ابن عباس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : يقسم المال على أهل
__________________
الفرائض على كتاب الله فما أبقت فلأولى ذكر قرب ، وبطريق آخر : ما أبقت
الفرائض فلأولى عصبة ذكر خبر ضعيف إذ لم يروه أحد من أصحاب الحديث سوى ابن طاوس عن
ابن عباس.
ومع هذا فهو
مختلف اللّفظ فقد روى على الوجهين السّابقين ورى أيضا : فلأولى ذكر رجل عصبة
واختلاف لفظه مع اتّحاد طريقه دليل على ضعفه على أنّ مذهب ابن عباس في نفي
التّوارث بالعصبة مشهور وراوي الحديث إذا خالفه كان قدحا فيه وبالجملة فمثله لا
يخصّ ظاهر القرآن لقصوره من وجوه.
(إِلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) استثناء من أعمّ ما يقدر الأولويّة فيه من النفع
والإحسان كما يقول : القريب أولى من الأجنبيّ إلّا في الوصيّة يريد أنّه أحقّ منه
في كلّ نفع من ميراث وهبة وهديّة وصدقة ونحو ذلك إلّا في الوصيّة فانّ الموصى له
أولى بها والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين. كذا في الكشاف
ومقتضاه عدم جواز الوصيّة للكافر ولا إشكال في ذلك مع كونه حربيا أمّا الذمّي ففي
العلماء من جوّز الوصية له وهو المشهور بين أصحابنا ولا ينافيه الاستثناء فإنه لا
يوجب قصر الحكم على مدخولة بحيث لا يجوز في غيره فيصح إثبات الغير بدليل من خارج.
وفيها دلالة
على كون الوصية مقدّمة على الإرث امّا كونها لا تصحّ للوارث كما ذكره في الكشاف
فليس فيها دلالة عليه ويحتمل أن يكون قوله : إلّا تفعلوا يشتمل المنجّزات أيضا
فيدلّ على كونها من الثلث ودلالة الأخبار عليه ، فتبقى المنجّزات وفيه ما فيه.
__________________
الثالثة :
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) يعنى أنّ لكلّ من الرّجال والنّساء حصّة من الميراث
والمراد أنّ ذلك ثابت مع الاستواء في القرابة والدّرجة (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل من قوله ممّا ترك بإعادة العامل.
(نَصِيباً مَفْرُوضاً) منصوب على أنّه مصدر مؤكّد لمضمون ما تقدّم كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أو حال على معنى ثبت لهم مفروضا نصيب ، أو على الاختصاص
بتقدير أعنى نصيبا مقطوعا واجبا لهم والمعنى أنّ الإرث بالنّسب ثابت من الله فرضا
مقطوعا من غير اختيار احد من الوراث سواء كان ذكرا أو أنثى والآية نزلت لنفي ما
كانت الجاهلية عليه من عدم توريث النّساء والأطفال.
وفيها دلالة
على أنّ ذلك النّصيب فرض من الله يدخل في ملك الوارث بغير اختياره ولو أعرض عنه لم
يسقط حقّه منه لانّه ملكه غير مختار فيه فلا يخرج عن ملكه الّا بناقل شرعيّ يقتضي
إخراجه.
وفي الآية
دلالة على بطلان ما ذهب اليه المخالفون من القول بالتّعصيب فإنّه تعالى صرّح بأنّ
للرّجال نصيبا ولم يخصّ موضعا دون موضع وقد عرفت أنّ ذلك مع الاستواء في القرابة
والدّرجة ومن ثم لم يرث ولد الولد مع ولد الصّلب لعدم التّساوي.
ومقتضى ما ذكر
انّه ترث العمات مع العمومة وبنات العمّ مع بنى العمّ لانّ درجة هؤلاء واحدة
وقرابتهم متساوية والمخالف هنا يورث الرّجال منهم دون النّساء والقرآن حجّة عليه ،
ولانّ توريث الرّجال دون النّساء مع المساواة في القرابة والدّرجة من أحكام
الجاهليّة وقد نسخ الله ذلك بشريعة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الرابعة :
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) اى يأمركم ويعهد إليكم في شأن ميراثهم والمراد
أنّ هذا فرض عليكم لأنّ الوصيّة منه سبحانه أمر وفرض كما قال (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) والخطاب للأحياء بأنّه إذا مات منهم أحد يجب أن يعلم
الباقون أنّ لولده وغيره الإرث على الوجه الذي فصّله قوله :
(لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) اى يعدّ كلّ ذكر باثنتين حيث اجتمع الذّكور والإناث من
الأولاد فيضعف نصيبه ، وتخصيص الذّكر بالتّنصيص على حظّه لانّ القصد الى بيان فضله
والتّنبيه على أنّ التضعيف للتّفضيل ، وفي أخبارنا عن الرّضا انّه عليهالسلام قال : إنّما تعطى النّساء نصف ما يعطى الرّجال من
الميراث لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت والرّجل يعطى فلذلك وفّر على الرّجال ، ولأنّ
الأنثى في عيال الذّكر ان احتاجت وعليه أن يعولها وليس على المرأة أن تعول الرّجل
ولا تؤخذ بنفقة إن احتاج فوفّر الرّجل لذلك وذلك قوله تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ
بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الحديث.
وفي أخبارنا
أيضا أنّ أبا هاشم الجعفري ذكر أنّ الفهفكىّ سأل أبا محمّد العسكري عليهالسلام فقال : ما بال المرأة المسكينة الضّعيفة تأخذ سهما
واحدا ويأخذ الرّجل القوىّ سهمين؟ فقال أبو محمّد عليهالسلام : لأنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة انّما
ذلك على الرّجال.
فقلت في نفسي :
قد كان قيل انّ ابن أبى العوجاء سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا الجواب ، فاقبل عليهالسلام علىّ فقال : نعم هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب
منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحدا ، ونحوها من الاخبار والكلام في تقدير «للذّكر
منهم» فحذف للعلم به.
واعلم انّ عموم
قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) مخصوص بأمور. الأوّل العبد
__________________
والحرّ لا يتوارثان الثّاني القاتل لا يرث ، الثّالث لا يتوارث أهل ملّتين
فالكافر لا يرث المسلم ولكنّ المسلم يرث الكافر وزاد العامّة : أنّ الأنبياء عليهمالسلام لا يورّثون لحديث رواه أبو بكر خالف فيه كتاب الله
والسنّة مقطوع بعدم صحّته.
(فَإِنْ كُنَّ) اى الأولاد (نِساءً) خلّصا ليس معهنّ ذكر وتأنيث الضّمير باعتبار الخبر أو
على تأويل المولودات (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر بعد خبر أو صفة نساء اى نساء زايدات على اثنتين.
(فَلَهُنَّ ثُلُثا ما
تَرَكَ) الميّت من التّركة هذا بالفرض المعلوم في كتاب الله
ويبقى الحكم في الباقي معلوما من خارج.
(وَإِنْ كانَتْ) أي المولودة بنتا (واحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ) اى من التركة بالفرض على قياس ما سبق وقرء نافع بالرّفع
على أنّ كان تامّة ، وبقي حكم البنتين لم تدلّ عليه الآية صريحا ومن ثمّ اختلف فيه
والأكثر على انّ حكمهما حكم ما فوقهما في وجوب الثلثين.
وقال ابن عبّاس
: يجب لهما النّصف كالواحدة وهو بعيد ، إذ لا خلاف في أنّ للأختين الثلثين كما دلّ
عليه القرآن العزيز صريحا وهو يوجب الّا يكون حصّة البنتين أقلّ من حصّتهما كيف
وهما أمسّ رحما وألصق قرابة وعدم خلوّها عن الإرث من الميّت في شيء من الأحوال
بخلاف الأخت وحينئذ فلا يكون لهما النّصف فيتعيّن الثّلثين إذ لا قائل بغيرهما.
ولأنّ للبنت مع
أخيها الّذي نصيبه ضعف نصيبها الثلث فلا بدّ أن تكون مع أختها الّتي نصيبها أقلّ
من تلك الحصّة كذلك فلا يكون لهما النّصف بل الثّلثان.
ولأنّه تعالى
لما بيّن أنّ حظّ الأنثيين على حكم البنتين لانّه قد علم أنّ للذّكر مع الواحدة
ثلثين الّذين هما للبنتين فعلم أنّ لهما ثلثين أيضا وبقي ما فوقهما فكأنّه قيل :
فما لما فوقهما؟ قيل كذا.
قلت : وهذا
الوجه ذكره الكليني في وجه كون حصّة البنتين الثلثين عند بيان
الفرائض في الكتاب قال بعد كلام طويل : «وقد تكلّم النّاس في أمر البنتين
من اين جعل لهما الثّلثان والله عزوجل انّما جعل الثّلثين لما فوق اثنتين فقال قوم : إجماع ،
وقال قوم : قياسا كما كانت للواحدة النّصف كان ذلك دليلا على أنّ لما فوق الواحدة
الثلثين وقال قوم : بالتّقليد والرّواية ولم يصب واحد منهم الوجه في ذلك.
فقلنا : انّ
الله عزوجل جعل حظّ الأنثيين الثّلثين بقوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) وذكر أنّه إذا ترك بنتا وابنا فللذّكر مثل حظّ الأنثيين
وهو الثّلثان فحظّ الأنثيين الثّلثان واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين
بالثّلثين وهذا بيان قد جهله كلّهم والحمد لله كثيرا» انتهى.
والظّاهر أنّ
ذلك أخذه عن الامام عليهالسلام وان لم يذكره مستندا اليه وبالجملة فقول ابن عبّاس في
كون البنتين لهما النّصف بعيد جدّا وقد نقل في التّبيان الإجماع على أنّ لهما
الثّلثين فإنّه قال : ظاهر الكلام يقتضي أنّ البنتين لا يستحقّان الثلثين لكن
الأمّة أجمعت على أنّ حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات.
وقال أيضا :
يدلّ عليه الإجماع إلّا ما روى عن ابن عبّاس أنّ لهما النّصف فكأنّه أراد الإجماع
بعده أو لم يعتبر خلافه أو أراد التّأييد بالشّهرة والكثرة فتأمل.
(وَلِأَبَوَيْهِ) ولأبوي الميّت (لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا) بدل منه بتكرير العامل وفايدته التّنصيص على استحقاق
كلّ منهما السّدس ودفع توهّم اجتماعهما فيه والتّفصيل بعد الاجمال تأكيدا.
(السُّدُسُ مِمَّا
تَرَكَ إِنْ كانَ) اى الميّت (لَهُ وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى واحدا أو أكثر غير أنّ الولد ان كان
ذكرا كان الباقي له وكذا لو كانوا ذكورا أو كانوا إناثا فإنّ الباقي لهم بالتّسوية
ولو كانوا ذكورا وإناثا فللذّكر مثل حظ الأنثيين وان كانت بنتا واحدة فلها النّصف
بالتّسمية والباقي يردّ عليها وعلى الأبوين على نسبة سهامهم أي أخماسا كما اقتضته
آية أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقد ثبت أنّ قرابة الوالدين وقرابة
الولد متساوية بالنّسبة إلى الميّت لانّ الولد يتقرّب اليه بنفسه كما في الوالدين
وقد انعقد إجماعنا ودلّت أخبارنا على ذلك.
وقالت العامّة
: إذا كان مع الأبوين بنت واحدة فلها النّصف وللامّ السدس وللأب السّدس بحكم الآية
، والباقي للأب بحكم التّعصيب وسيجيء بطلان التعصيب ولو كان مع البنت أحد الأبوين
كان ردّ الباقي عليها وعليه فقط عندنا وخالف العامّة هنا أيضا فأوجبوا للأب مع
البنت السّدس ولها النّصف والباقي له بالعصوبة.
ولو كان مع أحد
الأبوين البنات فانّ الردّ على نسبة سهامهم كما عرفت وبين العامّة اختلاف في ذلك.
(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ) اى للميّت (وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) اى ممّا ترك حذف بقرينة ما تقدّم وترك ذكر حصّة الأب
لأنّه ليس بصاحب فرض في هذه الصورة فيكون الباقي له بعد ثلث الامّ وهو إجماع.
ولو اجتمع مع
الأبوين أحد الزّوجين فكيف يكون فرض الامّ؟ فقالت العامة : انّ الزّوج أو الزّوجة
يكون لهما نصيبهما ثم يدفع ثلث ما بقي للأمّ والباقي للأب ليكون للذّكر مثل حظّ
الأنثيين كما هو قاعدة الميراث عند اجتماع الذّكر والأنثى فيكون الأبوان كشريكين
بينهما مال فإذا صار شيء منه مستحقّا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق.
وفيه نظر فان
مقتضى الآية أنّ للامّ الثلث من أصل المال في جميع الأحوال إذا لم يكن لها حاجب
وان كان هناك زوج لا أنّ لها ثلث ما بقي بعد حصّة الزّوج كما هو رأى الجمهور وصرّح
به القاضي وصاحب الكشّاف ونسبا ما ذكرنا الى ابن عبّاس ولا خلاف في ذلك بين
أصحابنا وقال في مجمع البيان : وهو مذهب ابن عبّاس وأئمّتنا عليهمالسلام وهو الظّاهر من الآية حيث جعل الثّلث لها مع عدم الولد
وظاهر أنّ ذلك قد يكون مع الزّوج وقد يكون بدونه وتقييدهما للاية بقوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) فحسب تقييد غير واضح الوجه مع انّه حينئذ لا يحتاج الى
قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ) ، وما احتجّ به القاضي والكشاف بأنّ «الأب أقوى في
الإرث من
__________________
الامّ بدليل أنّه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة وجامعا بين
الأمرين فلو ضرب لها بالثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها» مدفوع بأنّه اجتهاد
في مقابلة النّص وحمل للاية على وجه لم يدلّ عليه نصّ واضح فيكون مردودا.
(فَإِنْ كانَ لَهُ) اى للميّت (إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ) لا غير فهم يردّونها من الثّلث الى السّدس وان كانوا لا
يرثون شيئا ، والمشهور أنّ ردّهم إيّاها إلى السّدس انّما هو مع وجود الأب ويدلّ
عليه ظاهر قوله (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) إذ التّقديران لم يكن له ولد وورثه الأب والام فللأم
الثلث ان لم يكن له اخوة فان كان له اخوة فلأمّه السّدس ونقل في مجمع البيان عن
بعض أصحابنا انّ للامّ السّدس مع وجود الاخوة وان لم يكن هناك أب قال : وبه قال
جميع الفقهاء وما ذكره خلاف المشهور فيما بين أصحابنا ، نعم قد يظهر من عبارة
الصّدوق كما نقله الشهيد في الدّروس.
والجمهور على
أنّ المراد بالاخوة عده ممن له اخوة من غير اعتبار كونها ثلاثة وحينئذ فيثبت الحجب
بالأخوين كما هو قول أصحابنا وعليه الجمهور وأخذ ابن عبّاس بظاهر الجمع فاعتبر
ثلاثة فصاعدا ولم يحجب بالاثنين والإجماع على خلافه وعلى ما قلناه يتحقّق الحجب
بالأخوين وما قام مقامهما كأربعة أخوات أو أخ وأختين وعلى ذلك انعقد إجماعنا وفي
أخبارنا دلالة عليه أيضا ولو نوقش في دلالة الآية على ذلك لأمكن إثباته بالإجماع
والأخبار.
وظاهر الآية
أعمّ من كونها إخوة لأب أو اخوة لامّ إلّا أنّ أصحابنا خصّوه بما عدا إخوة الأمّ
فقط ولعلّ دليلهم الإجماع والأخبار ولا يبعد فهم الانفصال بالولادة منها فلا يحجب
الحمل وإن كان متمّما للعدد المعتبر فيه لعدم إطلاق اسم الاخوة عليه.
امّا اعتبار
كونهم وارثين في الجملة فلو كانوا قاتلين أو أرقّاء أو كفّارا لم يحجبوا فالدّلالة
عليه من خارج الآية كصحيحة محمّد بن مسلم عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن المملوك والمشرك يحجبان إذا لم يرثا؟
قال : لا.
هذا والأصحاب
متّفقون على عدم الحجب في صورة كون الأخ كافرا أو مملوكا وانّما الخلاف بينهم في
القاتل والمشهور انّه يحجب أيضا كما قاله العلّامة في المختلف وقال الصدوق :
القاتل يحجب وان لم يرث وكذا قال ابن أبى عقيل وهذا القول غير بعيد لعموم الآية في
حجب الاخوة خرج عنه الكفار والمماليك للرواية الصحيحة السالفة فيبقى الباقي مندرجا
تحت العموم ولا يصار الى التخصيص من غير دليل.
(مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلّق بما تقدّم من قسمة المواريث كلّها اى ثبوت
الأنصباء على الوجه المذكور للورثة من بعد إخراج ما أوصى به الميّت وبعد الدّين.
وقوله (يُوصِي بِها) بعد (وَصِيَّةٍ) للتأكيد وإنّما قال بأو التي للتخيير دون الواو للدلالة
على انّهما متساويان في الوجوب مقدمتان على القسمة مجموعين أو منفردين وقدّم
الوصيّة على الدّين مع أنّها متأخّرة عنه في حكم الشريعة للاهتمام بشأنها
واحتياجها إلى التأكيد والمبالغة لأنّها في محلّ ان لا يسمعها الوارث ولأنّها
مشابهة للإرث من حيث توقّف ثبوتها على الموت وكونها مأخوذة من غير عوض فذكرت بعده.
وكيفيّة
الترتيب أن يخرج أوّلا مؤنة تجهيزه الواجب ثمّ الدين ثمّ الوصيّة ثمّ يقسم الباقي
على الورثة على حكم الله وهذا مفهوم من الإجماع والسنّة لا الكتاب.
وروى العامّة
عن عليّ عليهالسلام : إنّكم لتؤدّون الوصيّة قبل الدّين وإنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قضى الدين قبل الوصيّة ، والمراد انّه لا عبرة في
التقدّم بالذكر لانّ كلمة أو لا تفيد الترتيب البتّة وإنّما استفيد الترتيب السابق
من السنّة والإجماع عكس الترتيب في اللفظ.
وقد يستدلّ
بظاهر الآية على عدم تملّك الوارث قبل إخراج الدّين حيث جعل الأنصباء المذكورة
بعده وبعد الوصيّة وحينئذ فالمال امّا باق على حكم مال الميّت أو ينتقل الى
الديّان بقدره ويكون ذلك متعلّقا بالتركة فلا يجوز التصرّف فيها إلّا بعد إخراجه
سواء كان مستغرقا أم لا.
ويحتمل اختصاص
عدم التصرّف بما إذا لم يكن التركة فاضلة عنه فلو فضلت جاز للوارث التصرّف فيما
يفضل عنه قبل إخراجه ويجب عليه إخراجه أو عزله أو إيصاله إلى صاحبه وكذا الكلام في
الوصيّ ان كان ويجب على الوارث التمكين.
ويحتمل القول
بجواز التصرّف للوارث في التركة مطلقا بعد أن يضمّن الوصيّة أو الدين ويثبتان في
ذمّته حتّى انّه لو لم يصل الدين إلى أهله يكون له الرجوع على الورثة الذين
تصرّفوا في المال أو تبطل تصرفاتهم.
فالاحتمالات
ثلاثة الأوّل جواز التصرّف في التركة بعد وصول الدين إلى أهله وعدم جوازه قبله
بوجه وكذا الوصيّة.
الثاني الجواز
بعد العزل والتعيين وعدم الجواز قبله.
الثالث الجواز
مع سعة المال ووجود الدين فيه فيجوز التصرّف في الفاضل أو في الكلّ ، ويكون ضامنا
له وكذا الوصيّة ومن هنا نشأ الاختلاف في تصرّف الوارث قبل دفع العين إلى صاحبه.
وقد يدلّ على
الأوّل رواية عبّاد بن صهيب في الكافي في باب قضاء الزكاة عن الميّت عن أبي عبد
الله عليهالسلام في رجل فرّط في إخراج زكوته في حياته فلمّا حضرته
الوفاة حسب جميع ما كان فرّط فيه ممّا يلزمه من الزكاة ثمّ أوصى به أن يخرج ذلك
فيدفع إلى من يجب له قال : جائز يخرج ذلك من جميع المال انّما هو بمنزلة دين لو
كان عليه ، ليس للورثة شيء حتّى يؤدّوا ما أوصى به من الزكاة.
وهي ظاهرة في
الدين والوصيّة بالزكاة والظاهر أنّه لا قائل بالفرق فيثبت الحكم في الدين على الإطلاق
ولا شيء في سند الرواية ممّن يتوقّف فيه سوى عبّاد بن صهيب وقد وثقه النجاشي وان
قيل فيه شيء آخر إذ نهاية ذلك أنّه موثّق ومن يعمل بالموثّق يلزمه العمل به على
انّا نقول هو كالقرينة على تنزيل الآية على أحد محتملاتها ولا بأس بالمصير إليه
وإن كان ضعيفا كالامارة.
واعلم أنّ
الأصحاب انّما ذكروا الوجوه الثلاثة في الدين فقط ولم يذكروها
__________________
في الوصيّة والحكم واحد ومقتضى الآية تقدّم الوصيّة وإن كانت زائدة على
الثلث إلّا أنّ الإجماع والأخبار أوجبا تقييدها بكونها من الثلث.
(آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي لا تعلمون من أنفع لكم من مورّثكم من اصولكم وفروعكم
الّذين يموتون ، من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء الوصيّة أم من لم يوص فيوفّر
عليكم المال.
والمراد أنّ الله
تعالى أعلم بما هو صلاحكم وأنّ من أوصى فعرضكم للثواب أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى
ممّن ترك الوصيّة فوفّر عليكم فانّ عرض الدّنيا وان كان عاجلا قريبا في الصورة
إلّا انّه فان فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى وثواب الآخرة وان كان آجلا الّا انّه
باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى.
ويحتمل أن يكون
المعنى لا تعلمون من أنفع لكم ممّن ترثون من الأصول والفروع في العاجل والأجل
فتحروا فيهم ما وصّاكم الله به ولا تعمدوا الى تفضيل بعض وحرمان بعض فقد روى أن
أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الأخر في الجنّة سأل الله أن يرفع اليه فيرفع
بشفاعته واقتصر في الكشاف على الأوّل ونقل أقاويل أخرى ثمّ قال : وليس شيء من هذه
الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له لأنّ هذه الجملة اعتراضيّة ومن حقّ الاعتراض
أن يؤكّد ما اعترض بينه ويناسبه والقول ما تقدّم.
ولا يذهب عليك
انّ ما ذكرناه ثانيا مؤكد لأمر القسمة كما أنّ الأوّل لتنفيذ الوصيّة فكلا الوجهين
حسن مناسب.
(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) منصوب على أنّه مصدر مؤكد لمضمون الجملة الأولى أي فرض
الله ذلك فرضا ويحتمل أن يكون منصوبة بيوصيكم لانّه بمعنى يفرض الله عليكم فريضة
فهو مصدر من غير لفظه.
(إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً) بمصالح خلقه (حَكِيماً) في كلّ ما فرض وقسّم من المواريث وغيرها.
__________________
الخامسة :
(وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) جمع زوج بمعنى زوجة ، فإنّه يقع على كل من الزوجين
وبظاهر الآية استدل الشافعي على أنّه يجوز للزّوج غسل زوجته لأنّها بعد الموت
زوجته بظاهر الآية ومنع الحنفيّة منه نظرا إلى أنّها ليست بزوجة والّا حلّ وطؤها
لقوله (إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) وردّ بأنّه يلزم التّجوز في هذه الآية أو التّخصيص في
الأخرى ومع التّعارض فالتّخصيص أولى.
ويؤيّده انّه
قد علم في صور كثيرة حصول الزوجيّة مع حرمة الوطي كزمان الحيض وشبهه وهذا أقوى ،
والحكم بوجوب النّصف للزّوج (إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) اى ولد وارث من بطنها أو من صلبه بنيها وبنى بنيها وان
سفل ذكرا كان أو أنثى منكم أو من غيركم.
(فَلَكُمُ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْنَ) ومقتضى العموم هنا أنّ للزّوج النّصف أو الرّبع من جميع
ما تركت الزّوجة مالا وعقارا أو غيرهما ولا خلاف في ذلك.
(مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلّق بما قبله على ما سلف بيانه.
(وَلَهُنَّ) اى للزّوجات (الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) وارث من صلبكم بواسطة أو بلا واسطة على ما تقدّم (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) ومقتضى العموم أنّ لها الرّبع أو الثّمن من جميع ما ترك
الزّوج كما في النّصف أو الرّبع الثّابت له من جميع ما تركت واليه ذهب المخالفون
بأجمعهم من غير فرق عندهم بين كون الزّوجة ذات ولد منه أم لا وهو ظاهر ابن الجنيد
من أصحابنا امّا باقيهم ، فقد اختلف أقوالهم في ذلك ومنشأها اختلاف الأخبار
الواردة عن أئمّتهم عليهمالسلام.
والمشهور بينهم
، وخصوصا المتأخّرين الفرق بين ذات الولد وغيرها حيث عمّموا الإرث في الأولى
وخصّصوه في الثّانية بالأرض عينا [وقيمة] وبالطوب والخشب
والآلات من الدور والمنازل عينا لا قيمة.
وهذا الفرق وان
كانت الأخبار الصّحيحة لا تساعد عليه بل تدلّ على خلافه فانّ مقتضاها عدم الفرق
بينهما في عدم الإرث وثبوته ومن ثمّ أطلق الشيخ المفيد والسيّد المرتضى وأبو
الصّلاح وجماعة الحكم بعدم إرثها من نفس الرّباع والمنازل من غير تقييد الزّوجة
بعدم الولد.
وقوّاه ابن
إدريس وقال : «لأنّ التّخصيص يحتاج إلى أدلّة قويّة وأحكام شرعيّة والإجماع على
أنّها لا ترث من نفس الرّباع والمنازل سواء كان لها من الزّوج ولد أو لم يكن ، وهو
ظاهر قول شيخنا المفيد في مقنعته والسيّد المرتضى في انتصاره» انتهى كلامه.
وفي دعواه
الإجماع بعد ما عرفت من ذهاب جماعة إلى الفرق وهو قول الصّدوق في الفقيه واختاره
الشّيخ أبو جعفر في مواضع من كتبه وهو أقرب ويدلّ عليه رواية ابن أذينة المنقولة في الفقيه الدّالّة على أنّ النّساء إذا كان
لهنّ ولد أعطين من الرّباع.
لا يقال : هي
رواية مقطوعة والأخبار الصّحيحة دلّت على العدم مطلقا كصحيحة زرارة عن الباقر عليهالسلام : المرأة لا ترث ممّا ترك زوجها من القرى والدّور
والسّلاح
__________________
والدّوابّ شيئا وترث من المال والفرش والثّياب ومتاع البيت ممّا ترك ويقوّم
النقض والأبواب والجذوع والقصب فتعطى حقّها منه.
وكصحيحة محمّد
بن مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : النّساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيعا
ونحوهما من الأخبار.
لأنّا نقول :
الرّواية المذكورة وان كانت مقطوعة الّا أن القطع في أمثالها غير مضرّ على ما ثبت
في محلّه والصدوق أوردها في كتابه مع ضمانه ما ينقله فيه ومع هذا فإنّما عملنا بها
لأنّها توجب تقليل التّخصيص في القرآن فإنّ الآية المذكورة اقتضت التّوريث على
العموم والتّخصيص مخالف لظاهرها فكلّما كان أقلّ كان أولى فلعلّ ذلك هو الموجب
لتخصيص الأخبار الصّحيحة بغير ذات الولد مضافا الى ما ذكر.
وما ذهب اليه
ابن الجنيد من الإرث مطلقا كما هو ظاهر الآية بعيد لما فيه من طرح الأخبار
الصّحيحة الكثيرة الواردة بخلافه صريحا.
وما دلّ عليه
من صحيحة الفضل بن عبد الملك وابن أبى يعفور عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الرّجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها
من التّربة شيئا أو يكون ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئا؟ فقال : يرثها
وترثه من كلّ شيء تركت وترك.
فلا ينافيها بل
الظّاهر منها التّقيّة وحملها ابن بابويه على ذات الولد فإنّها ترث من كلّ شيء
أمّا حمل الشيخ على أنّ لها من كلّ شيء ما عدا تربة الأرض من
__________________
القرايا والأرضين والرّباع والمنازل فيخصّ بالأخبار الدّالّة على عدم الإرث
منها فبعيد عن الظّاهر.
وبالجملة العمل
بعموم الآية لازم لو لا الأخبار الصّحيحة المتظافرة في التّخصيص وحينئذ فما قلّ من
التّخصيص اولى ممّا كثر على ما عرفت.
(مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) كرّر ذلك للاهتمام بشأنهما وحثّ الورثة على عدم
مخالفتهما.
(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) اى الميّت (يُورَثُ) صفة رجل والعائد محذوف اى يورث منه (كَلالَةً) خبر كان أو يورث خبر والعائد ما عرفته والكلالة حال من
ضميره أو مفعولا له والمراد بالكلالة من ليس بوالد ولا ولد من سائر القرابات كما
دلّت عليه صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : الكلالة من لم يكن له ولد ولا والد ونحوها من
الأخبار ، وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء استعيرت
للقرابة من غير جهة الوالد والولد ، لأنّها بالإضافة إلى قرابتهما كالة ضعيفة.
وإذا جعلت صفة
للمورّث أو الوارث فبمعنى ذي كلالة تقول : فلان من قرابتي تريد من ذي قرابتي ،
واحتمل في الكشاف أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق.
(أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل (وَلَهُ) اى للرّجل واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لاقتضاء العطف
اشتراكهما فيه ويحتمل إرجاعه الى أحد المذكورين أو الى الكلالة لكونها عبارة عن
الميّت أو الموروث.
(أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) إطلاقهما وان كان شاملا لما هما من الأب أو الأمّ الّا
انّه مقيّد بما كانا من الأمّ لأنّه حكم بتساويهما في الميراث كما دلّ عليه قوله :
(فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ) اى سدس ما ترك من غير مفاضلة الذّكر على الأنثى (فَإِنْ كانُوا) اى من يرث بالأخوة (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ
فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) فاقتضى ذلك
__________________
أنّ الأخ من الامّ ان كان واحدا فله السّدس وان كانوا أكثر من واحد فلهم
الثلث من التّركة يتساوون فيه من غير فرق بين الذّكر والأنثى.
وذكر تعالى في
آخر السورة إنّ للأختين الثّلثين وأنه مع اجتماع الاخوة والأخوات فللذّكر مثل حظّ
الأنثيين وهذا يقتضي أن يكون المحكوم عليه بالتّساوي في الإرث هنا غير المحكوم
عليه ثمّة لمكان الاختلاف.
وينبّه على ما قلناه ما رواه الكليني عن بكير بن أعين قال : قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : امرأة تركت زوجها وإخوتها لامّها وإخوتها لأبيها فقال
عليهالسلام : للزّوج النّصف ثلثة أسهم وللاخوة من الامّ الثلث
الذّكر والأنثى فيه سواء وبقي سهم فهو للاخوة والأخوات من الأب للذّكر مثل حظّ
الأنثيين لأنّ السّهام لا تعول ولا ينقص الزّوج من النّصف ولا الأخوة من الامّ
ثلثهم لانّ الله عزوجل يقول : (فَإِنْ كانُوا
أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) وان كانت واحدة فلها السّدس.
والّذي عنى
الله في قوله (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي
الثُّلُثِ) انّما عنى بذلك الاخوة والأخوات من الأمّ خاصّة ، وقال
في آخر سورة النّساء (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ) يعني أختا لأب وأمّ أو أختا لأب (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ
يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذّكر مثل حظّ الأنثيين»
فهم الّذين يزدادون وينقصون (الحديث).
ونحوها صحيحة
محمّد بن مسلم عن ابى جعفر عليهالسلام وقد نقل في مجمع البيان إجماع الأمّة على أنّ الاخوة
والأخوات من قبل الامّ يتساوون في الميراث ومفهوم الآية
__________________
أنّ الاخوة والأخوات لا يرثون مع وجود الأولاد ولا الإباء بل ولا مع الامّ
وهو كذلك عندنا وان خالف فيه العامّة.
(مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) حال من فاعل يوصى أو من الوصيّة والتذكير لانّه مصدر
بمعنى الإيصاء ، ويحتمل أن يكون حالا عن الوصيّة والدّين معا والمراد أنّ الوصيّة
والدّين اللّذين يقدّمان على الإرث هما اللّذان لا يكون فيهما إضرار الورثة كأن
يقصد بالوصيّة مجرّد حرمانهم وعدم وصول شيء إليهم أو بالدّين ذلك أو يستدين دينا
غير محتاج اليه فيضيّعه أو يقرّ بدين مع عدمه قاصدا للإضرار بهم فان ذلك لا يقدّم
إذا علم أنّ قصده ذلك فلا يسمع بل يكون وجوده كعدمه على ما يعلم تفصيله من الفروع.
(وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكّد كفريضة ويحتمل انتصابه بغير مضارّ على انّه
مفعول به ويؤيّده قراءة غير مضارّ وصيّة بالإضافة أي لا يضارّ وصيّة من الله
بالأولاد بالإسراف في الوصيّة أو الإقرار الكاذب بالدّين.
(وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح عباده لا يفعل لهم الّا ما هو خير لهم (حَلِيمٌ) لا يعاجل العصاة بالعقوبة بل يمنّ عليهم بالانظار
والإمهال فربّما رجعوا عمّا هم عليه بالتّوبة.
السادسة :
(يَسْتَفْتُونَكَ) أي في الكلالة حذف لدلالة الجواب عليه روى أنّ جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : إنّي كلالة فكيف أصنع؟ ـ فنزلت وفي الكشاف روى
أنّه آخر ما نزل من الاحكام.
قيل : انّه
تعالى أنزل للكلالة آيتين أحدهما في الشّتاء وهي الّتي في أوّل سورة النّساء
والأخرى في الصّيف وهي هذه فلذا سمّى آية الصّيف.
(قُلِ اللهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) فبيّن لكم حكم ميراثها وقد عرفت معناها (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ارتفاعه بفعل مضمر يفسّره الظّاهر بقرينة الشّرط
المختصّ بالفعل اى ان
__________________
مات امرء (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ذكرا أو أنثى بواسطة أو بغيرها لانّ المطلق من الولد
يتناول جميع ذلك لغة وعرفا والمراد ولا والد أيضا ، ولعلّ عدم التّصريح به لانّ
لفظ الكلالة يدلّ عليه لما مرّ أنّها ليس بوالد ولا ولد ، وان أبيت ذلك فقيل ، هو
مقيّد بعدمه أيضا للإجماع على عدم ميراث الاخوة مع الأب والجملة امّا صفة امرء أو
حال من المستكنّ في هلك.
(وَلَهُ أُخْتٌ) أي من الأبوين أو الأب وحده لانّ حكم الأخت من الامّ
فقط قد مضى في الآية السّابقة على ما بيّناه والواو يحتمل الحاليّة أو العطف.
(فَلَها نِصْفُ ما
تَرَكَ) ومقتضى الآية أنّ استحقاق الأخت للنّصف مع عدم الولد
وفقده وقد عرفت أنّ الولد يقال للذّكر والأنثى بواسطة أو لا فيلزم ان لا ترث مع
البنت شيئا بمقتضى ظاهر القرآن والى هذا يذهب علماؤنا ، وفي الأخبار الواردة عن
أئمّة الهدى عليهمالسلام دلالة على ذلك أيضا.
واستشكل فيه
العامّة لقولهم بالتّعصيب فحمل في الكشّاف الولد المنفي على الابن نظرا الى أنّ
الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت. وقال القاضي : «الولد على ظاهره فإنّ الأخت
وان ورثت مع البنت عند عامّة العلماء غير ابن عبّاس لكنّها لا ترث النّصف أراد
أنّها لا ترثه بالفريضة وانّما ترثه بالعصوبة في مادّة خاصّة ومن ثم لا ترث مع
الابن أو الابن والبنت معا وترث أقلّ من النّصف مع البنتين».
والحقّ أنّ ذلك
بعيد عن ظاهر القرآن لا يصار إليه من غير موجب قوىّ والتّوارث بالعصبة غير ثابت
بدليل يستند إليه مع قوله تعالى (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) حيث نصّ فيها على أنّ سبب استحقاق الميراث القربى
وتداني الأرحام كما أشرنا إليه سابقا.
(وَهُوَ يَرِثُها) اى المرء يرث أخته على تقدير كونها الهالكة.
(إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَها وَلَدٌ) ذكر أو أنثى بواسطة أو لا لصدق الولد عليه كما عرفت
والمراد ولا والد أيضا لعدم إرث الأخ مع وجود الأب أو الأمّ كما سبق.
قال القاضي : «ان
أريد بيرثها يرث جميع مالها فالمنفيّ الولد مطلقا ذكرا
أو أنثى وإلّا فالمراد به الذّكر إذ البنت لا تحجب الأخ» وقريب منه ما قال
في الكشّاف وهو بناء على ما أصّلوه فاسدا من توريث العصبة المعلوم بطلانه بظاهر
القرآن خصوصا هنا.
فانّ ظاهر
القرآن اقتضى أنّ ارث الأخ مشروط بعدم الولد والولد كما يقع على الذّكر يقع على
البنت أيضا بإجماع أهل اللّغة وما استندوا في تخصيصه إلى أخبار دلّت عليه فهي
معارضة بمثلها من طرقهم أيضا ومع التّعارض يتساقطان ويجب الرّجوع إلى ظاهر القرآن
وقد انعقد إجماع أهل البيت عليهمالسلام على بطلان الميراث بالتّعصيب وهو حجّة قاطعة.
(فَإِنْ كانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الأخ أو الأخت وضمير كانتا يرجع إلى من يرث بالاخوّة
وتثنيته من حيث المعنى.
(وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً) أصله وان كانوا اخوة وأخوات فالمراد بالاخوة ما يشمل
الأخوات تغليبا لحكم الذّكور.
(فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أحكام مواريثكم (أَنْ تَضِلُّوا) أي كراهة أن تضلّوا وتخطئوا في الحكم بها ، وقيل :
المعنى يبيّن لكم ضلالكم الّذي من شأنكم إذا خلّيتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحرّوا
خلافه ، وقيل : لئلّا تضلّوا فحذف لا وعليه الكوفيّون.
(وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو عالم بمصالح العباد في المحيي والممات وكذا في
تقسيم المواريث فلا يفعل إلّا ما هو أصلح بحالهم دينا ودنيا.
واعلم أنّ
الآية السّابقة أعني قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) تضمّنت ميراث الأولاد والإباء والآية التي بعدها أعنى
قوله (وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الآية ، تضمنت ميراث الأزواج والزّوجات والاخوة
والأخوات من قبل الامّ ، وهذه الآية تضمّنت بيان ميراث الاخوة والأخوات من قبل
الأبوين أو الأب مع عدمهم كما يعلم من الأخبار وقد سبق جانب منها.
وقد ظهر ممّا
ذكرناه أنّ معظم الخلاف بيننا وبين مخالفينا في الفرائض
والمواريث في ثلاثة أشياء أحدها العصبة ، وقد أشرنا سابقا الى بطلان القول
بها وبيّنا أنّ الميراث بالفرض لا يجتمع فيه إلّا من كانت قرباه إلى الميّت واحدة
كالبنت أو البنتين مع الوالدين أو أحدهما فمتى انفرد واحد منهم أخذ المال كلّه
بالفرض والباقي بالرّدّ ومع الاجتماع يأخذ كلّ واحد منهم ما سمّى له والباقي يردّ
عليهم ان فضل على نسبة سهامهم وان نقص لمزاحمة الزوج أو الزّوجة بهم كان النّقص
داخلا على البنت والبنات دون الأبوين أو أحدهما ودون الزّوج أو الزّوجة.
ولا يجتمع مع الأولاد
ولا مع الوالدين ولا مع أحدهما من يتقرّب بهما كالكلالتين فإنّهما لا يجتمعان مع
الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا ولا مع الوالدين ولا مع أحدهما أبا كان أو أمّا لما
عرفت من أنّ المعتبر في الاستحقاق القرب والتّداني إلى الميّت وغير هؤلاء ليس
بمثابتهم في القرب وتداني الأرحام.
الثّاني ـ العول
وهو يدخل في المواضع الّتي ينقص فيها المال عن السّهام المفروضة فيه والّذي يذهب
إليه أصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم : أنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدّم
ذو والسّهام المذكورة من الزّوجين والأبوين على البنات والأخوات من الأب والامّ أو
من الأب فقط وجعل الفاضل عن سهامهم لهنّ كما أشرنا إليه فيكون النّقص داخلا على
البنت والبنات في صورة اجتماع الزّوج والأبوين ، وعلى الأخوات من الأبوين أو
أحدهما في صورة اجتماع الزّوج معهنّ.
وقال المخالف :
إذا ضاق المال عن سهام الورثة قسّم بينهم على قدر سهامهم كما يفعل في الدّيون
والوصايا إذا ضاقت التركة عنها فيوزّع بحيث يكون النّقص داخلا على الجميع وحاصله
أن يلحق السّهم الزّائد على الفريضة ويقسّم على الجميع.
وتسميته عولا
امّا من الميل لكون الفريضة عائلة على أهلها لميلها عليهم بالجور بسبب نقصان سهامهم
، أو من عال الرّجل إذا كثر عياله لكثرة السّهام فيها ، أو من عال إذا غلب لغلبة
أهل السّهام بالنقص.
والّذي يدلّ
على صحّة ما ذهبنا اليه بعد الإجماع ورود الأخبار المتظافرة عن أهل البيت عليهمالسلام وكان ابن عبّاس يقول من شاء باهلته عند الحجر الأسود
انّ الله
عزوجل لم يذكر في كتابه نصفين وثلثا وقال أيضا : سبحان الله
العظيم أترون الّذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا وهذان
النّصفان فأين موضع الثلث؟.
فقال زفر : يا
ابن عباس فمن أوّل من أعال الفرائض؟ ـ فقال : عمر لمّا التقت الفرائض عنده ودفع بعضها
بعضا قال : والله ما أدري أيّكم أقدّم وأيّكم أؤخّر وما أجد شيئا هو أوسع من أن
أقسّم عليكم هذا المال بالحصص قال ابن عبّاس : لو قدّمتم من قدّم الله وأخّرتم من
أخّر الله ما عالت الفريضة.
فقال له زفر :
وأيّها قدّم وأيّها أخّر؟ ـ فقال : كلّ فريضة لم يهبطها الله الّا الى فريضة فهذا
ما قدم الله وأمّا ما أخّر فكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها الّا ما يبقى
فتلك الّتي أخر فأمّا الّتي قدّم فالزّوج له النّصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه
رجع الى الرّبع لا يزيله عنه شيء ومثله الزّوجة والامّ وامّا الّتي أخّر ففريضة
البنات والأخوات لها النّصف والثّلثان فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ
الّا ما بقي فإذا اجتمع ما قدّم الله وما أخّر الله بدأ بما قدّم الله واعطى حقّه
كاملا فإن بقي شيء كان لمن أخّر (الحديث).
ويدلّ عليه
أيضا انّ المال إذا ضاق عن السّهام كما لو ماتت امرأة وخلفت ابنتين وأبوين وزوجا
فانّ المال يضيق عن الثّلثين والسّدسين والربع فنحن بين أمرين إمّا أن ندخل النّقص
على الجميع كما يقوله المخالفون أو ندخله على البعض دون البعض ، وقد أجمعت الأمّة
هنا على أنّ البنتين لا يأخذان الثلثين كملا فتكونان منقوصتين بلا خلاف ومن عداهما
لم يقع إجماع على نقصه من سهامه ولا قام دليل عليه بل ظاهر الكتاب يقتضي أنّ له
سهما معلوما فيجب أن نوفيه ونجعل النّقص لا حقا بمن اجمع على النّقص فيه.
الثالث ـ الرّدّ
اى ردّ ما فضل عن فرض ذوي السّهام من الورثة فعندنا أنّ الفاضل يردّ على ذوي السّهام
بقدر سهامهم كمن خلف بنتا وأبا فللبنت في التّسمية النّصف وللأب في التّسمية
السّدس وما بقي بعد ذلك فهو يردّ عليهما بقدر حصصهما
فللبنت ثلثة أرباعه وللأب ربعه. وذهب المخالف الى أنّ الفاضل يردّ على عصبة
الميّت فان فقد فالى بيت المال.
ويدلّ على
بطلان قولهم بعد الإجماع ظاهر قوله تعالى (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) الآية حيث دلّت على أن من هو أولى بالرّحم وأقرب به
أولى بالميراث وقد علمنا أنّ قرابة الميّت وذوي أرحامه أولى بميراثه من المسلمين
وبيت المال ، وأصحاب السّهام غير الزّوجين أقرب الى الميّت من عصبته فوجب أن يكون
فاضل السّهام إليهم مصروفا.
ولعلّ حجة
المخالف ظاهر قوله تعالى (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) الآية حيث جعل للأخت النّصف إذا مات أخوها ولا ولد ولم
يرد عليها فدلّ على انّها لا تستحقّ أكثر من النّصف بحال من الأحوال.
والجواب أنّ
النّصف انّما وجب لها بالتّسمية لأنّها أخت والزّائد إنّما تأخذه بمعنى آخر وهو
الرّدّ بالرّحم ، وليس يمتنع أن ينضاف سبب الى آخر فانّ الزّوج إذا كان ابن عمّ
ولا وارث معه ، ورث النّصف بالزّوجيّة والنصف الآخر للقرابة عندنا وللعصبة عندهم
وعلى هذا فذكر أحد السّببين لا ينفى السّبب الآخر. وهذه جملة نافعة هنا. وتمام
الكلام يطلب من الفروع.
السابعة : (وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ) عصبتى وبنى عمّى سمّوا موالي لأنّهم الّذين يلونه في
النسب بعد الصّلب (مِنْ وَرائِي) متعلّق بمحذوف أو بمعنى الموالي اى خفت فعلهم من ورائي
أو الّذين يلون الأمر من ورائي أي بعد موتى وانّما خشي منهم لأنّهم كانوا شرار بني
إسرائيل.
(وَكانَتِ امْرَأَتِي
عاقِراً) لا تلد وهو يطلق على كلّ من الرّجل الّذي لا يولد له
والمرأة الّتي لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ) اى من عندك (وَلِيًّا) اى وارثا من صلبي وهذا هو الظّاهر وعليه أكثر المفسّرين
وقيل : إنّه طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره وهو بعيد لقوله في آل عمران (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)
وقوله (رَبِّ لا تَذَرْنِي
فَرْداً). الآية.
(يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) الآل خاصّة الرّجل الّذي يؤل أمرهم إليه.
ثمّ الفعل ان
قرئ مجزوما كان جواب الدّعاء وان قرئ مرفوعا فالأكثر على انّه صفة وقال صاحب
المفتاح : الأولى حمله على الاستيناف كأنّه قيل لم تطلب الولد؟ فقال مجيبا : يرثني
أي لأنّه يرثني لئلّا يلزم أنّه لم يوهب من وصفه فإنّ يحيى مات قبل زكريّا.
واعترض بأنّ
حمله على الاستيناف يوجب الاخبار عمّا لم يقع وكذب النّبيّ أشنع من كونه غير
مستجاب الدّعوة وأجيب بأن عدم ترتّب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب هذا وفي
الحكم بكون موت يحيى قبل زكريّا بحث فانّ في أخبارنا المعتبرة الإسناد ما يدلّ على
أنّ موت زكريّا قبل يحيى وأنّ يحيى ورث الكتاب والحكمة وهو صبيّ صغير وروى ذلك
الكليني أيضا في الكافي في باب حالات الأئمّة عليهمالسلام في السن.
(وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا) واجعل ذلك الولد الذي يرثني مرضيّا عندك ممتثلا لأمرك
عاملا بطاعتك مجانبا عن معصيتك. وفي الآية دلالة واضحة على أنّ الأنبياء يورّثون
المال كما في غيرهم من آحاد النّاس فان زكريّا عليهالسلام صرّح بدعائه وطلب من يرثه ويحجب بنى عمّه وعصبته من
الولد.
وحقيقة الميراث
انتقال ملك الموروث الى ورثته بعد موته بحكم الله لانّ ذلك هو المتبادر من الإرث ،
وحمله على العلم والنّبوّة خلاف الظّاهر لا يصار اليه الّا مع الموجب القوىّ
والضّرورة الدّاعية وهي هنا غير معلوم على أنّ النّبوّة والعلم لا يورثان لأنّ
النّبوّة تابعة للمصلحة لا دخل للنّسب فيها والعلم موقوف على من يتعرّض له
ويتعلّمه.
ولانّ زكريّا
إنّما سأل وليّا من ولده يحجب مواليه من بنى عمّه وعصبته من الميراث وذلك لا يليق
الّا بالمال لأنّ النّبوة والعلم لا يحجب الولد عنهما غيره بحال ، ولأن طلبه أن
يجعله رضيّا لا يليق بطلب النّبوّة لأنّ النّبيّ لا يكون الّا
رضيّا معصوما فلا معنى لمسألته وليس كذلك المال لانّه يرثه الرّضىّ وغيره.
ويؤيّد ذلك
عموم آيات الإرث ، ومن هنا يبطل ما يذهب اليه المخالفون من انّ المراد وراثة
الشّرع والعلم وانّ الأنبياء عليهمالسلام لا يورّثون المال استنادا الى خبر رووه ويزيد بطلانه
أنّ ما ذكروه من الخبر لم يثبت صحّته فلا وجه للتّخصيص به.
على انّه لو
سلّم صحّته ففي تخصيص الكتاب بخبر واحد مثله سيّما إذا أنكره كثير ولم يروه الّا
واحد مع التّهمة في ذلك الواحد بعيد جدّا. والمجوّزون للتّخصيص انّما يجوّزونه
بالخبر الصّحيح النّاصّ وهو منتف فيما ذكروه وكيف يتحقق ارث العلم والشّرع مع أنّ
ظاهره الانتقال من محلّ الى آخر كما هو الظّاهر من الإرث ولا انتقال في العلم.
وبالجملة
فقولهم هنا ليس الّا عنادا محضا وعدولا عن الحقّ.
واستدلّ بعض من
اعترف بانّ المراد بالوراثة هنا وراثة المال بهذه الآية على أن البنت لا تحوز المال
كلّه بالميراث دون بنى العمّ والعصبة لأنّ زكريّا عليهالسلام انّما طلب وليّا يمنع مواليه وعصبته ولم يطلب ولية ،
قال الشيخ في التبيان : وهذا ليس بشيء لأن زكريا عليهالسلام انما طلب وليا لانّ من طباع البشر الرّغبة في الذّكور
دون الإناث من الأولاد فلذا طلب الذّكر على انّه قيل : انّ لفظ الوليّ يطلق على
الذّكر والأنثى فلا نسلّم انّه طلب الذّكر بل الّذي يقتضيه الظّاهر انّه طلب ولدا
سواء كان ذكرا أو أنثى.
الثامنة :
(وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ) اى قسمة التّركة (أُولُوا الْقُرْبى) أي قرابة الميّت ممّن لا يرث منه (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) قيّدهم في مجمع البيان بالأقارب وهو خلاف الظّاهر من
الكشاف. (فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) اى فأعطوهم من المقسوم والظّاهر أن المخاطب بذلك الورثة
البالغون أمروا بان يرزقوا المذكورين شيئا من الإرث تطييبا لقلوبهم وتصدّقا عليهم.
وقد اختلف في
هذا الأمر هل هو للوجوب أو النّدب فقيل : بالأوّل ونسخ بآية المواريث والحق أنّ
النّسخ بعيد لكونه خلاف الأصل وعدم المنافاة بينها و
بين ما ظنّ أنّه ناسخ لها وقد نقل في مجمع البيان عن أكثر المفسّرين
والفقهاء انّها محكمة غير منسوخة قال : وهو المرويّ عن الباقر عليهالسلام.
ونقل في الكشاف
عن سعيد بن جبير أنّ أناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنّها ممّا تهاون به
النّاس ، ويمكن حملها على النّدب فلا وجه لنسخها حينئذ ولانّ الظّاهر انّه لا قائل
بالوجوب.
ويؤيّده قوله (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) إذا الظّاهر أنّ ذلك على النّدب بان يدعوا لهم بالرّزق
من الله ، ويمكن حملها على استحباب الطّعمة كما يقوله أصحابنا وفيه بعد فإنّها
مقيّدة بشروط لا يمكن فهمها من الآية. وقيل : انّ الإعطاء مختصّ بالورق والعين
وامّا الأرضون والرقيق فلا بل يقولون قولا معروفا اى يعتذرون إليهم في ذلك فيقولون
لهم : ارجعوا بورك فيكم.
وقيل : انّ
المخاطب بذلك المريض إذا حضرته الوفاة والمراد الأمر بالوصيّة لمن لا يرثه بشيء من
ماله ولا يخفى بعده عن حضور القسمة.
وبالجملة
الإفتاء بظاهرها من وجوب الإعطاء للمذكورين مشكل لعدم ظهور القائل ، وحملها على
الطّعمة بعيد ، وحمل الأمر فيها على النّدب مع عدم ظهور المعارض أشكل والاحتياط
يقتضي العمل بظاهرها مهما أمكن لأنّها محكمة على ما عرفت وظهور الأمر في الوجوب
والله اعلم.
كتاب الحدود
وهو أقسام الأول حد الزنا وفيه آيات :
الاولى :
(وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) اى يفعلها يقال : أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا
فعلها ، والفاحشة الزّنا لزيادة فحشها وشناعتها ونقل في مجمع البيان إجماع
المفسّرين على أنّ المراد بها هنا الزّنا ومعنى من نساءكم من زوجاتكم أو من
الحرائر من نساءكم المؤمنات.
(فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) اى فاطلبوا ممّن ادّعى إتيانهنّ الفاحشة أربعة من رجال
المؤمنين يشهدون عليهنّ والخطاب للحكّام والأئمّة وذلك عند عدم الإقرار بالفاحشة.
وفيها دلالة على أنّ عدد الشّاهد في الزّنا أربعة رجال من المسلمين فلا تسمع شهادة
النّساء منفردات ولا منضمّات امّا اعتبار العدالة فيعلم من موضع آخر.
(فَإِنْ شَهِدُوا) يعني الأربعة (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ) فاحبسوهن فيها واجعلوها سجنا عليهنّ (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) على تقدير مضاف اى ملك الموت كما وقع التّصريح به في
قوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أو المراد يستوفى أرواحهنّ بالموت ويمتن في البيوت.
والأكثر من
المفسّرين على أنّ الآية منسوخة لأنّ الفرض في أوّل الإسلام قد كان إذا زنت المرأة
وقامت عليها البيّنة بذلك ان تحبس في البيوت ابدا حتّى تموت ثمّ نسخ بالرّجم في
المحصنين والجلد في البكرين ، ويحتمل أن يكون المراد منها التّوصية بامساكهنّ بعد
أن يجلدن كيلا يجرى عليهنّ ما جرى بسبب الخروج و
التّعرض للرّجال ويكون عدم ذكر الحدّ استغناء عنه بقوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي). الآية.
وعلى هذا فلا تكون
منسوخة ويؤيّده انّ النّسخ خلاف الأصل فلا يصار اليه الّا مع موجب قوىّ ، واحتمل
بعضهم أن يكون المراد بالفاحشة المساحقة ويؤيّده عدم ذكر الرجال وتخصيص الحكم
بالنساء ، قال الراوندي : هذا خلاف ما عليه المفسّرون لأنّهم متّفقون على أنّ
الفاحشة المذكورة في الآية هي الزّنا وهو المروي عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام .
(أَوْ يَجْعَلَ اللهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً) كتعيين الحدّ المخلّص عن الحبس أو النّكاح المغني عن
السّفاح ، ويؤيّد الأوّل ما رواه عبادة بن الصّامت انّه لمّا نزل قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا). الآية. قال النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : خذوا عنّى قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد
مائة وتغريب عامّ والثيّب بالثيّب جلد مائة والرّجم.
ولا يذهب عليك
أنّه على هذا لا يتمّ النّسخ فانّ الحبس حينئذ لم يكن مؤبّدا بل ممتدا إلى غاية وظاهر
أنّ بيان الغاية لا يكون نسخا ومن شرط النسخ كون الحكم على وجه لولا الناسخ لكان
مستمرّا وذلك لا يتحقّق في المغيّى بغاية وفيه أنّ الغاية إذا كانت المدّة كما في
قوله : افعل هذا الى رأس الشّهر فإنّه مع انتهائه يرتفع الحكم بلا نسخ امّا لو قال
: افعلوا هذا الفعل الى أن أبيّن لكم فالظّاهر أنّه بعد البيان يكون ناسخا إذ
لولاه لكان مستمرّا فتأمّل.
الثانية :
(وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها) اي يفعلان الفاحشة بمعنى الزّنا (مِنْكُمْ فَآذُوهُما) بالتّوبيخ والتّقريع بأن يقولوا لهما أما استحييتما أما
خفتما الله أما لكما في النّكاح مندوحة؟ وقيل بالتعزير والجلد.
__________________
(فَإِنْ تابا
وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) اى فاقطعوا عنهما الإيذاء وأعرضوا عنهما بالإغماض
والستر.
(إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً) علة الأمر بالاعراض وترك المذمّة ، وقد اختلف في المراد
بهذه الآية فقيل انّها في البكرين خاصّة دون الثيبين والأولى في الثيبين دون
البكرين ونسختا بآية الجلد والرّجم.
وقيل : انّهما
في شيء واحد وانّ هذه كانت سابقه على الاولى نزولا وكان عقوبة الزّنا الأذى ثمّ
الحبس على الوجه السّابق ثمّ الجلد اى نسخ الحكم مرّة بعد أخرى الى ان استقرّ في
الجلد.
وقيل : انّ
المراد بالفاحشة هنا اللّواط على أنّ المراد بقوله تعالى (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) الرّجلان يخلوان بالفاحشة بينهما وفي الآية السّابقة
المساحقة الحاصلة بين النّساء ونقله في مجمع البيان عن ابن مسلم قال : وحكم
الآيتين عنده ثابت غير منسوخ والى هذا التّأويل يذهب أهل العراق فلا حدّ عندهم في
اللّواط والسّحق.
ثمّ قال : وهذا
بعيد لأنّ الّذي عليه جمهور المفسّرين أن الفاحشة في الآية الزّنا وانّ الحكم فيها
منسوخ بالحدّ المفروض في سورة النّور ، وقد يقال : لو كان المراد بالفاحشة هنا
اللّواط كما قالوه لم يلزم عدم الحدّ فيه إذ يجوز أن يكون المراد بالأذى إقامة
الحدّ عليه أعنى القتل الّذي هو أعلى مراتبه كما بيّن من خارج لا التّقريع
باللّسان فقط.
ولو قلنا أنّ
الحكم فيها منسوخ بالحدّ فالمراد أنّ الاقتصار على الأذى والتّقريع باللّسان قد
نسخ الى الحدّ اللّازم على الزّاني لا أنّ الأذى نسخ إذ هو حكم لم ينسخ فإنّ
الزّاني يؤذى ويعنف من باب النهي عن المنكر ويذمّ على فعله لكنّه لم يقتصر عليه بل
زيد فيه بأن أضيف الجلد أو الرّجم اليه.
وفي الآية
دلالة على وجوب ترك الأذى بعد التّوبة ولعل المراد بالإصلاح الكون على التّوبة
بحيث يفهم عرفا انّه صلح حاله. واقتضى مفهوم الشّرط انّهما ما لم يتوبا
لا يسقط عنهما الأذى بالتّقريع وأن التّوبة بنفسها مسقطة للأذى من غير حاجة
الى شيء آخر.
الثالثة : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) قدّم الزّانية لأنّ الزّنا في الأغلب يكون بسبب تعرّضها
للرّجل وعرض نفسها عليه فهي الأصل فيه وقدّم الزّاني عليها في آية النّكاح لأنّها
مسوقة لذكر النّكاح والرّجل هو الأصل فيه ، وارتفاعهما على الابتداء والخبر محذوف
اى فيما يتلى عليكم حكم الزّانية والزّاني.
والخبر (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ) بتقدير مقول في حقّهما والفاء لتضمّن معنى الشّرط إذ
اللّام بمعنى الّذي ، وعلى قراءة النّصب فهو بفعل مضمر يفسّره ما بعده ، والمخاطب
بذلك الأئمّة عليهمالسلام بالإجماع ومن ثمّ احتجّ به بعضهم على وجوب نصب الامام
نظرا الى أنّ ما لا يتمّ الواجب الّا به فهو واجب.
ومقتضى ذلك أنّ
السّيّد لا يملك اقامة الحدّ على مملوكه وهو اختيار الأكثر نظرا الى أنّ الخطاب
للأئمّة بالاتّفاق ولم يذكر الفرق بين الأحرار والعبيد ، وأيضا لو جاز للمولى أن
يسمع شهادة الشهود على عبده بالسّرقة فيقطعه فلو رجعوا عن شهادتهم وجب ان يتمكّن
من تضمين الشّهود وليس له ذلك بالاتّفاق لانّه ليس لأحد أن يحكم لنفسه.
وأجاز
الشّافعيّ إقامة السّيد الحد على مملوكه محتجا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم وهو غير ظاهر في
مدّعاه لجواز ارادة رفع القضيّة الى الامام ليقيم عليه الحدّ فتأمّل.
واللّفظان
ظاهران في العموم إذ المراد كلّ امرأة زنت وكلّ رجل زنى ويؤيّده قوله (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) فإنّه يفيد العموم عرفا ، وأنكر صاحب الكشاف عموم
الزّانية والزّاني وتناوله المحصن وغيره نظرا إلى انّهما يدلّان على الجنسين
المتنافيين لجنسي العفيفة والعفيف دلالة مطلقة والجنسيّة قائمة في الكلّ والبعض
جميعا فأيّهما قصد المتكلّم فلا عليه كما يفعل في الاسم المشترك هذا كلامه وفيه
بعد
وقد سبق نظيره وانّ الحقّ فيه العموم.
وهذا العموم
مخصوص بالإجماع والأخبار بالحرّ والحرّة غير المحصنين فلو كان عبدا أو أمة ينصّف
عليهما الحدّ كما اقتضاه قوله (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).
وقال بعض
الظّاهريّة : عموم قوله الزّانية والزّاني يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة
الّا انّه ورد النّصّ بالتّنصيف في حقّ الأمة فلو قسنا العبد عليه لزمنا تخصيص
عموم الكتاب بالقياس ومنهم من قال : الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله (فَإِذا أُحْصِنَ) اى تزوّجن (فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) فإذا لم تتزوّج فعليها المائة للعموم ، واتّفاق العلماء
على خلاف هذين القولين يردّهما.
ولو كانا
محصنين أو أحدهما كان على المحصن الرّجم بلا خلاف بين العلماء.
وأنكر الخوارج
الرّجم لانّه لا ينتصف وقد قال تعالى (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ، ولانّه تعالى أطنب في أحكام الزّنا ما لم يطنب في
غيره ولو كان الرّجم مشروعا لكان أولى بالذّكر ، ولأنّ قوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يقتضي وجوب الجلد على كلّ الزّناة وإيجاب الرّجم على
البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والعلماء كافة خالفوهم في ذلك.
وأجابوا عن
الأوّل بأنّ الرّجم حين انّه لم ينتصف لم يشرع في حقّ العبد فخصّص العذاب بغير
الرّجم للدليل العقلي وللأخبار ، وعن الثّاني أنّ الاحكام الشرعيّة كانت تتجدد
بحسب المصالح فلعل المصلحة الّتي اقتضت وجوب الرّجم حدثت بعد نزول هذه الآية ، وعن
الثّالث بانّ تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز وقد بيّناه في الأصول على أنّا
لا نسلّم أنّها أخبار آحاد بل وجوب الرّجم ثبت بالتّواتر.
وهل يجب الجلد
معه بان يجلد أوّلا مائة جلدة ثمّ يرجم قيل : نعم وهو اختيار جماعة من علمائنا
كالشيخ المفيد وابن الجنيد وسلّار ، وذهب جماعة منهم الى انّ ذلك مخصوص بالشيخ
والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين ولو كانا شابّين محصنين لم
يكن عليهما غير الرّجم وهو خيرة الشيخ في النّهاية والأوّل غير بعيد لانّ
الشّابين المحصنين داخلين في هذه الآية لكونهما زانيين واستحقاقهما الرّجم لا ينفى
استحقاقهما الجلد الثّابت بها.
ويدلّ عليه
أيضا صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام : في المحصن والمحصنة جلد مائة ثمّ الرّجم ونحوها من
الأخبار.
ولعلّ حجّة
الشّيخ فيما ذهب اليه ما رواه عبد الله بن طلحة عن الصّادق عليهالسلام قال : إذا زنى الشيخ والعجوز جلدا ثمّ رجما عقوبة لهما وإذا
زنى المحصن من الرّجال رجم ولم يجلد إذا كان قد أحصن. وفي صلاحيتّها لتخصيص الآية
نظر لضعفها مع إمكان حملها على وجه آخر.
والشّيخ في
التبيان وافق الجماعة قال عند تفسير هذه الآية : يجلد الزّانية والزاني إذا لم
يكونا محصنين كلّ واحد منهما مائة جلدة وإذا كانا محصنين أو أحدهما كان على المحصن
الرّجم بلا خلاف وعندنا انّه يجلد أوّلا مائة مرّة ثمّ يرجم وفي أصحابنا من خصّ
ذلك بالشّيخ والشّيخة إذا زنيا وكانا محصنين فامّا إذا كانا شابّين محصنين لم يكن
عليهما غير الرّجم وهو قول مسروق انتهى.
وأنكر أكثر
العامّة وجوب الجمع بين الرّجم والجلد بل منعوا من الجلد على من يجب عليه الرجم
مستدلّين بأنّه لم يثبت عن النّبيّ صلىاللهعليهوآله الجمع بينهما.
فاعترض عليهم
بما روى عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم انّه جمع بينهما فأجابوا بانّ ذلك محمول على مثل ما روى
عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ رجلا زنى بامرأة فأمر به النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فجلد ثمّ أخبر انّه كان محصنا فأمر به فرجم قالوا :
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الثيّب بالثيّب جلد مائة ورجم بالحجارة متروك العمل ،
وكلامهم هذا ضعيف وتأويلهم فاسد.
وهل يجب الجمع
بين الجلد والتّغريب في حد غير المحصن أثبته أصحابنا والشّافعيّة وأنكره الحنفيّة
زاعمين انّ التغريب مفوّض إلى راى الامام قالوا : وما
__________________
روى عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عامّ وكذا ما روى عن
الصّحابة انّهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التّعزير والتّأديب لا الوجوب.
واحتجّوا على
ذلك بانّ إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وذلك لأنّ إيجاب الجلد ترتّب
على الزنا بالفاء الّتي هي للجزاء ومعنى الجزاء كونه كافيا في ذلك فإيجاب شيء آخر
غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافيا ، ولانّ التغريب لو كان مشروعا لوجب على النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم توقيف الصّحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل
لاشتهر مع أنّ أبا هريرة روى انّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال في الأمة إذا زنت فاجلدها فان زنت فاجلدها فان زنت فبعها ولم يذكر
التغريب.
والجواب أنّ
إيجاب الجلد في الآية لا ينافي إيجاب التغريب وعدمه بل يحصل مع كلّ منهما فلا
إشعار في الآية بأحد القسمين إلّا أنّ عدم التغريب لمّا كان موافقا للبراءة
الأصليّة كان إيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلّا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به
، وقول النّحاة انّ الجزاء انّما سمّى جزاء لانّه كاف في الشّرط فلا يصلح حجّة في
الأحكام ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصّصات ، والاخبار
الواردة في نفى التغريب معارضة بأخبار أخر دلّت على ثبوته.
وبالجملة فقول
الحنفيّة ضعيف والإحصان الموجب للرّجم في الرّجل على ما قاله الشّيخ في النّهاية :
هو أن يكون له فرج يتمكّن من وطيه ويكون مالكا له سواء كان بالعقد أو بملك اليمين
ويراعى في العقد الدّوام فإنّ المتعة لا تحصن ولا فرق بين أن يكون الدائم على حرّة
أو امة أو يهوديّة أو نصرانيّة فإنّ جميع ذلك يحصن الرّجل وملك اليمين أيضا محصن.
والإحصان في
المرأة مثل الإحصان في الرجل سواء وهو أن يكون لها زوج يغدو إليها ويروح يخلى بينه
وبينها غير غائب عنها قد دخل بها حرّا كان أو عبدا وهذا هو المشهور بين أصحابنا
وظاهر ابن الجنيد وابن أبى عقيل اعتبار إسلام الزّوجة وحريّتها في الإحصان بل يظهر
من ابن الجنيد اعتبار حريّة الرّجل أيضا وهو بعيد والأظهر الأوّل.
(وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ) اى رحمة فيمنعكم من اقامة الحدّ عليهما.
(فِي دِينِ اللهِ) في طاعته واقامة حدوده فانّ ذلك يوجب تعطيل حدود الله
والتّسامح فيها ، أو المراد لا تأخذكم بهما رأفة يمنع من الجلد الشّديد بل اوجعوها
ضربا ولا تخفّفوا عنهما ، وفيها دلالة على تحريم ترك الحدّ أو بعضه كما أو كيفا
رحمة لهما بل تحريم مطلق الرحمة والرأفة عليهما وفي الحديث يؤتى بوال نقص من الحدّ
سوطا فيقال له : لم فعلت ذلك؟ فيقول : رحمة لعبادك فيقول له : أنت ارحم منّى بهم؟
ـ فيؤمر به الى النّار.
(إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فانّ الايمان بهما يقتضي الجدّ في طاعة الله والاجتهاد
في إقامة حدوده واحكامه ولا يخفى ما فيه من المبالغة بسلب الايمان عمّن أخذته
الرأفة وهو من التهييج.
قال الجبائي :
فيه دلالة على انّ الاشتغال بأداء الواجبات من الايمان لانّ التّقدير ان كنتم
مؤمنين فلا تتركوا اقامة الحدّ. وأجيب بأنّ الرّأفة لا تحصل إلّا إذا حكم الإنسان
بطبعه أنّ الأولى ترك اقامة الحدّ وحينئذ يكون منكر الدّين فلهذا يخرج من الايمان.
(وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) جماعة منهم واختلف في أقلّها فقيل : اثنان ، وقيل :
ثلاثة ، وقيل : أربعة ونسبه في الكشاف الى ابن عبّاس ثمّ قال : وفضل قول ابن عبّاس
لأنّ الأربعة هي الجماعة الّتي ثبتت فيها الحدود وفي التفضيل بذلك نظر ، وقيل :
واحد وهو قول الفرّاء من أهل اللّغة واختاره الشّيخ في النّهاية ورواه أيضا
أصحابنا عن الصّادقين عليهمالسلام.
وذهب الشّيخ في
الخلاف إلى أنّ أقل ذلك عشرة قال : وبه قال الحسن البصري وقال ابن إدريس : «الّذي
أقول في الأقلّ أنّه ثلاثة نفر لأنّه من حيث العرف دون الوضع والعرف إذا طرء صار
الحكم له دون الوضع الأصلي وشاهد الحال يقتضي ذلك وألفاظ الأخبار لانّ الحدّ إذا
كان قد وجب بالبيّنة فالبيّنة ترجمة وتحضره وهم أكثر من ثلاثة.
وإن كان الحدّ
باعترافه فأوّل من يرجمه الامام ثمّ النّاس مع الامام ، وإن كان المراد حضور غير
الشّهود والامام فالعرف والعادة اليوم أنّ أقلّ ما يقال جئنا في طائفة من النّاس
وجاءتنا طائفة من النّاس المراد الجماعة عرفا وعادة وأقلّ الجمع ثلاثة وشاهد الحال
يقتضي أنّه تعالى أراد الجمع» انتهى ولا بأس به وما ورد بخلافه يمكن حمله على حال
التعذّر ولأنّ المقصود أن يحصل إذاعة الحدّ ليحصل الاعتبار والانزجار وذلك
بالثّلاثة أظهر ، وقول الشّيخ بالعشرة بعيد لعدم ظهور وجهه مع أنّ أقل الجمع
ثلاثة.
ومقتضى الأمر
وجوب إحضار الطّائفة حال اقامة الحدّ فإنّ الأمر للوجوب وإليه ذهب جماعة من
الأصحاب وظاهر آخرين منهم الاستحباب وإليه ذهب أكثر العامّة وهو بعيد لعدم ما يوجب
العدول عن الظاهر والغرض من الإحضار زيادة التّفضيح إذ التّنكيل به أكثر من
التّعذيب.
الثاني حد القذف
وفيه آية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) اى يقذفون العفائف من النّساء بالزّنا والفجور ، والقذف
وان كان بمعنى السّبّ مطلقا إلّا أنّ المراد هنا ما ذكرناه لوصف المقذوفات
بالإحصان وذكرهنّ عقيب الزّواني.
واعتبار أربعة
شهداء لقوله (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون انّهم رأوهنّ يفعلن ذلك فانّ هذا العدد من
الشّهود غير معتبر في غير الزّنا إجماعا فلو قذفه بالسّرقة أو شرب الخمر أو أكل
الرّبا اكتفى فيه بشاهدين ولقوله (فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمانِينَ جَلْدَةً) وظاهر أنّ القذف بغيره مثل يا فاسق ويا شارب الخمر ويا
آكل الرّبا انّما يوجب التّعزير. والذين مبتدأ خبره فاجلدوهم.
ومقتضى الآية
عموم الجلد لكلّ قاذف سواء كان حرّا أو عبدا عاقلا أو مجنونا بالغا أو صبيّا مسلما
أو غيره لكنّه مقيّد بالعقل والبلوغ للإجماع على عدم إلزام عادمهما بشيء لعدم
التّكليف في حقّه نعم يؤدّب المجنون ويعزّر الصّبيّ بما يراه الحاكم.
وأكثر العامّة
قيّدوه بالحرّ أيضا وحكموا بتنصيف الحدّ على المملوك القاذف وحكموا بوجوب أربعين
سوطا وهو قول الشّيخ في المبسوط مستدلا عليه بأصالة البراءة من الزّائد ولقوله
تعالى (فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ولرواية القاسم بن سليمان عن الصّادق عليهالسلام.
والمشهور بين
أصحابنا أنّ عليه الحدّ كاملا لظاهر العموم في الآية فيجب العمل به الى أن يثبت
المعارض الصّريح وهو غير معلوم ، ويؤيّده من الاخبار حسنة الحلبي عن الصّادق عليهالسلام قال : إذا قذف العبد جلد ثمانين. وغيرها من الأخبار.
ويجاب عمّا
قاله الشّيخ ، انّ الأصل يعدل عنه مع وجود الدّليل وهو ما أشرنا اليه ، والمراد
بالفاحشة في الآية الزّنا كما نقله المفسّرون فلا يتعدى الحكم فيها الى غيره ،
ورواية القاسم ضعيفة لا تعارض الأخبار الكثيرة بل الإجماع على ما نقله جماعة من
الأصحاب وعموم الآية يقتضي دخول الكافر فلو قذف مسلما حدّ ثمانين والآية مخصوصة
بالأب والجدّ إذا قذف أولاده وأحفاده فإنّه لا يجب عليه الحدّ كما لا يجب عليه
القصاص لو فعل ما يوجبه.
وشرائط الإحصان
الموجبة للجلد بالقذف خمسة : ان يكون المقذوف حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا عن
الزّنا فإذا وجدت هذه الشّرائط وجب الحدّ على قاذفه ومتى اختلّت أو واحدة منها فلا
حدّ على قاذفه نعم يجب التعزير وان كان القذف للمتظاهر بالزّنا على المشهور لعموم
الأدلّة وقبح القذف مطلقا.
وتردّد الشّهيد
في بعض تحقيقاته في التّعزير بقذف المتظاهر به ، بل قد يظهر منه الميل الى عدمه
محتجّا بإباحته استنادا إلى رواية البرقي عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة ،
وفي مرفوع محمّد بن بزيع :
__________________
من تمام العبادة الوقيعة في أهل الرّيب. فلو قيل به كان حسنا ومن هنا ذهب
أكثر العامّة الى عدم التّعزير بقذف المتظاهر بالزّنا.
ولا فرق في
ثبوت الحكم بين الذّكر والأنثى وتخصيص المحصنات بالذّكر امّا بخصوص الواقعة فإنّها
نزلت في عائشة على ما نقله الشيخ في التّبيان عن سعيد بن جبير وقيل في غيرها ،
وامّا لانّ قذف النّساء أغلب وأشنع.
وقد نقل
الطّبرسيّ في مجمع البيان الإجماع على انّ حكم الرّجال حكمهنّ في ذلك والآية وان
وقعت مطلقة في الشّهود لكنّها مقيّدة بأمور اقتضتها الأدلّة مثل كونهم مجتمعين حال
التّحمل والأداء وحال الإقامة أيضا فلو تفرّقوا بطلت وأنكر الشافعية اعتبار
الاجتماع بل قالوا : لا فرق بين ان يجيء الشّهود متفرّقين أو مجتمعين محتجين بأن
الآتي بالشهداء متفرّقين آت بمقتضى النّصّ واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في
الآية.
وفيه : انّ
الآية مشعرة بالاجتماع فانّ الشّاهد الواحد إذا شهد وحده فقد قذفه ولم يأت بأربعة
شهداء فوجب عليه الحدّ فخرج عن كونه شاهدا ولا عبرة بالتسمية إذا فقد المسمّى مع
أنّ الأخبار الدالّة على الاجتماع كثيرة وقد وافقنا في اعتبار الاجتماع أبو حنيفة
أمّا باعتبار كون الزّوج أحدهم أو كونهم غير الزّوج فقد تقدم الكلام في باب
اللّعان.
(وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً) أيّ شهادة كانت لانّه مفتر فلا وجه لقبول شهادته (أَبَداً) أي في جميع الأحوال إلّا حال التّوبة لدليل اقتضاه ،
ومن قال إنّ عدم القبول بعد استيفاء الجلد لا قبله كأبي حنيفة فقد أبعد عن ظاهر
الآية فإنّ الأمر بالجلد والنّهى عن القبول سببان في وقوعهما جوابا للشّرط لا
ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة كيف وحاله قبل الحدّ أشدّ مما بعده لانّه بعده قد
تاب وحسن حاله وتخلص من الحقوق.
(وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) المحكوم بفسقهم وهذا أيضا ممّا يبطل قول أبي حنيفة
لدلالته ظاهرا على أنّ الرّمي مع عدم الاشهاد فسق حدّ أولا ، وهو حكم مستقلّ بنفسه
بالنّسبة إليهم لا أنّه خبر عن الّذين لتغيّر الأسلوب بل الأنسب على ذلك
التّقدير أن يقول : وافسقوهم اى احكموا بفسقهم وعاملوهم معاملة الفسّاق ويمكن أن
يكون خبرا أيضا وتغيّر الأسلوب لوجه آخر وعلى كلّ حال فمقتضى الآية ترتّب الأمور
الثلاثة على قذف المحصنات مع عدم الاشهاد المعتبر.
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عن القذف وقد اختلف في حدّ توبة القاذف فقال الشّيخ في
النّهاية : حدّها أن يكذب نفسه فيما كان قذف به وقال في المبسوط : اختلفوا في
كيفية اكذابه نفسه فقال قوم : أن يقول : القذف باطل حرام ولا أعود إلى ما قلت.
وقال بعضهم :
التّوبة اكذابه نفسه وحقيقة ذلك أن يقول : كذبت فيما قلت وروى ذلك في أخبارنا
والأوّل أقوى لأنّه إذا قال كذبت فيما قلت فربّما كان كاذبا في هذا الجواب بأن
يكون صادقا في الباطن وقد تعذّر عليه تحقيقه فإذا قال : القذف باطل حرام فقد أكذب
نفسه.
وقال في الكشاف
من شرط التّوبة من القذف أن يكذّب نفسه وحقيقة ذلك أن يقول كذبت فيما قلت ثمّ قوّى
ما قاله المروزي لأنّه إذا أكذب نفسه ربّما كان صادقا في الأوّل فيما بينه وبين
الله فيكون هذا الإكذاب كذبا وذلك قبيح.
وقال ابن إدريس
: كيفية توبته من القذف أن يقول : القذف باطل حرام ولا أعود إلى ما قلت وقال بعضهم
: التّوبة إكذاب نفسه وحقيقة ذلك أن يقول : كذبت فيما قلت وروى ذلك في أخبارنا.
والذي قد مناه
هو الصّحيح لاحتمال أن يكون صادقا والحقّ التّفصيل في ذلك وهو ان كان كاذبا كانت
توبته الصّريحة بالكذب والاعتراف به حقيقة وإن كان صادقا اعترف بتحريم ما قاله
وأظهر الاستغفار منه من غير أن يصرّح بإكذاب نفسه ويمكن حمل الاخبار على هذا
التفصيل ، ولم يعتبر العامّة ذلك بل اكتفوا بالتّوبة مطلقا أخذا بالظّاهر.
(وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بالتّدارك والاستمرار على التّوبة والإصرار
عليها ، واعتبر
الشيخ في الخلاف إظهار العمل الصّالح في قبول شهادته وقال : إذا أكذب نفسه
وتاب لا تقبل شهادته حتّى يظهر منه العمل الصّالح وهو ظاهره في المبسوط ونقل عن
جماعة الاجتزاء بالتّوبة في قبول الشهادة ، ثم قال : لا بدّ من صلاح العمل لظاهر
الآية.
قال العلّامة
في المختلف : والتحقيق أنّ النّزاع هنا لفظيّ فإنّ البقاء على التّوبة شرط في قبول
الشّهادة وهو كاف في إصلاح العمل لصدقه عليه وهو جيّد ، وقد وقع مثل هذا اللّفظ
بعد التّوبة في مواضع كثيرة من القرآن المجيد.
(فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو كالعلّة للاستثناء وقد اختلف في هذا الاستثناء هل
يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط أو إلى الجميع فذهب الشّافعي إلى انّه يرجع إلى
الجميع وقالت الحنفيّة يرجع إلى الجملة الأخيرة وتحقيق ذلك في الأصول وتتفرّع على
مذهب الشّافعيّ أنّ القاذف إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته فيكون الأبد مصروفا إلى
مدّة كونه قاذفا وهي منتهى التّوبة والرّجوع عن القذف.
ويتفرّع على
مذهب أبي حنيفة عدم قبول شهادته وان تاب والأبد عنده مدّة حياته والّذي اخترناه في
الأصول انّه راجع إلى الأخيرة فقط فيكون في محلّ النّصب على الاستثناء من الفسّاق
ومقتضاه عدم فسقهم بعد التّوبة وهو يوجب قبول شهادتهم لانّ المانع من القبول الفسق
فمع زواله يثبت الحكم.
وأنكر أبو
حنيفة قبول الشهادة من القاذف وان تاب إلى آخر العمر أخذا بظاهر قوله : ابدا ،
فانّ ظاهره مدّة حياته لعدم رجوع الاستثناء إلى الجملة الثّانية والّا كان مجرورا
بالبدليّة لكونه من كلام غير موجب فيلزم أن يكون في حالة واحدة معربا بإعرابين
مختلفين وهو لا يصحّ.
ويجاب عمّا
ذكره : أنّ قوله أبدا محمول على ما إذا لم يتب كما اقتضته الأدلة ولعموم قبول
شهادة غير الفاسق من عدول المؤمنين ، ولقوله صلىاللهعليهوآله : التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له ، وعدم رجوع الاستثناء
إلى الثّانية لا يقتضيه بل يكفى فيه رجوعه إلى الأخيرة فإنّه إذا صحّ عدم فسقهم
بعد التّوبة وخروجهم عن المعصية بها لزم قبول شهادتهم كما في غيرهم.
لا يقال : نقل
في مجمع البيان انّ رجوع الاستثناء إلى الجملتين من قول أبى جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام وهو ينافي ما ذكرتم لوجوب العمل بقولهما.
لأنّا نقول :
ليس معناه انّه راجع إليهما بحسب التّركيب واللّفظ بل حسب المآل والمسألة ويجوز أن
يكون متعلّقا بهما هنا لخصوصيّة النّصّ والعلم بكون الحكم كذلك. وقد يكلّف في
صحّته أيضا بأن يكون قبل هذا الاستثناء استثناء آخر راجع إلى الجملة الثّانية
لكنّه حذف بقرينة المذكور ، أو لعدم كونه منصوبا هنا وكون المختار الرّفع إنّما هو
فيما لا محذور فيه وتمنع اعراب الشيء الواحد بإعرابين متوافقين فتأمّل.
ولعلّ تصحيح
قول الشّافعيّ برجوع الاستثناء إلى الجملتين يكون بذلك وإلّا فالمحذور أعنى لزوم
ورود عاملين على معمول واحد على ذلك التقدير ثابت وقد اتّفق الجميع على عدم رجوعه
إلى الأولى هنا لأنّ التّوبة لا تسقط الجلد الّذي هو حقّ النّاس.
وممّا يبطل قول
الحنفيّة بعدم قبول شهادته بعد التّوبة : انّ الكافر إذا تاب قبلت شهادته وليس
القذف بأعظم منه بل أسهل قطعا ، وأيضا الزّاني إذا تاب قبلت شهادته والقاذف أسهل
منه إذ هو أخفّ ذنبا إذ الرّمي بالفاحشة أسهل من فعلها وهو ظاهر.
وقد ادّعى
الطبرسي في مجمع البيان في الصّورتين الإجماع ، وأيضا أنّ أبا حنيفة يقبل شهادته
قبل الحدّ فبعده وقد تاب وحسنت حاله أولى وأيضا الكافر إذا قذف بالزّنا غيره وفعل
أيضا من أنواع المحرّمات ويتوب عن الكفر تقبل شهادته بالإجماع فالتّائب من القذف
وحده أولى.
وما أجاب به في
الكشاف من أنّ المسلمين لا يعبأون بسب الكفّار لأنّهم شهروا بعداوتهم والطّعن فيهم
بالباطل فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشّنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله فشدّد
على القاذف من المسلمين. فلا يخفى ما فيه من التّكلّف الّذي لا يجدى نفعا مع قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
وجميع ما
يتعلّق بكيفيّة الجلد من كونه قائما والمرأة قاعدة وكون ثيابه عليه ونحوها يعلم من
الفروع.
الثالث في حد السرقة
وفيه آيتان
وهما :
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ) مرفوعان على الابتداء خبره (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) بتأويل مقول في حقّهما ذلك إذ الإنشاء انّما يكون خبرا
بالتأويل وصحّ دخول الفاء في الخبر لكونه بمعنى الّذي سرق والّتي سرقت.
وقال سيبويه
وجماعة من النّحاة : إنّ ما ذكر جملتان والتّقدير فيما يتلى عليكم السّارق
والسّارقة أى حكمهما والثّانية أعني قوله : فاقطعوا إلى آخره تضمّنت حكمها.
والسّرقة أخذ
مال الغير خفية وتقديم السّارق على السّارقة عكس الزّانية على الزّاني ، لأنّ
الغالب وجود السّرقة في الرّجال بخلاف الزّنا فانّ الغالب فيه النّساء.
والمراد
بأيديهما إيمانهما إجماعا وبه قرء ابن مسعود ولذا ساغ وضع الجمع موضع المثنّى كما
في صغت قلوبكما اكتفا بتثنية المضاف إليه.
اعلم أنّ كثيرا
من الأصوليّين ذهب إلى أنّ الآية مجملة في كلّ من القدر الّذي يقطع به وفي حدّ ما
يقطع من اليد ، والتّحقيق أنّ حمل الآية على الاجمال بعيد فانّ ذلك يستلزم كونها
غير مقيّدة أصلا بل الاولى أن يقال : مقتضى الآية عموم القطع بعموم السّرقة إلّا
أنّ السّنّة خصصت ذلك وبينته بالنّسبة إلى كلّ واحد من الأمرين.
وقد أنكر جماعة
من العامّة التّخصيص الأوّل وأوجبوا القطع بكلّ ما سمّي سرقة قليلا كان أو كثيرا
تمسّكا بالعموم ، بانّ مقادير الكثرة والقلّة غير مضبوطة والّذي يستقلّه الملك
يستكثره الفقير وهذا القول بعيد عن الصّواب مخالف للإجماع والأخبار الدّالّة على
اعتبار النّصاب في السّرقة.
وقد اختلف
العلماء في قدره والّذي عليه أصحابنا أنّ القدر الّذي يقطع به ربع دينار فصاعدا أو
ما يساويه من أىّ جنس كان والأخبار الصّحيحة دلّت على ذلك وهي الّتي خصّصت ظاهر
الآية به وفي بعض الأخبار أنّه يقطع في خمس دينار وفي بعضها في درهمين أيضا وهي
محمولة على كون الدّرهمين تساوى ربع الدينار الذّهب في وقت السّؤال بحسب اختلاف
أسعار الفضّة من الذهب وحاصله أنّه متى سرق ما قيمته ربع دينار فعليه القطع.
فلو سرق ربع
دينار من الذهب وزنا ولم يبلغ قيمة المضروب فلا قطع ولو انعكس بان كان سدس دينار
مصوغا قيمته ربع دينار قطع على الأقوى. وكذا لا فرق بين علمه بقيمته وشخصه وعدمه
فلو ظنّ المسروق فلسا وظهر دينارا أو سرق ثوبا قيمته أقل من النّصاب فظهرت مشتملا
على ما يبلغه ولو معه قطع على الأقوى لتحقّق الشّرط ولا يقدح عدم القصد إليه
لتحقّقه في السّرقة إجمالا وهو كاف ولشهادة الحال أنّه لو علمه لقصده وإلى هذا
القول تذهب الشّافعيّة أيضا.
وقالت الحنفية
: النّصاب عشرة دراهم لما روى عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : لا قطع إلّا في ثمن المجنّ والظّاهر أنّ ثمن المجنّ لا يكون إلّا عشرة دراهم .
__________________
وهو ضعيف ، وربّما قيل أقوال أخر لا فائدة في إيرادها.
وقد اتّفق
الجميع منّا ومن العامّة على أنّ السارق إنّما يجب عليه القطع إذا سرق من حرز إلّا
ما يحكى عن داود حيث قال : يقطع السّارق وإن سرق من غير الحرز وهو مردود بالإجماع
سابقا ولا حقا ، وفي تعريف الحرز اختلاف بين الأصحاب فقال ابن إدريس : الّذي
يقتضيه أصول مذهبنا أنّ الحرز ما كان مقفلا أو مغلقا أو مدفونا دون ما عداه.
ويؤيّده ما روى
عن علىّ عليهالسلام : لا يقطع إلّا من نقب نقبا أو كسر قفلا وفي الطّريق
ضعف . وزاد بعضهم على ذلك ما كان مراعى بالنظر لقضاء العادة بإحراز كثير من
الأموال بذلك وفيه نظر إذ مع المراعاة بالنّظر لا يحقّق السّرقة لأنّها لا يكون
إلّا سرّا ومع الغفلة عنه ولو نادرا لا يكون مراعى فلا يتحقّق إحرازه بها ،
وللشّيخ قول بانّ الحرز كلّ موضع لا يكون للغير التّصرف فيه بالدّخول إلّا باذنه
وينتقض بالدار المفتوحة الأبواب في العمران وصاحبها ليس فيها وقيل غير ذلك.
والأظهر ما
قاله الشيخ في المبسوط : أنّ معرفة الحرز مأخوذة من العرف فما كان حرزا لمثله في
العرف ففيه القطع وما لم يكن حرزا لمثله في العرف فلا قطع لانّه ليس بحرز وهو
يختلف باختلاف الأحوال فحرز الأثمان والجواهر الصّناديق المقفّلة والاغلاق الوثيقة
في العمران وحرز الثّياب وما خفّ من المتاع وآلات النّحاس الدّكاكين والبيوت
المقفّلة في العمران أو خزانتها المقفّلة والإصطبل حرز الدّابة مع الغلق وحرز
الماشية في المرعى عين الرّاعي على ما تقرّر ومثله متاع البائع
__________________
في الأسواق والطّرقات والجيب والكمّ الباطنان حرز لا الظّاهران وتمام
الكلام يعلم من الفروع.
وأما حدّ ما
يقطع عندنا فهو من أصول الأصابع ويترك له الرّاحة والإبهام ، ورواه أصحابنا عن
أئمّتهم عليهمالسلام ورواه العامّة أيضا عن على عليهالسلام ، وإطلاق اليد على ذلك كثير قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ولا خلاف في أنّ الكاتب لا يكتب إلّا بأصابعه وعلى هذا
فيكون في هذا الحمل قد وفينا الظاهر حقّه وما زاد عليه يحتاج إلى دليل إذ هو باق
على التّحريم لما فيه من إدخال الضّرر والتّألم على الحيوان وهو غير جائز عقلا
ونقلا إلّا بدليل يقطع العذر.
وجمهور العامّة
على القطع من الرّسغ بين الكفّ والسّاعد ، ويحكى عن الخوارج القطع من المنكب أخذا
بظاهر اليد وهما بعيدان غير واضحي الوجه بعد ورود الدّليل على قطع القدر المذكور.
(جَزاءً بِما كَسَبا) نصب على أنّه مفعول له وكذا قوله : نكالا من الله
ويحتمل انتصابهما على المصدر الّذي دلّ عليه (فَاقْطَعُوا) لانّ معنى فاقطعوا جازوهم ونكلوا بهم عقوبة على ما
فعلاه.
(وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) قادر على الانتقام فيعاقب بحكمته في الدنيا بشرع الحدّ
وفي الآخرة بعذاب النّار. واحتجّت الحنفيّة بظاهر هذه الآية على أنّ القطع والغرم
لا يجتمعان لانّه تعالى قال (جَزاءً بِما كَسَبا) والجزاء هو الكافي فيكون القطع كافيا في جناية السّرقة.
وأجيب بالإجماع
على وجوب ردّه لو كان قائما فمع التّلف يلزم الضّمان ومن هنا قال الأكثر
باجتماعهما لعموم قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّى»
__________________
وقد اجتمع في هذه السّرقة أمران وحقّ الله تعالى لا يضيع حقّ العباد ولهذا
يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد الملوك.
(فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي أقلع وندم على ما كان فيه من فعل الظّلم بالسّرقة.
(وَأَصْلَحَ) أي فعل الصالح بعد التّوبة ، وقد عرفت أنّ الظّاهر من
مثله الاستمرار عليها والجدّ في النّدامة والعزم عليها إذ لا يجب في قبول التّوبة
غيرها للأصل لكن لا يخفى أنّه ليس المراد الاقتصار على التّوبة من دون الإتيان
بالأفعال الواجبة عليه إذ هو لا يخلو في كلّ حال من واجب بل المراد الإتيان
بالواجبات عليه بعد التّوبة وظاهر أنّ العمل الصّالح لا يزيد على ذلك.
وقيل : معناه
وأصلح أمره بالتفصي من التّبعات وردّ السّرقة إلى أهلها وهذا من شرائط الصّحة (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أى يقبل توبته تفضّلا منه كما يدلّ
__________________
عليه قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) والمراد أنّه يسقط عقابه عن المعصية فلا يعذّبه في
الآخرة بها أمّا العذاب في الدّنيا يعنى القطع فظاهر المبسوط أيضا لعموم فمن تاب
الآية فإنّ ظاهرها عدم تعذيبه بعد التّوبة ولا شكّ أنّ قطع اليد تعذيب فعلى هذا
متى تاب السّارق قبل قيام البيّنة عليه سقط عنه القطع ووجب عليه ردّ السّرقة ولا
خلاف في ذلك بين أصحابنا أمّا لو كانت التّوبة بعد قيام البيّنة فليس للإمام العفو
بل يتعيّن عليه إقامة الحدّ. ولو تاب بعد إقراره مرّتين بالسّرقة عند الحاكم فانّ
بين أصحابنا في سقوط القطع هنا اختلافا.
وقال الشّيخ في
النهاية : يجوز للإمام العفو عنه في هذه الصّورة إذا كان العفو أردع في الحال ،
فاما ردّ السّرقة فإنّه يجب على كلّ حال وأنكره ابن إدريس ومنع من العفو هنا لما
فيه من تعطيل حدود الله قال : وحمله على الإقرار بالزّنا الموجب للرّجم قياس لا
نقول به واختار العلّامة في المختلف الأوّل وحكم بانّ العفو هنا ليس من باب القياس
بل من طريق الأولويّة فإنّ التّوبة إذا سقطت تحتم أعظم الذنبين أسقطت تحتّم
أضعفهما بطريق أولى.
ويؤيّده ما روى
عن بعض الصّادقين عليهمالسلام قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فأقرّ بالسّرقة فقال له علىّ عليهالسلام : أتقرأ شيئا من كتاب الله؟ ـ قال نعم سورة البقرة قال
: قد وهبت يدك لسورة البقرة. فقال الأشعث : أتعطل حدّا من حدود الله؟ فقال : وما
يدريك؟ إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو لقوله (وَالْحافِظُونَ
لِحُدُودِ اللهِ) وإذا أقرّ الرّجل على نفسه فذاك إلى الامام إن شاء عفى
وإن شاء قطع. وأكثر العامة على عدم العفو وتعيّن القطع مطلقا.
__________________
الرابع حد المحارب
وفيه آيتان وهما :
(إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى يحاربون أوليائهما وهم المسلمون جعل محاربتهم
محاربتهما تعظيما لشأنهم ويحتمل أن يكون المراد محاربتهما أنفسهما باعتبار عدم
سماع النّهى عن المحاربة وكأنّهم حاربوا النّاهي عن ذلك. وأصل الحرب السّلب
والمراد بهم كلّ من شهر السّلاح في البرّ أو البحر ليلا أو نهارا في المصر أو
خارجها لإخافة النّاس ولا يكفى مطلق الإخافة بل الإخافة من القتل بقصد أخذ المال
غيلة وجهرا بحيث لو لم يخفه ويترك المال له لقتله وأخذ ماله.
وهل يعتبر كونه
من أهل الرّيبة قيل نعم واختاره الشّيخان والأكثر على العدم لعموم النّصّ وأصالة
عدم التّخصيص ، والحكم عامّ في الرّجال والنّساء عند الشّيخ وأكثر الأصحاب ، وأخذ
ابن الجنيد بالظّاهر فخصّ الحكم بالرّجال ووافقه ابن إدريس في ذلك قال : ولم أجد
لأصحابنا المصنّفين قولا في قتل النّساء في المحاربة.
والّذي يقتضيه
أصول مذهبنا ألّا يقتل الّا بدليل قاطع فامّا التمسّك بالاية فضعيف لأنّها خطاب
للذّكران دون الإناث ومن قال يدخل النّساء في خطاب الرّجال على طريق التّبع فذلك
مجاز والكلام في الحقائق.
فأمّا المواضع
الّتي دخلن في خطاب الرّجال فبالإجماع واختار العلّامة في المختلف الأوّل واحتجّ
عليه بصحيحة محمّد بن مسلم عن الصّادق عليهالسلام قال : من شهر
__________________
السّلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتصّ منه (الحديث) ولفظة من يتناول المذكّر
والمؤنّث بالحقيقة إجماعا وفي هذا الاستدلال نظر فانّ من وان كانت للعموم إلّا أنّ
ظاهر الآية خاصّ كما عرفت فليحمل عليه.
وبالجملة
فالحكم لا يخلو من إشكال والمراد بالسّلاح ما يشمل نحو العصا ممّا يحصل به الأخذ
بالقوّة لعموم الآية وبالجملة تجريد السّلاح وشهرته لا يعتبر في صدق المحارب بل
يصدق ولو اقتصر على الحجر والعصا ونحوهما مما يترتّب عليه الأخذ بالقوّة أمّا
اعتبار كونه خارج المصر فهو قول أبي حنيفة وأصحابه وظاهر الآية يدفعه.
(وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) أى مفسدين فانتصابه على الحالية ويجوز نصبه على العلية
أو على المصدريّة لانّ سعيهم كان فسادا فكأنّه قيل ويفسدون في الأرض فسادا.
(أَنْ يُقَتَّلُوا) خبر جزاء الّذين اى يقتلون قصاصا أو حدّا على تقدير
العفو من غير صلب هذا ان اقتصروا على النّفس.
(أَوْ يُصَلَّبُوا) اى يصلبوا مع القتل ان قتلوا وأخذوا المال واختلف في
كون الصّلب حيّا أو مقتولا فشيخنا المفيد في القواعد وجماعة من الأصحاب على الأوّل
وقال الشّيخ في النّهاية : لا يجوز صلبه حيّا بل يقتل ثمّ يصلب.
وظاهر الآية
يعطى الأوّل لأنّه تعالى جعل الصّلب غير القتل وخيّر في ذلك بقوله : (أو) الدّالة
على التّخيير في لسان العرب فاقتضى ذلك أن يكون قتله بالصّلب ولا ينافيه ما في
رواية عبد الله المدايني عن الصّادق عليهالسلام : وان قتل وأخذ المال قتل وصلب» الحديث لانّ الواو لا
تفيد التّرتيب.
(أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) وهذا ان أخذوا المال ولم يقتلوا ، وقطع الخلاف أن يقطع
أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى ويتركوا حتّى يموتوا وفي الآية إجمال بالنّسبة الى
ذلك إذ يجوز أن يكون المراد العكس وكذا فيها إجمال بالنّسبة
الى القطع ويمكن اعتبار ما يقطع في حدّ السّرقة (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ان اقتصروا على الإخافة من غير أن يأخذوا مالا أو
يقتلوا أو يخرجوا والمراد نفيهم من بلد الى بلد بحيث لا يتمكّنوا من الفرار الى
موضع ولا يطعمونهم ولا يمكّنوهم من الدّخول الى بلاد الشّرك ويقاتل المشركون ان
مكّنوهم منه.
وقال أبو حنيفة
وأصحابه : النّفي هو الحبس لأنّ الطّرد من جميع الأرض غير ممكن والى بلدة اخرى
استضرار بالغير والى دار الكفر تعرّض للمسلم بالرّدة فلم يبق الّا أن يكون المراد
الحبس لانّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيّبات الدّنيا فكأنّه خارج عنها ومن ثمّ قال
عبد القدّوس حين حبسوه على ما اتّهموه من الزّندقة :
خرجنا من
الدّنيا ونحن من أهلها
|
|
فلسنا من
الأحياء فيها ولا ميتا
|
والأظهر ما
قلناه لظهور النّفي في ذلك لا فيما قالوه.
وقد تبيّن ممّا
ذكرنا أن أو في الآية لاختلاف الأحكام بالنّسبة إلى الجنايات على ما قلناه من
التّفصيل وهذا عند بعض الأصحاب استنادا الى بعض الرّوايات الدالّة عليه لكنّها لا
تخلو من ضعف في السّند والجهالة واختلاف في المتن يقصر بسببه عن افادة ما يوجب
الاعتماد عليه ومع ذلك لا يجتمع جميع ما ذكر من الأحكام في رواية منها وانّما
يتلفّق كثير منه من الجميع وبعضها لم نقف فيه على رواية ولذا اختلف كلام الشّيخ :
ففي الخلاف ذكر
قريبا ممّا ذكرناه وفي النّهاية أوجب القطع مع القتل والصّلب على تقدير قتله وأخذه
المال. ومن هنا ذهب جماعة من الأصحاب الى أنّ الآية محمولة على التّخيير بمعنى انّ
الامام مخيّر بين المذكورات في كلّ محارب وهذا هو الظّاهر من الآية كما تقتضيه كلمة
أو وما روى صحيحا أنّ أو في القرآن للتّخيير حيث وقع ، رواه حريز في الصّحيح وقد
تقدّم.
ولخصوص حسنة جميل بن درّاج عن الصّادق عليهالسلام حيث سأله عن قول
__________________
الله عزوجل : (إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ ...) الآية أي شيء عليهم من هذه الحدود الّتي سمّى الله عزوجل؟ ـ قال : ذاك الى الامام ان شاء قطع وان شاء صلب وان
شاء نفى وان شاء قتل قلت : النّفي إلى أين؟ قال : النّفي من مصر الى مصر آخر
ونحوها من الاخبار.
والتّخيير
المذكور انّما هو إذا لم يقتل فلو قتل تحتّم قتله ولم يكتف بغيره من الحدود سواء
قتل مكافئا أولا وسواء عفا عنه الوليّ أولا وقد صرّح بذلك القائلون بالتّخيير.
(ذلِكَ) اى ما أوجبناه من الجزاء (لَهُمْ خِزْيٌ فِي
الدُّنْيا) ذلّ وفضيحة فيها (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم ذنوبهم.
وفي الآية
دلالة واضحة على انّ اقامة الحدود لا يوجب تكفير المعاصي لأنّه تعالى بيّن أنّ لهم
في الآخرة العذاب مع ذلك الخزي في الدنيا ولو كان يسقط العقاب لما كان كذلك.
والمراد انّهم
يستحقّون العذاب لا أنّ ذلك ممّا يجب أن يفعل بهم لا محالة وحينئذ فيجوز أن يتفضّل
الله عليهم بإسقاط ما يستحقّونه ، وخالف هنا الوعيديّة وقطعوا بعذاب هؤلاء وفيه
نظر.
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) مستثنى ممّا تقدّم اى تابوا قبل أن يؤخذوا أو يظفروا
بهم. (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقبل توبتهم ويدخلهم الجنّة. ومنطوق الآية أنّ التّوبة
قبل القدرة تسقط الحدّ ومقتضى المفهوم انّهم لو تابوا بعد القدرة عليهم اي بعد
سقوطهم في يد الإمام فإنّ التوبة لا أثر لها في سقوط الحدّ وهو كذلك إجماعا.
والمراد أنّ
السّاقط بالتّوبة حق الله تعالى فامّا ما يجب من حقوق الآدميّين
__________________
كالقصاص في النّفس أو الطّرف أو الجرح أو أخذ المال فإنّه لا يسقط لأنّها
حقوق الآدمي والتّوبة لا تسقطها وربّما خالف أكثر العامّة هنا فلم يوجبوا الضّمان
كما في السّارق وقد تقدّم. ولو تاب بعد الظّفر فالظّاهر قبول توبته وان لم يسقط
عنه القتل ونحوه من حدود الله في الدّنيا نعم يسقط بها عقابه في الآخرة.
كتاب الجنايات
(القصاص)
وفيه آيات
الاولى ـ (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) إشارة إلى قتل أحد ابني آدم أخاه ظلما ، والأجل في
الأصل بمعنى الجناية يقال : أجل عليهم شرّا يأجله أجلا إذا جنى عليهم جناية وفي
هذا المعنى قيل جرّ عليهم جريرة ثمّ قيل فعلت ذلك من جراك ومن أجلك أي من أن جررت
وجنيت كأنّه يقول : أنت جررتني الى ذلك وأنت جنيت على هذا ثمّ اتّسع فيه فاستعمل
في كلّ تعليل ومن ابتدائية تتعلّق بقوله :
(كَتَبْنا عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ) أي ابتداء الكتب وإنشاؤه من أجل ذلك والمعنى انّا لذلك
قضينا على بني إسرائيل. واحتمل بعضهم أن يكون مأخوذا من الأجل بمعنى المدّة
المضروبة للشيء فإنّ من لابتداء الغاية فكأنّه قال : من الزّمان الّذي وقع ذلك
القتل فيه كتبنا عليهم.
(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) بغير قتل نفس يوجب القصاص (أَوْ) قتل نفسا بغير (فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) فساد حاصل منها في الأرض فاستحقّت بذلك قتلها لافسادها.
وفسّر الإفساد
بالشّرك أو المحاربة وحينئذ يندفع إجمال الآية فإنّها مع الإطلاق مجملة إذ ليس كلّ
ما يكون فسادا يوجب القتل نعم يوجبه الفساد المستلزم لإقامة حدّ القتل.
(فَكَأَنَّما قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعاً) من حيث انّه هتك حرمة الدّماء وسنّ القتل وجرى النّاس
عليه فكان بمنزلة المشارك فيه ، أو من حيث انّه قتل الجميع والواحد سواء في
استجلاب غضب الله والعذاب العظيم وان تفاوت ذلك بالكيفية ، أو من حيث
انّه يوجب عليه من القصاص بقتلها مثل ما يجب عليه لو قتل النّاس جميعا ، أو
من حيث أنّ كلّ شخص آدم وقته يمكن أن يتولّد منه خلق كثير فمن أهلكه فكأنّه أهلك
الجميع كذا قيل.
(وَمَنْ أَحْياها) ومن تسبّب لبقاء حياتها بعفو عن قصاص ومنع عن القتل أو
استنقاذ عن بعض أسبابه مثل الحرق والغرق والهدم ونحوها.
(فَكَأَنَّما أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً) في ترتّب الثّواب لأنّه في اسدائه المعروف إليهم
بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كلّ واحد منهم. والمقصود من ذلك تعظيم قتل
النّفس وإحياءها في القلوب ترهيبا عن التّعرض لها وترغيبا في المحاماة عليها لا
أنّ المقصود التّشبيه حقيقة ، وهذا الحكم وان كان في شريعة موسى عليهالسلام إلّا أنّ أخبارنا عن أهل العصمة متظافرة به وعليه إجماع
الأمّة فهو في شرعنا أيضا.
الثانية :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) اى فرض أو وجب أو كتب في اللّوح المحفوظ.
(عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ
فِي الْقَتْلى) اى المساواة في جناية القتل بينكم بمعنى أنّ القاتل
منكم عمدا يفعل به ما يفعل بالمقتول فلا يأبى عن ذلك وليسلم نفسه إلى أولياء
المقتول لو أرادوا قتله. ولا خلاف في انّ المراد به قتل العمد لانّه هو الّذي يوجب
القصاص دون الخطا وشبه العمد.
(الْحُرُّ بِالْحُرِّ) اى مقتول أو مأخوذ به فهو مبتدأ أو خبر وكذا قوله :
(وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قيل كان في الجاهليّة بين حيّين من أحياء العرب دماء
وكان لأحدهما طول على الأخر وقوّة فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منّا والذكر
بالأنثى منا فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنزلت فأمرهم أن يتساووا ، اى يتساووا في القتل.
ومقتضى الآية
اشتراط التماثل في وجوب القصاص فعلى هذا لا يجب قتل الحرّ بالعبد والذّكر بالأنثى
كما ذهب إليه أصحابنا الإماميّة وتابعهم على ذلك الشّافعيّة والمالكيّة وجماعة وقد
اعترف صاحب الكشّاف مع كونه من الحنفيّة بانّ ذلك ظاهر
من الآية ولعلّ الوجه فيه كونها بيانا للقصاص المكتوب وظهور سبب النّزول في
أنّ المراد عدم التّعدي عن ذلك. وأنكر القاضي دلالتها على ذلك وقال : إنّها لا
تدلّ على أن لا يقتل الحرّ بالعبد والذّكر بالأنثى كما يدلّ على عكسه فانّ المفهوم
انّما يعتبر حيث لم يظهر للتّخصيص غرض سوى اختصاص الحكم وقد بيّنا ما كان الغرض.
ثم قال : وأمّا
منع مالك والشّافعيّ قتل الحرّ بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره فلما روى عن علىّ
عليهالسلام : انّ رجلا قتل عبده فجلده النّبيّ صلىاللهعليهوآله ، وروى عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : من السّنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حرّ
بعبد ، ولأنّ أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحرّ بالعبد بين أظهر الصّحابة من غير
نكير وللقياس على الأطراف.
قلت يمنع كونها
بيانا لذلك ولو سلّم انّها بيان له فعدم وجوب قتل الحرّ بالعبد إنّما ثبت بالأصل
لا بالاية ، ولانّ المفهوم منها إمّا مفهوم لقب أو وصف وكلاهما لا حجيّة فيه كما
ثبت في الأصول ، ولو سلّم فهو إذا لم يكن غرض سوى اختصاص الحكم كما قاله ويجوز أن
يكون الغرض هنا منع العرب من التّفاضل في أحد الجنسين بالنّسبة إلى الآخر كما
يعطيه سبب نزول الآية وهو فائدة عظيمة.
وعلى هذا فيكون
الغرض من ذكر الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد إلى آخره مجرّد نفى تفاضلهم أو الرّد
عليهم بان لا يقتلوا الحرّ بالعبد والاثنين بالواحد وهذا المقدار يكفي لإخراج
المفهوم عن الحجيّة على تقديرها لأنّه حينئذ يخرج التّخصيص عن اللّغو.
وقد يضعّف
المفهوم أيضا باقتضائه عدم قتل الأنثى بالذكر وهو خلاف الإجماع إلّا أن يقال خرج
ذلك بدليل وكيف كان فاخبارنا مشحونة بعدم جواز قتل الحرّ بالعبد وإجماعنا منعقد
عليه وهو كاف في ثبوت الحكم ، وكما دلّ الإجماع والأخبار على عدم القتل هنا دلّا
على القتل في صورة العكس.
ويمكن استفادة
هذا من الآية بان يقال : إذا ثبت قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحرّ أولى وكذا
القول في قتل الأنثى بالذكر. ولا يردّ على أولياء المقتول شيئا في
الصّورتين المذكورتين وان كان المقتول أعلى من القاتل لأنّ الجاني لا يجني
على أكثر من نفسه ولا كلام في الصّورة الأولى أمّا الثّانية فالأخبار المتكثّرة
المعتبرة الإسناد دالّة على أن ليس لأوليائه شيء سوى القتل وفي بعضها تعليل ذلك
بأنّ الجاني لا يجني على أكثر من نفسه.
نعم في رواية
أبي مريم الأنصاريّ عن الباقر عليهالسلام في امرأة قتلت رجلا قال : تقتل ويؤدّى وليّها بقيّة
المال وقد اعترف الشّيخ بشذوذها ومخالفتها لظاهر الكتاب أعنى قوله : النّفس
بالنّفس.
قلت : وفيها
ضعف السّند أيضا فانّ في سندها معاوية بن حكيم وعلىّ بن الحسن بن رباط وحالهما غير
خفيّة مع أنّها لا قائل بها من الأصحاب بل يظهر من الشّهيد في شرح الإرشاد دعوى
الإجماع على العدم. وامّا قتل الذكر بالأنثى وإن لم يكن ظاهرا من الآية فإجماعنا
منعقد عليه وأخبارنا متظافرة به ولكن هنا يجب أن يردّ وليّها على أولياء المقتول
نصف ديته لانّ ديته ضعف ديتها.
والأكثر من
المفسّرين على أنّ هذه الآية محكمة غير منسوخة وعلى ذلك أصحابنا أجمع وقالت
الحنفيّة : انّها منسوخة بقوله (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لاقتضائه وجوب قتل الحرّ بالعبد والذكر بالأنثى
ويستدلّون عليه بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : المسلمون تتكافأ دمائهم ، وبأنّ التّفاضل غير معتبر
في الأنفس مع زعمهم دلالة الآية السّابقة على عدم القتل في الصّورتين المذكورتين
بالمفهوم.
وقولهم هذا
مدفوع من وجوه امّا أوّلا فلانّ آية النّفس بالنّفس حكاية ما في التّوراة على
أهلها وليس فيها ما يوجب انّه فرض علينا وهذه الآية خوطب بها المسلمون وكتب عليهم
ما فيها ، فلا وجه لنسخ ما في القرآن بما في التّوراة على ذلك الوجه.
وأما ثانيا
فلانّه لا عموم له بحيث ينسخ به شيء خاصّ.
واما ثالثا
فلانّ حكمهم بالنّسخ هنا انما هو بالنّسبة فإنّهم يزعمون دلالة الآية المذكورة على
عدم القتل في الصورتين السابقتين بالمفهوم ولا يخفى أن المفهوم على تقدير حجيته
دليل ضعيف لا ينسخ بالمنطوق بل يضمحلّ في مقابلته لعدم صلاحيّته للمعارضة.
واما رابعا
فلانّه يمكن التّخصيص ببعض الصّور وهو أولى من النّسخ.
وقد ظهر ممّا
ذكرنا انّ مراد الحنفيّة بنسخها نسخ مفهومها بالنّسبة إلى تلك الصّورتين لا
منطوقها لظهور بقاء حكمها عندهم أيضا ومن ثمّ نقل القاضي عنهم الاحتجاج بها على
أنّ مقتضى العمد القود وحده ثمّ قال : وهو ضعيف إذ الواجب على التّخيير يصدق عليه
انّه وجب وكتب ولذلك قيل التّخيير بين الواجب وغيره ليس نسخا لوجوبه.
ولا يذهب عليك
انّ احتجاج الحنفيّة بها قويّ فإنّ الظّاهر منها انّ موجب القتل عمدا هو القصاص
وحده حيث اقتصر عليه امّا الدّية فغير ظاهر وجوبها منه بل وجوبها منفيّ بالأصل
وكون الواجب على التّخيير يصدق عليه انّه واجب لا ينافي ذلك إذ الظّاهر المتبادر
من الوجوب كونه عينيا لا تخييرا.
وما ذكره من أن
التّخيير بين الواجب وغيره ليس نسخا لوجوبه حقّ فانّ النسخ رفع الحكم الشّرعيّ
والثّابت قبل التّخيير أصالة عدم وجوب غير ذلك الواجب وهو حكم عقليّ فارتفاعه
بالتّخيير لا يكون نسخا لأصل الوجوب نعم هو نسخ للوجوب العيني.
وبالجملة
فالّذي عليه أصحابنا وأكثر العامّة انّ الواجب في قتل العمد هو القصاص وحده ولهذا
لو امتنع القاتل من بذل الدّية لم يكن لأولياء المقتول المطالبة بها ولو بذلها هو
من نفسه لم يجب على أولياء المقتول قبولها وكان لهم المطالبة بالقود ولو كانت
واجبة تخييرا لم يكن كذلك.
وأصحابنا
يستدلّون بهذه الآية على وجوب القود وحده في قتل العمد وهي ظاهرة فيه كما عرفت
لانّ الواجب أحد الأمرين من الدّية والقصاص كما ذهب اليه بعض العامّة نعم لو
اصطلحا على الدية جاز كما يعلم من خارج وانعقد عليه الإجماع.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي شيء من العفو وبذلك صحّ وقوعه موقع
الفاعل فانّ المفعول المطلق المعرّى عن التّخصيص بشيء لا يقام مقام الفاعل
إذ هو مفهوم من الفعل قال في الكشاف ولا يصحّ أن يكون شيء في معنى المفعول به لانّ
عفي لا يتعدّى الى مفعول به إلّا بواسطة.
قلت : يمكن أن
يكون أصله عن شيء حذف الجارّ وأوصل الفعل فتأمّل.
والمراد بمن في
الآية القاتل قيل وبالأخ المقتول وفي تسمية القاتل أخ المقتول دلالة علي عدم خروجه
بالقتل عن أخوّة الايمان وذلك يبطل قول من اعتبر ترك المعاصي فيه ، وقيل : أراد
بالأخ المعافي الّذي هو ولىّ الدّم وذكره بلفظ الاخوّة الثّابتة بينهما من
الجنسيّة والإسلام ليرقّ له ويعطف عليه امّا بقبول الدّية أو العفو عنه.
(فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ) امّا مبتدأ حذف خبره أو العكس اى فعلى العافي أو
فالواجب اتّباع المعروف والجملة خبر الموصول والمراد لا يشدّد في الطّلب وينظره ان
كان معسرا ولا يطالبه بالزّيادة على حقّه (وَأَداءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسانٍ) اى على المعفوّ عنه الدّفع إليه بإحسان من غير مطل ولا
تأخير وهو المروي عن أبى عبد الله عليهالسلام.
وقيل : إنّ
المراد فعلى المعفوّ عنه الاتّباع والأداء فلا يحوج إلى الطّلب ولا يؤخّر قال
الطّبرسي في مجمع البيان : إنّ قوله شيء دليل على أنّ بعض الأولياء إذا عفى سقط
القود لأنّ شيئا من الدّم قد بطل بالعفو والله تعالى قال (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ). الآية.
والضّمير في له
وأخيه يرجعان الى «من» وهو القاتل اى من ترك له القتل ورضى عنه بالدّية ثمّ قال :
وهذا قول أكثر المفسّرين.
قلت : وهو
الظاهر من الكشاف والقاضي حيث قالا : إنّ التّعبير بشيء للإشعار بأنّ بعض العفو
كالعفو التّام في إسقاط القصاص. ولا يذهب عليك أنّ هذا خلاف المشهور فيما بين
أصحابنا فإنّهم يقولون : انّ عفو بعض الأولياء عن حقّه لا يسقط القود للباقين بل
يجب عليهم أن يؤدّوا على المقتول سهم من عفى عنه من الدّية وبذلك روايات
عديدة عن أهل
البيت عليهمالسلام.
روى الحسن بن
محبوب عن أبى ولّاد عن أبى عبد الله عليهالسلام في رجل قتل وله
أب وابن وأمّ فقال الابن : أنا أريد أن أقتل قاتل أبي وقال الأب : أنا أعفو
وقالت الأمّ : أنا آخذ الدّية قال : فليعط الابن الامّ السّدس من الدّية وورثة
القاتل السّدس الأخر حقّ الأب الّذي عفى وليقتله. ونحوها.
إلّا انّها
معارضة بروايات أخر دلّت على ما ذكره الطّبرسيّ من أنّ عفو بعض الأولياء يوجب سقوط
القود والانتقال إلى الدّية كرواية زرارة عن الباقر عليهالسلام ونحوها.
وحملها الشيخ
على ما إذا لم يؤدّ من يريد القود إلى أولياء المقاد منه مقدار ما عفى فلو أدى
المقدار المعفوّ عنه من الدّية إليهم جاز له القود ولم يذكر الأصحاب في هذا الحكم
خلافا بل ادّعى الشهيد الثّاني عليه الإجماع.
وفيه نظر إذ
الظّاهر أنّ الطّبرسي مخالف في ذلك وهو شيخ ثبت من أصحابنا وتساعده الرّوايات
وفيها ما هو معتبر الاسناد ، والشّهيد في اللّمعة أسند الحكم الى المشهور.
وبالجملة
فالحكم لا يخلو من اشكال لظهور الآية في ذلك وعدم صلاحيّة الرّوايات للمعارضة إذ
هي في نفسها متعارضة فينبغي اطراحها والرّجوع إلى ظاهر الآية.
وما يقال : انّ
الآية لا دلالة فيها على ذلك إذ معناها أنّه ليس على العافي إلّا الاتّباع وعلى
المعفوّ له إلّا الأداء بإحسان ولا يفهم حكم غير المعافي فما كان له باق غير ساقط
مدفوع بانّ الكلام وارد على الفعل المجهول والمعنى من ثبت في حقّه العفو عن شيء من
ذلك فالواجب عليه الاتّباع بالمعروف والأداء بالإحسان وهو ظاهر في ذلك فتأمّل.
ثمّ قال في
المجمع : وأمّا الّذي له العفو عن القصاص فكلّ من يرث الدّية إلّا الزّوج والزّوجة
عندنا وامّا عند غير أصحابنا فلا يستثنونهما. والمراد أنّ كلّ من يرث الدّية فله
العفو عن القود إلّا الزّوجين فإنّهما يرثان الدّية ولا يعتبر عفوهما عنه وهذا
ممّا لا خلاف فيه بين أصحابنا وإن خالف فيه غيرهم كما أشار إليه.
(ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما تقدّم من الأحكام (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) يعنى أنّ جعل القصاص في مقابلة قتل العمد والعفو عنه
تخفيف من الله عليكم ورحمة لكم حيث لم يلزمكم بأحدهما فقط كما الزم اليهود القصاص
فقط وأهل الإنجيل العفو فقط وظاهر انّ توسيع الأمر تخفيف.
(فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ) بان قتل بعد العفو أو قبول الدّية وهو المرويّ عن
الصّادقين عليهمالسلام وقيل : بان قتل غير قاتله سواء قتله أيضا أم لا أو طلب
أكثر ممّا وجب له من الدّية ، وقيل : بان تجاوز الحدّ بعد ما بيّن له كيفية القصاص
، وقال قوم : يحمل على الجميع لعموم اللفظ.
(فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ) في الآخرة كذا في المجمع والكشاف ويحتمل كونه في
الدّنيا أيضا بالقصاص والتّعزير :
الثالثة :
(وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) أي في شرعه وإيجابه فإن القصاص ازالة الحياة وازالة
الشيء لا يكون نفس ذلك الشيء وهو كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من
الغرابة وذلك لانّ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل مكانا وظرفا للحياة ومن إصابة
نحر البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة لأنّ المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم
الّذي هو القصاص حياة عظيمة.
وذلك أنّهم
كانوا يقتلون بالواحد الجماعة وكم قتل مهلهل بن ربيعة بأخيه كليب حتّى كاد يفنى
بكر بن وائل وكان يقتل بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنة ويقع بينهم التّشاجر فلمّا
جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة وأيّ حياة أو نوع من الحياة وهي الحياة
الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل فإذا همّ بالقتل وعلم
انّه يقتصّ منه ارتدع عنه وسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القتل فكان القصاص سببا
لحياة نفسين.
وهو نظير قول
العرب : القتل أنفى للقتل إلّا أنّ ما هنا أكثر فائدة وأوجز عبارة وأبعد من الكلفة
بتكرير الجملة وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة ليعلم ذلك
بأدنى التفات.
(يا أُولِي
الْأَلْبابِ) اى العقول خصّهم بالخطاب لأنّهم الّذين يعرفون العواقب
ويتصوّرون ذلك.
(لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) لكي تتّقوا أو على حال رجائكم وطمعكم في اتّقاء القتل
خوفا أو اتّقائه تعالى واجتناب معاصيه وفي الآية دلالة ظاهرة على الفائدة في
مشروعيّة القصاص وحكم القتل لذلك.
الرابعة :
(وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) نهى عن قتل النّفوس المحرّم قتلها من أفراد الإنسان (إِلَّا بِالْحَقِّ) استثناء ممّا تقدّم وذلك بأن يكون القتل لأحد أسبابه
الموجبة له كان يرتدّ أو يقتل مؤمنا أو يزني بعد إحصان فإنّ القتل لأحد هذه
الأسباب مباح بل واجب.
(وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً) قتل بغير سبب مبيح له بل ظلما وعدوانا قال الشّافعيّ
التّنوين في مظلوما للتّنكير ليدلّ على أنّ المقتول ما لم يكن كاملا في وصف
المظلوميّة لم يدخل في هذا الحكم ولا تحت هذا النّص فيعلم منه أنّ المسلم لا يقتل
بالذّميّ لأنّ الذّميّ مشرك فانّ ذنبه غير مغفور كالمشرك فلا يكون كاملا في
المظلوميّة فلا يندرج في الآية. وهو حسن.
(فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ) اى للذي يلي أمره بعد وفاته فان له المطالبة بدمه فان
لم يكن له ولىّ كذلك فحاكم الشّرع وليّه.
(سُلْطاناً) اى تسلّطا بالمؤاخذة بمقتضى العقل على من عليه سواء كان
القتل خطأ أو عمدا ويحتمل أن يكون المراد تسلّطا بالقصاص على القاتل لدلالة قوله
مظلوما على أنّ القتل عمدا عدوان إذ الخطاء لا يسمّى ظلما فلا يكون مستفادا من
الآية.
وفي الآية
دلالة واضحة على أنّ استيفاء الحقّ من القصاص أو الدّية لا يتوقّف على اذن الحاكم
لإطلاقها في تسلّط الولي وأصالة عدم التّوقّف على الاستيذان. وذهب
جماعة على وجوب استيذانه سواء كان قصاص نفس أو طرف فيعزّر لو استقلّ به
ويظهر ذلك من الطّبرسي في مجمع البيان وصرّح في الآية السّابقة بأنّ من يتولّى
القصاص امام المسلمين وفيه نظر.
(فَلا يُسْرِفْ) أي الوليّ (فِي الْقَتْلِ) بأن يقتل من لا يستحقّ قتله أولا يتجاوز حدّ ما شرع له
من القتل على وجه القصاص بأن لا يقتل اثنين بواحد أولا يمثل بالقاتل حال قتله.
(إِنَّهُ كانَ
مَنْصُوراً) علّة للنّهي على طريق الاستيناف والضّمير امّا للمقتول
المظلوم فإنّه منصور في الدّنيا حيث أوجب القصاص بقتله وفي الآخرة بالثّواب العائد
اليه ، وامّا للوليّ فإنّ الله نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة والمؤمنين
بمعونته ، وامّا للّذي يقتله الوليّ إسرافا فإنّه حيث تعدّى عليه كان منصورا بشرع
التفويض له حتّى لو فرض أنّ الوليّ مثل بقاتل أبيه ثمّ أراد قتله فشرع القصاص
يقتضي استيفاء المثلة من الوليّ ثم القصاص وكذا لو قتل بواحد اثنين فإنّه يقتل
بذلك الأخر. وبالجملة لا يتجاوز في طريق القتل ما حدّ له في الشّرع.
الخامسة :
(وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) اى قاصدا قتله عالما بايمانه وحرمة قتله وعصمة دمه (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) في الآية وعيد شديد وتهديد بالغ في الغاية لمن قتل
مؤمنا على العمد ومن ثمّ قال ابن عبّاس : لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا والظّاهر
أنّه أراد به التّشديد فإنّه قد روى عنه خلافه.
والحكم بالخلود
امّا لانّه قتله لإيمانه ودينه فيكون مستحلّا له وهو يوجب ارتداده وكفره ويؤيّده
ما روى الكليني عن سماعة عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن قول الله عزوجل (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) قال : من قتل مؤمنا على دينه فذلك العمد الذي قال الله عزوجل (الحديث).
وما قيل انّها
نزلت في مقيس بن صبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النّجار ولم يظهر قاتله فأمرهم
رسول الله صلىاللهعليهوآله سلّم أن يدفعوا اليه ديته فدفعوها اليه ثمّ حمل على
مسلم فقتله ورجع الى مكّة مرتدّا. وامّا لانّ الخلود في جهنّم بمعنى المكث الطّويل
لا طلاقه عليه في الكلام كثيرا.
وقد تعلّق
بظاهرها أهل الوعيد وحكموا بأنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النّار إذا لم يتب وفي
الدّلالة بعد للاحتمال الأوّل فلا يكون في العصاة. سلّمنا انّهم المراد لكن يرد
الاحتمال الثّاني فيسقط التّمسّك بها.
ولو قيل : انّ
ما ذكر تموه خلاف الظّاهر من الخلود ونحن انّما نستدلّ بالظّاهر لأمكن أن نقول :
قد وافقتمونا على أنّ الآية مخصوصة بمن لا يتوب وأنّ التّائب خارج عن عمومها.
وما روى عن ابن
عبّاس من عدم قبول توبته محمول على سلوك سبيل التّغليظ والتّشديد في القتل كيف وقد
روى عنه خلافه رواه الواحدي بإسناده إلى عطا ، عن ابن عبّاس أنّ رجلا سأله لقاتل
المؤمن توبة؟ ـ قال : نعم فقيل له في ذلك فقال : جائني ذلك ولم يكن قتل فقلت : لا
توبة لك لكي لا يقتل وجائني هذا وقد قتل فقلت : لك توبة لكي لا يلقى نفسه إلى
الهلكة.
ومن قال من
أصحابنا : انّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتّوبة فلا ينافي ما قلناه لانّ هذا ان صحّ
فإنّما يدلّ على انّه لا تختار له التّوبة وان كانت بحيث لو حصلت لازالت العقاب
وإذا كان لا بدّ من التّخصيص في الآية بالتّوبة جاز أن يخصّ أيضا بمن تفضّل الله
عليه بالعفو كما دلّ عليه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).
ولانّ الوعيد
حقّه ولا قبح في تركه بل تركه كرما وفضلا لا تزال العرب تمدح فاعله ولا يعدّون
مثله خلفا انّما الخلف أن يعد الخير ثمّ لا يفعله وقد ورد في الرواية عن الصّادقين
عليهمالسلام في ادعيتهم : «يا من إذا وعد وفى وإذا توعّد عفى».
ولقد أحسن يحيى
بن معاذ في هذا المعنى حيث قال : الوعد حقّ والوعيد حقّ فالوعد حقّ العباد على
الله تعالى ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا ومن أولى بالوفاء من الله ،
والوعيد حقّه على العباد قال لا تفعلوا كذا فاعذّبكم ففعلوا فان شاء عفى وان شاء
أخذ لأنّه حقّه وأولاهما بربّنا العفو والكرم انّه غفور رحيم.
ولا يلزم الكذب
في اخباره بالخلود على تقدير العفو لأنّها مقيّدة بمشيّة الخلود أو عدم مشيّة
العفو وهو ظاهر. هذا والآية وان خلت عن ذكر القصاص في قتل المؤمن عمدا إلّا أنّه
مراد قطعا كما دلّ عليه ظاهرها ولعلّ الاكتفاء لمعلوميّته.
السادسة
(وَما كانَ) وما صحّ وما جاز (لِمُؤْمِنٍ أَنْ
يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حقّ (إِلَّا خَطَأً) قال في الكشاف : انتصاب خطا على انّه مفعول له اى ما
ينبغي له أن يقتله لعلّة من العلل إلّا للخطاء وحده ويجوز أن يكون حالا بمعنى لا
تفعله في حال من الأحوال إلّا في حال الخطاء ، وأن يكون صفة للمصدر أي إلّا قتلا
خطاء والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفى عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتّة إلّا إذا
وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي الكافر فيصيب مسلما أو يرمي شخصا على انّه كافر
فإذا هو مسلم.
وظاهر هذا
الكلام أنّ الاستثناء متّصل ولا يرد عليه ما قيل : انّ اتّصال الاستثناء هنا يؤدّى
الى الاذن بقتله خطاء وكيف يأذن الشّارع فيه؟ لانّ المعنى على ما ذكره في الكشاف
هو : أنه لا يثبت ولا يوجد ولا يتحقّق من المؤمن قتل المؤمن إلّا في حال الخطاء من
غير قصد كان يرمى كافرا إلخ فإنّه حينئذ يتحقّق منه ويوجد وهذا لا يستلزم ما ذكره.
وذهب الطّبرسيّ
في مجمع البيان الى أنّ الاستثناء منقطع والكلام تمّ عند قوله : أن يقتل مؤمنا ثمّ
قال : لكن ان كان القتل خطأ فحكمه كذا قال : وانّما لم يحمل قوله : الّا خطاء على
حقيقة الاستثناء لانّ ذلك يؤدّى الى الأمر بقتل الخطاء أو اباحته ولا يجوز واحد
منهما. وفيه نظر يعلم ممّا قلناه.
ويمكن في توجيه
اتّصال الاستثناء وجه آخر وهو : انّه يحرم على المؤمن قتل المؤمن في حال من
الأحوال إلّا في حال الخطاء بان يظنّ عدم كونه مؤمنا بسبب اختلاطه بالكفّار فيظنّه
منهم أو برؤيته من بعيد فيظنّه صيدا إذ يباح الرّمي في هاتين الصّورتين وان اتّفق
القتل.
(وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فعليه أو فالواجب تحرير رقبة (مُؤْمِنَةٍ) والتّحرير الإعتاق والمراد بالرّقبة هو الرقّ المملوك
مطلقا وبالمؤمنة المسلمة اى المقرّة بالشّهادتين مطلقا ولا يشترط الايمان الخاصّ
عند أكثر الأصحاب لأصالة عدم اشتراطه. والأكثر على اجزاء الطّفل المتولّد من
المسلم لانّه بحكمه.
وأخذ بعضهم
بظاهر الآية فاعتبر إقرارها بالايمان حقيقة واليه ذهب ابن الجنيد من أصحابنا وهو
الظّاهر من حسنة معمر بن يحيى عن الصادق عليهالسلام قال : كلّ العتق يجوز فيه المولود إلّا في كفّارة القتل
فانّ الله تعالى يقول (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) يعني بذلك مقرّة قد بلغت الحنث.
ونحوها رواية
الحسين بن سعيد عن رجاله عن الصّادق عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كلّ العتق يحوز فيه المولود إلّا في كفّارة القتل
فانّ الله تعالى يقول : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) يعني بذلك مقرّة قد بلغت الحنث.
امّا اعتبار
الصّلاة والصّوم فيها كما اعتبره الطّبرسي في مجمع البيان فغير معلوم كونه قولا
لأحد من أصحابنا ونسبه في الكشاف الى الحسن على أنّ ظاهر كلامه يعطى اعتبار العمل
في الايمان وهو قول مرغوب عنه فيما بيننا وما اختاره الأكثر من اجزاء الصغير المتولّد
من المسلم غير بعيد لانّه بحكمه في جريان أحكام الإسلام عليه من وجوب تغسيله
وتكفينه لو مات وطهارته ونحو ذلك وصدق الإسلام عليه في العرف فهو مسلم شرعا وعرفا
فيدخل في الآية والأصل عدم اشتراط البلوغ فتأمّل. نعم تقييد الرّقبة بالسّلامة من
العمى والإقعاد ونحوهما إجماعي.
(وَدِيَةٌ) عطف على تحرير والمراد انّه يجب هنا حقّ آخر غير
التّحرير وهو دية (مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ) مؤدّاة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث ولا
فرق
بينها وبين سائر التّركة في كلّ شيء يقضى منه الدّين وينفذ الوصيّة الى غير
ذلك ولا يرد أنّ عطف هذا على سابقه يقتضي كون الوجوب على القاتل كما في الكفّارة
والوجوب هنا انّما هو على العاقلة لا على القاتل بخلاف الكفّارة لأنّ كونها على
عاقلته بمثابة كونها عليه.
أو يقال : ظاهر
الآية يقتضي كونهما معا عليه الّا أنّ النصّ والإجماع فرق بينهما وأوجبها على
العاقلة فهو معلوم من خارج.
وبيان أحكام
الدّية وتفصيل مقدار ما يؤدّى منها في كلّ عام ومن يؤدّيها يعلم من خارج. (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي الّا أن يصّدّق أهل المقتول بالدّية على من تجب عليه
من العاقلة ويتركونها لهم وهو استثناء من التّسليم الواجب على كلّ حال الّذي دلّ
عليه مسلّمة ، أو من عليه بمعنى عاقلته كما اقتضاه العطف فهو منصوب المحلّ على
الحال.
والتّعبير عن
الإبراء بالتّصدّق للحثّ عليه وللتّنبيه على فضله ونحوه قوله : وان تصدّقوا خير
لكم ، وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : كلّ معروف صدقة. وفي ذلك دلالة واضحة على صحّة إبراء
ما في الذمّة بلفظ التّصدّق وعلى أنّ التّصدق لا يختصّ العين بل يتحقّق في الدّين
أيضا.
واعلم أنّ
الظّاهر من قتل الخطاء انّه لا يتحقّق في شيء دون شيء بل جميع ما يتحقّق به القتل
قد يقصد به القتل فيكون عمدا وقد لا يقصد فيكون خطا وعلى هذا فلو قتله بالمثقل عن
قصد ثبت فيه العمديّة ولا عن قصد ثبت فيه الخطائيّة.
وقال أبو حنيفة
: القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطا أو شبه عمد فيكون داخلا تحت الآية فيجب
فيه الدّية والكفّارة محتجّا عليه بقوله عليهالسلام الا انّ قتيل السّوط والعصا فيه مائة من الإبل وهذا
عامّ سواء كان السّوط أو العصا صغيرا أو كبيرا وفيه نظر فانّ الظّاهر أنّ العصا
والسّوط محمولان على الخفيف لظهور أنّ من ضرب رأس انسان بقطعة جبل ثمّ قال : ما
قصدت قتله ، لم يعبأ بقوله وهو ظاهر.
واحتجّ أبو
حنيفة أيضا بظاهر الآية على أنّ قتل العمد لا يوجب الكفّارة لأنّه شرط في الآية أن
يكون القتل خطأ وعند انتفاء الشّرط لا يحصل المشروط وردّ بانّ وجوبها في العمد
بطريق اولى وفي الأخبار دلالة عليه أيضا وبالجملة لا مخالف في هذا الحكم سوى أبي
حنيفة فإنّه لم يوجب الكفّارة في العمد وهو ضعيف جدّا.
(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن كان المقتول من جملة قوم هم عدوّ لكم اى كفّار
مشركون يناصبونكم الحرب. وظاهر الشيخ أنّ من بمعنى في أي في عداد قوم قال : لانّ
حروف الصّفات يقوم بعضها مقام بعض.
(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) أوجب تعالى في هذا القسم الكفّارة ولم يتعرّض للدية فلا
تكون واجبة ويؤيّده أنّه سكت عن الدّية هنا مع ذكرها فيما قبلها وفيما بعدها وهو
ظاهر في عدم وجوبها ونقل في مجمع البيان عدم وجوبها عن ابن عبّاس وهو المشهور بين
علمائنا واحتجّ عليه الشيخ في الخلاف بأصالة براءة الذّمّة من الدّية ويؤيّده حديث
حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليهالسلام.
وقد يوجّه عدم
الدّية في قتل هذا المسلم السّاكن في دار الحرب بأنّ إيجاب الدّية فيه تحوج الى أن
يبحث الغازي عن كلّ شخص من اشخاص قطّان دار الحرب هل هو من المسلمين أم لا وذلك
يوجب المشقّة والنّفرة عن الجهاد ، على انّه هو الّذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره
السّكنى فيهم.
ونقل الطّبرسي
في مجمع البيان وجها لعدم الدّية : بأنّ القتيل إذا كان في عداد قوم أعداء وهو
مؤمن بين أظهرهم ولم يهاجر فمن قتله فلا دية له وعليه الكفّارة لأنّ الدّية ميراث
وأهله كفّار لا يرثونه وقريب منه ما قال صاحب الكشّاف والقاضي وظاهره أنّ علّة عدم
الدّية هنا كون الورثة كفّارا محاربين ولا وراثة بين المقتول وبين أهله بسبب الكفر
لكن هذا يقتضي وجوب الدّية لو كان بعض الورثة مسلمين والظّاهر من الآية خلافه كما
يعطيه المقابلة.
وظاهر ابن
إدريس وجوب الدّية في قتل هذا المؤمن وهو القول الآخر
للشّافعيّ وقد يحتجّ له بعموم قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ) وعموم قوله صلىاللهعليهوآله : لا يبطل دم امرئ مسلم وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : في النّفس مائة من الإبل ، وهذه نفس.
قال ابن إدريس
: «والدّية وان لم يذكر في الآية فقد علمناها بدليل آخر وهو الحديث المذكور ،
والأصل الذي تمسّك به الشّيخ قد انتقلنا عنه بدليل الشّرع ثمّ قال : وأيضا فإجماع
أصحابنا منعقد على ذلك لم يخالف فيه أحد منهم ولا أودعه كتابا ما خلا شيخنا أبا
جعفر وإذا تعيّن المخالف في المسألة لا يعتدّ بخلافه» هذا كلامه.
وفيه نظر فإن
الأدلّة المذكورة عامّة والآية الّتي تلوناها خاصّة فتكون مقدّمة عليها والإجماع
غير معلوم بل دعوى الإجماع على خلافه غير بعيدة إذ لم يعهد من أصحابنا القول بوجوب
الدّية من غير ابن إدريس وإذا تعيّن المخالف في المسألة لا يعتدّ بخلافه.
(وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) وان كان المقتول من جملة قوم أو في عداد قوم بان يكون «من»
بمعنى «في» أي في كفره أهل ذمّة أو معاهدين ولا حرب بينكم وبينهم.
(فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ) يلزم عاقلة القاتل كما سلف (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كفّارة عنه وظاهر الآية أنّ ضمير كان راجع الى المؤمن
وحاصله أنّ المؤمن إذا كان في عداد أهل الذّمّة أو المعاهدين فقتل خطأ وجب على
قاتله الدّية والكفّارة كما لو قتل في دار الإسلام وعلى هذا أصحابنا أجمع وجماعة
من العامّة.
وقال أصحابنا :
يعطي ديته ورثته المسلمين دون الكفّار فعندهم أنّ دفع الدية إلى أهله مقيّد بذلك
كما أشعرت به رواياتهم ولو عدم أهله المسلمون فالظّاهر انّ ديته للإمام لأنّه وارث
المسلم كما بيّن في محلّه.
وذهب أكثر
العامّة الى أنّ ضمير كان يعود إلى الذّمّي أو المعاهد ، ولزوم الدّية علي قاتله
بسبب العمد وهو بعيد عن السّياق لانّ الضّمائر في كان كلّها راجعة
إلى المؤمن فلا ينبغي أن نصرفها هنا الى غيره إلّا بدليل والأصل عدمه.
تمّ انّ أبا
حنيفة لمّا زعم انّ ضمير كان راجع الى الذّميّ أو المعاهد قال : انّ دية الذّميّ
مثل دية المسلم لظاهر الآية وأنكره الشّافعيّ وقال : انّ دية الذّميّ ثلث دية
المسلم ودية المجوسي ثلث خمسها هكذا روى من قضايا الصّحابة.
ولا يخفى عليك
ضعف قول أبي حنيفة امّا على ما قلناه من رجوع ضمير كان الى المسلم فظاهر وأمّا على
ما زعمه من رجوع الضّمير إلى الذمي أو المعاهد فلم لا يجوز أن يكون المراد من
الدّية الثّانية مقدارا مغايرا للأوّل.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة مؤمنة يحرّرها امّا بان لا يجد الرّقبة والثّمن
معا أو لم يجد أحدهما (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ) الشّهر أعمّ من الهلالي أو العددي وان كان الأوّل أقرب
من الثّاني تبادرا الى الفهم فلو نقصا لم يجب الإكمال على تقدير كون الابتداء من
الأوّل بخلاف الثّاني لوجوب إكمال الثّلاثين فيه.
وظاهر الآية
عدم الامتثال الّا بتتابع الجميع ومن ثمّ ذهب أكثر العامّة إلى انّه لو أخلّ
بالتّتابع ولو يوما واحدا ولو كان بالمرض وجب عليه الاستيناف لعدم التتابع الّا أن
يكون الفطر لحيض أو نفاس لكنّ أصحابنا قالوا : انّه يحصل بشهر ويوم من الثّاني
للخبر وفي تجويز التّفريق من غير اثم بعد ذلك من دون عذر فيما بينهم بلا خلاف فيه
مع اتّفاقهم على الاجزاء والعبد على النّصف من ذلك فيجب عليه صيام شهر متتابع
ويحصل التّتابع في حقّه في خمسة عشر يوما على طريقة ما تقدّم.
(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) نصب امّا على المصدريّة أو على انّه مفعول له اى تاب
الله عليكم توبة بالكفّارة اى قبلها منكم أو شرع ذلك للتّوبة اى لقبولها من تاب
إذا قبل التّوبة ومن الله صفة التّوبة واعترض بأنّه لا ذنب له في القتل خطأ فلا
يحتاج إلى التّوبة ويمكن أن يقال : الكلام جار على ما ذكر في خواطرهم من أن قتل
المؤمن يوجب الإثم اى ان زعمتم انّ ذلك اثم فانّ الله قد تاب عليكم.
ويحتمل أن يكون
المراد بالتّوبة انّه لا يخلو من ترك احتياط ومن ندم وأسف على ما فرط منه واحتمل
في مجمع البيان أن يراد بالتّوبة هنا التّخفيف من الله في
النّقل من الرّقبة إلى الصّوم لانّه تعالى انّما جوّز للقاتل العدول الى
الصّيام تخفيفا ويكون كقوله (عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ).
(وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) بكلّ شيء من الأشياء (حَكِيماً) فيما يأمر به وينهى عنه مطلقا وخفاء الحكمة في بعض
الأوقات علينا مثل التّوبة في هذا المقام وإيجاب الكفّارة والدّية مع عدم التكليف
وكذا إيجابها على العاقلة من غير مدخليتّها لا يستلزم نفى الحكمة لقصور أفهامنا عن
التّفكر لها والوصول الى العلم بها.
السابعة :
(وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها) اى فرضنا وأوجبنا على اليهود لتقدّم ذكرهم في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) اى يقتل بها إذا قتلها بغير حقّ (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) أي تفقأ بها (وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ) اى يجدع به (وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ) اى يقطع بها (وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ) اى يقلع به (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) اى كلّ جرح يمكن القصاص فيه غير المذكورات كالشّفتين
والذّكر والأنثيين واليدين والرّجلين ونحوها فإنّه يثبت لصاحبه القصاص فيه وكذا في
الجراحات فإنّه يقتصّ بمثلها الواضحة بالواضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة
بالمنقلة الّا المأمومة والجائفة لعدم إمكان القصاص فيهما لبلوغ الأولى أمّ الرّأس
والثّانية الجوف واستلزام القصاص فيهما التّغرير بالنّفس كما قالوه فيجب فيهما
الدّية المقدّرة.
وكذا ما لا
يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو فكّ عظم أو جراحة يخاف فيها التلف وفيها أرش مقدّرة
معلومة في محالّها. وليس في الحكم إجمال بعد تفصيل بل عموم بعد خصوص ويخص من
العموم بعض أفراده لأدلّة اقتضته. والقصاص مصدر يراد به المفعول اى الجروح مقاصّة
بعضها ببعض.
(فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ) اى بالقصاص الّذي وجب له ، وتصدّقه به عبارة عن العفو
عنه وإسقاطه من ذمّة الجاني (فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ) اى للمتصدّق الّذي هو المجروح أو ولىّ الدّم يكفّر الله
ذنوبه به وفيه حثّ على العفو وعن أبى بصير قال : سألت أبا عبد الله
عليهالسلام عن قول الله عزوجل (فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال : يكفّر عنه ذنوبه بقدر ما عفى من جراح وغيرها.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حيث ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي الموجبة للعقاب.
واختلف في المراد بمن ، فقيل : هم اليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله ، وقيل :
هو عامّ في كلّ أحد وهذا هو الظّاهر لعموم اللّفظ وهو يوجب أن يكون هذا الحكم
ثابتا في شريعتنا وان كان مكتوبا في التوراة ولا خفاء في ذلك لتظافر الأخبار به
وانعقاد إجماع الأمّة عليه.
الثامنة :
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سمّى الفعلة الثّانية سيّئة مع انّها ليست كذلك
للازدواج أو لأنّها تسوء من تنزل به والمعنى انّه يجب فيما إذا قوبلت الإساءة أن
تقابل بمثلها من غير زيادة أو تجاوز عمّا فعل به ، ونحوها في الدّلالة على اعتبار
المجازاة والمكافاة من غير تجاوز عن المحدود قوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ
ما عُوقِبْتُمْ بِهِ). الآية).
(فَمَنْ عَفا) عمّاله المؤاخذة به (وَأَصْلَحَ) بينه وبين خصمه بالتّجاوز والإغضاء ويمكن أن يراد
بالإصلاح العفو الحسن الغير المشتمل على الأذى والمنّة.
(فَأَجْرُهُ عَلَى
اللهِ) عدة مبهمة تدل على عظم الموعود به (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
قال الشّيخ في
التبيان : «قيل في معناه وجهان : أحدهما انّى لم ارغّبكم في العفو عن الظّالم
لأنّي أحبّه بل لأنّي أحب الإحسان والعفو. والثّاني انّى لا أحبّ الظّالم بتعدّيه
ما هو له الى ما ليس له في القصاص ولا غيره.
قلت : وعلى
الثّاني فيه تنبيه على انّ الانتصار لا يكاد يؤمن فيه من يتجاوز السّوء والاعتداء
خصوصا في حال التهاب الحميّة فربّما كان المجازي من الظّالمين وهو لا يشعر. وفيها
دلالة واضحة على حسن العفو وعدم الانتقام فإنّه موجب للأجر العظيم كما أشعر به
قوله تعالى (فَأَجْرُهُ عَلَى
اللهِ) فإنّ الّذي يكون على الله تعالى يكون شيء عظيم لا يقدر
عليه غيره.
ودلّ على ذلك
غيرها من الآيات كقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وقوله (وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقوله (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ونحوها.
وفي الحديث عنه
صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله
أجر فليقم قال : فيقوم خلق كثير فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ ـ فيقولون : نحن
الذين عفونا عمّن ظلمنا. فيقال لهم : ادخلوا الجنّة بإذن الله.
التاسعة ـ
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ) من اضافة المصدر الى المفعول وتنصر قراءة والمراد به
أخذ حقّه بعد ما ظلم وتعدّى عليه.
(فَأُولئِكَ ما
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) من اثم ولا اعتراض فإنّه أخذ ما كان له وفيها دلالة على
جواز القصاص في النفس والطّرف والجروح من غير توقّف على حاكم الشّرع ، وقيل :
معناه أنّ له أن ينتصر على يد سلطان عادل بان يحمله اليه ويطالبه بأخذ حقّه منه
لانّ السّلطان هو الذي يقيم الحدود ويأخذ للمظلوم من الظّالم.
قال الشّيخ في
التّبيان : ويمكن الاستدلال بذلك على أنّ من ظلمه غيره يأخذ ما كان له إذا قدر أن
يأخذ من ماله بقدره ولا اثم عليه. وظاهره أنّ الآية محمولة على العموم من الجنايات
والمال ويؤيّد العموم قوله :
(إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدؤنهم بالظلم والإضرار ويأخذون ما ليس لهم ويعتدون
عليهم تجبّرا وظلما.
(وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ما صدر منهم من الظّلم والبغي بغير الحقّ.
العاشرة ـ
(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) اى تمّم وكمّل ما أمر (أَلَّا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ان هي المخفّفة من الثّقيلة وهي مع ما بعدها في محل
الجر بيان لما في صحف موسى أو في محلّ الرّفع على أنّه خبر مبتدا محذوف اى هو الا
تزر
وازرة الى آخره والجملة استينافيّة كأنّه قيل : ما في صحف موسى وإبراهيم؟ فأجاب
به. وفيها دلالة على عدم جواز مؤاخذة غير الجاني بذنبه ولا أخذ شيء من شخص بسبب
فعل شخص آخر الّا انّه مستثنى من ذلك بالنّص والإجماع أخذ الدّية من العاقلة مع
كون الجاني غيرها.
ولا ينافي ظاهر
الآية قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزر من عمل بها الى يوم
القيامة لأنّ ذلك من وزره ، ولا قوله (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) لأنّ ذلك لسنّة سنّوها.
كتاب القضاء والشهادات
وفيه آيات : الاولى ـ
(وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أمر له صلىاللهعليهوآلهوسلم بان يحكم بين أحبار اليهود بما انزل الله اليه وعدم
جواز متابعة أهوائهم فيجب علينا ذلك أيضا والأمر للوجوب.
الثانية :
(فَلا وَرَبِّكَ) معناه فو ربّك لنسألنّهم ولا مزيدة لتأكيد معنى القسم
كما زيدت في لئلّا يعلم لتأكيد وجوب العلم (لا يُؤْمِنُونَ) جواب القسم (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) اختلف واختلط ومنه الشّجر لتداخل أغصانه والمعنى انّهم
لا يزعمون أنّ الايمان يحصل لهم بمجرّد اللّسان مع المخالفة بالقلب وعدم الرّضا بالحكم
إذا لم يوافق طباعهم وانّما تحصل لهم حقيقة الإيمان إذا جعلوك حاكما عليهم فيما
وجد منهم من المخالفة في أمورهم.
(ثُمَّ لا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ممّا حكمت اى لا تضيق صدورهم من حكمك ولا التشكيك فيه (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) اى ينقادوا ويذعنوا لما تأتى به من قضائك لا يعارضونه بشيء وتسليما تأكيد
للفعل بمنزلة تكريره كأنّه قيل : وينقادوا لحكمك انقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم
وباطنهم فإذا حصل منهم ذلك حصل منهم الايمان.
وفي الآية
دلالة تامّة على الرّضا بالحقّ وعدم التّضجّر به بل هو مناف للايمان وليس ذلك
مخصوصا به صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ الظّاهر أنّ ذلك لعدم متابعته صلىاللهعليهوآلهوسلم في أحكامه وهي الّتي نزل به القرآن ووردت به السّنّة
المطهّرة فحيث ما تحقّق إنكار الحقّ من عالم بها ترتّب عليه الأمر المذكور إذ هو
نفس إنكار حكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الثالثة :
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) اى من كتم حكم الله الّذي أنزله في كتابه سواء حكم
بغيره أو لم يحكم لكنّه أخفى حكم الله مستهينا به معتقدا أنّ ذلك الكتمان هو الحقّ
(فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ) لاستخفافهم بالشّرع وإنكارهم الضّروري من الدّين وبدون
القيد هم الظّالمون لحكمهم بخلاف الحق والفاسقون لخروجهم عن الشّرع. وانّما عمّمنا
الحكم لما في الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام الواردة بأنّ الحكم بغير ما انزل الله كفر.
روى أبو بصير
قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : من حكم في درهمين بغير ما انزل الله عزوجل فهو كافر بالله العظيم ، وروى عبد الله بن مسكان مرفوعا
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه كان من أهل
هذه الآية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) فقلت : وكيف يجبر عليه؟ ـ فقال : يكون له سوط ويجبره
فإن رضى به والّا ضربه بسوطه وحبسه.
ووجه الكفر عدم
الانقياد إلى أوامر الله وعدم الاعتراف بها كما أشرنا إليه. وروى البراء بن عازب
عن النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنّ الايات الثلاث في الكفّار خاصّة أورده مسلم في
الصّحيح.
الرابعة ـ
(وَإِذا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ) الخطاب للولاة والحكام والكلام معطوف على ما قبله أي
يأمركم حال الحكم بين النّاس ان تحكموا بالعدل اى بالإنصاف والتّسوية من غير ميل
الى أحد الخصمين فقد روى عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم انّه قال لعلىّ عليهالسلام : سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك.
قال في مجمع
البيان : وورد في الآثار : أنّ صبيّين ارتفعا الى الحسن بن على عليهماالسلام في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم اىّ الخطين أجود فبصر
به علىّ
عليهالسلام فقال : يا بنىّ انظر كيف تحكم فانّ هذا حكم من الله
يسائلك عنه يوم القيامة ولا يخفى ما فيه من المبالغة في العدل حال الحكم ، والآية
ظاهرة في وجوبه فليكن الحاكم على حذر من مخالفة ذلك.
الخامسة ـ
(إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) اى القرآن (بِالْحَقِّ) حال منه (لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) اى بما أعلمك الله من الأحكام المنزلة بالوحي فالاراءة
هنا من الرؤية بمعنى العلم لا بمعنى الاعتقاد والرأي الّذي يحصل من الاجتهاد كما
زعمه من جوّز الاجتهاد على النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وما يقال :
انّها لو كانت بمعنى العلم لاستدعت ثلاثة مفاعيل فضعيف أمّا أوّلا فلجواز كون ما
مصدريّة وامّا ثانيا فلأنّ الجملة المتعلقة بها العلم تقوم مقام المفعولين ومتعلّق
الاعلام هنا الأحكام المنزلة وهي بمعنى الجمل فلا اشكال.
وما ذكره
القاضي من وجه النّزول افتراء على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لاستلزامه انّه صلىاللهعليهوآله همّ ان يعين الخائن وهو بعيد عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والّذي أورده
في مجمع البيان : أنّ أبا طعمة بن أبيرق قد نقب عليه رفاعة بن زيد وأخذ له طعاما
وسيفا ودرعا فشكى رفاعة الى ابن أخيه قتادة بن النّعمان وكان قتادة بدريا فتجسّسا
في الدّار وسألا أهلها فقال بنو أبيرق : ما صاحبكم الّا لبيد بن سهل رجل ذو حسب
ونسب فأصلت لبيد سيفه وخرج إليهم وقال : يا بنى مسروق أترموني وأنتم أولى فاندفعوا
عنه.
وأتى قتادة
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله إنّ أهل بيت منّا أهل سوء غدوا على
عمّى فخرقوا عليه من ظهرها وسر قواله طعاما وسلاحا فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنظر في شأنكم فلمّا سمع بذلك رجل من بطنهم الّذي هم
منهم جمع رجالا من أهل الدّار ثم انطلق الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : انّ قتادة وعمّه عمدا الى أهل بيت منّا لهم حسب
ونسب ورموهم بالقبيح.
فلمّا أتى
قتادة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد ذلك ليكلّمه جبهة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جبها
شديدا وقال : عمدت الى أهل بيت ذو حسب ونسب تأتيهم بالقبيح؟ ـ فقام قتادة
من عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ورجع الى عمّه فقال : ليتني متّ ولم أكن كلمت محمّدا
فنزلت ، وبلغ أبا طعمة ما نزل فهرب إلى مكة وارتدّ كافرا.
وليس في ذلك
شيء سوى انّه صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصم عمّن رآه على ظاهر الايمان وكان في الباطن بخلافه (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) اى لأجلهم والذب عنهم (خَصِيماً) للبراءة أو المراد بذلك أمّته صلىاللهعليهوآلهوسلم كما قاله في مجمع البيان ، أو المراد لا تبادر بالخصام
والدفاع عن أحد الخصمين الّا بعد ان تبيّن وجه الحقّ فيه.
السادسة ـ
(فَإِنْ جاؤُكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الظاهر من أكثر التّفاسير أنّ الآية نزلت في اليهود
الّذين تحاكموا إلى النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقيل : انّها
في بني قريظة وبنى النّضير لمّا تحاكموا اليه ومقتضى الآية تخيير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن يقوم مقامه من الأئمة حتى العلماء إذا تحاكم إليهم
أهل الكتاب بين أن يحكموا بينهم بالعدل الذي هو مقتضى شرع الإسلام وبين أن يعرضوا
عنهم ويحيلوهم على شرعهم ان كان في شرعهم حكم ، وعلى هذا أصحابنا الإماميّة
ووافقهم الشّافعية.
وأوجب الحنفيّة
انّهم إذا احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام واختاره القاضي في تفسيره قال :
لأنّا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم ثم قال : والآية ليست في أهل الذمّة ولا
يخفى ما فيه من مخالفة المفسّرين في ذلك لحكمهم بأنّها في أهل الذّمّة ويؤيّده
السّابق عليها واللّاحق لها فإنّها بيان لأحوالهم ودفع الظّلم عنهم لا تعين الحكم
عليهم فانّ دفع الظّلم واجب سواء التزمنا الذّب أو لا عن المسلم والكافر إذ الظلم
قبيح ودفعه مهما أمكن واجب.
وحيث بيّنا أنّ
أصحابنا على التّخيير بين الأمرين ورواياتهم عن أئمّتهم متظافرة بذلك اندفع ما ذهب
اليه بعضهم من انّها منسوخة بقوله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) لانّ ذلك لا ينافي التخيير إذ على تقدير اختيار الحكم
بينهم بمقتضى شرعنا يجب
ذلك قطعا كما دلّ عليه قوله :
(وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) اى العدل الّذي أمر الله به ، على أنّا نقول : التّخيير
بين الحكم والاعراض ممّا انزل الله فالحاكم بكلّ من الأمرين حاكم بما انزل الله
فتأمّل.
السابعة ـ
(وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي) اى لا تستبدلوا بها (ثَمَناً قَلِيلاً) تقييده بالقلّة لا يدلّ على انّه إذا كان كثيرا يجوز
شراؤه به لانّ المقصود منه أنّ اىّ شيء باعوا به آيات الله كان قليلا وانّه لا
يجوز أن يساويه فانّ كلما في الدّنيا قليل بالنّسبة إلى الآخرة : قال في مجمع
البيان : وفي هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرّشا في الدّين لانه لا يخلو امّا
أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره فالأخذ على كلا الوجهين حرام ثم قال :
وهذا الخطاب متوجّه أيضا الى علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدّنيا على
الدّين فيدخل فيه الشهادات والقضايا والفتاوى وغير ذلك.
الثامنة ـ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) اى الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه. (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في ذلك أيضا لأنّ طاعته طاعته ومن يطع الرّسول فقد أطاع
الله وأفراده بالطّاعة تفخيما لشأنه.
(وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) قيل هم العلماء المجتهدون وقيل : أمراء المسلمين الحكام
عليهم وان كانوا جائرين وهذا هو المشهور بين العامّة فهم يوجبون طاعة حكام الجور
وان كانوا فسّاقا وهذا القول واضح الفساد وكيف يأمر الله بطاعة ظالم ويقرنه مع
نفسه ورسوله في الإطاعة مع انّه نهى على الإطلاق عن ادنى ميل اليه بقوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).
قال في الكشاف
: المراد بأولى الأمر منكم أمراء الحقّ لأنّ أمراء الجور الله ورسوله منهم بريئان
فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطّاعة لهم وانّما يجمع
بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحقّ
والأمر بهما والنهي عن أضدادهما. وقال عند قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ما يدل على منع أبي حنيفة من قبول الدّعوة من حكام
الجور ولو على أمر مشروع.
وممّا ينبّه
على فساد ذلك أنّ حكام الجور كثيرون فقد يختلفون فلا يعلم متابعة أيّهم تجب ،
ولانّه يجب على الرّعيّة منعهم إذا ارتكبوا منكرا وتركوا معروفا من باب الحسبة
فكيف تجب إطاعتهم.
ولو قيل :
انّما تجب إطاعتهم لو أمروا بالعدل وكانوا على الحقّ لا مطلقا لقلنا : ظاهر انّه
تعالى لا يأمر بإطاعة من يكون جائرا على غير الحقّ وان كان ما يأمر به في مادّة
خاصّة موافق للحق والعدل لعدم وقع من هذا حاله في النّفوس حتّى ينقاد إلى أمره وهو
ممّا ينافي الحكمة من الأمر بالاتباع ولأنّه إذا كان المأمور به حقّا فلا خصوصيّة
له بهم بل هو واجب في نفسه.
والّذي رواه
أصحابنا عن الباقر والصّادق عليهماالسلام انّ المراد بأولى الأمر هنا هم الأئمّة من آل محمّد عليهمالسلام أوجب الله طاعتهم على الإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله
وهذا هو المناسب لحكمته تعالى فإنه لا يجوز أن يوجب طاعة أحد على الإطلاق الّا من
ثبت عصمته وعلم أنّ باطنه كظاهره وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح وذلك لا يحصل في
الأمراء ولا في العلماء سواهم عليهمالسلام جلّ تعالى أن يأمر بطاعة من يعصيه.
ويدلّ على ذلك
انّه تعالى لم يقرن طاعة اولى الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته الا
وأولوا الأمر فوق الخلق جميعا كما أنّ الرّسول فوق اولى الأمر وفوق سائر الخلق
وهذه صفة أئمّة الهدى من آل محمّد صلوات الله عليهم الّذين ثبتت إمامتهم وأمانتهم
وعصمتها واتّفقت الأمّة على علوّ مرتبتهم.
(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ) فان اختلفتم في شيء من أمور دينكم (فَرُدُّوهُ) اى المتنازع فيه (إِلَى اللهِ
وَالرَّسُولِ) والمخاطب بهذا الخطاب هو المخاطب بالإطاعة أعنى
الرّعيّة كما يقتضيه نظم الكلام ولعلّ عدم ذكر اولى الأمر هنا نظرا الى أنّ الرّدّ
إليهم في الحقيقة
هو الرّدّ الى الله وإلى الرّسول لأنّهم يقومون مقام الرّسول وهم الحافظون
لشريعته وخلفائه في أمّته فجروا مجراه فيه.
وينبّه على ذلك
ما رواه الكليني عن بريد العجلي عن الباقر عليهالسلام (الى ان قال) : ثمّ قال للنّاس (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) إيّانا عنى خاصّة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة
بطاعتنا فان خفتم تنازعا في أمر فردّوه الى الله والى الرّسول والى ولاة الأمر
منكم كذا نزلت وكيف يأمرهم الله بطاعة اولى الأمر ويرخّص في منازعتهم انّما قيل
ذلك للمأمورين الّذين قيل لهم : أطيعوا الرّسول وأولى الأمر منكم. ونحوها من
الاخبار.
ثمّ إنّه تعالى
أكّد ذلك بقوله (إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لدلالته على أنّ عدم الرّدّ إليهم يخرج عن الايمان.
(ذلِكَ) إشارة إلى طاعة الله ورسوله واولى الأمر والرّدّ الى
الله والرّسول (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً)» أي أحمد عاقبة من آل يؤول إذا رجع والمآل المرجع
والعاقبة سمّى تأويلا لانّه مآل الأمر وقبل : معناه أحسن من تأويلكم أنتم من غير
ردّ الى الكتاب والسّنّة لأنّ الردّ الى الله والرّسول ومن يقوم مقامهما أحسن لا
محالة من تأويل بغير حجّة.
قال في مجمع
البيان : واستدلّ بعضهم بقوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ). الآية» على أنّ إجماع الأمّة حجّة بان قالوا : انّما
أوجب تعالى الردّ الى الكتاب والسنّة بشرط وجود التّنازع فدلّ على انّه إذا لم
يوجد التّنازع لا يجب الرّدّ ولا يكون كذلك الّا والإجماع حجّة.
ثمّ قال : وهذا
الاستدلال انّما يصحّ لو فرض انّ في الأمّة معصوما حافظا للشّرع وامّا إذا لم يفرض
ذلك فلا يصحّ لانّ تعليق الحكم بشرط أو صفة لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه عند
أكثر العلماء فكيف اعتمدوا عليه ههنا على أنّ الأمّة لا تجتمع
على شيء إلّا عن كتاب أو سنّة فكيف يقال : انّها إذا اجتمعت على شيء لا يجب
عليها الرّد الى الكتاب والسنّة وقد ردت إليهما.
قلت : في كلا
الوجهين بعد إذ يجوز أن يكون المستدلّ بها من يقول بحجيّة مفهوم الشّرط ومن عداه
يستدلّ بغيرها على حجيّة الإجماع ، وبانّ الظّاهر من الرّدّ إليهما الرّدّ الى
صريحهما ومع الاتّفاق يكفي في صحّة ما أجمعوا عليه الاستنباط عنهما كما يقوله
المخالف.
والحقّ أنّ هذا
الشّرط لا عبرة بمفهومه فانّ الردّ الى الله والرّسول عندنا ثابت في جميع الاحكام
اختلف فيها أو اتّفق خصوصا بعد ما ثبت بالأدلّة القطعيّة أنّ حجيّة الإجماع لدخول
المعصوم الّذي يمتنع عليه الخطا وما بينّاه من أنّ الرّدّ الى الله والرّسول
الرّدّ الى اولي الأمر فتأمّل.
والمذكور في
التّفسير الكبير للرّازى : «أنّ قوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ) إلخ إشارة إلى الحكم بالقياس وتكون الإشارة إلى الإجماع
حاصلة من قوله : واولى الأمر منكم.
قال : فحاصل
الآية الخطاب لجميع المكلّفين بطاعة الله تعالى ثم لمن عدا الرّسول بطاعة الرّسول
ثمّ لما سوى أهل الحلّ والعقد بطاعتهم ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها ان
وقع اختلاف واشتباه بين النّاس في حكم واقعة أن يستخرجوا لها وجها من نظائرها
وأشباهها» انتهى ولا يخفى بعده فانّ القياس ممّا وقع النّهى عن اتباعه في كلام
الله والرّسول على ما ثبت في محلّه فكيف يكون مأمورا بالرّجوع اليه.
ثمّ أكّد ما
تقدّم بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ) من التّوراة والإنجيل (يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) قيل : هو كعب بن الأشرف ، وقيل : هو كاهن من جهينة أراد
المنافق أن يتحاكم إليه ، والمروي عن أئمّتنا عليهمالسلام ان المعنىّ به كلّ من يتحاكم اليه ممّن يحكم بغير
الحقّ. وأصل الطّاغوت طغيوت قدّمت الياء على العين
وقلبت وهو من صيغ المبالغة في الطغيان ويطلق على الواحد والجمع كقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ).
(وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ) لقوله (فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) والمراد أنّ من هذا حاله فهو يزعم الايمان وليس بمؤمن
لقولهم : زعموا مطيّة الكذب.
ففيها دلالة
على أنّ بين الايمان وارادة التّحاكم الى الطّاغوت كمال المنافاة والبعد يمتنع
اجتماعهما في شخص واحد. وفي أخبار أئمّتنا عليهمالسلام : انّ إرادة التّحاكم إلى حكّام الجور داخلة في الآية.
روى أبو بصير
عن الصّادق عليهالسلام قال : أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ
فدعاه الى رجل من اخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى الّا ان يرافعه إلى هؤلاء كان
بمنزلة الّذين قال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ). الآية.
وروى أبو بصير
عنه عليهالسلام في حديث قال فيه : لو كان على رجل حقّ فدعوته الى حكام
أهل العدل فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له لكان ممّن حاكم
الى الطّاغوت وهو قول الله عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية.
وفي رواية عمر
بن حنظلة قال : سألت الصّادق عليهالسلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو
ميراث فتحاكما الى السّلطان أو الى القضاة أيحلّ ذلك؟ فقال : من تحاكم الى
الطّاغوت فحكم له به فإنّما يأخذ سحتا وان كان حقه ثابتا لأنّه أخذ بحكم الطّاغوت
وقد أمر أن يكفر به الحديث.
ثمّ انّ
الظّاهر من الآية أنّ ارادة التّحاكم الى الطّاغوت حرام بل كفر وبانضمام الرّوايات
يظهر أنّ التّحاكم إلى حكام الجور كذلك وإن كان حقّا ثابتا في نفس الأمر كما يعطيه
صريح الرّواية الأخيرة ويظهر من أبى الصّلاح القول بذلك فإنّه منع من التّوصل بحكم
المخالف للحقّ إلى الحقّ إذا كان الغريمان
من أهل الحق والأكثر من الأصحاب على الجواز.
واستدلّ لهم
العلّامة في المختلف بأنّ للإنسان أن يأخذ حقّه كيف أمكن ، وبأنّه كما جاز
التّرافع مع المخالف الى المخالف توصّلا الى استيفاء الحقّ فليجز مع المؤمن
الظّالم لمنع الحقّ ، وفيه نظر فانّا لا نسلّم أنّ لكلّ ذي حقّ أخذ حقّه كيف أمكن
والّا لانتفت فايدة التّحاكم إلى الحقّ ونصب الحاكم الّا أن يخصّ ذلك في حال عدم
الحاكم بالحقّ واستلزام التّرك فوته فيجوز لمكان التّعذّر وثبوت الحقّ فيما بينه
وبين الله. وبالجملة فظاهر الآية بانضمام الرّوايات يقتضي الاحتياط التّام في أخذ
الحقّ.
(وَيُرِيدُ
الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ) بما زيّن لهم من ارادة التّحاكم الى الطّاغوت (ضَلالاً بَعِيداً) وفيه إشارة الى أنّ ارادة ذلك ارادة من الشّيطان أن
يضلّهم عن الحقّ والهدى.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في القرآن من الأحكام فاعملوا بها (وَإِلَى الرَّسُولِ) لتنظروا حكمه وتتّبعونه (رَأَيْتَ
الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) اى يعرضون عن المصير إليك وعن العمل بالأحكام المنزلة
إلى غيره ممّا هو موافق لطبعهم ورأيهم.
(فَكَيْفَ إِذا
أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) اى كيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا نالتهم من الله
نكبة وعقوبة (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) أي من إرادة التّحاكم الى الطّاغوت وإظهار السّخط وعدم
الرّضا بحكمك بينهم بالحقّ (ثُمَّ جاؤُكَ
يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً).
اى يعتذرون
إليك ويقسمون انّهم لم يريدوا بالتحاكم الى الطّاغوت الّا التّخفيف عنك ويقولون :
انّا نحشمك برفع الصّوت في مجلسك والخصومة عنده والّا التّوفيق بين الخصمين
بالتماس واسطة يصلح بيننا من دون الحمل على الحكم المرّ.
قيل : إنّ
المعنىّ بالآية عبد الله بن أبىّ والمصيبة ما أصابها من الذلّ حال
رجوعهم من غزوة بني المصطلق حتّى نزلت سورة المنافقين واضطرّ الى الخشوع
والاعتذار كما يعلم من تفسير هذه الآية من مجمع البيان ، أو مصيبة الموت لما تضرّع
الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتّقى به النّار.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النّفاق والشرك (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تعاتبهم على ذلك (وَعِظْهُمْ) خوّفهم من العقوبات ووعدهم؟؟؟ بالثّواب إن رجعوا
وتابوا.
(وَقُلْ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ) يحتمل أن يتعلّق بقوله (قَوْلاً بَلِيغاً) اى قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثّرا في قلوبهم
يغتمون به ويستشعرون عنه الخوف. وما يقال : إنّ معمول الصّفة لا يتقدّم على
الموصوف فهو في غير الظّرف لتوسّعهم فيه.
ويحتمل أن يكون
متعلّقة بلهم والمعنى قل لهم في أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطويّة على النّفاق قولا
بليغا تبلغ بهم المراد بانّ الله يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه فلا يفيدكم
ابطانه وأصلحوا أنفسكم وطهّروا قلوبكم والّا نزل بكم النّقمة كما نزلت بالمجاهرين
أو انّ المعنى قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم سارّا لهم في النصيحة
لأنّها في السرّ أنجع والّا مخاض أدخل.
وفيها إشعار
بأنّ سبب نزول المصائب الذّنوب والحثّ على استعمال حسن الخلق بين النّاس والملايمة
معهم وعدم الخشونة والغلظة في الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ولو كان المقول له
كافرا وناهيك بقوله تعالى لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً).
التاسعة ـ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الفسوق الخروج عن الطّاعة ولعلّ المراد هنا ما يخرج به
صاحبه عن العدالة فيكون المراد به الكبيرة ، والنّبإ الخبر وتنكيرهما يدلّ على
ارادة العموم في كلا الموضعين والمعنى إذا جاءكم أىّ فاسق كان بأيّ خبر كان.
(فَتَبَيَّنُوا) اى تعرّفوا وتفحّصوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحق
ولا تعتمدوا قول الفاسق لانّ من لا يتحاشى جنس الفسوق لا يتحاشى الكذب الّذي هو
نوع منه.
(أَنْ تُصِيبُوا) كراهة أصابتكم (قَوْماً بِجَهالَةٍ) اى جاهلين بحالهم (فَتُصْبِحُوا) فتصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ
نادِمِينَ) مغتمّين غمّا لازما متمنّين انّه لم يقع.
قال البيضاوي :
وتعليق الأمر بالتبيين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول قول العدل من حيث أنّ
المعلّق على شيء بكلمة ان عدم عند عدمه وانّ خبر الواحد لو وجب تبيّنه من حيث هو
كذلك لما ترتّب على الفسق إذ التّرتّب يفيد العلّيّة.
ولا يذهب عليك
أنّ ما ذكره يقتضي قبول خبر مجهول الحال فلا وجه لتقييد القبول بالعدل والأولى في
بيانها انّ الفسق مانع القبول وعدمه شرط فيه فما لم يعلم رفع المانع وتحقّق وجود
الشّرط لا يعمل فيخرج خبر المجهول.
وما يقال : انّ
الأصل عدم الفسق وظاهر حال المسلم ذلك ومن ثمّ ذهب جماعة الى أنّ المسلم محمول على
العدالة ما لم يظهر فسقه مدفوع بأنّه معارض بأصالة عدم فعل الطّاعات والواقع مثله
كثير فلا وجه للحمل عليه ويلزم منه عدم الاعتماد فتأمّل.
وفي الآية
دلالة على اعتبار العدالة في جميع ما يتعلّق بالأمور الشّرعيّة من الحكم والإفتاء
والقدوة في الصّلاة ونحو ذلك ممّا فيه اعتماد على الغير باخباره ومن ثمّ اعتبر
أصحابنا في الأجير للعبادة العدالة لا لانّ عبادته غير صحيحة في نفس الأمر بل لعدم
قبول قوله في إيقاعها كما يعلم من محلّها.
العاشرة ـ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) اى دائمين على القيام بالعدل والمراد : لتكن عادتكم
القيام بالعدل في القول والفعل.
(شُهَداءَ لِلَّهِ) تقيمون شهاداتكم لوجه الله وطلبا لمرضاته غير ناظرين في
ذلك أحدا سواه وهو خبر ثان أو حال عن اسم كان (وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ) بأن تقرّوا عليها وذلك لانّ الشّهادة بيان الحقّ سواء
كان على الشّاهد أو على غيره.
(أَوِ الْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ) اى ولو كانت عليهم (إِنْ يَكُنْ) المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) اى لا تمتنعوا عن الشّهادة لكون المشهود عليه غنيّا
طلبا لرضاه أو فقيرا للترحّم عليه فانّ الله أولى بالغنىّ والفقير وبالنّظر في
أمورهما ومعاشهما فلو لم تكن الشّهادة صلاحا لهما لما شرعها لانّه أنظر لعباده من
كلّ ناظر وأشفق عليهم من كلّ مشفق.
فهو علّة
الجواب أقيمت مقامه وضمير المثنّى راجع الى ما دلّ عليه المذكور وهو جنسا الغنى
والفقير لا إلى أحدهما ولا لواحد ، امّا جعل ضمير يكن راجعا الى كلّ واحد من
المشهود عليه والمشهود له كما صرّح به البيضاوي فغير واضح الوجه إذ لم يتقدّم ذكر
المشهود له ودلالة السّوق على خلافه فتأمّل.
وفي الآية
دلالة على جواز شهادة الولد على والده كما ذهب اليه بعض أصحابنا وهو صريح بعض
أخبارنا ولكنّ الأكثر على العدم حتّى ادّعى الشّيخ في الخلاف عليه إجماع الطّائفة
واحتجّ لهم العلّامة بأنّ الشّهادة عليه نوع عقوق وهو حرام بقوله تعالى (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) وليس من المعروف الشّهادة عليه والردّ لقوله وإظهار
تكذيبه.
وفيه نظر امّا
الإجماع فلا نعرفه الّا من دعوى الشّيخ وهو حجّة على من عرفه كما قاله في الدّروس
، وكون ذلك عقوقا ممنوع ، ولا نسلّم أنّ الشهادة عليه تنافي المصاحبة بالمعروف بل
تؤكّدها إذ خلافها ليس معروفا كما هو الظّاهر ممّا نحن فيه.
وفيها أيضا
دلالة على قبول شهادة العبد على سيّده كما هو الظّاهر من بعض الأصحاب والأكثر على
المنع من ذلك وان جازت على غيره نظرا الى ظاهر
بعض الأخبار مع انّه معارض بمثله وهو يوجب سلامة ظاهر الآية فيعمل بعمومها.
فلا يقال :
يجوز أن تجب الإقامة وان لم يجب على الحاكم قبولها ان عرض عارض يمنع من قبولها كما
يجب ردّ شهادة كثير من النّاس وان لم يسقط عنهم إقامتها لأنّا نقول : الردّ انّما
يكون لمعارض خارج بخلاف ما نحن فيه. ثمّ أكّد وجوب الإقامة بقوله :
(فَلا تَتَّبِعُوا
الْهَوى) يعنى هوى أنفسكم في إقامة الشّهادة فتشهدوا على الغنىّ
دون الفقير ملاحظة مصالحكم (أَنْ تَعْدِلُوا) يحتمل كلا من العدل والعدول فكأنّه قيل : لا تتّبعوا
الهوى كراهة أن تعدلوا بين النّاس أو إرادة أن تعدلوا عن الحقّ.
(وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم عن شهادة الحقّ وتبدّلوها (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها وتكتموها وهو المرويّ عن أبى جعفر عليهالسلام وقيل : انّه للحكام اى وإن تلووا في الحكم لأحد الخصمين
على الآخر أو تعرضوا عن أحدهما إلى الآخر (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم على ما يصدر منكم من الأفعال الّتي نهاكم عنها
كالتّحريف والاعراض.
وفيها دلالة
على تحريم كتمان الشّهادة وتغييرها عمّا هي عليه. وقد روى ابن عبّاس في معنى قوله (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) أنّهما الرّجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ
القاضي وإعراضه لأحدهما ، كذا في مجمع البيان وهو قريب من القول الثّاني.
الحادية عشر :
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) اى كتم شهادة الله الّتي عنده انّه شهد بها وهي شهادته
لإبراهيم عليهالسلام بالحنيفيّة والإسلام وأنه ما كان على اليهوديّة والنصرانيّة
حيث ادّعوا انّه كان على أحدهما ، والمعنى لا أحد أظلم من هذا حيث انّه كتم شهادة
يعلم بها ، ويحتمل أن يتعلّق من الله بكتم اى كتمها من الله
فلا تبذلها عند الطّلب كأنّه يريد إخفاءها منه تعالى فكأنّه لا يعلم انّ
الله يعلمها والّا لم يكن للكتمان وجه.
أو المراد
كتمها من عباد الله على حذف المضاف ويحتمل أن يكون صفة أخرى لشهادة والسّبب وان
كان خاصّا على ما عرفت الّا أنّ العبرة بعموم اللّفظ فيمكن الاستدلال بها على
تحريم كتمان الشّهادة مطلقا كما يمكن الاستدلال بها على تحريم كتمان الحكم
والإفتاء ممّن له أهليّة ذلك ولا مانع له بقوله.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) نزلت في أحبار اليهود والنّصارى الّذين كتموا أمر محمّد
صلىاللهعليهوآله ونبوّته وهم يجدونه مكتوبا في التّوراة والإنجيل مبيّنا
فيهما فقيل ، هم المراد وقيل : انّه متناول لكلّ من كتم ما انزل الله وهو الأقوى
لأنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب.
(مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) اى الكتب المنزلة من عند الله اىّ كتاب كان وقيل هو
التّوراة وقيل هو القرآن.
(أُولئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يبعّدهم من رحمته بإيجاب العقوبة عليهم (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) اى من يأتي منه اللّعن والمراد انّه يدعوا عليهم بالبعد
عن رحمة الله واللّاعنون هم المسلمون أنسا وجنّا أو الكفّار أيضا باعتبار لعنهم
ذلك الشّخص في الآخرة كما ورد ذلك أو البهائم أيضا بأن يلهمهم الله الدّعاء عليهم
باللّعنة بل كلّ مخلوق على ما قيل.
قال في مجمع
البيان : وفي هذه الآية دلالة على أن كتمان الحقّ مع الحاجة الى إظهاره من الكبائر
ويدخل في ذلك تحريم كتمان شيء من علوم الدّين أيضا وأنّه بمثابتهم في عظم الجرم
ويلزمه كما لزمهم من الوعيد.
وقد روى عن
النّبيّ صلىاللهعليهوآله انّه قال : من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة
بلجام من نار. ثمّ قال أيضا : وفيها دلالة على وجوب الدّعاء الى التّوحيد والعدل
لأنّ في كتاب الله ما يدلّ عليهما تأكيدا لما في العقول من الأدلّة.
قلت : على هذا
يمكن الاستدلال بها على تحريم كتمان الشّهادة بل على تحريم ترك الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر مع الشّرائط لأنّ في كتاب الله ما يدلّ على ذلك. ولا يبعد
الاستدلال بها على جواز لعن من يصدق عليه أحد الأمور المذكورة الموجبة بكتمان
الحقّ لأنّ الله تعالى قد لعنه وأخبر باستحقاقه اللّعن من النّاس وغيرهم.
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوه بالكتمان أو أخلصوا واستمرّوا على التّوبة ،
أو ضموا العمل الصّالح إليها على ما تقدّم (وَبَيَّنُوا) أظهروا التّوبة ليعلم أنّهم تائبون ويعلم النّاس انّ ما
فعلوه كان قبيحا ومن ثمّ قيل : من ارتكب المعصية سرّا كفاه التّوبة سرّا ومن أظهر
المعصية يجب عليه أن يظهر التّوبة ، أو المراد بيّنوا التّوبة بإخلاص العمل.
ولا يبعد أن
يكون أصلحوا وبيّنوا وأمثال ذلك ممّا وقع في القرآن بعد التّوبة إشارة إلى كمال
التّوبة بالنّدم الى جميع المعاصي والعزم على تركها فيتخلّص من حقوق الله بالتّوبة
ومن حقوق النّاس بإبراء الذّمّة من كلّ حقّ يحتاج إلى الإبراء.
(فَأُولئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ) أقبل توبتهم والأصل في أتوب أفعل التّوبة فإذا وصل بعلى
دلّ على انّ معناه قبولها.
(وَأَنَا التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ) صيغة المبالغة إمّا لكثرة ما يقبل التّوبة وامّا لانّه
لا يردّ تائبا منيبا أصلا ، وفي وصفه بالرّحيم بعد وصفه بالتوّاب دلالة على انّه
تعالى يسقط العقاب عند التّوبة تفضّلا منه ورحمة من جانبه كما ذهب إليه أصحابنا
الإماميّة لا انّه واجب عليه عقلا كما ذهب إليه المعتزلة وقد وقع الإجماع منّا
ومنهم على قبول التّوبة منه تعالى وإسقاط العقاب عندها وهو الظّاهر من الآيات وان
اختلف في كون الاسقاط بالوجوب أو التّفضّل.
قال في مجمع
البيان عند قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ).
الآية» : «اعلم أنّ من شرط التّوبة النّدم على ما مضى من القبيح والعزم على
ان لا يعود الى مثله في القبح فانّ هذه التّوبة أجمع المسلمون على سقوطه عندها.
ثمّ قال : وقبول التّوبة وإسقاط العقاب عندها تفضّل من الله غير واجب عليه عندنا
وعند جميع المعتزلة واجب وقد وعد الله بذلك وان كان تفضّلا وعلمنا انّه لا يخلف
الميعاد».
ولا يذهب عليك
أنّ آخر كلامه يدلّ على أنّ سقوط العقاب عندها واجب سمعا وهو كذلك لأنّه تعالى
وعده فيجب الوفاء به وهذا لا ينافي قول المحقّق الطّوسي في التّجريد بعدم وجوب
سقوط الذّنب عند التّوبة لأنّ مراده بعدم الوجوب عدم الوجوب عقلا فلا ينافيه
الوجوب السّمعيّ.
لا يقال : قوله
تعالى في سورة براءة (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) الآية» صريح في عدم وجوب القبول سمعا فكيف دعوى الإجماع
عليه.
لأنّا نقول :
ليس في الآية تصريح بانّ ذلك مع التّوبة بل الظّاهر منها انّه تعالى يعفو الذّنب
ممّن يشاء إذا لم تصدر منه التّوبة كقوله تعالى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فلا ينافي وجوب السّقوط عندها من جهة النّقل. امّا
التّوبة عن قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه فقد نسب في مجمع
البيان صحّتها الى أكثر المتكلّمين وعدم الصحّة الى أبي هاشم وأصحابه.
ويدلّ على
الأوّل : أنّ التّوبة إذا كانت عبارة عن النّدم على القبيح والعزم على عدم العود
اليه فيجوز أن يقع ذلك في الكلّ والبعض ودليل القبول كما يجري في الكل يجري في
البعض أيضا.
وما يقال : إنّ
شرط التّوبة النّدم على القبيح والعزم على عدم العود اليه لكونه قبيحا وذلك انّما
يتأتّى مع ترك الجميع ولا يتحقّق عن البعض دون البعض فمدفوع بأنّه على تقدير تسليم
الشّرطيّة لا منافاة بين كون القبيح سببا للتّرك والنّدامة عن البعض دون البعض ألا
ترى انّ الواجبات مشتركة في الحسن ولا يقال لمن فعل
بعضها دون بعض انّه لم يصحّ منه فعله.
والمحقّق
الطّوسي وان حكم بعدم التّبعيض الّا انّه في آخر كلامه رجع عنه حيث قال :
والتّحقيق أنّ ترجيح الدّاعي إلى النّدم عن البعض يبعث عليه وان اشترك الدّواعي في
النّدم على القبيح لقبحه وهذا كما في الدّواعي إلى الفعل هذا.
واعتبار كون
النّدم في التّوبة عن القبيح لكونه قبيحا حتّى لو كانت التّوبة لخوف العقاب وطمع
الثّواب لم يكن صحيحة بعيد فإنّها واجبة وهما يصلحان وجها للوجوب ومن ثمّ لو نوى
في الفعل الواجب القربة بهذا المعنى صحّت على المشهور وان خالف فيه جماعة ، نعم
الإخلاص في النيّة بحيث لا يكون ملحوظا فيها شيء سوى وجهه تعالى أتمّ وأحسن الّا
أنّ مثله انّما يتأتّى من أصحاب النّفوس القدسيّة وقد أشرنا إلى طرف من ذلك.
اللهمّ قرّبنا
من رحمتك وباعد بيننا وبين معصيتك وعاملنا في أفعالنا بالحسنى وضاعف ثوابنا في
الآخرة بما هو أجلّ وأسنى واجعل ما أثبتنا في هذه الأوراق حجّة لنا يوم نلقاك
وذريعة في الوصول الى تحصيل رضاك [انك ذو الفضل القديم والمن العظم] آمين.
تم الكتاب
والحمد لله
فهرس
الجزء الرابع من
مسالك الافهام
روافع النكاح
الأول
الطلاق.................................................................... ٢
بحث في الطلاق في الحيض (في التعليقة)...................................... ٢٨
ـ ١٠
في العدة وأحكامها.............................................................. ٤٣
في الطلاق الثالث والمحلل........................................................ ٧٥
الثاني الخلع.................................................................... ٨٦
الثالث الظهار.................................................................. ٩٣
الرابع الايلاء................................................................. ١٠٧
الخامس اللعان................................................................ ١١٢
السادس الارتداد.............................................................. ١٢٥
كتاب
المطاعم والمشارب
في أصل الإباحة.............................................................. ١٢٦
ما فيه دلاله على تحريم بعض الأشياء............................................ ١٣٨
في أشياء من المباحات......................................................... ١٤٦
كتاب
المواريث
ميراث الموالي.................................................................. ١٦٢
التعصيب.................................................................... ١٦٤
الحجب...................................................................... ١٧٠
تقدم الوصية على الدين....................................................... ١٧٣
بطلان العول والتعصيب....................................................... ١٨٣
كتاب
الحدود
حدّ الزنا والمساحقة............................................................ ١٨٩
حدّ القذف.................................................................. ١٩٧
حدّ السرقه................................................................... ٢٠٣
حدّ المحارب.................................................................. ٢٠٩
كتاب
الجنايات
القصاص في القتلى والعفو...................................................... ٢١٤
كفارة القتل.................................................................. ٢٢٧
الانتصاف عند القصاص...................................................... ٢٣٣
كتاب
القضاء والشهادات
الحكم بين أهل الكتاب........................................................ ٢٣٤
اطاعة الحكام ونفوذ قضائهم.................................................... ٢٣٩
التحاكم إلى الجبت والطاغوت.................................................. ٢٤٣
رد شهادة الفاسق............................................................. ٢٤٥
اداء الشهادات بالعدل والقسط................................................. ٢٤٧
حرمة كتمان الشهادة.......................................................... ٢٤٩
كلام في قبول التوبة........................................................... ٢٥٠
|