
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كتاب المكاسب
والبحث فيه على قسمين :
(الأول)
في البحث عن الاكتساب بقول مطلق ، وفيه آيات :
الاولى (الملك ١٥) (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) ليّنة سهلة يسهل عليكم السلوك فيها (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) طرقها وفجاجها ، وهو مثل لفرط التذلّل ، فإنّ منكب
البعير أنبأ شيء عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذلّ بحيث
يمشي في مناكبها لم يبق شيء لم يتذلل. وقيل أراد بمناكبها جبالها ، وهو بالغ في
التذلل أيضا ، فإن الجبال أصعب ما في الأرض.
(وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ) والتمسوا من نعم الله التي خلقها لكم ، وصورته صورة
الأمر ، والمراد به الإباحة والاذن في أن يأكلوا مما خلقه الله لهم وجعله رزقا لهم
على الوجه الذي أباحهم إياه. وفي الآية دلالة على اباحة طلب الرزق بجميع ما يمكن
من أنواع التكسب بعد أن يكون حلالا.
(وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ) أي نشوركم ، فيسائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم ويجازي
كل أحد بحسب عمله ، وفي ذلك ترهيب وترغيب.
الثانية : (الحجر ٢١) (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا
لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها) أي بسطناها وجعلنا لها طولا وعرضا (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) جبالا ثابتة ترسيها أي تسكنها لئلا تميد وتتحرك
وتستقروا عليها ، من أرسيت السفينة إذا حبستها بالمرساة. [وعن ابن عباس لمّا بسط
الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال كيلا
تميل بأهلها].
(وَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض أو في الجبال (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ) مقدّر بمقدار معين معلوم تقتضيه الحكمة ، أو كل شيء موزون في العادة كالذهب
والفضة والنحاس ونحوها ، أو المراد كل شيء مستحسن متناسب ، من قولهم «كلام موزون» و«أفعال
موزونة».
(وَجَعَلْنا لَكُمْ
فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة ، وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة أو المراد
أنه جعل لكم فيها ما تعيشون به من الزرع والنبات والثمار والمطاعم والمشارب
والملابس ، بل سائر ما يوجد في العالم مما يقوم به معيشتكم. فعلى الأول بمعنى
المصدر ، وعلى الثاني بمعنى الحاصل به.
(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرازِقِينَ) عطف على محل لكم ، وهو النصب على أنه مفعول به لجعلنا ،
أو عطف على معايش. ويحتمل عطفه على الضمير المجرور ، أي جعلنا لكم ولمن لستم له
برازقه معايش في الأرض ، وحكاية العطف على الضمير المجرور بدون اعادة الجار قد
تقدمت .
__________________
وكيف كان
فالمراد به العيال والخدم والمماليك ، بل الدواب وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم ظنا
كاذبا ، فان الله يرزقهم وإياكم ، فظنكم انكم ترزقونهم باطل فاسد. وقد جرى ذلك
بناء على ظاهر حال بعض الجهلة الذين يظنون ذلك ، بل يظهرونه ويمنون على هؤلاء
ويقولون لو لم نكن لما قدرتم على المعيشة. ففيه تقريع لهم ودليل على تخطئتهم في
ذلك القول واشارة إلى أنه لا وجه للمنة ولا لتوقع المكافاة والإحسان في مقابلة ذلك
الرزق ، فإنه من الله تعالى وله المنة في الجميع.
وقد أشير إلى
ذلك في بعض الأخبار الواردة عنهم عليهمالسلام حيث قال لبعض أصحابه لما ذكر أنه يدخل عليه الضيفان
والاخوان ويطعمهم «إن المنّة لهم عليك». قال : كيف ذلك وإنما أطعمهم من مالي ولهم
المنة علي؟ قال عليهالسلام : نعم لأنهم يأكلون رزق الله الذي رزقهم ويحصّلون لك
الثواب والأجر.
ولا يرد أن مثل
العبيد والإماء والعيال داخلون في «لكم» ، لظهور أن المراد به جميع أفراد نوع
الإنسان ، لأنه لما كان المراد دخول الدواب معهم وكان إطلاق «من» على غير ذوي
العقول لا يحسن الا مع ارادة التغليب أطلق كذلك. ولا يبعد أن تكون الفائدة في
ذكرهم مرة في ضمن المجموع ومرة على الخصوص لزيادة الاعتناء في رد ذلك الزعم الباطل
ـ فتأمل.
وفي الآية
دلالة على أن اباحة السكون في جميع أجزاء الأرض والانتفاع فيها بجميع ما يمكن من
أقسام الانتفاع والتصرف بكل ما يمكن من أنواع التصرف وعلى اباحة جميع ما في الأرض
من النبات وغيرها وأنها مخلوقة لانتفاع الإنسان ، فيباح له التصرف فيها بأي وجه
أراد الّا أن يدل الدليل على المنع من التصرف في بعض قطع الأرض أو في بعض النبات
أو يمنع من استعماله ، كتحريم تناول السموم المخلوقة لغرض آخر ، لما فيه من الضرر
بالنفس ، وهو حرام قطعا.
__________________
وبالجملة مقتضى
الآية الإباحة في جميع ما ذكر وان خلافها يتوقف على الدليل وقد ورد بتفاصيل المنع
أدلة يعلم تفاصيلها من محلها.
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي وما من شيء ينتفع به العباد الا ونحن قادرون على
إيجاده وتكوين أضعاف ما وجد منه [لأن مقدوراته تعالى غير متناهية لكن الذي يخرج
منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهيا] فالكلام على التجوز إما على تشبيه اقتداره
على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، وإما على تشبيه مقدوراته
بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إلى كلفة واجتهاد.
(وَما نُنَزِّلُهُ) من بقاع القدرة (إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ) نعلم أنه مصلحة ، فإنّ تخصيص بعض الاقدار بالإيجاد لا
بد له من مخصص حكيم عارف بالمصالح.
وفي الحديث
القدسي «ان من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ، وان من عبادي من
لا يصلحه الا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك».
وفيها أيضا
دلالة على أن المخلوقات في الأرض مباحة للإنسان ، وهو في الأصل أيضا كذلك ، فقد
تطابق العقل والنقل عليه.
الثالثة : (البقرة ١٦٨) (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ).
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) يمكن أن يراد الأكل بخصوصه ، وان يراد جميع التصرفات ،
وتخصيص الأكل لكونه الغرض الأصلي من التصرف.
(حَلالاً طَيِّباً) حالان عن المجرور ، أو أن يكون الأول مفعولا مطلقا أو
مفعولا به والثاني صفته.
[والحلال
المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه ، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. والطيب
بمعنى الطاهر ، وبمعنى ما يستلذ به ويستطاب. والحلال يوصف بالطيب ، كما أن الحرام
يوصف بالخبيث].
__________________
وفي الآية
دلالة على إباحة أكل كل ما في الأرض لكل أحد حتى الكفار ، فان الخطاب لجميع أفراد
الإنسان ، والأمر للإباحة بالمعنى الأعم الشامل للواجب والندب والمكروه والمباح أي
لا يحرم عليكم الأكل من جميع ما تخرجه الأرض من الأرزاق التي يمكن أكلها إذا كانت
مباحة طاهرة أو لذيذة يستطيبها الشرع أو الشهوة المستقيمة وعلى هذا فيندرج وجوب
الأكل في بعض المواد منها.
وقد قيل ان سبب
نزولها قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس.
وفي مجمع
البيان نقلا عن ابن عباس أنها نزلت في ثقيف وبنى عامر بن صعصعة
وبنى مدلج ، فإنهم حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام البحيرة والسائبة والوصيلة
، فنهاهم الله عن ذلك.
(وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وساوسه وخواطره ، أو ما ينقلهم به من معصية إلى معصية ،
من خطو القدم وهو نقلها من مكان الى مكان. أو لا تتبعوا الهوى في تحريم الحلال
وتحليل الحرام [فان اتباع الهوى كذلك من تسويلات الشيطان] وعن الصادقين عليهمالسلام «ان من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذر في المعاصي وكل يمين بغير الله».
(إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة عند ذي البصيرة ، وإن كان يظهر الموالاة
لمن يغويه ، ومن ثمّ سماه وليا في قوله (أَوْلِياؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ).
وقد يستفاد من
الآية تحريم متابعة كل عدو في الدين ، حيث علل تحريم متابعة الشيطان بكونه عدوا ،
فيتحقق التحريم حيث ما ثبتت العلة. وحينئذ فيمكن القول بعدم جواز متابعة أعداء
الدين فيما لم يعلم جوازه بالدليل ، فلا يجوز الاقتداء بهم في الصلاة ولا سماع
حكمهم ولا نقل الرواية عنهم ، الى غير ذلك من الأمور التي لم يعلم جوازها إلا في
حال التقية.
الرابعة : (طه : ٨١) (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ
غَضَبِي فَقَدْ هَوى).
__________________
(كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي من حلاله أو من مستلذاته ، والأمر للإباحة لأن الله
تعالى لا يريد المباحات من الأكل والشرب في دار التكليف.
(وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) ولا تتعدوا فيه فتأكلوه على غير وجه حدّه الله لكم كالسرف والبطر والمنع عن
المستحق (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي) فيلزمكم عذابي ويجب لكم ، من حلّ الدين إذا وجب أداؤه ،
ومن قرأ بضم الحاء أراد النزول.
ثم انّه تعالى
بيّن حال من يحلل عليه غضبه بقوله (وَمَنْ يَحْلِلْ
عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) فقد تردى وهلك ، أو وقع في الهاوية ، وأصله أن يسقط من
علو إلى أسفل قال .
«هوى من رأس مرقبة
|
|
ففتت تحتها
كبده»
|
وفي الآية
دلالة على إباحة الأكل من مستلذات الأشياء التي رزقها الله لبني ـ آدم أو من
حلالها ، وعلى تحريم التعدي فيه ، بمعنى الأكل من الوجوه المحرمة أو الخبيثة أو
الأكل على غير الوجه الذي حده كالاسراف والبطر والمنع عن المستحق.
ويمكن ارادة
الجميع ، فيكون التحريم متعلقا بكل واحد من الأمرين ، فإن من كان في ماله حق
الفقراء كان لهم فيه حصة ، فيحرم عليه الأكل منه قبل دفع حصتهم إذ هو بمثابة أكل
مال الغير الذي هو التعدي والطغى. ويمكن ترك الأكل على وجه حرّمه الله الى وجه
اباحه الله واذن فيه ، وعلى وجه الطاعة أيضا ، كالاستعانة به على غيره من الطاعات.
الخامسة : (ق : ١١) (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
__________________
الْحَصِيدِ.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ).
(وَنَزَّلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) مطرا وغيثا كثير المنافع (فَأَنْبَتْنا بِهِ
جَنَّاتٍ) بساتين فيها أشجار وتحتها أنهار ولها أثمار (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) من اضافة الموصوف إلى الصفة ، أي الحب الذي من شأنه أن
يحصد ، وهو حب الشعير والبر ونحوه مما يكون كذلك.
(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي طوالا عاليا في جهة السماء ، يقال جبل باسق أي عال
أو حوامل ، من أبسقت الشاة إذا حملت ، فيكون من أفعل فهو فاعل كأينع فهو يانع ولعل
افرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافها.
(لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) منضود بعضه فوق بعض ، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر.
(رِزْقاً لِلْعِبادِ) مفعول له ، أي أنبتنا ذلك لرزقهم. ويجوز أن يكون مصدرا
لأن الإنبات رزق أيضا ، أي رزقناهم رزقا. والرزق هو ما للحي الانتفاع به على وجه
ليس لغيره منعه منه ، والحرام ليس برزق عندنا.
وفيها دلالة
على اباحة جميع ما ينبت بالأرض من النبات واباحة التصرف فيه بما أراد ، فإنها
مخلوقة للإنسان لأجل انتفاعه الا ما أخرجه الدليل. وهذه وأمثالها مما دل على
الإباحة يستلزم اباحة التكسب بها بالبيع ونحوه.
(وَأَحْيَيْنا بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً) أرضا جدبة مقحطة لإنبات فيها (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي مثل ما أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء نحيى الموتى
ونخرجهم من قبورهم ، لأن من قدر على أحدهما قدر على الآخر ، فالكاف في محل الرفع
على الابتداء ، والخروج خبره والايات الدالّة على الإباحة على الوجه المتقدم
كثيرة.
القسم الثاني
في أشياء يحرم التكسب بها ، وفيه آيات :
الأولى : (المائدة : ٤٥) (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ).
(سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) اي الحرام ، من سحته إذا استأصله ، لأنه مسحوت البركة.
أو يعقب الاستيصال بالعذاب [قال تعالى (فَيُسْحِتَكُمْ
بِعَذابٍ)]
وفي الآية
دلالة على تحريم أكل السحت والاكتساب به ، لأن الكلام في ذمهم وأن هذه الصفات
القبيحة صفاتهم. ولكن اختلف في المراد منه : فقيل هو الحرام مطلقا ، وروى في مجمع
البيان أن النبي صلىاللهعليهوآله أنه الرشوة في الحكم ، وعن علي عليهالسلام انه الرشوة في الحكم ومهر البغي وكسب الحجام وعسيب
الفحل وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستجعال في المعصية.
__________________
وروى الكلينيّ
في الحسن عن عبد الله بن سنان قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن قاض بين الفريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟
قال : ذلك السحت.
وفي الصحيح عن عمار بن مروان قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الغلول؟ فقال كل شيء غل من الامام فهو سحت ، وأكل
مال اليتيم وشبهه سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها أجور الفواجر وثمن الخمر
والنبيذ والمسكر والربا بعد البينة ، فأما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله
العظيم ورسوله.
وعن السكوني عنه
عليهالسلام قال : السحت ثمن الميتة وثمن الكلب ، وثمن الخمر ومهر
البغي ، والرشوة في الحكم وأجر الكاهن.
__________________
وعن سماعة قال : قال السحت أنواع ، منها كسب الحجام إذا شارط وأجر
الزانية وثمن الخمر ، فأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم.
ولا خلاف في
تحريم ما اشتملت عليه هذه الاخبار ، سوى كسب الحجام مع الاشتراط ، فان الظاهر من
أصحابنا أنه مكروه لا محرم ، ولم يذكر العلامة في المنتهى خلافا في كراهته عن أصحابنا وانما ذكر
الخلاف فيه عن احمد من العامة ونقل عن أكثرهم الوفاق في الكراهة ، وردّ خبر سماعة بأنه خبر مقطوع السند ،
__________________
لأن سماعة لم يسنده الى امام ، ومع ذلك ففي طريقه عثمان بن عيسى وهو واقفي
وسماعة وهو فطحي .
وقد يستدلّ على
كراهته بالأخبار الصحيحة المطلقة في الجواز ، كصحيحة معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن كسب الحجام. فقال : لا بأس به.
__________________
__________________
وصحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام أن رجلا سأل رسول الله صلىاللهعليهوآله عن كسب الحجام. فقال : لك ناضح؟ فقال : نعم. فقال :
اعلفه إياه ولا تأكله. ولو كان حراما لما جاز إعلافه الناضح أيضا.
__________________
وروى زرارة في
الموثق عن الباقر عليهالسلام قال : سألته عن كسب الحجام. فقال : مكروه له ان شارط
ولا بأس عليك ان تشارطه وتماكسه وانما يكره له. ونحوها من الاخبار.
[والمراد
بالاشتراط اشتراط الأجرة على فعله ، سواء عينها أم أطلق ، ومقتضى الخبر الأخير أن
المحجوم على الضد من الحاجم ، بمعنى أنه يكره له أن يستعمله من غير شرط ولا يكره
معه].
الثانية : (النور ٣٣) (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى
الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
(وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ) اماءكم (عَلَى الْبِغاءِ) على الزنا ، والمشهور أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ
ابن سلول رأس النفاق ، وكان له ست إماء يكرههن على الزنا ،
__________________
فشكت ثنتان منهن معادة ومسيكة الى رسول الله صلىاللهعليهوآله فنزلت. والنص وان كان واردا في الإماء الا أن الإجماع
منعقد على أن حال الحرائر كذلك في التحريم.
(إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّناً) تعففا ، ولعل التقييد بالشرط لكون الآية نزلت على سبب
خاص فوقع النهي على تلك الصفة ، لا أن الشرط مراد حتى يلزم منه جواز الإكراه
عند عدم ارادة التحصن ، لأن مفهوم الشرط انما يعتبر لو لم يكن في الكلام فائدة
سواه ، أو نقول إذا لم يردن التحصن لا يتأتى الإكراه ، فإنه الإلزام على خلاف
مقتضى الطبع ، وأمر الطبيعة المؤاتية على البغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها.
وبالجملة مقتضى
الآية تحريم الإكراه مع ارادة التحصن ، ولا يلزم من ذلك جوازه مع عدم ارادة التحصن
، فان عدم الحرمة جاز أن يكون لكون الإكراه غير مقدور ، أو نقول : غالب الحال أن
الإكراه لا يحصل الا عند ارادة التحصن ، والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون
له مفهوم الخطاب كما يرى في قوله (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ).
ثم انا لو
سلمنا أن مفهوم الشرط اقتضى الجواز فلنا أن نقول : هو مفهوم عارضه ما هو أقوى منه
، وهو الإجماع على عدم جوازه مطلقا فيضمحل الضعيف بمعارضته.
وقيل انّ «ان»
بمعنى «إذ» ، لأن سبب النزول ورد على ذلك. وفي إيثار كلمة «ان» على «إذ» تنبيه على
أن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وان ما وجد من معادة ومسيكة من
قبيل الشاذ النادر.
(لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي من كسبهن وبيع أولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ
__________________
فَإِنَّ
اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي للمكرهات لا للمكره ، فان الوزر عليه .
ولو قيل : انه
مع الإكراه لا وزر عليهن ولا اثم ، فلا حاجة الى المغفرة. أجيب بأن الإكراه في تلك
الصورة جاز أن يكون دون ما اعتبرته الشريعة من الإكراه بالقتل أو بما يخاف معه
التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد
الذي يعذر فيه فتكون آئمة ـ كذا أجاب في الكشاف وهو جيد ، غير أن الظاهر المتبادر
تحريم الإكراه مطلقا والغفران معه مطلقا.
وأجاب القاضي
بأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ، ولذلك حرم على المكره القتل
وأوجب عليه القصاص.
وفيه نظر ،
لورود النص في الصورة المخصوصة التي ذكرها ، وان الإثم فيها يتعلق بالمباشر ،
والمخرج بالنص عن عموم الحكم لا يجعل نظيرا لما عداه من الصور التي لم تثبت خروجها
بنص ، على أن الإجماع منعقد على عدم الإثم في صورة الإكراه على البغي ، وقد سئله
هو أيضا في أول كلامه.
ويمكن توجيه
كلامه بأن الذنب من حيث هو يقتضي ترتب الإثم على فعله ، ومن ثم ترتب الإثم على
القاتل مع كونه مكرها لمكان الذنب الصادر عنه ، ولكن في
__________________
هذا [الموضع] تجاوز الله تعالى عن عقاب المكره لمكان الإكراه كما جوّز
تناول الميتة لمكان الضرورة مع تصريحه بالمغفرة والرحمة بعد ذلك.
ويمكن أن يكون
المراد أنه غفور رحيم للمكرهات والمكره معا ، بأن تكون المغفرة لهن على الإطلاق
ولهم مع التوبة أو تفضلا. وفي الآية دلالة على تحريم الإكراه على الزنا والتكسب به
وأخذ الأجرة عليه ونحو ذلك.
الثالثة : (لقمان ٦) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) بأن يلهى عما يعنى ، كالأحاديث التي لا أصل لها
والاساطير التي لا اعتبار فيها والمضاحك وفضول الكلام. وفي مجمع البيان أكثر
المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء ، وهو قول ابن عباس
وابن مسعود وغيرهما ، وهو المروي عن أبي جعفر وابى عبد الله عليهماالسلام ، وعن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : منه الغناء ، وعن ابى عبد الله عليهالسلام أنه قال : هو الطعن في الحق والاستهزاء به.
واضافة اللهو
الى الحديث بمعنى «من» ، وهي تبيينية ان أريد بالحديث المنكر ، والمعنى من يشتري
اللهو من الحديث ، فان اللهو قد يكون من الحديث ومن غيره فبيّن بالحديث ، وان أريد
ما هو أعم من المنكر كانت بمعنى من التبعيضية ، كأنه قيل من الناس من يشترى بعض
الحديث وهو اللهو منه.
(لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) دينه أو قراءة كتابة ، وقرأ أبو عمرو بفتح الياء ،
بمعنى ليثبت على ضلالته ، أو يزيد فيه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى بحال ما يشتريه أو بالتجارة الصادرة منه حيث استبدل
اللهو بقراءة القرآن.
(وَيَتَّخِذَها
هُزُواً) ويتخذ السبيل سخرية واستهزاء. قيل إن سبب نزولها ما روى
عن النضر بن الحرث حيث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول ان
كان محمّد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار و
__________________
الأكاسرة. وقيل كان يشترى القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ومنعه
عنه. وقيل نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا ، ونقله في
المجمع عن ابن عباس ، قال : ويؤيده ما رواه أبو أمامة عن النبي صلىاللهعليهوآله «لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهنّ وأثمانهن حرام».
(أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ) بسبب إهانتهم الحق واستيثار الباطل عليه. وفي الآية
دلالة على تحريم الغناء كما هو المنقول عنهم عليهمالسلام في تفسير اللهو.
وعنهم عليهمالسلام «ما من رجل يرفع صوته بالغناء الا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا
المنكب والأخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي
يسكت».
ولا خلاف بين
علمائنا في تحريمه ، وربما فسر لهو الحديث بكسب المغنيات ، ورواه أبو بصير عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن كسب المغنيات. فقال : التي تدخل
__________________
على الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ، وهو قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ) الآية.
وظاهر أن قوله «وهو»
راجع الى الأول ، وقد تظافرت الاخبار بتحريمه ، فقد روى نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : المغنية ملعونة ، ملعون من أكل كسبها ، ونحوها
من الاخبار.
وظاهر رواية
أبي بصير أن المغنية التي تدعى إلى الأعراس لا بأس بكسبها ، ونحوها روايته عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها.
قال الشيخ رحمهالله : الرخصة التي دلت هذه الاخبار عليها محمولة على من لا
يتكلم بالأباطيل ولا يلعب بالملاهي من العيدان وأشباهها ولا بالقصب وغيره ، بل
يكون ممن تزف العروس وتتكلم عندها بإنشاد الشعر والقول البعيد من الفحش و
__________________
الأباطيل ، فأما من عدا هؤلاء ممن يلعبن بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على
حال ، سواء كان في العرائس أو غيرها ـ انتهى كلامه ، وهو جيد.
ويمكن حمل «لهو
الحديث» على ما كان لهوا من الحديث مطلقا وان كان سببها خاصا ، فإن العبرة بعموم
اللفظ ، ويلزم من ذلك تحريم جميع ما يستلزم ذلك ، كالاحاديث الباطلة التي لا أصل
لها وتحريم الكسب بها وأخذ الأجرة عليها.
وفي مجمع
البيان انه يدخل فيه كل شيء يلهى عن سبيل الله وعن طاعته من
الأباطيل والمزامير والملاهي والمعازف ، ويدخل فيه السخرية بالقرآن واللغو وكل لهو
ولعب والأحاديث الكاذبة والاساطير الملهية عن القرآن ، ولا يبعد إدخال القصص
والحكايات السابقة التي لا فائدة تحتها.
والمراد
بالغناء المحرم ما يسمى في العرف غناء [سواء اشتمل على طرب أم لا] نحو «الحداء» [بالمد
، وهو سوق الإبل بالغناء لها] وربما عرّفه بعضهم بأنه «ترجيع الصوت المطرب» [أى ما
اشتمل على الوصفين الترجيع مع الاطراب ، فلو خلا عن أحدهما لم يكن غناءا] وليس في
الأدلة ما يدل على اعتباره ، ومن ثم لم يعتبره بعض ، والاحتياط في ترك جميع
أقسامه.
الرابعة : (المائدة ٩٤) (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
(إِنَّمَا الْخَمْرُ) من التخمير ، وهو تغطية العقل وإطلاقه على ما يتخذ من
الكرم هو الأكثر ، والظاهر أن المراد به ما يشمل جميع المسكرات ، وبه وردت الاخبار
، وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الخمر من
__________________
خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمزر من
الشعير ، والنبيذ من التمر. ونحوها من الاخبار .
(وَالْمَيْسِرُ) مصدر كالمرجع والموعد ، سمى به القمار لاشتماله على أخذ
مال الناس بيسر. والمراد به ما يصدق عليه أنه قمار بجميع أقسامه. وروى جابر عن ابى جعفر قال : لما أنزل الله عزوجل على رسول الله صلىاللهعليهوآله (إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ) الآية ، قيل : يا رسول الله ما الميسر؟ فقال : كلما
تقومر به حتى الكعاب والجوز ـ الحديث.
وفي الصحيح عن معمر بن خلاد عن أبى الحسن عليهالسلام قال : النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة ، وما
قومر عليه فهو المسير.
(وَالْأَنْصابُ) الأصنام كانوا ينصبونها للعبادة.
(وَالْأَزْلامُ) جمع زلم بضم أوله كصرد أو فتحه كفرس ، وهي القداح التي
كانوا يجيلونها للقمار ، وهي عشرة سبعة منها ذوات أنصباء ، وهي : الفذ له سهم ،
والتوأم سهمان ، والرقيب ثلاثة ، والجليس أربعة ، والنافس خمسة ، والمسبل ستة ،
والمعلى سبعة. وثلاثة لا نصيب لها ، وهي : المنيح ، والسفيح ، والوغد. ولقد أحسن
من قال :
لي في الدنيا
سهام ليس فيهن ربيح
|
|
وأساميهن وغد
وسفيح ومنيح
|
__________________
وكانوا يجعلون
هذه القداح في خريطة ويضعونها على يد من يعتمدون عليه فيحركها ، ثم يدخل يده الى
الخريطة ويخرج باسم كل رجل قدحا ، فمن خرج له قدح من القداح ذوات النصيب المفروض
أخذه ، ومن خرج له من القداح غير ذوات النصيب لم يأخذ شيئا ويغرم ثلث قيمة البعير
، فلا يزال يخرج قدحا قدحا حتى يأخذ أصحاب القداح السبعة أنصباءهم ويغرم الثلاثة
الذين لا نصيب لهم قيمة البعير.
(رِجْسٌ) قذر مستقذر تكرهه النفوس ، وهو خبر عن مقدر اى تعاطى
الأشياء المذكورة (مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ) الذي هو الخيبة والمحق (فَاجْتَنِبُوهُ) أي كونوا في جانب عنه (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) تفوزون بالفلاح.
واستدل أصحابنا
بالآية على تحريم الخمر وتحريم بيعه وشرائه وأكل ثمنه وجميع استعمالاته ، وعلى ذلك
انعقد إجماعهم ، وعنه صلىاللهعليهوآله : لعن الله الخمرة وغارسها
__________________
وخازنها وحاملها والمحمولة اليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وعاصرها
وساقيها وشاربها.
وكذا استدلوا
بها على تحريم القمار بجميع أقسامه ، وتحريم التكسب به من بيع آلاته وصناعتها
وجميع ما يترتب عليه حدوثه.
وعلى هذا
علماؤنا أجمع ، وأجاز الشافعي اللعب بالشطرنج محتجا عليه بأن فيه تشحيذ الخواطر
فكان محمودا. وهو ضعيف ، لعموم الآية وعدم صلاحية ما ذكره للتخصيص وما تقدم من
الحديث ، ويؤيده ما روي عنه صلىاللهعليهوآله انه قال : من لعب بالشطرنج والنرد فكأنما غمس يده في دم
خنزير. ونحوها.
***
ولنردف الكتاب بتفسير آية لها تعلق تام
به ، وهي : (النور : ٦١) :
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلى
__________________
أَنْفُسِكُمْ
أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) نفى تعالى عن الأصناف الثلاثة ذوي العاهات الحرج لما
يقتضيه حالهم من الآفات النازلة بهم.
واختلف في
المراد به ، فقيل المراد به نفي الحرج في التخلف عن الجهاد. ورده القاضي بأنه لا
يلائم ما قبله وما بعده ، فان ما بعده ـ أعني قوله (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ) ـ صريح في نفي الحرج عن الأكل من البيوت المذكورة.
وقد يقال : وجه
صحة العطف التقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنه الحرج. قال في الكشاف :
مثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في شهر رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على
النحر ، فتقول ليس على المسافر حرج ان يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على
النحر.
وقيل : المراد
نفي الحرج عن مؤاكلتهم ، لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء فإن الأعمى كان
يتحرج عن الأكل مع الناس مخافة أن يأكل أكثر منهم وهو لا يشعر ، والأعرج أيضا يقول
اني احتاج لزمانتي أن يوسع لي في المجالس فيكون عليهم مضرة والمريض يقول الناس
يتأذون منى لمرضي ويتقذرونني فيفسد عليهم الطعام.
وقيل : المراد
نفي الحرج في أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج
الى الغزو وخلفهم على المنازل ، مخافة ان لا يكون ذلك من طيب قلب ، كما حكي عن
الحرث بن عمر أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله ، فلما
رجع رآه مجهودا فقال : ما أصابك؟ قال : لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من
مالك.
__________________
وقيل : المراد
نفي الحرج من اجابة من يدعوهم الى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة
أن يكونوا كلا عليهم.
وقيل : كان ذلك
في أول الإسلام ، فنسخ بقوله (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) و[قد كان في أزواج النبي من لهنّ الآباء والأخوات ،
وعمّ بالنهي عن دخول بيوتهن إلا بإذن في الدخول وفي الأكل] بقول النبي صلىاللهعليهوآله «لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفسه». وهذا القول مرغوب عنه فيما بيننا.
__________________
(وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) من البيوت التي تملكونها ، فان ذلك هو الظاهر من
الإطلاق. ولعل النكتة فيه مع ظهور اباحته ، الإشارة إلى مساواة ما ذكر له فيها
والتنبيه على أن الأقارب المذكورين والصديق ينبغي جعلهم بمثابة النفس في أن يحبّ
لهم ما يحب لها ويكره لهم ما يكره لها كما جعل بيوتهم كبيته.
وقيل : هي بيوت
الأزواج والعيال ، لأن بيت المرأة كبيت الرجل.
وقيل : هي بيوت
الأولاد ، لأنهم لم يذكروا في الأقارب مع أنهم اولى منهم بالموافقة ، ولأن بيت
الولد كبيته لقوله صلىاللهعليهوآله «أنت ومالك لأبيك» وقوله صلىاللهعليهوآله «ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وولده من كسبه».
(أَوْ بُيُوتِ
آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة
أو حفظا ، وأطلق على
__________________
ذلك ملك المفاتح لكونها في يده وحفظه ، ويؤيده ما رواه الكليني عن ابن ابى عمير مرسلا عن ابى عبد الله
عليهالسلام في قول الله عزوجل (أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ) قال : الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير
اذنه. وقيل هو بيوت المماليك ، لأن مال العبد لمولاه فهو مالك له. والمفاتح جمع
مفتح ، وهو ما يفتح به ، وقرئ «مفتاحه» .
(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أو بيوت صديقكم على حذف المضاف ، والصديق يكون واحدا
وجمعا كالخليط ، والمرجع في الصديق الى العرف لعدم تحديده شرعا. وفي صحيحة الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : سألته ما يعني بقوله (أَوْ صَدِيقِكُمْ)؟ قال : هو والله الرجل يدخل بيت صديقه بغير اذنه.
ومقتضى الآية
جواز الأكل من بيوت المذكورين مع حضورهم وغيبتهم ، وسواء دل ظاهر الحال على الرضا
أولا ، لكن العلماء خصصوه بما إذا لم يعلم الكراهة ولو بالقرائن الحالية ، أو يحصل
له الظن الغالب بها ، فان ذلك كاف في الامتناع وعدم الجواز.
ولعل الوجه في
الإطلاق كون الأغلب عدم الكراهة في المذكورين لمكان الاتحاد التام بينهم.
واعتبر القاضي في جواز الأكل العلم برضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ،
ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم. ومقتضاه ان مع عدم العلم بالرضا لا يباح
الأكل وان لم يعلم الكراهة أيضا. وفيه نظر ، لإطلاق الجواز ما لم يعلم المنع ،
ولأنه مع
__________________
العلم بالرضا بالاذن لم يبق فرق بين من تضمنته الآية وغيره.
ولا يعارضه قبح
التصرف في مال الغير بغير إذن ، لأن ذلك مع معلومية عدم الاذن ولعل هذا هو الفرق
بين بيوت المذكورين وبيوت غيرهم ، من حيث ان بيوت غيرهم يشترط العلم بالرضا فيها ،
وأما بيوت المذكورين فيكفي فيها عدم العلم بالكراهة.
قال في المجمع : «وهذه الرخصة في أكل مال القرابات وهم لا يعلمون ذلك
كالرخصة لمن دخل حائطا وهو جائع أن يصيب من ثمرة ، أو مر في سفره بغنم وهو عطشان
أن يشرب من لبنه ، توسعة منه على عباده وتلطفا لهم ورغبة لهم عن دناءة الأخلاق
وضيق العطن».
قلت : لا يخفي
أن هذه الرخصة ليست بمثابة تلك ، فان الدليل قائم هنا وغير واضح هناك ، ومن ثم
منعه بعض الأصحاب ، ومن جوّزه لم يقيده بالجائع ولا بالحائط بل الحكم في المار
على الغلة وغيرها أن يأكل منها ، وليس في كلام الأصحاب ما يدل على جواز شرب اللبن
لمن مر بغنم في الطريق ـ فتأمل.
هذا ، ومقتضى
الآية الأكل من بيوت هؤلاء ، فيجب الاقتصار عليه ولا يجوز الحمل ولا إطعام الغير ،
ولا يتعدى الحكم الى تناول غير المأكول ، الا أن يدل عليه الأكل بمفهوم الموافقة
كالشرب من مائه والوضوء به ، أو يدل عليه بالالتزام كالكون فيها حالته.
واحتج أبو يوسف
بظاهر الآية على أن لا قطع على من سرق من ذوي رحم محرم. وذلك أنه تعالى أباح الأكل
من بيوتهم ودخولها بغير اذن ، فلا يكون ماله محرزا
__________________
منهم. وأورد عليه لزوم أن لا يقطع إذا سرق من صديقه. وأجيب بأن السارق لا
يكون صديقا ، وضعفه ظاهر.
وهل يجوز دخول
بيوتهم لغير الأكل أو الكون بها بعده وقبله؟ نظر من تحريم التصرف في مال الغير الا
ما استثنى ، ومن دلالة القرائن على تجويز مثل ذلك من المنافع التي لا يذهب من
المال بسببها شيء حيث جاز إتلافه فيما ذكر. والجواز أظهر عملا بمفهوم الموافقة في
الآية.
والمتبادر من
المذكورين كونهم كذلك بالنسب ، وفي إلحاق من كان منهم كذلك بالرضاع وجه غير بعيد ،
من حيث أن الرضاع لحمة كلحمة النسب ، ولمساواته له في كثير من الاحكام. ووجه العدم
تبادر النسبي من الإطلاق ، والاحتياط التمسك بأصالة الحرمة في موضع الشك.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) جرم واثم (أَنْ تَأْكُلُوا
جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) مجتمعين أو متفرقين قيل نزلت في بني ليث بن عمرو بن
كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد الرجل منتظرا نهاره الى الليل
، فان لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة. وقيل في قوم من الأنصار ، إذا نزل بهم ضيف لا
يأكلون معه. وقيل في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل
وزيادة بعضهم على بعض .
وفي «المجمع» معناه لا بأس أن يأكل الغني مع الفقير في بيته ، فإن
الغني كان يدخل على الفقير من ذوي قرابته أو صداقته فيدعوه الى طعامه فيتحرج. قال
الشيخ في «ن» : والاولى حمل ذلك على عمومه وانه يجوز الأكل وحدانا وجماعة ، ومقتضى
الآية جواز ذلك ، فلا ينافيه كراهة الأكل وحده لثبوته بدليل من خارج ، فقد وقع في
الاخبار «ان من يأكل زاده وحده ملعون» ونحوه ، وهو محمول على المبالغة في الكراهة
، جمعا بين الأدلة فلا ينافي الجواز الثابت بالاية.
__________________
(فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً) في الكشاف من هذه البيوت للأكل ، والاولى حمله على
العموم كما صرح به الشيخ في «ن» ، والمراد أيّ بيت كان من أي شخص كان (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) اي ليسلم بعضكم على بعض ، كقوله تعالى (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). وقيل معناه فسلموا على أهليكم. وفي «المجمع» قال أبو
عبد الله عليهالسلام : هو أن يسلم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون
عليه ، فهو سلام على أنفسكم. وقال إبراهيم : إذا دخلت بيتا ليس فيه احد فقل :
السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
(تَحِيَّةً مِنْ
عِنْدِ اللهِ) ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو علمها الله وشرعها لكم
، فإنهم كانوا يقولون «عم صباحا». وانتصابها بسلّموا ، لأنها في معنى تسليما ، نحو
قعدت جلوسا.
(مُبارَكَةً) لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب (طَيِّبَةً) تطيب بها نفس المستمع وقيل لما فيها من الأجر الجزيل
والثواب العظيم. وعن أنس انه صلىاللهعليهوآله قال «متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك ، وإذا
دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خيرك».
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ) أي كما بين لكم هذه الاحكام والآداب يبين (لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على جميع ما يتعبدكم به (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا معالم دينكم فتعرفون ما فيه الصلاح
والفساد.
كتاب البيع
وفيه آيات :
الاولى : (النساء ٢٩) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً
عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ
رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).
(النساء ٣٠)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أى بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار ونحوها.
والمراد النهي عن التصرف في مثل ذلك ، وذكر الأكل لأنه معظم المنافع ، أو لأن
الأكل قد يطلق على وجوه التصرفات ، كما يقال «أكل ماله» وان أنفقه في غير الأكل.
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) استثناء منقطع لعدم دخوله فيما تقدم ، أى ولكن كون
تجارة عن تراض غير منهي عنه ، أو اقصدوا كون تجارة كذلك. وعن تراض صفة لتجارة ، اى
صادرة عن تراض من المتعاقدين بما تعاقدا عليه.
وفي المجمع :
ثم وصف التجارة وقال (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أى يرضى كل واحد منكما بذلك. وظاهر الآية يقتضي اعتبار
التراضي حال صدور العقد منهما وان كونه عن تراض كاف في حصول الملك من غير توقف على
أمر آخر.
ولا ينافي ذلك
كون اللزوم يتوقف على تفرق المجلس ، كما يذهب إليه أصحابنا المثبتون لخيار المجلس
للأخبار الدالة عليه واكتفى الحنفية بمجرد التراضي حال الإيجاب والقبول في اللزوم
من غير اشتراط التفرق من المجلس ، فلا خيار عندهم بعد العقد وان لم يتفرقا نظرا
الى حصول التراضي. وهو قول المالكية أيضا.
ويرده أنه بعد
قيام الدليل على توقف اللزوم على ذلك لا ينبغي التوقف فيه ، وقد
قام الدليل عندهم على ذلك ، وهو قوله صلىاللهعليهوآله المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا».
والى هذا القول
يذهب الشافعية أيضا ، فإنهم أثبتوا خيار المجلس في المعاوضات كما أثبتناه.
وقد يستفاد
منها عدم صحة البيع فضولا وان أجازه المالك فيما بعد ، نظرا الى أن
__________________
ظاهر الآية كون التجارة صادرة عن تراض حال العقد ، وهو منتف في صورة
الفضولي والى هذا يذهب الشيخ في المبسوط والخلاف ، وتابعه عليه جماعة من الأصحاب ،
ونقله في «الكشاف» عن الشافعي.
وذهب بعض
أصحابنا إلى الصحة ، ويقف اللزوم على الإجازة ، مستدلين عليه بأن الإجازة في ثان
الحال كاشفة عن حصول الرضا حال العقد وانه بيع صدر من أهله في محله ، فيقع صحيحا.
وفي الدليلين بحث لا يخفى على الناظر.
وربما استدلوا
عليه برواية عروة البارقي لما أعطاه النبي صلىاللهعليهوآله دينارا
__________________
فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار في الطريق وأقره النبي. وفيه انه بعد
تسليم الرواية جاز أن يكون ذلك لكون النبي صلىاللهعليهوآله وكله وكالة مطلقة.
وخص التجارة
بالذكر ـ وان كان غيرها من الأموال المستفادة بنحو الهبة والوصية والإرث وأخذ
الصدقات والمهور وأروش الجنايات حلالا ـ لأن أكثر أسباب
__________________
الرزق يتعلق بالتجارة.
وقد دخل تحت
النهي أكل مال الغير بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل ، كما أن قوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كذلك ، أو ان المراد لا تهلكوها بارتكاب الآثام
والمعاصي ، فإن ذلك هو القتل للنفس حقيقة ، أو لا تقتلوا أنفسكم بإلقائها إلى
التهلكة ليتفق قتلها ، أو لا تقتلوها حقيقة كما يفعله بعض الجهلة حينما يعرضه غم
أو خوف أو مرض شديد يرى قتل نفسه أسهل عليه. قال رسول الله صلىاللهعليهوآله «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا أبدا ،
ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ،
ومن قتل نفسه بحديدة في يده يتوجا بها في بطنه فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها
أبدا ».
__________________
أو لا يقتل
بعضكم بعضا ، فإنكم بمثابة نفس واحدة. أو لأنكم إذا قتلتم غيركم قتلتم به قصاصا
فيكون قد قتلتم أنفسكم وقيل ان الكلام على ظاهره ، فان الله تعالى كلف بني إسرائيل
أن يقتلوا أنفسهم ليكون القتل توبة لهم عن ذنوبهم ، ورفع ذلك عن أمة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم رحمة لهم كما أشار إليه بقوله (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) حيث أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ونهاكم عنه. وعلى هذا
ففي الآية دلالة على تحريم قتل الإنسان نفسه ، بل ما يؤدى اليه ولو نادرا وهو
كالجرح والضرب ونحوهما. ولو حملنا القتل على ما يعم ذلك فلا اشكال.
ثم بالغ في
التحريم بقوله (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) أى القتل ، أو جميع ما تقدم من المحرمات (عُدْواناً وَظُلْماً) افراطا في التجاوز عن الحق وإتيانا بما لا يستحق وقيل
أراد بالعدوان التعدي على الغير وبالظلم التعدي على نفسه بتعريضها للعقاب (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) ندخله إياها ، وقرئ بالتشديد من صلّى ، وبفتح النون من
صلى (وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيراً) لا عسر فيه ولا صارف عنه.
وبه استدل على
أن القتل كبيرة ، لمكان التوعد عليه ، ولو رجع إلى أكل المال بالباطل كان هو أيضا
كبيرة.
الثانية : (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ
مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ
مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا
تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ). (البقرة ٢٧٥ ـ ٢٧٩)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ). (آل عمران ١٣١ ـ ١٣٠)
(الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا) أى الذين يأخذونه ويتصرفون فيه وانما خص الأكل بالذكر
لأنه أعظم منافع المال ، وقد وقع نظير ذلك في القرآن كثيرا ، نحو قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) وقوله (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) ونحو ذلك مما أريد به مطلق الأخذ والتصرف.
و«الربا» في
الأصل الزيادة ، وفي عرف الشارع بيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة.
وهو قسمان : ربا الفضل وهو أن يبيع منا من الحنطة بمنين ، وربا النسيئة وهو الذي
كان يتعارفونه في الجاهلية ، كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا
، ثم إذا حل الدين طلب المديون برأس المال فان تعذر عليه الأداء زادوا في الحق
والأجل.
وروى العامة عن
ابن عباس انه كان لا يحرم الا ربا النسيئة ، وكان يقول «لا ربا
إلا في النسيئة ويجوز ربي النقد». ولعل حجته فيما ذهب اليه عموم صحة البيع
المتناول لبيع الدرهم بالدرهمين نقدا ، وعدم تناول تحريم الربا في الآية لمثله ،
فإنه إنما ينصرف الى العقد المخصوص الذي كان معروفا بينهم. وربما أكد ذلك ما في الاخبار الدالة على أن الربا في النسيئة
، وما روي عنه صلىاللهعليهوآله «لا ربا فيما كان يدا بيد» . ويرده تظافر
__________________
الاخبار بتحريم ربا الفضل عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ويروى عن ابن
عباس انه رجع عن قوله وحكم بتحريم الربا مطلقا ، وهو قول كل العلماء أيضا ،
فكان الحكم بتحريم الربا مطلقا إجماعي.
ويثبت الربا
عندنا في المكيل والموزون سواء كان مطعوما أولا ، وقد تظافرت أخبارنا عن الأئمة عليهمالسلام بذلك. وفي المعدود عند بعض أصحابنا.
أما العامة
فجعلوا علّة التحريم الطعم ، وقاسوا المطعومات على البر وأمثاله مما ثبت فيه الربا
إجماعا لعلة المطعومية أو الاقتيات أو نحوهما على خلاف بينهم. ونحن قد أبطلنا
القياس في الأصول.
وكتب «الربا» بالواو كالصلاة والزكاة للتفخيم على لغة ، وزيدت الألف
__________________
بعدها تشبيها بواو الجمع.
(لا يَقُومُونَ) يوم القيامة إذا بعثوا من قبورهم (إِلَّا كَما يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) الا قياما كقيام المصروع الذي يتخبطه الشيطان فيصرعه.
والخبط ضرب على غير الساق كخبط العشواء (مِنَ الْمَسِّ) أي الجنون.
والكلام على
التجوز ، لأن الشيطان لا يصرع الإنسان على الحقيقة ، ولكن من غلب عليه المرة أو
السوداء وضعف ربما يخيل اليه الشيطان أمورا هائلة ويوسوس اليه فيقع الصرع عند ذلك
من فعل الله تعالى. ونسبته الى الشيطان مجازا لمكان وسوسته وقيل على الحقيقة ، إذ
يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض امتحانا لهم وعقوبة على
ذنب صدر منهم ولم يتوبوا منه ، كما يتسلط بعض الناس على بعض فيظلمه ويأخذ ماله ولا
يمنعه الله سبحانه عنه ، وليس في العقول ما ينافي ذلك.
__________________
والجارّ متعلق
ب (لا يَقُومُونَ) أي لا يقومون من المس الذي بهم من أكلهم الربا أو ب «يقوم»
أو ب «يتخبط» ، فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين ، لا لاختلال عقلهم ولكن لأن الله
أربى في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم ، تلك سيماهم يعرفون بها يوم القيامة
عند أهل الموقف ، كما أن على كل عاص من معصيته علامة تليق به يعرف بها صاحبها.
وقيل : الذين يخرجون من الأجداث يوفضون ، الا آكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون
كالمصروعين لثقلهم فلا يقدرون على الايفاض.
(ذلِكَ) العقاب النازل بهم (بِأَنَّهُمْ قالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أى بسبب انهم نظموا البيع والربا في سلك واحد نظرا الى
افضائهما الى الربح فاستحلوه استحلالا.
وانما لم يقل «انما
الربا مثل البيع» لأن الكلام في الربا لا في البيع ، ومن حق القائس أن يشبّه بمحل
الوفاق [لأنه لم يكن المقصود انهم تمسكوا بالقياس ، بل كان غرضهم أن الربا والبيع
متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة ، فكيف يجوز تخصيص أحدهما بالحل والآخر بالحرمة
، وعلى هذا فأيهما قدم أو أخر جاز. ووجه آخر ، وهو أن قولهم ذلك] نظرا الى
مبالغتهم في ذلك ، كأنهم جعلوا الربا أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع.
(وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار لتسويتهم بينهما وهدم لقياسهم ، من حيث ان الحل
والتحريم أحكام الله ، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه ، وليس وجود التماثل
بين الشيئين كافيا في تساوى الحكم.
وفيه دلالة على
أن القياس ليس بحجة ، فإنه إذا عرف التساوي ولم يثبت الحكم بل كان مختلفا فيهما
علم أن التساوي بمجرده لا يثبت حكما ، بل يجوز الاختلاف فيه لحكمة يعلمها الله
تعالى ولا يطلعون عليها ، وحينئذ فكل موضع ثبت فيه التساوي كذلك لم يمكن ثبوت
الحكم لجواز الاختلاف. فقول صاحب الكشاف «ان فيه دلالة على ان القياس يهدمه النص» مع زعمه حجيته بعد ذلك باطل.
(فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا
__________________
(فَانْتَهى) فاتعظ وتبع النهي الوارد من الله (فَلَهُ ما سَلَفَ) أى ما أخذه من الربا سالفا قبل نزول التحريم ولا يسترد
منه (وَأَمْرُهُ إِلَى
اللهِ) يحكم في شأنه يوم القيامة إن شاء عذبه وان شاء غفر له ،
ولا اعتراض لكم عليه.
[وعلى هذا
ففيها دلالة ظاهرة على أن العفو من الله موجود ، وهو يبطل قول الوعيدية] أو انّ
امره بعد الأمر والنهي الى الله ، فيجازيه على عمله الواقع بعد ذلك من الطاعة أو
المعصية بامتثال الأمر أو ارتكاب النهي. أو انّ امره بعد الموعظة والتحريم الى
الله ، فان شاء عصمه عن اكله وان شاء خذله.
وجميع ما ذكر
من الوجوه دال على ملكية ما سلف قبل النهي ، وليس كونه له مشروطا بالانتهاء ، بل
عدم العقاب فيما يأتي مشروط به. فلا يرد أن مفهوم الشرط اقتضى انه إذا لم ينته لم
يكن له ، فيجب رده على مالكه خصوصا مع بقاء العين. لان هذا المفهوم غير معتبر
إجماعا. ويمكن توجيه المفهوم بأن المراد أن له ما سلف من غير عقاب إذا اتعظ وانتهى
، فلو لم ينته لم يكن له ما سلف سالما ، بل هو مع العقاب فكأنه ليس له ، إذ لا خير
فيه مع ثبوت العقاب.
(وَمَنْ عادَ) الى الربا فأخذه بعد ورود النهي (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) وفي الآية وعد عظيم على آكل الربا ، وهو يستلزم كونه من
الكبائر ، وقد انعقد إجماع المسلمين على ذلك وتظافرت الاخبار به.
روى الكليني في الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : درهم ربا أشد من سبعين زنية كلها بذات محرم.
وعن جميل عنه عليهالسلام قال : درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية بذات محرم
في بيت الله الحرام. ونحوهما من الاخبار.
__________________
ومقتضى التحريم
كونه باطلا لا يترتب عليه الملك ، فوجب دفعه الى صاحبه لأنه مال لم ينتقل عنه الى
الآخذ بوجه من الوجوه المحلّلة كالغصب ، ولو لم يعرف مالكه تصدق به عنه لأنه مجهول
المالك.
والظاهر بطلان
العقد المشتمل عليه ، لأن التراضي انما وقع على وجه غير مشروع ، فلا يكون صحيحا من
أصله. وعلى هذا أصحابنا والشافعية ، وقالت الحنفية يصح البيع وتبطل الزيادة ويجب
ردها الى صاحبها. وهو ضعيف ، فان ما وقع عليه التراضي لم ينعقد بالإجماع ، وغيره
لم يقع التراضي عليه ، فلا وجه لوقوعه ، إذ التراضي شرط في التجارة. ولان ما علم
انتقال الملك به هو البيع الخالي من الربا وغيره لم يعلم انتقال الملك به ، والأصل
عدم حصول الملك الا بدليل يوجب الانتقال.
وما يقال من
عموم وجوب الوفاء بالعقود والإيفاء يقتضيه ، ممنوع فانا لا نسلم تناوله مثل هذا ،
إذ الظاهر وجوب الوفاء بما اراده الشارع ورضي به منها لا ما نهى عنه.
هذا كله إذا
فعله متعمدا ، ولو فعله جاهلا بتحريمه فقد اختلف أصحابنا في وجوب رده على مالكه ،
فقال الشيخ في النهاية لا يجب رده ، وهو الظاهر من ابن بابويه في المقنع ، ورواه في من لا يحضره الفقيه ، وعلى ذلك جماعة. والأكثر على وجوب رده ، واليه ذهب
ابن إدريس وقواه العلامة في المختلف.
واستدل الشيخ
على عدم الرد بظاهر قوله تعالى (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) وهو يتناول المال الذي أخذه على وجه الربا جهلا ، وبما
رواه الكليني في الصحيح عن هشام بن سالم عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن رجل يأكل الربا وهو يرى انه له حلال؟
قال : لا يضره حتى يصيبه متعمدا ، فإن أصابه متعمدا فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل.
__________________
وفي الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : اتى رجل أبى عليهالسلام فقال : اني ورثت مالا وقد علمت أن صاحبه الذي ورثته منه
كان يربى وقد أعرف ان فيه ربا واستيقن ذلك وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه ، وقد
سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا ما يحل اكله من أجل ما فيه.
فقال له أبو جعفر
عليهالسلام : ان كنت تعلم فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس
مالك ، ورد ما سوى ذلك ، وان كان مختلطا فكله هنيئا فإن المال مالك ، واجتنب ما
كان يفعل صاحبه ، فان رسول الله صلىاللهعليهوآله قد وضع ما مضى من الربا وحرم عليهم ما بقي ، فمن جهله
وسع له جهله حتى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه حرم عليه ووجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه
كما يجب على من يأكل الربا.
والجواب : أما
عن الآية فلما عرفت من أن ظاهرها العفو قبل نزول النهي ، أي في زمن الجاهلية كما
أشرنا اليه ، والعجب أن الشيخ في «ن» صرح بذلك وذهب في النهاية إلى خلافه. وأما
الحديث الأول فظاهره سقوط الذنب قبل المعرفة بالتحريم لا انه يملك ما أخذه في ذلك
الوقت.
وأما الثاني
فلأنه عليهالسلام انما حكم بإباحته مع امتزاجه بالحلال بناء على أن الميت
ارتكبه بجهالة ولم يعرف كونه ربا. ويجوز أن تكون الإباحة من حيث انه لا يعرف أن
فيه ربا ، وان الاستيقان الذي ادعاه أولا استيقانه بأكل صاحبه الربا وينبه على ذلك
قوله عليهالسلام «ان كنت تعلم ان فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله إلخ». على أنه لو كان
ظاهرا فيما قالوه لوجب حمله على ما قلناه جمعا بين الأدلة وتحرزا عن أكل المال
بالباطل ـ فتأمل فيه.
__________________
واستدل صاحب
الكشاف بظاهر الخلود على تخليد الفساق. وفيه منع ، إذ يجوز أن
يكون التخليد لاستحلالهم الربا وإنكارهم ما علم من الدين ضرورة ، فإن ذلك يوجب
كفرهم. علي أنا لو سلمنا أن المراد عدم الاستحلال فحمل الخلود على المكث الطويل
ممكن. وإطلاق الخلود على مثله غير عزيز ، فلا ينافي الأدلة العقلية القائمة على
عدمه كما ثبت في محله.
ثم انه تعالى
أكد التحريم بقوله (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ويبقى الإثم على
صاحبه. وقد قيل للصادق عليهالسلام : قد نرى الرجل يربى فيكثر ماله. قال : يمحق الله دينه
وان كثر ماله. وعن ابن عباس في تفسير المحق : ان الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا
جهادا ولا منحا ولا صلة.
(وَيُرْبِي
الصَّدَقاتِ) ينميها ويزيدها ويضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه [أما
في الدنيا فلأن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن
الى عبيد الله فالله مع غناه لا يتركه ضائعا ، وأما في الآخرة فلما] روي في الحديث
عنه صلىاللهعليهوآله «ان الله يقبل الصدقة فيربيها كما يربي أحدكم مهره حتى ان اللقمة لتصير مثل
أحد» وعنه «ما نقصت زكاة من مال قط». وتتفاوت حال التربية بحسب دفعها الى محالها
الأحوج وحسن النية فيها.
والنكتة في
الآية ان المربي إنما يطلب بالربا الزيادة ، ومانع الصدقة انما يمنعها
__________________
لطلب زيادة المال ، فبين تعالى ان الربا سبب النقصان لا سبب النماء ، وان
الصدقة سبب النماء لا النقصان ، فعلى العاقل أن لا يلتفت الى ما يقضى به الحس
والطبع ويعول على ما ندب اليه العقل والشرع.
(وَاللهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ كَفَّارٍ) مصرّ على تحليل المحرمات ، فعال من الكفر (أَثِيمٍ) منهمك في ارتكابه متماد في إثمه بأكله. وفي الآية تغليظ
عظيم في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين. وفي المجمع
وانما لم يقل كل كافر لأنه إذا استحل الربا صار كافرا ، وإذا كثر اكله له مع
الاستحلال فقد ضم كفرا الى كفر.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) واتركوا بقايا ما اشترطتم على الناس من الربا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقلوبكم ، فان دليل الايمان امتثال ما أمرتم به.
قيل كان الوليد
بن المغيرة في زمن الجاهلية يربي ، وقد بقي له بقايا على ثقيف ، فأراد خالد بن الوليد
المطالبة بها بعد ان أسلم ، فنزلت ، وهو المروي عن ابى جعفر عليهالسلام. وقيل كان لثقيف على قوم من قريش مال فطالبوهم عند
المحل بالمال والربا فنزلت.
فان قيل : كيف
قال (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال في آخره (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) قيل فيه وجوه : منها أن هذا كما يقال «ان كنت أخي
فأكرمني» معناه من كان أخا أكرم أخاه. ومنها ان معناه ان كنتم تريدون استدامة
الحكم لكم بالايمان. ومنها أن معناه يا أيها الذين آمنوا بلسانكم ذروا ما بقي من
الربا ان كنتم مؤمنين بقلوبكم.
وقد يستدل
بظاهر الآية على أن الإنسان إنما يصير مؤمنا على الإطلاق مع تجنب كل الكبائر.
ويجاب بأن المراد ان كنتم عاملين بمقتضى الأيمان ، فإن العمل لا يدخل في الايمان
كما هو المذهب المنصور.
(فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا) ولم تتركوا البقايا من الربا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ) أي فاعلموا وتيقنوا ذلك من اذن بالشيء إذا علم به. وقرأ
حمزة «فآذنوا» فأعلموا بها غيركم ، من الاذن وهو الاستماع فإنه من طريق العلم.
وتنكير «حرب» للتعظيم. والمعنى
__________________
فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله [والمراد المبالغة في
التهديد دون نفس الحرب ، أو المراد الحرب نفسه ، والمراد أن من أصرّ على أكل الربا
ان كان شخصا واحدا وقدر الامام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من الحبس
والتعزير الى أن يظهر منه التوبة ، وان كان ممن له شوكة حاربه].
واستدلّ بها
على قتال المربي حتى يرجع كما يقاتل تارك الزكاة الى أن يؤديها قيل لما نزلت قال
ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله ، أي لا طاقة لنا به.
(وَإِنْ تُبْتُمْ) من الارتباء (فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ) فقط لا الزيادة التي شرطتموها فإنها مال الغير ولم يخرج
عن ملكه (لا تَظْلِمُونَ) المديونين بطلب الزيادة على رؤوس الأموال (وَلا تُظْلَمُونَ) بالنقصان منها. ومقتضى الشرط انهم إذا لم يتوبوا ليس
لهم رؤوس أموالهم. قال القاضي وهو سديد على ما قلناه ، إذ المصر على التحليل مرتد
وماله فيء وقال في الكشاف يكون ماله فيئا.
قال بعض
أصحابنا : وهذا ليس بشيء ، لأنا نمنع انه إذا لم يتب يكون مرتدا لجواز أن يفعله
ويعتقد تحريمه.
ولا يخفى عليك
ما فيه ، فان القاضي قدر في الآية ان تبتم من اعتقاد حل الربا فلكم رؤوس أموالكم ،
ومقتضى المفهوم انهم إذا لم يتوبوا عن اعتقاد الحل بل بقوا عليه كانوا مقيمين على
الكفر ، إذ اعتقاد الحل فيه كفر ، وحينئذ فلا وجه لأن يقال عليه انه يفعله مع
اعتقاد التحريم ، لأن ذلك غير مفهوم الشرط ، الا ان يقال لا حاجة الى التقييد ،
وفيه ما فيه.
على ان صاحب
الكشاف لم يصرح بكونه مرتدا وان حكم بأن ماله فيء للمسلمين ويجوز أن يكون له وجه
في ذلك غير ما ذكره القاضي ، ولو كان هو فقد عرفته.
ويمكن دفع ما
قالاه ـ بعد تسليم الارتداد ـ بأن مال المرتد لا نسلم أنه فيء للمسلمين ، إذ هو
اما عن فطرة وماله ينتقل الى وارثه ، فان الارتداد في حقه بمثابة
__________________
الموت الموجب قسمة أمواله بين ورثته ، وان كان عن ملة فما له باق على ملكه
وان كان محجورا عليه في التصرف فيه [فمتى عاد إلى الإسلام انفك الحجر عنه وان مات
فهو لورثته المسلمين ان كانوا والا فلبيت المال].
وعلى هذا
أصحابنا أجمع ، وفي الاخبار دلالة عليه أيضا ، فإن كان العامة يوافقونا في ذلك لم
يتم ما ذكراه ، والا فيمكن أن يقال الأصل عدم خروج ملك الشخص عنه الا بدليل واضح ،
والآية غير واضحة في ذلك ، مع أن المفهوم انما يصار إليه إذا لم يكن في الكلام
فائدة سواه ، ولا نسلم أنه هنا كذلك. سلمنا لكن نقول المنطوق حصول رأس المال فقط ،
فمفهومه عدم حصوله فقط ، وهو كذلك لحصول العقاب معه أيضا. أو نقول منطوق الآية ان
التائبين عن فعل الربا أو تحليله لهم تمام رأس مالهم حالكونهم غير ظالمين لأنفسهم
بترك التوبة ولا لغيرهم بطلب ما لا يستحقونه ولا مظلومين بحصول عقاب من عند أنفسهم
أو بنقص مالهم فجملة «لا يظلمون» حال.
ومفهوم الآية
انهم إذا لم يتوبوا لا يكونون كذلك ، وهو حق ، فإنهم ليس لهم رأس مالهم مع الحال
المذكور ، أعني عدم ظلمهم أنفسهم وغيرهم ، بل مع نقيضها ، إذ هم حينئذ ظالمون
أنفسهم بل غيرهم أيضا ، ومظلومين أيضا لظلمهم أنفسهم. وهذا المقدار يكفي لاعتبار
المفهوم ، فان ارتفاع المركب يكفي فيه ارتفاع أحد اجزائه.
وبالجملة
يستبعد خروج ملك الشخص عنه من غير أن ينتقل الى وارثه بمجرد الردة ويصير ماله فيئا
للمسلمين ، خصوصا مع احتمال الرجوع وقبول التوبة منه ، مع ان الأصل يقتضي بقاء
المال على ملكية صاحبه ولا يخرج عنه الا بوجه شرعي ناقل عنه الى غيره ، وكون ما
ذكروه ناقلا غير معلوم ـ فتأمل.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي لا تزيدوا زيادات مكررة ولا تضاعفوا به أموالكم ، أو
لا تضاعفوا الزيادة أضعاف الأصل ، أو أضعاف ما يتعارف في الربح. ولعل التخصيص بذلك
نظرا الى ما هو الواقع ، إذ كان الرجل منهم يربى إلى أجل فإذا بلغ الدين محله زاد
في الأجل بزيادة من المال ، وهكذا حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون [والا
فأكل الربا محرّم وان لم يكن بهذه المثابة].
(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه واحذروا الأفعال الموجبة لدخول النار (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفوزوا بإدراك ما تأملونه.
(وَاتَّقُوا النَّارَ) أي الأفعال الموجبة لدخولها كأكل الربا ونحوه (الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وفيه تنبيه على أن النار بالذات معدة للكفار ، فدخول
غيرهم من الفساق انما يكون على وجه التبع ، ولقد وقع التكرار في الآيات الدالة على
تحريم الربا للتأكيد وللمبالغة في التحرز عنه والاجتناب منه.
واعلم ان هذه
الآيات وان اقتضت التحريم في جميع ما يمكن فيه الزيادة ، الا ان أصحابنا خصوها
بالزيادة الحاصلة في المكيل أو الموزون إذا بيع بمثله ، وكذا المعدود عند بعضهم.
وكذا اقتضت عموم التحريم بالنسبة الى جميع المكلفين ، لكن أصحابنا خصصوها ببعض المواضع التي دل الدليل على جواز الربا فيها ، كالربا بين الوالد وولده والزوج
والزوجة والمسلم والحربي والسيد والعبد. وأخذ بعض العامة بظاهر العموم فمنع في
الجميع ، وتفصيل ذلك يعلم من كتب الفروع.
الثالثة : (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ.
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).
(وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف البخس في الكيل أو الوزن ، أى التنقيص على وجه
الخيانة. والطفيف النزر القليل. والتركيب يدل على التقليل. قال الزجاج : وانما قيل
له مطفف لأنه لا يكاد يسرق الا الشيء الطفيف. قيل كان أهل المدينة من أخبث الناس
كيلا الى ان أنزل الله الآية فأحسنوا الكيل.
(الَّذِينَ إِذَا
اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي إذا اكتالوا من الناس حقوقهم
__________________
لأنفسهم يأخذونها وافية. والاكتيال الأخذ بالكيل ، ونظيره الاتزان ، وهو
الأخذ بالوزن. ولم يذكر الاتزان لأنهما مما يقع البيع والشراء بأحدهما ، فذكر
أحدهما يدل على الآخر. والجار متعلق باكتالوا ، والأصل أن يقال اكتالوا منهم ، لكن
لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل «على» مكان «من»
للدلالة علي ذلك.
ويجوز أن يتعلق
بيستوفون وتقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أى يستوفون على الناس خاصة
فأما أنفسهم فيستوفون لها. وقيل انّ من وعلى يعتقبان هذا الموضع لأنه حق عليه ،
فإذا قال اكتلت عليك أراد أخذت ما عليك ، وإذا قال اكتلت منك أراد استوفيت منك.
(وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ) أى كالوا لهم أو وزنوا لهم ، والمعنى أنهم إذا كالوا
لغيرهم أو وزنوا له (يُخْسِرُونَ) ينقصون في الكيل والوزن ، والكلام من باب الحذف
والإيصال ، لأن كالوا ووزنوا يتعدى باللام. يحتمل أن يكون على حذف المضاف واقامة
المضاف إليه مقامه ، والمقدر المضاف هو المكيل والموزون ، والتقدير وإذا كالوا
مكيلهم أو وزنوا وزنهم.
قال في الكشاف
: ولا يحسن أن يكون ضميرا مرفوعا للمطففين ، لأن الكلام يخرج به الى نظم فاسد ،
وذلك لأن المعنى إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا أعطوهم أخسروا ، وان جعلت الضمير
للمطففين انقلب الى قولك إذا تولوا الكيل والوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام
متنافر ، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر ـ انتهى.
وحاصله ان
المقصود بيان حالهم في الأخذ من الناس والدفع إليهم ، وليس المقصود مجرد مباشرة
الكيل والوزن ، فلو حمل عليه فاتت المقابلة بين القسمين وخرج الكلام عن النظم
الصحيح ، وكما لا يصح كونه تأكيدا لا يصح كونه فصلا لأنه انما يكون بين المبتدأ
والخبر ونحوه ، وهو غير حاصل هنا.
(أَلا يَظُنُّ
أُولئِكَ) المطففون ، وهو إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء
على التطفيف ، والظن بمعنى العلم ، أي إلا يعلمون مع وضوح الأدلة (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) يوم القيامة ومحاسبون على مقدار الذرة والخردلة. وفي
الإشارة إليهم بأولئك مع تقدم ذكرهم قريبا تبعيد لهم عن درجة الاعتبار بل عن درجة
الإنسانية.
(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) وصفه بالعظمة باعتبار ما يقع فيه من الشدائد والمحن
العظيمة ، أو أنه بمعنى الحسبان ، لأنّ من ظن الجزاء والبعث ورجح ذلك في نفسه وان
لم يصل إلى حد العلم يجب أن يتحرز ويتجنب المعاصي خوفا من العقاب الذي يجوزه ويظنه
فان من ظن العطب في سلوك طريق وجب أن يجتنب سلوكه حذرا من العطب.
(يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ) نصب بمبعوثون ، أو هو بدل من الجار والمجرور ، والمراد
قيامهم من قبورهم. ويحتمل قيامهم يوم المحشر ، فقد روى عنه صلىاللهعليهوآله «يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيها بأمر».
(لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لحكمه وأمره ، أو لحسابه وجزائه. وفي هذا الإنكار
والتعجب وكلمة الظن ووصف اليوم بالعظيم وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصف ذاته
برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم بالتطفيف.
وقد دل على ذلك
آيات كثيرة ، نحو قوله (أَلَّا تَطْغَوْا فِي
الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ).
وقد تظافرت
الاخبار بذلك ، روى عنه صلىاللهعليهوآله انه قال «خمس بخمس : ما نقض العهد قوم إلا سلط الله
عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم
الفاحشة الّا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل الا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ،
ولا منعوا الزكاة الّا حبس عنهم القطر» ونحوها.
ثم ان ظاهر
الآية ترتب الوعيد على التطفيف بأي شيء كان قليلا كان أو كثيرا ، وذهب بعض علماء
العامة الى أن المطفف لا يتناوله الوعيد إلا إذا بلغ تطفيفه نصاب السرقة ، ورده
الأكثر ، بل قال بعضهم ان العزم عليه من الكبائر ، وهو مبنى علي ان نية المعصية
بمثابة المعصية. وفيه ما فيه.
الرابعة : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). (الأعراف ١٩٩)
(خُذِ الْعَفْوَ) اى خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتيسر ولا تطلب ما جهد
وشق عليهم ، أخذا من العفو الذي هو ضد الجهد والمشقة ، أو خذ العفو عن المذنبين
والصفح عنهم ، أو خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل وجوب الزكاة.
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) المعروف المستحسن من الافعال (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) السفهاء فلا تكافهم ولا تمارهم وأحلم عنهم.
قيل لما نزلت سأل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جبريل ، فقال : لا أدري حتى اسأل ، ثم رجع فقال : «يا
محمّد ان ربك أمرك ان تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك» وعن الصادق عليهالسلام : أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق . وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق بتمامها.
وقد يستدل
بظاهرها على استحباب الإقالة في البيع كما قاله الفقهاء ، وعلى استحباب انظار
المعسر كما قالوه ، وعلى كراهة معاملة الأدنين والسفلة الذين هم الجاهلون في
الحقيقة ، لأن معنى الاعراض عنهم كونهم في جانب عنه ، وهو ينافي المعاملة.
والعجب ان بعضهم
توقف في دلالتها على ذلك ، نظرا الى أن العام لا يدل على الخاص ، وهو بعيد ، فان
العام ثبت حكمه في جميع الافراد إلا ما خرج بالدليل ، كما هو مقرر في الأصول.
الخامسة : (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء ١٤١).
(وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) قيل : المراد نفي السبيل في
__________________
القيامة ، بدليل أنه عطف على قوله (فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقيل المراد به نفي السبيل في الدنيا ، والمراد به
الحجة ، بمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل ، وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة ،
وعلى هذا أكثر المفسرين].
وقد يستدل
بظاهرها على عدم تسلط الكافر على المسلم بوجه من الوجوه ، كالبيع والإجارة والرهن
وغيرها ، نظرا الى أنّ السبيل نكرة في سياق النفي ، فيفيد العموم. ومن ثم استدل
بها الفقهاء على أن الكافر إذا أسلم عبده قهر على بيعه من مسلم ، فان امتنع باعه
الحاكم وسلمه الثمن ، وعلى عدم صحة إجارة العبد المسلم منه ، وعلى عدم صحة بيعه
منه ، ومقتضى ذلك وقوع الشراء فاسدا على ذلك التقدير. وعليه أكثر علمائنا ، وهو
قول الشافعي ، لأن التسلط سبيل وقد نفي بالآية.
ومن أصحابنا من
ذهب الى صحة البيع ولكن يجبر الكافر على بيعه ، وهو قول الحنفية ، مستدلين عليه
بأنه يملك بالإرث وبأنه يبقى في يديه لو أسلم قبل بيعه ، وليس ذلك إلا لصحة تملكه.
وفيه نظر ،
لظهور الآية فيما قلناه ، والفرق أن الإرث والاستدامة أقوى من الابتداء ، لثبوته
بهما للمحرم في الصيد مع منعه من ابتدائه ، ولا يلزم من ثبوت الأقوى ثبوت الأضعف.
على أنا نقطع الاستدامة بمنعه منها وإجباره على إزالتها فكيف يثبت الابتداء.
قال القاضي بعد
أن نقل الآية هكذا (فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) حينئذ أي في الآخرة أو في الدنيا ، والمراد بالسبيل
الحجة واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم ، والحنفية على حصول البينونة
بنفس الارتداد ، وهو ضعيف ، لأنه لا ينفي أن يكون السبيل له إذا عاد الى الايمان
قبل مضي العدة ـ انتهى.
وقد يناقش فيما
ذكره بعد كون المراد بالسبيل الحجة ، فإنه لا يتأتى معه فساد شراء الكافر المسلم ،
وانما يتأتى لو حمل نفى السبيل على عمومه.
ويمكن أن يجاب
بأنه إذا لم يكن له حجة لم يكن له إمساكه ولا ملكه ،
فان كون العبد مملوكا لمولاه انما هو بحجة كالعقد ونحوه ، فان انتفت هنا
فسد الشراء. نعم اعتراضه على الحنفية غير وارد ، فإن الزوجية تسلط وسبيل ، والفرض
انتفاؤه بالارتداد نظرا الى ظاهر الآية وعودها مع الرجوع [الى الإسلام في العدة]
من غير عقد يحتاج الى دليل ، إذ مجرد رفع المانع لا يكفى من دون وجود المقتضي. الا
ان نقول بعدم زوال الزوجية بالارتداد ، وانما ارتفع التسلط عليها وغيره من حقوق
الزوجية ، مع أن ظاهر كلامه يعطي زوالها.
والتحقيق ان
الارتداد ان كان عن ملة لم يزل أصل النكاح به ويبقى موقوفا على انقضاء العدة ،
وانما يزول [التسلط عليها الذي هو من] لوازم الزوجية ، وان كان عن فطرة انفسخ
النكاح في الحال لكونها في حكم الموت. هذا مع الدخول ، ومع عدمه يتساويان في
الانفساخ بنفس الارتداد.
[واعلم أن
الفرق بين الارتداد عن ملة وفطرة مختص بأصحابنا ، وأما العامة فلا يفرقون بينهما].
وهنا آيات أخر
ذكرها بعض أصحابنا لا نري فيما استدل بها وجها يصلح للدلالة فلذا أعرضنا عنها.
كتاب الدين وتوابعه
وفيه آيات :
الاولى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ
كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ
فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا
يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً
أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (البقرة ٢٨١)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) إذا تعاملتم بما فيه دين ، تقول داينته إذا عاملته بدين
أخذت منه أو أعطيته ، وتداين القوم أو الرجلان بمعناه ، كذا في المجمع وقريب منه
في الكشاف.
وفائدة ذكر
الدين مع دلالة التداين عليه أن لا يتوهم إرادة المجازاة من التداين لا طلاقه عليه
وليرجع الضمير في قوله (فَاكْتُبُوهُ) إليه ، إذ لو لم يذكر لوجب التصريح به فيقال فاكتبوا
الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين الى حالّ ومؤجل ،
فإنه كالمطابقة ودلالة تداينتم على ذلك كالتضمن.
[ووجه آخر ،
وهو أن المداينة مفاعلة من الدين ، وظاهرها بيع الدين بالدين ،
فلو اقتصر عليه لدل على بيع الدين بالدين وهو باطل ، فلما قال (تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) كان المعنى إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد ،
وحينئذ فيخرج عليه الدين بالدين ويبقى بيع العين بالدين أو العكس داخلا لحصول
الدين الواحد في كل منهما].
(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) معلوم بالأيام والأشهر ، وحاصله كونه بحيث لا يقبل
الزيادة والنقصان لا نحو الحصاد والدياس وقدوم الحاج ونحوه ، مما يقبل الزيادة
والنقصان لعدم المعلومية فيه واستلزامه وقوع النزاع بين المتعاملين.
[والآجل هو
الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأصله من التأخير ، يقال أجل الشيء يأجل أجلا إذا
تأخر ، والأجل نقيض العاجل. ولعل ذكر الأجل بعد ذكر المداينة مع دلالتها عليه
ليتمكن من وصفه بالمسمى ، أي المعين المعلوم ، ليخرج عنه ما ذكرناه مما لا تسمية
فيه].
وظاهر الآية
يقتضي اعتبار التعيين في الأجل لفظا ، ولا يكفي كونه مقصودا لهما ، ويترتب على
اعتبار تعينه عدم جواز مطالبة صاحب الحق قبل الأجل وعدم جواز تأخير من عليه الحق
عنه لو أراده صاحبه ، إذ الظاهر أن فائدة الأجل وتعيينه ذلك الا ما أخرجه الدليل ،
مثل وجوب الأخذ قبله وعدم لزومه كما في القرض ، فإن التأجيل لا يلزم فيه لدليل
اقتضاه.
وقد استفيد من
الآية اباحة المعاملة بالدين مؤجلا وحالا بأي وجه كانت المعاملة نسيئة وسلما وصلحا
واجارة وقرضا ونحوها ، فإن المعاملة تشمل جميع ذلك.
وقد ينقل عن
ابن عباس ان الآية وردت في السلم خاصة ، وكان يقول «اشهد أن الله أباح السلم المضمون
إلى أجل معلوم ، وأنزل فيه أطول آية وتلا الآية». ولم يعتبر الفقهاء ذلك ، بل
أخذوا بظاهرها الواقع على كل معاملة وإن كان موردها خاصا ، فإن العبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب ، وظاهرها شامل لما كان العوضان معادينا أو أحدهما. لكن الإجماع
منعقد على أن معاملة الدين غير صحيحة فتخصص الآية بالثاني [مع ان في دلالة الآية
على الأول نظرا أشرنا إليه سابقا] وهو قسمان : بيع العين بالدين ،
وهو ما إذا باع شيئا حاضرا بثمن مؤجل ، وبيع الدين بالعين وهو المسمى
بالسلم ، وكلاهما داخلان تحت الآية.
(فَاكْتُبُوهُ) أي اكتبوا الدين في صك لأنه أوثق وأدفع للنزاع الناشئ
من النسيان أو الجحود ، والجمهور من العلماء على استحباب الكتابة ، لإجماع
المسلمين قديما وحديثا على جواز البيع بالأثمان المأخوذة من غير كتابة ولا إشهاد ،
ولأن في إيجابهما حرجا وضيقا ، والنبي صلىاللهعليهوآله بعث بالشريعة السهلة السمحة.
ويحتمل أن يكون
الأمر للإرشاد إلى المصلحة ، لما في ذلك من المصالح بالنسبة الى من له الحق وعليه
والشهود ، وحينئذ فلو رضى صاحب الحق بتركه جاز ، كما يجوز له أن لا يأخذ الحق من
أصله. وذهب بعضهم الى الوجوب نظرا الى ظاهر الأمر. قال في «المجمع» : ويدل على صحة
القول الأول قوله (فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) والمفهوم من هذا الظاهر : فإن ائتمنه على ماله فله أن
يأتمنه عليه. قيل فيه تأمل ، إذ يدل على عدم الوجوب على تقدير الايتمان لا مطلقا.
قلت : ذلك يكفي في إثبات المطلوب ، لعدم القول بالفرق ، فان الكلام في وجوب كتابة
الدين مطلقا وعدمها مطلقا. وجعل بعضهم قوله (فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ) إلخ ، ناسخا لوجوب الكتابة والاشهاد ، وفيه نظر.
(وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) بالإنصاف والتسوية والامانة لا يزيد في الحق ولا ينقص
منه ، ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر. وقيل العدل أن يكون ما يكتبه متفقا
عليه بين المجتهدين ، ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله.
ومقتضى ذلك
اشتراط علمه بالكتابة على الوجه المأمور به الموافق للشرع ، حتى يجيء كتابه معدلا
بالشرع غير مشتمل على تغيير وتحريف. وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب
فقيه ديّن حتى يجيء مكتوبة موثوقا به معدلا في الشريعة.
(وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ولا يمتنع أحد من الكتاب (أَنْ يَكْتُبَ كَما
عَلَّمَهُ اللهُ) مثل ما علمه الله من كتب الوثائق [بالنسبة الى كل
معاملة ، بحيث لا يكتب شيئا يخالف
مقتضى تلك المعاملة مما فيه جور أو بخس] أي لا يغير ولا يبدل ، فيكون
تأكيدا لسابقه أو أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها ، كقوله (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ
إِلَيْكَ).
وظاهر النهي
تحريم امتناع الكاتب ، وهو يقتضي وجوبها عليه ، الا أن ظاهر الأكثر الوجوب كفاية
لكونها في معنى الشهادة ، ولأنها من باب التعاون على البر والتقوى ، ولأنها من
الأمور العامة البلوى ، واستلزام إهمالها الخلل بنظام العالم ، فتكون مستحبة
بالنسبة الى كل واحد كما هو شأن الواجب كفاية ، ويؤيده تنكير كاتب. ولأن الفرض هو
الكتابة من أي شخص يتأتى منه ذلك لا خصوصه.
وقيل كانت
واجبة عينا فنسخت بقوله (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ) وهو بعيد (فَلْيَكْتُبْ) تلك الكتابة التي علمه الله ، أمر بها بعد النهي عن
الإباء عنها تأكيدا للحث عليها. ويجوز أن يتعلق الكاف بهذا الأمر [والتقدير ولا
يأب كاتب أن يكتب ، وهنا يتم الكلام ثم قال بعده كما علمه الله فليكتب] فيكون
النهي عن الإباء مطلقا ثم الأمر بالكتابة مقيدة. وفيه من المبالغات ما لا يخفى ،
إذ الجمع بين النهي عن الترك والأمر بالفعل ادعى الى فعله من الاقتصار على أحدهما.
(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ) وليكن المملل من الذي عليه الحق ، لأنه المشهود عليه
فيعتبر إملاله في ذلك ولا ينفع إملال غيره ، لأن الغرض الشهادة على ما في ذمته
والإملال والإملاء واحد. ويستفاد منه وجوب الإقرار من صاحب الحق بما عليه منه حتى
يشهد عليه.
(وَلْيَتَّقِ اللهَ
رَبَّهُ) في الإملال ، فلا ينقص من الحق الذي في ذمته شيئا لا من
قدره ولا من صفته ، بل يجب عليه الإقرار بما كان في ذمته. وفيه تحذير عظيم من ترك
الإقرار بما عليه من الحق كملا. وأكد بقوله (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) ولا ينقص من الحق الذي عليه (شَيْئاً).
ويحتمل رجوع
الأمر بالاتقاء الى الكاتب ، ويكون المراد بالبخس منه عدم نقصانه في الكتابة مما
املى عليه ، وهو في معنى الكتابة بالعدل.
(فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) ناقص العقل مبذرا ، كما هو المتبادر من السفيه (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا لا شعور معه (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) بنفسه لما فيه من الخرس أو الجهل باللغة الذي يكون
الإملال بها (فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ) الذي يلي أمره ويقوم مقامه ، وهو الأب والجد له والوصي
في الصبي والمجنون والسفيه ان كانت لهم الولاية ، كما هو المشهور في البالغ على
تلك الصفة والا فالحاكم وأمينه وولي الشيخ المختل عقله ، والذي لا يستطيع أن يمل
لخرس ونحوه المترجم المتعاطي أحواله العالم بثبوت الدين في ذمته [والمعنى ان الذي
عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبرا فالمعتبر هو إقرار وليّه].
(بِالْعَدْلِ) من غير بخس حق المولى عليه أو المقر له.
ومقتضى الآية
الاكتفاء في ثبوت الحق بمجرد إقرار الولي عن هؤلاء. وقال القاضي وهو دليل جريان
النيابة في الإقرار ، ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل ـ انتهى.
قلت : هو كذلك
، فإن الأصل عدم اعتبار الإقرار في حق الغير ، خرج منه هذا الموضع بالنص لمكان
الضرورة فيبقى ما عداه على المنع. لكن مقتضى ذلك ثبوت الحق في ذمة المولى عليه
بمجرد إقرار الولي. والمشهور انه لا بد من انضمام حكم الحاكم اليه ، مع أنه يشكل
الحال في المترجم ، لاقتضاء الآية اعتماد الكاتب على مترجم واحد ويشكل بأنه بمثابة
الشاهد على ما في الذمة أو على إقراره ، والظاهر اعتبار التعدد فيه الا أن يكون
الكاتب أيضا عالما بالحال وهو مشكل أيضا ، إذ لا يحتاج إلى إقرار المترجم حينئذ.
وبالجملة فالأمر لا يخلو من اشكال ، الا ان يقال يعمل على ظاهر الآية الى ان يثبت
التقييد بنص قابل له أو إجماع ـ فتأمل.
وقيل ان الضمير
في «وليه» يعود إلى الحق ، أي صاحب الدين. والاشكال فيه أقوى ، لأن قول المدعي كيف
يقبل ، ولو كان قوله معتبرا فأي حاجة الى الكتبة والإشهاد ، الا أن يكون المراد
أنه يكتب تذكرة له من لسانه وان لم يكن حجة له. والحاصل ان الآية كالمجمل وبيانها
يعلم من خارج.
ويستفاد منها
أن السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل لا يجوز معاملتهم
ولا التصرف في أموالهم ولا يقبل قولهم في الإقرار ، وان لغيرهم ولاية عليهم
يقبل قولهم فيهم ويصح تصرفهم في أموالهم ، والإجماع على أنهم ليسوا غير هؤلاء
المذكورين سابقا فيتعين كونهم الأولياء.
(وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ) واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان ، وإطلاق الشهيد على
سيشهد تنزيل لما يشارف منزلة الكائن (مِنْ رِجالِكُمْ) ايها المسلمون.
وفيه دلالة على
اشتراط الإسلام في الشهود ، وعليه أكثر أصحابنا ، وللشيخ قول بسماع شهادة الكفار
بعضهم لبعض. وقد يستدل بها على اعتبار البلوغ والعقل كما هو ظاهر الخطاب. واعتبر
آخرون الحرية [لدلالة الإضافة عليه ، فان المخاطب الأحرار] وفي استفادته من الآية
تأمل.
[وقيل (مِنْ رِجالِكُمْ) الذين تعتدون بهم للشهادة بسبب العدالة ، وهو أظهر سواء
كان عبدا أو حرا ، وسيجيء الكلام في تفصيل ذلك].
(فَإِنْ لَمْ يَكُونا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) فليشهدا ، أو فالمستشهد رجل وامرأتان ، وهذا عندنا
مخصوص بالأموال ، وأما غيرها من الحقوق فلا لقيام الأدلة من الخارج على العدم.
(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَداءِ) لعلمكم بعدالتهم ، وهو قيد في الشاهد مطلقا عندنا ،
سواء كانا رجلين أو رجلا وامرأتين ، فإن العدالة معتبرة في الشاهد من حيث هو
عندنا.
ولعل في قوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) إشارة إلى انكم لم تؤمروا بإشهاد شهيدين مرضيين على الحقيقة
ونفس الأمر ، إذ لا طريق لكم إلى معرفة من هو مرضي عند الله من غيره وانما أمرتم
بإشهاد من هو مرضي عندكم بحسب الظاهر ، أي يرضى دينه وصلاحه.
وقد يستدل بها
على اعتبار العدالة في الظاهر ، وأن من هو بهذه المثابة عند المستشهد فهو ممن يصح
استشهاده ، لأن المخاطب بذلك هو المستشهد ، ولا يلزم من استشهاد من هو كذلك عنده
وجوب قبول الحاكم شهادته ، فان القبول متوقف على كونه كذلك عند الحاكم أيضا وقد لا
يكون. نعم يخرج صاحب الحق باستشهاده عن عهدة
الأمر بالاستشهاد ، والقبول من الحاكم باب آخر.
(أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما) علة لاعتبار العدد ، أي التعدد [في النساء وقيام
امرأتين مقام رجل واحد] لأجل أن إحداهما ان ضلت الشهادة ونسيتها (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). والعلة في الحقيقة التذكير ، ولكن لما كان الضلال سببا
له ، نزل منزلته كقولك «أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه». والتقدير إرادة ان تذكر
إحداهما الأخرى ان ضلت.
وفيه اشعار
بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن وقصورهن عن مراتب الرجال [لكثرة الرطوبة والبرودة في
أمزجتهن فيغلب عليه النسيان] وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الهمزة على الشرطية «فتذكر»
بالرفع ، وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «فتذكر» من الأذكار.
بقي شيء وهو أن
ظاهر الآية يقتضي حصر الشاهد في الرجلين أو الرجل والمرأتين فلا يجوز الاكتفاء
بغيرهما. والذي عليه أصحابنا قبول الشاهد الواحد مع اليمين [وهو قول الشافعي ،
وأنكره أبو حنيفة محتجا بظاهر الآية] ويمكن أن يقال ذلك ثبت بدليل خارج عن الآية
كالإجماع والاخبار [الدالة عليه ، وقد روى العامة عنه صلىاللهعليهوآله انه قضى بالشاهد واليمين] فلا اشكال.
__________________
(وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) إلى أدائها. وبه استدل الفقهاء على تحريم الامتناع من
أداء الشهادة بعد التحمل [عند احتياج صاحب الحق إليها] كما يقتضيه قوله (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ) أو الى تحملها إذا نودي إليها ، لما في الإباء عن
التحمل من ضياع الحق ، وهذا ألصق بالآية. وسموا شهداء تنزيلا لما يشارف منزلة
الواقع. ويرجح أيضا بأنه إذا حرم الامتناع عن تحملها حذرا من ضياع الحق فلأن يحرم
الامتناع من أدائها أولى. وربما حمل التحريم على ما هو أعم من الأداء والتحمل. قال
في المجمع وهو أولى ، لأنه أعم فائدة.
وقد يستدل بها
على عدم جواز شهادة العبد في شيء كما ذهب اليه بعض أصحابنا ، وهو قول الشافعية
والحنفية ، لأنه تعالى حرم الإباء على الشاهد والإجماع منعقد على ان العبد لا يجب
عليه الذهاب ، بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن سيده.
(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ) أي لا تملوا من كثرة مدايناتكم أو غيرها من الأسباب أن
تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب [فتتركوا الكتابة ثم تندموا على الترك] وقيل كنى
بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق ومن ثم قال النبي صلىاللهعليهوآله «لا يقول المؤمن كسلت».
(صَغِيراً) كان الدين (أَوْ كَبِيراً) لكنه مقيد بما جرت العادة بكتبه لا كالحبة والقيراط ،
أو محتقرا كان ذلك الكتاب ، أو مشبعا مختصرا أو مطولا.
(إِلى أَجَلِهِ) أي وقت حلوله الذي أقرّ به المديون ، والنهي لصاحب
الدين عن ترك الكتابة والوثيقة ، وقيل نهي للشاهد ، والمراد لا تملوا من كتابة
الشهادة على الحق إلى أجله.
(ذلِكُمْ) إشارة الى أن تكتبوه ، [ويحتمل أن تكون إشارة إلى الذي
أمرتكم
__________________
به من الكتب والاشهاد ممّن ترضون]
(أَقْسَطُ عِنْدَ
اللهِ) أكثر عدلا [لأنه إذا كان مكتوبا كان الى اليقين والصدق
أقرب وعن الجهل والكذب أبعد ، فكان أعدل عند الله].
(وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ) وأثبت لها وأعون على إقامتها [لأنها سبب الحفظ والذكر
فكانت أمرّ أي الاستقامة ، وقدم الأولى لأنها لتحصيل مرضاة الله بخلاف الثانية
فإنها للدنيا].
واختلف في
بنائهما ، فقال القاضي : أنهما مبنيان من «أقسط» و«أقام» على غير قياس ، أو من «قاسط»
بمعنى ذي قسط وقويم ، وانما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده.
قلت : لعل
الوجه في تفسير قاسط بذي قسط حذرا من ان قاسطا قد يكون بمعنى جائر كقوله تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَباً) ولهذا جعله أولا من أقسط أي اعدل وأقوم من اقام لا من
قام على غير القياس.
ويحتمل أن يكون
اقام من قويم بمعنى ثابت أي أثبت ، ووجه كونه على غير قياس ما اشتهر بينهم أن أفعل
التفضيل لا يبنى من المزيد فيه بل يقال أشد اقساطا واقامة. ولكن هذا غير متفق عليه
، فان سيبويه يذهب الى جوازه من أفعل المزيد خاصة ، فيجوّزه من باب الافعال نحو
أعطاهم وأولاهم. قال الرضي : وعند سيبويه هو قياس عن أفعل مع كونه ذا زيادة ،
ويؤيده وقوع ذلك كثيرا نحو أعطاهم للدنانير وأولاهم بالمعروف وأنت أكرم لي من فلان
، وانما جوزه لقلة التغيير فيه ، لأنك تحذف الهمزة منه فقط وترده إلى الثلاثي ثم
تبنى منه افعل.
وفي الكشاف فان
قلت : مم بني فعلا التفضيل أعني أقسط وأقوم؟ قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا
مبنيين من أقسط وأقام ، وان يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط ،
وأقوم من قويم ، والحق أن قول سيبويه هنا غير بعيد لوروده في كلام العرب كثيرا على
وجه لا يصح التكلف في تصحيحه ، فينبغي القول به.
(وَأَدْنى أَلَّا
تَرْتابُوا) وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله
أنتم والشهود [لأن المكتوب أبعد زوالا من الحفظ ، فيكون أقرب الى زوال
الارتياب عن المتداينين].
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً حاضِرَةً) استثناء من الأمر بالكتابة ، والتجارة الحاضرة تعمّ
المبايعة بدين غير مؤجل أو عين (تُدِيرُونَها
بَيْنَكُمْ) تتعاطونها يدا بيد من غير نسيئة (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) حرج وضيق (أَلَّا تَكْتُبُوها) لأن الكتابة للوثيقة وانما يحتاج إلى الوثيقة احتياجا
تاما في النسيئة دون النقد. والمعنى الا أن تبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد ، فلا بأس
أن لا تكتبوها لبعدها عن التنازع والنسيان [لكثرة ما يقع التبايع به بين الناس ،
فربما كان التكليف بالكتابة والاشهاد شاقا عليهم].
وقرأ عاصم بنصب
«تجارة» على أنها خبر كان والاسم مضمر يفسره الخبر ، والباقون برفعها على أنها
فاعل كان التامة ويحتمل الناقصة والخبر (تُدِيرُونَها).
(وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ) لعل المراد بالمبايعة فيها التجارة الحاضرة المذكورة
سابقا ، ويكون المراد أن الإشهاد كاف في التجارة الحاضرة دون الكتابة ويحتمل أن
يكون المراد مطلق التبايع ، فان الاشهاد فيه أحفظ ، وأضبط ، والأمر للاستحباب أو
للإرشاد إلى المصلحة لما في ذلك من تضبيط الأمر.
قال القاضي :
والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة ، وقيل انها للوجوب ، ثم
اختلف في أحكامها ونسخها ـ انتهى.
وفيه نظر ، إذ
الظاهر أن بعض أحكام الآية مما لم يقل أحد بنسخة ، كوجوب أداء الشهادة بل تحملها
أيضا كفاية. نعم اختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب فقيل به ونسخ بقوله (وَلا يُضَارَّ) إلخ ، وهو قول جماعة لا يعبأ بهم [وقد تقدم ان قوله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ناسخ لوجوب الكتابة ، وهو ضعيف] وغيرها من الأحكام لم
يقل أحد بنسخها ـ فتأمل.
(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ) ان كان مبنيا للفاعل كان المراد نهيهما عن إضرار
المتداينين بترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتابة أو الشهادة ، وان كان مبنيا
للمفعول فالمراد النهي عن الضرر بهما مثل استعجالهما عن مهمهما الضروري اللازم
لهما من جهة تحصيل المعاش وتكليف السفر إلى بلد القاضي أو المدّعى عليه
وتكليف الكاتب قلما أو مدادا أو قرطاسا ونحو ذلك.
واعتبر العامة
من الضرار عدم إعطاء الكاتب جعله أي أجرته وهو عندنا [إذا لم يعط من بيت المال
رزقه لأنه من المصالح العامة ، فإنه حينئذ يعطيه الآمر بالكتابة ، لأصالة عدم وجوب
بذل المنفعة مجانا].
(وَإِنْ تَفْعَلُوا) الضرار أو ما نهيتم عنه مطلقا (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) وخروج عن طاعة الله لا حق بكم ضرره (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة ما أمركم به ونهاكم عنه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) الاحكام التي تحتاجون إليها من أمور دينكم وما يصلحكم
في دنياكم (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) تكرير لفظ «الله» في الجمل الثلاث لاستقلالها وعدم توقف
إحداها على الأخرى ، فإن الأولى حث على التقوى والثانية وعد بانعامه ، والثالثة
لتعظيم شأنه ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير.
(تنبيه)
قد يظهر من هذه
التأكيدات في أمر الكتابة أنها معتبرة وحجة شرعية يصح التمسك بها. والمشهور بينهم
خلاف ذلك ، فلا يصح الركون إليها ، بل اللازم الوقوف مع ظاهرها كما ذهب اليه
البعض. ولقد بالغ المانعون في ردها حتى قالوا انه لو علم أنه خطه لم يجز له
الشهادة به الا أن يعلم الواقعة فيشهد لكونه عالما لا لكونه خطه بيده. ويمكن توجيه
المشهور بأن الشهادة يعتبر فيها كونها عن علم كما ثبت بالأدلة ، وظاهر ان الكتابة
لا توجبه ولو أوجبته وجب العمل بها لمكان العلم ، وحينئذ فيمكن أن تكون الفائدة
فيها كونها موجبة لتذكير الشاهد أو صاحب الحق ، وكفى بهذا فائدة.
ذكر عليّ بن
إبراهيم في تفسيره ان في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية خاصة خمسة عشر حكما.
وقد تلوناها عليك في تضاعيف الكلام.
الثانية : (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ). (البقرة : ٢٨٠)
(وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ) وان وقع غريم ذو عسرة ، على انّ كان تامة ، وقرئ «ذا
عسرة» على أنها ناقصة ، واسمها ضمير يرجع الى الغريم. [والعسرة اسم من الاعتسار ،
وهو تعذر ما يجب عليه من المال ، يقال أعسر الرجل إذا صار الى حالة العسرة ، وهي
الحالة التي يتعسر فيها وجود المال].
(فَنَظِرَةٌ إِلى
مَيْسَرَةٍ) فالحكم أو فعليكم أو فليكن نظرة الى يسار ، [والنظرة
اسم من الانظار وهو الإمهال. والميسرة مفعلة من اليسار الذي هو ضد الإعسار].
ومقتضى الآية
وجوب انظار المعسر الى وقت يساره ، ويستفاد منها تحريم حبسه ومطالبته وملازمته
ووجوب إنظاره إلى وقت اليسار. هذا إذا علم إعساره ، ولو كان له ريبة في إعساره جاز
أن يحبسه الى ظهور الإعسار ويخلى عنه.
والى ذلك ذهب
علماؤنا أجمع ، ووافقنا عليه الشافعي ، وفي الاخبار دلالة عليه ، وروي عن الباقر عليهالسلام أن عليا عليهالسلام كان يحبس في الدين ، فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى
سبيله حتى يستفيد مالا .
وقال أبو حنيفة
إذا ثبت إعساره وخلاه الحاكم كان للغرماء ملازمته الا انهم لا يمنعونه من الاكتساب.
وظاهر الآية حجة عليه.
ثم ان ظاهر
الآية قد يعطي أن المعسر لو كان له حرفة لم يجب عليه التكسب لوفاء الدين ، لان
مقتضى انظار المعسر الى اليسار ذلك. وبها استدل الشيخ في الخلاف على ذلك ، وقطع به
ابن إدريس ، وأوجب ابن حمزة عليه التكسب ، وهو خيرة العلامة في المختلف نظرا الى
ان القادر على التكسب ليس بمعسر حتى يجب إنظاره ،
__________________
واستحسنه الشهيد في الدروس. وهو غير بعيد ، لأن قضاء الدين على القادر مع
المطالبة والمتكسّب قادر ولهذا يحرم عليه الزكاة.
ويؤيده ما رواه السكوني عن الصادق عليهالسلام عن عليّ عليهالسلام انه كان يحبس في الدين ثم ينظر ، فان كان له مال أعطى
الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه الى الغرماء فيقول اصنعوا به ما شئتم إن شئتم
آجروه وان شئتم استعملوه. وعلى هذا فلا يكون مثله داخلا في الآية بل خارجا لكونه
قادرا.
وحد الإعسار
عندنا أن لا يكون عنده فاضل عن قوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي النفقة على
الاقتصاد وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع الحر والبرد عنهم ومن دار وخادم يليق
بحالهم ، فلو فضل عنده من ذلك وجب دفعه الى الديان. وفي أخبارنا دلالة على ذلك ،
روى الحلبي في الحسن عن الصادق عليهالسلام قال : لاتباع الدار ولا الجارية في الدين ، وذلك لأنه
لا بد للرجل من ظل يسكنه ومن خادم يخدمه. وبالجملة ما فضل عن جميع ذلك يجب دفعه ،
فلا يكون به معسرا ومالا فلا.
وظاهر الآية
عموم الانظار للمعسر في كل دين كان ، وقال ابنا بابويه ان كان قد أنفق بالمعروف
وجب إنظاره للآية وان كان قد أنفقه في المعاصي فطالبه وجب عليه الأداء وليس هو من
أهل هذه الآية. وظاهر العموم حجة عليهما ، وأصالة عدم التخصيص الا بدليل قد ينفيه.
وقيل ان
الانظار واجب في دين الربا فقط [يحكى عن شريح أنه أمر بحبس احد الخصمين ، فقيل له انه معسر ، فقال شريح
انما ذلك في الربا]. وقيل ان الانظار
__________________
واجب في دين الربا بظاهر الآية وفي كل دين بالقياس عليه. ولعل نظر هذين
القولين الى أن الآية السابقة في بيان حكم الربا ، فيكون هذه فيه أيضا وفيه نظر ،
فان آيات القرآن لا تعلق لبعضها ببعض ، وانما المناط فيها دلالة اللفظ فحيث ثبت
ثبت الحكم.
(وَأَنْ تَصَدَّقُوا) على الغريم بإبراء ما في ذمته (خَيْرٌ لَكُمْ) من الأنظار أو مما تأخذونه لكثرة ثوابه وتضاعفه ودوامه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حقيقة التصدق وما فيه من الثواب الجزيل والأجر الجميل
والانظار وما فيه أيضا فإنكم ترجحون التصدق عليه. ويحتمل أن يكون المراد ان كنتم
من أهل العلم والتمييز.
وفي الآية
دلالة على صحة الإبراء بلفظ التصدق ، الا انه خلاف المشهور فيما بينهم.
وفيها أيضا
دلالة على أنه خير من الانظار. ولا يرد أن الانظار واجب والإبراء مستحب والمستحب
لا يكون أفضل من الواجب ، لأن الإبراء جامع للنظرة والصدقة ، وظاهر أن الجمع بين
الواجب والمندوب خير من الواجب وحده. واعترض بأنه مع الإبراء لا انظار ، إذ هو
انما يكون مع بقاء الحق لا مع زواله ، فلا وجه للجمع بينهما.
وأجيب بأنه لما
كان الغرض من وجوب الانظار ترك المطالبة والتضييق على الغريم وهو متحقق مع الإبراء
فكأنه جمع بينهما وكان الثواب المترتب عليه أكثر من ثواب الانظار وحده ، وهو كما
ترى. والحق أن أفضلية المندوب على الواجب غير مستبعدة بل واقعة في أكثر الموارد
فلا مانع من أن يكون هذا منها.
وقيل أراد
بالتصدق هنا الانظار ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة». وهذا القول مرغوب
عنه ، فإن الانظار قد علم ما تقدم ، فلا بد من حمل هذا على فائدة جديدة ، ولأنه لا
استبعاد في كون الإبراء
__________________
خيرا من الانظار وبقاء المال في الذمة ، وان حصل في كل يوم بل كل ساعة صدقة
إذ يجوز خيرية هذه الصدقة بالنسبة الى ما عداها ، للآية وللاخبار.
ومقتضى إطلاق
كون التصدق والإبراء خيرا من الانظار أنه كذلك بالنسبة الى كل احد وان كان فاسقا
أو غنيا ، فهو بمثابة قولك الإحسان حسن وان لم يكن المحسن اليه من أهله ، كما روي
عنه صلىاللهعليهوآله «واصنع المعروف الى كل أحد فان لم يكن أهلا فأنت أهل لذلك».
ثم انه تعالى
أكد الترغيب في الطاعات والترهيب عن المعاصي بقوله (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي تصيرون اليه ، وهو يوم القيامة [أو يوم الموت ،
ومعنى الرجوع عودهم إلى الحالة التي كانوا عليها قبل الدخول في الدنيا ، أو المراد
الرجوع الى ما أعد الله من الثواب والعقاب].
(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أى تستوفى فيه أجر ما كسبته من الاعمال خيرا أو شرا ،
أو ما كسبته من الثواب والعقاب [فان المكلف عند رجوعه الى الله لا بد وان يصل اليه
جزاء عمله تماما ، كما قال (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)].
__________________
(وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب ولا يزاد عليهم
فيما يستحقونه من العقاب.
[فان قيل أليس
قوله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) دالا على ذلك ، فكان تكرارا. قلنا قوله (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) دال على إيصال العذاب الى الفساق والكفار ، فربما توهم
متوهم أنه كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده ، فدفع هذا الوهم بقوله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). والمعنى أن العبد هو الذي ظلم نفسه لانه مع ذلك مكنه
وأزاح عذره وسهل عليه الطريق وأمهله فإذا قصر كان هو الذي أساء إلى نفسه فلا ظلم
عليه] فليكن العاقل على حذر من ذلك اليوم وعما قليل تصل اليه.
قال في الكشاف
وعن ابن عباس أنها آخر آية نزل بها جبرئيل وقال ضعها في رأس الثمانين
والمائتين من البقرة ، وعاش رسول الله صلىاللهعليهوآله بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل سبعة أيام ، وقيل ثلاث ساعات. ومثله قال «القاضي» ، ومرادهما آية (وَاتَّقُوا يَوْماً) إلخ.
وقال في المجمع
وهذه السورة آخر سورة كاملة نزلت من القرآن ، فعاش رسول الله صلىاللهعليهوآله بعدها ستة أشهر ، ثم لما خرج رسول الله الى حجة الوداع
نزلت عليه في الطريق (يَسْتَفْتُونَكَ). (فِي الْكَلالَةِ) إلى آخرها ، فسميت آية الصيف ، ثم نزل عليه وهو واقف
بعرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) فعاش رسول الله صلىاللهعليهوآله بعدها واحدا وثمانين يوما ، ثم نزلت عليه آيات الربا ،
ثم نزلت بعدها (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ) الآية ، وهي آخر آية نزلت من السماء ، فعاش رسول الله صلىاللهعليهوآله بعدها أحدا وعشرين
__________________
يوما ، وقال ابن جريج : تسع ليال ، وقال سعيد بن جبير ومقاتل سبع ليال ، ثم
مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حتى زاغت الشمس. وروى أصحابنا
لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة ـ انتهى كلامه.
وعلى هذا فما
قاله قبل هذه الآية ورواه عن ابن عباس وابن عمر أن آخر ما نزل من القرآن آي الربا
، كالمجمل تفصيله ما ذكره هنا فلا تنافي بين كلاميه.
الثالثة : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ
يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (البقرة : ٢٤٥)
(مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ) من للاستفهام ، ومحلها الرفع بالابتداء وذا خبره والذي
صفته أو بدل منه [قيل المراد منه القرض بالجهاد خاصة لتعلقه به ، ندب تعالى العاجز
عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر عليه ، وأمر القادر عليه أن ينفق على نفسه في
طريق الجهاد. وقيل انه لا تعلق له بما قبله ، والمراد الإنفاق في سبيل الله. وقيل
ان المراد كلا الأمرين]. وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه.
(قَرْضاً حَسَناً) إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس ، ويندرج في
ذلك جميع الطاعات الواقعة لوجهه ، سواء كانت بذل النفس كما في الجهاد أو السعي في
تحصيل العلوم أو الواجبات ، أو السعي في قضاء الحاجات وسائر مرضاة الله. ويدخل فيه
مثل إقراض المؤمنين المحتاجين وغيره. وخصه بعضهم بالمجاهدة أو الإنفاق في سبيل
الله والعموم أولى.
وعن ابن عباس
القرض الحسن أن يستره ويصغره ويعجله. ولعل الوجه في التعبير عن أمثال ذلك بالقرض
الذي هو قطع المال ودفعه ، ليعوض به التنبيه على أن العوض على هذا العمل والجزاء
عليه لازم الوصول الى صاحبه (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) فيضاعف جزاءه وثوابه وقد أخرج الكلام على صورة المغالبة
للمبالغة. وقرأ عاصم بالنصب على إضمار أن لكونه جواب الاستفهام من حيث المعنى ،
فان الكلام في قوة أيقرض الله أحد.
(أَضْعافاً كَثِيرَةً) أمثالا كثيرة لا يقدّرها الا الله. وقيل الواحد
بسبعمائة ، وهي جمع ضعف ، ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو علي أنه مفعول
ثان ،
لتضمن المضاعفة معنى التصيير ، أو على المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمع
للتنويع وقد كثر استعمال اقامة اسم المصدر مقامه وإعطاؤه حكمه فيما بينهم
والاختلاف في الاضعاف بسبب النية واستحقاق المنفق عليه وصلاحيته وعلمه وقرابته
وغير ذلك من العوارض الموجبة للتضاعف.
وعن الصادق عليهالسلام قال : لما نزلت آية (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : رب زدني. فأنزل الله سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها). فقال رسول الله : رب زدني ـ فأنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً). والكثير عند الله لا يحصى [أبهمه لأن ذكر المبهم في
باب الترغيب أقوى من ذكر الحدود].
(وَاللهُ يَقْبِضُ
وَيَبْصُطُ) أي يقتر على قوم في الرزق وبوسع على آخرين بحسب ما
تقتضيه المصلحة والحكمة ، فلا تبخلوا بما وسع الله عليكم كيلا يبدل حالكم ، أولا
ينبغي لمن قتر عليه أن يخرج عن الرضا ولا لمن وسع عليه أن يتكبر.
ويحتمل أن يراد
[أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بيد الله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي
اعتماده على الله ، فحينئذ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل الله. ويحتمل ان يراد]
أنه يقبض القرض ويبسط في العوض فيوسعه ، أو أنه يقبض على البعض بالموت ويبسط على
الوارث.
(وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدّمتم من الأعمال الصالحة وعلى ما
تركتم منها.
وقد وقع في
الكتاب المجيد آيات كثيرة دالة على الحث على إقراض الله كقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وقوله (إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ
لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وقوله (إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ) ونحوها ، وهي متقاربة في المراد.
وأما توابع الدين
فأنواع :
__________________
النوع الأول
الرهن
وفيه آية واحدة ، وهي :
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا
تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). (البقرة ٢٨٢)
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى
سَفَرٍ) اى مسافرين ، والخطاب للمتعاملين بالدين المؤجل كما
يعطيه قوله (وَلَمْ تَجِدُوا
كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ حذف خبره ، والتقدير فالذي
يستوثق به أو فعليكم رهان.
وليس المراد
باشتراط السفر في الارتهان انه لا يكون مشروعا في الحضر ، فان الرهن يجري في الحضر
والسفر معا وحال الكاتب وعدمه بغير خلاف بين العلماء ، وانما الاشتراط بالسفر خرج
مخرج الغالب ، فان السفر لما كان مظنة لاعواز الكتب والإشهاد أمر على سبيل الإرشاد
إلى حفظ المال بذلك ، فقول مجاهد والضحاك باشتراط السفر فيه بعيد مخالف للإجماع [ومعارض
باشتراطه بعدم الكاتب ، مع أنه غير شرط عند الخصم أيضا] ومردود بما اشتهر عنه صلىاللهعليهوآله انه رهن درعه وهو حاضر عند يهودي على عشرين صاعا من
شعير .
والأمر بالرهن
للإرشاد كما عرفت دون الوجوب كما في الكتابة ، وقد انعقد الإجماع على عدم وجوبه.
أما اشتراط
القبض فيه وعدم لزومه بالإيجاب والقبول من دونه فهو قول الأكثر
__________________
منا ومن العامة. والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا
للمرتهن عن الارتهان ومقتضى هذا أنّه لو رهن بإيقاع الإيجاب والقبول ولم يقبض لم
يلزم وكان للراهن الامتناع من الإقباض والتصرف فيه بالبيع ونحوه لعدم لزومه.
وذهب الشيخ في
الخلاف إلى لزومه بمجرد العقد ، واختاره ابن إدريس ، وعليه مالك من العامة واحمد
في إحدى الروايتين.
واحتج الأولون
بظاهر قوله (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) حيث وصفها بكونها مقبوضة فاقتضى ذلك عدم تحقق الرهن
بدونه. ويؤيده رواية محمّد بن قيس عن الباقر عليهالسلام قال : لا رهن الا مقبوضا.
واحتج الآخرون
بعموم قوله تعالى (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) وأصالة عدم اشتراط القبض. وأجابوا عن الآية بأن الدلالة
فيها من حيث وصف الرهن بالقبض ، ولا حجة فيه عند المحققين. على أنها لا تدل على
الاشتراط ، فان القبض لو كان شرطا في الرهن لكان ذكر القبض تكرارا لا فائدة تحته ،
فكما لا يحسن أن نقول «مقبولة» لا يحسن «مقبوضة».
ولأن الآية
لبيان الإرشاد إلى حفظ المال ، وذلك انما يتم بالإقباض كما أنه لا يتم الا
بالارتهان ، فالاحتياط يقتضي القبض كما يقتضي الرهن ، وكما أن الرهن ليس شرطا في
الدين فكذا القبض في الرهن. والرواية ضعيفة السند فلا يصار إليها في
__________________
إثبات مثل هذا الحكم ـ كذا أجاب العلامة في المختلف .
قلت : الذي
يظهر من الرواية أن الوصف في الآية بالقبض للبيان والكشف لا للتقييد ، فلا يتحقق
الرهن بدون القبض ، كما هو مقتضى الوصف الموضح الكاشف. وضعف الرواية لا يمنع من
كون المراد بالآية ذلك ، فإنها كالامارة عليه ، ولعل من يذهب إلى اشتراط القبض
ينظر إلى ذلك ، فما أجاب به عنها مدفوع على أن الرواية مشهورة بين الأصحاب فنقلوها
في الكتب المعتبرة وأكثرهم عامل بها ومفت باعتبار القبض ، وهو جابر لضعفها ان كان.
ثم إنا لو
تنزلنا عن ذلك لأمكن أن نقول : الآية ان لم تكن ظاهرة فيما قلنا فهي محتملة له
احتمالا مساويا لاحتمال غيره ، وهي دليل مشروعية الرهن في المعاملات وليس عليه
دليل غيرها ، وحينئذ فنقول : كون الشيء وثيقة شرعية يترتب عليها الأحكام الخاصة
بها مثل سقوط سلطنة المالك عن ملكه وكونه وثيقة الدين ونحو ذلك مما هو خلاف الأصل
يتوقف على دليل شرعي مستفاد من الشرع ولا يكفي فيه الأصل والعقل.
والذي ثبت
بالشرع كونه وثيقة شرعية ، بالإجماع وظاهر الآية والخبر السابق هو الرهن المقبوض
ولم يثبت في غيره ، فيبقى على الأصل الذي هو العدم ، ولا يكفي فيه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فانا لا نسلم أن الرهن بدون القبض عقد شرعي يجب الوفاء
به لعدم ظهور ثبوته من الشرع كذلك.
وأيضا ان كان
المراد العقود الصحيحة فلا نسلم صحة العقد الواقع بدون القبض ، وكون الأصل فيه ذلك
غير ظاهر ، فإنه يعتبر فيه شروط زائدة عليه ، وليس حصولها معلوما ولا مظنونا بدون
اعلام الشارع ولأن الصحة حكم شرعي يتوقف على ورود الشرع به ، ومجرد كون الشيء مما
يصدق عليه أنه عقد لا يقتضي ذلك ، وان كان المراد ما هو أعم من الصحيح أو الفاسد
فلا دلالة فيه على المطلوب.
وقد قيل يجوز
أن يراد بها الأعم كما هو ظاهرها ، وحينئذ فيجب الإيفاء بمقتضى
__________________
مطلق العقد صحيحا كان أو فاسدا ، فالصحيح بمقتضى الصحة والفاسد بمقتضى
الفساد ، فان للفاسد أيضا أحكاما شرعية يترتب عليه ، فأين الدلالة على ما قالوه.
وحيث يعتبر
القبض فالمراد به التخلية مطلقا ، وانما يتحقق بأن يحضر المرتهن فيقبض أو يوكل في
قبضه ، فان كان الرهن خفيفا يمكن تناوله باليد فقبضه ان يتناوله هو أو وكيله وان
كان ثقيلا كالعبد والدابة فقبضه نقله من مكان إلى آخر ، وان كان طعاما فقبضه أن
يكتاله ، وان ارتهن صبرة جزافا فقبضها النقل من مكان إلى مكان ، وان كان مما لا
ينقل ولا يحول من أرض أو دار وعليها باب مغلق فقبضها ان يخلي صاحبها بينه وبينها
ويدفع بابها اليه أو يدفع اليه مفتاحها ، وان لم يكن له باب فقبضه التخلية بينه
وبينها من غير حائل.
ولو كان شيء من
المذكورات في يد المرتهن بالعارية السابقة كفى ذلك في القبض ، وهل يفتقر إلى مضى
زمان يتحقق في يده؟ الأظهر العدم.
(فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي وثق واعتمد بعض الدائنين على بعض المديونين ، بأن لا
يجحده ولا ينقصه ولا يناقصه ، واستغنى بأمانته عن الكتابة والشهادة والارتهان (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمانَتَهُ) أى دينه ، سمّاه امانة مع كونه ثابتا في ذمته ومضمونا
عليه لائتمانه عليه بدون الكتابة والاشهاد والارتهان. والمراد بأدائه اليه إعطاؤه
إياه وإيصاله إليه بغير جحود يحتاج إلى الإثبات عند الحاكم ولا ينقص منه شيئا
ويدفعه إليه في محله من غير مطل وتسويف.
ثم بالغ في
الدفع على ذلك الوجه بقوله (وَلْيَتَّقِ اللهَ
رَبَّهُ) [وليتق المديون المؤتمن ربه فلا يجحد الدين ، لأن المدين لما عامله
المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والاشهاد
والرهن فينبغي لهذا المديون أن يعامله بالمعاملة الحسنة] في اجتناب الخيانة وأداء
الأمانة ، فيدفعها إلى صاحبها على وجه جميل.
ويحتمل أن يكون
المراد الأمر بالإيفاء مطلقا الذي هذا الموضع منها.
ولعل الغرض من
المبالغة في أداء هذا الدين بخصوصه مع أن الدين مطلقا يجب دفعه إلى صاحبه من غير
مطل وتسويف عند الطلب والقدرة إجماعا ، أن هذا الدين في محل الجحود والإنكار لعدم
الكتابة والوثيقة فيه ، فأراد التحذير والتخويف من عدم دفعه إلى صاحبه.
[وقيل ان هذه
الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والاشهاد وأخذ الرهن. وفيه
نظر ، فإن الأوامر السابقة محمولة على الإرشاد ورعاية جانب الاحتياط كما عرفت.
وهذه الآية محمولة على الرخصة ، فلا وجه للنسخ.] وقد يستدل بظاهر الآية على وجوب
أداء كل أمانة ائتمن صاحبها الغير عليها من غير خصوصية بالرهن أو بالدين ولا
بالراهن ولا بالمرتهن ، فيشمل الرهن في يد المرتهن ونحوه وحيث أن الأوامر في الآية
للإرشاد ورعاية وجوب الاحتياط كما عرفت لم تكن الامانة شرطا في عدم الرهن كما قد
يظهر من الآية.
(وَلا تَكْتُمُوا
الشَّهادَةَ) أيها الشهود عند إرادة إقامتها لإثبات الحق ، فان في
ذلك ابطال حق المسلم ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه. ويمكن أن يكون الخطاب
للمديونين والشهادة شهادتهم وإقرارهم على أنفسهم بالحق.
(وَمَنْ يَكْتُمْها) منكم مع علمه بالمشهود به وعدم ارتيابه فيه وتمكنه من
أدائها بحيث لا يترتب على إقامتها منه ضرر (فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ) أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم ، [والآثم الفاجر] وفي إضافة
الإثم إلى القلب مع ان الإثم يلحق المجموع إشارة إلى ان اكتساب الإثم بكتمان
الشهادة يقع بالقلب. لأن العزم على الكتمان انما يصدر منه ، واستناد الفعل إلى
الجارحة التي يقع بها أبلغ ، كما تقول أبصرته بعيني وسمعته بأذني. ولأن إضافة
الإثم إلى القلب أبلغ في الذم ، كما أن اضافة الايمان اليه أبلغ في المدح ، ولأن
القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وان فسدت فسد الجسد كله
، فكأنه قيل قد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه.
وفي الآية
دلالة على أن كتمان الشهادة من الكبائر ، وعن ابن عباس أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ) وشهادة الزور وكتمان الشهادة.
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ) أى تسرون وتظهرون (عَلِيمٌ) فيجازى الجميع بحسب علمه ، وفيه ترغيب وترهيب.
__________________
النوع الثاني
الجعالة والضمان
وفيه آيتان :
الاولى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (يوسف : ٧٢).
(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ) أي من الطعام على طريق الجعل له [وبها استدل أصحابنا
وغيرهم على مشروعية الجعالة] (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل وضمين أودية إلى من رده.
وبها استدل
أصحابنا وغيرهم على مشروعية الضمان. قال العلامة في التذكرة : والضمان ثابت
بالكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) وقال ابن عباس : «الزعيم : الكفيل».
لا يقال : هذه
الآية لا يصح لكم الاستدلال بها ، لأن حمل البعير مجهول ولأنها جعالة ولأنه حكاية
عن منادي يوسف ، ولا يلزمنا شرعه ، لأنا نقول : حمل البعير معروف عندهم ولهذا سموه
وسقا وعلق عليه النبي صلىاللهعليهوآله نصاب الغلات.
وأما الجعالة
فإنا لا نمنع بطلان الكفالة بها ، لأنها تؤل إلى اللزوم ، سلّمنا عدم جواز الضمان
فيها ، لكن اللفظ اقتضى جواز الكفالة بها وجوازها بالجعالة ، ثم قام دليل على أنّ
الجعالة لا يتكفل بها ، وهذا الدليل لا ينفى مقتضى اللفظ.
وأما شرع من
قبلنا ، فقد قيل إنه يلزمنا إذا لم يدل دليل على إنكاره ، وليس هنا ما يدل على
إنكار الكفالة فيكون ثابتا في حقنا. انتهى كلامه.
وهو جيّد غير
أن ضمان المجهول ممّا ذهب إليه جماعة من الأصحاب واختاره
في المختلف واستدل عليه بهذه الآية ، نظرا إلى أن الأصل عدم تعيين حمل
البعير الذي وقع به الضمان ، وحينئذ فلا حاجة إلى التزام معلوميته.
[واعلم أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على مسائل :
الأولى ـ مشروعية
الجعالة.
والثانية ـ مشروعية
الضمان.
والثالثة ـ ان
مال الجعالة يصح ضمانه قبل الشروع في العمل وبعده قبل إكماله.
والرابعة ـ أن
ضمان المجهول الذي يمكن استعلامه بعد ذلك صحيح.
ولا كلام في
المسألتين الأوّلتين بين أهل العلم ، وأما الثالثة فللأصحاب فيها اختلاف : فقال
بعضهم بصحة ضمان مال الجعالة نظرا إلى ظاهر الآية ، ولأنه يؤل إلى اللزوم بتمام
العمل ، وقد وجد سبب اللزوم وهو العقد فكان بمثابة الثمن في مدة الخيار. ورده
آخرون بمنع كون السبب هو العقد وحده بل هو جزء السبب ، ومن ثم لو ترك الباقي من
العمل لم يستحق شيئا بالماضي منه ، فكان الإتيان بالباقي شرطا في استحقاق الجميع ،
والفرق بينه وبين الثمن في مدة الخيار أن الثمن ثابت في ذمة المشتري مملوك للبائع
، غايته انه متزلزل ، ولو أبقي على حاله آل إلى اللزوم بخلاف مال الجعالة.
وفرق العلامة
في التذكرة بين مال الجعالة قبل الشروع في العمل ، وبينه بعده فقطع بعدم جواز
الضمان في الأول ، لأنه ضمان ما لم يجب ، واستقرب الجواز لو كان بعده.
والذي نقوله :
ان الآية إذا كانت دالة على مشروعية الضمان كان العمل بها في جميع ما تناولته
لازما.
فان قيل : هي
شرع من قبلنا ، فلا يجب علينا متابعته. قلنا : قد أجاب العلامة عن ذلك ، قال في
التذكرة : وأما شرع من قبلنا فقد قيل انه يلزمنا إذا لم يدل دليل
__________________
علي إنكاره ، وليس هنا ما يدل على إنكار الكفالة ، فيكون ثابتا في حقنا ـ انتهى
كلامه ، وهو جيد.
وأما الرابعة
فأكثر الأصحاب على جواز ضمان المجهول الذي يمكن استعلامه بعد ذلك ، وهو المشهور
فيما بينهم ، كما اقتضاه ظاهر الآية ، لإطلاق حمل البعير فيها مع اختلاف كميته.
ويؤيده إطلاق قوله صلىاللهعليهوآله : الزعيم غارم .
وقيل بالمنع ،
نظرا إلى أنه إثبات حق آدمي في الذمة ، فلا يصح مع الجهالة كما في البيع ، والآية
حجة عليه ، ولانتقاضه بالإقرار.
وانما قيدنا
بإمكان الاستعلام لأنه لو لم يمكن لم يصح الضمان قولا واحدا].
الثانية : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ
بِذلِكَ زَعِيمٌ) ـ القلم ـ ٤٠).
(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ
بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي كفيل ، والكفيل والضمين واحد ، والمعنى سلهم يا
محمّد أيهم كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين. وبها استدل بعض أصحابنا على
مشروعية الضمان أيضا ، وفي دلالتها على ذلك نظر ، لعدم ظهور وجه الدلالة.
__________________
الثالث الصلح
وفيه آيات :
الاولى : (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء : ١١٤).
(لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) من متناجيهم ، فإنه يطلق عليه ، كقوله (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) أو من تناجيهم ، وعلى هذا فقوله (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ) على حذف المضاف ، أي إلا نجوى من أمر ، ويجوز على
الانقطاع ، بمعنى : ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير.
وانما قال (فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) مع صدق الحكم كليا ، ويؤيده قوله صلىاللهعليهوآله «كلام ابن آدم كله عليه لا له الا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو
ذكر الله» ، استجلابا للقلوب ، وليكون أدخل في الاعتراف به ، وليخرج عنه الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه.
والمراد
بالمعروف أبواب البر لاعتراف العقول بها ولأن أهل الخير يعرفونها ، وروى ابن
بابويه عن الصادق عليهالسلام في قول الله عزوجل (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) قال : يعني بالمعروف القرض.
(أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ) أو إصلاح ذات البين. وبظاهر الآية استدل الفقهاء على
مشروعية الصلح بالمعنى المتعارف ، لظهور كونه إصلاحا بسبب اشتماله على رفع التنازع
بين المتخاصمين ، سواء كان على دين أو عين أو منفعة ونحوه.
__________________
وقال على بن
إبراهيم في تفسيره : حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي ـ عبد الله
عليهالسلام قال : ان الله عزوجل فرض التجمل. قلت : وما التجمل جعلت فداك. قال : أن يكون
وجهك أعرض من وجه أخيك فتجمل له ، وهو قوله (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) الآية.
ويمكن أن يقال
: الخير اما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، والأول ان كان من الخيرات
الجسمانية فهو الأمر بالصدقة ، وان كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية
أو العملية فهو الأمر بالمعروف ، والثاني هو الإصلاح بين الناس ، فثبت أن الآية
مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق.
الثانية : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ) (الأنفال ـ ١).
(وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ) أى الحال التي بينكم بالمواساة ومساعدة بعضكم بعضا فيما
رزقكم الله. وبها استدل أيضا علي مشروعية الصلح بالمعنى المشهور ، وفيها الكلام
السابق [المذكور].
الثالثة : (وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) (النساء ٣٥).
(إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ
بَيْنِهِما) خلافا بين المرء وزوجته (فَابْعَثُوا حَكَماً
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما ليتبين
الأمر أو إصلاح ذات البين رجلا وسيطا يصلح للحكومة والإصلاح من أهله وآخر من أهلها
، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح.
(إِنْ يُرِيدا
إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين ، أى ان قصدا
الإصلاح أوقع الله بحسن سعيهما الموافقة بين الزوجين. وقيل كلاهما للحكمين أى إن
قصد الإصلاح يوفّق الله بينهما ليتّفق كلمتهما ويحصل مقصودهما وقيل : للزوجين ، أى
ان أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق.
__________________
وفيه تنبيه على
أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه وبها استدل على مشروعية الصلح
بالمعنى المشهور ، وفيه ما مر.
الرابعة : (وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ
يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء ١٢٨).
(وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها) توقعت منه لما ظهر لها من المخايل (نُشُوزاً) تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها كراهة لها (أَوْ إِعْراضاً) بتقليل محادثة أو مؤانسة ونحوها مما يظهر معها آثار
نشوزه ، وذلك لبعض الأسباب كالطعن في السن أو طموح عين إلى أخرى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أى لا إثم ولا حرج على كل واحد منهما (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أن يتصالحا ، بأن تحط له بعض المهر أو القسم الذي لها
أو تهبه شيئا تستميله به ليستديم المقام في حباله أو تبقى على زوجيته.
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أى الصلح بترك بعض الحقوق خير من الفرقة وسوء العشرة أو
من الخصومة ولا يجوز أن يراد به التفضيل بل بيان أنه من الخيور كما أن الخصومة من
الشرور ، فهو بمعنى أصل الفعل.
وفي الآية
دلالة على مشروعية الصلح بالمعنى المصطلح ، ويستفاد منها أن الزوجة إذا أسقطت
القسمة من حقها سقطت. وفيه دلالة على جواز سقوط الشيء قبل وجوبه ، فان حق الزوجة
يتجدد يوما فيوما بالنسبة إلى حقها ، وسيجيء لهذا تتمة إنشاء الله تعالى.
الخامسة : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات ـ ١٠).
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) لاشتراكهم في الدين. وفي هذا بيان لأن الايمان قد عقد
بين أهله من النسب الغريب والنسب البعيد اللاصق إلى حد إن لم يفضل الاخوة ولم يزد
عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها.
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ) لعل الفائدة في وضع الظاهر موضع المضمر الحث على ارتفاع
الفتنة وإيقاع الصلح ، لما في العادة أنّه إذا نشب النزاع بين الأخوين لأب وأم لزم
سائر الناس ان يتناهضوا في رفعه وإزاحته ، ويركبوا الصعب والذلول مشيا
بالصلح ، وبثّ السفراء بينهما إلى ان يحصل الوفاق ، فالإخوة بالدين أحق
بذلك. وقد يستدل بها أيضا على مشروعية الصلح بالمعنى المصطلح ، وللتأمل فيه مجال.
السادسة : (فَإِنْ فاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) الحجرات ٩.
(فَإِنْ فاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) في كل الأمور (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) يحمد فعلهم بحسن الجزاء. وفيها ترغيب في الإصلاح ،
والكلام في دلالتها كما تقدم.
الرابع الوكالة
استدل على مشروعيتها بثلاث آيات :
الأولى : (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (البقرة ٢٣٧).
(إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) استدل بها على مشروعية الوكالة بالمعنى المشهور ، نظرا
إلى أن من بيده عقدة النكاح يشمل الولي والوكيل. وفيه نظر ، وسيجيء الكلام في كتاب
النكاح.
الثانية : (فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى
طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) (الكهف : ١٩).
(فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى
طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) والمراد أعطوه دراهمكم وأقيموه مقام أنفسكم في الابتياع
، ولا يراد من الوكيل سوى ذلك ، وبها استدل العلامة في التذكرة.
وفيه نظر ،
فإنها حكاية حال لا عن شرع ولا عن معصوم ، فالاستناد فيها إليها بعيد. الا أن يقال
: ذكرت الآية في وصف حالهم وفي سياق مدحهم على الفعل الذي صدر منهم مع كونهم من
الصلحاء الأبرار. وفيه ما فيه.
الثالثة : (قالَ لِفَتاهُ آتِنا
غَداءَنا) (الكهف) ٦٢.
(قالَ لِفَتاهُ آتِنا
غَداءَنا) الفتى يطلق على الوكيل والخادم ، وحيث ان المراد يوشع
بن نون عليهالسلام وليس هو خادما فتعين كونه وكيلا ، وفي ذلك نظر.
وبالجملة دلالات الآيات على مشروعية الوكالة بعيدة وان كان الإجماع منعقدا عليها ،
والاخبار دالة عليها ، فان الكلام في استفادة ذلك من الآيات.
كتاب فيه جملة من العقود
وفيه مقدمة وأبحاث :
أما المقدمة
ففيها آية واحدة تشتمل على أحكام كلية ، وهي :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا
ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ
يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) ـ (المائدة : ١) (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الوفاء هو القيام بمقتضى العقد وكذلك الإيفاء ، والعقد
العهد الموثوق به ، وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما ، ولعل
المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من
التكاليف والعقود التي يعقدونها فيما بينهم من عقود المعاملات والأمانات ونحوهما
مما يجب الوفاء به ، ففي الآية دلالة على وجوب الوفاء بالعقود على ما هو ظاهر
الأمر إلّا ما أخرجه الدليل وقام على عدم لزومه وجواز فسخه.
وعلى كل حال
فالمراد بها ما ثبت مشروعيتها الا ما يخترعه المكلف من نفسه ولا ما وقع النهي عنه
، فقول أبي حنيفة ان من نذر صوم يوم العيد أو ذبح ولده وجب عليه الوفاء بها ، فيجب
عليه الصوم والذبح ، غايته أنه نفى هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا يوم العيد
وفي خصوص كون الذبح في الولد ، وحاصله وجوب صوم غير يوم العيد وذبح غير الولد. لا
وجه له ، لظهور كونه معصية والوفاء به ترك امتثاله ، لما اشتهر عنه صلىاللهعليهوآله «لا نذر في معصية الله». ووافقنا في ذلك الشافعية.
ثم انّ عموم
الآية عندنا وعند الشافعية مخصوص بالبيع ، قبل تفرق المجلس
لقوله صلىاللهعليهوآله «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» . وأسقط أبو حنيفة هذا الخيار نظرا الى العموم ، وقد
تقدم.
(أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) يحتمل أن يكون إشارة إلى تفصيل بعض العقود ، كذا في
الكشاف ونحوه قال القاضي. فالمراد بوجوب إيفاء مثله اعتقاد حل اكله ووجوبه مع
الحاجة. ويحتمل أن يكون المراد اباحة أكل لحمها أو مطلق الانتفاع بها.
والبهيمة كل حي
لا تميز له [من قولهم استبهم الأمر على فلان إذا أشكل] وقيل كل ذات أربع في البر
والبحر ، وانما سميت بها لأنها أبهمت عن أن تميز ، وإضافتها إلى الأنعام للبيان ،
أي البهيمة التي من الانعام ، وهي الأزواج الثمانية [الإبل والبقر والغنم] ويلحق
بها الظباء وبقر الوحش وحماره.
وقيل ان بهيمة
الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، ولعلهم أرادوا ما يماثل الانعام ويدانيها من
جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وهو
تخصيص غير واضح [وقيل ان المراد ببهيمة الانعام أجنة الانعام]
__________________
ويحتمل ان يراد بها الانعام ، ويكون ذكر البهيمة للتأكيد. وفيها دلالة على
إباحة بهيمة الأنعام.
(إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) الا محرم يتلى عليكم ، أو إلا الذي يتلى عليكم آية
تحريمه. وقد أجمع المفسرون على أن الآية المتلوة هي قوله بعد ذلك (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ) الى آخرها [فان قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) يقتضي احلالها لهم على جميع الوجوه ، فبين الله تعالى
أنها ان كانت ميتة أو موقوذة الى آخر ما ذكره فهي محرمة].
(غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ) يحتمل أن يكون حالا من المجرور في «لكم» أي أحلت لكم
هذه الأشياء لا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذا كنتم
محرمين ، وقيل حال من ضمير «أوفوا». وقد يتراءى منه أن الإيفاء وحل البهيمة مقيد
به ولعلّه غير مراد وقيل استثناء وكأنه من بهيمة الانعام.
وفيه تكلف ،
لعدم كون المحلين من جنس البهيمة [ويمكن حمله على المنقطع أي أحلت لكم بهيمة
الأنعام لكن لا تحلوا الصيد في حال الإحرام ، لما ذكر تعالى أن بهيمة الأنعام حلال
، ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها ، فعرفنا أن ما كان منها صيدا فإنه حلال في
الإحلال دون الإحرام وما لم يكن صيدا فإنه حلال في الحالين معا].
(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من ضمير (مُحِلِّي الصَّيْدِ) [والحرم من أحرم ، أي دخل في الإحرام بالحج والعمرة ، فهو محرم وحرم ،
ويستوي فيه الواحد والجمع كالجنب ، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب وقد يقال أحرم
لمن دخل الحرم ، وقوله (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يشمل الوجهين ، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما
يحرم على من كان محرما بحج أو عمرة].
(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
ما يُرِيدُ) من تحليل وتحريم وهو دليل قوي على بطلان القياس الحاصل
باستنباط العلة ، فإنه تعالى قد حكم بالحكم الواحد في المتخالفات وباختلاف الحكم
في المتفقات. وفيه إشارة إلى انه لا ينبغي السؤال عن اللم والعلة ، لإيجاب الوفاء
واباحة ما أباح وتحريم ما حرم ، إذ لا نفع يترتب على ذلك.
وحيث بينّا وجوب الوفاء بالعقود على
الاجمال ، فلنذكر الآن بيان تفاصيلها ، وذلك أنواع :
(النوع الأول)
(الإجارة)
وفيها آيتان :
الاولى : (قالَتْ إِحْداهُما يا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص : ٢٦)
(قالَتْ إِحْداهُما يا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وهي دالة على مشروعية الإجارة في زمن شعيب عليهالسلام.
الثانية : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) القصص : ٢٧ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) هي كسابقتها في الدلالة على المشروعية الا أنها شرع من
قبلنا ، وفي دلالتها على المشروعية في شرعنا تأمل ، لعدم الحجية فيه عندنا ، ولا
يكفي فيها أصالة عدم النسخ وكون ذلك العقد مما يتوقف عليه نظام النوع ، ان تم فليس
بدال على حجية الآية فيه ، بل هو مستقلّ في الدلالة ، والمقصود دلالة الآية عليه
والا فالإجماع منعقد على مشروعيتها والاخبار متظافرة.
والأولى
الاستدلال عليه بقوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) حيث أوجب لهن الأجر ، وهو يقتضي مشروعية الإجارة وثبوت
الأجرة بها. ولا يرد أن
__________________
الإجارة تمليك منفعة واللبن عين ، فلا يصح الاستدلال بها ، لأن الإجارة على
الحضانة واللبن تابع ، فصح كونها على المنفعة ـ فتأمل.
__________________
(النوع الثاني)
(الشركة)
وفيه ثلاث آيات :
الاولى : (فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) (الأنفال ـ ٦٩)
(فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) دلت على اشتراك الغانمين في الغنيمة لجمعهم في الخطاب ،
ونحوها قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية ، حيث جعل الخمس مشتركا بين الأصناف المذكورين.
الثانية : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي
الثُّلُثِ) : النساء ـ ١١
(فَهُمْ شُرَكاءُ فِي
الثُّلُثِ) لدلالتها على الاشتراك فيه.
__________________
الثالثة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) (براءة ـ ٦١)
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) الآية ، دلت على الاشتراك لكن على قول من يقول بوجوب
البسط على الأصناف.
وفي دلالة
الآيات تأمل : أما الأولى فلجواز أن يكون المراد إباحة الأكل منها لا الشركة
بالمعنى المصطلح ، الا أن يقال ذلك للاشتراك.
وأما الثانية
فلدلالتها على الاشتراك في الميراث ، الا أن يقال ذلك يستلزم ثبوت مهية الشركة ،
إذ لا يراد بها سوى اجتماع حقوق الملاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع.
وأما الثالثة
فلا قائل بوجوب البسط عندنا ، على ما عرفت أن اللام لبيان المصرف ، وبناء ثبوتها
على معنى مخالف لإجماعنا لا وجه له. على أن لوازم الشركة منتفية هنا ، إذ للمالك
الخيار في نفس المخرج وجواز إخراج الحق من غيره وكون النماء له ونحو ذلك.
والحق أن دلالة
الآيتين الأولتين على الشركة بالمعنى المصطلح واضحة ، إذ لا يراد فيها سوى اجتماع
حقوق الملاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع ، أو استحقاق
__________________
الشخصين فصاعدا على الشياع أمرا من الأمور ، وهذا المعنى يتحقق فيها ،
ويمكن تحققه في الثالثة أيضا ـ فتأمل.
(النوع الثالث)
(المضاربة)
وفيها آيات :
الاولى : (فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) : الجمعة ـ ١٠
الثانية : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ) : النساء ـ ١٠٠
الثالثة : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ
فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) المزمل ـ ٢٠ والعامل يضرب في الأرض للتجارة يبتغي بذلك
الربح ، ومن هنا سمي مضاربا وفي دلالة الآية على معنى المضاربة المصطلح بعد ،
فإنها دفع أحد النقدين الى شخص ليعمل به ويكون له حصة من الربح ، وشيء من الآيات لا
يدل على ذلك الا أن يقال انها دلت على رجحان التكسب ، وهو أعم من أن يكون بمال
الإنسان نفسه أو بمال غيره ، ومع هذا ففي استفادة ذلك منها تأمل.
(النوع الرابع)
(الإبضاع)
وهو دفع مال
الى أحد ليتّجر به مجانا من غير حصة في ربحه ، لكن ان تبرع به فلا أجرة له والّا
فله أجرة مثله وفي مشروعيته ثلاث آيات :
الاولى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ
اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) يوسف ـ ٦٢
الثانية : (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ
مُزْجاةٍ) يوسف ـ ٨٨
الثالثة : (وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) يوسف ـ ٦٥ وفي دلالتها على الإبضاع بالمعنى المتقدم نظر
، وظاهرها أن المراد بها في الآيات مال إخوة يوسف الذي اشتروا به طعاما لأنفسهم ،
مع انه شرع من قبلنا ولا حجية فيه.
(النوع الخامس)
(الإيداع)
وفيه أيضا ثلاث آيات :
الاولى : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) : النساء ـ ٥٧
الثانية : (فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) : البقرة ـ ٢٨٣
الثالثة : (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) : آل عمران ـ ٧٥ لا شك في دلالة الأولى على وجوب رد
الأمانات مطلقا إلى أهلها ، وظاهرها الوديعة وأمثالها. ونقل في المجمع قولا بأن المراد بها أمانات الله تعالى كأوامره ونواهيه
وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضا من المال ، ورواه عن الصادقين عليهمالسلام.
وقد تقدم أن
الآية الثانية في الدين ، وظاهرها يشمل الأمانة أيضا. ومقتضى الأمر وجوب الأداء
مطلقا الا أنه مقيد بطلب المالك أو من يقوم مقامه ، فلو خلى عنه لم يجب ومع الطلب
يجب على الفور بغير خلاف ، وهذا حكم مطلق الامانة والثالثة أيضا تعم أقسام
الأمانات الواقعة بين العباد والممدوح منهم هم النصارى فإنهم لا يستحلون أموال من
يخالفهم في الاعتقاد ، والمذموم هم اليهود فإنهم يستحلونها كما حكى تعالى عنهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ) والأميين عندهم من ليس على دينهم ، فقال تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) تكذيبا لهم ، وبالغ في ذمهم هنا بأن قال عنهم (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي إلّا مدة إقامتك على رأسه مبالغا في التقاضي
والمطالبة. وتمام ما يتعلق بأحكام الأمانات يعلم تفصيله من كتب الفروع.
__________________
(النوع السادس)
(العارية)
وهي عندهم عقد
شرعي لإباحة الانتفاع بعين من أعيان المال على جهة التبرع ومحلها العين ينتفع بها
مع بقائها وذكر لمشروعيتها آيتان :
الاولى (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى). (آل عمران ـ ٣).
(وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى) والمراد فليعاون بعضكم بعضا على الإحسان واجتناب
المعاصي وامتثال الأوامر ، وهي دالة على مشروعية العارية بالعموم ، من حيث ان
الاذن بانتفاع البعض فيما يحتاج اليه من العين تبرعا من جمله البرّ.
الثانية : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (الماعون ـ ٧).
(الْماعُونَ) اسم جامع لمنافع البيت مما جرت العادة بعاريته ويسأله
الفقير والغني في أغلب الأحوال ، ولا ينسب سائلة إلى لؤم بل ينسب مانعه الى اللؤم
والبخل وذلك كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء
والملح والنار ، لما روي «ثلاثة لا يحل بيعها الماء والنار والملح» ، ومن ذلك أن تلتمس جارك الخبز
في التنور وان تضع متاعك عنده يوما أو نصف يوم.
وهو فاعول من
المعن وهو الشيء القليل. وقد يسمى الزكاة ماعونا لأنه يأخذ من المال ربع العشر فهو
قليل من كثير. قال بعضهم : ومن الفضائل أن يستكثر الرجل
__________________
في منزله مما يحتاج اليه الجيران فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على قدر الضرورة.
وربما قيل ان
الماعون اسم لكل منفعة وعطية ، ويؤيد ذلك ما رواه أبو بصير عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : هو القرض يقرضه والمعروف يصنعه ومتاع البيت يعيره
ومنه الزكاة. قلت : إن جيراننا إذا أعرناهم متاعنا كسروه فعلينا جناح بمنعهم؟ فقال
: لا ليس عليك جناح أن تمنعهم إذا كانوا كذلك.
وفي الآية
مبالغة زائدة في الذم على المنع من الماعون ، حتى أنه تعالى جعله شقيق الربا
المحرم وأضاف الويل اليه ، ومن ثم حمله بعضهم على الزكاة المفروضة ، لأنه تعالى
ذكره عقيب الصلاة. والحق أن منع هذه الأشياء قد يكون محظورا في الشريعة إذا
استعيرت عن اضطرار.
__________________
(النوع السابع)
في السبق والرماية
وفيه آيات :
الاولى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) (الأنفال ـ ٦١).
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ) وأعدوا أيها المؤمنون للكفار أو لمناقضي العهد منهم (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) من كل ما يتقوى به في الحرب ، روى عقبة بن عامر أن
النبي صلىاللهعليهوآله قال «ألا ان القوة الرمي» قالها ثلاثا. (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) التي تربط في سبيل الله ، فهو فعال بمعنى مفعول ، أو
مصدر سمي به ، يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا ، أو جمع ربيط كفصيل
وفصال.
وجه الاستدلال
أنه تعالى أمرنا بأعداد الرمي ورباط الخيل للحرب ولقاء العدو ، والاعداد لذلك انما
يحصل بالتعلم ، والنهاية في التعلم بالمسابقة والرماية ، وبذلك يكمل كل واحد نفسه
في بلوغ النهاية والحذق فيه ، فيتم الاستدلال.
الثانية : (قالُوا يا أَبانا
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) (يوسف ـ ١٧)
(قالُوا يا أَبانا
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) نتسابق ، فان الافتعال والتفاعل قد يشتركان في المعنى
كالانتضال والتناضل ، وهو يجوز أن يراد به التسابق في العدو ويجوز التسابق في
الرمي ، وعلى هذا فلا دلالة لها على المطلوب لعدم ظهور التسابق في المعنى المصطلح
منها ، وارادة التسابق بالأقدام على ما قاله بعضهم غير بعيدة منها ، وهو غير مشروع
عندنا.
ولو سلم ان
المراد به السبق المصطلح فلا يلزم من فعل إخوة يوسف له جوازه لو سلّمنا جوازه وأنه
لو كان منكرا لما اعتذروا به عند أبيهم النبي عليهالسلام لأنه معصوم ، لكنه شرع من
قبلنا وفي حجيته تأمل.
الثالثة : (فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) (الحشر ـ ٦٠)
(فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ) : فما أجريتم على تحصيله ، من الوجيف وهو سرعة السير (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ما يركب من الإبل ، غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه. ولعل
وجه الدلالة فيها أنه تعالى ذكر عدم تسارعهم عليها بالخيل ولا بالإبل ، وهو يقتضي
صحة التسابق عليها ، كذا قيل وفيه تأمل.
(النوع الثامن)
الشفعة
الشفعة مأخوذة
من الشفع وهو الزوج ، كأن المشفوع كان فردا فصار شفعا بنصيب صاحبه ، وأصلها
التقوية والإعانة ، ومنه الشفاعة. وفي الشرع عبارة عن استحقاق الشفيع انتزاع حصة
شريكه المنتقلة عنه بالبيع بملك قهري ثبت للشريك القديم على الحادث.
وليس في الآيات
القرآنية ما يدل عليها صريحا ، لكن لما كانت مشروعيتها لازالة الضرر الحاصل
بالشركة أمكن الاستدلال عليها بما يدل على رفعه ، كقوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ) (الحج ـ ٧٨) (لَوْ شاءَ اللهُ
لَأَعْنَتَكُمْ) (البقرة ـ ٢٢٠) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة ـ ١٨٥) ونحوها من الآيات التي في معناها وتفاصيل أحكامها يعلم من
الفروع.
__________________
(النوع التاسع)
اللقطة
وهي اما إنسان
أو حيوان أو مال ، ولم يرد في الكتاب ما يدل على ذلك بخصوصه ، واستدل بعضهم عليه
بعموم قوله (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (آل عمران ـ ٣) وقوله (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) (البقرة ـ ١٤٨) ونحوها من الآيات الدالة على استحباب أخذها.
ولا يخفى أن
ذلك انما يتم في اللقيط ، أي الإنسان الملقوط ، فان التقاطه واجب على الكفاية
لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك وفي تركه إتلاف النفس المحترمة ، فيكون خلاف
التقوى. أما غيره من لقطة الأموال والحيوان وغير الإنسان فلا يتم الاستدلال عليه
بهذه الآيات ، فإنها في مواضع جوازها مكروهة .
ويؤيده قوله صلىاللهعليهوآله «لا يأوي الضالة إلّا ضال» ، وروينا في الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : وكان علي بن الحسين عليهالسلام يقول لأهله «لا تمسوها» وعنه صلىاللهعليهوآله لما ذكر له اللقطة فقال «لا تقرض لها» الحديث ، ونحوها.
وحينئذ فلا يكون مندوبا اليه. وتمام تفاصيل الاحكام يعلم من محله.
__________________
(النوع العاشر)
الغصب
وهو الاستيلاء
على مال الغير بغير حق ، والآيات الدالة عليه بالعموم كثيرة :
كقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) البقرة ـ ١٨٨ وقوله (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة ـ ١٩٠ والغاصب معتد.
وقوله (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) جمع حبر وهو عالم اليهود (وَالرُّهْبانِ) جمع راهب عالم النصارى (لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) (براءة ـ ٣٥) ونحوهما من الآيات.
قيل ويدل عليه
وعلى جواز المقاصة قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (البقرة ـ ١٩٤) يمكن أن يقال انها غير خاصة في المقاصة بل دالة على ضمان
الغاصب للمغصوب ووجوب رد مثله أو قيمته على المغصوب منه وبها استدل أصحابنا على
ذلك ونحوها في الدلالة قوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها).
وقوله (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) قد يدل على المقاصة بخصوصها ، فان المعنى : من انتصر
لنفسه وانتصف من ظالمه بعد ظلمه ، أي بعد أن ظلمه وتعدى عليه ـ والإضافة إلى
المفعول ـ فأخذ لنفسه بحقه ، فالمنتصرون ما عليهم من اثم وعقوبة وذم ، وذلك يعطي
المقاصة ، لكنه على الوجه الذي غصب منه من غير زيادة في عين أو صفة ، كما هو
الظاهر من الآيات السابقة.
(النوع الحادي عشر)
(الإقرار)
وفيه آيات :
الاولى : (فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) الملك ـ ١١
الثانية : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) براءة ـ ١٠٢
الثالثة : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا) آل عمران ـ ٨١ في دلالة هذه الآيات على الإقرار المصطلح
بين الفقهاء نظر ، فإنه اخبار عن حق سابق على زمان التكلم ، وشيء من الآيات لا يدل
على ذلك.
الرابعة : (كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) النساء ـ ١٣٤ وفيها دلالة عليه ، فان شهادة المرء على
نفسه عين إقراره كما قالوه ، فثبت مشروعيته بالكتاب ، وقد انعقد عليه الإجماع
وتظافرت الاخبار به. وتفاصيل مباحثه يعلم من الفروع.
النوع الثاني عشر
الوصية
وفيها ثلاث آيات :
الاولى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ،
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة ـ ١٨٠
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون أو كل من يصلح للخطاب (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي حضر أسبابه وظهرت أماراته بزيادة المرض أو البلوغ
الى الهرم أو حدوث الوباء ونحو ذلك ، لا إذا عاين الموت وصار محتضرا لعدم الشعور
بالوصية حينئذ (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا ، وقيل مالا كثيرا ، لما روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أن مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة درهم فمنعه وقال :
قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير المال الكثير. قال في المجمع : وهذا هو المأخوذ
به عندنا لأن قوله حجة ، وهو جيد إن ثبت صحة السند والا فالعمل على الإطلاق كما هو
الظاهر ، لعدم تقييدها بمقدار مخصوص من المال.
(الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مرفوع بكتب ، وتذكير فعلها لأنها في معنى أن
__________________
يوصي أو الإيصاء ، ومن ثم ذكر الضمير في بدّله ويبدلونه ، أو لأن التأنيث
غير حقيقي وقيل لمكان الفصل بينهما ، وفيه نظر لإشعاره بتعيين التأنيث مع عدم
الفصل ، ولا وجه له.
وقيل انه مرفوع
بالابتداء وخبره للوالدين والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء ، كقوله «من يفعل
الحسنات الله يشكرها» وفيه أن ذلك إن صح فهو من الضرورات الشعرية ، فلا يلحق
به القرآن ، فاذن الوجه الأول ، والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية المتقدمة.
«بالمعروف» اما
متعلق بالوصية أو بمقدر حال عنها ، والمراد به العدل الذي لا حيف فيه ولا جور ،
كالوصية لهم قبل إخراج الواجبات أو مع حرمان أولاده الصغار.
ويحتمل أن يرجع
الى قدر ما يوصى به ، بأن لا يزيد على الثلث ، أو بأن يكون على القدر المستحب فيها
كما قالوه ، إذ المستحب كونها بالثلث أو الخمس أو الربع ، [ويؤيده ما رواه سعد بن ابى وقاص قال : مرضت فجاء رسول الله صلىاللهعليهوآله يعودني ،
__________________
فقلت : يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال : لا. قلت : النصف؟ قال : لا. قلت
: الثلث؟ قال : الثلث كثير ، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة
يتكففون الناس بأيديهم ـ الخبر] ولا يصل في القلّة بحيث يتجاوز الحد فان من ملك
الكثير فأوصى لأقربائه مثلا بدرهم لم يكن وصية بالمعروف.
ويحتمل أن يرجع
إلى الموصى لهم ، على أنه أمر بطريق العدل لا نحو أن يوصى للغنى ويترك الفقير أو
يوصى للبعيد ويترك القريب. ولا يبعد الحمل على جميع ذلك لصلاحية اللفظ له.
(حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي حق ذلك حقا ثابتا على
الذين يتقون من المعاصي ، فكأنهم خصوا بعد فهم التعميم من «عليكم» لشرفهم وكثرة
انتفاعهم.
وقد اختلف في
كون الآية منسوخة أو محكمة [فذهبت الحنفية بل أكثر العامة إلى كونها منسوخة].
قال في الكشاف ان الوصية كانت في بدء الإسلام واجبة فنسخت بآية
المواريث ، ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «ان الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث».
__________________
وتلقاه الأمة بالقبول حتى لحق بالمتواتر وان كان من الآحاد.
وأجاب عنه
القاضي بأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده ، من حيث أنها تدل
على تقديم الوصية مطلقا ، والحديث من الآحاد وتلقى الأمة له بالقبول لا يلحقه
بالمتواتر.
وهو جيّد [فان
الخبر إذا لم يبلغ حد التواتر لا يصح الانتساخ به] فان انتساخ القرآن بخبر الواحد
مرغوب عنه بين المحققين من الأصوليين. ويؤيده ان من الأقارب من قد لا يكون وارثا
فكيف ينسخ الوصية له بالخبر.
وقد تظافرت
أخبارنا عن أئمتنا عليهمالسلام بجواز الوصية للوارث : روى الكليني في الصحيح عن ابى ولاد الحناط قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الميت يوصي للوارث بشيء؟ قال : جائز له. وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليهالسلام قال : الوصية للوارث لا بأس بها. وعن محمّد بن مسلم عن ابى جعفر عليهالسلام قال :
__________________
سألته عن الوصية للوارث ، فقال : يجوز ، ثم تلي هذه الآية (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). ونحوها من الاخبار .
ويمكن حمل
الخبر السابق على تقدير ثبوته على الوصية الغير الجائزة كالوصية مع الدين المستغرق
أو فيما زاد على الثلث ونحو ذلك مما يمنع الوصية ، على انه معارض بما رووه عنه صلىاللهعليهوآله «لا تجوز الوصية للوارث الا أن يجيزها الورثة». وظاهر أن الإجازة متأخرة
عنها ، فحين وقوع الوصية المتقدم على الإجازة ان وقعت باطلا لم تؤثر الإجازة ، فإن
الباطل لا عبرة به ولا اعتبار له في نظر الشرع ، فوجب أن تكون صحيحة.
وذهب ابن عباس
وجماعة من العامة إلى أن الآية منسوخة في حق من يرث ثابتة فيمن لا يرث ، قالوا :
الآية دلت على وجوب الوصية للقريب وارثا وغيره ترك العمل به في حق القريب الوارث
إما بآية المواريث أو بقوله «لا وصية لوارث» أو بإجماع ، فبقيت الآية دالة على
وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا.
لكن يشكل الحكم
بأن أكثر العلماء لا يقولون بوجوب الوصية للمذكورين ، فيمكن توجيه النسخ حينئذ بأن
الوصية كانت واجبة ثم نسخ وجوبها بالخبر. ولا يلزم من نسخ الوجوب ارتفاع الجواز ،
بل يبقى بعده الجواز الأصلي أو الشرعي كما قالوه فيصح قول من قال بالنسخ ان أراد
ذلك نظرا الى عدم الوجوب.
[قيل] ويمكن أن
يقال : المراد بالآية الندب ، على أن «كتب» بمعنى ندب وان كان ظاهره الوجوب ،
لانعقاد الإجماع على عدمه ، فلا حاجة الى النسخ مع كون الأصل
__________________
عدمه ، وتكون التأكيدات في الآية للمبالغة في استحبابها ، فإن الأخبار
متظافرة به ، وانما تجب إذا كان عليه حق واجب فيجب عليه الوصية به ، سواء كان لله
أو للآدمي ويحرم تركه ويتضيق عند أمارات الموت. وتمام ما يتعلق بذلك يعلم من
الرجوع الى محله.
(فَمَنْ بَدَّلَهُ) غيّر الإيصاء من الأوصياء أو الشهود أو غيرهما ممن يمنع
من وصول ذلك المال الى مستحقه. وقيل انه راجع الى الموصى نفسه ، وتبديله تغيير
الوصية عن الموضع الذي بيّن الله تعالى الوصية فيه ، فإنهم كانوا يوصون في
الجاهلية للأبعدين طلبا للفخر والشرف ويتركون الأقارب في الضرّ والفقر ، فأمرهم
بالوصية للأقربين وأوعدهم على تركها ، وهو مبتدأ تضمن معنى الشرط.
(بَعْدَ ما سَمِعَهُ) ظرف للتبديل ، وما مصدرية ويحتمل الموصولة ، والمراد
بسماعه وصول علمه اليه وتحققه عنده. ولعل ذكر السماع للتنبيه على أن الوعيد الآتي
لا يلزم الا بعد العلم والسماع ، فان التكليف انما هو بعد العلم.
(فَإِنَّما إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فما اثم الإيصاء المغيّر أو التبديل الّا على مبدله ،
لأنه الذي خان وخالف الشرع ، والمجموع خبر المبتدأ ، والفاء لتضمن معنى الشرط ،
والعائد هو الظاهر لكونه في معناه ، فان وضع الظاهر موضع المضمر يكون عائدا أيضا ،
كما قالوه في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ، والتصريح بالجمع للإشعار بأن التبديل قد يكون من
الوارث أو الوصي أو الشاهد أو غيرهم.
(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) وعد للعامل بالوصية بل سائر العبادات أو وعيد للمبدل
بغير الحق ، فإنه يعلم السر وأخفى ، فيجازى على ما صدر منهم. قال في المجمع وفي
الآية دلالة على أن الوصي أو الوارث إذا فرط في الوصية أو غيرها لا يأثم الموصى
بذلك ولم ينقص من أجره شيء وأنه لا يجازى أحد على عمل غيره.
قلت : الظاهر
أن مراده أن الموصى لا يلحقه اثم التبديل الذي صدر من الوارث أو غيره [فان الظاهر
أن المشار اليه بذلك هو التفريط ، ولا ينقص من أجره شيء بسبب الوصية وان وقع
التبديل من الوارث] فإنه لا يجازى أحد على عمل غيره ، كأنه قال
إذا وقع التفريط من الوارث لم يلحق الموصى من الإثم شيء ويكون ثواب الوصية
له ، لا ان مراده أن الإثم الذي كان حاصلا للموصي بسبب ترك الزكاة والحج والصلاة
والصوم وغيرها من الأمور الواجبة بالأصل أو غيره متى ما أوصى بها خرج عن العهدة
وتعلق ذلك الإثم بالمبدل ، فان في ذلك مخالفة للعقل والنقل ، إذ يمتنع أن يكون
الإنسان مع تقصيره في الحقوق الواجبة كالزكاة والخمس وأكل مال الناس غصبا وظلما
متى ما أوصى بها خرج عن تلك الحقوق ولا يكون عليه إثم ويلحق إثمها للوصي المبدل ،
مع ان قوله «ولا يجازى أحد على عمل غيره» صريح في إرادة ما قلناه ، فلا يرد عليه
ذلك.
ثم قال : وفيها
أيضا دلالة على بطلان قول من قال ان الوارث إذا لم يقض دين الميت فإنه يؤاخذ به في
قبره أو في الآخرة ، لما قلناه من انه يدل على ان العبد لا يؤاخذ بجرم غيره ، إذ
لا اثم عليه بتبديل غيره ، وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصى بها لم يزل ذلك
عقابه الا أن يتفضل الله بإسقاطه عنه.
قلت : الظاهر
أن مراده ان الميت إذا أوصى بما عليه من الدين خرج عن عهدة أصل الدين ، فإنه
بمثابة دفع الدين إلى من يدفعه الى صاحبه لا انه يخرج عن عهدة التقصير الحاصل له
بعدم دفعه إلى صاحبه مع طلبه في وقت يمكن الدفع فيه اليه وتأخيره عنه الى ان مات.
وعلى هذا لو
فرط الوارث في الدفع الى صاحب الدين لم يكن الميت مؤاخذا في قبره وفي الآخرة بأصل
الدين ، فان العبد لا يؤاخذ بجرم غيره ، والتقصير في دفع الدين الذي أوصى به الميت
انما صدر من الوارث حيث لم يدفعه إلى صاحبه وغيّر الوصية ، أي ليس على الميت هذا
الإثم وان كان الإثم عليه بسبب تقصيره في الدفع الى صاحبه إذا طلبه أيام حياته مع
تمكنه من الدفع اليه وتقصيره فيه ، فلو لم يتمكن منه لم يكن عليه اثم بوجه من الوجوه
ويرجع الإثم إلى الوارث لو غيّر الوصية.
وفي الاخبار
دلالة على ما ذكرناه : روى الحلبي في الصحيح عن الصادق عليهالسلام
__________________
في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن. فقال : إذا رضى به فقد برئت ذمة
الميت ونحوها.
ولعل في قوله «وكذلك
لو قضى الوارث عنه من غير أن يوصي بها» إشارة الى ان تقصيره هنا جاء من قبل نفسه
بسبب عدم الوصية بالدين الذي عليه ، فيكون اثم ذلك عليه.
وبالجملة في
هاتين الصورتين يخرج عن عهدة أصل الدين وتبرأ ذمته من الحقوق التي عليه ويبقى
تقصيره في التأخير وعدم الدفع أيام الحياة ، وكذا تقصيره في عدم الوصية حال الموت
، أمره إلى الله تعالى ان شاء تفضل عليه بإسقاط العقاب عنه وان شاء عاقبه عليه ،
لان ذلك حقه تعالى محضا ، لاندفاع حق الناس إليهم في الصورتين المفروضتين.
ولو فرض أنه لم
يوص بذلك ولا قضاه الوارث عنه مع كونه مقصرا في الدفع حال الحياة كان أصل الدين
مطالبا به في قبره وفي الآخرة ، وكذا التقصير في التأخير وعدم الوصية ، ويكون إثمه
عليه في الآخرة ، وحينئذ فيوصل حق الناس إليهم ويبقى حقه تعالى ، أمره إليه
سبحانه.
هذا ما يظهر من
كلامه ، وهو موافق للقواعد الكلامية ، غايته أنه يبقى الكلام في المقدمة القائلة
بأن الميت إذا أوصى بما عليه من الدين خرج عن عهدة أصل الدين بتلك الوصية ، ولو لم
يدفعها الوصي إلى صاحب الدين كان التقصير في ذلك على الوصي ، فإن المنع قد يتوجه
عليها. الا أن في كلامه الإشارة إلى ثبوتها ، حيث استدل عليها بأن العبد لا يؤاخذ
بجرم غيره ، فهو مع الدفع إلى الوصي خرج عن عهدة أصل الدين ، وعدم دفع الوصي الدين
إلى صاحبه تقصير منه ، فلا وجه لمؤاخذة الميت به.
__________________
وينبه على ذلك
ما رواه إسحاق بن عمار عن الصادق عليهالسلام في الرجل يكون عليه الدين فيحضره الموت فيقول وليه علىّ
دينك. فقال : يبرئه ذلك وان لم يوفه وليه من بعده وقال أرجو أن لا يأثم وانما إثمه
على الذي يحتبسه. وإذا برئ بمجرد الضمان وان لم يوص فبراءته مع الوصية أولى ،
وحينئذ فلا يؤاخذ به.
وقد تلخص مما
ذكرناه أن الميت إذا أوصى بما عليه من الدين فإنما يبقى عليه عقاب التأخير في
الدفع الى صاحبه حال حياته لو كان متمكنا منه فلو لم يكن متمكنا منه لم يكن مقصرا
ولا اثم عليه بالتأخير أيضا.
نعم لو لم يوص
كان عليه الإثم من هذه الجهة ، وإن فرض قضاء الوارث عنه وكذا الوصي لو لم يتمكن من
الدفع إلى صاحب الحق وحصل التأخير لا باختياره فإنه لا يكون آثما بذلك وانما يأثم
لو أخر عمدا فيكون مؤاخذا على قدر تقصيره. ولا فرق في ثبوت الإثم بينه وبين كل من
يكون له دخل في المنع من إخراج الوصية على اى وجه كان ولو كان باعتبار النظارة
لكونه تعاونا على الباطل.
واعلم أن ظاهر
الآية وان كان في الوصية الخاصة وان تبديلها حرام لا الوصايا مطلقا ، الا أن
الفقهاء عمموا الحكم بتحريم التبديل في جميع الوصايا ، للعلة الظاهرة وورود كون
المراد بها العموم في الاخبار :
روى الكليني في
الحسن عن محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أوصى بماله في سبيل الله. فقال : أعطه لمن أوصى
له به وان كان يهوديا أو نصرانيا ، ان الله تبارك وتعالى يقول (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ
فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
__________________
يُبَدِّلُونَهُ)
ونحوها من
الاخبار المتظافرة ، بل استدلوا بها على تحريم التبديل في الوقف وغيره من
الاحتياط فيه.
(فَمَنْ خافَ مِنْ
مُوصٍ) فمن توقع ، والمجرور في محل النصب على الحال من قوله (جَنَفاً) ميلا عن الحق ، والتقدير من توقع جنفا كائنا من موص
بسبب مخالفة الشرع خطأ (أَوْ إِثْماً) بأن فعل ذلك الجنف عن عمد (فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ) أي بين الموصى لهم بإجراء وصيتهم على النهج المشروع (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بذلك التبديل ، فإن الإثم إنما يترتب على التبديل من
الحق إلى الباطل وهذا من الباطل إلى الحق.
وروى الكليني عن محمّد بن سوقة قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن قول الله تبارك وتعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ). قال : نسختها التي بعدها (فَمَنْ خافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً). قال : يعنى الموصى اليه إن خاف جنفا من الموصى فيما
أوصى به اليه فيما لا يرضى الله به من خلاف الحق ، فلا إثم على الموصى اليه أن
يبدله إلى الحق والى ما يرضى الله به من سبيل الخير.
ولعل المراد
بنسخها رفع عموم التحريم المستفاد من التبديل مطلقا ، ويكون التحريم بالنسبة إلى
التبديل من الباطل إلى الحق كما هو مفاد الآية الثانية مرتفعا عن حكم الأولى ،
فكأنه نسخ.
واحتمل في
المجمع «أن يكون معنى الآية ان الوصي إذا كان يظن حين
__________________
الوصية من الموصى انه يجوز في الوصية فأصلح بينهم ـ أي بين الموصى والورثة
والموصى له وردهم الى المشروع ـ فلا إثم عليه. وهو جيد ، غير أن الأول عليه أكثر
المفسرين كما اعترف به في المجمع ، وهو الظاهر من الروايات.
(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم ، وكون
هذا الفعل من جنس ما يؤثم به. ويحتمل أن يكون المراد به انه غفور للمذنب فكيف
__________________
لمن لا ذنب له.
الثانية : (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَلِيمٌ) النساء ـ ١١).
(مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها لا بما يليه فقط
أى يقسم التركة على الوجه الذي ذكر بعد قضاء الدين والوصية التي أوصى بها. ومعنى «أو»
هنا الإباحة ، وفيها إشارة إلى أنه لو كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث
، كقولك «جالس الحسن أو ابن سيرين» أي جالس أحدهما منفردا أو مضموما إلى الأخر.
والآية وان
كانت مطلقة في اعتبار الدين والوصية ، الا أن الاخبار دلت على أن الدين ان كان
مستغرقا للتركة لم تكن الوصية معتبرة بل كان الدين مقدما عليها وعلى الإرث ، وان
لم يكن مستغرقا كانت الوصية نافذة في ثلث الفاضل عن الدين ، وعلى ذلك إجماع
أصحابنا ، فيقيد إطلاق الآية به.
وقال بعد ذلك (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ
دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) حال من فاعل يوصى اى يوصى بها ، وهو غير مضار اما في
الوصية وذلك أن يوصي بالزيادة على الثلث واما في الميراث بأن يوصي بالثلث فما دونه
، ولكن قصده مضارة ورثته وحرمانهم لا وجه الله تعالى.
ويحتمل أن يكون
المراد أن يوصي بدين ليس عليه يريد بذلك إضرار ورثته وفي حكمه إقراره باستيفاء
ديونه في مرضه أو بيع ماله أو استيفاء ثمنه لئلا يصل الى وارثه.
(وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر يؤكد ما تقدم ، ويجوز أن يكون مفعولا به لغير مضار
أي لا يضار وصية من الله ، وهي الثلث فما دونه بزيادته على الثلث ، أو وصية من
الله بالأولاد وان لا يدعهم عالة على الناس بإسرافه في الوصية وإقراره الكاذب ،
وفي الحديث «ان الإضرار بالوصية من الكبائر».
(وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمضار وغيره (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة ، ففيها دلالة على مشروعية الوصية
وعلى تقديمها على الإرث. ولعل تقديمها في الذكر على الدين مع أنها متأخرة
عنه في الحكم فان قضاء الدين قبل الوصية ، لكونها شاقة على الورثة مزاحمة
لهم في ميراثهم ، إذ هي تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، فكأن أداءها
مظنة التفريط ، بخلاف الدين فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه ، وكأن في تقديمها
ترغيب لهم في أدائها وحث عليه.
وفي الآية
دلالة على أن الموصى له يملك الوصية بمجرد الموت من غير توقف على القبول ، وهو قول
الشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط ، لانه تعالى جعل للورثة أنصباءهم بعد الوصية
على الإطلاق ولم يقيدها بالقبول ، ولا يمكن بقاؤها على ملك الميت لانه لا يملك شيئا
، واستمرار ملكه في هذه الصورة مع الموت بعيد جدا ، فلم يبق الا أن يكون ملكا
للموصى له والا يبقى بلا مالك ، وهو بعيد لاستحالة بقاء الملك بغير مالك ، ولأن
الوصية على مضاهاة الإرث يملك بالموت.
وقضية هذا
القول أن القبول كاشف عن الملك حين الموت ، بمعنى انه ان قبل الموصى له الوصية
انكشف انه تملّكها بالموت ، وان لم يقبل انكشف ان الملك قد انتقل إلى الورثة
بالوفاة. والأكثر من الأصحاب على أن القبول من الموصى له شرط في تحقق ملك الوصية
على الموصى له ، كما أن الموت شرط في ذلك أيضا ، فإن الملك حادث فلا بد له من سبب
وليس هو الموت وحده إجماعا ، ومن ثم لو ردّها بعد الموت رجعت الى ملك الورثة ، ولا
القبول وحده والا لكفى بدون الموت وهو باطل إجماعا ، فتعين انهما معا سبب في الملك
، فمتى وجد الموت والقبول ملك الوصية.
وأجابوا عن
الآية بأن المراد من بعد وصية مقبولة ، لأنه لو لم يقبل لكان ملكا للوارث ، وقبل
قبولها ليست مقبولة.
والذي اختاره
العلامة في التذكرة ان الوصية تنتقل الى الموصى له بوفاة الموصى لكن انتقالا
متزلزلا غير مستقر ، فان قبله بعد الموت استقرت عليه وان رده انتقلت الى الوارث
بالردّ.
وهو غير بعيد ،
لأن انتقال الوصية بالموت الى الموصى له لو كان على وجه الاستقرار للزم عدم زوالها
عنه بعد الموت بالرد كما لا يزول بالرد بعد القبول المتعقب
للموت ، لأن الاملاك المستقرة على ملك أربابها لا تزول عنهم بردهم إياها ،
ولا يمكن القول بالوقف لأنه انما ثبت الوقف بالنسبة إلينا لعدم علمنا بالحكم لا في
نفس الأمر ونحن قسمنا بالنسبة الى ما في نفس الأمر فلم يبق الا ما ادّعيناه.
وظاهر الآية
يساعد على ذلك لاقتضائه الإرث بعد الوصية كما عرفت ، ونحن نقول به لحصول الملك
بالموت لكنه غير مستقر والقبول يوجب استقراره ، وهذا كما نقول في المبيع مدة
الخيار ، فإنه ملك المشتري حصل له بالعقد ولا يستقر عليه الا بمضي زمان الخيار.
وقد اختلف
العامة في ذلك ، وللشافعي فيه أقوال ثلاثة : أصحها عندهم ما اخترناه أخيرا.
والثاني أنه يدخل في ملك الموصى له بموت الموصى من غير اختياره كما يدخل الميراث
في ملك الورثة ، ويستقر بقبوله وهو قول غير مشهور بينهم ، ووجهه انه يستحقه بالموت
فأشبه الميراث ، ولا يجوز ان يبقى على ملك الميت لأنه صار جمادا ، ولا يجوز أن
ينتقل إلى الورثة لأنه تعالى قال (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها) ، فثبت انه ينتقل الى الموصى له.
والثالث ان
الموصى له يملك ما أوصى له بالقبول لانه تمليك بعقد فيتوقف الملك فيه على القبول
كالبيع ونحوه.
قال مالك وأبو
حنيفة واحمد وأهل العراق : وهل الملك قبل القبول للوارث أو يبقى للميت؟ فيه وجهان
عندهم أصحهما الأول.
وحيث أن النظر
الى ظاهر الآية فهو الى ما ذهبنا إليه أقرب واحتاج حملها على غيره الى تكلف أو
تقييد والأصل عدمه. وتظهر فائدة الخلاف في النماء الحادث بين الموت والقبول ، فعلى
ما اخترناه للموصى له ، وعلى قول الأكثر للوارث أو على ملك الميت ، فإنه لم يخرج
بالموت عن قابلية الملك ، ومن ثم يبقى ملكه على ما يحتاج اليه من مؤنة تجهيزه
ودفنه وقضاء ديونه ونحوها. ويجوز أن يتجدد له ملك أيضا ، كما إذا نصب شبكة فوقع
فيها صيد بعد موته فإنه يملكه وينفذ فيه وصاياه ويقضى ديونه ونحو ذلك.
واعلم ان ما
اخترناه من كون ملك الوصية متزلزلا بالموت فيما إذا كان الموصى ـ
له معينا ، فلو كانت لغير معين ـ بأن كان في جهة عامة كالمساجد والقناطر أو
للفقراء مثلا أو بالعتق وشبهه ـ لم يعتبر فيها القبول وكفى الموت وحده في
الاستقرار.
الثالثة : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ
أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا
نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا
إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا
اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ
أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) (المائدة ـ ١٠٦).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) أى الإشهاد الذي يقام به الحقوق فيما بينكم عند الحكام
وأمرتم به ، وإضافتها إلى الظرف على الاتساع (إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) إذا شارفه وظهرت اماراته عنده ، لا حال احتضاره لعدم
القدرة على التكلم حينئذ ، وهو ظرف للشهادة (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه. وفي الابدال تنبيه على أن الوصية مما لا ينبغي
أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت ، فكأن وقتيهما واحد. ويحتمل أن يكون
ظرفا آخر للشهادة. (اثْنانِ) خبر شهادة بينكم ، أو فاعل ساد مسد الخبر على حذف
المضاف ، أي شهادة اثنين ، ويحتمل أن يكون فاعل فعل محذوف ، أي شهادة ما بينكم أن
تشهد اثنان (ذَوا عَدْلٍ) صاحبا عدالة يسكن إلى قولهما (مِنْكُمْ) من المسلمين ، وهما صفتان للاثنان ، ويحتمل كون منكم
حالا عنهما.
(أَوْ آخَرانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ) من غير ملتكم كأهل الذمة ، والظاهر أن المراد آخران كذلك
أى ذوا عدل [كما يقتضيه ظاهر العطف على قوله منكم الداخل في حيز العدالة] والمراد
كونهما ظاهري العدالة عند أهل ملتهم ، وقد وقع التصريح باعتبار ذلك في الخبر على
ما سيجيء.
ولعل ترك ذلك
للتنبيه على أنها بمثابة العدم لعدم الايمان ، وعلى هذا فيجوز شهادة الذمّي في
الوصية مع حصول الشرائط المذكورة ، وهو قول ابن عباس وجماعة من العامة ، وعليه
أصحابنا اجمع ، وجمهور العامة على أن المراد بقوله (مِنْكُمْ) من أقاربكم و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من الأجانب ، ومنعوا شهادة الذمي رأسا وسيجيء.
(إِنْ أَنْتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم فيها (فَأَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) اى قاربتم الأجل ، والفاء للعطف على ضربتم ، والخبر
محذوف من جنس قوله ، (أَوْ آخَرانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ) وهو شرط للانتقال من شهادة العدلين من المسلمين إلى
شهادة غيرهما ، فكأنه قال شهادة غيرهما تسمع إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم
الموت ولا شاهد من المسلمين معكم. وبالجملة يجوز شهادة الغير مع الضرورة وفقد عدول
المسلمين لا مع الاختيار.
(تَحْبِسُونَهُما) تمنعونهما وتصبرونهما ، وهو صفة آخران ، ولعل توسط
الشرط بين الصفة والموصوف للإشارة إلى أن سماع شهادة الغير مشروط بالتعذر كما
أشرنا اليه. ويجوز ان يكون للاستيناف ، كأنه قيل كيف نعمل ان ارتبنا بالشاهدين
فقال تحبسونهما.
(مِنْ بَعْدِ
الصَّلاةِ) صلاة العصر للرواية ، ولأن الناس بالحجاز كانوا يحلفون
بعدها ، ولانه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ،
ولأنها هي صلاة أهل الذمة وهم يعظمونها ، وقيل مطلق الصلاة.
(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ
إِنِ ارْتَبْتُمْ) ان ارتاب الوارث منكم في شأنهما أو اتهمهما ، ويجوز أن
يكون الخطاب للحكام ، والشرط اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو (لا نَشْتَرِي بِهِ) لا نستبدل بالله أو بالقسم به أو بالشهادة فإنها بمعنى
الاشهاد ، ولعل فائدة الشرط التنبيه على أن القسم انما هو مع الارتياب لا مطلقا.
(ثَمَناً) عرضا «قليلا» من الدنيا كما هو مفاد التنكير أى لا نحلف
بالله كاذبين لطمع الدنيا (وَلَوْ كانَ) المشهود له (ذا قُرْبى) وجوابه محذوف أي لا نشتري ، أو انها غنية عن الجواب
لكونها وصلية ، وتخصيصه بالذكر لميل الناس إلى أقاربهم ومن
يناسبونهم ، أو المراد ان هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم ابدا ، فكأنهم
داخلون في قوله (كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ).
(وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ) أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها ، وهو عطف على
المحلوف عليه ، وعن الشعبي انه وقف على شهادة. ثم ابتدأ الله بالمدّ على طرح حرف
القسم وتعويضه بحرف الاستفهام ، وقد ينقل عنه بغير مد على حذف حرف القسم من غير
تعويض كقوله «الله لأفعلنّ».
(إِنَّا إِذاً لَمِنَ
الْآثِمِينَ) أى ان كتمناها ، والظاهر أنهم يذكرون في قسمهم جميع ما
ذكر. والإحلاف اثر الصلاة ليكون لطفا في النطق بالصدق وناهية عن الكذب والزور ،
والغرض من ذلك التغليظ في الوقت ، وهو قول الشافعية ، وقال أبو حنيفة يحلف من غير
تغليظ ، ولا يخفى بعده عن ظاهر الآية.
(فَإِنْ عُثِرَ) فان اطلع لامارة أوجبت الظن (عَلى أَنَّهُمَا) اي الآخران من الغير اللّذين شهدا (اسْتَحَقَّا إِثْماً) استوجباه بسبب تحريفهما في الشهادة وحلفهما كذبا (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) فشاهدان آخران يقومان مقامهما بعد عزلهما ورد شهادتهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أى «من الذين استحقّ عليهم» أي الإثم ومعناه من الّذين
حق عليهم ، وهم الورثة الذين استحق عليهم الوصية بسبب شهادة الذمّيين الكاذبين (الْأَوْلَيانِ) الاحقّان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، وهو بدل من
ضمير يقومان ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر آخران ، أو مبتدأ خبره آخران.
وقرأ حمزة
ويعقوب وأبو بكر عن عاصم «الأوّلين» على أنه صفة الذين أو بدل منه ، أى من الأولين
الذين استحق عليهم ، وقرئ «الأولين» على التثنية وانتصابه على المدح ، و«الأولان»
وإعرابه اعراب الأوليان.
(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ
لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أصدق وأولى بأن يقبل من شهادة الآخرين من الغير الذي
اطلع على كذبهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) وما تجاوزنا فيها الحق (إِنَّا إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ) أي ان اعتدينا فنحن من الظالمين لأنفسنا أو مطلقا
لوضعنا الباطل موضع الحق.
وسبب النزول
على ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن بعض رجاله رفعه قال : خرج تميم
الداري وابن بندي وابن أبي مارية في سفر ، وكان تميم الداري مسلما وابن بندي وابن
أبي مارية نصرانيين ، وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب
وقلادة أخرجهما إلى بعض أسواق العرب للبيع ، واعتل تميم الداري علة شديدة.
فلما حضره
الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي وابن أبي مارية وأمرهما ان يوصلاه إلى ورثته ،
فقدما المدينة وأخذا من المتاع الآنية والقلادة وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته ،
فافتقد القوم الآنية والقلادة فقال لهما أهل تميم : هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق
فيه نفقة كثيرة.؟ فقالا : لا ما مرض إلا أياما قلائل. قالوا : فهل سرق منه شيء في
سفره هذا؟ قالا : لا. قالوا : فهل اتجر تجارة خسر فيها؟ قالا : لا. قالوا فقد
افتقدنا أفضل شيء كان معه آنية منقوشة مكللة بالجوهر وقلادة. فقالا : ما دفع إلينا
فقد أدينا إليكم.
فقدّموهما إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآله وأوجب رسول الله عليهما اليمين فحلفا فخلّا عنهما ، ثم
ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول الله فقالوا : يا رسول
الله قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما.
فانتظر رسول
الله صلىاللهعليهوآله من الله الحكم في ذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى (يا ـ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ).
فأطلق الله عزوجل شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ولم
يجد المسلمين (فَأَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ
إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ).
__________________
فهذه الشهادة الأولى التي جعلها رسول الله صلىاللهعليهوآله.
(فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي أنهما حلفا على كذب (فَآخَرانِ يَقُومانِ
مَقامَهُما) يعني من أولياء المدعي (مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وانهما قد
كذبا فيما حلفا بالله (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ
مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).
فأمر رسول الله
صلىاللهعليهوآله أولياء تميم الداري أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به ،
فحلفوا فأخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله القلادة والآنية من ابن بندي وابن أبي مارية وردهما على
أولياء الداري ـ الحديث.
(تنبيهات)
وفي الآية المذكورة
تنبيهات يحتاج الى بيانها :
(الأول) مقتضي الآية جواز إشهاد أهل
الذمة في الوصية عند الضرورة وفقد عدول المسلمين ، لظهور أن الخطاب في (مِنْكُمْ) عائد إلى المؤمنين ، فيلزم ان يكون غيرهم كافرين ، وعلى
هذا أصحابنا اجمع ، وقد تظافرت أخبارهم بذلك :
روى الكليني عن هشام بن الحكم في الصحيح عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله تبارك وتعالى (أَوْ آخَرانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ). قال : إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم
جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية.
وعن يحيى بن
محمّد قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل(يا
__________________
أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). قال : اللذان منكم مسلمان واللّذان من غيركم من أهل
الكتاب ، فان لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوآله سن في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية.
وذلك إذا مات
الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر
فيقسمان بالله عزوجل (لا نَشْتَرِي بِهِ
ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) الحديث. ونحوهما من الاخبار.
ولأن الميت قد
يكون عليه حق واجب ، أوله شيء عند الغير ، وظاهر أن ترك الوصية والاشهاد عليها على
تقدير عدم المسلمين يستلزم ضياعها وتلفها وهو غير جائز. وبأن هذين الشاهدين لو
كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بها مشروطا بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضا اتفاقا.
وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه البتة. وبأن الشاهدين
في سبب النزول كانا نصرانيين.
وخالف العامة
في ذلك فلم يجيزوا شهادة الذمي في وجه من الوجوه. واختلفوا في
حمل الآية ، فقيل المراد بها ذلك ولكن كان في أول الإسلام ثم نسخ. قال «القاضي»
ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخا ، فإن شهادة الذمي على المسلم لا تسمع
إجماعا ويرد ما قاله أصالة عدم النسخ وعدم صلاحية ما يدعى كونه ناسخا له ، [إذ
الآية خاصة بالوصية حال الضرورة ، فتكون الأدلة الدالة على اشتراط الايمان
والعدالة في الشاهد مخصوصة بما عدا الوصية على الوجه المخصوص].
ويؤيده ما قاله
أبو عبيدة ان جل العلماء يتأولونها في أهل الذمة ويرونها محكمة قال ويقوى هذا
القول تتابع الآثار في سورة المائدة بقلة المنسوخ فيها وأنها من محكم القرآن وآخر
ما نزل قلت : ويرد ما ادّعاه من الإجماع تظافر الاخبار بما ادعيناه عن الأئمة
الأطهار الذين هم معدن الوحي واسرار التنزيل وهم أعرف بمحكم
القرآن
__________________
ومنسوخه ممن عداهم.
وقيل ان المراد
بقوله (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ
مِنْكُمْ) من اقاربكم (أَوْ آخَرانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ) أي من الأجانب وان كان الجميع مسلمين. وهذا هو الراجح
عند صاحب الكشاف وغيره من العامة حذرا من النسخ. وفيه أنه خلاف الظاهر ،
مع أن سبب النزول على ما قالوه يأباه .
(الثاني) قد يظهر من الآية اشتراط السفر
في شهادة الذميين ، وهو اختيار
ابن ـ الجنيد حيث قال : لا يجوز شهادة أهل الملل على أحد من المسلمين إلا في
الوصية وفي السفر وعند عدم المسلمين. وتابعه أبو الصلاح الحلبي في ذلك وجماعة من
الأصحاب ، لظهور الضرب في الأرض في السفر ولما تقدم.
ولرواية حمزة
بن حمران عن الصادق عليهالسلام قال سألته عن قول الله عزوجل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ
أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). فقال : اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل
الكتاب. قال وانما ذلك إذا مات الرجل المسلم في أرض غربة وطلب رجلين مسلمين
ليشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته رجلين ذميين من أهل الكتاب
مرضيين عند أصحابهما.
والأكثر من
الأصحاب على عدم اعتبار السفر ، قالوا : والتقييد في الآية والاخبار من حيث انه
خرج مخرج الأغلب لا من حيث أنه شرط. ويؤيده ما رواه ضريس الكناسي [في الحسن أو الصحيح] عن الباقر قال : سألته عن شهادة أهل الذمة هل
__________________
يجوز على رجل من غير أهل ملتهم. قال : لا الا أن لا يوجد في تلك الحال
غيرهم ، فان لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية ، لأنه لا يصلح ذهاب حق امرئ
مسلم ولا تبطل وصيته. ولأن الأرض لا تأثير لها في ذلك ، بل الظاهر أن مناط الحكم
عدم إمكان حضور المسلمين ، فيثبت الجواز حيث ما ثبتت الضرورة.
[وفيه نظر ،
أما الرواية فمع قطع النظر عن سندها عامة ، والعموم يمكن تخصيصه
بالدليل. وهو ظاهر الآية والأخبار المتقدمة تحصيلا للجمع بين الأدلة ، وأما كون
التقييد في ذلك بخروجه مخرج الأغلب فغير واضح ، إذ الفرض أن الحكم المذكور انما
استفيد من الآية المذكورة ، وهي دلت على جواز شهادة أهل الذمة على الوجه المخصوص ،
وجواز غيره لم يثبت من محل آخر ، فيجب الاقتصار على ما دلت عليه].
(الثالث) [الحكم المذكور في الآية مختص
بوصية المال ، فلا تثبت
الوصية بالولاية
__________________
المعبر عنها بالوصاية. وربما ادعى بعضهم الإجماع على ذلك وقوفا فيما خالف
الأصل على مورد النصّ.
(الرابع)] قد ظهر مما أسلفناه أن
الاثنين من أهل الذمة كانا شاهدين وقد استحلفا ، وان تحليفهما مع التهمة سائغ لمكان هذا النص ، فقول
القاضي ان كان الاثنان شاهدين فالحكم منسوخ ، فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه
بيمين الوارث.
وذكره صاحب
الكشاف قولا مدفوعا ، بأن النسخ خلاف الأصل ويجوز تحليف الشاهد مع التهمة لدليل
اقتضاه ، فإن الأحكام الشرعية انما تثبت بالأدلة ، وهذه الآية ظاهرة في ذلك. وروى
في الكشاف عن على عليهالسلام انه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما.
على أنه يمكن
أن يقال : لا نسلم أن تحليفهما لمكان شهادتهما حتى يلزم تحليف الشاهدين الذي هو
خلاف الإجماع باعتقاده ، وانما حلفا لادعاء الورثة خيانتهما ولم يكن لهما بينة
يصدق قولهما فتوجه اليمين عليهما.
وليس يمين
الشاهد هنا معارضا بيمين الورثة إذ مع حلف الشهود لا حلف على الورثة ، والحلف
الواقع على الورثة ثانيا ليس معارضا بيمينهما بل بعد استيناف دعوى أخرى عليهما ،
أو لأنه مع ظهور خيانتهما لم يبق ليمينهما اعتبار بل يرجع اليمين إلى الورثة في
إثبات الحق ، كما قاله أصحابنا في الأمانات إذا ظهرت الخيانة فيها.
[بقي شيء ، وهو
أن الآية دلت على جواز الدعوى بعد الحلف ، والظاهر انه بعد الحلف يسقط الدعوى كما
هو الفتوى. ويجاب بأن الذميين انما حلفا على عدم كون الإناء مع الميت في السفر ،
ثم لما ظهرت عندهما ادعيا شراءها وأنكر الورثة ، وظاهر أنه في هذه الصورة كان
الذميان مدعيين للشراء والورثة منكرة لذلك ، فكان على الورثة الحلف على عدم العلم
، فلا منافاة.
__________________
هذا] وقد اختلف
أصحابنا في وجوب إحلافهما بعد العصر ، فقال به العلامة في بعض كتبه ، نظرا إلى
ظاهر الآية الدال عليه ، والأشهر العدم حملا للآية على الإرشاد.
(ذلِكَ) أى الحكم الذي تقدم أو إحلاف الشاهدين قاله القاضي (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ
عَلى وَجْهِها) أقرب أن يأتوا بها على الوجه الذي حملوها من غير تحريف
وخيانة فيها (أَوْ يَخافُوا) عطف على يأتوا ، أي أو أن يخافوا (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) إلى أولياء الميت فيحلفوا ويفتضحوا بظهور خيانتهم
ويغرموا ، فربما لا يحلفون إذا كانوا كاذبين ، ويتحفظون في الشهادة مخافة رد
اليمين إلى المستحق عليهم. قال القاضي : وانما جميع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم ، وهذا
تصريح منه بأن المراد الشهود لا الأوصياء.
(وَاتَّقُوا اللهَ) أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا (وَاسْمَعُوا) ما توصون به بسمع اجابة (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) إلى طريق ثوابه وجنته ، بمعنى أنه يتركهم وأنفسهم حتى
لا يختاروا تلك الهداية فيصير مآلهم النار.
***
ولنتبع هذا
البحث بالنظر في حال الأولاد وحفظ أموالهم وهو البحث عن اليتامى وفيه آيات :
الاولى : (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً). (النساء ـ ٢)
(وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) أمر تعالى المكلفين الذين بأيديهم أموال اليتامى أن
يدفعوا إليهم أموالهم أول بلوغهم لكن بعد إيناس الرشد منهم ، وإطلاق اليتامى عليهم
لقرب عهدهم بالصغر وفيه إشارة إلى أنه ينبغي الدفع إليهم أول البلوغ من غير تأخير
قبل زوال هذا الاسم في الظاهر عنهم ، ويجوز أن يراد بهم الصغار كما هو الظاهر من
__________________
إطلاق اليتيم ، وحينئذ فيكون الحكم مقيدا ، كأنه قال : وآتوهم إذا بلغوا
ورشدوا.
واليتامى جمع يتيم
، وهو الذي مات أبوه ، أخذا من اليتم وهو الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة ، اما على
أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتايم ثم قلب فقيل يتامى ، أو على
انه جمع على يتمى كأسرى لانه من باب الآفات ثم جمع يتمى على يتامى كأسرى وأسارى.
والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغير والكبير لكن العرف خصصه بالصغير غير البالغ ،
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا يتم بعد الحلم» . والمراد أنه إذا احتلم لا يجري عليه أحكام الصغار ،
لأنه في تحصيل مصالحه يستغنى عن كافل يكفله.
(وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام ن أموالهم بالحلال من أموالكم ،
فان الحرام خبيث ، أي رديء في الآخرة وان كان في الصورة جيدا. أو المراد لا
تتصرفوا في أموالهم بدل تصرفكم في أموالهم ، فهو نهى عن التصرف في أموالكم واشارة
الى انّ ذلك خبيث منهي عنه.
أو المراد لا
تستبدلوا الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها. وقيل كانوا
يأخذون الطيب مثل السمين من أموال الأيتام ويضعون بدله الخبيث المهزول من أموالهم
، فنهوا عن ذلك.
ثم أكد التحريم
بقوله (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تأكلوها مضمومة
__________________
إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا أو لا تساووا بينهما وهذا حلال وذاك
حرام. والفائدة في زيادة قوله (إِلى أَمْوالِكُمْ) مع أن أكل أموال اليتامى محرم على الإطلاق زيادة
التقبيح والتوبيخ ، لأنهم كانوا مستغنين عنها بمالهم الحلال ومع ذلك طمعوا في مال
اليتيم فكانوا بالذم أحرى.
ولأنهم كانوا
يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم. وإطلاق الأكل مع ان المراد
النهي عن جميع التصرفات والانتفاعات نظرا إلى انه أعظم وجوه الانتفاع ولإطلاقه على
التصرف مطلقا كثيرا.
(إِنَّهُ) أى الأكل (كانَ حُوباً كَبِيراً) ذنبا عظيما. والآية وان كانت عامة في تحريم الأكل من
أموالهم الا أنها مخصصة بأكل مقدار أجرة المثل أو ما يحتاجه الوصي ، كما اقتضاه
قوله (فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ). وكذا أكل مالهم بالانضمام إذا لم يكن في ذلك ظلم ولا
جور ، بأن يعلم أنه لا يأكل ما يزيد على مال نفسه ، لعموم قوله تعالى (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ). وقد روى سماعة قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ). قال : يعني اليتامى ، إذا كان الرجل يلي الأيتام في
حجره فليخرج من ماله على قدر ما يخرج لكل انسان منهم فيخالطهم فيأكلون جميعا ولا
يرزأنّ من أموالهم شيئا انما هي النار .
الثانية : (وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (النساء : ٥)
(وَابْتَلُوا
الْيَتامى) واختبروهم بتتبع أحوالهم في التهدي الى ضبط المال
والسلامة من تضييعه وصرفه في غير وجهه ، بأن يكل اليه ما يتصرف فيه مما يناسب
حاله.
فان كان من
أولاد الدهاقين والوزراء والأكابر الذين يصانون عن الأسواق. فاختباره أن يسلم إليه
نفقة مدة قريبة كالشهر مثلا ، لينفقها في مصالحه ، فإن
__________________
كان فيما بين ذلك يصرفها في مواضعها ويستوفى الحساب على وكيله ويستقصى عليه
فهو رشيد ، وان كان من أولاد التجار فوض اليه البيع والشراء ، فإذا تكرر ذلك منه
وسلم من الغبن والتضييع وإتلاف شيء من رأس ماله فهو رشيد ، ونحو ذلك مما يناسب
حاله. ولا يكفي المرة الواحدة ، بل لا بد من التكرار مرارا بحيث يحصل معها العلم
أو غلبة الظن برشده واعتبر الشيخ في الرشد زيادة على ذلك العدالة وسيجيء.
(حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ) حتى إذا وصلوا حد البلوغ ، وبلوغ النكاح كناية عنه ،
لأنه يصلح للنكاح عنده وله أسباب منها ما هو مشترك بين الذكر والأنثى كالإنبات
للشعر الخشن والاحتلام ، ولا خلاف في ذلك بين علمائنا وان خالف فيه العامة . ومنها ما هو مختلف فيه كالسن ، فان البلوغ في الذكر
بمضي خمسة عشر سنة كاملة وفي الأنثى بمضي تسع سنين كاملة أيضا ، والى هذا يذهب
علماؤنا.
وسوّى الشافعي
بينهما في السن ، ونحوه احمد بن حنبل وأبو يوسف ومحمّد من أصحاب أبي حنيفة ،
فحكموا بأن البلوغ في الذكر والأنثى بلوغ خمسة عشر سنة كاملة ، وقال أبو حنيفة حد
بلوغ المرأة سبع عشر سنة بكل حال ، وله في الذكر روايتان إحداهما سبع عشرة أيضا
والأخرى ثماني عشرة سنة ، ونحوه قال مالك.
وهي أقوال ضعيفة
، فان الغالب ان المرأة قد تحيض ببلوغ تسع سنين ، وإنكار البلوغ مع الحيض لا وجه
له ، وقد اشتهر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال لأسماء بنت ابى بكر «ان المرأة إذا بلغت المحيض
لا يصلح أن يرى منها الا هذا» وأشار إلى الوجه والكفين ، علق وجوب الستر بالحيض
وهو نوع تكليف.
__________________
وقد تظافرت
أخبارنا فيما قلناه ، وهل يكفي بلوغ أربع عشرة سنة؟ قيل نعم وهو اختيار بعض
أصحابنا محتجا برواية أبي حمزة عن الباقر عليهالسلام قلت له : جعلت فداك في كم تجري الاحكام على الصبيان؟
قال : في ثلاث عشرة وأربع عشرة سنة. قلت : وان لم يحتلم؟ قال : وان لم يحتلم فإن
الأحكام تجري عليه. وفي طريق الرواية عبد الله بن جبلة وحاله غير خفية.
على أن جريان
الاحكام عليه بمعنى التحفظ على سبيل الاحتياط للتمرين عليها والاعتقاد لها ، فلا
يقع منه عند البلوغ الإخلال بشيء منها. وبالجملة الأصل عدم لحوق الاحكام والتكاليف
لهذا الصبي إلا بدليل شرعي محقق يقطع العذر ، وهو غير معلوم على ذلك التقدير ،
والرواية لا يقطع العذر ، ويمكن حملها على ما قلناه.
ويمكن
الاستدلال عليه أيضا ، بأن ظاهر القرآن اقتضى البلوغ ببلوغ حد النكاح ، وفي موضع
آخر بلوغ الحلم ، فيثبت البلوغ معهما ولا يعلمان الا ببلوغ خمسة عشر سنة في الذكر
والتسع في الأنثى ، فيبقى الباقي تحت العدم.
وفي الآية
دلالة على ان الابتلاء قبل البلوغ ، لأنه تعالى سماهم يتامى وانما يصدق عليهم هذا
الاسم قبل البلوغ لا بعده على ما عرفت ، ولانه تعالى مد اختبارهم الى البلوغ بلفظ
حتى ، فدل على ان الاختبار قبله. ولأن تأخير الاختبار الى ما بعد
__________________
البلوغ يؤدي الى الإضرار بسبب الحجر على البالغ الرشيد ، لأن الحجر يمتد
الى ان يختبر ويعلم رشده ، كما دل عليه قوله (فَإِنْ آنَسْتُمْ) فان أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) من غير تأخير [والاختبار قد يطول شأنه بسبب العلم
بالرشد].
والظاهر أن هذا
مما لا خلاف فيه بين أصحابنا ، وهو قول الحنفية ، وقال بعض أصحابنا ، وتبعهم
الشافعية : لا دلالة لها عليه ، فان الأمر بالابتلاء لا يدل على الصحة بوجه بل
غاية استبعاده بما به الابتلاء ما كونه صحيحا أمر فهو حال عن مقتضاه] وذهب بعضهم
إلى أن الاختبار بعد البلوغ نظرا إلى أنه تعالى أوجب دفع أموالهم إليهم بعد إيناس
الرشد فلو كان الابتلاء قبله لما جاز ذلك ، فكيف الوجوب؟ وفيه نظر لأن دفع المال
إليهم بعد إيناس الرشد لا يقتضي كون الابتلاء بعد البلوغ لجواز أن يكون قبله إلى
أن يعلم الرشد ويتحقق البلوغ فيدفع إليه وهو الظاهر من الآية كما قلناه وقد يستدل
بالاية على أن تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن الابتلاء المأمور
به قبل البلوغ وهو انما يحصل إذا اذن له الولي في البيع والشراء ونحوهما ، ليحصل
الغرض المقصود من الاختبار والى هذا يذهب الحنفية.
وقالت الشافعية
لا دلالة لها عليه فان الاذن في التصرف لو توقف الابتلاء عليه لجاز دفع المال إليه
حينئذ وهو لا يصح إلا بالشرطين وعلى هذا ، المراد الابتلاء حسب حاله من البيع
والشراء ونحوهما بحضوره ، ثم باستكشاف ذلك البيع والشراء منه وما فيهما من المصالح
والمفاسد ليعرف بذلك مقدار فهمه وعقله ، ثم الولي بعد ذلك يتمم العقد وفيه نظر
[وللبحث من الطرفين مجال].
والمراد بايناس
الرشد ما عرفته سابقا من حصول ملكة تقتضي إصلاح الحال وعدم التضييع في المال [واحترزنا
بالملكة عن مطلق الكيفية ، فإنها ليست كافية بل لا بد من أن يصير ملكة] ولا يعتبر
فيه زيادة على ذلك عند أكثر أصحابنا.
واعتبر الشيخ
فيه العدالة ، وهو قول الشافعي وجماعة من العامة نظرا الى
قوله (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً) والفاسق موصوف بالغي لا بالرشد ، قال تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) مع أنه كان يراعي مصالح الدنيا على الوجه المعتبر. وبأن
الفاسق سفيه ، لما روي عنه صلىاللهعليهوآله «ان شارب الخمر سفيه» ، ولا قائل بالفرق وقد قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية.
وفيه نظر ،
فإنه موصوف بالغيّ في دينه وبالرشد في ماله ، ومناط دفع المال اليه الرشد فيه لا
في دينه [إذ هو المفهوم عرفا من الرشد ، وهو المعتبر عند انتفاء الحقيقة الشرعية]
ويؤيده ان العدالة لا تعتبر في الرشد دواما ، فإنه لو فسق لم يحجر عليه في ماله
إجماعا فلا يعتبر في الابتداء ، ولأن الحجر عليه انما كان بحفظ ماله وحراسته من
التلف بالتبذير ، فإذا كان هذا الحفظ والحراسة للمال حاصلا فيه لم يكن للحجر عليه
في المال وجه.
[ولأن الرشد
نكرة في سياق الإثبات ، فلا يفيد العموم في كل ما يصلح له بل يصدق في صورة ، ولا
ريب في ثبوته لمن أصلح ماله وان فسق في دينه] والسفه الذي في الحديث غير السفه
الذي في الآية .
واعلم ان الشيخ
وان اعتبر العدالة في الابتداء ، لكنه صرّح في الخلاف و«المبسوط» بأنه إذا صار
فاسقا لكنه غير مبذر فان الأحوط أن يحجر عليه ، فجعله أحوط وان لم يوجبه. ويتوجه
عليه ان العدالة ان كانت شرطا في الابتداء كانت شرطا في الاستدامة أيضا ، لوجود
المقتضي ـ فتأمل.
__________________
وكيف كان ففي
الآية دلالة على وجوب دفع المال إليهم بعد الاختبار والبلوغ من غير توقف على حكم
الحاكم ، بل ولا على الطلب كسائر الحقوق ، لأنه عنده بمنزلة الأمانة الشرعية الا
ان يرضى بالبقاء عنده ، بل لا يبعد الفورية في الدفع اليه مطلقا ، لتعقيب إيجاب
الدفع بالفاء بعد البلوغ وإيناس الرشد. نعم ينبغي الإشهاد عند الدفع كما يقتضيه
آخر الآية وسيجيء.
ومقتضى مفهوم
الشرط في الآية عدم الدفع إليهم مع عدم الرشد ، وهو صريح قوله (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، وحينئذ فيحرم دفع ماله اليه ما لم يحصل رشده وان طعن
في السن ، لأن الحكم المعلق على صفة ينتفي بدونها ، وهو قول أكثر علماء الأمصار.
وقال أبو حنيفة
لا يدفع اليه ماله إذا كان بلغ سفيها وان تصرف نفذ تصرفه ، فإذا بلغ خمسا وعشرين
فك عنه الحجر ، ودفع اليه ماله وان كان سفيها. فعنده ان البالغ لا يحجر عليه وانما
يمنع من تسليم المال للآية ، وانما حده بذلك لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني
عشرة سنة كما عرفت ، فإذا زاد عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغيير أحوال
الإنسان ، ومن ثم أمر الصبي بعدها بالصلاة تمرينا لقوله صلىاللهعليهوآله «مروهم بالصلاة لسبع» دفع اليه ماله بسبب حدوث ما يوجب تغيير الحال ، فلعله
حدث فيه قليل من الرشد.
وهو من الضعف
بمكان ، فان كون حد البلوغ ما ذكره ضعيف لما سلف ، ولو سلم فحصول التغيير في تلك
الأحوال تلك المدة ممنوع أيضا والحديث لا يدل عليه ولا معلوم العلة ، فاللازم
الوقوف مع ظاهر الآية وعدم التعدي عنه بوجه ، الا أن يقوم دليل يقطع العذر فيه ،
وهو غير ثابت.
(وَلا تَأْكُلُوها) نهي عن أكل أموال اليتامى ، وقد وقع ذلك مكررا في مواضع
(إِسْرافاً وَبِداراً) مصدران في موضع الحال عن الفاعل ، أي لا تأكلوها حال
كونكم
__________________
مسرفين ومبادرين (أَنْ يَكْبَرُوا) أي خوفا من ان يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم. ويحتمل أن
يكون مفعولا لهما ، والتقدير لا تأكلوها لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم. تفرطون في
إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل ان يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا.
ولعل تقييد
الأكل بما ذكره لزيادة قبحه ، ولاحتمال كونه في خاطر الاكلين. وإلّا فتحريم الأكل
مطلقا قد بينه في مواضع من الكتاب العزيز ، بل تحريم الإسراف في نفسه ، إذ لا
خصوصية له بمال اليتيم. ويحتمل أن يريد بالإسراف هنا زيادة على المعروف الذي يجوز
اكله بالاية.
(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ) من أكل مال اليتيم ولا يطمع فيه وليقنع بما رزقه الله
من الغنى إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله [وفي «الكشاف» استعفف أبلغ من عف كأنه
طالب زيادة العفة].
واختلف أصحابنا
في كون الأمر للوجوب فلا يجوز له أكل ماله بوجه أو الاستحباب فذهب جماعة منهم إلى
الأول نظرا الى ظاهر الأمر وكونه حقيقة فيه ، والى ذلك يذهب الشافعي ، وذهب آخرون
الى الثاني نظرا إلى إشعار الاستعفاف باستحباب الترك وأولويته لا وجوبه. ولا ريب
ان الاحتياط في الأول ، وعلى اعتباره فإنما هو فيمن يكون المال بيده أو صار وصيا
باختياره ، أما غيره كمنصوب الحاكم فالظاهر أنه يجوز له أخذ أجرة المثل وان كان
غنيا ويجوز للحاكم أن يجعل له جعلا إذا لم يوجد الباذل بغير عوض. وعلى هذا فإطلاق
الآية مقيد بالوصي المتبرع دون من استأجره الحاكم.
وهل المراد
الغنى في العرف أو في الشرع ، وهو من كان عنده قوت السنة له ولعياله؟ كل محتمل ،
ولا يبعد الثاني للاحتياط ، ومقابلة الفقير وهو في الشرع من لا يكون عنده قوت
السنة كذلك.
(وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قدر كفايته وما لا بد منه من غير زيادة أو على قدر عمله
الذي هو حفظ الأموال والأولاد وان كان زائدا عما يحتاج اليه من قدر الكفاية وسد
الخلة ، أو أقل الأمرين من اجرة المثل وقدر الكفاية. ولا ريب في بعد
الأول ، إذ [قد يكون أجرة عمله لا تفي بقدر كفايته وما لا بد منه ، فيكون
المأخوذ لا في مقابل عمل و] يبعد أخذ شيء من مال اليتيم لا في مقابل عمل وكونه
زائدا على أجرة مثله.
ويؤيده ما في رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عمن تولى مال اليتيم إله ان يأكل منه؟ قال
: ينظر الى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك. ونحوه وارد على الأخير
في بعض الصور.
والأولى أخذ
أقل الأمرين فيما لو كان عمله مما له اجرة ، لأنه عمل يستحق عليه الأجرة ، فكان
لعامله المطالبة بها كغيرها من الاعمال دون ما لا أجرة له ، ويؤيده عموم (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، ولا ريب أن هذا أحسن.
هذا إذا لم يوجد
متبرع بحفظ المال والأولاد فلو وجد المتبرع لم يسلم إليه الأجرة ويسلم المال
والأولاد إلى المتبرع نعم لو جعله الميت وصيا احتمل ذلك ، وفيه نظر.
والمأمور
بالأكل هو الوصي عن الميت أو من جعله الحاكم وصيا وقيما على الأولاد ، فلو كان
المال بيده بعد موت صاحبه من غير وصاية شرعية فالظاهر عدم جريان الحكم فيه. ويحتمل
جريانه مع عدم الوصي وتعذر الحاكم ، وظاهر الآية لا ينافيه.
ومقتضى الأمر
بالأكل بالمعروف عدم رده الى اليتيم وان صار غنيا بعد ذلك ، لانه تعالى أمر به من
غير ذكر عوض فأشبه سائر ما أمر بأكله. ولأنه عوض عن عمل فلم يلزمه بدله كالأجير ،
وهو المشهور بين العلماء. وقيل يلزمه عوضه لأنه استباحة للحاجة ، فكان قرضا في
ذمته إن أيسر قضاه وان مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء في ذمته كالمضطر الى طعام
غيره ، وبه رواية عندنا عن احمد بن محمّد بن ابى نصر عن ابى الحسن عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يكون في يده مال الأيتام فيحتاج
اليه فيمد يده فيأخذ وينوي أن يرده. قال : لا ينبغي له أن يأكل إلا القصد ولا يسرف
، فان كان
__________________
من نيته أن لا يرده فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً).
وفيه نظر ،
فإنه لو وجب رده مع اليسار لكان واجبا في ذمته قبله ، إذ اليسار ليس سببا للوجوب
فإذا لم يجب بسبب الأكل لم يجب بعده. والفرق بينه وبين المضطر واضح ، فإنه لم
يأكله عوضا عن شيء بخلاف ما هنا. والرواية غير واضحة الصحة ، مع أنه يمكن حملها على ضرب من التأويل جمعا بين
الأدلة.
وذهب بعض
العامة الى عدم جواز أخذ شيء منه لا على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء ، لعموم
قوله (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ). وفيه نظر ، فإنها عامة وما نحن فيه خاص ، وهو مقدم.
(فَإِذا دَفَعْتُمْ
إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنهم قبضوها ، فان ذلك أبعد عن التهمة بأكل مال اليتيم
وأنفى للخصومة. ومقتضى الأمر الوجوب ، وربما حمله بعضهم على الاستحباب. وقيل انه
للإرشاد إلى ما هو المصلحة إذ معه لا يترتب الضمان على الوليّ لو أنكر اليتيم
التسليم ولا يرد أنّه لو علم ان بترك الاشهاد يترتب الضمان وجب حذرا من تضييع
المال ، لان ذلك انما علم من دليل خارج.
واستدل الشافعية
بهذه الآية على ان القيم لا يصدق في دعواه انه قد دفع المال الى اليتيم إلا
بالبينة. وعليه أصحابنا ، فإنهم قالوا دعوى القيم ان كانت تسليم المال الى اليتيم
فلا يقبل إلا بالبينة ، وظاهر الآية صريح فيه وان كان غيره كادعاء التلف أو
الإنفاق على قدر الكفاية ، فإن القول في ذلك قول القيم مع يمينه ولا يكلف البينة
في هذه المواضع لتعذر إقامتها ، فإن اطلاع الشاهدين على الإنفاق في كل يوم متعسر ،
ولأنه يوجب تنفر الناس عن قبول الوصاية.
وقالت الحنفية
: إذا ادعى الوصي بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع اليه المال كان مصدقا بيمينه كسائر
الامناء. وفيه نظر ، فإنه أمين من جهة اليتيم ، وليس له نيابة عامة كحاكم الشرع
ولإكمال الشفقة كالأب ، فلا وجه لتصديقه. وتمام ما يتعلق بذلك
__________________
يعلم من الفروع.
(وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) محاسبا فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم
وكفى به محاسبا وشاهدا على دفع المال الى اليتيم. ففيه دلالة ما على عدم وجوب
الاشهاد حال الدفع كما اختاره بعضهم. قيل ويدل على جواز الامتناع من الإعطاء مرة
أخرى بالانهزام عن الحكام وباليمين وغيرهما على تقدير عدم الاشهاد حال الدفع
وإنكار اليتيم ، وهو كما ترى.
الثالثة : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). (النساء : ٩)
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) ما بعد الموصول من مجموع الشرط والجزاء صلته على معنى
وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا وذلك عند
احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم باعتقادهم ، فالمعنيّ به من قرب
اجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا يبقى ذريته بلا مؤنة بعد موته.
ويحتمل أن يكون
المعني بذلك الأوصياء ، أمرهم الله بأن يخشوه ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم
ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ويقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه حتى
لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة ، أو الحاضرين عند المريض حال الإيصاء أمروا
بأن يخشوا ربهم أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا
يتركوه ان يوصى بما يضر بحالهم. ومن ثم كانت الوصية بالخمس أفضل من الربع وهو من
الثلث.
وظاهر الآية
الثاني ، والاخبار قد تدل عليه ، روى الكليني عن سماعة قال :
__________________
قال أبو عبد الله عليهالسلام : أوعد الله تبارك وتعالى في مال اليتيم بعقوبتين
إحداهما عقوبة الآخرة النار واما عقوبة الدنيا. فقوله عزوجل (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) الآية ، يعنى : ليخش أن يضيع خلفه في ذرّيته كما صنع
بهؤلاء اليتامى.
وروى الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : ان في كتاب علي بن ابى طالب عليهالسلام ان آكل مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك في عقبه من
بعده : يلحقه وبال ذلك ، أما في الدنيا فان الله يقول (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) الآية ، وأما في الآخرة فإن الله يقول (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً) الآية.
وقيل فيها وجوه
أخر أظهرها ما قلناه.
(فَلْيَتَّقُوا اللهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أمرهم بالتقوى الذي هو غاية الخشية بعد الأمر بها رعاية
للمبدء والمنتهى ، إذ لا ينفع الأول دون الثاني ، بل الأصل العاقبة. ثم أمرهم بأن
يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالرحمة والشفقة. وفي ترتيب الأمر بالاتقاء
والقول السديد على سابقه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه والبعث على الترحم ،
وان يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاد نفسه ، وتهديد للمخالف بحال الأولاد ، فقد
يستنبط منها الترفق بحال الأيتام ، وان يجعلهم بمثابة أولاده في الشفقة والرحمة
وتدبير أحوالهم ، وان يخاف عليهم من أن يلحقهم الأذى والضياع كما يخاف على أولاده.
ويحتمل أن يكون
المراد من القول السديد منع الموصى من الزيادة على الثلث في الوصية ، بل يأمرونه
بما قلّ عنه كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لسعد «انك ان تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة
يتكففون الناس». على أن الأمر للحاضرين عنده حال الإيصاء.
__________________
ويحتمل أن يكون
المراد ما يعم ذلك وزيادة أمره بماله وما عليه وتذكيره التوبة وكلمة الشهادة
ونحوها.
ثم انه تعالى
ذكر الوعيد على أكل مال اليتيم بقوله (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) أطلق الأكل وأراد التصرف مطلقا كما مر غير مرة (ظُلْماً) حال من الفاعل أي ظالمين ، أو تمييز للأكل أي على وجه
الظلم ، فإن أكل مال اليتيم قد يكون بالحق لقوله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أجرة أو عوضا على ما سلف أو على وجه القرض ، كما إذا
كان في ذلك مصلحة لليتيم ، فقد روى الكليني في الصحيح عن منصور بن حازم عن الصادق عليهالسلام في رجل ولي مال يتيم فاستقرض منه شيئا. فقال : ان علي بن
الحسين عليهالسلام كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره فلا بأس بذلك.
وكذا لو خلط
مالهم بماله وأكل معهم ، لقوله تعالى (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ) وقد سأل عثمان بن عيسى الصادق عليهالسلام عن قول الله عزوجل (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ). قال : يعنى اليتامى. قال : إذا كان الرجل ولي على
أيتام في حجره فليخرج من ماله قدر ما يخرج لكل انسان منهم فيخالطوهم ويأكلون جميعا
ولا يرزأنّ من أموالهم شيئا انما هي النار.
(إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ ناراً) اي ملء بطونهم ، يقال أكل فلان في بطنه وبعض بطنه ، قال
كلوا في بعض بطونكم تعفوا. والمراد يأكلون ما يجر الى النار ويؤدي إليها ، أو ان
ذلك كناية عن دخول النار فإنه إذا دخل النار بالكلية كان في بطنه نارا وان بطونهم
تمتلئ نارا كأنهم أكلوها.
ويؤيده ما روي عن الباقر عليهالسلام انه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يبعث
__________________
ناس من قبورهم يوم القيامة تؤجج أفواههم نارا. فقيل : يا رسول الله من
هؤلاء فقرأ هذه الآية. ولعل ذكر البطن لتأكيد الأكل كما في طائر يطير بجناحيه.
(وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) أي يلزمون النار ويقاسون حرها ، يقال صلي بالأمر قاسى
حره. والسعير بمعنى المفعول ، من أسعرت النار إذا ألهبتها. وفي الآية وعيد عظيم
على أكل مال اليتيم بالظلم ، ومن ثم كان من الكبائر المعدودة بينهم.
وها هنا نكتة ،
وهي انه تعالى أوعد مانع الزكاة بالكيّ وآكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار ،
ولا شك ان هذا الوعيد أشد ، والسبب فيه ان الفقير غير مالك لجزء من النصاب حتى
يملّكه المالك ، واليتيم مالك لماله ، فكان منع اليتيم أشنع. ولأن الفقير قادر على
التكسب من وجه آخر ولا كذلك اليتيم فإنه عاجز ، فكان ضعفه أظهر وهذا من كمال
عنايته تعالى بالضعفاء.
وقال تعالى في
موضع آخر (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ) لا تدنوا اليه فضلا عن ان تتصرفوا فيه ، وفي ذلك دلالة
على كمال المبالغة بالاجتناب عنه (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) إلا بالطريقة التي هي أحسن ما يفعل بماله على حسب ما
تقتضيه المصلحة كالحفظ والتعمير والتنمية الى غير ذلك مما فيه صلاحهم ويحكم العقل
أنه أولى من تركه.
وقد روى
الكليني في الحسن عن الكاهلي قال : قيل لأبي عبد الله عليهالسلام : انا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم ،
فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه من عند صاحبنا
وفيه من طعامهم ، فما ترى في ذلك؟ فقال : ان كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس وان
كان فيه ضرر فلا. وقال : بل الإنسان على نفسه بصيرة فأنتم لا يخفى عليكم ، وقد قال
الله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ). ونحوها من الاخبار الدالة على اعتبار المصلحة ، وقد ذكر ذلك في
__________________
كتب الفروع مفصلا.
(حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ) بأن يكمل قواه العقلية والحسية. والمراد أن يبلغ ويؤنس
منه الرشد ، وحينئذ فيسلم اليه ماله ، وهو غاية لجواز التصرف الذي دل عليه
الاستثناء وجعل بعضهم بلوغ الأشد عبارة عن البلوغ فقط ، وهو بعيد فان البلوغ وحده
لا يوجب تسليم ماله ، والمنع عن التصرف فيه ما لم يؤنس منه الرشد كما دل عليه
غيرها من الآيات.
والأشدّ جمع
شدّ كالأشر في جمع شر والأضر في ضر ، وقيل جمع شدة كنعمة وأنعم ، قال بعض البصريين
الأشد واحد لا جمع له وان كان على بناء الجمع ، فيكون مثل آنك.
***
ولنتبع البحث
بآيات لها تعلق بالمقام :
الاولى : (وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (النساء ـ ٥).
(وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ) جمع سفيه من سفه إذا خف عقله. والمراد به المبذر أمواله
في غير ما يليق بحاله ، أي ما ليس برشيد ، وهو المتبادر من إطلاقه كما يعلم من
تتبع اللغة ، وبذلك فسره الفقهاء ، فيحمل عليه لرجحانه ، وهو الظاهر من المجمع
والكشاف وتفسير القاضي .
(أَمْوالَكُمُ) أي الأموال التي في أيديكم وتحت ولايتكم من أموال
السفهاء ، والإضافة لأدنى ملابسة لكونهم قوامين عليها ومدبرين لها ، والنهي
للأولياء أن يدفعوا الى السفهاء أموالهم التي بأيديهم ، وهذا هو الملائم بالآيات
المتقدمة والمتأخرة.
وقيل نهي لكل
أحد أن يعمد الى ما خوله الله من المال فيعطي امرأته وأولاده ثم ينظر إلى أيديهم ،
وانما سماهم سفهاء استخفافا بعقلهم واستهجانا بجعلهم قواما
__________________
على أنفسهم ، وقد يوافقه قوله (الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِياماً) اي تقومون بها وتعيشون ، أو بها قوام معاشكم. وعلى
الأول يراد بها انها من جنس ما يقيم الناس به معايشهم كقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وهذا هو الأرجح. وفي إطلاق القيام على ما به القيام
مبالغة ، فإنهم لو ضيعوها ضاعوا ، فكأنها في أنفسها قيامهم وانتعاشهم.
(وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ) واجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم ، وذلك بأن يتجروا فيها
ويحصلوا من نفعها ما يحتاجون إليه في أمر المعاش. ولعل الوجه في التعبير بذلك دون
منها لئلا يكون امرا بجعل بعضهم أموالهم رزقا لهم فيأكلها الإنفاق.
(وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) عدة جميلة تطيب بها نفوسهم ، مثل : ان صلحتم ورشدتم
سلمنا إليكم أموالكم. وظاهر الآية ان السفه بمجرده علّة لثبوت الحجر عليه ومنعه من
التصرف ، كما يقتضيه تعليق الحكم على الوصف الصالح للعلية ، فمتى ثبت الحجر كانت
تصرفاته المالية باطلة ولا يجوز تسليم ماله اليه ولا الأخذ منه ، ولا يتوقف في
ثبوته على حكم الحاكم والألم يكن السفه وحده علة.
وهذا مما لا
ريب فيه إذا اتصل سفهه ببلوغه بأن بلغ سفيها ، فان حكم الحاكم لا يحتاج إليه في
الحجر ولا في زواله عنه ، وقد ادعى بعضهم على ذلك الإجماع. وادعى الشهيد في شرح
الإرشاد ان السفيه هنا مختص بالسفيه المتصل سفهه ببلوغه.
وعلى هذا فلا
ينافي الاحتياج الى حكم الحاكم فيما لو بلغ رشيدا ثم عاد الى السفه ، فان حكم
الحاكم لازم في ثبوت حجره ولا يصير محجورا عليه الّا به ، لأن نظر الحاكم أتم من
غيره. كما أن مجرد الفلس لا يوجب الحجر ، فان مجرد زيادة الدين على المال ليس بحجر
ولا موجب له ، وانما يصير المفلس محجورا عليه بحكم الحاكم لأن العقل والنقل دلّا
على جواز تصرف العقلاء في أموالهم خرج منه ما لو انضم اليه حكم الحاكم ، للإجماع
المنعقد على حصول الحجر هناك ولا دليل على غيره ، فيبقى على الأصل.
لكن يبقى
الإشكال في أن ما ذكر يتم في المفلس ، أما السفيه فظاهر الآية ان السفه بمجرده علة
الحجر من غير فرق بين عروضه في الأثناء أو في أول الأمر كما يعطيه العموم ،
فالتخصيص يحتاج الى دليل ، والإجماع هنا غير ثابت ، فان بعضهم
يذهب الى ثبوت الحجر عليه بمجرد السفه ، الا أن يقال في ذلك حرج وضيق ، فإن
أكثر الناس لا يخلو عن مثله ، إذ قلما يوجد خال عن سفه ما في تصرف أمواله ، فلو اقتضى
ذلك الحجر وعدم اجزاء تصرفاته ، لزم ابتلاء الناس به مع ما فيه من الضيق فجعل أمر
ذلك منوطا برأى الحاكم لأنه أعرف بوجوهه. ولعل هذا هو الموجب لتخصيص الآية ـ فتأمل
فيه.
الثانية : (وَلا تُبَذِّرْ
تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ
الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (اسرى ـ ٢٦).
(وَلا تُبَذِّرْ
تَبْذِيراً) بصرف المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف. قال
في المجمع التبذير التفريق بالإسراف ، وأصله ان يفرق كما يفرق المبذر الا انه اختص
بما يكون على سبيل الإفساد ، وما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا وان كثر.
ومقتضى ذلك أنه لو أنفق جميع ماله في وجوه الخير كالصدقات وفك الرقاب وبناء
القناطر والمساجد والمدارس وأشباه ذلك وان كان ممن لا يليق بحاله ذلك كما لو كان
تاجرا مثلا لا يكون تبذيرا ولا إسرافا ، واليه ذهب بعضهم.
ويؤيده ما صح عنه
صلىاللهعليهوآله أنه قال لعلى عليهالسلام «وأما الصدقة فجهدك حتى يقال قد أسرفت ولم تسرف» رواه معاوية بن عمار في
الصحيح عن الصادق في وصايا النبيصلىاللهعليهوآله.
وظاهر العلامة
في التذكرة انه تبذير ، وهو قول بعض الشافعية ، لأنه إتلاف للمال ، ولظاهر النهي
في قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية ، فان ظاهرها النهي عن هذه الأشياء.
وفيه نظر ،
للمدح على إيثار الغير على النفس بل على العيال مع رضاهم كما دلت عليه سورة هل أتى
، ولا نسلم صدق التبذير على مثله ، لأنه تعالى مدح على ذلك في مواضع من القرآن ،
والنهي في الآية ـ والله اعلم ـ محمول على صرف المال في الإنفاق غير اللائق بحاله
، كصرفه في الأطعمة النفيسة والثياب الفاخرة غير اللائقة
__________________
به ، فان الواجب في ذلك الاقتصاد والتوسط على وجه يناسب الحال.
أو على ان
المراد الصرف في المعصية ولو درهم واحد فإنه تبذير ، ونقله الشيخ في التبيان
والطبرسي في المجمع عن مجاهد أنه قال : لو أنفق مدا في باطل كان مبذرا ولو أنفق
جميع ماله في الحق لم يكن مبذرا.
(إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أمثالهم في الشرارة ، فان التضييع والإتلاف شرّ أو
اصدقائهم واتباعهم لملازمتهم آثارهم وجريهم على سنتهم في الإسراف والتضييع (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) مبالغا في الكفر ، فالواجب عليكم التبعد عنه وعدم
إطاعته في التبذير.
الثالثة : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) (النحل ـ ٧٥).
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً) أي لا حرا ، فان جميع الناس عبيد الله فلا يلزم من كونه
عبدا كونه مملوكا (لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) أي من امره ، فلا يتصرف في أموره ، ولا يقدر على
الإنفاق لعجزه ، يخرج العبد المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف.
(وَمَنْ رَزَقْناهُ
مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) من فيه موصوفة والتقدير وحرا رزقناه وملكناه مالا ونعمة
(فَهُوَ يُنْفِقُ
مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) على أي وجه أراد لتمام القدرة عليه (هَلْ يَسْتَوُونَ) في ذلك ، والاستفهام للإنكار ، أي يمتنع استواؤهم.
مثّل تعالى ما
يشرك به من الأصنام وغيرها بالعبد المملوك العاجز عن التصرف بالكلية ، ومثل نفسه
بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا ، فهو يتصرف فيه وينفق كيف يشاء ، واحتج
بامتناع التسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسيّة والمخلوقية على امتناع التسوية
بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات لكونها جمادا لا تعقل ولا تتحرك وبين الله
الغني على الإطلاق [القادر على كل شيء الرازق لجميع الخلق].
وقيل هو تمثيل
للكافر والمؤمن ، فإن الكافر لا خير عنده والمؤمن يكسب الخير وقيل المراد من العبد
هو الصنم ، أما انه عبد فلقوله تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ، وأما انه مملوك لا يقدر على شيء فظاهر. والمراد بقوله
(وَمَنْ رَزَقْناهُ
مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) عابد الصنم ، لأن الله تعالى رزقه المال فهو ينفق من
ذلك المال على نفسه وعلى اتباعه سرا وجهرا.
إذا ثبت هذا
فنقول : هما لا يستويان في بديهة العقل في القدرة والتصرف ، إذ الأول جماد والثاني
انسان ، فكيف يجوز الحكم بأن الأول مساو لرب العالمين. والقياس التثنية لكنه جمع
لأن المراد الجنس لا الاثنان بخصوصهما ، أي هل يستوي الأحرار والعبيد.
واستدل بظاهرها
على أن العبد القن لا يملك شيئا ، فإنه جعله قسيما للحر المالك ، فاقتضى ذلك عدم
ملكه والا لم يثبت الامتياز حينئذ ، أو لأنه تعالى نفى القدرة عنه مطلقا ، وليس
المراد الحقيقة لبطلانه ضرورة ، فيكون المراد نفي التملك لأنه أقرب المجازات إلى
الحقيقة ، ولأنه نفي على العموم كما هو مفاد النكرة بعد النفي.
وربما استدلوا
عليه بقوله تعالى (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) نفى تعالى أن يشارك العبد مولاه في شيء البتة ، فكأنه
تعالى قال إذا لم يشارك عبد احد مولاه في ملكه فيساويه فكذلك لم يشاركني في ملكي
أحد فيساوينى فيه فثبت أن العبد لا يملك شيئا.
وفيه نظر ، فإن
أقصى ما تدل عليه الآية ان هاهنا عبدا مملوكا لا قدرة له على شيء وعبدا مملوكا
قادرا على شيء في الجملة ، ولا يلزم منه أن العبد المملوك في نفسه لا يملك شيئا
ولو بغير الاختيار أو بتمليك المولى أو نحوه ، إذ يجوز أن يكون ذلك الغير القادر
عبدا عاجزا لم يملكه المولى شيئا أو لم يأذن له أو لم يضرب له ضريبة أو يكون عدم
القدرة كناية عن عدم نفوذ تصرفاته في شيء أصلا لا عدم الملك ، إذ لا منافاة بين
الملكية وكونه محجورا عليه كالصبي.
ويمكن توجيه
الاستدلال بأن الوصف هنا للبيان والكشف بأن المملوك من لا يكون قادرا على شيء ،
فيكون حال المملوك ذلك كما هو شأن الوصف الكاشف ، الا أن كون الوصف هنا كذلك غير
معلوم ، مع ان في الآيات ما يدل على قابليته للملكية كقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ
يُغْنِهِمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)
ولو لم يصح
تملكهم لما صح إغناؤهم.
وفي الاخبار
الصحيحة ما يدل على ذلك أيضا وان عارضها غيرها ، والجمع بينهما بالحجر والتملك غير
بعيد كما أشرنا اليه. ومن ثم ذهب بعض علمائنا إلى انه يملك فاضل الضريبة وأرش
الجناية وما يملّكه مولاه ، وبه قال مالك والشافعي في القديم واحمد في إحدى
الروايتين وأهل الظاهر نظرا الى ما ذكر.
وأجيب عن هذه
الآية بأن المراد يغنيهم الله بالعتق. وفيه بعد عن ظاهر الآية ، مع انه لو كان
العتق غنى كان الرق فقرا فيكون العبد فقيرا فيصح تملكه ـ فتأمل فيه.
وكيف كان
فيستثنى من عدم قدرته بعض تصرفاته ، كطلاق زوجته ونفوذ إقراره بالمال وان اتبع به
بعد العنق.
الثالث عشر
في العطايا المنجزة كالوقف والسكنى والصدقة والهبة
وليس في الكتاب
آيات تدل عليها بخصوصها بل بالعموم ، وهو ما يدل على فعل الخيرات ، وقد ذكر
الراوندي وغيره آيات.
الاولى (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران ٩٢).
الثانية : (وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ
أَجْراً) (المزمل ٢٠).
الثالثة : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الى قوله (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) الآية (البقرة ١٧٧).
وتمام البحث في
الأمور الأربعة مستوفى في كتب الفروع.
__________________
الرابع عشر
النذر والعهد واليمين
وفيه أبحاث :
(البحث الأول)
(في النذر)
وفيه آيتان :
الاولى : (وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) البقرة ٢٧٠.
(وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ) في وجوه الخير وسبل البرّ نفقة واجبة أو مندوب إليها
وما شرطية أو موصولة وما بعده صلة ، والعائد محذوف ، والمجموع في محل الرفع على
الابتداء خبره (فَإِنَّ اللهَ
يَعْلَمُهُ).
(أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ
نَذْرٍ) أو الزمتم أنفسكم بنذر فوفيتم به من فعل برّ كصلاة أو
صوم أو صدقة أو نحو ذلك (فَإِنَّ اللهَ
يَعْلَمُهُ) فيعلم استحقاق صاحبه للأجر ونية فاعله فيجازيه على ذلك
، والتعبير بالعلم للإشعار به (وَما لِلظَّالِمِينَ) الواضعين النفقة أو النذر في غير موضعهما كالإنفاق رياء
أو ضررا أو نذرا في معصية أو ترك الوفاء به مع القدرة عليه (مِنْ أَنْصارٍ) أعوان يدفعون عنهم العذاب.
وفي الآية
دلالة على مشروعية النذر بل استحبابه إذا كان على وجه الطاعة ، حيث قرنه بالإنفاق
المندوب اليه ووعد فاعله بالأجر وتوعده بالعقاب إذا لم يأت به كذلك.
قال في المجمع النذر هو عقد الرجل على نفسه فعل شيء من البر بشرط ،
__________________
ولا ينعقد ذلك الا بقوله «لله عليّ كذا» ، ولا يثبت بغير هذا اللفظ ، وأصل
النذر الخوف لانه يعقد بذلك على نفسه خوف التقصير في الأمور ، ومنه نذر الدم ، وهو
العقد على سفك الدم للخوف من مضرة صاحبه ، ومنه الإنذار ـ انتهى كلامه.
وقد استفيد منه
أشياء :
(الأول) تخصيصه
بالفعل ، وظاهره عدم انعقاده على الترك. وهو غير واضح الوجه الا أن يراد بالفعل ما
يشتمل مثل الترك أيضا ، أي ما يصدر عنه فعلا أو تركا والإطلاق على مثله كثير في
الاستعمال.
(الثاني)
تخصيصه بشيء من البرّ قد يدل على عدم انعقاده في المباح. وهو خلاف المشهور بين
الأصحاب وان ذهب اليه بعضهم ، وسيجيء إنشاء الله تعالى.
(الثالث)
تخصيصه الفعل بالشرط قد يعطى عدم انعقاده تبرعا بلا شرط ، وسيجيء أيضا.
(الرابع) قوله
: لا ينعقد الا بقوله «لله على كذا». قد يدل على عدم انعقاده إذا أتى بلفظ آخر وان
كان مرادفا له . وقد يدل عليه بعض الاخبار.
__________________
ومنه يلزم عدم
انعقاده من غير لفظ أصلا بطريق أولى ، والشيخ لم يعتبر اللفظ بل اكتفى بعقده قلبا
وان لم يتلفظ به ، وهو بعيد إذ لم يعلم إطلاق النذر على مثله ، مع أن الأصل براءة
الذمة من الوجوب. أما الاستدلال عليه بقوله (إِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ونحوه فغير واضح الدلالة ، فإن ظاهرها العقاب على أفعال
القلب مع قصد المعصية. وفي غيرها من الآيات دلالة على ذلك أيضا ، كقوله (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).
ولا ينافي ذلك
ما دل على أن العقاب لا يكون الا مع الفعل ، فان قصد القبيح قبيح عقلا وشرعا ، الا
ان العقاب عليه ليس بمثابة العقاب على الفعل ، وبذلك يحصل الجمع بين الأدلة.
الثانية : (إِنَّ الْأَبْرارَ
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ
اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ
شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (الدهر ٧ ـ ٩).
(إِنَّ الْأَبْرارَ) جمع بر كارباب أو جمع البار كأشهاد. قال في المجمع وقد
أجمع أهل البيت عليهمالسلام وموافقوهم وكثير من مخالفيهم أنّ المراد بذلك علىّ
وفاطمة والحسنان عليهمالسلام ، فالآية مع ما بعدها متعينة فيهم ، وقد انعقد الإجماع
على كونهم أبرارا وفي غيرهم خلاف.
(يَشْرَبُونَ مِنْ
كَأْسٍ) من خمر ، وهي في الأصل القدح يكون فيه (كانَ مِزاجُها)
__________________
ما يمزج بها (كافُوراً) لبرده وعذوبته وطيب عرفه وليس بكافور الدنيا. وقيل هو
اسم على ماء في الجنة يشبه الكافور في رائحته وبياضه.
ويؤيده قوله (عَيْناً) فإنها كالمفسرة للكافور (يَشْرَبُ بِها عِبادُ
اللهِ) أى أولياؤه ، والباء مزيدة أو بمعنى من التبعيضية ، فان
مجيئها بمعناها كثير في اللغة وقد أسلفناه (يُفَجِّرُونَها
تَفْجِيراً) يجرونها حيث شاؤا الى منازلهم وقصورهم اجراء سهلا ،
والتفجير تشقيق الأرض لجرى الماء ، وأنهار الجنة تجري بغير أخدود ، فإذا أراد
المؤمن أن يجري نهرا خطه خطا فيتبع الماء من ذلك الموضع وجرى بغير تعب.
(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) استيناف لبيان ما رزقوه لأجله ، كأنه قيل لأي شيء
استحقوا ذلك ، فأجيب بأنهم كانوا في الدنيا بهذه الصفة. والإيفاء بالنذر أن يفعل
ما نذر عليه فإذا نذر طاعة تممها ووفى بها.
[والسبب في
نزول الآية على ما وردت به الآثار أن الحسن والحسين عليهماالسلام مرضا
__________________
فعادهما رسول الله صلىاللهعليهوآله في ناس ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك.
فنذر عليّ وفاطمة عليهماالسلام وفضة جاريتهما صوم ثلاثة أيام ان برئا ، فشفيا وما معهم
شيء فاستقرض على عليهالسلام من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة
صاعا واختبزته خمسة اقراص فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم مسكين فآثروه
وباتوا لم يذوقوا الا الماء وأصبحوا صياما ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام وقف عليهم
يتيم فآثروه ، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك ، فنزل جبرئيل عليهالسلام بهذه السورة فقال : خذها يا محمّد هنأك الله في أهل
بيتك].
وقيل يتمون ما
فرضه الله عليهم من الواجبات ، والتعبير بذلك للمبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء
الواجبات ، لأن من وفي بما أوجبه هو على نفسه كان أوفى بما أوجبه الله عليه.
(وَيَخافُونَ يَوْماً
كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) فاشيا منتشرا غاية الانتشار ، من استطار الفجر والحريق
، وهو أبلغ من طار. وسمى العذاب شرا لأنه لا خير فيه للمعاقبين وان كان في نفسه
حسنا لكونه مستحقا لهم. وقيل المراد بالشر هنا أهوال يوم القيامة وشدائده.
وفي الآية
دلالة واضحة على وجوب الوفاء بالنذر ، حيث عطف عليه الخوف من شر ذلك اليوم. وظاهره
أن ذلك مع ترك الوفاء به ، إذ المندوب لا يخاف من تركه العقاب.
وبذلك استدل
أصحابنا على وجوب الوفاء بالنذر ، ومقتضى العموم وجوب الوفاء بالنذر وان لم يعلق
على شرط كقوله «لله على أن أصوم يوما» [ويعبر عنه بالنذر
__________________
المطلق ويقابله النذر المعلق على الشرط كقوله «ان شفى مريضي فلأصومن كذا».
وقد اختلف
الأصحاب في صحة الأول] ونقل العلامة في المختلف عن الأكثر وقوع مثله وصحته ،
واستدل على وجوب الوفاء به بعموم الآية وبما رواه أبو الصباح الكناني عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن رجل قال علىّ نذر. قال : ليس النذر بشيء
حتى يسمي لله شيئا صياما أو صدقة أو هديا أو حجا [فلو كان الشرط من المصححات لذكره
مع الصيام أو الصدقة أو الحج ولم يذكره ووجه الاستدلال انه جعل المصحح للنذر هو
تسميته].
وذهب السيد المرتضى
الى عدم انعقاد مثله ، واعتبر في صحة النذر تعليقه على الشرط ، وادعى عليه الإجماع
، ويؤيّده أنّ النذر وعد بشرط ، صرح به أهل اللغة ، وهو الظاهر من الكشاف والمجمع
فيكون كذلك شرعا لأصالة عدم النقل.
[وأجاب عن
الآية بأن موردها النذر المعلق على ما عرفت ، ولو قيل المعتبر عموم اللفظ وهو شامل
للمطلق ، لأمكن الجواب بأن المطلق لا يسمى نذرا فلا يتناوله اللفظ. وعن الرواية
بالقول بالموجب ، فإن تسمية العبادة شرط في النذر ومصحح له ، أما انه كان كافيا في
صحة النذر فلا بل المصحح له التسمية والشرط ، ولعل اقتصار الامام على التسمية
لكونه الجزء الأخير من المصححات لا أنها كافية فيه].
وقد يستدل
للأكثر بصحيحة منصور بن حازم عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : إذا قال الرجل علىّ المشي إلى بيت الله وهو محرم
بحجة أو عليّ هدي كذا وكذا فليس بشيء حتى يقول : لله علىّ المشي إلى بيته أو يقول
: لله علىّ ان أحرم بحجة أو يقول : لله علىّ هدى كذا وكذا إن لم افعل كذا وكذا [حيث
بين المطلق بقوله لله علي المشي
__________________
الي بيته والمعلق بقوله لله على هدى كذا وكذا ان لم افعل ، فيكون النذر
شاملا لهما] وعلى هذا فلا يكون داخلا في الآية لعدم كونه نذرا شرعا والمسئلة لا
تخلو من اشكال والاحتياط غير خفي.
(البحث الثاني)
(العهد)
وفيه آيات :
الاولى : (وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (اسرى ـ ٣٤).
(وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ) بجميع ما عاهدتموه ، أو بما عاهدكم الله من تكاليفه ،
والحمل على الجميع ممكن (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ
مَسْؤُلاً) مطلوبا يطلب من المعاهد ان لا يضيعه ويفي به ، أو
مسئولا عنه يسأل الناكث ويعاقب عليه. وقيل معناه ان العهد يسأل فيقال لم نكثت
تبكيتا للناكث كما تسأل الموؤدة بأي ذنب قتلت ، فيكون تخييلا ويجوز على حذف المضاف
أى ان صاحب العهد كان مسئولا وفي الآية دلالة على وجوب الوفاء بالعهد من وجهين :
الأول صيغة الأمر والثاني كونه مسئولا عنه ولا يسأل يوم القيامة الا عن الواجب.
الثانية : (وَبِعَهْدِ اللهِ
أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الانعام ـ ١٥٢).
(وَبِعَهْدِ اللهِ
أَوْفُوا) يعني ما عهد الله إليكم من الواجبات ، أو ما عاهدتم
الله عليه ، والتقديم للحصر أى يجب الوفاء به لا بغيره. وفيها دلالة على وجوب
الوفاء بالعهود والنذور والإتيان بجميع ما أمر الله به.
(ذلِكُمْ) جميع ما تقدم ، ويحتمل كون الإشارة إلى عهد الله فإنه
مشتمل على ما تقدم وزيادة (وَصَّاكُمْ بِهِ) أمركم بحفظه والعمل بمقتضاه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تذكروا فتأخذوا به ولا تغفلوا عنه ، أو لكي
تتعظوا به.
الثالثة : (الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (الرعد ٢٠)
(الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللهِ) قد تقدم ما في معنى العهد من الوجهين (وَلا يَنْقُضُونَ
الْمِيثاقَ) الذي أوثقوه على أنفسهم بينهم وبين الله كالعهود
والنذور والأيمان وغير ذلك ، أو بين خلقه كالعقود والشروط وسائر ما قرّروه معهم.
ويحتمل أن يكون المراد بالأول ذلك أيضا ويكون الثاني تأكيدا للأول ، ففي الآية
دلالة على وجوب الوفاء بالنذور والعهود والشرائط.
الرابعة : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (المعارج ـ ٣٢).
في الكشاف سمى الشيء المؤتمن عليه امانة وعهدا ، ومنه (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) و (لا تَخُونُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) وانما يؤدون العيون لا المعاني ويخان المؤتمن لا
الامانة ، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعى الغنم وراعي الرعية. وعلى
هذا فيحتمل ان يراد بالأمانة العموم ، أى كل ما اؤتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله
تعالى أو من جهة الخلق. ويحتمل ارادة الخصوص ، أى ما حملوه من أمانات الناس وعهدهم
، والأظهر الأول.
وفي المجمع راعون أى حافظون وافون. والأمانات ضربان : أمانات الله
، وأمانات العباد ، فأمانة الله تعالى هي العبادات كالصيام والصلاة وغيرها من
الافعال المكلف بها ، وأمانات العباد هي مثل الودائع والشهادات وغيرها. وأما العهد
فعلى ثلاثة أضرب : أوامر الله ، ونذور الإنسان ، والعقود الجارية بين الناس. فيجب
على الإنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات والعهود والقيام بما يتولاه منها.
__________________
(البحث الثالث)
(اليمين)
وفيه آيات :
الاولى : (لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة ـ ٢٢٥).
(لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وهو ما يبدو من المرء بلا قصد ولا عقد من القلب عليه ،
كقول الرجل لا والله وبلى والله من غير قصد ، وانما المراد به تأكيد الكلام ولا
يخطر ببالهم الحلف ، حتى لو قيل لواحد سمعتك تحلف في موضع كذا لأنكر ذلك ولعله قال
لا والله ألف مرة ، والى هذا يذهب الشافعي. وقيل هو أن يحلف وهو يرى انه صادق ثم
يتبين انه كاذب ، واليه يذهب أبي حنيفة.
وفي أخبارنا ما
يدل على الأول ، روى الكليني عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول في قول الله عزوجل (لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قال : اللغو قول الرجل لا والله وبلى والله ولا يعقد
على شيء.
ويمكن الحمل
على ما يشتمل الثاني ، فإن أصحابنا لا يرون بذلك اثما. وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو
اللغو ، لأنه مصدر أو حال عنه أو صفته ، بأن يقدر المتعلق معرفا. والمراد نفي
المؤاخذة مطلقا في الدنيا بعدم الكفارة وعدم التعزير وفي الآخرة بعدم العقاب.
وأوجبت الحنفية الكفارة في الأول دون الثاني ، والشافعية على العكس ، ويمكن رد
القولين بما تقدم.
(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) بما عزمت عليه وقصدته [والمراد ولكن يؤاخذكم بهما أو
بأحدهما مما قصدتم من الايمان] وواطأت فيه قلوبكم ألسنتكم
__________________
وفيه حذف أي من ايمانكم.
ويدخل في هذا
الحلف على الماضي كذبا ، ويسمى «اليمين الغموس» ، [سميت به لأنها تغمس صاحبها في
الإثم أو في النار ،] وهو حرام يترتب عليه العقاب في الآخرة ، ولا كفارة فيه عند
أصحابنا لأنها انما تجب بالخلف ، وهو انما يكون في صورة الحلف على فعل متوقع في
المستقبل راجح أو ترك كذلك ، وشيء من ذلك لا يوجد في الغموس.
[نعم كفارتها
الاستغفار ، وخالف الشافعي هنا حيث أوجب فيها الكفارة وحكم بانعقاد اليمين على
الماضي عملا بعموم الآيات. ولعله يريد بانعقادها ثبوت حكمها ، بمعنى انه ان كان
صادقا فلا كفارة وان كان كاذبا عالما لزمته الكفارة. وفيه نظر.] وفي الآية دلالة
على اعتبار القصد في اليمين وعدم العبرة باللفظ لو خلى عنه ، ويلزم من ذلك عدم
انعقاد يمين الغافل والساهي والغضبان بما يرفع قصده ونحوه المكره.
(وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر الذنوب مع التوبة أو بدونها تفضلا (حَلِيمٌ) يمهل العقوبة ولا يعجل بها ، فإنه إنما يعجل من يخاف
الفوت والله لا يفوته شيء.
الثانية : (لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) (المائدة ٨٩).
(لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قد تقدم معنى عدم المؤاخذة به (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ) بما وثقتم الايمان عليه بالقصد والنية ، والمعنى
يؤاخذكم إذا حنثتم إذ لا كفّارة بدونه لعدم الموجب ، أو المراد بنكث ما عقدتم فحذف
المضاف للعلم به ، وقرئ بالتشديد ، وليس المراد به التكثير حتى يوجب سقوط الكفّارة
باليمين الواحدة ، بل معنى التخفيف ، فان عقد مشددا ومخففا بمعنى واحد.
(فَكَفَّارَتُهُ) على الأول كفارة حنثه وعلى الثاني فكفارة نكثه ،
والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفّر الخطيئة أي تسترها ، لا انها مكفرة
للخطيئة كما قاله
القاضي ، فإنا لا نسلم أنها مكفرة من دون تفضل منه تعالى. واستدل القاضي
بظاهرها على جواز التكفير بالمال قبل الحنث ويجيء إنشاء الله تعالى.
(إِطْعامُ عَشَرَةِ
مَساكِينَ) خبر كفارته ، والمراد بالمسكين من لا يقدر على قوت
السنة له ولعياله فعلا أو قوة بالكسب ، وقد تقدم في باب الزكاة (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ) من أقصده في النوع كالحنطة المتوسطة بين أفرادها ،
ويمكن اعتبار القدر أيضا فإن منهم من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر عليهم ،
واعتبار الأوسط رخصة فيجزي الأعلى ولا يجزي ما دونه.
واختلف أصحابنا
في هذا القدر المعتبر ، فقيل مدان لكل مسكين ، والأكثر على الاكتفاء بالمد الواحد
، والاخبار مختلفة في ذلك ، وحمل ما زاد على المد الواحد منها على الأفضل طريق
الجمع بينها. ويجوز أن يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوا.
وفي تعليق
الإطعام على العشرة دلالة واضحة على عدم إجزاء الأقل منها وان كان الطعام ما يكفي
العشرة ، وهو قول أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة يجوز إعطاء مقدار طعام العشرة لواحد
عشر مرات نظرا الى ان المقصود من العدد مقدار الطعام لا هو نفسه ويدفعه مخالفة
النص ، وكون المقصود ما ذكره غير معلوم بل المعلوم خلافه ، إذ في تعدد الأشخاص
مصالح لا توجد في الواحد ، كاستجابة الدعاء وتظافر القلوب ، وجواز كون شخص مستجاب
الدعوة من جملتهم فتعم بركته الجميع ، وظاهر أن مثل ذلك لا يوجد في الواحد. نعم لو
تعذر العدد ولم يوجد الا واحد فرق عليه في عشرة أيام.
والعشرة وان
كانت ظاهرة في الذكور الا أن ذلك على التغليب ، فيجوز اجتماع النساء معهم بالإجماع
، وفي الاخبار دلالة عليه .
وإطلاق الآية
يقتضي جواز كونهم صغارا ، الا أن أصحابنا قالوا إذا كانوا كلهم صغارا احتسب كل
اثنين منهم بواحد ، ولو اجتمع الصغار والكبار جاز ودفع إليهم
__________________
ما للعشرة ، وفي الاخبار دلالة على ذلك أيضا.
و (مِنْ أَوْسَطِ) منصوب على انه صفة مفعول محذوف ، أي طعاما من أوسط ، أو
مرفوع على البدلية من إطعام عشرة مساكين ـ قاله القاضي ، ويمكن تعلقه بإطعام أو يكون حالا عنه.
(أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على إطعام ، إما لكونه مصدرا فصح عطفه على المصدر ،
أو بتقدير مضاف أي الباس كسوتهم. وقال القاضي هو عطف على إطعام أو من أوسط ان جعل
بدلا. وفي الكشاف انه عطف على محل من أوسط ، ولم بذكر اعراب محله ، ولعله
يريد به ما قاله القاضي من كون محله الرفع على البدلية كما عرفت.
وإطلاق الكسوة
ظاهر في الاكتفاء بما يصدق عليه الكسوة لغة ، وهو الثوب الساتر للعورة كالقمص
والسراويل والجبة بل الإزار والوزرة ، أما الرداء فان كان صغيرا يحصل به مجرد
الارتداء لم يكف. نعم لو كان كبيرا أمكن الاكتفاء به.
ويحتمل أن يكون
المراد من الكسوة الثياب التي يحتاج إليها الإنسان عرفا ، كما يقال في العرف يجب
كسوة الزوجة على الزوج والمملوك على مولاه ، والمراد جميع ما يحتاج اليه. ويؤيده
مقابلته للاطعام الذي يعتبر فيه كونه مقدار ما يكفيه يوما ، وحينئذ فيجب ثوبان
كالقميص والعمامة أو الجبة والقلنسوة كما هو المتعارف ، واليه ذهب جماعة من
أصحابنا وجعلوا الاكتفاء بالثوب الواحد مع العجز.
والاخبار عن
الأئمة الأطهار عليهمالسلام واردة على الوجهين معا ، ففي بعضها ما يدل على أنه
ثوبان ، رواه الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليهالسلام في كفارة اليمين
__________________
الى ان قال ـ أو كسوتهم لكل إنسان ثوبان. ونحوها وفي بعضها ما يدل على الاكتفاء بالواحد ، كصحيحة محمّد بن
قيس الثقة عن ابى جعفر عليهالسلام قلت : فما حد الكسوة؟ قال : ثوب يوارى عورته. ونحوه روى
معمر بن عمر عنه عليهالسلام .
__________________
ونقل الطبرسي
في مجمع البيان ان الذي عليه أصحابنا وجوب الثوبين لكل مسكين ، وعند
الضرورة يجزي الواحد ، وظاهره الإجماع عليه ، وهو غير معلوم. والاولى في الجمع بين
الاخبار الاكتفاء بالثوب الواحد الساتر للعورة وحمل ما دل على الثوبين على
الأفضلية كما قاله الأكثر ، وإطلاق الآية لا يأباه.
وكيف كان فيجزي
الغسيل الا أن يصير سحيقا أو منخرقا بحيث لا ينتفع به الا قليلا ، ويعتبر كون
الكسوة من جنس القطن والكتان والصوف والحرير للنساء ، واحتمل الشهيد اجزاءه للرجال
أيضا ، ويجزي الفرو والجلد المعتاد لبسه.
(أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ) أيّ رقبة كانت عبدا أو امة مؤمنة أو كافرة ، وبهذا
الإطلاق أخذ الشيخ في الخلاف فجوز إعتاق الكافر في الكفارة ، والأكثر على اعتبار
الايمان فيها اما لأن الكافر خبيث وقد منع تعالى من إنفاقه والتقرب بمثله ، واما
للأخبار الدالة على عدم إجزاء إعتاق المملوك الكافر ، والى هذا يذهب الشافعي لكنه
قاس هذه الكفارة على كفارة القتل فاعتبر فيها الايمان مثلها.
ومقتضى «أو»
التخيير بين الخصال الثلاث على الإطلاق بأيتها أخذ المكفر فقد خرج عن العهدة وامتثل الأمر ،
ولا يجوز الإخلال بجميعها ، وكذا لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، وهذا معنى ما
قاله أكثر الأصوليين ان الواجب في المخير واحد لا بعينه من الخصال.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) شيئا من هذه الثلاث ولا أثمانها ولم يكن عنده شيء زائدا
عما يحتاج
__________________
اليه من قوت يوم وليلة له ولعياله ونحوه من الأمور اللازمة له بين الناس
باعتبار حاله وعلى هذا أصحابنا والشافعية ، وقالت الحنفية يجوز الصيام إذا كان
عنده من المال ما لا يجب فيه معه الزكاة وهو بعيد.
(فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ) مبتدأ حذف خبره ، أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره فعليه أو
فالواجب. وظاهر الآية الاجتزاء بالثلاثة على أي وجه صامها متفرقة أو متتابعة ، وبه
أخذ مالك ، وهو ظاهر الشافعي فخير بين التتابع وعدمه ، وأصحابنا قيدوه بالتتابع واجمعوا على عدم إجزائها متفرقة ، وفي أخبارهم دلالة
على ذلك ، والى هذا يذهب أبو حنيفة مستدلا بقراءة متتابعات في الشواذ . وفي الدلالة نظر ، إذ لا عبرة بالشاذ فإنه لم يثبت
كتابا وسنة.
(ذلِكَ) إشارة الى جميع ما تقدم (كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أي إذا حلفتم وحنثتم ، لأن الكفارة لا تجب بنفس اليمين
وانما تجب به وبالحنث بإجماعنا ، ومقتضى ذلك عدم اجزاء التكفير بعد اليمين قبل
الحنث ، وهو قول أصحابنا إذ لا يتقدم المسبب على سببه [ولا الواجب على وقته ، فان
التكفير عبادة وقتها الحنث لعدم وجوبها قبلها إجماعا] ، وتابعهم على ذلك أبو حنيفة
، وأجاز الشافعي تقديمها على الحنث بالمال فقط [كتعجيل الزكاة قبل تمام الحول] دون
الصيام.
وقد يستدل عليه
بظاهر الآية ، لإطلاق كونها كفارة عند الحلف من غير التقييد بالحنث ، وبقوله صلىاللهعليهوآله «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير».
__________________
وقد عرفت تقييد
الآية بالإجماع ، مع ان القاضي ذكر ان الكفارة تذهب الإثم وتستر الذنب ، وذلك يقتضي
كونها بعد الذنب كما في كفارة إفطار شهر رمضان وغيره ، فلا وجه لاختصاص هذه
بالتقديم.
ولو سلمنا أن
الآية ظاهرة في ذلك فأي وجه أوجب اختصاص التقديم بالمال دون ما عداه. ولو قيل :
الوجه في ذلك ان الصوم من العبادات البدنية ، وهي لا تقدم على وقتها ما لم تمس
إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان ، ولأنه تعالى أوجب التكفير بالصيام مع عدم الوجدان
لا مطلقا. لقلنا : العبادات مطلقا مالية وبدنيّة لا تقدم على وقتها الا بدليل يدل
على جواز التقديم ، وما ذكرتم لا دلالة فيه ، ولأنه إذا جاز تقديم كفارة المال مع
وجدانه فليجز تقديم الصوم مع عدمه. على ان جعل الخبر دليلا على أن المراد بالآية
ذلك لا وجه له ، كيف وهو مقيد بكون رؤية غيره خيرا منها والمراد أعم من ذلك كما هو
الظاهر.
والذي عليه
أصحابنا مخالف للحديث المذكور ، فإنهم يذهبون إلى أنه متى حلف على شيء ثم رأى غيره
أولى منه انحل اليمين من غير كفارة ، وفي أخبارهم دلالة على ذلك ، روى زرارة في الحسن عن ابى جعفر عليهالسلام قال : كل يمين حلف عليها أن لا يفعلها مما له منفعة في
الدنيا والآخرة فلا كفارة عليه وانما الكفارة في أن يحلف الرجل والله لا أزني ولا
اشرب والله لا أخون وأشباه هذا ثم فعل فعليه الكفارة.
وروى عبد
الرحمن بن ابى عبد الله عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : إذا حلف
__________________
الرجل على شيء والذي حلف عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير ولا
كفارة عليه ، وانما ذلك من خطوات الشيطان. ونحوهما من الاخبار المتظافرة في ذلك .
(وَاحْفَظُوا
أَيْمانَكُمْ) من الحنث ولا تخالفوها ، والمراد الإيمان التي الحنث
فيها معصية كمن حلف ان لا يشرب الخمر ، بخلاف ما لو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر
بالحفظ عن الحنث لانه اسم جنس فيجوز إطلاقه على البعض. وقيل معناه ضنوا بها ولا
تبذلوها لكل أمر ، وهو بعيد عن ظاهر الآية ، ففي الآية دلالة على تحريم الحنث
ومخالفة اليمين سواء كفر أم لا.
ومنه يظهر ضعف
قول الشافعي بتجويزه هذه الكفارة ، لما تقدم من الخبر وضعفه من جهات ، فلا يخالف
به ظاهر الآية ، ولأن اليمين اما ان ينعقد أو لا ينعقد ، فان كان الأول وجب حفظها
بظاهر الآية وان كان الثاني فلا كفارة. الا أن يوجه قولهم بأنه مع الكفارة ينحل
اليمين كما قاله أصحابنا فيما لو وجد غيره أولى ، وفيه ما فيه.
(كَذلِكَ) مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ آياتِهِ) أعلام شرائعه واحكامه ، فمحل الكاف النصب على انه صفة
لمصدر محذوف (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) نعمة التعليم ، أو سائر نعمه الواجب شكرها ، فان مثل
هذا البيان يسهل لكم المخرج ويحصل لكم الخلاص.
الثالثة : (وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة ـ ٢٢٤).
(وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف ان لا يدخل على ختنه
ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته ، فكان يقول : اني حلفت بهذا فلا يحل لي أن
أفعله ، فنزلت.
والعرضة فعلة
بمعنى المفعول كالقبضة يطلق لما يعرض دون الشيء فيصير مانعا منه ، ويطلق أيضا على
المعرّض للأمر كما يقال المرأة عرضة النكاح والدابة المعدة
__________________
للسفر عرضة له. ومعنى الآية على الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه
من أنواع الخير ، فيكون قد أطلق الايمان وأراد الأمور المحلوف عليها ، كقوله صلىاللهعليهوآله «إذا حلفت على يمين» الحديث ، سمي المحلوف عليه يمينا.
وقوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عطف بيان للايمان بالمعنى المذكور ، واللام صلة عرضة
لما فيها من معنى الاعراض ، والمعنى لا تجعلوا الله شيئا يعترض الأمور المحلوف
عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس. ويجوز أن يكون للتعليل ، ويتعلق
ان بالفعل أو بعرضة ، أي ولا تجعلوا الله عرضة أن تبروا لأجل ايمانكم به.
ومعنى الآية
على الثاني ولا تجعلوه معرضا لأيمانكم فتبذلوه بكثرة الحلف به ، ومن ثم ذم تعالى
الحلّاف بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلَّافٍ مَهِينٍ) ، وأن تبروا علة النهي ، أي الغرض من النهي عنه ارادة
بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس ، فان الحلاف مجتر على الله ، والمجتري على الله
لا يكون برا تقيا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين.
وكلا الوجهين
موافق لما يذهب إليه أصحابنا ، أما الأول فلتظافر الاخبار عن الأئمة عليهمالسلام ان المحلوف عليه إذا كان مرجوحا وكان غيره خيرا منه
فإنه يأتي بذلك الغير ولا اثم عليه ولا كفارة ، وقد نقلنا جانبا من الاخبار ،
وخالف هنا العامة فأوجبوا الكفارة في ذلك أيضا. وأما الثاني فلوروده عنهم عليهمالسلام أيضا ، روى أبو أيوب الخزاز قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين ، فإنه عزوجل يقول (وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ونحوها.
__________________
(وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في ضمائركم ، لا يخفى عليه من ذلك خافية فافعلوا ما
يوجب المغفرة دون الإثم.
النوع الخامس عشر
(العتق)
وفيه آية واحدة ، وهي :
(وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) (الأحزاب ـ ٣٧).
(وَإِذْ تَقُولُ) واذكر إذ تقول (لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِ) بشرف الإسلام الذي هو أجل النعم وأعظمها (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق والخلاص من الرق واختصاصه بك وهو زيد بن حارثة
لما أسره النبي صلىاللهعليهوآله في بعض الغزوات فأعتقه بعد أن ملكه بالأسر وجعله ابنا
له ، ففي الآية على مشروعية تملك الإنسان وعتقه ، بل رجحان العتق وكون المعتق
منعما ، فإنه سبب لإيجاد العتق لنفسه وذلك أصل النعم ، وهذا المقدار كاف في بيان
مشروعية العتق ، وسيجيء تمام الآية.
[وربما استدل
بعض أصحابنا بقوله (وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) الآية ، على اشتراط الإسلام في المملوك المعتق وعدم
جواز عتق المملوك الكافر. وجه الاستدلال انه تعالى نهى عن قصد الخبيث بالإنفاق ،
والكافر خبيث والأصل في النهي التحريم وهو يقتضي الفساد في العبادة. وربما يؤيد
ذلك بعض الاخبار الدالة على عدم جواز عتق المسلم المملوك المشرك.
وفيه نظر ، فإن
الآية إنما دلت على النهي عن إنفاق الخبيث ، وهو الرديء من المال يعطاه الفقير على
ما سلف بيانه ، وذلك لا يستلزم تحريم عتق الكافر بوجه ، لأن إنفاقه لكونه ذا
اعتقاد خبيث ، بل ربما كانت ماليته خيرا من مالية العبد المسلم ، وعلى هذا الوجه
لا يكون خبيثا.
سلمنا ان
الخبيث يتناول الكافر لكن لا نسلم عموم النهي في كل إنفاق بل في الصدقة الواجبة ،
والا لما جاز التصدق بالرديء في المندوب وهو باطل بالإجماع. والاخبار
الواردة بالمنع ضعيفة السند لا يتولّى افادة التحريم. وربما عارضها ما روي أن عليا عليهالسلام أعتق عبدا نصرانيّا فأسلم حين أعتقه.
وفصل بعض
أصحابنا فحكم بجواز عتق المملوك الكافر مع النذر وعدمه مع التبرع ، جمعا بين ما دل
على المنع وما دل على الجواز كالخبر الوارد في فعل علي عليهالسلام بحمل ذلك على انه عليهالسلام كان قد نذر عتقه ، لئلا ينافي النهي عن عتقه. وهو جمع
بعيد ، والحمل عليه من غير دلالة صحيحة صريحة أبعد. وتمام الكلام يطلب من محله].
ولنذكر آية
الكتابة ، وهي (وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) يطلبون المكاتبة ، والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة
، والتركيب يدلّ على الضمّ والجمع ، لما فيه من ضم النجوم بعضها الى بعض. [ويحتمل
إطلاق المكاتبة على هذا الفعل باعتبار أنه يوثق بالكتابة من حيث التأجيل والتنجيم
، وما يدخله الأجل تدخله الكتابة لقوله تعالى (إِذا تَدايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)] وهو أن يقول الرجل لمملوكه «كاتبتك على ألف درهم
تؤديها في نجوم معلومة» فإذا أداها عتق.
ومعناها كتبت
لك على نفسي أن تعتق منى إذا وفيت لي المال وكتبت على نفسك أن تفي بذلك ، أو كتبت
عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق ، فلو أدى المال في النجوم التي سماها عتق ،
وان عجز عن أدائه كان لمولاه رده في الرق ان كانت الكتابة مشروطة وإلا عتق منه
بحسابه وبقي مملوكا بحساب ما بقي ان كانت مطلقة.
وقد يستدل
بظاهر الآية على اشتراط التكليف في العبد ، كما هو مذهب أصحابنا والشافعية ، فإن
قوله (يَبْتَغُونَ) دال على الطلب وغير المكلف لا يتصور منه الطلب [لعدم
القصد ،] وجوّز أبو حنيفة كتابة الصبي ، قال ويقبل عنه الولي ،] وهو ضعيف بما
قلناه.
__________________
(مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) عبدا كان أو أمة ، وهو بيان لما تقدم ، (وَالَّذِينَ) مع صلته مبتدأ خبره (فَكاتِبُوهُمْ) ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط ، ويجوز أن يكون منصوبا
بفعل مضمر هذا تفسيره.
والأكثر من
العلماء على أن الأمر للندب ، ونقل في المجمع انه للوجوب عن جماعة قليلة من العامة
إذا طلبه العبد بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيرا ، ولو كان بدون قيمته لم
يلزم. وربما احتجوا عليه بما روي أن عمر أمر إنسانا بأن يكاتب سيرين أبا محمّد بن
سيرين فأبى فضربه بالدرّة ، فلم ينكر احد من الصحابة عليه .
ولا يخفى ضعف
هذا القول للأصل ، ولعموم قوله «لا يحل مال امرئ مسلم الا من طيب قلبه» ، ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممّن
يعتقه في الكفارة ، ولا قائل هناك بالوجوب فلا يجب هنا. وهذه طريقة المعاوضة أجمع [ولئلا
يبطل اثر الملك].
وإطلاق الآية يقتضي
جوازها حالّة ومؤجلة ، واليه ذهب جماعة من الأصحاب ووافقهم الحنفية ، واعتبر آخرون
في صحتها كونها مؤجلة وهو قول الشافعية نظرا الى ان ما يقع عليه الكتابة غير حاصل
حالة العقد لعجزه عن العوض حينئذ ، وانما يكون متوقعا حصوله بالكسب وهو غير معلوم
الوقت ، فان ما في يد العبد لمولاه فلا تصح المعاملة عليه ، وحينئذ فلا بد من ضرب
الأجل تحفظا من الجهالة ، [ولأن السلف من عهد النبي صلىاللهعليهوآله لم يعقدوا الكتابة الا على عوض مؤجل ، وهو كالإجماع على
تعين الأجل منها].
وضعفه ظاهر ،
إذ لا يلزم من كون ما في يده لمولاه قبل الكتابة عدم جواز كونها حاله ، إذ يجوز أن
يحصل له من تملكه مال الكتابة بعد وقوعها ، ولأنهم اتفقوا على أنه يجوز العتق على
مال في الحال ، وظاهر أن الكتابة مثله [والإجماع على ذلك ممنوع ، ونقل افراد خاصة
لا يوجب كون جميع ما وقع كذلك ، سلمنا لكن لا يلزم البطلان في المتنازع فيه ، إذ
نهاية ذلك عدم استعمالهم فيه ، وهو غير البطلان].
__________________
وعلى اعتبار
الأجل فلا بد من ضبطه بما لا يحتمل الزيادة والنقصان لأجل النسيئة ولا فرق عندنا
بين كونها معلقة على أجل واحد أو أكثر ، لحصول الغرض بكل منهما ، ولإطلاق الآية
الصادق على كل منهما ، وحتم الشافعية تعدد الأجل ، وهو بعيد ولا فرق بين كون المال
قليلا أو كثيرا عينا أو منفعة.
وظاهر الآية أن
غير المكلف لا يصح منه الكتابة ، لأن قوله «كاتبوهم» خطاب فلا يتناول الا المكلف ،
والى هذا يذهب أصحابنا والشافعية ، وجوّز أبو حنيفة ان يكاتب الصبيّ بإذن الولي ،
والآية حجة عليه.
(إِنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْراً) دينا وأمانة ، وهو اختيار السيد المرتضى ، أو كسبا
وامانة وهو اختيار الشيخ ، وقريب منه قول بعضهم انه الديانة والمال. وقد فسر الخير
بهما لإطلاقه على الأول في مثل قوله تعالى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الآية [فإن المراد بالخير فيها العمل الصالح وهو الدين]
وعلى الثاني في مثل قوله تعالى (وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) و (إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ) ، فالحمل عليهما أولى بناء على جواز حمل المشترك على
كلا معنييه اما مطلقا أو مع القرينة ، وهي موجودة هنا كصحيحة الحلبي عن الصادق عليهالسلام في قول الله عزوجل (إِنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْراً). فقال : ان علمتم فيهم دينا ومالا.
ولكن قد روى
الكليني صحيحا عنه عليهالسلام في الآية قال : ان علمتم فيهم مالا ، بغير ذكر الدين.
ويمكن أن يجاب عنه بأن المثبت مقدم ، وبأنها زيادة من العدل وهي مقبولة كما ثبت في
محله.
__________________
واحتج السيد
على قوله بأنّه ليس المراد بالخير المال ولا حسن التكسب ، فإنه لا يسمى الكافر
والمرتد إذا كانا موسرين بأن فيهما خيرا ويسمى ذو الايمان خيرا وان لم يكن موسرا
فالحمل عليه أولى. ودفعه ظاهر مما ذكرناه.
ومقتضى المفهوم
عدم استحباب الكتابة أو عدم وجوبها مع عدم الخير ، ولا يلزم من عدمه عدم الجواز ، [إذ
لا يلزم من توقف الأمر بها على شرط توقف إباحتها عليه] فيجوز كتابة العبد الكافر ،
وهو الظاهر من أكثر الأصحاب ، وقد يظهر من بعضهم المنع [لما سيذكر من الإيتاء فإن
المراد به الزكاة أو الصلة ، والكافر لا يستحق شيئا ، منها : أما الزكاة فظاهر ،
واما الصلة فهي موادة له وهي منهيّ منها بقوله (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ) الآية].
وفيه نظر [فإن
الإيتاء من مال الزكاة الواجبة مشروط بالعجز المقتضى للاستحقاق فهو راجع الى
اشتراط استحقاقه فلما منع وخصّص بالمحتاج لدليل جاز أن يخص بالمسلم ، للدليل الدال
على عدم جواز دفع الزكاة إلى الكافر. وأما استلزام إعانته الموادة فممنوع ، إذ
الظاهر من المنع عن موادته من حيث كونه محاد الله لا مطلقا ، والمحرم موادتهم على
وجه اللطف ، وهو غير ظاهر].
(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) الظاهر أنه أمر للموالي كما قبله ، لكون الخطاب معهم
بأن يبذلوا شيئا من أموالهم ، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة عنهم والأكثر على
انه غير مقدر بقدر بل يحصل الامتثال بأقل متمول ، وبعضهم قدره بالربع وقيل بالسبع
، وهما بعيدان.
وظاهر الشيخ في
المبسوط أنه واجب ، نظرا الى ظاهر الأمر ، ونقل عن جماعة من أصحابنا استحبابه ،
وأطلق الشافعية وجوبه والحنفية استحبابه كما في هذين القولين.
وقال الشيخ في
الخلاف : إذا كاتب عبده وكان السيد يجب عليه الزكاة وجب ان يعطيه شيئا من زكاته
يحتسب به من مال مكاتبته ، وان لم يكن ممن وجب عليه الزكاة كان ذلك مستحبا غير
واجب ، ونقل عن الشافعية الوجوب مطلقا ، وعن الحنفية الاستحباب مطلقا ، ودفع
الوجوب على تقدير عدم وجوب الزكاة عليه بأصالة عدم
براءة الذمة ، وإيجاب شيء يحتاج الى دليل.
ثم قال : وقوله
تعالى (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ) نحمله على من يجب عليه الزكاة أو على وجه الاستحباب ولو
كان الإيتاء واجبا لعتق إذا بقي عليه من مكاتبته درهم لأنه يستحق على سيده هذا
القدر ، فلما لم يعتق دل على انه ليس بواجب. ولا يخفى ما فيه من منع الملازمة.
ثم قال : ويجوز
أن يكون قوله (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ) متوجها إلى غير سيد المكاتب ممن يجب عليه الزكاة ، ألا
ترى الى قوله (مِنْ مالِ اللهِ
الَّذِي آتاكُمْ) تنبيها على ما يجب فيه الزكاة وعلى المسئلة إجماع
الفرقة وأخبارهم. والى التفصيل المذكور ذهب ابن إدريس لكنه قيد الإيتاء بكونه
مكاتبا مطلقا عاجزا لا مشروطا.
ويمكن ان يقال
: ظاهر الأمر الوجوب ، والعدول عنه يحتاج الى دليل ، والإجماع الذي ذكره غير معلوم
، لكن يبقى احتمال كون الخطاب متوجها الى غير السيد كما قاله في الخلاف انه أمر
للمسلمين؟؟؟ على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله من بيت
المال [إذ مع الاحتمال المذكور لا يتم الوجوب على السيد. قيل] ولا بعد في كون
المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ، ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر
للإيجاب. وفيه ما فيه ، والاحتياط هنا لا ينبغي تركه.
والسهم الذي
يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض ، كما قاله صلىاللهعليهوآله في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية».
ومقتضى الآية
انّ وقت الإيتاء حال كونهم مكاتبين ، اي ما بين الكتابة والعتق ، وهو كذلك. ولو
مات السيد قبل الإيتاء أخذ من تركته كالدين ، وبه قطع الشهيد في الدروس.
كتاب النكاح
والبحث فيه
يتنوع أنواعا.
النوع الأول
في مشروعيته واقسامه وغير ذلك
وفيه آيات :
الاولى : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (النور ـ ٣٢).
(وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) جمع أيّم على وزن فعيل ، وأصله ايايم جعلت الياء موضع
الميم وبالعكس كاليتامى ، وهو في المرأة من لا زوج لها بكرا أو ثيبا ، وفي الرجل
من لا امرأة له ، والخطاب للأولياء ، والمعنى زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من
أحرار رجالكم ونسائكم. وفي المجمع : احد مفعولي أنكحوا محذوف ، والتقدير أنكحوا رجالكم
الأيامى من نسائكم أو نساءكم الأيامى من رجالكم.
(وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) من غلمانكم وجواريكم ، وقرئ من عبيدكم ولعل تخصيص
الصالحين لشدة الاهتمام بشأنهم ، ولأن إحصان دينهم أهم. وقيل المراد الصالحون
للنكاح والقيام بحقوقه.
ثم انه تعالى
أكد الأمر بالنكاح بقوله (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) معناه على ما قاله الشيخ في التبيان لا تمتنعوا من إنكاح المرأة و
__________________
الرجل إذا كانا صالحين لأجل فقرهما وقلة ذات أيديهما ، فإنهم وان كانوا
كذلك فان الله يغنيهم من فضله فإنه تعالى واسع المقدور كثير الفضل عليهم بأحوالهم
وبما يصلحهم ، فهو يعطيهم على قدر ذلك. ثم قال : وقال قوم معناه ان يكونوا فقراء
الى النكاح يغنهم الله بذلك عن الحرام ـ انتهى.
ولا شك أن
الظاهر الأول ، وفيه إشارة الى أن في فضل الله غنية لهم عن المال ، إذ هو غاد
ورائح وفضل الله ثابت لا يزول. وقيل ان الكلام وعد بالاغناء مع النكاح لقوله صلىاللهعليهوآله «اطلبوا الغنى في هذه الآية». ويؤيده ما رواه الكليني عن عاصم بن حميد قال : كنت عند ابى عبد الله صلىاللهعليهوآله ، فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج وذكر
الآية ـ الحديث. والاخبار في ذلك كثيرة .
وجعل في الكشاف
ذلك مشروطا بمشيئة الله تعالى حيث قال : ينبغي أن يكون شريطة الله غير
منسيّة في هذا الوعد ونظائره وهي مشيئته ، ولا يشاء الحكيم الا ما اقتضته الحكمة
وما كان فيه المصلحة ونحوه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).
وقد جاءت
الشريطة منصوصة في قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) والمطلق محمول على المقيد ، ومن لم ينس هذه الشريطة لم
ينتصب
__________________
معترضا بعزب كان غنيا فأفقره النكاح وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء
ففني وأصبح مسكينا ، وعن النبي صلىاللهعليهوآله «التمسوا الرزق بالنكاح» وشكى اليه رجل الحاجة فقال «عليك بالباه» ـ انتهى.
قلت : ولعل مثل
هذه الشريطة جارية في إجابة الدعاء كما قال تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) ، فلا يرد الشبهة بعدم الاستجابة في كثير من الناس.
وفي الآية
دلالة على الأمر بالنكاح كما يشعر به أمر الأولياء بانكاح إمائهم. وفي الكشاف هذه
الأمر للندب لما علم من ان النكاح أمر مندوب اليه ، وقد يكون للوجوب في حق
الأولياء عند طلب المرأة ذلك وكان الخاطب كفوا. ثم قال ومما يدل على كونه مندوبا
اليه قوله صلىاللهعليهوآله «من أحب فطرتي فليستن بسنتي وهي النكاح » وعنه صلىاللهعليهوآله «من كان له ما يتزوج به ولم يتزوج فليس منا» وعنه صلىاللهعليهوآله «إذا تزوج أحدكم عج شيطانه يا ويله عصم ابن آدم منّى ثلثي دينه » والأحاديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله كثيرة.
قلت : لا يخفى
أن ظاهر هذه الأحاديث الوجوب الا أن يدعى الإجماع على
__________________
حملها على الاستحباب. وفيه ان ذلك كاف من أول الأمر ، وقد يقال ظاهر الأول
الاستحباب وهو كاف في حمل باقي الأدلة عليه. وقد يدل على الاستحباب قوله تعالى (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) والواجب لا يكون بهذه المثابة.
ثم قال : وربما
كان واجب الترك إذا أدى الى معصية ومفسدة ، وعن النبي صلىاللهعليهوآله «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب
على رؤس الجبال » وفي الحديث «يأتي على الناس زمان لا تنال فيه المعيشة
الا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة» ـ انتهى. وفيه دلالة على أنّ ما يتوقّف عليه الحرام
حرام كما أن ما يتوقف عليه الواجب واجب ولبعض العلماء في ذلك نزاع.
وقد يستدل
بظاهرها على أن العبد والأمة لا يستبدان بالنكاح من دون اذن المولى ، إذ لو استبدا
لما أمر المولى بانكاحهما ، بل ظاهرها يعطي استقلال الأولياء والآباء في النكاح
وان كانت المولى عليها بالغة ، ومن هنا ذهب الشافعي إلى جواز تزويج البكر البالغة
بدون رضاها لعموم الآية. ورد بأن الأيامى شامل للرجال والنساء ،
__________________
وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ، ويؤيده قوله صلىاللهعليهوآله : البكر تستأمر في نفسها واذنها صمتها .
وأجيب بأن في
تخصيص القرآن بخبر الواحد نزاعا ، مع أن الأيّم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب
على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها الى ما يصلح أمرها أظهر. [على أن لفظ «الأيامى»
وان كان تناول الرجال والنساء لكنه إذا أطلق لم يتناول الا النساء وتناوله للرجال
انما هو مع القيد].
والحق أن هنا
اخبارا معتبرة الإسناد دلت على اعتبار رضا البكر في النكاح ، وكون القرآن لا يخص
بخبر الواحد ضعيف فلا يبنى عليه حكم ، ومن ثم ذهبت الحنفية إلى اعتبار رضاها ، وهو
قول كثير من أصحابنا.
هذا في البكر ،
أما الأيم الثيب فقد أجمعوا على أنها لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه [الا
ما يروى عن الحسن بن أبي عقيل ، فإنه ذهب الى بقاء الولاية عليها ، وهو شاذ].
وقد يظهر من
الآية عدم اعتبار اليسار في صحة النكاح وان الإسلام كاف ، واليه ذهب بعض أصحابنا ،
ويؤيده عموم قوله صلىاللهعليهوآله المؤمنون بعضهم أكفاء بعض ، وقول
__________________
أبى جعفر عليهالسلام قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآله «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه (إِلَّا تَفْعَلُوهُ
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) ولم يذكر اليسار.
وذهب بعضهم الى
أن اليسار معتبر في الكفاءة [لأن إعسار الرجل مضر بالمرأة جدا] وظاهر هؤلاء عدم
صحة العقد بدونه للزوم التضرر ببقائها معه كذلك ، ولما رواه محمّد بن الفضل الهاشمي عن الصادق عليهالسلام قال «الكفؤ أن يكون غنيا وعنده يسار». وحمل الأكثر هذا
الخبر على الأولوية لأنه لا يصلح بدونه لا على انه يعتبر.
وجمع آخرون بين
القولين فجعلوا للزوجة الخيار إذا لم يكن موسرا وجهلت بذلك ، بمعنى أن العقد صحيح
لكنه تخير بخيارها لما في البقاء معه كذلك من الضرر المنفي [فلها الفسخ كما يفسخ
لو كان في الزوج أحد العيوب المجوزة له] وقد اتفق الجميع على انها إذا كانت عالمة
بفقره لزم العقد.
واحتج العلامة
على الصحّة بأن المرأة لو تزوّجت ابتداء بفقير عالمة بفقره صح نكاحها إجماعا ، ولو
كان اليسار معتبرا لم يصح ، وإذا صح مع العلم وجب أن يصح مع الجهل لوجود المقتضى
السالم عن معارضة كون الفقر مانعا. نعم أثبت لها الخيار دفعا للضرر عنها ورفعا
للمشقة اللاحقة بسبب احتياجها إلى مؤنة يعجز عنها لفقره ولا
__________________
يمكنها التزويج بغيره ، فلو لم يجعل لها الخيار كان ذلك ضررا عليها ، وهو
منفي إجماعا.
وهذا القول غير
بعيد ، وإن كان القول بعدم اعتباره رأسا لا يخلو من قوة. [فإن عدم اعتبار اليسار
لا يوجب الخيار ، وانما يوجبه اعتباره].
ولعل عدم
احتجاج بعض أصحابنا بالآية على ذلك لما عرفت من احتمال الوجهين ، وفيه ما مر
فتأمل.
وقال آخرون :
اليسار شرط في وجوب الإجابة منها أو من وليها ، لأن الصبر على الفقر ضرر عظيم
فينبغي جبره بعدم وجوب اجابته وان جازت الإجابة أو رجحت مع تمام خلقه وكمال دينه ،
فإن ملاحظة المال مع تمام الدين ليس نظر ذوي الهمم العالية [فهو شرط في الوجوب لا
في الجواز. وهذا القول هو الأصح].
[واعلم أن
المعتبر في اليسار كونه مالكا للنفقة بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن يكون قادرا
على تحصيلها بتجارة أو حرفة ونحوها ، أما اليسار بالمهر فليس بشرط عندنا إجماعا].
هذا ، واستدل
الشيخ بظاهر الآية على أن المملوك يملك ، فان الظاهر أن الشرط والجزاء عائد إلى
الجميع لا إلى الأحرار فقط ، وإذا صح غناهم صح تملكهم. وأجاب بجواز أن يكون المراد
غناهم بالعتق ، وفيه بعد. ويمكن الجواب بأنه يجوز أن يكون غناهم وفقرهم باعتبار
مواليهم وإذنهم في التصرف في أموالهم ـ فتأمل فيه.
الثانية : (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور ـ ٣٣).
(وَلْيَسْتَعْفِفِ) وليجتهد في العفة وقمع الشهوة ولا يدخل في الفاحشة ،
لأن المستعفف طالب من نفسه العفاف ، أى حاملها عليه (الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ نِكاحاً) أى سبيلا إليه ، بأن لا يوجد عنده شيء من المهر ولا
يقدر على القيام بما يلزمه من النفقة والكسوة ونحوها من اللوازم (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ) ترجية للمستعففين وتقدمة وعد بالتفضل
عليهم بالغنى ، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في تحقق استعفافهم وربطا
على قلوبهم ، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفّاء وأدنى من الصلحاء.
وفيه إشعار بأن
الصبر والعفة إنما يرغب فيهما عن النكاح مع عدم وجدان ما يتمكن به من التزويج أصلا
، فلو وجد ما يتمكن به منه وان كان قليلا لا ينبغي له أن يرغب عنه بالصبر والعفة. و«حتى»
على هذا غاية لعدم الوجدان. ويجوز أن يراد من النكاح الزوجة المناسبة بحاله ،
ويكون «حتى» غاية للاستعفاف.
وعلى كل حال
ففي الآية إشعار بأنه مع التمكن من النكاح لا يحسن الصبر عنه فهي مؤكدة لما ورد من
الحث على النكاح مع التمكن ولا منافاة بينها وبين سابقتها ، إذ الأولى الأمر
للأولياء بالانكاح وعدم جعل الفقر مانعا عنه وهذه أمر للأزواج بطلب العفة الى أن
يتمكنوا ويجدوا ما يتزوجون به. وعلى هذا فلو بذل أحد للزوج التزويج كان الاولى
القبول ، لأنه حينئذ قد وجد نكاحا.
وقد ظهر مما
ذكرناه أن الأمر للوجوب ، فان المراد لاستعفاف بمعنى عدم الدخول في الفاحشة ،
فكأنه قال لا ينكح العاجزون عن النكاح إلى أن يرزقهم الله القدرة عليه.
هذا ، وقد روى
الكليني عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). قال : يتزوجون حتى يغنيهم الله من فضله. وظاهرها أن
الاستعفاف بمعنى التزويج ، وحتى تعليلية ، فيكون فيها دلالة على الأمر بالنكاح لمن
لا يجده [ويؤيده ما سلف من قوله صلىاللهعليهوآله «التمسوا الرزق بالنكاح » ونحوه].
الثالثة : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا
__________________
وَآتُوا
النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (النساء ـ ٣).
(وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا) ألا تعدلوا ، من أقسط بمعنى صار ذا قسط أي عدل ، أو
بمعنى أزال القسط وهو الجور ، وقرئ بفتح التاء على أنّ لا زائدة ، أي ان تجوروا (فِي الْيَتامى) من النساء ، فإنه يطلق عليهن وعلى الذكور أيضا (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) يعنى ما حل لكم (مِنَ النِّساءِ) لا ما حرم عليكم كما دلت عليه آية التحريم.
واعترض الرازي
بأن قوله (فَانْكِحُوا) أمر اباحة فيؤل المعنى الى قوله أبحت لكم نكاح من هي
نكاحها مباح لكم ، وهو كلام مستدرك ، سلمنا لكن الآية تصير مجملة لأن أسباب الحل
والإباحة غير مذكورة في هذه الآية ، فالأولى حمل الطيب على استطابة النفس وميل
القلب ، فتكون عامة ويدخلها التخصيص ، وهو أولى من الاجمال عند التعارض ، لأن
العام المخصص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا.
والجواب عن
الأول ان ذكر الشيء ضمنا ثم ذكره صريحا لا يعدّ تكرارا كقوله (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وعن الثاني ان قوله (ما طابَ لَكُمْ) بمعنى ما حل لكم إذا كان إشارة الى ما بقي بعد إخراج
آية التحريم [المعلومة] فلا إجمال.
هذا ، والتعبير
عنهن ب «ما» دون من للإشارة الى ان الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما
فيهن من نقص العقل.
(مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ، وهي في محل
النصب على البدلية من مفعول انكحوا ، ومعناها المتبادر الى الفهم الاذن لجميع
الناكحين الذين يريدون الجمع بين النساء ان ينكح كل واحد منهم ما شاء من العدد
المذكور متفقين فيه أو مختلفين ، كقولك اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين وثلاثة
ثلاثة وأربعة أربعة ، حيث إنّ المراد قسمة المال بين الجماعة على الوجه المذكور ،
سواء كانت القسمة متفقة أو مختلفة.
ولو أفردت ـ بأن
قيل ثنتين وثلاثا وأربعا ـ كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الاعداد لا التوزيع ،
ولو قيل أو دون الواو ، لأفاد الكلام أنه لا يسوغ الاقتسام الّا على أحد أنواع هذه
القسمة ، وليس أن يجمعوا بين هذه الأنواع ، بأن يكون بعضهم على تثنية وبعضهم على
تثليث وبعضهم على تربيع ، وهو خلاف المطلوب من تجويز الجمع بين أنواع القسمة التي
دلت عليه الواو كما عرفت. فلا يرد ما يتخيل ان الآية قد تدل على تجويز الزيادة على
الأربع ، لما عرفت من عدم فهمه منها بوجه بل المفهوم منها
خلافه.
ومقتضى الآية
العموم بالنسبة إلى الحر والعبد ، نظرا الى أن المخاطب المكلفون الشامل لهما ، ومن
ثم أجاز مالك من العامة للعبد أن يتزوج بالأربع مطلقا تمسكا بظاهر الآية ، وأكثر
الفقهاء على المنع منه نظرا الى أن الآية انما تتناول الأحرار دون المماليك ، فان
الخطاب فيها انما يتناول إنسانا متى طاب له امرأة قدر على نكاحها والعبد لا يتمكن
من النكاح إلّا بإذن مولاه.
وأيضا فإنّه
متى قال (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وظاهر هذا الخطاب للاحرار. وأيضا قوله (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً) والعبد لا يأكل بل يكون لسيده ، فكذا الخطاب الأول ،
لأن الخطابات وردت متتالية على نسق واحد ، فيبعد أن يدخل التقييد في اللاحق دون
السابق.
وذهب جماعة من
الفقهاء الى أن الآية بعمومها تتناول العبد الا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس ،
قالوا أجمعنا على أن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ، ولما
كانت العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر.
والذي يذهب
إليه أصحابنا أن الآية مخصوصة بالنصوص الواردة عن أصحاب العصمة الذين هم مهبط
الوحي واسرار التنزيل ، وقد تظافرت اخبارهم وانعقد إجماعهم على أن العبد انما يجوز
له الجمع بين الحرتين أو أربع إماء أو حرة وأمتين.
__________________
هذا ، وفي
تعليق الجواب ـ اعنى قوله (فَانْكِحُوا) ـ بالشرط ـ أعني قوله (خِفْتُمْ) غموض ، ومن ثم اختلف أقوال المفسرين فيه ، فقيل معنى الآية ان
خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن ،
فقد روي أن الرجل كان يجد اليتيمة لها مال وجمال فيتزوجها ضنّا بها عن غيره ،
فربما اجتمعت عنده عشر منهن فيخاف لضعفهن وعدم من يغضب لهن أن يكون ظالما لهن
حقوقهن ومفرطا فيما يجب لهن ، فنزلت. والمراد ان لكم في غيرهن متّسع حيث جوز لكم
الأربع فلا ينبغي لكم مع خوف الجور أن تنكحوهن.
وقيل ان المعنى
ان خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منهن ، لما روي انهم كانوا يتحرجون عن
اليتامى والتصرف في أموالهم خوفا من العقاب بعد نزول آية اليتامى وما في أكل
أموالهم من الحوب الكبير ولا يتحرجون عن الجور في أمور النساء من عدم التعديل ،
فربما كان تحت الرجل العشرة من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل
بينهن.
فخافوا أيضا
ترك العدل بين النساء ولا تتجاوزوا القدر الذي يمكنكم العدل معه ، لان من يخرج من
ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فهو غير متحرج ولا تائب وانما يكون كذلك لو تحرج
عن الذنوب كلها.
وقيل انهم
كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يقبلونها ولا يتحرجون من الزنا ، فقيل لهم ان
خفتم الجور في اليتامى فخافوا اثم الزنا وعقابه وانكحوا ما حل لكم من النساء إلى
الأربع ولا تحوموا حول المحرمات.
وقد يستدل
بعموم الآية على عدم اعتبار النسب ، فيجوز لوضيع النسب أن يتزوج بشريفه كما هو
المشهور بين أصحابنا ، وبذلك استدل العلامة في التذكرة. وذهب بعضهم الى اعتباره
فمنع من تزويج الوضيع بالشريفة ، نظرا الى بعض الاخبار وهو معارض بمثله ،
فيتساقطان ويبقى عموم الآية سالما ، مع إمكان حمله على ضرب
__________________
من التأويل جمعا بين الأدلة.
(فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد المباحة لكم (فَواحِدَةً) بالنصب على القراءة المشهورة أي فانكحوا واحدة فإنها لا
تحتاج الى التعديل وكثرة المؤنة بخلاف الجمع ، وقرئ بالرفع على انه خبر مبتدأ
محذوف ، تقديره : فحسبكم واحدة.
وفيه دلالة على
أن اباحة الأربع من النساء انما هو مع العدل بينهن وعدم الجور في القسمة ، ويستفاد
من ذلك المبالغة في العدل ووجوب التحرز عما يوجب عدم العدل حيث حتم الواحدة بمجرد
خوف عدم العدل.
(أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) من الإماء وان تعددت ، وفي التسوية بين الواحدة من
الحرائر وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت ولا عدد ، إشارة إلى خفة مؤنتهن وعدم
لحوق التبعة من طرفهن فلا عليك أكثرت منهن أم أقللت ، وعدلت بينهن في القسم أم لم
تعدل عزلت عنهن أم لم تعزل.
(ذلِكَ) أي التقليل منهن أو اختيار الواحدة أو التسري (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا عن الحق ، من قولهم عال الميزان
إذا مال وعال الحاكم إذا جار ، ويؤيده ما رواه العامة مرفوعا عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوآله في بيان ان لا تعولوا قال «ان لا تجوروا» وفي رواية
أخرى «أي لا تميلوا».
__________________
ويحتمل أن يكون
المراد ان لا يكثر عيالكم ، من قولهم عال الرجل عياله يعولهم كقولهم مانهم يمونهم
إذا أنفق عليهم. ويؤيده قراءة «ان لا تعيلوا» من عال الرجل إذا كثر عياله ، عبر عن كثرة العيال بكثرة
المؤن على الكناية. ولعل المراد بالعيال الأزواج ، إذ مع التعدد يلزم الكثرة ما
ليس في الواحدة.
ويحتمل أن يريد
الأولاد أيضا ، فان في الواحدة لا يحصل الكثرة بالإضافة الى ما زاد عليها ، وكذا
في الإماء فان التسري وان تعدد لكنه في مظنة قلة الولد بالإضافة إلى التزويج حيث
انه يجوز العزل فيه كما هو مشهور.
وقد يستفاد من
الآية الترغيب في النكاح وعدم تركه بالكلية ، حيث أمر مع عدم العدل بين النساء اما
بنكاح الواحدة أو ملك اليمين ، فلا يخلو الحال من النكاح لأنه ان أمكنه العدل بين
النساء كان الجمع مباحا له على الوجه المتقدم والا فالواحدة أو ملك اليمين. وقد
يستفاد منها أن الخروج عن عهدة الأمر بالنكاح والندب اليه يحصل بملك اليمين أيضا
وانه بمثابة العقد في تحصيل الغرض.
وقد ظهر من
تضاعيف كلامنا أن الأمر بالنكاح ـ أعنى قوله (فَانْكِحُوا) ـ للإباحة ، قال في مجمع البيان واستدل بعض الناس على وجوب التزويج بقوله
__________________
(فَانْكِحُوا) ، وهو خطأ لأنه يجوز العدول عن الظاهر لدليل ، وقد قام
الدليل على عدم الوجوب.
قلت : ومما يدل
على عدم الوجوب انه لو كان للزم وجوب مثنى من النساء ولا قائل به ، فانتفت دلالة
الآية من هذا الوجه ، ولعل مراد الطبرسي من الدليل هذا.
ويمكن حمل
الأمر على الاستحباب ، وفيه تأمل إذ استحباب الثنتين وما فوقها غير ظاهر ، بل قد
يظهر من الشيخ كراهة ذلك ، ولعل وجهه التحرز عن عدم العدل وكونه مظنة الوقوع فيه ،
وهذا مما يقوى كونه للإباحة أيضا.
ثم انه تعالى
خاطب الأزواج وأوجب عليهم إعطاء مهور النساء بقوله (وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ) مهورهن ، والصدقة المهر في لغة أهل الحجاز ، وقد يسمى
المهر صداقا لأنه مظهر لدعوى صدق الزوج في المحبة إذا دفعه ، وقرئ على وجوه أخر.
(نِحْلَةً) أي عطية ، يقال نحلة كذا نحلة إذا أعطاه إياه من طيب
نفس بلا توقع عوض سمي به المهر مع كونه عوض البضع لاشتراك فوائد التزويج بينهما
واختصاص الزوج بدفع المهر إلى الزوجة فكان ذلك عطية من الله ابتداء وعطية من الزوج
نفسه.
ولأنه لا يملك
بدل المهر شيئا ، فإن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله ، وإنّما الذي
استحقه الزوج هو الاستباحة لا الملك. وهو منصوب على المصدرية ، لأن النحلة
والإيتاء بمعنى الإعطاء.
ويحتمل الحالية
عن الصدقات اى منحولة ، أو عن فاعل آتوا بمعنى ناحلين وقيل المعنى نحلة من الله
وتفضلا منه عليهن ، فيكون حالا عن الصدقات. وقيل المعنى ديانة من الله ، من انتحله
إذا دان به فهو مفعول له ، أو حال عن الصدقات.
ومن فسرها
بالفريضة نظر الى مفهوم الآية لا الى مفهوم اللفظ [ومن ثم عبر عنه بالفريضة في
موضع آخر حيث قال (وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية] والخطاب للأزواج لأن ما قبله خطاب للناكحين.
وقيل خطاب للأولياء فإن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي البنات من مهورهن شيئا ،
فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله.
وفي إطلاق
النساء من غير تقييد بالدخول بهن دلالة واضحة على أن المهر يجب بمجرد العقد ، إذ
به تصير المرأة من النساء ، وهو صريح في أنها تملكه بمجرد العقد كما اختاره أكثر
الأصحاب ، وهو المشهور فيما بينهم ، لكنه ان دخل بها استقر وان طلقها قبل الدخول
رجع عليها بالنصف.
وذهب بعض
الأصحاب الى ان العقد انما يوجب من المهر نصفه لا جميعه والنصف الثاني يوجبه
الدخول ، وظاهر الآية حجة عليه ، وما استدل به من الاخبار معارض بغيره أو محمول
على الاستقرار ، وهو غير الملك جمعا بين الأدلة.
ومقتضى الآية
وجوب الدفع بمجرد العقد وان لم تطلبه المرأة ، الا أنه مقيد بالطلب لا مطلقا كسائر
الحقوق.
وقد يستدل
بظاهرها على ان للمرأة الامتناع من تسليم ، نفسها إذا لم تقبضه والأصحاب متفقون في
الجملة على ذلك قبل الدخول إذا كان [الزوج موسرا والمهر] حالا [وكانت الزوجة كاملة
صالحة للاستمتاع].
ويؤيده ان
النكاح [المشتمل على ذكر المهر] في معنى المعاوضة وان لم يكن محضة ، ومن حكم
المعاوضة أن لكل من المتعاقدين المتعاوضين الامتناع من التسليم الى أن يسلم اليه
الآخر.
[لكن وهل يجبر
الزوج على تسليم المهر ابتداء فإذا سلم هو سلمت نفسها أو لا يجبر واحد منهما لكن
إذا بادر أحدهما الى ان يسلم أجر الآخر تسلم ما عنده؟ كل محتمل ، ولا يبعد الأمر
بتقابضهما معا بأن يؤمر الزوج بوضع الصداق في يد من يتفقان عليه أو يد عدل وتؤمر
هي بالتمكين فإذا مكنت سلم العدل الصداق إليها ، لما في ذلك من الجمع بين الحقين.
ولو كان الزوج معسرا فالأكثر على ذلك أيضا ، لأن عجز أحد المتعاوضين لا يسقط الحق
الثابت للآخر].
وربما فرق
بعضهم بين كون الزوج مؤسرا أو معسرا ، فجوز لها الامتناع في الأول دون الثاني لمنع
مطالبته. وفيه نظر ، فان المنع من المطالبة لا يقتضي وجوب التسليم قبل قبض عوضه [الحالّ
من وجه آخر ، فإنه مع اليسار إذا طالبته. نعم الزوجة
آثم بالمنع واستحقت هي النفقة وان لم تسلم نفسها إذا بذلت التمكين بشرط
المهر ، لأن المنع حينئذ بحق واجب ، ومع الإعسار لا اثم عليه بالتأخر ، وفي
استحقاقها النفقة حينئذ إشكال ينشأ من انتفاء التمكن ، إذ هو معلق بأمر يعسر حصوله
عادة ، ومن ان المنع بحق فأشبه الموسر ، وأن المعلق عليه لا دخل له في العرف ، إذ
يجوز رفعه بالإقراض ونحوه].
ولو كان المهر
مؤجلا لم يجز لها الامتناع عن تسليم نفسها ، إذ لا يجب حينئذ شيء ، فيبقى وجوب حقه
عليها بغير معارض. ولو أقدمت على المحرم وامتنعت الى أن حل الأجل ، ففي جواز
الامتناع وجهان ، أما بعد الدخول ففي جواز امتناعها قبل القبض خلاف بين الأصحاب ، فبعضهم
على انه بمثابة ما قبل الدخول فلها الامتناع في كل وقت وان دخل بها إذا لم تقبضه ،
نظرا الى ان المقصود بعقد النكاح منافع البضع فيكون المهر في مقابلها ويكون تعلق
الوطي الأول به كتعلق غيره.
وذهب آخرون إلى
أنه ليس لها الامتناع بعده واستدل لهم العلامة في المختلف بأن التسليم الأول تسليم
استقرّ به العوض برضى المسلم فلم يكن لها الامتناع بعد ذلك ، كما لو سلم المبيع
قبل قبض الثمن ثم أراد منعه فإنه ليس له ذلك ، ولان البضع حقه والمهر حق عليه ،
وليس إذا كان عليه حق ان يمنع حقه.
قلت : في كلا
الدليلين بحث ، أما الأول فقياس غير واضح العلة. فإن قيل : النكاح معاوضة ، ومن
حكم المتعاوضين انه إذا سلم أحدهما العوض الذي كان من قبله باختياره لم يكن له بعد
ذلك حبسه لتسليم العوض الآخر. قلنا : لا نسلم أنه معاوضة ، إذ لم يثبت ذلك بنص ،
على انه مخالف لها في كثير من الاحكام فلا يمكن إجراء أحكامها عليه فتأمل. وأما
الثاني فلو تم أفاد وجوب التسليم قبل الدخول أيضا ، فكان لا يجوز للمرأة الامتناع
بمجرد العقد ، وهو لا يقول به فتأمل.
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) أيها الأزواج (عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) أي من الصداق حملا على المعنى أو يجري مجرى اسم الإشارة
أي من ذلك ، وقيل الضمير للايتاء (نَفْساً) تمييز لبيان الجنس ولذلك وحدّ ، والمعنى فان وهبن لكم
من الصداق عن طيب نفس ، لكن جعل العمدة
في ذلك طيب النفس للمبالغة والتنبيه على انه لو صدر ذلك منهن لشكاسة
أخلاقكم وسوء معاشرتكم فليس في محله ، ومن ثم عداه بعن لتضمن معنى التجافي
والتجاوز ، وقال «منه» مع كون هبة الكل أيضا كذلك بعثا لهن على تقليل الموهوب.
قال في الكشاف
وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث تلي الشرط على طيب النفس
، فقيل (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) ولم يقل فان وهبن لكم أو سمحن ، اعلاما بأن المراعى هو
تجافى نفسها عن الموهوب طيبة ، وقيل فان طبن لكم عن شيء منه نفسا ولم يقل فان طبن
لكم عنها بعثا لهن على تقليل الموهوب ، ونقل عن جماعة عدم جواز هبة الكل مطلقا. ثم
قال : ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف الى صداق واحد فيكون متناولا لبعضه ولو
أنّث لتناول بظاهره هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا.
(فَكُلُوهُ) أراد به مطلق الإنفاق والتصرف ، لأنه قد يعبر عن ذلك
بالأكل ، [فيدخل فيه ما إذا كان المهر دينا في الذمة]
(هَنِيئاً مَرِيئاً) صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا ساغ من غير غص أقيمتا
مقام مصدريهما ، أو وصف بهما المصدر ، أو جعلتا حالا من ضمير المفعول. وقيل الهنيء
ما يلذه الإنسان حال الأكل والمريء ما يحمد عاقبته.
وفي المجمع
الهنيء الشفاء من المرض ويقال هنأني الطعام ومرأنى ، إذا صار لي دواء عاجلا شافيا.
ثم قال : وفي كتاب العياشي مرفوعا الى أمير المؤمنين عليهالسلام جاء رجل فقال : يا أمير المؤمنين إني يوجعني بطني. فقال
: ألك زوجة. قال : نعم. قال : استوهب منها شيئا طابت به نفسها من مالها ثم اشتر به
عسلا ثم اسكب عليه ماء السماء ثم اشربه ، فإني سمعت الله يقول في كتابه (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
مُبارَكاً) وقال (يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) وقال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيء المريء شفيت إنشاء
الله. قال : ففعل ذلك فشفي.
وفي الآية
دلالة على أن هبة ما في الذمة التي هي في معنى الإبراء لا تحتاج الى القبول ، وعلى
عدم اختصاص الهبة بالأعيان ، كما أن الصدقة لا تختص بها على ما مر.
الرابعة : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ) المؤمنون ٥ ـ ٦).
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) لا يبدونها (إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) زوجاتهم وسراريهم ، فعلى صلة لحافظين من قولك «احفظ على
عنان فرسي» على تضمين معنى النفي كما في قولك «نشدتك الله الا فعلت كذا : اى لم
اطلب منك الا فعلك كذا» والمعنى هنا لا يبدونها على أحد الا على أزواجهم وسراريهم
، ويجوز أن يكون حالا أي حفظوها في كافة الأحوال إلا في حالكونهم والين على أزواجهم
وسراريهم وقوامين عليهن ، من قولهم «كان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان»
ونظيره «فلان على البصرة» أي وال عليها. والتعبير ب «ما» في المماليك اجراء لهن
مجرى العقلاء.
ولعل في الكلام
اشعارا بمدحهم على حفظ فروجهم عما أمروا بالحفظ عنه وعلى عدم حفظها عما أبيح لهم ،
فكما أن الحفظ عن الأول صفة مدح كذلك عدم الحفظ في الثاني ، وهو كذلك. ومن ثم قد
يجب وقد يستحب وقد يباح على ما يعلم تفصيله من خارج.
(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ) ولا مذمومين ، واللوم والذم واحد ، والضمير يعود الى
حافظون أو لمن دل عليه الاستثناء ، أي فان بذلوها لأزواجهم وإمائهم فإنهم غير
ملومين على ذلك.
وإطلاق اباحة
الأزواج والإماء وان كانت لهن أحوال يحرم وطيهن فيها كحال الحيض وبعد الظهار قبل
الكفارة ونحوها ، الا أن المراد بيان جنس ما يحل وطيهنّ من غيره ، لا الأحوال التي
يحل فيها الوطء من غيرها ، فان بيان ذلك من موضع آخر. على أنه مع الوطي في تلك
الأحوال لا يلحقه لوم من حيث كونها زوجة أو ملك يمين وانما يلحقه من وجه آخر.
ولا تخرج
المتعة من الآية ، لأنها زوجة عندنا وان خالفت الزوجات في بعض
الاحكام ، كما أن حكم الزوجات في نفسه مختلف. وقد اعترف صاحب الكشاف بأن الآية لا تنافي المتعة لأنها زوجة.
(فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ) المستثنى الذي بينه الله تعالى من الزوجة وملك اليمين (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يعطيه ضمير
الفصل وتعريف الخبر ، لتجاوزهم عن الحد الذي حد الله لهم في الإباحة.
وفي الآية
دلالة على تحريم النكاح بغير المذكورين ، فلا يجوز بالهبة ولا الإجارة ولا غيرهما
من الوجوه. ومقتضى ذلك عدم جوازه بالتحليل أيضا في الأمة المملوكة ، الا ان
الأصحاب على جوازه ، وادعى بعضهم الإجماع عليه ، وفي الاخبار المعتبرة الاسناد عن
أئمة الهدى عليهمالسلام دلالة واضحة عليه أيضا.
وعلى هذا فيمكن
تخصيص العموم في آخر الآية بالتحليل ، إذ الظاهر أنه وراء التزويج والملك ، من حيث
أن المتبادر من الأول العقد على وجه خاص ومن الثاني ملكية العين ، والأكثر على
دخوله في أحد الأمرين السابقين :
فبعضهم أدخله
في التزويج بناء على أن المحللة متعة ، وبعضهم أدخله في الملك بناء على أن الملك
أعم من المنفعة والعين والتحليل تمليك منفعة.
وفي الأول بعد
، إذ ليس فيها خواص المتعة من وجوب تعيين المدة والمبلغ والصيغة الخاصة. والثاني
أيضا كذلك ، إذ الظاهر من الآية هو ملك العين لا الأعم ، ومن ثم لم يجز غير
التحليل حتى لو صرح بتمليك المنفعة لم يجز كما هو قول الأصحاب ، وأيضا يجوز تحليل
بعض المنافع من الأمة كالقبلة واللمس والنظر فقط ونحو ذلك ، على ما اقتضته الأخبار
المعتبرة الاسناد ولا يجوز تمليكها.
وبالجملة فما
ذكروه بعيد ، والأظهر الأول لشيوع التخصيص حتى قيل ما من عام الا وقد خص. ومما
ذكرنا يمكن تخصيصها أيضا بالجارية المملوك بعضها فقط أو المشتركة بين الشخصين كما
ذهب بعض الأصحاب إلى جواز وطيها مع اذن الشريك ،
__________________
لكن هذا يتوقف على ورود الدليل عليه بخصوصه ، وكونه مما يصح تخصيص القرآن
به والا كان على المنع.
الخامسة (الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) (المائدة ـ ٥).
(الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) سيجيء الكلام في تفسير هذه مفصلا.
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ) الحرائر أو العفائف من المؤمنات ، أي أحل لكم نكاحهن ،
وتخصيصهن بعث على ما هو الاولى في أمر النكاح (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أحل لكم نكاحهن أيضا.
ظاهر الآية انه
لا فرق في أهل الكتاب بين الحربي منهم والذمي لشمول الاسم لهما ، ومن ثم قال
القاضي وان كن حربيات ، ونقل عن ابن عباس عدم الحل في الحربيات ، ولعل وجهه انها
قد تسترق وهي حامل فيسترق الولد معها ولا يقبل قولها في حبله من مسلم ، وفيه ان
هذا انما يفيد تأكد الكراهة.
(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) وتقييد الحل بإتيان المهور لتأكيد وجوبهن لا لأن الحل
ينتفي مع عدم الإيتاء. ويمكن أن يكون المراد بايتائهن التزام مهورهن.
ومقتضى الآية
ان نكاح الكتابية حلال ، واليه ذهب أكثر العلماء ، وقال به جماعة من أصحابنا ، ولا
ينافيه قوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ) على ما سيجيء لأن الظاهر من المشرك غير الكتابي ، ولو
سلم دخوله فيه فهي عامة وهذه خاصة فتخصص بها. وفي الكشاف ان قوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ) منسوخ بقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) نظرا الى ان سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء
قط على ما سلف مرارا.
وفيه نظر ، إذ
النسخ فرع التنافي ولا تنافي بين العام والخاص فلا وجه للنسخ بل التخصيص لازم. نعم
في قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) دلالة على المنع من نكاح الكافرة وان كانت كتابية ،
فتنافي الآية المذكورة. ومن ثم ذهب بعض
الأصحاب إلى المنع لهذه الآية ، ويؤيده ما رواه زرارة عن الباقر عليهالسلام قال : سألته عن قول الله عزوجل (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)؟ فقال : هي منسوخة بقوله (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).
ويمكن أن يقال
: ان قوله (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ليس صريحا في إرادة النكاح فكيف ينسخ به ، وإثبات النسخ
بتلك الرواية مشكل خصوصا مع عدم صحتها وورود روايات كثيرة بالجواز :
روى محمّد بن
مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : سألته عن نكاح اليهودية والنصرانية. قال : لا
بأس. وفي صحيحة معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليهالسلام في الرجل المؤمن يتزوّج باليهودية والنصرانية ، فقال :
إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ قلت : يكون فيها الهوى. فقال :
ان فعل فليمنعها من شرب الخمر ومن أكل لحم الخنزير واعلم انه عليه في دينه غضاضة.
__________________
وفيها إشارة
إلى كراهة ذلك ، فيمكن حمل النهي الوارد فيه على الكراهة. ويمكن حمل المنع على
النكاح الدائم والجواز على المتعة كما ذهب إليه جماعة من أصحابنا.
ويؤيده ظاهر
قوله تعالى (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) فان مهر المتعة قد أطلق عليه الأجر في آيتها ، ولإيماء
بعض الاخبار الى أن نكاح الكافرة لا يكون إلا في حال الضرورة. وفيه نظر ، فإن
الأجر يطلق على المهر ، وقد ورد في القرآن أيضا وصحيحة معاوية المقدمة صريحة في
الجواز مطلقا اختيارا ، وقد ورد بعض الاخبار بجوازها متعة لا ينفي جواز غيرها.
وبالجملة فالوقوف مع ظاهر القرآن هو اللازم والاحتياط غير خفي ، وسيجيء تمام
الكلام إنشاء الله].
السادسة : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ
كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء ـ ٢٤).
(وَأُحِلَّ لَكُمْ) ذكر تعالى أولا محرمات النكاح ثم بين المحللات ، فهو
عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله سابقا ، أي كتب الله عليكم تحريم
المذكورات سابقا (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) من المحرمات المذكورة سابقا ، وهو عام خص بالمنفصل من
الاخبار ، بل الإجماع الدال على تحريم نكاح المرأة على عمّتها أو خالتها بغير
رضاهما وعلى تحريم جميع ما تقدم من الرضاع أيضا وان كان المذكور فيها البعض [بقوله
صلىاللهعليهوآله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ].
وعلى تحريم
المطلقة ثلاثا [بقوله (فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)] وعلى تحريم الحربية والمرتدة بدليل (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ) ، وعلى تحريم الأمة مع القدرة على الحرة ، وعلى تحريم
الملاعنة [بقوله صلىاللهعليهوآله «المتلاعنان
__________________
لا يجتمعان أبدا» ].
(أَنْ تَبْتَغُوا) مفعول له بمعنى بين لكم ما تحل مما تحرم إرادة أن يكون
ابتغاؤكم (بِأَمْوالِكُمْ) كالمهر المدفوع إليهن ، ويمكن إدخال ثمن السراري فيه
على ما يظهر من القاضي.
(مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) منصوبين على الحال من فاعل «تبتغوا» ومفعوله مقدر وهو
النساء. ويحتمل أن لا يقدر له مفعول ، فكأنه قيل إرادة أن تصرفوا أموالكم حالكونكم
محصنين لا حالكونكم مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم التي جعل الله لكم فيها قياما
فيما لا يحل لكم فتخسروا دينكم ودنياكم.
وفيه دلالة على
انه لا يحل إخراج الأموال في النساء بل ولا في غيرهن حال عدم ابتغاء الإحصان
والمسافحة ، وهو أبلغ من تقدير المفعول.
ويحتمل أن يكون
(أَنْ تَبْتَغُوا) بدلا من (ما وَراءَ ذلِكُمْ) بدل اشتمال [اي أحل لكم ابتغاء ما شئتم من الحلال عدا
المحرمات المذكورة]
واستدل الحنفية
بظاهر الآية على أن المهر لا بد أن يكون مالا ولا يجوز أن يكون منفعة قالوا : ولو
أصدقها تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ، ولها مهر مثلها لأن الابتغاء
بالمال اسم للأعيان لا للمنافع.
واستدلوا بها
أيضا على أن المهر لا بد أن يكون عشرة دراهم فصاعدا ، ولا يجوز أن يكون أقل من
عشرة ، لأنه تعالى قيد التحليل بالابتغاء بالأموال ، وما نقص عن ذلك لا يسمى
أموالا.
والجواب : أما
عن الأول فلأن تخصيص المال بالذكر لا ينفي ما عداه إلا بدلالة مفهوم اللقب وهو
متروك عند المحققين ، ولو سلم فالمفهوم انما يعتبر لو لم يكن في الذكر فائدة سواه
، والفائدة هنا خروجه مخرج الأغلب كما لا يخفى فلا يدل على نفي ما سواه.
__________________
وأما عن الثاني
فلان قوله (بِأَمْوالِكُمْ) مقابلة الجمع بالجمع ، فيقتضي توزيع الافراد على
الافراد ، فيتحقق كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا ، والقليل والكثير في
هذه الحقيقة سواء.
وقد انعقد
إجماع أصحابنا وتظافرت أخبارهم على جواز كون المهر مالا ومنفعة قليلا أو كثيرا من غير
تحديد بقدر معين. وقد وافقنا على ذلك الشافعية من العامة.
والإحصان العفة
، فإنها تحصن النفس عن اللوم والعقاب ، لأن صاحبها لا يقع في الحرام. والسفاح
الزنا ، من السفح وهو صب المنيّ ، فإنه الغرض منه ، وقد كان الفاجر يقول للفاجرة
سافحينى.
(فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) فمن تمتعتم به من النساء المحللات لكم ، والتعبير بما
ذهابا الى الوصف. أو المراد فما استمتعتم به منهن من عقد عليهن ونحوه ، والاستمتاع
والتمتع بمعنى واحد ، والاسم المتعة.
(فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) التي وقع عليها العقد كسائر الاجراء (فَرِيضَةً) حال من الأجور ، بمعنى مفروضة ، أو صفة مصدر محذوف أي
إيتاء مفروضا ، أو مصدر مؤكد لما تقدمه والتقدير فرض ذلك فريضة.
والأكثر من
العلماء على أن الآية نزلت في مشروعية المتعة ، وهي النكاح المنعقد بمهر معين إلى
أجل معلوم. وعلى ذلك أصحابنا الإمامية أجمع ، وهو قول ابن عباس والسدي وسعيد بن
جبير وجماعة من الصحابة والتابعين. قال في المجمع وهذا هو الواضح لأن لفظ
الاستمتاع والتمتع ـ وان كان في الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ ـ فقد صار في
عرف الشرع مخصوصا بهذا العقد ، لا سيما إذا أضيف الى النساء ، فعلى هذا يكون معناه
فمتى عقدتم عليهن هذا العقد المسمى متعة فآتوهن أجورهن ، ويدل
__________________
على ذلك أن الله تعالى علق وجوب إعطاء المهر بالاستمتاع ، وذلك يقتضي أن
يكون معناه هذا العقد المخصوص دون الجماع والاستلذاذ ، لأن المهر لا يجب إلّا به.
وقد روى عن
جماعة من الصحابة منهم أبى بن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود انهم
قرأوا «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن» ، وفي ذلك تصريح بأن
المراد به عقد المتعة.
وقد أورد
الثعلبي في تفسيره عن حبيب بن ابى ثابت قال : أعطاني ابن عباس مصحفا فقال هذا على قراءة أبي ،
فرأيت في المصحف «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى».
وبإسناده عن
أبي نضرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة. فقال : أما قرأت سورة
النساء؟ فقلت : بلى. فقال : أما تقرأ «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى»؟ قلت :
لا اقرأها هكذا. قال ابن عباس : والله هكذا أنزلها الله عزوجل ـ ثلاث مرات.
وبإسناده عن
سعيد بن جبير أنه قرأ «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى».
__________________
وبإسناده عن
شعبة عن الحكم بن عيينة قال : سألته عن هذه الآية (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) أمنسوخة هي؟ قال : لا. قال الحكم : قال علي بن ابى طالب ـ عليهالسلام : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي.
__________________
وبإسناده عن
عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله عزوجل ولم تنزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلىاللهعليهوآله فتمتعنا مع رسول الله ومات ولم ينهنا عنها ، فقال رجل
بعد برأيه ما شاء ، يريد أن عمر نهى عنها.
ومما أورد مسلم
بن حجاج في صحيحه : حدثنا الحسن الحلواني ، قال حدثنا
__________________
عبد الرزاق ، قال أخبرنا ابن جريج ، قال عطا : قدم جابر بن عبد الله معتمرا
، فجئنا منزله فسأله القوم عن أشياء ثمّ ذكروا المتعة ، فقال : نعم استمتعنا على
عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله وابى بكر وعمر.
وهذا ظاهر في
بقاء شرعيتها بعد موت النبي صلىاللهعليهوآله من غير نسخ.
ثم قال : ومما
يدل أيضا على أن لفظ «الاستمتاع» في الآية لا يجوز أن يكون المراد به الانتفاع
والجماع ، انه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم المهر من لا ينتفع من المرأة ، وقد
علمنا انه لو طلقها قبل الدخول لزمه نصف المهر ، ولو كان المراد به النكاح الدائم
لوجب للمرأة بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد ، لأنه قال (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي مهورهن ، ولا خلاف في أن ذلك غير واجب ، وانما يجب
الأجر بكماله بنفس العقد في نكاح المتعة ـ انتهى.
قلت : لعل
مراده من وجوب المهر بنفس العقد وجوبه كذلك مستقرا ، حتى لو وهبها المدة قبل
الدخول لا ينتصف ، ولكن المشهور بين الأصحاب أن مهر المتعة أيضا لا يستقر الا
بالدخول وبدونه ينتصف . والظاهر أنه يذهب إلى عدم التنصيف لو وهب الرجل المرأة
المدة قبل الدخول أو أسقطها عنها بوجه من الوجوه ، وفيه ما فيه. والحق تمام الكلام
بدون الحاجة إلى ذلك وسيجيء إنشاء الله تعالى.
(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ولا اثم عليكم (فِيما تَراضَيْتُمْ
بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) في المجمع من قال ان المراد بالاستمتاع الانتفاع
والجماع قال المراد به لا حرج ولا اثم عليكم فيما
__________________
تراضيتم به من زيادة مهر أو نقصانه أو حطه أو إبرائه ، وقال السدي معناه لا
جناح عليكم فيما تراضيتم به من استيناف عقد آخر بعد انقضاء المدة المضروبة في عقد
المتعة يزيدها الرجل في الأجر وتزيده في المدة. وهذا قول الإمامية وتظافرت به
الروايات عن أئمتهم عليهمالسلام.
قلت : وقد
اعترف العامة بشرعية المتعة وثبوتها ، الا أنهم يدعون نسخ ذلك كما قاله صاحب الكشاف والقاضي انها كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت
__________________
ونحن نقول إذا ثبت شرعيتها في وقت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فإن أحدا لم
يخالف في أصل مشروعيتها كان نسخها موقوفا على الدليل الواضح القطعي الذي يقوى على
معارضة القرآن ، فان نسخ القرآن بخبر الواحد لا وجه له ، وكون الخبر متواترا عنه صلىاللهعليهوآله مع عدم اطلاع أكثر الصحابة مما يقطع بعدمه.
مع أن رواياتهم
في ذلك متناقضة ، فقد روى الجواز أكابر الصحابة كابن عباس وأبيّ
وغيرهما على ما مر ورووا المنع عن علي عليهالسلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أنّه نهى عن متعة النساء يوم خيبر و[أكثر الروايات
عنهم أنه صلىاللهعليهوآله أباح المتعة في حجة الوداع ويوم الفتح ، وهذان اليومان
متأخران عن يوم خيبر].
ورووا عن
الربيع بن سبرة عن أبيه انه قال : شكونا العزبة في حجة الوداع ، فقال :
استمتعوا من هذه النساء ، فتزوجت امرأة ثم غدوت على رسول الله وهو قائم بين الركن
والباب ، وهو يقول : اني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع ألا وان الله قد حرمهما الى
يوم القيامة.
ولا يخفى ما في
هذه الروايات وأمثالها ، إذ من المعلوم ضرورة من مذهب علي وأولاده عليهمالسلام حلها وإنكار تحريمها بالغاية ، فالرواية عن علي بخلافة
باطلة.
ثم اللازم من
الروايتين أن يكون قد نسخت مرتين ، فإن إباحتها في حجة الوداع الاولى ناسخة
لتحريمها يوم خيبر ، ولا قائل به.
على أن المنقول
من أكثر الصحابة بقاؤها إلى زمن عمر وان المحرم لها هو عمر نفسه كما هو الظاهر من
رواياتهم ، وقد اشتهر عن عمر انه قال متعتان كانتا
__________________
على عهد رسول الله حلالا وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما. وهو ظاهر في أن
الناهي عنهما نفسه ، والظاهر أن ذلك لضرب من الرأي والاجتهاد ، ولو كان النبي هو
الذي نسخها أو نهى عنها لاضاف النهي إليه صلىاللهعليهوآله لا الى نفسه ، فإنه أدخل في النفوس وأزجر في الوعظ.
وفي صحيح
الترمذي أن رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء ،
__________________
فقال : هي حلال. فقال : ان أباك نهى عنها. فقال ابن عمر : أرأيت ان كان ابى
نهى عنها وصنعها رسول الله أتترك السنة وتتبع قول أبى.
وأيضا بمقتضى
حديثه لا ينبغي الفرق بين متعة النساء ومتعة الحج ، ولا خلاف ان متعة الحج غير
منسوخة ولا محرمة ، وقد تواترت الاخبار عن أئمة الهدى عليهمالسلام ببقائها وعدم نسخها ، وهم أسرار التأويل ومهبط الوحي
والتنزيل ، وهم أعرف من غيرهم بمحكم القرآن من منسوخه وهو صريح في أنّ المخترع
لتحريمها عمر.
وأما ما نقل في
الكشاف وتفسير القاضي من أن عبد الله بن عباس رجع عن القول بها عند موته وقال
«اللهم اني تبت إليك من قولي بالمتعة» فمما لا يخفى على
__________________
أحد أنه كذب على ابن عباس ، فان قوله بها لم يكن تشهيا من نفسه بل كان
مستندا الى الدليل ، فكيف يصح الرجوع عند موته من غير أن يظهر له خلافه في حال
حياته ، ويبعد ظهور دليله عند موته وكونه مخفيا عنه الى حين موته وعن غيره حتى
ينتبه عليه.
ولقد اضطرب
كلامهما فيها ، فتارة يفهم أنه صلىاللهعليهوآله أباحها مرة ثم حرمها ، وتارة أنها أبيحت مرتين وحرمت
مرتين وانه صلىاللهعليهوآله أباحها ثم أصبح وقال لا ان الله حرمها أبدا فإنه يفهم
منه انها كانت يوما واحدا بل ليلة واحدة ، وفي موضع آخر أنها كانت ثلاثة أيام.
مع أن صاحب
الكشاف قال : كان الرجل منهم يتمتع أسبوعا بثوب أو غير ذلك ويقضي وطره منها ثم
يسرحها. ومثل هذا الاضطراب في كلامه لتحريم ما أحل الله حيث أن عمر حرمها خروج الى
مخالفة الله ورسوله.
(إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً) بمصالح العباد (حَكِيماً) فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي يحفظ به الأموال
والأنساب ، أو فيما فرض لهم من الأحكام.
السادسة : (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا
مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ
مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النساء : ٢٥)
__________________
(وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) غنى واعتلاء ، وأصله الفضل والزيادة ، ويقال لفلان عليّ
طول أي زيادة وفضل ، ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه كما أن القصر قصور فيه.
وقوله (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ
الْمُؤْمِناتِ) في موضع النصب به ، أو بفعل مقدر صفة له ، أي ومن لم
يستطع منكم ان يعتلى نكاح المحصنات ، أو من لم يستطع غنى يبلغ به نكاح المحصنات ،
يعنى الحرائر المسلمات (فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) أي فليتزوج من جنس ما ملكتم (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) والمراد إماء الغير المسلمات ، لأن الإنسان لا يجوز له
أن يتزوج بجارية نفسه ، يعني يجوز التزوج بهن مع عدم استطاعة الطول لنكاح الحرة.
ومن احتمل في
الآية أن يكون المعنى : فمن لم يقدر على نكاح المسلمة الحرة فليأخذ الإماء سراري ،
فقد أبعد.
وقد نبه عليه
الشيخ في الخلاف حيث قال : فان قالوا معنى قوله (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) أراد به الوطي فيهما ، فكأنه قال من لم يقدر على وطء
حرة وطئ أمة بملك اليمين وهكذا نقول. قلنا هذا فاسد من ثلاثة أوجه : الأول : ليس
من شرط جواز ملك اليمين عدم القدرة على وطي الحرة والثاني أن قوله (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) يمنع من الحمل على وطى ملك اليمين والثالث أنه قال
أخيرا (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) وليس من شرط جواز ملك اليمين ذلك ـ انتهى ، وهو جيد.
والظاهر أن
الخطاب للاحرار ، فلا يجري هذا الشرط في العبد ، بل يباح له نكاح الأمة وان قدر
على الحرة بلا خلاف بينهم.
[وتقييد الإماء
بالمؤمنات ظاهر فإنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة بوجه لاجتماع الرق والكفر فيها ،
وذلك نقصان في الغاية. وقيل بالجواز وان مفهوم الوصف لا حجة فيه ، أو يحمل على
الأفضلية ، كما أن تقييد المحصنات بالمؤمنات كذلك ، إذ يجوز نكاح المحصنة الكتابية
كما مر في قوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).
والقولان
مبنيان على جواز نكاح الكافرة الكتابية وعدمه. وفرق بعض الشافعية
فجعل المؤمنات في الأوّل قيدا دون الثاني ، وجوز نكاح الأمة لمن قدر على الحرة
الكتابية دون الأمة].
(وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ) فيعلم ما بينكم وبين أرقائكم من التفاضل فيه ، فربما
كان ايمان الأمة أرجح من ايمان الحرة ، ومن حق المؤمن أن يعتبر فضل الايمان لا فضل
النسب ، والمراد تأنيسهم بنكاح الإماء ومنعهم عن الاستنكاف منه.
(بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) أنتم وارقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الإسلام
فلا تأبوا نكاح الإماء ، لأن المدار على الجنسية والايمان ولا تفاضل بينكم في
الجنسية. نعم تفاضلكم في الايمان ، وهو أمر لا يعلمه الا الله.
(فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) يريد مواليهن وأربابهن. وفيها دلالة واضحة على أن نكاح
الأمة لا يجوز بدون اذن سيدها. ومقتضى الإطلاق توقف جواز النكاح مطلقا على الاذن ،
سواء كان النكاح دائما أو منقطعا لصدق النكاح على كل منهما ، وسواء كان المولى
رجلا أو امرأة ، وهو المشهور بين الأصحاب.
وللشيخ في
النهاية قول بجواز العقد المنقطع على مملوكة المرأة من غير
اذنها ، استنادا إلى رواية سيف بن عميرة عن علي بن المغيرة قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن الرجل يتمتع بأمة امرأة بغير اذنها. قال : لا بأس
به. ونحوها مما رواه سيف أيضا عن داود بن فرقد عنه عليهالسلام بلا واسطة.
والشيخ في
الاستبصار بعد أن أورد هذه الاخبار والاخبار الدالة على أن نكاح الأمة بغير إذن
أهلها لا يجوز ، قال : لا تنافي بين هذه الاخبار والاخبار المانعة ، لأن هذه
الاخبار الأصل فيها واحد وهو سيف بن عميرة ، فتارة يرويه عن علي بن المغيرة
__________________
عنه عليهالسلام ، وتارة عن داود بن فرقد عنه عليهالسلام ، وتارة عنه عليهالسلام بلا واسطة ، ومع ذلك فالإخبار المانعة مطابقة لقول الله
تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) ، وذلك عام في النساء والرجال وهذه الاخبار مخالفة لتلك
فينبغي أن يكون العمل بها.
ثم قال : ويمكن
مع تسليمها أن يخص الأخبار المانعة بهذه الاخبار فيحمل هذه الاخبار على جواز ذلك
في عقد المتعة دون الدوام لئلا تتناقض الاخبار ، انتهى.
والاولى طرح
هذه الاخبار لوقوع الاضطراب في سندها ومعارضتها بما هو أصرح منها وأكثر ، وذلك
يوجب سقوطها والعمل بظاهر القرآن ، مع أنها مخالفة للأصل الذي هو تحريم التصرف في
مال الغير بدون اذنه عقلا وشرعا ، فلا وجه للالتفات إليها وان كانت صحيحة ، ولذلك
طرحها الأصحاب عدا الشيخ في النهاية جريا على قاعدته.
وفي الاكتفاء
باذن الأهل في إباحة نكاحهن دلالة على جواز مباشرتهن العقد كما ذهب إليه أصحابنا
وتابعهم الحنفية فيه وأنكره الشافعية ، فقول القاضي انه لا اشعار فيه بذلك بعيد.
ومقتضى الآية
عدم اعتبار إذن الأمة ، حيث جعل نكاحها منوطا بإذن الأهل فقط ، فاقتضى ذلك الجواز
مع إذنهم فقط وان كانت كارهة. وقد انعقد الإجماع على ان للسيد إجبار أمته على
النكاح سواء كانت صغيرة أو كبيرة بكرا أو ثيبا.
(وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) وأدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن ، فحذف لتقدم ذكره ، أو
المراد فآتوا مواليهن ، فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد لأنه عوض حقه فيجب أن
يؤدى اليه. ولا خلاف في ذلك بين علمائنا ، وهو قول أكثر العامة ، خلافا لمالك حيث
ذهب الى أن المهر للأمة نظرا الى الظاهر.
(بِالْمَعْرُوفِ) بغير مطل وضرار واحواج إلى الاقتضاء واللزّ ، أو مهر
المثل مع خلو العقد عن ذكر المهر (الْمُحْصَناتِ) عفائف (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) غير مجاهرات بالسفاح بقرينة قوله (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أخلّاء في السّر أى مسرّات للسفاح ، جمع خدن وهو الخليل
سرا.
وعن ابن عباس
انه كان قوم في الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون
ما خفي منه ، فنهى الله سبحانه عن الزنا سرا وجهرا ، وهي كلها أحوال عن
المفعول.
(فَإِذا أُحْصِنَّ) بالتزويج على قراءة المجهول ، أي إذا زوجن وأحصن من
الزنا بالتزويج ، وقرء على البناء للفاعل ومعناه أحصن أنفسهن من الزنا بالتزويج أو
أحصن أزواجهن منه.
(فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) أي زنين (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أي الحرائر (مِنَ الْعَذابِ) وهو الحد لقوله (وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهو في الزنا مائة جلدة نصفها خمسون ولا رجم عليهن ،
لأن الرجم لا ينتصف فلا يثبت عليهن مطلقا الا ان يكون في المرتبة الثامنة لهن بعد
اقامة الحد ، فإنهن يرجمن في التاسعة كما دلت عليه رواية زرارة وبريد العجلي عن
الصادق عليهالسلام ، وسيجيء إنشاء الله.
ومقتضى الشرط
عدم ثبوت الحد مع عدم الإحصان ، لكنه غير مراد عندنا وعند أكثر العامة ، فإن الحد
ثابت على الأمة وان لم تكن محصنة. ولعل فائدته بيان أن المملوك وان كان محصنا فحده
الجلد لا الرجم ، وهو لا ينافي ثبوت الحد فيه مع الزنا وان لم يكن محصنا. [أو
المراد ان حد الزنا يغلظ عند التزويج ، فهذه إذا زنت وقد تزوّجت فحدها خمسون جلدة
لا يزيد عليها ، فبان يكون حدها هذا القدر قبل التزويج أولى].
وأخذ بعض
العامة بظاهر الآية فنفاه عن غير المزوجة من الإماء ، وأيده بحصول الشبهة لهن من
تجويز الزنا مع عدم الزوج لما في تركه من الإضرار.
وهو بعيد. أما
الشبهة فلا أصل لها ، ولو أسقط الشبهة المذكورة الحد لسقط مع التزويج أيضا ، إذ قد
يحصل في بعض الأحيان ، وهو خلاف الكتاب والإجماع. ولأن الظاهر ان سوق الآية لبيان
أن المملوكة وان كانت محصنة فلا رجم عليها ، ويبقى عموم الأدلة الدالة على ثبوت
الحد مع الزنا خالية عن المعارض.
ولو حملنا
الإحصان على الإسلام ـ كما قاله بعضهم ـ أمكن القول بعدم الحد في الكافرة لمكان
الشبهة ، وفيه ما فيه.
ويلزم من
التنصيف في الأمة التنصيف في العبد ، لعدم القائل بالفصل ، فلا رجم
عليه لعدم التنصيف فيه.
(ذلِكَ) أي نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) لمن خاف الوقوع في الزنا ، وهو في الأصل انكسار العظم
بعد الجبر ، فاستعير لكل مشقة وضرر ، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم بأفحش القبائح.
وقيل المراد به
الحد المترتب على الزنا وقيل المراد به الضرر الشديد في الدين والدنيا لغلبة
الشهوة المفضية إلى الأمراض الشديدة ، كأوجاع الوركين والظهر والوسواس ونحوها وضعف
القوى. قال في المجمع والأول أصح ، وهو جيد ، وهذا شرط آخر لنكاح الإماء.
وقد اختلف
أصحابنا بل العامة في جواز نكاح الأمة مع عدم الشرطين ، فظاهر جماعة منهم عدم
الجواز ، واختاره ابن أبي عقيل حيث قال لا يحل للحر المسلم عند آل الرسول بأن
يتزوج الأمة متعة ولا نكاح إعلان إلا عند الضرورة ، وهو إذا لم يجد مهر حرة وضرت
به العزوبة وخاف منها على نفسه الفجور ، فإذا كان كذلك حل له نكاح الأمة.
واليه ذهب ابن
البراج حيث قال أباح الله من تضمنت الآية بشرطين : الأول عدم الطول لنكاح الحرائر
والآخر أن يخشى العنت ، وذكر أن العنت الزنا.
قال : فإذا كان
للإنسان أمة لم يجز لغيره ان ينكحها الا ان لا يجد الطول الى نكاح الحرة أو يخشى
العنت ، فان تزوج بأمة وهو يجد الطول الى نكاح الحرة فقد خالف أمر الله وما شرط
عليه. وهو قول ابن الجنيد والمفيد وجماعة مستدلين عليه بظاهر الآية الدال على ذلك
وبرواية محمّد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يتزوج المملوكة. قال : إذا اضطر إليها فلا
بأس. ومقتضى الشرط ثبوت البأس مع انتفاء الاضطرار ، وهو حجة عند المحققين. والى
هذا القول يذهب الشافعية.
وذهب الشيخ في
النهاية إلى جواز أن يعقد الرجل الحر على أمة غيره على كراهة مع وجود الطول ، والى
ذلك ذهب جماعة من الأصحاب ، مستدلين عليه بالأصل وبعموم ما دل على الأمر بالتزويج
الشامل للأمة والحرة كقوله (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) و (أَنْكِحُوا الْأَيامى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ، (إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ
__________________
أَيْمانُهُمْ)، (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) ونحوها.
ويؤيد الكراهة
ما رواه ابن بكير مرسلا عن الصادق عليهالسلام قال : لا ينبغي أن يتزوج الرجل الحرّ المملوكة اليوم ،
انما ذلك حيث قال الله عزوجل (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) والطول المهر ، ومهر الحرة اليوم مثل مهر الأمة وأقل.
وظهور لفظة لا ينبغي في الكراهة.
وأجابوا عن
الآية بأنها تدل من حيث المفهوم ، ومفهوم الشرط انما يعتبر مع كونه صريحا ، ومن ثم
قيده بعضهم بمفهوم إن ولا صراحة هنا. سلمنا لكن المفهوم انما يعتبر إذا لم يكن
للتقييد فائدة سوى نفي الحكم عن المسكوت عنه.
ويجوز أن تكون
الفائدة هنا الترغيب في أمر النكاح والتحريص عليه وأنه لا ينبغي تركه مع عدم
القدرة على نكاح الحرة ولو كان بأمة الا أن الأفضل مع القدرة كونه على الحرة.
[سلمنا لكن المعلق على الشرطين الأمر بالنكاح اما إيجابا أو استحبابا ، ونفيهما لا
يستلزم نفي الجواز لأنه أعم ونقيض الأخص أعم من نقيض الأعم مطلقا] وعلى هذا فيبقى
عموم الأدلة سالما عن المعارض الصريح فتعمل عملها.
على أن المفهوم
ضعيف فلا يقوى على معارضة المنطوق ولا يمكن تخصيصه به ، ولأن «من» عامة في الحر
والعبد ، ولا خلاف بينهم في انه يجوز للعبد مع القدرة على الحرة نكاح الأمة ، ولو
كان المفهوم هنا حجة لزم عدم الجواز له أيضا ـ فتأمل. ومن هنا ظهر أن القول
بالجواز على كراهة غير بعيد وان كان الاحتياط في الأول.
واعلم أن ظاهر
كلام بعض المانعين أنه لو عقد مع وجود الطول على الأمة كان العقد ماضيا وان فعل
محرما فيرجع الخلاف معهم في تحريم العقد وكراهته ، لا في الصحة والبطلان وفيه ما
فيه. نعم في كلام ابن ابى عقيل تصريح ببطلان العقد على الإماء مع انتفاء الشرطين.
(وَأَنْ تَصْبِرُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) أي وصبركم عن نكاح الإماء بعد شروطه المبيحة متعففين
__________________
خير لكم من تزويجكم بهن لما فيه من المفاسد. وقد روى عنه صلىاللهعليهوآله : الحرائر صلاح البيت والإماء هلاكه. وهذا كالمؤيد
لجواز نكاح الأمة ، لأن المراد أن ترك التزويج بالإماء خير بدون الشرطين لا معهما
، فإنه مع خوف العنت يجب التزويج حذرا من الوقوع في الزنا أو حصول ضرر لا يتحمل
مثله عادة. ومن ثم أطلق الفقهاء وجوب النكاح مع خوف الوقوع في الزنا أو حصول
الضرر. وعلى هذا فلا يكون ترك التزويج بالإماء مع القدرة على الحرة وحصول الضرر أو
خوف الوقوع في الزنا خيرا ، وهو ظاهر.
(وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يغفر ذنوب عباده تفضلا وكرما أو مع التوبة ، ويجوز أن
يكون المراد غفور لمن يصبر ، رحيم شرع الرخصة في نكاح الإماء.
النوع الثاني
في المحرمات
وفيه آيات :
الاولى : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً
وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (النساء ـ ٢٢).
(وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ) ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم ، فقد روى ابن ـ عباس
وجمهور المفسرين أن أهل الجاهلية كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك. والتعبير
ب «ما» دون «من» لأنه أريد به الصفة أي المنكوحة ، ويحتمل كونها المصدرية على ارادة
المفعول من المصدر.
(مِنَ النِّساءِ) بيان ما نكح على الوجهين. والنكاح فيها يمكن أن يراد به
الوطي كما هو في اللغة ، فإنه حقيقة فيه لغة إجماعا ، فيكون في الشرع كذلك لأصالة
عدم النقل. ويؤيده استعماله فيه كثيرا ، قال تعالى (حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ) وبالاتفاق التحليل لا يحصل بمجرد العقد ، وقال (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا
بَلَغُوا النِّكاحَ) أي الوطي لأنّ أهلية العقد حاصلة ابدا ، وقال (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) ونحوها [من الوجوه الدالة على أن النكاح يراد به الوطي].
ومقتضى ذلك
تحريم الزانية على ابن الزاني ، وعلى ذلك أكثر أصحابنا وهو قول أبي حنيفة ،
مستدلين بظاهر الآية [الدال على أن الرجل يحرم عليه نكاح موطوء أبيه ، فيدخل فيه
مزنية الأب] ويدل عليه من الاخبار ما رواه علي بن جعفر في الحسن عن أخيه الكاظم عليهالسلام قال : سألته عن رجل زنى بامرئة هل يحل لابنه أن يتزوجها؟
قال : لا.
وفي الموثق عن عمار عن الصادق عليهالسلام في الرجل يكون له الجارية فيقع عليها ابن ابنه قبل أن
يطأها الجد ، أو الرجل يزني بالمرأة هل يحل لابنه أن يتزوجها؟ قال : لا انما ذلك
إذا تزوجها فوطئها ثم زنى بها ابنه لم يضره لأن الحرام لا يفسد الحلال وكذلك
الجارية.
وأنكر ابن
إدريس التحريم في هذه الصورة ، ونقل الإباحة عن المفيد والسيد المرتضى [وهو قول
الشافعية] وقال : ان الاستدلال بقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ) تمسك ببيت العنكبوت ، لأنه لا خلاف في انه إذا كان في
الكلمة عرفان : لغوي وشرعي كان الحكم لعرف الشرع دون عرف اللغة ، ولا خلاف في أن
النكاح في عرف الشرع هو العقد حقيقة ، وهو الطاري على عرف اللغة كالناسخ له ،
والوطي الحرام لا يطلق عليه في عرف الشرع اسم النكاح بغير خلاف.
ونقل عن الشيخ
في العدة التصريح بأن النكاح في عرف الشرع قد اختص بالعقد كلفظة الصلاة ، وأيضا
قوله (إِذا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) صريح في ذلك ، وقول الرسول صلىاللهعليهوآله «لا يحرم الحرام الحلال» دليل على صحة
__________________
ما قلناه واخترناه ـ انتهى كلامه.
ويمكن أن يقال
في رد الاستدلال بالآية على التحريم في الصورة المذكورة : انا لو سلمنا أن النكاح
في الشرع يطلق على الوطء فلا كلام في أنه يطلق على العقد أيضا ، كما ورد في قوله
تعالى (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى) ، (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) و (إِذا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) ، «النكاح سنتي» ، ولا شك أن الوطي من حيث أنه وطي ليس
سنة له ، وقوله «ولدت من نكاح لا من سفاح» وان لم نقل بثبوت الحقائق الشرعية ولم
نقل باختصاص النكاح بالعقد في عرف الشرع.
وكفى بهذا
تصريح صاحب الكشاف عند قوله (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ) ان النكاح في القرآن لم يجئ إلا بمعنى العقد ، وحينئذ
فحمل الآية على الوطي ليس أولى من حملها على العقد ، بل الظاهر الثاني لإجماع
المفسرين على أن سبب النزول هو العقد لا الوطي ، فكيف يستدل بها على التحريم في
الصورة المخصوصة.
وعلى هذا
فاستدلال العلامة بالآية على تحريم الزانية على ابن الزاني لا يخفى ما
فيه لظهور النكاح في العقد أيضا. وما أجاب عنه في المختلف من استعمال النكاح في
الوطي كثيرا لا يدل على أنه مراد هنا كما لا يخفى.
ويمكن
الاستدلال على التحريم في الصورة المذكورة بالأخبار السابقة الدالة على النهي ولعل
إنكار ابن إدريس ذلك بناء على أصله ـ فتأمل.
ثم انه على
تقدير كون المراد به العقد ، فالمشهور بين أصحابنا انه لو سبق العقد من الأب على
امرأة ثم زنى بها ولده لم تحرم على الأب وان لم يدخل بها ، وعلى هذا أكثر علمائنا.
وشرط ابن الجنيد في إباحتها للأب الوطي بعد العقد ، فلو عقد ولم يدخل فزنى الابن
بها حرمت على الأب ابدا أما لو دخل بها لم تحرم ، محتجا عليه بظاهر قوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ولا فرق بين الأب والابن عند أحد. ويؤيده من الاخبار ما
رواه عمار عن الصادق عليهالسلام وقد تقدم.
__________________
والجواب أن
الظاهر من النكاح العقد كما عرفت ، ولا أقل من احتماله فتكون مجملة ، فلا يصح
التمسك بها في شيء والحرام لا يحرم الحلال ، كما اشتهر في الاخبار والتقييد بالوطي
في الحديث لا يدل على نفى الحكم فيما عداه ، إذ هو استدلال بمفهوم اللقب وهو ضعيف
عند المحققين فتأمل.
(إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) استثناء من المعنى اللازم للنهي وهو العقاب ، كأنه قيل
تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا النكاح الذي قد سلف قبل نزول هذه الآية
فإنه معفوّ عنه لا عقاب فيه. ويمكن أن يكون استثناء من اللفظ كما استثني «غير أن
سيوفهم» في قوله :
__________________
ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم
والمعنى لا
تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف ان أمكنكم أن تنكحوه وذلك غير ممكن ، والغرض
المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته. وقيل ان الاستثناء منقطع ، ومعناه ولكن
ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه.
(إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) علة للنهي ، أي ان نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص
فيه لأمة من الأمم ممقوتا عند ذوي المروءات ، ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه
المقتى ، كذا قاله القاضي ، ومقتضاه أن ذلك لم يكن حلالا في شيء من الأوقات وان
كان معمولا به في الجاهلية على ما قيل انه كان أكبر ولد الرجل يخلف على امرأة
أبيه.
وفي المجمع نقلا عن أشعث بن سوار أن أبا قيس لما توفي وكان من
صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني أعدّك ولدا وأنت من صالحي قومك
ولكن آتي رسول الله واستأمره ، فأتته فأخبرته بذلك ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآله : ارجعي إلى بيتك ، فأنزل الله هذه الآية.
ولا دلالة في
هذا على جوازها في ذلك الوقت ، فإن النبي صلىاللهعليهوآله كان ينتظر الوحي في الاحكام وان كانت ثابتة قبله في
الملة السابقة عليه ، كما سلف في الخمر الذي ورد تحريمها بعد شرب بعض الصحابة ، مع
انه لم يثبت جوازها في شريعة كما أشرنا إليه.
الثانية (النساء ٢٣) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) التحريم في هذه المواضع ينصرف الى الغرض الأصلي المقصود
من الذات التي تعلق بها التحريم ، لأنه انما يتعلق بالأفعال لا بالذوات ، فالمراد
هنا تحريم نكاحهن ، وهو المتبادر من الإطلاق كما يتبادر الأكل في (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ونحوها. [فقول بعضهم ان الآية مجملة بناء على أن المراد
منها تحريم الفعل وهو غير مذكور ، وليست اضافة قيد التحريم الى بعض الأفعال أولى
من بعض. مدفوع بما ذكرناه].
__________________
والأمهات جمع
الام ، والهاء مزيدة ووزن أم فعل ، أو أصلية ووزنه فعلة ، ويجمع على أمات. وقيل
الأمهات للإنسان وإلا مات لغيره . والام امرأة رجع نسبك إليها بالولادة بغير واسطة أو
بواسطة الأب أو الأم كالجدة.
(وَبَناتُكُمْ) وهي امرأة رجع نسبها إليك بالولادة بواسطة أو بلا واسطة
دخل فيها بنت الابن وبنت البنت وان نزلت.
(وَأَخَواتُكُمْ) جمع الأخت ، وهي امرأة ولدها وولدك شخص واحد بغير
واسطة.
__________________
ويدخل فيها الأخوات من الأب أو الأم أو هما معا.
(وَعَمَّاتُكُمْ) جمع عمة ، وهي امرأة ولدها وولد أباك أو أبا أبيك أو
أبا أمك بالغا ما بلغ شخص.
(وَخالاتُكُمْ) جمع خالة ، وهي مثل العمة الا أن النسبة هنا إلى الأم
بمنزلة الأب هناك.
(وَبَناتُ الْأَخِ
وَبَناتُ الْأُخْتِ) يعلمان مما سبق ، إذ بعد العلم بالأخ والأخت والبنت
يعلم بناتهما.
هذا هو التحريم
النسبي ، ولا خلاف بين الأمة فيه ، ويتحقق في العقد الصحيح في نفس الأمر أو عند
الفاعل أو كان لشبهة فإنها بحكم الصحيح عندنا ، ولو كان من زنا ـ كالبنت المخلوقة
منه ـ فأصحابنا أجمع على أنه كذلك ، وبه قال أبو حنيفة ، نظرا الى ان حقيقة
البنتيّة موجودة فيها ، فان البنت هي المتكونة من مني الرجل ، وانتفاء بعض الأحكام
الشرعية عنها من الميراث وشبهه لا يوجب نفيها حقيقة.
ولظاهر قوله (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ) فجعل الام الوالدة مطلقا ، فتكون المتولدة بنتا ، بل
تكون حقيقة البنتية والأمية والأختية ثابتة فيها وان انتفت الأحكام الشرعية ،
وحينئذ فيحرم عليه وعلى من يندرج في الآية. وبالجملة حكمها حكم البنت عن عقد صحيح
في ذلك.
وأنكر الشافعي التحريم وجوز وطيها بالنكاح من الرجل الذي خلقت من مائة
__________________
__________________
وهو قول مالك لأنها منتفية عنه شرعا ، لقوله صلىاللهعليهوآله «الولد للفراش» وهو يقتضي حصر النسب في الفراش ، والفرض انتفاؤه فلا يثبت
بينهما تحريم. وفيه نظر ، فان انتفاء بعض الأحكام الشرعية لا يوجب عدم صدق البنتية
عليها لغة ، ومدار التحريم
__________________
على الصدق لغة ، وهو ثابت كما عرفت.
(وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) أراد أن يشير الى ما يحرم من الرضاع ، وقد نزله تعالى
منزلة النسب حتى سماهن أمهات للحرمة ، فكل أنثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك من
الرضاعة سواء أرضعتك أو أرضعت امرأة أرضعتك ، أو رجلا أرضعت بلبانه من زوجته أو أم
ولده ، وكذا كل امرأة ولدت امرءة أرضعتك أو رجلا أرضعت بلبانه على ما تقدم.
(وَأَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ) يعنى بنات المرضعة ، وهن ثلاث : الصغيرة الأجنبية التي
أرضعتها أمك بلبان أبيك ، سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك ، والثانية
أختك لأمك دون أبيك وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل غير أبيك ، والثالثة أختك لأبيك
دون أمك وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك وأم الرضاعة وأخت الرضاعة لو لا
الرضاعة لم تحرما ، وسبب تحريمهما الرضاعة ، وهما المحرمات بنص الكتاب.
أما أن كل ما
يحرم بالنسب من اللاتي مضى ذكرهنّ فإنهن يحر من أمثالهن من الرضاعة أيضا ، فلقول
النبي صلىاللهعليهوآله : ان الله عزوجل حرم من الرضاعة ما حرّم من النسب وقد ورد هذا المعنى عن
أئمتنا عليهمالسلام في اخبار متعددة وانعقد إجماع المسلمين عليه فبمقتضى
هذا كان جميع ما حرم بالنسب من الأقسام السبعة المتقدمة فهو حرام بالرضاع.
__________________
قال في الكشاف : إلا في مسألتين : إحداهما أنه لا يجوز للرجل ان يتزوج
أخت ابنه من النسب ويجوز ان يتزوج أخت ابنه من الرضاع ، لأن المانع في النسب وطي
أمّها وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
والثانية لا
يجوز أن يتزوّج أم أخيه من النسب ، ويجوز في الرضاع ، لأن المانع في النسب وطي
الأب وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
وأجاب القاضي بأن هذا الاستثناء ليس بصحيح ، فان حرمتهما في النسب
بالمصاهرة دون النسب. وحاصله ان معنى تحريم الرضاع ما يحرم بالنسب ان كل ما يحرم
بسبب النسب بأحد الوجوه السبعة المذكورة في الآية فإنه يحرم بالرضاع إذا وجد ذلك
السبب بعينه فيه ، مثل الام الرضاعية والأخت كذلك ، ومعلوم انتفاء ذلك في
المسألتين المفروضتين ، لأن أخت الابن ان كانت من الرجل فهي بنته وإلا فربيبته ،
فتحريهما بالمصاهرة لا بالنسب ، ولم يثبت أن ما يحرم بالمصاهرة يحرم بالرضاع. وكذا
أم الأخ ، فإنها اما أمه أو زوجة أبيه ، ومعلوم انتفاؤهما من الرضاع ، فان
الأجنبية لو أرضعت أخاك لم يكن بهذه المثابة.
قلت : وهنا
صورتان أخريان صالحتان للاستثناء في الظاهر وهما نظيرتا ما سلف : الأولى أم ولد
الولد بالنسب ، فإنها حرام لأنها اما بنت أو زوجة ابنه وكلاهما حرام ولا يحرم مثله
في الرضاع ، إذ قد لا تكون إحداهما مثل ان ترضع الأجنبية ابن الابن فإنها أم ولد
الولد وليست بحرام. الثانية جدة الولد في النسب حرام لأنها اما أم أمك أو أم زوجتك
، ولا تحرم في الرضاع إذ قد لا تكون إحداهما ، كما لو أرضعت أجنبية ولدك فأن أمها
جدته وليست بأمك ولا أم زوجتك. وهذا الاستثناء في الظاهر وإلا ففي الحقيقة لا
استثناء على ما عرفت ، ويمكن حمل قول الكشاف على أن مراده ذلك ـ فتأمل.
ثم إن ظاهر
الآية اقتضى التحريم في الرضاع ، وانما يتحقق الرضاع بأمور :
«الأول» ـ المرضع
، ويجب أن يكون امرأة ، فلبن الرجل لا يثبت تحريما.
__________________
وان تكون حية ، فلو كانت ميتة لم يتعلق الحكم بالإرضاع من لبنها. وان تكون
محتملة للولادة ، بأن بلغت تسعا فصاعدا. والوجه في ذلك عدم صدق الإرضاع بانتفاء
أحد الأمور المذكورة.
«وثانيها» ـ اللبن
، قيل والظاهر تعلق التحريم به مطلقا ، سواء كان من الثدي أو من خارج ، وسواء غلى
أو لم يغل ، وسواء خلط بمائع أولا ، وفيه توقف.
«الثالث» ـ المحل
، وهو معدة الصبي الذي هو أقل من الحولين ، فلو احتقن أو كان الصبي ميتا أو بعد
الحولين لم يكن معتبرا.
ومع تحقّق
الأمور المذكورة فإنما يتم التحريم على تقدير كون المرضعة أما أو أختا والظاهر عدم
الصدق بمجرد أنها أرضعت أو ارتضعت ، بل لا بد من تحقق عدد يحصل صدق الأمومة مع
الإرضاع به ، وحينئذ فاستدلال الحنفية بها على ان مجرد صدق الارتضاع كاف في صدق
الأمومة فيثبت التحريم ومتابعة ابن الجنيد من أصحابنا لهم في ذلك ، بعيد وقد
التزموا صدق كونها أمه بمجرد الرضعة الواحدة بل أن ذلك يحصل بما يفطر به الصائم.
وهو بعيد ، إذ لو أريد أن مطلق الإرضاع كاف في صدق الأمومة لكان الاكتفاء بقوله (اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) أولى لشموله الجميع.
مع أن في
دلالته على المرة تأملا ، فإنه لا يقال فلان الذي فعل كذا إذا كان يصدر منه مرة
واحدة في الغالب ، فتكون في الآية دلالة على الكثرة من وجهين ، وقد أشار العلامة
في التذكرة إلى الأخير ، ويؤيده ما رواه العامة عنه صلىاللهعليهوآله قال : لا تحرم المصة والمصتان ولا الرضعة والرضعتان.
__________________
إذا عرفت هذا
فنقول : قد اختلف أصحابنا في العدد الموجب للتحريم ، فذهب بعضهم إلى أنه خمس عشرة
رضعة تامات أو ما كمل له يوم وليلة ، بحيث يرضع كلما تقاضاه أو احتاج اليه. ويؤيده
رواية زياد بن سوقة قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : هل للرضاع حد يؤخذ به؟ فقال : لا يحرم الرضاع أقل من
يوم وليلة أو خمس عشرة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد ولم يفصل بينهن
برضعة امرأة غيرها. وفي معناها أخبار أخر.
وقد يستدل عليه
بصحيحة علي بن رئاب عن الصادق عليهالسلام قال : قلت له : ما يحرم من الرضاع؟ قال : ما أنبت اللحم
وشد العظم. قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : لا لأنها لا تنبت اللحم ولا تشد العظم
عشر رضعات فانتفت العشر بهذا الخبر ، فلم يبق الا القول بالخمس عشرة وان لم يذكر
صريحا ، إذ لا واسطة بينهما.
وذهب بعض
أصحابنا إلى الاكتفاء بعشر رضعات نظرا الى ظاهر الآية الدال على التحريم على
العموم ، خصص بما دون العشر قطعا للإجماع عليه فيبقى الباقي. ويؤيده رواية الفضيل
بن يسار عن الباقر عليهالسلام : لا يحرم من الرضاع الا المخبور. قلت : وما المخبور؟
قال : أم تربّى أو ظئر تستأجر أو أمة تسري ثم ترضع عشر رضعات يروّى الصبي وينام.
وصحيحة عبيد بن
زرارة عن الصادق عليهالسلام الى ان قال : قلت فما الذي ينبت
__________________
اللحم والدم؟ فقال : كان يقال عشر رضعات.
ويمكن ترجيح
القول الثاني ، نظرا إلى انه يوجب تقليل التخصيص في الآية ، والاخبار الدالة على
خلافه معارضة بمثلها ، فيتساقطان في العشرة ويبقى حكمها مندرجا تحت عموم الآية ،
ولأنه مع تعارض الإباحة والتحريم فالتحريم أقوى ، لقوله صلىاللهعليهوآله «ما اجتمع الحلال والحرام الّا غلب الحرام على الحلال» ، مع ما فيه من الاحتياط.
ولو قيل تحريم
الخمس عشرة معلوم بالإجماع وبعض الاخبار ولا إجماع فيما دونه فيبقى على أصل
الإباحة. لقلنا ظاهر الآية العموم وانما أخرجنا ما دون العشر الإجماع فيبقى ما
عداه على التحريم لعدم صلاحية ما يوجب التخصيص فيه ، مع أن تعليل التخصيص في الآية
أولى ، ومن هنا يعلم أن القول بتحريم العشر رضعات قوي.
واعلم أن بعض
العامة يكتفي في التحريم بخمس رضعات ، وهو قول الشافعية ، مستدلين عليه بما روته
عائشة عنه صلىاللهعليهوآله «خمس رضعات يحرمن» ، وقد انعقد إجماعنا على خلافه ، فيكون مردودا.
(وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) يريد الإشارة الى ما يحرم بالمصاهرة ، وقدم ما يحرم
بالرضاع عليه لأنه بمثابة النسب ، بخلاف المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الأزواج.
وما يحرم بها أم الزوجة وبنتها. والربائب جمع ربيبة ، والربيب ولد المرأة من آخر ،
سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وانما لحقه
التاء لانه صار اسما.
والتقييد
بكونها في حجره نظرا الى الغالب ، ولما فيه من تقوية العلة وتكميلها
__________________
فان الربائب إذا كن في الحجور تقوى الشبهة بينها وبين الأولاد وصارت أحقاء
بأن يجرين مجراهم في التحريم ، لا أن المراد تقييد الحكم بذلك.
وقد انعقد
إجماع علمائنا الإماميّة على تحريمهن وان لم يكنّ في الحجور ، ونقل في الكشاف عن على عليهالسلام اشتراط التحريم بكونها في حجره ، وهو غلط ، فإن أهل
البيت عليهمالسلام نقلوا عنه التحريم مطلقا :
روي عن الباقر عليهالسلام انه قال : ان عليا عليهالسلام كان يقول : الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي قد
دخل بهن في الحجور وغير الحجور. وفي خبر آخر عنه عليهالسلام : كن في الحجور أو لم يكنّ .
(مِنْ نِسائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) الظاهر أنه قيد في الربائب فقط ، وأكد ذلك بقوله (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فلا اثم ولا حرج في نكاحهن ، ولا يجوز تعلق «من»
بالأمهات ، سواء جعل مع ذلك متعلقا بربائبكم أيضا على أن يكون التحريم في كل من
الأمهات والربائب مقيدا بالدخول أو لا يتعلق بها بل يختص بالأمهات ويكون التحريم
فيهنّ مقيدا بالدخول لا في الربائب.
__________________
أما الأول
فلأنّه لو كان قيدا فيهما لزم أن تكون الكلمة الواحدة في خطاب واحد لمعنيين
مختلفين ، فان «من» إذا تعلقت بالربائب كانت ابتدائية وإذا تعلقت بالأمهات كانت
بيانية لبيان النساء ، واستعمال المشترك في معنييه مرغوب عنه في تصحيح الكلام الا
أن يقصد بها مطلق الاتصال والتعلّق كقوله :
فاني لست منك ولست مني
__________________
وهو بعيد ، ولأنه يلزم إطلاق الوصف الواحد على موصوفين مختلفي
العامل ، فان الموصول مع صلته لو كان وصفا للنساء المتقدمة والمتأخرة لزم ذلك ، إذ
الأولى مجرورة بالإضافة والثانية بمن ـ كذا قيل.
وأما الثاني
فبعيد أيضا ، فإن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به ما لم يعترض أمر لا يمكن رده
مانع عن التعليق ، وهو هنا غير معلوم.
ومقتضى ما
ذكرناه تحريم أمهات النساء مطلقا وتحريم الربائب مع الدخول بأمهاتهن لا مطلقا ،
فلو فارق الام قبل الدخول حل له تزويج ابنتها ، وهو موضع وفاق ، والقول بالفرق بين
الأمهات والربائب في اعتبار الدخول هو المشهور بين أصحابنا وعليه أكثرهم.
وقد خالف فيه
ابن ابى عقيل ، وقال ان الشرط عند آل الرسول صلىاللهعليهوآله في الأمهات والربائب جميعا الدخول ، فإذا تزوج الرجل
امرأة ثم ماتت عنه أو طلقها قبل أن يدخل بها فله ان يتزوج بأمها وابنتها.
__________________
ورواه الصدوق
في الفقيه عن جميل بن دراج عن الصادق عليهالسلام أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها هل
له نكاح ابنتها. قال : الام والابنة في ذلك سواء إذا لم يدخل بإحداهما حلت له
الأخرى. وفي معناه أخبار أخر دلت على ذلك .
والأول أصحّ
لما ذكرناه ، ويؤيده ما رواه إسحاق بن عمار عن الصادق عليهالسلام عن الباقر عليهالسلام أن عليا عليهالسلام كان يقول : الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي قد
دخل بهن في الحجور وغير الحجور سواء ، والأمهات مبهمات دخل بالبنات أو لم يدخل بهن
فحرّموا وأبهموا ما أبهم الله.
وعن ابى بصير قال : سألته عن رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل
بها. قال : تحل له ابنتها ولا تحل له أمها. ونحوها من الاخبار.
ويجاب عما ذكره
من اشتراط الدخول انه غير ظاهر من الآية على ما بيناه ، لما فيه من المحذور وخلاف
الظاهر واشتهار الحكم به بين الأصحاب حتى كاد أن يكون إجماعا ، والاخبار المذكورة
لا يمكن العدول بها عن ظاهر الكتاب.
وقد أجاب الشيخ
عنهما بأنهما شاذان مخالفان لظاهر كتاب الله ، قال الله تعالى (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ولم يشترط الدخول بالبنت كما شرط في الأم الدخول ،
فينبغي أن تكون الآية على إطلاقها ولا يلتفت الى ما يخالفه ويضاده ، لما روى عنهم عليهمالسلام
__________________
«ما أتاكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فخذوا
به وما خالفه فاطرحوه» ، أو انهما وردا على ضرب من التقية لأن ذلك مذهب العامة.
__________________
والمراد
بالدخول المعتبر في التحريم الوطي لأنه المتبادر من الدخول ، والشيخ في التهذيب
استدل بظاهر القرآن على ذلك ، وبصحيحة العيص بن القاسم عن الصادق عليهالسلام الدالة على تحريم البنت مع الإفضاء إلى الأم ، وعلى
جواز نكاحها مع عدم الإفضاء إلى الأمّ.
ونقل الطبرسي
في المجمع في معنى الدخول قولين : أحدهما الجماع ونقله عن ابن
عباس ، الثاني الجماع وما يجرى مجراه من المسيس والتجريد ، ثم قال وهو مذهبنا.
والظاهر أنه
يريد مذهب بعض أصحابنا ، ذهب اليه ابن الجنيد فإنه حكم بتحريم البنت مع القبلة
والملامسة أو النظر إلى عورة الأم ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف حيث قال : اللمس بشهوة مثل القبلة ، واللمس إذا كان
مباحا أو لشبهة ينشر التحريم ويحرم الام وان علت والبنت وان نزلت.
__________________
واستدل عليه بإجماع
الفرقة وأخبارهم وما روي عنه صلىاللهعليهوآله انه قال : لا ينظر الله الى رجل نظر الى فرج امرأة وابنتها.
وقال عليهالسلام : من كشف قناع امرأة حرم عليه أمها وبنتها .
وقد يستدل له
أيضا بما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : سألته عن رجل تزوج امرأة فنظر الى رأسها والى بعض جسدها أيتزوج
ابنتها؟ قال : لا إذا رأى منها ما يحرم على غيره فليس له أن يتزوج ابنتها.
وما رواه أبو
الربيع قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل تزوج امرأة فمكث أياما معها لا يستطيعها غير انه
قد رأى منها ما يحرم على غيره ثم طلقها أيصلح له ان يتزوج ابنتها؟ فقال : لا يصلح
له وقد رأى من أمها ما رأى.
والأكثر من
الأصحاب على عدم التحريم في الصورة المذكورة لما عرفت. وأجاب الشيخ في التهذيب عن
الحديثين بأنهما محمولان على الكراهة دون الحظر ، لأن الذي يقتضي الحظر هو
المواقعة حسب ما نطق به ظاهر القرآن. وبمثله أجاب في الاستبصار ، وهو جيد وان كان
الاحتياط في الاجتناب.
(وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ) زوجاتهم ، جمع حليلة ، سميت الزوجة بذلك لحلها أو
لحلولها مع الزوج (الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ) لا الذين سميتموهم أولادا وهم أولاد الغير ، وقد يعبر
عنهم بالادعياء للشفقة والمحبة الحاصلة بينكم وبينهم ومثلهم لا يوجب
__________________
التحريم ، فقد تزوج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم زينب بنت جحش الأسدي حين فارقها زيد بن حارثة وكان قد
سماه الرسول ابنا ، وقال الله عزوجل (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ).
وكذا لو تزوج
بأمه وربّاه ولدا. وليس التقييد لخروج ولد الولد ، فإنه ولده من صلبه قطعا وان كان
بواسطة ، وهكذا ولد ولد الولد وابن ابن البنت فنازلا ، ولا خلاف بين المسلمين في
ذلك. وحكم الابن من الرضاع حكم الابن من النسب في تحريم حليلته للحديث المشهور.
وإطلاق الآية
يقتضي تحريم حلائل الأبناء على الآباء وان لم يدخلوا بهن ، فإن الحليلة تصدق بمجرد
العقد ولا يتوقف الحرمة على الدخول.
ويمكن إدخال
السراري في الحلائل ، الا ان الأصحاب على ان مجرد كونها سرّية من غير نظر بشهوة أو
تقبيل ونحوه لا يوجب التحريم ، الا أن يقال لا يصدق عليها الاتخاذ للتسري إلا مع
حصول أحد الأمور المذكورة. أو يقال مقتضى الآية التحريم بمجرد الملك إذا قصد بها
التسرّي ، خرج عنه ما إذا تجرد للجماع والنظر واللمس بالإجماع فيبقى غير التجرد
على العموم.
وبذلك استدل
العلامة في المختلف على تحريم الجارية المنظورة أو المقبّلة
للابن على الأب ، كما هو المشهور بين الأصحاب. ويؤيده من الاخبار ما رواه محمّد بن
ـ إسماعيل في الصحيح عن ابى الحسن عليهالسلام وقد سئل عن الرجل تكون له الجارية فيقبلها ـ الى أن قال
ـ ان جردها فنظر إليها بشهوة حرمت على ابنه وأبيه.
وخالف ابن
إدريس هنا وقال : لا تحرم الجارية على أحدهما لو نظر الآخر إليها وقبّل وان كان
بشهوة ، بل المقتضي للتحريم الوطي لأصالة الإباحة وهو بعيد ، فإن الأصل قد يترك مع
وجود الدليل. والحق ان استفادة تحريم الجارية المقبّلة أو المنظورة بشهوة
__________________
من الآية بعيد ، ولعل الرجوع الى الاخبار في ذلك أولى.
(وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) في موضع الرفع عطفا على المحرمات. وفي ذكر الجمع دلالة
على أن ذلك هو المحرم لا عينها ، فلو فارق إحداهما حلت له الأخرى ، وبذلك وردت
الأخبار أيضا.
ومقتضى الإطلاق
تحريم الجمع بينهما في العقد أو الملك ، وبظاهره أخذ بعضهم فحرم الجمع بينهما في
الملك ، قالوا : لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز وطؤهما معا لقوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، لكنه لا يجوز.
وقيل ان النهي
انما ورد عن الجمع بينهما في النكاح ، فتجوز الجمع بينهما بملك اليمين ، الا انه
إذا وطئ إحداهما حرم وطء الأخرى عليه ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن
الاولى ببيع أو هبة أو عتق أو تزويج ونحوه. وعلى هذا علماؤنا اجمع وأكثر العامة ،
وأخبارنا متظافرة به ، وعن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال : ملعون من جمع ماءه في رحم أختين.
ويؤيده ان
الحرمة هنا غير مقصورة على النكاح أي العقد ، فان المحرمات المعدودة كما هي محرمات
في النكاح فهي محرمات في ملك اليمين أيضا ، إذ لا يباح الوطي لامّ المرأة وان
ملكها الرجل ، وفي صحيحة محمّد بن مسلم سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل كانت له جارية فعتقت فتزوجت فولدت أيصلح
لمولاها الأول أن يتزوج ابنتها؟
__________________
قال : هي حرام وهي ابنته ، والحرة والمملوكة في هذا سواء ، ثم قرأ (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ). ونحوها من الاخبار الدالة على أن تحريم ذلك من حيث
النكاح والملك.
[وبالجملة
فالجمع بين الأختين في الآية يتناول الجمع بينهما عقدا ووطيا في الحرائر ، ووطيا
في ملك اليمين ، ومعنى تحريم الجمع بينهما في الوطي استباحة وطيها ولو على التعاقب].
وقال مالك
الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين مكروه وليس بمحرم ، وينقل عن ابن عباس انه قال
أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعل ، يريد بالحرمة هذه الآية وبالمحللة قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).
ونقل القاضي
وصاحب الكشاف عن علي عليهالسلام التحريم وعن عثمان التحليل ، قال القاضي : وقول عليّ
أرجح ، لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك ، ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما اجتمع الحلال والحرام الأغلب الحرام . وهو جيد موافق لطريق الاستدلال ، فان المعهود منه
العمل بالخاص وتخصيص العموم به لا إسقاط حكمه والعمل بالعام.
وما زعمه بعض
العامة من أن حكم الحرائر في الوطي مخالف لحكم الإماء ، ومن ثم تحرم الزيادة على
الأربع في الحرائر دون الإماء. فلا دخل له هنا.
(إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) استثناء عن لازم المعنى كما تقدم ، أو منقطع على معنى
ولكن ما قد مضى مغفور. بدليل قوله (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) أي هو كذلك من قبل ومن بعد كما يعطيه لفظة كان.
__________________
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) ذوات الأزواج منهن حصنهن التزويج أو الأزواج ، وهو عطف
على ما تقدم من المحرمات ، أي حرم عليكم نكاح ذوات الأزواج (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر ، فإن وطئهن
جائز للمسلمين وان كن محصنات لبطلان حكم نكاحهن بالسبي والتمليك ، فقد روى أبو
سعيد قال : أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج فكر هنا أن نقع عليهن ، فسألنا
النبي صلىاللهعليهوآله فنزلت الآية فاستحللناهنّ.
ومقتضى الإطلاق
أن الزوجين لو سبيا معا جاز الوطي بالملك أيضا [لزوال الزوجية ، فيحل للمالك الوطي
بعد أن يستبرئها بوضع الحمل ان كانت حاملا من زوجها أو بالحيض ان لم تكن. والى هذا
مذهب الشافعية] وقال أبو حنيفة لو سبى الزوجان لم يرتفع النكاح ولم يحل للسابي
نظرا الى أن النكاح باق بينهما لم يرتفع ، كما لو اشترى المملوكين أو اتهبهما أو
ورثهما. وإطلاق الآية والحديث حجة عليه ، مع انه يمكن الفرق بين الصورتين بأن
الحاصل عند السبي احداث ملك فيها وعند البيع نقل الملك من شخص الى شخص ، والأول
أقوى فظهر الفرق.
ويحتمل ان يراد
ب (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) إمائكم المزوجات ، فان للمالك ابطال نكاحهن من أزواجهن
إذا كان زوجها مملوكا له بغير خلاف ثم يطأها بعد العدة ، ورواه الكليني عن محمّد
بن مسلم في الصحيح قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن قول الله عزوجل (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)؟ قال : هو أن يأمر الرجل عبده وتحته أمته فيقول له
اعتزل امرأتك ولا تقربها ، ثم يحبسها حتى تحيض ثم يمسها ، فإذا حاضت بعد مسه إياها
ردها عليه بغير نكاح. والآية وان اقتضت جواز الوطي مطلقا الا أن الخبر خصصها بما
بعد العدة ، وعلى ذلك الإجماع.
[ويحتمل ان
يريد ب (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) ملك النكاح ، والمعنى ان ذوات الأزواج
__________________
حرام عليكم الا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البينونة بينهن وبين
أزواجهن ، والمقصود من ذلك الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد ، وظاهر
الآية إلى الأول أقرب].
(كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) منصوب على المصدرية بفعل محذوف ، أي كتب الله تحريم ما
حرمه عليكم كتابا وفرضه فرضا فلا تخالفوه وتمسّكوا به. وقرئ «كتب الله» بالجمع
والرفع ، أي هذه فرائض الله عليكم.
الثالثة (البقرة ـ ٢٢١) (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ) الأكثر على انّ النكاح في أمثال هذه المواضع يراد به
العقد قال في الكشاف : ما جاء النّكاح في القرآن إلّا بمعنى العقد وفي مجمع البيان
أن أصله الوطي ثم كثر حتّى قيل للعقد نكاح ، أى لا تتزوجوا المشركات وقرئ بضم
التّاء أى لا تزوجوهنّ من المسلمين (حَتَّى يُؤْمِنَّ) غاية لتحريم نكاحهن أي يصدقن بالله ورسوله ، ولفظ
المشركات متناول لأهل الكتاب أيضا فإنّهم مشركون.
امّا النّصارى
فظاهر حيث قالوا بالأقانيم الثّلاثة ، وامّا اليهود والنّصارى فلقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله (سُبْحانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ) فسمّاهم مشركين وقال في موضع آخر (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) والإشراك كما يتحقّق بإثبات إله آخر مع الله سبحانه
متحقق أيضا بإثبات إله غير الله ونفيه ، وقال في موضع آخر (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآية ولا خلاف أنّ الكافر بجميع أقسامه غير مغفور بل
مخلّد في النّار.
ومقتضى الآية
عدم جواز نكاح الكافرة مطلقا ونحوه قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وبين الزّوجين عصمة لا محالة فيدخل النكاح تحت النهي
قال الشيخ في التبيان عند هذه الآية وفي ذلك دلالة على أنّه لا يجوز العقد
على الكافرة سواء كانت ذميّة أو حربية أو عابدة وثن وعلى كلّ حال ، لأنّه عام في
جميع ذلك وعلى هذا
__________________
أكثر أصحابنا وادعى السيد المرتضى في الانتصار إجماع الإماميّة على حظر نكاح الكتابيات.
ولا ينافي ذلك
قوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) حيث دلّ على جواز نكاحهن لأنّها محمولة على أحد وجوه.
إمّا ان يراد
بالمحصنات اللّاتي أسلمن منهنّ وبالمحصنات المؤمنات اللاتي كنّ في الأصل مؤمنات
بأن ولدن على الإسلام ويؤيّده ما قيل إن قوما كانوا يتحرّجون من العقد على من
أسلمت عن كفر فبيّن انّه لا حرج في ذلك.
وإمّا ان يكون
مخصوصا بملك اليمين فإنّهن يجوز وطؤهنّ بالملك وامّا ان يكون منسوخة بقوله تعالى «(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) أو بقوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر» فانّ في الاخبار ما
يدلّ على ذلك روى زرارة في الحسن عن الباقر عليهالسلام قال سألته عن قول الله عزوجل (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال هي منسوخة بقوله (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).
وروى الحسن بن
الجهم قال قال لي الرّضا عليهالسلام : يا با محمّد ما تقول في رجل تزوج نصرانية على مسلمة
قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك؟ قال : لتقولنّ ، فان ذلك يعلم به قولي قلت
لا يجوز تزويج النصرانية على المسلمة ولا على غير المسلمة ، قال : لم قلت لقول
الله عزوجل (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) قال فما تقول في هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قلت قوله (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ) نسخت هذه الآية فتبسّم ثم سكت.
__________________
وإمّا ان يحمل
على ما إذا لم يجد المسلمة فإن له أن ينكح الكتابيّة دفعا للضرورة وتحرّزا من الزّنا
ورواه محمّد بن مسلم عن أبى جعفر عليهالسلام قال لا ينبغي للمسلم أن يتزوج يهوديّة ولا نصرانيّة وهو
يجد مسلمة حرة أو أمة.
ونحوه روى يونس
عنهم عليهمالسلام قال لا ينبغي للمسلم أن يتزوج امرأة من أهل الكتاب إلّا
في حال ضرورة حيث لا يجد مسلمة حرّة ولا أمة.
وذهب بعض
أصحابنا إلى جواز ذلك في المتعة والدوام ، وممّن صرّح بذلك ابن ابى عقيل من
أصحابنا حيث قال : وامّا أهل الكتاب وهم اليهود والنّصارى فلا بأس بنكاح نسائهم
متعة وإعلانا ولا يجمع في نكاح الإعلان منهنّ إلّا أربع فما دون ، وإذا انكحهنّ
الرّجل متعة جمع ما شاء منهنّ ، وطلاقهنّ واعتدادهنّ طلاق الحرائر المسلمات
واعتدادهنّ سواء قال ويجب لهنّ من القسمة والنّفقة ما يجب للمسلمات إلّا الميراث.
ومقتضاه تخصيص
هذه الآية بغير الكتابيّات من أقسام الكفّار جمعا بينها وبين قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) وإلى هذا يذهب القاضي وجماعة الشافعيّة.
هذا إذا قلنا
بتناول لفظ المشركات الذمّيات أيضا ولو قلنا باختصاصها بالحربيات كما ذهب اليه
البعض فلا تخصيص بل هي باقية على عمومها ، ومنع أبو الصّلاح من نكاح الكافرة حتّى
تسلم وان اختلفت جهات كفرها وسوغ التمتّع باليهودية والنّصرانيّة دون من عداهما من
ضروب الكفار ومقتضاه المنع في الدّوام وتجويز المتعة.
__________________
ويؤيّده ما
رواه زرارة في الموثق قال سمعته يقول لا بأس أن يتزوج اليهودية أو
النّصرانيّة متعة وعنده امرأة ، وقال في الكشاف : انّ قوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ) منسوخ بقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) نظرا الى أن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء
قط على ما سلف مرارا.
وفيه نظر فانّ
ذلك لم يثبت بدلالة قطعيّة ، وأهل البيت عليهمالسلام قد روى عنهم النسخ على عكس ما ذكره ، ولا شكّ أنّهم
اعرف بمحكم القرآن ومنسوخه على أنّ النّادر بمثابة المعدوم فجاز أن يكون أكثرها
كذلك ، ولعلّه يريد من النّسخ نسخ حكم بعض أفرادها ليرجع الى التخصيص كما نقلناه
عن القاضي وإلّا فهي ليست مرفوعة الحكم بالكلّية حتى تكون منسوخة.
وقد ظهر ممّا
ذكرناه انّ القول بالمنع مطلقا أصحّ مع ما فيه من الاحتياط.
(وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ) أي امرأة مسلمة حرّة كانت أو أمة وكذا قوله (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) فإنّ النّاس كلّهم عبيد الله وإماؤه كذا في الكشاف وهو
بعيد ، إذ لا مبالغة حينئذ ، بل الظّاهر انّ المراد من الآية انّ المملوكة (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) وان كانت حرّة وتظهر المبالغة حينئذ والتنبيه على انّ
الخيرية انّما هي في الأيمان لا في الحريّة والعبدية فإنّ أصل النّاس واحد.
(وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ) المشركة وكنتم تحبّونها لمالها أو جمالها فلو بمعنى ان
كما قاله القاضي والجملة حاليّة والغرض الحث على المنع من المخالطة بالمشركات
ونكاحهنّ قال الطبرسيّ في مجمع البيان وظاهر هذا يدلّ على أنّه يجوز نكاح الأمة
المؤمنة مع وجود الطول ، فامّا قوله (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) الآية فإنّما هي على التنزيه دون التحريم ، وقد سلف
ذلك.
(وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) ولا تزوجوا النّساء المؤمنات من المشركين بجميع اقسامهم
أهل الكتاب وغيرهم حتّى يصدقوا بالله ورسوله صلىاللهعليهوآله قال في التبيان
__________________
وهذا يؤيّد قول من يقول : ان قوله (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ) يتناول جميع الكافرات ، وهو جيّد ، لأنّ قرينة المقابلة
يقتضيه.
(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) مصدق بالايمان (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ
وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) والغرض المنع عن مواصلتهم والترغيب في مواصلة المؤمنين
كما مرّ.
أولئك» هو
بمنزلة التعليل للنهى عن نكاح المشركات والمشركين (يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ) أى الكفر والمعاصي المؤدية إليها فلا يليق موالاتهم ولا
مناكحتهم ، إذ قد يأخذ أحدهما من دين صاحبه ، بل هو الغالب في الزّوج والزّوجة كما
قيل.
(وَاللهُ) اى أولياؤه وهم المؤمنون ، حذف المضاف وأقيم المضاف
اليه مقامه تفخيما لشأنهم (يَدْعُوا إِلَى
الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) ، أي سببهما وهو الأيمان والطّاعة الموصلين إليهما ،
فهم الأحقّاء بالمواصلة والموادة (بِإِذْنِهِ) بأمره اى بما يأمر ويأذن فيه من الشّرائع والأحكام أو
بتوفيقه وتيسيره للعمل الذي يستحقّ به الجنّة والغفران أو بإعلامه.
(وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) أى حججه وقيل أوامره ونواهيه وما أباحه وما حرمه (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتذكروا ويتّعظوا ، أو ليكونوا على حال يرجى منهم
التّذكر ، لما تقرّر في العقول من الميل الى الخير ومخالفة الهوى كذا قاله القاضي وهو صريح في الحسن والقبح العقلي بالمعنى المتنازع فيه
فتأمّل.
وقد يستدلّ
بظاهر الآية على جواز نكاح المخالفة من ايّ فرق الإسلام كانت فإنّ الأيمان فيها
بمعنى الإسلام على ما يظهر من التفاسير ، نعم يستثنى من ذلك النّاصبية فإنّه لا
يجوز للمؤمن أن يتزوج بها عندنا وإن كانت على ظاهر الإسلام لأخبار صحيحة دلّت على
ذلك كصحيحة عبد الله بن سنان عن الصّادق عليهالسلام قال
__________________
لا يتزوج المؤمن الناصبيّة ونحوها صحيحة الفضيل بن يسار عنه عليهالسلام .
امّا الاستدلال
بها على جواز تزويج المؤمنة بالمخالف نظرا الى عدم المنع الّا من المشرك فيبقى
غيره على الأصل فجيّد ، لو لا ورود أخبار معتبرة الإسناد بالمنع كصحيحة عبد الله
بن سنان عن الصّادق عليهالسلام لا يزوّج المستضعف مؤمنة وقول الصّادق عليهالسلام «العارفة لا توضع الّا عند عارف».
ويظهر من
المفيد والمحقّق في المعتبر الجواز على كراهية نظرا الى بعض الأخبار الدالة عليه
والجمع بينها وبين غيرها بالجواز على كراهة ، وفيه بعد مع إمكان حمل اخبار الجواز
على وجه آخر ، والاحتياط المطلوب في النّكاح المترتّب عليه مهام الدين يقتضيه ،
وقد اتّفق الجميع على عدم تزويج المؤمنة بالناصب لمكان الأخبار المتظافرة فيه.
__________________
النوع الثالث
في لوازم النكاح
وفيه آيات الأولى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) تطلقوا امرأة وتزوّجوا اخرى (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ) وأعطيتم إحدى الزوجات وهي الّتي تريدون فراقها ، وجمع
الضّمير لأنّه أراد بالزوج الجنس فيصحّ إرجاع ضمير الجمع اليه من حيث المعنى (قِنْطاراً) مالا كثيرا ، وفي القاموس انّه ملء مسك ثور ذهبا أو
فضّة أو مائة رطل من ذهب أو فضّة (فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ) اي من المؤتى وهو القنطار (شَيْئاً) ولو كان قليلا والمراد لا ترجعوا فيما اعطيتموهنّ من
المهر إذا أردتم مفارقتهنّ لأنّه قد صار ملكا لهنّ ولا يجوز أخذ أموال الناس بغير
حقّ.
(أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) استفهام إنكار وتوبيخ وانتصابهما على الحالية اي باهتين
وآثمين ، ويحتمل النّصب على العلّة كقوله قعدت عن الحرب جبنا فإن الأخذ سبب
بهتانهم واقترافهم المأثم ، والبهتان هو الكذب المواجه به صاحبه على وجه المكابرة
وهو بريء منه لأنّه يبهته عند ذلك ، وأصله التحير قال تعالى (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أى تحير لانقطاع حجّته وقد يستعمل في الفعل الباطل
ولذلك فسّر هنا بالظلم.
قيل كان الرجل
منهم إذا طمحت عينه الى استطراف امرأة بهت الّتي تحته ورماها بالفاحشة حتّى يلجئها
الى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه الى التّزويج بالجديدة ، فنهوا عن ذلك ، وأكّد
النّهي عنه بقوله (وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ) أي الشيء وهو إنكار وتعجيب من حالهم باسترداد المهر.
(وَقَدْ أَفْضى
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) والحال انّه قد وصل بعضكم الى بعض والإفضاء الوصول إلى
الشيء قيل المراد به هنا الوطي وقيل المراد به الخلوة الصّحيحة وان
لم يجامع وسيجيء بيان القولين إن شاء الله تعالى.
(وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) عهدا وثيقا وهو حقّ الصّحبة والممازجة ووصفه بالغلظ
لقوّته وعظمته فقد قالوا صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجرى بين الزّوجين من الاتّحاد والامتزاج
والعهد المأخوذ على الزّوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ونقله الطبرسي
عن جماعة من العامّة قال وهو المرويّ عن أبى جعفر عليهالسلام.
أو المراد به
ما أشار إليه النّبي صلىاللهعليهوآله بقوله «أخذتموهنّ بامانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» قال في مجمع البيان وقد قيل في هاتين الآيتين ثلاثة أقوال :
أحدها انّهما
محكمتان غير منسوختين ، لكنّ للزوج أن يأخذ الفدية من المختلعة لأنّ النشوز من
جهتها ، فالزوج يكون في حكم المكره لا المختار للاستبدال فلا ينافي حكم الآيتين
وحكم آية الخلع ، وحينئذ فلا يحتاج الى نسخها بها وهو قول الأكثر من المفسرين.
وثانيها انّهما
محكمتان وليس للزوج ان يأخذ من المختلعة شيئا ولا من غيرها لظاهر الآية.
وثالثها انّ
حكمهما منسوخ بآية الخلع أعنى قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية ولا شكّ في بعد الأخيرين ويؤيّده ان النّهى فيهما
مقيّد بالبهتان وهو نوع من الإكراه ولا كلام في انّه مع الإكراه للزوجة على
الافتداء لا يتمّ الخلع ولا يقع الملك.
وبالجملة فهذان
القولان لا اعتبار لهما عندنا ولنتكلّم فيما يستفاد من الآية
__________________
وذلك أحكام.
الأول انّ في
الآية الأولى دلالة واضحة على جواز المغالاة في المهر وعدم تقديره في الكثرة ،
فإنّ القنطار المال العظيم وحينئذ فيجوز الزّيادة على مهر السّنة أضعافا مضاعفة
كما هو المشهور بين علمائنا وعليه أكثرهم.
وقال السّيد
المرتضى في الانتصار وممّا انفردت به الإمامية انّه لا يتجاوز بالمهر
خمسمائة درهم جياد قيمتها خمسون دينارا وما زاد على ذلك ردّ إلى السّنة ، والحجّة
بعد إجماع الطّائفة ان قولنا مهر يتبعه أحكام شرعيّة ، وقد أجمعنا على انّ الأحكام
الشرعيّة يتبع ما قلنا به إذا وقع العقد عليه ، وما زاد عليه لا إجماع على أنّه
يكون مهرا ولا دليلا شرعيّا فيجب نفى الزّيادة.
ويؤيده من
الأخبار رواية المفضل بن عمر سئل أبا عبد الله عليهالسلام عن مهر السنة الذي لا يجوز للمؤمن أن يجوزه فقال السنة
المحمدية خمسمائة درهم فمن زاد على ذلك ردّ إلى السّنة ولا شيء عليه أكثر من
خمسمائة درهم.
وفيه نظر فإنّ
الإجماع غير معلوم بل ولا الشهرة ، وإنّما المشهور خلافه ولا نسلّم انّه إذا لم
يكن إجماع على الزائد لا يكون دليل عليه غيره فإنّه لا يلزم من نفى الإجماع نفى
باقي الأدلّة ، والآية صريحة في الجواز على ما قلناه وكفى بمثلها دليلا.
والرواية ضعيفة
السند مع معارضتها بما هو أصحّ سندا كصحيحة الوشاء
__________________
عن الرضا عليهالسلام قال سمعته يقول لو انّ رجلا تزوج امرأة وجعل مهرها
عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا والّذي جعل لأبيها فاسدا.
[وقد روى الشيخ
في المبسوط وغيره أن عمر تزوج أم كلثوم بنت على عليهالسلام فأصدقها أربعين ألف درهم وأن أنس بن مالك تزوج امرءة
على عشرة آلاف وتزوج الحسن عليهالسلام امرء فأصدقها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم وروى غير
ذلك مما هو أزيد مهرا منه عند الصحابة والتابعين ولم ينكره أحد وقصة عمر مع المرأة
التي أسكتته لما نهي عن المغالاة في المهر واحتجاجها بالاية المذكورة مشهورة ].
ويمكن حمل
الرواية على كراهة الزيادة على مهر السّنة وان الردّ الى ذلك على وجه الاستحباب
بإبراء ما زاد على مهر السّنة ليردّ المهر إليها فلا يلزمه أكثر من ذلك.
الثاني تحريم
قهر الزوجة والجائها الى الافتداء بالمهر الذي أعطاها إياه ، وان أخذه ظلما لا
يترتب عليه الملك ولا فرق بين ارادة الاستبدال وعدمه لاستقرار الملك عليها
بالدّخول ، فالتّقييد بالاستبدال الدال على الجواز مع عدمه كما يقتضيه
__________________
مفهوم الشرط غير مراد قطعا.
ولعلّ فايدة
التقييد كون ذلك هو المعمول به فيما بينهم وقت نزولها فوردت عليه ، أو لأنّ ذلك
الوقت هو محل الأخذ دون غيره من الأوقات ، لاحتياجه الى مهر يدفعه إلى الزّوجة
الجديدة فيسترد ما دفعه أولا منها نظرا الى ان ما دفعه الى الأولى انّما كان لدوام
الاستمتاع وقد فات في بعض الزمان أو لأنّه إذا حرم حال الاستبدال والإخراج فلا
يحرم حال عدم الاستبدال والإخراج بطريق اولى.
الثالث ظاهر
الإفضاء في الآية الدّخول وهو الذي يعطيه سياقها وذلك لأنّ الكلام ورد في معرض
التعجب وهو انّما يتمّ إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمودّة
وذلك هو الجماع لا مجرد الخلوة ، وأيضا لا بدّ ان يكون مفسّرا بفعل ينتهى منه
إليها لأنّ كلمة «الى» لانتهاء الغاية ، ومجرّد الخلوة ليست كذلك إذا لم يحصل فعل
من أفعال أحدهما إلى الأخر.
فإن قيل على
هذا يجب ان يكون التلامس والاضطجاع في لحاف واحد كافيا في تحقق الإفضاء وأنتم لا
تقولون به قلنا هذا باطل إذ هو قول ثالث مخالف للإجماع إذ الناس بين قائل بتفسير
الإفضاء بالجماع وبين قائل بتفسيره بالخلوة فالثالث منفيّ.
وحينئذ فيمكن
الاستدلال بها على انّ المهر لا يستقرّ على ملك الزّوجة إلا به كما هو المشهور بين
علمائنا لا بمجرد الخلوة وإرخاء السّتر كما ذهب اليه البعض.
ويؤيّد الأوّل
من الأخبار رواية يونس بن يعقوب عن الصّادق عليهالسلام قال سمعته يقول لا يوجب المهر الا الوقاع في الفرج
ونحوها والثّاني رواية زرارة عن الباقر عليهالسلام قال إذا تزوّج المرأة ثم خلا بها فأغلق عليها بابا
وارخى سترا ثم طلقها فقد وجب الصّداق وخلاؤه بها دخول ونحوها قال الشيخ.
وكان ابن ابى
عمير يقول : انّ الأحاديث قد اختلفت في ذلك والوجه
__________________
في الجمع بينها انّ على الحاكم ان يحكم بالظاهر ويلزم الرجل المهر كلّه إذ
أرخى السّتر ، غير ان المرأة لا يحل لها فيما بينها وبين الله ان تأخذ إلّا نصف
المهر أى على تقدير عدم الدخول.
وقد استحسن
الشّيخ هذا الجمع ومرجعه انّ كمال المهر انّما يستقر بالدّخول لا بمجرد الخلوة
وإرخاء السّتر لكن لما كانت الخلوة مظنّة له بحيث لا ينفك عنه غالبا وجب ان لا
ينفك عن إيجاب المهر المستند إلى الدّخول ، فمدّعيه حينئذ مدعي الظّاهر ومنكره
يدعى خلافه فيحكم للمدعى به مع اليمين قضاء لظاهر الحال امّا مع تصديق المرأة
بعدمه فلا يجب الكمال قطعا.
الثانية : «لا جناح» لا تبعة «عليكم» من إيجاب مهر بقرينة الوجوب
في مقابله أعني صورة الفرض حيث يجب النّصف أولا وزر عليكم لأنه لا بدعة في الطّلاق
قبل المسيس والفرض.
فان قيل هذا قد
يشعر بالجناح في الطّلاق بعد المسيس والفرض ، وليس كذلك فإنّه لا جناح فيه أيضا.
قلنا لعل الآية
وردت لبيان اباحة هذا الطّلاق على الإطلاق فإنّ الإباحة كذلك لا تتم قبل المسيس ،
إذ بعده يحتاج الى ان يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، أو لعلّ ما بمعنى
الموصول لا المدّة والتقدير لا جناح عليكم ان طلقتم النّساء اللّاتي لم تمسوهنّ
ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهنّ.
وقيل كان
النّبي صلىاللهعليهوآله يكثر النهي عن الطّلاق فظن ان فيه حرجا فنفى.
(إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) اى تجامعوهنّ وهو الظاهر منه وفي صحيحة ابن سنان عن الصّادق عليهالسلام قال ملامسة النّساء هو الإيقاع بهن.
__________________
(أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً) أو تسمّوا وتعينوا لهنّ مهرا والظاهر أن أو بمعنى الواو
كما يرشد اليه قوله فيما بعد (وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ) ويكون مفاد الكلام انّه لا تبعة عليكم في مهران
طلّقتموهنّ قبل المسيس وقبل فرض المهر وتسميته فانّ الطّلاق قبل أحدهما فقط ليس
بهذه المثابة إذ لو كانت ممسوسة فعليه المسمى أو مهر المثل ، ولو كانت غير ممسوسة
ولكن سمّى لها فلها نصف المسمّى.
ويمكن أن يكون
بمعناها على انّ المراد ان رفع الحرج منوط بعدم المسيس أو بعدم الفرض على سبيل منع
الخلو فقط ، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم ويظهر من الكشاف والقاضي انّها بمعنى
«الّا ان تفرضوا أو حتّى تفرضوا» ومرجعه ما ذكرناه.
وفي الآية
دلالة واضحة على صحّة العقد من دون ذكر المهر مطلقا ، وجواز الطّلاق قبل تعيينه
وانتصاب فريضة على انّه مفعول به وهي فعيلة بمعنى مفعول والتاء لنقل اللّفظ من
الوصفيّة إلى الاسميّة ، ويحتمل انتصابه على المصدرية.
(وَمَتِّعُوهُنَّ) عطف على مقدّر دلّ عليه سياق الكلام أي فطلقوهنّ
ومتّعوهن والمتعة والمتاع ما يمتّع به والأمر للوجوب عند أكثر العلماء وذهب مالك
وجماعة من العامة إلى أنّه للاستحباب نظرا الى قوله في أخر الآية (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فجعلها من باب الإحسان والواجب لا يكون كذلك ، وردّ
بانّ لفظة «على» تشعر بالوجوب وكذا قوله حقا والإحسان يؤكده لا ينافيه.
(عَلَى الْمُوسِعِ) وهو الغنى الذي حاله في سعة لغناه (قَدَرُهُ) بفتح الدال وسكونها اى القدر اللّائق بحاله أو قدره
مقداره الّذي يطيقه فانّ ذلك هو المختصّ به (وَعَلَى
__________________
الْمُقْتِرِ)
وهو الفقير
الّذي ضاقت حاله (قَدَرُهُ) بقدر ما يليق بحاله أو يطيقه ، ومقتضى الآية وجوب
التمتّع على الغنى والفقير بحسب ما يقتضيه حالهما من اليسار والقتار وظاهر الأصحاب
انقسام الحكم إلى الغني والمتوسط والفقير ، وأوجبوا على الغنى التمتّع بالدابة أو
الثوب المرتفع أو عشرة دنانير وعلى المتوسط التمتع بخمسة دنانير أو الثوب المتوسط
وعلى الفقير بالدّينار أو الخاتم وما شاكله وليس في الرّوايات ما يدل على تفصيل ما
قالوه.
ففي رواية
الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : إذا كان الرّجل موسعا متع امرأته بالعبد والأمة ،
والمقتر يمتع بالحنطة والزّبيب والثوب والدرهم.
وفي رواية
سماعة عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) الى ان قال امّا الرّجل الموسع يمتّع المرأة بالعبد
والأمة والفقير بالحنطة والزبيب والثوب والدّرهم.
وفي رواية أبي
بصير عن أبي جعفر عليهالسلام أخبرني عن قول الله عزوجل (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية ما ادنى ذلك المتاع إذا كان معسرا لا يجد قال
خمار أو شبهه.
ولعل ما ذكره الأصحاب
نظرا الى الظاهر من رجوع أحوال الناس الى هذه الثلاثة وعدم خلوّ أحدهم عنها ويكون
المتوسط داخلا في أحد الطرفين ويرجع في تعيين الاقدار الى العرف بحال الشّخص لانّه
المحكّم في مثله وليس المراد وجوب ما ذكر في الرّوايات بخصوصه بل الظّاهر أن ما
قاربها في القيمة فهو كذلك.
ومقتضى ما
ذكرناه ان التّمتع قد يكون ناقصا عن نصف مهر مثلها وقد يكون زائدا عليه اعتبارا
بحال الشخص وقد وافقنا على ذلك الشافعية ، وقال أبو حنيفة :
__________________
المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل لانّ حال المرأة الّتي سمّى لها المهر
أحسن من حال الّتي لم يسم لها ثم لما لم تجب زيادة على نصف المسمّى إذا طلّقها قبل
الدّخول فهذه اولى وفيه نظر والفرق واضح فتأمّل.
ثم انّ منطوق
الآية وجوب المتعة للمطلّقة قبل المسيس وقبل فرض المهر فلو ماتت قبلهما فلا متعة
لها وهو مختار جماعة من الأصحاب ، واليه ذهب ابن إدريس لأنّ إلحاق غير المطلقة بها
قياس لا نقول به والأصل براءة الذمّة.
وقال الشّيخ في
النهاية لا مهر لها وكان لها المتعة وتبعه ابن البراج وابن حمزة ولعل دليلهم ما
رواه محمّد بن مسلم في الصّحيح عن الباقر عليهالسلام في رجل تزوج امرأة على حكمها أو على حكمه فمات أو ماتت
قبل ان يدخل بها فقال : لها المتعة والميراث ولا مهر لها ولا بأس بهذا القول لهذه
الرواية ومفهوم الآية عدم وجوب المتعة مع الدّخول أو الفرض ، وعلى هذا أصحابنا وقد
وافقنا الحنفيّة في ذلك وأوجب الشافعي في أحد قوليه المتعة للممسوسة المفوّضة
وغيرها قياسا على هذه المفوّضة ولم يعتبر مفهوم الآية فانّ القياس عنده مقدم على
المفهوم وسيجيء تمام الكلام في ذلك ان شاء الله تعالى.
(مَتاعاً
بِالْمَعْرُوفِ) تمتيعا بالوجه الّذي يحسن في الشرع والعرف بحسب المروّة
، ونصبه على المصدريّة (حَقًّا) صفة متاعا اى تمتيعا حقّا ثابتا أو منصوب على المصدريّة
مؤكد لمضمون ما تقدم اي حقّ ذلك حقّا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون بفعل الطّاعة واجتناب المعصية.
وخصّهم بالحكم
تشريفا لهم لا انّه لا يجب على غيرهم وفيه حثّ على الإحسان والترغيب فيه فهو
بمثابة هدى للمتّقين ويحتمل ان يكون معناه من أراد أن يحسن فهذا حقّه وطريقه بان
يعطى المطلقات كذلك ما فرض لهنّ الله تعالى ، فما في
__________________
الكشاف من كونه سمّاهم محسنين قبل الفعل لاشرافهم عليه كما في قتل قتيلا
ونحوه في تفسير القاضي لا حاجة اليه.
(وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) تجامعوهنّ على ما عرفت (وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً) وقد أوجبتم لهنّ صداقا وسمّيتم لهنّ مهرا وهي جملة
حالية عن فاعل الشرط (فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ) جواب الشرط وارتفاعه امّا على انّه مبتدء خبره محذوف أو
العكس والتقدير فلهنّ أو عليكم أو الواجب أو الذي عليكم نصف ما فرضتم وعيّنتم من
المهر.
وقد بيّن في
هذه الآية حكم المطلقة الغير الممسوسة الّتي فرض لها مهرا حال العقد وأوجب لها نصف
المفروض وفي السابقة حكم غير الممسوسة وغير المفروضة وأوجب لها المتعة وبقي من
الأقسام ، الممسوسة المفروضة ، وحكمها وجوب المهر المسمّى كملا كما اقتضته الأدلّة
والممسوسة غير المفروضة وعندنا يجب لها مهر المثل على ما أشرنا اليه.
(إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) اي المطلقات عن أزواجهنّ فلا يأخذن شيئا والمراد يتركن
ما يجب لهنّ من نصف الصّداق أو شيئا منه فليس لهنّ في هذه الحالة النّصف اللّازم
من الطلاق بل امّا لا شيء لهنّ أو ما بقي منه بعد العفو والصّيغة يحتمل التذكير
والتأنيث.
والفرق انّ
الواو في الأوّل ضمير والنّون علامة الرّفع وفي الثّاني لام الفعل والنّون ضمير
والفعل مبنىّ ومن ثمّ لم يؤثر فيه ان كما أثر في المعطوف عليه والاستثناء من مقدر
أى الواجب النّصف في جميع الأحوال إلّا حال أن يعفون.
(أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وقد اختلف فيه فقيل هو الولي الذي عقد نكاحهنّ أي الأب
والجدّ له وعلى هذا أصحابنا اجمع ، وقال الشيخ في التبيان قوله (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) معناه من يصحّ عفوها من الحرائر البالغات غير المولّى
عليها لفساد عقلها فيترك ما يجب لها من نصف الصّداق وقوله (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ)
__________________
قال مجاهد والحسن وعلقمة : انّه الولي وهو المروي عن الباقر والصادق عليهماالسلام غير انّه لا ولاية لأحد عندنا إلّا الأب والجدّ على
البكر غير البالغ فامّا من عداهما فلا ولاية له إلّا بتولية منهما وروي عن علي عليهالسلام وسعيد بن المسيّب وشريح انّه الزوج وروى ذلك في أخبارنا
أيضا غير ان الأوّل أظهر وهو المذهب.
ثم قال واختار
الجبائي أن يكون المراد به الزّوج لأنّه ليس للولي أن يهب مال المرأة انتهى.
قلت أشار
بالمروي عن الصادق عليهالسلام الى ما رواه عبد الله بن سنان في الصحيح عن الصادق عليهالسلام قال الذي بيده عقدة النكاح هو وليّ أمرها.
وفي الصحيح عن رفاعة قال سألت الصادق عليهالسلام عن الذي بيده عقد النكاح فقال الولي الذي يأخذ بعضا
ويترك بعضا وليس له أن يدع كلّه فعلى هذا يكون في الآية إشارة الى انّ المطلقات ان
كنّ بالغات رشيدات فالعفو منهنّ وان لم يكن بهذه الحالة فالعفو من أوليائهنّ.
وفي حسنة
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) قال هو الأب والأخ والرّجل يوصى إليه والرّجل يجوز أمره
في مال المرأة يبيع لها ويشترى فإذا عفا فقد جاز.
ونحوها رواية
سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) قال هو الأب أو الأخ أو الرجل يوصى اليه والذي يجوز
امره
__________________
في مال المرأة فيبتاع لها فيجيز فإذا عفا فقد جاز ومقتضاهما كون الذي بيده
عقدة النكاح الولي أو الأخ إذا جعلت أمرها إليه أو الوكيل النّافذ تصرّفه في جميع
أمورها.
والى ذلك ذهب
الشيخ في النهاية حيث قال الذي بيده عقدة النكاح الأب والأخ إذا جعلت الأخت أمرها
اليه أو من وكلته في أمرها فأيّ هؤلاء وكان جاز له أن يعفو عن بعض المهر وليس له
أن يعفو عن جميعه وتابعه في ذلك ابن البراج الّا ان في الاستناد في مثل ذلك الى
مثل هاتين الرّوايتين الغير الواضحتين لا يخلو من بعد.
وقال ابن إدريس
الذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول المذهب انّ الأب والجدّ من قبله في حياته أو موته
إذا عقد على غير البالغة فلهما أن يعفو عمّا تستحقه من نصف المهر بعد الطلاق إذا
رأيا ذلك مصلحة ويكون المرأة وقت عفوهما غير بالغة فامّا من عداهما أو هما مع
بلوغها ورشدها فلا يجوز لهما العفو عن النّصف وصارا كالأجانب لأنّهما لا ولاية
لهما في هذه الحال ولا يجوز لأحد التصرّف في مالها بالهبة والعفو وغير ذلك الّا عن
اذنها للمنع من التصرّف في مال الغير عقلا وسمعا إلّا بإذنه.
وليس في الآية
متعلق سوى ما ذكرناه لأنّه تعالى قال (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) فدلّ بهذا القول أنهنّ ممّن لهنّ العفو فهنّ الحرائر
البالغات الواليات على أنفسهنّ في العقد بالعفو والبيع والشراء وغير ذلك ثمّ قال
أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح معناه إذا لم يكنّ بالغات ولا واليات على أنفسهنّ
فعند هذه الحال لا يلي عليهنّ عندنا سوى الأب والجدّ بغير خلاف فلهما العفو بعد
الطلاق عمّا تستحقّه.
ولو لا إجماع
أصحابنا على انّ الذي بيده عقدة النكاح الأب والجدّ على غير البالغة لكان قول
الجبائي قويّا مع أنّه قد روى في بعض أخبارنا انّه الزّوج انتهى وهو جيّد وينبغي
أن يكون العمل عليه.
ثمّ انّ ظاهر
أكثر الأصحاب انّ العفو للولي انّما يكون لبعض النّصف الذي استحقّه المرأة بالطلاق
مع ظهور المصلحة فيه لا بدونها ولا يجوز العفو عن الجميع
ويدلّ على اعتبار المصلحة إنّهما بمنزلة الوكلاء ونظر الوكيل منوط بالمصلحة
بل لا يصح بدونها.
وامّا عدم
العفو عن الجميع فيدلّ عليه صحيحة رفاعة المتقدّمة مع انّه خلاف المصلحة فتأمل
وقيل ان الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وعفوه ان يسوق إليها المهر كملا غير مرتجع
بنصفه ، قال القاضي وهو مشعر بانّ الطلاق قبل المسيس مخيّر للزوج غير مشطّر بنفسه
والى هذا يذهب الحنفية ومتأخري الشافعيّة قال في مجمع البيان ورواه بعض أصحابنا غير انّ الأوّل أظهر. وأراد بالأوّل
كونه مشطرا بنفسه وعليه المذهب.
وصاحب الكشّاف بعد ان نقل القولين رجح الأوّل نظرا إلى انّه يوجب
اجراء العفو على ظاهره بخلاف الثاني فإنّ تسمية الزيادة على الحقّ عفوا غير معهود
إلّا أن يقال لما كان الغالب على الحقّ عندهم ان يسوق إليها المهر عند التزويج
فإذا طلّقها استحقّ ان يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفى عنها
أو سمّاه عفوا على طريق المشاكلة لكون العفو في مقابله.
وبناء هذا
الكلام على تقدير كون الطلاق مشطرا للمهر كما هو المشهور بين العلماء ولو قيل انّ
الطلاق مخير للزّوج كما أشار إليه القاضي فالعفو عنه ظاهر لا يحتاج إلى هذا التكلف
الا انّه قول مرغوب عنه فيما بينهم.
(وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) لعلّ الخطاب فيه للزّوج والمرأة على تغليب الذكور ونقله
في مجمع البيان عن ابن عبّاس وعن الشّعبي إنّه للزّوج وانّما جمع لانّه
خطاب لكلّ زوج ثمّ قال وقول ابن عبّاس أقوى لعمومه اى شموله القبيلين معا.
وانّما كان
العفو أقرب الى التقوى من وجهين أحدهما ان معناه أقرب الى ان
__________________
يتقى أحدهما ظلم صاحبه لأنّه من ترك لغيره حقّ نفسه كان أقرب الى ان لا
يظلم غيره بطلب ما ليس له ، والثاني معناه أقرب الى اتقاء معصية الله تعالى لأن من
ترك حق نفسه أقرب الى أن لا يعصى الله بطلب ما ليس له ويحتمل ان يكون خطابا للنساء
والأولياء على التغليب أيضا ولو قيل على هذا يكون العفو من الولي أقرب الى التقوى
وهو غير معلوم لقلنا ظاهر انّه مع المصلحة يكون أقرب الى التقوى من الولي كما هو
من المرأة وفيه ما فيه.
ويحتمل ان يكون
المخاطب في الآية جميع النّاس والمراد انّ العفو من مطلق النّاس أقرب الى التّقوى
ويكون الغرض منه بيان حسن العفو من غير خصوصيّة شخص ولا يخفى بعده عن سابق الآية
ولا حقها ومقتضى الآية انّ العفو بلفظه كاف مطلقا وقيل ان كان المهر عينا فالمراد
بالعفو إسقاطه بالهبة وان كان دينا فالمراد به الإبراء وما في معناه ولا يبعد حمل
العفو على مثله فتأمّل.
(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ) اى ولا تنسوا ان يتفضّل بعضكم على بعض فتاخذوا مرّ
الحكم واستيفاء الحقوق على الكمال من غير نقصان لأنّ مثله بعيد عن التفضّل.
بين تعالى في
هذه الآية الكريمة الحكم الذي لا يعذر أحد في تركه وهو انّه ليس للزّوج ان ينقصها
من نصف المهر ولا للمرءة ان تطالبه بالزّيادة.
ثمّ بين طريق
الفضل من الجانبين وندب اليه وحثّ عليه وعن جبير ابن مطعم انّه تزوّج وطلّق قبل
المسيس واعطى جميع المهر فقيل له في ذلك فقال انا أحقّ بالعفو وعدم نسيان الفضل.
(إِنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يضيع تفضّلكم واحسانكم هذا وقد روي عن سعيد بن
المسيّب انّ هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية الاولى قال أبو القاسم البلخي
وهذا ليس بصحيح لانّ الآية الاولى تضمنت حكم من لم يدخل بها ولم يسم لها مهرا إذا
طلّقها وهذه تضمّنت حكم الّتي فرض لها المهر ولم يدخل بها إذا طلّقها واحد الحكمين
غير الأخر وهو جيّد والحق ان توهّم النسخ بينهما لا وجه له.
الثالثة : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) وهو المتعة الّتي تقدّم ذكرها وقيل
المراد بالمتاع نفقة العدة كما في قوله (مَتاعاً إِلَى
الْحَوْلِ) وهو بعيد (حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) خصّهم بالذكر تشريفا لهم كما سلف نظيره ، ومقتضى الآية
ثبوت المتعة لكلّ مطلّقة كما يقتضيه عموم «المطلقات» وبظاهره أخذ سعيد بن جبير
فأوجب المتعة لكل مطلقة وتابعه عليه جماعة من العامة وهو بعيد.
وتفصيل المقام
انّ المطلقات قسمان مطلقه قبل الدّخول فان لم يفرض لها مهر فلها المتعة على ما سلف
وان فرض لها مهر فلا متعة لها وحسبها نصف المهر لأنّه تعالى اقتصر على ذلك ولم
يذكر المتعة فلا تكون واجبة لها فهي مخرجة من عموم هذه الآية.
ولا كلام في
ذلك إنّما الكلام في المطلقة بعد الدّخول سواء فرض لها مهر أو لم يفرض ، والّذي
عليه أصحابنا انّها لا يجب لها المتعة ، لأنّها تستحقّ المهر كما دلّت عليه الآية
السّابقة فهو حسبها ، قال في مجمع البيان وعندنا انّها مخصوصة إن نزلتا معا ، وإن كانت تلك
متأخّرة فهذه منسوخة ، لأنّ عندنا لا يجب المتعة إلّا للمطلقة الّتي لم يدخل بها
ولم يفرض لها مهر ، فأمّا المدخول بها فلها مهر مثلها ان لم يسم لها مهر ، وان
سمّى لها مهر فما سمّى لها وغير المدخول بها المفروض مهرها لها نصف المهر ولا متعة
لها في هذه الأحوال.
ولا يبعد حملها
على ما يشمل التمتيع الواجب والمستحبّ كما أشار إليه في الكشاف وذكره القاضي وهو موافق لمذهبنا ويؤيّده أخبار دلّت على المتعة لكلّ
مطلقة ، وان كانت مدخولا بها.
[روى الحلبي في الصحيح قال سألته عن رجل تزوّج امرأة فدخل بها ولم
يفرض لها مهرا ثم طلقها فقال لها مثل مهور نسائها ويمتعها ، ولا يضر كونها مقطوعة]
__________________
وروى الحلبي عن أبى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال متاعها بعد ما ينقضي عدّتها ، على الموسع قدره وعلى
المقتر قدره وكيف يمتعها وهي في عدة ترجوه ويرجوها ويحدث الله بينهما ما يشاء
الحديث.
وهي ظاهرة في
ثبوت المتعة بعد الدّخول إذ العدة انّما تكون معه ونحوها رواية سماعة عن ابى عبد
الله عليهالسلام انّه قال في قول الله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال متاعها بعد ما يقضى عدتها وساق ما تقدم.
وفي صحيحة علىّ
بن رئاب عن زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام قال متعة النساء واجبة دخل بها أو لم يدخل بها وتمتع
قبل ان يطلق.
والوجوب محمول
على تأكّد الاستحباب وأوجب الشافعي في الجديد المتعة للمطلقة بعد الدّخول سواء فرض
لها أو لم يفرض محتجا بعموم الآية وبقوله تعالى (فَتَعالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ) وكان ذلك في حقّ نساء دخل بهنّ النّبي صلىاللهعليهوآله.
وقال أبو حنيفة
لا متعة لها وهو قول الشافعيّ في القديم لأنّها تستحق المهر كالمطلّقة بعد الفرض
قبل الدّخول ، وقد أشرنا انّ هذا قول أصحابنا ويجاب عمّا ذكره الشافعي انّ العموم
مخصوص بغيره كما بيناه وحكاية النبيّ صلىاللهعليهوآله لا يستدلّ بها على ثبوت الحكم في حقّ الغير أيضا.
وربما احتجت
الشافعية على الأوّل بالقياس فأوجبوا المتعة للممسوسة المفوضة وغيرها قياسا على
المفوضة غير الممسوسة ولم يعتبروا مفهوم الآية السابقة الدّالّ على نفى المتعة
للممسوسة كما أشرنا إليه ، فإنّ القياس عندهم مقدم على المفهوم كما قالوه في أصولهم
، وفيه بعد فإنّ إيجاب الشيء بمثل هذا القياس الّذي لا يعلم علّته مع مخالفته ظاهر
القرآن لا وجه له إذ يجوز ان يكون العلّة في وجوب المتعة هنا الطّلاق مع عدم الفرض
والمسّ فلا يتعدّى إلى غيره من الصّور.
__________________
ونقل في الكشاف
عن الزهري متعتان إحداهما يقضى بها السلطان من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها ،
والثّانية حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل قال وخاصمت امرأة إلى شريح
فقال متّعها إن كنت من المتّقين ولم يجبرها وهو موافق للقول بالاستحباب.
وقد سلف أنّ
الاعتبار في المتعة بحال الزّوج من غناه وإعساره وقال أبو حنيفة يجب درع وخمار
وملحفة على حسب الحال إلّا أن يكون مهر مثلها أقلّ من ذلك ، فلها حينئذ الأقلّ من
نصف مهر المثل ، والمتعة ، ولا ينقص من خمسة دراهم لأنّ أقلّ المهر عشرة دراهم فلا
ينقص من نصفها وفيه بعد ، وقال الشّيخ في المبسوط وامّا قدر الواجب ، فعلى ما
يفرضه السلطان وقال قوم الاعتبار بمال الزوج لقوله تعالى (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ) الآية وهو الأقوى ، والظاهر أن أحدا من أصحابنا لم يذهب
الى اعتبار فرض السلطان وما ذكره الشّيخ قول لبعض العامّة كما أشرنا إليه.
الرابعة (النساء : ٣٤) (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) قيّمون عليهنّ في التدبير كقيام الولاة على رعيّتهم
وعلل تعالى ذلك بأمرين :
موهبي أشار
إليه بقوله (بِما فَضَّلَ اللهُ) اي بسبب تفضيله (بَعْضَهُمْ عَلى
بَعْضٍ) أي الرجال على النّساء وذلك بالعلم والعقل وحسن الرأي
والتّدبير والعزم ومزيد القوة في الأعمال والطاعات والفروسيّة والرّمي ، وأن منهم
الانبيآء والأئمّة والعلماء وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة والصغرى وهي
الاقتداء بهم في الصلاة ، وأنّهم أهل الجهاد والأذان والخطبة الى غير ذلك ممّا
أوجب الفضل عليهنّ.
قال في الكشاف : وفيه دليل على أنّ الولاية انّما يستحق بالفضل لا
بالتغليب والاستطالة والقهر ، قلت هذا ممّا أجراه الله على لسانه فانّا لم نجد
فيمن تقدّم على على عليهالسلام بعد النبي صلىاللهعليهوآله فضيلة يستحق بها الولاية كما عرف في محلّه.
__________________
وكسبى أشار
إليه بقوله (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوالِهِمْ) في نكاحهنّ كالمهر والنفقة وجميع ما يحتاجون إليه.
قيل نزلت في
سعد بن الرّبيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت
زيد فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله فشكا إليه فقال عليه الصلاة والسّلام
لتقتصّ منه فنزلت فقال صلىاللهعليهوآله أردنا أمرا وأراد الله امرا ، والذي أراده الله خير. ورفع
القصاص ، ومن ثمّ قيل لا قصاص بين الرّجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها وقيل لا
قصاص في اللّطمة ونحوها وامّا في الجرح والقتل ففيه القصاص.
(فَالصَّالِحاتُ) من النّساء (قانِتاتٌ) مطيعات لله تعالى ولأزواجهنّ (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) مواجب الغيب أي يحفظن ما يجب حفظه من النفس والفرج
والمال في غيبة الأزواج لئلا يلحق الزّوج العار بسبب زناها ، ولئلا يلحق به الولد
الحاصل من نطفة غيره ، ولئلا يضيع ماله ومنزله بدخول ما لا ينبغي شرعا وعرفا وقيل
لاسرارهم ولا يبعد العموم.
وعن الصادق عليهالسلام قال قال النبي صلىاللهعليهوآله ما استفاد امرء مسلم بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة
تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله ،
ونحوه عن الباقر عليهالسلام.
وفي الصّحيح عن
الرضا ما أفاد عبد
فايدة خيرا من زوجة صالحة إذا رآها
__________________
سرّته ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله.
وعن النّبي صلىاللهعليهوآله : خير النّساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك ، وإن أمرتها
أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها وتلا الآية ونحوها من الأخبار.
(بِما حَفِظَ اللهُ) أي بما حفظ الله لهنّ على الأزواج من المهر والنفقة
والقيام بحقوقهنّ والذبّ عنهنّ أو بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحثّ
عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له فما على الأوّل موصولة وعلى الثّاني مصدرية.
(وَاللَّاتِي) من النّساء (تَخافُونَ) تعرفون بالقرائن والأمارات (نُشُوزَهُنَّ) ترفّعهنّ عن مطاوعة الأزواج ومخالفتهنّ إيّاهم من نشز
الشيء إذا ارتفع ومنه نشز للأرض المرتفعة ، وذلك بظهور أسبابه وأماراته كالتقطيب
في وجهه والتبرم بحوائجه المتعلّقة بالاستمتاع ومقدّماته كالتّنظيف المعتاد وإزالة
الشعر ولا أثر لامتناع الدّلال ولا للامتناع من حوائجه الّتي لا يتعلّق بالاستمتاع
بأن تمتنع أو تتثاقل إذا دعاها أو تغير عادتها في أدبها معه قولا أو فعلا ، إذ لا
يجب عليها ذلك ومعنى الخوف الظنّ ونقل في مجمع البيان عن الفراء أنّ معناه تعلمون نشوزهنّ قال وقد يكون الخوف
بمعنى العلم لان خوف الغش العلم بموقعه وهو أولى ، فإن مجرّد ظن النشوز لا يقتضي
ثبوت الاحكام الاتية.
(فَعِظُوهُنَّ) أولا بالقول والنصيحة بأن يقول لها اتّقى الله فإنّ لي
عليك حقا. وارجعي عمّا أنت عليه واعلمى ان طاعتي عليك فرض ، وان النّشوز يسقط
النفقة وحق القسم ونحو ذلك.
(وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضاجِعِ) في المراقد إذا لم ينجع الوعظ ولم يؤثر النصح بالقول
والمراد لا تدخلوهنّ تحت اللّحاف أو لا تباشروهنّ فيكون كناية عن الجماع
__________________
وقيل المضاجع المبايت أي لا تبايتوهنّ بمعنى اعتزال فراشه عنهنّ وهو خيرة
الشيخ في المبسوط والمروي عن ابى جعفر عليهالسلام ان الهجران في المضجع ان يحول إليها ظهره وهو قول على
بن بابويه في رسالته وابنه في المقنع قال العلامة في المختلف وكلا القولين عندي جائز ويختلف ذلك باختلاف الحال في
السّهولة والطّاعة وعدمهما.
(وَاضْرِبُوهُنَّ) إذا لم يؤثر الهجر في المضجع والمراد ضربا غير مبرح ولا
مدم ، وعن ابى جعفر عليهالسلام انه يضرب بالسّواك ونقل الشيخ في المبسوط عن جماعة ان
الضّرب يكون بمنديل ملفوف أو درّة ولا يكون بسياط ولا خشب والتّرتيب بين الأمور
المذكورة لازم كما يعطيه سياقها فان هذا من باب النهي عن المنكر فليكن بحكمه فيقدم
الأسهل فالأسهل.
ويؤيّده ما روى
عن على عليهالسلام انّه قال يعظها بلسانه فان انتهت فلا سبيل له عليها فإن
أبت هجر مضجعها فإن أبت ضربها فان لم تتّعظ بالضّرب يبعث الحكمين.
وقيل : ان
الترتيب مرعى عند خوف النشوز فأما عند تحقق النشوز ، فلا بأس بالجمع بين الكل.
(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) رجعن الى طاعتكم (فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) فلا تطلبوا عليهن سبيلا للضّرب والهجران والمراد انّه
يجب عليكم ازالة التعرض لهنّ بالأذى والتوبيخ والتجنّى وليكن ما كان منهنّ سابقا
كان لم يكن فإن التّائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيًّا كَبِيراً) لعل فايدة ذكر الوصفين بيان انتصاره لهنّ وقوته
__________________
على الانتصار إن هنّ ضعفن أو المراد انّه تعالى مع علوه وكبريائه يتجاوز عن
سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحقّ بالعفو عن أزواجكم أو انّه يتعالى ويكبر ان يظلم
أحدا وينقص حقّه.
ففي الآية
دلالة على عدم جواز الهجران والضّرب بدون النشوز لكنها دلالة بالمفهوم والجواز معه
بالمنطوق والأمر فيها جاز أن يكون للإباحة فان الضرب لا يكون مستحبا فضلا عن وجوبه
بل يمكن ان يكون مرجوحا فان العفو حسن نعم لو علم ترتب الفساد على تركه أمكن
الاستحباب بل الوجوب أيضا وحينئذ فيجري الأحكام الخمسة فيه يعلم ذلك بأدنى نظر.
الخامسة [النساء : ١٢٩]
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) تساووا بينهن في الميل القلبي بحيث لا يكون لاحديهنّ
ميل زائد على ميل الأخرى ويكون الميل والمعاشرة متساوية بينهن من غير زيادة
لاحديهن على الأخرى ليتحقق العدل على الحقيقة فإن ذلك متعذر ومن ثم نقل عنه صلىاللهعليهوآله انّه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول هذه قسمتى فيما
أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك وهو دال على انّه غير مقدور.
(وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على ذلك وبذلتم الجهد وبالغتم فيه فلا يجب عليكم تمام
العدل وغايته بل هو مرفوع عنكم (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) بترك ما هو المستطاع لكم فتجوروا على المرغوب عنها كلّ
الجور فان ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه يعنى ان اجتناب كل الميل ممّا هو في حدّ
اليسر والطّاقة فلا تفرطوا فيه وان وقع منكم التّفريط في العدل كلّه وفيه توبيخ
على وقوع التفريط في كل الميل مع إمكان عدمه.
(فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ) الّتي ليست بذات بعل يميل إليها ويعاشرها معاشرة الأزواج
__________________
ولا مطلقة خالية من الزّوج وفي الحديث عنه صلىاللهعليهوآله من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيمة
واحد شقّيه مائل.
(وَإِنْ تُصْلِحُوا) في القسمة بين الأزواج والتّسوية بينهنّ في النفقة
والكسوة وغير ذلك (وَتَتَّقُوا) في المستقبل عن المعاودة إلى الميل الّذي نهيتم عنه (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) عادته الغفران والرحمة إلى المذنبين فيغفر لكم ما صدر
منكم من التقصير بالتوبة أو تفضّلا منه تعالى.
ففي الآية
دلالة على تحريم الميل الكلىّ على احدى الزوجات وإيجاب التّسوية بحسب المقدور الا
انّه كالمجمل وتفصيله يعرف من الاخبار وعن أبي جعفر عليهالسلام انّ النبي صلىاللهعليهوآله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهنّ وانّ عليّا
عليهالسلام كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضى في بيت
الأخرى.
السادسة [النساء : ١٢٨]
(وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها) توقعت منها لما ظهر لها من الأمارات والمخايل (نُشُوزاً) ترفعا عن صحبتها وتجافيا عنها (أَوْ إِعْراضاً) بأن يريد طلاقها وذلك لبعض الأسباب من طعن في سن أو
دمامة أو شين في خلق أو خلق أو ملال أو طموح عين إلى أخرى أو نحو ذلك والمراد انّه
لا يمنعها شيئا من حقها الواجب ولا يوذيها بضرب ولا كلام ولكن يكره صحبتها لأحد
الأمور المذكورة.
(فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) لا اثم ولا حرج على كل واحد من الزّوجين (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) ان يتصالحا بأن يترك المرأة له قسمتها أو تضع عنه بعض
ما يجب لها من
__________________
نفقة أو كسوة أو نحو ذلك مستعطفة له به لتستديم المودّة معه أو يقيم في
حبالته فلا يطلقها وتبقى على الزّوجية.
وعن ابن عبّاس ان سودة بنت زمعة خشيت ان يطلقها رسول الله صلىاللهعليهوآله فقالت لا تطلقني واحبسنى مع نسائك ولا تقسم لي واجعل
يومي لبعض نسائك فنزلت.
وعن عائشة أنّها نزلت في المرأة تكون عند الرجل فيريدان يستبدل
بها غيرها فتقول أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حلّ من النفقة والقسمة كما فعلت سودة
بنت زمعة حين كرهت ان يفارقها رسول الله صلىاللهعليهوآله وعرفت مكان عائشة من قلبه فوهبت لها يومها.
وروى الكليني في الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال سألته عن قول الله عزوجل (وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) فقال هي المرأة يكون عند الرّجل فيكرهها فيقول لها انى
أريد أن أطلقك فتقول له لا تفعل انى اكره أن تشمت بي ولكن انظر ليلتي فاصنع بها ما
شئت وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك ودعني على حالتي فهو قوله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا
بَيْنَهُما صُلْحاً) وهو هذا الصّلح.
ونحوها رواية
على بن أبي حمزة قال سألت أبا الحسن عليهالسلام عن قول الله عزوجل (وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) فقال إذا كان كذلك فهمّ بطلاقها قالت له أمسكني وأدع
بعض ما عليك وأحلك من يومي وليلتي حلّ له ذلك ولا جناح عليهما.
ورواية أبي
بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال سألته عن قول الله عزوجل (وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) قال هذا يكون عنده المرأة لا يعجبه فيريد طلاقها فتقول
له أمسكني ولا تطلقني وادع لك ما على ظهرك وأعطيك من مالي وأحلل لك من يومي وليلتي
فقد طاب ذلك له.
__________________
ويمكن قصر ظاهر
الآية على مضمون هذه الأخبار وخصوصا الخبر الأوّل لقوله عليهالسلام وهو هذا الصّلح ولكن المفسرون عمموا الحكم في الطلاق
وغيره وقالوا : متى خافت المرأة بمعنى توقعت نشوز الرّجل وترفعه أو إعراضه
وانصرافه ببعض منافعها أو هجرانها أو نحوه لأمارات أوجب ذلك مثل طعن في سن أو
دمامة أو شين في خلق أو خلق أو نحوه جاز لهما ان يصلحا بينهما صلحا بترك القسمة أو
المهر أو نحو ذلك.
وقد يؤيّد
العموم ما في رواية زرارة قال سئل أبو جعفر عليهالسلام الى ان قال ومن تزوّج امرأة فلها ما للمرأة من النفقة
والقسمة ولكنّه إذا تزوّج امرأة فخافت منه نشوزا أو خافت ان يتزوج عليها أو يطلقها
فصالحته من حقّها على شيء من نفقتها أو قسمتها فانّ ذلك جائز لا بأس به.
وكيف كان فإذا
لم يفعل المرأة الصّلح بطيب من نفسها فليس له إلّا أن يمسكها بمعروف أو يسرحها
بإحسان ولم نر في كلام احد من المفسرين المشهور تفاسيرهم من فسّر الآية بما يوجب
الجائها الى الصّلح بإسقاط بعض حقوقها الواجبة فتوقّف بعض المتأخرين في ذلك غفول
عن لفظة خافت في الآية فإنّها ظاهرة في عدم وقوع ذلك وانّما هو بمجرد خوفها ولا
حاجة الى أن يحمل الآية على ترك بعض الأمور المتعارفة المتداولة بين الزوجين من
التلطف وحسن المعاشرة زائدة على الواجبات بان يتركه ويعمل محض الشّرع المرّ اعراضا
عنها وتوجها الى غيرها لما يجد فيها من المنفرات على أن ذلك غير لازم فانّ الخوف
لا يلزم أن يكون بمثل ذلك ويجوز أن يكون لغيره من الامارات وبالجملة إلجاء المرأة
إلى الصّلح بترك حقوقها الواجبة حرام قطعا ولا يحل له لو أخذه ولا خلاف فيه.
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة بعد حصول الألفة أو من النشوز والاعراض وسوء
العشرة أو خير من الخيور وهي جملة اعتراضية وكذا قوله (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ومن ثم لم يعتبر تجانسها والأولى للترغيب في المصالحة
والثانية لتمهيد العذر في المماكسة.
ومعنى إحضار
الأنفس الشّح ان الشح جعل حاضرا لها لا يغب عنها ابدا ولا ينفك عنه وهي مطبوعة
عليه والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها ومالها من الحقوق والرّجل
__________________
لا يكاد نفسه تسمح بأن يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها.
(وَإِنْ تُحْسِنُوا) بالإقامة على نسائكم وان كرهتموهن وأحببتم غيرهن
وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصّحبة (وَتَتَّقُوا) النشوز والاعراض ونقض حقوقهن (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الإحسان والتقوى (خَبِيراً) عليما به بالغرض فيه فيجازيكم عليه ، اقام كونه عالما
بأعمالهم مقام إثباتهم إيّاهم عليها الّذي هو في الحقيقة جواب الشرط اقامة للسّبب
مقام المسبب.
النوع الرابع
في أشياء من توابع النكاح وفيه آيات
الأولى [النور : ٣٠]
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ينقصوا من نظرهم وأصل الغض النقص والفعل مجزوم لأنّه
جواب شرط مقدر والتقدير قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم فإنك إن تقل لهم يغضوا كذا
قاله الطبرسي في المجمع واحتمل ان يكون مجزوما بتقدير لام الأمر أي ليغضّوا من
أبصارهم.
واحتمل بعضهم
أن يكون جزمه على انه جواب الأمر المحذوف اي قل غضوا يغضوا وهو كما ترى مع ان حذف
المقصود وإبقاء غير المقصود لا يعهد فيما بينهم.
وفي الكشاف انّ
من للتّبعيض والمراد غض البصر ممّا يحرم والاقتصار به على ما يحل ثمّ قال : وجوز
الأخفش ان يكون من مزيدة ولا يذهب عليك ان مقتضى التّبعيض غض بعض البصر دون بعض
وليس هو المراد وانّما المراد الغضّ عن بعض المبصر كما دلّ عليه قوله غضّ البصر
ممّا يحرم والاقتصار على ما يحل الّا ان يكون المراد من غضّ البصر النّقصان من
النّظر فلا يبصر الى ما حرمه الله واحتمل بعضهم ان يكون من لابتداء الغاية ولا
يبعد ترجيح كونها زائدة بحسب المعنى ويكون مفاد الآية غض البصر على العموم ويخرج
ما استثنى بأدلّة اقتضته وتخصيص الخطاب بالمؤمنين مع ان الكفّار مشاركوهم في
استحقاق العذاب على الترك للتشريف أو انّه نزل فقدان مقدمة التكليف منزلة فقدان
التكليف.
(وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ) نقل في مجمع البيان عن ابن زيد ان كل موضع في
__________________
القرآن ذكر فيه حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا في هذا الموضع فانّ المراد به
السّتر حتى لا ينظر إليها أحد ورواه على بن إبراهيم في تفسيره عن ابى بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال كل آية في القرآن في ذكر الفروج فهو من الزنا الّا
هذه الآية فإنّها من النّظر ولا يحلّ للرّجل ان ينظر الى فرج أخيه ولا يحل للمرأة
ان ينظر الى فرج أختها.
وعلى هذا فقد
يستدل بالآية على انّه لا يجب على الرجل الّا حفظ عورته وعلى تحريم ابدائها الى
غيره سوى ما استثنى في موضع أخر من الزّوجة والمملوكة أو الشهادة والعلاج أو نحو
ذلك فانّ مقتضى الآية تحريم إبداء العورة وإظهارها فقط والأصل عدم وجوب ما زاد
عليه فدل هذا على عدم وجوب ستر ما عدا الفرج على الرجال وان بدنهم ليس بعورة وان
حرّم على النساء رؤيته بمقتضى الأمر بغض أبصارهنّ.
وفي هذا دلالة
واضحة على ان عورة الرّجل ليست الا الفرج فإثبات ما زاد عليه يحتاج الى دليل واضح
يرفع حكم الأصل وليس الفرج الّا المخرجين وقيل انّ عورة الرّجل ما بين السرة
والركبة وقال أبو حنيفة الركبة عورة.
(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) انفع لدينهم ودنياهم وأظهر لما فيه من البعد عن الريبة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) لا يخفى عليه اجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم
وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها فليكونوا على حذر منه في كلّ حركة وسكون.
روى الكليني عن سعد الإسكاف عن ابى جعفر عليهالسلام قال استقبل شاب من
__________________
الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي
مقبلة فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم
في الحائط أو زجاجة فشق وجهه فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدّماء يسيل على صدره
وثوبه فقال والله لآتينّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولأخبرنه قال فأتاه فلما رآه رسول الله قال له ما هذا
فأخبره فهبط جبرئيل عليهالسلام بهذه الآية (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) الآية.
الثانية [النور : ٣١]
(وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) فلا ينظرن الى ما لا يحلّ لهن النّظر اليه ولا يخفى
أنّه كالمجمل إذ لا يعلم ما يحل وما لا يحلّ ويمكن حمله على المنع من النّظر إلى
الأجانب رأسا.
ويؤيّده حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة قال كنت عند النّبي صلىاللهعليهوآله وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد ان أمرنا
بالحجاب فقال احتجبا فقلنا يا رسول الله أليس أعمى فقال صلىاللهعليهوآله أفعمياوان أنتما.
كذا نقله بعض
أصحابنا والّذي رواه الكليني عن احمد بن ابى عبد الله قال استأذن ابن أم مكتوم على
النبي صلىاللهعليهوآله وعنده عائشة وحفصة فقال لهما قوما فادخلا البيت فقالتا
إنّه أعمى فقال ان لم يركما فأنتما تريانه.
__________________
ونقل العلامة
في التذكرة عن بعض علمائنا جواز النظر الى وجه الرّجل وكفيه لأن الرّجل في حقّ
المرأة كالمرأة في حقّ الرّجل قال وهو قول أكثر الشافعيّة واستدلّ برواية أم سلمة
السابقة وفي دلالتها على ذلك نظر بل الظاهر منها العدم مطلقا.
ثمّ قال وقال
بعضهم انّها تنظر الى ما يبدو منه عند المهنة دون غيره إذ لا حاجة اليه وقال بعضهم
انّها تنظر الى جميع بدنه الّا ما بين السرة والركبة وليس كنظر الرّجل إلى المرأة
لأنّ بدنها عورة في نفسه ولذلك يجب ستره في الصلاة ولأنّها استويا لأمر الرجل
بالاحتجاب كالنّساء انتهى ولا يخفى ما فيه.
(وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ) بالتستر وعدم الابداء على ما سلف أو عن الزنا ولعلّ
تقديم غضّ البصر على حفظ الفرج لما انّ النظر رائد الفجور والبلوى فيه أشدّ وأكثر
ولا يكاد يقدر على الاحتراس منهن.
(وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ) اي مواضعها (إِلَّا ما ظَهَرَ
مِنْها) وبعد الاستثناء يبقى الباطن فيجب عدم ابدائه للأجانب.
قال في الكشاف : والزينة ما تزيّنت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب
فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والخضاب والكحل فلا بأس بإبدائه للأجانب.
ثم قال فذكر
الزينة دون مواقعها للمبالغة بالتصون والتستر لأنّ هذه الزين واقعة على مواضع من
الجسد لا يحلّ النظر إليها لغير المذكورين في الآية وهو الذّراع والساق والعضد
والعنق والرّأس والصّدر والأذن فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم انّ النظر إذا لم
يحل إليها لملابستها تلك المواقع ـ بدليل انّ النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال
في حلّه ـ كان النظر الى المواقع أنفسها متمكّنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة
شاهدا على انّ النّساء حقّهن ان يحتطن في سترها ويتّقين الله في الكشف عنها.
ثم قال بعد
أسطر : فإن قلت ما المراد بموقع الزينة ذلك العضو كلّه أم المقدار الّذي يلابسه
الزينة منه.
__________________
قلت الصّحيح
انّه العضو كلّه كما فسرت مواقع الزينة الخفيّة وكذا مواقع الزينة الظّاهرة الوجه
موقع الكحل في عينه والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه والحمرة في خديه والكف
والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحنا وانّما تسومح في هذه المواضع لأنّ سترها
فيه حرج فإنّ المرأة لا يجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة الى كشف
وجهها خصوصا في الشّهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور
قدميها وخاصّة الفقيرات منهنّ وهذا معنى (إِلَّا ما ظَهَرَ
مِنْها) أي إلّا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه
الظّهور.
قلت مع قطع
النظر عن تصحيح الضمير في قوله وشاربيه وحاجبيه ليس في شيء ممّا ذكره تقريب الى
استثناء ما ذكره من المواضع فان استثناء الوجه بكونه موقع الكحل لا يخفى ما فيه إذ
موقع الكحل العين فقط لا الوجه بتمامه الّا ان يريد ان موقع الكحل العين والخضاب
بالوسمة الحاجب والحمرة الخد ومجموع الثلثة تمام الوجه.
لكن يبقى
الكلام في انّ المراد بالزينة ما ذكره واحتمال ارادة الثّياب قائم كما ذكره بعضهم
وكون هذه المواضع ممّا يضطر إليها في بعض الأحوال لا يوجب استثناءها من المواضع
المحرمة اختيارا فانّ مع الضرورة يجوز إبداء الباطنة أيضا.
مع انّ في
اعتبار العادة نظرا فإنّها ان أريد بها ما كانت في زمن الرّسول صلىاللهعليهوآله فغير معلومة وان أريد بها ما كانت الآن بالنّسبة إلى
الفقيرات فهي أوسع ممّا ذكره لأنّهم قد يبدون الرقبة بل الصّدر والساقين فتأمّل
واعتبار العادة الجبلّية غير معلوم انحصارها فيما ذكره بل الظاهر الزّيادة عليه.
والحق انّ
الآية لا تخلو من إجمال والرّوايات أيضا مختلفة في ذلك ولا يبعد استثناء
__________________
الكفين والعينين والحاجبين كما اقتضته صحيحة الفضيل بن يسار قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الذراعين من المرأة هما من الزينة الّتي قال الله
تعالى (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) قال نعم وما وراء الخمار من الزينة وما دون السّوارين
فان ما وراء الخمار ظاهر في الحاجبين والعينين فقط وما دون السّوارين ظاهر في
الكف.
وفي موثقة
زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله تبارك وتعالى (إِلَّا ما ظَهَرَ
مِنْها)
__________________
قال الزينة الظاهرة الكحل والخاتم.
اما استثناء
الوجه بتمامه وان اختاره أكثر أصحابنا فلا لعدم ما يدلّ عليه والرواية الواردة به
ضعيفة مرسلة فلا يصار إليها في استثناء ذلك بعد ما تقدم وقد نقل العلامة في
التذكرة عن الشيخ جواز النظر الى وجه الأجنبية وكفيها على كراهية إذا لم يخف
الفتنة لقوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) قال وهو مفسّر بالوجه والكفين ولأن ذلك ممّا تعم به
البلوى ولإطباق الناس في كلّ عصر على خروج النّساء على وجه يحصل منه بدوّ ذلك من
غير نكير ونقله عن أكثر الشّافعيّة.
ونقل عن باقيهم
قول آخر بالتحريم لاتفاق المسلمين على منع النّساء من ان يخرجن سافرات ولو حلّ
النظر لينزلن منزلة الرجل ولأن النظر إليهنّ مظنة الفتنة وهي محلّ الشّهوة فاللايق
بمحاسن الشّرع صم الباب والاعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية ثمّ قوى هذا
القول.
والشيخ في
التبيان بعد ان نقل الأقوال في تفسير الزّينة قال واجمعوا على
انّ الوجه والكفين ليس بعورة لجواز إظهاره في الصّلوة ثمّ قال والأحوط قول ابن
مسعود وهو كون المراد بالزينة الظّاهرة الثّياب وهذا يشعر بتوقفه في استثناء الوجه
والكفين في النظر.
وممّا ذكرنا يظهر
ما في كلام القاضي من النظر حيث قال والمستثنى هو الوجه والكفين لأنّها
ليست بعورة والأظهر انّ هذا في الصّلوة لا في النظر فان كلّ بدن الحرة عورة لا
تحلّ لغير الزّوج والمحرم النظر إلى شيء منها الّا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة
ووجه النظر عدم ما يوجب تقييد الآية بحال الصّلوة مع إطلاقها.
فإن قيل الموجب
للتقييد هو الجمع بين كون بدن الحرة كلّه عورة وبين جواز كشف الوجه والكفين في
الصّلوة قلنا جواز كشفه في الصلاة لا يوجب تقييد الإطلاق بالصّلوة هنا بل يؤيّد
جواز النظر فإن العورة يجب سترها في الصّلوة فليس هو من العورة
__________________
فيجوز النظر اليه ومن هنا لم يتعرّض صاحب الكشاف لهذا التّقييد.
والحقّ ان
المقام في غاية الأشكال والاحتياط غير خفيّ على من قصده.
(وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ) مقانعهنّ جمع خمار (عَلى جُيُوبِهِنَّ) ليحصل بذلك ستر
__________________
الصدور والنحور منهنّ على ما قيل ان جيوبهنّ كانت واسعة تبدو منها نحورهنّ
واعناقهنّ وما حواليها وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة فامرن ان يسدلنها
من قدامهنّ حتى يغطيها.
__________________
ويجوز ان يراد
بالجيوب الصدور تسمية بما يليها ويلابسها ومنه قولهم ناصح الجيب وقيل انّهن أمرن
بذلك ، ليسترن شعورهنّ وقرطهنّ واعناقهنّ.
(وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ) يعنى الزينة الباطنة الّتي لا يجوز كشفها في الصّلوة
كذا
__________________
في المجمع ولعلّ تكرير النّهى عن الأبداء لبيان من يحلّ له الأبداء ومن لا
يحلّ له (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) فإنّهم المقصودون بالزينة ولهم ان ينظروا الى جميع
بدنهن (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ
آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ)
__________________
المراد الآباء وان
علوا والأبناء وان سفلوا والأخ أعم من ان يكون من الطرفين أو أحدهما. والظاهر أن
هؤلاء مستثنون نسبا ورضاعا للصّدق الشرعي ولكونهم محارم يحرم النكاح بينهم.
__________________
قال في الكشاف
: ولم يذكر الأعمام والأخوال ليلا يصفها العم عند ابنه والخال كذلك نقله عن الشعبي
ثمّ قال ومعناه ان سائر القرابات يشرك الأب والابن في المحرمية إلّا العمّ والخال
وأبناؤهما فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم فيدانى
__________________
تصوره لها بالوصف نظره إليها وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب
الاحتياط عليهنّ في التستر انتهى كلامه وهو جيد.
وحيث انّ
المراد من الزينة موضعها فلا يبعد أن يستفاد من الآية جواز النظر إلى مواضعها فقط
فلا يتعدّى الى غيرها وخصوصا المواضع الخفيّة في أكثر الحالات
__________________
والقريبة من العورة وهذا اولى ممّا قيل ان المستثنى لغير البعولة جميع
البدن إلّا العورة فتأمّل فيه.
وفي الكشاف أنّ
الزينة الخفيّة كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح للرأس والقرط
للأذن وقد ذكر انّ المراد بالزينة مواقعها مبالغة على ما
__________________
عرفت ثم قال وانّما تسومح في الزينة الخفيّة أولئك المذكورون لما كانوا
مختصين به من الحاجة المضطرة الى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلّة توقع الفتنة من جهالهم
ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرايب وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار
للنزول والركوب
__________________
وغير ذلك وظاهر هذا الكلام اختصاص جواز النّظر لهؤلاء بمواقع الزينة الخفية
دون ما عداها وأصرح منه كلام القاضي.
(أَوْ نِسائِهِنَّ) يعني النّساء اللّاتي في خدمتهنّ من الحرائر والإماء
والإضافة لهذه الملابسة فيشمل الكافرة ولا فرق بين من في خدمتهن منهن وغيرهنّ وقيل
المراد
__________________
بنسائهن المؤمنات دون الكافرات وان كن ذميات ومقتضى ذلك عدم جواز تجرّد
المسلمة بين نساء أهل الذّمة ولا تبدي للكافرة إلّا ما تبدي للأجانب.
وكتب عمر الى ابى عبيدة ان يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام
مع المؤمنات ونقله العلامة في التذكرة قولا عن الشيخ وهو أحد قولي الشّافعية لقوله
تعالى (أَوْ نِسائِهِنَ) وليست الذّميات من نسائنا ثمّ قال والأقوى الجواز كنظر
المسلمة الى المسلمة وقد يرجح القول الأوّل لاقتضاء الإضافة ذلك فتأمّل فيه (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) والظاهر انّه عنى بنسائهن وما ملكت ايمانهن من في
صحبتهنّ وخدمتهنّ من الحرائر والإماء والنساء كلّهن سواء في حلّ نظر بعضهن الى بعض
وقيل ما ملكت ايمانهن هم الذكور والإناث جميعا.
وعن عائشة أنّها أباحت النظر إليها لعبيدها حتّى انّها كانت تمشط
والعبد تنظر إليها.
__________________
وعن سعيد بن
المسيّب مثله ثمّ رجع وقال لا يغرنكم آية النّور فان المراد بها
الإماء.
وهذا هو الصحيح
لأنّ عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيّا كان أو فحلا وتوضيحه انّ تحريم تزويج
العبد لمولاته عارض غير مؤبّد كمن عنده أربع نسوة لا يجوز له التزوج بغيرهنّ فلمّا
لم يكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب.
قلت وهذا هو
المشهور بين أصحابنا ورووا في الآية عن أئمتهم عليهمالسلام انّ المراد بما ملكت أيمانهن الإماء دون العبيد
الذكران.
نعم في بعض
أخبارنا ما يدلّ على جواز نظر العبد الى مولاته لكنها محمولة على التقية أو على
صغر المملوك أو كبره وهرمة بحيث لم يبق فيه شهوة فإن قيل إذا أريد بما ملكت
ايمانهن الامآء يلزم التكرار ضرورة أنّ الإماء من النساء قلنا المراد من النساء
الحرائر فلا تكرار.
(أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) أي الحاجة الى النّساء (مِنَ الرِّجالِ) الذين يتبعونك لينالوا من طعامك وهم البله المولى عليهم
أو الذين بهم عنن ولا حاجة لهم في النساء لعجزهم أو الشيوخ الّذين انتهت شيخوختهم
الى حدّ الهرم ولا شهوة لهم ويمكن خصوص الخصى المملوك إذا كان ممسوح الذكر
والأنثيين لأنّ الحاجة الى النساء منتفية عنه ويؤيّده ما رواه زرارة في الصحيح قال سألت أبا جعفر عن قول الله عزوجل : (أَوِ التَّابِعِينَ
__________________
غَيْرِ
أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) إلى آخر الآية قال : الأحمق الذي لا يأتي النساء وروى
عبد الرحمن بن ابى عبد الله قال : سألته عن اولى الإربة قال : الأحمق المولى عليه
الّذي لا يأتي النساء.
وروى العامة عن زينب بنت أمّ سلمة انّ النبي صلىاللهعليهوآله دخل عليها وعندها
__________________
مخنّث فاقبل على أخي أمّ سلمه وقال يا عبد الله ان فتح الله لكم الطائف
أدلك على بنت غيلان فإنّها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، عنى عكن بطنها فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يدخلنّ عليكم هذا فأباح النبي دخول المخنث عليهنّ
حين ظنّ انّه من غير اولى الإربة فلما علم انّه يعرف أحوال النساء واوصافهنّ علم
انّه من اولى الإربة فحجبه.
وقريب من هذا
الحديث رواه الكليني في الكافي ومقتضى الآية جواز نظرهم
__________________
الى موضع الزينة الباطنة ، إذ هم داخلون فيمن استثنى له جواز النظر الى ذلك
كما يقتضيه سياق الآية قيل وعلى هذا فلا يصح ما في الكشاف انّهم شيوخ صلحاء إذا
كانوا معهم غضوا أبصارهم لأنّ الكلام فيمن يجوز له الكشف ويجوز له النّظر إليهن
كما يقتضيه السياق وفيه نظر وانتصاب غير على الحالية ويجوز جرها على الوصفية وقرئت
بالوجهين معا واحتمل في الكشاف أن يكون نصبها على الاستثناء وفيه تأمّل.
(أَوِ الطِّفْلِ) وضع الواحد موضع الجمع بناء على انّ المراد الجنس الّذي
لا ينافي الجمع ونبه عليه قوله (الَّذِينَ لَمْ
يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) إمّا من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه اي لا يعرفون ما
العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها وامّا من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على
القرآن أخذه وأطاقه أي لم يبلغوا أو ان القدرة على الوطي كذا في الكشاف.
__________________
ولعلّ المراد
بأوان القدرة البلوغ الى حدّ المراهقة فلو كان مراهقا لم يجز له النّظر الى محل
الزينة كغيره إذ هو في حكم البالغ فيبطل ما ذهب اليه بعض الشّافعيّة من جواز
النّظر ما لم يبلغ نظرا الى ثبوت الحل فلا يرفع الا بسبب ظاهر وهو البلوغ.
(وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ليتقعقع خلخالها فيعلم انّها ذات خلخال فان ذلك يورث
ميلا في الرّجال وتحريكا في شهواتهم.
وفي الكشاف
كانت المرأة تضرب برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم انّها ذات خلخال وقيل كانت تضرب
بإحدى رجليها الأخرى ليعلم انّها ذات خلخالين قال وإذا نهين عن إظهار صوت الحليّ
بعد ما نهين عن إظهار الحلي علم بذلك انّ النّهى عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ.
وبالجملة
يستفاد منه ان كلّ ما يجري إلى الفتنة يجب الاحتراز عنه فانّ الرجل الّذي يغلب
عليه الشهوة إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعيا له الى مشاهدتهن ومنه يعلم وجوب
إخفاء صوتهنّ إذا لم يؤمن الفتنة امّا على تقدير الأمن من الفتنة ففي وجوب إخفاء
الصّوت خلاف فقيل انّه ليس بعورة لأنّ نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كن يروين الاخبار للرّجال وقيل انّه عورة والاحتياط غير
خفي ومقتضى النّهى عن الضرب بأرجلهنّ من غير تقييد بقصد الريبة أو لا تحريمه كذلك
أيضا.
(وَتُوبُوا إِلَى
اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) إذ لا يكاد يخلو احد منكم عن تفريط سيّما في الكف عن الشهوات
والنظر المحرم (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) اي تفوزون بثواب الجنّة أو بسعادة الدّارين قال في
الكشاف أن أوامر الله ونواهيه في كلّ باب لا يكاد العبد الضعيف
يقدر على مراعاتها وان ضبط نفسه واجتهد ولا يخلو من تقصير يقع منه فلذلك وصّى
المؤمنين بالتوبة وبالاستغفار وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا قال وعن ابن
عبّاس توبوا عمّا كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدّنيا والآخرة.
ثم قال فان قلت
قد صحّت التوبة بالإسلام والإسلام يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة قلت أراد بها
ما يقوله العلماء ان من أذنب ذنبا ثمّ تاب عنه يلزمه كلّما ذكره ان
__________________
يجدد عنه التوبة لأنّه يلزمه أن يستمرّ على عزمه وندمه الى ان يلقى ربّه
انتهى.
ولعلّه يريد
بتجديد التوبة كلّما ذكره تجديد العزم على تركه في الأوقات المستقبلة بمعنى أن لا
يخطر بباله عزم فعله في شيء من الأوقات فإنّ العزم على فعل القبيح ولو بعد سنين
متطاولة حرام قطعا كما قالوه لا معنى التوبة حقيقة ويمكن ان يكون المراد بالتوبة
هنا الانقطاع الى الله تعالى ويؤيّده ما روى عنه صلىاللهعليهوآله انّه قال يا ايّها النّاس توبوا الى ربّكم فإنّي أتوب
الى الله في كلّ يوم مائة مرة أورده مسلم في الصّحيح كذا في مجمع البيان.
الثالثة (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في المجمع : معناه مروا عبيدكم وإمائكم إن يستاذنوا عليكم إذا
أرادوا الدّخول الى مواضع خلوتكم عن ابن عبّاس وقيل أراد العبيد خاصّة وهو المروي
عن ابى جعفر عليهالسلام وابى عبد الله عليهالسلام قلت على هذا لا حاجة في النساء إلى الاستئذان كما دلّت
عليه الرّواية.
وهي ما رواه
زرارة عن ابى عبد الله عليهالسلام في قوله عزوجل (الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) قال هي خاصّة في الرّجال دون النّساء قلت فالنساء
يستأذن في هذه الثلث ساعات قال لا ولكن يدخلن ويخرجن الحديث.
وفي صحيحة
الفضيل بن يسار عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) قيل من هم فقال هم المملوك من الرجال والنساء والصّبيان
الّذين لم يبلغوا
__________________
يستأذنون عليكم عند هذه الثلث عورات الحديث.
وهو دال على
استيذان النساء أيضا ويترجح لموافقتها ظاهر الآية من العموم بالنسبة إليهما معا
وعدم اختصاصها بالعبيد وحينئذ فيكون إطلاق الّذين مع كونه للمذكر على المجموع
باعتبار التغليب فإنّه باب واسع وربما اثبت بعضهم الاستيذان للنّساء بطريق
الأولوية لأنهنّ في باب حفظ العورة أشد حالا من الرّجال ثم إنّ ظاهر (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يشمل البالغين والصّغار فالأمر للبالغين على الحقيقة
وللصّغار على وجه التّأديب كما يؤمرون بالصّلوة لسبع وهو تكليف لنا بما فيه من
المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ وقد ينقل عن ابن عباس بانّ المراد الصغار وليس للكبار
ان ينظروا الى مماليكهم إلّا الى ما يجوز للحرّ ان ينظر إليه.
(وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) والصّبيان الّذين لم يبلغوا أمر الأحرار عبر عن البلوغ
بالاحتلام لأنّه أقوى دلائله سواء كانوا محارم أو أجانب لكن بشرط التّمييز كما
قاله في المجمع فانّ من لا تمييز له ولا شعور لا استيذان له لعدم حصول ما هو
المقصود من الاستيذان فيه.
(ثَلاثَ مَرَّاتٍ) في مجموع ساعات اللّيل والنّهار (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لانه وقت القيام من المضجع وطرح ما ينام فيه من الثياب
ولبس ثياب اليقظة ومحلّه النّصب على انّه بدل من ثلث مرّات أو الرفع على انّه خبر
مبتدء محذوف اي هن من قبل صلاة الفجر.
(وَحِينَ تَضَعُونَ
ثِيابَكُمْ) اى ثياب اليقظة للقيلولة (مِنَ الظَّهِيرَةِ) بيان للحين (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ
الْعِشاءِ) لأنّه وقت التجرّد عن اللباس والالتحاف باللحاف ولأنّه
وقت خلو الرجل بامرأته والمراد تمام اللّيل.
(ثَلاثُ عَوْراتٍ
لَكُمْ) ان قرئ بالنصب كما هو قراءة أهل الكوفة الّا حفصا فعلى
انّه بدل من ثلث مرات وصح الابدال مع كونه ثلاث مرات زمان وثلث عورات ليس كذلك
لأنّه بتقدير أوقات ثلث عورات حذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه.
وان قرئ بالرفع
كما هو قراءة الباقين فعلى انّه خبر مبتدء محذوف اي هذه
ثلث عورات أو مبتدء خبره ما بعده سمّى كلّ واحد من هذه الأحوال عورة لأنّ
الناس يختل تسترهم فيها والعورة الخلل ومنها الأعور المختل العين.
وفي المجمع
سمّى سبحانه هذه الأوقات عورات لأنّ الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته قال
السّدي كان أناس من الصّحابة يعجبهم ان يواقعوا نسائهم في هذه السّاعات ليغتسلوا
ثم يخرجوا إلى الصّلوة فأمرهم الله سبحانه ان يأمروا الغلمان والمماليك ان
يستأذنوا في هذه السّاعات الثلث.
وقيل انّ سبب
النزول ان رسول الله صلىاللهعليهوآله بعث غلاما الى عمر ليدعوه فوجده نائما في البيت فدفع
الباب فلم يستيقظ فدار الباب من خلفه وحركه فلم يستيقظ ثم دفع الباب فانكشف من عمر
شيء وعرف عمر انّ الغلام راى ذلك منه فقال وددت انّ الله نهى أبناءنا ونساءنا
وخدمنا ان يدخلوا علينا في هذه الساعة إلّا بإذن ثمّ انطلق معه الى رسول الله صلىاللهعليهوآله فوجد قد نزلت الآية وقيل غير ذلك.
وإطلاق
الاستيذان يقتضي عدم تعيّن عبارة فيه ، فيتاتى بكلّ ما يحصل به وفي بعض الأخبار
انّه بالسلام وهو على الاستحباب.
ثمّ ان ظاهر
الأمر الوجوب ولا نزاع فيه بالنّسبة إلى البالغ إمّا الأطفال فقيل بالوجوب عليهم
أيضا ونقله الشّيخ في المجمع عن الجبائى ثم قال وقال قوم في ذلك دلالة على انه
يجوز ان يؤمر الصّبي الّذي يعقل بفعل الشّرائع وينهى عن ارتكاب القبائح لأنّه
تعالى امره بالاستيذان وقال آخرون ذلك أمر للآباء ان يأخذوا الأولاد بذلك ويمكن ان
يكون الأمر في الأطفال للإرشاد وتعليم المعاشرة فتأمّل.
وبالجملة ثبوت
الوجوب على الأطفال هنا مخالف لقواعد التكليف الّا ان يقال المخاطب بهذا الخطاب
المميّز على ما عرفت فيمكن توجّه الأمر إليه لفهمه وفيه ما فيه.
__________________
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ) أيّها المؤمنون المدخول عليهم (وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ) بعد هذه الأوقات الثلثة في ترك الاستيذان فيجوز الدخول
بغير استيذان.
وفي صحيحة
الفضيل بن يسار عن ابى عبد الله عليهالسلام في قوله تعالى (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، الآية قال هم المملوكون من الرّجال والنّساء
والصّبيان الّذين لم يبلغوا يستأذنون عليكم عند هذه الثلث عورات ويدخل مملوككم
وغلمانكم من بعد هذه الثلث عورات بغير اذن ان شاؤا.
وظاهرها جواز
الدخول في غير الأوقات الثلثة مطلقا وخصّ بعضهم ذلك بالمملوك الصغير فإنّه يباح له
الدّخول كما أشرنا إليه هذا.
وإطلاق الآية
مقيّد بما إذا لم يعلم الدّاخل انّ المدخول عليه منكشف العورة أو على حالة يقرب
منها والا لم يجز أيضا كما في غيرها ولعلّ تركه لندوره ثمّ انّه تعالى بين العذر
في ترك الاستيذان بعدهنّ بقوله.
(طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ) خبر مبتدا محذوف والجملة استيناف مبينة للعذر الموجب
للترخّص في ترك الاستيذان بعدهنّ يعنى ان بكم وبهم حاجة الى المخالطة والمداخلة
يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام بحيث يكثر دخولهم وخروجهم وتردّدهم
فلوحتم الأمر بالاستيذان في كلّ وقت لأدّى إلى الحرج.
وفي هذا بيان
لأنّ الجناح بمعنى الحرج ولنفيه عن الفريقين معا في ترك الاستيذان وذلك لشدّة المخالطة
والمداخلة الموجبة لذلك قال في الكشاف فإذا رفعت ثلث عورات كان ليس عليكم جناح في
محلّ الرّفع على الوصف والمعنى هن ثلث عورات مخصوصة بالاستيذان.
قلت وقد أشرنا
انّه يجوز ان يكون مبتدا خبره ما بعده فيكون في محلّ الرفع على الخبريّة أيضا ثمّ
قال وإذا نصبت لم يكن له محلّ وكان كلاما مقدّرا للأمر بالاستيذان في تلك الأحوال
قلت أراد بكونه مقدّرا انّه مؤكّد لذلك فيمتنع العطف بينهما لكمال الاتّصال.
__________________
(بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض وحذف الخبر
أو الفعل لأن الطوافون يدلّ عليه كذا في الكشاف (كَذلِكَ) مثل ذلك التّبيين الّذي بينه لكم في هذه الآية (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) اي الدلالات على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يصلحكم من الأمور (حَكِيمٌ) فيما يشرع لكم من الأحكام قال القاضي وليس في هذه الآية ما ينافي الاستيذان فينسخها لأنّه في
الصّبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين أراد بآية الاستئذان قوله
تعالى (لا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) فإنّها في الأحرار على ما سيجيء.
ولعلّ وجه
توهّم النسخ أن آية الاستيذان اقتضت وجوب الاستئذان في كلّ وقت وهذه الآية تدلّ
على وجوبه في الأوقات الثلثه.
والحق ان توهم
النسخ هنا بعيد فإنّه انّما يكون مع التنافي كما ذكره ولا تنافي بينهما لأنّ ما
تناوله الآية الأولى من المخاطبين غير ما تناوله الآية الثّانية فإن قيل إذا كان
قوله الّذين ملكت ايمانكم يدخل فيه البالغ يلزم النسخ قلنا ليس كذلك لأنّ الآية
الأوّل لا يدخل فيها العبيد والإماء بل الأحرار فقط فأين النسخ.
الرّابعة (وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ) اي من الأحرار دون المماليك فان حكمهم سلف سابقا (الْحُلُمَ) وبلوغ الحلم يراد به زمان يمكن فيه الاحتلام وقد تقدم
حدّه من الزّمان وذلك ببلوغ الرّجل خمس عشرة سنة والأنثى تسعا وقيل غير ذلك على ما
سلف (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات كما يعطيه الإطلاق (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) الّذين بلغوا من قبلهم واحتمل في الكشاف أن يكون المراد
الّذين ذكروا من قبلهم في قوله (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) الآية.
والمعنى انّ
الأطفال مأذون لهم في الدّخول بغير الإذن إلّا في العورات الثلث فإذا اعتاد الأطفال
ذلك ثمّ خرجوا من حدّ الطفولية بان يحتلموا أو يبلغوا السن الّذي يحكم عليهم فيها
بالبلوغ وجب ان يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على
__________________
ان يستاذنوا في جميع الأوقات كما في الرّجال الكبار الّذين لم يعتادوا
الدّخول عليكم الّا بإذن.
وفي صحيحة
محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليهالسلام قال ليستأذنكم الّذين ملكت
__________________
ايمانكم الآية الى ان قال ومن بلغ الحلم منكم فلا يلج على امه ولا على أخته
ولا على بنته ولا على من سوى ذلك إلّا بإذن ولا يأذن لأحد حتّى يسلّم فان السّلام
طاعة
__________________
الرّحمن ونحوها من الاخبار.
__________________
__________________
قال في الكشاف وهذا عندهم كالشريعة المنسوخة وعن ابن عباس آية لا يؤمن
بها أكثر النّاس آية الأذن وانّى لآمر جاريتي أن تستأذن علىّ وسأله رجل استأذن ـ على
أختي قال نعم وإن كانت في حجرك تمونها وتلا هذه الآية.
وعن ابن مسعود
عليكم ان تستأذنوا على آبائكم وأمّهاتكم وأخواتكم وفي أخبارنا قريب من ذلك أيضا.
قال القاضي واستدلّ به من أوجب استيذان البالغ على سيدته ولعلّ وجه
الدلالة عموم اللّفظ.
ثمّ قال وجوابه
أن المراد بهم المعهودون الّذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم وحاصله أنّ
المراد بهم الأحرار المقابلون للآية السّابقة في المماليك.
ويؤيّده ما في
رواية جراح عن الصادق عليهالسلام قال ليستأذن عليك خادمك إذا بلغ الحلم في ثلث عورات إذا
دخل في شيء منهنّ ولو كان بيته في بيتك الحديث لظهور أنّ المراد بالخادم المملوك (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستيذان.
الخامسة (وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ) وهي العجائز الّتي قعدن عن الحيض والحمل جمع قاعد لا
قاعدة وذلك لشيئين إحداهما ان ذلك كالطّالق والحائض وما أشبههما من الصفات
المختصّة بالمؤنث فلم يحتج إلى علامة التّأنيث فإن أردت الجلوس قلت قاعدة لأنّها
تشارك
__________________
الرّجال في ذلك فاحتيج الى التمييز والثاني ان ذلك على معنى النسبة أي ذات
قعود كما يقال نابل وذارع اى ذو نبل وذو ذرع لا تريد به تثبيت الفعل.
(اللَّاتِي لا
يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن فيه لكبرهن (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ
جُناحٌ) حرج أو أثم (أَنْ يَضَعْنَ
ثِيابَهُنَّ) اى الثّياب الظّاهرة كالملحفة والجلباب الّذي فوق
الخمار وقرء ابن عبّاس ان يضعن جلابيبهنّ والجملة خبر المبتداء ، وصحّ دخول الفاء
في الخبر لتضمّن المبتدأ معنى الشرط فانّ اللّام فيه بمعنى الموصول.
(غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ
بِزِينَةٍ) غير قاصدات بوضع ثيابهنّ إظهار زينتهنّ الّتي أمر الله
باخفائها في قوله (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ) بل مجرّد التخفيف عن أنفسهنّ فإظهار الزّينة في القواعد
وغيرهن محظور.
وأصل التبرّج
التكلّف في إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها والتبرّج سعة
العين يرى بياضها محيطا بسوادها كلّه لا يغيب منه شيء إلّا انّه خصّ بتكشف المرأة
زينتها ومحاسنها للرجال وقال الشيخ في التبيان التبرّج إظهار المرأة من محاسنها ما
يجب عليها ستره.
(وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ) عن وضع الجلباب (خَيْرٌ لَهُنَّ) من الوضع لأنّه أبعد من التهمة لما فيه من زيادة
التحفّظ في السّتر وذلك أنهنّ في الجملة مظنّة شهوة وفتنة وفي الكشاف : لما ذكر
الجائز عقبه بالمستحبّ بعثا منه على اختيار أفضل الطّاعات وأحسنها كقوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) هذا.
ومقتضى ما ذكر
انّ القواعد يباح لهن وضع الثّياب الظاهرة ويحرم إظهار مواضع الزّينة الخفيّة ولا
يخفى انّ هذا لا يختصّ بالقواعد فانّ مقتضى ما سبق اعنى قوله ولا يبدين زينتهنّ
إلّا ما ظهر منها جواز إظهار الزّينة الظاهرة للمؤمنات قاعدات وشابات والظاهر من
سوق الآية انّ للقواعد أحكاما من النّساء يختص بها ولا تشارك غيرها.
قال الشيخ في
التبيان : وانّما ذكر القواعد من النّساء لأنّ الشابة يلزمها من التستر أكثر ممّا
يلزم العجوز ومع ذلك فلا يجوز ان تبدي عورة لغير محرم كالساق
والشعر والذراع انتهى ، ومن هنا يزيد الإشكال في إجمال الآية السّابقة
باعتبار ما يستثنى منها.
وحمل بعضهم هذه
الآية على انّ القاعدات من النّساء مستثناة من الحكم السّابق الّذي هو وجوب التستر
وتحريم كشف الزينة الباطنة ومواضعها المتقدمة فلا يحرم عليها كشف مواضع الزّينة
الباطنة المحرم على غيرهما ولكن يشترط ان لا تبرج بزينة أي لا يقصد إظهارها.
وفيه نظر
والاقدام عليه مشكل فانّ مثله يتوقّف على دليل واضح بعد ورود الأمر بالسّتر على
الوجه السّابق مع أنّه يمكن أن يكون الفرق بين العجوز والشابة أن العجوز يباح لها
وضع الثّياب الظاهرة وإبداء وجهها وكفيها بل قدميها ولا كذلك الشابة.
وينبه عليه
باقي الأخبار المعتبرة الاسناد كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبى جعفر عليهالسلام قال في قوله تعالى (وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) ما الّذي يصلح لهنّ ان يضعن من ثيابهنّ؟ قال الجلباب.
وحسنة الحلبي
عن ابى عبد الله عليهالسلام انّه قرأ أن يضعن ثيابهنّ قال الخمار والجلباب قلت بين
يدي من كان فقال بين يدي من كان غير متبرجة بزينة الحديث.
وحسنة محمّد بن
أبي حمزة عن ابى عبد الله عليهالسلام قال القواعد من النّساء ليس عليهن جناح ان يضعن ثيابهنّ
قال يضع الجلباب وحده.
وفي حسنة حريز
عنه عليهالسلام انّه قرأ أن يضعن من ثيابهنّ قال الجلباب والخمار
__________________
إذا كانت المرأة مسنّة ، فإن وضع الخمار صريح في جواز كشف الوجه ونحوه ممّا
هو قريب منه لا مطلقا وفي هذا ابطال لما حمله ذلك البعض.
بقي الكلام في
شيء وهو انّه تعالى جعل ذلك مباحا لمن لا يرجى منهنّ النكاح وذلك الحدّ غير معلوم
وتعليقه بالقعود عن الحيض غير معلوم فانّ الرّجال والنّساء تتفاوت فيه تفاوتا
كثيرا باعتبار ازدياد الشهوة وكثرة الشبق ويمكن الرّجوع في ذلك الى سن الياس
المعلوم بالأخبار (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في قلوبكم.
السّادسة [البقرة : ٢٣٣]
(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) مواضع حرث تحرثون الولد واللّذة حذف المضاف وأقيم
المضاف اليه مقامه والكلام على المجاز حيث شبههنّ بالمحارث تشبيها لما يلقى في
أرحامهنّ من النطف الّتي منها النّسل بالبذور (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ) أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم الّتي تريدون حرثها من أين
شئتم وفي أيّ زمان أردتم لأنّها ظرف مكان إذا كانت بمعنى حيث أو أين وظرف زمان إذا
كانت بمعنى متى فهو منصوب على الظرفية ، والعامل فيه فأتوا وشئتم جملة فعلية في
موضع الجر بإضافة انى إليها أو بمعنى كيف شئتم وحينئذ فيكون في محلّ النّصب على
المصدر اي فأتوا حرثكم اي نوع شئتم ولا محلّ للفعل.
والمشهور أنّها
نزلت ردّا على اليهود كانوا يقولون من جامع امرأته من دبرها في قبلها كان
ولدها أحول فذكر ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآله فنزلت وقيل أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة
فردّ عليهم وأنزل إباحته مطلقا.
واستدلّ بها
على جواز إتيان المرأة في دبرها نظرا الى ان قوله إن شئتم معناه من أين شئتم كقوله
انّى لك هذا اى من اين فيدلّ على تعدّد الأمكنة فيلزم ان يكون المأتي متعدّدا وبه
قال كثير من أصحابنا وهو المشهور فيما بينهم.
__________________
ويؤيّده من
الأخبار ما رواه صفوان بن يحيى في الصحيح قلت للرضا عليهالسلام رجل من مواليك أمرني أن اسئلك عن مسئلة قال وما هي قلت
الرّجل يأتي امرأته في دبرها قال له ذلك الحديث.
وما رواه عبد
الله بن ابى يعفور في الصّحيح قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرّجل يأتي امرأته في دبرها قال لا بأس. ونحوهما .
وخالف في ذلك
جميع الفقهاء الا مالكا وتابعهم على ذلك بعض أصحابنا مستدلّين على التحريم بان الحرث لا يكون الّا بحيث يحصل
النسل فيجب ان يكون الوطي حيث يكون النّسل لا غير وليس هو الا القبل ويؤيّده من
الأخبار ما رواه سدير
__________________
قال سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول قال رسول الله صلىاللهعليهوآله محاشّ النّساء على أمتي حرام والجواب امّا عن الاستدلال
بالآية فلأن الحرث اسم للمرأة لا الموضع المعين فيجوز إتيان المرأة في أي مكان
أراد من حيث انّه أجزاء المزروع ومن ثم جاز الإتيان به في غير الدّبر والقبل
كالتفخيذ ونحوه بالاتفاق.
ثم بعد تسليم
انّ المعنى فأتوا حرثكم كيف شئتم ومناسبة الحرث للإتيان في محلّه وهو القبل لحصول
الولد لا دلالة لها على قولهم إذ ليس فيها منع الوطي في غير محلّ الحرث ولا المنع
من غير الزراعة.
على انّه لو
صرح بالإتيان بالقبل لما دلّ على منع غيره الّا بمفهوم ضعيف لا حجّة فيه عند
المحققين ولقد قال مالك ما أدركت أحدا اقتدى به في ديني يشك في ان وطي المرأة
في دبرها حلال ثمّ قرأ نساؤكم حرث لكم الآية.
وامّا عن
الرّواية فضعيفة السّند لا تعارض ما أوردناه من الأخبار وحملها على التقيّة
ممكن فانّ ذلك مذهب أكثر العامّة.
(وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ) ما يدّخر لكم الثواب وهو الأعمال الصالحة الّتي أمرتم
بها ورغبتم فيها وقيل هو طلب الولد فان في اقتناء الولد الصّالح تقديما عظيما.
روى عنه عليهالسلام انّه قال إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله الّا عن ثلث ولد
__________________
صالح يستغفر له وصدقة جارية وعلم ينتفع به بعد موته وقيل هو التسمية عند
الجماع وقيل الدّعاء عنده وهما مرويان عن النبي صلىاللهعليهوآله قال إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل بسم الله اللهم
جنبني الشّيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فان قدر بينهما ولد لم يضره شيطان وقيل هو
التزوّج ليحصل الولد ومن ثم استحب اختيار العفيفة الكريمة الأصل الولود كما وردت
به الأخبار.
وقيل هو تقديم
الإفراط جمع فرط وهو الّذي يقدمه الإنسان قبل بلوغه لقوله صلىاللهعليهوآله من قدم ثلثة من الولد لم يبلغن الحنث لم تمسه النّار
الّا تحلة القسم فقيل
__________________
يا رسول الله واثنان قال واثنان ، واستفادة هذا من الآية بعيدة مع انّه غير
اختياريّ للإنسان حتّى يؤمر به فينبغي ارتكاب خلاف الظاهر في الأمر بالتقديم.
(وَاتَّقُوا اللهَ) اي عقابه بترك مجاوزة الحدّ فيما بين لكم من الأحكام (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) ملاقوا جزائه يعنى ثوابه ان أطعتموه وعقابه ان عصيتموه
وانّما اضافه اليه تعالى لضرب من المجاز والحث الى العمل بالواجب الّذي عرفوه
والتحذير من مخالفة ما نهوا عنه لا انّ اللّقاء بمعنى الرؤية كما يذهب إليه أهل
التشبيه.
(وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) الكاملين في الايمان أو العاملين المستوجبين للمدح
والتعظيم بفعل الطّاعات وترك المعاصي والمبشر به محذوف لمعلوميّته والمراد :
بالجنّة أو الثّواب لأنهما المستحقان مع حصول التقوى.
السابعة [البقرة : ٢٣٣]
(وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) خبر في معنى الأمر كقوله يتربصن والمعنى ليرضعن وفي جعل
الخبر بمعنى الإنشاء مبالغة زائدة لما فيه من حث المأمور وحمله على الفعل حتّى
كأنّه سارع في الامتثال واستحق الأخبار عنه كما قالوه وهو مسلك من البلاغة لطيف
وفي الكشاف عند تفسير قوله الزاني لا ينكح إلّا زانية قرئ بالجزم على النّهي
والمرفوع فيه معنى النّهى ولكن أبلغ وآكد كما انّ رحمك الله ويرحمك أبلغ من ليرحمك
هذا كلامه.
__________________
وهذا الأمر
عندنا أمر استحباب إذ لا يجب عليهنّ ارضاعهم نعم يستحبّ ذلك من حيث ان تربية
الطّفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان من حيث شفقة الأم عليه.
نعم هو واجب
على الأب الّا ان يكون الولد بحيث لا يشرب الّا لبن امه أو كان بحيث لا توجد مرضعة
غيرها أو كان الوالد عاجزا من تحصيل غيرها لإعساره وعدم قدرته على الأجرة فإنّه
حينئذ يجب على الأم في الأولين بالأجرة وفي الثّالث لكونه ممن يجب نفقته عليها لكن
إذا كانت قادرة ولم يكن الولد ذا مال.
قيل ويحتمل ان
يكون المعنى ان الإرضاع في هذه المدة للأمّ بمعنى انّه حقّها ويجب على الأب
تمكينها منه ولا يجوز له الأخذ منها وإرضاع غيرها فيكون حينئذ إخبارا عن حقّ الأم
الواجب على الأب فلا يحتاج الى ارتكاب الخروج عن الظاهر من حمل الخبر على الأمر.
__________________
قلت هذا المعنى
يرجع الى الأمر أيضا فإنّ التعبير بالفعل عن ذلك صريح فيه غايته انّه في هذه
الصّورة يكون الأمر ظاهرا في النّدب والاستحباب بخلاف الأوّل قال في المجمع وهذا
أمر استحباب لا أمر إيجاب والمعنى انهنّ أحقّ برضاعهنّ من غيرهنّ هذا كلامه وهو
صريح فيما قلناه.
وبالجملة حمل
الأخبار هنا على ظاهره لا يستقيم بوجه كما صرحوا به ومقتضى ما ذكرناه انّ الإرضاع
حقّها فلا يجوز إيثار الغير في حال من الأحوال وإذا لم تختر إرضاعه لم تجبر عليه
ولو طلبت الأجرة على رضاعه وجب على الأب دفعها إليها لقوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) وهو دليل استحباب الإرضاع عليها فان الواجب لا يستحقّ
بفعله الأجرة لكن ذلك على تقدير عدم وجود متبرعة أو رضى غيرها بالأقل فلو حصل أحد
الأمرين جاز أخذ الولد من الأمّ ودفعه الى المتبرعة.
وهذا هو
المشهور بين أصحابنا وهو قول الشافعية وظاهر الشيخ في المبسوط انّ الأم إذا طلبت
الأجرة على رضاعه وكانت في حبال أبيه غير مطلقة منه طلاقا لا رجعة
__________________
فيه فإنّها لا تستحقّ اجرا ولا ينعقد بينها وبين زوجها عقد إجارة لأنّ
منافعها في كلّ وقت مستحقة للزوج في عقد النكاح فيما يرجع الى أحكام الوطي وتوابعه
وإذا ملك جميع المنافع لم تنعقد الإجارة واليه ذهب الحنفيّة وفيه نظر فانا لا
نسلّم تملك الزّوج منافعها وتملكه وجوه الاستمتاع لا يقتضي تملك الاسترضاع وهو
ظاهر.
والوالدات عام
في المطلقات وغيرهنّ وما قيل انّه أراد الوالدات المطلقات لأن الكلام فيهن فبعيد
إذ العبرة بعموم اللّفظ وإدراج حكم عام في محلّ خاصّ في القرآن كثير.
(حَوْلَيْنِ
كامِلَيْنِ) تقييدهما بالكمال ، وان كانت التثنية تأتي على استيفاء
العدد للتوكيد كقوله عشرة كاملة ولما فيه من الأشعار بعدم التّسامح في الإطلاق (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) متعلّق بالحكم السابق اي هذا الحكم وهو إرضاع حولين
كاملين لمن أراد إتمام الإرضاع ويحتمل تعلقه بيرضعن فان الوالد هو الّذي يرضع الولد
له وينسب إليه لا الأم وفيه إشارة إلى انّه يجوز النّقصان عنه على الإطلاق من غير
تقييد ولكن أصحابنا قيدوا النقصان بشهر أو شهرين وربما ذكر بعضهم ثلثة أشهر ولعلّ
هذا التحديد إجماعي بينهم بمعنى انّهم مجمعون على انّه لا يجوز نقصان مدّة الإرضاع
عن احد وعشرين شهرا.
ويؤيّده رواية
سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال الرّضاع احد وعشرون شهرا فما نقص عن ذلك فهو جور
على الصّبي ونقل في المجمع عن قتادة والربيع ان الله
__________________
فرض على الوالدات أن يرضعن أولادهنّ حولين ثمّ أنزل الرخصة بعد ذلك فقال
لمن أراد ان يتمّ الرّضاعة يعنى ان هذا منتهى الرّضاع وليس فيما دون ذلك حدّ محدود
وانّما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به قوله يعنى يحتمل ان يكون تفسيرا لما
استفيد من كلامهما في الرخصة لا انّه كلامه عن اعتقاد وحينئذ فلا ينافي ما ذهب
إليه أصحابنا من ان نهاية النّقصان ثلثة لا أكثر كما تقدم هذا.
والحكم بكون
منتهى الرّضاع حولين وان كان ظاهرا من الآية الا ان الأصحاب جوّزوا الزيادة عليها
أيضا بمقدار شهر أو شهرين خاصّة وحينئذ فتقيد الآية بذلك وسيجيء تمام الكلام إن
شاء الله.
ومقتضى الآية
ان الحولين حق لكل ولد سواء ولد لستة أشهر أو أكثر أن أراد الولي إتمام الرّضاعة
ونقل في المجمع عن بعضهم انّ ذلك مخصوص بمن ولد لستة أشهر قال وان ولد لسبعة أشهر
مثلا فثلثة وعشرون شهرا وان ولد لتسعه فأحد وعشرون يطلب بذلك تكملة ثلثين شهرا في
الحمل والفصال كما دلّ عليه قوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.
قال وعلى هذا
يدل ما رواه أصحابنا في هذا الباب لأنّهم رووا ان ما نقص عن احد وعشرين شهرا فهو
جور على الصّبي انتهى وفي دلالة ما رواه أصحابنا عليه نظر فان بعضهم يذهب الى ان
أكثر مدة الحمل سنة ، وقد ادعى السّيد المرتضى عليه إجماع الإماميّة ومقتضى ما ذكر
أن يكون إرضاعه ثمانية عشر شهرا وهو غير جائز بإجماعهم وبما روى انّ النقص عن
الأحد وعشرين شهرا جور على الصّبي والآية محمولة على أقلّ ما يمكن فيه الحمل
والفصال على ما بين في محلّه.
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ) أي الّذي يولد له وهو الوالد فان الولد يولد له وينسب
اليه وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه
اعلم انّه تعالى كما وصّى الأم برعاية جانب الطّفل في قوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ، وصي الأب برعاية جانب الأم حتّى يكون قادرة على رعاية
مصلحة الطّفل.
(رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ) في المجمع المراد رزق الامّ وكسوتها ما دامت في
الرّضاعة
اللازمة وذلك في المطلقة عن الثوري والضّحاك وأكثر المفسّرين قال ولم يرد
به نفقة الزّوجات انتهى.
فان قيل إذا
كانت الزّوجية باقية وهي مستحّقة النّفقة والكسوة سواء أرضعت الولد أم لم ترضع فما
وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع.
قلنا النّفقة
والكسوة يجبان في مقابلة التمكين فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع لم يتفرغ لخدمة
الزّوج فربما توهم متوهّم ان نفقتها وكسوتها سقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع
الله تعالى ذلك الوهم بإيجاب الرّزق والكسوة وان اشتغلت المرأة بالإرضاع.
ولا يذهب عليك
انّه على الثّاني يؤيّد ما ذهب اليه الشيخ من عدم الأجرة للأمّ إذا كانت في حباله
الا ان إجمال الآية يمنع من التّعلق بها في ذلك (بِالْمَعْرُوفِ) قيد في الرزق والكسوة اي على قدر اليسار والفقر حسب ما
يكون معروفا في العرف والشرع مثله لمثلها.
وفي الحقيقة
يفسره قوله (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ
إِلَّا وُسْعَها) طاقتها لا ما يشق عليها فان فيه حرجا وضيقا وقد قال
تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وعلى القول بحمل الآية على الأجرة الحاصلة بالإرضاع كما
هو المشهور يكون في ذلك إشارة الى ان حقها اجرة مثلها لا انقص ولا أزيد كذا قيل.
والحكم بوجوب
الأجرة على الأب مخصوص عندنا بما إذا كان الولد ممن يجب نفقته على الوالد بأن يكون
فقيرا وأبوه غنيا فلو كان الولد غنيا كانت الأجرة في ماله دون مال أبيه ولو كان
فقيرا كالأب فعلى الأم لأنّه يجب نفقته عليها هذا إذا كانت قادرة على ما زاد على
الإرضاع والّا فمن بيت المال على ما اقتضته الأدلة من خارج.
(لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) تفصيل وبيان لما تقدمه اي لا يكلّف كلّ منهما الأخر ما
ليس في وسعه ولا يضاره بسبب الولد وانّما قال لا يضار والفعل من واحد لأنّه لما
كان معناه المبالغة كان بمنزلة ان يكون الفعل من اثنين.
والمعنى انّ
الوالدة لا تضار زوجها بسبب ولدها بأن تعنف به وتطلب منه ما ليس
بعدل ولا معروف من الرّزق والكسوة أو ان يشغل قلبه في شأن الولد أو ان يقول
له بعد ما الفها الولد خذ ولدك منّي أو اطلب له ظئرا أو تترك إرضاع الولد فيحصل
للولد مرض في يد الأجنبية أو لم تفعل ما وجب عليها بعد أخذ الأجرة بحيث يحصل الضرر
للولد فيتضرّر الوالد بسببه.
ولا يضارّ
المولود له أيضا امرأته بان يمنعها شيئا ممّا وجب عليه من الرّزق والكسوة أو يأخذه
منها وهي تريد إرضاعه فيتضرّر بمفارقة الولد أو يكرهها عليه إذا لم ترده فيتضرّر
بالإكراه.
والّذي رواه
الكليني في الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام في قوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) قال كانت المرأة ترفع يدها الى زوجها إذا أراد مجامعتها
فتقول لا أدعك انّى أخاف ان احمل على ولدي ويقول الرجل لا أجامعك إنى أخاف أن
تعلقي فأقتل ولدي فنهى الله عزوجل ان يضار المرأة الرّجل وان يضار الرّجل المرأة الحديث.
ولعل نهى
الرّجل عن اضرارها على هذا مقيّد بما إذا مضت أربعة أشهر فصاعدا لعدم جواز ترك
الوطي حينئذ فيصحّ النهي اما قبله فيجوز فلا يكون منهيّا عنه الّا ان يحمل النهي
على الكراهة ومقتضى الرّواية انّ إضرار الوالدة بترك الوطي منهي عنه وان اتفق
إضرار الولد المرتضع به بسبب حصول الحمل.
بل ربما قيل
انّ مطلق الجماع حال الإرضاع يضر المرتضع حملت الأم أم لا والفعل المذكور يحتمل
بناؤه للفاعل والمفعول وما ذكرناه على التقدير الأول وهو الظاهر من الرّواية ومنه
يعلم حال الثّاني بأدنى نظر ولو قصرت الآية على ظاهر الرّواية سهل الخطب.
__________________
ولكن الاولى
الحمل على الجميع كما اختاره في المجمع لعدم التنافي بينها وفي الكشاف : التعبير
بولدها وبولده بعد النّهى عن المضارة للاستعطاف لها عليه وانّه ليس بأجنبي منها
فمن حقها ان تشفق عليه وكذا الوالد كما يشعر به الإضافة وهو يتم على الوجه
السّابق.
(وَعَلَى الْوارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ) عطف على قوله وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهن وما
بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه فكان المعنى وعلى وارث
المولود له مثل ما وجب عليه من الرّزق والكسوة بمعنى انّ المولود له إذا مات وجب
على من يرثه ان يقوم مقامه في ان يرزقها ويكسوها على الشريطة الّتي ذكرت من
المعروف وتجنب الضرار.
ولكن الكلام في
الوارث الّذي يجب عليه ذلك فإن نفقة الولد لا يجب على غير الأبوين وهو يقتضي عدم
وجوب اجرة الرّضاع على غيرهما كما ذهب إليه أصحابنا وهو قول الشّافعيّة فإنّهم
يذهبون الى انّ النفقة لا يجب على غير الأصول أو الفروع ولأنّا إذا حملنا اللّفظ
على وارث الوالد والولد أيضا وارثه ادى ذلك الى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال
ينفق منه.
والظاهر حمله
على الصبي فإنّه وارث الأب والمراد انّ المرضعة تمان من ماله إذا مات الأب بمعنى
ان مؤنتها في ماله بعد موت أبيه فيدفعها إليه الولي أو الوصي أو الحاكم أو من
ينوبه وان لم يكن له مال أجبرت امّه على رضاعه لأنّه لا يجبر على نفقة الصّبي سوى
أبويه ويمكن جعل الوارث بمعنى الباقي كقوله صلىاللهعليهوآله واجعله الوارث منا والمعنى ان على الباقي من الأبوين مثل ذلك الرّزق
والكسوة.
والوجهان
يوافقان ما يذهب إليه أصحابنا الإمامية من عدم وجوب النّفقة على
__________________
غير الآباء والأولاد ، وقيل المراد وارث الصّبي الّذي لو مات الصّبي ورثه
والمعنى ان وارث الولد عند موت الأب يجب عليه كلّ ما يجب على الأب.
واختلفوا في
هذا الوارث فقيل هو العصبات دون الأم والأجرة في هذا الوارث عن الصّبي من الرّجال
والنّساء على قدر نصيبه من الميراث وقيل على الوارث ممّن كان ذا رحم محرم دون غيره
من ابن العم والمولى والقول بكون المراد من الآية وارث الصّبي حكاه في الكشاف عن
جماعة من العامّة وضعفه ظاهر فانّ الوارث انّما يقال حقيقة على من ورث بالفعل
وإطلاقه على من يصير فيما بعد وارثا على تقدير موت الصّبي وتخليفه مالا في غاية
البعد ويمكن حمله على وارث الأب مطلقا ويكون فيه إشارة إلى وجوبها على الورثة في
مال الميّت.
قال في المجمع
وقد روى في أخبارنا ان على الوارث كائنا من كان النفقة قال وهذا يوافق الظّاهر وبه
قال قتادة واحمد بن إسحاق قلت يمكن المصير الى ذلك نظرا الى ظاهر الآية والأخبار
ويكون هذا مستثنى من المواضع الّتي لا يجب فيها النّفقة على غير الأبوين ويمكن حمل
الأخبار على ما إذا وقعت الإجارة قبل موت الأب ومات قبل ان يسلم الأجرة بتمامها
فإنّه يجب على الورثة دفع الباقي الى المرضعة ويكون فيها دلالة على عدم بطلان
الإجارة بموت المؤجر فتأمّل.
(فَإِنْ أَرادا) اي الوالد والوالدة (فِصالاً) اى قطع الولد عن الرّضاع وفطامه قبل الحولين (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) صفة الفصال اي فصالا صادرا عن تراض منهما وتشاور بينهما
مع غيرهما قبل تمام الحولين مشتمل على مصلحة الصّبي وعدم إضرار به والتشاور
والمشورة استخراج الرّأي من شرت العسل إذا أخرجته (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) فلا اثم عليهما فيما فعلاه من الفصال قبل الحولين.
وفيه توسعة بعد
التحديد بالحولين واشتراط رضا الأب ممّا لا كلام فيه لأنّه ولي الطفل وامّا الأم
فلأنّها أحقّ بالتربية وهي أعرف بحال الصّبي مع كثرة شفقتها عليه فناسب اعتبار
رضاها إذا لم يكن قصدها إلّا الإصلاح.
ولعل في إطلاق
التشاور من غير الإضافة إليهما إشارة إلى انّه لا ينبغي اخلاء ذلك
من مشورة العارفين بحال الصّبي زيادة عليهما.
وحمل الفصال
على ما قبل الحولين هو الظّاهر من الآية ورواه الحلبي في الحسن عن ابى عبد الله عليهالسلام قال وان أرادا فصالا عن تراض منهما قبل ذلك كان حسنا
والفصال هو الفطام والمشار اليه بذلك الحولين المتقدم ذكرهما.
ونقل في المجمع
قولا عن ابن عبّاس بحمله على ما قبل الحولين وبعدهما نظرا إلى إطلاق الفصال
فيتعلّق بما بعد الحولين وما قبلهما فان الولد قد يكون ضعيفا فيحتاج الى الرّضاع
بعد الحولين ويضرّ به قطعه كما يضرّه قبل الحولين وهو موافق لما ذكره أصحابنا من
جواز الزّيادة على الحولين بشهر أو شهرين كما سلفت الإشارة اليه ولا يخفى بعد هذا
القول عن السّياق.
(وَإِنْ أَرَدْتُمْ) خطاب للأزواج (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلادَكُمْ) ان تطلبوا مراضع لهم غير أمّهاتهم امّا لإبائهنّ عن
الإرضاع أو لعلة بهنّ من انقطاع لبن أو غيره وحذف احد المفعولين للاستغناء عنه كما
تقول استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحت وهكذا الحكم في كلّ مفعولين لم يكن
أحدهما عين الأوّل.
(فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في ذلك الاسترضاع (إِذا سَلَّمْتُمْ) الى المراضع (ما آتَيْتُمْ) اي ما أردتم إيتائه وإعطائه لهنّ من الأجرة فإنّ
التعبير بالفعل عن الإرادة كثير أو ما ضمنتم والتزمتم وجزاء الشّرط محذوف دلّ عليه
ما قبله ويحتمل كونه من غير جنسه مثل فقد خرجتم عن عهدة الواجب أو برأت ذمّتكم
ونحوه.
وليس التّسليم
شرطا في جواز الاسترضاع ولا في صحّة الإجارة ولا يترتّب على عدمه جناح وان وجب
عليه الوفاء به نعم هو ندب إلى الأولى ويجوز ان يكون للحثّ والترغيب على ان يكون
الشيء الّذي تعطاه حاضرا عندها مسلما إليها ليكون طيبة النّفس راضية فتبذل غاية
الجهد به ويعود ذلك صلاحا لشأن الطّفل واحتياطا في امره.
(بِالْمَعْرُوفِ) متعلّق بسلمتم أمروا ان يكونوا عند تسليم الأجرة إلى
المراضع مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن حتى
__________________
يؤمن تفريطهنّ بقطع معاذيرهنّ ويعود فايدة ذلك الى الصّبي أيضا.
هذا وفي إطلاق
نفي الجناح في استرضاع المراضع دلالة على انّ للزوج ان يسترضع الولد ويمنع الزوجة
من الإرضاع مطلقا لكنه عندنا مقيّد بما إذا وجد متبرّعة بإرضاعه ولم تتبرع الأم به
أو بما إذا وجد من يرضعه بأقل ممّا طلبت الأم ولم ترض به فلو انتفى الأمران لم يكن
للأب انتزاعه منها ولا استرضاع غيرها لمكان أولويتها كما اقتضته صدر الآية.
(وَاتَّقُوا اللهَ) يعنى معاصيه أو عذابه في مجاوزة ما حده لكم من أمر
الأطفال والمراضع بل مطلق الواجبات والمحرمات (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) اي بأعمالكم عليم لا يخفى عليه شيء منها وفيه تهديد
وتخويف عن مخالفة ما حدده.
الثامنة [البقرة : ٢٣٥]
(وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) التّعريض ضدّ التصريح وهو إيهام المقصود بما لم يوضع له
حقيقة ولا مجازا وحاصله ان تضمّن كلامك ما يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير
المقصود ، الا ان إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح كقول السائل للغنى جئتك لأسلّم
عليك يريد به الإشارة إلى طلب شيء منه ، وأصله من العرض للشيء الّذي هو جانبه
وناحية منه كأنّ المتكلم أمال الكلام الى جانب يدل على الغرض ويسمى التلويح أيضا
لأنّه يلوح منه ما يؤيده.
والفرق بين
التعريض والكناية ان التعريض ما عرفته والكناية الدّلالة على الشيء بغير لفظه
الموضوع له بل بلوازمه كطويل النجاد لطويل القامة وكثير الرّماد للمضياف.
والخطبة بالضم
والكسر اسم للحالة غير أن المضمومة خصّت بالموعظة والمكسورة بالذكر الّذي يستدعي
به إلى عقدة النكاح.
والمراد
بالنساء المعتدات مطلقا وخصها القاضي بالمعتدة بالوفاة ومقتضاه عدم جواز التعريض
بالخطبة للمعتدة من الطلاق البائن وهو قول الشافعية مستدلين عليه بان لصاحب العدة
أن ينكحها فأشبهت الرجعية.
والأصحّ عندهم
الجواز لانقطاع سلطنة الزّوج عنها وحصول البينونة.
وقد استظهره
القاضي في آخر تفسير هذه الآية وحينئذ فلا وجه لتخصيصها في الأول بالمعتدة بالوفاة
الّا ان يكون غرضه الأشعار بالمجمع عليه فيما بينهم والمختلف فيه فان المعتدة عن
الوفاة لا خلاف فيه عندهم وما ذكرناه اولى لظهور الآية في العموم واحتياج التخصيص
الى مخصص واضح والأصل عدمه وكون الكلام قبله في المتوفّى عنها لا يستلزمه لأنّ
العبرة بعموم اللّفظ.
نعم الواجب
تخصيصها بغير ذات العدة الرجعيّة لأنّها في حكم الزّوجة إجماعا فلا يجوز لها
التعريض من غير الزّوج.
والتعريض في
الخطبة أن يقول لها أنت جميلة ونافقة وصالحة للتزويج ونحو ذلك من أوصافها أو يذكر
بعض أوصافه مثل انا محتاج الى التزويج وعسى الله ان ييسر لي امرأة صالحة أو انا من
قريش أو انى لراغب في النّساء ونحو ذلك.
__________________
وروى في الكشاف
عن ابن المبارك عن عبد الرّحمن بن سليمان عن خالته قالت دخل علىّ أبو جعفر
محمّد بن على عليهالسلام وانا في عدتي فقال قد علمني قرابتي من رسول الله وحق
جدّي على عليهالسلام وقدمي في الإسلام فقالت غفر الله لك ا تخطبنى في عدتي
وأنت يؤخذ عنك فقال أو قد فعلت انّما أخبرتك بقرابتي من رسول الله وموضعي وقد دخل
رسول الله صلىاللهعليهوآله على أمّ سلمه وكانت عند ابن عمّها أبي سلمة فتوفي عنها
فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتّى اثر الحصير في يده فما
كانت تلك
__________________
خطبة.
(أَوْ أَكْنَنْتُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ) اي سترتم واضمرتم في قلوبكم من نكاحهنّ بعد مضى عدّتهن
ولم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ) لا محالة ولا تصبرون على الكتمان والسّكوت عن النّطق
برغبتكم فيهن وعدم صبركم لأنّ شهوة النفس إذا حصلت في باب النّكاح لم يكد المرء
يصبر عن النطق بما ينبئ عن ذلك وهذه الجملة كالمعللة لرفع الجناح بالتّعريض في
الخطبة وفيه نوع توبيخ (وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك عن محذوف دلّ عليه ستذكرونهن اي فاذكروهنّ (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) اي نكاحا أو جماعا عبر بالسرّ عنه كقول امرئ القيس
الا زعمت
بسباسة اليوم اننى
|
|
كسرت والا
نحن السر أمثال
|
ويحتمل ان يراد
بالمواعدة سرا المواعدة بما يستهجن لأنّ مسارتهنّ في الغالب بما يستهجن من
المجاهرة به.
(إِلَّا أَنْ
تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو ان تعرضوا بالخطبة ولا تصرحوا بها وقد تظافرت
أخبارنا عن الأئمة عليهمالسلام بانّ المراد بالقول المعروف التّعريض بالخطبة وفيها انّ
من المواعدة سرّا ان تقول لها موعدك بيت فلان وان منها ان يعزم عقدة النّكاح وهو
في الحقيقة استثناء من لا تواعدوهنّ اي لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلّا مواعدة معروفة
غير منكرة مشتملة على تعريض لا تصريح أو لا تواعدوهنّ الّا بالقول المعروف وهو
التّعريض وعلى هذا فسرّا غير داخل في المستثنى منه.
ويمكن دخوله
فيه بان يقال : لما اذن بالتّعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعا للريبة استثنى عنه
ان يسارها بالقول المعروف وذلك ان يعدها في السّر بالإحسان إليها والاهتمام بشأنها
والتكفل بمصالحها حتّى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكّدة لذلك التعريض ولا يجوز
أن يكون الاستثناء منقطعا من سرّا لأدّائه إلى قولك لا تواعدوهنّ الّا التّعريض
والتعريض غير مواعد به بل مذكور في الحال.
وفيه نظر فإنّه
على تقدير انقطاع الاستثناء يكون مفاد الكلام انّكم لا تواعدوهنّ مواعدة سرا ولكن
تعرضوا لهنّ بالقول المعروف الّذي لا يشتمل على التّصريح بالخطبة
ولا محذور فيه إذ لا يلزم كونه موعودا وقريب من ذلك في المجمع ومقتضى الآية
جواز التّعريض بالخطبة للمعتدة بائنا والمعتدة من الطّلاق ثلثا وتحريم التصريح بها
وليس الحكم مقصورا على المعتدة من الوفاة كما أشرنا اليه.
(وَلا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكاحِ) من عزم الأمر وعزم عليه يتعدّى ولا يتعدّى وذكر العزم
للمبالغة في النّهي عن عقده النّكاح في العدة لأنّ العزم على الفعل يتقدمه فإذا
نهى عنه كان الفعل انهى والمراد لا تعزموا عقد عقدة النّكاح لان العزم على الفعل
عقده بالقلب وعقدة النّكاح الحالة الثانية بسبب العقد بين الزّوجين فلا يتعلق بها
الفعل.
وقيل معناه ولا
تقطعوا عقدة النّكاح فإنّ أصل العزم القطع بدليل لا صيام لمن لم يعزم الصّيام من
اللّيل كذا في الكشّاف وحاصله تضمين العزم معنى القطع فانّ اللّازم إذا ضمن معنى
المتعدي تعدّى بنفسه الى المفعول واعترض بانّ الاستناد الى الحديث غير واضح إذ
يحتمل القصد والنيّة وأجيب بأن النيّة يعتبر فيها القطع ولا يكفى مجرّد القصد كما
قالوه.
(حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتابُ أَجَلَهُ) حتى ينتهى ما كتب وفرض من العدة فالكتاب بمعنى المكتوب
اي المفروض ويجوز ان يراد بالكتاب القرآن والمعنى حتّى يبلغ فرض الكتاب اي ما فرض
في القرآن من العدة والأجل المضروب لها وهو بعيد.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز وغيره من الاسرار والضّمائر
فاحذروه ولا تعزموا على ما نهى عن العزم عليه فإنّه يعاقبكم على ذلك وقد يستدلّ به
على ترتب العقاب على العزم على الحرام كما اختاره السّيّد المرتضى ويدلّ عليه غيره
من الايات.
والأكثر على
انّ العزم على المعصية لا يعاقب عليه ما لم يقع المعصية منه نعم يثاب بعزم الطّاعة
وهذا من الطافه تعالى على عباده وعلى هذا فالآية محمولة على المبالغة في عدم قربان
المعصية ويمكن حمل كلامهم على انّه تعالى لا يعاقب بالعزم على المعصية عقابها نعم
يثيب على العزم على الطّاعة نوابها فلا تنافي بين كلام السّيّد وكلامهم فتأمّل.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فلا يعاجلكم بالعقوبة بمجرّد العزم بل يؤخّر العقاب حتى
يقع المنهي عنه لحلمه وعدم الفوت والعجز ففيه إيماء الى قول الأكثر أو المراد انّه
لا يعاجل بالعقوبة في جميع المعاصي بل ينتظر المسقط كالتوبة وفي الاخبار دلالة على
ذلك أيضا.
التاسعة [النور : ٦]
(الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) اى الفاسق الخبيث الّذي من شانه الزّنا والتعجّب لا يرغب في نكاح الصّوالح من النّساء اللّاتي
على خلاف صفته وانّما يرغب في نكاح فاسقة خبيثة من شكله فان المشاكلة علة الألفة وـ
الاجتماع والمخالفة علة النّفرة والافتراق (أَوْ مُشْرِكَةً) لأنّها تقرب منه في خبث الفعل.
(وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ) اي الفاسقة الخبيثة المسافحة لا يرغب في نكاحها
الصّلحاء من الرّجال بل ينفرون ويتباعدون عنها وانّما يرغب في نكاحها من هو مثلها
في الفسق (أَوْ مُشْرِكٌ) لمكان الألفة وكان حق المقابلة ان يقال والزّانية لا
تنكح الّا زان أو مشرك.
لكنّ الآية
وردت في بيان أحوال الرّجال في الرّغبة فيهنّ على ما قيل انّها نزلت في رجل من
المسلمين استأذن النّبي صلىاللهعليهوآله في ان يتزّوج أمّ مهزول وهي امرأة كانت تسافح ولها راية
على بابها تعرف بها أو انّها نزلت في فقراء المهاجرين حيث رغبوا في نكاح موسرات
كانت في المدينة من بغايا المشركين فاستأذنوا رسول الله صلىاللهعليهوآله فنزلت.
وفي قرن الزّنا
بالشرك في الموضعين تغليظ لأمر الزنا وتقبيح على
__________________
فاعلية حيث انّه بمثابة الشرك والآية وان كانت ظاهرها الخبر فهي في معنى
النّهي أي من كان زانيا فلا ينبغي ان ينكح إلّا الزّانية
ويؤيّده قوله (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الممدوحين عند الله بالإيمان لأنّه تشبه بالفسّاق
وانخراط في سلكهم وحضور موضع التّهمة والتسبّب لسوء المقالة بين النّاس والطّعن في
النّسب.
واحتمل في
الكشاف أن يكون الآية خبرا محضا على معنى انّ عادتهم جارية على ذلك وعلى المؤمن ان
لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها وعلى هذا فلا يرد ان الزّاني قد ينكح
المؤمنة العفيفة والزّانية قد ينكحها المؤمن العفيف ويمكن الجواب أيضا بأنّ المراد
انّ الزّاني في الغالب لا ينكح إلّا زانية وكذا الزّانية في الغالب لا ينكحها الّا
زان فتأمّل.
وظاهر النّكاح
في الآية بمعنى العقد لا الوطي كما هو المتبادر من إطلاقه قال في الكشاف وقيل
المراد بالنّكاح الوطي وليس بقول لأمرين أحدهما انّ هذه الكلمة فيما وردت في
القرآن لم ترد إلّا في معنى العقد والثّاني فساد المعنى وأداؤه إلى معنى قولك
الزّاني لا يزني الّا بزانية والزانية لا تزني إلّا بزان.
قلت ويؤيّد
كونه بمعنى العقد ورود روايات عده بأن الآية المذكورة وردت في رجال ونساء كانوا
على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله مشهورين بالزنا فنهى الله عزوجل عن أولئك الرّجال والنّساء والنّاس اليوم على تلك
المنزلة من شهر شيئا من ذلك أو أقيم عليه حد فلا تزوّجوه حتى تعرفوا توبته.
روى ذلك زرارة
وأبو الصّباح الكناني عن الصّادق عليهالسلام ومحمّد بن مسلم عن
__________________
الباقر عليهالسلام وغيرهم ممّن روى عنهما عليهالسلام ومقتضى ذلك عدم جواز نكاح المشهورة بالزّنا أو المحدودة
قبل التوبة دواما ومتعة واليه ذهب أبو الصّلاح نظرا الى ما ذكر والى ظاهر قوله
تعالى (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
وقد صرّح
الصّدوق ره بان من تمتع بالزّانية فهو زان لانّ الله تعالى يقول (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً) الآية واليه ذهب ابن البراج.
ولكن المشهور
بين الأصحاب الجواز على كراهة واحتجّ لهم العلامة بالأصل وما رواه زرارة قال سال عمّار وانا عنده عن الرّجل يتزوّج الفاجرة متعة
قال لا بأس فإن كان التزويج الآخر فليحصن بابه وعن علىّ بن يقطين قال : قلت لأبي الحسن عليهالسلام نساء أهل المدينة؟ قال فواسق قلت فأتزوج منهنّ قال نعم
وأجابوا عن الآية بأنّ النّكاح يراد به الوطي.
وفيه نظر أمّا
الأصل فبعد الدّليل لا وجه له والرّواية غير واضحة الصّحة ويمكن حملها على التزوّج بالفاجرة بعد التوبة ولا كلام
فيه ، ورواية على بن يقطين غير صريحة في كون الفسق بسبب الزّنا ، وحمل النّكاح في
الآية على الوطي قد تقدم ما فيه ، والاحتياط يقتضي ما ذكرناه.
وقيل كان نكاح
الزانية محرما في أوّل الإسلام ثم نسخ امّا بالإجماع أو بقوله
__________________
تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أو بقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) الآية فإنّها تتناول المسافحات.
وفيه نظر فإنّ
الإجماع لا ينسخ به كما ثبت في الأصول والآية لا تنافي الحكم المذكور لأنّها عامة
ولا تنافي بين العام والخاص ليحكم بكون العام ناسخا له والمعهود في ذلك التّخصيص
كما ثبت في محله.
النوع الخامس
في أشياء يتعلق بنكاح النبي صلىاللهعليهوآله وأزواجه
وفيه آيات
الاولى [الأحزاب : ٢٨]
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا).
السّعة
والتنعّم فيها (وَزِينَتَها) وزخارفها (فَتَعالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ) أعطيكن متعة الطلاق (وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَراحاً جَمِيلاً) والسراح الجميل الطّلاق من غير خصومة ولا مشاجرة بين
الزّوجين وقد تقدّم حكم متعة الطّلاق (وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي طاعة الله وطاعة رسوله (وَالدَّارَ
الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ) العارفات للإحسان المطيعات له (أَجْراً عَظِيماً) يستحقر دونه الدّنيا وزينتها.
روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال كان النّبي صلىاللهعليهوآله جالسا مع حفصة فتشاجرا فقال لها هل لك ان اجعل بينى
وبينك رجلا قالت نعم فأرسل الى عمر فلما انّ دخل عليها قال لها تكلمي فقالت يا
رسول الله تكلم ولا تقل الا حقا فرفع عمر يده فوجأ وجهها ثمّ رفع يده فوجأ وجهها
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله كف فقال عمر يا عدوة الله النّبي لا يقول الّا حقا.
وقام النّبي صلىاللهعليهوآله فصعد إلى غرفة فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نسائه يتغدى
ويتعشى فيها فانزل الله هذه الايات.
وقيل انّ أزواج النّبي صلىاللهعليهوآله سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النّفقة
وآذينه لغيرة بعضهنّ على بعض ، فآلى رسول الله صلىاللهعليهوآله منهنّ شهرا فنزلت
__________________
آية التخيير بين مفارقته واختيار زينة الدنيا وبين المقام معه والصّبر على
ضرّ الفقر لئلا يكون مكرها لهنّ على الضّر والفقر.
ومقتضى الآية
وجوب التّخيير عليه وعلى هذا أصحابنا وللشّافعيّة قول بانّ التخيير لم يكن واجبا
عليه وانّما كان مندوبا ، وفيه بعد.
وهذا التخيير
ليس له حكم عند أكثر أصحابنا بل هو من خواصه صلىاللهعليهوآله ودل على ذلك اخبار وردت عنهم عليهمالسلام كرواية العيص بن القسم عن الصادق عليهالسلام قال سألته عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها بانت له أم
لا قال انّما هذا شيء كان لرسول الله صلىاللهعليهوآله خاصة أمر بذلك ففعل ولو اخترن أنفسهنّ لطلقن وهو قول
الله تعالى (قُلْ لِأَزْواجِكَ
إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) الآية.
ورواية محمّد
بن مسلم قلت لأبي عبد الله عليهالسلام انّى سمعت أباك يقول انّ رسول الله صلىاللهعليهوآله خير نسائه فاخترن الله ورسوله فلم يمسكهن على طلاق ولو
اخترن أنفسهنّ لبنّ فقال انّ هذا حديث كان يرويه ابى عن عائشة وما للناس والخيار
انّما هذا شيء خصّ الله رسوله به.
وذهب ابن
الجنيد الى القول بوقوعه طلاقا إذا اختارت نفسها بعد تخييره لها حيث قال إذا أراد
الرّجل ان يخيّر امرأته اعتزلها شهرا وكانت على طهر من غير جماع في مثل الحال
الّتي لو أراد ان يطلقها فيه طلقها ثمّ خيّرها فقال لها قد خيرتك أو قد
__________________
جعلت أمرك إليك.
ويجب ان يكون
ذلك بشهادة فإن اختارت نفسها من غير ان تتشاغل بحديث من قول أو فعل كان يمكنها
الّا تفعله صحّ اختيارها وان اختارت بعد فعلها ذلك لم يكن اختيارها ماضيا.
وان اختارت في
جواب قوله لها ذلك ، وكانت مدخولا بها وكانت تخييره ايّاها من غير عوض أخذه منها ،
كانت كالتّطليقة الواحدة الّتي هو أحقّ برجعتها في عدّتها وان كانت غير مدخول بها
فهي تطليقة بائنة ، وان كان تخييره عن عوض أخذه فهي بائن وهي أملك بنفسها انتهى.
وظاهره ان حكمه
حكم الطّلاق في ما يترتّب عليه ، ونحوه قال ابن ابى عقيل وجماعة من الأصحاب وهو
بعيد ولعلّ حجّتهم ما رواه زرارة عن الباقر صلىاللهعليهوآله قلت له رجل خيّر امرأته قال انّما الخيار لها ما داما
في مجلسهما فإذا تفرقا فلا خيار لهما.
وما رواه حمران
قال سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول المخيرة تبين من ساعتها من غير طلاق ولا ميراث
بينهم لأنّ العصمة قد بانت منها ساعة كان ذلك منها ومن الزّوج.
وما رواه محمّد
بن مسلم وزرارة عن أحدهما عليهالسلام قال لا خيار إلّا على طهر من غير جماع بشهود.
وأجاب الشيخ
بحملها على التقيّة لأنّها موافقة للعامّة فإنّهم مجمعون على انّ الحكم ثابت
بالنّسبة إلى كلّ احد قال ولو لم نحملها على التقيّة لاحتجنا ان نطرح الأخبار
الّتي تضمّنت أن ذلك غير ثابت لكلّ احد وانه شيء يخص النّبي صلىاللهعليهوآله ونحوه ولا يعمل بها على وجه انتهى وهو جيد.
__________________
ويمكن حملها
على ما إذا طلقت بعد التّخيير وبذلك يحصل الجمع بين الرّوايات هذا.
وقد اختلف
العامّة فيما يقع به فقالت الحنفيّة إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي أو قال
اختاري نفسك فقالت اخترت وقعت طلقة بائنة ، على ما قاله في الكشاف لكن إذا كان في
المجلس أو لم تشتغل بما يدلّ على الاعراض وقال الشافعي طلقة رجعية على ما قاله
القاضي وهو قول أصحابنا الذاهبين الى ثبوت حكم التخيير الّا ابن الجنيد قال : إن
كان عن عوض كان بائنا والا كان رجعيا كما سلف ، والاخبار الدالة عليه واردة على
الوجهين معا ، وقد عرفت حملهما على التقية.
وقال مالك إذا
اختارت نفسها وقعت ثلث تطليقات قالوا وفي تعليق التّسريح بارادتهنّ الدّنيا وجعله
قسيما لارادتهنّ الرّسول صلىاللهعليهوآله دلالة على انّ المخيّرة إذا اختارت زوجها لم تطلق وادعى
في الكشاف عليه إجماع فقهاء الأمصار وكأنّه لم يعتبر خلاف زيد بن ثابت حيث ذهب الى
وقوع طلقة واحدة مع اختيارها زوجها ونحوه الحسن ولعلّ دفعه انّه لم ينقل عن النبيّ
صلىاللهعليهوآله طلاقا بعد اختيار الأزواج له على ما روى ان عائشة
اختارت رسول الله وكذا باقي نسائه ولم ينقل انّه طلاق بوجه.
الثّانية [الأحزاب : ٥٠]
(لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد التسع الّتي خيرتهنّ فاخترن الله ورسوله قيل
انّ الله تعالى لما أمر رسوله بالتخيير بين نسائه كما دلّت عليه الآية السّابقة
خيرهنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاخترنه جميعا فشكر لهن فنزل النّهى عن التزوّج عليهنّ
والتبدلّ بهن مكافأة لحسن صنيعهن معه واستمر ذلك إلى ان نسخ بقوله تعالى (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) الآية.
وقيل معناه لا
يحلّ لك النّساء من بعد النّساء اللّواتي احللناهنّ لك في قولنا (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ
اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) وسيجيء وحاصله انّه لا يحلّ لك النّساء من بعد اللّواتي
نصّ على احلالهنّ من الأجناس الأربعة ، وامّا غيرهنّ من الكتابيات والامآء
بالنّكاح ومن الاعرابيات ومن الغرائب فلا يحلّ لك التّزوج بهنّ وعلى هذا فليس في
الآية تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهن.
وروى الكليني في الصّحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قلت قوله تعالى (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قال انّما عنى به النّساء اللّاتي حرّم عليه في هذه
الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخر الآية ولو كان الأمر كما يقولون كان قد أحلّ
لكم ما لم يحل له ، إن أحدكم ليستبدل كلّما اراده ، ولكن ليس الأمر كما يقولون انّ
الله عزوجل أحلّ لنبيّه صلىاللهعليهوآله ما أراد من النّساء الّا ما حرّم عليه في هذه الآية
الّتي في النساء ونحوها رواية أبي بصير عنه عليهالسلام.
(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) اى تفارقهنّ وتنكح غيرهنّ (وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَّ) اي النّساء المستبدل بهنّ وهو حال من فاعل تبدّل دون
مفعوله وهو من أزواج ، فإنّ من فيه مزيدة لتأكيد الاستغراق لتوغله في التنكير وعدم
ذكر ما يخصّصه والتّقدير مفروضا إعجابك بهنّ.
ويمكن ان يكون
جوابه محذوفا يدلّ عليه ما قبله وهو لا يحلّ وفايدة هذه الشرطية التأكيد
والمبالغة.
وقد اختلف في
بقاء حكم الآية ونسخه فقيل انّها منسوخة بقوله (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) الآية ، وقيل نسخت بقوله (إِنَّا أَحْلَلْنا
لَكَ أَزْواجَكَ) الآية الواقعة بعد ذلك ، وترتيب النزول ليس على ترتيب
المصحف ذكر ذلك النّيشابوري.
وقيل نسخت
بالسنة عند من يجوّز نسخ القرآن بالسّنة وانه صلىاللهعليهوآله بعدها أبيح له تزوّج ما شاء.
وعن عائشة انّها قالت ما فارق رسول الله صلىاللهعليهوآله الدّنيا حتّى حلّل له ما
__________________
أراد من النّساء وهو مذهب أكثر الفقهاء قال الشّيخ في التبيان وهو المرويّ عن أصحابنا في أخبارنا ويؤيّده ما نقلناه
من رواية الكليني عن الحلبي.
وقيل : ان
التحريم باق ما نسخ وهو يناسب ما روي عن أئمّتنا عليهمالسلام من كون المراد من النساء ما حدّ في سورة النساء. (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء منقطع يخالف حكم ما تقدم لظهور أن المراد من
النّساء الأزواج (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) عالما حافظا فتحفظوا أمركم ولا تتخطّوا ما أحلّ لكم.
واعلم انّ
الآية التي بعد هذه الآية أعني قوله تعالى (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) فيها دلالة على تحريم أزواجه على أمته وهو من خواصّه
أيضا إكراما له صلىاللهعليهوآله في ذلك ولا خلاف في ثبوت هذا الحكم بين الأمة.
الثالثة ـ [الأحزاب : ٥٠]
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) مهورهنّ لأنّ المهر أجر على البضع والإيتاء قد يكون
بالأداء وقد يكون بالالتزام ويجوز ان يكون المراد بالإيتاء معناه الظّاهر وهو
الدفع وتقييد الإحلال له بالإيتاء معجلا لا لتوقّف الحلّ عليه ، بل لإثبات الأفضل
له ، فإنّه تعالى اختار لرسوله الأطيب الازكى كما اختصّه بغيرها من الخصائص ،
فآثره بما سواها من الأثر وظاهر ان سوق المهر إليها عاجلا أفضل من ان يسمّيه
ويؤجله قال في الكشاف وكان التّعجيل ديدن السّلف وسنّتهم وما لا يعرف بينهم غيره.
(وَما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) من الغنائم والأنفال وكانت من الغنائم مارية القبطية أم
ابنه إبراهيم ، ومن الأنفال صفية وجويرية أعتقهما وتزوّجهما.
والكلام في هذا
القيد كسابقه فإن المملوكة مطلقا حلال الّا انّه تعالى أراد له الأفضل وذلك لأنّ
الجارية إذا كانت سبية مالكها وخطبة سيفه ورمحه وممّا غنمه الله
__________________
من دار الحرب ، كان أحل وأطيب ممّا يشترى من شقّ الجلب.
قال في الكشاف والسّبي على ضربين سبى طيبة وسبى خبيثة ، فسبى الطيّبة
ما سبى من أهل الحرب ، وامّا من كان له عهد فالمسبىّ هي منهم سبى خبيثة ويدلّ عليه
قوله (مِمَّا أَفاءَ اللهُ
عَلَيْكَ) لأن فيء الله لا يطلق الا على الطيّب دون الخبيث قلت
ليس مراده أن التقييد بكونها مما أفاء الله إلخ للاحتراز عن سبي الخبيثة فإنّه لا
يصير مملوكا بإجماع علماء الإسلام وانّما المراد ان ما ملكت من هذا الجنس دون غيره
لأنّه فيء الله إلخ.
(وَبَناتِ عَمِّكَ
وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) اي نساء قريش (وَبَناتِ خالِكَ
وَبَناتِ خالاتِكَ) يعنى نساء بني زهرة (اللَّاتِي هاجَرْنَ
مَعَكَ) إلى المدينة يحتمل ان يكون القيد قيدا في الحلّية في
حقّه صلىاللهعليهوآله خاصّة ويؤيّده ما روى عن أمّ هاني بنت ابى طالب قالت خطبني رسول الله صلىاللهعليهوآله فاعتذرت اليه فعذرنى ، ثمّ انزل الله هذه الآية فلم
أحلّ له ، لأنّي لم أهاجر معه وفي المجمع هذا انّما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط
الهجرة في التّحليل ، ويحتمل أن يكون القيد بيانا للأفضل فانّ اللّاتي هاجرن معه صلىاللهعليهوآله من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه لثبات
قدمهن في الإسلام وزيادة المزية لهن على غيرهنّ.
(وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ) نصب بفعل مضمر فسره ما قبله أي تحلّ
__________________
امرأة مؤمنة أو انّه عطف على ما تقدمه ولا ينافيه التقييد بأن الّتي
للاستقبال فانّ المعنىّ بالإحلال الاعلام بالحلّ اي اعلمناك حلّ امرأة تهب لك
نفسها ولا تطلب منك مهرا من النّساء المؤمنات إن اتّفق ذلك ومن ثمّ أوردها نكرة
وقرئ بفتح ان على التّعليل بتقدير حذف اللام وان يكون مصدرا حذف معه الزّمان أي
مدة هبتها.
(إِنْ أَرادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) شرط للشّرط الأوّل في استيجاب الحلّ فان هبتها نفسها
منه صلىاللهعليهوآله لا يوجب حلّها إلّا بإرادته ورغبته فيها فانّ القبول
شرط في الهبة وارادته صلىاللهعليهوآله ورغبته هي قبول الهبة وما به يتمّ من غير احتياج الى
لفظ النّكاح. وقال بعض العامة لا بدّ من لفظ النّكاح من جهته ومقتضى الآية أنّه لا
يجب مهر للواهبة ولو بعد الدّخول لا ابتداء ولا انتهاء كما هو قضية الهبة
وللشافعيّة قول بوجوب المهر قالوا : وكون ذلك خاصة له ليس من حيث عدم المهر بل من
حيث عدم الانعقاد بلفظ الهبة لغيره لظاهر (أَنْ يَسْتَنْكِحَها) وهو بعيد ، لتحقّق نكاحه بلفظ الهبة وظاهر الآية كون
ذلك خاصّة من حيث المجموع والفائدة في العدول عن الخطاب إلى الغيبة مكررا للفظ
النّبيّ صلىاللهعليهوآله ثمّ الرّجوع الى الخطاب بقوله.
(خالِصَةً لَكَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فلا يشاركك فيها غيرك للإيذان بأنّه ممّا خصّ به لشرف
نبوته وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجلها وقد تبينا انّ الآية يدلّ على اباحة الوطي
بالهبة وحصول التّزويج بلفظها من خواصّه.
واستدلّ بها
الشّافعي على انّ النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأنّ اللّفظ تابع للمعنى ، وقد خصّ
عليه الصّلوة والسّلام بالمعنى فيخصّ باللّفظ ، وعلى هذا أصحابنا وقد تظافرت
اخبارهم عن أئمّة الهدى عليهمالسلام بذلك وأجاز الحنفيّة وقوعها بلفظ الهبة نظرا إلى انّ
الرّسول والأمة سواء في الاحكام إلّا فيما خصّه الدّليل ولا دليل قالوا وقوله
خالصة متعلّق بمجموع الأربع اي هذه الأربع خالصة لك من أزواجك من أمّهات المؤمنين
فلا تحلّ لغيرك وهو من الضّعف بمكان والدّليل ظاهر الآية واختصاص المعنى به يوجب
اختصاص اللفظ هذا.
وقد اختلف في
انّه هل كان عند النّبيّ امرأة وهبت نفسها له أم لا ، فعن ابن
عبّاس لم يكن عند رسول الله صلىاللهعليهوآله امرأة كذلك ، وقيل بل كانت ميمونة بنت الحرث بلا مهر قد
وهبت نفسها له ، وقيل هي زينب بنت خزيمة أمّ المساكين امرأة من الأنصار ، وقيل هي
أم شريك بنت جابر ، وقيل خوله بنت حكيم.
ويؤيّد هذا القول
ما رواه الكليني بإسناده عن ابى بصير وغيره في تسمية نساء النّبي صلىاللهعليهوآله إلى ان قال : ومات صلىاللهعليهوآله عن تسع نسوة وكان له سواهنّ الّتي وهبت نفسها للنّبيصلىاللهعليهوآله.
وانتصاب خالصة
على أنّه مصدر مؤكّد اي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة بمعنى خلوصا ، ويجوز على
الحالية من الضّمير في وهبت أو صفة مصدر محذوف أي هبة خالصة.
وقد اختلف في
كون الخالص هذه الأربع أو الأخيرة فعند الشّافعي الأخيرة وهو الصّحيح كما أشرنا
اليه وقالت الحنفيّة هي الأربع واستدلّ في الكشاف على الأوّل بورودها في أثر
الإحلالات الأربع كما يدلّ عليه قوله (قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) والمعنى أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في
الأزواج والإماء ، وعلى أي حدّ وصفه يجب أن تعرض عليهم كشرائط العقد ووجوب المهر
بالوطي ونحوه ، والحصر بعدد محصور ، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلىاللهعليهوآله بما اختصّه به ففعل.
(لِكَيْلا يَكُونَ
عَلَيْكَ حَرَجٌ) متعلّق بخالصة ، والمعنى انا اختصصناك بالتسرية واختيار
ما هو اولى وأفضل في دينك وفي دنياك ، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك
الواهبة نفسها للدّلالة على الفرق بينك وبين المؤمنين في ذلك ولا يذهب عليك أنّه
على تقدير كون الخالص الأربع يكون القيود في الأوّل معتبرة في التّحليل وقد ذكرنا
ما يتعلّق بذلك (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) لذنوب عباده تفضّلا أو مع التوبة (رَحِيماً) بهم أو بك في رفع الحرج عنك.
__________________
الرابعة (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ) اي النّساء وهي بالهمز بمعنى تؤخّرها وتترك مضاجعتها ،
وقرء حمزة والكسائى وحفص ترجى بالياء والمعنى واحد (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ
مَنْ تَشاءُ) وتضم إليك من تشاء منهنّ وتضاجعها ، وهو إشارة إلى عدم
وجوب القسمة عليه بين نسائه كما يجب ذلك علينا فيكون من خواصه صلىاللهعليهوآله حتّى روى أنّه صلىاللهعليهوآله بعد نزول الآية ترك القسمة بجماعة من نسائه وآوى إليه
جماعة منهنّ معيّنات ولا ينافيه قسمته صلىاللهعليهوآله بينهنّ حتّى انه كان يطاف به عليهنّ وهو مريض ويقول هذا
قسمي فيما أملك وأنت اعلم بما لا أملك ، يعنى قلبه صلىاللهعليهوآله لأن ذلك كان تكرما منه صلىاللهعليهوآله بالنّسبة إليهنّ لا وجوبا عليه وهذا هو المشهور بين
أصحابنا.
وقيل انّ
القسمة بين نسائه صلىاللهعليهوآله واجبة عليه كما يجب على غيره لعموم الأدلّة وفعله
القسمة على الوجه المتقدم والآية المذكورة يحتمل ان يكون المعنىّ بها تترك التزويج
بمن شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت منهنّ.
ويؤيّد هذا
المعنى ما في صحيحة الحلبي عن أبى عبد الله عليهالسلام قلت أرأيت قوله (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) فقال من أوى فقد نكح ، ومن أرجى فلم ينكح الحديث.
ويحتمل أن يكون
المعنى تطلق من تشاء من النّساء وتمسك من تشاء ، وعلى الأخيرين تكون ناسخة لقوله
لا يحلّ لك النّساء من بعد الآية على بعض الوجوه كما أشرنا إليه سابقا وفيه بعد.
واحتمل بعض
علمائنا ان يكون المشيئة في الإرجاء والإيواء لنسائه الواهبات على ان يكون وجوب
القسمة لمن تزوّجهنّ بالعقد وعدمها لمن وهبت نفسها.
وفيه نظر فان
ضمير جمع المؤنث في الآية كيف يرجع الى الواهبات مع انّه لم يسبق لهنّ ذكر على وجه
الجمع والنّبي صلىاللهعليهوآله لم يتزوّج بالهبة إلّا امرأة واحدة على ما ذكره
المفسرون والمحدثون وهو الظاهر من الآية فكيف يجعل الضمير عائدا
__________________
إلى الواهبات وليس منهنّ إلّا واحدة بل الظاهر أن ضمير الجمع عائد إلى جميع أزواجه المذكورة
في الآية السّابقة ومنه يعلم انّ ما ذكرناه أولا هو الظاهر منها.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ) يمكن ان يكون العزل بمعنى الطّلاق وان يكون بمعنى ترك
القسمة يعنى ان المعزولات لك ان تؤويهنّ بعد ابتغائك لهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في أيّ شيء فعلت إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممّن
عزلتهنّ وتضمّها إليك فلا اثم عليك في ابتغائها.
أباح الله له
ترك القسم في النّساء حتى يؤخر من شاء عن وقت نوبتها ويطأ من شاء في غير وقت
نوبتها ، وله ان يعزل من يشاء وله أن يردّ المعزولة ان شاء فضّله الله تعالى بذلك
على جميع الخلق.
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ
أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) ذلك التفويض الى مشيّتك أقرب الى قرّة أعينهنّ وقلة
حزنهنّ ورضاهنّ جميعا لأنّه إذا سوى بينهنّ في الإرجاء والعزل والابتغاء ارتفع
التّفاضل ، ولم يكن لإحداهنّ ممّا تريد وممّا لا تريد الأمثل ما للأخرى ، وعلمن
انّ هذا التّفويض من عند الله وحاصل بفرضه اطمأنت نفوسهنّ وذهب التّنافس والتغاير
بينهنّ وحصل الرّضا وقرّت العيون وتسلّت القلوب.
أو انّ ذلك
إشارة إلى ردّ المعزولات إليك فإنهنّ إذا علمن أنهنّ غير مطلقات رجون انّك ترجعهنّ
إليك فقد روى انّه أرجى منهنّ سودة وجويرية وصفيّة و
__________________
ميمونة وأم حبيبة فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الرّضا والسّخط والميل الى بعض النّساء دون بعض (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالح عباده (حَلِيماً) في ترك معاجلتهم بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى ويخشى منه.
الخامسة (وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالإسلام الّذي هو أجلّ النعم وأعظمها (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بإعتاقك إيّاه بعد ان ملكته بالأسر ومحبّتك له حتّى
جعلته بمثابة الابن فلا يعرفه النّاس الّا بابنه كما قيل ، فهو ينقلب في نعمة الله
ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة فإنّ النّبي صلىاللهعليهوآله بعد أن أكرمه على الوجه السابق خطب له زينب بنت جحش
الأسدية وكانت أمّها أميمة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلىاللهعليهوآله وعندها أنّها يخطبها لنفسه صلىاللهعليهوآله فلما علمت ان الخطبة لزيد أبت وأنكرت ذلك لعلو نسبها
فنزلت آية (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ) الآية فقالا رضينا يا رسول الله فأنكحها إيّاه وساق عنه
المهر.
ثم ان زيدا بعد
مدة خاصم زوجته زينب وأشرف على طلاقها وأضمر رسول الله في نفسه أنّه ان طلقها زيد
تزوّجها حيث كانت بنت عمّته وكان يحب ضمّها إلى نفسه كما يحب أحدنا ضمّ قراباته
اليه فقال زيد لرسول الله صلىاللهعليهوآله انّى أريد أن افارق صاحبتي فقال مالك أرابك منها شيء
قال لا والله ما رأيت منها الّا خيرا ولكنها متعظّم علىّ لشرفها وتؤذيني.
(أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) مقول قوله صلىاللهعليهوآله وهذا يقتضي مشاجرة جرت بينهما حتى وعظه الرّسول وقال له
أمسكها واتّق الله في مفارقتها ومضارتها.
(وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهو ارادة نكاحها ان طلقها أو علمك بان زيدا سيطلقها
وانّك ستنكحها ويكون من أزواجك ، لأنّ الله تعالى قد أعلمه بذلك ، قيل لو كتم رسول
الله شيئا ممّا أوحى إليه لكتم هذه الآية.
(وَتَخْشَى النَّاسَ) تعبيرهم إيّاك بذلك وقالتهم أنّه أمره بطلاقها وتزوّجها
(وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشاهُ) ان كان في ذلك ما يخشى ولا دلالة فيه على انّ النّبي صلىاللهعليهوآله خشي
__________________
النّاس ولم يخش الله إذ المعنى انّ الله وحده أحقّ بالخشية وأنت تخشاه
وتخشى النّاس أيضا فاجعل الخشية واحدة والواو في المواضع الثلثة للحال .
وليست المعاتبة
على هذا الوجه دالّة على أنّه صلىاللهعليهوآله صدر منه ما هو منهي عنه في الواقع فإنّ الإنسان قد
يتحفظ من أشياء يستحيي من اطلاع النّاس عليها ، وهي في نفسها مباحة متسعة وحلال
طلق لا عيب فيها عند الله ولا مقال لأهل العقول الكاملة فيها ، ولو أظهرها لأطلق
بعض ناقصي العقول فيه ألسنتهم.
ينبه على ذلك
انّهم كانوا يجلسون مع النّبيّ صلىاللهعليهوآله في بيوته يتحدّثون وكان ذلك يؤذيه ولم يتكلّم لهم في
ذلك حذرا من بعض القالة فيه بين النّاس حتّى انزل الله (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ
فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) الآية.
فهذا من ذلك ،
أو طموح قلب الإنسان في بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل
ولا في الشرع لأنّه ليس بفعل الإنسان ولا حصوله باختياره وتناول المباح على
الطّريق الشرعي لا قبح فيه وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا
طلب اليه مع كمال اختصاصه به وعلمه بان نفس زيد لم يكن من التعلّق بها في شيء بل
كانت تجفو عنها ونفس رسول الله صلىاللهعليهوآله متعلّقة بها.
على انّه لم
يكن مستنكرا عندهم ان ينزل الرّجل عن امرأته لصديقه ولا ـ مستهجنا إذا نزل عنها ان
ينكحها آخر فانّ المهاجرين حين دخلوا المدينة أسهمتهم الأنصار بكلّ شيء حتّى انّ
الرّجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وانكحها المهاجر.
وإذا كان الأمر
مباحا من جميع جهاته ولم يكن فيه شائبة قبح ولا مفسدة
__________________
ولا مضرة بزيد ولا بأحد بل كان مستجرّا مصالح واحدة منها أن بنت عمّة رسول
الله صلىاللهعليهوآله أمنت اللائمة والضيعة ونالت الشرف وعادت امّا من أمّهات
المسلمين الى ما ذكر تعالى من المصلحة العامة في رفع الحرج عن المؤمنين في أزواج
أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا كان محلا للمعاتبة على كتمانه والمبالغة في الكتمان
على الوجه الّذي وقع.
كذا في الكشاف وفيه شيء من حيث دلالته على أنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآله قد تعلّق قلبه بها قبل فراق زيد ايّاها ولا يخفى أن
محبّة الأنبياء لمن ليس بحلال لهم منفر عنهم وحاطّ عن رتبتهم وكونها غير مختارة
لهم لا ينفى ذلك ، فإنّه ليس كلّ شيء وجب ان يتجنّبه الأنبياء يكون مقصورا على
أفعالهم الاختيارية ، فإنّ الله قد جنبهم الفظاظة والغلظة والعجلة والبرص والجذام
وتفاوت الصّور واضطرابها ، وكلّ ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم.
وبالجملة لا
يذهب على عاقل انّ عشق الرّجل زوجة غيره منفّر عنه معدود في جملة معايبه ومثالبه ،
نعم الّذي أخفاه هو أنها يكون من أزواجه وانّه تعالى عاتبه على ذلك وقريب منه ما
رواه في المجمع عن علىّ بن الحسين عليهماالسلام أنّ الّذي أخفاه في نفسه هو ان الله تعالى أعلمه انّها
سيكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها فلمّا جاء زيد وقال له : أريد أن أطلق زينب قال
له : أمسك عليك زوجك فقال تعالى لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك انّها ستكون من
أزواجك.
قال في المجمع
وهذا التّأويل مطابق لتلاوة الآية وذلك أنه تعالى اعلم انّه يبدي ما أخفاه ولم
يظهر غير التّزويج فقال (زَوَّجْناكَها) فلو كان الّذي أضمره محبّتها أو إرادة طلاقها لا ظهر
الله تعالى ذلك مع وعده بأنه يبديه ، فدلّ ذلك على انّه انّما عوتب على قوله (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) مع علمه بأنّها تكون زوجته وكتمانه ما أعلمه الله تعالى
حيث أستحيي أن يقول لزيد ان التي تحتك سيكون امرأتي وقيل غير ذلك
__________________
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً) حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها نفس كما يشعر به لفظ
قضاء الوطر فإنّه الفراغ من الشّيء على التمام فطلقها وانقضت عدتها (زَوَّجْناكَها) إذنا لك في تزويجها.
روى انّه لما
اعتدت زينب قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لزيد اذهب فاخطبها فانّى ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك
، قال زيد فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها فلما رأيتها عظمت في صدري ، حتّى ما
استطيع ان انظر إليها حين علمت انّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ذكرها فولّيتها ظهري وقلت يا زينب أبشري ان رسول الله صلىاللهعليهوآله يخطبك ففرحت وقالت ما انا بصانعة حتّى أوامر ربّى ،
فقامت الى مسجدها ونزل (زَوَّجْناكَها) فتزوّج بها رسول الله صلىاللهعليهوآله ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها
، ذبح شاة وأطعم النّاس الخبز واللحم حتى امتد النّهار.
وقرئ «زوجتكها»
والمعنى أنّه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد قيل ويؤيّده أنّها
كانت تفخر على نساء النّبيّ صلىاللهعليهوآله بأنّ الله قد تولّى نكاحي وأنتن الأولياء.
(لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ
وَطَراً) علة للتزويج وقد يستدلّ به على ان حكمه صلىاللهعليهوآله وحكم الأمة واحد إلّا ما خصّه الدّليل وهو يبطل قول من
أوجب التأسي به مطلقا في جميع أفعاله ما عدا الأفعال الجبليّة.
وفيه أيضا
دلالة على نفي الحرج عن المؤمنين في التزوّج بأزواج المتبنّين
__________________
وانّهم لا يجرون مجرى أزواج البنين في التحريم عليهم بعد انقطاع علائق
الزّوجيّة بينهم وبينهنّ وهو ردّ لما كانت عليه الجاهليّة من تحريم نكاح زوجة
الدّعي ، وهو الّذي كان أحدهم يربّيه ويضيفه الى نفسه على طريق البنوّة وكان من
عادتهم ان يحرموا على نفوسهم نكاح أزواج ادعيائهم فنسخ الله سنتهم (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) الّذي يريد أن يكون (مَفْعُولاً) مكوّنا لا محالة كما كان تزويج زينب من النّبي صلىاللهعليهوآله.
فهرس
ما في هذا الجزء من المطالب
كتاب
المكاسب
القسم الأول في البحث عن الاكتساب
بقول مطلق
|
٢
|
الاقرار
|
١٠٢
|
القسم الثاني في أشياء يحرم التكسب
بها
|
٨
|
الوصية
|
١٠٣
|
كتاب البيع
|
|
الحجر
|
١٢٧
|
التجارة عن تراض
|
٣٣
|
مخالطة اليتيم
|
١٤١
|
حرمة الربا
|
٣٧
|
العطايا المنجزة
|
١٤٦
|
كتاب الدين وتوابعه
|
|
النذر والعد واليمين
|
١٤٧
|
الاشهاد والكتابه
|
٥٥
|
العتق
|
١٦٥
|
إلظار المعسر
|
٦٥
|
كتاب النكاح
|
|
الرهن
|
٧٣
|
في مشروعيته واقسامه
|
١٧١
|
الجعالة والضمان
|
٧٩
|
تعدد الزوجات
|
١٧٩
|
الصلح
|
٨٢
|
المهر والصداق
|
١٨٧
|
الوكالة
|
٨٦
|
نكاح المتعة
|
١٩٢
|
كتاب فيه جملة من العقود
|
|
نكاح الأماء
|
٢٠٣
|
الاجارة
|
٩٠
|
تحريم منكوحة الاباء
|
٢١١
|
الشركة
|
٩٢
|
المحرمات بالنسب
|
٢١٥
|
المضاربة والابضاع
|
٩٤
|
المحرمات بالرضاع
|
٢١٩
|
توفية المكيال
|
٩٤
|
الربائب
|
٢٢٣
|
الابداع
|
٩٥
|
لوازم النكاح
|
٢٤١
|
العاربة
|
٩٦
|
أشياء من توابع النكاح
|
٢٦٦
|
السبق والرماية
|
٩٨
|
بحث في استثناء الوجه والكفين
|
٢٧٣
|
الشفعة
|
٩٩
|
بحث رجالي في محمّد بن قيس الراوي
|
٢٩٤
|
اللقطة
|
١٠٠
|
أشياء يتعلق بنكاج النبي صلىاللهعليهوآله
|
٣٢٤
|
الغصب
|
١٠١
|
|
|
|