
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله الطّاهرين
(ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ فِيهِ)
وبعد ، فقد صدق
الله وعده إذ قال : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
كان القرآن منذ
أوّل يومه ولا يزال موضع عناية ذوي الأحلام الراجحة والنفوس الطيّبة من علماء
ونبهاء ملأت بهم الآفاق. كما كان مطمح غواية ذوي الأحقاد الرديئة والأنفس الخبيثة
، لم ترعهم شاكلة القرآن الوضيئة ، فطفقوا يناوءونه في محاولة مستمرّة لغرض الحطّ
من كرامته الرفيعة أو النقص من دعائمه القويمة وهيهات (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).
وكان من
مضاعفات تلكم المحاولات الفاشلة أن تراكمت هناك (في غياهب التيه) شبهات هي ظلمات
بعضها فوق بعض (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).
__________________
والشّبهات حول القرآن ـ في قديمها أو الحديث منها ـ تتنوّع إلى أنحاء :
١ ـ منها ما
يعود إلى التشكيك في كونه وحيا مباشريا تلقّاه نبيّ الإسلام من ملكوت أعلى ، إمّا
لعدم إمكانه ، نظرا لعدم التوائم بين عالمين أحدهما أعلى لطيف والآخر أسفل كثيف!
وقد أجبنا على ذلك بإمكان الاتّصال بالجانب الروحاني (حقيقة الإنسان
الذاتيّة) من الإنسان إذا كان قد بلغ الكمال واستعدّ روحيّا للاتصال بالملإ الأعلى.
وإمّا لزعم
أنّها ملتقطات التقطها نبيّ الإسلام من أفواه الرجال (أهل الكتاب) كان يلتقي برجال
من أهل الديانات المعروفة في جزيرة العرب في رحلاته وأسفاره إلى مختلف البلاد ، بل
وفي مكّة والحجاز ممّن آوى إليها من المعتنقين للمسيحية وأبناء اليهود. (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).
أضف إليه ما
كان يستلهم من صميم وعيه المطعّم بإيحاءات البيئة التي كان يعيشها ، كان يستوحيها
من داخل ضميره عند ما يختلي بنفسه في غار حراء. فكان يستصفي أحسن ما تلقّاه ليبديه
وحيا من الله وقرآنا نازلا من السماء.
هكذا فرضوا
فيما زعموا من غير برهان أتاهم. وسنفصّل الكلام في ذلك.
٢ ـ ومنها زعم
التأثّر بالبيئة وثقافات جاهلية كانت ساطية حينذاك. حسبوا أنّ في القرآن الشيء
الكثير من رسوم وعادات بائدة كانت قد تعارفها العرب وربّما البشرية يوم ذاك وقد
خضع لها القرآن في كثير من تعاليمه وبرامجه ، والتي منها ما يبدو غليظا أو شديدا
أو متجافيا للحكمة ويتعافاه العقل الرشيد فيما تقدّمت ركب البشرية فيما بعد ،
وأخذوا من عقوبات الإسلام دليلا على ذلك فيما وهموا!
٣ ـ ومنها ما
حسبوه متهافتا من إيهام التناقض في القرآن ، ولو كان من عند الله لم يوجد فيه هذا
الاختلاف! هكذا حسبوا حسابهم لا عن مداقّة!
٤ ـ ومنها
احتمال وجود اللحن في القرآن إمّا تأريخيّا أو أدبيّا أو متنافيا مع بداهة العلم ،
فيما توهّموه عبر الخيال!
__________________
٥ ـ ومنها
احتمال التحريف في نصّه الكريم والذي يذهب بحجّيته وإمكان الاستناد إليه ، فيما
حسبه أهل الظاهر المقلّدة ممّن كانت تهمّهم الرواية وتعوزهم الدراية!
إلى غير ذلك من
تساويل شيطانية حيكت حول هذا الكتاب الإلهي العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). ومنذ أمد غير قصير قمنا بجمع تلك السفاسف والأقاويل
لنأتي عليها بما أوتينا من حول وقوّة (ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) وهو توفيق ربّاني نحمده عليه.
ولننظر فيما
سطّروه بهذا الصدد تباعا حسب الترتيب.
__________________
الباب الأول
هل للقرآن من مصادر؟
(إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحى)
سؤال أثارته
شاكلة المستشرقين الأجانب لكنّه رجع قول قد قاله رجال من قبلهم :
(وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان ٢٥ : ٥)
الوحي مصدر القرآن الوحيد!
(إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحى)
قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ
ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى).
كانت الدلائل
على أنّ القرآن كلّه ـ بلفظه ونظمه ومحتواه جميعا ـ كلام ربّ العالمين ، وافرة
وظافرة ، وقد تكفّل عرضها مباحث الإعجاز القرآني باستيفاء وإحكام. كما وأصبحت سفاسف المعاكسين لذلك الاتّجاه الناصع هباء
منثورا تذروه عواصف الرياح.
والآن ، فلنشهد
تجوالهم الحديث في هذا الميدان الرهيب :
وليعلم أنّ
عمدة مستند القول باستيحاء القرآن تعاليمه الدينية من زبر الأوّلين هو تواجد
التوافق ـ نسبيّا ـ بين شريعة الإسلام وشرائع سالفة.
لكن هذا لا
يجدي نفعا بعد اعترافنا بوحدة أصول الشرائع وأنّها جميعا مستقاة من عين واحدة : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى
كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ
اللهِ).
__________________
هذا فضلا عن
وجود التخالف الفاحش بين أكدار أحاطت بتلك الكتب على أثر التحريف ، وقداسة زاكية
حظي بها القرآن الكريم ، ولا يزال مصونا في حراسته تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
هذا إجمال الكلام في ذلك ولنخض في تفصيل الحديث :
كتب الكثير من
الكتّاب المستشرقين عن نبيّ الإسلام والقرآن حسب أساليبهم في التحقيق عن سائر
الأديان ، حيث لا يرون لها صلة بوحي السماء. فكان من الطبيعي في عرفهم أن يلتمسوا
من هنا وهناك مصادر غذّت تلكم الشرائع في طول التأريخ.
وحتّى من تظاهر
منهم بالمسيحيّة يعتنقونها شكليّا وليس عن صدق عقيدة.
غير أنّ
المسيحية ـ ولو شكليّا ـ كانت من الدوافع الحافزة للبغي على الإسلام وللنظر إليه
نظرة سوء. وهذا ما يسمّى بالاستشراق الديني الّذي قام به أبناء الفاتيكان ، كان
أوّل روّاده من رجال الكنيسة وعلماء اللّاهوت حيث ظلّوا المشرفين على هذه الحركة
والمسيّرين لها طوال القرنين الأخيرين. وكان الهدف من ذلك :
١ ـ الطعن في
الإسلام وتشويه حقائقه.
٢ ـ حماية
النصارى من خطر الإسلام بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة وآياته البيّنة
اللّائحة.
٣ ـ محاولة
تنصير المسلمين ، ولا أقلّ من تضعيف العقيدة في نفوسهم أضف إلى ذلك دوافع
استعماريّة : ثقافيّة وسياسيّة وتجاريّة تحول دون خلوص مهنة الاستشراق (استطلاع
تاريخ الثقافة الشرقية بسلام) ومن ثمّ فقد أسيء بهم الظنّ في كثير ما يبدونه من
نظر.
جاء في قصّة
الحضارة : وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيّين وكان منهم عدد قليل في مكّة ،
وكان محمّد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل هو ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة ،
الذي كان مطّلعا على كتب اليهود والمسيحيّين المقدّسة. وكثيرا ما كان محمد يزور
المدينة التى مات فيها والده عبد الله. ولعلّه قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا
__________________
كثيرين فيها. وتدلّ كثير من آيات القرآن على اعجابه بأخلاق المسيحيّين ،
وبما في دين اليهود من نزعة إلى التوحيد ، وبما عاد على المسيحية واليهودية من
قوّة كبيرة لأنّ لكلتيهما كتابا مقدّسا تعتقد أنّه موحى من عند الله.
قال : ولعلّه
قد بدا له أنّ ما يسود جزيرة العرب من شرك ، ومن عبادة للأوثان ، ومن فساد خلقي ،
ومن حروب بين القبائل وتفكّك سياسي ، نقول : لعلّه قد بدا له أنّ حال بلاد العرب
إذا قورنت بما تأمر به المسيحية واليهودية حال بدائية لا تشرف ساكنيها. ولهذا أحسّ
بالحاجة إلى دين جديد. ولعلّه أحسّ بالحاجة إلى دين يؤلّف بين هذه الجماعات
المتباغضة المتعادية ويخلق منها أمّة قوية سليمة ، دين يسموا بأخلاقهم عمّا ألفه
البدو من شريعة العنف والانتقام ، ولكنّه قائم على أوامر منزلة لا ينازع فيها
إنسان. ولعلّ هذا الأفكار نفسها قد طافت بعقل غيره من الناس. فنحن نسمع عن قيام
عدد من المتنبّئين في بلاد العرب في بداية القرن السابع ، وقد تأثّر كثير من العرب
بعقيدة المسيح المنتظر التى يؤمن بها اليهود. وكان هؤلاء أيضا ينتظرون بفارغ الصبر
مجيء رسول من عند الله. وكانت في البلاد شيعة من العرب تدعى بالحنفيّة أبت أن تقرّ
بالالوهية لأصنام الكعبة ، وقامت تنادي بإله واحد يجب أن يكون البشر جميعا عبيدا
له وأن يعبدوه راضين (هم : ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث
، وزيد بن عمرو بن نفيل). كانوا قد أيقنوا أنّ ما هم عليه من الوثنية ليس بشيء ،
فتفرّقوا في البلاد يلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم عليهالسلام ...
وكان محمّد ـ كما
كان كلّ داع ناجح في دعوته ـ الناطق بلسان أهل زمانه والمعبّر عن حاجاتهم وآمالهم
...
ويقول الأسقف
يوسف درّة الحدّاد : استفاد القرآن من مصادر شتّى أهمّها الكتاب المقدّس ولا
سيّما كتاب موسى ، وذلك بشهادة القرآن ذاته :
__________________
(إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).
(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى).
(وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ
بَنِي إِسْرائِيلَ).
قال : فآية
محمّد الأولى هي مطابقة قرآنه للكتب السابقة عليه. وآيته الثانية استشهاده بعلماء
بني إسرائيل وشهادتهم له بصحّة هذه المطابقة. ولكن ما الصلة بين القرآن وكونه في
زبر الأوّلين؟! هذا هو سرّ محمّد! فيكون من ثمّ أنّه نزل في زبر الأوّلين بلغة
أعجميّة يجهلونها ، ثمّ وصل إلى محمّد بواسطة علماء بني إسرائيل ، فأنذر به محمّد
بلسان عربيّ مبين.
فأصل القرآن
منزل في زبر الأوّلين ، وهذا يوحي بصلة القرآن بمصدره الكتابي زبر الأوّلين ، أي
صحفهم وكتبهم.
وأيضا فإنّ
شهادة علماء أهل الكتاب بصحّة ما في القرآن لم تكن إلّا لأنّهم كانوا شركاء هذا
الوحي المولود. ذلك لأنّ الوحي التنزيلي أمر شخصي لا يعرفه غير صاحبه فحسب.
والآية (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً
وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) فيها صراحة بأنّه تتلمذ لدى كتاب موسى وجعله في قالب
لسان العرب ، الأمر الذي يجعل من القرآن نسخة عربيّة مترجمة عن الكتاب الإمام.
(كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا). التفصيل هنا يعنى النقل من الأصل الأعجمي إلى العربي. فالقرآن
موحى ، والتفصيل العربي للكتاب منزّل ، لأنّ الأصل وحي منزّل ...
وعلى هذا
الغرار جرى كلّ من «تسدال» و «ماسيه» و «أندريه» و «لامنز» و «جولد تسيهر» و «نولديكه»
إلى أنّ القرآن استفاد كثيرا من زبر الأوّلين ، وحجّتهم في ذلك
__________________
محضر التشابه بين تعاليم القرآن وسائر الصحف. فالقصص والحكم في القرآن هي
التي جاءت في كتب اليهود ، وكذا قضايا جاءت في الأناجيل وحتّى في تعاليم زرادشت
والبرهمية في مثل حديث المعراج ونعيم الآخرة والجحيم والصراط والافتتاح بالبسملة
والصلوات الخمس وأمثالها من طقوس عبادية ، وكذا مسألة شهادة كلّ نبيّ بالآتي بعده
، كلّها مأخوذة من كتب سالفة كانت معهودة لدى العرب.
زعموا أنّ
القرآن صورة تلمودية وصلت إلى نبيّ الإسلام عن طريق علماء اليهود وسائر أهل الكتاب
ممّن كانت لهم صلة قريبة بجزيرة العرب ، فكان محمّد صلىاللهعليهوآله يلتقي بهم قبل أن يعلن نبوّته ، ويأخذ منهم الكثير من
اصول الشريعة.
يقول «ول
ديورانت» : وجدير بالذكر أنّ الشريعة الإسلاميّة لها شبه بشريعة اليهود ... ثمّ
جعل يسرد قضايا مشتركة بين القرآن والعهدين ويعدّ منها مسألة التوحيد والنبوّة
والإيمان والإنابة ويوم الحساب والجنّة والنار ، زاعما أنّها من تأثير اليهوديّة
على دين الإسلام. وكذا كلمة التوحيد (لا إله إلّا الله» مأخوذة من كلمة إسرائيلية
: ألا فاسمع يا إسرائيل وحدك. والبسملة مأخوذة أيضا من تلمود. ولفظة «الرحمن»
معرّبة من «رحمانا» العبريّة ... إلى غيرها من تعابير جاءت في الإسلام منحدرة عن
أصل يهودي. الأمر الذي جعل البعض يتصوّر أنّ محمدا كان عارفا بمصادر يهودية وكانت
هي مستقاه في تأليف القرآن ...
شرائع إبراهيمية منحدرة عن أصل واحد
نحن المسلمين
نعتقد في الشرائع الإلهيّة أجمع أنّها منحدرة عن أصل واحد ومنبعثة من منهل عذب
فارد ، تهدف جميعا إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. والإخلاص في العمل الصالح
والتحلّي بمكارم الأخلاق ، من غير اختلاف في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى
بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما
__________________
وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ ...).
إذن ، فالدين
واحد والشريعة واحدة والأحكام والتكاليف تهدف إلى غرض واحد وهو كمال الإنسان (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ). يعني أنّ الدين كلّه ـ من آدم فإلى الخاتم ـ هو الإسلام
أي التسليم لله والإخلاص في عبادته محضا.
(وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ). الإسلام هو الدين الشامل ، فمن حاد عنه فقد حاد عن
الجادّة الوسطى وضلّ الطريق في نهاية المسير. وهكذا تأدّب المسلمون بالإيمان بجميع
الأنبياء من غير ما فارق. (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ).
وهذا منطق
القرآن يدعو إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، وأن لا تفرقة بين الأديان ما دام
التسليم لله ربّ العالمين ، وبذلك يكون الاهتداء والاتحاد ، وفي غيره الضلال
والشقاق ، (فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ
فِي شِقاقٍ).
وفي ذلك ردّ
وتشنيع بشأن اليهود والنصارى ، أولئك الذين يدعون إلى الحياد والانحياز (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى
تَهْتَدُوا). أي قالت اليهود كونوا منحازين على اليهوديّة لا غيرها
حتى تهتدوا!
وقالت النصارى
كونوا حيادا على النصرانية لا غيرها حتى تهتدوا! والقرآن يردّ عليهم جميعا ويدعو
إلى الالتفاف حول الحنيفية الإبراهيمية : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
(صِبْغَةَ اللهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ).
نعم ، صبغة
الله شاملة وكافلة للإسعاد بالبشرية جمعاء ، الأمر الذي يعتنقه المسلمون أجمع ،
والحمد لله.
__________________
وحدة المنشأ هو السبب للتوافق على المنهج
وبعد ، فإنّ
ائتلاف الأديان السماوية واتّحاد كلمتها لا بدّ أن يكون عن سبب معقول ، وهذا يحتمل
أحد وجوه ثلاثة :
١ ـ إمّا لوحدة
المنشأ ، حيث الجميع منبعث من أصل واحد ، فكان التشابه في الفروع المتصاعدة
طبيعيّا.
٢ ـ أو لأنّ
البعض متّخذ من البعض فكان التشاكل نتيجة ذاك التبادل يدا بيد.
٣ ـ أو جاء
التماثل عن مصادفة اتفاقيّة وليس عن علّة حكيمة.
ولا شكّ أنّ
الأخير مرفوض بعد مضادّة الصدفة مع الحكمة الساطية في عالم التدبير.
بقي الوجهان الأوّلان
، فلنتساءل القوم : ما بالهم تغافلوا عن الوجه الأوّل الرصين وتواكبوا جميعا على
الوجه الهجين؟! إنّ هذا لشيء مريب!
هذا ، والشواهد
متظافرة تدعم الشقّة الاولى لتهدم الاخرى من أساس :
أوّلا : صراحة
القرآن نفسه بأنّه موحى إلى نبيّ الإسلام وحيا مباشريّا نزل عليه ليكون للعالمين
نذيرا ، فكيف الاستشهاد بالقرآن لإثبات خلافه!؟ إن هذا إلّا تناقض في الفهم
واجتهاد في مقابلة النصّ الصريح!
ثانيا : معارف
فخيمة قدّمها القرآن إلى البشرية ، بحثا وراء فلسفة الوجود ومعرفة الإنسان ذاته ،
لم يكد يدانيها أيّة فكرة عن الحياة كانت البشرية قد وصل إليها لحدّ ذاك العهد ،
فكيف بالهزائل الممسوخة التي شحنت بها كتب العهدين؟!
ثالثا : تعاليم
راقية عرضها القرآن لا تتجانس مع ضئالة الأساطير المسطّرة في كتب العهدين ، وهل
يكون ذاك الرفيع مستقى من هذا الوضيع؟!
إلى غيرها من
دلائل سوف يوافيك تفصيلها.
القرآن يشهد بأنّه موحى
وأمّا إن كنّا
نستنطق القرآن فإنّه يشهد بكونه موحى إلى نبيّ الإسلام محمّد صلىاللهعليهوآله كما أوحى إلى النبيّين من قبله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ
وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ
عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى
تَكْلِيماً. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. لكِنِ اللهُ
يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).
والآيات بهذا
الشأن كثيرة ، ناطقة صريحا بكون القرآن موحى إلى نبيّ الإسلام وحيا مباشريّا لينذر
قومه ومن بلغ كافّة.
أمّا أنّه صلىاللهعليهوآله تلقّاه (التقطه) من كتب السالفين وتعلّمه من علماء بني
إسرائيل فهذا شيء غريب يأباه نسج القرآن الحكيم.
القرآن في زبر الأوّلين
وأمّا ما تذرّع
به صاحبنا الاسقف درّة فملامح الوهن عليه بادية بوضوح :
قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ
إِبْراهِيمَ وَمُوسى).
هذا إشارة إلى
نصائح تقدّمت الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا.
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى). وذلك تأكيد على أنّ ما جاء به محمّد صلىاللهعليهوآله لم يكن بدعا ممّا جاء به سائر الرسل (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ). فليس الذي جاء به نبيّ الإسلام جديدا لا سابقة له في
رسالات الله ، الأمر الذي يستدعيه طبيعة وحي السماء
__________________
العامّ وفي كلّ الأدوار من آدم فإلى الخاتم. فإنّ شريعة الله واحدة لا
يختلف بعضها عن بعض. فالإشارة راجعة إلى محتويات الكتاب توالى نزولها حسب توالي
بعثة الأنبياء. فالنصائح والإرشادات تكرّرت مع تكرّر الأجيال. هذا ما تعنيه الآية
لا ما زعمه صاحبنا الأسقف!
وهكذا قوله
تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى).
يعود الضمير
إلى من وقف في وجه الدعوة مستهزئا بأن سوف يتحمّل آثام الآخرين إن لم يؤمنوا بهذا
الحديث. فيردّ عليهم القرآن : ألم يبلغهم أنّ كلّ إنسان سوف يكافأ حسب عمله ولا
تزر وازرة وزر اخرى؟ فإن لم يعيروا القرآن اهتماما فليعيروا اهتمامهم لما جاء في
الصحف الأولى ، وهلّا بلغهم ذلك وقد شاع وذاع خبره منذ حين؟! وهكذا سائر الآيات
تروم هذا المعنى لا غير!
(أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)
وآية اخرى على
صدق الدعوة المحمّدية : أنّ الراسخين في العلم من أهل الكتاب يشهدون بصدقها ممّا
عرفوا من الحقّ :
(لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) (أي من أهل الكتاب) (وَالْمُؤْمِنُونَ) (أي من أهل الإسلام) (يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).
(وَإِذا سَمِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ). وهؤلاء هم القساوسة والرهبان الذين لا يستكبرون ، ومن
ثمّ فهم خاضعون للحقّ أين وجدوه ، وبالفعل فقد وجدوه في حظيرة الإسلام.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) (أيها الكافرون بالقرآن) (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ) (ممن آمن برسالة الإسلام) (عَلى مِثْلِهِ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ).
__________________
الضمير في قوله
«على مثله» يعود إلى القرآن. يعني أنّ من علماء بنى إسرائيل من يشهد بأنّ تعاليم
القرآن تماما مثل تعاليم التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ولذا آمن به لما قد
لمس فيه من الحقّ المتطابق مع شريعة الله في الغابرين.
وكثير من علماء
أهل الكتاب آمنوا بصدق رسالة الإسلام فور بلوغ الدعوة إليهم ، حيث وجدوا ضالّتهم
المنشودة في القرآن فآمنوا به. فكانت شهادة عمليّة إلى جنب تصريحهم بذلك علنا على
الملأ من بني إسرائيل.
وهذا هو معنى
شهادة علماء بني إسرائيل بصدق الدعوة ، حيث وجدوها متطابقة مع معايير الحقّ الذي
عندهم. لا ما حسبه صاحبنا الأسقف بعد أربعة عشر قرنا أنّه مقتبس من كتبهم ومتلقّى
من أفواههم هم!! الأمر الذي لم يقله أولئك الأنجاب وقد أنصفوا الحقّ الصريح! (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ).
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ).
وهذه المعرفة
ناشئة عن لمس الحقيقة في الدعوة ذاتها وفقا لمعايير وافتهم على أيدي الرسل من قبل.
وقد لمسها أمثال صاحبنا الاسقف اليوم أيضا ولكن (جَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) كالذين من قبلهم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) ممّن حاول إخفاء الحقيقة ـ قديما وحديثا ـ فضلّوا
وأضلّوا وما كانوا مهتدين.
مقارنة عابرة بين القرآن وكتب سالفة محرّفة
معارف فخيمة امتاز بها الإسلام
والآن ،
فلنقارن ـ شيئا ـ بين ما جاء في القرآن من معارف وتعاليم كانت في قمّة الشموخ
والعظمة ، وبين ما ذكرته سائر الكتب أو بلغتها الفكرة البشريّة في قصور بالغ. وليكون
برهانا قاطعا على أنّ هذا الهزيل لا يصلح لأن يكون مستندا لذلك الفخيم!
__________________
جلائل صفات الله في القرآن
جاء وصفه تعالى
في القرآن ما يفوق الفكر البشري آنذاك ، بل ولو لا القرآن لما تسنّى للبشرية أن
تبلغه على مدى الزمان. حيث أدقّ الوصف ما وصف الله نفسه في كلامه العزيز (القرآن
الكريم وليس في غيره إطلاقا).
جاء في سورة
الحشر : (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.
هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ. سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى. يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وفي سورة
التوحيد : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً
أَحَدٌ).
وفي سورة الرعد
: (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ).
وفي سورة
الشورى : (فاطِرُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
وفي سورة
البقرة : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
إلى غيرها من
جلائل صفات زخر بها القرآن الكريم واختلى عنها سائر الكتب ، اللهمّ إلّا النزر
اليسير ، فيا ترى هل يصلح أن يكون هذا النزر اليسير منشأ لذلك الجمّ الغفير؟!
وكلّ واحدة من
هذه الصفات تنمّ عن حقيقة ملحوظة في الذات المقدّسة هي منشأ
__________________
لآثار وبركات فاضت بها سلسلة الوجود ، وقد شرحها العلماء الأكابر ملأ
موسوعات كبار.
وصفه تعالى كما في التوراة؟
وأدنى مراجعة
لكتب العهدين تكفي للإشراف على مدى الوهن في وصفه تعالى بما يجعله في مرتبة أخسّ
مخلوق ويتصرّف تصرّفات لا تليق بساحة قدسه الرفيع.
تلك قصّة بدء
الخليقة جاءت في سفر التكوين مشوّهة شائنة : تجد الإله الخالق المتعالي هناك إلها
يخشى منافسة مخلوق له ، فيدبّر له المكائد في خداع فاضح.
جاء فيها : إنّ
الرّبّ الإله لمّا أسكن آدم وزوجته حوّاء في جنّة عدن رخّص لهما الأكل من جميع شجر
الجنّة وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا يأكلا منها. وما كرهما في ذلك قائلا : «لأنّك
ـ خطابا لآدم ـ يوم تأكل منها موتا تموت».
وهي كذبة حاول
خداعهما بذلك لئلّا يصبحا عارفين كالإله وينافسا سلطانه ، الأمر الذي صادقهما فيه
إبليس وقال لهما : «لن تموتا ، بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما
وتكونان كالله عارفين الخير والشرّ»!
وحينما أكلا
منها تبيّن صدق إبليس وكذب الإله ـ وحاشاه ـ فانفتحت أعينهما وشعرا بأنّهما
عريانان فجعلا يخيطان لأنفسهما مآزر من ورق التين.
وفي هذا
الأثناء جاء الإله يتمشّى بأرجله في الجنّة إذ سمعا الصوت فاختبئا وراء شجرة لئلّا
يفتضح أمرهما ، وناداهما الربّ : أين أنتما؟ فقال آدم : ها نحن هنا فخشيت لأنّي
عريان فاختبأت!
فهنا عرف الربّ
أنّهما أكلا من الشجرة وأصبحا عارفين للخير والشرّ فقال : هو ذا الإنسان قد صار
كواحد منّا ، والآن لعلّه يمدّ يده ويتناول من شجرة الحياة ويحيا إلى الأبد ،
فطردهما من الجنّة وأقام حرسا عليها لئلّا يقربا منها.
__________________
هكذا إله
التوراة يخشى منافسة مخلوق صنعه بيده فيماكر ويخاتل كي يصرفه عنها ، ويجهل ويكذب
كذبة عارمة افتضحت لفورها على يد إبليس منافسة الآخر! الأمر الذي يشفّ عن عجز وضعف
مضافا إلى الوهن في التدبير والعياذ بالله!
* * *
هذا ، والقرآن
يعلّل المنع (من تناول الشجرة) بشقاء (عناء في الحياة) سوف ينتظرهما لو أكلا منها
، منعا إرشاديّا لصالح أنفسهما : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى). أي تقع في مشاقّ الحياة بعد هذا الرغد في العيش الهنيء.
وإبليس هو الذي
ما كرهما وكذب كذبته الفاضحة : (قالَ ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا
مِنَ الْخالِدِينَ. وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُما
بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا
يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
فالذي كذب
وافتضح هو إبليس ، كما جاء في القرآن ، على عكس ما جاء في التوراة!
وفارق آخر :
كان آدم وحوّاء متلبّسين بلباس يستر سوءاتهما قبل أن يغويهما الشيطان لينزع عنهما
لباسهما ويريهما سوءاتهما.
وهذا على عكس
التوراة (المصطنعة) تفرضهما عريانين من غير شعور بالعراء حتى إذا ذاقا الشجرة ،
فعند ذلك شعرا بالعراء وحاولا التستّر بورق الجنّة.
فكان الله قد
خلقهما عريانين من غير أن يشعرا بالخجل والحياء كسائر الحيوان. فجاء إبليس
ليخرجهما من العمه إلى العقل الرشيد!
وفارق ثالث :
القرآن يمجّد الإله برحمته الواسعة على العباد ، وحتّى الذين أسرفوا على أنفسهم أن
لا يقنطوا من رحمة الله (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وبالفعل فقد تاب الله على آدم واجتباه مع ما فرط منه من
النسيان ومخالفة وصيّة الله (ثُمَّ
__________________
اجْتَباهُ
رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ، ووعده الرحمة المتواصلة والعناية الشاملة طول حياته
وحياة ذراريه في الأرض (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ).
وهذا يعطي
امتداد بركات الله على أهل الأرض أبدا. على خلاف ما ذكرته التوراة بامتداد سخطه
تعالى على آدم ، وجعل الأرض ملعونة عليه وعلى زوجته وذراريهما عبر الحياة أبدا «ملعونة
الأرض بسببك».
نعم كان الإله
ـ حسب وصف القرآن ـ غفورا ودودا رءوفا بعباده. وحسب وصف التوراة : حقودا عنودا
شديد الانتقام!
فأين ذاك التوافق
المزعوم ليجعل مصطنعات اليهود أصلا تفرّع منه القرآن؟!
الله يصول ويجول ضدّ بني آدم؟
ومسرحا آخر
ترينا التوراة كيف حشّد الإله الربّ جموعه لمكافحة بني آدم : فرّق شملهم وبلبل
ألسنتهم فلا يجتمعوا ولا يتوازروا ولا يتعارف بعضهم إلى بعض ولا يتعاونوا في
حياتهم الاجتماعية ... لما ذا؟ لأنّه كان ـ وحاشاه ـ يخاف سطوتهم فيثورون ضدّ
مطامع الإله!!
جاء في سفر
التكوين : كان بنو الإنسان على لسان واحد متفرّقين على وجه الأرض ، فحاولوا
التجمّع وبناء مدينة في أرض شنعار (بين دجلة والفرات من أرض العراق). فنزل الربّ لينظر بناء المدينة والبرج (برج بابل) ولكن
هابه ذلك وخاف سطوتهم ، فعمد إلى تدمير المدينة وتفريق الألسن ، فلا يستطيع أحدهم
أن يجتمع مع الآخر ليتفاوض معه ، فبدّدهم الربّ من هناك على وجه الأرض ومنعهم من
البنيان.
__________________
هكذا تبدي
التوراة عداءه تعالى مع بني الإنسان!
هذا والقرآن
يحثّ الأمم على الاجتماع دون التفرّق ، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم ليتعاونوا في
الحياة ، دون التباغض والتباعد والاختلاف :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا ...).
(وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
الإنسان سرّ الخليقة
الإنسان ـ كما
وصفه القرآن ـ صفوة الخليقة وفلذتها وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.
لا تجد وصفا عن
الإنسان وافيا ببيان حقيقته الذاتية التى جبله الله عليها ـ في جميع مناحيها
وأبعادها المترامية ـ في سوى القرآن. يصفه بأجمل صفات وأفضل نعوت لم ينعم بها أيّ
مخلوق سواه ، ومن ثمّ فقد حظى بعناية الله الخاصّة وحبي بكرامته منذ بدء الوجود.
ولنشر إلى
فهرسة تلكم الصفات والميزات التي أهّلته لمثل هذه العناية والحباء :
١ ـ خلقه الله
بيديه : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ).
٢ ـ نفخ فيه من
روحه : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).
٣ ـ أودعه
أمانته : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ).
٤ ـ علّمه
الأسماء كلّها : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها ...).
٥ ـ أسجد له
ملائكته : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ...).
__________________
٦ ـ منحه
الخلافة في الأرض : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
٧ ـ سخّر له ما
في السّماوات والأرض جميعا : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).
ومن ثمّ بارك
نفسه في هذا الخلق الممتاز : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
ميزات سبع حظي
بها الإنسان في أصل وجوده ، فكان المخلوق المفضّل الكريم. وإليك بعض التوضيح :
ميزات الإنسان الفطرية
امتاز الإنسان
في ذات وجوده بميزات لم يحظ بها غيره من سائر الخلق :
فقد شرّفه الله
بأن خلقه بيديه : (ما مَنَعَكَ) (خطابا لإبليس) (أَنْ تَسْجُدَ لِما
خَلَقْتُ بِيَدَيَ). والله خالق كلّ شيء. فلا بدّ أن تكون هناك خصوصيّة في
خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التنويه. هي خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن ،
وإيداعه نفخة من روح الله دلالة على هذه العناية!
قال العلّامة
الطباطبائي : نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي). وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه ،
ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصنع شيء استعمل يديه معا عناية به.
وهكذا نفخة
الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان ـ في أصل فطرته ـ بالملإ
الأعلى حتّى ولو كان متّخذا ـ في جانب جسده ـ من عناصر تربطه بالأرض ، فهو في ذاته
عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّا.
ولقد خلق
الإنسان من عناصر هذه الأرض ثمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه
__________________
وبين سائر الأحياء. ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى. وأوّلها القدرة على
الارتقاء في سلّم المدارك العليا الخاصّة بعالم الإنسان.
هذه النفخة هي
التي تصله بالملإ الأعلى ، وتجعله أهلا للاتصال بالله ، وللتلقّي عنه ولتجاوز
النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ ، إلى النطاق التجريدي الذي
تتعامل فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء
الزمان والمكان ، ووراء طاقة العضلات والحواسّ ، إلى ألوان من المدركات وألوان من
التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان.
وبذلك استحقّ
إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتية رفيعة أودعت هذا
الإنسان دون غيره من سائر المخلوق. وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها
الإنسان في جبلّته الأولى والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود
وتسخيرها حيث يشاء.
إنّها القدرة
على الإرادة والتصميم ، القدرة على التفكير والتدبير ، القدرة على الإبداع
والتكوين. القدرة على الاكتشاف والتسخير. إنها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير. قال
سيّد قطب : إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة ، هي هي ميزة هذا
الإنسان على كثير من خلق الله. وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ
الأعلى وهو يسجد الملائكة لآدم. وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ). فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله ، ولينهض بالأمانة
التي اختارها. والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها.
إنّها أمانة
ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم الكبير القوى القويّ العزم. ومن ثمّ كان
ظلوما لنفسه حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها ، جهولا لطاقاته هذه الهائلة
المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.
__________________
وهكذا علّمه
الأسماء : القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصّيّاتها وآثارها الطبيعية العاملة
في تطوير الحياة ، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليسخّرها في مآربه حيث يشاء ،
وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها ، حيث أراده
الله من هذا الإنسان (هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها).
وبذلك أصبح هذا
الإنسان ـ بهذه الميزات ـ خليفة الله في الأرض ، حيث يتصرّف فيها وفق إرادته وطاقاته المودعة فيه ،
ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.
وإسجاد
الملائكة له في عرصة الوجود ، كناية عن إخضاع القوى النورانية برمّتها للإنسان ،
تعمل وفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف ، في مقابلة القوى الظلمانية (إبليس
وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه إلّا من عصمه الله من شرور الشياطين (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).
كما وأنّ تسخير
ما في السماوات وما في الأرض جميعا ، كناية عن إخضاع القوى الطبيعية المودعة في أجواء
السماوات والأرض ـ لهذا الإنسان ، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور. ومعنى
تسخيرها له : أنّ الإنسان فطر على إمكان تسخيرها.
فسبحانه من
خالق عظيم ، إذ خلق خلقا بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!
هذه دراستنا عن
الإنسان على صفحات مشرقة من القرآن الكريم ، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة
والتبجيل لمخلوق هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير ، كبرياء ملأ الآفاق!
أتزعم أنك
جسم صغير
|
|
وفيك انطوى
العالم الأكبر
|
فتبارك الله
أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!
__________________
خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!
حديث قدسيّ
معروف خطابا مع بني آدم ، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة ، كما كانت الذات
المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان! فكما وأنّ الأشياء برمّتها ـ علوا وسفلا ـ سخّرها
الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتجلّى فيها مقدرته الهائلة ، كذلك خلق الإنسان
ليكون مظهرا تامّا لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.
ما من مخلوق ـ صغير
أو كبير ـ إلّا وهو مظهر لتجلّي جانب من سمات الصانع الحكيم «وفي كلّ شيء له آية تدلّ
على أنّه واحد». أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات
الجمال والجلال.
فإذا سألت : ما
هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعا؟ قلت ـ حسب وصف القرآن ـ : هو
الإنسان ذاته مستودع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!
وإذا سألت : ما
هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟ قلت : هو الله الصانع الحكيم ، حيث الإنسان
بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهرا تامّا لكامل الأسماء والصفات ، فكان وجه
الله الأكمل وعين الله الأتمّ!
فكان الإنسان
غاية الخليفة ، وكان الله الغاية من خلق الإنسان ، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد
: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف ، فخلقت الخلق لكي اعرف».
حيث الإفاضة ـ وهي
تجلّي الذات المقدّسة ـ كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.
الحفاظ على كرامة الأنبياء
يمتاز القرآن
بالحفاظ على كرامة الأنبياء. بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.
__________________
لم يأت ذكر
نبيّ من الأنبياء في القرآن إلّا وقد أحاط بهم هالة من التبجيل والإكرام ، كما
ونزّههم عن الأدناس على وجه الإطلاق.
خذ مثلا سورة
الصافّات جاء فيها ذكر أنبياء عظام مرفقا بعظيم الاحترام.
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي
الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).
(وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وينتهى إلى قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ
مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ...).
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ. وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَنَصَرْناهُمْ
فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ. وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ. وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى
مُوسى وَهارُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).
(وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). وهكذا كلّما يمرّ ذكر نبيّ تصحبه لمّة من الإجلال
والتكريم.
وأمّا التوراة
فلا تمرّ فيها بقصّة من قصص الأنبياء إلّا وملؤها الإهانة والتحقير ، وربّما بلغ
إلى حدّ الابتذال والتعيير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين!
هذا نوح شيخ
الأنبياء تصفه التوراة : رجلا سكّيرا مستهترا لا يرعوي شناعة حال ولا فضاعة بال.
تقول عنه
التوراة : إنّه بعد ما نزل من السفينة هو ومن معه غرس كرما وصنع خمرا وشربها حتّى
إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه
__________________
مكشوفا عورته فاستحى ورجع ليخبر إخوته بذلك ، ولمّا صحا نوح وعلم بفضيع
أمره دعا على ابنه هذا ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان من أثر دعائه عليه أن
كانت ذرّيته عبيدا لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين!
يا لها من
مهزلة نسجتها ذهنية الحاقدين على أهل الدين ، فما شأن التوراة وثبت هكذا سفاسف
حمقانية تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء!
وهذا إبراهيم
خليل الرحمن وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده ،
نجده في التوراة رجلا أرضيّا يتاجر بزوجه الحسناء «سارة» ليفتدي بها ، لا لشيء
إلّا ليحظى بالحياة الدنيا على غرار سائر المرابين ، يفعلون الفجور للحصول على
القليل من حطام الدنيا الدنية!
وما هي إلّا
فرية فاضحة يكذّبها تاريخ حياة إبراهيم عليهالسلام :
كانت سارة عند
ما صحبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طعنت في السنّ من السبعينيات وكان
الدهر قد وسم على وجهها آثار الكهولة والهرم. ولم يعهد من عادة الملوك الجبابرة
وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!
كان إبراهيم
عند ما غادر «حاران» موطن أبيه «تارح» قاصدا بلاد كنعان ، قد بلغ الخامسة والسبعين
من عمره ، واجتاز أرض «شكيم» ليبني هناك مذبحا (معبدا). وارتحل إلى الجبل : شرقي «بيت
إيل». وهكذا تداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح ، إلى أن حدث جدب عمّ البلاد
، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.
ولم يأت في
التوراة مدّة هذا التجوال والرحلات ، لكن جاء فيها : أنّ سارة لمّا وهبت جاريتها «هاجر»
لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين. فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى من عمر إبراهيم
ست وثمانون عاما. فكان إبراهيم عند مقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين. وبما
أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم
__________________
بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الست والستين وهو سنّ العجائز!
إبراهيم ، لم يكذب قطّ!
جاء في أحاديث
العامّة برواية أبي هريرة ـ وهي أشبه بالإسرائيليات ـ أنّ إبراهيم عليهالسلام كذب ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله : قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا). والثالثة بشأن سارة : أنها اخته.
وفي حديث
الشفاعة برواية أبى هريرة أيضا : أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحدا بعد واحد
يستشفعون منهم ، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذرا : إنّي كذبت ثلاث كذبات ولست
هناكم.
وقد وصفت لجنة
مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصحاح ، وعارضت الاستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره
لهذه المفتريات.
قلت : وحاشا
إبراهيم الخليل ـ الداعي إلى الحنيفية البيضاء ـ أن ينطق بكذب ، وإنّما كذب عليه
بلا ريب. والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.
ولقد أجاد
الإمام الرازي حيث قال : فلأن يضاف الكذب إلى رواة هذا الخبر أولى من أن يضاف إلى
الأنبياء ، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة ، وأضاف قائلا : وإذا أمكن حمل الكلام
على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلّا
زنديق.
أمّا قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسدية ممّا كان يرى قومه على
عمه الغباء ، وقد أحسّ ألما شديدا انتاب قلبه المرهف تجاه تلكم الجهالات العارمة.
وأمّا قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا
فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فقولة قالها مستهزئا بهم
__________________
مستخفّا عقليّتهم الكاسدة.
والكذب لا يكون
إلّا لغرض التمويه. أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر وأنّ إبراهيم لم
يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفية من عقولهم محضا فهذا لا يعدّ كذبا ، لأنّ الكذب
إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع. وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم. والإنشاء لا
يحتمل الصدق والكذب ، فتدبّر.
وأمّا الثالثة
ـ بشأن سارة أنها أخته ـ فحديث خرافة يا أمّ عمرو!
قصّة الطوفان في التوراة
جاءت قصّة
الطوفان في سفر التكوين بصورة تفصيليّة تشبه أن تكون أساطيرية ، وفيها ما ترفضه
العقول وتأباه واقعية الحياة ، فضلا عن منافاتها لاصول الحكمة المهيمنة على مظاهر
الوجود.
جاء فيه : أنّ
قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض ، فغضب الله عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب
الاستئصال بإرسال الطوفان العارم ، فلم يعبئوا بذلك وظلّوا يعبثون ويعثون في
البلاد.
ولمّا بلغ نوح
من العمر ستمائة سنة أمره الله بصنع الفلك (في ٣٠٠ ذراع طولا و ٥٠ ذراعا عرضا و ٣٠
ذراعا في الارتفاع).
فجاء الطوفان ،
وجعلت ينابيع الأرض تتفجّر والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحا والماء يرتفع شيئا
فشيئا على وجه الأرض كلّها حتّى بلغ قمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض وارتفع
على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعا ، وبذلك هلك الحرث والنسل ومات كلّ ذي
حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبابات والزحّافات وحتّى الطير في
السماء. ودام الطوفان مائة وخمسين صباحا يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في
الفلك على وجه الماء حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت
__________________
سفينته على جبل «آرارات» بإرمينية. فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك
ثلاثمائة وخمسين عاما ، فكان كلّ أيّام نوح تسعمائة وخمسين سنة. على ما جاء في
الإصحاح التاسع عدد ٢٨.
وكان الذي حمله
نوح معه في السفينة ـ غير أهله وذويه ـ أزواجا (ذكرا وانثى) من كلّ أنواع
الحيوانات لئلّا ينقرض نسلها وتبيد من الوجود. «من جميع البهائم والطيور ذكرا
وانثى ، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض».
وهذا يعنى :
أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغرق «فمات كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من
الطيور والبهائم والوحوش وكلّ الزحّافات التى كانت تزحف على الأرض وجميع الناس ،
كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات».
وذلك أنّ الماء
غمر وجه الأرض كلّها وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض «وتعاظمت
المياه كثيرا جدّا على الأرض فتغطّت جميع الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس
عشرة ذراعا في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال».
حادث الطوفان في القرآن
وحاشا القرآن
أن يساير التوراة (المتداولة) في سرد أقاصيص أسطورية واهية ، وإنّما هي الواقعيّة
ينتقيها وينبذ الأوهام الخرافية والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.
وإليك الحادث
على ما جاء في سورة هود :
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقالَ ارْكَبُوا فِيها
بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ. وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ
ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا
__________________
مَنْ
رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. وَقِيلَ يا
أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ وَقِيلَ بُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ
أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ رَبِّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ
لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ. قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ
مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).
مواضع عبر أغفلتها التوراة
جاءت القصّة في
التوراة كسائر الأحداث التاريخية القديمة مشوّهة في خضمّ من خرافات بائدة ومن غير
أن تتأكّد على مواضع العبر منها ، بل وأغفلتها في الأكثر. أمّا القرآن فبما أنّه
كتاب هداية وعبر نراه يقتطف من أحداث التاريخ عبرها ويجتني من شجرة حياة الإنسان
السالفة يانع ثمرها ، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شعف وهناء.
وقد أغفلت
التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذين شملهما العذاب بسوء اختيارهما. إنّها عبرة
كبرى ، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح ، وينجرف بسوء اختياره مع
تيّار الضلالة والفساد ، وفي النهاية الدمار والهلاك!!
ذكر السيّد ابن
طاوس : أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة ، فركبت الصالحة مع أبنائها
السفينة ، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين.
قال الله تعالى
عنها وعن زوج لوط : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ
مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
__________________
وكانت خيانتهما
هي المسايرة مع الكافرين ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.
وابن نوح يقول
عنه تعالى : إنّه ليس من أهله. لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل
نوح) لأنّه عمل غير صالح ، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة ، ومن ثمّ فإنّه كان
يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.
وهذا أيضا من
أعظم العبر ، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين
الحيارى لا يهتدون سبيلا؟!
أمّا وكيف
ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان
الأبوّة ورحمة العطوفة التي كان يحملها نوح عليهالسلام لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله ، فلعلّه شملته
العناية الربّانية وأصبح من المرحومين. ومن ثمّ جاءته الإجابة باليأس وأنّه لا
يصلح أن يكون أهلا له وكان محتّما عليه أن يمسي من المرجومين.
هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟
صريح التوراة
أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.
وليس في القرآن
دلالة ولا إشارة إلى ذلك ، بل على العكس أدلّ وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي
كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.
جاء في سورة
الأعراف : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إلى قوله : (فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ).
فالذين كان
يخاف عليهم عذاب يوم عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوما عمين ، كانوا هم المغرقين.
__________________
ولا دلالة فيها
على غرق آخرين من أقوام لو كانوا مبعثرين عاشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم
تبلغهم دعوة نوح ولم يكن مرسلا إليهم.
هذا فضلا عن
سائر الحيوان من الزحّافات والدبابات المنتشرة في وجه الأرض ، وكذا الطير في
الهواء ، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء ولا وجه لأن يعمّها العذاب وهو عقاب
على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.
الأمر الذي
يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته : غمر الماء وجه
الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعا (سبعة
أمتار)!
نقض فرضية الشمول؟
يقول «ولتر» ـ الكاتب
الناقد الفرنسي (١٦٩٤ ـ ١٧٧٨ م) بصدد تسخيف أسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة ـ
: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أن تضطمّ اثنا عشر
بحرا ، كلّ في سعة البحر الأطلنتي المحيط ، بعضها فوق بعض ، ليكون الأعلى في حجم
أكبر بأربع وعشرين ضعفا ، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر
شامخات الجبال!
ويزيد ـ مستخفّا
عقلية مسطّر هذه الأساطير وناقما على الذين اعتنقوها باعتبارها وحيا من السماء (وحاشاه)
ـ : يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز ، حيث لا مثيل لها في
خرق نواميس الكون!!.
ويقول آخر :
إنّ المحاسبات العلمية الدقيقة تعطينا : أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو
تكثّفت جميعا وهطلت أمطارا لما كانت تكفي لأن تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من
بضع سانتيمترات ، فكيف بجبال شامخات؟!
يقول الدكتور «شفا»
: لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحا ـ كما هو نصّ التوراة ـ لما كاد أن
يغمر هضبة ما بين النهرين ـ على صغرها ـ فكيف بغمر وجه الأرض
وأن يعلو قمم الجبال؟! وجبل «آرارات» يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس
كيلومترات ما يكاد أن يغمره ، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟!
الطوفان ظاهرة طبيعية حيث أرادها الله
نعم ، كان حادث
الطوفان ظاهرة طبيعية وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.
كان قد مرّ على
حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجأة ، كان وجه الأرض مسرحا
لتناوب هطول أمطار غزيرة وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب
والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض. وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر
الكونية حدثت بإذن الله (فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً. فَالْتَقَى الْماءُ
عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال وتفجّر ينابيع
الأرض المشبعة بالأمطار ، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة.
وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لو لا أن جابهته سيول هائجة لتصرعه
إلى حيث مهوى الهلاك ، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه ، وحال
بينهما الموج فكان من المغرقين.
وفي تواريخ
الامم ما يسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة ، ولعلّه لتراكم الفساد
والشرّ في تلكم البقاع. فمن قدماء الفرس : أنّ طوفانا هائلا غمّ أرض العراق إلى
حدود كردستان. وهكذا روي عن قدماء اليونان. والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات
شمل شبه الجزيرة الهنديّة. ويروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل
والمكسيك وغيرهم. ويروى عن الكلدانيين ـ وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم ـ : أنّ
المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم «برهوشع» و
__________________
«يوسيفوس» : أنّ «زيزستروس» رأى في الحلم بعد موت أبيه «أوتيرت» أنّ المياه
ستطغى وتغرق الناس كلّهم (ممّن كان يعيش هناك طبعا). فأمر بصنع سفينة يعتصم فيها
هو وذووه ، ففعل. وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم
الله بالطوفان والاستئصال.
وقد عثر بعض
الإنجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر «آشور
بانيبال» من نحو (٦٦٠) سنة قبل ميلاد المسيح وأنّها منقولة من كتابة قديمة من
القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك. ومن ثمّ فهي أقدم من كتابة سفر التكوين (يرجع
تدوينه إلى عام ٥٣٦ قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).
ويروي اليونان
خبرا عن الطوفان أورده «أفلاطون» وهو : أنّ كهنة مصر قالوا للحكيم اليوناني «سولون»
أنّ السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض مرارا فهلك الناس (ممّن عمروا البلاد في
المنطقة) وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكم الآثار والمعارف. وأورد «مانيتيون»
خبر طوفان حدث بعد «هرمس» الأوّل الذي كان بعد «ميناس» الأوّل. وهو أقدم من تاريخ
التوراة أيضا.
وهكذا جاء خبر
الطوفان في «اوستا» كتاب المجوس.
وجاء في كتاب «تاريخ
الأدب الهندي» الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنية الهندية ، للسيّد أبي نصر
أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص ٤٢ و ٤٣ ، في الباب الخامس ، وعنوانه «برهمانا
وأوبانيشاء» :
وممّا يلفت
النظر في «ساتابانا برهمانا» قصّة الطوفان ، التي بيّنت في ضمن الضحايا. والقصّة
وإن اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة ، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط
القصّة الهندية مع السامية. توجب الاهتمام ..
ففي هذه القصّة
البرهمانية يقوم «مانو» بدور نبيّ الله نوح عليهالسلام في القرآن وفي
__________________
التوراة. و «مانو» اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من
الوثنيين ، فهو : ابن الله ، ومصدر جميع الناس وجدّهم الاسطوري.
وخلاصة القصّة
: أنّه بينما كان «مانو» يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة ، وممّا اندهش به «مانو»
أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ، ووعدته جزاء عليه أنّها ستنقذه في
المستقبل من خطر عظيم. والخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفانا
سيجرف جميع المخلوقات. وعلى ذلك حفظ «مانو» السمكة في «المرتبان». فلمّا كبرت
السمكة أخبرت «مانو» عن السنة التى سيأتي فيها الطوفان ، ثمّ أشارت عليه أن يصنع
سفينة كبيرة ، ويدخل فيها عند طغيان الماء ، قائلة : أنا أنقذك من الطوفان. فمانو
صنع السفينة ، والسمكة كبرت أكثر من سعة «المرتبان» ، لذلك ألقاها «مانو» في البحر.
ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة. وحين دخل «مانو» السفينة ، عامت السمكة إليه ،
فربط السفينة بقرن على رأس السمكة ، فجرّتها إلى الجبال الشمالية. وهنا ربط «مانو»
السفينة بشجرة ، وعند ما تراجع الماء وخفّ ، بقي «مانو» بوحدته.
فذلكة الكلام :
إنّ فيما أنبأت به الامم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة داهمت الحياة
البشرية الأولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات
ليشرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّا ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري
المنقول ، شأن سائر القصص البائدة حيكت حولها مخاريف ، الأمر الذي لا يوجب إنكارها
من رأس. ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّا أن يهاجم حياة الإنسان
ويواجهه بالنكبات في الأيام الأولى بكثرة ، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حين وآخر.
وربما كان من
أعظمها وأشملها طوفان نوح ، عمّ المنطقة ودمّر وأباد. هذا شيء لا مساغ لإنكاره ،
بعد كونه طبيعيّا وأخبر به الصادق الأمين.
__________________
أمّا الزيادات
التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على علّاتها فهذا شيء نستخلص منه
وننبذه كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافيا جليّا. الأمر الذي اختصّ به القرآن
وكان نبأ غيبيّا لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا).
أي لا تعلمها
بهذا الخلوص والجلاء. أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة
الأمر.
لا شاهد على شمول الطوفان
لا شكّ أنّ
شواهد الطبيعة لا تدع مجالا لاحتمال شمول الطوفان ، ولا سيّما بذلك الارتفاع
الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّا.
بقي ظاهر النصّ
(التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك ،
فضلا عن قرائن اخرى :
قال الشيخ
محمّد عبده : وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان
وأهل النظر في طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الامم. أمّا أهل الكتاب
وعلماء الأمّة الإسلامية فعلى أنّ الطوفان كان عامّا لكلّ الأرض. ووافقهم على ذلك
كثير من أهل النظر. واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في
أعالي الجبال ، لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكوّن إلّا في البحر ، فظهورها في رءوس
الجبال دليل على أنّ الماء صعد إليها مرّة من المرّات ، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد
عمّ الأرض.
وقال السيّد
الطباطبائي : الحقّ ، أنّ ظاهر القرآن الكريم ـ ظهورا لا ينكر ـ أنّ الطوفان كان
عامّا للأرض ، وأنّ من كان عليها من البشر اغرقوا جميعا ...
ومن شواهد
الآيات التى استند إليها قوله تعالى ـ حكاية عن نوح ـ (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
__________________
(الْأَرْضِ مِنَ
الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ، وقوله : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، وقوله : (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ).
قال : ومن
الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأن يحمل من
كلّ زوجين اثنين. ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّا بالمنطقة (أرض
العراق كما هو معروف) لم تكن حاجة إلى ذلك. نظرا لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبثّة في
أقطار الأرض حينذاك.
آثار جيولوجية؟
لكن وجود
الفسائل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائية وهكذا آثار الردم المشاهد في أعالي بعض
الجبال لا يصلح شاهدا لصعود الماء إليها ، إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجوده هذه
البقايا صعود الماء أيّاما معدودة ولفترة قصيرة ، بل ومن المحتمل القريب أنها من
بقايا رسوبية كانت يوما ما تحت البحر وعلى ضفافه ، غير أنّ التغيّرات الجيولوجية
والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّرا
في وجه الأرض ، فمنها ما ارتفع بعد ما كان مغمورا ، أو انغمر بعد ما كان عاليا ،
وهكذا تعرّجات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأولى على أثر انخفاض حرارة
سطح الأرض.
قال الشيخ
محمّد عبده : إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحرية المتحجّرة في قلل الجبال لا
يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان ، بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال
وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاما معدودة لا يكفي
لحدوث ما ذكر فيها.
__________________
(رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ)
أخذوا من هذه
الآية دليلا على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.
قال الشيخ
محمّد عبده : ليست الآية نصّا في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها ، فإنّ
المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم
ووطنهم ، كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي
الْأَرْضِ) يعنى أرض مصر ، وقوله : (وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) فالمراد بها مكّة ، وقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي
الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) والمراد ديار فلسطين ، والشواهد على ذلك كثيرة.
قال : وظواهر
الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب ، على أنّه لم يكن
في الأرض كلّها في زمن نوح إلّا قومه ـ «وهو في أوّليات حياة البشر» ـ وأنّهم هلكوا
كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيته. وهذا يقتضي أن يكون الطوفان في
البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها وجبالها ، لا في الأرض كلّها. إلّا إذا
كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها
فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجية) يقولون : إنّ الأرض كانت عند
انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثمّ صارت كرة مائية ، ثمّ ظهرت فيها اليابسة
بالتدريج.
وبذلك ظهر عدم
دلالة الآية (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض ، بعد فرض محدودية
نطاق النسل البشري آنذاك (في عهد بعيد جدّا) وعدم الانتشار في أقطار الأرض. ولا
نتسلّم بما حدّدته التوراة من التاريخ القريب ولا مستند لها.
(لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ)
شاهد آخر
التمسوه دليلا على عموم الطوفان.
قال تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبالِ. وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَ
__________________
ارْكَبْ
مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ
الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ
بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).
في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد
إليهما تدليلا على شمول الطوفان :
١ ـ التعبير
بالموج الهائل كالجبال ، ممّا لا يحدث إلّا في متّسع من خضمّ الماء المتراكم.
٢ ـ محاولة ابن
نوح للصعود إلى جبل يعصمه من الماء ، ولكن نوحا أنذره أن لا عاصم اليوم. ومعنى ذلك
أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضا ولا يذر موضعا يأوي إليه. وهكذا ابتلعه الموج الهائم
فكان من المغرقين.
لكن لا شكّ أنّ
هضبة كبيرة واسعة الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه واكتنفتها السيول العارمة من
كلّ جانب وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها وربّما ارتفعت إلى
عشرات الأمتار. وفي مثل هذا الخضمّ من الماء الهائم والذي في عرضة الطوفان وهبوب
رياح عاصف لا بدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلّ شيء ، ولا بدّ أنّ ابن
نوح كان واقفا على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء ، وحينما
كلّمه أبوه ـ وهو راكب في السفينة ـ لم يعبه بنصح أبيه ، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي
الجبال. لكنّه غافل أنّ السيول الهائمة المنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى
أعماق الغرق ، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من
الهالكين.
وليس في ذلك
دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.
وهكذا رجّح
العلّامة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر
من عشرين أو ثلاثين مترا ، ممّا لا يمكن غشيانه قلل جبال رفيعة كقلّة آرارات من
سلسلة جبال جودي.
__________________
(قُلْنَا احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)
شاهد ثالث
أخذوه دليلا على عموم الطوفان :
قال العلّامة
الطباطبائي : هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعا أو
معظمها الذي هو بمنزلة الجميع. قال : ولو كان الطوفان خاصّا بصقع من أصقاع الأرض
وناحية من نواحيها ـ كالعراق على ما قيل ـ لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة
من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين.
وهذا المعنى
قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان لعلّة
استبقاء نسلها لئلّا تنقرض. قال صاحب المنار : والتقدير ـ على قراءة حفص [بتنوين
كلّ] ـ : احمل فيها من كلّ نوع من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكرا وأنثى ،
لأجل أن تبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض.
وعامّة
المفسّرين على ذلك ، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليات بهذا
المعنى. جاء في سفر التكوين : ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا
وانثى ، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكرا وانثى ، ومن طيور السماء أيضا سبعة
سبعة ذكرا وانثى ، لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض. وهكذا ورد في الإسرائيليات.
ولكن ما قدر
السفينة حتّى يحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهلية والوحشية
والحشار والطيور لئلّا ينقرض نسل الأحياء. بل وفي هذه الروايات : حمل الأزواج من
أنواع النبات والشجر والأعشاب ، وهو من الغرابة بمكان!!
وبحقّ قال سيّد
قطب : ومرّة اخرى تتفرّق الأقوال حول (مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليات قويّة.
وتعقّبه بقوله
: أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتطّ حول النصّ (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ) ممّا يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء ، وما
وراء ذلك خبط عشواء.
__________________
وهذا هو الرأي
الصحيح ، فقد رخّص الله لنوح أن يحمل معه ما يملكه من الحيوانات الأهلية بقدر ما
يحتاج إليه من زاد وراحلة ، ولا يثقل حمله حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأولى. وأمّا
سائر الأحياء الأهلية والوحش فتتشرّد لوجهها ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث
، كما هو مألوف. هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر.
والزوجان ـ في
الآية ـ يراد به المتعدّد في تشاكل ، أي من كلّ جنس عددا يفي لتأمين الحاجة بها.
وهذا نظير قوله
تعالى : (وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها) (في الأرض) (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة ،
كالتفّاحة في أشكالها وألوانها ، وهكذا الليمون والرّمان وسائر الفواكه من كلّ نوع
فيها أزواج متشابهة. كما قال تعالى : (وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي متشاكلا وغير متشاكل.
وجاء في وصف
فواكه الجنّة : (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي صنفان متشاكلان. والمراد المتعدّد في أشكال وأصناف ،
كما قال : (وَأُتُوا بِهِ
مُتَشابِهاً) أي متشاكلا.
ومن الواضح أنّ
الثمرة ـ وهي الفاكهة ـ ليس فيها ذكر ولا انثى ولا تزاوج لقاح ، وإنّما ذاك في
بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار.
على أنّها لغة
دارجة : أن يراد بالمثنّى الشياع في الجنس لا الاثنان عددا. قال أبو علي : الزوجان
في قوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) يراد بهما الشياع وليس يراد بهما عدد الاثنين ، كما قال
الشاعر :
فاعمد لما
يعلو فمالك بالذي
|
|
لا تستطيع من
الامور يدان
|
يريد : الأيدي
والقوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الامور.
قال : ويبيّن
هذا المعنى أيضا قول الفرزدق :
وكلّ رفيقي
كلّ رحل وإن هما
|
|
تعاطى القنا
قوما هما أخوان
|
__________________
إذ رفيقان
اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحل ، وإنما يريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان
رفيقين.
وأمّا وصف
الزوجين بالاثنين فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع ، كما قال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) خطابا مع المشركين ، نهى عن اتخاذ الآلهة ، ومع ذلك جاء
تأكيده بالاثنين ، زيادة في المبالغة. ومن ثمّ عقّبه بقوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ
واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
وإنّما جاء
بالتثنية باعتبار اتخاذ إله آخر معه سبحانه ، أي لا تتّخذوا مع الله إلها آخر ،
والمعنى : النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى وقد بحثنا عن إرادة الشياع من المثنّى بتفصيل فليرجع
إليه.
(وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِ)
يقال : إنّه
تعريب «جورداي» اليونانية ، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شماليّ العراق فإلى تركيا
وبلاد أرمينية ذات قمّة رفيعة (٥١٧٥ مترا) عرفت ب «آراراط». شاع عند الأرامنة ـ القاطنين
في المنطقة ـ أنّها مرسى سفينة نوح ، وأخذ عنهم العرب من غير تحقيق.
ويرجع هذا
الشياع إلى عهد متأخّر (منذ القرن العاشر بعد الميلاد) حيث ترجمت عبارة التوراة : (رست
السفينة على جبل الأكراد) بجبل آراراط.
ولم تكن
الأرامنة تعرف لذلك الوقت مرسى متعيّنا للسفينة ، حتى شوّهت عليهم هذه الترجمة
الخاطئة ، وجعلت الأوهام تحيك حولها أساطير.
جاء في دائرة
المعارف الإسلامية : والمحقّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن وغيرهم من
الكتّاب أنّ جبل «آراراط» لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة ما بحادث
__________________
الطوفان. فالرواية الأرمنية القديمة لا تعرف ـ على التحقيق ـ شيئا على جبل
استقرّت عليه فلك نوح. فلمّا أن جاء ذكر جبل في المؤلّفات الأرمنية المتأخّرة
تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المقدّس ، المتزايد في هذه المؤلّفات. والكتاب
المقدّس هو الذي يقول إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط. وأعلى هذه الجبال
وأشهرها جبل «ماسك» (ماسيس) ومن ثمّ فلا بدّ أنّ نوحا قد حطّ بسفينته على هذا
الجبل.
أمّا المرحلة
الثانية من نموّ هذه الرواية الأرمنية فتردّ إلى الأوربيّين الّذين أطلقوا اسم
آراراط (بالإرمينية : إيراراط) وهو اسم ناحية على جبل ماسك ، استنادا على تفسير
خاطئ لسفر التكوين.
وإنّما أخذت
الرواية القائلة بأنّ «ماسك» هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة ، تجد مكانا في
المؤلّفات الأرمنية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وتذهب التفاسير الدينية
السابقة على هذا في الزمن ، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل «الجوديّ» أو جبال «جورديين»
(بالسريانية : قردو. وبالإرمينية : كردخ) ـ كما تقول المصادر النصرانية ـ هو
المكان الذي رست عليه سفينة نوح.
والمحقّق أنّ
هذا التحديد للمكان الذي استقرّت عليه السفينة ـ وهو التحديد الذي ذكر حتّى في
الترغوم (الترجمة الكلدانية للعهد القديم) ـ يسند إلى الرواية البابلية. وقد نشأ
من الاسم البابلي «برسوس».
زد على ذلك أنّ
جبل «نصر» الذي ذكر في قصّة الطوفان في الكتابات المسمارية يصحّ أيضا أن يحدّد
مكانه في جبال «جورديين» بالمدلول الواسع لهذا الاسم. وقد أخذ النصارى بالرواية
البابلية اليهودية القديمة ، وعرفها العرب منهم عند ما وصلوا بفتوحاتهم إلى إقليم «بهستان»
(بلاد أرمينية). وأطلق العرب اسم الجودي ـ الوارد في القرآن ـ في غير تثبّت على
جبل «قردو» المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن.
__________________
وما زالت
المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلى يومنا هذا حافلة ـ كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط
ـ بالأساطير والذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان وحياة نوح بعد إذ غادر السفينة.
* * *
وهكذا نرى
الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) متأثّرا بتلكم الأساطير المسطّرة ، يقول :
الجوديّ جبل مطلّ على جزيرة «ابن عمر» في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل. عليه
استوت سفينة نوح عليهالسلام.
ثمّ يذكر نصّ
التوراة ـ مستشهدا به ـ : «... واستقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا ويوم كذا
... ويقول : هذا تعريب التوراة حرفا حرفا».
ما ندري ما ذا
كان الأصل حتى ترجمه إلى ذلك. ولعلّه لقّن بذلك ـ وهو روميّ الأصل ـ من بعض
الأرامنة المسيحيّين. وهكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب!
هذا ، ومن
ورائهم زرافات من المفسّرين سواء في الغابر والحاضر ـ مع الأسف ـ من غير تريّث ولا
تحقيق ، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير ، أشهرها وأشنعها تفسيرهم ذا القرنين
بالإسكندر الكبير!
ومن مضاعفات
هذا الزعم ـ كما نبّه عليه المحقّق الشعراني ـ القول بعموم الطوفان المستحيل. إذ لازمه أن يكون الماء قد غمر رءوس الجبال الشامخات ،
حيث رست السفينة ـ بعد ما أخذت المياه في النضوب ـ على قمّة جبل ترتفع خمس كيلومترات!
وممّا يجدر
التنبّه له : أنّ القوم حسبوا من كلمة «الجودي» ـ باعتبارها اسم جبل ـ أنّها
أعجمية معرّبة ، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو «جورداين»
أو «جورداي» أو «قوردو» أو غيرها؟
__________________
لكن لا مبرّر
لهذا الحسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص ولها سابق التعبير في جاهلية
العرب. قال اميّة بن أبي الصلت :
سبحانه ثمّ
سبحانا يعود له
|
|
وقبله سبّح
الجوديّ والجمد
|
الجودي ـ من
الجود ـ : الربوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها وابل آتت أكلها ضعفين. والجمد
: الحزنة من الأرض تجمد بنباتها وتبخل سواء أصابها وابل أو طلّ.
قال أبو مسلم
الأصبهاني : الجودي اسم لكلّ جبل وأرض صلبة. في مقابلة الرخوة أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير
ذات وحل ، وكانت ذات بركة عليه حينما نزل بها.
(قِيلَ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ). فأوّل مفاتح البركات نزوله بأرض ذات بركة وجود.
وأين هذا من
حسبان نزوله في أعالي جبال شامخات ترتفع عن الأرض السهلة بخمس كيلومترات؟!
وهل كان نزوله
حينذاك بسلام وبركات أم بشقاء وعناء؟!
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ)
هذه العبارة «وفار
التنّور» إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعنى : وثار غضب الربّ ، كما يقال : فار
فائره إذا اشتدّ غضبه. وبنو فلان تفور علينا قدرهم أي يشتدّ غضبهم علينا.
قال الشاعر :
تفور علينا
قدرهم فنديمها
|
|
ونفثؤها عنّا
إذا حميها غلا
|
وهكذا فار
تنّورهم أي احتدّ سخطهم وثارت نائرتهم. فمعنى «فار التنّور» : حمى
__________________
غضب الربّ وإمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مفجر الماء.
غير أنّ
التنّور ـ في أصله ـ اسم لما يخبز فيه ، والكلمة فارسيّة واستعملتها العرب بلا
تحوير.
قال ابن دريد :
التنّور فارسيّ معرّب. لا تعرف العرب له اسما غير هذا ، فلذلك جاء في التنزيل
لأنّهم خوطبوا بما يعرفون.
وقال ابن قتيبة
: روي عن ابن عبّاس أنّه قال : التنّور بكلّ لسان ، عربىّ وعجمي.
واستعير لمفجر
الماء. والتنانير : ينابيع الماء ، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار.
قال
الفيروزآبادي : التنّور : كلّ مفجر ماء ، ومحفل ماء الوادي أي مجتمعه. وتنانير
الوادي محافله (مواضع تجتمع فيها المياه) وهي الوهاد والمستنقعات في البراري.
ومعنى الآية
على ذلك : وفارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها وثارت.
وهكذا جاء
التعبير في سورة القمر : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ
عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ).
(فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)
وهل يعيش إنسان
في مثل هذا العمر الطويل؟ الأمر الذي لم يكد يكون معروفا وحتّى في القرون الماضية
، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام وأعمارهم لم تختلف عن
أعمارنا وقد مرّ لهم أربعون قرنا أو أكثر ، فكيف يكون ذلك؟
يقول الاستاذ
عبد الوهاب النجّار : لا مانع من أن يعمّر آدم ومن قرب منه أعمارا طويلة ، لأنّ
النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يحمل هموما ولم تعتوره الأمراض المختلفة ولم
تنهك قوّته الأطعمة التي لا يقدر على هضمها ، فكان من المعقول أن يعيش طويلا. وأمّا
نحن وأمثالنا ممّن كانوا قبل أربعين قرنا فقد جئنا بعد أن أنهكت النوع
__________________
الإنساني الأمراض وطحنته الأدواء. فالواحد منّا عصارة لآلاف الأمراض التي
انتابت آباءه وأمّهاته ، فلم تعد قوانا تتحمّل العمر الطويل.
وعند العلماء
بالطبّ والأحوال الاجتماعية أنّ الإنسان قواه محدودة والحياة العريضة تستنفدها
بسرعة بخلاف الحياة الضيّقة ، فإنّها تكون طويلة لقلّة ما يستنفد من قوى الأجسام
بتلك الحياة. فنحن الآن لا نعيش عيشة البساطة التي كان يعيشها آدم ومن قرب منه ،
بل نتفنّن في أنواع الطعام ولذائذ المعيشة بما ينهك قوانا ، فلا غرابة أن تكون
أعمارنا قصيرة ، وقد اجتمعت عليها الأمراض المتوارثة والتبسيط في العيش. ويقول بعض
الأطبّاء الألمان : إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا اتّبع
نظاما خاصّا.
وهكذا ذكر
الشيخ محمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار في عهد كانت الحياة غير موسّعة الأطراف
والمعيشة على بساطتها الاولى غير معقّدة الجوانب ولا كانت مزدحم الأمراض والأدواء
والشدائد والآلام حيث كانت طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطرية أسلم للأبدان.
(وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ)
دلّت الآية على
أنّه لم يبق بعد الطوفان سوى نوح وبنيه وذراريه. وحتّى الذين ركبوا معه في الفلك
ممّن آمن به ونجوا من الغرق هلكوا وانقرضوا بلا عقب. هكذا جاءت في الروايات
الإسلاميّة عن ابن عباس وقتادة. قال الكلبي : لمّا خرج نوح من السفينة مات من كان
معه من الرجال والنساء إلّا ولده ونساءهم. ومن ثمّ كان نوح عليهالسلام هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم عليهالسلام.
لكنّه يتنافى
وقوله تعالى خطابا لبني إسرائيل : (ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ).
__________________
والموصول عامّ يشمل من ركب مع نوح من المؤمنين ، ولا يخصّ ولد صلبه ـ كما
قيل ـ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ.
والقول بتشعّب
البشر من ولد نوح الثلاثة (سام ، حام ، يافث) رواية إسرائيلية بحتة ذكرتها التوراة
: «ومن هؤلاء تشعّب كلّ الأرض».
غير أنّها ذكرت
أيضا أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بنوه وأزواجهم فحسب ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقا ممّا يبدو غريبا جدّا
أو كانوا آمنوا ولكنّهم بقوا ليكونوا مع المغرقين ، وهذا أبعد وأغرب!
فالصحيح ما
ذكره القرآن : (قُلْنَا احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ). فقد ركب معه من المؤمنين جماعة وإن كانوا في قلّة
بالنسبة إلى قومه الأكثرين. وقد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفسا.
فلا بدّ أنّ
هؤلاء الذين ركبوا معه ونجوا كانوا معه وهبطوا جميعا بسلام (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا
وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ
يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).
والتعبير
بالامم ممّن معه يعطي تناسل الأمم منهم ، منهم المؤمنون كآبائهم ومنهم الفاسقون ،
وهذا أيضا مطلق شامل لكلّ من ركب معه وهبط إلى الأرض بسلام.
فالخطاب ـ مع
بني إسرائيل ـ بأنّهم ذرّية من حملنا مع نوح (يعني الذين آمنوا به) يشمل الجميع.
ثمّ لو كان
المراد ذرّية ولد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذرّية نوح أولى ، من غير
ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم!!
والوجه فيما
ذكره الكلبي وغيره أنّه تأثّر بروايات إسرائيليّة وينبو عنه ظاهر تعبير القرآن.
بقي قوله تعالى
: (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) يظهر منه أنّ البشرية أصبحت جميعا
__________________
من ذرّية نوح ولم يعقّب الآخرون.
لكن في رواية
أبي الجارود عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليهالسلام في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال : الباقون بالحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في
عقبه. قال : وليس كلّ من في الأرض من بني آدم ، من ولد نوح. واستشهد عليهالسلام بالآية من سورة هود : (ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ).
وهو تأويل وجيه
يدعمه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). وهذا هو معنى البقاء (وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ). يعني إبراهيم عليهالسلام وقال تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي
الْأَرْضِ ...).
فالبقيّة
الباقية في مصطلح القرآن هم الذين ورثوا الكتاب والنبوّة والإيمان ، يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر. هذا هو البقاء وفي غيره الفناء ، الأمر الذي تحقّق في
ذرّية نوح وإبراهيم عليهماالسلام.
قال الحسن
البصرى : هلك المتمتّعون في الدنيا ، لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة ، فلا
يتفكّرون إلّا في الدنيا وعمارتها وملاذّها ...
قال الإمام
أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين : هلك خزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون
ما بقي الدهر.
نوح عليهالسلام بعد الهبوط
قال تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا
وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ
يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).
دلّت الآية على
أنّ نوحا هبط بسلام وبركات. فقد أسّس أمّة وبنى حضارة من
__________________
جديد وعمر الأرض وأحيى البلاد وسعى في إعلاء كلمة الله في الأرض على بنيان
مرصوص.
فقد أخذ من
تجارب ماضية دليلا هاديا له إلى تأسيس معالم جديدة تنير درب الإنسان إلى حيث
سعادته الخالدة ، وكان التوفيق حليفه في هذا الشطر من حياته الكريمة ، وصار قدوة
لمن جاء بعده من الأنبياء. وحتّى أنّ إبراهيم الخليل عليهالسلام أصبح من شيعته ، (إِذْ جاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
قال تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى
نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ
لَإِبْراهِيمَ. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ...).
وكم عاش نوح
بعد الطوفان؟ القرآن ساكت عنه ، وفي الروايات اختلاف ، خمسين إلى خمسمائة عام أو أكثر ممّا لا اعتداد به.
والد إبراهيم عليهالسلام تارح أو آزر؟
ذكرت التوراة :
أنّ والد إبراهيم عليهالسلام هو «تارح» براء مفتوحة وحاء مهملة. وجاء في القرآن : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...).
قال الزجّاج :
لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم والد إبراهيم عليهالسلام تارح. ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن. وقال :
هذا النسب ـ الذي جاء في القرآن ـ خطأ وليس بصواب.
وحاول الإمام
الرازي الإجابة عن ذلك بأنّه من المحتمل أنّ والد إبراهيم كان مسمّى باسمين ،
فلعلّ اسمه الأصلي آزر ، وجعل تارح لقبا له ، فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم ،
والقرآن ذكره بالاسم.
ويتأيّد هذا
الاحتمال بأنّ «تارح» بالعبرية يعطي معنى الكسول المتقاعس في
__________________
العمل. أمّا «آزر» فهو النشيط في العمل ، لأنّه من «الأزر»
بمعنى القوّة والنصر والعون. ومنه «الوزير» أي المعين. قال تعالى حكاية عن موسى
بشأن هارون : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي). وهذا المعنى قريب في اللغات الساميّة ، ومن ذلك عازر
وعزير في العبرية ، وجاءت المادّة بنفس المعنى في العربية. قال الله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ). ومعلوم أنّ العين والهمزة يتعاوران في اللغتين العبرية
والعربية.
فلعلّ اسمه الأصلي كان «آزر» بمعنى
النشيط ، لكنّهم رأوا منه كسلا وفشلا في العمل والهمّة فلقّبوه بتارخ. وكما اشتهر
نبيّ الله يعقوب بلقب «إسرائيل».
* * *
أمّا مفسّرو
الشيعة الإمامية فيرون أنّ «آزر» هذا لم يكن والد نبيّ الله إبراهيم عليهالسلام وإن كان إبراهيم يدعوه أبا ، لأنّ «الأب» أعمّ من
الوالد ، فيطلق على الجدّ للامّ ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد ، وعلى العمّ
أيضا حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن. فقد حكى الله على أولاد يعقوب قولهم : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وإسماعيل كان عمّا ليعقوب.
قال الشيخ أبو
جعفر الطوسي : والذي قاله الزجّاج يقوي ما قاله أصحابنا : أنّ آزر كان جدّ إبراهيم
لأمّه ، أو كان عمّه ، لأنّ أباه كان مؤمنا ، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبي صلىاللهعليهوآله إلى آدم كلّهم كانوا موحّدين لم يكن فيهم كافر ، ولا
خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة.
قال : وأيضا روي
عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال : نقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام
الطاهرات ، لم يدنّسني بدنس الجاهلية. وهذا خبر لا خلاف في صحّته. فبيّن النبي صلىاللهعليهوآله أنّ
__________________
الله نقله من أصلاب الطاهرين ، فلو كان فيهم كافر لما جاز وصفهم بأنّهم
طاهرون ، لأنّ الله وصف المشركين بأنّهم أنجاس : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).
قال : ولهم في
ذلك أدلّة لا نطول بذكرها الكتاب لئلّا يخرج عن الغرض.
* * *
وللإمام الرازي
هنا بحث طويل وحجج أقامها دعما لما يقوله مفسّرو الشيعة. وأخيرا يقول : فثبت بهذه
الوجوه أنّ «آزر» ما كان والد إبراهيم عليهالسلام بل كان عمّا له ، والعمّ قد يسمّى بالأب ، كما سمّى
أولاد يعقوب إسماعيل أبا ليعقوب. وقال النبي صلىاللهعليهوآله بشأن عمّة العباس حين اسر : ردّوا عليّ أبي.
قال : وأيضا
يحتمل أنّ «آزر» كان والد أمّ إبراهيم. وهذا قد يقال له الأب. والدليل عليه قوله
تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ـ إلى قوله ـ (وَعِيسى). فجعل عيسى من ذرّية إبراهيم ، مع أنّه عليهالسلام كان جدّا لعيسى من قبل الامّ.
* * *
ولسيّدنا
الطباطبائي تحقيق بهذا الشأن ، استظهر من القرآن ذاته أنّ «آزر» الذي خاطبه
إبراهيم بالأبوّة وجاء ذلك في كثير من الآيات لم يكن والده قطعيّا.
وذلك أنّ
إبراهيم في بداية أمره حين كان بين أظهر قومه من أرض كلدان ، وكان تحت كفالة آزر ،
وقد حاجّ قومه وحاجّ أباه كثيرا وفي فترات ومناسبات مؤاتية ، وكان أبوه آزر يطارده
ويؤنّبه على جرأته على آلهة قومه : (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا
أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يا
أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي
أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ
كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ
الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا. قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي
يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ
سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي
__________________
حَفِيًّا).
فإبراهيم هنا
قد وعد أباه أن يستغفر له ، وبالفعل وفى بوعده : (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. وَاغْفِرْ لِأَبِي
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ).
لكن سرعان ما
رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيرا ، ومن ثمّ تبرّأ منه حين لم يرج فيه الصلاح ويئس
منه. قال تعالى : (وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
هذا في بداية أمره
قبل مغادرة بلاده وقومه قاصدا البلاد المقدّسة. والدليل على ذلك أنّه يبدأ الدعاء
بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ...) الخ.
* * *
وبعد ذلك يأتي
دور مغادرته إلى الأرض المقدّسة ، ويبتهل إلى الله أن يرزقه أولادا صالحين. (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ
الْأَسْفَلِينَ. وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي
مِنَ الصَّالِحِينَ).
وهنا يجيب الله
دعاءه : (وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ. وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ).
ثمّ إنّه لمّا
كبر ابنه إسماعيل وبنى البيت الحرام نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) إلى قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ).
قال العلّامة
الطباطبائي : والآية بما لها من السياق والقرائن المحتفة بها خير شاهدة على أنّ
والده الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيام. فقد
تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذكره في تلك الآيات لم يكن والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي
،
__________________
وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوغ اللغة مثل هذا الإطلاق ،
كالجدّ للأمّ والعمّ ، وزوج الأمّ ، وكلّ من يتولّى شأن صغير ، وكذا كلّ كبير مطاع
، ونحو ذلك. وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّا بلغة العرب ، بل هو
جار في سائر اللغات أيضا.
الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق!
جاء في سفر
التكوين ، الإصحاح ٢٢ :
١ ـ وحدث بعد
هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم ، فقال له : يا إبراهيم ، خذ ابنك وحيدك الذي
تحبّه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك.
٩ ـ فلمّا أتيا
إلى الموضع ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب.
١٠ ـ ثمّ مدّ
إبراهيم يده وأخذ السكّين ليذبح ابنه.
١١ ـ فناداه
ملاك الربّ من السماء.
١٢ ـ فقال : لا
تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا ، لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله ، فلم
تمسك ابنك وحيدك عنّي.
١٣ ـ فرفع
إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه ، فذهب إبراهيم وأخذ
الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه.
١٥ ـ ونادى
ملاك الربّ إبراهيم ثانية من السماء ، وقال : بذاتي أقسمت يقول الربّ : إنّي من
أجل أنّك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك ، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا
كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر. ويرث نسلك باب أعدائه ، ويتبارك في
نسلك جميع أمم الأرض. من أجل أنّك سمعت لقولي.
* * *
بطل هذه القصّة
عند اليهود هو إسحاق ، ولعلّ لفظ إسحاق حشر حشرا في غضون القصّة ، وذلك حرصا من
بني إسرائيل على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاء بنفسه في
__________________
طاعة ربّه ، وبورك للعالمين في نسله.
غير أنّ
التعبير ب «ابنك وحيدك» ـ دليلا على سخاء نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالا
لأمر ربّه ـ ممّا يتنافى وكون الذبيح هو إسحاق ، الذي كان أصغر من أخيه إسماعيل
بأربعة عشرة عاما.
فالابن الوحيد
الذي جادت نفس إبراهيم بذبحه ليس سوى إسماعيل.
وقرينة اخرى :
إنّ الذي بورك العالمون بنسله وأفاض نسله بالبركات على العالمين هو إسماعيل ، دون
إسحاق الذي كان ولا يزال نسله (بنو إسرائيل) نكبة في العالمين ، ومفجر الفساد بين
العباد ، والعيث في البلاد.
وفي القرآن
إشارة إلى ذلك ، حيث يقول تعالى : (فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى
فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ
الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبارَكْنا
عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ).
فالتبشير الأول
بغلام حليم ينبئ عن أنّ إبراهيم لم يكن صاحب ولد لحينذاك ، حيث بشّره بغلام.
والتبشير
الثاني جاء تصريحا باسم إسحاق نبيّا من الصالحين. فيدلّ على أنّ التبشير الأول كان
بغير إسحاق ، وهو إسماعيل.
وفي الإصحاح ٢١
من سفر التكوين :
إن الربّ بشّر
إبراهيم بنسل في ولده إسحاق. وبنسل في ولده إسماعيل ، ولكن يجعل من نسل إسماعيل
أمّة.
جاء في العدد
١٢ : لأنّه بإسحاق يدعى لك نسل.
__________________
وفي العدد ١٣ :
وابن الجارية أيضا سأجعله أمّة لأنّه نسلك.
ومن ذلك يعرف
أنّ البركة العامّة الشاملة التي جعلت في نسل الذبيح خاصّة بولد إسماعيل فقد
أصبحوا أمّة هيمنت ببركتها ما بين الخافقين.
قصّة لوط مع ابنتيه كما هي في التوراة
جاء في الإصحاح
١٩ من سفر التكوين :
٣٠ ـ وصعد لوط
من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، لأنّه خاف أن يسكن في صوغر ، فسكن في المغارة
هو وابنتاه.
٣١ ـ وقالت
البكر للصغيرة : أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلّ الأرض.
٣٢ ـ هلمّ نسقي
أبانا خمرا ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلا.
٣٣ ـ فسقتا
أباهما خمرا في تلك الليلة ، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ، ولم يعلم باضطجاعها
ولا بقيامها.
٣٤ ـ وحدث في
الغد أنّ البكر قالت للصغيرة : إنّي قد اضطجعت البارحة مع أبي ، نسقيه خمرا الليلة
أيضا فادخلي اضطجعي معه ، فنحيي من أبينا نسلا.
٣٥ ـ فسقتا
أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ، ولم يعلم باضطجاعها
ولا بقيامها.
٣٦ ـ فجعلت
ابنتا لوط من أبيهما.
٣٧ ـ فولدت
البكر ابنا ودعت اسمه موآب ، وهو أبو المؤابيين إلى اليوم.
٣٨ ـ والصغيرة
أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّي. وهو أبو بني عمّون إلى اليوم.
* * *
هذا ، ولكنّ القرآن
يأبى أن تتلوّث ساحة قدس نبيّ من أنبيائه بمثل هكذا تلوّث فضيع. فقد نزلت بشأنه
ورفعة مقامه آيات تتلى ولتكون شهادة من الله بنزاهة ساحة قدس
أوليائه الكرام :
قال تعالى : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً
وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ. وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ).
(وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً
فِي الْغابِرِينَ).
يعقوب ينتهب النبوّة من أخيه عيسو!
لم تتوان
اليهود في الحطّ من كرامة الأنبياء حتّى ولقد مدّوا يد التدنيس إلى حياة أبيهم
يعقوب ليجعلوه متزوّرا لبّس الأمر على أبيه إسحاق لينتهب النبوّة من أخيه «عيسو»
حيث كان مرشّحا لها من قبل أبيه. فأغفل يعقوب أباه إسحاق واستغلّ عماه ليتصوّر
أنّه عيسو فيبارك له بالنبوّة! في مثل هذا التلاعب الصبياني تذكر التوراة حادث
انتقال النبوّة من إسحاق إلى يعقوب. يا لها من مهزلة حمقانيّة وإساءة أدب إلى ساحة
أنبياء الله العظام!
__________________
يعقوب يصارع الربّ
وكارثة اخرى
ألصقوها بنبيّ الله يعقوب ، وهي أنّه صارع الربّ ليلته كلّها ، ولم يتركه حتّى
ضربه الربّ على حقّ فخذه أي رأس وركه ، فباركه حتى تركه يعقوب.
أمّا القرآن
فإنّه يصف إسحاق ويعقوب بأجمل وصف وأنّهما من عباد الله الصالحين : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ
بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
الْأَخْيارِ).
(وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً
هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ
وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ. ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).
والآيات بترفيع
شأن إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب وإسماعيل كثيرة في القرآن ، على العكس ممّا جاء في
التوراة اليهوديّة ، من الحطّ بكرامة الأنبياء عليهمالسلام.
خروج بني إسرائيل وتجاوزهم البحر
جاء في سفر
الخروج أنّ فرعون اضطرّ إلى إطلاق سراح بني إسرائيل لما أصاب القبطيّين من الجدب
والبلاء ، لكنّه فور ما أطلق سراحهم ندم على ذلك فأخذ هو وجنوده
__________________
يعقّبونهم ليردّوهم إلى الذلّ والعبوديّة الاولى ، غير أنّ بني إسرائيل
ضلّوا الطريق إلى فلسطين ـ وكانت قريبة ـ فأخذوا في الطريق البعيد. وتقول التوراة
: إنّ الله هو الذي أضلّهم كي لا يندموا إذا رأوا حربا فيرجعوا إلى مصر. فأدركهم
فرعون وهم على ضفّة البحر الأحمر. فلمّا رأى بنو إسرائيل فرعون وجنوده ذعروا
وفزعوا إلى موسى ، فأوحى الله إليه أنّهم ناجون وأنّ فرعون وجنوده سوف يغرقون ،
وحال بينهم وبين فرعون ، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر ويشقّه ، ففعل فأجرى
الله بريح شرقية شديدة كلّ اللّيل وجعل البحر طريقا يابسة وانشقّ الماء ، فمشى بنو
إسرائيل على اليابسة في وسط البحر والماء كالسور عن يمينهم وعن يسارهم وعبروا إلى
الضفّة الاخرى. ورآهم فرعون يسيرون على اليابسة فسار في أثرهم ، فلمّا توسّط اليمّ
وعبر بنو إسرائيل جميعا انطبق الماء على فرعون وجنوده فاغرقوا جميعا ولم يبق منهم
ولا واحد.
ونصّت التوراة
أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سوف ، والموضع الذي انشقّ منه كان عند فم الحيروث أتام بعل
صفون. وجاء في قاموس الكتاب المقدّس أنّه «القلزم».
و «فم الحيروث»
مضيق قرب نهاية خليج السويس على ما جاء في خارطة الأراضي المقدّسة ـ ملحق كتب
العهدين.
وهكذا جاء في
المأثور من دعاء «المسماة» المعروف بدعاء «شبّور» : «ويوم فرقت لبني إسرائيل البحر
وفي المنبجسات التي صنعت بها العجائب في بحر سوف ...».
وقال العلّامة
المجلسي ـ في شرح الدعاء ـ : سمّاه الهروي في الغريبين «إساف» قال : وهو الذي غرق
فيه فرعون. قال المجلسي : وهذا البحر هو بحر القلزم.
ولعلّ ما جاء
في عبارة الدعاء «وفي جبل حوريث» أيضا إشارة إلى «فم
__________________
الحيروث».
* * *
والّذي جاء في
القرآن بهذا الشأن ليس فيه ما يخالف التوراة جوهريّا. وجاء تفصيل القصّة في القرآن
في سورة الشعراء وأوجزها في سائر السور. وجاء التعبير في هذه الآيات بالبحر وباليمّ وهو : لجّة
الماء ومعظمه.
لكن هناك في
التفاسير امور يبدو عليها بعض الإبهام ، فقد ذكر المفسّرون أنّ الطرق التي انفلقت
لبني إسرائيل للعبور كانت على عدد أسباطهم اثني عشر طريقا ، الأمر الّذي ليست عبارة القرآن نصّا فيه بل ولا إشارة
إليه.
وأمّا قوله
تعالى : (فَانْفَلَقَ فَكانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) فالمعنى : أنّ البحر انشقّ وتجمّع الماء في كلّ جانب
يمينا ويسارا كالجبل. والفرق ـ بكسر الفاء ـ اسم لما انفرق. قال الراغب : الفرق
القطعة المنفصلة ، فكلّ جانب من البحر انفصل عن الجانب الآخر وصار كلّ جانب كجبل
عظيم.
ولعلّ في قوله
تعالى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) ما يتنافى وقولهم بتعدّد الطرق على عدد الأسباط.
وهكذا نجد أنّ
بعض المفسّرين احتمل أن يكون المقصود هو نهر النيل ، بحجّة أنّ العرب تسمّي الماء
العذب أيضا بحرا إذا كثر. قال الآلوسي : واختلفوا في هذا البحر ، فقيل : القلزم ،
وكان بين طرفيه أربعة فراسخ (!) وقيل : النيل ، والعرب تسمّي الماء الملح والعذب
بحرا إذا كثر ، ومنه (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيانِ). وقال الطبرسي : وهو نهر النيل ما بين أيلة
__________________
ومصر. وقيل هو بحر القلزم ما بين اليمن ومكّة إلى مصر.
ولقد فات هؤلاء أنّ بني إسرائيل أخذوا
في طريقهم إلى أرض فلسطين عبر وادي سيناء ، ولم يعترض طريقهم إلى وادي سيناء سوى
البحر الأحمر ، أمّا النيل فلا مساس له بذلك ولم يكن على جهة مسيرتهم نحو فلسطين ،
إذ كان النيل على جهة الغرب وفلسطين على جهة الشرق حيث توجّه بنو إسرائيل ، وليس
في طريقهم ما يحول بينهم وبين فلسطين سوى مضيق السويس في نهاية البحر الأحمر.
قصّة العجل والسامري
تنسب التوراة
صنع العجل إلى هارون بدل السامري الّذي يذكره القرآن.
جاء في سفر
الخروج : أنّ موسى عليهالسلام لمّا أبطأ على بني إسرائيل طلبوا من هارون أن يصنع لهم
آلهة ، فأجابهم هارون إلى ذلك ، وأخذ أقراط الذهب ، وصنع منها عجلا مسبوكا ، وقال
: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فأصعدوا محرّقات وقدّموا ذبائح ،
وأكلوا وشربوا وقاموا باللعب حول العجل.
وأخبر الربّ
موسى أنّ الشعب قد أفسد ، فقد صنعوا عجلا وسجدوا له ... فحمي غضب الربّ وأراد أن
يهلكهم لو لا أنّ موسى تشفّع لهم. وكان عند ما اقترب إلى المحلّة أبصر العجل والرقص
، فحمي غضبه وطرح اللوحين من يديه وكسرهما ، ثمّ أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه
بالنار ، وطحنه وذرّاه على الماء وسقاه بني إسرائيل.
وقال لهارون :
ما ذا صنع بك هذا الشعب حتّى جلبت عليه خطيئة عظيمة؟! فاعتذر أنّهم افتقدوك فصنعت
لهم العجل.
* * *
ونقرأ في سورة
طه :
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى. قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضى قالَ
__________________
فَإِنَّا
قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ. فَرَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ
وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. قالُوا ما أَخْلَفْنا
مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ
فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ. فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً
لَهُ خُوارٌ. فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ. أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. وَلَقَدْ
قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ. يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ
رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى. قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ
إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي. قالَ يَا
بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ
فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. قالَ فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُّ. قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ
أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي. قالَ فَاذْهَبْ
فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ
تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً
لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً).
مواضع الاختلاف بين القرآن والتوراة بشأن العجل
١ ـ ذكرت
التوراة : أنّ الّذي صنع العجل هو هارون أخو موسى عليهالسلام.
وجاء في سورة
طه : أنّه السّامري في ثلاثة مواضع. وأنّ هارون أراد منعهم من ذلك فلم يستطع : (قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا
تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
٢ ـ وذكرت :
أنّ موسى لمّا حمي غضبه طرح اللوحين من يديه وكسرهما.
وجاء في القرآن
: أنّه ألقى الألواح ـ لكنّها لم تتكسّر ـ ومن ثمّ (لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).
٣ ـ وذكرت :
أنّ موسى أخذ العجل وأحرقه وطحنه وذرّاه في ماء وسقاه بني
__________________
إسرائيل.
وجاء في القرآن
: أنّه حرّقه ونسّفه في اليمّ نسفا.
٤ ـ وجاء في
القرآن : أنّهم اتّخذوا (عِجْلاً جَسَداً لَهُ
خُوارٌ) لكنّه لا يكلّمهم ولا يرجع إليهم قولا.
وقد سكتت
التوراة عن ذلك.
٥ ـ وجاء في
القرآن قولة السامري : (قالَ بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
وسكتت التوراة
عن ذلك.
* * *
وحسب الاستاذ
عبد الوهاب النجّار أنّ هناك وجها سادسا للفرق بين القرآن والتوراة بشأن قصّة
العجل ، قال : والّذي يظهر من عبارة سفر الخروج : أنّ ذهاب الشيوخ السبعين كان قبل
عبادة العجل. وأمّا القرآن فإنّه يذكر أنّه ذهب لتلقّي الألواح قبل عبادتهم العجل
، وذهب مع الشيوخ السبعين بعد ذلك ، وهذا هو المعقول.
والّذي أوقع
الأستاذ في هذا الوهم أنّه وجد قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا). بعد قصّة العجل في نفس السورة.
لكن الثبت
الموجود في المصحف الشريف لا يصلح دليلا على الترتيب في الحوادث التي يذكرها
القرآن ، بل لا دليل فيه على أنّ النزول كان على نفس ترتيب الثبت ، حسبما نبّهنا
عليه في الجزء الأول من التمهيد.
من ذلك قصّة
ذبح البقرة ثبتت في المصحف قبل قصّة درء القتل في بني إسرائيل.
__________________
على أنّ في
القرآن ما يشهد بوقوع مأساة العجل بعد ذهاب الشيوخ السبعين للميقات :
أوّلا : أنّ
ذهاب الشيوخ السبعين كان حسب الوعد للميقات ، وقد صرّحت الآيات بأنّ مأساة العجل
وقعت بعد هذا الميقات الذي طال أربعين ليلة.
قال تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ
مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ـ إلى قوله ـ (وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ).
وقال بشأن
السبعين رجلا : (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا).
أما فعل
السفهاء الذي يعتذر منه موسى فهو طلبهم الرؤية : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ).
ثانيا :
التصريح بذلك في سورة النساء : (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّناتُ).
ومن المعلوم
أنّ هؤلاء الشيوخ السبعين إنّما صحبوا موسى للميقات لإبلاغ رسالة القوم في طلب
الرؤية ، ومن ثمّ جاء في سورة طه : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى. قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضى. قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُ).
* * *
وهكذا جاء في
سفر الخروج (١ ص ٢٤) :
وقال لموسى
اصعد إلى الربّ أنت وهارون وناداب وابيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ، واسجدوا من
بعيد ، ويقترب موسى وحده إلى الربّ وهم لا يقتربون. وأمّا الشعب
__________________
فلا يصعد معه ...
ثمّ يذكر
بتفصيل ما جرى بين موسى والربّ وآتاه معالم الشريعة ، وكان موسى يكتبها في الألواح
... وهكذا يستغرق البيان عدّة إصحاحات.
ثمّ يقول :
ولمّا رأى الشعب أنّ موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا
له : قم اصنع لنا آلهة.
نظرة في قولة السامري
(بَصُرْتُ بِما لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
زعمت الحشوية
من أهل الحديث أنّ السامري هذا كان قد ولد أيّام فرعون ، وكانت أمّه قد خافت عليه
فخلّفته في غار وأطبقت عليه بالحجارة. فوكّل الله جبرائيل أن يأتيه فيغذوه بأصابعه
بواحدة لبنا وبأخرى عسلا وبثالثة سمنا ، فلم يزل يكفله جبرائيل حتّى نشأ وشبّ ،
وأصبح يعرف جبرائيل بسماته.
ثمّ إنّ فرعون
وأصحابه لمّا هجموا البحر ورأى بني إسرائيل أحجم فرسه عن الدخول وعند ذلك تمثّل
جبرائيل راكبا فرسا انثى في مقدمة فرعون وأصحابه ، فلمّا رآها فرس فرعون اقتحم
البحر وراءها ...
وعند ذلك كان
السامريّ قد عرف جبرائيل ، ورأى أنّ فرسه كلّما وضع حافره على تراب حصلت فيه رجفة
وحركة وحياة. فألقي في روعه : أنّ من أثر حافر فرس جبرائيل أن لا يقذف في شيء إلّا
حصلت له الحياة ، ولذلك قبض قبضة من أثر حافر فرسه وضمّها عنده.
ولمّا أبطأ
موسى في الميقات دعا بني إسرائيل أن يأتوا بحليّهم ليصنع لهم آلهة ، فصاغها عجلا
وألقى من تلك القبضة فيه ، فأصبح ذا حياة يخور كما يخور البقر ، وقال : هذا
__________________
إلهكم وإله موسى ، وأضلّهم عن الطريق.
هكذا روى
الطبري بأسانيده والسيوطي وغيرهما من أرباب النقل في التفسير وزادوا في الطين بلّة أنّهم قالوا : إنّ موسى سأل ربّه
فقال : يا ربّ ، من أخار العجل؟ فقال الله : أنا ، قال موسى : فمن أحياه؟ قال الله
: أنا وأردت فتنتهم ، فقال موسى : يا ربّ ، فأنت إذن أظللتهم ، إن هي إلّا فتنتك. وهذا عند ما قال الله تعالى لموسى : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ).
* * *
قال أبو مسلم
الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الّذي ذكره المفسّرون ، فهاهنا وجه آخر ،
وهو : أن يكون المراد بالرسول هو موسى عليهالسلام ، وبأثره سنّته ورسمه الّذي أمر به. فقد يقال : فلان يقفوا
إثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير : أنّ موسى عليهالسلام لمّا أقبل على السامريّ باللوم والسؤال عن الّذي دعاه
إلى إضلال القوم قال السامرىّ (بَصُرْتُ بِما لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ) أي عرفت أن الّذي أنتم عليه ليس بحقّ ، وقد كنت قبضت
قبضة من أثرك أيّها الرسول ، أي شيئا من سنّتك ودينك ، فقذفته أي طرحته ... وإنّما
أورد بلفظ الإخبار عن غائب ، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير
في كذا ، وبما ذا يأمر الأمير ... وأمّا دعاؤه موسى عليهالسلام رسولا مع جحده وكفره فعلى مثل ما حكى الله عن المشركين
: (يا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وإن كانوا لم يؤمنوا بإنزال الذكر عليه.
والإمام الرازي
رجّح هذا القول وأيّده بوجوه. قال : إنّ هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه
إلّا مخالفة المفسّرين ، ولكنّه أقرب إلى التحقيق.
وهكذا الشيخ
المراغي ، قال : إنّ موسى لمّا أقبل على السامريّ باللوم والتعنيف والسؤال عن
الأمر الّذي دعاه إلى إضلال القوم ردّ عليه بأنّه كان استنّ بسنّته ، واقتفى أثره
__________________
وتبع دينه ، ثمّ استبان له أنّ ذلك هو الضلال بعينه ، وأنّه ليس من الحقّ
في شيء ، فطرحه وراءه ظهريّا وسار على النهج الّذي رأى.
ما كانت صفة العجل؟
جاء في تفسير
ابن كثير وغيره : أنّ السامريّ القي في روعه أنّه لا ينبذ التراب الذي أخذ من تحت
حافر فرس جبرائيل على شيء ويقول له كن كذا إلّا كان كما أراد ، ومن ثمّ لمّا أخذ
حليّ القوم وألقاها في النار قذف من تلك القبضة عليها وقال : كن عجلا ، فصار عجلا
ذا لحم وعظم ودم ، وجعل يخور كما يخور ولد البقر.
وقال بعضهم :
إنّه جعل مؤخّرة العجل على حائط فيه ثقب ، وأقعد هناك من يتكلّم مع القوم ليظنّوا
أنّ العجل هو الّذي يتكلّم معهم.
كلّ ذلك مخالف
لصريح القرآن ، حيث إنّه عبّر بالجسد وصفا للعجل (عِجْلاً جَسَداً لَهُ
خُوارٌ). وقال : (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً). وقال : (أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً).
على أنّ
الروايات بهذا الشأن ـ في المسائل الثلاث ـ على ما وردت في التفاسير المعتمدة على
النقل والأثر كلّها متضاربة ومتعارضة بعضها مع البعض ، فضلا عن مخالفة أكثرها لفهم
العقل الرشيد ، ومن ثمّ فالإعراض عنها أجدر.
نعم ، يبدو أن
السامريّ كان صاحب صنعة وصياغة الحلّي ، فسبك لهم من حليّهم صنما بصورة عجل ، وقال
لهم : هذا إلهكم وإله موسى. فعبّأ فيه مسامات ومنافذ للهواء ، بحيث يحدث من ذلك
صوت الخوار ، وهو صوت البقر. وهذا أمر بسيط ، ربما تصنع أمثال
__________________
ذلك للعبة الصبيان اليوم وقبل اليوم ، وليس من الأمر العجيب.
من هو السامريّ؟
ربّما تشكك بعض
الكتّاب المسيحيّين في «السامريّ» نسبة إلى السامرة بلدة كانت في أرض
فلسطين بناها «عمري» رابع ملوك بني إسرائيل المتأخّر عن عهد نبيّ الله موسى عليهالسلام بخمسة قرون! فكيف يكون معاصرا له وقد صنع العجل كما جاء
في القرآن؟
جاء في سفر
الملوك : وفي السنة ٣١ لآسا ملك يهوذا ملك عمري على إسرائيل ١٢ سنة ، ملك في ترصة
٦ سنين ، واشترى جبل السّامرة من شامر بوزنتين من الفضّة وبنى على الجبل ودعا اسم
المدينة الّتي بناها باسم شامر صاحب الجبل : السامرة.
وكان ذلك بعد
خروج بني إسرائيل من أرض مصر بنحو من ثلاث وعشرين وخمسمائة عام.
لكن السامريّ
لفظة معرّبة وليست على أصالتها العبرية ، والشين العبرية تبدّل سينا في العربيّة
كما في «موسى» معرّب «موشي» العبرية ، و «اليسع» معرّب «اليشوع». وكما في «السامرة» نسبة الى اسم صاحب الجبل «شامر».
أمّا السامري ـ
في القرآن ـ فليس منسوبا إلى بلدة السامرة هذه ، وإنّما هي نسبة إلى «شمرون» بلدة
كانت عامرة على عهد نبيّ الله موسى ووصيّه يوشع بن نون. والنسبة إليها شمروني
عرّبت إلى سامري ، ويجمع على شمرونيم (سامريّين). وقد فتحها يوشع وجعلها في سبط «زبولون»
كما جاء في سفر اليشوع وكان الملك عليها حين افتتحها يوشع «مرأون».
__________________
هذا ما حقّقه
العلّامة الحجّة البلاغي.
والسين والشين
كانا يتبادلان في العبرية أيضا. كان سبط يهوذا ينطقون بالشين وسبط افرايمي بالسين
في مثل «اليسوع» و «اليشوع».
قال الاستاذ
عبد الوهاب النجّار : ويغلب أن تكون «الشين» في العبرية «سينا» في العربية ، كما
كان ينطق بها أيضا سبط افرايم بن يوسف. وقد كان رجال سبط يهوذا يختبرون الرجل
ليعرف أنّه من سبط يهوذا أو افرايمي ، فيأمروه أن ينطق ب «شبولت» (سنبلة) فإذا قال
«سبولت» عرف أنّه افرايمي.
واحتمل في
السامريّ نسبة إلى شامر أو سامر بمعنى «حارس». ونطقها في العبرية «شومير» مأخوذ من «شمر» أي حرس. فقد
جاء في سفر التكوين : فقال الربّ لقابيل : أين هابيل أخوك؟ فأجاب : لا أعلم. وعقّبه
بقوله : ه شومير أحي أنو أخي؟ يعني : أحارس أنا لأخي؟ وما ذكره الحجّة البلاغي أقرب في النظر.
من هو قارون؟
يقول تعالى عنه
: (إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ).
قارون ، هو :
قورح بن يصهار بن قهات بن لاوي من أبناء عمّ موسى وهارون. ثار هو وجماعة من رؤساء
بني إسرائيل في مائتين وخمسين شخصا ، وحاولوا مقابلة موسى وهارون لينزعوا زعامة
إسرائيل عنهما.
وكان قارون
ثريّا جدّا ويعتزّ بثرائه ويفخر على سائر بني إسرائيل. وكان أولو
__________________
البصائر من قومه ينصحونه ويحذّرونه عاقبة ما هو عليه من الخيلاء والزهو. فكان
يتبجّح ويقول : إنّما أوتيته على علم عندي. ـ ويقال : إنّه كان واقفا على سرّ
الصناعة أي الكيمياء ـ فكان يخرج على قومه في زينته مفتخرا عليهم ، ويتحسّره
القوم ويقول الضعفاء : (يا لَيْتَ لَنا
مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وبذلك كاد أن يتغلّب على موسى وقومه ، لو لا أن خسف
الله به وبداره الأرض ، وبكلّ ما كان يملكه من كنوز.
وأمّا قوله
تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى
بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا
ساحِرٌ كَذَّابٌ). حيث يبدو أنّه كان مع فرعون ومن قومه ، فالظاهر إرادة
أنّه بالذات كان مقصودا بالإنذار إلى جنب فرعون وهامان ، من غير أن يستدعي ذلك أن
يكون منهم ، بل معهم في العتوّ والطغيان ، ولعلّه كان واقفا بصفّهم إزاء موسى
وهارون. قال تعالى : (وَقارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ). فقد كان قارون مقصودا كما كان فرعون وهامان ، لعتوّهم
واستكبارهم في الأرض جميعا.
(ما إِنَّ مَفاتِحَهُ
لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)
قال تعالى بشأن
ضخامة ثراء قارون : (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).
قال الطبرسي : «ما»
هذه موصولة بمعنى الذي. وصلتها : إنّ ، مع اسمها وخبرها. أي أعطيناه من الأموال
المدّخرة قدر الذي ينيء مفاتحه العصبة أي يثقلهم حمله. والعصبة : الجماعة الملتفّة بعضها ببعض
، أي المتآزرة على عمل ثقيل. أي كان حملها يضني بالفئام من أقوياء الناس.
__________________
قال : والمفاتح
ـ هنا ـ الخزائن في قول أكثر المفسّرين. وهو اختيار الزجّاج ، كما في قوله سبحانه
: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ). والمفاتح ، جمع مفتح. والمفتح بكسر الميم : المفتاح. وبالفتح
: الخزانة ، وكلّ خزانة لصنف من الأشياء أو الأموال. قال الفرّاء في قوله تعالى : (إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ) : يعني خزائنه.
قال الفرّاء :
نوؤها بالعصبة أن تثقلهم. ومفاتحه : خزائنه. والمعنى : ما إنّ مفاتح الكنوز أي
خزائنها لتنيء العصبة أي تميلهم من ثقلها. وإذا أدخلت الباء قلت : تنوء بهم. قال الشاعر :
إلا عصا أرزن
طارت برايتها
|
|
تنوء ضربتها
بالكفّ والعضد
|
وفي مسائل نافع
بن الأزرق سأل ابن عبّاس : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول امرئ
القيس إذ يقول :
تمشي فتثقلها
عجيزتها
|
|
مشي الضعيف
ينوء بالوسق
|
والوسق : ستّون
صاعا ، حمل بعير ، وكذا وقر النخلة.
ومن الغريب ما
نجد هنا من أجنبي عن اللغة ـ هو هاشم العربي ـ يعترض ويرى أنّ الصواب : «لتنوأ بها
العصبة». هذا في حين أنّ الزمخشري ـ وهو البطل الفحل ـ يقول : يقال
: ناء به الحمل ، إذا أثقله حتّى أماله. فسواء قلت : ناء به الحمل أو ناء بالحمل فالمعنى واحد. فالمعنى
على الأول : مال به الحمل ثقلا ، وعلى الثاني : مال بالحمل ثقلا. وعلى الأول هو
على الحقيقة كما جاء في القرآن ، وعلى الثاني كناية كما جاء في البيت.
حادث نتوق الجبل فوق رءوس بني إسرائيل
وحادث نتوق
الجبل ـ وهو زعزعته من الأعالي ، وقد ذكره القرآن ، وأنكره بعض
__________________
المستشرقين بحجّة أنّه لم يأت ذكره في العهد القديم ـ عورض أيضا بأنّه من التعنيف على التكليف.
وجاء ذكر هذا
الحادث في القرآن في موضعين :
١ ـ سورة
البقرة : (وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ
الْخاسِرِينَ).
٢ ـ سورة
الأعراف : (وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
ليس في الآيتين
سوى اقتلاع جزء عظيم من أعالى الجبل أثناء رجفة أو زلزال ، رأوه بأعينهم وهم
مجتمعون في سفح الجبل ، وانحدر هابطا ليتوقّف في الأثناء وكانت وقفته بصورة عمودية
، مطلّا عليهم جانبيّا فظنّوا أنّه واقع بهم. وصادف ذلك أن كان عند أخذ الميثاق
منهم على العمل بشريعة التوراة. ولعلّ في هذه المصادفة حكمة إلهية بالغة ، ليريهم
من آيات كونية موجّهة لضمير الإنسان إلى جانب ضعف مقدرته تجاه إرادة الله القادر
الحكيم.
وهذا من قبيل
إراءة المعاجز على أيدي الأنبياء ، إيقاظا للضمير وليس إكراها على التسليم.
وفي هذا
المقدار من دلالة الآيتين توافق مع ما جاء في العهد القديم. فقد جاء في سفر الخروج
:
فانحدر موسى من
الجبل ـ الطور ـ إلى الشعب وقدّس الشعب وغسلوا ثيابهم ، وقال للشعب : كونوا
مستعدّين لليوم الثالث ، لا تقربوا امرأة. وحدث في اليوم الثالث لمّا
__________________
كان الصباح أنّه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوق شديد جدّا
، فارتعد كلّ الشعب الذي في المحلّة. وأخرج موسى الشعب من المحلّة لملاقاة الله ،
فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كلّه يدخن من أجل أنّ الربّ نزل عليه بالنار
، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كلّ الجبل جدّا ، فكان صوت البوق يزداد اشتدادا
جدّا. موسى يتكلّم والله يجيب بصوت.
ثمّ جاء فيه
بعد ذلك :
وكان جميع
الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن ، ولمّا رأى الشعب ارتعدوا
ووقفوا من بعيد ، وقالوا لموسى : تكلّم أنت معنا ، فنسمع ولا يتكلّم معنا الله
لئلّا نموت.
* * *
أمّا اقتلاع
الجبل من أصله وبرمّته ورفعه في السماء فوق رءوسهم فهذا ما لم يذكره القرآن ولا
جاء في رواية معتمدة عندنا ، وإنّما هو شيء جاء في روايات إسرائيلية عامّية اغترّ
بها بعض المفسّرين من غير تحقيق ففي الدّرّ المنثور : عن قتادة «وإذ نتقنا الجبل ...»
قال : انتزعه الله من أصله ثم جعله فوق رءوسهم ، ثم قال : لتأخذنّ أمرى أو
لأرمينّكم به ...
قال محمّد رشيد
رضا : شايع الاستاذ الإمام [محمّد عبده] المفسّرين على أنّ رفع الطور كان آية
كونية ، أي أنّه انتزع من الأرض وصار معلّقا فوقهم في الهواء. وهذا هو المتبادر من
الآية بمعونة السياق ، وإن لم تكن ألفاظها نصّا فيه.
وقال في وجه
عدم نصّية القرآن في ذلك : إنّ أصل النتق ـ في اللغة ـ الزعزعة والزلزلة وأمّا
الظلّة فكلّ ما أظلّك وأطلّ عليك سواء كان فوق رأسك أو في جانبك مرتفعا له ظلّ. فيحتمل
أنّهم كانوا بجانب الطور رأوه منتوقا أي مرتفعا مزعزعا ، فظنّوا أن سيقع
__________________
بهم وينقضّ عليهم. ويجوز أنّ ذلك كان في أثر زلزال تزعزع له الجبل ... وإذا
صحّ هذا التأويل لا يكون منكر ارتفاع الجبل في الهواء مكذّبا للقرآن.
* * *
كما ولم يأت في
شيء من روايات صحيحة الإسناد إلى أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ما يدلّ على أنّ جبل الطور اقتلع من مكانه فرفع في السماء
فوق رءوس القوم ، سوى ما جاء في تفسير مجهول منسوب إلى الإمام العسكري عليهالسلام من أنّ الله أمر جبرائيل فقطع بجناح من أجنحته من جبل
من جبال فلسطين على قدر معسكر موسى عليهالسلام وكان طوله في عرضه فرسخا في فرسخ ، ثم جاء به فوق
المعسكر على رءوسهم ، وقال : إمّا أن تقبلوا ما آتاكم به موسى وإمّا وضعت عليكم
الجبل فطحطحتكم تحته ...
وفي كتاب
الاحتجاج (لم يعرف مؤلّفه) روى مرسلا عن أبي بصير قال : سأل طاوس اليماني الإمام
محمّد بن عليّ الباقر عليهالسلام عن طائر طار مرّة ولم يطر قبلها ولا بعدها ، ذكره الله
في القرآن ، ما هو؟ فقال : طور سيناء ، أطاره الله على بني إسرائيل حين أظلّهم
بجناح فيه ألوان العذاب ، حتى قبلوا التوراة ...
* * *
إذن ،
فالروايات من طرق الفريقين لا أساس لها ولا يمكن الاعتماد عليها في تفسير الذكر
الحكيم. ولذا فمن الغريب ما نجده من لجنة علماء الأزهر اعتراضهم على الاستاذ
النجّار في رفضه الأخذ بأقوال المفسّرين هنا. قالوا : لم يسع السيّد رشيدا ومؤلف
هذا الكتاب (أي الاستاذ النجّار) ما وسع الاستاذ الإمام في موافقة جميع المفسّرين
على أنّ رفع الطور آية كونية ، أي أنّه انتزع من الأرض وصار معلّقا فوقهم في الهواء.
مع اعتراف الأوّل (أي السيّد رشيد) بأنّه المتبادر من الآيتين بمعونة السياق. بل
أبديا (رشيد والنجّار) احتمالا مخترعا في الآيتين أخرجاهما عن إفادة تلك الآية
الكونية ، بحجّة أنّ ألفاظهما
__________________
ليست نصّا فيما أجمع عليه المفسّرون ، وتبعهم عليه الاستاذ الإمام.
وكذا قول
سيّدنا الطباطبائي : هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها والقول بأنّ بني إسرائيل
كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتّى أطلّ رأسه عليهم فظنّوا أنّه واقع بهم فعبّر
عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم ، مبنيّ على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات. وكلام سيّدنا الطباطبائي هنا يشعر باعتماده للروايات
المأثورة والاستناد إليها في تفسير القرآن بما لا صراحة فيه ، بل ولا ظهورا قويّا
يمكن الاعتماد عليه. وليس ذلك سوى تفسير القرآن بالروايات الضعيفة ، الأمر الذي
يبدو خلاف مسلكه في التفسير ... ولا سيّما إذا لم يكن للروايات أصل معتمد في
أحاديث أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
قال ـ في غير
هذا الموضع ـ : إنّ أخبار الآحاد لا حجّية فيها في غير الأحكام الشرعية ، فإنّ
حقيقة الجعل التشريعي (الحجّية التعبّدية لخبر الواحد) معناه : ترتيب أثر الواقع
على الحجّة الظاهرية ، وهو متوقّف على وجود أثر عملي للحجّة ، كما في الأحكام
والتكاليف ، وأمّا غير ذلك فلا أثر فيه حتّى يترتّب على جعل الحجّية. مثلا : إذا
وردت الرواية بأنّ البسملة جزء من السورة كان معنى ذلك وجوب الإتيان بها في
القراءة في الصلاة. وأمّا إذا ورد ـ مثلا ـ أنّ السامري كان رجلا من بلدة كذا ،
وهو خبر ظنّي ، كان معنى جعل حجيّته أن يجعل الظنّ بمضمونه قطعا ، وهو حكم تكويني
ممتنع وليس من التشريع في شيء.
قلت : والأمر
في الآية هنا أيضا كذلك ، لأنّ المسألة مسألة فهم المعنى من ظاهر اللفظ ، أي إذعان
النفس بذلك ، الأمر الذي لا مجال للتعبّد فيه. حيث الآية في سورة الأعراف استعملت
لفظ النتوق مصحوبا بالتشبيه بالظلّة (وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ). ثم أردفه بقوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُ
واقِعٌ بِهِمْ).
ونتق الجراب أي
نفضه بمعنى : حرّكه ليزول عنه الغبار ونحوه. ونتق الشيء : فتقه ،
__________________
زعزعه ، رفعه ، بسطه. ونتقت المرأة أو الناقة : كثر ولدها فهو يعطي معنى
البسط والكثرة والانتشار والتوسّع وإذ كان هناك بسط وتوسّع في أعالي الجبل كان ذلك
رفعا أي ارتفاعا بالشيء وتعاليا به ، وليس قلعا من مكانه وانتقالا له إلى محلّ آخر
في السماء ، كما زعم.
قال الراغب :
نتق الشيء : جذبه ونزعه حتّى يسترخي ، كنتق عرى الحمل. قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ).
وهذا يعطي معنى
: التزعزع في قلل الجبل وانتزاع صخور عظيمة منها وتدلّيها جانبيا مطلّة على القوم
وهم في أسفل ، وكانت كأظلّة مطلّة عليهم ، والأظلّة كما تصلح من علوّ كذلك تصلح من
جانب ، وفي كلتا الصورتين تصدق الفوقية.
وبذلك اتّضح
معنى قوله تعالى : (وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي رفعناه جانبيا ، لا شيء سواه.
قصّة داود وامرأة أوريا
جاء في «صموئيل
الثاني» الإصحاح ١١ :
كان داود أقام
في أورشليم ، وكان في وقت المساء ، قام وتمشّى على سطح البيت ، فرأى امرأة تستحمّ
، وكانت جميلة جدّا. فسأل عنها فقيل له : إنّها بثشبع بنت اليعام امرأة أورياء
الحثّى. فأرسل داود إليها وأخذها واضطجع معها فحبلت منه. فكتب داود إلى يوآب قائد
معسكره ، وأرسله بيد أورياء ، وكتب فيه أن اجعلوا أورياء في مقدّمة الجيش ليقتل. ففعل
يوآب ما أمره داود وقتل أورياء. فلمّا سمعت امرأة أورياء بموت زوجها ناحت عليه. وبعد
انقضاء أيّام النياحة أرسل داود فضمّها إلى بيته ، وجعلتها مع نسائه فولدت له ابنا
، ومات ذلك الولد ... وأمّا الأمر الّذي فعله داود فقبح في عيني الربّ.
وفي الإصحاح ١٢
:
وعزّى داود
بثشبع بموت ولدها ، واضطجع معها ثانية فولدت له ابنا فدعا اسمه سليمان ، فكان
سليمان قد ولد من امرأة اغتصبها داود من زوجها ، وتآمر على قتله!
وفي الإصحاح ١٣
و ١٤ و ١٥ :
وجرى بعد ذلك
أنّه كان لأبشالوم بن داود اخت جميلة اسمها ثامار ، فعشقها أخوها من غير أمّها
اسمه أمنون بن داود ، فاحتال عليها ، فتمارض وطلب منها ان تمارضه ، فلمّا دخلت
عليه اضطجع معها. ثمّ إنّ أخاها أبشالوم تمكّن بعد سنتين أن يثب على أخيه أمنون
فيقتله. وبعد مدّة ثار على أبيه داود ، فطارده بجيش عظيم ، وفرّ داود من وجهه. وممّا
ارتكبه أبشالوم من الشنائع أن دخل على سراري أبيه أمام جميع إسرائيل.
هكذا لعبت
اليهود بقداسة نبيّ الله داود عليهالسلام فوصموه وأهل بيته بأفضع وصمات منافية للشرف والعفّة ،
فجعلوا منهم اسرة تعيث في الخطايا والدنس بكلّ ألوانه!
أمّا القرآن
فجاء ليطهّر ساحة الأنبياء فيصوّر من داود قدّيسا وعبدا منيبا إلى الله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا
الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنا
مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ).
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).
وقد ذكرنا حديث
اختبار داود عليهالسلام بما يبرّئ ساحته النزيهة عن أمثال تلك الخرائف
الإسرائيلية ، عند الكلام عن تنزيه الأنبياء.
القرآن والأناجيل
زعم «تسدال»
أنّ النصرانيّة كانت أحد المصادر التي أخذ منها القرآن ، في حين أنّ من هذه
المصادر ما لم تكن موثوقة بل كانت لفرق شاذّة لها أساطير غريبة اعتمدها القرآن.
وزعم أنّ قصّة
مريم وابنها المسيح عليهماالسلام لم ترد في كتب النصرانية المعتمدة ،
__________________
واعتبرها خرافة وهمية. وحجّته في ذلك عدّة شبه في ذهنه :
١ ـ أنّ
ولادتها لعيسى ، حسبما جاءت في القرآن ، أشبه ما يكون باسطورة «ميلاد بده» عند
الهنود ، حيث ولد «بده» من عذراء لم يمسّها رجال.
٢ ـ خدمتها
للهيكل ، مع أنّ هذا لا يجوز للنساء.
٣ ـ ذكر القرآن
أنّها اخت هارون أخي موسى بن عمران ـ على حدّ فهمه ـ واعتبر ذلك من الخطأ التاريخي
في القرآن.
وهكذا أنكر
كلام عيسى في المهد ، وكذا المعجزات التي ظهرت على يده ممّا ذكره القرآن ، مثل
صنعه من الطين طيرا ثمّ يكون طيرا بإذن الله. وقصّة المائدة التي نزلت من السماء. وصلب
عيسى عليهالسلام حيث نفاه القرآن ، في حين قد أثبته الكتاب المقدّس.
ومثل : نزول
عيسى في آخر الزمان. ومسألة التبشير بمقدم نبي الإسلام حسبما ذكره القرآن ، ولم
يأت في الإنجيل ... ونحو ذلك من امور سردها «تسدال» بهذا الشأن سرد عاجز سقيم.
الصدّيقة مريم عليهاالسلام
أنكر «تسدال»
قصّة الصّديقة مريم عليهاالسلام أن تكون وردت بهذا الشكل في كتب النصرانية المعتمدة ،
واعتبرها خرافة.
قال الدكتور
رضوان : هذه القصّة من الشهرة والانتشار والبداهة في الوسط المسيحي بمكان ، حتّى
أنّ فرقة «البربرانية» منهم ألّهوها وابنها المسيح عليهماالسلام نظرا لولادتها لابنها بطريقة خارقة للعادة ، وقد أشار
القرآن الكريم لقضية تأليههم لهما عليهماالسلام.
أمّا زعم «تسدال»
أنّ القصّة غير موجودة في الكتاب المقدّس فيردّه ما ورد في
__________________
إنجيل «لوقا» ونصّه : «... ارسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من
الجليل اسمها ناصرة ، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف ، واسم العذراء
مريم. فدخل إليها الملاك وقال : سلام لك أيّتها المنعم عليها ، الربّ معك ، مباركة
أنت في النساء. فلمّا رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة؟!
فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم ، لأنّك قد وجدت نعمة عند الله ، وها أنت
ستحبلين وتلدين ابنا وتسمّينه يسوع. هذا يكون عظيما ، وابن العليّ يدعى ، ويعطيه
الربّ الإله كرسيّ داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد. ولا يكون لملكه
نهاية. فقالت مريم للملاك ، كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ فأجاب الملاك وقال
لها : الروح القدس يحلّ عليك ، وقوّة العليّ تظلّلك ، فلذلك أيضا القدّوس المولود
منك يدعى ابن الله.
وهو ذا «اليصابات»
نسيبتك هي أيضا حبلى بابن في شيخوختها ، وهذا هو الشهر السادس لتلك
المدعوّة عاقرا ، لأنّه ليس شيء غير ممكن لدى الله. فقالت مريم : هو ذا أنا أمة
الربّ ، ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك.
وجاء في إنجيل «متّى»
: «أمّا ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا : لمّا كانت مريم أمّه مخطوبة ليوسف قبل أن
يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارّا ولم يشأ أن يشهرها
أراد تخليتها سرّا. ولكن فيما هو متفكّر في هذه الامور إذا ملاك الربّ قد ظهر له
في حلم قائلا : يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك ، لأنّ الّذي حبل به
فيها هو من الروح القدس ، فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع ، لأنّه يخلص شعبه من
خطاياهم».
وفي إنجيل
برنابا ـ في الفصل الأول ـ ما نصّه : «لقد بعث الله في هذه الأيام الأخيرة بالملاك
جبرائيل إلى عذراء تدعى مريم من نسل داود من سبط يهوذا. بينما كانت هذه
__________________
العذراء ـ العائشة بكلّ طهر بدون أدنى ذنب ، المنزّهة عن اللوم ، المثابرة
على الصلاة مع الصوم ـ يوما ما وحدها وإذا بالملاك جبرائيل قد دخل مخدعها وسلّم
عليها قائلا : ليكن الله معك يا مريم. فارتاعت العذراء من ظهور الملاك ، ولكن
الملاك سكن روعها قائلا : لا تخافي يا مريم ، لأنّك قد نلت نعمة من لدن الله الذي
اختارك لتكوني أمّ نبيّ يبعثه إلى شعب إسرائيل ، ليسلكوا في شرائعه بإخلاص. فأجابت
العذراء : وكيف ألد بنين وأنا لا أعرف رجلا؟! فأجاب الملاك : يا مريم إنّ الله
الذي صنع الإنسان من غير إنسان لقادر أن يخلق فيك إنسانا من غير إنسان ، لأنّه لا
محال عنده. فأجابت مريم : إنّي لعالمة أنّ الله قدير ، فلتكن مشيئته. فقال الملاك
: كوني حاملا بالنبيّ الذي ستدعينه يسوع. فامنعيه الخمر والمسكر وكلّ لحم نجس ،
لأنّ الطفل قدّوس الله. فانحنت مريم بضعة قائلة : ها أنا ذا أمة الله ، فليكن بحسب
كلمتك.
* * *
قلت : ما جاء
في إنجيل برنابا أسلم وأوفق بالاعتبار ممّا جاء في إنجيلي لوقا ومتّى.
أولا : جاء في
إنجيل لوقا : «القدّوس المولود منك يدعى ابن الله».
وفيه أيضا :
أنّ مريم لمّا أتت خالتها «اليصابات» باركتها ووصفتها بأنّها أمّ ربّها : «وقالت :
أنت مباركة في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أمّ ربي إليّ».
وهذا شيء غريب
، كيف يكون المولود من امرأة ابنا لله ، بحجة أنّه لم يولد من أب؟! إذن لكان
الأولى أن يكون آدم ابنا لله ، حيث لم يلده أب ولا أمّ.
ثم كيف أصبح
هذا المولود من غير أب إلها من دون الله؟! الأمر الذي يرفضه العقل الرشيد.
__________________
قال صاحب كتاب «الفارق
بين المخلوق والخالق» : ما جاء في إنجيل لوقا (ص ١ : ٣٢) : «وابن العليّ يدعى». هذه
الجملة منتزعة من قول زكريّا عليهالسلام في ابنه يحيى : «وأنت أيّها الصّبي نبيّ العليّ تدعى» (لوقا
١ ص ١ : ٧٦) ، فحرّفت في حقّ عيسى عليهالسلام إلى قول لوقا على لسان الملك : «وابن العليّ يدعى»
ليوهموا الناس أنّ المسيح إله ابن إله.
وثانيا : قوله
: «هذا يكون عظيما ، وابن العليّ يدعى ، ويعطيه الربّ الإله كرسي داود أبيه ،
ويملك على بيت يعقوب ولا يكون لملكه نهاية» ...
قال الاستاذ
النجّار : إنّ هذه العبارات تفرّد بها لوقا ، ولم يذكرها أحد من كتّاب الأناجيل
سواه ، ونحن لا نقول بأنّ الإلهام قصّر معهم ـ وفيهم أصحاب المسيح المشاهدون
لأحواله العالمون بشأنه ـ وأفاض على لوقا الذي ليس تلميذا ولا من الاثني عشر ، بل
رجل دخل في الدين متأخّرا وصار تلميذا لبولس الذي لم ير المسيح ولم يعاشره. فهذه
العبارة ممّا جاء به ليزيّن أمر المسيح ويدخل على الناس تعظيمه ، والمسيح ليس في
حاجة إلى ذلك.
وقد طعن صاحب
كتاب «الفاروق» على هذه الجملة «ويعطيه الإله كرسي داود أبيه» بوجهين وجيهين :
الأول : أنّ
عيسى عليهالسلام من أولاد الملك «يهوياقيم» ولا يصلح أن يجلس على كرسيّ داود ، لأنّه لمّا أحرق
الصحيفة التي كتبها «بارخ» من فم النبيّ «أرمياء» نزل الوحي : «قال الربّ عن
يهوياقيم (يواقيم) ملك يهوذا ، لا يكون له جالس على كرسيّ داود».
الثاني : أنّ
المسيح ـ مع كونه لم يجلس على كرسيّ داود ـ أمر «بيلاطس» بضربه وإهانته ، وسلّمه
إلى اليهود ـ كما يزعمه النصارى ـ ففعلوا به ما فعلوا وصلبوه.
على أنّه يبدو
من إنجيل يوحنا (١ ص ٦) أنّه كان هاربا من قومه عند ما أرادوا أن
__________________
يجعلوه ملكا ولا يعقل أن يهرب من أمر بعثه الله لأجله ، على ما بشّر
جبرائيل أمّه العذراء قبل ولادته. ومعلوم أنّه لم يملك بيت يعقوب ساعة فضلا عن
الأبد.
يا اخت هارون؟
ويقول القاضي
عبد الجبار في كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» : وربما قيل في قوله تعالى : (يا أُخْتَ هارُونَ) : كيف يصحّ أن يقال لها ذلك وبينها وبين هارون أخي موسى
الزمان الطويل؟ وجوابنا أنّه ليس في الظاهر أنّه هارون الذي أخو موسى ، بل كان لها
أخ يسمّى بذلك ، واثبات الاسم واللقب لا يدلّ على أنّ المسمّى واحد. وقد قيل :
كانت من ولد هارون ، كما يقال للرجل من قريش يا أخا قريش.
ويشرح
المبشّرون هذه الناحية ويقولون : ورد في سورة مريم : (فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا
أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا). يبدو من هذه الآية أنّ محمّدا كان يرى أنّ مريم كانت أخت
هارون أخي موسى. وممّا يزيد هذا الأمر وضوحا وجلاء ما ورد في سورة التحريم ونصّه :
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ). وفي سورة آل عمران : (إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً). فلا شكّ أنّ محمدا توهّم أنّ مريم أخت هارون التي كانت
أيضا ابنة عمران (عمرام) هي مريم نفسها التي صارت أمّ يسوع (المسيح عيسى) بعد ذلك
بنحو ألف وخمسمائة وسبعين سنة. وهذا خطأ جسيم ، لأنّه لم يقل أحد من اليهود أنّ
مريم اخت هارون وابنة عمران بقيت على قيد الحياة إلى أيّام المسيح.
هكذا وهم تسدال
ومن حذا حذوه من المبشّرين! لكنّه وهم فاحش ، إذ كيف يمكن أن يخفى مثل هذا الفصل
البيّن بين موسى والمسيح عليهماالسلام على العرب العائشين في
__________________
جوار اليهود وبين أظهرهم طيلة قرون ، وكذا مراودتهم مع نصارى نجران
والأحباش ، فضلا عن نبيّ الإسلام النابه البصير ، ليتصوّر من مريم أمّ المسيح هي
مريم أخت موسى وهارون!
إذ من يعرف أنّ
لموسى وهارون أختا اسمها مريم ، لا يمكنه الجهل بهذا الفصل الزمني بين مريمين!
ثمّ كيف يسكت
اليهود ـ وهم ألدّ أعداء الإسلام ـ على هذا الخطأ التاريخي الفاحش ولم يأخذوه شنعة
على القرآن والإسلام؟
هذا وقد وقع
التساؤل عن هذا التشابه على عهد الرسول صلىاللهعليهوآله على ما نقله السيّد رضيّ الدين ابن طاوس عن كتاب «غريب
القرآن» لعبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي (من كبار رجال القرن الثالث) بإسناده
إلى المغيرة بن شعبة ، قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى أهل نجران ، فقالوا : أرأيت ما تقرءون «يا أخت
هارون» ، وهارون أخو موسى ، بينه وبين عيسى المسيح بكذا وكذا؟ قال : فرجعت وذكرت
ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : ألا أخبرتهم (أو قلت لهم) أنّهم كانوا يسمّون
بالأنبياء والصالحين قبلهم!
وهكذا أخرج ابن
أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن حبّان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة ... الحديث.
نعم وهمت عائشة
أنّها أخت هارون أخي موسى ، فنبّهها كعب الأحبار بأنّها غيرها ، والفصل الزمني بينهما
كبير. وإنّما هو من تشابه الأسماء ، فرجعت عن زعمها.
وذكر كعب أنّ
الفصل الزمني بينهما ستّمائة سنة. ولعلّه من حذف الألف في نقل الرواة.
إذن لم يكن ذلك
خافيا على أهل النباهة ذلك العهد وهكذا طول عهد الإسلام ،
__________________
حتى يأتي تسدال وأضرابه من أهل السفاسف في مؤخّرة الزمان ليجعلوه شنعة على
القرآن الكريم!!
والخلاصة ، أنّ
التسمية باسم الآباء والأمّهات تشريفا بهم ، شيء معروف كما جاء في كلام الرسول صلىاللهعليهوآله ولا سيّما وهارون كان سيّد قومه مهابا عظيما له شأن في
بني إسرائيل. وهو أوّل رأس الكهنة الذي ترأّس في اللاويين أكبر قبائل بني إسرائيل.
أضف إليه أنّ
أمّ مريم ـ وهي أخت اليصابات أمّ يحيى ـ كانت من سبط لاوى من نسل هارون. فهي من جهة الأمّ منتسبة إلى هارون ، فالتعبير بأخت
هارون ، معاتبة لها ، حيث علم أخذها بحرمة هذا النسب العالي. وهذا كما يقال
للتميمي : يا أخا تميم ، وللهاشمي : يا أخا هاشم ... روي ذلك (انتسابها إلى هارون)
عن السدّي.
وهذا لا ينافي
أن تكون مريم من جهة الأب منتسبة إلى داود من سبط يهوذا. لأنّ العقاب إنما يقع بأشرف الأبوين.
وهناك احتمال :
أنّها شبّهت بمريم أخت هارون وموسى ، لمكان قداستها وكانت ذات وجاهة عند قومها. وكانت
تدعى أيضا بأخت هارون. ويعبّر عنها بالنبيّة كهارون أخيها. وكانت أكبر من موسى بعشر سنين ، وهي التي قالت لها
أمّها : قصّيه ، عند ما قذفت بتابوت موسى في النيل.
والمعنى : أنّك
تماثلين الصديقة مريم اخت موسى وهارون ، فكان جديرا بك المحافظة على هذا المقام.
ابنة عمران؟
لم تذكر
التوراة عن والد مريم شيئا سوى أنّها من سبط يهوذا من نسل داود. ولا بعد أن يكون
اسم والدها عمران (عمرام) وكانت التسمية بهذا الاسم شائعة في بني
__________________
إسرائيل. وكان في حشد عزرا من كان يسمّى بهذا الاسم. كما لم ينكر هذا الانتساب منذ العهد الأوّل فإلى الآن ،
دليلا على صحّة الانتساب.
وعلى أيّ حال
فلا غرو أن يأتي القرآن بحديث لم يأت مثله في كتب الأقدمين ولا عرفه أصحاب الديانات
المعاصرة لنزول القرآن. وقد نبّهنا أنّ القرآن يأتي بالصفو الصحيح من آثار
الأنبياء والصدّيقين ، بما أعجب وأبهر ، ولذلك يقول سبحانه : بشأن قصص الصدّيقة
مريم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ).
إذ جاءت قصّتها
في كتب السابقين مشوّهة محرّفة ، ولكنّها في القرآن نقيّة زاكية.
تأليه الصدّيقة مريم!
(وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ
مِنْ دُونِ اللهِ ...). وهذا تعريض بفرقة من فرق النصارى قالوا بألوهية المسيح
وأمّه ... الأمر الّذي انكرته فرق النصارى اليوم ، بحجّة أنّه لم توجد فرقة تعتقد
ألوهية مريم العذراء!
لكن التاريخ
يشهد بوجود فرقة أو فرق من المسيحيين الأوائل كانوا يعتقدون بألوهيّتها إلى جنب
ألوهيّة المسيح :
يقول عنهم ابن
البطريق ـ الطبيب المؤرّخ المسيحي (٢٦٣ ـ ٣٢٨ ه / ٨٧٧ ـ ٩٤٠ م) :
«وكانوا
مختلفين في الآراء والأديان. فمنهم من كان يقول : إنّ المسيح وأمّه إلهان من دون
الله. وهم «البربرانيّة» ... ويسمّون «الريمتيين» (المريمانيّة). ومنهم من كان
يقول : إنّ المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى
بانفصال الثانية منها. وهي مقالة «سابليوس» وشيعته. ومنهم من كان يقول : لم تحبل
به مريم تسعة
__________________
أشهر ، وإنّما مرّ في بطنها كما يمرّ الماء في الميزاب ، لأنّ الكلمة دخلت
في اذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهي مقالة «إليان» وأشياعه. ومنهم من
كان يقول : إنّ المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منّا في جوهره ، وأنّ ابتداء
الابن من مريم ، وأنّه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهيّة ،
وحلّت فيه بالمحبّة والمشيئة ، ولذلك سمّي «ابن الله». ويقولون : إنّ الله جوهر
قديم واحد ، وأقنوم واحد. ويسمّونه بثلاثة أسماء ، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح
القدس. وهي مقالة «بولس الشمشاطي» بطريرك أنطاكيّة وأشياعه وهم «البوليقانيّون». ومنهم
من كان يقول : إنّهم ثلاثة آلهة لم تزل : صالح وطالح وعدل بينهما ، وهي مقالة «مرقيون»
وأصحابه ، وزعموا أنّ «مرقيون» هو رئيس الحواريّين وأنكروا بطرس. ومنهم من كان
يقول بألوهيّة المسيح. وهي مقالة «بولس» الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر
أسقفا ...
ولتصفية هذه
الخلافات اجتمع في عام ٣٢٥ ميلاديّة «مجمع نيقيّة» عند الملك «قسطنطين» وبدعوة منه
، فاجتمع ألفان وثمانية وأربعون أسقفا ، ودارت البحوث ، وقد اختار الإمبراطور
الروماني (قسطنطين) ـ الذي كان قد دخل في النصرانيّة من الوثنية منذ عهد قريب ولم
يكن يدري من النصرانية شيئا ـ هذا الرأي الأخير (رأي بولس الرسول) وسلّط أصحابه
على مخالفيهم ، وشرّد أصحاب سائر المذاهب ، وبخاصّة القائلين بألوهيّة الأب وحده ،
وناسوتيّة المسيح!
وهكذا يقول ابن
حزم الأندلسي (٣٨٣ ـ ٤٥٦ ه) وهو قريب عهد بابن البطريق ـ بعد شرح الخلافات بين
طوائف النصارى أيّام قسطنطين وكان أوّل من تنصّر من ملوك الروم. فكان ممّا عدّ من
تلك المذاهب والفرق : البربرانيّة. قال : «ومنهم البربرانيّة ، وهم يقولون إنّ
عيسى وأمّه إلهان من دون الله عزوجل : قال : وهذه الفرقة قد بادت ...».
__________________
ويكلّم الناس في المهد وكهلا؟
جاء في القرآن
في ثلاثة مواضع ، تكلّم المسيح في المهد :
١ ـ في سورة آل
عمران (الآية : ٤٦) : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ).
٢ ـ في سورة
المائدة (الآية : ١١٠) : (إِذْ أَيَّدْتُكَ
بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً).
٣ ـ في سورة
مريم (الآية : ٢٩) : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ
قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا).
ذكر الرازى أنّ
النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد ، بحجّة أنّه لم يثبت عندهم وكانوا هم أولى
بنقله لو كان ، لأنّه حادث عجيب وبرهان ساطع على صدق نبوّته. ولشهده جمّ غفير ونقل
بالتواتر لتوفّر الدواعي عليه ، بما لا يمكن خفاؤه لكي يظهر على يد نبيّ الإسلام
فحسب!؟
لكن هذا
الاعتراض إنّما كان يرد لو كان أبناء المسيحيّة قد احتفظوا بمستنداتهم الدينيّة
طول عهد التاريخ ولم يضيّعوها ولم يدعوها على ذمّة التحريف والخلط والتبديل. على
أنّهم منذ البدء لم يأخذوا ديانتهم عن أصل وثيق ولا عرفوا شيئا من حياة صاحب
الرسالة إلّا أقاويل وأساطير ، فقد ضاعت عنهم كلّ معالم الشريعة والصحيح من سيرة
المسيح منذ بداية الأمر ...
تلك الأناجيل
الأربعة ، ثلاثة منها (متى. مرقس ، لوقا) لم تحتفظ على معاجز المسيح (الثلاث
والثلاثون معجزة) سوى معجزة واحدة. وإنجيل يوحنّا لم تذكر منها سوى سبع معاجز فأين الباقي؟
على أنّ هذه
الأناجيل بينها اختلاف كبير وهي قريبة العهد بالتدوين. والعمدة أنّها كتبت في عهد
متأخّر (بعد انتهاء أمر المسيح) فخلطت الحابل بالنابل وكان فيها الغث والسمين ،
وبعد أن أفاق المسيحيّون من الاضطهادات التي كانت تتوالى عليهم نظروا في
__________________
تلك الأساطير واختارت الكنيسة من بينها تلك التي لا تتعارض مع نزعتها
وجعلتها رسميّة ولم تكترث لما بين مضامينها من التخالف والتناقض ما دام ذلك لا
يخالف المنزع العام الذي قصدته الكنيسة. والأناجيل جميعها منقطعة السند ، ولا توجد
نسخة إنجيل بخطّ تلميذ من تلاميذ ذلك المؤلّف ولا ما يضمن شبهة صحّة فيها.
من ذلك الخلط
الفاحش ، إسناد «لوقا» التكلّم في المهد إلى يوحنّا المعمدان (يحيى بن زكريّا) بدل
المسيح (عيسى بن مريم) ، وسكت عنه سائر الأناجيل.
جاء في إنجيل
لوقا : كان في أيّام هيروديس ملك اليهود (٤ ـ ٤٠ ـ ق م) كاهن اسمه زكريّا وامرأته
من بنات هارون واسمها «اليصابات» وكانت عاقرا ... فبينما زكريا يكهن في نوبة فرفته
أمام الله ، إذ ظهر له ملاك الرّبّ فبشّروه بيحيى ... ولمّا حبلت اليصابات أخفت
نفسها خمسة أشهر ، وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل إلى مدينة ناصرة إلى العذراء
مريم ليبشّرها بعيسى وقال لها : ها هي خالتك اليصابات أيضا حبلى بابن في شيخوختها.
وفي تلك الأيام ذهبت مريم إلى مدينة يهوذا ودخلت على اليصابات وسلّمت عليها ،
وظلّت عندها ثلاثة أشهر ثم عادت إلى بيتها في الناصرة.
ولما تمّ زمان
حمل اليصابات ولدت ابنا وسمع الجيران والأقرباء وفرحوا بذلك ، وفي اليوم الثامن
جاءوا ليختنوه وسمّوه يحيى ـ بإشارة من أبيه ـ وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلّم
وبارك الله ... فتعجّب الجميع من ذلك الحادث الغريب؟!
__________________
وأمّا مريم
العذراء فلمّا تمّ أيام حملها ولدت ابنا فقمّطته وأضجعته في المذود ... ولمّا تمّت
ثمانية أيّام جاءوا ليختنوا الصّبي وسمّي اليسوع ...
ولنتساءل كاتب
الإنجيل : هل كانت هناك ضرورة تدعو إلى تكلّم يحيى في اليوم الثامن من ولادته؟ (مع
العلم أنّ المعجزات خوارق للعادات لا تظهر على يد أولياء الله إلّا حينما تدعو
الضرورة إليه!).
والصحيح أنّه
من سهو الكاتب إن لم يكن هناك عمد؟!
* * *
هذا ، وليس في
القرآن تصريح بأنّ المسيح تكلّم في المهد حال رضاعه وقبل أوان الكلام ، ذلك أنّ
الله امتنّ على المسيح إذ أيّده بروح القدس ومنح له عقلا وافرا يكلّم الناس ـ بكلام
معقول ـ منذ طفولته فإلى أوان كهولته. فكان عليهالسلام منذ صغره زكيّا بارعا وافر العقل ، ينطق كما ينطق الرجل
الخبير. وسنذكر محاجّته مع العلماء في أورشليم مذ بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة
بحيث أعجب الجميع كلامه. فخافت مريم عليه وعنّفته على ذلك.
وهذا هو الظاهر
من قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً).
أخرج الطبري
بإسناده إلى سعيد بن جبير عن قتادة قال : يكلّمهم صغيرا وكبيرا. وهكذا أخرج
بإسناده إلى الربيع بن أنس. وعن ابن جريج قال : كلّمهم صغيرا وكبيرا وكهلا ...
وهذا كقولهم : «اطلبوا
العلم من المهد إلى اللحد» أى منذ الصغر فإلى نهاية الكبر. والمهد كناية عن حالة
الصبي في نعومة أظفاره ورخاوة هندامه ، فيضطجع فيما مهّد له من مضجع ناعم فاره.
__________________
مريم تعود بابنها وقد جاوز سنّ الرضاعة
على أنّ مريم
لما جاءت بالمسيح كان قد تجاوز دور الرضاعة الأولى بعد مدّة طويلة من ولادته.
جاء في إنجيل
متى : ولمّا ولد يسوع في بيت لحم في أيام هيروديس الملك ، جاءت جماعة من المجوس
ليقدّسوه وعلم الملك بذلك واستفسر الكهنة عن مولده فأنبئوه بمكان ولادته وكان قد
همّ بقتله ، وقال للمجوس إذا عرفتموه فأخبروني لكي اقدّسه معكم.
أمّا المجوس
فوجدوه في بيت لحم مع أمّه مريم فخرّوا وسجدوا له وقدّموا هداياهم ورجعوا منصرفين
على غير طريق الملك.
وبعد ما
انصرفوا إذا ملاك الرّبّ قد ظهروا ليوسف خطيب مريم في حلم وأمروه أن يهرب بالصبي
إلى مكان بعيد لا يعرفونه ، خوفا على الصبي من السلطان. فلمّا مات الملك ألهم يوسف
بأن يرجع مع الصبي إلى أرض إسرائيل. وقد كان «أرخيلاوس» ملك اليهود ، فخاف يوسف
وعرّج على نواحي الجليل وسكن في مدينة يقال لها ناصرة.
وفي إنجيل
برنابا نفس العبارة مع شيء من التوضيح :
«ولمّا مات
هيروديس ظهر ملاك الربّ في حلم ليوسف قائلا : عد إلى اليهوديّة ، لأنّه قد مات الذين
كانوا يريدون قتل الصّبي. فأخذ يوسف الطفل ومريم ـ وكان الطفل بالغا سبع سنين من
العمر ـ وجاء إلى اليهوديّة ، حيث سمع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس صار حاكما فيها. فذهب
إلى الجليل لأنّه خاف البقاء في اليهودية (أورشليم) فذهبوا ليسكنوا في الناصرة.
وهكذا يبدو من
ظاهر تعبير القرآن : قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ
مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً. فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً
سَوِيًّا) ...
(قالَ إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ...)
__________________
(فَحَمَلَتْهُ
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ
النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها
مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ
بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ...)
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ.
قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ ...).
يبدو من هذه
الآيات أنّ مريم اختارت لعبادتها أرضا غير آهلة بعيدة عن مساكن أهلها لتختلي
بعبادة ربّها دون أعين الناظرين. وفي هذا الدور جاءها ملاك الربّ ليبشّرها بالمسيح.
ولمّا حملت به أخذت تبتعد أكثر خوف الفضيحة. وكان هناك (في المكان القصيّ) نخل
ومعين ماء ، فوضعت حملها هناك بعيدا عن الناس كافّة. وأمرها الملاك أن لا تتكلّم
مع أحد يمرّ عليها أو تمرّ عليه بحجّة أنّها صائمة صوم صمت. فكانت مختلية بنفسها
وولدها يعيشان في هدوء وفراغة بال. بعيدا عن هرج العامّة. (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً. وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ).
وكم عاشا هناك
في خلأ من الناس؟
يبدو أنها لم
تعش هناك سوى سنتين أو ثلاث ، لأنّها حين رجعت إلى قومها كانت تحمل طفلها ، ولا
بدّ أنّ الطفل عند ما يبلغ مثل هذا السنّ قادر على التكلّم ، وليس ذلك بغريب. أمّا
قولهم : (كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فلعلّه من جهة أنّهم استغربوا أنّها جاءت بولد وهي غير
متزوّجة ، فلا بدّ أنّها هي المجيبة على ذلك ، وليس الطفل ـ الذي هو نتاج الحمل ـ بمسئول
ولا قادر على حلّ الإشكال. فالطفل غير عارف بسبب هذا الإنتاج ، فلا معنى للسؤال
منه!
لكنّهم عند ما
واجهوا كلام المسيح في رزانة وتعقّل متين ، عرفوا أنّ ذلك آية من آيات الله ، فلا
موضع للاستغراب!
__________________
هذا ولم يتكلّم
من أصحاب الأناجيل عن الحمل بالمسيح وولادته شيئا يذكر سوى ما جاء ـ باختصار
وإجمال ـ في متى (١ ص ١ : ١٨) ولوقا (١ ص ١ : ٢٧ ـ ٣٢).
عيسى يحاجّ العلماء في سنّ مبكّر
جاء في إنجيل
برنابا (١ ص ٢ : ١ ـ ١٥) : «ولما مات هيروديس ظهر ملاك الربّ في حلم ليوسف قائلا :
عد إلى اليهوديّة (أورشليم) لأنّه مات الذين كانوا يريدون موت الصبي. فأخذ يوسف
الطفل ومريم ـ وكان الطفل بالغا سبع سنين من العمر ـ وجاء إلى اليهوديّة. حيث سمع
أنّ أرخيلاوس بن هيروديس كان حاكما في اليهوديّة. فذهب إلى الجليل ، لأنّه خاف أن
يبقى في اليهوديّة. فذهبوا ليسكنوا في الناصرة. فنما الصبي في النعمة والحكمة أمام
الله والناس.
ولمّا بلغ يسوع
اثنتى عشرة سنة من العمر صعد مع مريم ويوسف إلى أورشليم ، ليسجد هناك حسب شريعة
الربّ المكتوبة في كتاب موسى. ولمّا تمّت صلواته انصرفوا بعد أن فقدوا يسوع ،
لأنّهم ظنّوا أنّه عاد إلى الوطن مع أقربائهم ولذلك عادت مريم ويوسف إلى أورشليم
ينشدان يسوع بين الأقرباء والجيران.
وفي اليوم
الثالث وجدوا الصبي في الهيكل وسط العلماء يحاجّهم في أمر الناموس. وأعجب كلّ أحد
بأسئلته وأجوبته ، قائلا : كيف اوتي مثل هذا العلم وهو حدث ولم يتعلّم القراءة؟!
فعنّفته مريم قائلة : يا بنيّ ما ذا فعلت بنا ، فقد نشدتك وأبوك ثلاثة أيّام ونحن
حزينان. فأجاب يسوع : ألا تعلمين أنّ خدمة الله يجب أن تقدّم على الأب والأمّ. ثمّ
نزل يسوع مع أمّه ويوسف إلى الناصرة. وكان مطيعا لهما بتواضع واحترام ...
ولعلّ هذا هو
المراد بتكلّمه مع الناس صغيرا وكبيرا (في المهد وكهلا) ... والله العالم.
الكهولة هو تخطّي الثلاثين
قال الراغب :
الكهل من وخطه الشيب ، أي خالط سواد شعره ، وهو الذي تخطّى الشباب وحانت
مشيبته.
__________________
والمعروف أنّ
المسيح عليهالسلام أرسل إلى الناس عند ما بلغ ثلاثين سنة ، ورفع إلى
السماء بعد ثلاث سنين.
لكن الشباب قبل
بلوغ ثلاثين عاما ، وعنده يأتي دور الكهولة حتّى نهاية الأربعين.
قال الجوهري ـ في
الصحاح ـ : الكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب. وقال ابن الأثير ـ في
النهاية ـ : الكهل من الرجال من زاد على ثلاثين سنة إلى أربعين. فما بين الثلاثين
والأربعين هي سنّ الكهولة.
ويبدو من كلام
أهل اللغة أنّ الكهولة هي السنّ التي تجتمع فيها القوى ، ويكون المرء في أجمع قواه
ما بين سنّ الثلاثين فإلى أربعين.
قال ابن فارس :
الكاف والهاء واللام أصل يدلّ على قوّة في الشيء أو اجتماع جبلّة. من ذلك الكاهل :
ما بين الكتفين ، سمّي بذلك لقوّته. ويقولون للرجل المجتمع إذا وخطه الشيب : كهل
وامرأة كهلة. قال أبو منصور الثعالبي : يقال للرجل إذا اجتمعت لحيته
وبلغ غاية شبابه : مجتمع.
التبشير بمقدم رسول الإسلام محمّد صلىاللهعليهوآله
(وَإِذْ قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً
لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
أنكروا وجود
هذه البشارة في بشائر المسيح عليهالسلام بحجّة خلوّ الأناجيل عنها!!
لكن البشارة
موجودة ، والقوم حرّفوها في التراجم تحريفا.
جاء التبشير
بمقدم سيّدنا محمد صلىاللهعليهوآله في وصايا المسيح عليهالسلام للحواريّين والذين اتّبعوه بلفظة تدلّ على وصف المبشّر
به بأنّه «كثير المحمدة» المنطبقة مع لفظة «أحمد» وهو أفعل التفضيل من الحمد.
__________________
وكانت لغة
المسيح التي بشّر بها هي العبرانية ، وهي لغة إنجيل يوحنّا الذي جاء فيه هذا
التبشير ، لكنّها ترجمت إلى اليونانية ، ولم يعرف المترجم ، ولا سبب الترجمة إليها
... وضاع الأصل ، ولم يعد له وجود حتّى الآن.
والتراجم
الموجودة حاليّا هي تراجم عن النسخ اليونانية .. والبشارة في اليونانية كانت بلفظة
«بيركلوطوس» ومعناها : «الذي له حمد كثير».
لكن القوم
حرّفوا اللفظة إلى «باراكلي طوس» لتترجم إلى المبشّر أو المسلّى أو المعزّى. وجاء تعريبها «فارقليطا» كما هو معروف.
* * *
يقول الأستاذ
النجّار : كنت في سنة ١٨٩٣ ـ ١٨٩٤ ميلادية طالبا بدار العلوم في السنة الاولى ،
وكان يجلس بجانبي ـ في درس اللغة العربية ـ العلّامة الكبير الدكتور «كارلونلينو»
المستشرق التلياني ، وكان يحضر درس اللغة العربية بتوصية من الحكومة الإيتالية. فانعقد
أواصر الصحبة المتينة بيني وبينه ، وكان المرحوم «أحمد بك نجيب» يعطي محاضرات في
الانفتياتر والعمومي ، وكنّا نحضرها ونعطي ملازم من كتابه «الأثر الجليل في قدماء
وادى النيل». ففي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة ١٣١١ خرجنا بعد المحاظرة
وسرنا في «درب الجماميز» فقال لي الدكتور «نللينو» : هذه الليلة ليلة المعراج؟ قلت
: نعم. فقال : وبعد ثلاثة أيام عيد السيّدة زينب؟ فقلت : نعم ...
ثم قلت له ـ وأنا
أعلم أنّه حاصل على شهادة الدكتوراة في آداب اليهود اليونانية القديمة ـ : ما معنى
«بيريكلتوس»؟ فأجابني بقوله : إنّ القسس يقولون : إنّ هذه الكلمة معناها «المعزّى».
فقلت : إنّي أسأل الدكتور «كارلونلينو» الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة
اليونانية القديمة ولست أسأل قسّيسا! فقال : إنّ معناها : «الذي له حمد كثير». فقلت
:
__________________
هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ فقال : نعم! فقلت : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله من أسمائه «أحمد». فقال : يا أخى أنت تحفظ كثيرا ... وقد
ازددت بذلك تثبّتا في معنى قوله تعالى حكاية عن المسيح : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
وقال الحجّة
البلاغي : الكلمة في الأصل اليوناني «بيركلوطوس» الذي تعريبه «فيرقلوط» بمعنى «كثير
المحمدة» الموافق لاسم «أحمد» و «محمّد». لكنّهم صحّحوه ـ حسب زعمهم ـ إلى «بيراكلي
طوس» ويعبّرون عنه ب «فارقليط» كما عن التراجم المطبوعة بلندن سنة (١٨٢١ و ١٨٣١ و
١٨٤١ م) ومطبوعة وليم بلندن (١٨٥٧ م) على النسخة الرومية المطبوعة سنة (١٦٦٤ م)
والترجمة العبرية المطبوعة سنة (١٩٠١ م). لكن أبدله بعض المترجمين إلى لفظة «المعزّى»
أو «المسلّى» وشاع ذلك.
* * *
وذكر محمّد بن
إسحاق المؤرخ الإسلامي المعروف صاحب السيرة النبوية المتوفّى سنة (١٥١ ه) نقلا عن
إنجيل يوحنّا أن كلمة البشارة كانت بالسريانية «المنحمنّا» ، وهي بالرومية «البرقليطس»
، يعني : محمّدا صلىاللهعليهوآله قال : وقد كان فيما بلغني عمّا كان وضع عيسى بن مريم
فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله صلىاللهعليهوآله ممّا أثبت لهم «يحنّس» الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى بن مريم عليهالسلام في رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «من أبغضني فقد أبغض الربّ ، ولو لا أنّي صنعت
بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة. ولكن من الآن بطروا وظنّوا
أنّهم يعزّونني ، وأيضا للربّ. ولكن لا بدّ من أن تتمّ الكلمة التي في
الناموس : أنّهم أبغضونني مجّانا أي باطلا. لو
__________________
قد جاء «المنحمنّا» هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الربّ روح القدس ،
وهذا الذي من عند الربّ خرج ، فهو شهيد عليّ وأنتم أيضا ، لأنّكم قديما كنتم معي. في
هذا قلت لكم لكيما لا تشكّوا.
وهذه العبارة
الأخيرة أيضا جاءت في إنجيل يوحنّا ، هكذا : ومتى جاء «المعزّى» الذي سأرسله أنا
إليكم من الأب روح الذي من عند الأب ينبثق ، فهو يشهد لي ، وتشهدون أنتم أيضا ،
لأنّكم معي في الابتداء.
قال ابن إسحاق
: والمنحمنّا بالسريانيّة : محمّد. وهو بالروميّة : البرقليطس صلىاللهعليهوآله.
انظر إلى هذه
التطابق مع إنجيل يوحنّا قبل اثني عشر قرنا ، وكيف حصل التحريف في لفظه إلى «المعزّى»
وغيره.
قصّة الصّلب
جاءت قصة صلب
المسيح عليهالسلام والأسباب التي دعت إلى صلبه في الأناجيل مختلفة أشدّ
الاختلاف ، فلا تكاد جزئية من الجزئيّات في أحدها تتحد مع الجزئية نفسها في إنجيل
آخر.
ولمّا كانت هذه
الأناجيل من تأليف أناس يدّعي المسيحيّون لهم الإلهام ويعتقدون خلوّها من الخطأ
كان ينبغي أن تكون كتابهم في مثل هذه الحادثة المهمّة ـ التي هي مناط النجاة
ودعاته الإيمان في نظرهم ـ متطابقة متوافقة ، بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلا ، إذ
النفس لا تطمئنّ إلى الأخذ بروايات جاءت بشأن قضيّة واحدة ، إذا اختلفت وتضارب
بعضها مع البعض. الأمر الذي ينبئ عن عدم أمانة الراوي كلّ الأمانة ، وتزول الثقة
بروايته ، فلم يجز التصديق بها في نظر الاعتبار.
__________________
وقد فصّل
الكلام الاستاذ النجّار عن هذا الاختلاف الفاحش ، وأبان مواضع التناقض والتهافت
بين الأناجيل بشأن قصّة الصلب ، قال : لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألة من
المسائل كاختلافها في تفصيل مسألة صلب المسيح وقتله.
قال : إنّ أدنى
نظر يهدي إلى أنّ عبارات هذه الأناجيل الأربعة متخالفة وشهادتها لا تصلح أن تكون
مستندا يثبت به أمر له من الأهمية مثل ما لمسألة صلب المسيح التي يدّعيها
المسيحيّون ويجعلونها أساس إيمانهم :
١ ـ أنّ «متّى»
يقول : إنّ يسوع جاء مع تلاميذه إلى قرية «جثيماني». ووافقه «مرقس». وخالفهما «لوقا»
وقال : إلى جبل الزيتون. وقال «يوحنّا» : عبر وادى «قدرون».
٢ ـ وقال «متّى»
: ثم أخذ معه «بطرس» وابني «زبدى» وابتدأ يحزن ويكتئب. ووافقه «مرقس». وخالف «لوقا»
في ذلك وذكر أنّه انفصل عنهم رمية حجر وصار يصلّي. وأسقط «يوحنا» هذه العبارة.
٣ ـ ذكر «متّى»
أنّه قال لمن معه : «نفسي حزينة حتّى الموت ، امكثوا هاهنا واسهروا معي» ثم راجعهم
فوجدهم نياما وهكذا للمرّة الثانية والثالثة فأنبأهم للمرّة الثالثة أنّ «ابن
الإنسان» ـ يعني نفسه ـ سلم إلى أيدي خطاة. ثم قال : قوموا نتطلّق هو ذا الذي
يسلمني قد اقترب. وعبارة «مرقس» توافق عبارة «متّى» في المعنى.
وأمّا «لوقا»
فزاد : أنّ ملكا من السماء نزل إلى المسيح يقويه ، وأنّه كان يصلّي بأشدّ لجاجة
وصار عرقه كقطرات دم. وأسقط مجيئه إلى التلاميذ للمرّة الثالثة.
وأمّا «يوحنا»
فقد أسقط ذلك كلّه ولم يذكر شيئا منه. وهو أحد الثلاثة الذين انفرد بهم يسوع عن
سائر التلاميذ ، وهو دليل على عدم حصول شيء من ذلك.
٤ ـ قال «متّى»
: وفيما هو يتكلّم إذا يهوذا أحد الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصيّ من
عند رؤساء الكهنة وشيوخهم وشيوخ الشعب. والذي سلّمه أعطاهم علامة قائلا : هو هو
امسكوه. فللوقت تقدّم إلى يسوع وقال : السلام عليك يا سيّدي وقبّله ،
__________________
فقال يسوع : يا صاحب لما ذا جئت؟ حينئذ تقدّموا وألقوا الأيادي على يسوع
وأمسكوه.
وافق «مرقس» «متّى»
في المعنى. وقال «لوقا» : إنّ المسيح قال : يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!
بدل قوله «يا صاحب لما ذا جئت». وزاد : إنّ المسيح خرج إليهم وقال : من تطلبون؟
قالوا : يسوع الناصري ، فقال لهم : أنا هو ، فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. ثم
أعاد سؤاله وأعادوا الجواب ، ثم قال : فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون.
٥ ـ ذكر «متّى»
أنّهم قبضوا على يسوع ، ثمّ إنّ بطرس استلّ سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع اذنه ،
حينئذ تركه التلاميذ كلّهم وهربوا. أمّا «مرقس» فلم يذكر هرب التلاميذ. وأمّا «لوقا»
فانفرد عن الجميع بأنّ المسيح لمس اذن العبد وأبرأها.
٦ ـ يقول «متّى»
: إنّ الذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى «قيافا» رئيس الكهنة. وأمّا «يوحنّا» فقال :
إنّهم أوثقوه وذهبوا إلى «حنّان» حما «قيافا».
٧ ـ ذكر «متّى»
أنّ رؤساء الكهنة والشيوخ والجمع كلّه كانوا يطلبون شهادة زور على يسوع فلم يجدوا
، ومع أنّه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا.
قال الاستاذ
النجّار : انظروا إلى هذا الكلام الغلق المتناقض كلّ التناقض ، إذا كانوا طلبوا
شهود زور فلم يجدوا فيكف يقول بعد ذلك : «ومع أنّه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا»؟!
٨ ـ المفهوم
صراحة من عبارة «متّى» و «مرقس» أنّ المحاكمة كانت ليلا عقب القبض على المسيح
ووصوله إلى دار رئيس الكهنة. ولكن «لوقا» و «يوحنّا» جعلا المحاكمة صباحا.
٩ ـ قال «يوحنّا»
: وكانت واقفات عند صلب المسيح أمّه واخت أمّه وكلّم المسيح مع أنّه. وقد انفرد «يوحنّا»
يذكر هذه العبارة. وأمّا «لوقا» فلم يذكر قرب أحد من معارفه إليه ولم يشر إليهم
بكلمة ولم يذكر «مرقس» أحدا من معارفه نظر حادثة الصلب من قريب.
١٠ ـ ذكر «متّى»
أنّ حجاب الهيكل قد انشقّ إلى نصفين اثنين من فوق إلى أسفل حين أسلم المسيح الروح
، والأرض تزلزلت والصخور تشقّقت والقبور تفتّحت ، وقام كثير من أجساد القدّيسين
الأموات. وأمّا «مرقس» فقد أهمل هذا القول كلّه ولم يذكر منه شيئا. وقال «لوقا» :
واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل ، ولم يذكر زلزلة الأرض ولا غير ذلك ممّا ذكره «متّى».
وعدّد الاستاذ
النجّار أكثر من ثلاثين موضعا خالفت فيها الأناجيل ، وعقّبها بقوله : أراني قد
مللت جدّا من إيراد الأقوال المتخالفة بهذا الشأن ، وأظنّ أن القارئ قد سئم كما
سئمت ، ولو ذهبت في هذا الشوط أعدّد هذا التضادّ بين الأناجيل لأضعت وقتا ثمينا.
قال : وبعد ذلك
فهل يظنّ ظانّ أنّ محمدا صلىاللهعليهوآله هو الذي ابتدع مسألة نفي صلب المسيح؟ وإذا نظرنا إلى مسألة صلب المسيح وقتله لم نجدها عند
المسيحيّين إجماعية ، بل وجد من طوائف المسيحيين من ينفي الصلب والقتل. منهم : «الساطرينوسيون»
و «الكاربوكراتيون» و «المركيونيّون» و «البارديسيانيون» و «التاتيانسيون» و «البارسكاليونون»
و «البوليسيون» ... وهؤلاء مع كثيرين غيرهم لم يسلّموا بوجه من الوجوه : أنّ
المسيح سمّر فعلا ومات على الصليب.
وما ذكرنا هنا
مقرّر في تاريخهم الذي يدرّس في مدارس اللاهوت الإنجيليّة باسم «موسى هيم». وهناك
شهادات من علماء النصرانية تفيد المطّلع بصيرة :
١ ـ قال المسيو
«ارادوارسيوس» الشهير ـ أحد أعضاء «الانسيتودي فرانسي» في باريس والمشهور بمعارضة
المسلمين ـ في كتابه «عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانية ، ص ٤٩» : إنّ القرآن
ينفي قتل عيسى وصلبه ، ويقول بأنّه شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنّوا أنّهم
قتلوه. قال : وما قاله القرآن موجود عند طوائف من المسيحيّين ، منهم «الباسيليديون»
كانوا يعتقدون أنّ عيسى وهو ذاهب لمحلّ الصلب ألقى الشبه على
__________________
«سيمون» السيرناي تماما ثم أخفى نفسه. ومنهم : «السرنتيون» فإنّهم قرّروا
أنّ أحد الحواريّين صلب بدل المسيح. وقد عثر على فصل من كلام الحواريين ، وإذا
كلامه كلام «الباسيليديين» قد صرّح إنجيل القدّيس «برنابا» باسم الذي صلب بدل عيسى
أنّه «يهوذا».
٢ ـ وقال «الهرارنست
دي بونس» الألماني في كتابه «الإسلام أي النصرانية الحقّة» في ص ١٤٣ ما معناه :
إنّ جميع ما يختصّ بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات «بولس» ومن شابهه
من الذين لم يروا المسيح ، وليس من اصول النصرانية الأصيلة.
٣ ـ قال «ملمن»
في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الديانة النصرانية» : إنّ تنفيذ الحكم كان في وقت
الغلس وإسدال ثوب الظلام ، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين
الذين كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم ، كما اعتقد بعض الطوائف
المسيحية ، وصدّقهم القرآن.
* * *
وللشيخ محمد
عبده أيضا بحث مذيّل حول مسألة الصلب والفداء ، وأنّها عقيدة وثنية ، ورثتها
المسيحية من الهنود. ويتعرّض لشبهات أثارها المسيحيّون بشأن إنكار الصلب. وكانت
الشبهة الثانية : أنّ قصة الصلب متواترة متّفق عليها بين طوائف النصارى.
لكنّها شبهة
إنّما تعبّر على من يجهل تاريخ المسيحية ، أمّا من يطّلع على تاريخهم فالإجابة على
هذه الشبهة يسيرة عليه ، حيث هناك فرق منهم أنكروا الصلب ، كفرقة «السيرنسيين» و «التاتيانوسيين»
أتباع «تاتيانوس» تلميذ «يوستينوس» الشهير. وقال «فوتيوس» أنّه قرأ كتابا يسمّى «رحلة
الرسل» فيه أخبار «بطرس» و «يوحنّا» و «اندراوس» و «توما» و «بولس». وممّا قرأه
فيه : «أنّ المسيح لم يصلب ، ولكن صلب غيره. وقد ضحك بذلك من صالبيه». وأنّ مجامع
المسيحيّين حينذاك قد حرّمت قراءة
__________________
أمثال هذه الكتب التي تخالف الأناجيل الأربعة والرسائل التي اعتمدتها
الكنيسة. فجعلوا يحرقون تلك الكتب ويتلفونها ... وقد سلمت بعض تلك الكتب كإنجيل
برنابا ، وهو ينكر الصلب.
وسنذكر أنّ
جماعة اعتقدوا تظاهر المسيح بالموت ، في تواطؤ مع أحد تلاميذه يوسف وساعده الوالي
بيلاطس بتحريض من امرأته ، حذّرته أن يمسّ الرجل البارّ بسوء.
* * *
إذن ، ليس
الأمر كما زعمه النصارى ، أنّ المسيح قد صلب وقتل يقينا ، بل الأمر كان مشكوكا
لديهم ، منذ بداية الأمر وإن اتفقوا بعد ذلك على عقيدة الصلب والفداء ، وهي بدعة
ورثوها من عبدة الأوثان.
ومن ثمّ ،
فالحقّ ما صرّح به القرآن الكريم الذي (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ). قال تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
مسألة التوفّي
قد عرفت تصريح
القرآن الكريم بأنّ الأمر قد شبّه لهم ، وما قتلوه وما صلبوه ، بل رفعه الله إليه.
وكان القوم من
أوّل أمرهم على شكّ من ذلك ، وكان هناك أقوام أنكروا وقوع القتل على شخص المسيح ،
وكان اختلاف الأناجيل الأربعة في سرد القضية تأييدا لهذا الشكّ والترديد.
__________________
غير أنّ هنا
سؤالا : هل المسيح رفع بروحه وجسده إلى السماء وهو حيّ يرزق حتى يرجع إلى الأرض في
آخر الزمان كما في كثير من روايات إسلامية؟ أم رفع بروحه دون جسده وأنّ الله
توفّاه أي أماته وقبض روحه؟
يقول البعض من
علماء الغرب : ليس في القرآن نصّ على بقاء المسيح حيّا يرزق في السماء ، بل
التصريح بموته ، وأنّ الله توفّاه :
(إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ).
وهذا يدلّ على
أنّه تعالى أماته ثم رفع بروحه إلى السماء ...
وهكذا قوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ).
ولكنّ التوفية
: أخذ الشيء أخذا مستوفى ، أي بكماله وتمامه ، ومنه : وفاء الدين. وليس دليلا على
الموت صرفا. (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) ،
(وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).
على أنّ
الأناجيل متّفقة على أنّ المسيح عليهالسلام قام من القبر وذهب إلى حيث لم يره أحد غير تلاميذه ،
وافتقدوا جسده فلم يجدوه. فلعلّه لم يمت حين الصلب وإنّما ذهب وعيه ، ثمّ رجع إليه
بعد وضعه في القبر. حيث لم يهالوا عليه التراب ـ حسبما نصّت عليه الأناجيل ـ وإنّما
وضع على القبر حجر فوجدوا الحجر مدحرجا عن القبر.
وجاء في إنجيل «متّى»
: إنّ ملاك الربّ نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب ، وقال للمرأتين اللتين
جاءتا لتنظرا القبر : لا تخافا ، إنّي أعلم أنّكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو
هاهنا. لأنّه قام كما قال. هلمّا انظرا الموضع الذي كان الربّ مضطجعا فيه. واذهبا
سريعا وقولا لتلاميذه : إنّه قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه.
فخرجتا سريعا
من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه. فيما هما
__________________
منطلقتان إذا يسوع قال لهما : سلام لكما. فتقدّمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا
له ، فقال لهما يسوع : لا تخافا ، اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك
يرونني. وأمّا التلاميذ فانطلقوا إلى الجليل حيث أمرهم يسوع. ولمّا رأوه سجدوا له
ولكن بعضهم شكّوا. فتقدّم يسوع وكلّمهم قائلا : دفع إليّ كلّ سلطان في السماء وعلى
الأرض. فاذهبوا وتلمّذوا جميع الأمم. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به ، وها
أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر ، آمين.
وفي إنجيل لوقا
: إنّهنّ دخلن القبر ولم يجدن جسد يسوع. وفيما هنّ متحيّرات إذ
وقف بهنّ رجلان بثياب برّاقة ، وقالا لهنّ : لما ذا تطلبنّ الحيّ بين الأموات ،
وإنّه في الجليل.
وإنّ التلاميذ
لمّا وجدوا المسيح نفسه في وسطهم هناك وقال لهم سلام لكم فجزعوا وخافوا وظنّوا
أنّهم نظروا روحا ، فقال لهم : ما بالكم مضطربين؟ انظروا يديّ ورجليّ إنّي أنا هو
، جسّوني فإنّ الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. فطلب منهم طعاما ، فناولوه
جزءا من سمك مشويّ وشيئا من شهد عسل ، فأخذ وأكل قدّامهم ، ثمّ أوصاهم بوصايا ،
ثمّ رفع يديه إلى السماء وباركهم ، وفيما هو يباركهم انفرد عنهم واصعد إلى السماء.
وقريب من ذلك
جاء في إنجيل يوحنّا.
وفي إنجيل «مرقس»
: ثمّ إنّ الربّ بعد ما كلّمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله ...
ومن هنا يعتقد
البعض أنّ قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ) بمعنى أنّ صلبه لم يؤدّ إلى قتله ، ولكن شبّه لهم أنّه
قتل على خشبة الصلب ، ولم يكونوا على يقين من أنّه مات حقيقة وذلك معنى (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً).
__________________
وذلك أنّ «بيلاطس»
كان يعتقد براءة المسيح من كلّ ما يرميه به اليهود. كما أنّ امرأته أيضا كانت
عاطفة على يسوع ، مهتمّة بأمره ، حريصة على أنّه لا يمسّ بسوء ، وقد أوصت زوجها
بذلك ...
ففي إنجيل متّى
: وإذ كان جالسا على كرسيّ الولاية ، أرسلت إليه امرأته قائلة : إيّاك وذلك البارّ
، لأنّي اليوم تألّمت كثيرا في حلم من أجله.
ومن ثمّ نرى
أنّ المسيح لم يمكث على خشبة الصلب طويلا ، ولم تكسر رجلاه كما كسرت رجلا
المصلوبين الآخرين. بل جاء يوسف ـ وهو أحد تلاميذ المسيح ـ وتسلّم الجسد ،
وتعجّبوا من موته سريعا ، فلفّه في كفن ووضعه في قبر له كان هناك.
ولا سبب لذلك
إلّا العناية الخاصّة التي كانت تحوط المسيح من ناحية الوالي بيلاطس وزوجته ويوسف
ونيقوديموس ...
فلهذه
الاعتبارات جعلوا يقولون : إنّ المسيح تظاهر بالموت وحسبه الناس ميّتا ، ولم يكن
قد مات. والذي تولّى إنزاله رجل من تلاميذه في الحقيقة ، وكان ذلك التظاهر بإيحاء
منه وساعده الوالي على ذلك بأن سلّم له في إنزاله عن الخشبة ، واليهود في غفلة
عمّا بينه وبين المسيح من العلاقة. ولفّه في كفن ووضعه في القبر وأجاف على الباب
حجرا.
* * *
هذا ، ولم
يصرّح القرآن بنوعية الشبهة. وقصّة إلقاء الشبه على «يهوذا الأسخريوطي». جاءت في
إنجيل برنابا وبعض المصادر النصرانية. ولعلّه الأصل في شيوع ذلك بين مفسّري العامّة ، وعمدتهم
: وهب بن منبّه الذي اشتهر بكثرة النقل عن أهل الكتاب ولا سيّما نصارى
نجران ولم يؤثر عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام شيء من ذلك في تفاسيرنا القديمة المعتمدة سوى ما جاء في التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم
__________________
القمي ولم يثبت انتساب هذا التفسير إلى عليّ بن إبراهيم ،
وإنّما هو من صنع أحد تلامذته المجهولين. ومن ثمّ لا يعتمد بما تفرّد به هذا التفسير ما لم يدعمه
شواهد توجب الاطمئنان.
والمهمّ : أنّ
الأناجيل وإن ذكرت قصّة الصلب لكن ليس فيها تصريح بموت المسيح بذلك. وقد عرفت
عبارة «لوقا» : «لما ذا تطلبنّ الحيّ بين الأموات» الأمر الذي يلتئم واشتباه اليهود في زعمهم أنّهم قتلوا
المسيح بالصلب.
والقرآن مصرّح
بأنّ الأمر قد اشتبه عليهم (وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ... وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً).
وأيضا فإنّ
الأناجيل متّفقة على أنّ المسيح رفع بجسمه وروحه ، وهذا هو ظاهر تعبير القرآن
الكريم أيضا : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ ...).
ومن ثمّ لم
يعهد للمسيح عليهالسلام قبر ، لا عند المسيحيّين ولا عند غيرهم.
نعم زعم «غلام
أحمد القادياني» أنّ المسيح أنجاه الله من كيد اليهود ، فذهب إلى بلاد الهند ،
واستقرّ في بلاد كشمير ـ شمال الهند ـ بسفح الجبل (جبال هملايا) وأقام هناك.
إلى أن وافاه
أجله ، ودفن في تلك البلاد قرب بلدة «سرنجار» وقبره معروف هناك.
قال الاستاذ
النجّار : كنت مسافرا في رحلة إلى «اسطنبول» في سنة ١٩٢٤ م وكان في السفينة
الاستاذ الشيخ أبو الوفاء الشرقاوي ، فسألته : هل سمع حين كان في «سرنجار» بكشمير
عن قبر بقربها يقال له : قبر النبيّ الأمير ـ حسب تعبير القادياني ـ يعنى المسيح؟ فقال
: نعم ، سمعت بذلك وأنّه في الصحراء.
والقادياني في
زعمه هذا حاول إثبات كونه هو المسيح الموعود بمجيئه في آخر الزمان ، ولكن كيف يكون
هو المسيح وهو معروف النسب بين قومه؟! فذهب إلى تأويل الأمر على أنّ المسيح مات
ولا يمكن أن يعود بشخصه. ولكنّه يعود في شخصية اخرى.
__________________
فقال : إنّي أنا هو المسيح. آت بهداه وتعاليمه من بثّ السلام والرحمة
والتعاطف والمحبّة ... وله كلام طويل في كتبه ومجلّته التي كان يصدرها في حياته ،
ولا يزال جماعته في نشاط من التبشير بمسيحيّته ... والدولة الإنكليزية ـ في وقته ـ
كانت تؤيّدهم ، لأنّهم كانوا يقولون أنّ مسيحهم أبطل الجهاد وكان مغرما بالكافر
المستعمر ويمدح حكمهم في البلاد ويراه نعمة على أهل الهند.
بقي الكلام حول
قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) إلى م يعود الضمير من قوله «قبل موته»؟ فيه قولان :
أحدهما : أنّه
يعود إلى المسيح ، ويكون دليلا على أنّه عليهالسلام لم يمت. وتظافرت الروايات بأنّه ينزل في آخر الزمان
ليكون مؤيّدا للمهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فهناك يبدو الحقّ
وتتجلّى الحقيقة لدى أبناء كلّ من اليهود والنصارى ، أمّا اليهود فيبدو لهم خطأهم
في إنكار نبوّته ، وأمّا النصارى ففي زعمهم أنّه إله.
قال عليّ بن
إبراهيم القمي : حدّثني أبي عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري عن أبي
حمزة عن شهر بن حوشب ، قال : قال لي الحجّاج : إنّ آية في كتاب الله قد أعيتني!
قلت : أيّة آية هي؟ قال : قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وإنّي لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ، ثم أرمقه
بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد! فقلت : ليس على ما تأوّلت ، قال : كيف هو؟
قلت : إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا ، فلا يبقى أهل ملّة يهودي ولا
نصراني إلّا آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهديّ. قال : ويحك أنّى لك هذا؟ ومن
أين جئت به؟ فقلت : حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهمالسلام فقال : جئت بها والله من عين صافية.
وأخرج ابن
المنذر عن شهر بن حوشب مثله ، فقال الحجّاج : من أين أخذتها؟ فقلت : من محمّد بن
عليّ قال : لقد أخذتها من معدنها. وفي رواية اخرى : يعنى
__________________
ابن الحنفيّة.
وأخرجه كبار
المفسّرين ، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : ذهب إلى هذا القول ابن عبّاس وأبو مالك
والحسن وقتادة وابن زيد ، واختاره الطبري ، قال : والآية خاصّة لمن يكون في ذلك
الزمان وهو الذي ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسير أصحابنا. وذكر
الحديث عن شهر بن حوشب عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة. وذكر البلخي مثل ذلك.
قال : وضعّف
هذا الوجه الزجّاج وقال : الذين يبقون إلى زمن نزول عيسى من أهل الكتاب قليل ،
والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع.
وهكذا الطبرسي
في مجمع البيان.
وذكر الإمام
الرازي حديث شهر بن حوشب ، قال : فاستوى الحجّاج جالسا ـ حين ذكرت له ذلك ـ وقال :
عمّن نقلت هذا؟ فقلت : حدّثني به محمد بن عليّ ابن الحنفيّة. فأخذ ينكت في الأرض
بقضيب ، ثم قال : لقد أخذتها من عين صافية.
والقول الثاني
: أن يعود الضمير إلى الكتابي ، ومعناه : لا يكون أحد من أهل الكتاب حين يخرج من
الدنيا عند الموت إلّا ويؤمن بالمسيح ، وذلك عند زوال التكليف ومعاينة الموت ، حيث
الحقيقة تنكشف لدى حضور الموت.
قال الطبرسي :
وذهب إليه ابن عبّاس في رواية اخرى ومجاهد والضحّاك وابن سيرين وجويبر ، قال : ولو
ضربت رقبته لم تخرج نفسه حتّى يؤمن.
قال الشيخ محمد
عبده : (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي قبل موت ذلك الأحد ، الذي هو نكرة في سياق النفي
فيفيد العموم. وحاصل المعنى : أنّ كلّ أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف
له الحقّ في أمر عيسى وغيره من أمر الإيمان ، فيؤمن بعيسى إيمانا صحيحا ، فاليهودي
يعلم أنّه رسول صادق غير دعيّ ولا كذّاب. والنصراني يعلم أنّه عبد الله ورسوله فلا
هو إله ولا ابن الله.
__________________
ورجّح هذا
المعنى على المعنى الأوّل باحتياج ذلك إلى تأويل النفي العامّ هنا بتخصيصه بمن
يكون منهم حيّا عند نزول عيسى. قال : والمتبادر من الآية هو المعنى الذي أختاره ،
وهذا التخصيص لا دليل عليه ، وهو مبنيّ على شيء لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون
قرينة له. قال : والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسّرة للآية. أمّا المعنى المختار
الذي هو الظاهر المتبادر من النظم البليغ فيؤيّده ما ورد من اطّلاع الناس قبل
موتهم على منازلهم في الآخرة. قال : وممّا يؤيّد هذه الحقيقة النصّ في سورة يونس
على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق.
غير أنّ سياق
الآية يرجّح القول الأوّل ، حيث وقع هذا التعبير عقيب ردّ مزعومة اليهود : أنّهم
صلبوه وقتلوه ، بل شبّه لهم الأمر وما قتلوه يقينا. فمعناه : أنّه لم يقتل ولم يمت
، وأنّه حيّ يرزق ، وما من أحد من أبناء اليهود والنصارى ليؤمننّ به إيمانا
بنبوّته الصادقة قبل أن يموت المسيح ، فالكلام هنا كلام عن موت المسيح ، وأنّه مات
بالصلب وقتل أم لا ، فالآية تنكر ذلك ، وتنصّ على أنّه لم يمت ، فكان قوله تعالى (قَبْلَ مَوْتِهِ) إشارة الى موت المسيح عليهالسلام.
لسيّدنا
العلّامة الطباطبائي قدسسره هنا نظرة دقيقة في دلالة سياق الآية على عود الضمير في (قَبْلَ مَوْتِهِ) إلى المسيح عليهالسلام وذلك حيث قوله تعالى ـ عقيب ذلك ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيداً). فإنّه يدلّ على أنّه عليهالسلام يشهد يوم القيامة بشأن من آمن به في حياته قبل موته. أمّا
فترة التوفّي ورفعه إلى السماء فكان الشاهد عليهم هو الله سبحانه ، كما جاءت في
سورة المائدة : ١١٧.
وأمّا مسألة
تخصيص العموم فليس من التخصيص حقيقة ، وإنّما هو من باب التسامح والتوسعة في
التعبير ، فخوطب الآباء بما يفعله الأبناء ، كما عوتب الأبناء بما فعله الآباء في
كثير من مواضع القرآن.
__________________
الباب الثاني
القرآن وثقافات عصره!
هل تأثّر القرآن
بثقافات كانت ساطية على البينة العربيّة آنذاك؟
القرآن جاء ليؤثّر ويظهر على الأعراف كلّها
لا ليتأثّر ويخضع لرغبات الطواغيت!
(هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ)
التأثّر بالبيئة!
هل تأثّر القرآن بثقافات عصره؟
جاء القرآن
ليؤثّر ويكافح عادات جاهلية بائدة لا ليتأثّر ويخضع لأعراف كانت جافية إلى حدّ
بعيد. (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ومن أمعن النظر في تعاليم القرآن الرشيدة ـ يجدها بحقّ
نابية عن التشابه لأعراف كانت نائية فكيف بالتأثر بها.
ولكن هناك من
زعم أنّ في القرآن كثيرا من تعابير توائم أعراف العرب يوم ذاك ممّا ينبو عنها
أعراف متحضّرة اليوم. وأخذوا من وصف نعيم الآخرة والحور والقصور ممّا يلتئم وعيشة
العرب القاحلة حينذاك ، شاهدا على ذلك. وكذا الإشارة إلى أمور خرافة كانت تعتنقها
العرب ولا واقع لها اليوم دليل آخر. والعمدة أنّ التكلّم بلسان قوم ليستدعي
الاعتراف بما تحمله الكلمات من معاني عندهم لاحظوها عند الوضع فلا بدّ أنّها
ملحوظة أيضا لدى الاستعمال.
هكذا زعم القوم
ولكنّه وهم توهّموه محضا ، وإليك التفصيل.
ولنمهّد قبل
ذلك مقدّمات تنفعنا في صميم البحث :
__________________
١ ـ مجاراة في الاستعمال
هل كان التكلّم
بلسان قوم يستدعي الاعتراف بما تحمله لغتهم من ثقافات؟ أم كان لا يعدو سوى
المجاراة معهم في الاستعمال؟
الثاني هو
الصحيح الواقع. ذلك أنّ المحاورة لأجل التفاهم في أيّ لغة لا يستدعي سوى العلم
بمعاني الكلم الإفرادية والجملية في الاستعمال الدارج فعليّا لدى القوم ، فكان
ينبغي المماشاة معهم ومجاراتهم في تبادل المفاهيم حسبما يتعاهدونه الآن ، من غير
نظر إلى أصل الوضع والدواعي التي دعت إلى وضع كلّ لفظة لمعنى خاصّ. فإنّ هذه
الدواعي كانت ملحوظة لدى الوضع ولا تلحظ حين الاستعمال ، وربّما كان مستعملو
اللفظة في ذهول عن الأسباب الداعية للأوضاع الخاصّة الأوّلية.
خذ مثلا لفظة «المجنون»
وضعت للمصاب بداء توتّر الأعصاب ، وكان السبب الداعي لهذا الوضع في حينه اعتقاد
أنّه اصيب بمساس الجنّ ، ومن ثمّ كانوا في العهد القديم يعالجون المصابين بهذا
الداء بالرقى والتعاويذ لغرض إبعاد الجنّ عنهم فيما زعموا. واليوم أصبحت هذه
العقيدة خرافة ، غير أنّ أبناء اللغة لا يزالون يتداولون اللفظة لغرض التفاهم مع
بعضهم ، حيث اللفظة أصبحت مجرّد علامة للدلالة على هذا المعنى بمفهومه الجديد لا
الخرافة البائدة ، وإن كانت هي السبب للوضع في وقته ، غير أنّه غير ملحوظ بل مرفوض
في الاستعمال حاليّا.
والصحراء
القاحلة سمّيت «مفازة» تفاؤلا ، وتتداول التسمية من غير أن تلحظ فيها ذاك التفاؤل
الملحوظ عند الوضع. أو من سمّى ابنه جميلا لما يرى عليه مسحة جمال ، وغيره ممّن
يستعمل اللفظة إنّما يستعملها لأنّها علم عليه ، رغم عدم لحاظ جمال فيه أو كان يرى
العكس. ذلك لأنّ التسمية تحقّقت وأصبح الاسم علما له من غير أن يحمل مفهومه
الملحوظ عند التسمية.
وعليه ،
فالاستعمالات الدارجة تابعة لمداليل الألفاظ كعلائم على المعاني محضا ، ولا تلحظ
الدواعي والمناسبة الأوّلية التي لاحظها الواضع حين الوضع.
فلنفرض أنّ
لفظة «الخلق» إنّما وضعت للصفات والملكات النفسية لما كانت جاهليّة العرب تعتقد
أنّ للصفات النفسية منشأ في الخليقة الاولى ، والإنسان مجبول عليها ومسيّر في
حياته وفق ما فطر عليه. تلك عقيدة جاهلية بادت ولكنّ التسمية دامت. والمستعملون
اليوم لا يريدون هذا المعنى قطعيّا. وهكذا فيما جاء استعماله في القرآن ، فإنّها
مجاراة في الاستعمال وليس اعترافا بما تحمله اللفظة من مفهومها الأوّلي البائد.
٢ ـ خطاب القرآن عامّ
القرآن وإن كان
واجه العرب في وقته لكنّه خاطب الناس عامّة عبر الأجيال. فقد واجه العرب وخاطبهم
بلسانهم وعلى أساليب كلامهم المعهودة لديهم وذلك لغرض التفاهم معهم حينذاك (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ). لكن هذا لا يعني الاختصاص بعد أن كانت الرسالة عامّة
والخطابات شاملة.
جاءت في القرآن
تعابير قد يبدو من ظاهرها الاختصاص لكن في طيّها مفاهيم عامّة تشمل جميع الناس في
جميع الأزمان. الأمر الذي جعل من القرآن دستورا عامّا لكافّة الامم وفي كلّ
الأدوار. وكذا الأمثال والحكم الواردة في القرآن لا تتركّز على ذهنيّات العرب
خاصّة وإنّما على ذهنيّات يتعاهدها جميع الامم عبر الأيّام ، حتّى في مثل «الإبل»
جعلت عبرة لا للعرب خاصّة وإنّما هي للعموم بعد أن كانت منبثّة على وجه الأرض يعرف
عجائبها كلّ الناس.
وهكذا جاءت
أوصاف نعيم الآخرة وشديد عقوباتها على معايير يتعاهدها الجميع وليس عند العرب
خاصّة ، حسبما نبيّن.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «ما من آية في القرآن إلّا ولها ظهر وبطن». سئل
الإمام الباقر عليهالسلام عن ذلك ، فقال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله.
وعنى بالتنزيل
: ظاهر الآية حيث
__________________
نزلت بشأن خاصّ. وبالتأويل : المفهوم العامّ المنتزع من الآية وهو شامل
يجاري الأيّام والليالي أبدا.
وأضاف عليهالسلام : أنّ العبرة بهذا المفهوم العامّ الذي ضمن خلود القرآن
، وإلّا فلو كانت العبرة بظاهر التعبير الخاصّ إذن لكان القرآن قيد التاريخ في
حقله القصير وذهب بهلاك تلكم الأقوام!
وسنفصّل الكلام
عن ذلك في مجالات متناسبة.
٣ ـ حقيقة لا تخييل
ما يأتي به
القرآن من عبر وضرب الأمثال فإنّها جميعا حكاية عن أمر واقع ، إمّا حقيقة ثابتة في
الأعيان ، أو تصوير لحالة راسخة في القلوب. وهكذا فيما أخبر عن عالم وراء عالم
الشهود ، ليست تصوّرات وهميّة وإنّما هي حقائق راهنة في أصقاعها المتناسبة.
فعبر التاريخ
يتمثّل بها القرآن لها واقعية يأخذها القرآن عبرة ، وإلّا فلا عبرة بالأوهام!
وكذلك الصور التخييلية لحالات وهواجس نفسية يضرب بها الأمثال لها واقع مرّ صوّرها
القرآن وألبسها ثوب الحياة في أبدع تصوير.
أمّا الحكاية
عن مغيّبات ما وراء الستار فهي حقائق ثابتة مثّلها القرآن في قالب الاستعارة
والتشبيه ، فيتنبّه النابه لوجه الاستعارة والتشبيه ولا مجال للإنكار بعد عدم
الدليل على الامتناع.
فهؤلاء ملائكة
الرحمن لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع. ذكرها القرآن تعبيرا عن مختلف مدارج القوى والطاقات
تملكها ملائكة السماء المدبّرات أمرا حسب وظائفها في التدبير المخوّل إليها. والتعبير
عن القدر والقوى بالأجنحة شائع وليس المراد أجنحة كأجنحة الطيور.
وهكذا في سائر
الموارد عمد القرآن إلى التشبيه والتمثيل حكاية عن أمر واقع وليس مجرّد تصوير
وتخييل.
__________________
ثقافات جاهليّة كافحها الإسلام
كان المجتمع
العربي إبّان ظهور الاسلام آهلا بثقافات هي ضلالات وجهالات ، وكان الفساد والفحشاء
قد غطّ البلاد. وكفى شاهدا على ضخامة هذا الظلام ما رسمه القرآن عن منكرات كانت قد
عمّت الجزيرة هي من الفضاعة بمكان. فجاء الإسلام لينقذهم من الجهالة وحيرة الضلالة
وليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، وقد نجح بالفعل في خطوات واسعة ، حيث
جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا.
إذن ، جاء
القرآن ليتحف البشرية جمعاء والعرب خاصّة بمعالم حضارة زاهية (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ). فقد جاء ليؤثّر لا ليتأثّر ، ومن الجفاء زعم العكس فيما
حسبه المتشاكسون.
ودليلا على ذلك
نأتي بعادات ورسوم جاهلية خاطئة عارضها الإسلام وغلب عليها (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ
الْغالِبِينَ). و (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
ولنبدأ بشئون
المرأة وقد سحقت كرامتها الإنسانية في ذلك الجوّ الحالك ، فجاء الإسلام وأخذ بيدها
ليرفعها إلى حيث مستواها الكريم.
المرأة وكرامتها في القرآن
للمرأة كرامتها
الإنسانية في القرآن ، وقد جعلها الله في مستوى الرجل في الحظوة الإنسانية الرفيعة
، حينما كانت في كلّ الأوساط المتحضّرة والجاهلة مهانة وضيعة القدر ، لا شأن لها
في الحياة سوى كونها لعبة الرجل وبلغته في الحياة. فجاء الإسلام وأخذ بيدها وصعد
بها إلى حيث مستواها الرفيع الموازي لمستوى الرجل في المجال الإنساني الكريم (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ).
(وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
__________________
القرآن عند ما
يتحدّث عن الإنسان ـ وليس في حقيقة الإنسانية ذكورة ولا أنوثة ـ إنّما يتحدّث عن
الجنس ذكرا وأنثى على سواء. وعند ما يتحدّث عن كرامة الإنسان وتفضيله على كثير
ممّن خلق وعن الودائع التي أودعها هذا الإنسان وعن نفخ روحه فيه وعند ما يبارك نفسه في خلقه لهذا الإنسان إنّما يتحدّث عن الذات الإنسانية الرفيعة المشتركة بين
الذكر والأنثى من غير فرق. هو عند ما يقول : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وعند ما يقول : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) وإلى أمثالها من تعابير لا يفرّق بين ذكر وانثى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ
مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). لا ميز بينهما ولا تفارق فيما يمتاز به الإنسان في أصل
وجوده وفي سعيه وفي البلوغ إلى مراتب كماله. (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ
وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).
وقد جاء قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ...) دليلا قاطعا على موازاة الأنثى مع الذكر في أصالة النوع
البشري ، ولا تزال هذه الأصالة محتفظا بها عبر تناسل الأجيال.
نعم ، هناك
خصائص نفسيّة وعقلية ميّزت أحدهما عن الآخر في تكوينهما الذاتي ممّا أوجب تفارقا
في توزيع الوظائف التي يقوم بها كلّ منهما في حقل الحياة ، توزيعا عادلا يتناسب مع
معطيات ومؤهّلات كلّ من الذكر والأنثى ، الأمر الذي يؤكّد شمول العدل في التكليف
والاختيار. ولننظر في هذه الفوارق الناشئة من مقام حكمته تعالى في الخلق والتدبير.
__________________
وللرجال عليهنّ درجة
هنا وقفة قصيرة
عند ما نلحظ أنّ القرآن فضّل الرجال على النساء بدرجة!
فهل في ذلك حطّ
من قدر المرأة؟ أو كمال حظي به الرجل دونها؟
ليس من هذا أو
ذاك في شيء ، وإنّما هي مرافقة مع ذات الفطرة التى جبل عليها كلّ من الرجل والمرأة.
إنّ معطيات
الرجل النفسية والخلقية تختلف عن معطيات المرأة ، كما تختلف طبيعتها الانوثيّة
المرهفة الرقيقة عن طبيعة الرجل الصلبة الشديدة ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : «المرأة ريحانة وليست بقهرمانة».
فنعومة طبعها
وظرافة خلقها تجعلها سريعة الانفعال تجاه مصطدمات الامور ، على خلاف الرجل في
تريّثه ومقاومته عند مقابلة الحوادث.
فالمرأة في
حقوقها ومزاياها الإنسانية تعادل الرجل (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). هذا في أصل خلقتها لتكون للرجل زوجا من نفسه أي نظيره
في الجنس ، فيتكافلان ويتعاونان معا في الحياة الزوجية على سواء ، فلها مثل الذي
عليها من الحقّ المشترك ، وهذا هو التماثل بالمعروف أي التساوي فيما يعترف به
العقل ولا يستنكره.
لكنّ الشطر
الذي يتحمّله الرجل في الحياة الزوجية ، هو الشطر الأثقل الأشقّ ، فضلا عن القوامة
والحماية التي تثقل عبء الرجل في مزاولة الحياة. الأمر الذي استدعى شيئا من
التمايز في نفس الحقوق الزوجية ، ممّا أوجب للرجل امتيازا بدرجة (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
وهذا التفاضل
في الذات والمعطيات هو الذي جعل من موضع الرجل في الاسرة موضع القوامة. (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ
بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ).
__________________
إنّ الأسرة هي
المؤسّسة الاولى في الحياة الإنسانية ، وهي نقطة البدء التي تؤثّر في كلّ مراحل
الطريق ، والتي تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني ، وهو أكرم عناصر هذا الكون في
التصوّر الإسلامي. وإذا كانت المؤسّسات ـ التي هي أقلّ شأنا وأرخص سعرا كالمؤسّسات
المالية والصناعية والتجارية وما إليها ـ لا توكل أمرها عادة إلّا للأكفاء من
المرشّحين لها ممّن تخصّصوا في هذا الفرع علميا ودرّبوا عليه عمليّا فوق ما وهبوا
من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة ، فالأولى أن تتبّع هذه القاعدة في مؤسّسة
الاسرة التي تنشئ وتنشّأ أثمن عناصر الكون ، ذلك هو العنصر الإنساني.
والمنهج
الربّاني يراعي هذا ، ويراعي به الفطرة والاستعدادات الموهبة لشطري النفس ـ العقلاني
والجسماني ـ لأداء الوظائف المنوطة بهما معا ، كما يراعي به العدالة في توزيع
الأعباء على شطري الاسرة الواحدة ، والعدالة في اختصاص كلّ منهما بنوع الأعباء
المهيّأ لها ، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميّزة المتفرّدة.
والمسلّم به
ابتداءً أنّ الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله ، وأنّه تعالى لا يريد ظلما بأحد من
خلقه ، وهو يهيّئ ويعدّه لوظيفة خاصّة ، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه
الوظيفة. وقد خلق الله الناس ذكرا وأنثى زوجين على أساس القاعدة الكلّيّة في بناء
هذا الكون. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتّصال بينها
وبين الرجل. وهي وظائف ضخمة وخطيرة وليست هيّنة ولا يسيرة ، بحيث يمكن أن تؤدّى
بدون إعداد عضويّ ونفسيّ وعقليّ عميق غائر في كيان الانثى. فكان جديرا أن ينوط
بالشطر الآخر ـ الرجل ـ توفير الحاجات الضرورية ، وتوفير الحماية كذلك للانثى كي
تتفرّغ لأداء وظيفتها الخطيرة. ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثم هي
التي تعمل وتكدّ وتسهر ليلا وتجهد نهارا لحماية نفسها وكفالة ولدها في آن واحد!
فكان عدلا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضويّ والعصبيّ والعقليّ
والنفسيّ ما يعينه على أداء وظائفه هذه الخطيرة أيضا. وكان هذا فعلا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).
__________________
ومن ثمّ زوّدت
المرأة ـ فيما زوّدت به من الخصائص ـ بالرقّة والعطف والحنان ، وسرعة الانفعال
والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير ، لأنّ الضرورات
الإنسانية العميقة كلّها والملحّة أحيانا ـ حتى في الفرد الواحد ـ قد لا تترك
لأرجحيّة الوعي والتفكير وبطئه مجالا ، بل فرضت الاستجابة لها غير إرادية ، لتسهل
تلبيتها فورا وفيما يشبه أن تكون قسرا ، ولكنّه قسر داخلي غير مفروض من خارج النفس
، ويكون لذيذا ومستحبّا في معظم الأحيان ، لتكون الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من
جهة اخرى ، مهما يكن فيها من المشقّة والتضحية (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
قال سيّد قطب :
وهذه الخصائص ليست سطحية ، بل هي غائرة في التكوين العضويّ والعصبيّ والعقليّ
والنفسيّ للمرأة. بل يقول كبار العلماء المختصّين : إنّها غائرة في تكوين كلّ
خليّة ، لأنّها عميقة في تكوين الخلية الاولى ، التي يكون من انقسامها وتكاثرها
الجنين ، بكلّ خصائصه الأساسية.
وكذلك زوّد
الرجل ـ فيما زوّد به من الخصائص ـ بالمقاومة والصلابة ، وبطء الانفعال والاستجابة
، والتروّي واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة ، لأنّ وظائفه كلّها
منذ بدء الحياة وممارسة التنازع في البقاء كانت تحتاج إلى قدر من التروّي قبل
الإقدام ، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجه عامّ. وكلّها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها. وهذه
الخصائص تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها. كما أنّ تكليفه بالإنفاق ـ وهو
فرع من توزيع الاختصاصات ـ يجعله بدوره أولى بالقوامة.
وهذان العنصران
هما اللذان أبرزهما النصّ القرآني ، وهو يقرّر قوامة الرجال على
__________________
النساء في المجتمع الإسلامي. قوامة لها أسبابها وعللها من التكوين
والاستعداد ، إلى جنب أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات ، الأمر الذي جعل من
مرتبة الرجل أعلى من مرتبة المرأة بدرجة!
قال سيّد قطب :
إنّها مسائل خطيرة ، أخطر من أن تتحكّم فيها أهواء البشر ، وأخطر من أن تترك لهم
يخبطون فيها خبط عشواء. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات
الحديثة هدّدت البشرية تهديدا خطيرا في وجودها ذاته ، وفي بقاء الخصائص الإنسانية
التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميّز.
ولعلّ من
الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها ، ووجود قوانينها المتحكّمة في
بني الإنسان ، حتّى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتفكّرون لها ، لعلّ من هذه الدلائل
ما أصاب الحياة البشرية من تخبّط وفساد ، ومن تدهور وانهيار ، ومن تهديد بالدمار
والبوار ، في كلّ مرّة خولفت فيها هذه القاعدة. فاهتزّت سلطة القوامة في الاسرة ،
أو اختلطت معالمها ، أو شذّت عن قاعدتها الفطرية الأصيلة.
ولعلّ من هذه
الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الاسرة
، وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلّة السعادة ، عند ما تعيش مع رجل لا يزاول
مهامّ القوامة وتنقصه صفاتها اللازمة ، فيكل إليها هي أمر القوامة! وهي حقيقة
ملحوظة تسلّم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام.
ولعلّ من هذه
الدلائل أنّ الأطفال الذين ينشّئون في عائلة ليست القوامة فيها للأب ، إمّا لأنّه
ضعيف الشخصية بحيث تبرز عليه شخصية الامّ وتسيطر ، وإمّا لأنّه مفقود لوفاته أو
لعدم وجود أب شرعي. فلمّا ينشّئون أسوياء وقلّ أن لا ينحرفوا إلى شذوذ ما ، في
تكوينهم العصبيّ والنفسيّ ، وفي سلوكهم العمليّ والخلقيّ.
فهذه كلّها بعض
الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها ، ووجود قوانينها المتحكّمة في
بني الإنسان ، حتّى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكّرون لها.
__________________
ونتيجة على ما
سبق ، كان تفضيل الرجل على المرأة بدرجة ناظرا إلى جهة قوامته في الأسرة ، وهذه
القوامة تعود إلى خصائص في تكوين الرجل ووظيفته التي خوّلها له عرف الحياة الزوجية.
فنعود نقرأ الآية : (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في تكوينه (وَبِما أَنْفَقُوا
مِنْ أَمْوالِهِمْ) حسب وظيفتهم العائلية.
قال الشيخ
محمّد عبده : وأمّا قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فهو يوجب على المرأة شيئا وعلى الرجل أشياء. ذلك أنّ
هذه الدرجة هي درجة الرئاسة والقيام على المصالح المفسّرة بقوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ
بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) فالحياة الزوجية حياة اجتماعية ، ولا تقوم مصلحة هذه
الحياة إلّا برئيس مطاع ، والرجل أحقّ بالرئاسة لأنّه أعلم بالمصلحة وأقدر على
التنفيذ بقوّته وماله ، ومن ثمّ كان هو المطالب شرعا بحماية المرأة والنفقة عليها.
وقد فسّر
العلّامة الطباطبائي «المعروف» في الآية بما عرفه الناس واستأنسوا به وفق فطرتهم الأصيلة ، فكان
من المعروف أيضا أن يتفاضل الرجل على المرأة بدرجة ، حسب ما منحت الفطرة لكلّ
منهما من استعدادات وقوى وصلاحيات ووظائف في حياتهما الاجتماعية ... وشرح ذلك شرحا
مستوفى على اصول متينة ، فراجع.
تفضيل البنين على البنات
قالوا : إنّ في
القرآن كثيرا من تعابير جاء فيها التنويه بشأن البنين وتفضيلهم على البنات ، الأمر
الذي يدلّ على تأثّره بالبيئة العربية الجاهلة ، حيث كانوا يئدون البنات خشية
العار. (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ).
نرى أنّ القرآن
الكريم قد شنّع القوم على فكرتهم هذه الجاهلة ووبّخهم في الفرق بين البنين والبنات
أشدّ تشنيع وتوبيخ.
__________________
ولكن مع ذلك قد
نجد في القرآن مواضع فيها بعض المرافقة مع القوم؟!
فقد كانت العرب
ترى من الملائكة إناثا وأنّهنّ بنات الله سبحانه : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ
شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ).
فجاء التشنيع
في هذه الآيات من ناحيتين : أوّلا زعموا من الملائكة إناثا ، وثانيا أنّهنّ بناته
تعالى من صلبه وأنّه تعالى ولدهنّ!
وجريا مع عادة
العرب في الازدراء بشأن البنات يستنكر عليهم : كيف اصطفى البنات على البنين؟! (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ
إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي قسمة غير عادلة (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما
ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ
يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ).
وفي هذه الآية
جاء الفارق بين الذكر والانثى ناشئا من جبلّتهما ، لتكون المرأة بدافع من فطرتها
الانوثية تنجذب إلى الزبارج أكثر من اهتمامها بواقعيّات الامور. ومن جانب آخر هي
ذات طبيعة رقيقة لا تتقاوم تجاه الكوارث ، فتنفعل فور اصطدامها بمضطلمات الحوادث ،
فهي بذات فطرتها ونشأتها. غير صالحة لمقابلة شدائد الحياة وعاجزة عن حلّ متشابك
المعضلات. فقد جمعت بين الظرافة والضعف ، على عكس الرجل الذي يملك صلابة وقوّة
إرادة.
ومن ثمّ تعقّبت
الآية بالاستنكار على مزعومتهم في الملائكة أنّهم إناث : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ
وَيُسْئَلُونَ).
وقد عبّر
القرآن عن الملائكة بصفة الذكور : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ
__________________
هؤُلاءِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. وَإِذْ
قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ...). والضمائر كلّها جمع ذكور ، وهكذا في سائر مواضع القرآن.
ومن ثمّ وجّه
إليهم التوبيخ اللاذع : (أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً).
كلّ ذلك إن دلّ
فإنّما يدلّ على ازدراء بشأن الأنثى ، جرى عليه العرب وجاراهم القرآن.
لكن ليس في شيء
من هذه التعابير اللّاذعة الموبّخة للعرب أيّ تعيير أو شائنة بشأن المرأة في ذات
نفسها ، لا تصريحا ولا تلويحا. وإنّما توجّه التشنيع على العرب بالذات في نظرتهم
الخاطئة بشأن الملائكة ، وانّهم إناث ، وبنات لله سبحانه (إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللهُ). وأنّ ولده بنات. ومن ثمّ يسمّون الملائكة تسمية الأنثى. الأمر الذي يدلّ على سفاهة عقولهم وغاية جهلهم بما وراء
ستار الغيب. ذلك مبلغهم من العلم وإن هم إلّا يخرصون.
والذي يبدو
عليه أثر السفاهة أنّهم نسبوا إلى الله ما يكرهونه لأنفسهم ، فجعلوا لأنفسهم
المفضّل من الولد ، وأمّا المشنّع فجعلوه لله سبحانه. وهي قسمة غير عادلة حتّى في
غياهب أوهام الخيال.
فكان موضع
التشنيع هو هذا التقسيم غير العادل حتّى في مفروض الأوهام ، الأمر الذي ليس فيه
أيّ تقرير للتفضيل المزعوم أو اعتراف به في واقع الأمر! فلم تكن هناك مجاراة ،
وإنّما هي منابذة صريحة على اصول الجدل في محاورة الكلام.
* * *
__________________
وأمّا التعبير
بجمع المؤنث السالم (بالألف والتاء) في قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً.
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). وكذا قوله :
(وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً) إلى قوله : (فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً) وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) بناء على أنّ المراد هم الملائكة القائمة بهذه الأمور. فتأويل
ذلك كلّه أنّه باعتبار كون الموصوف هم الجماعات ، لأنّ القائم بهذه الامور هم
جماعات الملائكة لا الآحاد ، فكما أنّ الجماعة تجمع على الجماعات ، كذلك الجماعة
النازعة تجمع على النازعات ، وهلمّ جرّا. كما أنّ الشخصية أيضا تجمع على الشخصيّات
، وليس كلّ جمع بالألف والتاء دليلا على تأنيث المفرد كما في جمع القياس على
القياسات. وكل اسم مفرد ـ في المصدر قياسا وفي غيره سماعا ـ إذا جاوز ثلاثة حروف
يجمع بالألف والتاء. كالتعريفات والامتيازات. ومن السماعي نحو السماوات وسرادقات
وسجلّات وغير ذلك.
ومن ثمّ عاد
ضمير الجمع المذكر إلى المعقّبات (يَحْفَظُونَهُ مِنْ
أَمْرِ اللهِ). وهو دليل على عدم تحتّم الجمع بالألف والتاء خاصّا
بالإناث.
ولأبي مسلم
محمد بن بحر الأصفهاني هنا كلام ـ نقله الفخر الرازي ـ يرجّح عدم كون هذه الجموع
أوصافا للملائكة ، وإنّما هي أوصاف للأيدي والسهام والخيول والابل في ساحة القتال
... .
للذكر مثل حظّ الانثيين
ممّا أثار
النقاش حول نظرة الإسلام عن المرأة هي مسألة إرثها نصف إرث الرجل ، وربما كان
الجدل عنيفا في أوساط اممية وفي مؤتمرات عالميّة حول قضية المرأة. وممّا توافق
عليه ممثّلوا الدول الإسلامية مع خصومهم هو أنّ الإسلام أقرّ للمرأة ميراثها
إجماليّا
__________________
تجاه الأنظمة القديمة وبعض الأنظمة القبائلية القائلة بحرمانها من الإرث
رأسا واقتنعوا بهذا القدر من التوافق بشأن إرث المرأة ، مع الغضّ ـ حاليّا ـ عن
المقدار وسائر الجوانب الّتي يفصّلها الإسلام.
لكنّ الإسلام
باعتباره شريعة الله الخالدة الجامعة الشاملة قد قال كلمته الأخيرة ولا مجال
للمحاباة فيما حكم به الإسلام حكمه الباتّ الصريح الأبدي. ونحن نرى أيّ توافق
يستلزم تنازلا ما عن الاسس الإسلامية ، مداهنة وتراجعا أمام هجمات العدوّ الجاهل ،
الأمر الذي يبدو على محيّاه الوهن والضعف المقيت.
إنّ البيئة
التي يرسمها الإسلام للحياة الاجتماعية ـ سواء في صورتها الصغرى (الأسرة) أو
الكبرى العامّة ـ تجعل من وظائف الرجل أثقل ، وإنّ مسئوليّته في حمل أعباء الحياة
أشمل ، حسبما أوتي من قدرة وتفكير أوسع ، فكان بطبيعة الحال أن يجعل نصيبه من
الميراث أكثر.
إنّه تعالى
يرفض أوّلا تلك العادات الجاهلية التى كانت تحرم النساء عن الميراث (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). وبذلك أبطل عادة جاهلية كانت متحكّمة في نفوس أبناء
الجزيرة ، بل وفي أوساط اممية كانت سائدة في أكثر أرجاء العالم المتحضّر يوم ذاك.
روي عن ابن
عبّاس أنّه لمّا نزلت الآية ثقلت على نفوس جاهلة ، فجعلوا يتخافتون فيما بينهم أن
اسكتوا عن هذا الحديث فلعلّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ينساه. أو نقول له فيغيّره. فجاء بعضهم إليه وقال : كيف
تعطى الجارية من الميراث وهي لم تركب الفرس ولم تقاتل؟ وهم لا يعطونها ولا الأطفال
الصغار إلا لمن استطاع الركوب والقتال!
وبعد ذلك يأتي
دور تعيين نصيبها من الميراث : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). إنّ الله هو الذي يوصي ، وهو الذي يفرض ، فمن عند الله
ترد التنظيمات
__________________
والشرائع والقوانين ، وعن الله يتلقّى الناس في أخصّ شئونهم في الحياة ،
وهذا هو الدين. فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقّوا في شئون حياتهم كلّها من الله
وحده ، وليس هناك إسلام إذا هم تلقّوا في أيّ أمر من هذه الامور ـ جلّ أو حقر ـ من
مصدر آخر. إنّما يكون الشرك أو الكفر ، وتكون الجاهليّة التي جاء الإسلام ليقتلع
جذورها من حياة الناس. فليس للناس أن يقولوا : إنّما نختار لأنفسنا ولذرّياتنا
ونحن أعرف بمصالحنا ... فهذا ـ فوق أنّه باطل ـ هو في الوقت ذاته توقّح وتبجّح
وتعال على الله ، وادّعاء لا يزعمه إلّا متوقّح جهول.
وعليه ، فليس
الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس ، إنّما الأمر توازن وعدل بين أعباء
الرجل وأعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي. فالرجل
يتزوّج امرأة يكلّف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كلّ حالة ، وهي معه وهي معافة
من هذه التكاليف. أمّا هي فإمّا أن تقوم بنفسها فقط ، وإمّا أن يقوم بها رجل قبل
الزواج وبعده سواء ، وليست مكلّفة نفقة لزوج ولا للأبناء في أيّ حال. فالرجل مكلّف
ـ على الأقلّ ـ ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي
ـ أي النظام الذي رسمه لنا الإسلام ـ ومن ثمّ يبدو العدل كما يبدو التناسق بين
الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم. فما دامت الحياة التي نعيشها في ظلّ الإسلام
مخطّطة وفق هذه الحكمة الرشيدة ، فهذا التوزيع يتطابق مع هذا المخطّط ما دمنا
نعترف به ونستسلم لقيادته. ويبدو كلّ نقاش في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب
مع الله من ناحية أخرى ، وزعزعة للنظام الاجتماعي والاسري ، لا تستقيم معها حياة
حسب معتقدنا ونحن مسلمون. والتجربة العنيفة التي تجرّعتها سائر الامم ولا تزال هي
خير شاهدة على اعتدال هذا النظام وانسجامه مع فطرة الإنسان وتكوينه في الحياة.
محاولات فاشلة
هنا وفي يومنا
الحاضر نجابه محاولات يبدو الفشل في محيّاها بعد حيادها عن منهج فهم النصّ على ما
رسمته طريقة الاستنباط من كتاب الله. فمن قائل : إنّ النصّ الوارد
في القرآن الكريم جاء بلفظ التوصية : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، والإيصاء ترغيب في الأمر وليس فرضا واجبا. ولعلّ
الشرائط الزمنية حينذاك كانت تستدعي هذا التفاضل المندوب إليه ولكن في وقتها ،
الأمر الذي لا يحتّم الحكم لا بصورة فرض ولا بشكل دائم على الإطلاق!
قالوا : واليوم
، حيث تغيّرت الشرائط وتبدّلت الأحوال البيئية والاجتماعية العامّة فلا أرضيّة
لهذا التفاضل ولا هو يتناسب مع الأوضاع الراهنة المتغايرة مع الوضع القديم. لا
سيّما والأمر لم يكن فرضا بل مجرّد ندب ، فلا مقتضى في الوقت الحاضر للأخذ بهذا
الأمر الذي كان راجحا في ظرفه ولا رجحان له اليوم!
وقائل آخر :
إنّه على فرض إرادة الفريضة لكن التداوم لا مجال له بعد ملاحظة رهن أحكام الشريعة
ـ في قسمها المتغيّر ـ بأوقاتها وظروفها الخاصّة حيث المصالح المقتضية حينذاك
والمنتفية في الحال الحاضر.
هذا القائل يرى
من أحكام الشريعة على نوعين : ثابتة ومتغيّرة. فالثابتة هي التي أصدرها صاحب
الشريعة بشكل عامّ شامل أبدي حيث ابتنائها على مصالح هي ثابتة لا تتغيّر مع الأبد
وفي جميع الأحوال ومختلف الأوضاع ، وذلك في مثل العبادات. الأمر الذي يختلف الحال
فيه في مثل المعاملات والانتظامات ، المتقيّدة بمصالح هي وقتيّة وفي تحوّل على
مسرح الحياة. ففي هذا تكون الاصول ثابتة أمّا الفروع والتفاصيل فهي رهن شرائط
الزمان ، فيجوز التصرّف فيها حسب المقتضيات المؤاتية ولكن في ضوء تلك الاصول ومع
الحفاظ عليها جذريّا فحسب!
قلت : أمّا
المزعومة الأولى فهي مخالفة صريحة لنصّ الكتاب العزيز. حيث تبتدئ آيات المواريث
بلفظة الإيصاء ، وتنتهي بما يجعل من هذا الإيصاء فرضا من الله لا مجال للتخلّف عنه
(وَصِيَّةً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
__________________
حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ).
يعنى : أنّ هذه
الوصيّة من الله نافذة لا مجال للتخلّف عنها ، لأنّها تبيين لحدود الله التي من
تعدّاها فسوف يدخله نارا وله عذاب مهين. والعذاب المهين هنا إشارة إلى أنّ
المتجاوز لحريم الشريعة قد أطاح بكرامة نفسه وسقط حيث مستوى المهانة الفظيعة.
أفبعد هذا
التأكيد على الأخذ بما أوصى الله بشأن الميراث يتجرّأ ذو مسكة على التلاعب بنصّ
الكتاب ، اللهمّ إلّا إذا فقد وعيه.
ثم الذي يفضح
من موضع هذه المزعومة ، أنّ لفظة الإيصاء بتصاريفها كلّها جاءت في القرآن بمعنى
الإلزام والإيجاب. قال ابن منظور : وقوله عزوجل : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) معناه : يفرض عليكم ، لأنّ الوصيّة من الله إنّما هي فرض. والدليل على ذلك
قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما
بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) وهذا من الفرض المحكم علينا.
وأمّا المزعومة
الأخيرة فهي بمكان الوهن ، بعد أن كان الأصل في التشريع هي الأبديّة والشمول ،
أخذا بعموم الخطاب وشمول إطلاقه لجميع الأجيال والأحوال والأزمان ، وهي قاعدة
اصولية مطّردة. وإلى ذلك ينظر قوله عليهالسلام : «حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام
أبدا إلى يوم القيامة».
اللهمّ إلّا
إذا ثبت بدليل خاصّ أنّ الحكم الذي أصدره النبيّ صلىاللهعليهوآله كان لمصلحة استدعاها سياسة التدبير الحاضرة حينذاك
فيبقى قيد تلك الشرائط ولا يعمّ ولا يستديم على الإطلاق. وهذا بحاجة إلى دليل قاطع
يخرجه عن عموم الأصل المتقدّم. على أنّ ذلك خاصّ بالأحكام الصادرة عن مقام السياسة
النبوية وتكون من سننه ، لا من فرائض الله الناصّ عليها في الكتاب. فالذي جاء
__________________
في القرآن من الفرائض والأحكام هي من الثابتات مع الأبد بإجماع الامّة
وإطباق كلمات العلماء جميعا. فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ ما جاء في القرآن من تشريع
وفرائض وأحكام هي أبديّة مسجّلة على كاهل الدهر مع الأبد.
وعليه ، فمن
كان يحمل في طيّه العقيدة بأنّ القرآن كلام سماويّ نزل من عند الله وأنّ ما فيه ،
هي أحكام وفرائض فرضها الله تعالى للبشريّة جمعاء على طول الدهر ، فلا مجال له أن
يحدّث نفسه بما شاء. وأمّا إذا لا يعتقد ذلك ويرى أنّها أحكام صادرة من عقليّة
بشرية أرضية لفّقتها ـ والعياذ بالله ـ ذهنية محمّد صلىاللهعليهوآله حسبما رآه في وقته وإن كان نسبها إلى الله في ظاهر
تعبيره كما يراه هؤلاء المتحزلقون ، فليتحدّثوا بما شاءوا إلى ما لا نهاية من
هراءات. ولا كلام لنا معهم ونذرهم في طغيانهم يعمهون.
دية المرأة على النصف!
واذ قد عرفنا
موضع كلّ من الرجل والمرأة في الحياة العائلية وفق ما رسمها الإسلام ، نعرف مبلغ
الخسارة التي تتحمّلها العائلة على أثر فقدان عضوها من ذكر أو انثى. إنّها إذا
افتقدت أنثى فقد خسرت كافلة العائلة ومربّيتها التي تفيض عليها بالعطف والحنان وفي
رفق ومداراة. أمّا إذا افتقدت ذكرا فقد خسرت حاميها وكافل مئونتها ، وخسرت أضعاف
ما خسرت عند فقدان انثى.
والدية جبران
للخسارة إلى حدّ ممكن ومعقول ، ومن ثمّ تحاسب على قدر ما خسره المجنى عليه عرفيّا
، وقد قدّره الشارع الحكيم بمقادير هو أعلم بتكافئها مع مقادير الخسارة الواردة. فليس
هناك تفضيل وإنّما هو تدبير إله حكيم.
والمزعومة في
حديث المواريث جرت هنا أيضا وهي كاختها مرفوضة ولا سيّما على وجه التنبيه الأخير.
والغريب ـ هنا
ـ ما شذّ عن بعض المعاصرين من القول بتساوي دية المرأة مع الرجل إطلاقا ، سواء كان
في النفس أو الطرف ، نظرا لإطلاق أدلّة الدية وعدم دليل معتبر
على التفريق فيما حسب. وهكذا زعم التساوي في القصاص من غير ردّ التفاضل ، وهو خلاف إجماع الفقهاء عامّتهم وخاصّتهم :
قال ابن رشد
الأندلسي : واتّفقوا على أنّ دية المرأة نصف دية الرجل في النفس. واختلفوا في
الشجاج وأعضائها ، فقال جمهور فقهاء المدينة : تساوي المرأة الرجل في عقلها من
الشجاج والأعضاء إلى أن تبلغ ثلث الدية ، فإذا بلغت ثلث الدية عادت ديتها إلى
النصف من دية الرجل ، أعني دية أعضائها من أعضائه. ومثال ذلك أنّ في كلّ إصبع من
أصابعها عشرا من الإبل ، وفي اثنين منها عشرون ، وفي ثلاثة ثلاثون ، وفي أربعة
عشرون.
وقال بعض
الفقهاء : على النصف مطلقا قياسا. وسأل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـ المعروف بربيعة
الرأي ـ سعيد بن المسيّب : كم في أربع من أصابعها؟ قال : عشرون. قال ربيعة : قلت :
حين عظم جرحها واشتدّت بليّتها نقص عقلها (أي ديتها)! قال سعيد : أعراقي أنت؟ [حيث
تقيس] قلت : بل عالم متثبّت أو جاهل متعلّم ، فقال سعيد : هي السنّة.
رووا عن الإمام
أمير المؤمنين عليهالسلام : أنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل.
ورووا عن رسول
الله صلىاللهعليهوآله : المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية.
قال عميد
الطائفة الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان : والمرأة تساوي
الرجل في ديات الأعضاء والجوارح حتّى تبلغ ثلث الدية ، فإذا بلغته رجعت إلى النصف
من ديات الرجال. مثال ذلك : أنّ في إصبع الرجل إذا قطعت عشرا من الإبل ، وكذلك في
إصبع المرأة سواء. وفي الإصبعين منهما عشرون ، وفي ثلاث أصابع منهما ثلاثون ، وفي
أربع أصابع الرجل أربعون من الإبل ، وفي المرأة عشرون ، لأنّها زادت على الثلث
فرجعت بعد الزيادة إلى أصل دية المرأة ـ وهي النصف من ديات الرجال ـ ثمّ على الحساب
كلّما زادت أصابعها وجوارحها وأعضاؤها على الثلث رجعت إلى النصف ... قال :
__________________
وبذلك ثبتت السنّة عن نبيّ الهدى صلىاللهعليهوآله وبه تواترت الأخبار عن الأئمة من آله عليهمالسلام.
وبذلك صرّحت
صحيحة أبان عن الصادق عليهالسلام وقد أجاب الإمام في دفع استغراب أبان ما أجاب سعيد بن
المسيب لربيعة الرأي. قال عليهالسلام : يا أبان ، إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست
محق الدين.
وقال شيخ
الطائفة أبو جعفر الطوسي : دية المرأة نصف دية الرجل ، وبه قال جميع الفقهاء. وقال
ابن عليّة والأصم ـ من العامّة ـ : هما سواء في الدية. قال : دليلنا إجماع الفرقة.
وأيضا روي عن النبي صلىاللهعليهوآله ذلك. وروى معاذ نحو هذا عن رسول الله ، وهو إجماع
الامّة. وروى ذلك عن علي عليه الصلاة والسلام.
قال : المرأة
تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها في الأروش المقدّرة ، فإذا بلغته فعلى النصف ... قال :
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. وفسّر السنّة في كلام سعيد بسنّة النبيّ صلىاللهعليهوآله وإجماع الصحابة والتابعين.
وقال السيّد
العاملي : وإجماعنا محصّل ومحكي في كلام جماعة ، وفي الرياض : أنّ حكايته مستفيضة
حدّ الاستفاضة مضافا إلى الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة التي كادت تكون
متواترة. ولم ينقل الخلاف عن أحد من علماء المسلمين سوى ما عن ابن عليّة والأصمّ
على ما حكاه الشيخ.
أمّا الروايات
عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام فبالغة حدّ التواتر وفيها الصحاح وذوات الاعتبار على
حدّ الاستفاضة كما ذكره السيّد الطباطبائي صاحب الرياض.
روى محمّد بن
يعقوب الكليني بإسناده الصحيح عن الإمام الصادق عليهالسلام قال : ودية المرأة نصف دية الرجل.
وأيضا بإسناده
الصحيح عنه عليهالسلام في رجل قتل امرأة متعمّدا ، قال : إن شاء أهلها أن
__________________
يقتلوه ويؤدّوا إلى أهله نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا نصف الدية : خمسة
آلاف درهم.
وفي الصحيح
أيضا : سئل عن رجل قتل المرأة خطأ ، قال : عليه الدية خمسة آلاف درهم.
وروى الشيخ
بإسناد صحيح عن الإمام أبي جعفر الباقر عليهالسلام في الرجل يقتل المرأة ، قال : إن شاء أولياؤها قتلوه
وغرموا خمسة آلاف درهم لأولياء المقتول ، وإن شاءوا أخذوا خمسة آلاف درهم من
القاتل.
وأورد الحرّ
العاملي في الباب ٥ من أبواب الديات والباب ٣٣ من أبواب القصاص في النفس أحاديث متظافرة جلّها صحاح في أنّ دية المرأة نصف دية
الرجل سواء في الخطأ أو العمد ، وكذلك في ردّ التفاضل إذا كان القاتل رجلا.
وأورد في الباب
٤٤ من أبواب ديات الأعضاء والباب ٣ من أبواب ديات الشجاج والجراحات أنّ المرأة تعاقل الرجل إلى أن تبلغ ثلث الدية فإذا
جاوزت الثلث رجعت إلى النصف. حديث متظافر بل متواتر.
وعليه ، فلا
مجال للتشكيك في المسألة من الناحية الفقهيّة حسب ضوابط الأصول.
المرأة في مجال الشهادة
قال تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).
كانت شهادة رجل
واحد تعادل شهادة امرأتين ، ولما ذا؟
وجاء التعليل
في الآية بأنّ إحداهما قد تضلّ فيما تحمّلته حين الأداء ، فكانت
__________________
الأخرى هي التي تذكّرها ما غاب عنها. فكانت شهادة المرأتين بتذكر إحداهما
للاخرى ، بمنزلة شهادة رجل واحد.
وذلك أنّ
المرأة أكثر عرضة للنسيان فيما لا يعود إلى شئون نفسها بالذات ممّا لا يهمّها في
حياتها الانوثية. فربما لا تضبط تفاصيل ما تحمّلته بجميع خصوصيّاته وجزئياته ولا
سيّما إذا بعد عهد الأداء عن عهد التحمّل. فكانت كلّ واحدة منهما تذكّر الاخرى ما
ضلّ عنها ، وبذلك تكمل شهادتهما معا كشهادة واحدة بتلفيق بعضها مع بعض وضمّ بعضها
إلى بعض ، بتفاعل الذاكرتين وتعاملهما بعضا إلى بعض. الأمر الذي لا يجوز في شهادة
الرجال ، فلو اختلفت الشهادات ولو في بعض الخصوصيات فقدت اعتبارها. ومن ثمّ جاز
التفريق في شهادة الشهود لغرض الاستيثاق.
قال الشيخ محمد
عبده : إنّ الله تعالى جعل شهادة المرأتين شهادة واحدة ، فإذا تركت إحداهما شيئا
من الشهادة كأن نسيته أو ضلّ عنها تذكّرها الاخرى وتتمّ شهادتها. وللقاضي بل عليه
أن يسأل إحداهما بحضور الاخرى ويعتدّ بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الاخرى.
قال : هذا هو الواجب وإن كان القضاة لا يعملون به جهلا منهم. وأمّا الرجال فلا
يجوز له أن يعاملهم بذلك ، بل عليه أن يفرّق بينهم ، فإن قصر أحد الشاهدين أو نسي
فليس للآخر أن يذكّره ، وإذا ترك شيئا تكون الشهادة باطلة ، يعني إذا ترك شيئا
ممّا يبيّن الحقّ فكانت شهادته وحده غير كافية لبيانه فإنّه لا يعتدّ بها ولا
بشهادة الآخر وإن بيّنت.
وقالوا في سبب
ذلك : إنّ المرأة ليس من شأنها الاهتمام بالامور المالية ونحوها من المعاوضات ،
فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ، ولا تكون كذلك في الامور المنزلية التي هي شغلها
فإنّها فيها أقوى ذاكرة من الرجل ، يعني أنّ من طبع البشر ـ ذكرانا وإناثا ـ أن
يقوى تذكّرهم للامور التي تهمّهم ويكثر اشتغالهم بها. ولا ينافي ذلك اشتغال بعض
نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال المالية ، فإنّه قليل لا يعوّل عليه. والأحكام
العامّة إنّما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها.
__________________
نعم ، المرأة
إنّما تهتمّ اهتمامها البالغ بما يعود إلى ذات نفسها وإلى ما يرتبط وشئونها
الانوثية وزبارج الحياة ، ولا تعير بشئون خارج حياتها الانوثية الزخرفية ذلك
الاهتمام. وتبعا لذلك يكون عمل ذاكرتها ـ على غرار سائر قواها العقلانية
والجسمانية ـ في هذا الجانب ينمو ويشتدّ ، وبنفس النسبة يأخذ في الضعف والوهن في
الجانب الآخر. وفي دراسة عميقة بشأن حالة المرأة النفسية جاءت في آية اخرى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ
وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ). وهو من أدقّ التعابير في معرفة النفس بشأن المرأة :
إنّها ترى كمالها في جمالها ، وترى جمالها في زبارج حليّها من ذهب وفضة وأحجار
كريمة. ومن ثمّ فهي في مظطلمات الحياة ومصطدماتها تظلّ حائرة وربما تضيق عليها
الحال فلا يمكنها الإعراب عمّا في ضميرها أو تتلجلج ويضطرب لها المقال.
ولذلك نرى
الشريعة قد أفسحت لها المجال واكتفت بشهادتهنّ لوحدهنّ في امور تخصّ شئون النساء ـ
في مثل الولادة والحمل والحيض وما شابه ـ ممّا ليس للرجال فيها شأن.
* * *
وهكذا ذكر سيّد
قطب في تفسير الآية ، قال : إنّما دعا الرجال لأنّهم هم الذين يزاولون الأعمال
عادة في المجتمع المسلم السويّ الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش ، وتهدر
جانب أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية ـ وهي الطفولة
الناشئة الممثّلة لجيل المستقبل ـ في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل ،
كما تضطرّ إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم!
ولكن لما ذا
امرأتان؟ إنّ النصّ لا يدعنا نحدس ، ففي مجال التشريع يكون النصّ محدّدا واضحا
معلّلا (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة. فقد ينشأ من قلّة
خبرة المرأة بموضوع التعاقد ، ممّا يجعلها لا تستوعب كلّ دقائقه وملابساته بحيث
تؤدي عنه شهادتها دقيقة عند الاقتضاء ، فتذكّرها الاخرى بالتعاون معا على تذكّر
ملابسات الموضوع كلّه. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية ،
__________________
فإنّها بوظيفتها الاموميّة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية
مطالب طفلها بسرعة وحيويّة لا ترجع فيهما إلى تفكير بطيء. وهذه الطبيعة لا تتجزّأ
، فالمرأة شخصية موحّدة ، هذا طابعها حين تكون امرأة سوية. بينما الشهادة على
التعاقد بحاجة إلى تجرّد كبير من الانفعال ، ووقوف عند الوقائع بلا تأثّر ولا
إيحاء. ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكّر إحداهما الاخرى ـ إذا جرفها الانفعال ـ فتتذكّر
وتفي إلى الوقائع المجرّدة.
ويعود السرّ في
ذلك كلّه ، إلى نقص الضبط فيهنّ ، لأسباب ترجع إلى طبيعتها الانوثية. قال الطبرسي
: لأنّ النسيان يغلب على النساء أكثر ممّا يغلب على الرجال. أي في مثل الامور التي لا تمسّ شئونها البيتية وتربية
الأولاد.
نكتة أدبيّة في الآية
أمّا لما ذا
تكرّرت لفظة «إحداهما»؟ أما كان يكفي أن يقول : (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)؟
لكن نظرا لفحوى
الآية كان هذا التعبير غير واف بمفادها ، إذ هذا التعبير إنّما يعني : أنّ إحداهما
إذا نسيت شيئا ممّا تحمّلته فإنّ الاخرى تذكّرها. وهذا ليس مقصود الآية. بل
المقصود : أنّ كلتيهما عرضة للخطأ والنسيان ، فتقوم كلّ واحدة منهما بتتميم أو
تكميل ما نقص من شهادة صاحبتها. فهذا التعامل والتفاعل في شهادتهما وتكامل شهادة
كلّ منهما بشهادة الاخرى تعدّ شهادة واحدة كاملة في مقابل شهادة الرجل الكاملة
بوحدتها.
ومن ثمّ وجب
إعادة «إحداهما» ـ بلفظه لا بضميره ـ لإفادة هذا المعنى.
وذكر الطبرسي
وجها آخر نقله عن الوزير الأديب الحسين بن علي المغربي وهو أنّ المعنى : أن تضل
إحدى الشهادتين عن إحدى المرأتين فتذكّرها بها المرأة الاخرى. فجعل «إحدى» الاولى
للشهادة والثانية للمرأة. قال : معناه أن تضلّ إحدى الشهادتين أي
__________________
تضيع بالنسيان ، فتذكّر إحدى المرأتين الاخرى ، وبذلك لم يتكرّر اللفظ.
وأيّده الطبرسي
بأنّ نسيان الشهادة لا يسمّى ضلالا ولا يسمّى ناسي الشهادة ضالّا لأنّ الضلال
معناه الضياع ، والمرأة لا تضيع ، ويقال للشهادة ضلّت إذا ضاعت. كما قال سبحانه : (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي ضاعوا منّا. ومثله (لا يَضِلُّ رَبِّي
وَلا يَنْسى).
لكن الزمخشري
فسر الآية على ظاهرها ، قال : (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما) أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها ، من قولهم :
ضلّ الطريق ، إذا لم يهتد إليه. فيكون الضلال هنا بمعنى عدم الاهتداء.
وقوله تعالى : (ضَلُّوا عَنَّا) أي ذهبوا عنّا وافتقدناهم. فلا يقدرون على الدفع عنّا
وبطلت عبادتنا إيّاهم. وقوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي) أي لا يذهب عليه شيء ، بمعنى : لا يفقده ولا يغيب عنه.
وقد فسّر
الراغب «الضلال» في الآية بمعنى النسيان.
المرأة في مجال القضاء
القضاء
باعتباره منصبا رسميّا لفصل الخصومات في النظام الإسلامي الحاكم وهو منصب خطير وذو
مسئوليّة جسمية فإنّه لا يصلح للمرأة ـ وهي ذات نفسيّة مرهفة ـ أن تتصدّى له ، على
غرار سائر المسئوليّات الخطيرة ممّا هو من شئون الولاية العامّة ، الخاصّة بوليّ
أمر المسلمين.
وبذلك اتّفقت
كلمة الفقهاء على أنّ القضاء من شئون الولاية الكبرى الخاصّة بإمام المسلمين ، وكلّ شأن من شئون الولاية الكبرى في الحكم الإسلامي لا
يجوز إيكاله إلى
__________________
امرأة ولا تصلح لحمل عبئه الثقيل. وقد أنكر النبيّ صلىاللهعليهوآله على قوم (يريد بهم الفرس يوم ذاك) ولّوا أمرهم امرأة وأنذرهم بعدم الفلاح. قال : «لن يفلح
قوم ولّوا أمرهم امرأة».
وقد أوصى
النبيّ إلى علي عليهماالسلام ومن جملتها ما جاء بشأن النساء : «ولا تولّى القضاء».
وفي حديث عن
الإمام أبي جعفر الباقر عليهالسلام : «ولا تولّى المرأة القضاء ولا تولّى الإمارة».
والعمدة إجماع
الفقهاء على ذلك لم يخالف فيه أحد.
وعلّل ذلك بما
ورد في القرآن في وصف شأنهنّ بأنّهنّ مرهفات الحال ، رقيقات البال ، فاقدات تلك
الصلابة التي تتناسب ومنصب القضاء. قال تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ). إنّها لنعومة بالها ورقّة خاطرها سريعة الانفعال ، تحنّ
إلى العطف والحنان أكثر ممّا تحنّ إلى الحزم والعقل الرشيد. ولذلك قال الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام فيما كتبه إلى ابنه الحسن عليهالسلام : «ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فإنّ
المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»
إشارة إلى ما
جاء في الآية الكريمة من نعومة حال المرأة بما يفقدها صلاحية التصلّب أمام فصل
الخصومات.
وللبحث هنا
جوانب حقّقناها في دراساتنا الفقهيّة بشكل مستوعب ، فليراجع هناك.
المرأة في مجال الحضانة
اشتهر القول
بأنّ حقّ حضانتها بشأن ولدها البنين ينتهي بانتهاء أمد الرضاعة وهي السنتان. أمّا
في البنات فبانقضاء سبع سنين.
لكن أبا جعفر
الصدوق جعل أمد حضانتها ما لم تتزوّج ، من غير فرق بين البنين
__________________
والبنات. وذكر في جامعه حديثا عن الإمام الصادق عليهالسلام سئل عن رجل طلّق امرأته وبينهما ولد ، أيّهما أحقّ به؟
قال : المرأة ما لم تتزوّج والولد يطلق على الذكر والأنثى.
وذكر ابن
الجنيد الإسكافي (ت ٣٨١) ـ وكان معاصرا للصدوق ـ : أنّ الامّ أحقّ بالصبي إلى سبع
سنين ، فلو جاوزها ولم يبلغ رشد عقله بقي على حضانة الامّ حتّى يرشد. وأمّا البنت
فالامّ أحقّ بها من غير تحديد بالسنّ ، ما لم تتزوج الامّ.
وقال شيخ الطائفة
أبو جعفر الطوسي (ت ٤٦٠) في المبسوط : الطفل ما لم يميّز يكون في حضانة الامّ
والنفقة على أبيه. فإذا ميّز فيما إذا بلغ سبع أو ثماني سنين فما فوقها إلى البلوغ
، فإن كان ذكرا فالأب أحقّ به ، وإن كانت أنثى فالأمّ أحقّ بها أيضا ما لم تتزوّج
الامّ. واستند في ذلك إلى روايات الأصحاب ، وهكذا ذكر في كتاب الخلاف.
وذكر قريبا منه
القاضي ابن البرّاج الطرابلسي (ت ٤٨١) وهو من أعلام فقهاء الإمامية المرموقين.
والرواية
الوحيدة ذات السند الصحيح في الباب وقد عمل بها الأصحاب هي ما رواه الصدوق بإسناده
إلى عبد الله بن جعفر الحميري عن أيّوب بن نوح ـ كوفيّ ثقة ـ قال : كتب إليه (الإمام
موسى بن جعفر عليهالسلام) بعض أصحابه : أنّه كانت لي امرأة ولي منها ولد وخلّيت
سبيلها ، فكتب عليهالسلام في جوابه : المرأة أحقّ بالولد إلى أن يبلغ سبع سنين ،
إلّا أن تشاء المرأة.
وهكذا ابن إدريس
في المستطرفات بالإسناد إلى أيوب ، قال : كتبت إليه : جعلت فداك ، رجل تزوّج امرأة
فولدت منه ثمّ فارقها ، متى يجب له أن يأخذ ولده؟ فكتب عليهالسلام إذا صار له سبع سنين ، فإن أخذه فله وإن تركه فله.
هاتان روايتان
صحيحتا الإسناد ، جعلتا حقّ الحضانة للامّ بشأن ولدها إلى سبع
__________________
سنين ، ذكرا أو انثى. ولا معارض لهما ولا تقييد ، فالعمل بهما متعيّن.
ولذلك قال
السيّد محمّد العاملي صاحب المدارك : والذي يقتضيه الوقوف مع الرواية الصحيحة أنّ
الامّ أحقّ بالولد إلى أن يبلغ سبع سنين مطلقا.
ومن الفقهاء
المعاصرين سيّدنا الاستاذ الإمام الخوئي طاب ثراه اختار هذا الرأي وجعل حقّ
الحضانة للامّ إلى سبع سنين سواء في البنين والبنات.
وهذا هو أيضا
مقتضى قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها) بعد أن كان ذلك حكما عامّا يشمل جميع أنحاء الإضرار بها
من جانب ولدها ، إذا فصل عنها بعد الفطام. وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في مجال الفقه.
الطلاق والعدّة والعدد
ممّا اخذ على
الإسلام وعلى القرآن بالذات إطلاق سراح الرجل بشأن المرأة في الطلاق والإمساك
وإعضالها عن أن تملك نفسها إلّا حيث شاء الزوج ، حقّا قانونيا له دونها ، الأمر
الذي يجعلها مهانة لا وزن لها في الحياة الزوجية ما دامت لا تعدو متعة للرجل يعبث
بها حسبما شاء!
وهذا من الأثر
المتبقّى من أعراف جاهليّة أولى ، قام الإسلام بتعديلها وربما آخذا بجانبها ولكن
في شيء يسير لم يرفعها إلى حيث كرامتها الإنسانية العليا!
قال الشيخ محمد
عبده : كان للعرب في الجاهلية طلاق ومراجعة في العدّة ، ولم يكن للطلاق حدّ ولا
عدد. فإن كان لمغاضبة عارضة عاد الزوج واستقامت عشرته ، وإن كان لمضارّة المرأة
راجع قبل انقضاء العدّة واستأنف طلاقا ، ثمّ يعود إلى ذلك المرّة بعد المرّة أو
يفيء ويسكن غضبه ، فكان المرأة العوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق ما شاء أن
يضارّها ، فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام من امور الاجتماع.
__________________
وذكر في سبب
نزول الآيات ٢٢٨ ـ ٢٣٢ من سورة البقرة بهذا الشأن : أنّ الرجل كان يطلّق امرأته ما
شاء أن يطلّقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدّة وإن طلّقها مائة مرّة وأكثر
، حتّى قال رجل لامرأته : والله لا أطلّقك فتبيني ، ولا آويك أبدا! قالت : وكيف
ذلك؟ قال : اطلّقك ، فكلّما همّت عدّتك أن تنقضي راجعتك. فذهبت المرأة حتّى دخلت
على عائشة فأخبرتها ، فصبرت عائشة حتّى جاء النبيّ صلىاللهعليهوآله فأخبرته بذلك ، فسكت النبيّ هنيئة حتّى نزل القرآن : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ... فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ...) إلى آخر الآيات.
حاول بعض
الكتّاب العصريّين أن يجعل من التشريعات الإسلاميّة متأثّرة بعض التأثّر بتقاليد
كانت سائدة ذلك العهد ، فهو وإن كان قام بتعديلات خطيرة في تقاليد العرب لكنّه مع
ذلك اضطرّ إلى الرضوخ لبعض تقاليدهم جريا مع مقتضيات الزمان ، ومنها أمر الطلاق
حيث جعله بيد الرجل وفقا مع عرف القوم السائد! قال : ولا سيّما إذا ما لاحظنا أنّ
التشريعات الإسلامية في مثل هذه الشئون إمضائية وليست تأسيسية كما هو معروف.
* * *
ولنا أن نتساءل
: هل تنازل الإسلام في تشريعاته الاولى ـ ولو في جوانب منها ـ إلى حيث مستوى ثقافة
ذلك العهد وتلاؤما مع مقتضيات عصره حتّى تصبح صالحة للتغيير مع تطوّر الزمان؟
الجواب : كلّا
، ولا سيّما التشريعات التي جاءت نصّا في القرآن الكريم.
الإسلام جاء
بثقافة جديدة شاملة ليرفض كلّ تقاليد جاهلية كانت سائدة ذلك اليوم ، وألبسها ثوب
الخلود «حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة».
إلّا ما كان من قبيل التدبير في الشئون السياسية لإدارة
البلاد وفق شرائط الزمان على ما أسلفنا. ومن ثمّ كانت التشريعات الإسلامية منذ
البدء تنقسم إلى قسمين
__________________
أساسيّين : ثابتة ومتغيّرة. أمّا الثابتة فهي التي شرّعت وفق مصالح عامّة
عموما يشمل الأجيال والأزمان مدى الدهر ، وهي الأصل في التشريع حسب ظاهره الأوّلي
، إلّا إذا دلّت القرائن على أنّها من المتغيّرات ، وهي التي شرّعت لمصالح وقتية
تنوط ببقاء تلك المصالح وتذهب بزوالها. وهذا في جانب الأحكام السياسية الصادرة من
اولي الأمر نجده بكثير. وقد فصّلنا الكلام في ذلك وذكرنا المعايير التي يمكن
التمييز بين القسمين ، والأصل المرجع عند الشكّ.
أمّا القول
بالتنازل والمداهنة أو المجاملة مع القوم فهي عقيدة باطلة يرفضها أصالة التشريع
الإسلامي المستند إلى وحي السماء ، ويأبى الله ورسوله ذلك. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ
بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ).
* * *
وسؤال آخر : هل
كان الطلاق والرجوع في العدّة ـ بذلك الشكل الفظيع ـ عادة جاهلية ليكون موضع
الإسلام منها تعديلها إلى وجه صحيح؟
قال الشيخ
محمّد عبده : كان للعرب في الجاهليّة طلاق ومراجعة في العدّة ، ولم يكن للطلاق حدّ
ولا عدد ... فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام.
في حين أنّ
جواز الرجوع في العدّة ـ في الطلاق الرجعي ـ وكذا تشريع العدّة للطلاق أمر لم يكن
للعرب ولا لسائر الأمم عهد بذلك من ذي قبل ، وإنّما هو من مبدعات الإسلام ،
وتشريعاته التأسيسية الحكيمة. حتّى أنّ الإمام عبده استشهد بقضية وقعت في عهد
متأخّر في المدينة ، حيث جاءت المرأة وشكت عند عائشة لترفع أمرها إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ونزلت آيات من اخريات سورة البقرة ، ولعلّها في العام
السادس أو السابع للهجرة! وقد صرّح الطبري بأنّه كان على عهد النبيّ ، وكان رجلا
من الأنصار.
__________________
هذا ، وقد أخرج
أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن أسماء بنت يزيد الأنصارية ، قالت :
طلّقت على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ولم يكن للمطلّقة عدّة ، فأنزل الله ـ حين طلّقت ـ العدة
للطلاق (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). فكانت أوّل من انزلت فيها العدّة للطلاق.
وأخرج عبد بن
حميد عن قتادة قال : كان أهل الجاهلية يطلّق أحدهم ليس لذلك عدّة. وأمّا الرواية الاخرى عن قتادة بأنّ الطّلاق لم يكن له
في الجاهليّة عدد وكانوا يراجعون في العدّة. فلعلّ الذيل زيادة من الراوي أو بيان للمراجعة بعد
تشريع العدّة في الإسلام ، إذ لا تقاوم هذه الرواية ما تقدّمها من روايات مستفيضة.
* * *
وسؤال ثالث :
هل الطلاق بيد الرجل ورهن إرادته على الإطلاق؟
ذهب المشهور
إلى ذلك استنادا إلى قوله صلىاللهعليهوآله : «إنّما الطلاق لمن أخذ بالساق».
والحديث كما
رواه ابن ماجة في السنن عن ابن عبّاس أنّ رجلا أتى النبيّ صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله ، إنّ سيّدي زوّجني أمته وهو يريد
أن يفرّق بيني وبينها. فصعد النبيّ صلىاللهعليهوآله المنبر فقال : أيّها الناس ، ما بال أحدكم يزوّج عبده
أمته ثمّ يريد أن يفرّق بينهما؟! إنّما الطلاق لمن أخذ بالساق.
والحديث وإن
كان بمختلف طرقه ضعيف الإسناد إلّا أنّ الفقهاء تسالموا على الاستناد إليه ، حتّى
أنّ صاحب الجواهر عبّر عنه بالنبويّ المقبول وذكر أنّ الحكم إجماعي ، وقد أرسل
المحقّق حكمه باختصاص الطلاق بمالك البضع إرسال المسلّمات.
__________________
وعليه ، فلا
شأن للمرأة في أمر الطلاق والفراق ، وإنّما هو رهن إرادة الرجل حسب مشيئته الخاصّة.
* * *
غير أنّ
المسألة بحاجة إلى دقة ونظرة فاحصة :
الطلاق ـ وهو
الفراق بين المتآلفين ـ لا بدّ أن يكون عن كراهية معقّدة لا يمكن حلّها إلّا بالمفارقة.
والكراهية إمّا من الزوج فالطلاق رجعي ، إذا كان عن دخول بها ولم تكن التطليقة
الثالثة ، ولم تكن المرأة يائسة ، وشرائط اخر مذكورة في محلّها.
وإمّا من
الزوجة ، فالطلاق خلعي ، لأنّها تبذل مهرها لتنخلع أي تتخلّص بنفسها وتنفلت عن قيد
الزوجية.
وإمّا من الطرفين
، ويعبّر عن ذلك في مصطلحهم بالمباراة ، من المبارأة وهي التخلّص والفصل بين
الشريكين أو المتزاوجين. يقال : بارأ شريكه : فاصله وفارقه. وتبارأ الزوجان :
تفارقا.
فالطلاق في
الصورة الاولى عن رغبة الزوج ، وفي الصورة الثانية عن رغبة الزوجة ، وفي الصورة
الثالثة عن رغبتهما معا.
فهل الطلاق في
جميع هذه الصور بيد الرجل محضا ورهن إرادته ، إن شاء فارقها وخلّى سبيلها ، وإن
شاء أمسكها إضرارا بها؟ ولا شأن للمرأة في ذلك ولا لوليّ الأمر إطلاقا!؟
وإليك بعض
الكلام حول هذه المسألة الخطيرة الشأن :
جاء في الحديث
النبويّ المستفيض : أنّ امرأة ـ ولعلّها جميلة بنت ابيّ بن سلول ـ تزوّجها رجل
دميم (كريه المنظر) وأصدقها حديقة ، فلمّا رآها كرهته كراهة شديدة ، فجاءت إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآله وأبدت كراهتها له وقالت : إنّي لأكرهه لدمامته وقبح
منظره حينما رأيته. وزادت : إنّي لو لا مخافة الله لبصقت في وجهه. قالت : إنّي
رفعت الخباء فرأيته مقبلا في عدّة ، فإذا هو أشدّهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم
وجها. قالت : والله ، لا يجمع
رأسي ورأسه شيء. فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآله : أتردّين عليه حديقته؟ قالت : نعم ، وأزيده. قال لها
النبي : لا ، حديقته فقط. فردّت عليه حديقته ، ففرّق بينهما رسول الله صلىاللهعليهوآله.
ويبدو أنّ ذلك
كان بمغيب عن الرجل ، وذلك لأنّ الرواية ذكرت أنّه لمّا بلغه قضاء رسول الله وحكمه
بالفراق بينهما قال : قد قبلت قضاء رسول الله. قال ابن عبّاس : وكان أوّل خلع وقع
في الإسلام.
وظاهر الحديث :
أنّه في صورة كراهة الزوجة ترفع أمرها إلى وليّ الأمر (الحاكم الشرعي) وهو الذي
يتولّى شأنها ويقضي بفراقها. وليس للزوج الامتناع. (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ).
والمراد بقضاء
الله والرسول أن يكون قضاء النبيّ وفق شريعة السماء ، ولا يكون إلّا كذلك. وعليه
فقبول الرجل كان فرضا عليه ولم يكن له الردّ.
وهكذا جاء في
أحاديث أئمّة أهل البيت عليهمالسلام :
روى الشيخ
بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : لا يكون الخلع حتّى تقول : لا أطيع لك أمرا ولا
أبرّ لك قسما ولا اقيم لك حدّا فخذ منّي وطلّقني ، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن
يخلعها بما تراضيا عليه من قليل أو كثير ، ولا يكون ذلك إلّا عند سلطان. فإذا فعلت
ذلك فهي أملك بنفسها من غير أن يسمّى طلاقا.
وروى بإسناده
عن ابن بزيع قال : سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن المرأة تباري زوجها أو تختلع منه بشهادة شاهدين على
غير طهر من غير جماع ، هل تبين منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يتبعها بطلاق؟ فقال :
تبين منه. قال : إنّه روي لنا أنّها لا تبين منه حتّى يتبعها بطلاق! قال عليهالسلام : ليس ذلك إذن خلع ، فقال : تبين منه؟ قال عليهالسلام : نعم.
وقد أفتى بذلك
الشيخ وجماعة من كبار الفقهاء وأوجبوا على الزوج الإجابة على طلبها من غير أن يكون
له الامتناع.
__________________
قال الشيخ في
النهاية : وإنّما يجب الخلع إذا قالت المرأة لزوجها : إنّي لا اطيع لك أمرا ولا
اقيم لك حدّا. فمتى سمع منها هذا القول أو علم من حالها عصيانه في شيء من ذلك وإن
لم تنطق به وجب عليه خلعها.
قال العلّامة
في المختلف : وتبعه أبو الصلاح الحلبي والقاضي ابن البرّاج في الكامل وعليّ بن
زهرة الحلّي.
قال أبو الصلاح
(ت ٤٤٨) : فإذا قالت ذلك فلا يحلّ له إذ ذاك إمساكها.
وقال ابن زهرة (ت
٥٨٥) : وأمّا الخلع فيكون مع كراهة الزوجة خاصّة الرجل ، وهو مخيّر في فراقها إذا
دعته إليه حتى تقول له : لئن لم تفعل لأعصينّ الله بترك طاعتك ، أو يعلم منها العصيان
في شيء من ذلك ، فيجب عليه والحال هذه طلاقها.
فإذا كان ذلك
واجبا عليه ولم يكن له الامتناع عند ذلك لزمه طلاقها ، أو يلزمه السلطان (وليّ
الأمر ـ الحاكم الشرعي) أو يتولّى الحاكم ذلك بنفسه حسبما تقدّم في ظاهر الحديث
النبوي.
على أنّ ذلك هو
لازم اشتراط أن يكون بمحضر السلطان ، كما اشترطه أبو علي ابن جنيد الإسكافي ،
استنادا إلى حديث زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام الآنف. ولقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). وهذا خطاب للحاكم.
فإنّ مقتضى هذا
الاشتراط أن يقوم الحاكم بتنفيذ الأمر حسبما يراه من مصلحتهما ، إن إلزاما للزوج
أو التولّي بنفسه.
وقد ناقش صاحب
الجواهر القول بوجوب خلعها على الرجل بعدم الدليل على الوجوب ، إذ ليس في شيء من
الروايات أمر بذلك وبعدم تمامية كونه ردعا عن المنكر. مضافا إلى كونه منافيا لاصول
المذهب!
__________________
لكن جانب
الإضرار بالمرأة ـ إذا لم تطق الصبر معه ـ يرفع سلطة الرجل على الطلاق حتّى في هذه
الصورة ، إذ «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».
بمعنى : أنّه
لم يشرّع في الإسلام أيّ تشريع ـ سواء أكان تكليفا أم وضعا ـ إذا كان مورده ضرريّا.
وهذه القاعدة حاكمة على جميع الأحكام الأوّلية في الشريعة المقدّسة (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ). ولا شكّ في أنّ الحكم باختيار الرجل بشأن الطلاق ـ حتّى
في صورة كون الزوجية أو تداومها حرجا على المرأة وضارّا بها ـ حكم ضرري ، فهو
مرفوع ، فعموم سلطة الرجل على أمر الطلاق مخصّص بغير هذه الصورة.
وهكذا ورد
صحيحا عن الإمام أبي جعفر الباقر عليهالسلام فيمن كانت عنده امرأة ولا يقوم بنفقتها ... قال : كان
حقّا على الإمام أن يفرّق بينهما.
على أنّ دليل
عموم سلطة الرجل على الطلاق ضعيف ، بعد كون مستنده الحديث النبوي المعروف «إنّما
الطلاق لمن أخذ بالساق». وهذا الحديث بمختلف طرقه ضعيف الإسناد على ما تقدّم عن
الهيثمي في مجمع الزوائد.
وعمدة ما
استدلّ به صاحب الجواهر على ذلك هو الإجماع ، ولم يكن دليلا لفظيا ليكون له إطلاق أو عموم. إذن ،
فمستند العموم ضعيف الشمول.
وبعد ، فإذا لم
يكن لعموم سلطة الرجل على الطلاق دليل قاطع وشامل وكان أمر الخلع منوطا بالترافع
لدى السلطان كان مقتضى ذلك هو إمكان إلزام الزوج بالطلاق إذا كانت المصلحة قاضية
بذلك ، ومدعما بحديث «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».
وهناك بعض
الشواهد عليه في بعض النصوص ، كما في حديث حمران عن الصادق عليهالسلام وفي آخره : «والطلاق والتخيير من قبل الرجل ، والخلع
والمباراة يكون من قبل المرأة».
__________________
وهذا يعني :
أنّ أمر الخلع منوط بمصلحة المرأة واختيارها ، ولا خيار للزوج فيه. مضافا إلى ما
فعله النبي صلىاللهعليهوآله بشأن المختلعة.
إذن فطريق
الخلاص للمرأة ـ إذا لم تطق الصبر مع زوجها ـ منفتح ، وليست أسيرة رهن إرادة الرجل
محضا.
بقي هنا شيء
وهو كلام صاحب الجواهر بالمنافاة مع أصول المذهب! ولم نتحقّقه ، كيف وقاعدة لا ضرر
ولا حرج هما اللذان يشكّلان قواعد المذهب ، والعلم عند الله.
والسؤال الأخير
: ما هو سبب الفرق بين الرجل والمرأة ، حيث كان الرجل مطلق السراح بشأن طلاق زوجته
، وأمّا المرأة فبعد مراجعة الحاكم الشرعي ورهن تصميمه في الأمر؟!
وهذا يعود إلى
ما بين الرجل والمرأة من فرق في طبيعتهما ، حيث هي مرهفة الطبع ، رقيقة النفس ،
ذات عواطف جيّاشة ، تثار لأيّ مؤشّر وتنبري لأيّ وخزة ، وكلّ أمر إذا انيط بجانب
العاطفة السريعة التأثّر ربّما أوجد مشاكل ومضاعفات لا يحمد عقباها. أمّا الرجل
فبطبيعته الهادئة المتريّثة ، وهو الذي تحمّل تكاليف هذا الازدواج ، ولا يمكن أن
يتغافل عن عواقب سوء سوف تترتّب على الفراق أحيانا ، ويكون عباء ثقلها على عاتقه
في الأغلب ، فإنّه بذلك ولغيره من الجهات لا يتسرّع في الأمر مهما بلغ به الغضب أو
ثارت ثائرته في حينه ، ما دام لم ينظر في عاقبته الأمر وما يترتّب عليه من أثر!
ومع ذلك ، فإنّ
القوانين المدنية الحاكمة اليوم في البلاد الإسلامية تفرض على الرجل تريّثه
المضاعف ومراجعة المحاكم الصالحة ، من غير أن يكون مطلق السراح.
ونحن الآن ـ في
ظلّ ولاية الفقيه ـ نرى مشروعية هذه القوانين المحدّدة من تصرّفات الرجل العابثة. وهذا
من الآثار الإيجابية لسيطرة ولاية الفقيه على القوانين الحاكمة في البلاد.
* * *
ونجد هناك بعض
المحاولات لسدّ هذه الثغرة عن طريق الاشتراط على الزوج ـ في عقد النكاح أو ضمن عقد
آخر لازم ـ بأن يوكّل الزوج زوجته في طلاق نفسها متى
شاءت أو مشروطا بعدم إمكان المؤالفة ونحو ذلك فتقوم المرأة بتطليق نفسها
وكالة عن زوجها.
وبهذا النحو من
العلاج أفتى سيّدنا الأستاذ الإمام الخميني ـ طاب ثراه ـ إجابة على استفتاء قدّمته
إليه جماعة النسوة المناضلة في إيران عام ١٣٥٨ ه. ش.
وقد كان هذا
الاشتراط على الزوج في صالح الزوجة رائجا في أوساطنا منذ القديم ، لكن على النحو
المشروط ، أمّا بصورة الإطلاق ومتى شاءت فقد اختصّ الإمام الراحل قدسسره بالإفتاء به.
وإليك نصّ
العبارة ـ مترجمة ـ بعد البسملة.
قد سهّل الشارع
المقدّس طريقة معيّنة للنساء ، كي يستطعن تولّي الطلاق بأنفسهنّ ، وذلك بأن تشترط
المرأة في ضمن عقد النكاح أن تكون وكيلة عن الزوج في الطلاق بصورة مطلقة ، أي متى
شاءت أن تطلّق نفسها فعلت حسب مشيئتها ، أو بصورة مشروطة ما إذا تخلّف الزوج عن
بعض وظائفه الزوجية أو أراد أن يتزوّج امرأة اخرى ، ونحو ذلك ، فهي مختارة ـ حسب
وكالتها عن الزوج ـ في تطليق نفسها. قال : وبهذا النحو من العلاج تنحّل مشكلة أمر
الطلاق. (روح الله الموسويّ الخميني)
لكن الظاهر أنّ
هذا ليس بالعلاج الحاسم ، والمشاهد أنّ الأزواج لا يوافقون على هذا النحو من
الاشتراط ولا سيّما صورة إطلاقه. وليس الرجل ـ مهما كانت المرأة بالمفتن بها ـ بهذا
النحو من الرضوخ لإرادتها الخاصّة ـ طول حياتهما الزوجية ـ لا سيّما وتضخّم عدد
النساء الطالبات للزواج بلا شرط ولا قيد!
إنّ للرجل ـ في
طبيعته الرجولية ـ أنفة وشموخا لا يستسلم لقيادة المرأة مهما كانت فائقة ، إلّا
إذا بلغ به الذلّ والهوان ما يجعله خاضعا لهذا الرضوخ.
على أنّ هنا حديثا
عن الإمام الصادق عليهالسلام في رجل جعل أمر امرأته بيدها! قال :
__________________
«ولى الأمر من ليس أهله ، وخالف السنّة ، ولم يجز النكاح».
وفي رواية أخرى
في رجل قال لامرأته : أمرك بيدك! قال : «أنّى يكون هذا ، والله يقول (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)؟ ليس هذا بشيء.
وأيضا هنا كلام
عن هذه الوكالة ـ وهي عقد جائز ، متى شاء الموكّل عزل الوكيل ـ هل تصبح لازمة
باشتراطه في ضمن عقد النكاح أو أيّ عقد لازم؟ وهل الشرط ضمن عقد لازم يغيّر من
ماهيّة المشروط؟
وأخيرا ، فإنّ
الشيخ ذكر في كتابه «المبسوط» قال : وإن أراد [الرجل] أن يجعل الأمر إليها فعندنا
لا يجوز على الصحيح من المذهب. وفي أصحابنا من أجازه.
ومن ثمّ فإنّ
المسألة ليست بهيّنة ، لا سيّما وخطورة أمر البضع المقتضية للاحتياط فيه. كما وقد
رجّح صاحب الجواهر جانب الاحتياط. قال : وعلى كلّ حال فالاحتياط لا ينبغي تركه.
واضربوهنّ!
قال تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ. فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً).
قالوا : في هذه
الآية أيضا مهانة بشأن المرأة ، ممّا يتناسب وذلك العهد الجاهلي الذي كان موضع
المرأة فيه موضع الضعة والصغار!
لكن بأدنى
مراجعة لكتب التفسير والسير وكلمات الفقهاء في ذلك يتّضح أنّ الأمر ليس بتلك
الحدّة التي كانت تتصوّر عن العصر الجاهلي المظلم وإمكان تأثيره على التشريعات
الإسلامية الناصعة البيضاء والسهلة السمحاء.
__________________
كانت المرأة في
العصر الجاهلي في مستوى هابط جدّا ، وجاء الإسلام ليأخذ بيدها ويرفعها إلى حيث
مستواها الإنساني الرفيع ، ولكن هذا التحوّل الجذري بشأنها هل أمكن حصوله بصورة
فجائية وبلا تمهيد مقدّمات؟ أم كان بحاجة إلى مهل وبصورة تدريجية لقلب تلك الغلظة
المتوهّجة إلى رقّة ورأفة هادئة؟ الأمر الذي يستدعي المسايرة مع القوم بعض الشيء
في هذا الطريق الوعر ليمكن إيقافهم أو تمهيد أسباب هذا الإيقاف فيمكن إرجاعهم إلى
حيث فطرتهم الإنسانية الأصيلة!
وهكذا جارى
الإسلام العرب في بادئ الأمر في قسم من عاداتهم ـ كانت متحكّمة عليهم تحكّما وثيقا
ـ وفي أثناء هذه المجاراة والمسايرة ، أخذ ينفث في روعهم روح الملاءمة وإبعاد
الخشونة لتلين قلوبهم ويهتدوا إلى وجه الصواب ، فيرتدعوا بأنفسهم شيئا فشيئا عن
الأخطاء التي كانت تجذبهم بقوّة ذلك العهد.
وهذا النحو من
سياسة التدبير نرى الإسلام قد اتّخذها بشأن لفيف من عادات جاهلية لم تكن متحكّمة
على العرب وحدهم ، بل على سائر الأمم على وجه العموم. ومن ثمّ كان قلع جذورها
بحاجة إلى مهلة وفرصة زمنية ، قصيرة أو طويلة ، وتمهيد مقدّمات أصولية تمهّد هذا
السبيل.
ويمكننا
التمثيل لذلك بمسألة الرقّية التي جاراها الإسلام ، حيث تحكّمها على العالم كلّه
يوم ذاك ، وكانت سلعة تجارية ضخمة ، لا يمكن مجابهتها بلا تمهيد مقدّمات ، فقد قام
الإسلام في وجهها ، لكن لا بشكل علنيّ صريح ، ولكن أعلن مخالفته لمنشإ الاسترقاق
الذي كان عليه جمهور الامم ذلك العصر ، وسدّ طريقه ـ شرعيّا ـ ما عدا حالة
الاستيلاء على المحاربين في ميدان القتال. الأمر الذي كان يخصّ الرجال المحاربين
ضدّ الإسلام دون غيرهم ، ولا النساء ولا الأطفال والشيوخ ، ورفض رفضا باتّا إمكان
الاسترقاق بأيّ وجه كان.
ثمّ إنّه مع
ذلك جعل الطريق لتحرّرهم فسيحا وفي أنحاء وأشكال ، حسبما نذكره.
واتخاذ مثل هذه
الاجراءات لقطع جذور عادة جاهلية ساطية ، قد اصطلحنا عليه
بالنسخ التدريجى المسيّر مع الزمان ، ممّا قد مهّدت أسبابه منذ البدء وعلى
عهد صاحب الشريعة.
* * *
ومن هذا القبيل
مسألة قوامة الرجل على المرأة بشكلها العامّ ، بحيث تشمل ضربها ضربا مبرّحا موجعا!
فلو كان قد نزل به الوحي ، ولكن جاء تفسيره على لسان صاحب الشريعة بما يجعله هيّنا
في وقته ، وتمهيدا لقلع جذوره على مدى الأيّام :
أوّلا : جاء
تفسير الضرب بكونه غير مبرّح ، أي غير شديد ولا مؤلم ، فيكون ضربا خفيفا لا يؤلم. والضرب
إذا لم يكن مؤلما لا يكون ضربا في الحقيقة ، وإنّما هو مسح باليد مسحا في ظرافة!
ومن ثمّ جاء تقييده بأن لا يكون بسوط ولا خشب أو آلة غيرهما ، ما عدا عودة السواك
التي يستاك بها الرجل!
الأمر الذي
يجعل من ظاهر دلالة الآية عقيمة ، ويرفض سلطة الرجل على إيلام زوجته بالضرب والأذى
على كلّ حال.
أخرج ابن جرير
عن عكرمة ـ في الآية ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «اضربوهنّ إذا عصينكم في المعروف ، ضربا غير مبرّح». ورواه
أيضا بإسناده عن حجّاج مضيفا إليه تفسيره «غير مبرّح» بغير مؤثّر. يعنى : لا يؤثّر
في تغيير لون البشرة ، حتّى الحمرة.
وعن عطاء قال :
قلت لابن عبّاس : ما الضرب غير المبرّح؟ قال : بالسواك ونحوه.
وعن قتادة :
ضربا غير مبرّح أي غير شائن.
والشين : العيب
، أي لا يوجب عيبا.
ومن ثمّ قال
الشيخ أبو جعفر الطوسي قدسسره : وأمّا الضرب فإنّه غير مبرّح ، بلا خلاف.
قال الإمام أبو
جعفر الباقر عليهالسلام : هو بالسواك.
قال القاضي ابن
البرّاج الطرابلسي قدسسره : وأمّا الضرب فهو ضرب تأديب ، كما يضرب
__________________
الصبيان على الذنب ، ولا يضربها ضربا مبرّحا ولا مزمنا ولا مدميا ويفرّقه
على بدنها ويتقي وجهها. وإذا ضربها كذلك فليكن بالمسواك. وذكر بعض الناس (من فقهاء
العامّة) أنّه يكون بمنديل ملفوف أو درّة ، ولا يكون بخشب ولا سوط.
المبرّح : الشديد الموجع. والمزمن : من
الزمانة ، وهي العاهة ، أي العيب والنقص. والمدمي : المؤثّر في ظهور الدم على البشرة ولو بالخراش.
والدرّة : نوع
من السياط ، لا توجع ولا تؤلم. وتصنع من الخرق. وهي تشبه المنديل الملفوف.
وقال في موضع
آخر : وإذا نشزت المرأة على زوجها ، جاز له أن يهجرها في المضاجع وفي الكلام ،
ويضربها ولا يبلغ بضربها حدّا ولا يكون ضربا مبرّحا ، ويتوفّى وجهها. ولا يهجرها
بترك الكلام أكثر من ثلاثة أيّام.
جاء في فقه
الرضا : والضرب بالسواك وشبهه ضربا رفيقا أي برفق.
وفي جامع
الأخبار للصدوق عن النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّي أتعجّب ممّن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى. لا
تضربوا نساءكم بالخشب فإنّ فيه القصاص ، ولكن اضربوهنّ بالجوع والعرى ، حتّى
تريحوا في الدنيا والآخرة». وجاء في آخر الحديث : «احفظوا وصيّتي في أمر نسائكم
حتّى تنجوا من شدّة الحساب ، ومن لم يحفظ وصيّتي فما أسوأ أحاله بين يدي الله.
وفي هذا الحديث
صراحة بأنّ المراد من الضرب في الآية هو التأديب ، ولكن لا بالعصا والسوط ـ كما
يفعل مع البهائم ـ ولكن بالتضييق في المطعم والملبس ونحوهما. وهذا أوفق بتعديل
المعيشة معها.
وثانيا : النهي
عن ضربهنّ ، والتشديد على المنع ، منعا يجعل المتخلّف من شرار الامّة وليس من
خيارهم!
__________________
جاء في الحديث
: إنّ نساء كثيرا من أزواج أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله أطافن ببيوت آل الرسول يشكين أزواجهنّ ـ حيث رأوا إباحة
ضربهنّ ـ فقال رسول الله : «ليس أولئك خياركم».
وأخرج ابن سعد
والبيهقي بالإسناد إلى أمّ كلثوم بنت أبي بكر قالت : كان الرجال نهوا عن ضرب
النساء ، ثمّ شكوهنّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأجاز لهم ضربهنّ ، ولكنّه صلىاللهعليهوآله أضاف قائلا : «ولن يضرب خياركم».
وفي رواية ابن
ماجة : ... فلمّا أصبح رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «لقد طاف بآل محمّد سبعون امرأة ، كلّ امرأة
تشتكي زوجها! فلا تجدون أولئك خياركم».
وأخرج عبد
الرزاق عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد
، يضربها أوّل النهار ثم يضاجعها آخره».
قالت عائشة :
ما ضرب رسول الله صلىاللهعليهوآله خادما له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا.
ولم يؤثر عن
أحد من الأئمة المعصومين عليهمالسلام الأطهار ولا من الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار أن
واجهوا نساءهم بغضاضة فضلا عن الضرب واللطم. بل كانت شيمتهم العفو والغفران ، كما
مرّ في حديث الإمام الصادق عن أبيه الإمام الباقر عليهالسلام.
وثالثا :
التوصيات الأكيدة بشأن المرأة والتحفّظ على كرامتها والأخذ بجانبها في عطف وحنان
ورأفة ورحمة ، بعيدا عن الغلظة والشدّة ، بل حتّى مؤاخذتها على ما فرط منها ما سوى
العفو والغفران.
جاء في رسالة
الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام إلى ابنه الحسن عليهالسلام : «.. فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ، ولا تعد
بكرامتها نفسها ...».
أي خذ بكرامتها
، ولا تجعلها بحيث تضطرّ إلى أن تستشفع بآخر ، فلتكن كرامة نفسها لديك هي الشفيعة
لها دون غيرها. وجاء في
__________________
رواية الكليني : «واغضض بصرها بسترك ، واكففها بحجابك ، ولا تطمعها أن تشفع
بغيرها ...».
وروى الكليني
بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليهالسلام فيما ذكر من حقوق المرأة على زوجها قال : «وإن جهلت غفر
لها» وزاد : «كانت امرأة عند أبي (الإمام الباقر عليهالسلام) تؤذيه فيغفر لها».
وفي وصيّة
الإمام لابنه محمد ابن الحنفيّة ما يشبه وصيته لابنه الحسن ، وزاد : «فدارها على
كلّ حال وأحسن الصحبة لها ليصفوا عيشك».
وأوصى الإمام
الصادق عليهالسلام يونس بن عمّار بالإحسان إلى زوجته ، فسأله : وما
الإحسان؟ قال : «... واغفر ذنبها ...».
وفي حديث : «داووا
عيّهن بالسكوت». وفي لفظ آخر : «استروا العيّ بالسكوت».
وقال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : «ما زال جبرائيل يوصيني بالمرأة ، حتّى ظننت أنّه لا
ينبغي طلاقها إلّا من فاحشة مبيّنة».
وروى الصدوق
بإسناده إلى الصادق عليهالسلام قال : «رحم الله عبدا أحسن فيما بينه وبين زوجته ، فإنّ
الله عزوجل قد ملّكه ناصيتها وجعله القيّم عليها».
وجاء في الحديث
السابق تفسير الإحسان بالغضّ عنها والستر عليها.
وقد فسّر القاضي
ابن البرّاج القيمومة هنا بالقيام بحقوقها التي فرض الله لها على الزوج. قال :
وقال تعالى (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ). يعني : أنّهم قوّامون بحقوق النساء التي لهنّ على
الأزواج.
__________________
وهذا هو معنى
قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ). ويتأكّد بقوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). قال ابن البرّاج : يعني أنّ لكلّ واحد منهما ما عليه
لصاحبه ، يجمع بينهما من حيث الوجوب.
وقد لعن رسول
الله صلىاللهعليهوآله من ضيّع حقوق امرأته ولم يراع جانبها. قال : «ملعون
ملعون من يضيّع من يعول».
وفي حديث آخر :
«كفى بالمرء هلاكا أن يضيّع من يعول».
وقال صلىاللهعليهوآله «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي».
وقال : «خيركم
خيركم لنسائه ، وأنا خيركم لنسائي».
وأخرج الترمذي
وصحّحه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص ، أنّه شهد حجّة الوداع مع رسول الله
صلىاللهعليهوآله قام وخطب ، وفيما قال في خطبته : «ألا واستوصوا بالنساء
خيرا ، فإنّما هنّ عوان عندكم ، ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك إلّا أن يأتين
بفاحشة مبيّنة ، فإن فعلن فاهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ ضربا غير مبرّح».
قوله : «عوان
عندكم» يعني : إنهنّ قد قضين عندكم عمرا وفقدن ريعان شبابهنّ عندكم.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «خياركم خياركم لنسائهم».
وقال : «ومن
اتّخذ زوجة فليكرمها».
وفي رواية أبي
القاسم بن قولويه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من اشتدّ لنا حبّا اشتدّ للنساء حبّا».
__________________
وفي كتاب
النوادر للراوندي : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «اعطينا أهل البيت سبعة لم يعطهنّ أحد كان قبلنا ـ وعدّ
منها ـ : والمحبّة للنساء».
وفيه أيضا :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : كلّما ازداد العبد إيمانا ازداد حبّا للنساء.
والمراد بالحبّ
في مثل هذه الأحاديث : الإشفاق والإرفاق والموادّة والتحفّظ على كرامة المرأة على
مستواها الإنساني الرفيع ، وليس النظر إلى جانب الشهوة ، كلّا وحاشا.
وفي حديث
الحولاء جاءت إلى النبي صلىاللهعليهوآله تسأله عن حقّ الرجل على المرأة ، وعن حقّ المرأة على
الرجل ـ إلى أن قالت : ـ فما للنساء على الرجال؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «أخبرني أخي جبرائيل ، ولم يزل يوصيني بالنساء حتّى
ظننت أن لا يحلّ لزوجها أن يقول لها : أفّ! يا محمّد ، اتّقوا الله عزوجل في النساء ، فإنّهنّ عوان بين أيديكم ، أخذتموهنّ على
أمانات الله ـ إلى أن قال ـ فاشفقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبهنّ حتّى يقفن معكم ، ولا
تكرهوا النساء ولا تسخطوا بهنّ».
وروى الصدوق في
كتابه «علل الشرائع» و «الأمالي» بالإسناد إلى أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «فداروهنّ على كلّ حال ، وأحسنوا لهن المقال ،
لعلّهنّ يحسنّ الفعال».
وعن الصادق عن
أبيه عليهماالسلام : «من اتّخذ امرأة فليكرمها ، فإنّما امرأة أحدكم لعبة
، فمن اتّخذها فلا يضيّعها».
* * *
وبعد ، فإنّ
المتحصّل من تلكم الأحاديث المتوفّرة أنّ للمرأة كرامتها الإنسانية الرفيعة ، وعلى
المرء أن يحافظ على كرامتها ولا يشينها ولا يهينها ، ويحسن المعاشرة معها ، ويجعل
نفسه ونفسها شريكين متوازيين في إدارة شئون الحياة العائلية ، بتوزيع
__________________
المسئوليات توزيعا عادلا ، ولا يكرهها على شيء ، بل يستميل خاطرها ويستميح
جانبها ، ويعاشرها برفق ومداراة ، فإنّها ريحانة وليست بقهرمانة. وإذا رأى منها
زلّة غضّ بصره عنها ، وإذا أحسّ الشقاق واللجاج أحسن المداراة معها ليستميح خاطرها
المرهف الرقيق. فلا يغلظ ولا يحتدّ معها ، فإنّهنّ عوان (خاضعات) لكم ، فاشفقوا
عليهنّ وطيّبوا قلوبهنّ ، حتّى يقفن معكم ، ولا تكرهوهنّ ولا تسخطوا بهنّ ـ كما
مرّ في الحديث النبوي ـ فداروهنّ على كلّ حال ، وأحسنوا لهنّ المقال ، لعلّهنّ
يحسنّ الفعال ـ كما مرّ في كلام الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام. فمن اتّخذ زوجة فليكرمها ، فإنّما هي لعبة ، فمن
اتّخذها فلا يضيّعها كما قال الإمام الصادق عليهالسلام.
وأمّا الضرب ،
فقد منع منه منعا باتّا ، إلّا إذا كان غير مبرّح ولا شائن ، والأولى أن يكون
تأديبا عن طريق التضييق عليها في الإنفاق ، لا الضرب باليد ولا بالعصا.
والأولى من ذلك
ترك الضرب البتة اقتداء بالنبيّ الأكرم والأئمة المعصومين عليهم صلوات المصلّين. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللهَ كَثِيراً).
ومن ترك هذه
الاسوة الحسنة لم يكن متّبعا لنبيّ الإسلام. (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).
وخياركم خياركم
لنسائهم ، والنبيّ خير الناس لنسائه. ألا ومن ضرب امرأته أو لطمها فهو أحقّ بالضرب
واللطم ، ولم يكن من خيار الامّة ، ولعلّه من شرارهم ، والعياذ بالله.
ذلك أنّها إذا
فعلت أمرا فلعلّها من جانب غلبة العاطفة عليها ، وهي جيّاشة. أمّا الرجل فلما ذا
يسترسل قيادته لأحاسيس عابرة ، ولا يستسلم للعقل الرشيد ، فهو أولى بالضرب
والتأديب. وعلى أي حال فهو ليس من خيار الامّة ، ممّن تربّوا على منهج التربية
الإسلامية الرفيعة.
ونتيجة على ذلك
: كانت الآية بظاهرها المطلق منسوخة نسخا تمهيديّا ، كان
__________________
الناسخ لها تلك التوصيات الأكيدة بشأن المرأة ، والأخذ بجانبها والحفاظ على
كرامتها. وكذا المنع عن ضربها على أيّ نحو كان إلّا ما لا يعدّ ضربا ، وهو بالعطف
والحنان أشبه منه إلى الإسلام. وهكذا عمل الرسول وكبراء الامّة ، ممّن امرنا
باتّباعهم على كلّ حال.
إذن ، فالأخذ
بظاهر إطلاق الآية أخذ بظاهر منسوخ ، ومخالفة صريحة لمنع الرسول وتوصياته البالغة
، وكذا الأئمة الطاهرين من بعده.
(وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ)
لحجاب المرأة ـ
في الإسلام ـ مكانة رفيعة ، تصونها عن الابتذال وتحفظ على كرامتها دون الانحطاط. إنّها
محترمة احترام إنسان كريم لها عزّها وشرفها التليد وليس بطارف ، ولم يكن فرض
الحجاب عليها إلّا صيانة لهذا الشرف وحفاظا على ذاك العزّ ، فلا تسترسل حيث ساقها أهل الاستهواء.
هذا فضلا عن
أنّ الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ، لا تهاج فيه الشهوات في كلّ لحظة ولا
تستثار فيه دفعات البدن في كلّ حين. فعمليّات الاستثارة المستمرّة تنتهي إلى سعار
شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة ، والحركة المثيرة ، والزينة
المتبرّجة ، والجسم العاري ... كلّها لا تصنع شيئا إلّا أن تهيج ذلك السعار
الحيواني المجنون ، وإلّا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فإمّا الإفضاء الفوضوي
الذي لا يتقيّد بقيد ، وإمّا الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد
الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب.
وإحدى وسائل
الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة ، وإبقاء الدافع
الفطري العميق بين الجنسين سليما وبقوّته الطبيعية ، دون استثارة مصطنعة ، وإنّما
تصريفه في موضعه المأمون النظيف.
__________________
ففي الحديث عن
الإمام الرضا عليهالسلام فيما كتبه جوابا عن مسائل محمّد بن سنان : «وحرّم النظر
إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهنّ من النساء لما فيه من تهييج
الرجال وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يجمل ...».
قال سيّد قطب :
ولقد شاع : أنّ النظرة المباحة ، والحديث الطليق ، والاختلاط الميسور ، والدعابة
المرحة بين الجنسين والاطّلاع على مواضع الفتنة المخبوءة ... شاع أنّ كلّ هذا
تنفيس وترويح ، وإطلاق للرغبات الحبيسة ، ووقاية من الكبت ، ومن العقد النفسية ،
وتخفيف من حدّة الضغط الجنسي ، وما وراءه من اندفاع غير مأمون ... إلخ.
شاع هذا على
أثر انتشار بعض النظريّات الماديّة القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي
تفرّقه من الحيوان ، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ... ولكن
هذا لم يكن سوى فروض نظرية ، رأيت بعيني في أشدّ البلاد إباحية وتفلّتا من جميع
القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية ، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم ، شاهدت في
البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي بكلّ صوره
وأشكاله أنّ هذا كلّه لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنّما انتهى إلى
سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلّا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع. وشاهدت
الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهومها أنّها لا تنشأ إلّا من الحرمان وإلّا من
التلهّف على الجنس الآخر المحجوب. شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكلّ أنواعه
، ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيّده قيد ولا يقف عند حدّ ، وللصداقات بين
الجنسين تلك التي يباح معها كلّ شيء ، وللأجسام العارية في الطريق ، وللحركات
المثيرة والنظرات الجاهرة ، واللفتات الموقظة ... كلّ ذلك لما يدلّ بوضوح
__________________
على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريّات التي كذّبها الواقع المشهود.
إنّ الميل
الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ، لأنّ الله قد ناط به
امتداد الحياة في هذه الأرض ، وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها. فهو ميل دائم
يسكن فترة ثمّ يعود. وإثارته في كلّ حين تزيد من عرامته ، وتدفع به إلى الإفضاء
المادّي للحصول على الراحة. فإذا لم يتمّ هذا انهارت الأعصاب المستثارة ، وكان هذا
بمثابة عملية تعذيب مستمرّة! ... والنظرة تثير! والحركة تثير! والضحكة تثير!
والدعابة تثير! والنبرة المعبّرة عن هذا الميل تثير! ... والطريق المأمون هو تقليل
هذه المثيرات ، بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية ، ثم يلبي تلبية طبيعية. وهذا
هو المنهج الذي يختاره الإسلام ، مع تهذيب الطبع ، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى
في الحياة ، غير تلبية دافع اللحم والدم ، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد.
وفي القرآن
إشارة إلى نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين الرجل
والمرأة : قال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ
اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ).
قال سيّد قطب :
وغضّ البصر من جانب الرجال أدب نفسي ، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطّلاع
على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أنّ فيه إغلاقا للنافذة الاولى من
نوافذ الفتنة والغواية ، ومحاولة عمليّة للحيلولة دون وصول السهم المسموم!
قال الإمام
جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام : «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم ، وكم من نظرة أورثت
حسرة طويلة». قال : «من تركها لله عزوجل لا لغيره أعقبه الله أمنا وإيمانا يجد طعمه». وقال : «النظرة
بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة».
وأمّا حفظ
الفرج فهو الثمرة الطبيعية لغضّ البصر ، أو هو الخطوة التالية لتحكيم
__________________
الإرادة ويقظة الرقابة والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الاولى. ومن ثمّ
يجمع بينهما في آية واحدة ، بوصفهما سببا ونتيجة ، أو باعتبارهما خطوتين متواليتين
في عالم الضمير وعالم الواقع ، كلتاهما قريب من قريب.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لكم ـ أي يغفر لكم ـ أوّل نظرة إلى المرأة فلا
تتّبعوها نظرة اخرى واحذروا الفتنة».
(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) فهو أطهر لمشاعرهم وأضمن لعدم تلوّثها بالانفعالات
الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف ، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط.
وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها وجوّها الذي تتنفّس فيه. قال الإمام
الصادق عليهالسلام : «ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن ينظر بذلك في نسائهم؟!».
والله الذي
يأخذهم بهذه الوقاية ، وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري ، الخبير
بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِما يَصْنَعُونَ).
روى الإمام
جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «من ملأ عينيه من حرام ملأ الله عينيه يوم
القيامة من النار إلّا أن يتوب ويرجع ... ومن صافح امرأة تحرم عليه فقد باء بسخط
من الله عزوجل. ومن التزم امرأة حراما قرن في سلسلة من نار مع شيطان
فيقذفان في النار».
(وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) فلا يرسلن بنظراتهنّ الجائعة المتلصّصة أو الهاتفة
المثيرة تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال. ولا يبحن فروجهنّ إلّا في حلال طيّب
، يلبّي داعي الفطرة في جوّ نظيف ، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه ، عن
مواجهة المجتمع والحياة!
(وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها). والزينة : كلّ ما يفتتن به من المرأة ويثير الرغبة
فيها ممّا يوفّر في جمالها. وبذلك عمّت الحلى وغيرها من مفاتن جسدها المهيّجة ،
كلّ
__________________
ذلك زينة لها يجب عليها التستّر عن الأجانب ، وحتى المحارم فيما سوى الزوج
، ومن ثمّ عقّبها بقوله : (وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) فتسدل الخمار على صدرها حتى يستر مفاتن جيدها وأطراف
صدرها.
نعم سوى مواضع
لا يمكن سترها وهى تزاول التعامل في مسرح الحياة ، كالوجه والكفّين ، في غير ما
ريبة. وفي صحيحة الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق عليهالسلام سأله عن الذراعين من المرأة ، هما من الزينة التي قال
الله : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ ...)؟ قال : «نعم ، وما دون الخمار من الزينة. وما دون
السوارين».
وفي حديث عبد
الله بن جعفر عن الصادق عليهالسلام وقد سئل عن الزينة الظاهرة ، قال : الوجه والكفّان.
تعدّد الزوجات
وأيضا كان الجدل
عنيفا حول مسألة «تعدّد الزوجات». كانت عادة جاهلية ومهينة بموضع المرأة في الحياة
الاجتماعية والاسرية ، حينما نجد الإسلام قد أقرّها (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ).
غير أنّ الآية
نزلت في ظروف خاصّة وعلاجا لمشكلة اجتماعية كانت تقتضيها طبيعة الاسلام الحركية
ولا تزال ، وهو دين كفاح ونضال مستمرّ مع خصوم الإنسانية عبر الأجيال.
كان الإسلام من
أوّل يومه نهضة إنسانية دفاعا عن حريم الإنسان وكسرا لشوكة خصومه الألدّاء. (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ).
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ). فلا يزال الإسلام في كفاح مستمرّ مع المستكبرين في
الأرض وفي صالح
__________________
المستضعفين ، حتّى يتحقّق هذا الهدف المقدّس ويتمكّن الصالحون من الحكم على
أرجاء العالم المعمور.
ولا شكّ أنّ
دينا كان ذلك منهجه وهذا دأبه كانت المشاكل الاجتماعية التي تستعقبها هذا المنهج
الحركي حليفته عبر الأيام ، فلا بدّ هناك من وضع برامج لمعالجتها علاجا حاسما دون
تعقّد العراقيل.
ومن المشاكل
هذه مشكلة الأيتام القصّر وأموالهم إلى جنب الأرامل الشابّات ، التي تخلّفها
الحروب وهي تلتهم الشبّان من الرجال. فلا بدّ من قيمومة بشأن القصّر وعلاج مشكلة
الأرامل دون تفشّي الفساد.
كان المسلمون
بدورهم آنذاك موظّفين بكفالة الأيتام والقيام بشئونهم دون ضياعهم وضياع أموالهم. وربّما
كان بعضهم يتحرّجون من ذلك خشية قصور أو تقصير بشأن اليتامى. وهكذا كانت مشكلة
الأرامل حقيقة واقعة لا مهرب منها. سوى الترخيص في الزواج معهنّ من قبل رجال أكفاء
، وكان في ذلك رعاية لكلا الجانبين : عدم التحرّج في التصرّف في أموال اليتامى حسب
مصالحهم وهم ربائب ، والحئول دون تفشّي الفساد والفحشاء ما دامت المرأة تجد نفسها
في حماية رجل مؤمن كفي. والآية في وقتها نزلت بهذا الشأن.
(وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً).
انظر إلى
التناسب القريب بين قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي الأرامل الشابّات ، وهذا التفريع بالفاء ممّا ينبؤك
على هذا الترابط بين الأمرين بوضوح.
فلنفرض أنّ
مؤسّسات خيرية قامت بشئون اليتامى ، ولكن ما هو العلاج الحاسم
__________________
ـ الدائم مع دوام حركيّة الإسلام ـ بشأن الأرامل ، فيما سوى ترخيص التعدّد
في الزواج ، وعلى شريطة التعادل في حمايتهنّ وفق موازين الشريعة بشأن الأزواج؟!
من ثمّ كانت
قضية الترخيص في تعدّد الزوجات ـ مع ملاحظة هذه الشرائط والظروف والملابسات ـ قضيّة
حاسمة لمشكلة اجتماعية هي من أهمّ المشاكل التي قد تعرقل في سبيل الحركة الإصلاحية
، وهي فريضة إسلاميّة عامّة شاملة ودائمة.
هذا بالنظر إلى
النصّ القرآني الوارد بشأن تشريع تعدّد الزوجات في حالات اضطرارية وظروف حرجة
ومشاكل لا يحلّها سوى هذا التشريع العادل. وكم من مفاسد اجتماعية فظيعة قاستها أمم
إثر حروب عارمة التهمت عامّة الرجال وبقيت النساء الأرامل يبتغين حماية رجال أكفاء
فلا يجدن ، ثمّ سادت الفحشاء وراج الابتذال الخلقي لا في النساء فقط بل في الأطفال
الضيّع الصغار أيضا.
وهذه الحرب
العالمية الثانية كم خلّفت من مساوئ ومفاسد عمّت أرجاء البلاد الاوربيّة ولا سيّما
القطر الألماني الذي تألب عليه حشد المحاربين من كلّ الجهات : حلفاء الدول
الاروبيّة وأمريكا والسوفيت في تحالف ثلاثي ضدّ الألمان المنكسر بعد ذلك التهاجم
العنيف.
ثمّ مع قطع
النظر عن شأن نزول الآية نرى إنّ في هذا التشريع إجابة لواقع الإنسان في فطرته
وصيانة للمجتمع دون تفشّي الفساد فيه ، تشريعا في ظروف خاصّة وفي ظلّ شرائط محدّدة
، فقد جاء الإسلام ليحدّد لا ليطلق ويترك الأمر لهوى الرجل ، فقد قيّد التعدّد
بالعدل وإلّا امتنعت الرخصة. ولكن لما ذا أباح هذه الرخصة؟ إنّ الإسلام نظام
للإنسان ، نظام واقعي إيجابي يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه ويتوافق مع واقعه
وضروراته ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيّرة في شتّى البقاع وشتّى الأزمان
والأحوال. إنّه نظام واقعي إيجابي يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه ومن موقفه
الذي هو عليه ، ليرتفع به في المرتقى الصاعد إلى القمّة السامقة ، في غير إنكار
لفطرته أو تنكّر ، وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال ، وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف.
إنّه نظام لا
يقوم على الحذلقة الجوفاء ، ولا على التظرّف المائع ، ولا على المثالية الفارغة ،
ولا على الامنيّات الحالمة التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته ثمّ
تتبخّر في الهواء.
وهو مع ذلك
نظام يرعى خلق الإنسان ونظافة المجتمع ، فلا يسمح بإنشاء واقع مادّي من شأنه
انحلال الخلق وتلويث المجتمع تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع. بل يتوخّى
دائما أن ينشئ واقعا يساعد على صيانة الخلق ونظافة المجتمع مع أيسر جهد يبذله
الفرد ويبذله المجتمع.
فإذا استصحبنا
معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامى ونحن ننظر إلى مسألة تعدّد الزوجات
فما ذا نرى؟ نرى أنّ هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة ـ تاريخية وحاضرة ـ تبدو
فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج ، على عدد الرجال الصالحين للزواج. فكيف
نعالج هذا الواقع الذي يقع ويتكرّر وقوعه بنسب مختلفة؟ هذا الواقع الذي لا يجدي
فيه الإنكار ، أنعالجه بهزّ الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه حسب الظروف
والمصادفات؟! إنّ هزّ الكتفين لا يحلّ مشكلة! كما أنّ ترك المجتمع ليعالج هذا
الواقع حسبما اتّفق لا يقول به إنسان جادّ يحترم نفسه ويحترم الجنس البشري. فلا
بدّ إذن من نظام ، ولا بدّ إذن من إجراء.
وعندئذ نجد
أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات :
١ ـ أن يتزوّج
كلّ رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج ثمّ تبقى واحدة أو أكثر ـ حسب درجة
الاختلال الواقعة ـ بدون زواج ، تقضى حياتها ـ أو حياتهنّ ـ لا تعرف الرجال
الأكفاء.
٢ ـ أن يتزوّج
كلّ رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجا شرعيّا نظيفا ، ثمّ يخادن أو يسافح واحدة أو
أكثر من هؤلاء اللواتي ليس لهنّ مقابل كفؤ من الرجال ، فيعرفن الرجل خدينا أو
خليلا في الحرام والظلام.
__________________
٣ ـ أن يتزوّج
الرجال الصالحون ـ كلّهم أو بعضهم ـ أكثر من واحدة. وأن تعرف المرأة الاخرى الرجل
، زوجة شريفة في وضح النور لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام.
الاحتمال
الأوّل ضدّ الفطرة وضدّ طبيعة المرأة في شعورها الانوثي ، إذ ليس الاشتغال
بالاكتساب والعمل ممّا يسدّ حاجة المرأة في الحياة ، فإنّ المسألة أعمق بكثير ممّا
يظنّه هؤلاء المتحذلقون السطحيّون. فكما أنّ الرجل يكتسب ويعمل ولكن هذا لا يكفيه
فيروح يسعى للحصول على العشير ، كذلك المرأة ، فهما من نفس واحدة على سواء.
والاحتمال
الثاني ضدّ الاتّجاه الاسلامي النظيف وضدّ قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف وضدّ
كرامة المرأة الإنسانية المترفّعة عن الابتذال.
والاحتمال
الثالث هو الذي يختاره الإسلام ، يختار في إطار محدود وعلى شرائط عادلة ، وهو
العلاج النافع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وللسيّد قطب
هنا بحث مذيّل ومستوف بجوانب الموضوع ، وكذلك صاحب تفسير المنار ، والعلّامة
الطباطبائى في الميزان ، وغيرهم من أعلام.
ثمّ لم يكن هذا
التشريع تشريعا مطلقا بل متقيّدا برعاية العدل وفي رقابة من تقوى القلوب. نعم إنّ
هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في
الضمير ، وهذه التقوى لا تجيش إلّا حين يكون التشريع صادرا من الجهة المطّلعة على
السرائر الرقيبة على الضمائر. عندئذ يحسّ الفرد ـ وهو يهمّ بانتهاك حرمة القانون ـ
أنّه يخون الله ويعصي أمره ويصادم إرادته ، وأنّ الله مطّلع على نيّته هذه ومملى
فعله هذا ، وعندئذ تتزلزل أقدامه وترتجف مفاصله وتخور قواه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ
__________________
رَقِيباً).
(وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً).
(ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
(وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ).
(وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا
ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). هذه هي الرقابة الداخلية التي يحسّ بها كلّ إنسان صاحب
ضمير.
إنّ الله أعلم
بعباده وأعرف بفطرتهم وأخبر بتكوينهم النفسي والعاطفي ـ وهو خلقهم ـ ومن ثمّ جعل
التشريع تشريعه والقانون قانونه والنظام نظامه ، ليكون له في القلوب وزنه وأثره
ومخالفته ومهابته. وإنّ الناس مهما أطاعوا أمثالهم تحت تأثير البطش والإرهاب
والرقابة الظاهرية التي لا تطّلع على الأفئدة فإنّهم لا بدّ متفلّتون منها كلّما
غافلوا الرقابة وكلّما واتتهم الحيلة.
ومن ثمّ قال
تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ... ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي لا تعدلوا وتميلوا على الحقّ إلى الجور. فهذه
المسألة ـ مسألة إباحة تعدّد الزوجات بذلك التحفّظ الذي قرّره الإسلام ـ يحسن أن
تؤخذ بيسر ووضوح وحسم ، وأن تعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها. فالإسلام
نظام يراعي خلق الإنسان ونظافة المجتمع ، فلا يسمح بإنشاء واقع مادّي ملوّث ، من
شأنه انحلال الخلق وتلويث المجتمع ، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع. بل
يتوخّى دائما أن ينشئ واقعا يساعد على صيانة الخلق ونظافة المجتمع مع أيسر جهد يبذله
الفرد ويبذله المجتمع.
تعدّد زوجات النبيّ
هناك مسألة
اخرى ناسب التعرض لها ، فيما رخّص النبيّ صلىاللهعليهوآله لنفسه اختيار تعدّد الزوجات فوق الأربع ، الأمر الذي لم
يرخصه لامّته. وقد اثير حولها عجاج عارم ، محاولة للنيل من قداسة مقامه الكريم. لقد
قام المستشرقون وقعدوا وصاحوا صيحاتهم قصدا إلى
__________________
تشويه سمعة صاحب الرسالة ليصوّروه رجل شهوة منهمكا في غرامه للنساء انهماك
الملوك المترفين. وقد حاكوا أقاصيص حول تزويج النبيّ بعدّة زوجات ـ بعد تجاوزه
العقد الخامس من عمره الكريم ، السنّ التي تفتر بعدها رغبة الرجال في النساء ،
وجعل يكرّرها ويردّدها أمثال «موير» و «أرفنج» و «سبرنجر» و «فيل» و «درمنجم» و «لامنس»
وغيرهم ممّن تناولوا كتابة حياة محمّد صلىاللهعليهوآله لكنّها شهوة التبشير المكشوف تارة ، والتبشير باسم
العلم اخرى.
والخصومة
القديمة للإسلام خصومة تأصّلت في النفوس منذ الحروب الصليبيّة التي تملى على هؤلاء
جميعا ما يكتبون ويسطّرون ، وتجعلهم في أمر زواج النبيّ صلىاللهعليهوآله فيمن تزوّج ، يتجنّون على التاريخ ويحاولون قلب الحقيقة
من واقعها الناصع النزيه إلى ظاهرة مشوّهة كريهة.
أمّا الحقيقة
فهي تشهد بوضوح أنّ محمدا صلىاللهعليهوآله لم يكن رجلا يأخذ بعقله الهوى ، وهو لم يتزوّج من تزوّج
من نسائه بدافع من شهوة فائضة أو غرام عارم. وإذا كان بعض الكتّاب المسلمين في بعض
العصور قد أباحوا لأنفسهم أن يقولوا هذا القول وأن يقدّموا لخصوم الإسلام ـ عن حسن
نيّة ـ هذه الحجّة فذلك لأنّهم انحدر بهم التقليد إلى المادّية ، فأرادوا أن
يصوّروا محمّدا عظيما في كلّ شيء ، عظيما حتّى في شهوات الدنيا. وهذا تصوّر خاطئ
ينكره تاريخ حياته الكريمة أشدّ إنكار ، وتأبى مشيته النزيهة ـ التي عاشها في ذلك
الجوّ الحالك ـ أن تقرّه وتشهد به.
فهو قد تزوّج
من خديجة ـ وهي أكبر منه بسنين ـ وهو في الثالثة والعشرين من عمره ، وهو في شرخ
الصبا وريعان الفتوّة ووسامة الطلعة وجمال القسمات وكمال الرجولية. مع ذلك ظلّت
خديجة وحدها زوجته ثمانيا وعشرين عاما حتّى تخطّى الخمسين. هذا على حين كان تعدّد
الزوجات أمرا شائعا بين العرب ذلك الحين ، وعلى حين كان لمحمّد مندوحة في التزويج
على خديجة أن لم يعش له منها ذكر ، في وقت
__________________
كانت توأد فيه البنات. وقد ظلّ محمّد صلىاللهعليهوآله مع خديجة عليهاالسلام سبع عشرة قبل بعثته واحدى عشرة سنة بعدها ، وهو لا
يفكّر قطّ في أن يشرك معها غيرها في فراشه. كما لم يعرف عنه في حياة خديجة ولم
يعرف عنه زواجه منها أنّه كان ممّن تغريهم مفاتن النساء في وقت لم يكن فيه على
النساء حجاب ، وكانت النساء متبرّجات ، يبدين من زينتهنّ ما حرّمه الإسلام من بعد.
فمن غير الطبيعي أن نراه ـ وقد تخطّى الخمسين ـ ينقلب فجأة هذا الانقلاب الذي
يجعله ما يكاد يرى بنت جحش وعنده نساء خمس حتّى يفتن بها وتأخذ تفكيره ليله ونهاره
حسبما سطّروه.
ومن غير
الطبيعي أن نراه ـ وقد تخطّى الخمسين ـ يجمع في خمس سنوات أكثر من سبع زوجات ، وفي
سبع سنوات تسع زوجات ، وذلك كلّه بدافع من الشهوة الملحّة والرغبة العارمة في
النساء ـ والعياذ بالله ـ رغبة صوّرها بعض الكتّاب المسلمين وحذا الافرنج حذوهم
تصويرا لا يليق في ضعته برجل مادّي ، بله الرجل العظيم الذي استطاعت رسالته أن
تنقل العالم وأن تغيّر مجرى التاريخ وما تزال على استعداد لأن تنقل العالم مرّة
اخرى وتغيّر مجرى التاريخ طورا جديدا ، وهو على وشك التحقّق ونحن على طلائعه بحوله
تعالى وقوّته إن شاء الله.
وإذا كان هذا
عجيبا وكان غير طبيعى فمن العجيب كذلك أن نرى محمّدا صلىاللهعليهوآله تلد له خديجة ما ولدت وهو ما قبل الخمسين ، وأنّ مارية
تلد له إبراهيم وهو حوالي الستّين. ثم لا تلد له نساؤه غير هاتين ، وهنّ بين شابّة
في مقتبل العمر وبين من كملت انوثتها بين الثلاثين والأربعين وبعضهنّ كنّ ذوات ولد
من قبل. فكيف تفسّر هذه الظاهرة الغريبة في حياة النبي؟ هذه الظاهرة التي لا تخضع
للقوانين الطبيعيّة في تسع نسوة جميعا! هذا وقد كان محمّد صلىاللهعليهوآله قد كانت نفسه كإنسان تهفو من غير ريب إلى أن يكون له
ولد!
ثمّ إنّ
التاريخ ومنطق حوادثه أصدق شاهد يكذّب مزعومة المبشّرين والمستشرقين في شأن تعدّد
زواج النبي ، فهو لم يشرك مع خديجة امرأة مدى ثمان وعشرين عاما عاش معها. فلمّا
توفّيت لسنتين قبل الهجرة تزوّج سودة بنت زمعة وكانت
قد توفّي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، ولم يرو راو
أنّها كانت ذات جمال أو ثروة أو مكانة بما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثرا في هذا
الزواج. وإنّما كان زوجها من الرجال السابقين الأوّلين الذين احتملوا الأذى في
سبيل الإسلام وكان ممّن هاجر إلى الحبشة بأمر النبيّ عبر البحر إليها ، وكانت سودة
هاجرت معه وعانت من المشاقّ ما عانى ولقيت من الأذى ما لقي. فإذن تزوّجها النبيّ
بعد ذلك ليعولها وليرتفع بمكانتها إلى امومة المؤمنين. وكان زواجه مع عائشة بعد
شهر وهي لم تبلغ مبلغ النساء ، وبقيت سنتين قبل أن يبني بها ، فليس من العقل أو يرضاه
المنطق أن يكون قد علق قلبه بها وهي في هذه السنّ الصغيرة.
قال الأستاد
هيكل : يؤيّد ذلك زواجه مع حفصة بنت عمر ـ بعد وفاة زوجها خنيس ببدر ـ في غير
حبّ ، بشهادة أبيها عمر ، قال لها ، عند ما آذت هي وعائشة رسول الله : والله لقد
علمت أنّ رسول الله لا يحبّك ولو لا أنا لطلّقك. قال : أفرأيت إذن أنّ محمّدا صلىاللهعليهوآله لم يتزوّج من عائشة ولم يتزوّج من حفصة لحبّ أو لرغبة ،
وإنّما تزوّج منهما ليمتن أواصر هذه الجماعة الإسلاميّة الناشئة. كما تزوّج من
سودة ليعلم المجاهدون من المسلمين أنّهم إذا استشهدوا في سبيل الله فلن يتركوا
وراءهم نسوة وذرّية ضعافا يخافون عليهم عيلة. وهكذا في زواجه من زينب بنت خزيمة
ومن أمّ سلمة. فقد كانت زينب زوجا لعبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر ولم تكن
ذات جمال ، وإنّما عرفت بطيبتها وإحسانها حتّى لقّبت أمّا لمساكين ، وكانت قد
تخطّت الشباب ، فلم تك إلّا سنة أو سنتين ثم قبضها الله. أمّا أمّ سلمة فكانت زوجا
لأبي سلمة وكان لها منه أبناء عدّة. فلمّا توفّي زوجها على أثر جراحة أصابته في
أحد فنغرت عليه ولحق بجوار ربّه. وبعد أربعة أشهر وعشر من وفاته طلب النبيّ إلى
أمّ سلمة يدها فاعتذرت بكثرة العيال وبأنّها تخطّت الشباب ، فما زال بها حتّى
تزوّج منها وحتّى أخذ نفسه بالعناية لها وتنشئة أولادها.
__________________
أفيزعم المبشّرون والمستشرقون بعد ذلك أنّ أمّ سلمة كانت ذات جمال وهو الذي
دعا محمّدا إلى التزوّج منها؟! إن يكن ذلك فقد كانت غيرها من بنات المهاجرين
والأنصار من تفوقها جمالا وشبابا وثروة ونضرة ، ومن لا يبهظه عبء عيالها. لكنّه
إنّما تزوّج منها لهذا الاعتبار السامي الذي دعاه ليتزوّج زينب بنت خزيمة نظير الذي دعاه للتزوّج من حفصة بنت عمر حسبما عرفت.
ما ذا يستنبط
التمحيص التاريخي النزيه من ذلك؟ يستنبط أنّ محمّدا صلىاللهعليهوآله نصح بالزوجة الواحدة في الحياة العادية ، وقد دعا إلى
ذلك بمثله الذي ضربه في حياته الزوجية مع خديجة ، وبه نزل القرآن الكريم (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً).
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ). ولقد نزلت هذه الآيات في اخريات السنة الثامنة للهجرة
بعد أن كان قد بنى بأزواجه جميعا ، ونزلت لتحدّد عدد الزوجات بأربع وقد كان إلى
حين نزولها لا حدّ له ، ممّا يسقط قول القائلين : إنّ محمّدا أباح لنفسه ما حرّم
على الناس!
على أنّه رأى
في ظروف حياة الجماعة الاستثنائية إمكان الحاجة للتعدّد إلى أربع على شرط العدل ،
وهو قد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضرب أيّام غزوات المسلمين واستشهاد من استشهد منهم.
ولعمرك هل
تستطيع أن تقطع بأنّ الاقتصار على الزوجة الواحدة حين تحصد الحروب أو الأوبئة أو
الثورات ألوف الرجال وملايينها ، خير من هذا التعدّد الذي ابيح على طريق الاستثناء؟
* * *
أمّا قصّة زينب
بنت جحش ـ وما أضفى بعض الرواة وأضفى المستشرقون والمبشّرون عليها من أستار الخيال
حتّى جعلوها قصّة غرام وو له ـ. فالتاريخ الصحيح
__________________
يحكم بأنّها من مفاخر نبيّ الإسلام ومواقفه الحاسمة في مكافحة رسوم جاهلية
بائدة ، وأنّه ـ وهو المثل الأعلى للإيمان ـ قد طبّق فيها حديثه الذي معناه : لا
يكمل إيمان المرء حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه. وقد جعل نفسه أوّل من يضرب المثل
لما يضع من تشريع يمحو به تقاليد الجاهلية وعاداتها ، ويقرّ به النظام الجديد الذي
أنزله الله هدى ورحمة للعالمين.
ويكفي لهدم كلّ
القصّة ـ حسبما سطّروها ـ أن تعلم أنّ زينب بنت جحش هذه هي ابنة اميمة بنت عبد
المطّلب عمّة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأنّها تربّت بعينه وعنايته ، وكان يعرفها ويعرف أهي
ذات محاسن أم لا قبل أن تتزوّج بزيد ، وأنّه هو الذي خطبها على زيد مولاه. وكان
أخوها يأبى من أن تتزوّج قرشية هاشمية من عبد رقّ اشترته خديجة وأعتقته لرسول الله
، فكان يرى في ذلك عارا على زينب اخته ، كما هو عار عند العرب. لكنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله يريد أن تزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على
العصبية الجاهلة ، وأن لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتقوى. وهو يرى أن يضحّي
من قبيله في كسر شوكة جاهلية ، فلتكن زينب بنت عمّته ـ وهي امرأة صالحة مطيعة
لربّها خاضعة لصالح الإسلام ـ هي التي تحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب وهذا
الهدم لعاداتها الجاهلة ، مضحّية في ذلك بما يقول الناس عنها ممّا تخشى سماعه.
فاستسلمت هي
لما فاتحها الرسول بشأن مكافحة عملية ، ابتغاء مرضاة الله. وفي ذلك نزلت الآية : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً). لم يبق أمام عبد الله واخته زينب بعد نزول هذه الآية
إلّا الإذعان والاستسلام ، فقالا : رضينا يا رسول الله. فلمّا سارت زينب إلى زوجها
لم يتلاءم خلقها مع زيد ، ولعلّه لأسباب ترجع إلى أعراف شبّ عليها كلّ منهما
وعادات ورثاها من أصل نشأتهما. وربّما كانت تفخر عليه أو تحتقره حسب فطرتها فلم
يكن زيد يتحمّلها واشتكى إلى النبيّ غير مرّة من سوء معاملتها إيّاه واستأذنه غير
مرّة في
__________________
تطليقها ، فكان النبيّ يجيبه : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ). ولعلّه أيضا كان يشيء إليها في معاشرته معها غير
المتناسبة لشأنها ، الأمر الذي يشي إليه الأمر بتقوى الله. لكنّ زيدا لم يطق الصبر
معها حيث بعد الشقّة بين خلقهما فطلّقها.
وكان النبيّ صلىاللهعليهوآله يعلم بهذه العاقبة ، وأنّ وراءها حكمة اخرى يجب تنفيذها
لإبطال عادة جاهلية اخرى كان عليها العرب. كانوا يدينون بشأن الأدعياء أنّ لهم
اتّصالا بالأنساب من إعطائهم جميع حقوق الأبناء وإجراء أحكامهم عليهم حتّى في
الميراث وحرمة النسب. أمّا الإسلام فلم يكن يرى للمتبنّي واللصيق سوى حقّ المولى
والأخ في الدين لا أكثر (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوالِيكُمْ).
فهنا يأتي دور
إبطال هذه العادة الجاهلية إبطالا عمليّا ، والمترشّح لهذه التفدية أو التضحية هو
نفس النبيّ الكريم عليه وعلى آله أفضل صلوات المصلّين ، إذ لم يكن من العرب من
يستطيع أن يقوم بهذه التضحية وينقض بها تقاليد الأجيال السالفة! سوى محمد نفسه
الذي كان على قوّة عزيمة وعميق إدراك لحكمة الله.
هذا ما كان
النبيّ يعرفه بقوّة فطنته ، وأن سيئول إلى ذلك ، ولكن كان كلّما يراجعه زيد بشأن
تطليق زينب يوصيه بالإمساك بزوجه ، وهو يدري في قرارة نفسه أنّه يطلّقها لا محالة
، وأن سوف يؤمر بالتزوّج منها ، وكان يخفي ذلك في نفسه وما كان يبديه (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ. وَتُخْفِي
فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي سوف يبدو أنّ وراء هذه التطليقة حكمة اخرى يجب
إجراؤها. (وَتَخْشَى النَّاسَ) في إبداء ما يكنّه صدرك من معرفة حكمة الله. (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا
قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ
اللهِ مَفْعُولاً).
__________________
والآيات
التالية لها توضّح من هذه الحكمة أكثر توضيحا :
(ما كانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ
وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ
رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).
ونلفت النظر
هنا نكتتان : الاولى : أنّ الذي كان يخفيه النبيّ في نفسه وأبداه الله ، كان علمه صلىاللهعليهوآله بمآل الأمر وأنّ هذا الزواج سينتهي إلى الفراق ، تمهيدا
لتحقيق حكمة اخرى دبّرها الله تعالى في تحكيم شريعته في الأرض.
والنكتة
الثانية : كانت خشيته صلىاللهعليهوآله هي خوف أن تثور ثائرة الجاهلية الاولى ، فلا تتحمّل
العرب نقض عاداتها الموروثة واحدة تلو اخرى ، وكانت ضربة قاضية على عاداتها التي
جرت عليها آباؤهم الأوّلون. ومن ثمّ طمأنه تعالى ووعده بظهور دينه وهيمنته على كلّ
طريقة أو عادة تكاد تعرقل سبيله إلى شريعة الله (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ
مِمَّا يَمْكُرُونَ).
(وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ).
تحرير الرقيق تدريجيا
وهكذا الأمر
بشأن ملك اليمين ، أقرّه الإسلام في ظاهر الحال ، ولكن قرينا مع تمهيدات تزعزع من دعائمه
وتجعله على شرف الانهيار.
جاء الإسلام ،
والرّقّ نظام معترف به في جميع أنحاء العالم ، بل كان عملة اقتصاديّة واجتماعيّة
متداولة ، لا يستنكرها أحد ، ولا يفكّر في إمكان تغييرها أحد. لذلك كان تغيير هذا
النظام أو محوه أمرا يحتاج إلى تدرّج شديد وزمن طويل. وقد احتاج إبطال الخمر إلى
__________________
بضع سنوات. والخمر عادة شخصيّة قبل كلّ شيء ، وإن كانت ذات مظاهر اجتماعيّة
، وكان بعض العرب أنفسهم في الجاهليّة يتعنّفون عنها ، ويرون فيها شرّا لا يليق
بذوي النفوس العالية. والرّقّ كان أعمق في كيان المجتمع ونفوس الأفراد ، لاشتماله
على عوامل شخصيّة واجتماعية واقتصاديّة. ولم يكن أحد يستنكره كما أسلفنا. لذلك كان
إبطاله في حاجة إلى زمن أطول ممّا تتّسع له حياة الرسول ، وهي الفترة التي كان
ينزل فيها الوحي بالتنظيم والتشريع. فلو كان الله يعلم أنّ إبطال الخمر يكفي فيه
إصدار تشريع ينفذ لساعته ، لما حرّمها في بضع سنوات. ولو كان يعلم أنّ إبطال
الرّقّ يكفي له مجرّد إصدار «مرسوم» بإلغائه ، لما كان هناك سبب لتأخّر هذا
المرسوم!
كان الرقيق في
عرف الرومان ـ وهم الأصل في استرقاق الأناسي ـ يعدّ «شيئا» لا «بشرا» (شخصا
إنسانيّا)! شيئا لا حقوق له البتّة ـ كالبهائم والأمتعة ـ وإن كان عليه كلّ ثقيل
من الواجبات.
ولنعلم أوّلا :
من أين كان يأتي هذا الرقيق؟ كان يأتي من طريق الغزو والنهب والأسر ، ولم يكن
الغزو لفكرة ولا لمبدإ ، وإنّما كان سببه الوحيد شهوة الاستيلاء والاستثمار
واستعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة المترفين. فلكي يعيش الروماني عيشة البرزخ
والترف ، يستمتع بالحمّامات الباردة والساخنة ، والثياب الفاخرة ، وأطائب الطعام
من كلّ لون ، ويغرق في المتاع الفاجر من خمر ونساء ورقص وحفلات ومهرجانات ، كان لا
بدّ لكلّ هذا من استعباد الشعوب الاخرى وامتصاص دمائها في سبيل هذه الشهوة الفاجرة
كان الاستعمار الروماني ، وكان الرّقّ الذي نشأ من ذلك الاستعمار.
أمّا الرقيق
فقد كانوا ـ كما ذكرنا ـ أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر. كانوا يعملون
في الحقول وهم مصفّدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار ، ولم
يكونوا يطعمون إلّا إبقاء على وجودهم ليعملوا ، لا لأنّ من حقّهم ـ حتّى كالبهائم
والأشجار ـ أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء. وكانوا ـ في أثناء العمل ـ يساقون بالسوط
، لغير شيء إلّا اللذّة الفاجرة التي يحسبها السيّد أو وكيله في تعذيب المخلوقات. ثمّ
كانوا
ينامون في «زنزانات» مظلمة كريهة الرائحة تعيث فيها الحشرات والفئران ،
فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين في الزنزانة الواحدة ـ بأصفادهم ـ فلا
يتاح لهم حتّى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات.
ذلك كان الرقيق
في العالم الروماني. ولا نحتاج أن نقول شيئا عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ ، وعن
حق السيّد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أن يكون له حقّ الشكوى ، ودون أن
تكون هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها ، فذلك لغو بعد كلّ الذي سردناه.
ولم تكن معاملة
الرقيق في فارس والهند وغيرها ، تختلف كثيرا عمّا ذكرنا من حيث إهدار إنسانيّة
الرقيق إهدارا كاملا ، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقّا مقابلها ، وإن كانت
تختلف فيما بينها (الرومان والفرس والهند) قليلا أو كثيرا في مدى قسوتها وبشاعتها.
وإذا كان هذا
شأن الرقيق في بلاد متحضّرة ، فكيف يا ترى شأنه في أوساط متأخّرة ، في مثل الجزيرة
المتوغّلة في جهالة العماء والغيّ والفساد. كان يعيش أحدهم على حساب دمار الآخرين
وكان ذلك مفخرا لهم. يقول أحدهم :
أبحنا حيّهم
قتلا وأسرا
|
|
عدى الشمطاء
والطفل الصغير!
|
وكفى لشناعة
حالتهم الاجتماعيّة ، وأد البنات وقتل الأولاد مخافة الإملاق ، وأشنع من الجميع : التعيّش على حساب بغاء الفتيات.
ففي مثل هذا
المجتمع الذي يعيش الأسياد على حساب إكراه الفتيات (الأرقّاء) على البغاء وارتكاب
الفحشاء ، جاء الإسلام ليكافح ، فمن أين يكافح ، وكيف يكافح؟
جاء الإسلام
ليردّ لهؤلاء البشر إنسانيّتهم المغتصبة منذ عهد سحيق!
جاء ليقول
للسّادة عن الرقيق : أنتم وهم سواء (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ). وقال يوم الفتح
__________________
بمكّة : «أيّها النّاس ، إنّ الله قد أذهب عنكم عبية الجاهليّة وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان : برّ تقيّ ، كريم على
الله. وفاجر شقيّ ، هيّن على الله. والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب. قال
الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).
ومعنى ذلك أنّ
الناس كلّهم ـ الأسياد والعبيد ـ إخوة من ولد أب واحد وأمّ واحدة. ولا فضل فيمن
أصله من تراب إلّا بالأحساب.
جاء في رسالة
الحقوق التي بعثها الإمام زين العابدين عليهالسلام إلى بعض أصحابه : «وأمّا حقّ مملوكك فأن تعلم أنّه خلق
ربّك وابن أبيك وأمّك ولحمك ودمك ...».
وفي ذلك فرض
الأخوّة ـ الأصيلة ـ بين السيّد وعبده المملوك له. الأمر الذي لم يكن يطيقه منطق
البشريّة آنذاك ، لكن الإسلام فرضه فرض حتم.
جاء في مسائل
على بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام : الرجل يقول لمملوكه : يا أخي ويا ابني ، أيصلح ذلك؟
قال عليهالسلام : لا بأس.
أي لا حزازة
بعد فرض المساواة في أصل النسب!
وزيادة في
رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم : «لا يقل أحدكم : هذا عبدي وهذه أمتي ،
وليقل : فتاي وفتاتي».
وعلى ذلك يستند
أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري : «احمله خلفك ، فإنّه أخوك وروحه مثل
روحك».
وقد فرض
الإسلام على السّادة أن يساووا بين أنفسهم والعبيد من غير أن يتفاضلوا عليهم.
__________________
قال المعرور بن
سويد الأسدي الكوفي ـ من كبار التابعين ـ : دخلنا على أبي ذرّ بالرّبذة ، فإذا
عليه برد ، وعلى غلامه مثله. فقلنا : لو أخذت برد غلامك إلى بردك ، كانت حلّة ،
وكسوته ثوبا غيره! قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه
تحت يده ، فليطعمه ممّا يأكل ، وليكسه ممّا يلبس ، ولا يكلّفه ما يغلبه ، فإن
كلّفه ما يغلبه فليعنه.
وروى إبراهيم
بن محمّد الثقفي في كتاب الغارات بإسناده إلى مختار التمّار قال : أتى أمير
المؤمنين عليهالسلام سوق الكرابيس ، فاشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم ،
والآخر بدرهمين. فقال : يا قنبر ، خذ الذي بثلاثة! قال : أنت أولى به يا أمير
المؤمنين ، تصعد المنبر وتخطب الناس. قال : يا قنبر ، أنت شابّ ولك شره الشباب ،
وأنا أستحيي من ربّي أن أتفضّل عليك ، لأنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : ألبسوهم ممّا تلبسون ، وأطعموهم ممّا تأكلون.
وكان من مكارم
أخلاقه صلىاللهعليهوآله الأكل مع العبيد ، وليكون سنّة من بعده ، أي التنازل مع
الأرقّاء ، لغرض الترفيع بهم. وكان يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير ، ولا يترفّع
عليه.
وفي كتاب
الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام إلى ابنه الحسن : «وأحسن للمماليك الأدب ...».
وهكذا كان يفعل
ذرّيّته الأطياب : كان الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام إذا خلا جمع حشمه كلّهم الصغير والكبير فيحدّثهم ويأنس
بهم ويؤنسهم. وكان إذا جلس على المائدة لا يدع صغيرا ولا كبيرا حتّى السائس
والحجّام إلّا أقعده معه على مائدته.
وفي حديث آخر :
كان إذا خلا ونصبت مائدته ، أجلس معه على مائدته مماليكه
__________________
ومواليه ، حتّى البوّاب والسائس.
ومن هنالك لم
يعد الرقيق شيئا ـ كما حسبه الرومان ـ وإنّما صار بشرا له روح كروح السّادة ، وقد
رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوّة الكريمة ، لا في عالم المثال والأحلام فحسب ، بل
في عالم الواقع كذلك.
* * *
وكان صلىاللهعليهوآله يشدّد النكير على من أساء بعبده ويؤكّد على وجوب الرفق
معهم. قال رسول الله : ألا أنبّئكم بشرّ الناس : من سافر وحده. ومنع رفده. وضرب
عبده.
قال أبو مسعود
الأنصارى : كنت أضرب غلاما ، فسمّعني من خلفي صوتا : اعلم أبا مسعود ، اعلم أبا
مسعود ، إنّ الله أقدر عليك منك عليه ، فالتفتّ فإذا هو النبي صلىاللهعليهوآله فقلت : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله هو حرّ لوجه الله. فقال : أما لو لم تفعل للفعتك النار.
قال الصادق عليهالسلام : من افترى على مملوك عزّر ، لحرمة الإسلام.
وروى قتادة عن
الحسن عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ، ومن
أخصى عبده أخصيناه».
وروى الشيخ
بإسناده الصحيح إلى السكوني عن الصادق عن آبائه عن علي عليهمالسلام أنّه قتل حرّا بعبد قتله عمدا.
__________________
وروى أنّ علي
بن الحسين عليهالسلام ضرب مملوكا ثمّ دخل إلى منزله فأخرج السوط ، ثمّ تجرّد
له ، قال : اجلد علي بن الحسين فأبى ، فأعطاه خمسين دينارا.
وبذلك قد أصبح
الرقيق كائنا إنسانيّا له كرامة يحميها القانون ، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول
ولا بالفعل. فأمّا القول فقد نهى الرسول ، السّادة عن تذكير أرقّائهم بأنّهم
أرقّاء وأمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودّة الأهل ، وينفي عنهم صفة العبوديّة ،
وقال لهم في معرض هذا التوجيه : «إنّ الله ملّككم إيّاهم ، ولو شاء لملّكهم إيّاكم».
فهي إذن مجرّد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقا ، وكان من الممكن أن يكونوا
سادة لمن هم اليوم سادة! وبذلك يغضّ من كبرياء هؤلاء ، ويردّهم إلى الآصرة
البشريّة التي تربطهم جميعا ، والمودّة التي ينبغي أن تسود علاقات بعضهم ببعض.
وأمّا الاعتداء
الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل ، «من افترى على مملوك عزّر ..» و «من
جدع عبده جدعناه ...». وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانيّة الكاملة بين
الرقيق والسّادة ، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة من
البشر ـ التي لا يخرجها وضعها العارض عن صفتها البشريّة الأصيلة ـ وهي ضمانات
كاملة ووافية. تبلغ حدّا عجيبا لم يصل إليه قطّ تشريع آخر من تشريعات الرقيق في
التاريخ كلّه ، لا قبل الإسلام ولا بعده ، إذ جعل مجرّد ضرب العبد ـ في غير
التأديب ـ مبرّرا قانونيّا لتحرير الرقيق!!
__________________
بل ورفع من
مكانتهم حتى أجاز الائتمام بهم في الصلاة ـ وهي أفضل عبادات الإسلام ـ. جاء في «قرب
الإسناد» للحميري عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي عليهمالسلام قال : «لا بأس بأن يؤمّ المملوك إذا كان قارئا».
وليكون ذلك
دليلا على صلاحيّتهم لتصدّي جميع المناصب الرسميّة وغير الرسمية في النظام
الإسلامي وأن لا فرق بينهم وبين الأحرار في ذات الأمر. وهذا من المساواة في أفخم
وأضخم شكلها المعقول. ولذلك نرى الرسول صلىاللهعليهوآله قد أمر زيدا مولاه على رأس جيش فيه كبار الأنصار
والمهاجرين. فلمّا قتل زيد ولى ابنه اسامة قيادة الجيش وفيهم أبو بكر وعمر فلم يعط
الرقيق بذلك مجرّد المساواة الإنسانيّة ، بل أعطاه حقّ القيادة والرئاسة على
الأحرار. فأعطى العبيد بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة كلّها.
وقد وصل
الإسلام في حسن المعاملة وردّ الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ، حتى ولقد
آخى الرسول صلىاللهعليهوآله بين بعض العبيد وبعض أكابر الأصحاب من سادة العرب ،
فآخى بين بلال بن رباح وأبي رويحة الخثعمي ، وبين مولاه زيد وعمّه حمزة ، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقيّة تعدل رابطة الدم والنسب.
كما وزوّج بنت
عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد. والزواج مسألة حسّاسة جدّا وخاصّة من جانب المرأة
، فهي تأبى أن يكون زوجها دونها في الحسب والنسب والثراء ، وتحسّ أنّ هذا يحطّ من
شأنها ويغضّ من كبريائها. ولكن الرسول كان يهدف إلى
__________________
معنى أسمى من كل ذلك ، وهو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشريّة
الظالمة ، إلى حيث مستوى أعظم سادة العرب من قريش.
* * *
كلّ ذلك هي
خطرات واسعة لتحرير الرقيق روحيّا ، بردّه إلى الإنسانيّة ، ومعاملته على أنّه بشر
كريم ، لا يفترق عن السادة من حيث الأصل ، وإنّما هي ظروف عارضة حدّت من الحريّة
الخارجية للرقيق في التعامل المباشر مع المجتمع ، وفيما عدا هذه النقطة كانت
للرقيق كلّ حقوق الآدميّين.
ولكن الإسلام
لم يكن ليكتفي بهذا المقدار ، لأنّ قاعدته الأساسيّة العظمى هي المساواة الكاملة
بين البشر ، وهي التحرير الكامل لكلّ بشر! وكلّ الذي تقدّم كان تمهيدا للبلوغ إلى
هذه الغاية ، والتي كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يترقّبها ، إمّا في حال حياته أو فيما بعد ، ترقّبا غير
بعيد.
قال صلىاللهعليهوآله : «ما زال جبرائيل يوصيني بالمماليك حتّى ظننت أنّه
سيجعل لهم وقتا إذا بلغوا ذلك الوقت أعتقوا».
وبالفعل جعل
وسيلتين كبيرتين : هما العتق والكتابة إلى التحرّر التامّ. هذا فضلا عن رفض مطلق
لأسباب الاسترقاق ـ والتي كانت متفشّية وعن طرق معادية ـ والنهب والأسر والإغارة
الغاشمة. كان الإسلام يرفضها رفضا باتّا. وبذلك انسدّ ـ شرعيّا ـ باب الاسترقاق
نهائيا منذ ذلك الحين.
ويكفيك نموذجا
عن شناعة نظام الاسترقاق في العصر الجاهلي ، حادث استرقاق زيد بن حارثة الذي
تبنّاه الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله :
كانت أمّه سعدى
بنت ثعلبة من بني معن من طيئ ، أرادت أن تزور قومها فاصطحبت ابنها زيدا وهو لم
يبلغ الثمانية من عمره ، فما أن وردت القوم إلّا وأغارت عليهم خيل بني القين ،
فنهبوا وسلبوا وأسروا ، ومن جملة الاسارى زيد ، فقدموا به سوق
__________________
عكاظ ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد. فوهبته خديجة للنبيّ صلىاللهعليهوآله بمكّة قبل البعثة ، وكان زيد قد بلغ الثمانية.
وكان أبوه قد
وجد لفقده وجدا شديدا ، قال فيه :
بكيت على زيد
ولم أدر ما فعل
|
|
أحيّ يرجّى
أم أتى دونه الأجل
|
فو الله ما
أدري وإن كنت سائلا
|
|
أغالك سهل
الأرض أم غالك الجبل
|
فيا ليت شعري
هل لك الدهر رجعة
|
|
فحسبي من
الدنيا رجوعك لي علل
|
تذكرنيه
الشمس عند طلوعها
|
|
ويعرض ذكراه
إذا قارب الطفل
|
وان هبّت
الأرواح هيّجن ذكره
|
|
فيا طول ما
حزّني عليه ويا وجل
|
سأعمل نصّ
العيش في الأرض جاهدا
|
|
ولا أسأم
التطواف أو تسأم الابل
|
حياتي أو
تأتي عليّ منيّتي
|
|
وكلّ امرئ
فان وإن غرّه الأمل
|
... إلى آخر أبيات له تنبؤك عن شديد حزنه الذي
لم يزل يكابده ...
ثمّ إنّ اناسا
من كلب (قوم زيد) حجّوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه وقال لهم : أبلغوا عنّي أهلي هذه
الأبيات ، فإنّي أعلم أنّهم جزعوا عليّ فقال :
أحنّ إلى
قومي وإن كنت نائيا
|
|
فإنّي قعيد
البيت عند المشاعر
|
فكفّوا من
الوجد الذي قد شجاكم
|
|
ولا تعملوا
في الأرض نصّ الأباعر
|
فإنّي بحمد
الله في خير أسرة
|
|
كرام معدّ
كابرا بعد كابر
|
فانطلق
الكلبيّون فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه وعند من هو ، فخرج حارثة وأخوه كعب لفدائه
فقدما مكّة فدخلا على النبيّ صلىاللهعليهوآله فقالا : يا ابن عبد المطّلب ، يا ابن هاشم ، يا ابن
سيّد قومه ، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه! فقال : من هو؟
قالا : زيد بن حارثة. فدعاه وخيّره فاختار البقاء في كنف رسول الله صلىاللهعليهوآله ورضيا بذلك.
وكان صلىاللهعليهوآله قد عزم على تبنّيه ، فتبنّاه على ملأ من قريش ، فأصبح
مولاه عن رضا نفسه.
فيا ترى هل من
المعقول أنّ شريعة ـ كشريعة الإسلام الداعية إلى تحرّر الإنسانية ـ تقرّر من
رقّيّة مثل زيد ، بهذا الشكل الفضيع المشجى الذي تمجّه النفوس الأبيّة فضلا عن
العقول الحكيمة!؟
كلّا ، لا
يقرّره أبدا ، ما عرفنا من الإسلام دين الفطرة ، دين الإنسانية المتحرّرة ، الذي
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم.
قالوا :
وهنا يخطر
السؤال الحائر على الأفكار والضمائر : إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلّها
نحو تحرير الرقيق ، وسبق بها العالم كلّها متطوّعا غير مضطرّ ولا مضغوط عليه ،
فلما ذا لم يخط الخطوة الحاسمة الباقية؟ فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرّقّ من حيث
المبدأ ، وبذلك يكون قد أسدى للبشريّة خدمة لا تقدّر ، ويكون هو النظام الأكمل
الذي لا شبهة فيه ، والجدير حقّا بأن يصدر عن الله الذي كرّم بني آدم ، وفضّلهم
على كثير ممّن خلق؟!
قلت : ليس يخفى
على ذوي اللّبّ أنّ الإسلام قد جفّف منابع الرّقّ كلّها ـ كما
__________________
ذكرنا ـ فيما عدا منبعا واحدا لم يكن من المصلحة تجفيفه آنذاك ، وذلك هو
رقّ الحرب ، لملابسات سوف نذكرها. وعليه فقد أعلن ـ لكن في غير صراحة ـ إلغاء نظام
الرّقّ من حيث المبدأ ، وإن كان التشديد عليه بحاجة إلى توفّر شرائط لم تكن مؤاتية
حينذاك ، كما أشرنا إليه وسنشير. وينبغي أن ندرك حقائق اجتماعية وسيكلوجيّة
وسياسيّة أحاطت بموضوع الرّقّ ، وأخّرت هذا الاعلان (الصريح) المرتقب. وإن كان
ينبغي أن ندرك أنّه تأخّر في الواقع كثيرا جدّا عمّا أراد له الإسلام ، وعمّا كان
يمكن أن يحدث لو سار الإسلام في طريقه الحقّ ، ولم تفسده الشهوات والانحرافات.
يجب أن نذكر
أوّلا أنّ الإسلام جاء والرّقّ نظام معترف به في جميع أنحاء العالم كما أسلفنا ،
وكان إبطاله في حاجة إلى زمن. ويكفي الإسلام على أيّ حال أن يكون هو الذي بدأ حركة
التحرير في العالم ، وأنّه في الواقع جفّف منابع الرّقّ القديمة ، لو لا منبع جديد
ظلّ يفيض بالرّقّ من كلّ مكان ، ولم يكن بوسع الإسلام يومئذ القضاء عليه ، لأنّه
لا يتعلّق به وحده ، وإنّما يتعلّق بأعدائه الذين ليس له عليهم سلطان ، ذلك هو رقّ
الحرب. فقد كان العرف السائد يومئذ هو استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم. وكان هذا
العرف قديما جدّا موغلا في ظلمات التاريخ يكاد يرجع إلى الإنسان الأوّل ، ولكنّه
ظلّ ملازما للإنسانيّة في شتّى أطوارها.
وجاء الإسلام
والناس على هذا الحال ، ووقعت بينه وبين أعدائه الحروب ، فكان الأسرى المسلمون
يسترقّون عند أعداء الإسلام ، فتسلب حرّياتهم ، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم
الذي كان يومئذ يجري على الرقيق. وتنتهك أعراض النساء ... عندئذ لم يكن في وسع
الإسلام أن يطلق سراح من يقع في يده من أسرى الأعداء. فليس من حسن السياسة أن
تشجّع عدوّك عليك بإطلاق أسراه ، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يسامون الخسف
والعذاب عند هؤلاء الأعداء. والمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه ،
أو هي القانون الوحيد.
وممّا هو جدير
بالإشارة هنا أنّ الآية الوحيدة الّتي تعرّضت لأسرى الحرب : (فَإِمَّا
مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) ، لم تذكر الاسترقاق للأسرى ، حتّى لا يكون هذا تشريعا
دائما للبشريّة ، وإنّما ذكرت الفداء أو إطلاق السراح بلا مقابل ، لأنّ هذا وذاك
هما القانونان الدائمان ، اللّذان يريد القرآن للبشريّة أن تقصر عليها معاملتها
للأسرى في المستقبل القريب أو البعيد. وإنّما أخذ المسلمون بمبدإ الاسترقاق ،
خضوعا لضرورة قاهرة لا فكاك منها ، وليس خضوعا لنصّ في التشريع الإسلامى.
إذن فلم يلجأ
الإسلام إلى هذا الطريق ، ولم يسترقّ الأسرى لمجرّد اعتباره أنّهم ناقصون في
آدميّتهم. وإنّما لجأ إلى المعاملة بالمثل فحسب ، فعلّق استرقاقه للأسرى على
اتّفاق الدول المتحاربة على مبدأ آخر غير الاسترقاق ، ليضمن فقط ألّا يقع الأسرى
المسلمون في ذلّ الرّقّ بغير مقابل.
ومع هذا فلم
يكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى ، فحيثما أمن لم يسترقّهم. وقد أطلق
الرسول بعض الأسرى بلا فداء ، كما وأخذ من نصارى نجران جزية وردّ إليهم أسراهم ولم
يعهد أنّه صلىاللهعليهوآله استرقّ الأسرى ـ كما كان عليه عرف ذلك اليوم ـ وليضرب
بذلك المثل لما يريد أن تهتدى إليه البشريّة في مستقبلها ، حين تتخلّص من وراثاتها
الكريهة ، وتستطيع أن تستعيد إلى حظيرتها أصالتها الكريمة.
خرافات جاهليّة بائدة
قالوا : هناك
خرافات جاهليّة بائدة جاءت في القرآن جريا مع ثقافة العصر الذي عاشه ، ومتأثّرا
بها ممّا يتنافى وكونه كلام عليم خبير. من ذلك الكلام عن الجنّ والسحر وإصابة
العين ومسّ الجنّ!
غير أنّ هذه
النسبة الظالمة نشأت عن مزايغ الفهم لمعاني القرآن ومزالق الوهم عند مواجهة
تعابيره القويمة.
أمّا الجنّ
فحقيقة ثابتة لا تنكر ، وقد بدت طلائعها منذ عهد غير بعيد. وليس كلّ ما
__________________
لا يدرك بالحواسّ الظاهرة محكوما عليه بالرفض وعدم الوجود ، بعد أن لم تكن
الحواسّ الظاهرة هي لوحدها المقياس للردّ والقبول ـ كما نبّهنا ـ ولم يكن العلم
يوما ما معترفا بهذه الكلّية المنهارة الأساس. فهناك الكثير من أمور لا تقع تحت
معيار الحسّ ولكنّها ثابتة بدليل الوجدان الذاتي وببرهان العقل الحكيم.
وأمّا السحر
فلم يعترف به القرآن في شيء بل رفض إمكان تحقّقه بمعنى تأثيره في قلب الحقائق ،
وإنّما هي شعوذة وحيل ووساوس خبيثة لا أكثر.
وأمّا إصابة
العين فلم يتعرّض لها القرآن في شيء من تعابيره ، سواء أكانت لها حقيقة أم لم تكن.
وكذا مسّ الجنّ وما أشبه ممّا نعرضه بتفصيل :
الجنّ في تعابير القرآن
من الغريب أن
نرى بعض الكتّاب الإسلاميّين يلهجون بما لاكه المستشرقون الأجانب من فرض التعابير
الواردة في القرآن بشأن الجنّ ، تعابير مستعارة من العرب توافقا معهم جدلا كعامل
تنفيذ في أوساطهم على سبيل المماشاة ، لا على سبيل الحقيقة المعترف بها. إذ يبعد
اعتراف القرآن بما لا يعترف العلم التجربي بوجوده أو سوف ينتهي إلى إنكاره رأسا. لكن
ذلك لا يوهن شأن القرآن بعد أن كان تعبيره بذلك ظاهريّا ومجاراة مع القوم. وهكذا
تعبيره عن السحر وإصابة العين تعبير ظاهري وليس على حقيقته.
قالوا : وهذا
نظير تأثّره ظاهرا بالنظام الفلكي البطلميوسي والطبّ الجالينوسي القديمين ، وقد
رفضهما العلم الحديث.
قلت : أمّا
اعتراف القرآن بوجود الجنّ إلى جنب الإنس واشتراكهما في الخلق والتكليف وفي نهاية
المطاف ، فممّا لا يعتريه شكّ ، ولا يسوغ لمسلم يرى من القرآن وحيا من السماء أن
يرتاب في ذلك ، فإنّ هناك وراء عالم الشهود كائنات ملكوتية أعلى تسمّى بالملائكة ،
واخرى أدنى تسمّى بالجنّ. الأمر الّذي صرّح به القرآن الكريم بما لا يدع
__________________
مجالا للريب فيه أو احتمال التأويل. (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ).
(وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). ويبدو أنّ خلق الجنّ كان قبل الإنس ، حيث أمر إبليس
وكان من الجنّ أن يسجد مع الملائكة لآدم ، بعد أن خلقه من طين فأبى
واستكبر وكان من الكافرين.
وأمّا العلم
التجربي فلا متّسع له في هذا المجال ، بعد أن كان سلطانه مهيمنا على عالم الحسّ ،
ومحدودا بآفاقه من غير أن يمكنه لمس ما وراء ستار الغيب فكيف يجوز له بالنسبة إلى
أمر خارج عن سلطانه أن يحكم عليه بنفي أو إثبات أو يجعله موضع رفض أو قبول؟!
نعم ، هناك
لأصحاب المذاهب العقلية من علماء المسلمين وغيرهم من المعتنقين بوحي السماء كلام
عن مدى مقدرة هذا الكائن الغيبي ، وهل له سلطان على التدخّل في شئون الإنس أو
يمسّه بسوء؟ الأمر الذي أنكروه أشدّ الإنكار ، على خلاف أصحاب التزمت في الرأي
ممّن ركضوا وراء أهل البداوة في التفكير ، واتّبعوا خرافاتهم الأساطيرية البائدة.
فالاعتراف
بوجود الجنّ شيء ، ورفض مقدرتهم على التدخّل في شئون الإنس شيء آخر ، والرفض في
هذا الأخير لا يستدعي رفضا في أصل الوجود.
ذهب أصحاب
القول بالعدل إلى أنّه لا يجوز في حكمته تعالى أن يتسلّط كائن غيبي
على كائن عيني فيتلاعب بنفسه وبمقدّراته وهو لا يستطيع الذبّ عن نفسه حيث لا يراه.
وكلّ ما قيل في مسّ جنون وما شابه ، فهو حديث خرافة ومن مزاعم باطلة تفنّده الحكمة
الرشيدة. نعم سوى بعض الوساوس (إيحاءات مغرية) يلقيها شياطين الجنّ على شاكلتها من
الإنس (يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).
(وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ
__________________
إِلى
أَوْلِيائِهِمْ). ويقول الشيطان لمّا قضي الأمر : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ
إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنْفُسَكُمْ).
وزعم الإمام
الرازي أنّ ظاهر المنقول عن أكثر الفلاسفة إنكار وجود الجنّ ، استنادا إلى كلام
الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالته في حدود الأشياء ، حيث يقول : الجنّ حيوان هوائي
متشكّل بأشكال مختلفة. ويعقّبه بقوله : وهذا شرح للاسم. قال الرازي : وهذا يدلّ
على أنّ هذا الحدّ شرح للمراد من هذا اللفظ ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج.
وقد أخذت دائرة
المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربيّة هذا الاستظهار من الرازي مستندا لتنسب
إلى الشيخ الرئيس إنكاره الباتّ لحقيقة الجنّ. جاء فيها : ولكنّ ابن سينا عند
تعريفه لكلمة «جنّ» أكّد في غير مؤاربة أنّه ليست هناك حقيقة واقعة وراء هذه
الكلمة.
غير أنّ ذاك
الاستظهار من الرازي خطأ ، وكانت عبارة الشيخ الرئيس تعني : أنّ هذا التعريف للجنّ
ليس حدّا تامّا ـ حسب مصطلحهم ـ وإنّما هو رسم ناقص لا يعدو شرح الاسم ، كما في
قولهم : سعدانة نبت ، إذ ليس فيه ذكر لذاتيّات المعرّف (الجنس القريب والفصل
القريب) ، ومن ثمّ فهو تعريف ببعض اللوازم والآثار وليس بالجنس والفصل القريبين.
إذن ، فنسبة
إنكار حقيقة الجنّ إلى مثل الشيخ الرئيس ـ كبير الفلاسفة الإسلاميّين ومن ذوي
العقول الراجحة المعتقدة بالإسلام والقرآن ـ جفاء يشبه الافتراء. ومن الغريب أنّ
الإمام الرازي يعقّب ذلك ، بقوله : وأمّا جمهور أرباب الملل والمصدّقين للأنبياء
فقد اعترفوا بوجود الجنّ : يا ترى أليس شيخ الفلاسفة الإسلاميّين من المصدّقين
للأنبياء ولا سيما نبيّ الإسلام والقرآن العظيم؟!
وبعد ، فإذ لم
يعد البحث عن حقيقة الجنّ إلى مسألة فلسفية بحتة ولا إلى فرضية
__________________
علمية محضة ، وإنّما هو إخبار غيبي لا مصدر له سوى وحي السماء ، وقد أكّدت
عليه جميع الكتب السماوية واعتقدته أصحاب الملل ممّن صدّق برسالات الله في الأرض ،
من غير خلاف بينهم في أصل وجوده ، إذن فلا مجال للتراجع تجاه إيهام أن سوف يرفضه
العلم ، مع فرض أن لا متّسع للعلم في هكذا مجالات هي وراء ستار الغيوب!
وللشيخ محمّد
عبده كلام تفصيلي حول الملائكة والجنّ والشياطين ، له وجه وجيه لمن تدبّره بإمعان
، وعبثا حاول بعضهم الإنكار عليه وربّما رميه بالخروج عن مظاهر الدين ، وما هذه
الهجمة إلّا جفاء بشأن عالم مجاهد في سبيل الإسلام خبير.
كلام عن مسّ الجنّ
وأمّا الكلام
عن مسّ الجنّ وأنّ الجنون داء عارض من مسّه فيعالج باللجوء إلى الرقي والتعويذات
ودمدمة الكهنة وأصحاب التسخيرات وما إلى ذلك من خرافات بائدة. فالذي يمكننا القول
فيه : أن ليس في القرآن شيء من ذلك ، حتّى ولا إشارة إليه ، إذ لا شكّ أنّ الجنون
داء عصبيّ وله أنحاء. بعضها صالح للعلاج بأسباب عادية ذكرها الأطبّاء في كتبهم
قديما وحديثا ، وهناك مراكز لمعالجة هذه الأمراض أو التخفيف من وطئتها بالأساليب
العلاجية الطبيعية المتعارفة وليست بالأساليب الغريبة.
وليس في القرآن
ما يبدو منه أنّ صاحب هذا الداء إنّما يصاب على أثر مسّ الجنّ له. نعم سوى
استعماله لهذه اللفظة (المجنون) في أحد عشر موضعا.
وكذا التعبير
بمن به جنّة في خمسة مواضع. وهذا من باب المجاراة في الاستعمال ـ كما نبّهنا ـ حيث كان التفاهم بلسان
__________________
القوم. وليس عن اعتراف بمنشإ هذه التسمية اللغوية. ولا يزال الأطبّاء
المعالجون ـ قديما وحديثا ـ يعبّرون عن المصاب بهذا الداء بالمجنون وعن نفس الداء
بالجنون ، مجاراة مع لغة العامّة ، ولا يعني ذلك اعتقادهم بمسّ الجنّ إيّاه حتميّا.
وتلك دور المجانين معدّة لمعالجة المصابين بهذا الداء أو للحراسة عنهم مرسوم عليها
نفس العنوان وليس إلّا لأجل التفاهم مع العرف الدارج لا غير.
وأمّا قوله
تعالى : (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) فالمراد من المساس هنا هو مسّ وساوسه الخبيثة المغرية ،
والتي هي عبارة عن استحواذه على عقلية اهل المطامع ليتيه بهم الدرب ويجعلهم في
السعي وراء مطامعهم يتخبّطون خبط عشواء وفي غياهب غيّهم يعمهون. وهذا إنّما يعني
استيلاء الشيطان على شراشر وجودهم فعموا وصمّوا (كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ).
(اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ). قال تعالى ـ حكاية عن نبيّ الله أيّوب عليهالسلام ـ : (إِذْ نادى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ). أي مسّني ضرّ وساوسه ودسائسه الخبيثة في سبيل إيقاع
أولياء الله في النصب ومكابدة الآلام ، كما في قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فمسّ الشيطان هو مسّ ضرّه على أثر دسائسه الخبيثة ، لا
الإضرار مباشرة.
التشبيه في رءوس الشياطين
قال تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ. إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ. فَإِنَّهُمْ
لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ).
وهذا أيضا
أخذوه على القرآن ، حيث التعبير برءوس الشياطين جاء على
__________________
ما توهّمته العرب أنّ للشياطين رءوسا على غرار ما توهّموه في الغول. جاء في
شعر امرئ القيس : «ومسنونة زرق كأنياب أغوال».
غير أنّ
الشيطان في اللغة من أوصاف المبالغة مأخوذ من شاط يشيط إذا اشتدّ غيظا وغضبا. يقال
: تشيّط إذا احترق غيظا واشتاط اشتياطا عليه إذا التهب غضبا. وكذا قولهم : استشاط
عليه أي احتدّ عليه غضبا. واستشاط الحمام : نشط. واستشاط من الأمر : خفّ له. واستشاط
فلان أي استقتل وعرّض نفسه للقتل. وأصله من شاط الشيء إذا احترق.
قال ابن فارس :
الشيط من شاط الشيء إذا احترق. ومنه استشاط الرجل إذا احتدّ غضبا. قال ومن هذا
الباب الشيطان. ويطلق على كلّ متمرّد عات من الجنّ والإنس والدّوابّ ،
فهو فعلان ، لتكون الألف والنون زائدتين ، كما في عطشان وغضبان ورحمان. أمّا القول.
بأنّه من شطن ليكون على وزان فيعال فهو غريب ، إذ لم يعهد مثل هذا الوزن في صيغ
المبالغة ، وإن قال به الخليل.
وهكذا الراغب
رجّح كون النون أصليّة بدليل جمعه على شياطين!
وعلى أيّ حال
فهو وصف يطلق على كلّ متمرّد عات بالغ في شططه كالمستشيط غضبا أو الملتهب غيظا. قال
جرير :
أيّام
يدعونني الشيطان من غزلي
|
|
وهنّ يهوينني
إذ كنت شيطانا
|
وقال آخر : لو
أنّ شيطان الذئاب العسّل ... قال الراغب : جمع العاسل وهو الذي يضطرب في عدوه ،
واختصّ به عسلان الذئب. قال : وسمّي كل خلق ذميم للإنسان شيطانا. فقال عليهالسلام : «الحسد شيطان والغضب شيطان». فليس الشيطان اسما
لإبليس ولا خاصّا بجنوده الأبالسة. وإنّما اطلق عليه كإطلاقه على سائر ذوي الشرور.
قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ).
__________________
والشيطان ـ أيضا
ـ اسم لحيّة لها عرف ، وهي لحمة مستطيلة فوق رأسها شبه عرف الديك قال الزجّاج :
تسمّي العرب بعض الحيّات شيطانا. قيل : هو حيّة لها عرف قبيح المنظر. وأنشد الرجل (هو الراجز) يذمّ امرأة له كانت سليطة :
عنجرد تحلف
حين أحلف
|
|
كمثل شيطان
الحماط أعرف
|
وقال آخر يصف
ناقته في المسير :
تلاعب مثنى
حضرميّ كأنّه
|
|
تعمّج شيطان
بذي خروع قفر
|
والشيطان في
هذين البيتين هي الحيّة المهيبة يتنفّر منها ، لها عرف كتاج الديك قبيح المنظر. فقد
شبّه الشاعر في البيت الأوّل امرأته العجوز السليطة بشيطان الحماط القبيح المهيب. وهي
الحيّة ذات عرف يكثر وجودها تحت شجر الحماط في الصحراء القاحلة.
وفي البيت
الثاني شبّه الشاعر زمام ناقته في تلوّيه بسبب مشية الناقة بتلوّي حيّة قبيحة
الهيئة تلتوي في بيداء قفر.
وعليه ،
فالتشبيه في الآية الكريمة وقع على الواقع المشهود ، هي رءوس الحيّات القبيحة
المنظر الهائلة على حدّ تعبير الزمخشري في الكشّاف ، ووافقه اللغة والعرف العامّ
حسبما عرفت. وليس مجرّد تخييل أو تقليد لما توهّمته العرب كما زعمه الزاعمون!
وهكذا جاء في «تأويل
مشكل القرآن» لابن قتيبة قال : والعرب تقول إذا رأت منظرا قبيحا : كأنّه شيطان
الحماط ، يريدون حيّة تأوي في الحماط ، كما تقول : أيم الضالّ ،
__________________
وذئب الغضى ، وأرنب خلّة ، وتيس حلّب ، وقنفذ برقة.
قال الشيخ أبو
الفتوح الرازي : وهذا كتشبيهه تعالى عصا موسى عليهالسلام التي انقلبت حيّة تسعى بالجانّ ، وهو أيضا اسم للحيّة
السريعة التلوّي في حركتها.
قال ابن منظور
: والجانّ ، ضرب من الحيّات أكحل العينين يضرب إلى الصفرة لا يؤذي. وهو كثير في
البيوت. قال سيبويه : والجمع جنّان ، وأنشد بيت الخطفي جدّ جرير يصف إبلا :
أعناق جنّان
وهاما رجّفا
|
|
وعنقا بعد
الرسيم خيطفا
|
وفي الحديث :
أنّه نهى عن قتل الجنّان. قال : هي الحيات تكون في البيوت ، واحدها جانّ ، وهو
الدقيق الخفيف.
قال الأزهري في
التهذيب في قوله تعالى : (تَهْتَزُّ كَأَنَّها
جَانٌ) : الجانّ حيّة بيضاء. قال أبو عمرو : الجانّ حيّة ، وجمعه
جوانّ.
قال الزجّاج :
المعنى أنّ العصا صارت تتحرّك كما يتحرّك الجانّ حركة خفيفة. قال : وكانت في صورة
ثعبان ، وهو العظيم من الحيّات. ونحو ذلك قال أبو العباس المبرّد. قال : شبّهها في
عظمها بالثعبان وفي خفّتها (خفّة حركتها) بالجانّ. ولذلك قال تعالى مرّة (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) ومرّة (كَأَنَّها جَانٌ).
قال الشيخ أبو
الفتوح الرازي ـ في وجه التشبيه بالجانّ مرّة وبالثعبان اخرى ـ : إنّ التشبيه
الأوّل وقع في بدء بعثته عليهالسلام عند الشجرة. قال تعالى في سورة النمل : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ. وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى
مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ
__________________
إِنِّي
لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) وفي سورة القصص : (فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ
الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَلْقِ
عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ
يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).
أمّا التشبيه
بالثعبان فكان عند لقاء فرعون وملئه ، وقوله لهم : إنّي قد جئتكم ببيّنة ، قالوا :
فائت بها إن كنت من الصادقين (فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ).
ولعلّ عند ما
ألقى عصاه لأوّل مرّة عند الشجرة كان لفت نظره وأرهبه أنّ العصا ـ وهي عودة ـ تتحرّك
وتهتزّ كما تسعى الحيّة ، فولّى مدبرا ولم يعقّب.
أمّا الذي أتى
به معجزا وبيّنة من ربّه فهو قلب العصا ثعبانا وهي حيّة عظيمة هائلة ، فاسترهبوه
وحاولوا مقابلته بالمثل فجمعوا السحرة وجاءوا بسحر عظيم. فألقى موسى عصاه (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ
الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
فالتشبيه
بالجانّ مرّة وبالثعبان اخرى كان باعتبارين وفي موقفين مختلفين. قال الشيخ الرازي
: لا يمتنع أن تنقلب العصا إلى صورتين مختلفتين باختلاف الموردين.
* * *
وختاما ، فقد
جاء في المعجم الزولوجي الحديث تأليف الأستاد محمّد كاظم الملكي النجفي : أنّ
الشيطان أيضا اسم لنوع من السمك الضخم يبلغ وزنه نحو طنّين يوجد في المياه المحيطة
في الشمال الغربي لاستراليا ، له وجه كريه كأنّه صنم من الأصنام القديمة وعلى رأسه
قرنان يزيدان في كراهة منظره.
أوصاف جاءت على مقاييس عامّة
هناك أوصاف عن
نعيم الآخرة أو عن جحيمها جاءت على مقاييس عامّة ، لا على مقاييس العرب خاصّة! وقد
وهم من زعمها أنّها أوصاف تعرفها العرب لوحدهم أو هي
__________________
عند رغباتهم الملحّة التي تستدعيها عيشتهم تلك الجافية وفي وسط تلك الصحراء
القاحلة ، ممّا لا يستلفت رغبات العائشين في أوساط خصبة فارهين. وذلك في مثل وصف
الجنان بظلّ الأشجار ومجاري الأنهار والحور والقصور. ومثلها نعوت هي أوصاف جمال
عند العرب وليس عند غيرهم.
لكنّه وهم نشأ
من سوء التدبّر وعدم الإحاطة بدقائق اللغة التي خاطب بها القرآن العرب وسائر
العالمين جميعا.
ولنأت بأمثلة
ممّا أوقعهم في هذا الوهم :
الحور العين
عين : جمع
عيناء وهي المرأة ذات الأعين الوسيعة والمتناسبة مع تقاسيم وجهها الوسيم. كما يقال
للبقر الوحش : عين ، لحسن عينها في سعة متناسبة.
حور : جمع
حوراء. زعموا أنّها المرأة ذات الأعين السود في حدقتها ، وهو وصف جمال عند العرب
بالذات ممّا قد يخالف الجمال في بنات الروم في عيونهنّ الزرق! ويعدّ ذلك عيبا عند
العرب ، ومن ثمّ جاء وصف المجرمين بأنّهم يحشرون يوم القيامة زرقا.
فجاء كلا
الوصفين ـ جمالا وعيبا ـ على مقاييس العرب محضا.
غير أنّ الخطأ
هنا جاء من قبل تفسير الحور بالسواد ، في حين أنّه البياض اللّامع لشدّة ابيضاضه. فالحور
شدّة بياض العين بما يوجب شدة بريق سواد حدقتها. والحواريّات : النساء البيض. قال
الأزهري : لا تسمّى المرأة حوراء حتّى تكون مع حور عينيها بيضاء لون الجسد. قال
الكميت :
ودامت قدورك
للساعيي
|
|
ن في المحل
غرغرة واحورارا
|
قال ابن منظور
: أراد بالغرغرة صوت الغليان ، وبالاحورار بياض الإهالة والشحم.
والأعراب تسمّي
نساء الأمصار حواريّات لبياضهنّ وتباعدهن عن قشف
__________________
الأعراب بنظافتهنّ ، قال شاعرهم :
فقلت إنّ
الحواريّات معطبة
|
|
إذا تفتّلن
من تحت الجلابيب
|
وقال أبو جلدة
:
فقل
للحواريّات يبكين غيرنا
|
|
ولا تبكنا
إلّا الكلاب النوابح
|
أراد : النساء
النقيّات الألوان والجلود لبياضهنّ.
والحواريّ :
الدقيق الأبيض. جصّ أبيض تبيّض به الجدران. كلّ ما حوّر به أي بيّض. ومن ثمّ يقال
للقصّار (غسّال الثياب) حواريّ ، لتحويره الثياب أي تبييضها وإزالة أوساخها. يقال
: حوّر الثوب : غسله وبالغ في غسله حتّى برق. ومنه سمّي الحواريون أي الخلّص من
أصحاب المسيح عليهالسلام.
والأحوري :
الأبيض الناعم.
إذن ، فالحوراء
هي المرأة البيضاء ذات الأعين اللامعة في شدّة بياضها. فإن كانت حدقة عينها سوداء
فهي أيضا تلمع لحسن جوارها. وهكذا إذا كانت زرقاء.
فالجمال في هذا
الوصف إنّما هو في جانب بياض مقلة العين أي شحمتها اللامعة مع بياض لون البدن. الأمر
الذي يكون وصف جمال عند الجميع ، كما في العيناء.
أمّا زرقة
العين ـ على ما جاءت في الآية وصفا لحالة المجرمين يوم الحشر ـ فالمراد بها العمى
وذهاب نور العين من شدّة الظمأ. إذ الظمأ الشديد يذهب بنور العين ويحول العطش بينه
وبين السماء كالدخان ، فيرى الأشياء زرقاء لأجل الدخان الحائل ، لا لزرقة في حدقة
عينه.
وقال الفرّاء :
يقال : نحشرهم عطاشا ، ويقال : نحشرهم عميا. قال الأزهري : عطاشا يظهر أثره في أعينهم كالزرقة. قال
: وهو مثل قوله : (وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي عطاشا. كالإبل ترد الشريعة عطاشا ، مشيا على أرجلهم.
وعن ابن عبّاس :
__________________
سمّي العطاش وردا لأنّهم يردون الشريعة لطلب الماء.
ملحوظة
قد يحسب البعض
ـ باعتبار كون الحور جمعا للأحور والحوراء معا ، وكذا العين جمعا للأعين والعيناء
ـ أن يكون هناك في الجنّة حور عين ، ذكور وإناث!
غير أنّ القرآن
وصفهنّ بوصف الإناث محضا ، في مثل قوله تعالى : (وَكَواعِبَ أَتْراباً) والكواعب : الناهدات الثدي. وقوله : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ). والجمع بالألف والتاء يخصّ الإناث دون الذكور. وكذا
ضمير الجمع المؤنّث. والطمث : افتضاض بكارة المرأة. لأنّه يوجب الطمث وهو الدم
الخارج من فرجها. وقوله : (فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً). والمرأة العروبة هي العفيفة تحبّ زوجها لا تهوى سواه. إلى
غيرها من آيات جاء فيها وصف الحور بخيار أوصاف النساء المترفّعات دون المبتذلات.
ولعلّك تتساءل
: فما حظّ النساء المؤمنات من هذا النعيم في الآخرة؟
وإجابة على هذا
السؤال جاء في أحاديث مأثورة : أنّ الله تعالى سوف يجعلهنّ حوريّات ، ويكن ألذّ
على أزواجهنّ من حوريّات الجنان. فعن ابن عبّاس ـ في تفسير قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً) ـ : أنّ الآية بشأن الإنسيّات يبدّلهن الله حورا عينا
في الجنان.
قال تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ
صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ). وهناك كلام عن نعيم الآخرة (ما سنخها؟) لعلّنا نفصّل القول فيه إن شاء الله.
__________________
الأشجار والأنهار
ليس وصف النعيم
بظلال الأشجار ومجاري الأنهار ممّا يستلفت رغبة العائشين في البوادي الجرداء
والصحاري القفار فحسب ، وإنّما هي رغبات عامّة حتّى للمنعمين بخصوبة البلاد وخضرة
الهضبات والوهاد.
الناس في كافّة
بقاع الأرض يرتادون لمنتزهاتهم أماكن تظلّها أشجار وتبلّها أنهار ، على ما جاء في
وصف القرآن الكريم :
(مُتَّكِئِينَ فِيها
عَلَى الْأَرائِكِ) سرر مزيّنة فاخرة.
(لا يَرَوْنَ فِيها
شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) لا يحسّون لدغ حرارة لافحة ، ولا لذع برودة قارصة. مرتاحين
في مهبّ نسيم ولطف نعيم.
(وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أشجار بسطت أغصانها المتدانية ، مستديرة الأطراف شبه
مظلّات مخيّمة بروح أظلّتها.
(وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُها تَذْلِيلاً) ثمار متدنّية يسهل قطوفها (وَنَعْمَةٍ كانُوا
فِيها فاكِهِينَ).
وألذّ المنتزه
وأطيبه ما كان على ضفاف الأنهر ومتفجّرات العيون ، على حدّ تعبير القرآن :
(عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً).
(تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
نعم ، إنّها
رغبات عامّة يبتغيها كلّ منعم ومعدم وفي كلّ بقاع الأرض ، مشارق الأرض ومغاربها ،
العامرة منها والبائرة. وليست ممّا تهفو إليها نفوس مكدودة فحسب. وتلك قصور شامخات
ومصايف زاهرات تزدحم بأصحاب النعم ومرفّهي الأحوال ، أنشئت على شواطئ البحار وضفاف
الأنهار في كلّ أرجاء المعمورة. وحسبك شواهد على أنّها رغبات تهفو إليها نفوس جميع
أبناء البشر في كلّ البلاد ، ولدى جميع الأجيال والأمم ، وليس العرب وحدهم.
__________________
ابيضاض الوجوه واسودادها
قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
قالوا : إنّ في
هكذا تعابير إزراء بشأن ملوّني البشرة ، حيث أصبح ابيضاض الوجه رمزا للفوز
والسعادة ، واسوداده رمزا للحرمان والشقاء! في حين أنّ اللون مهما كان فهو أمر
طبيعي لا غضاضة في لون دون آخر. كما لا مساس له بمسألة السعادة والشقاء ولا
استيجاب مدح أو قدح. الأمر الذي اخذ على القرآن ، حيث استجوابه لمزاعم كانت عند
العرب في أمثال هذه التعابير!
لكنّ السواد ـ في
هكذا تعابير قرآنية أو في غيرها ـ لا يراد به ذات اللون الخاصّ ، وإنّما المراد هو
كدرة الظلام المعبّر عنه بالسواد في الاستعمال الدارج ، في مقابلة فلقة الضياء
المعبّر عنه بالبياض. كما في قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ). أي حتّى يبدو فلق الصباح عن ظلمة الليل.
ونظيره قول
الشاعر ـ وهو عمرو بن أبي ربيعة المخزومي ـ :
إذا اسودّ
جنح الليل فلتأت
|
|
ولتكن خطاك
خفافا إنّ حرّاسنا اسدا
|
فالاسوداد
كناية عن اشتداد ظلام الليل ، وليس المراد ذات اللّون الخاصّ.
فالتعبير
باسوداد الوجه كناية عن كدرته كأنها ظلمة تعتريه على أثر الانقباض الحاصل فيه
والتقطيب ، والناشئ من فزع نفسي وسوء وحشته. كما قال تعالى ـ حكاية عن حالة نفسيّة
رديئة كان يبدو أثرها كظلمة تعلو وجه أحدهم إذا بشّر بالانثى ـ : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). فهو يحاول كظم غيظه. ولكن بشرة وجهه المظلمة هي التي
تفضحه بما تكنّه نفسه من ألم وسوء حال.
__________________
وعليه جاء قوله
تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ). أي مغبرة ومنقبضة من هول المطّلع في مقابلة وجوه
الصالحين المسفرة المنبسطة.
يقول تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ
هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).
فالوجوه
المسفرة هي الوجوه المتفتّحة المشرقة المضيئة ، لأنّها ضاحكة مستبشرة ، حيث سرورها
وبهجتها بما تعاينه من ثواب ربّها.
ووجوه عليها
غبرة (غبرة الظلام) على أثر كآبة الهمّ وهول المطّلع. ترهقها قترة (انقباض وتقطيب)
وهذا تفسير لغبرة الوجه ، أي تعلوه كدرة الغمّ وقطوب الانقباض. والقترة هي بنفسها
الغبرة ، أي كدورة الغبار التي تذهب بصفاء بشرة الوجه.
وعن زيد بن
أسلم : الغبرة ، الغبار ينحطّ من العلوّ ، والقترة ، الغبار يرتفع من الأرض.
قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ
سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ
كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
ففي هذه الآية
جاء التعبير بغشيان وجوههم قطع من الليل مظلما بدل التعبير بسواد الوجه.
وفي آية اخرى :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). فالوجوه الناضرة هي المبتهجة المسرورة ، تنبسط وتشرق
إشراقا لامعا. حيث لمست لذّة الحضور وأحسّت بسعادة البقاء ، تنتظر ثواب ربّها
ورحمته. (فَوَقاهُمُ اللهُ
شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).
(تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).
__________________
أمّا الوجوه
الباسرة فهي الكالحة العابسة. يعلوها ظلام وكدرة من سوء الوحشة وشدّة الفزع ، حيث «تظنّ
ـ أي تخشى ـ أن يفعل بها فاقرة» وهي الداهية ، تفقر الظهر أي تقصمه.
وعليه ،
فالتعابير الواردة في القرآن بهذا الشأن أربعة :
(تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).
وجوه ناضرة
ووجوه باسرة.
وجوه مسفرة
ووجوه مغبرة.
وجوه تغشاها
قطع من الليل مظلما.
فالاسوداد
والبسور والاغبرار وغشاء الظلام ، كلّها تعابير تنمّ عن معنى واحد وهو كدرة وظلمة
تعلو الوجه على أثر الانقباض والتقطيب. وليس المراد ذات اللون كما حسبه المعترض!
كلام عن السحر في القرآن
هل اعترف
القرآن بتأثير السحر تأثيرا وراء مجاري الطبيعة ، حسبما يزعمه أهل السحر
والنفّاثات في العقد؟
ليس في القرآن
ما يشي بذلك سوى بيان وهن مقدرتهم وفضح أساليبهم بأنّها شعوذة وتخييلات مجرّدة لا
واقعية لها. يقول بشأن سحرة فرعون : (فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). فكان الرائي يتخيّل أنّ تلك الحبال والعصيّ تسعى ، أي
تنزو وتقفز وتلتوي على أنحاء الحركات التي كان الناظرون يحسبونها حركات حياتية
وأنّها حيّات ثعابين متهيّجة. قال الطبرسي : لأنّها لم تكن تسعى حقيقة ، وإنّما
تحرّكت لأنّهم جعلوا في أجوافها الزئبق ، فلمّا حميت الشمس تمدّدت الزآبق فحصلت
على أثره
__________________
تلك التحرّكات ، وظنّ أنّها تسعى.
وذلك أنّهم
أخذوا مصارين أو آدم مصنوعة على صور الحيّات والأفاعي ، وجعلوا في أجوافها زآبق
وتركوها بصورة العصيّ والحبال في ساحة بعيدة عن متناول الناس ومشاهدتهم القريبة. وكانت
الساحة قد حفرت تحتها أسراب وأشعلوا فيها نارا فأثّرت حرارتها من تحت وحرارة الشمس
من فوق ، فجعلت الزآبق تتمدّد وتتقلّص ، وتراءى للنّاس أنّها تسعى. ومن ثمّ قال
تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). وما هي إلّا شعوذة لا واقع لها سوى تخييل ظاهريّ مجرّد.
قال الطبرسى :
احتالوا في تحريك العصيّ والحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتّى تحرّكت بحرارة
الشمس وغير ذلك من الحيل وأنواع التمويه والتلبيس ، فخيّل إلى الناس أنّها تتحرّك
على ما تتحرّك الحيّة. وإنّما سحروا أعين الناس ، لأنّهم أروهم شيئا لم يعرفوا
حقيقته وخفي ذلك عليهم لبعده منهم ، فإنّهم لم يدعوا مجالا للناس كي يدخلوا فيما
بينهم [خوف فضح أمرهم].
قال : وفي هذا
دلالة على أنّ السحر لا حقيقة له ، لأنّها لو صارت حيّات حقيقة لم يقل الله سبحانه
: (سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ) بل كان يقول : فلمّا ألقوا صارت حيّات. وقد قال سبحانه
أيضا : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى).
وامّا وصف
سحرهم بالعظمة ، فلأجل استعظام الناس ذلك المشهد الرهيب.
يقول الرازي في
ذيل هذه الآية : واحتجّ به القائلون بأنّ السحر محض التمويه. قال القاضي : لو كان
السحر حقّا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم ، فثبت أنّ المراد أنّهم تخيّلوا
أحوالا عجيبة مع أنّ الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيّلوه. قال الواحدي :
بل المراد ، سحروا أعين الناس أي قلبوها عن صحّة إدراكها بسبب تلك التمويهات. وقيل
: إنّهم أتوا بالحبال والعصيّ ولطّخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل
العصيّ ،
__________________
فلمّا أثّر تسخين الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدّا
، فالناس تخيّلوا أنّها تتحرّك باختيارها وقدرتها.
قال الإمام
الجصّاص : ومتى اطلق السحر فهو اسم لكلّ أمر مموّه باطل لا حقيقة له ولا ثبات. قال
الله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ) يعني موّهوا عليهم حتّى ظنّوا أنّ حبالهم وعصيّهم تسعى.
وقال : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) فأخبر أنّ ما ظنّوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنّما كان
تخييلا. وقد قيل : إنّها كانت عصيّا مجوّفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت
معمولة من أدم محشوّة زئبقا وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا
وجعلوا آزاجا وملئوها نارا. فلمّا طرحت عليه وحمي الزئبق حرّكها ،
لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته [حرارة] النار أنّ يطير. فأخبر الله أنّ ذلك كان
مموّها على غير حقيقة. والعرب تقول لضرب من الحليّ مسحور ، أي مموّه على من رآه
مسحور به عينه.
وهكذا ذهب الإمام
محمّد عبده في تفسيره قال ـ بعد نقل كلام الجصّاص ـ : فعلى هذا يكون سحرهم لأعين
الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية ، إذا صحّ الخبر. ويحتمل أن يكون بحيلة اخرى
كإطلاق أبخرة أثّرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك. أو بجعل العصيّ والحبال على صورة
الحيّات وتحريكها. بمحرّكات خفيّة سريعة لا تدركها أبصار الناظرين. وكانت هذه
الأعمال من الصناعات وتسمّى السيمياء وهي لغة يونانية تعني الشعوذة والنيرنج. هي عبارة عن مزاولة أعمال خفيّة سريعة تتراءى للناظرين
أشكالا على غير واقعها ، وربّما باستعمال موادّ كيمياوية تخفى على الناظرين. وهو متعارف حتّى اليوم لغاية إلهاء الناس في مجالس
اللهو والسرور ومناسبات الأعياد والأفراح.
__________________
قال الزمخشري :
(سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ) أروها بالحيل والشعوذة وخيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه.
إذن ، فلم يثبت
من هذه الآية اعتراف للقرآن بحقيقة السحر سوى الشعوذة والتوسّل بالحيل للتمويه على
أعين النّاس ، هذا فحسب. وهناك آيات اخر استندوا إليها لهذا الاعتراف المزعوم ،
كالآيات الواردة بشأن سحرة بابل في سورة البقرة. وكذا سورة الفلق (النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ). وسنتكلّم عن ذلك أيضا بعد الكلام عن أقسام السحر ورأي
علماء المسلمين فيه. وسيبدو بعون الله تعالى أنّ تلكم الآيات أيضا بعيدة كلّ البعد
عمّا رامه الزاعمون وأن ليس في القرآن ما يشي باعترافه بحقيقة السحر بتاتا.
أقسام السحر
السحر بحسب
اللغة : ما لطف ودقّ مأخذه في التأثير ، ومن ثمّ فإنّ من البيان لسحرا. وقسّمه
الإمام الرازي بحسب المصطلح إلى أنواع ثمانية :
النوع الأوّل :
الاستعانة بالكواكب ، زعما أنّها هي المدبّرة لهذا العالم. نسب ذلك إلى الكلدانيّين
كانوا يعبدون الكواكب ، فكانوا يستعينون بها على سدّ مآربهم والقضاء على مناوئيهم.
وأهل العدل
والتنزيه من متكلّمي المسلمين (الإماميّة والمعتزلة) أنكروا صحّة ذلك ، بل جواز
الاعتقاد به قد يؤدّي إلى الشرك بالله العظيم. وقامت الأشاعرة بوجههم فأجازوه
باعتبارها أسبابا وعللا طبيعية كانت تحت إرادته تعالى.
النوع الثاني :
سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، فهناك لأرباب النفوس القوية تأثير كبير في
إلقاءاتهم على ذوي النفوس الضعيفة. والنفس إذا تأثّرت بما القي إليها توهّمته
قطعيّا وانفعلت به وانجذبت إليه انجذابا. الأمر الذي قام به أكثر أصحاب المقدرات
القوية فسخّرت زرافات من ذوي الأنفس الضعيفة السريعة الانخداع.
__________________
النوع الثالث :
الاستعانة بالأرواح الأرضية الخبيثة ، ممّا عبّروا عنها بتسخير شياطين الجنّ. الأمر
الذي يقوم به أصحاب الرقى والدخن والتعويذ والطلسمات. ولعلّ لهذا النوع سوقا رائجة
في أوساط هابطة ولا سيّما العجائز من النساء وذوي العقول الساذجة.
النوع الرابع :
التخييلات والأخذ بالعيون. وهذا النوع مبتن على أخطاء البصر والانصرافات الذهنية
التي يستخدمها السحرة من هذا النمط. ويسمّى بالشعوذة على ما مرّ تفصيله.
النوع الخامس :
استعمال آلات وأدوات صناعية وتركيبها تراكيب غريبة في أشكال وصور هندسيّة تستجلب
أنظار الحاضرين وتوجب إعجابهم والضحك والسرور ، وهو لعب على اصول رياضية وهندسية
ملهية ، تتداول في مجالس الأفراح.
النوع السادس :
الاستعانة بخواصّ الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلّدة أو المزيلة
للعقل والدخن المسكّرة ونحو ذلك.
النوع السابع :
تعليق القلب ، حيث يجد الساحر ضعيف العقل قليل التمييز ، فيلقي عليه أنّه يعرف
الاسم الأعظم أو أنّ الجنّ يطيعونه ، فيصدّقه الضعيف ويتعلّق قلبه بما قال. وربّما
استخفّ الساحر من عقله فيتمكّن من تنفيذ ما أراده في نفسه. ولمثل هذه الانفعالات
النفسية مجال متّسع لتجوال أهل الشعوذة والتزوير والنفوذ في الشعور.
النوع الثامن :
السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة ، بما يؤثر حبّا أو بغضا أو تأليفا
أو تفريقا بين الزوجين أو المتحابّين وهو شائع كثير.
وإذ قد عرفت
أنواع السحر المعروفة عند العرب وعند الناس في مختلف الأجيال تجد أن ليس له واقع
في جميع أنواعه ، بمعنى : التأثير في تغيير اتجاه المسير الذي جرت عليه الطبيعة
تأثيرا خارقا للعادة. ومن ثمّ فقد أنكرته أصحاب المذاهب العقلية من علماء الإسلام
، ولم يعتبروه شيئا وراء التمويه والشعوذة والتخييل ، لأجل التلاعب بعقول السذّج
الضعفاء.
__________________
قال الرازي :
أما المعتزلة فقد أنكروا السحر فيما عدا التمويه والشعوذة ، ولعلّهم كفّروا معتقد
تأثير الكواكب وتسخيرها أو تسخير الجنّ وما شاكل ممّا ينافي التوحيد في الربوبية
أو يخالف حكمته تعالى في الخلق والتدبير.
قال : وأمّا
أهل السنّة فقد جوّزوا ذلك ، بأن يطير إنسان في الهواء بلا سبب طبيعي أو يحوّل
إنسانا إلى حمار أو حمارا إلى إنسان ، الأمر الذي لا يتنافى وربوبيّته تعالى حيث
جرت سنّته على إقدار الساحر في تأثير سحره عند ما يقرأ رقى أو يزمزم وردا. واستندوا في ذلك إلى روايات واهية تزعم أنّ اليهود سحرت
النبيّ صلىاللهعليهوآله فكان يتخيّل أنّه فعل شيئا ولم يفعله ، وما إلى ذلك من
أكاذيب فاضحة ، زيّفناها مسبقا.
وأفظع من الكلّ
تعاليق ابن المنير الإسكندري على الكشّاف بهذا الشأن ، منها قوله ـ عند كلام
الزمخشري (سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ) أي أروها بالحيل والشعوذة وخيّلوا إليها ما الحقيقة
بخلافه ـ : هذا الإنكار معتقد المعتزلة ، ومعتقد أهل السنّة الإقرار بوجود السحر ،
ولا يمنع عند أهل السنّة أن يرقى الساحر في الهواء ويستدقّ فيتولّج في الكوّة
الضيّقة. ولا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه. وذلك
واقع بقدرة الله عند إرشاد الساحر. هذا هو الحقّ والمعتقد الصدق. قال : وإنّما
أجريت هذا الفصل لأنّ كلام الزمخشري لا يخلو من رمز إلى إنكاره ، إلّا أنّ هذا
النصّ القاطع بوقوعه يلجمه عن التصريح بالدفاع وكشف القناع ، ولا يدعه التصميم على
اعتقاد المعتزلة من التنفيس عمّا في نفسه ، فيسمّيه شعوذة وحيلة. وبالقطع يعلم أنّ
الشعوذة لا تعمل في يد ابن عمر حتّى بكوعها ولا تؤثّر في سيّد البشر حتّى يخيّل
إليه أنّه يأتي نساءه وهو لا يأتيهنّ. وقد ورد ذلك وأمثاله مستفيضا واقعا. والعمدة
أنّ كلّ واقع فبقدرة الله تعالى.
وهذا الذي ذكره
ابن المنير ونسبه إلى أهل السنّة إنّما هو مذهب الأشعري البائد ، أمّا علماء أهل
السنّة اليوم فقد واكبوا إخوانهم من أهل التحقيق في النظر ، ولم يعيروا لما يذكره
أهل السفاسف اهتماما ولم يعتبروا من مزاعمهم في السحر وزنا سوى تمويه مجرّد
__________________
وتخييل كاذب أو مشيئ في النميمة وبثّ روح الفرقة أو ألاعيب تقام بها في
الأفراح.
قال الشيخ
محمّد عبده : السحر عند العرب كلّ ما لطف مأخذه ودقّ وخفي ... وقد وصف الله السحر
في القرآن بأنّه تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائنا ـ ثمّ يذكر الآيات
ويقول : ـ ومجموع هذه النصوص يدلّ على أنّ السحر إمّا حيلة وشعوذة ، وإمّا صناعة
علمية خفيّة يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون فيسمّون العمل بها سحرا لخفاء سببه
ولطف مأخذه. ويمكن أن يعدّ منه تأثير النفس الإنسانية في نفس اخرى لمثل هذه العلّة.
وقد قال المؤرّخون : إنّ سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصيّ
بصور الحيّات والثعابين وتخييل أنّها تسعى. وقد اعتاد الّذين اتخذوا التأثيرات
النفسية صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام مبهم وأسماء غريبة اشتهر عند الناس
أنّها من أسماء الشياطين وملوك الجانّ وأنّهم يحضرون إذا دعوا بها ويكونون مسخّرين
للداعي. ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم ، عرف بالتجربة. وسببه اعتقاد
الواهم أنّ الشياطين يستجيبون لقارئه ويطيعون أمره. ومنهم من يعتقد أنّ فيه خاصّية
التأثير وليس فيه خاصّية. وإنّما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما
يغني منتحل السحر عن توجيه همّته وتأثير إرادته ، وهذا هو السبب في اعتقاد
الدّهماء أنّ السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.
وقد اقتفى أثره
الشيخ المراغي في عبارة اختصرها من كلام استاذه الشيخ محمّد عبده.
وقال سيّد قطب
ـ عند تفسير سورة الفلق ـ : والسحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء ، ولا ينشئ حقيقة
جديدة لها ، ولكنّه يخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما
صوّره القرآن الكريم في قصّة موسى عليهالسلام من سورة طه (فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيّهم حيّات فعلا ، ولكن
__________________
خيّل إلى الناس أنّها تسعى. وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلّم
بها ، وهو بهذه الطبيعية يؤثّر في الناس وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه ، مشاعر
تخيفهم وتؤذيهم وتوجّههم الوجهة التي يريدها الساحر ، وهو شرّ يستعاذ منه بالله
ويلجأ منه إلى حماه. وقد أعرب شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي قدسسره عن معتقد أهل الحقّ في السحر وأن لا حقيقة له ، قال :
ذكروا للسحر معاني أربعة :
أحدها : أنّه
خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها ، يخيّل إلى المسحور أنّ لها حقيقة.
الثاني : أنّه
أخذ بالعين على وجه الحيلة.
الثالث : أنّه
قلب الحيوان من صورة إلى اخرى ، وإنشاء الأجسام على وجه الاختراع ، فيمكن الساحر
أن يقلب الإنسان حمارا وينشئ أجساما.
الرابع : أنّه
ضرب من خدمة الجنّ.
قال : وأقرب
الأقوال هو الأوّل ، لأنّ كلّ شيء خرج عن مجرى العادة فإنّه سحر [في مزعومهم] لا
يجوز أن يتأتّى من الساحر ، ومن جوّز شيئا من هذا فقد كفر. لأنّه لا يمكن مع ذلك ،
العلم بصحّة المعجزات الدالّة على النبوّات ، لأنّه أجاز مثله على جهة الحيلة
والسحر.
وهكذا ذهب إلى
إنكاره في كتاب الخلاف.
وقال الطبرسي :
السحر والكهانة والحيلة نظائر. ومن السحر ، الأخذة التي تأخذ العين حتّى يظنّ أنّ
الأمر كما ترى وليس الأمر كما ترى. والجمع ، الاخذ. فالسحر عمل خفيّ لخفاء سببه ،
يصوّر الشيء بخلاف صورته ويقلبه عن جنسه في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة ،
ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى)؟
__________________
وقال المجلسي
العظيم ـ في كلام له عن السحر ناظر إلى ما ننقله عن ابن خلدون ـ : وأمّا ما يذكر
من بلاد الترك أنّهم يعملون ما يحدث به السحب والأمطار فتأثير أعمال هؤلاء الكفرة
في الآثار العلوية وما به نظام العالم ممّا تأبى عنه العقول السليمة والأفهام
القويمة. ولم يثبت عندنا بخبر من يوثق بقوله.
والعجب من بعض
الكتّاب العصريّين جنح إلى ترجيح الرأي القائل بحقيقة السحر وأنّ له واقعا يؤثّر
في قلب الواقعية حقيقة ، واقتفى في ذلك بعض أقوال القدماء فيما نقلوه من حكايات هي
أشبه بالخرافات منها بالواقعيات.
هذا الاستاذ
محمّد فريد وجدي ينقل أوّلا عن مقدّمة ابن خلدون اعترافه بحقيقة السحر ، ثم يعقّبه
باستنكار الغربيّين ويحمل عليهم بأنّهم قاصرو النظر في إطار من المادّيات ويجعلون
العالم كلّه في دائرة أضيق من سمّ الخياط. وأخيرا يرجّح أنّ له حقيقة ويذكر له
شاهدا في قصّة خيالية. وإليك بعض كلامه ونقوله عن ابن خلدون وغيره :
قال ابن خلدون
في مقدّمته : السحر ، علم بكيفية الاستعدادات تقتدر النفوس البشرية به على
التأثيرات في عالم العناصر إمّا بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية. والأوّل
هو السّحر ، والثاني هو الطّلسمات. قال : ولنقدّم هنا مقدّمة يتبيّن بها حقيقة
السحر ، وذلك أنّ النفوس البشرية وإن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواصّ. فنفوس
الأنبياء لها خاصّية تستعدّ بها للمعرفة الربّانية ومخاطبة الملائكة. وما يتّسع في
ذلك من التأثير في الأكوان واستجلاب روحانية الكواكب للتصرّف فيها والتأثير بقوّة
نفسانية أو شيطانية. فأمّا تأثير الأنبياء فمدد إلهى وخاصّية ربّانية ، ونفوس
الكهنة لها خاصّية الاطّلاع على المغيّبات بقوى شيطانية ، وهكذا كلّ صنف مختصّ
بخاصّية لا توجد في الآخر. والنفوس الساحرة على مراتب ثلاث ، فأوّلها المؤثّرة
بالهمّة فقط من غير آلة ولا معين ، وهذا هو الذي يسمّيه الفلاسفة السحر. والثاني
بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواصّ الأعداد ، ويسمّونه الطّلسمات ، وهو
أضعف رتبة من الأوّل. والثالث تأثير في القوى
__________________
المتخيّلة ، يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيّلة فيتصرّف فيها بنوع
من التصرّف ويلقي فيها أنواعا من الخيالات والمحاكاة وصورا ممّا يقصده من ذلك ،
ثمّ ينزلها إلى الحسّ من الرائين بقوّة نفسه المؤثّرة فيه ، فينظر الراءون كأنّها
في الخارج وليس هناك شيء من ذلك كما يحكى عن بعضهم أنّه يري البساتين والأنهار
والقصور ، وليس هناك شيء من ذلك. ويسمّى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة.
قال : ثمّ هذه
الخاصّية تكون في الساحر بالقوّة شأن القوى البشرية كلّها ، وإنّما تخرج من القوّة
إلى الفعل بالرياضة ، ورياضة السحر كلّها إنّما تكون بالتوجّه إلى الأفلاك
والكواكب والعوالم العلويّة والشياطين ، بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلّل
، فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود لغير الله ، والوجهة إلى غير الله كفر ، فلهذا
كان السحر كفرا والكفر من موادّه وأسبابه.
قال : واعلم
أنّ وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه ، وقد نطق به
القرآن ، قال الله تعالى : (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). وسحر رسول الله صلىاللهعليهوآله حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء ولا يفعله. وجعل
سحره في مشط ومشاقة وجفّ طلعة ، ودفن في بئر ذروان. فأنزل الله عليه (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي
الْعُقَدِ). قالت عائشة : كان لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي
سحر فيها إلّا انحلّت.
قال : ورأينا
بالعيان من يصوّر صورة الشخص المسحور بخواصّ أشياء مقابلة لما نواه وحاوله ،
موجودة بالمسحور ، وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التأليف والتفريق ، ثمّ
يتكلّم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عينا أو معنى ، ثمّ ينفث من
ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء ويعقد ذلك
المعنى في سبب أعدّه لذلك تفاؤلا بالعقد واللزام واخذ العهد على من أشرك به
__________________
من الجنّ في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة بالعزم. ولتلك البنية
والأسماء السيّئة روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلّقة بريقه الخارج من فيه بالنفث
، فتنزل عنها أرواح خبيثة ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر!
قال : وشاهدنا
أيضا من المنتحلين للسحر وعمله من يشير إلى كساء أو جلد ويتكلّم عليه في سرّه ،
فإذا هو مقطوع متخرّق. ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج (أي شقّ البطن)
فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض.
وسمعنا أنّ
بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتّت (أي يتفتت ويتساقط) قلبه ويقع
ميّتا ، وينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه. ويشير إلى الرمّانة وتفتح فلا يوجد من
حبوبها شيء.
قال : وكذلك
سمعنا أنّ بأرض السودان وأرض الترك من يسحر السحاب فيمطر الأرض المخصوصة. وكذلك
رأينا من عمل الطّلسمات عجائب من الأعداد المتحابّة ... ونقل أصحاب الطّلسمات أنّ
لتلك الأعداد أثرا في الالفة بين المتحابّين واجتماعهما إذا وضع لهما مثالان
أحدهما بطالع الزهرة وهي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودّة وقبول.
ثمّ يذكر
الاستاذ وجدي ما شاهده الغربيّون في تجوالهم القارّات من غرائب صدرت على أيدي كهنة
القبائل ، ولكنّهم جرّبوها بأنفسهم فوجدوها (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً). فرأوها لا تؤثّر أدنى تأثير ، فزالت جميع الأوهام التي
كان الأقدمون يحيطون بها من الكيمياء والنجامة ، وتولّد من الاولى الكيمياء
الحقيقية ، ومن الثانية علم الفلك الصحيح.
قال الاستاذ
وجدي : وقد ذكر القرآن الكريم السحر في مواضع كثيرة. وقد مضى متقدّموا الأمّة
معتقدين وجوده وأنّه من العلوم السرّية التي يتحصّل عليها بالرياضة
__________________
وغيرها. ومال بعضهم وكثير من المتأخّرين إلى زعم أنّ السحر سرعة اليد
وصناعة في التمويه ، وليس له دليل يسنده. قال : ولكن دليلنا نصّ القرآن وما نقرأه
في كتب الخوارق التي ظهرت في اوربا منذ تسعين سنة باسم «الاسبرتزم» وغيره ممّا
يرينا جليّا أنّ هنالك عالما روحانيّا وفيه من الكائنات ما لا نتصوّره وأنّنا
نستطيع أن نناجي تلك الكائنات وتناجينا. ومتى كان هذا ممكنا وتقرّر أنّ الوجود
عامر بالآيات المغيّبة فلا يبعد أن يكون السحر تابعا لقوى روحانية وأنّه ليس
بمجرّد صناعة أو سرعة يد الساحر.
ل : حكى لي
والدي عن محمّد وجيهي بيك العمري محافظ دمياط سابقا ، وكان رجلا صدوقا تقيّا ، قال
: إنّه كان له قريب في بغداد اسمه عزّت باشا وكان شجاعا مقداما لا يهاب المخاوف ،
وكان به غرام لرؤية الأسرار والعجائب ، فكان لذلك يتحرّى ملاقاة الدراويش
ويتصيّدهم لأنّ منهم من يتّفق أن يكون على شيء ممّا يتحرّى رؤيته ، فعثر يوما
بدرويشين غريبين كان من شأنهما أنّ أحدهما يعزم ثمّ يقول بفمه : هف ، فتنفتح جميع
نوافذ البيت على سعته مهما كانت مغلقة محكمة الإغلاق ، ثمّ يقول : هف ، فتقفل
جميعها دفعة واحدة. وأراه عجائب اخرى. فسأله عزّت باشا عن السرّ الذي يحدث به ذلك
، فقال : إنّه مستخدم إبليس نفسه. فطلب منه أن يراه ، فقال له : لا تقوى على رؤيته.
فقال : تقويان أنتما على رؤيته وأضعف أنا عن ذلك؟! مع أنّي كم جبت المخاوف وولجت
المعاطب! فقالا : ذلك شيء وهذا شيء آخر. فألحّ عليهما ، فانقادا له فجلسا في
الظلمة وأخذ أحدهما يعزم مدّة ، فانشقّ السقف وظهرت النجوم ثمّ تدلّت منه صورة لا
يتصوّر الوهم أفظع منها ، فما أن وقع عليها بصره حتّى قام مذعورا وتلمّس الباب
حتّى وجده وصعد إلى أهله فجمعهم حوله ، وما زال مضطربا من الذعر حتّى أصبح وبقي
بعدها أربعين يوما لا يمشي خطوة حتّى يستصحب معه بعض أهله من شدّة ما لحقه من
الخوف.
ولعلّ صاحبنا
الاستاذ وجدي فريد وسط زملائه المتنوّري الفكر في قبوله ما يرفضه العقل الرشيد
فضلا عن العلم والحكمة القويمة. إنّنا لا ننكر أنّ هناك نفوسا قوية
__________________
من أصحاب التمائم والزمازم يؤثّرون بقوّة إرادتهم في وهم ضعفاء النفوس
فيخيّلون إليهم صورا وأشكالا حسبما يشاءون ، والغالب أنّ أمثال هؤلاء المدّعين
للسحر وتقليب الحقائق هم اناس مفاليس يستدرّون أموال ذوي العقول السذّج لأجل تأمين
معيشتهم الحقيرة ، وهو أحد طرق الاستجداء ، فلو كانوا أصحاب قدر خارقة لعالجوا
لأنفسهم ما يسدّ حاجتهم عن الاستجداء لا العيش على فضلة الآخرين وعلى طريقة
التدليس والتزوير ، الأمر الذي يكون من أردأ أنحاء المعيشة في الحياة! إنّهم لا
يملكون سدّ رمقهم فكيف بالتسخير للأرواح المدبّرات!
يقول ابن خلدون
ـ الذي حفل بهذه المزعومة في حفاوة وتفصيل ـ : إنّ التأثير الذي لهم إنّما هو فيما
سوى الإنسان الحرّ من المتاع والحيوان والرقيق. ويعبّرون عن ذلك بقولهم : إنّما
نفعل فيما تمشي فيه الدراهم ، أي ما يملك ويباع ويشترى ... قال : ومن هؤلاء من
يسمّى بالبعّاجين ، يشيرون إلى بطن الغنم فتنبعج. لأنّ أكثر ما ينتحل من السحر بعج
الأنعام يرهبون بذلك أهلها ليعطوهم من فضلها وهم مستترون بذلك في الغاية خوفا على
أنفسهم من الحكّام.
مساكين! لا
يمكنهم الدفاع عن أنفسهم فكيف القدرة على قهر الطبيعة وقلبها؟!
والعجب من
الاستاذ وجدي أصاخ بكلّ مسامعه واستسلم لما سطّره ابن خلدون من قدرة الساحر على
تسخير الكائنات وسلطته على الأفلاك ـ وحسبها ذوات أنفس وأجرام ـ والكواكب ـ حسبوها ذوات عقول ومدبّرات لما يجري على
الأرض ـ والجنّ والقوى الروحانية ، فسخّروها جمع للتأثير على قلب عناصر المادّة
والتصرّف في العالم العلوي والعالم السفلي جميعا. يا لها من مخرقة وإن شئت فسمّها
مهزلة!! وهناك حكايات وروايات أكثرها تنمّ عن قوّة التخييل أو هي أكاذيب وأباطيل. وأمّا
أصحاب التمائم
__________________
والنفث في العقد فإنّما هم أصحاب النمائم وإيحاء الوساوس للتفرقة بين
الزوجين أو المتحابّين ، ولا يتأتّى منه غير الإفساد في الأرض ، فيتعمّلون ما
يضرّهم من غير أن ينفعهم شيئا حسبما وصفهم القرآن الكريم.
نعم هنا شيء لا
ننكره نبّهنا عليه ، وهو : أنّ للنفوس البشرية قدرة خارقة يمكن تنميتها بالارتياض
إمّا في وجهة رحمانية رفيعة أو في وجهة أرضية هابطة. والاولى رياضة النفس يقوم بها
الأنبياء والأولياء والصلحاء فيفوزون بمقامات عالية ، وربّما تتسخّر لهم الكائنات.
وأمّا الوجهة الاخرى الهابطة فيقوم بها أصحاب الارتياض بترك المشتهيات ولذائذ
الحياة في أشقّ الأحوال وأصعب الأعمال التي لم يأت بها الله من سلطان ، ولكنّهم
قهروا أنفسهم على نبذ الشهوات واللذائذ وانخلعوا عن زخارف الحياة. وهو عمل له
قيمته ووزنه في ترك الدنيا الدنية ، وحيث لم يكن لهم نصيب في الحياة الاخرى
الخالدة فقد يمنحه تعالى منحة تقتنع أنفسهم بها تجاه ما تحمّلوا من مشاقّ الحياة. الأمر
الذي قد نشاهده من خوارق على يد مرتاض الهند وغيرها من بلاد ، ولكن في إطار محدود
وعلى شريطة أن لا يزاولوها عن جهة الفساد في الأرض ، وإلّا فيؤخذ منهم فور إرادة
السوء. نظير ما قيل بشأن «بلعام بن باعورا». قيل : كان رجلا صالحا من قوم موسى ،
وقد منحه الله استجابة دعائه ، فحاول تقرّبا إلى بعض الأمراء أن يدعو على قوم
مؤمنين ، فسلبه الله المنحة وظلّ خاسرا دينه ودنياه. قيل : والآية التالية ناظرة
إلى هذا الحادث : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ).
أمّا العامل
بالشرط ولم يتجاوز حدوده المضروبة فستدوم له منحته ما دام باقيا على عهده ، أو
يسلم فتدّخر له مثوبته في الدار العقبى مثوبة باقية.
روي أنّ شيخا
من الأكابر رأى في طريقه لمّة مجتمعة حول رجل فسأل عنه ، قيل له : إنّه يعلم الغيب.
فأتاه وسأله عن شيء أخفاه في كفّه فأخبره به. فسأله الشيخ عن أيّ
__________________
ارتياض بلغت هذا المقام؟ قال : بمخالفة النفس ، لقد دأبت أن اخالف كلّ ما
تشتهيه نفسي وتهواه. قال له الشيخ : هذا عمل جسيم ، ولكن هل عرضت على نفسك الإسلام؟
ـ وكان الرجل من براهمة الهند ـ قال : لا. قال له الشيخ : أعرضه على نفسك ثم انظر
هل توافقك عليه أم تخالفك؟ فعرض الرجل الإسلام على نفسه وأبدى أنّ نفسه ترفضه!
فقال له الشيخ : إذن خالف هوى نفسك ، على دأبك القديم! فقبل الرجل واعتنق الإسلام.
وعندئذ سأله الشيخ عن شيء أخفاه في كفّه ، فلم يستطع الرجل أن يخبر عنه وزال عنه
علمه بالغيب وتعجّب الرجل من ذلك! قال له الشيخ : لا تعجب ، إنّك كنت على أمر عظيم
، وحيث لم يكن لك نصيب في العقبى جازاك الله بطرف من عنايته عليك في هذه الحياة. فلمّا
أسلمت ادّخر الله لك ذلك مثوبة عظمى في الآخرة.
ولبراهمة الهند
المرتاضين قضايا عجيبة وتصرّفات خارقة تعود إلى مقدرتهم النفسية الفائقة ، الحاصلة
على أثر ترك الملاذّ وتحمّل المشاقّ ، فمنحوا شيئا من إمكان التصرّفات الخارقة
مقتنعين بذلك تمام الاقتناع ، حيث لا خلاق لهم في الآخرة.
جاء في مذكّرات
مرافق الملك جورج السادس عاهل الحكومة البريطانية في سفرته إلى الهند أيّام
الاحتلال مشاهد عجيبة بهذا الشأن. يقول : وقف القطار في إحدى المحطّات لخزن الماء
، فنزل الملك وجعل يتمشّى وإذا بمرتاض قابع في ناحية وجده في غاية الوساخة فنصحه
أن يهتمّ بنظافة جسمه وثيابه وحاول مساعدته ، وإذا بالمرتاض اغتاظ لذلك ولم يجبه
بشيء. فانصرف الملك وركب القطار ، وإذا بالقطار لا يتحرّك. فقام المهندسون بالفحص
من غير أن يجدوا فيه نقصا. وكان مع الملك ضبّاط هنود. ورأوا المرتاض القابع في
زاوية ، فسألوا الملك : هل قال للمرتاض شيئا يغيظه؟ فأفصح الملك بما دار بينه وبين
المرتاض من غير أن يسيء إليه بكلام أو غيره. قال الضباط : لعلّه سخط عليك وحسبه
تجاسرا عليه وهو الذي أوقف القطار. فجاء الملك واستماح من المرتاض واعتذر منه لو
غاظه كلامه. فرفع المرتاض رأسه ـ يبدو في وجهه الرضا ـ وأشار إلى القطار فتحرّك
لساعته.
وجاء فيها أيضا
أنّهم قصدوا زيارة كبير المرتاضين وكان مقرّه في غابة ملؤها حشرات وبعوض ضارية ،
ولمّا أن اقتربوا من مقرّ المرتاض بكليومترات وإذا الفضاء صحو لا حشرة فيه ولا
بعوضة. فتعجّبوا من ذلك وسألوا المرتاض عن السرّ ، قال : إنّا لا نمنح لها
بالاقتراب من حريمنا!
كلّ ذلك إن دلّ
فإنّما يدلّ على قدرة نفسية كبيرة حظي بها هؤلاء المرتاضون على أثر رياضتهم ونبذ
المشتهيات ، وليس من السحر في شيء.
أضف إلى ذلك
أنّ النفس بذاتها ذات قدرة جبّارة بها يتمكّن الإنسان من التغلّب على الطبيعة ، من
غير أن يستعين بقدرة خارجة عن إطار نفسه. لكن إذا عرف من نفسه هذه القدرة
واستعملها بقوّة وعزيمة راسخة.
قرأت في تاريخ
ثورة فرنسا الكبرى عن شخصية «ميرابو» الرجل السياسي الكبير من أركان الثورة (١٧٤٩
ـ ١٧٩١ م) على عهد الملك لويس الخامس عشر. كان نائبا في مجلس النيابة وكان ذا منطق
قويّ جبّار بحيث كان يرضخ له المؤالف والمخالف لقوّة خطاباته. يحكى عن مقدرته
النفسية الخارقة قضايا ، منها ما ذكره أحد زملائه وكان يرافقه في قصده لزيارة قبر
والدته ، وإذا بكلب هارش هجم عليهما وكان ضاريا شديد البأس. فأخذ صاحبه يتوحّش
ويلتمس الفرار ، لكن ميرابو في هدوء وطمأنينة وأخذ يهدّئ من روعة صاحبه قائلا : لا
تستوحش أنا أكفيكه. فجعل يتحدّق النظر في عيني الكلب وإذا به يهدأ حتى افترش
بذراعيه على الأرض كالخاشع أمام ميرابو! ينقل بشأنه من أمثال هذه القضايا كثير.
شهدت إحدى
الاحتفالات في مراسم العزاء على سيّد الشهداء ليلة الحادي عشر من محرّم الحرام
بكربلاء المقدّسة عام (١٣٧٠ ه. ق) وكان الاحتفال بشأن دخول النار المتوهّجة كما
هو مرسوم عند الهنود. وقد توقّدت النار في حطب ضخم حوالي ساعات حتّى صارت جمرات
متوهّجة في حفرة مستطيلة الشكل مترين في ثلاث أو أربع مترات في عمق ثلاثين
سانتيمترا ملؤها الجمرات المتوقّدة. فجاء هنود أربعة مسلمون وجعلوا
يلطمون على صدورهم لطما خفيفا هادئ ويترنّمون ب «يا حسين يا حسين» وكشفوا
عن ساقهم وهم حفاة ، ومن ورائهم صبيّ على هيأتهم ربما كان عمره عشر سنوات ونحو ذلك
، فدخلوا الحفرة مستقبلين القبلة بهدوء وطمأنينة بلا تهيّج ولا اضطراب واجتازوا
الحفرة وخرجوا من الجانب الآخر بسلام لم يمسّهم أثر من الحريق. هذا ما شاهدته
بعيني وكثير من وجوه السادة الأجلّاء بكربلاء حضور يرون المشهد الرهيب بكلّ إعجاب
وإكبار!
واستمعت إلى
الإذاعات هذه الأيّام أنّ هذه عادة جارية بين الهنود ، من مسلمين وغير مسلمين ،
وأنّها تمسّ عزيمة النفس القوية بأنّها قاهرة تغلب على تأثير النار في أجسامهم ،
الأمر الذي يشكّل ركيزة السرّ في تغلّبهم على توهّج النار الملتهبة ، ويحضر
المراسم كثير من الخلائق المجتمعة من حول العالم ليروا المشهد عن كثب بما لا يدع
مجالا للاستنكار.
وهناك نفوس
قدسية أكبر قدرة على التغلّب على نواميس الطبيعة بفضل اعتلاء قدرتهم النفسية
الإلهية.
تلك السيّدة زينب
الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه وعلى آله أفضل صلوات المصلّين) عند ما
حاولت أن تخطب خطبتها المعروفة في سوق الكوفة وهي رهن إسارتها إلى يزيد الطاغية. فأشارت
إلى الجمع أن اسكتوا ، قال الراوي : فعند ذلك سكنت الأنفاس وهدأت الأجراس ، وجعلت
تخطب في جوّ ملؤه الهدوء حتّى من صفير الأجراس! إنّ هذه قوّتها النفسية الخارقة
أثّرت حتى في الجمادات!
وكان لنا صديق
يعمل في تجهيز الأدوات الكهربائية ، فرأيته وهو يمسك على سلك كهربائي مجرّد عن
الغلاف ويعمل في مزاولته لتجهيز حفلة كبيرة بمناسبة ميلاد الإمام المنتظر الحجّة بن
الحسن (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ليلة النصف من شعبان. فتعجّبت منه وهو ماسك
على السلك المجرّد يعمل به ، واقتربت منه ، فقال : لا تمسّني وكلّ جسدي ملؤه
الكهرباء. فقلت له : وكيف أنت وقد مسكت السلك؟! قال : أنا أتغلّب على الكهرباء
وأضغط عليه بكلّ قوّة فلا يغلبني ، وهذا عملي المستمرّ يوميّا ، أغلب على القوّة
الكهربائية ولا تغلبني ، بفضل قدرتي على التغلّب عليها في صلابة قوية!
فتعجّبت من صنيعه ، ولكن لا عجب بعد أن كانت النفس البشرية ذات قوّة قاهرة جبّارة
...
وعلى أي حال ،
فهذا من قدرة النفس الجبّارة ، وأين هذا من السحر ، على ما حسبه صاحبنا وجدي ومن
قبله ابن خلدون؟!
تلك مشاهد بل
حقائق لا يمكن إنكارها ، إذا ما لاحظنا قدرة الإنسان النفسية الخارقة ، الذي تسخّر
له ما في السماوات وما في الأرض جميعا ، بفضل منه تعالى. «والنفس في وحدتها كلّ
القوى».
أتزعم أنّك
جرم صغير
|
|
وفيك انطوى
العالم الأكبر
|
هذا من جانب ،
ومن جانب آخر لا ننكر أنّ وراء هذا العالم المحسوس عالم أرقى ملئ بالكائنات
العاقلة (ذوات الشعور) من ملك أو جنّ أو أرواح طيّبة أو خبيثة. ولكن أنّى لهؤلاء
الصعاليك (سحرة الأرض) الهيمنة على تلك الكائنات المتعالية ذوات القدر الجبّارة. إنّهم
أعلى كعبا من أن تنالها أيد شلّاء قاصرة. وقد قامت الشواهد المستوعبة على وجود
عالم الغيب وراء عالم الشهود. لكن هل بإمكان العائشين على الأرض التغلّب والسيطرة (تسخير)
تلك الكائنات المنبثّة وراء ستار الغيب؟ وقد دلّت الشواهد على أنّهم أعجز من ذلك ،
اللهمّ إلّا بعض الإيحاءات الخبيثة تلقيها الشياطين على شاكلتهم في الأرض (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى
أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ). فهم الذين وقعوا في فخّ الشياطين وحسبوا أنّها مسخّرة
لهم ، يا لها من مهزلة تنبؤك عن سفاهة في ذوي العقول الضعيفة. وقد استوفينا الكلام
عن ذلك في رسالة كتبناها عن الأرواح.
وبعد ، فإذ لم
تثبت حقيقة للسحر بمعنى التأثير في قلب الطبيعة وتسخير الكائنات ، نعم سوى تمائم
هي نمائم ووساوس ينفثونها لفكّ العقد وفصم الروابط والأواصر بين المتحابّين ، (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). ومن ثمّ لا تأثير لدسائسهم في
__________________
نفوس متّكلة على الله قويمة بعنايته تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ). فكان ما تعلّموه ضرر عليهم ولا ينفعهم شيئا. الأمر الذي
جعلهم عجزة ومساكين وعائشين على فضلة الأثرياء أو الضعفاء الأغنياء. قال تعالى
بشأنهم : (وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى).
وهذا طابع
وسمهم به القرآن الكريم. حيث يقول ـ موجّها خطابه إلى المشركين في زعمهم أنّ النبي
جاء بسحر ـ : (أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ). دليلا على أنّ الذي جاء به نبيّ الإسلام لا صلة له
بالسحر ، حيث قد توفّق في تبليغ دعوته والتأثير بشريعته تأثيرا في واقع الحياة. الأمر
الذي لا يتلاءم وسحر السحرة غير المفلحين ولا موفّقين في مسيرتهم المنحرفة بل
مكدودين عاجزين أذلّاء ومساكين حقراء.
هذا هو منطق
القرآن ونظرته القاطعة بشأن السحر والسحرة ، لا واقع له ولا تأثير خارج إطار
الدسائس الخبيثة. وأن لا قدرة لساحر ولا هيمنة على سكّان الأرض السفلى فكيف
بالسلطة على سكّان السماوات العلى. فلا نجاح لهم في عمل ولا حظّ لهم في سعادة
الحياة.
* * *
ثمّ فلنفرض أنّ
جاهلية العرب كانت تعتقد بحقيقة السحر عقيدة جاهلية بائدة ، لكن هل هناك شاهد على
أنّ القرآن وافقهم أو جاراهم على تلك العقيدة الباطلة؟ فلننظر في الموارد التي
أخذوها شواهد على زعم الموافقة أو المجاراة ، وهي ثلاثة موارد : سحرة فرعون ، سحرة
بابل ، النفّاثات في العقد. نبحث عنها على الترتيب :
سحرة فرعون
ممّا أخذوه
شاهدا على ذلك سحرة فرعون ، حيث يقول عنهم القرآن : (وَجاؤُ بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ).
__________________
وقد عرفت أنّ
سحرهم كانت شعوذة والأخذة بالعين لا غير. فقد (سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) وكانت (حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). فقد كان مجرّد تلبيس وتمويه في الأمر وأروهم ما كان
الواقع خلافه.
وإذا كان هذا (مجرّد
التخييل والتمويه) سحرا عظيما ـ والسّحر ما لطف ودقّ مأخذه ـ فكيف بغير العظيم
الذي هو أخفّ وزنا وأردأ شأنا. هذا ما يرسمه لنا القرآن من واقع السحر ، وأنّه
يخالف تماما ما كانت العرب تعتقده بشأن السحر وتأثيره في قلب الواقع ، فكيف يا ترى
مزعومة من زعم أنّ القرآن وافق العرب في عقيدتها أو جاملهم وتماشى معهم في أمر
باطل!؟
قال سيّد قطب :
وحسبنا أن يقرّر القرآن أنّه سحر عظيم ، لندرك أيّ سحر كان. وحسبنا أن نعلم أنّهم
سحروا أعين الناس وأثاروا الرهبة في قلوبهم (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) لنتصوّر أيّ سحر كان. ولفظ «استرهب» ذاته لفظ مصوّر ،
فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسرا. ثمّ حسبنا أن نعلم من
النصّ القرآني ـ في سورة طه ـ أنّ موسى عليهالسلام قد أوجس في نفسه خيفة لنتصوّر حقيقة ما كان. ولكن
مفاجأة اخرى تطالع فرعون وملأه ، وتطالع السحرة الكهنة ، وتطالع جماهير الناس في
الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم : (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ).
إنّه الباطل
ينتفش ، ويسحر العيون ، ويسترهب القلوب ، ويخيّل إلى الكثير أنّه غالب ، وأنّه
جارف ، وأنّه محيق! وما هو إلّا أن يواجه الهادئ الواثق ، حتّى ينفثئ كالفقّاعة ،
وينكمش كالقنفذ ، وينطفئ كشعلة الهشيم! وإذا الحقّ راجح الوزن ، ثابت القواعد ،
عميق الجذور. والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال ، وهو يصوّر الحقّ واقعا ذا
ثقل «فوقع الحقّ» ... وثبت ، واستقرّ ... وذهب ما عداه فلم يعد له وجود : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
__________________
وغلب الباطل والمبطلون وذلّوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر
العيون : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ
وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ).
قال : فالسحر
لا يغيّر من طبيعة الأشياء ، ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنّه يخيّل للحواسّ
والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو [واقع] السحر كما صوّره القرآن الكريم في قصّة
موسى عليهالسلام فلم تنقلب حبالهم وعصيّهم حيّات فعلا ، ولكن خيّل إلى
الناس أنّها تسعى. وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلّم بها. وهو بهذه الطبيعة
يؤثّر في الناس ، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه. مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجّههم
الوجهة التي يريدها الساحر.
قال : وعند هذا
الحدّ نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد. وهي شرّ يستعاذ منه بالله ويلجأ
إلى حماه.
سحرة بابل
كان المجتمع
البابلي ـ على عهد الكلدانيّين ـ مجتمعا فاسدا شاعت فيه الفحشاء والمنكرات وراج
الفساد والإفساد في الأرض ، وكان من أساليب إفسادهم ارتكاب الحيل الماكرة والدسائس
الخادعة لإيجاد البغضاء والشحناء بين الناس ، وبثّ روح سوء الظنّ بين المؤتلفين :
بين المرء وزوجته. بين الوالد وولده. بين الأخوين. بين الشريكين في صنعة أو تجارة.
وذلك عن طريق الوساوس والدسائس والخدع والنيرنجات ، وكان السبب يعود إلى هيمنة
الحسد على الناس حينذاك ، بما جعلهم يبغض بعضهم بعضا ويعمل بعضهم ضدّ البعض في
أساليب وحيل خدّاعة كلّ يوم في شكل من أشكالها ، ويتعاون بعضهم مع بعض في تخطيط
هذه الأساليب وتنويعها (يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً). وإلى ذلك تشير سورة الناس : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ
النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ
__________________
الْوَسْواسِ
الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ). الخنس : العمل في خفاء وعن وحشة الافتضاح ، ومن ثمّ
إذا أحسّ بالفضح خنس أي انقبض وتخفّى بسرعة. فكان الخنّاس هو الذي يعمل في خبث
ولؤم وعن وحشة خشية الافتضاح. فهو يعمل في خبث معه ضعف وجبن ووهن في مقدرته
الماكرة.
فأنزل الله
الملكين هاروت وماروت ببابل ينبّهان الناس على إفشاء تلك الأساليب الماكرة
ويعلّمانهم طرق التخلّص منها والنقض من أثرها. غير أنّ بعض الخبثاء كانوا يتعلّمون
ما يضرّهم دون ما ينفعهم. ليفرّقوا بين المرء وزوجته. سوى أنّ الله غالب على أمره
وما تشاءون إلّا أن يشاء الله.
يقول الله عن
سوء تصرّف بني إسرائيل : (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ
بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
لقد تركوا ما
أنزل الله ونبذوه وراء ظهورهم ، وراحوا يتتبّعون ما كان يقصّه الشياطين ـ والشيطان
وصف لكلّ خبيث سيّئ السريرة ـ على عهد سليمان وأساليب تضليلهم للناس من دعاو
مكذوبة عن سليمان حيث كانوا يقولون إنّه كان ساحرا وإنّه سخّر ما سخّر بسحره. والقرآن
ينفي عنه ذلك (وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ) باستعمال السحر الذي هو في حدّ الكفر بالله العظيم. ولكن
الشياطين (خبثاء الجن والإنس) كفروا يعلمون الناس السحر (طرق الإضلال وأساليب
التضليل).
ثمّ ينفي أنّ
السحر منزل من عند الله على الملكين : هاروت وماروت ، اللذين كان مقرّهما بابل. ويبدو
أنّه كانت هناك قصّة معروفة عنهما وكان اليهود أو الشياطين يدّعون أنّهما كانا
يعرفان السحر ويعلّمانه للناس. فنفى القرآن هذه الفرية ، وبيّن الحقيقة ، وهي أنّ
__________________
هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس ، كانا يقولان لكلّ من يأتيهما
طالبا منهما معرفة طريق التخلّص من براثن الشياطين السحرة : لا تكفر باستخدام تلك
الأساليب الماكرة. وقد كان بعض الناس يصرّ على تعلّم السحر لغرض خبيث على الرغم من
تحذيره وتبصيره ، (فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ). وهنا يبادر القرآن فيقرّر كلّية التصوّر الإسلامي
الأساسية ، وهي أنّه لا يقع شيء في هذا الوجود إلّا بإذن الله ورعاية مصلحته
وحكمته. فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشأ آثارها وتحقّق نتائجها وإن كانت
عاقبة السوء تعود على الزائغين الذين ينحرفون عن الطريق السوي والصراط المستقيم
الذي رسمه لهم ربّ العالمين.
ثمّ يقرّر
القرآن حقيقة ما يتعلّمونه بغية إيقاع الشرّ بالآخرين ، إنّه شرّ عليهم وليس خيرا
لهم (وَيَتَعَلَّمُونَ ما
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ). وربّما يكفي أن يكون هذا الشرّ هو الكفر والخسران في
الآخرة (وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). فمن تعلّم شرّا وحاول الإضرار به يعلم أن لا نصيب له
في العاقبة ، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كلّ رصيد له في الآخرة سوى العقاب. فما
أسوأ ما باعوا به أنفسهم وأضاعوا خيرات كانت لهم في عقبى الدار. (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كانوا يفقهون ويعون واقع الأمر.
(النَّفَّاثاتِ فِي
الْعُقَدِ)
النفث ، قذف
القليل من الريق شبيه بالنفخ ، وهو أقلّ من التفل. ونفث الراقي أو الساحر أن ينفث
بريقه في عقد يعقدها بعد كلّ زمزمة يتزمزم بها ليسحر بها فيما زعموا. والمراد به
هنا هي النميمة ينفثها النمّامون في العقد أي في الروابط الودّية ليبدّدوا شمل
الالفة بين المتحابّين : المرء وزوجته ، الوالد وولده ، الأخوين ، المتشاركين في
صنعة أو تجارة أو زراعة وغير ذلك ممّا يرتبط وأواصر الودّ بين شخصين أو أكثر. والعرب
تسمّي
__________________
الارتباط الوثيق بين شيئين أو شخصين عقدة ، كما جاء التعبير عن الارتباط
بين الزوجين «عقدة النكاح» قال تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).
(إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ). ومعنى الآية : ومن شرّ النمّامين الذين يحاولون
بوساوسهم الخبيثة قطع الأواصر بين المتحابّين. وهذا من التشبيه في الجمل التركيبية
، نظير التشبيه في سورة المسد بشأن أمّ جميل امرأة أبي لهب (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي النمّامة. حيث النمّام يحمل على عاتقه حطب لهيب
النفاق والتفرقة بين المتحابّين. وجاء مناسبا مع تكنّي زوجها بأبي لهب. فهي تحمل
حطب هذا اللهب. فكما أنّها لم تكن تحمل حطبا حقيقة ـ كما زعمه بعضهم ـ لأنّها بنت
حرب أخت أبي سفيان وكذا زوجها أبو لهب ، كانا من أشراف قريش الأثرياء ، غير أنّهما
كانا يحملان خبثا ولؤما بالغين.
فالنميمة تحوّل
ما بين الصديقين من محبّة إلى بغضاء بالدسائس وهي وسائل خفيّة تشبه السحر الذي هو
ما لطف ودقّ مأخذه. فالنّمام يأتي بكلام يشبه الصدق ويؤثّر في خلدك كما يفعل
الساحر المشعوذ إذا أراد أن يحلّ عقد المحبّة والوداد بين كلّ متحابّين. إذ يتزمزم
بألفاظ ويعقد عقدة وينفث فيها ، ثمّ يحلّها إيهاما للعامّة أنّ هذا حلّ للعقدة بين
الزوجين أو غيرهما. فهو من التشبيه المحض وليس المقصود ما تفعله السحرة بالذات. الأمر
الذي يتناسب مع سائر آيات سورة الفلق : (مِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا وَقَبَ). أي ومن شرّ الليل إذا دخل وغمر كلّ شيء بظلامه. والليل
إذا كان على تلك الحال كان مخوفا باعثا على الرهبة والوحشة ، لأنّه ستار يختفي في
ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى ، وعون لأعدائك إذا قصدوا بك الفتك ... وهكذا
قوله : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ) يعني : شرّ حاسد إذا حاول إنفاذ حسده بالسعي والجدّ في
إزالة نعمة من يحسده. فهو يعمل الحيل وينصب شبائكه لإيقاع المحسود في فخّ الضرر
والأذى ، يعمل ذلك بأدقّ الوسائل لتنفيذ مكايده.
__________________
فكما أنّ
الآيتين (السابقة واللاحقة) استعاذة بالله من مكايد أهل الزيغ والإفساد ، كذلك هذه
الآية (النفّاثات في العقد) هي مكايد يرتكبها أهل النمائم لإيقاع الأذى. شبّهوا
بالسّاحرات ينفثن في العقد.
فالاستعاذة
منهم جميعا إلى الله المستعان لإحباط مساعيهم وردّ مكائدهم في نحورهم ، وهو الملجأ
والمعين.
قال سيّد قطب :
والنفّاثات في العقد : السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواسّ ، وخداع
الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس والتأثير في المشاعر. وهنّ يعقدن العقد في نحو خيط
أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء. قال : والسحر لا يغيّر من
طبيعة الأشياء ، ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنّه يخيّل للحواسّ والمشاعر بما
يريده الساحر.
قال شيخ
الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي قدسسره : ولا يجوز أن يكون النبيّ صلىاللهعليهوآله سحر ، على ما رواه القصّاص الجهّال ، لأنّ من يوصف
بأنّه مسحور فقد خبل عقله ، وقد أنكر الله تعالى ذلك في قوله : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).
وهكذا قال
العلّامة الطبرسي في تفسيره للسورة عند الكلام عن شأن النزول.
وقال الاستاذ
محمّد عبده : قد رووا هنا أحاديث في أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله سحره لبيد بن الأعصم ، وأثّر سحره فيه حتّى كان يخيّل
إليه أنّه يفعل الشيء وهو لا يفعله ، أو يأتي شيئا وهو لا يأتيه. وأنّ الله أنبأه
بذلك ، واخرجت موادّ السحر من بئر ، وعوفي ممّا كان نزل به من ذلك ونزلت هذه
السورة!
ولا يخفى أنّ
تأثير السحر في نفسه عليه الصلاة والسلام ماسّ بالعقل آخذ بالروح. فهو ممّا يصدّق
قول المشركين فيه : (إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).
والذي يجب
علينا اعتقاده أنّ القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة
__________________
والسلام ، حيث نسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبّخهم على ذلك.
والحديث ـ على
فرض صحّته ـ من أحاديث الآحاد التي لا يؤخذ بها في العقائد ، وعصمة الأنبياء عقيدة
لا يؤخذ فيها إلّا باليقين.
على أنّ سورة
الفلق مكّية نزلت بمكة في السنين الاولى ، وما يزعمونه من السحر إنّما وقع في
المدينة في السنين الأخيرة حيث اشتدّ العداء بين اليهود والمسلمين فهذا ممّا يضعف
الاحتجاج بالحديث ويضعف التسليم بصحّته.
قال سيّد قطب :
هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ، ولا تستقيم مع
الاعتقاد بأنّ كلّ فعل من أفعاله صلىاللهعليهوآله وكلّ قول من أقواله سنّة وشريعة. كما أنّها تصطدم بنفي
القرآن عن الرسول صلىاللهعليهوآله أنّه مسحور ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدّعونه من
هذا الإفك. ومن ثمّ نستبعد هذه الروايات ، وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر
العقيدة ، والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في اصول الاعتقاد ،
وهذه الروايات ليست من المتواتر ، فضلا عن أنّ نزول هاتين السورتين في مكّة هو
الراجح ، ممّا يوهن أساس الروايات الاخرى.
وقد استوفينا
الكلام حول مزعومة سحر النبيّ صلىاللهعليهوآله وتنفيد رواياته بصورة مستوعبة ، فراجع.
ظواهر روحيّة غريبة
إنّه ما يزال
مشاهدا في كلّ وقت أنّ بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن حقيقتها بعد. لقد
سمّي بعضها بأسماء من غير أن يحدّد كنهها ولا معرفة طرقها. هذه ظاهرة «التيليپاثي»
ـ التخاطر من بعيد ـ ما هو؟ وكيف يتمّ؟ كيف يملك إنسان أن يتلقّى فكرة من إنسان
آخر على أبعاد وفواصل لا رابط بينهما سوى هذا الاتّصال الروحي
__________________
الغريب؟! وربّما تتلقّى الفكرة من كائن حيّ وراء ستار الغيب ، إمّا فكرة
طيّبة ـ وهي نفثة روح القدس ـ أو فكرة خبيثة تنبثها شياطين الجنّ. وإلى هذا الأخير
جاءت الإشارة في قوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ). وهكذا تتبادل الأفكار الذميمة بين شياطين الجنّ والإنس
: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).
وهذا السبات
المغناطيسي «هبنوتزم» أو التنويم الصناعي يتمّ بسيطرة إرادة إنسان على إرادة آخر
كان قد نوّمه بطريقة غير عادية. قالوا : إنّ في الإنسان سيّالا مغناطيسيا لا يعرف
كنهه ينبعث منه بالإرادة ويؤثّر على الأشياء أو الأشخاص تأثيرا خاصّا. فقد يلقّنه
بأن يوقع في وهمه فيقتنع هذا اقتناعا تامّا. أو استخراج الروح من الجسد ليأخذ
بالتجول والاطّلاع على غيوب. وربّما استخدم هذا السيّال المغناطيسي في الطبّ وفي
معالجة قسم من الأمراض المستعصية. لكن لم يحدّد إلى اليوم ما هو؟ وكيف يتمّ؟ وكيف
يقع أن تسيطر إرادة على إرادة؟ أو ينفعل شيء بتأثير قوّة الإرادة؟
وهكذا تحضير
الأرواح ـ حسبما يسمّونه اليوم ـ يقوم على أساس اتصال روحيّ بكائنات حيّة وراء
ستار الغيب. أمّا ما هذه الكائنات الحيّة؟ وكيف يتمّ هذا الاتصال؟
وهل هو اتصال
بأرواح فارقت أجسادها بالموت أم هي غيرها؟ الأمر الذي بقي مجهولا لم يقطع بشيء منه.
حكى لي زميلنا
العلّامة الشيخ مهدي الآصفي أنّ جماعة من مزاولي هذا الفنّ طلبوا إليه أن يشهد
جلسة يتمّ فيها هذا العمل ، قال : وبعد أعمال وأطوار قاموا بها طلبوا إليّ رغبتي
في إحضار روح من الأرواح ، فرغبت أن يحضر روح الشيخ الأعظم المحقّق الأنصاري قدسسره فلمّا حضر ـ وفق إخبارهم ـ قالوا : ما ذا تبتغي السؤال
منه؟ فطلبت إليهم أن يسألوه عن مسألة أصولية عريقة كان الشيخ هو مبدعها وهي مسألة «الحكومة
والورود» في دلائل الأحكام. فرغبت أن يشرحها بنفسه حيث الاختلاف كثير في تفسيرها. وعند
__________________
ذلك قالوا : إنّ الرّوح قد سخط من هذا السؤال وترك الجلسة وذهب مغضبا!
نعم ، لا ننكر
إمكان ذلك إجماليّا ، ولكن هل هذا الأمر يتمّ بهذه التوسعة؟ وهل هذه الأرواح هي
أرواح الأموات أم غيرها؟ الأمر الذي لا يمكن البتّ فيه. غير أنّ هذه وأمثالها
مظاهر روحية غريبة ، وهي في جميع أنحائها وأشكالها لا تمسّ قضية السحر حسبما كان
يزعمه الأقدمون ـ من الاستعانة بأرواح الأفلاك والكواكب وتسخيرها ـ أو حسبما راج
عند أوساط السذّج الأوهام اليوم وربّما بعد اليوم ما دام لم تكتمل العقول.
كلام عن إصابة العين
قالوا : وممّا
نجد القرآن متأثّرا بالبيئة العربية الجاهلة اعترافه بإصابة العين في مواضع :
الأوّل : قوله
تعالى ـ حكاية عن يعقوب عليهالسلام ـ : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا
تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). قيل : خاف عليهم إصابة العين لأنّهم كانوا ذوي جمال
وهيبة وكمال وهم إخوة أولاد رجل واحد.
الثاني : قوله
تعالى : (وَإِنْ يَكادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ
وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ). قيل : يزلقونك بمعنى يصيبونك بأعينهم. قال الطبرسي : والمفسّرون
كلّهم على أنّه المراد من الآية.
الثالث : قوله
تعالى : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ). قيل : أي من شرّ عينه. وعن ابن أبي عمير رفعه قال : أما رأيته إذا فتح عينيه
وهو ينظر إليك هو ذاك.
والكلام هنا من
جهتين ، الأولى : هل القرآن تعرّض لتأثير العين ، سواء كان حقّا أم
__________________
باطلا؟ الثانية : هل للعين تأثير سوء ذاتيا مع قطع النظر عمّا جاء في
القرآن؟
أمّا الجهة
الاولى فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يدلّ على ذلك :
أمّا قولة
يعقوب لبنيه : (لا تَدْخُلُوا مِنْ
بابٍ واحِدٍ ...) فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الاولى التي
رجعوا منها خائبين. فلو كان يخاف عليهم العين لأمرهم بذلك في المرّة الاولى بل وفي
كلّ سفرة وحلّ وارتحال ، فيمنعهم أن يترافقوا في الأسفار على الإطلاق ، ولا خصوصية
لهذه المرّة من الدخول على يوسف.
قيل : إنّما
قال لهم ذلك ـ في هذه المرّة ـ ليستخبر من حالة العزيز حين يدخل عليه كلّ أخ له ،
فيستعلم من تأثير كلّ واحد عند الدخول عليه حالته الخاصّة وما يظهر على أسارير
وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه من أمّه بنيامين. ولعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخ آخر
لهم من أبيهم ، أنّه هو يوسف. فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز ولعلّه يوسف
نفسه. الأمر الذي لا يعلم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعة واحدة. ومن ثمّ لمّا دخل
عليه أخوه بنيامين آواه وأفشى نفسه لديه. الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده. فقد
تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه.
وهذا يدلّ على
فراسة يعقوب القوية ، حيث يقول عنه تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو
عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي ذو فراسة قوية.
قال إبراهيم
النخعي ـ وهو تابعيّ كبير ـ : إنّ يعقوب عليهالسلام كان يعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف إلّا أنّ
الله لم يأذن له في التصريح بذلك فلمّا بعث أبناءه إليه أوصاهم بالتفرقة عند
الدخول وكان غرضه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوة من سائر إخوته.
وقوله تعالى : (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) يعني : إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب لم يكن يغيّر
من المصلحة التي رعاها الله بشأنه ،
__________________
ولكن كانت تلك بغية أمل في نفس يعقوب ، قضاها الله رعاية لجانبه العزيز على
الله.
وممّا يبعّد
إرادة إصابة العين ـ إضافة على ما ذكرنا ـ أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على
الدخول من أبواب متفرّقة ، بل يكفي الدخول متعاقبين وفي فترات. ثمّ إنّهم كانوا
يدخلون مصر في جمع غفير من رفقة القافلة الحاشدة بالأحمال والأثقال ، فكيف يعرف
الناس أنّ هؤلاء إخوة من أب واحد؟
وكذا قوله
تعالى : (وَإِنْ يَكادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ...).
الزلق : الزلّة.
وأزلقه : أزلّه ونحّاه عن مكانه. والمزلق : المكان الذي ينزلق عليه ولا يمكن
الثبات عليه.
والإزلاق
بالأبصار ، تحديق النظر إليه نظر ساخط شديد السخط بحيث يكون مرعبا يوجب الوحشة
والتراجع عمّا هو فيه خوفا من إيقاع الأذى به.
و «إن» مخفّفة
من المثقلة. أي كاد أن يزلّوك عن موضعك بشدّة السخط والإرعاب والإرهاب ، البادي
ذلك من تحديق نظرهم المغضب إليك.
أي إنّهم لشدّة
عداوتهم وبغضائهم ينظرون إليك نظرا شزرا حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضا فتصدع حين سمعوك تتلو
كتاب الله وتنبذ أصنامهم.
وهذا نظير قوله
تعالى : (وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها). يقال : فزّه واستفزّه أي أزعجه.
فهذه النظرات
الشذرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصلب فتجعله يزلّ ويزلق ويفقد توازنه وثباته
على الأمر. وهو تعبير فائق عمّا تحمله هذه النظرات العدائية من غيظ وحنق وشرّ
ونقمة وضغن ، وحمى وسمّ (لَمَّا سَمِعُوا
الذِّكْرَ). مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح
والشتم البذيء والافتراء الذميم (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ
لَمَجْنُونٌ).
ويدلّنا على
عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات أنّ إصابة العين
__________________
إنّما تكون عند الإعجاب بشيء لا عند التنفّر والانزجار. والآية تصرّح
بأنّهم كادوا يزلقونه لمّا سمعوا الذكر ، ماقتين عليه نافرين منه. فجعلوا يسلقونه
بالسباب والشتم ويرمونه بالجنون. فكيف والحال هذه يحسدونه فيصيبونه بأعينهم؟!
الأمر الذي لا يلتئم وسياق الآية الكريمة.
قال الزجّاج :
معنى الآية ، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد نظر عداوة
وبغض وإنكار لما يسمعونه وتعجّب منه ، فيكادون يصرعونك بحدّة نظرهم ويزيلونك عن
موضعك. وهذا مستعمل في الكلام ، يقولون : نظر إليّ فلان نظرا يكاد يصرعني ونظرا
يكاد يأكلني فيه. وتأويله كلّه أنّه نظر إليّ نظرا لو أمكنه معه أكلي أو يصرعنى
لفعل.
وهكذا قال
الجبائي : إنّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله نظر استحسان وإعجاب بل نظر مقت ونقص.
وهكذا قوله : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) ـ في سورة الفلق ـ أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض
إيقاع الأذى والضرر بالمحسود. أي استعذ بالله من شرّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده ،
بالسعي والجدّ في إزالة نعمة من يحسده ، فهو يعمل الحيل وينصب شبائكه لإيقاع
المحسود في الضرر والخسران ، وربّما بأدقّ الوسائل والذرائع ، وليس في الاستطاعة
الوقوف على ما يدبّره من مكايد إلّا أن يستعان عليه بربّ الفلق أي مسبّب الفرج
والخلاص من كيد الكائدين ، والإحباط من مساعيهم الخبيثة.
نظرة فاحصة عن إصابة العين
أمّا الجهة
الاخرى ـ وهو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها السيّئ في النفوس والأموال ـ فقد
شاع الإشفاق منها في أوساط بدائية وربما في أوساط متحضّرة أيضا ،
__________________
وفي ذلك نوع من الاعتراف بحقيقته إجماليا. وربّما علّلوه بتعاليل تبدو
طبيعية ترجع إلى نفس العائن. قالوا : هي تشعشعات تموّجية تنبعث من عين الرائي الذي
أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ والأكثر إذا كان عن حسد خبيث ، وربما من
غير شعور بهذا الانفعال النفسي المفاجئ في غالب الناس. وهي خاصّية غريبة قد توجد
شديدة في البعض وخفيفة في الآخرين.
وهذه التشعشعات
السامّة تشبه التيّارات الكهربائية تؤثّر في المتكهرب بها تأثيرا بالفعل ، الأمر
الذي يكون طبيعيا وليس شيئا خارقا ، وإن كان لم يعلم كنهها ولا عرفت حدودها
ومشخّصاتها ولا إمكان مقابلتها مقابلة علمية فيما سوى الدعاء والصدقة والتوكّل على
الله تعالى.
قال الشيخ ابن
سينا : إنّ لبعض النفوس تأثيرا في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه.
وقال أبو عثمان
الجاحظ : لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة
متّصلة به وتؤثّر فيه ، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعين كالخواصّ للأشياء.
قال ـ في كتاب
الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشره والحرص ونفوسهم ـ : كان علماء الفرس
والهند وأطبّاء اليونان ودهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذّاق
المتكلّمين يكرهون الأكل بين يدي السباع ، يخافون نفوسها وعيونها ، للّذي فيها من
الشره والحرص والطلب والكلب ، لما يتحلّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء ،
وينفصل من عيونها من الامور المفسدة ، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته. ولذلك
كانوا يكرهون قيام الخدم بالمذاب (مطردة الذباب) والأشربة على رءوسهم وهم يأكلون ،
مخافة النفس والعين. وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، وكانوا يقولون في
السنّور
__________________
والكلب إما أن تطرده قبل أن تأكل وإمّا أن تشغله بشيء يأكله ولو بعظم يطرح
له.
قال : ورأيت
بعض الحكماء وقد سقطت من يده لقمة ، فرفع رأسه فإذا عين غلام تحدّق نحو لقمته ،
وهو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة ، وكان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام ،
ويضيّق على غلمانه.
وقالت الحكماء
: إنّ نفوس السباع وأعينها في هذا الباب أردأ وأخبث لفرط شرهها وشرّها. قال الجاحظ
: بين هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شركة وقرابة. ذلك
أنّهم قالوا : قد رأينا أناسا ينسب إليهم ذلك ، ورأيناهم وفيهم من إصابة العين
مقدار من العدد ، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الاتفاق. وليس إلى ردّ الخبر
«العين حقّ» سبيل ، لتواتره وترادفه. ولأنّ العيان قد حقّقه والتجربة قد ضمّت إليه.
قالوا : ولو لا
فاصل ينفصل من عين الرائي المعجب إلى الشيء المعجب به ـ حتّى يكون ذلك الداخل عليه
هو الناقض لقواه ـ لما جاز أن يلقى المصاب بالعين مكروها من قبل العائن ، من غير
تماسّ ولا تصادم ولا رابط يربط أحدهما بالآخر.
قال الأصمعي :
رأيت رجلا عيونا (الشديد الإصابة بالعين) كان يذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء
وجد حرارة تخرج من عينه.
وأضاف الجاحظ ـ
ردّا على من زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد ـ : أنّ الاعتراف
بالطبائع اعتراف بسنّة الله الجارية في الخلق والتدبير ، وليس أمرا خارجا عن طوع
إرادته تعالى. قال : ومن زعم أنّ التوحيد لا يصحّ إلّا بإبطال حقائق الطبائع فقد
حمل عجزه على الكلام في التوحيد. وإنّما يأنس منك الملحد إذا لم يدعك التوفّر على
التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع ، لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها. وإذا كانت
الأعيان هي الدالّة على الله فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه.
__________________
وللسيّد الشريف
الرضي قدسسره كلام لطيف عند شرحه
لقول النبيّ صلىاللهعليهوآله : «العين حقّ ستنزل الحالق».
قال : وهذا
مجاز ، والمراد أن الإصابة بالعين من قوّة تأثيرها وتحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط
العالي من ارتفاعه ، وتستقلق (أي تزحزح) الثابت بعد استقراره. والحالق ، المكان
المرتفع من الجبل وغيره. فجعل عليه الصلاة والسلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل
من شدّة بطشها وحدّة أخذها. وقد تناصرت (تضافرت) الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ.
والذي يقوله أصحابنا : إنّ الله سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما
يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها والأقدار التي يقدّرها. وإذا
تقرّرت هذه القاعدة ، فغير ممتنع أن يكون تغييره تعالى نعمة زيد مصلحة لعمرو ،
وإذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنّه لو لم يسلب زيدا نعمته ويخفض منزلته أقبل
على الدنيا بوجهه ونأى عن الآخرة بعطفه وأقدم على المغاوي وارتكس في المهاوي ،
وإذا سلب سبحانه نعمة زيد للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه عنها وأعطاه بدلا منها عاجلا
أو آجلا. وإذا كان ذلك كما قلنا ـ وقد روي عنه صلىاللهعليهوآله ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عظم في صدور العباد وضع الله
قدره وصغّر أمره ـ لم ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين
إليه واستحسانه له وعظمه في صدره وفخامته في عينه. كما روي أنّه صلىاللهعليهوآله قال ـ لمّا سبقت ناقته العضباء وكانت إذا سوبق بها لم تسبق ـ : «ما رفع العباد من شيء
إلّا وضع الله منه».
__________________
فيمكن أن يتأوّل قوله عليه الصلاة والسلام : «العين حقّ» على هذا الوجه. ويجوز
أن يكون ما أمر به المستحسن للشيء عند رؤيته له من إعاذته بالله والصلاة على رسول
الله قائما في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن ، فلا تغيّر عند ذلك ،
لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى الله سبحانه والإخبات له ، وأعاذ ذلك المرئي به ،
فكأنّه غير راكن إلى الدنيا ولا مغترّ بها ولا واثق بما يرى عليه أحوال أهلها.
قال : ولعمرو
بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهب انفرد به ، وذلك أنّه يقول :
إنّه لا ينكر
أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة فتؤثّر فيه وتجني عليه.
ويكون هذا المعنى خاصّا ببعض الأعين كالخواصّ في الأشياء. قال : وعلى هذا القول
اعتراضات طويلة وفيه مطاعن كثيرة ...
وهذا الكلام
نقلناه بطوله لما فيه من فوائد جمّة وتنبيه على أنّ من حكمته تعالى القيام بمصالح
العباد ، فربما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغو العائن فيخرج عن حدّه ، ثمّ إنّه
تعالى يعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضرر الوارد به. وقد يكون ذلك في مصلحة
المعيون لتكون كفّارة لما فرط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العائن. لكن هذا لا
ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة الله
الحكيمة.
وهكذا ذهب
المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين وفق ما أودع الله من خصائص في
طبيعة الأشياء.
قال سيّد قطب :
والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمنّي زوالها. وسواء أتبع
الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند
حدّ الانفعال النفسي ، فإنّ شرّا يمكن أن يعقّب هذا الانفعال.
قال : ونحن
مضطرّون أن نطامن من حدّة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود وأسرار النفس
البشرية وأسرار هذا الجهاز الإنساني. فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ،
ولا نملك لها حتّى اليوم تعليلا. هنالك مثلا التخاطر على البعد ، وكذلك التنويم
__________________
المغناطيسي. وقد أصبح الآن موضعا للتجربة المتكرّرة المثبتة ، وهو مجهول
السرّ والكيفيّة. وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار
هذا الجهاز الإنساني.
فإذا حسد
الحاسد ووجّه انفعالا نفسيّا معيّنا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه
لمجرّد أنّ ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر وكيفيّته
، فنحن لا ندري إلّا القليل في هذا الميدان ، وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في
الغالب ، ثمّ يستقرّ واقعة بعد ذلك. فهنا شرّ يستعاذ منه بالله.
هل تأثّر القرآن بالشعر الجاهلي؟
من طريف ما
يذكر بهذا الشأن ما زعمه بعض المستشرقين الأجانب أنّ القرآن ضمّن بعض آياته تعابير
اقتبسها من أبيات شعريّة جاهليّة!
فالدكتور «سنكلر
تسديل eladsuhT»
صاحب كتاب «مصادر الإسلام» يروي شبهات الناقدين للقرآن الكريم. ومنها هذه الأبيات
:
دنت الساعة
وانشقّ القمر
|
|
عن غزال صاد
قلبي ونفر
|
أحور قد حرت
في أوصافه
|
|
ناعس الطرف
بعينيه حور
|
مرّ يوم
العيد في زينته
|
|
فرماني
فتعاطى فعقر
|
بسهام من
لحاظ فاتك
|
|
تركتني كهشيم
المحتظر
|
ويتخذ منها
قرينة على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليين! ويضيف إلى هذه الأبيات
أبياتا اخرى كقول القائل :
أقبل
والعشّاق من خلفه
|
|
كأنّهم من
حدب ينسلون
|
وجاء يوم
العيد في زينة
|
|
لمثل ذا
فليعمل العاملون
|
__________________
قال : ومن
الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنّه لمّا كانت فاطمة بنت محمّد صلىاللهعليهوآله تتلو هذه الآية وهي (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها : إنّ هذه القطعة من
قصائد أبي أخذها أبوك وادّعى أنّ الله أنزلها عليه.
لكنّ الذي يكذب
هذه الأسطورة أنّ امرئ القيس مات سنة ٥٤٠ م أي قبل مولد النبيّ (٥٧٠ م) بثلاثين
سنة. فلو كنّا نعلم أنّ فاطمة عليهاالسلام ولدت بعد البعثة (٦٠٩ م) بخمس سنين (٦١٤ م) نعرف مدى
خرافة هذه الأكذوبة! إذ لا بدّ لفاطمة لو فرض أنّها أرادت قراءة القرآن في محفل
عامّ أن تبلغ عشر سنين مثلا. فلو فرضنا أنّ بنت امرئ القيس عند وفاة أبيها كانت
بلغت عشر سنين أيضا فيكون عمرها عند سماع قراءة بنت النبي صلىاللهعليهوآله قد بلغ أربع وتسعين سنة!! إذ ولادتها حينئذ تكون سنة
٥٣٠ م وعام سماعها ٦٢٤ م. وقلّ من يعيش في هذه السنّ من نساء الجاهليّة؟!
والمرجّح أنّ
هذا التضمين الشعري مقتبس من القرآن على يد بعض أهل المجون ، وكم له من نظير. ويشهد
لذلك ذكر العيد في هذه الأبيات الخاص بالعهد الإسلامي المتأخّر ، ولا سابق له قبل
الإسلام.
وللاقتباس عرض
عريض سواء في الشعر أم النثر ، وهو إمّا مقبول أو مردود على الشرح التالى :
الاقتباس
الاقتباس تضمين
الشعر أو النثر بعض القرآن ، لا على أنّه منه ، بأن لا يقال فيه : قال الله تعالى
ونحوه. وقد شاع الاقتباس منذ الصدر الأوّل وراج بين من تأخّر عنهم وعدّ من
المحسنات البديعية. وفي كثير من الخطب والأدعية فضلا عن الشعر تضمينات مقتبسة من
القرآن الكريم ، لها رواء وبهاء وارتفاع شأن الكلام.
__________________
وفي شرح بديعية
ابن حجّة : الاقتباس ثلاثة أقسام : مقبول ومباح ومردود. فالأوّل ما كان في الخطب
والمواعظ والعهود. والثاني ما كان في القول والرسائل والقصص والثالث على ضربين :
أحدهما : ما
نسبه الله إلى نفسه. ونعوذ بالله ممّن ينقله إلى نفسه ، كما قيل عن أحد بني مروان
أنّه وقّع على مطالعة فيها شكاية عمّاله : (إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)! والآخر : تضمين آية في معنى هزل. ونعوذ بالله من ذلك ،
كقوله :
أوحى إلى
عشّاقه طرفه
|
|
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)
|
وردفه ينطق
من خلقه
|
|
«لمثل ذا فليعمل العاملون»
|
قلت : والأبيات
التي ذكرها «تسديل» من هذا القبيل. أي القسم الممنوع من الاقتباس.
ومن القسم
الجائز ما رواه البيهقي في «شعب الإيمان» عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي قال :
أنشدنا أحمد بن محمّد ابن يزيد لنفسه :
سل الله من
فضله واتّقه
|
|
فإنّ التقى
خير ما تكتسب
|
ومن يتّق الله
يصنع له* (وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وذكر الزركشي للطرطوشي :
رحل الظاعنون
عنك وأبقوا
|
|
في حواشي
الأحشاء وجدا مقيما
|
قد وجدنا
السلام بردا سلاما
|
|
إذ وجدنا
النوى عذابا أليما
|
قال : وثبت
للشافعي :
أنلنى بالذي
استقرضت خطّا
|
|
وأشهد معشرا
قد عاينوه
|
فإنّ الله
خلّاق البرايا
|
|
عنت لجلال
هيبته الوجوه
|
__________________
يقول (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ* إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) وذكر السبكي في طبقاته في ترجمة أبي منصور البغدادي من
كبار الشافعية قوله :
يا من عدى ثم
اعتدى ثم اقترف
|
|
ثم انتهى ثم
ارعوى ثم اعترف
|
أبشر بقول
الله في آياته :
|
|
(إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما
قَدْ سَلَفَ)
|
قال جلال الدين
السيوطي : هذا وما قبله ليس من الاقتباس ، للتصريح بأنّه قول الله.
هل في القرآن تعابير جافية؟
زعموا أنّ في
القرآن تعابير جافية لا تتناسب وأدب الوحي الرفيع ؛ وذلك في مثل التعبير بالفرج وهو
اسم لسوأة المرأة. والتعبير بالخيانة بشأن أزواج أنبياء الله ، وهو فضح امرأة تكون
في حصانة زوج كريم. والتعبير باخسئوا والتشبيه بالحمار والكلب ، وكذا سائر
التعابير الغليظة الجافّة في مثل «تبّت» ، و (امْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) ، والدعاء بالشرّ (قاتَلَهُمُ اللهُ) ... ومن أمثال هذا القبيل قد توجد في القرآن ممّا لا
يوجد نظيره في غيره من الكتب ذات الأدب الرفيع.
لكنّه زعم فاسد
ناش عن الجهل بمصطلح اللغة ذلك العهد وخلط القديم بالجديد من الأعراف ، وإليك
تفصيل الكلام عن ذلك :
(الَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها)
جاء هذا
التعبير في القرآن في موضعين فعابوا التصريح بسوأة المرأة!
لكنّه تعبير
كنائي وليس بصريح ، حيث المراد من الفرج هنا هو خصوص جيب
__________________
القميص وهو خرق مطوّق في أسفله.
قال ابن فارس :
الفاء والراء والجيم. أصل صحيح يدلّ على تفتّح في الشيء. من ذلك : الفرجة في
الحائط وغيره والشقّ. والفروج : الثغور التي بين مواضع المخافة.
قال : والجيب ،
جيب القميص وهو خرق مستطيل في قدّامه. يقال : جبت القميص ، قوّرت جيبه وهو خرقه من
وسطه خرقا مستديرا. وفي القرآن : (وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) وهو خرق في صدر القميص. ويقال : فلان ناصح الجيب أي
أمينه. ويقال : طاهر الجيب أي نزيهه.
فالفرج في هكذا
تعابير هي فرجة القميص أي جيبه ، وهو عبارة عن خرق مطوّق في أسفله ، حسب العادة في
قمصان العرب. فإحصان الفرج عبارة عن طهارة الذيل أي نزاهته عن دنس الفحشاء.
وهو استعمال
على الأصل العربي القديم والّذي جرى عليه القرآن الكريم على المصطلح الأوّل ، أمّا
أخيرا فغلّب استعماله في سوأة المرأة وهو استعمال مستحدث ، لا يحمل القرآن عليه. قال
تعالى : (وَالْحافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ).
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) كلّ ذلك كناية عن التحفظ على نزاهة الذيل عن دنس
الفحشاء ، وليس اسما خاصّا للسوأة ولا سيّما سوأة المرأة.
(فَخانَتاهُما)
قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ
عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما).
__________________
عابوا فضح
امرأة هي زوجة عبد صالح!
لكن التعبير
بالخيانة هنا لا يراد بها ارتكاب الفحشاء ، كلّا! وإنّما هو مجرّد مخالفة الزوج
وإنكار رسالته. قال الفيض الكاشاني : فخانتاهما بالنفاق والتظاهر على الرسولين.
وهو تعريض ببعض
أزواج النبي صلىاللهعليهوآله بإفشاء سرّه والتظاهر عليه. كما جاء في صدر السورة. ومن
ثمّ فهو خطاب وعتاب مع تلك الأزواج : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ
ظَهِيرٌ).
قال ابن عبّاس
: لم أزل حريصا أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ اللتين قال الله بشأنهما
: (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ...) حتّى حجّ عمر وحججت معه ، فلمّا كان ببعض الطريق عدل
عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرّز ثم أتى فصببت على يديه فتوضّأ فقلت : يا أمير
المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبيّ اللتان قال الله بشأنهما ذلك؟ فقال : وا
عجبا لك يا ابن عبّاس ، هما عائشة وحفصة ، ثم أنشأ يحدّثني بحديثهما في ذلك.
__________________
الباب الثالث
موهم الاختلاف والتناقض
(وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء ٤ : ٨٢)
كلام عن موهم الاختلاف في القرآن
قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) تلك ميزة قرآنية : لا يوجد فيه اختلاف ، حيث صنعه تعالى
القويم. يفترق عمّا يصنعه البشر ذا نقص وعيب ، إذ كلّ يعمل على شاكلته. وقد أخذه
الله تعالى دليلا على الإعجاز الخارق!
وهناك من قديم
من كان يزعم أنّ في القرآن اختلافا ويرجع عهده إلى الصدر الأول حيث روي أنّ سائلا
سأل الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام عن ذلك ، فأجابه الإمام في رحابة صدر وحلّ إشكاله ،
واستبصر على يديه.
روى أبو جعفر
الصدوق بإسناده المتصل إلى أبي معمر السعداني قال : إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي شككت في كتاب الله
المنزل قال عليهالسلام : وكيف شككت في كتاب الله؟!
قال لأنّي وجدت
الكتاب يكذّب بعضه بعضا فكيف لا أشكّ فيه؟! فقال الإمام : إنّ كتاب الله ليصدّق
بعضه بعضا ولا يكذّب بعضه بعضا ، ولكنّك لم ترزق عقلا تنتفع به ، فهات ما شككت فيه.
فجعل الرجل يسرد آيات زعمهنّ متهافتات
__________________
ويجيب عليهنّ الإمام على ما سنذكر.
وهكذا روى صاحب
كتاب الاحتجاج : أنّ بعض الزنادقة جاء إلى الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام وقال له : لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض
لدخلت في دينكم. فقال له : وما هو؟ فجعل يسرد آيات بهذا الشأن ليأخذ جوابه الوافي
، وشكره أخيرا ودخل في حظيرة الإسلام.
وروى عبد
الرزاق في تفسيره بإسناده إلى سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال :
رأيت أشياء تختلف عليّ من القرآن! فقال ابن عباس : ما هو؟ أشكّ؟! قال : ليس بشكّ ،
ولكنّه اختلاف! قال : هات ما اختلف عليك من ذلك. فجعل الرجل يذكر موارد الاختلاف
حسب زعمه ويجيبه ابن عباس تباعا ، على ما سنورده.
وحتّى أنّهم
زعموا أنّ ابن عباس توقّف عن الإجابة في بعض هذه الموارد. روى أبو عبيدة بإسناده
عن أبى مليكة قال : سأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ) وقوله : (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه!
الله أعلم بهما!
لكن ابن عباس
قد أجاب عن ذلك إجابة إجمالية. وأنّهما يومان لا يوم واحد ليكون قد عبّر عنهما
باختلاف المقدار. ولعلّه لم يهتد إلى تعيين أحدهما عن الآخر وسنذكر تفصيل البيان
فيه.
ويظهر من
أحاديث صدرت عن أئمة السلف أنّ حديث التناقض في آي القرآن كان متفشّيا ذلك العهد ،
ومن ثمّ ورد ذمّه والذبّ عن سلامة القرآن على لسان الأئمة عليهمالسلام
قال الإمام
أمير المؤمنين عليهالسلام في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا :
__________________
«والله سبحانه
يقول (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وفيه تبيان لكلّ شيء. وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا.
وأنّه لا اختلاف فيه ...».
وروى الصدوق
بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عليهماالسلام قال : «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر».
ولأبي علي محمد
بن المستنير البصري المشتهر بقطرب (ت ٢٠٦) ـ النحوي اللغوي الأديب البارع تلميذ
سيبويه ومن أصحاب الإمام الصادق والرواة عنه ـ كتاب أفرده بالتصنيف في موهم
الاختلاف والتناقض في آيات الذكر الحكيم.
قال الزركشي :
وقد رأيت لقطرب في ذلك تصنيفا حسنا. جمعه على السور. وكتابه هو المسمّى بالردّ على الملحدين في تشابه القرآن
، ذكره القفطي.
وهكذا في منتصف
القرن الثالث أيّام الإمام أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام (٢٦٠) نجد فيلسوف العراق ابن إسحاق الكندي قام بتأليف رسالة يجمع فيها تناقض القرآن ، لو لا أنّ
الإمام العسكري قام في وجهه وأفحم حجّته فتركها.
روى أبو القاسم
الكوفي في كتابه «التبديل» أنّ ابن إسحاق الكندي أخذ في تأليف
تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرّد به في منزله. وأنّ بعض تلامذته دخل يوما على
الإمام الحسن العسكري ، فقال له أبو محمّد : أما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم
الكندي
__________________
عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟! فقال التلميذ : نحن من تلامذته ، كيف
يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟! فقال له أبو محمّد : أتؤدّي إليه ما
ألقيه عليك؟ قال : نعم ، قال : فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو
بسبيله ، فإذا وقعت الانسة في ذلك فقل له : قد حضرتني مسألة أسألك عنها؟ فإنّه
يستدعي ذلك منك. فقال له : إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن ، هل يجوز أن يكون
مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك :
إنّه من الجائز ، لأنّه رجل يفهم إذا سمع. فإذا أوجب ذلك فقل له : فما يدريك لعلّه
قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعا لغير معانيه. فصار الرجل إلى الكندي
وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة ، فقال له الكندي : أعد عليّ ، فأعاد عليه. فتفكّر
في نفسه ورأى ذلك محتملا في اللغة وسائغا في النظر. فقال : أقسمت عليك إلّا
أخبرتني من أين لك؟ فقال : إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال : كلّا ، ما
مثلك من اهتدى إلى مثل هذا ، ولا ممّن بلغ هذه المنزلة ، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال
: أمرني به أبو محمّد ، فقال : الآن جئت به ، وما كان ليخرج مثل هذا إلّا من ذلك
البيت. ثمّ إنّه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه في ذلك.
ولابن قتيبة (٢١٣
ـ ٢٧٦) كلام مسهب في الردّ على الطاعنين في القرآن على جهة زعم الاختلاف تعرّض له
في كتابه الشهير «تأويل مشكل القرآن» في شرح وتفصيل.
وللشريف الرضي (٣٥٩
ـ ٤٠٦) بحث لطيف في ذلك عنونه باسم «حقائق التأويل في متشابه التنزيل».
وهكذا القاضي
عبد الجبّار المعتزلي (ت ٤١٥) فصّل الكلام في «تنزيه القرآن عن المطاعن».
ولقطب الدين
الراوندي (ت ٥٧٣) في كتابه «الخرائج والجرائح» باب عقده للردّ على مطاعن المخالفين
في القرآن.
__________________
ولابن شهرآشوب
المازندراني (ت ٥٨٨) كتاب قيّم في «متشابهات القرآن ومختلفه».
ولمحمّد بن أبي
بكر الرازي (ت ٦٦٦) رسالة شريفة أجاب عن ألف ومأتي مسألة حول شبهات القرآن.
ولجلال الدين
السيوطي (ت ٩١١) في كتابه «الإتقان» ـ نوع ٤٨ ـ بحث مستوف عن مشكل القرآن وموهم
الاختلاف والتناقض فيه.
وللمولى محمّد
باقر المجلسي (١٠٣٧ ـ ١١١١) في موسوعته القيّمة (بحار الأنوار ، ج ٨٩ ، ص ١٤١ ؛ وج
٩٠ ، ص ٩٨ ـ ١٤٢) استيعاب شامل لسفاسف أهل الزيغ والباطل حول القرآن الكريم ،
والردّ عليها فيما ورد في كلام المعصومين والعلماء الأعلام. جزاه الله عن الإسلام
والقرآن خيرا.
وأخيرا ، قام
الاستاذ الشيخ خليل ياسين بتأليف كتاب يحتوى على ١٦٠٠ سؤال وجواب حول مشكل القرآن
، أسماه «أضواء على متشابهات القرآن».
وللعلّامة
الاستاذ الشيخ جعفر السبحاني تأليف لطيف في التفسير الصحيح لمشكل آيات القرآن
الحكيم.
تلك مواقف
مشهودة في الدفاع عن قدسية القرآن الكريم قام بها جهابذة الفنّ والعمدة من العلماء
الأعلام ، شكر الله مساعيهم وأجزل لهم المثوبة وحسن مآب.
السلامة من الاختلاف إعجاز!
وقد أخذه تعالى
دليلا على كون القرآن وحيا من السماء وليس من صنع البشر ، وإلّا لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا.
ذلك أنّ طبيعة
مثل القرآن ـ وقد نزل تدريجا طوال عشرين عاما في مناسبات مختلفة وفترات متفاوتة
ثمّ جمع في مكان ـ أن يقع فيه بعض الاختلاف ، لو كان من عند غير الله ... حيث يعسر
الضبط على البشر في مثل تلك المدّة الطويلة في مثل القرآن
المتناثر آيه طول سنين. وربّما يختلف النظر لو كان صادرا من إنسان ، وهو
آخذ في التكامل طول هذه المدّة ، فطبيعي أن يقع فيه اختلاف ، لكن عدم الاختلاف
دليل قاطع على أنّه من عليم خبير ، هو محيط بعلمه ولا يعزب عن علمه شيء ، كما لا
يتجدّد له رأي أو يبدو له نظر غير رأيه القديم.
وللعلّامة
السيّد هبة الدين الشهرستاني هنا كلام غريب ، قال : إنّ جماعة من المفسّرين قد
التبس عليهم أمر المانع بالسبب ، فعدّوا سلامة القرآن من التنافي والتنافر ، من
وجوه إعجازه ، في حين أنّ وجود التنافي والتنافر من موانع الإعجاز ، وليس
انعدامهما والسلامة منهما من أسباب الإعجاز.
ولعلّه رحمهالله عدّ السلامة من الاختلاف أمرا عدميا ، فجعل التنافي
والتنافر ، وهما أمران وجوديّان ، من المانع. في حين أنّ السلامة هنا بمعنى
الائتلاف وحسن الوفاق والمؤكّد للانسجام بين آياته وتعابيره في كافّة السور
مكيّتها ومدنيّتها بوئام وانسجام.
الأسباب الموهمة للاختلاف
ذكر الإمام بدر
الدين الزركشي للاختلاف أسبابا :
الأوّل : وقوع
المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتّى ، كقوله تعالى في خلق آدم مرّة : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ). واخرى : (مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ). وثالثة : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ). ورابعة : (مِنْ صَلْصالٍ
كَالْفَخَّارِ)!
وهذه الألفاظ
مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة ، لأنّ الصلصال غير الحمأ ، والحمأ غير التراب ،
إلّا أنّ مرجعها كلّها إلى جوهر وهو التراب ، ومن التراب تدرّجت هذه الأحوال.
__________________
ومنه قوله
تعالى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ). وفي موضع : (تَهْتَزُّ كَأَنَّها
جَانٌ). والجانّ الصغير من الحيّات ، كان ذلك في ابتداء بعثته عليهالسلام والثعبان الكبير منها ، وكان ذلك لمّا ألقى عصاه تجاه
فرعون وقومه ، فاختلف الأحوال.
السبب الثاني :
لاختلاف الموضوع ، كقوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ، وقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ). مع قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ).
قال الحليمي :
فتحمل الآية الاولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل ، والآية الأخيرة على ما
يستلزم الإقرار بالنبوّات من شرايع الدين وفروعه. وحمله غيره على اختلاف الأماكن (أي
المواقف على ما أوضحناه) فموضع يسأل ويناقش. وموضع آخر يرحم ويلطف. وموضع يعنف
ويوبّخ ، وموضع لا يعنف ...
الثالث :
لاختلافهما في جهتي الفعل ، كقوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ). أضيف القتل إليهم على جهة المباشرة ، ونفاه عنهم
باعتبار التأثير. ولهذا قالوا : إنّ الأفعال مخلوقة لله تعالى وإن كانت منتسبة إلى
الآدميّين على جهة الإرادة والاختيار. فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته
بالجهة الأخرى.
وكذا قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) أي ما رميت تأثيرا إذ رميت مباشرة.
الرابع :
لاختلافهما في الحقيقة والمجاز ، كقوله : (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) أي سكارى من الأهوال مجازا ، لا من الشراب حقيقة. وقوله
: (وَيَأْتِيهِ
الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ). فقد وافته المنيّة فكان كالأموات وإن لم يمت حقيقة.
__________________
ومثله في
الاعتبارين قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). وقوله : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ). . وقوله : (وَتَراهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ).
الخامس :
بوجهين واعتبارين ، وهو الجامع للمفترقات ، كقوله : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ). وقال : (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ).
قال قطرب : «فبصرك»
أي علمك ومعرفتك بها قوية ، من قولهم : «بصر بكذا وكذا» أي علم. وليس المراد رؤية
العين.
قال الفارسي :
ويدلّ على ذلك قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ).
وكقوله تعالى :
(وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) ، مع قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى). فيجوز أن يكون قد اعتقد من نفسه أنّه الربّ الأعلى
وسائر الآلهة تحته وملكا له.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) ، مع قوله : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). فقد يظنّ أن الوجل خلاف الطمأنينة. وجوابه : أنّ
الطمأنينة إنّما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد. والوجل يكون عند خوف الزيغ
والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك. وقد جمع بينهما في قوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ). فإنّ هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به ،
فانتفى عنهم الشكّ.
وبعد فإليك
مواضع من القرآن زعموا فيها اختلافا :
__________________
هذا بيان للنّاس وهدى وموعظة للمتّقين
سؤال :
قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).
وهذا عامّ. لكن
ورد في كثير من الآيات ما يبدو منه التخصيص ، كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ). وقوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ). وقوله : (هذا بَصائِرُ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ). وقوله : (هذا بَصائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). وقوله : (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ). إلى غيرها من آيات تنمّ عن اختصاص هدى القرآن بفئات من
الناس دون الجميع ، فما وجه التوفيق؟
جواب :
هناك فرق بين اللام للغاية كما في الآية
الاولى ، ولام العاقبة وهي التي جاءت في سائر الآيات هنا.
لا شكّ أنّ
القرآن نزل لغاية هي هداية الناس أجمع. غير أنّ الذين ينفعهم وينتفعون به في عاقبة
الأمر هم المتّقون المتعهّدون في ذات أنفسهم ، فكأنّهم هم الغاية دون أولئك
الغوغاء من الناس الهمج غير المبالين ممّن يقضون حياتهم في غفلة وعمه وعماء.
قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).
(لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).
__________________
وقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
(كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
(فَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).
(الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
ومن ثمّ فإنّ
القرآن جاء بيانا للناس أجمع ، غير أنّ الذين تقع بهم النصيحة هم المتّقون ، كما
قال تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ
وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى)
سؤال :
قال تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).
وقال : (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).
وقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا
قُرْبى).
وقال : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
الأمر الذي
يرتضيه العقل الرشيد وتقتضيه الحكمة البالغة : «لا يؤخذ الجار بذنب الجار»! (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ).
(لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).
(لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).
لكن مع ذلك ورد
ما يناقضه ظاهرا في قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ
__________________
الْقِيامَةِ
وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).
كما أنّ
التناقض باد على ظاهر قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما
هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).
فكيف التوفيق؟
جواب :
حمل الوزر
إنّما هو بتخفيف كاهل صاحبه ، فمن يحمل من أوزار أحد إنّما يخفّف من ثقل كاهله. هذا
هو معنى حمل الوزر ، أمّا إذا لم يخفّف فلا تحمّل من الوزر شيئا.
وصريح القرآن
أنّ كل إنسان إنّما يتحمّل مسئولية نفسه ولا يتحمّل مسئولية غيره فيما عمل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. إِلَى
اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
لكن هناك في
الدعاة إلى حقّ أو باطل شأن آخر ، فهم شركاء فيما عمل المتأثّرون بالدعوة ، إن
خيرا أو شرّا ، مثوبة أو عقوبة.
روى الصدوق
بإسناده إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليهالسلام قال : «أيّما عبد من عباد الله سنّ سنة هدى كان له أجر
مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من اجورهم شيء. وأيّما عبد من عباد الله سنّ
سنة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من ثلاث : صدقة
جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».
فلا يحمل أحد
ذنب غيره ولا يخفّف عليه من وطئته وإن كان يشركه فيما عمل وفيما يترتّب عليه من
المثوبة أو الإثم من غير أن ينقصه شيئا.
__________________
فمعنى (لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً
مَعَ أَثْقالِهِمْ) أنّهم يحملون أثقال أنفسهم مع أثقال اخر ، وهي مثل
أوزار ما عمل التابعون وليست نفس أوزارهم ، إذ لا ينقص من وزر الآثم شيء ، وكلّ
إنسان رهين بما اكتسب.
وكذا قوله : (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ) أي من مثل أوزارهم وليست نفس أوزارهم ، إذ لكلّ امرئ ما
اكتسب من الإثم ، ولا موجب للتخفيف عنه ما دام آثما مبغوضا عليه.
(وَصاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً)
سؤال :
قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ...).
فقد جاء النهي
صريحا عن موادّة من حادّ الله ورسوله ولو كان أحد الوالدين أو الأقربين ، الأمر
الذي يتنافى وترخيص مصاحبة الوالدين المشركين مصاحبة بالمعروف في قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا
مَعْرُوفاً).
جواب :
هناك فرق بائن
بين الموادّة التي هي عقد القلب على المحبّة والوداد الذاتي وبين المصاحبة
بالمعروف التي هي المداراة والمجاملة الظاهرية في حسن المعاشرة مع الوالدين ،
وربّما كانت عن كراهة في القلب. فمن أدب الإسلام أن يأخذ الإنسان بحرمة والديه
وكذا سائر الأقربين وإن كان يخالفهم في العقيدة. فحسن السلوك شيء والرباط النفسي
شيء آخر. فربّما لا رباط بين الإنسان وغيره نفسيا وإن كان يداريه في حسن المعاشرة.
أدبا إسلاميا ، إنسانيا شريفا. وليس مع الأقرباء فحسب بل مع الناس أجمع ، الأمر
الذي يؤكّد عليه جانب تأليف القلوب ، مشروعا عامّا.
__________________
(إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)
سؤال :
قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). كيف يلتئم مع قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها
فَفَسَقُوا فِيها)؟!
جواب :
في الآية
الثانية تقدير ، أي أمرناهم بالصلاح والرشاد فعصوا وفسقوا عن أمر ربّهم. وهذا كما
يقال : أمرته فعصى ، أي أمرته بما يوجب الطاعة لكنّه لم يطع وتمرّد عن امتثال
الأمر وعن الطاعة.
وإليك الآية بكاملتها :
قال تعالى ـ بشأن
الامم الذين عوقبوا بسوء أعمالهم ـ : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).
تلك سنّة الله
جرت في الخلق : أن لا عقوبة إلّا بعد البيان ، ولا مؤاخذة إلّا بعد إتمام الحجّة. (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً) ... ثمّ جاءت تلك الآية (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ ...)
تفريعا على هذه
الآية ، لتكون دليلا على أنّ العقوبة إنّما تقع بعد البيان.
فمعنى الآية ـ على
ذلك ـ : أنّ كل قرية إذا حقّ عليها العذاب فإنّما هو بسبب طغيانهم وعصيانهم بعد
البيان وبعد أمرهم بما يسعدهم لكنّهم بسوء اختيارهم شقوا وعصوا ، فجاءهم العذاب
على أثر الطغيان والفسوق والعصيان.
وإنّما ذكر
المترفون بالخصوص لأنّهم رأس الفساد والاسوة التي تقتدي بها العامّة في سوء
تصرّفاتهم في الحياة.
قال الطبرسي ـ في
أحد وجوه تفسير الآية ـ : إنّ معناه : وإذا أردنا أن نهلك أهل قرية ـ بعد قيام
الحجّة عليهم وإرسال الرسل إليهم ـ أمرنا مترفيها أي رؤساءها وساداتها
__________________
بالطاعة واتّباع الرسل ، أمرا بعد أمر ، نكرّره عليهم ، وبيّنة بعد بيّنة ،
نأتيهم بها إعذارا للعصاة وإنذارا لهم وتوكيدا للحجّة ، ففسقوا فيها بالمعاصي
وأبوا إلّا تماديا في العصيان والكفران.
قال : وإنّما
خصّ المترفون وهم المنعمون والرؤساء بالذكر لأنّ غيرهم تبع لهم ، فيكون الأمر لهم
أمرا لأتباعهم.
قال : وعلى هذا
، فيكون قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) جوابا ل «إذا» ، وإليه يؤول ما روي عن ابن عباس وسعيد
بن جبير : أنّ معناه : أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا. ومثله : أمرتك فعصيتني. ويشهد
بصحّة هذا التأويل الآية المتقدّمة عليها ، وهي قوله : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
ألف سنة أو خمسون ألف سنة
سؤال :
قال تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ
إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). وقال : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ).
ما هذا اليوم؟
وما مقداره ، ألف سنة أو خمسون ألف سنة؟
جواب :
قال القمي في
تفسير الآية الاولى : يعني الأمور التي يدبّرها والأمر والنهي الذي أمر به وأعمال
العباد ، كلّ ذلك يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سنيّ الدنيا.
وروى الكليني
في الكافي عن الإمام الصادق عليهالسلام : «إنّ للقيامة خمسين موقفا ، كلّ موقف مقام ألف سنة»
ثم تلا الآية الثانية.
__________________
إذن ، فلا
منافاة بين الآيتين ، فإنّ أعمال العباد وكلّ شئون الحياة الدنيا بما فيها من
تدابير إلهية وأمر ونهي وتشريع وما عمل العباد من خير وشرّ فإنّها تظهر يوم
القيامة في أوّل موقف من مواقفها ، ومقداره ألف سنة ممّا يعدّون. أمّا كل شئون
الحياة في عالم الوجود فإنّها تظهر في طول أمد القيامة ومقداره خمسون ألف سنة حسب
مواقفها الخمسين.
وبذلك صحّ
المأثور عن ابن عباس : أنّهما يومان من أيام الله. أي برهتان من الزمان برهة أولى
في ألف سنة ، وبرهة اخرى شاملة في خمسين ألف سنة.
خلق السماوات والأرض في ستة أيّام
سؤال :
قال تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ
فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ... ثُمَّ
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ... فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ ...).
وقال : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّماءُ بَناها ... وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها).
وقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). وقد تكرّر ذلك في سبع مواضع من القرآن.
والسؤال هنا من
وجهين :
الأوّل : دلّت
الآية الاولى على أنّ الأرض خلقت قبل السماء ، في حين أنّ الآية الثانية نصّت على
أنّ الأرض بعد ذلك دحاها.
الثاني : ظاهر
دلالة الآية الاولى هو أنّ خلقة السماوات والأرض وما فيها وقعت في ثمانية أيّام ،
في حين أنّ الآية الأخيرة ونظيراتها دلّت على وقوع ذلك في ستّة أيّام ، فكيف
التوافق؟
__________________
جواب :
دلّت الآية على
أنّ الأرض ذاتها خلقت قبل السماء وإن كان دحوها أي بسطها وتسطيح قشرتها قد تأخّر
بعد ذلك بأيّام.
وهذه الأيّام
هي من أيّام الله التي يعلم هو مداها ، وليست من أيّام الناس. وقد خلقت الأرض في
يومين ، وجعل فيها الرواسي وقدّر فيها الأقوات أيضا في يومين ، فهذه أربعة أيّام ،
تمّت بها خلقة الأرض وما فيه من جبال وأرزاق وبركات. ثم استوى إلى السماء فخلقهنّ
في يومين. فتلك ستة أيام على ما جاء في آيات اخرى.
وهذا كما يقال
: سرت من البصرة إلى الكوفة في يومين ، وإلى بغداد في أربعة أيّام ، أي من البصرة
إلى بغداد ، باندراج اليومين اللذين سار فيهما إلى الكوفة.
وهناك تفسير
آخر للآية لعلّه أدقّ ، يجعل الأربعة الأيام ظرفا لتقدير الأقوات إشارة إلى فصول
السنة الأربعة ، حيث فيها تتقدّر أرزاق الخلائق والأنعام والبهائم والدوابّ. ذكره
عليّ بن إبراهيم القمي في تفسيره للآية. قال : يعني في أربعة أوقات ، وهي التي
يخرج الله فيها أقوات العالم من الناس والبهائم والطير وحشرات الأرض وما في البرّ
والبحر من الخلق والثمار والنبات والشجر وما يكون فيه معاش الحيوان كلّه ، وهو
الربيع والصيف والخريف والشتاء ... ثم جعل يذكر كيفية تقدير هذه الأقوات في كلّ من
هذه الفصول.
وقد ارتضاه
العلّامة الطباطبائي واعتمده في تفسيره.
فمعنى الآية ـ على
ذلك ـ : أنّ الله خلق الأرض في دورتين ، وجعل فيها رواسي وبارك فيها ، وقدّر
أقواتها حسب فصول السنة. وهكذا قضى السماوات سبعا في دورتين. فهذه أربعة أدوار
ذكرتهنّ الآية : دورتان لخلقة الأرض ، ودورتان لجعل السماوات سبعا. وبقيت دورتان
لخلقة أصل السماء وما بينها وبين الأرض من أجرام كانت الآية ساكتة عنهما ومن ثمّ
فهي لا تتنافى وآيات اخرى ذكرن ستة أدوار لخلقة الأرض والسماء وما بينهما.
__________________
تساؤل بعضهم بعضا
سؤال :
قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌ).
وقال : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ).
وقال : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ).
وقال : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا
أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ
لا يَتَساءَلُونَ).
وقال : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ
الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً).
هذا مع قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ).
وقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).
وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).
وقوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ. قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا
بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).
فهل يسألون عن
ذنب أو لا يسألون؟ وهل يتساءلون فيما بينهم ويتعارفون أم لا يتساءلون؟ فكيف
التوفيق؟!
جواب :
هناك في الوقفة
الاولى يوم الحشر تكون الوقعة شديدة (يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُ
__________________
مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).
فهنالك الناس
ذهول ، وعميت عليهم الأنباء. ولا يسأل حميم حميما ، ولا يتساءلون فيما بينهم ،
وهكذا لا يسأل أحد أحدا عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.
أمّا وبعد أن
أخرجت الأرض أثقالها ووضعت الزلزلة أوزارها وعاد الناس على حالتهم العادية
وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمؤاخذة ، والتساؤل والتعارف ، فاختلف الموقفان.
وهناك بعد
انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار ، يقع التساؤل
والتعارف بينهم.
يقول تعالى عن
المجرمين : (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ
إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى
بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا
بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ
كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ
إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ. إِنَّا
كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ).
ويقول عن
الصالحين : (... إِلَّا عِبادَ
اللهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ
مُكْرَمُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ... فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ...).
(إِلَّا أَصْحابَ
الْيَمِينِ. فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ. قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ.
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى
أَتانَا الْيَقِينُ. فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ).
__________________
(لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ)
سؤال :
قال تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ
حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ). والبلد هو البلد الأمين مكّة المكرّمة. وقد أقسم به في
سورة التين : (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). فكيف التوفيق؟
جواب :
قالوا بزيادة «لا»
هنا ليكون معنى الكلام إثباتا لا نفيا ، وأن العرب قد تدخل «لا» في أثناء كلامها
وتلغي معناها ، وأنشدوا في ذلك أبياتا. ونحن قد فنّدنا ذلك وذكرنا أن لا شاهد عليه
في كلام العرب ، فراجع.
والصحيح أن
يقال : إنّ مورد الآيتين مختلف ، فمرّة لا يقسم ومرّة يقسم باختلاف الموارد ... إذ
ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يقسم أبدا بهذا البلد ، بل لا يقسم في
مورد خاصّ ـ لوضوحه ـ وهو أنّ الإنسان خلق في كبد ... أمّا المعنى في سورة البلد
فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خلق ليكون رفيعا
لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.
وهنا جواب آخر
لعلّه أدقّ وهو : أن ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق ، ليكون
متنافيا مع الآية الاخرى (في سورة التين). بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي ،
حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره ، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكل أدبيّ
رائع.
والمعنى : إنّي
لا أحلف ، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر. وهذا يعني أنّ الأمر متأكّد الثبوت
بذاته واضحا جليّا من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.
فهو في حقيقته
قسم ، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.
__________________
(وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)
سؤال :
قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
ضمن تعالى أن
لا يعذّب العرب على قيد أحد شرطين : حضور النبيّ بين أظهرهم ، أو استغفارهم هم. ومن
ثمّ قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : «كان في الأرض أمانان من عذاب الله ، وقد رفع أحدهما
، فدونكم الآخر فتمسّكوا به. أمّا الأمان الذي رفع فهو رسول الله صلىاللهعليهوآله وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار». ثمّ تلا الآية.
لكن يتعقّب
الآية ما ينافي ذلك ظاهرا ، وهو قوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ).
فكيف التوفيق؟
جواب :
إنّ سياق
الآيتين يدلّنا على اتصالهما ونزولهما معا إحداهما تلو الاخرى مباشرة ، الأمر الذي
يستدعي وئاهما طبعا وعدم تنافيهما ، حيث المتكلّم النابه ـ فضلا عن الحكيم ـ لا
يتناقض في كلامه قيد تكلّمه. فزاعم التناقض واهم في حدسه البتة.
على أنّه لا
تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضا ، حيث الآية الاولى إنّما تنفي فعلية
العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع. أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء
وأصل الاستحقاق ، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم. بصدّهم عن المسجد
الحرام وليسوا بأوليائه ، وإن كانوا لا يعذّبون فعلا ما دام وجود المانع وهما
الشرطان أو أحدهما. فلا منافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع ، كما
لا يخفى.
وقد ذكر
الطبرسي في جواب المسألة وجوها ثلاثة :
أحدها : أنّ
المراد بالأوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام ، كما وقع
__________________
بشأن الامم الماضية. وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر
بأيدي المؤمنين ـ كما في يوم بدر وغيره وأخيرا يوم الفتح ـ ولكن بعد خروج المؤمنين
من بين أظهرهم.
ثانيها : أنّه
أراد : وما لهم أن لا يعذّبهم الله في الآخرة. ويريد بالأوّل عذاب الدنيا. قاله
الجبائى.
ثالثها : أنّ
الأوّل استدعاء للاستغفار. يريد أنّه لا يعذّبهم بعذاب دنيا ولا آخرة إذا استغفروا
وتابوا ، فإذا لم يفعلوا عذّبوا ـ وفي ذلك ترغيب لهم في التوبة والإنابة ـ ثمّ
إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام.
(وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)
سؤال :
قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ).
وقال : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ
فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ).
وقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً).
وقال : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ
أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشاءُ).
هذا مع قوله
تعالى بشأن المؤمنين : (فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ).
__________________
وقوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).
وقوله بشأن
الكافرين : (الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَزْناً).
فكيف التوفيق؟
جواب :
ليس في القرآن
ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال ، والآيات المستند إليها إنّما تعني شيئا آخر
وهو : الرزق والأجر بما يفوق الحساب. وكذا الذي حبطت أعماله ، لا وزن له عند الله
ولا مقدار.
قال الطبرسي ـ عند
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ
حِسابٍ) ـ : فيه أقوال :
أحدها : أنّ
معناه يعطيهم الكثير الواسع الذي لا يدخله الحساب من كثرته.
ثانيها : أنّه
تعالى لا يرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم ، وكذا في
الآخرة لا يثيبهم على قدر أعمالهم بل يزيدهم فضلا منه وإنعاما.
ثالثها : أنّه
تعالى يعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد ولا يسأله عنه سائل ، ولا يطلب عليه جزاء
ولا مكافأة.
رابعها : أنّه
يعطي العدد من الشيء الذي لا يضبط بالحساب ولا يأتي عليه العدد ، لأنّ ما يقدر
عليه غير متناه ولا محصور ، فهو يعطي الشيء لا من عدد أكثر منه فينقص منه ، كمن
يعطي الألف من الألفين ، والعشرة من المائة ، قاله قطرب.
خامسها : أنّ
معناه يعطي أهل الجنّة ما لا يتناهى ولا يأتي عليه الحساب.
ثمّ قال رحمهالله : وكلّ هذه الوجوه جائز حسن.
وقال الزمخشري
ـ في تفسير قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ
__________________
ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعاً. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ
جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) ـ : «ضلّ سعيهم» ضاع وبطل ... وعن أبي سعيد الخدري : يأتي ناس بأعمال يوم
القيامة ، هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئا. (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مقدار.
وقال الطبرسي :
أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة ، ولا نعتدّ بهم ، بل نستخفّ بهم ونعاقبهم. تقول
العرب : ما لفلان عندنا وزن أي قدر ومنزلة. ويوصف الجاهل بأنّه لا وزن له لخفّته. بسرعة
بطشه وقلة تثبّته. وروي في الصحيح : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا
يزن جناح بعوضة.
قال العلّامة
الطباطبائي : والوزن هنا هو الثقل في العمل في مقابلة الخفّة في العمل ، وربّما
تبلغ إلى مرتبة فقد الوزن رأسا.
وقال ـ في قوله
تعالى : (وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) ـ : المراد أنّ الوزن الذي توزن به الأعمال يومئذ إنّما
هو الحقّ. فبقدر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته ، والحسنات مشتملة
على الحقّ ، فلها ثقل ، كما أن السيّئات ليست إلّا باطلة فلا ثقل لها. والله
سبحانه يزن الأعمال يومئذ بالحقّ ، فما اشتمل عليه العمل من الحقّ فهو وزنه وثقله.
مواطن القيامة متفاوتة
سؤال :
هناك آيات تنصّ
على أنّهم لا يتكلّمون إلّا صوابا ونهوا أن يتخاصموا بل وختم
__________________
على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون.
الأمر الّذي
يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا والله ما كنّا مشركين فإنّه قول كذب بل ويمين كاذبة وقد أذنوا بالتكلّم به!
وكذا مع قوله :
(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) وقوله : (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). فقد تخاصموا لديه تعالى رغم منعه سبحانه من ذلك! ثمّ
كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!
جواب :
أولا : إنّ من
يتكلّم بالصواب في الآية الاولى هم الملائكة أو المؤمنون ، والكلام الصواب هنا هي
الشفاعة بالحقّ على ما ذكره المفسّرون. وفي الحديث عن الإمام الصادق عليهالسلام وقد سئل عن هذه الآية قال : نحن والله المأذون لهم يوم
القيامة ، والقائلون صوابا : نمجّد ربّنا ونصلّي على نبيّنا ونشفع لشيعتنا.
وثانيا : مواطن
القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة. فقوله (لا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَّ ...) خطاب إلى الكفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه ،
حيث يقول الشيطان : (رَبَّنا ما
أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). ويحاول الكافر أن يجعل اللّوم على الّذي أغواه ، فكان
النهي موجّها إليهم : لا تختصموا لديّ بل اجعلوا بأسكم بينكم فليس منعا عن التخاصم
على الإطلاق.
غير أنّ هذا
التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام
الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف. أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي
أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأسا ، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم بما
__________________
اقترفوه. فالمواطن مختلفة والمواقف متعدّدة :
فالموطن الأوّل
: موطن المداقّة في الحساب. (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).
والموطن الثاني
: موطن الفراغ من الحساب. (يتخاصم فيه أهل النار).
والموطن الثالث
: موطن الشفاعة لأهل الإيمان. (موطن النطق بالصواب).
ولكلّ موطن
مناسبته وشأنه.
هكذا يحمل على
اختلاف المواطن ما ورد من قوله : (لا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ). مع قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ). وقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ).
(اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها)
سؤال :
قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها).
وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ).
وقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ).
وقال : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا).
وقال : (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ).
جواب :
الله خالق
الموت والحياة. وملك الموت هو الآمر الأوّل ، والملائكة أعوانه المباشرون.
__________________
(وَلا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثاً)
سؤال :
قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ
حَدِيثاً).
فقد أخبر تعالى
عنهم بأنّهم لا يكتمون لديه حديثا ... وهذا يتنافى ظاهرا وقوله في موضع آخر : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا
أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فقد كتموا إشراكهم!
الجواب عن ذلك من وجهين :
الأوّل : أنّ
قوله (لا يَكْتُمُونَ اللهَ
حَدِيثاً) داخل في التمنّي ، أي يودّون لو كانوا لم يكتموا حديثا
في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام. أو لم يكتموا في الآخرة كفرهم في الدنيا. حيث
قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ). وذلك باختلاف الموقف ، ففي الوهلة الاولى كتموا ، وفي
الثانية تمنّوا لو لم يكتموا ...
الثاني : أنّهم
لا يستطيعون الكتمان ، حيث تشهد عليهم أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون.
مضاعفة العذاب
سؤال :
قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).
لكنّه في موضع
آخر قال : (يُضاعَفُ لَهُمُ
الْعَذابُ) ...؟!
جواب :
المجازاة
بالمثل خاصّة بالدنيا في مثل القصاص والعقوبات الجزائية. والآية الاولى واردة بهذا
الشأن.
__________________
أمّا مضاعفة
العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبها أهل الكبائر. والآثار التي
خلّفتها تلك الكبيرة الموبقة في الأوساط الاجتماعية حين الارتكاب وبعدها. ومورد
الآية هم الذين كانوا يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون
ومن ثمّ يضاعف لهم العذاب.
التكليم من وراء حجاب
سؤال :
قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ).
كيف يلتئم
وقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً). وقوله : (وَناداهُما رَبُّهُما) حيث وقع التكليم مباشرة؟!
جواب :
لم تنف الآية
الاولى التكليم رأسا ، وإنّما نفته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهة.
نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث :
١ ـ إمّا وحيا
وهو النفث في الروع ، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يلقيه إليه وحي السماء ،
وهو نوع من الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.
٢ ـ أو بإسماع
الصوت من غير أن يرى شخص المتكلّم ، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب. وهذا بخلق التموّج
الصوتي في الهواء ليقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه ، ولكنّه لا يرى المتكلّم وإن
كان يسمع صوته ، ومن ثمّ وقع التشبيه بمن يتكلّم من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع
مع موسى النبيّ عليهالسلام.
٣ ـ أو بإرسال
رسول ـ ملك الوحي ـ وهو جبرائيل عليهالسلام ، فيلقي ما تلقّاه وحيا على
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله. والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع
الأخير.
والتكليم
والنداء في الآيتين هما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب ، إذن فلا منافاة.
نظرة أو انتظار
؟ سؤال :
قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ). وقال : (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى).
قالوا : كيف
يلتئم ذلك مع قوله : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ). وقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً). في حين أنّ من رأى الشيء وحدّق النظر إليه فقد أدركه
ببصره وأحاط به علمه؟!
جواب :
هناك فرق بين
نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع. فيومئذ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع
وانتظار عميم رحمته ، ولا نظر إلّا إليه «عظمت آلاؤه». فالنظر إنّما هو إلى ربّهم
كيف يثيبهم وإلى ما وعدهم من المثوبة في جنّة عدن.
قال الزمخشري :
و «الناظرة» من نضرة النعيم. (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره. والمراد : نظر
توقّع ورجاء ، كقولك : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، تريد معنى التوقّع والرجاء
، ومنه قول القائل :
وإذا نظرت
إليك من ملك
|
|
والبحر دونك
زدتني نعما
|
قال : وسمعت
سروية مستجدية بمكة وقت الظهيرة حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول :
عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ، أي رجائي إلى الله وإليكم.
فمعنى الآية :
أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلّا من ربّهم ، كما كانوا في الدّنيا لا يخشون
ولا يرجون إلّا إيّاه.
__________________
وأمّا الآية من
سورة النجم فالمراد : رؤية جبرائيل على صورته الأصلية ، حيث وقعت لمحمّد صلىاللهعليهوآله مرّتين ، مرّة عند التبشير بنبوّته ، ومرّة اخرى في
المعارج عند سورة المنتهى.
التناسي أو النسيان
سؤال :
قال تعالى : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا
لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا). وقال : (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ).
كيف يلتئم ذلك
مع قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا). وقوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي
وَلا يَنْسى)؟!
جواب :
النسيان في
الآيتين الأوليتين هو التناسي والتغافل. أمّا المنفيّ في الآيتين الأخيريتين فهي
الغفلة والنسيان حقيقة.
والنسيان ـ بمعنى
التناسي ـ في القرآن كثير ، كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدّ. إذ لو كان نسي حقيقة
لكان معذورا ، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلا ولا لوم عليه.
وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي تغافلوا حضوره تعالى في الحياة ومن ثمّ تغافلوا
أنفسهم ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.
فقوله تعالى : (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا
فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) يعني نبذت آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدّ ، فكذلك
اليوم تنسى ولا تشملك العناية الإلهية.
كما في قوله
تعالى : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أى استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به متاع الحياة
الدنيا القليل. وهو من التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.
__________________
وهكذا جاء في
الجواب فيما نسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام قال :
«أمّا قوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) فإنّما يعني : نسوا الله في دار الدنيا ، لم يعملوا
بطاعته ، فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا ، فصاروا منسيّين من
الخير. وقد يقول العرب : قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي إنّه لا يأمر لنا بخير ولا
يذكرنا به.
وأمّا قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) فإنّ ربّنا تبارك وتعالى ليس بالذي ينسى ولا يغفل بل هو
الحفيظ العليم.
كسب التأنيث والتذكير
سؤال :
قال تعالى : (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).
وقال : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا
عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ).
كيف جاء الوصف
وكذا الضمير في الآية الاولى مذكّرا ، وفي الآية الثانية مؤنّثا في حين وحدة
السياق؟!
جواب :
المضاف إلى
مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يخلّ حذفه بمفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث.
قال ابن مالك :
وربّما أكسب
ثان أولا
|
|
تأنيثا إن
كان لحذف موهلا
|
فإنّ المضاف
المذكّر قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير اخلال بمفاد
الكلام ، كما قال الأعشى :
وتشرق بالقول
الذي قد أذعته
|
|
كما شرقت صدر
القناة من الدم
|
فتأنيث الفعل (شرقت)
المسند إلى «صدر» إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من
__________________
المضاف إليه. فلو قدّر حذفه لم يختلّ مفاد الكلام.
وجاء عكسه في
قول الآخر :
رؤية الفكر
ما يؤول له الأمر
|
|
معين على
اجتناب التواني
|
وقال غيره :
إنارة العقل
مكسوف بطوع هوى
|
|
وعقل عاصي
الهوى يزداد تنويرا
|
فالضمائر
الراجعة إلى المضاف ـ وهو مؤنّث ـ في البيتين ، إنّما روعي فيها جانب المضاف إليه
المذكّر ، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مخلّ بمفاده.
وهكذا في الآية
الكريمة يجوز في وصف العذاب المضاف الى النار مراعاة التذكير على الأصل ، كما في
الآية من سورة السجدة. وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار ، كما في
الآية من سورة سبأ.
وكلا الأمرين
جائز ، كما قال ابن مالك : «وربّما أكسب ثان أولا تأنيثا ...» ، وليس دائما ولا
ضرورة.
* * *
هذا بناء على
كون الوصف نعتا للمضاف في كلتا الآيتين ، نظرا لوحدة السياق فيهما.
وربما فرّقوا
بين الآيتين فجعلوا الوصف نعتا للمضاف في الآية الأولى ، وللمضاف إليه في الآية
الثانية. وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب :
قال الزركشي :
جاء في سورة السجدة بلفظ «الذي» على وصف العذاب ، وفي سورة سبأ بلفظ «التي» على
وصف النار. وذلك لوقوع «النار» في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يوصف. وإنّما
وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها
أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ ...).
__________________
فحقّ الكلام أن يقال : وقيل لهم ذوقوا عذابها ... فلمّا وضعها موضع المضمر
الذي لا يقبل الوصف عدل إلى وصف العذاب.
وأمّا في «سبأ»
فوصفها لعدم المانع من وصفها.
* * *
وربما ذهبوا
إلى أنّه وصف للنار في كلتا الآيتين ، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى «الجحيم»
أو «الحريق».
وهنا وجوه
استحسانية لا نطيل بذكرها فليراجع مظانّها.
فرعون يقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟
جاء في آيات من
سورة غافر وسورة الأعراف ما يدلّ على أنّ فرعون همّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء
نسائهم بعد أن بعث موسى عليهالسلام ودعاه إلى الإيمان.
وفي سورة القصص
وسورة طه وإبراهيم والأعراف والبقرة ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد
وقع من قبل؟
كان فرعون قد
أمر بقتل الذكور من مواليد بني إسرائيل من قبل ، خوفا من ظهور نبيّهم موسى عليهالسلام وقد خاب ظنّه. لكنّه بعد أن ظهرت نبوّته وقام في وجهه
مهدّدا له
__________________
ـ ولا سيّما بعد أن آمن السحرة ـ خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة
بالأبناء ، فحاول كسر شوكتهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء ، لكنّه لم يساعده
الحظّ ، حيث أهلكهم الله.
قال الطبرسي
عند تفسير الآيات من سورة غافر : امروا بقتل الذكور من قوم موسى لئلّا يكثر قومه
ولا يتقوّى بهم وباستبقاء نسائهم للخدمة. وهذا غير القتل الأوّل ، لأنّه أمر
بالقتل أولا لئلّا ينشأ منهم من يزول ملكه على يده ، ثمّ ترك ذلك لمّا أن تيقّن
ولادة موسى ، ولا فائدة في ذبح الأبناء. لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في
وجهه مهدّدا له حاول العود إلى القتل ثانيا حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة. لكنه
تعالى حال دون بلوغ أمنيّته وأخذهم بالبلاء والعذاب.
التقدير أزلا أم في ليلة القدر؟
قد يزعم البعض
أنّ في ذلك تناقضا في القرآن ، فتارة يرى من تقدير الامور مثبتا في اللوح المحفوظ (فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها). واخرى تقديرها في ليلة القدر لكلّ عام (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).
قلت : ليس
التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به. فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها
أزلا وفي اللوح المحفوظ هو الله وحده لا شريك له. وأمّا الذي يتنزّل به ويطلع
أولياءه عليه فهو في ليلة مباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل
الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر. يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة
القائم من أوليائه ليطلعه على مجاري الامور عامه ذلك. وبذلك تواترت روايات أئمة
أهل البيت الصادقين عليهمالسلام ومن ثمّ فإنّ علمهم الحتم بمجاري الامور محدود بعامهم ،
دون علم الله المحيط الشامل.
__________________
والدليل على
ذلك أنّ الوارد في سورتي الدخان والقدر هو النزول والتفريق ، وليس أصل التقدير ،
فتدبّر جيّدا.
فالله تبارك
وتعالى يعلم تقدير الامور حسب مجاريها علما في الأزل ، لكنّه تعالى ينزل بهذا
التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام ، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ
شبهة تناقض.
متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟
جاء في سورة
الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قدر من شهر رمضان في كلّ سنة (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ). وقد وردت روايات أيضا بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما
يقدّر في ليلة القدر.
هذا ، في حين
كثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأزل ، وتجري الأمور حسبما
قدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل. (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها).
(وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ).
على أنّ هذه
الآيات ترمي إلى سلب مسئولية الإنسان عمّا يفعله ، حيث إنّه كان مقدّرا له من قبل.
وهذا يتنافى وقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً
يَلْقاهُ مَنْشُوراً).
أمّا المسألة
الأولى فقد سبق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرين ، تقدير ظاهري حسب
مجاري الأمور الطبيعية من علل وأسباب تتفاعل حسب طبيعتها الاولى ، وهي السنن
الساطية على الكون. (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).
وهذه السنن
ليست حتمية ، في حين كونها هي الغالبة ، حيث احتمال مفاجأة امور
__________________
طارئة من خارج مدارات السنن فتغيّر من اتجاهاتها أحيانا. الأمر الذي لا
يعلمه إلّا الله وكان مقدّرا أي معلوما لديه تعالى في الأزل ، خافيا عن أعين
الخلائق إلّا من علّمه الله. وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ
ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).
فالأجل الأول
هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعية حسب السنن الجارية في الخلق ، وهذا ليس بحتم.
أمّا الأجل الآخر الحتمي فهو الذي علمه الله في الأزل حسب الأسباب الطارئة الخافية
عن غيره تعالى. (لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).
روى الصدوق
بإسناده إلى الإمام الصادق عليهالسلام قال : وهل يمحو الله إلّا ما كان؟ وهل يثبت إلّا ما لم
يكن؟
فهناك تغيير
وتبديل على خلاف مجاري الامور ، لا يعلمه إلّا الله علما كائنا في الأزل.
قال الإمام
الباقر عليهالسلام : من الأمور أمور موقوفة عند الله ، يقدّم منها ما يشاء
ويؤخّر منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء.
أي : من الأمور
ما هي موقوفة ـ في جريانها حسب العادة الطبيعيّة ـ على شرائط ، إن وجدت جرت ،
وإلّا تخلّفت. فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلّا الله.
فالعلم
بالتقادير الحتمية الأزلية خاصّ بالله تعالى. أمّا غيره تعالى من الملائكة
المقرّبين والمدبّرات أمرا وكذا المصطفون من عباد الله المكرمين فلا علم لهم بسوى
مقتضيات السنن الطبيعية في مجاري الأمور ، والتي هي بمعرض البداء والتبديل ، أمّا
حتميّتها فهذا شيء إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدر من كلّ سنة وفي محدودة عامها
فحسب.
قال الإمام
الصادق عليهالسلام : «إنّ لله علمين ، علم مكنون مخزون لا يعلمه إلّا هو ،
من
__________________
ذلك يكون البداء. وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ، فنحن نعلمه».
وقد عنى بهذا
العلم الذي تعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العلم وفق مجاري الأمور الطبيعية
، والتي يمكن التخلّف فيها. ومن ثمّ قال الإمام امير المؤمنين عليهالسلام : والله لو لا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما يكون إلى
يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).
* * *
وأمّا المسألة
الثانية : هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث
عن مسألة الاستطاعة والاختيار ، وتبيّن أنّ التقدير السابق لا يعدو سوى العلم بما
سيقع وتقديره حسبما يقع ، من غير أن يكون العلم السابق ذا أثر في تحقّق المعلوم. فإنّ
للظواهر الكونيّة عللا وأسبابا تكوينية هي التي تؤثّر في الفعل والانفعال
التكوينيّين. كما أنّ للأفعال الاختيارية الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان
والإنسان) سببا مباشرا هي إرادته بالذات وليس مقهورا فيها.
فإذا كان الله
يعلم ـ أزلا ـ ما ذا سيقع وسيتحقّق عبر الأبد ثمّ قدّر مجاريها ودبّر من شئونها
بما يتواءم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار ، ولا سيّما فيما يعود إلى أعمال
يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره. وليس من المنطق أن يفرض العلم بأمر علّة
لوجوده.
والتقدير
السابق ، إنّما هو العلم بالأسباب والمسبّبات ـ كما هي ـ ثمّ تدبير مجاريها حسب
نظام الكون. فلا هناك جبر ولا سلب للمسئولية فيما يمسّ أفعال العباد الاختيارية.
(إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وارِدُها)
قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ
عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا). والخطاب عامّ يشمل
__________________
المؤمن والكافر. وبدليل ما بعد الآية : (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا). حيث قوله : (وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيها). أي الجميع يردونها فيخرج المؤمن ويترك الظالم بحاله.
الأمر الذي
يتنافى وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها). فكيف الوئام؟!
وقد ذكر
المفسّرون هنا وجوها ، أوجهها ـ ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم ـ
أنّه بمعنى الإشراف عليها ليشهدوا ذلك العرض الرهيب. فالمؤمنون يجوزونها ويدنون
منها ويمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمّظ ، ويرون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.
قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) لن يكونوا لوحدهم بل (وَالشَّياطِينَ) الذين هم قادتهم ، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد
والمقود. (ثُمَّ
لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) جاثين على ركبهم في ذلّ وفزع. (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ
أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا). فلا يؤخذ أحد جزافا من تلك الجموع المتكاثفة. (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ
هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) ليكونوا طليعة المقذوفين فيها.
وبعد ، فيأتي
دور المؤمنين الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، فيأتي زرافات منهم ، يمرّون بهذا
المشهد الرهيب ، فيزحزحون عنها وفي منجاة منها يجوزونها (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي نجعلهم في منجاة منها (وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) أي ندعهم جاثمين على ركبهم على شفا جرف هار لينهار بهم
في نار جهنّم.
فقد كان المراد
بالورود هنا هو الإشراف عليها ، كما في قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ). وقوله : (فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ). إذ ليس المراد من الورود هنا الدخول ، بل الدنوّ
والاقتراب. قال الراغب : الورود ، أصله قصد الماء ، ثمّ يستعمل في غيره. قوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ) أي قصده واقترب منه. والوارد : الذي
__________________
يتقدّم القوم ليرد الماء ويسقي لهم. قوله : (فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ) أي ساقيهم من الماء المورود. قال : ويقال لكلّ من يرد
الماء وارد ، وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها). ومنه : ورد ماء كذا أي حضره.
وفي أمثال العرب : «أن ترد الماء بماء
أكيس».
أي من الكياسة والاحتياط أن يكون وارد الماء مستصحبا معه شيئا من الماء ، ولعلّه
يرد الماء فلا يجده.
قال زهير ـ شاعر
الجاهلية ـ :
فلمّا وردن
الماء زرقا جمامه
|
|
وضعن عصىّ
الحاضر المتخيّم
|
أراد : فلمّا
بلغن الماء أقمن عليه.
قال الزّجاج :
والحجّة القاطعة على أنّهم لا يدخلونها هي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها).
وللطبرسي هنا
كلام مذيّل ونقل آراء ، اقتصرنا على الأرجح منها ، فليراجع.
ولابن شهرآشوب
توجيه لطيف بإرجاع ضمير الخطاب إلى منكري الحشر على طريقة الالتفات.
فتبارك الله أحسن الخالقين
جاء التعبير
بأنّه تعالى أحسن الخالقين في موضعين من القرآن ممّا يشيء بأنّ هناك خالقين سوى الله ليكون هو أحسنهم!!
في حين أنّه تعالى ينفي بكلّ شدّة أن يكون خالق غيره إطلاقا وأنّه خالق كلّ شيء
ولا خالق سواه ، فما وجه التوفيق؟
__________________
غير أنّ الخلق
بمعنى الإبداع وإيجاد الصورة بالتركيب الصناعي أمر يعمّ. فقد حكى الله تعالى عن
المسيح : (أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ). وقوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي). والخلق ـ في كلام العرب ـ ابتداع الشيء ، وإنّما يخصّه
تعالى إذا كان إنشاء لا على مثال سبقه. وكلّ شيء خلقه الله فهو مبتدؤه على غير
مثال سبق إليه. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ).
قال ابن
الأنباري : الخلق في كلام العرب على وجهين : أحدهما الإنشاء على مثال أبدعه ،
والآخر التقدير. وقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) معناه : أحسن المقدّرين. وكذلك قوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي تقدّرون كذبا.
قال ابن سيده :
خلق الله الشيء يخلقه خلقا : أحدثه بعد أن لم يكن.
قال ابن منظور
: والخلق التقدير. وخلق الأديم يخلقه خلقا : قدّره لما يريد قبل القطع ، وقاسه
ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفّا. قال زهير بن أبي أسلمي يمدح رجلا :
ولأنت تفري
ما خلقت وبع
|
|
ض القوم يخلق
ثمّ لا يفري
|
يعني : أنت إذا
قدّرت أمرا قطعته وأمضيته ، وغيرك يقدّر وليس بماضي العزم.
عبس وتولّى
وممّا جعله أهل
التبشير المسيحى ذريعة للحطّ من كرامة القرآن ـ بزعم وجود التناقض فيه ـ ما عاتب
الله به نبيّه صلىاللهعليهوآله بشأن عبوسه في وجه ابن أمّ مكتوم المكفوف ، جاء ليتعلّم
منه ملحّا على مسألته ، وهو لا يعلم أنّه منشغل بالكلام مع شرفاء قريش. فساء
النبيّ إلحاحه ذلك فأعرض بوجهه عنه كالحا متكشّرا. الأمر الذي يتنافى وخلقه العظيم
الذي وصفه الله به في وقت مبكّر!
جاء قوله تعالى
: (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) في سورة القلم ، ثانية السور النازلة بمكة.
__________________
أمّا سورة عبس فهي الرابعة والعشرون.
جاء في أسباب
النزول : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن
عبد المطّلب وابيّا واميّة ابني خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم. وفي هذه الحال
جاءه عبد الله ابن أمّ مكتوم ونادى : يا رسول الله ، أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله
، فجعل يناديه ويكرّر النداء ، ولا يعلم أنّه مشتغل ومقبل على غيره ، حتّى ظهرت
آثار الكراهة على وجه رسول الله ، لقطعه كلامه!
قالوا : وقال
في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل
على القوم الّذين كان يكلّمهم ، فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه ويقول
إذا رآه : مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي. واستخلفه على المدينة مرّتين.
قال الشريف
المرتضى : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه ، وفيها ما يدلّ
على أنّ المعنيّ بها غيره ، لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّ مع الأعداء المنابذين
فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء
لا يشبه أخلاقه الكريمة. وقد قال تعالى في وصفه : (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ). وقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). فالظاهر أنّ قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) المراد به غيره.
وهكذا ورد قوله
تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ). وقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِمَنِ
__________________
اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وغيرهما من آيات مكّية جاء الدستور فيها بالخفض واللين
والرأفة مع المؤمنين ، فكيف يا ترى يتغافل النبيّ عن خلق كريم هي وظيفته بالذات ،
ولا سيّما مع السابقين الأوّلين من المؤمنين ، وبالأخصّ مع من ينتمي إلى زوجته
الوفيّة خديجة الكبرى أمّ المؤمنين.
وقال الشيخ أبو
جعفر الطوسي : ما ذكروه سببا لنزول الآيات إنّما هو قول لفيف من المفسّرين وأهل
الحشو في الحديث ، وهو فاسد ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قد أجلّ الله قدره عن هذه الصفات ، وكيف يصفه بالعبوس
والتقطيب وقد وصفه بالخلق العظيم واللين وأنّه ليس بفظّ غليظ القلب؟! وكيف يعرض
النبيّ عن مسلم ثابت على إيمانه جاء ليتعلّم منه ، وقد قال تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)!؟ ومن عرف النبيّ وحسن أخلاقه وما خصّه الله تعالى به من
مكارم الأخلاق وحسن الصحبة ، حتّى قيل : إنّه لم يكن يصافح أحدا قطّ فينزع يده من
يده حتّى يكون ذلك هو الذي ينزع يده. فمن هذه صفته كيف يقطب وجهه في وجه أعمى جاء
يطلب زيادة الإيمان. على أنّ الأنبياء عليهمالسلام منزّهون عن مثل هذه الأخلاق وعمّا دونها ، لما في ذلك
من التنفير عن قبول دعوتهم والإصغاء إلى كلامهم. ولا يجوّز مثل هذا على الأنبياء
من عرف مقدارهم وتبيّن نعتهم.
نعم ، قال قوم
: إنّ هذه الآيات نزلت في رجل من بنى اميّة كان واقفا إلى جنب النبي ، فلمّا أقبل
ابن أمّ مكتوم تقذّر وجمع نفسه وعبس وتولّى. فحكى الله ذلك وأنكره معاتبا له.
قال الطبرسي :
وقد روي عن الصادق عليهالسلام : أنّها نزلت في رجل من بني اميّة كان عند النبي ، فجاء
ابن أمّ مكتوم ، فلمّا رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله
سبحانه ذلك وأنكره عليه.
قال : ولو صحّ
الخبر الأوّل لم يكن العبوس ذنبا ، إذ العبوس والانبساط مع الأعمى
__________________
سواء ، إذ لا يرى ذلك فلا يشقّ عليه. فيكون قد عاتب الله سبحانه نبيّه بذلك
، ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق ، وينبّهه على عظيم حال المؤمن المسترشد ، ويعرّفه
أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه.
قال : وقال
الجبّائي : في هذا دلالة على أنّ الفعل إنّما يكون معصية فيما بعد لا في الماضي ،
فلا يدلّ على أنّه كان معصية قبل النهي عنه. ولم ينهه صلىاللهعليهوآله إلّا في هذا الوقت.
وقيل : إنّ ما
فعله الأعمى كان نوعا من سوء الأدب ، فحسن تأديبه بالإعراض عنه.
إلّا أنّه كان
يجوز أن يتوهّم أنّه أعرض عنه لفقره ، وأقبل عليهم لرئاستهم تعظيما لهم ، فعاتبه
الله على ذلك.
قال : وروي عن
الصادق عليهالسلام أنّه قال : كان رسول صلىاللهعليهوآله اذا رأى عبد الله بن أمّ مكتوم قال : مرحبا مرحبا ، لا
والله لا يعاتبني الله فيك أبدا ، وكان يصنع به من اللّطف حتى كان (ابن أمّ مكتوم)
يكفّ عن النبيّ ممّا يفعل به ، أي كان يمسك عن الحضور لديه استحياء منه.
قلت : الأمر
كما ذكره هؤلاء الأعلام ، من أنّها فعلة لا تتناسب ومقام الأنبياء ، فكيف بنبيّ
الإسلام المنعوت بالخلق العظيم؟! فضلا عن أنّ سياق السورة يأبى إرادة النبيّ في
توجيه الملامة إليه. ذلك : أنّ التعابير الواردة في السورة ثلاثة «عبس» ، «تولّى»
، «تلهّى». الأوّلان بصيغة الغياب والأخيرة خطاب. على أنّ الأوّلين (عبس وتولّى)
فعلان قصديّان (يصدران عن قصد وإرادة وعن توجّه من النفس). والأخير (تلهّى) فعل غير
قصديّ (صادر لا عن إرادة ولا عن توجّه من النفس). فإنّ الإنسان إذا توجّه بكلّيّته
إلى جانب فإنّه ملته عن الجانب الآخر ، على ما تقتضيه طبيعة النفس الإنسانية
المحدودة ، لا يمكنه التوجّه إلى جوانب عديدة في لحظة واحدة! إنّما هو الله ، لا
يشغله شأن عن شأن!
وهذا الفعل
الأخير كان قد توجّه الخطاب ـ عتابا ـ إلى النبيّ ، لانشغاله بالنجوى مع القوم وقد
ألهاه ذلك عن الإصغاء لمسألة هذا الوارد ، من غير أن يشعر به.
فهذا ممّا
يجوّز توجيه الملامة إليه صلىاللهعليهوآله : كيف يصرف بكلّ همّه نحو قوم هم ألدّاء ،
__________________
بحيث يصرفه عمّن يأتيه بين حين وآخر ، وهو نبيّ بعث إلى كافّة الناس.
وهو عتاب رقيق
لطيف يناسب شأن نبيّ هو (بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ).
أمّا الفعلان
الأوّلان فقد صدرا عن قصد وإرادة ، كانا قبيحين إلى حدّ بعيد. الأمر الذي يتناسب
مع ذلك الأموي المترفّع بأنفه المعتزّ بثروته وترفه في الحياة. وكان معروفا بذلك.
وعليه فلا يمكن
أن يكون المعنيّ بالفعل الثالث (غير العمدي) هو المعنيّ بالفعلين الأوّلين (العمديّين).
أسئلة مع أجوبتها لابن قتيبة
لأبي محمّد عبد
الله بن مسلم بن قتيبة (٢١٣ ـ ٢٧٦) في كتابه «تأويل مشكل القرآن» عرض عريض لأسئلة
طرحها من أهل الشبه وأجاد في أكثر أجوبته عليها بصورة فنيّة دقيقة ، رأينا إيرادها
مع شيء من التوضيح وربما أضفنا من كلمات الآخرين لمزيد الفائدة.
عقد في كتابه
بابا عنوانه «الحكاية عن الطاعنين» وجعله على ثلاثة فصول على حسب تنوّع الشبه ،
وهي :
١ ـ شبهة وجوه
القراءات هل توجب اختلافا في القرآن؟
٢ ـ دعوى وجود
اللحن في القرآن.
٣ ـ موهم
التناقض والاختلاف في القرآن.
وجعل الشبه
كلّها في مقدّمة الباب ، ثم عقّبها بالأجوبة والحلول على الترتيب. وقد رجّحنا
تعقيب كلّ نوع شبهة بحلّها الوافي مباشرة ، لئلّا يطول على القارئ تلقّي الجواب عن
شبهة عرضت عليه.
__________________
اختلاف القراءة هل يوجب اختلافا في القرآن؟
قالوا : وجدنا
الصحابة ومن بعدهم يختلفون في الحرف (أي القراءة) :
فابن عبّاس
يقرأ «وادّكر بعد أمه» ، وغيره يقرأ (بَعْدَ أُمَّةٍ).
وعائشة تقرأ : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) ، وغيرها يقرأ : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ).
وأبو بكر يقرأ
: «وجاءت سكرة الحقّ بالموت» ، والناس يقرءون : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِ).
وقرأ بعض
القرّاء (هو الأعرج) : «وأعتدت لهنّ متكا» ، وقرأ الناس : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً).
وكان ابن مسعود
يقرأ : «إن كانت إلّا زقية واحدة» ويقرأ : «كالصوف المنفوش». والناس يقرءون : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) و (كَالْعِهْنِ
الْمَنْفُوشِ). مع أشباه لهذا كثيرة يخالف فيها مصحفه المصاحف القديمة
والحديثة. وكان يحذف من مصحفه «أمّ الكتاب» ويمحو «المعوّذتين» ويقول : لم تزيدون
في كتاب الله ما ليس فيه؟!
وابيّ يقرأ : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ
أُخْفِيها) (من نفسي فكيف أظهركم عليها). ويزيد في مصحفه افتتاح «دعاء القنوت» إلى قول الداعي : «إنّ
عذابك بالكافرين ملحق» ويعدّه سورتين من القرآن!
والقرّاء
يختلفون ، فهذا يرفع ما ينصبه ذاك ، وذاك يخفض ما يرفعه هذا ... وأنتم تزعمون أنّ
هذا كلّه كلام ربّ العالمين ، فأيّ شيء بعد هذا الاختلاف تريدون؟!
وهذا الإشكال
بعينه أورده المستشرق الألماني «إجنتس جولد تسيهر». قال : «فلا
__________________
يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنّه نصّ منزل
أو موحى به يقدم نصّه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات
كما نجد في نصّ القرآن».
القرآن شيء والقراءات شيء آخر
هناك فرق فارق
بين القرآن والقراءات ، حيث القرآن هو النصّ الموحى به من عند ربّ العالمين نزل به
الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين ، وهو الذي تعاهده المسلمون جيلا بعد جيل ،
تلقّوه من الرسول تلقّيا مباشرا ، وتداولوه يدا بيد حتى حدّ التواتر المستفيض. لا
اختلاف فيه ولا اضطراب منذ يومه الأوّل فإلى مدى العصور وتعاقب الدهور. وهم على
قراءة واحدة كان يقرأها النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآله وتداوله الأصحاب والتابعون لهم بإحسان وعلى أثرهم سائر
الناس أجمعون.
أمّا القراءات
فهي اجتهادات من القرّاء للوصول إلى ذلك النصّ الموحّد ، ولكن طرائقهم هدتهم إلى
مختلف السبل فضلا على تنوّع سلائقهم في سلوك المنهج القويم. فذهبوا ذات اليمين
وذات الشمال ، كلّ يضرب على وتره.
قال الإمام أبو
عبد الله الصادق عليهالسلام : «القرآن واحد ، نزل من عند واحد. ولكن الاختلاف يجيء
من قبل الرواة»
يعني : أنّ
الاختلاف حادث على أثر اختلاف نقلة النصّ وهم القرّاء.
ومن ثمّ قال
الإمام بدر الدين الزركشي : القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي
المنزل على محمّد صلىاللهعليهوآله ، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور ،
__________________
في كتبة الحروف أو كيفيّتها أي الاختلاف الحاصل فيما بعد ، في كيفية كتابته أو
كيفية قراءته.
* * *
على أنّ هذه
الآثار إنّما نقلت نقلا بالإرسال ، وعلى فرض الإسناد وصحة السند فهى أخبار آحاد لا
يثبت به القرآن ، المعتبر فيه النقل المتواتر القطعي نقلا على سعة الآفاق. وليس في
سوى قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقد ملأت الخافقين.
أمّا المنقول
عن ابن عبّاس فلم يثبت وحاشاه أن يتعدّى قراءة شيخه ومولاه إمام المتّقين.
والمنقول عن
عائشة لا اعتبار به. وهكذا جاءت قراءة أبي بكر قبيل وفاته في سكرة الموت. روى
القرطبي بإسناده إلى مسروق ، قال : لمّا احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة ، فلمّا
دخلت عليه قالت : هذا كما قال الشاعر :
لعمرك ما
يغني الثراء ولا الغنى
|
|
إذا حشرجت
يوما وضاق بها الصدر
|
فقال أبو بكر :
هلّا قلت كما قال الله : «وجاءت سكرة الحقّ بالموت ذلك ما كنت منه تحيد».
قال القرطبي :
هذه الرواية مرفوضة تجرى مجرى النسيان منه إن كان قالها ، أو الغلط من بعض من نقل
الحديث.
وقراءة الأعرج
شاذّة لا اعتداد بها.
وكان ابن مسعود
يرى جواز تبديل النصّ بالأجلى من غير أن يجعله قرآنا أو يعتقده نصّا موحى به. وكان
عمله هذا مرفوضا لدى المحقّقين.
والمنقول عن
ابيّ ومثله عن ابن مسعود أيضا هي زيادات تفسيرية لغرض الإيضاح من غير أن يكون
زيادة في النصّ أو تغيير في لفظ القرآن.
__________________
على أنّه لا
حجّية في مزاعم اناس ـ مهما كانوا ـ ما لم تقع موضع قبول عامّة المسلمين فضلا عن
رفضهم إيّاها ، كما وقع بالفعل.
قال ابن قتيبة
: وأمّا نقصان مصحف عبد الله بحذفه «أمّ الكتاب» و «المعوّذتين» ، وزيادة «ابيّ»
بسورتي القنوت ، فإنّا لا نقول : إنّ عبد الله وابيّا أصابا ، وأخطأ المهاجرون
والأنصار. ولكن عبد الله ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أنّ المعوّذتين كانتا كالعوذة
والرقية وغيرهما ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يعوّذ بهما الحسن والحسين ، كما كان يعوذ ب «أعوذ بكلمات الله التامّة».
فظنّ أنّهما
ليستا من القرآن. وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة جميعا ، كما في مواضع اخر
خالف فيها جميع الأصحاب.
وإلى نحو هذا
ذهب ابيّ في دعاء القنوت ، لأنّه رأى رسول الله صلىاللهعليهوآله يدعو به في الصلاة دعاء دائما ، فظنّ أنّه من القرآن ،
وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة.
قال : وأمّا «فاتحة
الكتاب» فإنّي أشكّ فيما روي عن عبد الله من تركه إثباتها في مصحفه ، فإن كان هذا
محفوظا فليس يجوز لمسلم أن يظنّ به الجهل بأنّها من القرآن. وكيف يظنّ به ذلك وهو
من أشدّ الصحابة عناية بالقرآن؟!
ولكنّه ذهب
فيما يظنّ أهل النظر ، إلى أنّ القرآن إنّما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشكّ
والنسيان والزيادة والنقصان. ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها ولأنّها تثنى
في كلّ صلاة. ولا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلّمها وحفظها.
قال سيّدنا
الاستاذ طاب ثراه : إنّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات ، لأنّ الاختلاف في
خصوصيات حادثة تاريخية ـ كالهجرة مثلا ـ لا ينافي تواتر نفس الحادثة. على أنّ
الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنّما هو خصوصيات قراءاتهم ، وأمّا أصل القرآن فهو
واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين وبنقل الخلف عن السلف وتحفّظهم عليه في الصدور
__________________
وفي الكتابات ، ولا دخل للقرّاء بخصوصهم في ذلك أصلا. ولذلك فإنّ القرآن
ثابت بالتواتر ، حتّى لو فرضنا أنّ هؤلاء القرّاء لم يكونوا في عالم الوجود. إنّ
عظمة القرآن ورفعة مقامه أعلى من أن تتوقّف على نقل أولئك النفر المحصورين.
موهم الاختلاف والتناقض زيادة على ما سبق
أورد ابن قتيبة
قسما من آيات نحلوا فيها التناقض والاختلاف ، ممّا قدمنا الكلام فيها والإجابة
عليها ، وأضاف :
قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ
ضَرِيعٍ) ، وهو يقول في موضع آخر : (فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ).
وأجاب : إنّ في
النار دركات ، والجنّة درجات ، وعلى قدر الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمثوبات. فمن
أهل النار من طعامه الزقّوم ، ومنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من شرابه الحميم ،
ومنهم من شرابه الصديد.
والضريع : نبت
يكون بالحجاز ، يقال لرطبه : الشبرق ، لا يسمن ولا يشبع. قال امرؤ القيس :
فأتبعتهم
طرفي وقد حال دونهم
|
|
غوارب رمل ذي
ألاء وشبرق
|
والعرب تصفه
بذلك.
وغسلين : فعلين
من غسلت ، كأنّه الغسالة. قال بعض المفسّرين : هو ما يسيل من أجساد المعذّبين (كالقيح).
وهذا نحو قوله
: (سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ). وقرأ عيسى : سرابيلهم من قطر آن. والقطر : النحاس. والآن : الذي بلغ منتهى حرّه. (وقيل
المذاب). كأنّ قوما يسربلون هذا ،
__________________
وقوما يسربلون هذا ، ويلبسون هذا تارة ، وهذا تارة.
وأمّا قولهم : «كيف
يكون في النار نبت وشجر والنار تأكلهما؟!» فإنّه لم يرد فيما يرى أهل النظر ـ والله
أعلم ـ أنّ الضريع بعينه ينبت في النار ، ولا أنّهم يأكلونه. والضريع من أقوات
الأنعام لا من أقوات الناس. وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع وهلكت هزلا. قال الهذلي ـ
يذكر إبلا لم تشبع وهلكت هزلا ـ :
وحبسن في هزم
الضريع فكلّها
|
|
حدباء دامية
اليدين حرود
|
فأراد تعالى
أنّ هؤلاء قوم يقتاتون ما لا يشبعهم وضرب الضريع مثلا. أو يعذّبون بالجوع كما
يعذّب من قوته الضريع.
وقد يكون
الضريع وشجرة الزقّوم نبتين من النار ، أو من جوهر لا تأكله النار. وكذلك سلاسل
النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحيّاتها ، لو كانت كما نعلم لم تبق على النار. وإنّما
دلّنا الله سبحانه على الغائب عنده بالحاضر عندنا. فالأسماء متّفقة للدلالة ،
والمعاني مختلفة.
وما في الجنّة
من شجرها وثمرها وفرشها وجميع آلاتها على مثل ذلك.
* * *
وقولهم : وأين
قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) من قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)؟ أيّ رابطة بين الصبور الشكور وجريان الفلك في البحور؟
لكن لم يرد الله
في هذا الموضع معنى الصبر والشكر خاصّة ، وإنّما أراد : إنّ في ذلك لآيات لكلّ
مؤمن ، والصبر والشكر أفضل ما في المؤمن من خلال الخير ، فذكره الله عزوجل في هذا الموضع بأفضل صفاته. وقال في موضع آخر : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
__________________
لِلْمُؤْمِنِينَ). وفي موضع آخر : (لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ). و (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). و (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ). يعني المؤمنين.
(فالمعنيّ بهذه
الآيات وبهذه التعابير هم المؤمنون محضا ، وإنّما جاءت الأوصاف الخاصّة بهم عناوين
مشيرة إلى ذاك المعنون بالذات ، من غير خصوصية لذات الأوصاف).
ومثله قوله
تعالى في قصّة سبأ : (وَمَزَّقْناهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). وهذا كما تقول : إنّ في ذلك لآية لكلّ موحّد مصلّ ،
ولكلّ فاضل تقيّ ، وإنّما تريد المسلمين حقّا.
والخلاصة : أنّ
هناك فرقا بين أخذ الأوصاف عناوين مشيرة إلى الموضوع الأصل فلا رابط بينها وبين
الحكم المترتّب عليها في القضيّة ، وبين أخذها مواضيع هي علل وأسباب لثبوت تلك
الأحكام المترتّبة. والآيات المنوّه عنها هي من قبيل النوع الأول ، لتكون الأوصاف
خواصّ لازمة للموضوع من غير أن يكون لها دخل في موضوعية الموضوع ، الأمر الذي
حقّقه علماء الاصول.
* * *
وقوله : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ). فإنّما يريد بالكفّار هاهنا الزرّاع ، واحدهم كافر. وإنّما
سمّي كافرا لأنّه إذا ألقى البذر في الأرض كفره ، أي غطّاه وستره ، وكلّ شيء
غطّيته فقد كفرته. ومنه قيل : تكفّر فلان في السلاح : إذا تغطّى. ومنه قيل
للّيل : كافر : لأنّه يستر بظلمته كلّ شيء. ومنه قول الشاعر (هو لبيد بن ربيعة) :
يعلو طريقة
متنها متواترا
|
|
في ليلة كفر
النجوم غمامها
|
__________________
وقالوا في قوله
تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) : استثناؤه المشيئة من الخلود يدلّ على الزوال ، وإلّا
فلا معنى للاستثناء. ثم قال : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع!
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع ومن غير أذى ، فكيف التوفيق؟!
قال ابن قتيبة
في الإجابة على ذلك : إنّ للعرب في معنى «الأبد» ألفاظا يستعملونها في كلامهم ،
يقولون : لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار ، وما طمى البحر أي ارتفع ماؤه
وامتلأ ، وما أقام الجبل ، وما دامت السماوات والأرض ، في أشباه لهذا كثيرة ،
يريدون : لا أفعله أبدا ؛ لأنّ هذه المعاني عندهم لا تتغيّر عن أحوالها أبدا ،
فخاطبهم الله بما يستعملونه ، فقال : (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مقدار دوامهما ، وذلك مدّة العالم.
وللسماء والأرض
وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما ، يقول الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ). ويقول : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ).
أراد أنّهم
خالدون فيها مدّة العالم ، سوى ما شاء الله أن يزيدهم من الخلود على مدّة العالم. و
«إلّا» في هذا الموضع بمعنى «سوى». ومثله في الكلام : لأسكننّ في هذه الدار حولا
إلّا ما شئت ، تريد : سوى ما شئت أن أزيد على الحول.
قال : هذا وجه.
ووجه آخر ، وهو : أن يجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد ، على ما تعرف العرب
وتستعمل ، وإن كانتا قد تتغيّران. وتستثنى المشيئة من دوامهما ؛ لأنّ أهل الجنّة
وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا ، لا في الجنّة.
فكأنّه قال : خالدين في الجنّة وخالدين في النار دوام السماء والأرض ، إلّا ما شاء
ربّك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
__________________
وفيه وجه ثالث
، وهو : أن يكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار ، حتّى
تلحقهم رحمة الله وشفاعة رسوله ، فيخرجوا منها إلى الجنّة. فكأنّه قال سبحانه :
خالدين في النار ما دامت السماوات والأرض إلّا ما شاء ربّك من إخراج المذنبين من
المسلمين إلى الجنّة وخالدين في الجنّة ما دامت السماوات والأرض ، إلّا ما شاء
ربّك من إدخال المذنبين النار مدّة من المدد ثم يصيرون إلى الجنّة.
هذا ما ذكره
ابن قتيبة بهذا الشأن ، والآيتان من مشكل القرآن ، على حدّ تعبير المفسّر الكبير
أبي علي الطبرسي. وأفاد هو هنا وجوها لحلّ الإشكال نذكرها بالتالي ، ولنبدأ
بالآيتين. بكاملتهما :
* * *
قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي
النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا
الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).
فقد وقع
الاستثناء بشأن كلّ من الأشقياء والسعداء ، أمّا الاستثناء بشأن الأشقياء فلا موضع
للكلام فيه ، نظرا لأمرين :
أحدهما : أنّ
هذا الاستثناء لم يقع بشأن المجموع من حيث المجموع ، بل بشأن الجميع حسب الأفراد ،
فالجميع محكومون بالخلود في جهنّم إلّا ما شاء ربّك بشأن بعضهم ، ولعلّهم الأكثر
حسب مقتضى الذنوب التي ارتكبوها ولعلّها تقع موضع عفو ربّهم الكريم.
ثانيهما : أنّ
الشقاء إنّما هو في مرتبة الاقتضاء للخلود ، وليس علّة تامّة. ومن ثمّ صحّ
الاستثناء حسب مشيئة الربّ إذا تحقّقت أسبابه في حين.
هذا فضلا عن
أنّ مخالفة الوعيد لا ضير فيه ولا حزازة فيه على الكريم.
__________________
إنّما الكلام
والإشكال وقوع الاستثناء بشأن السعداء حيث وعدهم بالخلود ، والكريم لا يخلف
الميعاد.
قال الطبرسي :
اختلف العلماء في تأويل هذا في الآيتين ، وهما من المواضع المشكلة في القرآن. والإشكال
فيه من وجهين : أحدهما : تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض. والآخر : معنى
الاستثناء بقوله : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ).
فالأوّل فيه
أقوال :
أحدها : أنّ
المراد ما دامت السماوات والأرض مبدّلتين. أي ما دامت سماء الآخرة وأرضها ، وهما
لا يفنيان إذا اعيدا بعد الإفناء. عن الضحّاك والجبّائي.
وثانيها : أنّ
المراد ما دامت سماوات الجنّة والنار وأرضهما. وكلّ ما علاك سماء وكلّ ما استقرّ
عليه قدمك أرض. وهو قريب من الأول.
وثالثها : أنّ
المراد ما دامت الآخرة ، وهي دائمة أبدا. كما أنّ دوام السماء والأرض في الدنيا
قدر مدّة بقائها. عن الحسن.
ورابعها : أنّه
لا يراد به السماء والأرض بعينهما ، بل المراد التبعيد. فإنّ للعرب ألفاظا للتبعيد
في معنى التأبيد. يقولون : لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار ، وما دامت السماء
والأرض ، وما نبت النبت ، وما أطّت الإبل ، وما اختلف الجرّة والدرّة ، وما ذرّ
شارق ، وفي أشباه ذلك كثرة ، ظنّا منهم أنّ هذه الأشياء لا تتغيّر ، ويرون بذلك
التأبيد لا التوقيت. فخاطبهم الله سبحانه بالمتعارف من كلامهم على قدر عقولهم وما
يعرفون.
قال عمرو بن
معديكرب :
وكلّ أخ
مفارقه أخوه
|
|
لعمر أبيك
إلّا الفرقدان
|
وقال زهير :
ألا لا أرى
علّ الحوادث باقيا
|
|
ولا خالدا
إلّا الجبال الرواسيا
|
وإلّا السماء
والنجوم وربّنا
|
|
وأيّامنا
معدودة واللياليا
|
لأنّه توهّم
أنّ هذه الأشياء لا تفنى ، وتخلد.
قلت : وهذا
الوجه الرابع هو الرأي السديد حسب الظاهر.
وأمّا الكلام
في الاستثناء فقد اختلف فيه أقوال العلماء على وجوه :
أحدها : أنّه
استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار ، والزيادة من النعيم لأهل الجنّة. والتقدير
: إلّا ما شاء ربّك من الزيادة على هذا المقدار (أي المضاعفة في العقوبة والمثوبة
، إضافة إلى جانب الخلود ، من أنواع العقوبة والنعيم).
وهذا كما يقول
الرجل لصاحبه : لي عليك ألف دينار إلّا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا. فالألفان
زيادة على الألف بغير شكّ ، لأنّ الكثير لا يستثنى من القليل. عن الزجّاج والفرّاء
وعليّ بن عيسى وجماعة.
وعلى هذا فيكون
«إلّا» بمعنى «سوى». أي سوى ما شاء ربّك. كما يقال : ما كان معنا رجل إلّا زيد ،
أي سوى زيد.
وثانيها : أنّ
الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر والحساب ، لأنّهم حينئذ ليسوا في جنّة ولا
نار ، ومدّة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة ، لأنّه تعالى لو قال «خالدين
فيها أبدا» ولم يستثن لظنّ الظانّ أنّهم في النار والجنّة من لدن نزول الآية أو من
انقطاع التكليف. فحصل للاستثناء فائدة. عن المازني وغيره. واختاره البلخي.
فإن قيل : كيف
يستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب : أنّ ذلك جائز إذا كان
الإخبار به قبل دخولهم فيها.
وثالثها : أنّ
الاستثناء الأوّل يتصل بقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ). وتقديره : إلّا ما شاء ربّك من [سائر] أجناس العذاب
الخارجة عن هذين الضربين ، ولا يتعلّق الاستثناء بالخلود. وفي أهل الجنّة يتّصل
بما دلّ عليه الكلام ، فكأنّه قال : لهم فيها نعيم إلّا ما شاء ربّك من أنواع
النعيم. وإنّما دلّ عليه قوله : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ). عن الزجّاج.
ورابعها : أن
يكون «إلّا» بمعنى الواو ، أي : وما شاء ربّك من الزيادة. عن الفرّاء.
واستشهد على
ذلك بقول الشاعر :
وأرى لها
دارا بأغدرة السي
|
|
دان لم يدرس
لها رسم
|
إلّا رمادا
هامدا رفعت
|
|
عنه الرّياح
خوالد سحم
|
__________________
قال : والمراد
ب «إلّا» هاهنا «الواو» ، وإلّا كان الكلام متناقضا. وهذا الوجه قد ضعّفه
المحقّقون من النحاة.
وخامسها : أنّ
المراد ب «الذين شقوا» من ادخل في النار من أهل التوحيد ، الّذين ضمّوا إلى
إيمانهم وطاعاتهم ارتكاب المعاصي. فقال سبحانه : إنّهم معاقبون في النار إلّا ما
شاء ربّك من إخراجهم إلى الجنّة وإثابتهم على الطاعات. ويجوز أن يريد ب «الّذين
شقوا» جميع الداخلين إلى جهنّم ، ثمّ استثنى بقوله : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) أهل الطاعات. وقد يكون «ما» بمعنى «من» أي : إلّا من
شاء ربّك.
وأمّا في أهل
الجنّة فهو استثناء بحسب ما تقدّموه في النّار. وتكون «ما» بمعناها ويكون
الاستثناء من الزمان ، بخلاف الأول الذي كان استثناء من الأعيان. ويكون (الَّذِينَ شَقُوا) ـ بناء على هذا القول ـ هم الذين سعدوا بأعيانهم ،
وإنّما أجرى عليهم كلّ لفظ في الحال التي تليق به. فإذا ادخلوا في النار وعوقبوا
فيها فهم أهل الشقاء ، وإذا نقلوا منها إلى الجنّة فهم أهل السعادة. وهذا قول ابن
عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وقتادة والسدّي والضحّاك وجماعة من
المفسّرين.
وروى أبو روق
عن الضحّاك عن ابن عباس قال : (الَّذِينَ شَقُوا) ليس فيهم كافر ، وإنّما هم قوم من أهل التوحيد يدخلون النار
بذنوبهم ثمّ يتفضّل الله عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنّة ، فيكونون أشقياء في
حال ، سعداء في حال اخرى.
قال الطبرسي :
وهذا القول هو المختار المعوّل عليه.
وسادسها : أنّ
تعليق ذلك بالمشيئة ، على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج ، لأنّ الله تعالى
لا يشاء إلّا تخليدهم على ما حكم به ، فكأنّه تعليق لما لا يكون بما لا يكون ،
لأنّه لا يشاء أن يخرجهم منها.
وسابعها : أنّ
الله سبحانه استثنى ثم عزم بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أنّه أراد أن يخلدهم. قاله الحسن.
وقريب منه ما
قاله الزجّاج وغيره : إنّه استثناء تستثنيه العرب وتفعله ، كما تقول : والله
لأضربنّ زيدا إلّا أن أرى غير ذلك ، وأنت عازم على ضربه. والمعنى في الاستثناء على
هذا : أنّي لو شئت أن لا أضربه لفعلت.
وثامنها : أنّه
يعني بقوله : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقين. قاله يحيى
بن سلام البصري ، واحتجّ بقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً).
(وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً). قال : إنّ الزمرة تدخل بعد الزمرة ، فلا بدّ أن يقع
بينهما تفاوت في الدخول. والاستثناءان على هذا من الزمان.
وتاسعها : أنّ
المعنى : خالدون في النار ، دائمون فيها مدّة كونهم في القبور ، ما دامت السماوات
والأرض في الدنيا ، وإذا فنيتا وعدمتا انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب ،
وقوله : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) استثناء وقع على ما يكون في الآخرة. أورده الشيخ أبو
جعفر قدس الله روحه وقال : ذكره قوم من أصحابنا في التفسير.
وعاشرها : أنّ
المراد : إلّا ما شاء ربّك أن يتجاوز عنهم. والاستثناء يكون على هذا من الأعيان.
وقال في الذين
سعدوا : يتأتّى فيهم جميع الوجوه التي ذكرت في أهل الشقاء إلّا ما ذكروه من جواز
إخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار. فإنّ ذلك لا يتأتّى
هنا ، لإجماع الامّة على أنّ من استحقّ الثواب فلا بدّ أن يدخل الجنّة ولا يخرج
منها بعد الدخول ، لقوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع.
* * *
قلت : والذي
يترجّح في النظر أنّ مثل هذا التعليق على المشيئة في كلامه تعالى أمر عاديّ إذا ما
لاحظنا شيمة الأكابر حيث لا يحتّمون على أنفسهم أمرا ليكون لزاما عليهم فيطالبوا
بإنجازه وإن كانوا يوفون بما وعدوا كرامة وفضلا لا تكليفا وإلزاما. ومن ثمّ ترى
__________________
أنّ أكثر وعوده تعالى التي جاءت في القرآن كانت بصورة خلق الرجاء في نفوس
الموعود لهم ، مبدوّة بلفظة «لعلّ» و «عسى» ونحوهما ، ممّا يجعل الإنجاز معلّقا
على مشيئته واقتضاء حكمته وليس حتما عليه في ظاهر الوعد وإن كان الله يفي بما وعد
فضلا ومنّة ولا يخلف الميعاد.
يقول تعالى
مخاطبا لنبيّه : (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ). فقد تلقّاه النبيّ وعدا حتما وإن كان بصورة التعليق على
المشيئة.
وقال : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). فهو وعد بمقام الشفاعة ، ولسوف يعطيه ربّه فيرضى. وإن كان الوعد وقع ظاهرا بصورة خلق الرجاء.
وقال بشأن
المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً). فاولئك معفوّ عنهم لا محالة ، ومن ثمّ جاء التعقيب
بأنّه تعالى عفوّ غفور. غير أنّ الوعد وقع ظاهرا بصورة خلق الرجاء دون الحتم
الإلزامي.
وقال : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ
فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). لا شكّ أنّه تعالى سيرحم اولئك الذين اتّبعوا الكتاب
واتّقوا ، لكنّ الوعد وقع بغير صورة الحتم عليه تعالى. والآيات من هذا القبيل
كثيرة.
* * *
والتعليق على
المشيئة بشأن خلود الأشقياء في النار والسعداء في نعيم الجنان من هذا القبيل ،
حتّى لا يكون لزاما عليه تعالى فيما أوعد أو وعد ، ومن ثمّ عقّب المشيئة بشأن
الأشقياء بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ). يعني : وإن كان الإيعاد بالخلود وقع بشأنهم حسب
__________________
اقتضاء حالتهم هم ولكنّ الله يفعل ما يشاء حسب حكمته وإرادته وليس شيء حتما
عليه ما دامت الحكمة هي الحاكمة على فعاله تعالى وتقدّس ، وإرادته تعالى هى
الساطية على تدبير عالم الوجود دنيا وآخرة ، لا رادّ لقضائه.
وبذلك أشار في
قوله تعالى : (قالَ النَّارُ
مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فأوعدهم بالخلود. لكنّ الوعيد ليس لزاما عليه ما دام
الله يفعل ما يشاء وفق حكمته وعلمه القديم.
لكنّه تعالى
أكّد وعده بشأن السعداء أن سيدوم لهم النعيم ولو تغيّرت المشيئة بالبقاء في الجنّة
فرضا ليطمئنّوا على ثقة من دوام عنايته تعالى بهم أبدا.
فهؤلاء واولئك
خالدون حيث هم ، ما دامت السماوات والأرض ـ وهو تعبير يلقى في الذهن صفة الدوام
والاستمرار حسب الاستعمال الدارج ـ وقد علّق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا
الحالتين. وكلّ قرار وكلّ سنّة معلّقة بمشيئة الله في النهاية. فمشيئة الله هي
التي اقتضت السنّة وليست مقيّدة بها ولا محصورة فيها. إنّما هي طليقة تبدّل هذه
السنّة حين يشاء الله : (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).
وزاد السياق في
حالة الذين سعدوا ما يطمئنّهم إلى أنّ مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير
مقطوع ، حتّى على فرض تبديل إقامتهم في الجنّة. وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرّيّة
المشيئة بعد ما يوهم التقييد.
* * *
وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى). «إلّا» هو بمعنى «سوى» مثلها في قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ). يريد سوى ما سلف في الجاهلية قبل النهي. فالمعنى في
الآية الاولى : أنّهم لا يذوقون الموت بعد موتهم
__________________
الأوّل.
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا). قالوا : ليس الودّ ممّا يجعل ، وإنّما هو شيء يحصل في
القلب. فلا يقال : يجعل لك حبّا ، بل يقال : يحبّك.
والجواب : أنّ
المراد جعل الودّ أي خلقه في قلوب المؤمنين. قال ابن قتيبة : فإنّه ليس على
تأوّلهم ، وإنّما أراد أنّه يجعل لهم في قلوب العباد محبّة. فأنت ترى المخلص
المجتهد محبّبا إلى البرّ والفاجر ، مهيبا مذكورا بالجميل. ونحوه قوله تعالى في
قصّة موسى عليهالسلام : (وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي). لم يرد في هذا الموضع أنّي أحببتك وإن كان يحبّه. وإنّما
أراد أنّه حبّبه إلى القلوب وقرّبه من النفوس. فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون ،
حتّى استحياه في الوقت الذي كان يقتل فيه ولدان بني إسرائيل.
* * *
وقالوا في قوله
تعالى : (وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً). السبات هو النوم ، فكيف يجعل نومنا نوما؟
لكن السبات
هاهنا ليس بمعنى النوم ، بل هو بمعنى الراحة ، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم. ومنه
قيل : يوم السبت ، لأنّ الخلق اجتمع في يوم الجمعة ، وكان الفراغ منه يوم السبت. فقيل
لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا شيئا ، فسمّى يوم السبت أي يوم
الراحة.
وأصل السبت
التمدّد ، ومن تمدّد فقد استراح. ومنه قيل : رجل مسبوت. ويقال : سببت المرأة شعرها
: إذا نقضته من العقص وأرسلته. قال أبو وجزة السعدي :
وإن سبّتته
مال جثلا كأنّه
|
|
سدى وأثلاث
من نواسج خثعما
|
__________________
مطاعن ردّ عليها قطب الدين الراوندي
عقد في كتابه
القيّم «الخرائج والجرائح» بابا ردّ فيه على مطاعن المخالفين في القرآن ، وهو بحث موجز لطيف وتحقيق واف دقيق ذو فوائد جمّة نورده
هنا بالمناسبة : قالوا : إنّ في القرآن تفاوتا ، كقوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى
أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ
خَيْراً مِنْهُنَ). ففي هذا تكرير بغير فائدة فيه ، لأنّ قوله «قوم من قوم»
يغني عن قوله : «نساء من نساء». فالنساء يدخلن في قوم. يقال : هؤلاء قوم فلان ،
للرجال والنساء من عشيرته!
الجواب : إنّ «قوم»
لا يقع في حقيقة اللغة إلّا على الرجال. ولا يقال للنساء التي ليس فيهنّ رجل :
هؤلاء قوم فلان. وإنّما سمّي الرجال قوما ، لأنّهم القائمون بالامور عند الشدائد. ويدلّ
عليه قول زهير :
وما أدري وسوف
إخال أدري
|
|
أقوم آل حصن
أم نساء
|
وقالوا في قوله
تعالى : (الَّذِينَ كانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) تفاوت (أي تهافت) كيف تكون العيون في غطاء عن الذكر؟
وإنّما المناسب أن تكون الأسماع في غطاء عن الذكر!
الجواب : إنّ
الله أراد بذلك عميان القلوب ، وعمى القلب كناية عن عدم وعي الذكر ، يقال : عمى
قلب فلان ، وفلان أعمى القلب ، إذا لم يفهم ولم يع ما يلقى إليه من الذكر الحكيم. ومن
ثمّ جاء تعقيب الآية بقوله : (وَكانُوا لا
يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً).
قال تعالى :
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ
بِها
__________________
فَإِنَّها
لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
فأعين القلب
إذا كانت في غطاء فإنّ الآذان حينذاك لا تسمع والأبصار لا تبصر ، لأنّ القلب لا
يعي.
بصر القلوب
وعماها هو المؤثّر في باب الدين ، إمّا وعيا أو غلقا. قال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا
يُؤْمِنُوا بِها). والأكنّة : الأغطية.
فكان غطاء
التعامي في القلوب هو العامل المؤثّر في عدم سماع الآذان وعدم إبصار العيون.
وقالوا في قوله
تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : ما نسبة الكتاب من علم الغيب؟. ثم إنّ قريش كانوا
أمّيّين فكيف فرضهم يكتبون؟
الجواب : إنّ
معنى الكتابة هنا الحكم. يريد : أعندهم علم الغيب فهم يحكمون. ومثله قول الجعدي :
ومال الولاء
فملتم
|
|
وما ذاك حكم
الله إذ هو يكتب
|
(أي يحكم). ومثله قوله الآخر ـ على
ما استشهد به الجوهري في الصحاح :
يا ابنة عمّي
كتاب الله أخرجني
|
|
عنكم وهل
أمنعنّ الله ما فعلا
|
وقال ابن
الأعرابي : الكاتب عندهم ، العالم. قال تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي يعلمون.
وقالوا في قوله
تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ. كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) : كيف هذا التنظير ولا تناسب بين الكلامين ، ولا وجه شبه
لهذا التشبيه؟! وهكذا في قوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ
بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ). ما وجه هذا التشبيه؟
__________________
وكذا قالوا في
قوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ
رَسُولاً مِنْكُمْ).
الجواب : إنّ
القرآن نزل على لسان العرب ، وفيه حذف وإيماء ، ووحي وإشارة. فقوله : (أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) فيه حذف ، كأنّه قال : أنا النذير المبين عذابا ، مثل
ما أنزل على المقتسمين. فحذف العذاب ، إذ كان الإنذار يدلّ عليه. كقوله في موضع : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ).
وأمّا قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِ) فإنّ المسلمين يوم بدر اختلفوا في الأنفال ، وجادل كثير
منهم رسول الله صلىاللهعليهوآله فيما فعله في الأنفال. فأنزل الله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ
الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (يجعلها لمن يشاء) (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (أي فرقوها بينكم على السواء) (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) (فيما بعد) (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ).
ثم يصف
المؤمنين ، وبعده يقول : (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ). يعني : إنّ كراهتهم الآن في الغنائم ككراهتهم يوم ذاك
في الخروج معك.
وأمّا قوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. كَما
أَرْسَلْنا ...) ، فإنّه أراد : ولأتمّ نعمتي عليكم كإرسالي فيكم رسولا
أنعمت به عليكم يبيّن لكم ...
* * *
سألوا عن قوله
تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ). وهم لم يقولوا بذلك؟!
الجواب : إنّها
نسبة تشريفيّة تفخيما لمقامهما وتعظيما لشأنهما لديه تعالى. فإذ كان العبد منعما
بتربية صالحة ومورد عناية بالغة منه تعالى شاع في الأوائل نسبة بنوّته له سبحانه ،
كما هي العادة عند العرب في المتربّي تربية صالحة نسبته إلى المربّي نسبة الولد
إلى والده الكريم.
__________________
قالوا : الآباء
ثلاثة : أب ولّدك ، وأب زوّجك ، وأب علّمك.
وعن الإمام
أمير المؤمنين عليهالسلام بشأن محمّد بن أبي بكر : محمّد ابني من صلب أبي بكر. أي
تربيتى وخاصّتي.
ويقال : لكلّ
منتسب إلى شيء : ابنه. كما في أبناء الدنيا ، وأبناء بلد كذا ، وهكذا أبناء
الإسلام وأبناء الحمية ونحو ذلك ممّا هو متعارف.
وقال سحيم بن
وثيل الرياحي :
أنا ابن جلا
وطلّاع الثنايا
|
|
متى أضع
العمامة تعرفوني
|
ينتسب إلى جلاء
الامور والكشف عن خباياها ، والتطلّع على الجبال والتلال ..
وفي خطبة
الإمام السجّاد عليهالسلام بجامع دمشق : «أيها النّاس ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا
ابن زمزم والصفا ...».
وكذا فيما حكاه
الله تعالى عن اليهود والنصارى في قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). أي أخصّاؤه والمتقرّبون لديه.
قال الراوندي :
وإنّما خصّوا عزيرا بكونه ابن الله لأنّه هو الذي أعاد عليهم الحياة الدينية بعد
خلاصهم من أسر بابل ، وكتب لهم التوراة بعد ضياعها في كارثة بخت نصّر ، فكان موضعه
لدى اليهود موضع نبيّ الله موسى عليهالسلام ، ولولاه لضاعت شريعة اليهود وذهبت معالم إسرائيل أدراج
الرياح.
وعزير هذا هو :
عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيّا. وقد صغّرته العرب وعرّبته على عادتهم في تعريب الأسماء
وتغييرها ، كما غيّروا «يسوع» بعيسى.
كان «عزرا»
معاصرا للملك الهخامنشي «أرت خشتر اردشير أوّل» الملقّب ب «دراز دست» والذي تزعّم
الملك بعد أبيه «خشيارشا» سنة ٤٦٥ ق. م. وفي السنة السابعة لملكه (٤٥٨ ق. م) بعث الكاتب المضطلع
«عزرا» مع جماعة من اليهود ، الذي اطلقوا من ذي قبل من أسر بابل ، إلى «أورشليم»
وجهّزهم بالمال والعتاد ، وأمره أن يعمر
__________________
البيت ويحيي شريعة الله من جديد. وأرسل معه كتابا فيه الدستور الكامل
لإعادة شريعة بني إسرائيل وإحياء مراسيم شعائرهم ، وأن يعيّن حكّاما وقضاة ، ويعمر
البلاد حسب شريعة السماء.
جاء في دائرة
المعارف اليهودية الإنجليزية (طبعة ١٩٠٣ م) أنّ عصر عزرا هو ربيع التاريخ للامّة
اليهودية الذي تفتّحت فيه أزهاره وعبق شذا أوراده ، وأنّه جدير بأن يكون هو ناشر
الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى. فقد كانت نسيت ولكن عزرا أعادها وأحياها.
ولذلك يقول «عزرا»
شاكرا لله تعالى : «مبارك الربّ إله آبائنا الذي جعل مثل هذا في قلب الملك لأجل
تزيين بيت الربّ الذي في اورشليم ، وقد بسط عليّ رحمة أمام الملك ومشيريه وأمام
جميع رؤساء الملك المقتدرين ...». الأمر الذي جعل من «عزرا» مكانته الشامخة في بني
إسرائيل ، ولقّبوه بابن الله ، تكريما لمقامه الرفيع.
وجملة القول :
أنّ اليهود وما زالوا يقدّسون «عزيرا» هذا ، وأدّى هذا التقديس إلى أن يطلقوا عليه
لقب «ابن الله» تكريما. ولعلّه وفي الأدوار اللاحقة زعم بعضهم أنّه لقب حقيقي ،
كما نقل عن فيلسوفهم «فيلو» ـ وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة
النصارى ـ كان يهوديّا من الإسكندرية ومعاصرا للمسيح عليهالسلام. كان يقول : إنّ لله ابنا هو كلمته التي خلق منها
الأشياء. ومنه اتّخذ النصارى هذا اللقب للمسيح عليهالسلام.
قال الشيخ
محمّد عبده : فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدّمين على عصر البعثة المحمّديّة
قد قالوا : إنّ عزيرا ابن الله بهذا المعنى.
قال الطبرسي :
قيل : وإنّما قال ذلك جماعة من قبل وقد انقرضوا. وهكذا قال الراوندى : قالت طائفة من اليهود : عزير ابن
الله. ولم يقل ذلك كلّ اليهود. وهذا خصوص خرج مخرج العموم.
__________________
وقد روي عن ابن
عبّاس قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس
ومالك بن الصيف ـ من وجوه يهود المدينة ـ فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا ولا
ترى عزيرا ابنا لله وقد أعاد علينا التوراة بعد الاندراس وأحيا شريعتنا بعد
الانطماس؟!
ومع ذلك : فإنّ
القرآن ينسب إليهم هذا القول تعنّتا وجدلا منهم ، وليس على حقيقته : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ
يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ). حيث نسبوا إلى الله البنات وزعموا أنّ الملائكة إناثا ،
قولا بلا هوادة ، وعقيدة من غير مستند.
قال محمّد عبده
: وقد جرى اسلوب القرآن على أن ينسب إلى أمّة أو جماعة أقوالا وأفعالا مستندة
إليهم في جملتهم ، وهي ممّا صدر عن بعضهم. والمراد من هذا الأسلوب تقرير أنّ
الامّة تعدّ متكافلة في شئونها العامّة ، وأنّ ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو
الزعماء يكون له تأثير في جملتها ، وأنّ المنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكر عليه
جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلّهم. قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). وهذا من سنن الاجتماع البشري أنّ المصائب والرزايا التي
تحلّ بالامم بفشوّ المفاسد والرذائل فيها لا تختصّ الذين تلبّسوا بتلك المفاسد
وحدهم ، كما وأنّ الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف
في الشهوات تكون عامّة أيضا.
* * *
قال الراوندي :
وسألوا عن قوله تعالى : (فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ). قالوا : كيف جمع الله بينه وبين قوله : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ
رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ)؟ وهذا خلاف الأوّل ، لأنّه قال أوّلا : «نبذناه» مطلقا ،
ثمّ قال : «لو لا أن تداركه لنبذ بالعراء» فجعله شرطا!
__________________
الجواب : معنى
ذلك : لو لا أنّا رحمناه بإجابة دعائه لنبذناه حين نبذناه بالعراء مذموما ... فالآية
الثانية لا تنفي النبذ بل تنفي النبذ في حالة كونه مذموما. فلا تنافي بين الآيتين.
قال : وسألوا
عن قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ). في حين أنّ اسم أبيه في التوراة تارح. قال : والصحيح
أنّ آزر ما كان أبا لإبراهيم.
وقد ذكرنا في
موضعه أنّ آزر كان عمّا له ، ويقال : إنّه تزوّج بامّ إبراهيم بعد موت أبيه تارح ،
فكان إبراهيم ربيبه وابن أخيه. واستعمال الأب في مثل هذا متعارف.
قال : وسألوا
عن قوله : (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً). ثمّ قال : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا). وهذا يدلّ على أنّ غيره لا يعلم بمدّة لبثهم ، في حين
أنّه أعلمنا بذلك في الآية الاولى!
الجواب : أنّ
هذا ردّ على اختلافهم في مدّة اللبث حيث لا علم لهم بذلك. ولذلك بيّنها وأعلمهم
بها. وهذا يدلّ على حصر العلم بذلك على الله لا غيره. (وسوف نذكر أنّ الآية نقل
لقولهم ، فهو مقول لهم وليس منه تعالى).
قال : وسألوا
عن قوله تعالى : (يا أُخْتَ هارُونَ). ولم يكن لها أخ بهذا الاسم!
وقد استوفينا
الكلام في ذلك ، وأنّه لم يرد الاخوّة في النسب ، بل الانتساب إلى قبيل هارون ،
حيث كانت من أحفاده ، كما يقال : يا أخا كليب. وهو متعارف.
قال : وسألوا
عن التكرار في سورتي الرحمن والمرسلات ، وكذا التكرار في بعض القصص التي جاءت في
القرآن. قالوا : أليس التكرار يخلّ بفصاحة الكلام؟
لكن التكرير ،
سواء أكان في المعنى ، نحو : أطعني ولا تعصني. أم في اللفظ والمعنى معا نحو : عجّل
عجّل ، فإنّما هو للتأكيد والمبالغة. وقد يزيد تزيينا في الكلام وروعة بالغة. وإنّما
ذمّ أهل البلاغة التكرار الواقع فضلا في الكلام ممّا لا فائدة فيه ، فهو من اللغو
الذي يتحاشاه الكلام البليغ.
__________________
انتهى ما أردنا
نقله من كتاب الخرائج والجرائح للراوندي ، وربّما عمدنا إلى النقل بالمعنى أو مع
يسير من إضافات أو تغييرات للاستزادة من الإيضاح.
أمّا التكرار
في القصص فقد ذكرنا : أنّها في كلّ مرّة تهدف نكتة غير التي جاءت في غيرها. ومن
ثمّ فإنّها ليست بتكرار في حقيقتها.
__________________
الباب الرابع
هل هناك في القرآن مخالفات
مع العلم أو التاريخ أو الأدب؟
حاشاه :
(قُرْآناً عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) الزمر : ٢٨
(كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) الكهف : ٥
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ) البقرة : ١٧٦
مخالفات علمية؟!
هل هناك في القرآن ما يخالف العلم؟
كلّا (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
زعموا أنّ في
القرآن ما يخالف العلم واتّخذوه شاهدا على أنّه ليس من كلام الله العالم بحقائق
الامور (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ
بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ).
ولنضع اليد على
موارد زعموا فيها الخلاف :
ومن كلّ شيء خلقنا زوجين
قالوا : ومن
الأحياء ما ليس له زوج كالخلايا والحيوانات الابتدائية والديدان تتكاثر من غير ما
حصول لقاح جنسي ، وهكذا بعض الثمار تنعقد من غير لقاح ومن غير أن يكون فيها ذكر
وأنثى!
لكنّها شبهة
فارغة وحسبان عقيم :
__________________
أوّلا : ليست
في الآية صراحة بمسألة الزوجية من ذكر وانثى (اللقاح الجنسي) حسب المتبادر إلى
الأذهان. فلعلّ المراد : التزاوج الصنفي أي المتعدّد من كلّ صنف ، كما في قوله
تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي صنفان كناية عن التعدّد من أصناف متماثلة ، ذلك لأنّ
الفاكهة ليس فيها ذكر وانثى وليس فيها لقاح. إنّما اللقاح في البذرة لا الثمرة.
ومثله قوله
تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). أي صنفين متماثلين. والثمرة نفسها ليس فيها تزاوج جنسي.
وكذلك الآية : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا
زَوْجَيْنِ) لعلّها كاختيها أريد بها الصنفان من كلّ نوع ، كناية عن
التماثل في تعدّد الأشكال والألوان. كما في قوله سبحانه : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي متماثلا وغير متماثل.
وإطلاق لفظ
التزاوج وإرادة التماثل والتشاكل في الصنف أو النوع غير عزيز. قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ
أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي من كلّ نوع متشاكل. وقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى). قال الراغب : أي أنواعا متشابهة. وقوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي أصناف.
وقد يراد
بالزوج القرين أي المصاحب المرافق في أمر له شأن. قال الراغب : يقال لكلّ قرينين
في الحيوانات المتزاوجة وغيرها : زوج. ولكلّ ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادّا :
زوج. قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) أي قرناءهم ممّن تبعوهم. (إِلى ما مَتَّعْنا
بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي أشباها وقرناء. (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً) أي قرناء ثلاثة. وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) فقد قيل في معناه : قرن كلّ شيعة بمن شايعهم.
__________________
وهكذا ذكر
المفسّرون القدامى وهم أعرف وأقرب عهدا بنزول القرآن وبمواقع الكلام الذي خاطب به
العرب آنذاك.
قال الحسن ـ في
قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ـ : السماء زوج والأرض زوج ، والشتاء زوج والصيف زوج ،
والليل زوج والنهار زوج ، حتّى يصير إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء.
وعن قتادة ـ في
قوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ قال : من كلّ صنف اثنين.
قال الطبري :
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيّين : الزوجان ـ في كلام العرب ـ الاثنان.
قال : ويقال : عليه زوجا نعال إذا كانت عليه نعلان. ولا يقال : عليه زوج نعال. وكذلك
: عنده زوجا حمام ، وعليه زوجا قيود. قال : ألا تسمع إلى قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فإنّما هما اثنان.
قال : وقال بعض
البصريّين من أهل العربية ـ في قوله : (قُلْنَا احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ : جعل الزوجين الضربين الذكور والإناث. قال : وزعم
يونس أنّ قول الشاعر :
وأنت امرؤ
تعدو على كلّ غرّة
|
|
فتخطي فيها
مرّة وتصيب
|
يعني به (بالمرء)
الذئب. وهذا أشدّ من ذلك (أي إطلاق المرء على الذئب أشدّ من إطلاق الزوج على كلّ
ذي صنف).
وقال آخر :
الزوج اللون ، وكلّ ضرب يدعى لونا ، واستشهد ببيت الأعشى :
وكلّ زوج من
الديباج يلبسه
|
|
أبو قدامة
محبوّ بذاك معا
|
وقال لبيد :
وذي بهجة كنّ
المقانب صوته
|
|
وزيّنه أزواج
نور مشرّب
|
__________________
قال ابن منظور
: والزوج ، الصنف من كلّ شيء. وفي التنزيل (وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). قيل : من كلّ لون أو ضرب حسن من النبات. وفي التهذيب :
والزوج اللون. وقوله تعالى : (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) معناه : ألوان وأنواع من العذاب ، ووصفه بالأزواج لأنّه
عنى به الأنواع من العذاب والأصناف منه.
وأمّا لفظة «اثنين»
فلا يراد بها العدد وإنّما هو التكثّر محضا ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي كرّة بعد اخرى ، وهكذا. وجاءت لفظة «اثنين» تأكيدا
على هذا المعنى. كما في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ خطابا مع المشركين ـ أي لا تتّخذوا مع الله آلهة اخرى
، ومن ثمّ عقّبه بقوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ
واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). فهو كقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي آلهة اخرى كما في قوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) فهو نهي عن التعدّد في الآلهة ، صيغت في قالب التثنية.
قال أبو علي :
الزوجان ـ في قوله تعالى : (مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ ...) ـ يراد به الشياع من جنسه ولا يراد عدد الاثنين. كما
قال الشاعر :
فاعمد لما
يعلو فما لك بالذي
|
|
لا تستطيع من
الأمور يدان
|
يريد : الأيدى
والقوى الكثيرة كي يستطيع التغلّب على الامور.
قال : ويبيّن
هذا المعنى أيضا قول الفرزدق :
وكلّ رفيقي
كلّ رحل وإن هما
|
|
تعاطى القنا
قوما هما أخوان
|
إذ رفيقان
اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحل ، وإنّما يريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان
رفيقين.
__________________
وعليه ،
فالزوجان في الآية لعلّه اريد بهما الصنفان المتماثلان أو المتقابلان ـ كما فهمه
المفسّرون القدامى ـ فلا موضع فيها للاعتراض كما زعمه الزاعم.
وهكذا على
التفسير الآخر ، قال به بعض القدامى ، قالوا بالتركيب المزدوج في ذوات الأشياء
حسبما قرّرته الفلسفة : إنّ كلّ شيء متركّب في ماهيّته من جوهر وعرض وفي وجوده من
مادّة وصورة ، وهكذا.
قال الراغب ـ في
قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا
لا يَعْلَمُونَ). وقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ـ : تنبيه أنّ الأشياء كلّها مركّبة من جوهر وعرض
ومادّة وصورة ، وأن لا شيء يتعرّى من تركيب يقتضي كونه مصنوعا وأنّه لا بدّ له من
صانع ، تنبيها أنّه تعالى هو الفرد.
وقوله : (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ، بيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج من حيث أنّ له ضدّا أو
مثلا أو تركيبا ما ، بل لا ينفكّ بوجه من تركيب. قال : وإنّما ذكر هاهنا زوجين
تنبيها أنّ الشيء وإن لم يكن له ضدّ ولا مثل فإنّه لا ينفكّ من تركيب جوهر وعرض ،
وذلك زوجان.
ثانيا : فلنفرض
إرادة اللقاح الجنسي بين ذكر وانثى في عامّة الأشياء ، كما فهمه المتأخّرون ،
وليكون ذلك دليلا على الإعجاز العلمي في القرآن ، فلا دليل على عدم الاطّراد حسبما
زعمه المعترض. فإنّ اللقاح التناسلي ظاهرة طبيعية مطّردة في عامّة الأحياء نباتها
وحيوانها وحتّى الديدان والحيوانات الأوّلية بصورة عامّة على ما أثبته علم الأحياء.
قال المراغي ـ في
قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ : أي وجعل فيها من كلّ أصناف الثمرات زوجين اثنين
ذكرا وانثى حين تكوّنها. فقد أثبت العلم حديثا أنّ الشجر والزرع لا يولّدان الثمر
والحبّ إلّا من اثنين ذكر وانثى. وعضو التذكير قد يكون في شجرة وعضو التأنيث في
شجرة اخرى كالنخل ، وما كان العضوان فيه في شجرة واحدة ، إمّا أن يكونا معا في
زهرة واحدة كالقطن ، وإمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة
__________________
وحدها كالقرع مثلا. وهكذا ذكر الطنطاوي في تفسيره وغيره.
قال العلّامة
الطباطبائي : ما ذكروه وإن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها إلّا أنّه
لا يساعد عليه ظاهر الآية من سورة الرعد. نعم يتناسب مع ما في سورة يس من قوله
تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ...) والآية ١٠ من سورة لقمان. والآية ٤٩ من سورة الذاريات.
قال سيّد قطب :
وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض ـ وربما في هذا الكون. إذ أنّ
التعبير لا يخصّص الأرض ـ قاعدة الزوجية في الخلق. وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن
كلمة «شيء» تشمل غير الأحياء أيضا. والتعبير يقرّر أنّ الأشياء كالأحياء مخلوقة
على أساس الزوجية.
وحين نتذكّر
أنّ هذا النصّ عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا وأنّ فكرة عموم الزوجية ـ حتّى في
الأحياء ـ لم تكن معروفة حينذاك فضلا على عموم الزوجية في كلّ شيء ، حين نتذكّر
هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم ، وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة
العجيبة المبكّرة كلّ التكبير!
كما أنّ هذا
النصّ يجعلنا نرجّح أنّ البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة
، وهي تكاد تقرّر أنّ بناء الكون كلّه يرجع إلى الذرّة ، وأنّ الذرّة مؤلّفة من
زوج من الكهرباء : موجب وسالب. فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء
هذا النصّ العجيب.
وجاء في مجلّة
عالم الفكر الكويتية العدد الثالث (ج ١ ، ص ١١٤) : ممّا يستوقف الذهن إشارة القرآن
أنّ أصل الكائنات جميعا تتكوّن من زوجين اثنين ... وقد اكتشف العلم الحديث وحدة
التركيب الذرّي للكائنات على اختلافها وأنّ الذرّة الواحدة تتكوّن من إلكترون
وبروتون ، أي من زوجين ...
__________________
وقد أثبت علم
الأحياء الحديث أنّ الأحياء برمّتها إنّما تتوالد وتتكاثر بالازدواج التناسلي ،
وحتّى في الحيوانات الابتدائية ذوات الخليّة الواحدة (أميبا) والديدان أيضا.
ففي مستعمرة
الفلفكس (مجموعة خلايا كثيرة تتألّف من نحو ١٢٠٠٠ خليّة مرتبطة ببعضها بواسطة خيوط
بروتوبلازمية فيتمّ بذلك الاتصال الفسلجي بين الوحدات) تظهر خلايا التناسل الذكرية
والانثوية بشكل حجيرتين : إحداهما حجيرة تناسل ذكريّة ، والاخرى حجيرة تناسل انثية.
وهكذا تحتوي كلّ دودة على أعضاء تناسل ذكرية وأنثية نامية ويتمّ الإخصاب
داخل جسم الدودة فتخرج البيوض مخصّبة لتعيد دورة حياة جديدة. وفي مثل الديدان التي تتكاثر بالانقسام فإنّ جهاز
التناسل توجد في نفس الحيوان بشكل أعضاء تناسلية ذكرية وأنثية. على ما شرحه علم
الأحياء.
(وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)!
كانت العرب
ولعلّ البشرية جمعاء ترى من القلب ـ ومحلّه الصدر ـ مركزا للتعقّل والإدراك وكذا
سائر الصفات النفسية ، وذلك باعتبار كونه منشأ الحيوية في الإنسان. فمن القلب
تنبثّ الحياة وتزدهر الحيوية في الإنسان ، ومنها النشاط الفكري وتجوال الخواطر
وسائر أحوال النفس من حبّ وبغض وابتهاج وامتعاض!
هذا مع العلم
بأنّ البشرية عرفت ـ منذ ألوف السنين ـ أنّ مركز الإدراك هو المخّ ومحلّه الدماغ
من الرأس ، ومنه اشتقاق الرئاسة لمركزية التدبير. إذن لم تكن مركزية الدماغ
للإدراك ممّا تجهله العرب وسائر الناس ، فما وجه التوفيق؟
وقد رجّح ابن
سينا أن يكون المدرك هو القلب وأنّ الدماغ وسيلة للإدراك. فكما أن الإبصار والسمع
يحصلان في مراكزهما من المخّ وتكون العين والاذن وسطا لهذا الحصول
__________________
كذلك الدماغ وسط للإدراك والتفكير.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
وبذلك يتلخّص
الإنسان ـ في نشاطه الفكري والعلمي ـ في قلبه ، ويتّحد القلب مع النفس والروح في
التعبير عن حقيقة الإنسان ذاته. (قالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي نفسي.
قال العلّامة
الطباطبائي : لمّا شاهد الإنسان أنّ الشعور والحسّ قد يبطل في الحيوان أو يغيب عنه
بإغماء أو صرع ونحوهما ولا تبطل الحياة ما دام القلب نابضا ، قطع بأنّ منشأ الحياة
هو القلب وسرت منه إلى سائر الأعضاء. وأنّ الآثار الروحية وكذا الأحاسيس المتواجدة
في الإنسان ـ من مثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف ـ كلّها للقلب
، بعناية أنّه أوّل متعلّق للروح. وهذا لا ينافي كون كلّ عضو من الأعضاء مبدءا
لعمل يخصّه ، كالدماغ للفكر والعين للإبصار والاذن للسمع والرئتين للتنفّس ونحو
ذلك ، فإنّها جميعا بمنزلة الآلات والوسط إلى ذلك.
قال : ويتأيّد
ذلك بما وجدته التجارب العلمية في الطيور ، لا تموت بفقد الدماغ ، سوى أنّها تفقد
الشعور والإحساس ، وتبقى على هذه الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائية وإيقاف
نبضات القلب.
والبحوث
العلمية لم توفّق لحدّ الآن للعثور على مصدر الأحكام الجسدية أعني عرش التدبير في
البدن. إذ أنّها في عين التشتّت والتفرّق في بنيتها ونوعية عملها ، هي مجتمعة تحت
لواء واحد ومؤتمرة بأوامر أمير واحد ، وحدة حقيقية من غير انفصام.
وليس ينبغي زعم
التغافل عن شأن الدماغ وما يخصّه من أمر الإدراك. وقد تنبّه الإنسان لما عليه
الرأس من الأهميّة في استواء الجسد منذ أقدم الزمان ، وقد جرى على ألسنتهم التشبيه
بالرأس والاشتقاق منه حيثما يريدون التعبير بالمبدئية في أيّ شيء.
__________________
ولكن مع ذلك
نراهم ينسبون الإدراك والشعور وكذا صفات النفس ـ ممّا للشعور فيه حظّ ـ إلى القلب
المراد به الروح الساطية على البدن والمدبّرة له ، كما ينسبونها إلى النفس بمعنى
الذات. فلا فرق بين أن يقال : هواك قلبي أو هوتك نفسي. فاطلق القلب واريد به النفس
، باعتبار كونه مبدأ جميع الإدراكات (العقلية) والصفات (النفسيّة). وفي القرآن
الشيء الكثير من ذلك : قال تعالى : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ)
(يَضِيقُ صَدْرُكَ).
(بَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَناجِرَ).
(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ). إلى غيرها من آيات.
(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً
مِنْ قَوْلِها)
قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ
النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ
ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها).
أفهل تتكلّم
النمل؟ وكيف يستمع سليمان إلى كلامها؟!
والنملة وكذا
سائر الحشرات ليس لها صوت وإنّما تتبادل أخبارها وتتفاهم بعضها مع بعض عن طريقة
إشعاع أمواج لاسلكية ، وهكذا تتلقّى الأخبار وكذا عن طريقة الشمّ ، ممّا لا صلة له
بالكلام الصوتي.
لكن العمدة أنّ
للحيوانات برمّتها منطقا أي طريقة خاصّة للتفاهم مع بعضها ، سواء أكان ذلك عن
طريقة إيجاد أصوات خاصة كما في الدوابّ والطيور أم بطريقة اخرى (إشعاع أمواج لا
لاسلكية) كما في الحشرات ، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه بطريقة ما ، وبالفعل قد
عرف شيء من منطق البهائم وحتّى بعض الحيتان في البحار. ولا يستحيل في قدرة الله
تعالى أن يعلّم نبيّه منطق الطير وسائر الحيوان. يقول تعالى ـ حكاية عن سليمان ـ :
(عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
__________________
يقول الاستاذ
الطنطاوي : ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي
تمكّن الشخص من نقل آرائه إلى شخص آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهرية ، فهل هذا
الرأي ممكن أو محتمل الوقوع؟ وإجابة على ذلك يقول العالم الإنجليزي «برسي» : إنّ
نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة ، وذلك ما لا يعارض فيه أحد من
الباحثين ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة ، وذلك التبادل قد يرى بوضوح بين
الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرة من اخرى. قال : وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تكلّم
بعضها بنقل الخواطر ، والنمل من هذا القبيل ، وأنّ الإنسان مستعدّ لذلك لأنّه من
جملة مواهبه ، ولكن هذه الموهبة تجيء تارة بطريق الوحي الخارق للعادة وتارة
بالتمرين.
(فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً)؟
زعموا أنّ
القرآن ذكر مراحل تكوين الجنين فيما يخالف العلم الثابت اليوم!
ففي قوله تعالى
: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
جاء في تفسير
الجلالين : «علقة» دما جامدا. «مضغة» لحمة قدر ما يمضغ.
وهكذا جاء في
تفسير المراغي وغيره من المتأخّرين.
ومعنى ذلك :
أنّ النطفة تحوّلت دما متخثّرا ، وتحوّل الدم إلى مضغة أي لحمة شبه ممضوغة أو
بقدرها ، ثمّ تحوّلت اللحمة إلى العظام.
الأمر الذي يتنافى
مع العلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خلقها ، كما هو صريح القرآن أيضا (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً)! وهذا يبدو متناقضا!!
__________________
غير أنّ هذه
الشبهة نشأت من خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.
فقد كان تعبير
القرآن أنّ النطفة ـ وهي خليّة الذكر تمتزج ببويضة المرأة ـ تتحوّل إلى علقة : كرة
جرثوميّة لها خلايا آكلة وقاضمة تعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم ،
تتغذّى بدم المرأة. وهذه النقطة الصغيرة العالقة تشبه دودة العلقة التي تمتصّ الدم.
ثمّ إنّ هذه
العلقة تتحوّل إلى كتلة غضروفية تشبه ممضوغة العلك في الفم ، وتكون منشأ لتكوين
العظام ثمّ تكوين العضلات بعد بضعة أيّام ، لتكسو العظام أي تغطّيها وتلتحم معها.
ومعنى ذلك :
أنّ العظام تسبق العضلات ، ثمّ تكسو العضلات العظام ، وصدق الله العظيم حيث يقول :
(فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً).
قال سيّد قطب :
وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف
على وجه الدقّة إلّا أخيرا بعد تقدّم علم الأجنّة التشريحي. ذلك أنّ خلايا العظام
غير خلايا اللحم (العضلات). وقد ثبت أنّ خلايا العظام هي الّتي تتكوّن أوّلا في
الجنين ، ولا تشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلّا بعد ظهور خلايا العظام وتمام
الهيكل العظمي للجنين ، وهي الحقيقة التي يسجّلها النصّ القرآني.
وقد أشبعنا
الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.
(وَجَعَلْناها
رُجُوماً لِلشَّياطِينِ)
يبدو من ظاهر
تعبير آيات قرآنية أنّ النجوم جعلت شهبا يرمى بها الشياطين. قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ)
وقال : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى
__________________
الْمَلَإِ
الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا
مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).
وقال سبحانه : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها
مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).
وقال عزّ من
قائل : (وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ).
غير خفيّ أنّ
الشهب والنيازك إنّما تحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض وقاية لها ،
وقدّر سمكه بأكثر من ثلاثمائة كيلومتر. وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة
في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء ، فإذا ما اقتربت من الأرض
انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين ٥٠ و ٦٠ كيلومترا في الثانية ، تخترق الهواء
المحيط بالأرض ، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهة ولتأثير الغازات الهوائية من
جهة اخرى تحترق وتلتهب شعلة نار لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مكوّنا منها
الغبار الكوني. وهي في حال انقضاضها ـ وهي تشتعل نارا ـ ترى بصورة نجمة وهّاجة ذات
ذنب مستطيل تدعى الشهب والنيازك.
فليست الشهب
سوى أحجار ملتهبة في الهواء المحيط بالأرض ، قريبة منها! فما وجه فرضها نجوما في
السماء يرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!
لكن يجب أن
نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنية ـ وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء
المادّة ـ ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي ، حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق
مستواها المادّي المحدود ، والألفاظ أيضا تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة
البعيدة عن متناول الحسّ.
وبتعبير
اصطلاحي : إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة ، فلا تنال
المجرّدات الرقيقة.
__________________
وعليه ، فكلّ
تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بلا ريب.
فلا تحسب من
الملأ الأعلى عالما يشبه عالمنا الأسفل ، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء
، لأنّه تصوّر مادّي عن أمر هو يفوق المادّة ومتجرّد عنها. وعليه ، فقس كلّ ما جاء
في أمثال هذه التعابير.
فلا تتصوّر من
الشياطين أجساما على مثال الأناسي والطيور ، ولا رجمها بمثل رمي النشّاب إليها ،
ولا مرودها بمثل نفور الوحش ، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى
بالسارق المتسلّق على الحيطان ، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات ، ولا
الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القلاع. ولا رصدها بالكمين لها على
غرار ميادين القتال ... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمر غير محسوس
إلى الحسّ لغرض التفهيم ، فهو تقريب ذهني ، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشقّة
واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البعد.
قال العلّامة
الطباطبائي : إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة ، ليتصوّر
بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان. وهو
القائل عزوجل : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلّا من عرف أنها أمثال ظاهرية ضربت
للتقريب محضا].
قال : وأمثال
هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.
قال : وعلى هذا
، فيكون المراد من السماء التي ملأتها الملائكة : عالما ملكوتيّا هو أعلى مرتبة من
العالم المشهود ، على مثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض. والمراد من اقتراب
الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشهب : اقترابهم من عالم الملائكة لغرض
الاطّلاع على أسرار الملكوت ، وثمّ طردهم بما لا يطيقون تحمّله من قذائف النور.
__________________
أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر ، وثمّ دحرهم ليعودوا خائبين.
(بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ).
والآيات من
سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى ، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام ،
وقد أيس الشيطان من أن يعبد وعلا نفيره.
قال الإمام
أمير المؤمنين عليهالسلام : ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلىاللهعليهوآله فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الرنّة؟ فقال : هذا
الشيطان قد أيس من عبادته.
يقول تعالى في
سورة الجنّ : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً) ـ إلى قوله : ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً رَصَداً). فهي حكاية عن حال حاضرة وجدتها الجنّ حينما بعث نبيّ
الإسلام.
وبهذا يشير
قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). وقوله : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).
نعم ، كانت تلك
بغية إبليس أن يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) (ظهور شريعته) (أَلْقَى الشَّيْطانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). أي حاول إبليس الحئول دون بلوغ أمنيّة الأنبياء ، فكان
يندحر ويغلب الحقّ الباطل وتفشل دسائسه في نهاية المطاف.
أمّا عند ظهور
الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخسر هنالك المبطلون.
قال الإمام
الصادق عليهالسلام : «فلمّا ولد رسول الله صلىاللهعليهوآله حجب (إبليس) عن السبع السماوات ورميت الشياطين بالنجوم
...».
__________________
وفي حديث الرضا
عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق عليهمالسلام في جواب مساءلة اليهود : «أنّ الجنّ كانوا يسترقون
السمع قبل مبعث النبيّ صلىاللهعليهوآله فمنعت من أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبطلان [عمل]
الكهنة والسحرة».
وهكذا حاول
الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل ،
قال ـ ما ملخّصه ـ : إنّ العلوم التي عرفها الناس تراد لأمرين : إمّا لمعرفة
الحقائق لإكمال العقول ، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم. وإلى الأول
أشار بقوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً). وإلى الثاني قوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ
فِيها مَعايِشَ). وكلّ من خالف هاتين الطريقتين فهو على أحد حالين : إمّا
أن يريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة ، وإمّا أن يريد الصيت والشهرة
وكسب الجاه. وكلاهما لا نفع في علمه ولا فضل له. فمن طلب العلم أو أكثر في الذكر
ليكون عالة على الامّة فهو داخل في نوع الشيطان الرجيم ، مرجوم مبعد عن إدراك
الحقائق ومعذّب بالذّل والهوان ، وهذا مثال قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) (فلا يعرفون حقائق الأشياء) (وَيُقْذَفُونَ مِنْ
كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) بما ركّب فيهم من الشهوات وما ابتلوا من العاهات (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي في أمل متواصل ملازم لهم مدى الحياة. فلو حاول أن
يخطف خطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).
نعم (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ). ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانية
المفاضة من ملكوت أعلى. الأمر الذي أنعم به الرّبانيّون في هذه الحياة : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ). فملائكة الرحمة تهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون
مستقرّون سائرون في طريقهم صعدا إلى قمّة الكمال.
__________________
وكذلك قوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ). أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). فما هذا الصعود وهذا الرفع إلّا ترفيعا في مدارج الكمال.
وهكذا جاء
التعبير بفتح أبواب السماء كناية عن هطول المطر (فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ). وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير. والجميع مجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات.
فلو كان عيبا لعابه العرب أصحاب اللغة العرباء في الجزيرة ، لا أرباب اللغة
العجماء من وراء البحار. وأمّا النجوم التي يرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ
والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في افق السماء ، يقومون في وجه أهل
الزيغ والباطل فيرجمونهم بقذائف الحجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة ، ويرمونهم
من كلّ جانب دحورا.
فسماء المعرفة
ملئت حرسا شديدا وشهبا.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل
المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين ...».
وقد اطلق النجوم
على أئمة الهدى ومصابيح الدجى من آل بيت الرسول عليهمالسلام
فقد روى عليّ
بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال : النجوم آل محمّد عليهمالسلام.
وفي حديث سلمان
الفارسي رضوان الله عليه قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : معاشر الناس ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومنطلق
إلى المغيب. اوصيكم في عترتي خيرا وإيّاكم والبدع ، فإنّ كلّ بدعة ضلالة وكلّ
ضلالة وأهلها في النار. معاشر الناس ، من افتقد الشمس فليتمسّك بالقمر ، ومن افتقد
القمر فليتمسّك بالفرقدين ، ومن افتقد الفرقدين فليتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي. أقول
قولي واستغفر الله لي ولكم.
__________________
قال سلمان :
فتبعته وقد دخل بيت عائشة وسألته عن تفسير كلامه فقال ـ ما ملخّصه ـ : أنا الشمس
وعليّ القمر. والفرقدان الحسن والحسين. وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة من ولد
الحسين واحدا بعد واحد ... كلّما غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة. كما في حديث
سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة الله عليهما قاله في شأن أهل البيت عليهمالسلام.
وفي حديث أبي
ذر رضوان الله عليه التعبير عنهم بالنجوم الهادية وأمثال ذلك كثير.
سبع سماوات علا
قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) ـ إلى قوله : ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ). ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وأفضية
متراكبة بعضها فوق بعض ، لتكون الجميع محيطة بالأرض من كلّ الجوانب (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً). حيث الفوقية بالنسبة إلى جسم كريّ ـ هي الأرض ـ إنّما
تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.
وأيضا فإنّ
السماء الدنيا ـ وهو الفضاء الفسيح المحيط بالأرض ـ هي التي تزيّنت بزينة الكواكب (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها). والظاهر يقتضي التركيز فيها ، وإن كان من المحتمل
تجلّلها بما تشعّ عليها الكواكب من أنوار!
ويبدو أنّ هذا
الفضاء الواسع الأرجاء ـ بما فيه من أنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة ـ هي السماء
الاولى الدنيا ، ومن ورائها أفضية ستّ في أبعاد مترامية ، هي مليئة بالحياة لا
يعلم بها سوى صانعها الحكيم. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).
والعقل لا يفسح
المجال لإنكار ما لم يبلغه العلم ، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.
__________________
نعم ، يزداد
العلم يقينا ـ كلّما رصد ظاهرة كونية ـ أنّ ما بلغه ضئيل جدّا بالنسبة إلى ما لم
يبلغه ، وتزداد ضآلة كلّما تقدّم إلى الأمام. حيث عظمة فسحة الكون تزداد ابّهة
وكبرياء كلّما كشف عن سرّ من أسرار الوجود وربما إلى غير نهاية ، لا سيّما والكون
في اتّساع مطّرد : (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ).
هذا وقد حاول
بعضهم ـ في تكلّف ظاهر ـ التطبيق مع ما بلغه العلم قديما وفي الجديد من غير ضرورة
تدعو إلى ذلك. ولعلّ الأناة ، حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من
غير تكلّف ، كانت أفضل.
يقول سيد قطب :
لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يصل إليه علمنا ، لأنّ علمنا لا يحيط
بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق : هذا ما يريده القرآن. ولن يصحّ أن نقول هكذا
إلّا يوم يعلم الإنسان تركيب الكون كلّه علما يقينيّا ، وهيهات ...
وإليك بعض
محاولات القوم : حاول بعض القدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة
بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مدارات الكواكب فيما حسبه حول الأرض. ولكن من غير جدوى. لأنّ الأفلاك في مزعومته تسعة ، ومن
ثمّ أضافوا على
__________________
السماوات السبع ـ الواردة في القرآن ـ العرش والكرسي ليكتمل التسع ويحصل
التطابق بين القرآن وفرضيّة أساسها الحدس والتخمين المجرّد.
وأمّا المحدثون
فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكية الحديثة ، حيث الشمس هي نواة منظومتها
والكرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها.
زعموا أنّ
المراد بالسماوات السبع ، هي الأجرام السماوية ، الكرات الدائرة حول الشمس ، ترى
فوق الأرض في أفقها. فالسماوات ـ في تعبير القرآن على هذا الفرض ـ هي الأجرام
العالقة في جوّ السماء. (وكان جديرا أن يقال ـ بدل السماوات ـ السماويّات).
يقول الشيخ
الطنطاوي : هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فقايس بين ما ذكره علماء
الإسكندرية بالأمس ، وبين ما عرفه الإنسان الآن. إنّ عظمة الله تجلّت في هذا
الزمان .. إذن فما جاء في إنجيل برنابا مبنيّا على علم الإسكندرون أصبح لا قيمة له
بالنسبة للكشف الحديث الذي يوافق القرآن.
ويزداد تبجّحا
قائلا : إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث موافقا له. وهذه معجزة جديدة جاءت في
زماننا.
ثمّ يورد أسئلة
وجّهت إليه ، منها : التعبير بالسبع. فيجيب : أنّ العدد غير حاصر ، فسواء قلت سبعا
أو ألفا فذلك كلّه صحيح. إذ كلّ ذلك من فعل الله دالّ على جماله وكماله.
__________________
وأخيرا يقول :
إنّ ما قلناه ليس القصد منه أن يخضع القرآن للمباحث [العلمية] فإنّه ربّما يبطل
المذهب الحديث كما بطل المذهب القديم ، فالقرآن فوق الجميع. وإنّما التطبيق كان ليأنس
المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم.
وللسيّد هبة
الدين الشهرستاني ـ علّامة بغداد في عصره ـ محاولة اخرى للتطبيق ، ففرض من كلّ كرة
دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضا والجوّ المحيط بها سماء. فهناك أرضون سبع
وسماوات سبع. الاولى في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها. والأرض الثانية
هي الزهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها. والثالثة : عطارد وسماؤها المحيط
بها. الرابعة : المرّيخ وسماؤها المحيط بها. الخامسة : المشتري وسماؤها المحيط بها.
السادسة : زحل وسماؤها المحيط بها. السابعة : أورانوس وسماؤها المحيط بها.
قال : ترتيبنا
المختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلامية ويوافق الهيئة الكوبرنيكية.
وأسند ذلك إلى
حديث عن الإمام الرضا عليهالسلام سنوافيك به عند الكلام عن الأرضين السبع.
وذكر الحجّة
البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتين القديمة
والجديدة ، فيمكن أن يقال على الهيئة القديمة : إنّ السماوات السبع هي أفلاك
السيّارات السبع ، وإنّ فلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ).
وإنّ الفلك
الأطلس المدير ـ على ما زعموا ـ هو العرش في قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). ويمكن أن يقال على الهيئة الجديدة : إنّ السماوات السبع
هي أفلاك خمس من السيّارات مع فلكي «الأرض» و «فلكان» والعرش والكرسي هما فلكا «نبطون»
و «اورانوس». وأمّا الشمس في مركز الأفلاك. والقمر تابع للأرض وفلكه جزء من فلكها.
__________________
قال : والحاصل
أنّ كلّا من وضعي الهيئة القديمة والجديدة يمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة
عليه. ولكنّه يمكن أن يتعدّاه التحقيق إلى وضع ثالث ورابع ، فلا يحسن الجزم بشيء
ما لم يشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي. لكنّ الحكمة تقتضي أن لا يتولّى الوحي
بصراحته بالتفصيل.
وبعد ،
فالطريقة السليمة هي التي سلكها سيّدنا العلّامة الطباطبائي ، يقول :
إنّ المستفاد
من ظاهر الآيات الكريمة ـ وليست نصّا ـ أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب
فوقنا. وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربها منّا عالم النجوم. ولم يصف
لنا القرآن شيئا من الستّ الباقية سوى أنّها طباق. وليس المراد بها الأجرام
العلوية سواء من منظومتنا الشمسية أو غيرها.
وما ورد من كون
السماوات مأوى الملائكة يهبطون منها ويعرجون إليها ولها أبواب تفتّح لنزول البركات
كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الامور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيات. فإنّ
للملائكة عوالم ملكوتية مترتّبة سمّيت سماوات سبعا ونسب ما لها من الآثار إلى ظاهر
هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول ، وهو تسامح في التعبير
تقريبا إلى الأذهان الساذجة.
ولبعض العلماء
الباحثين في المسائل الروحية في إنجلترا ـ (هو : جيمس آرثر فندلاي من مواليد ١٨٨٣
م) ـ تصوير عن السماوات السبع يشبه تصويرنا بعض الشيء : يرى من كرة الأرض واقعة في
وسط أبهاء وأفضية تحيط بها من كلّ الجوانب ، في شكل كرات متخلّلة بعضها بعضا
ومتراكبة إلى سبعة أطباق ، كلّ طبقة ذات سطحين أعلى وأسفل ملؤ ما بينهما الحياة
النابضة. يسمّى المجموع العالم الأكبر الذي نعيش فيه ، نحن في الوسط على وجه الأرض.
وهذه الأجواء المتراكبة تحيط بنا طباقا بعضها فوق بعض إلى سبع طبقات ، وإن شئت
فعبّر بسبع سماوات ، لأنّها مبنيّة في جهة أعلى فوق رءوسنا. وإليك الصورة حسبما
رسمها في كتابه «الكون المنشور» :
__________________
شكل الأرض في الوسط تحيط بها سبع أطباق هي سماوات على :

في هذا الشكل ـ
كما رسمه «جيمس آرثر فندلاي» ـ نجد العالم الأكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق
بعض مملوءة بالحياة ، ويرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خطوط منحنية
على السطوح. وتمثّل الصلبان الصغيرة الحياة على الأرض. أمّا النقط فتمثّل الحياة
الأثيرية ويلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدها ، لأنّ الأفضية بين السطوح ملؤها
الحياة سابحة فيها!
__________________
مسائل ودلائل
هنا عدة أسئلة
تستدعي الوقوف لديها :
١ ـ (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وقال : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ).
هلّا كان
التعبير بالفلك متابعة لما حسبه بطلميوس؟
قلت : لا ،
لأنّ الفلك لفظة عربية قديمة يراد بها الشيء المستدير ، ومن الشيء مستداره. قال
ابن فارس : الفاء واللام والكاف أصل صحيح يدلّ على استدارة في شيء. من ذلك «فلكة المغزل»
لاستدارتها. ولذلك قيل : فلك ثدي المرأة ، إذا استدار. ومن هذا القياس : فلك
السماء.
إذن ، فكما أنّ
السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري ، فكلّ ما يسبح في فضائها يسير في مسلك
مستديرة. وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.
والدليل على
أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضا. أي أنّ لكلّ ظاهرة من
الظواهر الكونية مجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تجور ولا تحور.
٢ ـ (فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ)
قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ).
أو هل كانت
الطرائق هنا هي مدارات الأفلاك البطلميوسية؟
قلت : كلّا ،
إنّها الطرائق بمعنى مجاري الامور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات
العلى.
__________________
الطرائق : جمع
الطريقة بمعنى المذهب والمسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على
الأقدام. ولم تستعمل في القرآن إلّا بهذا المعنى :
يقول تعالى ـ حكاية
عن لسان الجنّ ـ : (وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً). أي مذاهب شتّى.
(وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى). أي بمذهبكم القويم الأفضل.
(إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً). وذاك يوم الحشر يتخافت المجرمون : كم لبثوا؟ فيقول
بعضهم : عشرا. ويقول أعقلهم وأفضلهم بصيرة : (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا يَوْماً).
(وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً). أي الطريقة المثلى والمذهب الحقّ.
فالمقصود
بالطرائق ـ في الآية الكريمة ـ هي طرائق التدبير والتقدير ، المتّخذة في السماوات
حيث مستقرّ الملائك المدبّرات أمرا والمقسّمات.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ).
(وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ). أي تقدير أرزاقكم وكلما قدّر لكم من مجاري الامور. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ).
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
فالتدبير في
السماء ثمّ التنزيل إلى الأرض (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).
(تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ). ومن ثمّ تعقّب الآية بقوله تعالى : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ). قال العلّامة الطباطبائي : أي لستم بمنقطعين عنّا ولا
بمعزل عن مراقبتنا وتدبيرنا لشئونكم ، فهذه الطرائق السبع إنّما جعلت ليستطرقها
رسل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل.
__________________
٣ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)
ما ذا يعنى
بذات الحبك؟
الحبك : جمع
الحبيكة بمعنى الطريقة المتّخذة. قال الراغب : فمنهم من تصوّر منها الطرائق
المحسوسة بالنجوم والمجرّات ، ومنهم من اعتبر ذلك بما فيه من الطرائق المعقولة
المدركة بالبصيرة.
والحبك :
المنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثر هبوب الرياح الخفيفة. وهي تكسّرات
على وجه الماء كتجعّدات الشعر. ويقال للشعر المجعّد : حبك والواحد حباك وحبيكة. قاله
الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.
من ذلك قول
زهير يصف روضة :
مكلّل باصول
النجم تنسجه
|
|
ريح خريق
لضاحي مائه حبك
|
مراده بالنجم
النبات الناعم. وشبّه تربية الرياح له بالنسج ، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر)
نسجته الريح. ووصف الريح بالخريق ، وهو العاصف.
ثم وصف ضاحي
مائه ـ وهو الصافي الزلال ـ بأنّ على وجهه قسمات وتعاريج على أثر مهبّ الرياح عليه
، وهو منظر بهيج.
فعلى احتمال
إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية ، فهي إشارة إلى تلكم التمرّجات النورية التي
تجلّل كبد السماء زينة لها وبهجة للناظرين ، فسبحان الصانع العظيم!
٤ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ
طِباقاً)
في هذه الآية
توجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الامم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من
أطباق السماء شيئا ، فكيف يعرض عليهم دليلا على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة
نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).
__________________
وهكذا قوله
تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ).
وقوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ).
قلت : هذا بناء
على تفسير الطباق بذات الطبقات.
هكذا فسّره
المشهور : طباقا ، واحدة فوق اخرى كالقباب بعضها فوق بعض.
لكنّ الطباق هو
بمعنى الوفاق والتماثل في الصنع والإتقان ، بدليل تفسيره بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ). أي كلّها في الصنع والاستحكام متشاكل.
وقد أشرب هنا
معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مرادا به الانسجام في الخلق. بدليل
قوله تعالى : (هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ) أي انشقاق وخلل وعدم انسجام. وكذا قوله : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي منفرجات وخلّات توجب فصل بعضها عن بعض بحيث تضادّ
النظم القائم. الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان ـ مهما كان مبلغه من العلم ـ من الوقوف
عليه إذا تأمّل في النظم الساطي على السماوات والأرض.
٥ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ)
(وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ).
(تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً). أو هل تعني البروج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج
الاثني عشر في أشكال رسموها لرصد النجوم؟
قلت : المعنيّ
بالبروج هذه هي نفس النجوم ، تشبيها لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة
، بدليل عطف السراج ـ وهي الشمس الوهّاجة ـ والقمر المنير عليها.
__________________
ولا صلة لها بالأشكال الفلكية الاثني عشر.
البرج ـ في
اللغة ـ بمعنى الحصن والقصر وكلّ بناء رفيع على شكل مستدير. فالنجوم باعتبار
إنارتها تبدو مستديرة ، وباعتبار تلألؤها تبدو كعبابات تعوم على وجه السماء زينة
لها ، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء (وَحَفِظْناها مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) هي حصون منيعة. فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب
لا غيرها.
هذا ، وقد خلط
على لفيف من المفسّرين فحسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين.
وسيّدنا
العلّامة الطباطبائي وإن كان في تفسيره لسورتي الحجر والفرقان قد ذهب مذهب المشهور
، لكنّه قدسسره عدل عنه عند تفسيره لسورة البروج. قال : البروج ، جمع
برج وهو الأمر الظاهر ويغلب استعماله في القصر العالي والبناء المرتفع على سور
البلد ، وهو المراد في الآية. فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء. قال :
وبذلك يظهر أنّ تفسير البروج [في الآيات الثلاث] بالبروج الاثني عشر المصطلح عليها
في علم النجوم غير سديد.
وقال الشيخ
محمّد عبده : وفسّرت البروج بالنجوم وبالبروج الفلكيّة وبالقصور على التشبيه ، ولا
ريب في أنّ النجوم أبنية فخيمة عظيمة ، فيصحّ إطلاق البروج عليها تشبيها لها بما
يبنى من الحصون والقصور في الأرض.
٦ ـ (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ
بَرَدٍ)
قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي
سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً. فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ.
فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ
__________________
يَكادُ
سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ).
«يزجي» : يسوق.
«يؤلّف بينه» : يؤلّف بين متفرّقه. «يجعله ركاما» : متكاثفا. «فترى الودق» : قطرات
المطر الآخذة في الهطول.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)؟
السؤال هنا :
ما ذا يعني بالجبال هذه؟ وما ذا يكون المقصود من البرد وهو الماء المتجمّد على أثر
ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبال من برد؟
وقد مرّ عليها
أكثر المفسّرين القدامى مرور الكرام ، وبعضهم أخذها على ظاهرها وقال : إنّ في
السّماء جبالا من برد (من ثلج) ينزل منها المطر ، كما تنحدر المياه من جبال الأرض
على أثر تراكم الثلوج عليها. عن الحسن والجبّائى وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين : أنّ المراد
بالسّماء هى المظلّة وبالجبال حقيقتها. قالوا : إنّ الله خلق في السّماء جبالا من
برد كما خلق في الأرض جبالا من صخر. قال الآلوسي : وليس في العقل ما ينفيه من قاطع.
فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل.
قال السيّد
المرتضى : وجدت جميع المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد :
أنّ في السّماء جبالا من برد. وفيهم من قال : من قدره قدر جبال. يعني مقدار جبال
من كثرته.
قال : وأبو
مسلم بن بحر الأصبهانيّ خاصّة انفرد في هذا الموضع بتأويل طريف ، وهو أن قال :
الجبال ، ما جبل الله من برد ، وكلّ جسم شديد مستحجر فهو من الجبال ، ألم تر إلى
قوله تعالى في خلق الأمم : (وَاتَّقُوا الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ). والناس يقولون : فلان مجبول على كذا.
وأورد عليه
السيّد بأنّه يلزمه أنّ جعل الجبال اسما للبرد نفسه ، من حيث كان مجبولا مستحجرا!
وهذا غلط ، لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجبل
__________________
والجمع ، فقد صارت اسما لذي هيئة مخصوصة. ولهذا لا يسمّي أحد من أهل اللغة
كلّ جسم ضمّ بعضه إلى بعض ـ مع استحجار أو غير استحجار ـ بأنّه جبل ، ولا يخصّون
بهذا اللفظ إلّا أجساما مخصوصة ... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّا في الأصل
من الدبيب فقد صار اسما لبعض ما دبّ ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.
قال : والأولى
أن يريد بلفظة السماء ـ هنا ـ ما علا من الغيم وارتفع فصار سماء لنا ، لأنّ سماء
البيت وسماواته ما ارتفع منه. وأراد بالجبال التشبيه ، لأنّ السحاب المتراكب
المتراكم تشبّهه العرب بالجبال والجمال ، وهذا شائع في كلامها ، كأنّه تعالى قال :
وينزّل من السحاب الذي يشبه الجبال في تراكمه بردا.
قال : وعلى هذا
التفسير تكون «من» الاولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة لا حكم لها ،
ويكون تقدير الكلام : وينزّل من جبال في السماء بردا. فزادت «من» كما تزاد في
قولهم : ما في الدار من أحد. وكم أعطيته من درهم ، وما لك عندي من حقّ ، وما أشبه
ذلك.
وأضاف : إنّه
قد ظهر مفعول صحيح ل «ننزّل» ، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات.
قلت : وهو
تأويل وجيه لو لا جانب زيادة «من» في الإيجاب.
قال ابن هشام :
شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول
العرب : قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة :
وينمي لها
حبّها عندنا
|
|
فما قال من
كاشح لم يضرّ
|
أي فما قاله
كاشح ـ وهو الذي يضمر العداوة ـ لم يضرّ.
قال : وقال
الفارسي في قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) : يجوز كون «من» الثانية والثالثة زائدتين. فجوّز
الزيادة في الإيجاب.
__________________
وقال الزمخشري
: «من» الاولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للبيان. أو الاوليان
للابتداء والآخرة للتبعيض. فالمعنى على الأوّل : وننزّل من السماء شيئا من الجبال
الكائنة من البرد. وعلى الثاني : وننزّل من السماء من جبال فيها شيئا من البرد. فقدّر
المفعول به ولم يجعل «من» زائدة.
والذي ذكره
الزمخشري أصحّ ، لأنّ التقدير شائع في كلام العرب ولا سيّما مع معلوميته كما هنا. قال
ابن مالك : وحذف ما يعلم جائز. أمّا زيادة «من» في الإيجاب ، فعلى فرض ثبوته فهو أمر
شاذّ ، ولا يجوز حمل القرآن عليه.
ومعنى الآية
على ذلك : أنّه تعالى ينزّل من السّماء ماء من جبال فيها ـ هي السحب الركامية ،
وهي النوع الأهمّ من السحب ، لأنّها قد تمتدّ عموديّا عبر ١٥ أو ٢٠ كيلومترا ،
فتصل إلى طبقات من الجوّ باردة جدّا تنخفض فيها درجة الحرارة إلى ٦٠ أو ٧٠ درجة
مئوية تحت الصفر. وبذلك يتكوّن البرد (خيوط ثلجيّة) في أعالي تلك السحب ـ.
وقوله : «من
برد» بيان لتكوّن تلك السحب الجبالية (الركامية) ولو باعتبار قممها المتكوّن فيها
الخيوط الثلجية (البرد).
والمعروف
علميّا أنّ نموّ البرد في أعالي السحب الركامية يعطي انفصال شحنات أو طاقات
كهربائية سالبة ، وأنّه عند ما يتساقط داخل السحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات
مرتفعة الحرارة فوق الصفر يذوب ذلك البرد أو يتميّع ويعطي انفصال شحنات كهربائية
موجبة. وعند ما لا يقوى الهواء على عزل الشحنة السالبة العليا عن الشحنة الموجبة
في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة برق. وينجم عن التسخين الشديد المفاجئ
الذي يحدثه البرق أن يتمدّد الهواء فجأة ويتمزّق محدثا الرعد. وما جلجلة الرعد
إلّا عملية طبيعية بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث من قواعد السحب لصوت الرعد
الأصلي.
__________________
وبذلك يبدو وجه
مناسبة التعقيب بقوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) وكذا عند الحديث عن السحاب الثقال. فإنّ البرق وليد هكذا سحب ركاميّة ثقيلة (جبلية).
قال سيّد قطب :
إنّ يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان. ثمّ تؤلّف بينه وتجمعه ، فإذا
هو ركام بعضه فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء والوبل الهاطل ، وهو في هيئة الجبال
الضخمة الكثيفة ، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة ... ومشهد السحب كالجبال لا يبدو
كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها ، فإذا المشهد مشهد
الجبال حقّا بضخامتها ومساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها. وإنّه لتعبير مصوّر
للحقيقة التي لم يرها الناس إلّا بعد ما ركبوا الطائرات. بل ويمكن مشاهدتها في الصحاري الواسعة عن بعد.
٧ ـ (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ)
قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ).
ما تعني
المثلية؟ هل هي في الصنع والإتقان؟ أم في العدد؟ وما هنّ على هذا الفرض؟
ولم تذكر الأرض
في القرآن إلّا مفردة سوى في هذا الموضع ، حيث شبهة إرادة التعدّد إلى سبع أرضين ،
كما جاء في الحديث ودار على الألسن!
وفسّر التعدّد
من وجوه :
١ ـ سبع قطاع
من الأرض على وجهها من أقاليم أو قارّات.
٢ ـ سبع طباق
من الأرض في قشرتها المتركّبة من طبقات.
__________________
٣ ـ الكواكب
السبع السيّارة ، كلّ كوكبة ـ ومنها أرضنا ـ أرض ، والغلاف الهوائي المحيط بها
سماء.
٤ ـ فوق كلّ
سماء بعد أرضنا أرض وفوقها سماء. فهناك سبع أرضين بعضها فوق بعض لسبع سماوات.
تقاسيم الأرض
قسّم الأقدمون
البلاد الآهلة من الربع المعمور في القطاع الشمالي إلى سبع مناطق جغرافية طولا. وجاء
المتأخّرون ليقسّموها تارة على حسب المناخ الطبيعي إلى سبعة أقاليم : واحدة
استوائية ، واثنتان حارّتان حتّى درجة ٥ / ٢٣ عرضا في جانبي خطّ الاستواء شمالا
وجنوبا ، واثنتان اعتداليتان ما بعد خطّ الميل الأعظم فإلى مداري الخطّ القطبي ،
والأخيرتان منطقتا القطبين الشمالي والجنوبي.
واخرى إلى
قارات مألوفة ، خمسة منها ظاهرة : آسيا ، اروبا ، إفريقيا ، استراليا ، أمريكا. واثنتان
هما قطبا الشمال والجنوب في غطاء من الثلوج.
محتملات ثلاثة
قال الحجّة
البلاغي : يحتمل في قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) وجوه ثلاثة :
الأوّل : أن
يراد مثلهنّ في الطبقات ، باعتبار اختلاف طبقات الأرض في البدائع والآثار.
الثاني : أن
يراد مثلهنّ في عدد القطع والمواضع المعتدّ بها كآسيا واوربا وإفريقيا وأمريكا
الشمالية وأمريكا الجنوبية واستراليا ، وأرض لم تكشف بعد أو لاشتها الحوادث
البحرية وفتّتتها بالكلّية أو بقي منها بصورة جزر متفرّقة صغيرة. أو هي تحت القطب
الجنوبي على ما يظنّ البعض.
__________________
الثالث : أن يراد
بالمماثل للسماوات هو غير أرضنا بل ما هو من نوعها ، فيراد منه ذات السيّارات على
الهيئة الجديدة ، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يظهر للاكتشاف.
أرضون لا تحصى
قال الشيخ
الطنطاوي في تفسير الآية : أي وخلق مثلهنّ في العدد من الأرض. وهذا العدد ليس
يقتضي الحصر ، فإذا قلت : عندي جوادان تركب عليهما أنت وأخوك ، فليس يمنع أن يكون
عندك ألف جواد وجواد. هكذا هنا ، فقد قال علماء الفلك : إنّ أقلّ عدد ممكن من
الأرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نسمّيها نجوما لا يقلّ عن ثلاثمائة مليون
أرض ... هذا فيما يعرفه الناس. وهذا القول من هؤلاء ظنّيّ ، فلم يدّع أحد أنّه رأى
وقطع بشيء من ذلك ، اللهمّ إلّا علماء الأرواح ، فإنّهم لمّا سألوها قالت : عندنا
كواكب آهلة بالسكّان لا يحصى عددها ، وفيها سكّان أنتم بالنسبة إليهم كالنمل
بالنسبة للإنسان. وأيّد ذلك بما نقل عن «غاليلو» عند ما احضرت روحه بعد الممات.
وهكذا ذكر
الشيخ المراغي وعقّبه بما روي عن ابن مسعود : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : ما السماوات السبع وما فيهنّ وما بينهنّ والأرضون
السبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة.
وروى ابن كثير
أحاديث تنمّ عن أرضين سبع آهلة بالسكّان ، وقد بعث إليهم أنبياء كإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمّد عليهمالسلام. زعموا صحّة أسانيدها.
وهكذا رووا
روايات هي أشبه بروايات إسرائيلية ، وفيها الغثّ والسمين.
وفي حديث زينب
العطّارة عن رسول صلىاللهعليهوآله : إنّ هذه الأرضين واقعة تحت الأرض التي نعيش عليها
واحدة ، تحت اخرى كلّ واحدة بالنسبة إلى الاخرى التي تحتها كحلقة ملقاة في فلاة
قفر ، حتّى تنتهي إلى السابعة ، والجميع على ظهر ديك ، له جناحان إلى
__________________
المشرق والمغرب ورجلاه في التخوم! والديك على صخرة ، والصخرة على ظهر حوت ،
والحوت على بحر مظلم ، والبحر على الهواء ، والهواء على الثرى ...
وفي حديث
الحسين بن خالد عن الرضا عليهالسلام : هذه أرض الدنيا ، والسماء الدنيا فوقها قبّة ، والأرض
الثانية فوق السماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها قبّة ، والأرض الثالثة فوق
السماء الثانية ، والسماء الثالثة فوقها قبّة ... حتّى الأرض السابعة فوق السماء
السادسة ، والسماء السابعة فوقها قبّة ، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة ... فالّتي
تحتنا هي أرض واحدة هي الدنيا ، وأنّ الستّ لهنّ فوقنا.
ورووا عن
الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : أنّ لهذه النجوم التي في السماء مدنا مثل المدائن
التي في الأرض ، مربوطة كلّ واحدة بالاخرى بعمود من نور طوله مسيرة مائتين وخمسين
سنة. كما أنّ ما بين سماء واخرى مسيرة خمسمائة عام. وأنّ هناك بين النجوم وبين
السماء الدنيا بحارا تضرب الريح أمواجها ، ولذلك تستبين النجوم صغارا وكبارا ، في
حين أن جميعها في حجم واحد سواء.
وغالب الظنّ
أنّها ـ أو جلّها ـ أساطير إسرائيلية تسرّبت إلى التفسير والحديث مضافا إليها وضع
الأسناد!
المختار في تفسير «مثلهنّ»
ليس في القرآن
تصريح بالأرضين السبع ، ولا إشارة سوى ما هنا من احتمال إرادة العدد في المثلية! لكن
تكرّر ذكر الأرض في القرآن مفردة إلى جنب السماوات جمعا ممّا يوهن جانب هذا
الاحتمال.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...).
(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ...).
__________________
(لِلَّهِ الَّذِي
يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...).
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...).
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ...).
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...).
(لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...).
(وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ).
(سُبْحانَ رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ ...).
(تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ...).
(قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى
فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ...).
إلى ما يقرب من
مائتي موضع في القرآن ، جاء اقتران الأرض واحدة بالسماوات سبعا ...!
فيا ترى كيف
يصحّ اقتران الفرد بالجمع ـ في هذا الحجم من التكرار ـ لو كانت الأرض مثل السماء
في العدد السبع؟! ولا سيّما في آيات التكوين ، ما المبرّر لذكر الأرض واحدة لو كانت
سبعا؟!
على أنّ اللام
في (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) للعهد ، أي الأرض المعهودة لدى المخاطبين وهم العرب يوم
ذاك ، ولا يعرفون سوى هذه الأرض التي نعيش عليها!
__________________
فلا بدّ أنّ
هذه الأرض خلقت مثل السماوات السبع ، مثلا في الإبداع والتكوين.
هذا ، بالإضافة
إلى أنّ التعبير ب (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) ـ لو اريد العدد ـ ليستدعي أن يكون من هذه الأرض (نفس
كرة الأرض التي نعيش عليها) جعلت سبعا ، الأمر الذي يعني سبع قطاع منها وهي
المناطق الكبرى المعمورة منها. وهذا هو المراد بالأرضين السبع الواردة في الأدعية
المأثورة وفي الأحاديث ، ودارت على ألسن العارفين.
وإطلاق الأرض
على المعمورة منها شائع في اللغة ، وجاء في القرآن أيضا حيث قوله تعالى ـ بشأن
المفسدين ـ : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الْأَرْضِ) أي من البلاد العامرة حسبما فسّره الفقهاء.
وكذا إطلاقها
على مطلق البقاع ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ
الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها). والمراد البقعة الميتة منها.
وبعد ، فإنّ
قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ظاهر كلّ الظهور في إرادة سماوات سبع ، وجاءت بلفظ
تنكير. وأرض واحدة جاءت بلفظ تعريف. وأنّ المثلية تعني جانب الإبداع والتكوين ،
وعلى فرض إرادة العدد فهي البقاع والمناطق المعمورة منها ومن ثمّ جاء بلفظ «ومن
الأرض ...» أي وجعل من هذه الأرض أيضا سبعا حسب المناطق. وإلّا فلو كان أراد سبع
كرات من مثل كرة الأرض ، لكان الأولى أن يعبّر بسبع سماوات وسبع أرضين ، وكان أخصر
وأوفى بالمعنى.
٨ ـ (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)
يقول تعالى عن
ذي القرنين : (حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ).
الحمأ : الطين
النتن الذي تغيّر لونه إلى السواد ، يرسب تحت المياه الراكدة وعلى
__________________
ضفافها ... وحمإ مسنون : منتن. وقرئ : «عين حامية» أي دافئة (حارّة).
قال المفسّرون
: أراد ذو القرنين أن يبلغ بلاد المغرب. فاتّبع طريقا توصله إليها ، حتّى إذا
انتهى من جهة المغرب بحيث لم يستطع تجاوزه ووقف على حافّة البحر الأطلنطي (المحيط
الأطلسي) وجد الشمس تغرب في بحر خضمّ يضرب ماؤه إلى سواد الخضرة ، وكان معروفا عند
العرب ببحر الظلمات ، فقد سار إلى بلاد تونس ثم مراكش ووصل إلى البحر المحيط ،
فوجد الشمس كأنّها تغيب فيه وهو أزرق اللون يضرب إلى السواد ، كأنّه حمئة.
والمراد بالعين
: لجّة الماء ، حيث البحر الواسع الأرجاء لا ترى له نهاية.
قال سيّد قطب :
والأرجح أنّه كان عند مصبّ أحد الأنهار ، حيث تكثر الأعشاب ويتجمّع حولها طين لزج هو الحمأ. وتوجد
البرك وكأنّها عيون الماء ... فرأى الشمس تغرب هناك (وَجَدَها تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ).
قلت : وسوف
يأتي عند الكلام عن ذي القرنين ـ وأنّه كورش الهخامنشي على الأرجح ـ أنّه في
فتوحاته غربا في آسيا الصغرى توقّف على المنطقة التي تسمّى باسم : إقليم أيونيّة ،
وهو الإقليم الغربي من قارّة آسيا الصغرى المطلّ على مضيق الدردنيل وبحر إيجة وما
يلاصق الساحل من جزر وأشباه جزر. حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجة ـ وهي جزء من
سواحل تركيا على البحر المتوسّط ـ وجد الشاطئ كثير التعاريج. حيث تتداخل ألسنة
البحر داخل اليابس ، ومن أمثلة هذه الألسنة البحريّة خليج هرمس ومندريس الأكبر
ومندريس الأصغر ... ويتعمّق خليج «أزمير» إلى الداخل بمقدار ١٢٠ كم ، تحيط به
الجبال البللورية من الغرب إلى الشرق على حافّتيه ، بحيث يتّخذ شكل العين ، ويصبّ
فيه نهر «غديس» المياه العكرة المحمّلة بالطين البركاني والتراب الأحمر من فوق
هضبة الأناضول ... وحين توقّف كورش عند «سارد» قرب أزمير تأمّل قرص
__________________
الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يشبه العين تماما ... واختلطت
حمرة الغسق بالطين الأحمر والأسود الذي يلفظه نهر غديس في خليج أزمير ... ولعلّها
هي العين الحمئة (الضاربة بالسواد) التي ذكرها القرآن.
أخطاء تاريخيّة!
زعموا أنّ في
القرآن أخطاء تاريخية تجعله بمعزل عن الوحي الذي لا يحتمل الخطأ! فحاولوا جهدهم أن
يعثروا على بيّنة من ذلك ، ولكنّهم تعثّروا وفشلوا وخاب ظنّهم.
إذ ما حسبوه
شاهدا لا يعدو أوهاما تنبؤك عن مبلغ جهلهم بمفاهيم القرآن ومصطلحاته الخاصّة!
مشكلة هامان
فمن ذلك ما
زعموه بشأن «هامان» الذي جاء ردفا لاسم فرعون في مواضع من القرآن باعتباره وزيرا
له أو من كبار المسئولين في بلاطه ، وقد أمره فرعون ببناء صرح ـ حسبوه برج بابل ـ ليطّلع
إلى إله موسى!
وقد أثارت مسألة
«هامان» جدلا كبيرا منذ قرون على يد أبناء إسرائيل ، وأخيرا على يد كبار
المستشرقين أمثال «نولدكه» ازدراء بشأن القرآن العظيم.
جاء اسم «هامان»
في القرآن في ستّ مواضع :
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا
يَحْذَرُونَ).
(فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ).
(وَقالَ فِرْعَوْنُ
... فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي
أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى).
__________________
(وَقارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الْأَرْضِ).
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا
ساحِرٌ كَذَّابٌ).
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ
فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى).
يبدو من هذه الآيات
أنّ «هامان» هو على الغالب وزير فرعون ، ولهذا أكّد المفسّرون أنّ هامان هذا كان
وزير فرعون مصر الّذي حكم في عهد موسى عليهالسلام والمشكلة الّتي انصبّت حوله ما إذا كان هامان قد بنى
فعلا برج بابل عبر مسافات شاسعة في أرض العراق ممّا يلي الجانب الشرقي للفرات ،
وقد بقيت آثاره لحدّ الآن على بعد أميال من مدينة الحلّة الفيحاء.
والبعض يقول
إنّه بناه فعلا وسخّر لذلك خمسين ألف عامل عكفوا على بنائه. وعند ما شيّده صعد
فرعون إلى أعلاه ورمى بنشّابة ناحية السماء ، فأراد الله أن يفتنهم فردّه إليهم
ملطّخا بالدم ، وعندها قال فرعون : لقد قتلت إله موسى! والقصّة طويلة سطّرها أصحاب
الأساطير فيما لفّقوه عن قصص الأنبياء.
غير أنّ
المؤكّد أنّ برجا لا يرتفع من الأرض سوى عدة عشرات الأمتار ، لا يمكن أن يبلغ به
فرعون أسباب السماوات حتّى ولو صعد على أعالي الجبال الشامخات التي يعدّ برج بابل
تجاهها تلا صغيرا. ولهذا قال الفخر الرازي : لعلّ فرعون قد أوهم ببناء البرج لكنّه
لم يفعل ، أو أنّه قال ذلك ساخرا وليبيّن أنّه لا يمكن إثبات إله في السماء إلّا
بالصعود إليه.
وهكذا قال
المراغي : وقال فرعون يا هامان ابن لي قصرا منيفا عالي الذّرا ، علّني
__________________
أبلغ أبواب السماء وطرقها ، حتّى إذا وصلت إليها رأيت إله موسى! لا يريد
بذلك سوى الاستهزاء والتهكّم وتكذيب دعوى الرسالة.
قال سيّد قطب :
هكذا يموّه فرعون الطاغية ويحاور ويداور ، كي لا يواجه الحقّ جهرة ولا يعترف بدعوة
الوحدانية التي تهزّ عرشه وتهدّد الأساطير التي قام عليها ملكه. وبعيد عن الاحتمال
أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه ، وبعيد أن يكون جادّا في البحث عن إله موسى على
هذا النحو المادّي الساذج. إنّما هو الاستهتار والسخرية ... وكلّ ذلك يدلّ على
إصراره على ضلاله وتبجّحه في جحوده (وَكَذلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) (ولكن) (وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) صائر إلى الخيبة والدمار.
وعلى أيّة حال
، فليس في القرآن ما يشي بأنّه بنى الصرح وصعده ورمى بسهمه حسبما سطّره أصحاب
الأساطير. كلّ ذلك لم يذكره القرآن ولا جاء في التوراة ، ولم يعرف المصدر الذي اعتمده هؤلاء القصّاصون ومهنتهم
الاختلاق.
* * *
وأمّا مسألة
هامان فهل كان لفرعون وزير بهذا الاسم؟
قال الإمام
الرازي : قالت اليهود : أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أنّ هامان لم
يكن على عهد فرعون وموسى وإنّما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر ، فالقول بأنّ
هامان كان وزيرا لفرعون ، خطأ في التاريخ. على أنّه لو كان لم يكن رجلا خامل الذكر
لم يسجّله التاريخ ولا جاء ذكره في تاريخ حياة بني إسرائيل.
نعم ، جاء في
العهد القديم سفر «أستير» الإصحاح الثالث : أنّ هامان بن همداثا كان وزيرا للملك
الفارسي «خشايارشا» الذي تصدّى الملك بعد أبيه «داريوش الكبير» سنة (٤٨٦ ق م) أي بعد فرعون موسى بعدّة قرون. وكان مقرّبا لديه ، ثمّ
غضب عليه وصلبه
__________________
وجعل مكانه رجلا من اليهود اسمه «مردخاي» وكان عمّ الملكة أستير زوجة الملك.
وهكذا زعم
المستشرق الألماني «تئودور نولدكه» (ekedloNerodoehT) في مقال نشره أولا حوالي عام
١٨٨٧ م في دائرة المعارف البريطانية (الطبعة ٩). وأعاد نشره في كتابه تاريخ القرآن عام ١٨٩٢ م.
غير أن المصادر
التاريخية ـ الإيرانية وغيرها ـ خلو عن ذكر رجل بهذا الاسم استوزره الملك «خشايارشا»
ثمّ عزله وصلبه وأقام مكانه رجلا باسم «مردخاي» ـ كما تقوله التوراة الإسرائيلية
ـ! وغالب الظنّ أنّه من أساطيرهم البائدة ولا واقع لها أساسا.
على أنّ «هامان»
الذي جاء ذكره في القرآن ـ مردفا باسم فرعون وقارون ـ اسم معرّب قطعا ، كما هي
العادة عند العرب عند التلهّج بألفاظ أجنبية حتّى العبريّات حسب المعهود. فإبراهيم
، معرّب إبراهام ، أصله أب رام أي الجدّ الأعلى. وموسى ، معرّب موشى أي المشال من
الماء. وسامري ، معرّب شمروني حسبما نذكر وغير ذلك. وقد قيل : إنّ «هامان» معرّب «آمون»
أو «أمانا» كان يلقّب به رؤساء كهنة معبد آمون كبير آلهة المصريّين في مدينة طيبة
في أعالي النيل. ولا غرو فإنّ المنسوب إلى مكان مقدّس يحمل اسمه بالطبع ، كما أنّ
فرعون هو لقب سلاطين مصر كان بمعنى البيت الأعظم ، نظير ما لقّب الخلفاء
العثمانيون بالباب العالي.
وتمثّل بعض
النقوش القديمة «البيت الأعظم» الذي يجلس فيه الملك للحكم والذي تتجمّع فيه دواوين
الحكومة. وقد اشتقّت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريّون يطلقون عليه لفظ «پيرو»
والذي ترجمه اليهود إلى «فرعوه» أو «فرعون» ،
__________________
اشتقّ من اسمه لقب الملك نفسه.
وهكذا عاد اسم «هامان»
معرّب «آمون» اطلق على كبير كهنة معبد «آمون» الذي حاز منذ الاسرة التاسعة عشر
مكانة كبيرة لدى فرعون ، لدرجة أنّه استولى على إقليم أعالي النيل وأصبح قائد كلّ
الجيوش وكبير خزانة الإمبراطورية والمشرف الأعلى على معابد الآلهة.
ولقد كان وزير
فرعون يراقب فعلا كلّ أعمال البناء العموميّة والماليّة. وكان المشرف الأعلى على كلّ أعمال الملك. وبالتالي كان كبير كهنة «آمون» يشغل منصب وزير فرعون.
فاسم «هامان»
في القرآن يمثّل اسم «آمون». ويسهل التقريب بين الاسمين عند ما نعرف أنّ «آمون»
ينطق كذلك «أمانا» ويقصد منه بالاختصار «كبير كهنة» مثلما كان اسم فرعون ـ وهو اسم
البيت الأعظم للحكومة ـ أصبح لقبا يلقّب به ملوك مصر الذين يحكمون البلاد. فهامان
لقب كبير كهنة «آمون» الذي كان يشغل منصب وزارة فرعون في الشئون المالية
والعمرانية.
__________________
فأوقد لي يا هامان
على الطين!
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
...).
أي فاصنع لي
آجرّا ، واجعل لي منه قصرا شامخا وبناء عاليا ، كي أصعد وأرتقي إلى السماء فأطّلع
إلى إله موسى؟
هذا ... وقد
لهج بعض من لا خبرة له : أن البناء بالآجرّ والجصّ لم يعهد ذلك الحين ، وإنّما
كانت البنايات بالأحجار والصخور كالأهرام والهيكل الكبير ببعلبك والمسرح الروماني
ببصرى وغيرها.
لكن ذهب عنه :
أنّ صناعة الآجرّ واستخدامه في البنايات ـ وحتّى الرفيعة ـ قد تقادم عهدها منذ
بداية حياة الإنسان الحضاريّة ، بما يقرب من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وحتّى في
مصر القديمة عثروا على طوابيق (جمع طابوق معرّب تاوه : الآجرّ الكبير) في حفريّات
في قاع النيل يعود تاريخها إلى (٥٠٠٠ ق م). وهكذا وجدوا مقابر على ساحل النيل
مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب ممّا يعود تاريخها إلى (٣٠٠٠ ق م).
هذا فضلا عن
بنايات آجرّيّة في بلاد مجاورة كبرج بابل وكذا معابد آشور والسومريّين (٢٥٠٠ ق م).
وأخيرا فطاق كسرى من بنايات شاهپور الأوّل (٢٤١ م).
__________________
وغير ذلك كثير
وكان معروفا ذلك العهد ، بل وقبله بكثير. وإليك بعض الحديث عن ذلك :
صناعة الآجرّ واستخدامه منذ عهد قديم!
لعلّ من أقدم
صنائع الإنسان هي صنعة الآجرّ من الطين المشويّ بالنار. ابتدعها الإنسان منذ أن
اكتشف النار وعرف مفعولها في التأثير على الطين اللازب في صنعة الخزف والآجرّ
والفخّار. واستخدم الآجرّ في بنايات ضخمة منذ عهد قديم ، قد يرجع إلى عهد الحجر
منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.
فقد عثروا في
حفريّات من قاع النيل بمصر على قطعات من الآجرّ المصنوع من وحل النيل ممزوجا مع
بعرات الإبل ، يعود تاريخها إلى أبعد من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وهكذا وجدت
على ساحل النيل آثار مقابر سقوفها مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب. ويعود عهدها
إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.
وقد استعمل
الآشوريّون الآجرّ والجصّ في بناياتهم التقليدية والأقواس الهلاليّة على الدروب
والمحاريب في شماليّ العراق ، ويعود تاريخها إلى حدود ألفي عام قبل الميلاد.
يقول «ديورانت»
: هناك حوالي مدينة «اور» عاصمة ملك السومريّين ، في سهول بين النهرين وعلى ضفاف
مصبّ دجلة والفرات وشواطئ خليج فارس ، وجدت الكثير من آثار بنايات ضخمة مبنيّة
بالآجرّ والجصّ ، وفي حجم وعلى أشكال مربّعة مسطّحة نظير ما يستعمل اليوم لكنّه
أفخم وأمتن. ويعود تاريخها إلى أكثر من ألفين وخمسمائة عام قبل الميلاد.
ومدينة «بابل»
وهي أقدم وأشهر وأكبر مدن الشرق القديم. قرب الحلّة وعلى مسافة ٨٠ كم من بغداد ـ العراق
اليوم ، كانت بناياتها الفخمة والقصور وبيوت الأشراف مبنيّة بالآجرّ ، وكذا
المعابد والأبراج العالية ، ومنها برج بابل المعروف مبنيّ بالآجر ، وقد استوعبت
بناية البرج أكثر من خمسة وثمانين مليون آجرّة ، منها البقايا المبعثرة هناك ،
وهي على شكل مربّع مسطّح متين جدّا ، كأنّه مصنوع اليوم. ويقال لها :
الطابق ـ والمعروف بالعراق : الطابوق ـ ويعني الآجرّ الكبير ، معرّب «تاوه»
الفارسيّة.
وهذه المدينة
عريقة في القدم ، على ما جاء في وصف التوراة ، باعتبارها كتاب تاريخ ، ومن آثارها
المتبقّية : باب عشتار وبلاط نبوخذنصّر والطريق الملوكي ، المفروش بالآجرّ الضخمة
وملاطها القار ، حسب وصف التوراة ، وقد شاهدته بعين الوصف حينما زرت البرج بالعراق.
جاء في سفر
التكوين : أنّ الذرّية من ولد نوح ارتحلوا شرقيّ الأرض حتّى أتوا أرض شنعار (سهول
بين النهرين ـ العراق) وسكنوا هناك وبنوا مدينة فخمة بلبنات مشويّة على النار شيّا
، قالوا : هلمّ نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ، فجعلوا مكان اللبن الآجرّ
وبدل الجصّ القار. وهكذا بنوا القصور والأبراج العالية يوم ذاك ، ويعود
تاريخ أكثر البنايات المتبقّية حتّى اليوم إلى أكثر من ألفين وخمسمائة عام قبل الميلاد.
قولة اليهود : يد الله مغلولة!
قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ).
قال الشيخ
محمّد عبده : وقد جعل بعض أهل الجدل الآية من المشكلات ، لأنّ يهود عصره ينكرون
صدور هذا القول عنهم ، ولأنّه يخالف عقائدهم ومقتضى دينهم. وممّا قالوه في حلّ
الإشكال : إنّهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام ، فإنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قالوا : من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول
اليدين. بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخرص في بيان مرادهم منه ،
__________________
وما هو إلّا غفلة عن جرأة أمثالهم في كلّ عصر على مثل هذا القول البعيد عن
الأدب بعد صاحبه عن حقيقة الإيمان ، ممّن ليس لهم من الدين إلّا العصبية الجنسية
والتقاليد القشرية ، فلا إشكال في صدوره عن بعض المجازفين من اليهود في عصر النبيّ
صلىاللهعليهوآله وقد كان أكثرهم فاسقين فاسدين.
وطالما سمعنا
ممّن يعدّون من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عزوجل والاعتراض عليه عند الضيق وفي إبّان المصائب.
وعبارة الآية
لا تدلّ على أنّ هذا القول يقوله جميع اليهود في كلّ عصر حتّى يجعل إنكار بعضهم له
في بعض العصور وجها للإشكال في الآية ، وإنّما عزاه إلى جنسهم ـ في حين أنّه قول
بعضهم وهو «فنحاص» رأس يهود بني قينقاع وفي رواية : النباش بن قيس أحد رجالهم. وفي
اخرى : أنّه حيي بن أخطب ـ لأنّه أثر ما فشا فيهم من الجرأة على الله وترك إنكار
المنكر ، والمقرّ للمنكر شريك الفاعل له. على أنّ الناس في كلّ زمان يعزون إلى
الامّة ما يسمعونه من بعض أفرادها ـ ولا سيّما إذا كان من أكابر القوم ـ إذا كان
مثله لا ينكر فيهم. والقرآن يسند إلى المتأخّرين ما قاله وفعله سلفهم منذ قرون ،
بناء على قاعدة تكافل الامّة وكونها كالشخص الواحد. ومثل هذا الاسلوب مألوف في
كلام الناس أيضا.
مقصوده من بعض
أهل الجدل هو الإمام الرازى في تفسيره الكبير. لكن ليس يهود عصره هم الذين أنكروا صدور مثل هذا القول
عن سلفهم ، بل حتّى في زماننا هذا اعترضت الجالية اليهودية القاطنة في إيران
وقدّمت اعتراضها إلى المجمع الإسلامى مستعلمة منشأ انتساب هذا القول إليهم.
كما أنّ ظاهر
القرآن أنّ هذا هو عقيدة أسلافهم باعتبارهم أمّة ، لا بالنظر إلى آحاد عاصروا عهد
الرسالة قالوها عن جهالة أو مجازفة عابرة ، الأمر الذي لا يستدعي نزول قرآن بشأنه!
__________________
فلا بدّ هناك
من منشأ يمسّ عقيدتهم بالذات عقيدة إسرائيلية عتيدة استدعت هذا الذمّ الشامل.
وأكثر
المفسّرين على أنّ هذا القول صدر عنهم على سبيل الإلزام (أي على طريقة الاستلزام)
وهي طريقة جدلية يحاول فيها تبكيت الخصم بالأخذ عليه بما يستلزمه مذهبه ، أي لازم
رأيه بالذات وإن لم يكن من عقيدة صاحب الحجّة. قالوا : لمّا كثر الحثّ والترغيب
على إقراض الله بالإنفاق في سبيله وبذل الصدقات ـ وجاء ذلك في كثير من الآيات ـ فعند
ذلك جعلت اليهود تستهزئ بعقيدة المسلمين في ربّهم حيث فرضوه فقيرا محتاجا إلى
الاستقراض ، وقالوا تهكّما وسخرا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِياءُ). فمن كان فقيرا كان عاجزا مكتوف اليدين.
ويرى العلّامة
الطباطبائي أنّ هذا الوجه أقرب إلى النظر.
لكن في التفسير
الوارد عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام : أنّ قولتهم هذه تعني عقيدتهم بأنّ الله قد فرغ من
الأمر فلا يحدث شيئا بعد الّذي قدّره الله في الأزل. «جفّ القلم بما هو كائن إلى
يوم القيامة» فلا تغيير بعد ذلك التقدير. تلك كانت عقيدة اليهود
السائدة ، وتسرّبت ضمن الإسرائيليات إلى أحاديث العامّة. فردّ الله عليهم بأنّ
يديه مبسوطتان يتصرّف حيث يريد. (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).
(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ).
(فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ).
(يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
روى الشيخ
بإسناده إلى هشام بن سالم عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) قال : كانوا يقولون : قد فرغ من الأمر.
وقال الإمام
عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام لسليمان بن حفص المروزي ، متكلّم خراسان ـ وقد استعظم
مسألة البداء في التكوين ـ : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا
__________________
الباب! قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود؟ قال : قالت اليهود : «يد
الله مغلولة» يعنون أنّ الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا.
وروى الصدوق
بإسناده إلى إسحاق بن عمّار عمّن سمعه عن الصادق عليهالسلام أنّه قال في الآية الشريفة : لم يعنوا أنّه هكذا (أي
مكتوف اليد) ولكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جلّ
جلاله تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ). ألم تسمع الله عزوجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).
قال عليّ بن
إبراهيم ـ في تفسير الآية ـ : قالوا : قد فرغ من الأمر لا يحدث الله غير ما قدّره
في التقدير الأول ، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء أي يقدّم ويؤخّر ويزيد وينقص
وله البداء والمشيئة.
وهكذا روى
العيّاشي في تفسيره عن حمّاد عن الصادق عليهالسلام.
ورواياتنا بهذا
المعنى متضافرة.
وقد تعرّض
الراغب الأصفهاني لذلك أيضا قال : قيل : إنّهم لمّا سمعوا أنّ الله قد قضى كلّ شيء
قالوا : إذن يد الله مغلولة أي في حكم المقيّد لكونها فارغة.
ويبدو من كثير
من الآيات القرآنية التي واجهت اليهود بالذات دفعا لمزعومتهم أن لا تبديل بعد
تقدير ، أنّ هناك عقيدة كانت تسود اليهود في عدم إمكان التغيير عمّا كان عليه
الأزل. الأمر الذي يشي بجانب من قضية الجبر في الخلق والتدبير ممّا كانت عليه
الامم الجاهلة ، ومنهم بنو إسرائيل. فهناك في حادث تحويل القبلة اعترضت اليهود على
هذا التحويل ، فنزلت الآية (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ
واسِعٌ عَلِيمٌ). قال ابن عبّاس : إنّ اليهود استنكروا تحويل القبلة عن
بيت المقدس إلى الكعبة.
__________________
واختاره الجبّائى أيضا.
وبهذا الشأن
أيضا نزلت الآية (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).
قال العلّامة
الطباطبائي : النسخ في الآية يعمّ التبديل في التشريع وفي التكوين معا وذلك نظرا
لعموم التعليل في ذيل الآية ، حيث علّل إمكان النسخ ـ وهو مطلق إزالة الشيء عمّا
كان عليه وتبديله إلى غيره ـ بعموم القدرة أولا ، وبشمول ملكه للكائنات السماوية
والأرضية جميعا.
قال : وذلك أنّ
الإنكار المتوهّم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود ـ على ما نقل في شأن نزول
الآية بالنسبة إلى معنى النسخ ـ يتعلّق من وجهين :
الأول : أنّ
الكائن ـ سواء في التشريع أم في التكوين ـ إذا كان ذا مصلحة ، فزواله يوجب فوات
المصلحة التي كان يحتويها.
الثاني : أنّ
الإيجاد إذا تحقّق أصبح الموجود ضرورة لا يتغيّر عمّا وقع عليه. فهو قبل الوجود
كان أمرا اختياريا ولكنّه بعد الوجود خرج عن الاختيار وأصبح ضرورة غير اختيارية.
قال : ومرجع
ذلك إلى نفي إطلاق قدرته تعالى ، فلا تعمّ الكائن الحادث بعد حدوثه. وإنّما القدرة
خاصّة بحال الحدوث ولا تشمل حالة البقاء. وهو كما قالت اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ).
قال : وقد ألمح
سبحانه وتعالى إلى الردّ على الوجه الأوّل بقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فلا موضع لتوهّم فوات المصلحة القديمة بعد إمكان
التعويض عنها بمصلحة مثلها أو خير منها. وعن الوجه الثاني بقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي له التصرّف في ملكه حيثما يشاء ، وهو دالّ على عموم
القدرة ، في بدء
__________________
الحدوث وعبر البقاء جميعا.
وعليه أيضا
نزلت الآية : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). أي يمكنه تعالى أن يزيل شيئا عمّا قدّر فيه ويبدّله إلى
غيره ، حسب علمه تعالى في الأزل بالمصالح والمفاسد المقتضية في أوقاتها وظروفها
الخاصّة. فهو تعالى كلّ يوم في شأن.
ومثلها قوله
تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). وذلك أنّهم لفرط جهلهم أنكروا إمكان التبديل في الخلق
والتدبير ـ سواء في التشريع والتكوين ـ حسبوا من التغييرات الحاصلة في طول التشريع
أنّها افتراء على الله. الأمر الذي يدلّ على غباوتهم وجهلهم بمقام حكمته تعالى
الماضية في الخلق والتدبير على طول خطّ الوجود.
وهذا المعنى هو
المستفاد من عقيدتهم بأنّه تعالى بعد ما فرغ من خلق السماوات والأرض خلال الستة
الأيّام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت. جاء في سفر التكوين : «فأكملت
السماوات والأرض وكلّ جندها ، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ،
فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل».
* * *
وقد يقال : إنّ
هذا المعنى لا ينسجم مع ذيل الآية (يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشاءُ) ، حيث يستدعي هذا التعبير أن يكون النظر في صدر الآية
إلى أمر البخل والتقتير في الرزق.
غير أنّ ذكر
الإنفاق كيف يشاء ـ في ذيل الآية ـ : جاء بيانا لأحد مصاديق بسط يده تعالى وشمول
قدرته ، وليس ناظرا إلى الانحصار فيه. ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجه المسلمين في
إبّان أمرهم من الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات
اللازمة ، فأخذت اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المقدّر لهم ، وليس بوسعه
تعالى أن يفسح لهم المجال أو يوسع عليهم في المعاش.
__________________
وإلّا فوجهة
الآية عامّة كنظيراتها ، والعبرة بعموم اللفظ دون خصوص المورد.
قولة اليهود : عزير ابن الله!!
قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ
يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ).
عزير ـ مصغّرا
ـ هو الذي يسمّيه أهل الكتاب «عزرا». قال الشيخ محمّد عبده :
والظاهر أنّ
يهود العرب هم الذين صغّروا بالصيغة العربية للتحبيب وصرفوه. وعنهم أخذ المسلمون. والتصرّف
في أسماء الأعلام المنقولة إلى لغة اخرى معروف عند جميع الامم. حتّى أنّ اسم «يسوع»
قلبته العرب فقالت : «عيسى».
وعزرا هذا هو
الذي أحيا شريعة اليهود بعد اندراسها وكتب أسفارهم من جديد بعد ضياعها لمدّة تقرب
من قرنين ، بعد كارثة بخت نصّر الذي شتّت شملهم وأحرق كتبهم وأخرب معابدهم ، ووضع
السيف في رقابهم وأسر الباقين إلى أرض بابل حتّى فرّج عنهم الملك داريوش عند ما فتح
بابل ، وساعدهم على المراجعة إلى أرض فلسطين فيمن عزم على الرجوع إليها من اليهود
وعلى رأسهم عزرا ـ وهو عجوز قد طعن في السنّ ـ فأعاد بناء الهيكل على حساب ملك
فارس. وقام بإحياء الشريعة وكتابة الأسفار نحو سنة ٤٥٧ ق. م. جمعها من صدور الرجال والمحفوظ لديهم من بقايا آثار
التوراة. فكانت له منزلة رفيعة عند اليهود ممّا يقرب مرتبه نبيّ الله موسى عليهالسلام لأنّه أحيا الشريعة الموسوية من جديد وأعاد حياتها بعد
الضياع والاندراس.
وهذا هو السرّ
في تلقيبه بابن الله تشريفا بمقامه الرفيع عندهم. كما قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). أيّ مقرّبون لديه تعالى مقربة الولد من والده.
ولعلّ تلقيب
المسيح بابن الله أيضا من هذا الباب تشريفا بموضعه عند الله العزيز.
وجملة القول :
إنّ اليهود كانوا وما زالوا يقدّسون عزيرا هذا. حتّى أنّ بعضهم أو
__________________
جلّهم أطلق عليه لقب ابن الله. فهو تلقيب تكريم كما في تلقيب يعقوب
بإسرائيل أي القدرة الغالبة الإلهية. وداود بمعنى المحبوب لدى الله. وجبرائيل أي
الرجل الإلهي. وعزئيل أي عزّته تعالى. كلّ هذه ألقاب تشريفية تكريما بمقام
المتلقّبين بها.
لكن الفيلسوف
اليهودي «فيلو» الاسكندري المعاصر للمسيح يقول : إنّ لله ابنا هو كلمته التي خلق
بها الأشياء. فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض اليهود المتقدّمين على البعثة
المحمّدية ـ على المبعوث وآله صلوات ربّ العالمين ـ قد قالوا إنّ عزيرا ابن الله
بهذا المعنى ، كما شاع عند النصارى أن تلقيب المسيح بابن الله هو من هذا الباب.
قال اجعلني على خزائن الأرض
قالوا : لم
يعهد من تاريخ مصر القديمة أنّ ملوكها استوزروا أجانب في سلطانهم ، فمن هذا الملك
الّذي استوزر يوسف العبراني لإدارة شئون الاقتصاد في البلاد؟
(وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) (أي أجعله من خاصتي) (فَلَمَّا كَلَّمَهُ
قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ
الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). فأصبح يوسف عزيز مصر!
وتزحلق بعضهم
القول بعدم معهودية التوزير من أبناء اليهود ولم يدر المسكين أنّ يوسف سبق اليهودية بقرون! وكان
الذي خوّله إرادة شئون الاقتصاد من الملوك الرعاة (الهكسوس) وهم أجانب ومن جالية
الشعوب الهندية الاوروبية تغلّبوا على الشعب المصري وحكموا البلاد قسرا. والذي بدأ
حوالي سنة ١٨٠٠ ق. م. وهو العهد الذي يمثّل الاسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة
ثم السابعة عشرة في الشمال حتّى عام ١٥٧٠ ق. م ليقوم «أحمس الأوّل» في وجههم
ويطردهم ويؤسّس الدولة الحديثة الاسرات من الثامنة عشرة إلى آخر العشرين. وكان إذ ذاك
أوان خروج العبرانيّين من مصر
__________________
على عهد موسى وفرعون.
عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون
ويسترسل «نولدكه»
في توهّماته عن القرآن ، ليزعم أنّ هذا التعبير بشأن صعيد مصر الذي تشحّ فيه
الأمطار ينمّ عن جهل بموضع هذا البلد الذي تعود خصوبته إلى فيضان النيل لا الأمطار.
جاء في فقرة من كتابه (...sehctekS
ص ٣٠ ـ ٣١) حول هامان ومريم : «بالإضافة إلى هذا التصوّر غير المعقول ، يوجد تحويرات
مزاجية شتّى ، بعضها يدعو للسخرية وينسب إلى محمّد نفسه. والمثال على جهله لكلّ
الامور خارج الجزيرة هو جعل الخصوبة في مصر ـ التي تشحّ فيها الأمطار ـ مرهونة
بالأمطار وليس بفيضان النيل».
هذا الانتقاد
في غاية الغباء وينمّ عن جهل «نولدكه» ـ المستشرق المشهور ـ للّغة العربية وللشئون
المصرية بالذات.
لقد جاء في
الآية التي يستشهد بها ما يلي : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
وكلمة «يغاث»
تحتمل أن تكون من «الغوث» ـ وهو النصرة ـ أو من «الغيث» أي المطر. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ
عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي استنصره. ومن ثم جاء في تفسير الآية (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) أي ينجى الناس من الجدب ومحنة القحط. قالوا : ويكون من
قولهم : أغاثه الله ، إذا أنقذه من كرب أو غمّ. ومعناه : ينقذ الناس فيه من كرب
الجدب. وقوله «وفيه يعصرون» أي يعصرون السمسم دهنا والعنب خمرا والزيتون زيتا. وهذا
يدلّ على ذهاب الجدب وحصول الخصب ووفور الخير.
__________________
أمّا لو اخذت
من «الغيث» أي المطر فيكون المعنى : فيه يمطرون. غير أنّ بلاد مصر العليا تنعم
بغزارة الأمطار في أربعة أشهر متتالية في فصل الشتاء. فالمصريّون الّذين يعيشون في
الصعيد في الدلتا يعلمون جيّدا أنّ الأمطار تتساقط بغزارة خلال فصل الشتاء أي خلال
أربعة أشهر (من ديسمبر إلى مارس). وأنّ زراعة القمح والبرس والشعير والفول
وأمثالها تعتمد أساسا على الأمطار الّتي تتساقط هذه الفترة. الأمر الذي يجهله
أمثال «نولدكه» من المتخصّصين في الدراسات العربية الإسلامية ، وهو لم تطأ قدمه
بعد البلدان الإسلامية ولم يغادر اوربا طوال عمره (١٨٣٦ ـ ١٩٣١ م). فلا غرو أن
يخطأ «نولدكه» خطأ مزدوجا ، فهو لم يفهم النصّ العربي للآية. ثم إنّه يؤكّد أنّ
المطر يكاد ينعدم في مصر ، وأهلها لم يشعروا أبدا باحتياجهم له! وهو الخطأ الذي لا
يقع فيه أحد من صبية مصر! على حدّ تعبير الاستاذ البدوي.
والعجب أنّه لم
يطّلع على ما كتبه «سال elaS»
في ترجمة القرآن التي أنجزها وانتشرت خلال القرن الثامن عشر. إنّه يترجم الآية
هكذا :

ونجده في
ملاحظة سجّلها في أسفل الصفحة يقول : علينا أن نفنّد ما كتبه بعض المؤلّفين
القدامى. فلقد كانت تمطر عادة في الشتاء خاصّة في الوجه البحري ، وقد لوحظ الثلج
في الإسكندرية على نقيض ما يزعمه «aceneS» صراحة. فعلا تصبح الأمطار أكثر
ندرة في الوجه القبلي في اتجاه شلّالات النيل. وعلى أيّة حال فإنّنا نفترض أنّ
الأمطار التي ذكرت هنا ـ في الآية ـ قصد بها تلك التي تسقط في «إثيوبيا» وتسبّب
ارتفاع منسوب النيل.
__________________
فيا ترى كيف لم
يطّلع «نولدكه» على هذه الترجمة وهذه الملاحظة التي سجّلها «سال» وكانت في متناوله؟!
فاليوم ننجّيك ببدنك
قال تعالى ـ فيما
حكاه خطابا لفرعون حينما أدركه الغرق ـ : (فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً). وذلك عند ما أيقن بالغرق وقال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ). قال تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
قال هاشم
العربي : وهذا يدلّ على أنّه تعالى نجّى فرعون من الغرق ، ومن ثمّ يناقض ما ورد في
سائر الآيات من أنّه تعالى أغرقه ومن معه جميعا.
وسخّف تأويل
المفسّرين ذلك بإنقاذ جسده من قعر البحر وجعله طافيا على وجه الماء ، أو نبذ
الأمواج له إلى نجوة (مكان مرتفع) من ساحل البحر ، ليكون عبرة للآتين ، حيث يجدوه
مطروحا بلا روح على الأرض. قال : هذا تأويل يخالف ظاهر التعبير ، حيث المتبادر من
النجاة هو الخلاص من الغرق. قال : على أنّه ليس في ذلك (طفو الجسد على وجه الماء
أو طرحه على الساحل) آية ، لأنّ هذه حال أكثر الغرقى تطفو جثثهم على الماء أو
يلقيها البحر بالساحل.
لكنّه لم يمعن
النظر في التعبير بالبدن ، وهي الجثّة بلا روح. فلو كان أراد تنجيته لجاء التعبير
: «ننجّيك» بلا زيادة قوله : «ببدنك». فهذه الزيادة دلّتنا على اختصاص البدن (الجسد
بلا روح) بالنجاة.
والمراد
بالنجاة هو الخلاص ببدنه سليما من مقضمة الحيوانات البحريّة ومن غير أن يتفتّت
أشلاء أو يتفسّخ.
__________________
الأمر الذي بقي
معجزة خالدة ، فها هو جسد فرعون المحنّط. معروض للعامّة ، وقد شاهدته في متحف
بريطانيا الأثري ، وجثث اخرى معروضة هناك وفي متاحف مصر أيضا.
من هو فرعون موسى؟
وفرعون هذا
يقال : إنّه «توت عنخ أمون» من ملوك الأسرة الثامنة عشرة وكانت مدّة ملكه ما بين (١٣٤٨
ـ ١٣٣٧ ق. م) أي قبل ثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة تقريبا.
وقيل : هو
منفطا (منفتاح) الأوّل من الاسرة التاسعة عشرة (١٢٢٣ ـ ١٢١١ ق. م).
وقيل : ابنه «سيتي»
الثاني (١٢٠٧ ـ ١٢٠٢ ق. م). وفي أيّامه اختلّ الأمن وسادت القلاقل وهلك سيتي بعد أن
ملك مدّة قصيرة ، وقد عثر على جثّته في قبر «أمنهوتب» الثاني بطيبة. فانفرد الولاة
كلّ بولايته ، ومن ثمّ كثر وفود الأجانب على مصر.
ولقد صدق الله
سبحانه حيث يقول : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها
فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ).
(كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)
هل ورثت بنو
إسرائيل ديار مصر بعد غرق فرعون وجنوده؟
ليس في الآية
تصريح بذلك ، وإنّما هو الاستيلاء على ديار كان ملوك مصر مسيطرين عليها ، وليس على
نحو الشمول. ففي سورة الأعراف ـ بعد أن ذكر قصّة الغرق ـ قال : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا
__________________
فِيها). والأرض المباركة هي أرض فلسطين والشامات. وهي عامرة بوفرة الخصب وكثرة الأرزاق. ومشارق الأرض
ومغاربها إشارة إلى سلطان داود وسليمان على بني إسرائيل وأنّهما أقاما دولة واسعة
الأرجاء في فلسطين امتدّت إلى شرق البلاد وغربها في عرض عريض.
وأمّا قوله
تعالى : (كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ). فلعلّه أراد الفوضى التي حصلت بعد هلاك «سيتي» الثاني
وتواترت وفود الأجانب على البلاد كما قدّمنا. وإن كان اريد بهم قوم إسرائيل فيحمل على إرادة أرض
فلسطين كالآية السابقة.
شبهة وجود اللحن في القرآن
قالوا : وأيّ
باطل بعد الخطأ واللحن تبتغون؟ وقد رويتم عن عائشة أنّها قالت : ثلاثة أحرف في
كتاب الله هنّ خطأ من الكاتب :
١ ـ قوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ).
٢ ـ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالصَّابِئُونَ).
٣ ـ قوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ).
ورويتم عن
عثمان : أنّه نظر في المصحف بعد ما رفع إليه فقال : أرى فيه لحنا وستقيمه العرب
بألسنتها.
ونسبوا إلى
التابعي الكبير سعيد بن جبير أنّه زعم أنّ في القرآن لحنا في أربعة مواضع ، وذكر
الموارد الثلاثة ، وزاد الرابعة قوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
__________________
وقالوا في قوله
تعالى (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) : كان ينبغي التأنيث في العدد ، لأنّ التقدير : وعشرة
أيّام.!
وهكذا زعم من
لا دراية له من المستشرقين وأذنابهم أنّ في القرآن لحنا ، وتغافلوا عن أن لو كان
الأمر على ذلك لاتخذه مناوءو الإسلام من أوّل يومه ذريعة للغمز فيه وهم عرب اقحاح
، ولم يكن يصل الدور إلى هؤلاء الأجانب الأسقاط.
ليس في القرآن لحن
لا شكّ أنّ
القرآن من أقدم أسناد اللغة ذوات الاعتبار ، ولا مجال للترديد في حجّيته واعتباره
بعد حضوره في عصر كان العرب في أوج حضارتها الأدبية الراقية ، وكانوا أعداء ألدّاء
له يتحيّنون الفرص للغمز فيه من أيّ جهة كانت ، لو لا اعترافاتهم الصريحة باعتلائه
الشامخ في الأدب الرفيع. فهل يعقل أن يكون في القرآن مسارب للغمز فيه تغافلها
أولئك الأقحاح ليتعرّف إليها هؤلاء الأذناب؟
على أنّ الصحيح
من كلّ لغة هو ما حفظته أسنادهم العتيدة ، ولتكون هي المعيار في تمييز السليم عن
السقيم. هذا ابن مالك ـ إمام في النحو والأدب ولغة العرب ـ يجعل القرآن قدوة في
تنظيم قواعد اللغة وترصيف أدبها ، يقول :
وسبق حال ما
بحرف جرّ قد
|
|
أبوا ولا
أمنعه فقد ورد
|
يعني : أنّ بعض
النحاة ذهبوا إلى عدم جواز تقدّم الحال على ذي حال مجرور بحرف ، ولكنّي اجيز ذلك ،
استنادا إلى وروده في سند قويم وهو القرآن الكريم ، في قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ). لتكون «كافّة» حالا من «الناس».
فقد جعل القرآن
سندا قطعيا لقاعدة لغوية ، دون العكس على ما زعمه الزاعمون.
فكلّ ما جاء في
القرآن هو الحجّة والسند القاطع لفهم مجاري الأدب الرفيع.
__________________
* * *
فما زعمه
الزاعمون من وجود لحن في كتاب الله فإنّما هو لقصور فهم وعدم اضطلاع بمباني اللغة
الأصيلة وإليك توضيحا لهذا الجانب :
أمّا قوله
تعالى : (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) فالقراءة الصحيحة المتّبعة وهي قراءة حفص وجمهور
المسلمين هي القراءة بالتخفيف ، مخفّفا عن المثقّلة ، بدليل وجود اللام في الخبر. وكان
أبو عمرو بن العلاء ـ وهو أعلم أهل زمانه بالقرآن والعربية وآدابها ـ يقول : إنّي
لأستحيي أن أقرأ بالتشديد ورفع الاسم. فالخطأ موجّه إلى تلك القراءة المرفوضة وليس
في القرآن الذي يلهج به عامّة المسلمين وعلى رأسهم قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي
إلى الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام.
أمّا الحمل على
لغة بلحرث بن كعب ، حيث كانوا يلهجون في المثنّى بالألف مطلقا ـ كما فعله ابن
قتيبة ـ فغير سديد. لأنّ القرآن نزل وفق اللغة الفصحى ولا يحمل
على الشواذّ المنبوذة.
* * *
وأمّا الرفع في
المعطوف عن منصوب «إنّ» في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) قبل استكمال الخبر ، فلكونه عطفا على محلّ الاسم وهو
رفع بالابتدائية. ورجّح ذلك لوجهين :
أحدهما :
مناسبة الواو في «هادوا» ، في حين عدم ظهور إعراب الاسم بسبب البناء. قال الفرّاء
: ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يتبيّن فيه الإعراب ، كالمضمر والموصول. كقول ضابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى
بالمدينة رحله
|
|
فإنّي وقيّار
بها لغريب
|
__________________
وقال بشر بن
حازم :
وإلّا
فاعلموا أنّا وأنتم
|
|
بغاة ما
بقينا في شقاق
|
ورجّح ذلك في
الآية رعاية لمناسبة الواو في «هادوا» نظير العطف على الجوار. قال الكسائي : هو
نسق على ما في «هادوا».
كما رجّح النصب
على الأصل في آية اخرى نظيرتها أيضا لمناسبة الجوار ، وذلك في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) لمناسبة الياء في «النصارى».
ثانيهما : ما
ذكره ابن قتيبة ، قال : جواز الرفع في مثل ذلك إنّما كان لأجل عدم تغيير في مفهوم
الابتدائية سواء قبل دخول «إنّ» أو بعده. حيث إنّها تزيد معنى التحقيق ولا تزيد
معنى آخر سوى ما كانت الجملة تفيدها ذاتا. ومن ثمّ لا يجوز ذلك في المعطوف على اسم
«لعلّ» أو «ليت» لزيادة معنى الترجّي أو التمنّي في مفهوم الكلام.
وقال : رفع «الصابئون»
لأنّه ردّ (أي عطف) على موضع الاسم وموضعه رفع ، لأنّ «إنّ» مبتدأة ولم تحدث في
مفهوم الكلام معنى كما تحدث أخواتها. ألا إنّك تقول «زيد قائم» ثم تقول «إنّ زيدا
قائم» ، ولا يكون بين الكلامين فرق في المعنى ، سوى زيادة التأكيد. لكنّك إذا قلت «زيد
قائم» ثم «لعلّ زيدا قائم» أو «ليت زيدا قائم» فقد أحدثت معنى الشكّ (الترجّي) أو
التمنّي في مفهوم الكلام. ومن ثمّ لا يجوز الرفع في المعطوف على الاسم في غير «إنّ»
من سائر أخواتها.
وأمّا النصب في
«المقيمين» من قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ـ وطرفاه على الرفع ـ فلأنّه على القطع لأجل المدح
والاختصاص ، وهو شائع في اللغة.
__________________
ونظيره قوله
تعالى في موضع آخر : (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
وَحِينَ الْبَأْسِ). قال سيبويه ـ في باب ما ينتصب في التعظيم والمدح ـ : وسمعنا
بعض العرب يقول : الحمد لله ربّ العالمين ـ بنصب الربّ ـ فسألت عنها يونس فزعم
أنّها عربية. قال : ومنها «والمقيمين» و «الصابرين» فقطع إلى النصب
مدحا. وهذا باب شائع في العربية ، وتكلّم فيه سيبويه بتفصيل.
وهكذا قال أبو
عبيد. قال : هو نصب على تطاول الكلام بالنسق ، أي للإيفاد بالكلام تطرية تخرجه على
تطاول النسق. فيجوز القطع إلى النصب وإلى الرفع تطرية للكلام وإخراجه عن نسق واحد.
وأنشد للخرنق بنت هفّان :
لا يبعدن
قومي الذين هم
|
|
سمّ العداة
وآفة الجزر
|
النازلين
بكلّ معترك
|
|
والطيّبون
معاقد الأزر
|
* * *
وأمّا الجزم في
«وأكن» معطوفا على «فأصّدق» فمحمول على موضع «فأصّدّق» لو لم يكن فيه الفاء ،
وموضعه جزم ، جوابا ل «لو لا» في قوله تعالى : (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ
لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). وهو من العطف على التوهّم ، وهو شائع في اللغة. كما في
قول الشاعر :
فأبلوني
بليّتكم لعلّي
|
|
أصالحكم
وأستدرج نويّا
|
فجزم «أستدرج»
معطوفا على موضع «اصالحكم» بتوهّم أنّه لو لم يكن قبلها «لعلّي». لأنّه قال :
فأبلوني بليّتكم أصالحكم واستدرج.
وللفرّاء هنا
كلام مسهب أتى فيه بفوائد جمّة ، نذكره على طوله :
__________________
قال : فاذا
أدخلت في جواب الاستفهام فاء نصبت ، كما قال الله تبارك وتعالى (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ).
فإذا جئت
بالمعطوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه :
١ ـ إن شئت
رفعت العطف ، مثل قولك : إن تأتني فإنّي أهل ذاك ، وتؤجر وتحمد. وهو وجه الكلام.
٢ ـ وإن شئت
جزمت ، وتجعله كالمردود على موضع الفاء.
والرفع على ما
بعد الفاء. وقد قرأت القرّاء : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ). رفع وجزم.
وكذلك (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا
هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ) ، جزم ورفع.
ولو نصبت على
ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت ، كما قال الشاعر وهو النابغة الذبياني
:
فإن يهلك
النعمان تعر مطيّة
|
|
وتخبأ في جوف
العياب قطوعها
|
وإن جزمت عطفا
على ما نصبت تردّه على الأوّل كان صوابا ، كما قال الشاعر بعد هذا البيت :
وتنحط حصان
آخر الليل نحطة
|
|
تقصّم منها ـ
أو تكاد ـ ضلوعها
|
وهو كثير في
الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النص في المعطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء ،
فاذا كانت الفاء فهو الرفع والجزم.
__________________
٣ ـ وإذا أجبت
الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف. وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) ، رددت «وأكن» على موضع الفاء ، لأنّها في محلّ جزم ، إذ
كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن تردّه على ما بعدها ،
فتقول : «وأكون». وهي قراءة عبد الله بن مسعود «وأكون» بالواو. وقد قرأ بها بعض
القرّاء (هو أبو عمرو بن العلاء). قال : وأرى ذلك صوابا (أي القراءة بالواو مع عدم
كتبها في المصحف) لأنّ الواو ربّما حذفت من الكتاب وهي تراد ، لكثرة ما تنقص وتزاد
في الكلام ...
وقال بعض
الشعراء (هو أبو داود الإيادى) :
فأبلوني
بليّتكم لعلّي
|
|
اصالحكم
وأستدرج نويّا
|
فجزم «أستدرج»
فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة في «لعلّي» ، وإن شئت جعلته في موضع رفع
فسكّنت الجيم لكثرة توالي الحركات. وقد قرأ بعض القرّاء (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) بالجزم وهم ينوون الرفع. وقرءوا (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها
كارِهُونَ). والرفع أحبّ إليّ من الجزم.
* * *
وأمّا قوله
تعالى : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً) فليس التقدير «عشرة أيام» إنّما التقدير في مثل ذلك عند
العرب «عشر ليال». كما في قولهم : لخمس بقين أو خلون من رجب. والتقدير في حساب
الأيّام عند العرب بالليالي دون وضح النهار. ومن ثمّ تحسب الليلة من أوّل الشهر من
الشهر ، ويبدأ كلّ شهر بليلة أوّله ، فالنهار تابع للّيل كما في آخر الشهر.
__________________
(وَقَطَّعْناهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً)
قالوا : فيه
لحن ، أوّلا تأنيث العدد مع أنّ التمييز مذكّر. وثانيا جمع التمييز ، والصحيح
إفراده هنا.
لكن الكلام
يتمّ بالعدد من غير ما حاجة إلى ذكر التمييز ، كما في نظائره من قولك : قطّعت
اللحم أربعا ، أي أربع قطع. وجئناك خمسة ، أي خمسة أشخاص. (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ). أي بعشر ليال. (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ، أي عشر ليال ، وذلك لأنّ الاعتبار بحساب الليالي ـ كما
قدّمنا ـ (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا عَشْراً).
(فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ).
(عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ). أي خازنا.
كلّ ذلك
لمعلومية المعدود من غير حاجة إلى ذكره. وكذا هنا ، إذ قولك : فرّقتهم اثنتي عشرة
، تعني : اثنتي عشرة فرقة ، «وحذف ما يعلم جائز» ، بل ذكره إمّا تاكيد أو حشو زائد.
قال المفسّرون
: «أسباطا» بدل من «اثنتي عشرة». تقديره : وفرّقناهم فرقا أسباطا وجعلناهم أمما
متفرّقة لا مجتمعة ، وهذا نكال بهم من أوّل يومهم ، حيث تفرّقهم في الرأي وعن
اتّباع الرسول منذ البدء. على خلاف ما حظيت به هذه الامّة من الاجتماع ووحدة
الكلمة والتفافهم حول الرسول. (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) الأمر الذي أراده بشأن كلّ أمّة من الامم رغم تفرّقهم
وتشعّبهم فرقا (وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) (أي قطعا كزبر الحديد أي صفحاته) (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). الأمر الذي مني به بنو إسرائيل حيث تشتّتهم وتطاحنهم في
الحياة.
__________________
(وَنُقَدِّسُ لَكَ)
زعم المتعرّب (هاشم
العربي) أنّ في ذلك لحنا ، حيث زيادة اللام من غير حاجة إليها وكان الصواب «نقدّسك».
لأنّ الفعل متعدّ بنفسه. اللهمّ إلّا أن يقدّر المفعول به شيئا من الأشياء ، الأمر
الّذي يزيد في إبهام الكلام.
لكنّه لم يدر
الفرق بين «قدّسه» و «قدّس له»!
يقال : قدّسه
أي نزّهه ومجّده. أما إذا قيل : قدّس له ، فيعني : تطهير النفس تمهيدا لإمكان
الحضور لدى ساحة قدسه تعالى.
قال أرباب
اللغة : يقال : قدّس الرّجل الله ، أي نزّهه ووصفه بكونه قدّوسا. والقدّوس :
المتنزّه عن العيوب والنقائص. وقدّس لله ، أي طهّر نفسه له. وذلك بأن مهّدها
لإمكان الاستفاضة من أنوار الملكوت.
كانت الملائكة
ترى من بني آدم ذواتا منكدرة لا تصلح للاستجلاء بجلاء يليق بمقام القدس الأعلى
فعرضت نفسها وهي صالحة للاقتراب من مقام القرب الأدنى.
لكنّه تعالى
أعلم بالمصالح فيما يقدّر ويدبّر. (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ
ما لا تَعْلَمُونَ).
ثمّ على فرض
التقدير في الكلام فإنّه ليس على ما فرضه المتعرّب من الإبهام. قال الراغب : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نطهّر الأشياء ارتساما لك. أي بدلا من بني آدم ـ حيث يفسدون في الأرض أي يعبثون
بوجوه الأشياء ليغيّروها إلى جهة الفساد ـ نقوم نحن بتطهير الأشياء وتصقيلها إلى
حيث الصفاء والجلاء التامّ. الأمر الذي يتحقّق منه الامتثال التامّ لما أراده
تعالى من الطهارة والنزاهة في خليقته جمعاء.
ثمّ قال له كن فيكون
قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
__________________
قالوا : وكان
ينبغي أن يقول : ثمّ قال له كن فكان.
قال بعضهم ـ تجاسرا
على كتاب الله ـ : آثر الرويّ على المعنى ، فآثر الإخلال بالمعنى ليستقيم له
الرويّ. وزاد بشاعة في القول : قد ساقه إليه ما ألفه لسانه ـ يعني محمدا صلىاللهعليهوآله ـ حيث كرّره في ستّة مواضع من كتابه بصيغة المضارع ،
ممّا كان متناسبا فيها غير ما هنا.
لكن المسكين
ذهب عنه أنّ هذه الجملة تمثّل كلمة التكوين وليست تكليفا بالقول ، ومن ثمّ كان
المسيح عليهالسلام كلمة الله ألقاها إلى مريم.
قال الشيخ
محمّد عبده : يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع «كن فيكون». والمعنى : ثمّ قال له
كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجّه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا. قال :
ويظهر هذا في مثل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ
قَوْلُهُ الْحَقُ). ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا ، لأنّ قول التكليف
من صفة الكلام ، وقول التكوين من صفة المشيئة.
فلفظة «كن»
تمثّل إرادته تعالى المتعلّقة بتكوين شيء. و «فيكون» تمثّل تكوين الشيء حالا فور
إرادته تعالى. الأمر الذي يتمثّل في لفظة المضارع الدالّة على التحقّق في الحال ،
ولا يصلح لذلك صيغة الماضي إلّا بتأويله إلى إرادة الحال أي «فكان في الحال». وهذا
ممّا يكفله صيغة المضارع من غير تأويل. وهذا هو معنى قولهم : «فيكون» حكاية حال
ماضية. أي وإن كان الأمر قد مضى ، لكنّها حكاية عن أمر كان
حالا في ظرفه : فقد تكوّن الشيء حالا فور الإرادة. وهذا من تصوير الحال الماضية
كما يقول أهل المعاني.
فمعنى قوله «كن
فيكون» : أن لا فاصل زمنيّا بين إرادته تعالى وتكوين الشيء (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ).
(إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). أي لا فاصل
__________________
ـ عند إرادته تعالى لتكوين شيء ـ بين هذه الإرادة وتكوين ذاك الشيء حالا.
قال الحجّة
البلاغي : «فيكون» فعل مضارع دالّ على الثبوت ، لبيان الملازمة الدائمة بين قوله «كن»
وبين تكوّن الشيء بهذا الأمر لا محالة. وبهذه القدرة التامّة والملازمة الدائمة
خلق عيسى من غير فحل ، إذ قال له : «كن».
وهو كلام صادر
في مقام الاحتجاج بالتمثيل ، ولا تقوم الحجّة بهذا التمثيل ولا يحصل المراد منه في
الاحتجاج إلّا ببيان الملازمة.
وهذا بخلاف ما
لو قال : كن فكان. لأنّ هذا الاسلوب (الثاني) لا يفيد إلّا أن آدم كان. سواء أكان
ذلك باتفاق أم بملازمة خاصّة بذلك الكون أو عامّة. وهو أمر معلوم لا فائدة في
بيانه ولا حجّة فيه على خلق عيسى من غير فحل. فلا يكون التفريع لو قيل : كن فكان ،
إلّا لغوا في كلام متهافت.
والخلاصة : أنّ
فعل المضارعة هنا يدلّ على الملازمة الدائمة بين قولة «كن» والتكوين. فصحّ جريانه
بشأن آدم والمسيح على سواء. وهذا على خلاف ما لو قيل «فكان» ، لاحتمال مجرّد
الاتفاق وليس عن ملازمة دائمة ... وهو تنبّه لطيف أفادته قريحة شيخنا العلّامة
البلاغي المهديّ بهداية الله تعالى. فرحمة الله عليه من مجاهد في سبيل الله بالعلم
والعمل الدائب ، أفاض الله عليه شآبيب رضوانه. آمين.
(وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)
قال هاشم
العربي : كان الصواب أن يقول : وكان قدّامهم ...
قلت : ما أقبح
بالرجل لا علم له بالعربية وهو يتجرّأ في تخطئة أقدم وأقوم كلام عربي رصين. القرآن
أصحّ سند عتيد حفظ على العرب لغتهم الأصيلة ، ولا تزال العرب تعرف أصالتها من
القرآن وتستلهم أساليب كلامها من تعابير القرآن ، هذا ما يبدو من العرب خضوعهم
تجاه عظمة القرآن ، سواء كانوا ممّن آمنوا به وصدّقوه وحيا ـ وهم
__________________
الأكثرية الساحقة ـ أم الذين بقوا على جاهليّتهم الاولى وهم النزر اليسير. لكنّهم
جميعا بخعوا أمام كبرياء هذا الكتاب وجبروت هذا الكلام.
فيا لصاحبنا
المسكين يخطّئ ويصوّب فيما لا شأن له؟!
إنّ كلمة «وراء»
في هكذا موارد من استعمالاتها يراد بها : الكارثة الخطيرة التي تتعقّبهم في مسيرة
الحياة ، والمعنى أنّهم سائرون لاهين ، وتلاحقهم داهية دهماء تسعى وراءهم للنيل
منهم وهم غافلون عنها غير مبالين بها. وهو من ألطف الكنايات.
وهذا كما في
قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
(مِنْ وَرائِهِمْ
جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً).
(مِنْ وَرائِهِ
جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ).
(وَمِنْ وَرائِهِ
عَذابٌ غَلِيظٌ).
وهكذا جاء
استعماله في الشعر الجاهلي ، قال لبيد :
أليس ورائي
إن تراخت منيّتي
|
|
لزوم العصا
تحنى عليها الأصابع
|
وقال عبيد :
أليس ورائي
إن تراخت منيّتى
|
|
أدبّ مع
الولدان أزحف كالنسر
|
وقال المرقش :
ليس على طول
الحياة ندم
|
|
ومن وراء
المرء ما لا يعلم
|
قوله : أليس
ورائي ، أي أليس يتعقّبني لزوم العصا؟ وهو تعبير كنائي عن الانتظار لهم في منتهى
خطّ المسير. فكان قول المفسّرين : أمامهم ، هو لازم المعنى ولم يريدوا ترجمة
اللفظة.
(وَطُورِ سِينِينَ)
قال المتكلّف :
هذا ممّا أخطأ القرآن فيه مراعا للرويّ. والوجه : سيناء كما جاء في
__________________
سورة المؤمنون (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ).
لكنّه تجاهل
استعمال اللفظة بكلا الوجهين في العهد القديم :
كانت البريّة
التي خرج إليها بنو إسرائيل ـ بعد اجتيازهم بحر سوف (البحر الأحمر) ومنطقتي شور
وإيليم ـ تسمّى بريّة «سين» والتي تنتهي إلى جبل سيناء.
جاء في سفر
الخروج : «ثمّ ارتحلوا من إيليم وأتى كلّ جماعة بني إسرائيل إلى برّية سين التي
بين إيليم وسيناء».
وسيناء ـ بكسر
السين ـ اسم جبل «حوريب» وعبّر عنه بسينيم أيضا. كما أنّ الوادي كلّه سمّي
بسيناء وسينيم باعتبار فخامة هذا الجبل الواقع فيه. جاء في سفر
إشعياء : «هؤلاء من بعيد يأتون وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم».
قال جيمس هاكس
: فسّره جماعة بوادي «سين» و «سيناء» نظرا للمناسبة القريبة الملحوظة في عبارة
الكتاب.
وهكذا جاءت
اللفظة في القرآن معرّبة «سيناء» بفتح السين ، و «سينين» بقلب الميم نونا كما هي
العادة الجارية في لغة العرب. فلم يكن هناك تضايق من جهة الرويّ كما زعم.
ومن المحتمل
القريب أنّ «سينيم» جمع «سين» باعتبار أنّ الجمع في العبرية يأتي بالياء والميم. كما
في «جمليم» و «حموريم» و «ركبيم» جمع «جمل» و «حمور» و «ركب». وعليه فقد أتى القرآن بسينين جمعا بالياء والنون على
النهج العربي وبذلك قد التأم الرويّ من غير تكلّف الأمر الذي اشتبه على المعرّب
المتكلّف ، وكم له من نظير!
__________________
(سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ)
اعترض المتكلّف
بأنّه جمع في موضع الإفراد ، والوجه أن يقال : سلام على إلياس. كما أفرد في قوله :
(سَلامٌ عَلى نُوحٍ
فِي الْعالَمِينَ). وقوله : (سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ). و (سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ). قال : وإنّما ساقه إلى ذلك مراعاة الرويّ.
وقد فاته أنّ
الكلمة أعجمية يجوز التصرّف فيها حيث ساق الكلام وناسب المقام ، عادة جارية عند
العرب يتلاعبون باللغات الأجنبية من غير ضابطة تحدّدها ، وقد جرى القرآن على
منهجهم في الاستعمال ولا غضاضة ولا سيّما بعد مناسبة رعاية الرويّ.
قال المراغي :
إلياسين لغة في إلياس. وكثيرا ما يتصرّفون في الأسماء غير العربية.
وقال الحجّة
البلاغي : وقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ) بعد قوله : (وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). ذلك لأنّ لاسم هذا الرسول في اللغة العربية تعريبان. كما
كان لاسمه في العبرية تعبيران : إلياه وإلياهو وهو المعروف بإيليا التّشبيّ في العهد القديم.
هذا ، وقد جرت
عادة العرب على استعمال اللغات الأجنبية على غير مقياس واحد ـ ولعلّه امتهان بها ـ
ودرجوا على التصرّف فيها حيثما شاءوا وحيثما ساقهم مدارج الكلام.
فقد عرّبوا «درخم»
الفهلوية إلى «درهم» وجاء في الشعر «درهام» ، قال الشاعر :
لو أنّ عندي
مائتي درهام
|
|
لجاز في
آفاقها خاتامي
|
وعرّبوا «متكسا»
اليونانية ومعناه القزّ ، إلى «مدقس» و «دمقس» و «دقمس» و «دمقص» و «دمقاس» وهكذا.
والدرنوك
والدرنيك والدرنك والدرموك معرّب من أصل حبشي بمعنى الطنفسة.
والزنجبيل
مأخوذ من الفارسيّة (شنگبيل ، شنگوير ، شنگبير وشنگويل) من أصل
__________________
سنگسريتية (شرنگوير). فالكلمة في فارسيّتها متنوّعة لأنّها متغيّرة من أصل
هندي. لكنّها في العربية لم تتغيّر.
والسوذانق
معرّب «سه دانگ» (نصف درهم) كثرت لغاته وتجاوزت العشرين :
سوذنيق. سوذنيق.
سيذنوق. سوذانق. سوذانق. سوذانق. سوذانق. سوذينق. سوذينق. سذانق. سذانق. سوذق. سوذق.
سوذق. سيذاق. سيذقان. سيذقان. شيذق. شيذقان. شيذاق. شوذانق. شوذق. شوذنوق.
وسليمان معرّب «سلومون»
بالعبرية. و «شليمو ، شليمون» بالسريانية. وغيّرته العرب الجاهلي ، فجعله النابغة «سليما»
ضرورة : «ونسج سليم كلّ قضاء ذائل». واضطرّ الحطيئة أيضا فجعله سلّاما فقال :
فيه الرماح
وفيه كلّ سابغة
|
|
جدلاء محكمة
من نسج سلّام
|
وأرادا جميعا
نسج داود والد سليمان ، فلم يستقم لهما الشعر فجعلاه سليمان وغيّراه أيضا.
وأمثال ذلك
كثير ممّا ينبؤك عن إمكان التصرّف في اللغات الأجنبية حيث ساقها القدر ، ولا
محدودية إطلاقا. الأمر الذي ذهب عن المعترض المتكلّف!
هذا ، والقرآن
لم يتجاوز حدود أساليب العرب في استعمال اللغات ، فلا موضع للأخذ عليه بسبب الأخذ
برخص اللغة الأصيلة والجري على مناهجها القويمة.
ولعلّه من التعسّف
ما زعمه البعض من كونه جمعا لإلياسيّ ـ بياء النسبة المشدّدة ـ ثمّ خفّف بحذف ياء
النسبة وجمع بالياء والنون ، كما قالوا : الأشعرون ، يراد : الأشعريّون.
(وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)
تبتدئ سورة
الأنبياء المكّيّة بمطلع قويّ الضربات ، يهزّ القلوب هزّا وهو يلفتها إلى
__________________
الخطر القريب المحدق وهي عنه غافلة لاهية : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ... لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ...)
ويزيدهم غفلة :
أنّهم أسرّوا النجوى ـ أي تواطئوا فيما بينهم تجاه مقابلة الحقّ الذي أتاهم
ليصدّوا عنه. وكانت النجوى التشكيك في رسالة الله على يد بشر مثلهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...).
وهل كانت
التوطئة الخبيثة إلّا من قبل الملأ الذين سطوا في البلاد وأظهروا الفساد بين
العباد. ومن ثمّ جاءت كلمة «الّذين ظلموا» اختصاصية ، فاصلة بين الفاعل ـ لغرض
تبيينه ـ والمفعول به. وهو أبلغ تفضيعا بشأنهم ممّا لو أسند الفعل إليهم رأسا.
والمعنى :
وأسرّ الغافلون النجوى ـ وأخصّ منهم الذين ظلموا ـ ... هؤلاء ، أشدّ وطئا من سائر
الغفلة الذين يشكّلون عامّة المشركين آنذاك.
وقد ذكر النحاة
: أنّ محلّ «الذين ظلموا» إمّا نصب على إرادة الاختصاص ، أو رفع على الإبدال من
ضمير الجمع. قال الزمخشري : إشعارا بأنّهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به.
وهكذا ذكر العلّامة البلاغي بشأن الآية.
ثلاثة قروء
قال تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ).
قال الزمخشري :
فإن قلت : لم جاء المميّز على جمع الكثرة دون القلّة التي هي الأقراء؟ قلت :
يتّسعون في ذلك فيستعملون كلّ واحد من الجمعين مكان الآخر ، لاشتراكهما في
الجمعيّة. ألا ترى إلى قوله «بأنفسهنّ» وما هي إلّا نفوس كثيرة. ولعلّ القروء كانت
أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء ، فأوثر عليه ، تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة
المهمل ، فيكون مثل قولهم : ثلاثة شسوع.
__________________
الالتفات وتنوّع الكلام
ممّا اخذ على
القرآن : عدم نسجه على منوال واحد ، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب والانتقال
والرجوع والقطع والوصل ... وإلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي. زعموا أنّه قد
يشوّش على القارئ فهم المعاني!
لكنّه جهل
بأساليب البديع من كلام العرب ، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلّا
تطرية في الكلام تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر
وأنشط.
والشيء الذي
أغفلوه أنّهم حسبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب ، في حين أنّها صياغة خطاب.
إنّ لصياغة
الكتاب مميّزات تختلف عن مميّزات صياغة الخطاب. فقضيّة الجري على منوال واحد هي
خاصّة بصياغة الكتاب. أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات فهي من خاصّة صياغة الخطاب
، سواء أكان نظما أم نثرا ، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياق واحد ، بل له
الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام.
فهذا عزيز مصر
ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ). فيخاطب يوسف أوّلا ، ثمّ يلتفت إلى امرأته يوبّخها.
وكلا الخطابين
منساق في نسق واحد ولكن في واجهتين ، وقد نقله القرآن على شاكلته الاولى. والقرآن
كلّه من هذا القبيل ، لأنّه كلام الله واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في
صياغة كتاب. ومن ثمّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام. الأمر
الذي زاد في طراوته وزان في طلاوته.
يقول تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
__________________
وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).
يبتدئ الكلام
بالخطاب مع الرسول ويتحوّل من فوره إلى مواجهة المؤمنين.
ثمّ الضمائر
المتتابعة الثلاثة (وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) يعود الأوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى الله! وهذا
من مداورة الكلام من وجهة إلى وجهة ، ويعدّ من ألطف صنع البديع.
ولا يخفى أنّ
مثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفية مراجع الضمائر لدى المخاطبين
النابهين. وهو من حسن الوجازة وظريف البيان (في ظاهر إبهام وواقع إحكام) سهلا
ممتنعا يكسو الكلام حلاوة ممتعة.
فبدلا من أن
يكون الكلام مشوّها مضطرب المفاد ـ حسبما راقه المتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلوا
سائغا يستلذّه المستمع النبيه.
ومثله في
القرآن كثير ويكون من لطيف صنع البديع.
وبديعة
الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمين وقد بحثنا عنها وعن
أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى (في المجلّد الخامس من
التمهيد). ونبّهنا هناك على أنّه لا بدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تطرية
الكلام والتفنّن فيه لتزيده رونقا فوق روعته ، وأتينا بأمثلة لذلك.
وهنا ـ في
الآية الّتي تمثّل بها المتكلّف من سورة يونس ـ نقول : إنّه يزيد مبالغة في
الاستنكار :
قال تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً
مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا ...). يعني : أنّ اولئك الكفرة الجحود إذا كشف الله عنهم
ضرّهم ، فبدلا من أن يشكروا تراهم يكفرون نعمة الله ويحاولون تغطيتها بأنواع
الملتبسات ...
فيمثّل لذلك
ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان : (هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ
وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِ
__________________
مَكانٍ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا
أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ
إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ ...).
فبدأ يواجههم
في الخطاب ، لكنّه في الأثناء يغيّر وجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبين ، ليحوّل
وجهة السامعين من كونهم مخاطبين إلى كونهم ناظرين مستمعين. وذلك للتمكّن في نفوسهم
من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المآل ، فيلمسون قباحة العمل وهم يرونه
من كثب ، فيكونوا هم الحاكمين على فعالهم بالتقبيح.
قال الزمخشري :
ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
قال : المبالغة
، كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح.
وذلك لأنّ
القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذكر عن النفس.
وهكذا التنقّل
من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطابا لا كتابا. يتنقّل فيه
المتكلّم من حال إلى حال ، وربّما من موضوع إلى موضوع آخر ، ثمّ يعود إلى موضوعه
الأوّل حسبما يقتضيه الحال والمقام. والتنقّل ظاهرة قرآنية شاملة ولا سيّما في
السور الطوال.
مثلا نراه
يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات (البقرة : ٢٢٨ ـ ٢٣٧) وينتقل إلى الترغيب في
المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى (الآية : ٢٣٨) وصلاة الخوف (الآية ٢٣٩) ويذكر
المتوفّى عنها زوجها (الآية : ٢٤٠) ثمّ يعود إلى ذكر المطلّقات (الآية : ٢٤١)
الأمر الذي لم يكن متناسبا لو كان الكلام كتابا ، ويجوز في الخطاب. وهذا أيضا في
القرآن كثير.
إذن ، فلا موضع
لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نظم القرآن.
قال هاشم العربي
ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وصفها بفخامة اللفظ والمحتوى
__________________
بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن ـ : إنّها بين جارتيها (الآية
السابقة عليها واللاحقة لها) كقطعة ديباج رقّع بها ثوب كرباس. قال : وأكثر القرآن
على هذه الصفة من عدم القرآن بين آياته ، والانتقال توّا من الأوج إلى الحضيض ومن
ذكر الجنّة والمغفرة إلى ذكر المحيض.
(جاءَتْها رِيحٌ
عاصِفٌ)
الرّيح مؤنّثة.
وتوصف بعاصف وعاصفة على سواء. لأنّ العاصف صفة الريح لا غيرها كالحائض للمرأة ،
فلا تشتبه بغيرها من غير حاجة إلى التاء الفارقة.
قال ابن منظور
: وهي ريح عاصف وعاصفة.
واستعملها
القرآن على الوجهين :
(جاءَتْها رِيحٌ
عاصِفٌ).
(وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ عاصِفَةً).
(قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)
زعم المتعرّب
المتكلّف ـ الأجنبي عن لغة العرب ـ أنّ الحنيفية هي الميل عن الصراط السويّ. وقد
استعملها القرآن في غير معناها الأصيل.
قال : وكثيرا
ما يستعمل القرآن الألفاظ العربية في غير ما وضعت له. من ذلك تعبيره عن دين
إبراهيم بالحنيف يعني به القويم. لكن العرب تعني بالحنف الاعوجاج ، ولذلك تسمّي
عابد الوثن حنيفا لميله عن الدين القويم!
وزعم أنّ ذلك
ممّا موّهته اليهود على صاحب القرآن فلقّنته ليدعو دين إبراهيم حنيفا ، تعبيرا
عليه ليفضح أمره عند العرب ، فانخدع بذلك من غير دراية بمعناه العربي
__________________
الأصيل.
يا لها من
جهالة عارمة تنبؤك عن غباوة فاضحة!!
كيف ينخدع نبيّ
الإسلام بمفاهيم لغة كان فلذتها ولسان أمّة كان من صميمها ، أفهل يعقل أن يتلاعب
اناس أباعد ـ هم جالية المنطقة ـ بذهنيّة فحل فخم كان نابتة الربوة العليّة ، أين
العجم من أبناء إسرائيل من العرب من أبناء قريش؟! واين الهجين من العتيق الأصيل؟!
ولعلّ المتعرّب
المسكين هو الذي انخدع بتلك التهجينات المفضوحة فحسبها لجّة ، وما هي إلّا سراب
فارغ!
كان منذ
الجاهلية اناس يدعون بالحنفاء ، حيث تنزّهوا الأدناس ورغبوا في الحنيفيّة البيضاء
، دين إبراهيم الحنيف.
اجتمعت قريش
يوما في عيد لهم عند صنم كانوا يعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويدورون به ،
وكان ذلك عيدا لهم في كلّ سنة يوما ، فخلص منهم أربعة نفر نجيّا. ثمّ قال بعضهم لبعض : تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض ،
قالوا : أجل. ـ وهم : ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن حويرث ، وزيد
بن عمرو ، من أفذاذ قريش ـ. فقال بعضهم لبعض : تعلمون والله ما قومكم على شيء! لقد
أخطئوا دين أبيهم إبراهيم! ما حجر نطيف به ، لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع!
يا قوم ، التمسوا لأنفسكم دينا ، فإنّكم والله ما أنتم على شيء. فتفرّقوا يلتمسون
الحنيفية دين إبراهيم.
وهؤلاء ـ وأمثالهم
من غيرهم يوم ذاك ـ فارقوا دين قومهم واعتزلوا الوثنية وعبادة الأصنام وأكل الميتة
والدم والذبائح على النصب وتقذّروا الفحشاء والمنكرات ووأد البنات وما إليها من
عادات جاهلية سيّئة ... وسمّوا بالحنفاء ، حيث اتّباعهم الحنيفية دين
__________________
إبراهيم عليهالسلام.
والحنيفيّة ،
من الحنف هي النزاهة والقداسة إن فكريّا أو عمليّا ، وفق الفطرة الاولى الضاحية.
قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). وفي الحديث : سئل عن الحنيفية؟ قال : هي الفطرة.
قال الراغب :
الحنف ، هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة. والجنف ، ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف ، المائل إلى الاستقامة. قال تعالى : (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً). وقال : (حَنِيفاً مُسْلِماً). وجمعه : حنفاء. قال تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ
لِلَّهِ).
قال : وتحنّف
فلان أي تحرّى طريق الاستقامة. وسمّت العرب كلّ من حجّ أو اختتن : حنيفا ، تنبيها
أنّه على دين إبراهيم عليهالسلام.
قال أبو زيد :
الحنيف ، المستقيم ، وأنشد :
تعلّم أن
سيهديكم إلينا
|
|
طريق لا يجور
بكم حنيف
|
قال أبو عبيدة
ـ اللغوي العلّامة ـ في قوله عزوجل : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) : من كان على دين إبراهيم ، فهو حنيف عند العرب.
قال الأخفش :
كان في الجاهلية يقال : من اختتن وحجّ البيت ، حنيف. لأنّ العرب لم تتمسّك في
الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحجّ البيت.
قال ابن عرفة :
الحنف ، الاستقامة. وإنّما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلا بالاستقامة ، كما يقال
للغراب أعور وللصحراء القاحلة مفازة.
__________________
قال الزجاجي :
الحنيف في الجاهلية من كان يحجّ البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن.
وهكذا ذكر
الفيروزآبادي في القاموس ، قال : الحنف ـ محرّكة ـ الاستقامة.
وقد عرفت أنّ
إطلاقه على اعوجاج الرجل ، كان بالعناية والمجاز تفاؤلا ، لا حقيقة.
قال الجارود بن
بشر من عبد قيس ، وكان نصرانيّا فأسلم طوعا :
فأبلغ رسول
الله منّي رسالة
|
|
بأنّي حنيف
حيث كنت من الأرض
|
وقال حسّان بن
ثابت يخاطب أبا سفيان :
هجوت محمّدا
برّا حنيفا
|
|
أمين الله
شيمته الوفاء
|
وممّا يتأيّد
إرادة التطهّر من الأقذار في مفهوم «الحنف» ، أنّ العرب اليوم يستعملون لفظة «الحنفيّة»
يريدون بها فتحة أنابيب المياه للغسل والشرب ، حيث كانت وسيلة التطهير من الأوساخ.
وهو امتداد لمفهومه القديم المعروف عندهم.
فيا ترى هل كان
هؤلاء العرب الأقحاح انخدعوا جميعا منذ أوّل يومهم حتّى الآن بدسائس يهودية هزيلة
لا وزن لها ولا اعتبار ، اللهمّ إلّا في ذهنية متعرّبنا المسكين!!
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ
فَلا تَعْتَدُوها)
زعم المتعرّب
أنّ «اعتدى» لا يتعدّى بنفسه ، وكان الصحيح أن يبدّل بقوله «فلا تتعدّوها» ويا ليته لم يفضح نفسه بالتدخّل في شئون لغة هو أجنبيّ
عنها. قال صاحب المنجد ـ وهو مسيحيّ مثله لكنّه عارف باللغة ـ : اعتدى الحقّ وعن
الحقّ وفوق الحقّ : جاوزه. وكذا تعدّى الشيء : جاوزه. فهما بمعنى.
__________________
(أَتَيا أَهْلَ
قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها)
قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما
أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً).
قال المتعرّب :
والوجه استطعماهم.
قال العلّامة
البلاغي : ولعلّه توهّم أنّ الجملة (استطعما أهلها) جواب «إذا» ، ولم يدر أنّها
وصف للقرية (أي القرية التي استطعما أهلها ...). وجواب «إذا» إنّما هو قوله تعالى
في آخر الآية : (قالَ لَوْ شِئْتَ ...).
قال الإمام
الرازي : التكرير قد يكون للتأكيد وهو معروف واقع في اللغة كقول الشاعر :
ليت الغراب
غداة ينعب دائما
|
|
كان الغراب
مقطّع الأوداج
|
وقال أبو حيّان
الغرناطي : وتكرّر لفظ «أهل» على سبيل التوكيد. وقد يظهر له فائدة عن التوكيد ،
وهو أنّهما حين أتيا أهل القرية لم يأتيا جميع أهل القرية ، إنّما أتيا بعضهم ،
فلمّا قال «استطعما ...» احتمل أنّهما لم يستطعما إلّا اولئك البعض الذين أتياهم ،
فجيء بلفظ «أهلها» ليعمّ جميعهم وأنّهم تتبعوهم واحدا واحدا بالاستطعام منهم فأبوا
جميعا أن يضيّفوهما. ولو كان التركيب «استطعماهم» لكان عائدا على اولئك البعض
المأتيّين أوّلا فحسب ، وهو خلاف المقصود.
(إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا)
قالوا : وكان
الوجه أن يقول : إنّما الربا مثل البيع!
لكنّهم غفلوا
وجه هذا التشبيه ، وذلك أنّ المرابين زعموا تماثل البيع والربا ، فكلّ ما في الربا
من آثار وتبعات فإنّها بعينها موجودة في البيع بلا فرق ، ومن ثمّ استغربوا أن
يحلّل
__________________
البيع ويحرّم الربا ، وقالوا : إنّما البيع مثل الربا في الترابح وجلب
المنافع ، فما شأن البيع يحلّل والربا يحرّم؟!
وقد حكى الله
تعالى عنهم ذلك تفضيعا لشانئتهم :
(الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا).
فشنّع عليهم
قولتهم هذه ، حيث المفاسد والآثار السيّئة التي يعقّبها الربا لا يوجد شيء منها في
البيع ، ومن ثمّ فإنّ هذا التشبيه إنّما هو من مضاعفات تسويل الشيطان على عقولهم
الغائرة.
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)
قالوا : وكان
الجدير أن يقول : ومثل الذي يعظ الكفّار كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاء
ونداء صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون ...
قال المفسّرون
: في الكلام تقدير ، والمعنى : ومثل الذين كفروا في دعائك إيّاهم كمثل الذي ينعق
البهائم ... كما في قوله : (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ... إِنْ
تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ
مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).
إلى غيرهنّ من
آيات تعرب عن فشل محاولة إرشاد من لا قلب له ولا وعي ولا حضور ، وهو تائه في غياهب
الضلال. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
__________________
وَهُوَ
شَهِيدٌ).
وإنّما لم
يصرّح بهذا التقدير ، تحاشيا من تشبيه الواعظ الناصح والمرشد الكامل في وعظه
الشافي وإرشاده الحكيم بمن ينطق بمهملات لا معنى لها سوى التصويت والنعيق كصياح
الغراب.
(وَهذا لِسانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)
قد تكرّر في
القرآن أنّه نزل بلسان عربيّ مبين وهو الظاهر البيان ميسّر لا تعقيد فيه ولا إبهام (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
هذا مع العلم
بأنّ في القرآن آيات متشابهة (مغلقة الفهم مبهمة المعنى) بشهادة القرآن ذاته ، حيث
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ). وأخيرا (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). أمّا عامّة الناس فإنّهم محرومون عن فهم هذا اللفيف من
الآيات ، وأصبحت لا فائدة فيها عندهم سوى تلاوتها جريا على الألسن لا وعيا في
القلوب!!
لكن تعرّضنا ـ عند
الكلام عن متشابهات القرآن ـ للإجابة على هذا السؤال وقلنا : متشابه القرآن على
نوعين : أصلي وطارئ. والطارئ ـ وهو الأكثرية الساحقة من متشابهات القرآن ـ ما عرض
له التشابه فيما بعد ولم يكن متشابها في أصله وعند نزوله ، وذلك من جرّاء تضارب
الآراء وتخاصم أرباب الجدل والذي ثار أواره في مؤخّرة القرن الأول ودام حتّى
القرنين الثاني والثالث ، وظهرت مذاهب ومشارب متنوّعة ومتزاحمة بعضها مع بعض في
تلك الفترة غير القصيرة. كان صاحب كلّ مذهب فكري يعمد إلى لفيف مع آيات وروايات
ليؤوّلها إلى حيث مرتآه الخاصّ ويفسّرها حسب رأيه ، دعما
__________________
لعقيدة ارتآها أو دفعا لما سلكه خصماؤه. وفي غضون هذا التدافع والتخاصم
كانت معالم الشريعة هي التي وقعت عرضة الأهواء ومتضارب الآراء ، وأصبح قسم كبير من
بيّنات الآيات والسنن متشابهات ، وقد أحاطت بها هالات من الإبهام والإجمال ، فصار
ما كان محكما بالأمس متشابها وما كان بيّنا ، مستطرقا طرق الظلام. هذا هو الحدث
الجليل الذي عاد بسيّئاته إلى حوزة الشريعة الغرّاء.
وهذا في أكثرية
النصوص التي تعرّضت لصفاته تعالى الجلال والجمال وشئون الخليقة والتدبير وما شابه.
أمّا المتشابه
الأصل فهو أقلّ القليل من آيات تعرّضت لمعان مستجدّة على العرب هي ذوات مفاهيم
رفيعة ومتوسّعة سعة الآفاق ، كانت القوالب اللفظية ـ الموضوعة عند العرب ـ تضيق عن
حملها والإيفاد بها. ومن ثمّ جاءت في قوالب الاستعارة والتشبيه القاصرة ـ بطبيعة
الحال ـ عن إفادة كمال المراد. وهذا من قصور يعود إلى القابل ولا يمسّ شأن الفاعل
، كما لا يخفى. وقد قدّمنا الكلام عن تفاصيله.
أمّا ولم أودعت
هذه اللّمة من عديد آيات رفيعة المنال ضمن نصوص القرآن الكريم وهي معروضة على
العامّة لتكون بيانا للناس كافّة؟ (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ
وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).
فيعود السبب
إلى كونها ودائع أودعت لدى هذه الامّة لتكون رصيدا لها وذخرا وفيرا في مسيرة
الشريعة الأبدية ، كلّما تقدّم الزمان ظهرت منه آيات بيّنات لتنير الدرب على مدى
الأيّام.
إنّ لهذه
الآيات إشعاعات تشعّ بأطيافها متناسبة مع الظروف والشرائط المؤاتية في كلّ زمان ،
فيوما حسب ظاهرها البدائي على حدّ ترجمة الألفاظ ، ويوما معاني أعمق فأعمق حسبما
تتعمّق العقول وتنضج الأفكار. وهذا من حكمته تعالى حيث جعل من هذه الشريعة شريعة
الخلود. الأمر الذي لم يجعل القرآن ـ حتّى في مثل هذا المتشابه من الآيات ـ يوما
ما في موضع حيرة للامّة لا يعقلون منه شيئا ، نعم ، سوى ما كان منه يحتاج
__________________
إلى تدبّر وتعمّق نظر ومراجعة الآيات المحكمات وهنّ أمّ الكتاب (أي المرجع
النهائي لحلّ المعضلات).
موارد زعموا فيها مخالفات في عود الضمير!
* قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ
دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...).
أتى أوّلا
بضمير التثنية «ائتيا» ، «قالتا» بصورة التأنيث. ثم بضمير الجمع المذكر السالم «طائعين».
وأخيرا بضمير الجمع المؤنّث السالم «فقضاهنّ ...»؟!
* وهكذا قوله
تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ ... ذَواتا أَفْنانٍ ... فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ... فِيهِما
مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ ... مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ ... فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ...).
ثم قال : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ... مُدْهامَّتانِ
... فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ... فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ... فِيهِنَّ
خَيْراتٌ حِسانٌ ...).
في كلا
الموضعين جاء بضمير الجمع المؤنّث السالم بعد تثنية الضمير مكرّرا!
* وقوله تعالى
: (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).
* وقال ـ خطابا
لآدم وحوّاء ـ : (اهْبِطا مِنْها
جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى).
وقال في موضع
آخر : (فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى
حِينٍ).
وتعقّبها بقوله
: (قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
__________________
وقال : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. قالَ
اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها
تُخْرَجُونَ).
في كلّ هذه
المواضع جاء الخطاب فيها أولا بصورة مثنّى ، ثمّ بصورة الجمع!
* وهكذا في
قوله تعالى : (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ).
وقوله تعالى : (كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا
مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).
وقوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ
دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ).
* وجاء في وصف
الجمع المكسّر بجمع المؤنّث السالم : (فِي أَيَّامٍ
نَحِساتٍ) مع العلم بأنّ مفرده «يوم» وهو مذكّر!
* وقال تعالى :
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ).
* وقال : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ ...).
عاد ضمير التأنيث
على الأسماء باعتباره جمع مكسّر. ثم عاد عليها ضمير الجمع المذكّر ثم اسم الإشارة
أيضا بصورة الجمع المذكّر!
* يعبّر تعالى
عن الملائكة بجماعة الذكور في غالبية تعابيره. (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ
الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).
(وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً).
__________________
(وَالْمَلائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ).
لكن نرى أنّه
تعالى قد عبّر عنهم بالجمع المؤنّث السالم في مواضع :
جاء في سورة
المرسلات : (فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً).
وفي سورة
النازعات : (فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً).
وفي سورة
الصافّات : (وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً).
* قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
فقد جاء بجمع
التذكير. لكنّه تعالى في موضع آخر قال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ).
(وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ).
وإليك بعض
الكلام في ذلك :
تغليب جانب ذوي العقول
جرت العادة عند
العرب وجرى عليها القرآن على تغليب جانب الذكور وكذا جانب ذوي العقول إذا كانوا في
الجمع.
وعليه ، فعود
الضمير إلى الأسماء في الآية (٣١ و ٣٣ ـ البقرة) إنّما هو باعتبار المسمّيات دون
نفس الأسماء. وبما فيها من ذوي العقول ، غلّب جانبهم ، فقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ). وقال : (فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ).
* * *
وهكذا في قوله
تعالى في الآية (٤٥ ـ النور) : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ
__________________
يَمْشِي
عَلى بَطْنِهِ ...). لأنّ «كلّ دابّة» يشمل الآدميّين ، فغلّب جانبهم.
كما تقول :
القوم مع دوابّهم مقبلون ، فمنهم من يسرع ومنهم من يبطئ.
قال الزمخشري :
ولمّا كان اسم الدابّة موقعا على المميّز وغير المميّز غلّب المميّز فأعطى ما
وراءه حكمه ، كأنّ الدّوابّ كلّهم مميّزون.
* * *
وعلى هذا
الغرار جرى قوله تعالى في الآية (١١ ـ فصّلت) : (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ). باعتبار ما فيها من ذوي العقول ، ولعلّهم الملائكة
المقرّبون المدبّرون لنظام التكوين. قال قطرب : فغلّب حكم العقلاء.
وجعله الزمخشري
من الاستعارة بالكناية وكان الجمع باعتبار المعنى حيث المراد من السماء هي
السماوات ، وكذا الأرض فيما حسب. وسيأتي كلامه.
استعارة تخييليّة
وهي من أجود
أنواع الاستعارات ، يضمر في النفس تشبيه شيء بشيء ، ثم يذكر أحد طرفي التشبيه
ويذكر له صفة من خواصّ الطرف الآخر ، لتكون دليلا على ذاك التشبيه المضمر في النفس.
مثلا : يشبّه المنيّة بسبع ضار مفترس ، ولا يصرّح بهذا التشبيه ، بل يذكر للمنيّة
التي هي المشبّه أظفار السبع الضاري :
وإذا المنيّة
أنشبت أظفارها
|
|
ألفيت كلّ
تميمة لا تنفع
|
وهذا يسمّى
استعارة تخييلية وبالكناية أيضا.
وفي القرآن من
هذا النوع من الاستعارة كثير.
من ذلك قوله
تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
__________________
فحيث شبّهت الأشياء بمن يلهج بالتسبيح من إنس وجنّ وملك استعير لفظ التسبيح
الذي هو فعل ذوي العقول. ثمّ جرى الكلام على هذا النمط وقال : (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ، أتى بضمير الجمع المذكّر حسب سياق الكلام.
وهكذا جعل
الزمخشري قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) من نوع الاستعارة بالكناية. قال : لما جعلن مخاطبات
ومجيبات ، ووصفن بالطوع والكره ، قيل : طائعين ، في موضع طائعات. فقد شبّهت السماوات والأرض بالكائنات الحيّة العاقلة
الناطقة ، فوصفها بالقول والإطاعة.
قال : وهذا
نظير قوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). لأنّه لمّا وصفها بما هو خاصّ بالعقلاء وهو السجود أجرى
عليها حكمهم كأنّها عاقلة. وهذا كثير شائع في كلام العرب أن يلابس الشيء بشيء من
بعض الوجوه ، فيعطى حكما من أحكامه ، إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة.
وكذا قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ).
عبّر ب «من» ـ وهو
لذوي العقول ـ بنفس الاعتبار. ولذلك جاء الجمع ، جمع المؤنّث السالم.
وعلى نفس
الغرار جاء قوله تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) ضمير جمع المؤنّث حيث تشبيه الجبال بالمسبّحات.
قال الزمخشري
في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : الضمير للشمس والقمر ، والمراد بهما جنس الطوالع كلّ
يوم وليلة. جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار.
قال : وإنّما
جعل الضمير «واو» العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.
__________________
ومن ذلك أيضا
قوله تعالى : (فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ).
قال الزمخشري :
فإن قلت : كيف صحّ مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق؟ قلت : أصل الكلام فظلّوا لها
خاضعين ، فاقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع ... أو لمّا وصفت بالخضوع الذي هو
للعقلاء قيل : خاضعين ، كما تقدّم في قوله «لي ساجدين» من سورة يوسف. وقيل : أعناق
الناس رؤساؤهم ومقدّموهم ، شبّهوا بالأعناق كما قيل لهم : هم الرءوس والنواصي
والصدور. قال شاعرهم :
ومشهد قد
كفيت الغائبين به
|
|
في محفل من
نواصي القوم مشهود
|
والمراد من
نواصي القوم أشرافهم.
ومثله قوله
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ
مَحْذُوراً).
أي الآلهة التي
يعبدها المشركون هم يبتغون إلى ربّهم الوسيلة ويتسابقون كي يتقرّبوا إلى الله ،
فكيف يعبدونها من دون الله؟!
فقد عبّر عنهم
بلفظ جماعة العقلاء ، وذلك لمّا عدّوهم معبودين جرى عليهم ما جرى على العقلاء وله نظائر كثيرة في القرآن :
(إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ
أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ
يَسْمَعُونَ بِها).
(وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا تسبّوا ما يعبده المشركون.
(وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ).
__________________
(وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ).
(وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ).
(قالُوا نَعْبُدُ
أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ).
إلى غيرها من
آيات جرى فيها الوصف مجرى العقلاء ، لما اضمر التشبيه بهم في النفس ، من باب
الاستعارة التخييلية أو الاستعارة بالكناية ، على حدّ تعبيرهم.
مثنّى يراد به الجماعات
كثيرا ما تثنّى
ألفاظ يراد بالواحد منها الجمع دون الفرد الحقيقي ، ولذلك قد يعود عليه بضمير
الجمع نظرا إلى المعنى ، فاللفظ وإن كان مثنّى لكن يراد به الجمعان ، وهما معا جمع
لا محالة.
من ذلك قوله
تعالى : (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). حيث المراد بالخصمين جماعة الكفّار وجماعة المؤمنين. حيث
التخاصم بين الفريقين قائم على ساق. ولذلك تعقّبت الآية بقوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ مِنْ نارٍ ... إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...).
قال الطبرسي :
فالفرق الكافرة خصم ، والمؤمنون خصم ، وقد ذكروا فيما قبل.
* * *
وهكذا خطابات
الجمع الموجّهة إلى آدم وحوّاء يراد بها : آدم وحوّاء وذريّتهما. حيث هبوطهما من
الجنّة إلى الأرض هبوط ذرّيّتهما الذين سيولدون منهما أيضا. فالخطاب مع الجمع ـ جماعة
بني الإنسان ـ وليس آدم وحوّاء وحدهما.
__________________
بدليل ذيل
الآيات : (قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
(قالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى
حِينٍ. قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ).
وقد وهم من زعم
أنّ الخطاب يشترك فيه إبليس أو الحيّة أو غيرهما ، حيث لا تناسب له مع سياق الآيات.
* * *
قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). زعموا فيه تهافتا ، وكان الوجه أن يقال : اقتتلا ، أو
بينهم. فجمع الضمير ثمّ تثنيته تهافت.
لكن الجمع
إنّما هو باعتبار أن الاقتتال يقع بين آحاد المؤمنين من كلّ طائفة. أمّا التصالح
فإنّما هو بين الفريقين لا الآحاد.
جمع يراد به الاثنان فما فوق
قد يعبّر بلفظ
الجمع ويراد به مطلق الجمع ، أي الجمع العرفي الصادق من اجتماع اثنين فما فوق ،
نظير ضمير المتكلّم مع الغير ، يراد به الاثنان فما فوق. وهذا شائع في سائر اللغات
التي لا توجد فيها صيغ للتثنية. والعرب قد تستعمل ذلك حسب العرف العامّ ونظرا
للمعنى اللغوي للجمع الصادق مع الاثنين.
قال الطبرسي :
والعرب تسمّي الاثنين بلفظ الجمع في كثير من كلامهم. حكى سيبويه أنّهم يقولون :
وضعا رحالهما ، يريدون رحلي راحلتيهما. وقال تعالى : (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ). يعني : حكم داود وسليمان.
__________________
قال سيبويه ـ في
باب ما لفظ به ممّا هو مثنّى كما لفظ بالجمع ـ : وهو أن يكون الشيئان كلّ واحد
منهما بعض شيء مفرد من صاحبه ، وذلك قولك : ما أحسن رءوسهما ، وما أحسن عواليهما. وقال
عزوجل : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما). (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فرّقوا بين المثنّى الذي هو شيء على حدة وبين ذا. وقال
الخليل : نظيره قولك : فعلنا ، وأنتما اثنان فتكلّم به كما تكلّم به وأنتم ثلاثة.
وقد قالت العرب
في الشيئين اللّذين كلّ واحد منهما اسم على حدة وليس واحد منهما بعض شيء ، كما
قالوا في ذا (أي فيما كان كلّ واحد منهما بعض شيء) لأنّ التثنية جمع ، فقالوا كما
قالوا فعلنا. وزعم يونس أنّهم يقولون : ضع رحالهما وغلمانهما ، وإنّما هما اثنان. قال
الله عزوجل : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا
بِالْحَقِ). وقال : (كَلَّا فَاذْهَبا
بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).
* * *
وفي كتاب «إعراب
القرآن» المنسوب إلى الزجّاج جاء الباب الثامن والأربعون لبيان ما جاء في القرآن من
الجمع يراد به التثنية.
فمن ذلك قوله
تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). وأجمعت الامّة على أنّ الأخوين يحجبان الامّ من الثلث
إلى السدس بدلالة الآية.
وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي يديهما.
وقوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) أي قلباكما.
وقيل في قوله
تعالى : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ) : إنّه من هذا الباب ، لقوله تعالى :
__________________
(رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).
وقوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ). والمتقدّم : داود وسليمان.
وهكذا قال أبو
البقاء العكبري : قيل : إنّما جمع لأنّ الاثنين جمع.
قال أبو جعفر
الطبري : قال جماعة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام
في كلّ زمان : عنى الله جل ثناؤه بقوله (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، انثيين كانتا أو كنّ
إناثا ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا ، أو كان أحدهما ذكرا والآخر انثى. واعتلّ
كثير ممّن قال ذلك بأنّ ذلك قالته الامّة عن بيان الله جلّ ثناؤه على لسان رسوله صلىاللهعليهوآله ، فنقلته أمّة نبيّه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه ودفع
الشكّ فيه عن قلوب الخلق وروده.
* * *
وقال أبو بكر
الجصّاص : إنّ اسم الإخوة قد يقع على الاثنين ، كما قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) وهما قلبان. وقال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ثمّ قال تعالى : (خَصْمانِ بَغى
بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) فأطلق لفظ الجمع على اثنين. وقال تعالى : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً
وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما.
وقد روي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «اثنان فما فوقهما جماعة».
ولأنّ الاثنين
إلى الثلاثة في حكم الجمع أقرب منهما إلى الواحد ، لأن لفظ الجمع موجود فيهما.
__________________
وقد روي [وبإسناد
صحيح] عن زيد بن ثابت أنّه كان يحجب الامّ بالأخوين ، فقالوا له : يا أبا سعيد ،
إنّ الله تعالى يقول (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ) وأنت تحجبها بالأخوين؟ فقال : إنّ العرب تسمّي الأخوين
إخوة.
فإذا كان زيد
بن ثابت [وهو عربيّ صميم] قد حكى عن العرب أنّها تسمّي الأخوين إخوة فقد ثبت أنّ
ذلك اسم لهما يتناولهما ...
قال تعالى : ـ بشأن
الأولاد ـ : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ). فقد شملت النساء ـ وهي صيغة الجمع ـ للاثنتين فما فوق. ومن
ثمّ كان معنى قوله «فوق اثنتين» : اثنتين فما فوق. وذلك بدليل تقابله مع قوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ). وإلّا كانت الاثنتان مغفولا عنهما ، الأمر الذي لا
يتّفق مع كون سياق الكلام لبيان الاستيعاب.
ويشهد لذلك
قوله تعالى بشأن الكلالة : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. وَهُوَ يَرِثُها إِنْ
لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا
تَرَكَ). والمراد : الاثنتان فما فوق ، بدليل الإجماع في كلا
الموضعين.
ذكر الطبرسي في
الآية الاولى وجوها ، أحدها ـ وهو أوجهها ـ : أنّ في الآية بيان حكم البنتين فما
فوق ، لأنّ معناه : فإن كنّ اثنتين فما فوق فلهنّ ثلثا ما ترك ، إلّا أنّه قدّم
ذكر الفوق على الاثنتين ، كما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيّام إلّا
ومعها زوجها أو ذو محرم لها.
ومعناه : لا
تسافر سفرا ثلاثة أيّام فما فوقها.
__________________
هذا الحديث ورد
بألفاظ يختلف بعضها عن بعض ، فكان مقتضى الجمع بينها هو الحكم بأنّ الزائد على
اليومين حرام عليها إلّا مع ذي رحم.
ففي سنن
البيهقي : «لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيّام إلّا مع ذي محرم».
وفي لفظ أبي
داود : «لا يحل لامرأة ... أن تسافر سفرا فوق ثلاثة أيّام فصاعدا إلّا ومعها أبوها
، أو أخوها ، أو زوجها ، أو ابنها ، أو ذو محرم منها».
وأيضا روي : «لا
تسافر المرأة ثلاثا إلّا ومعها ذو محرم».
وفي لفظ ابن
ماجة : لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيّام فصاعدا إلّا مع ...».
وفي البخاري : «لا
تسافر المرأة ثلاثة أيّام إلّا مع ذي محرم». وجاء في الهامش : وفي نسخة «فوق ثلاثة
أيّام».
وأيضا روي : «لا
تسافر المرأة يومين إلّا ومعها زوجها أو ذو محرّم». «لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلّا ومعها زوجها أو ذو محرم».
ومقتضى الجمع
بين مختلف التعابير أنّ النهي إنّما يتوجّه إليها فيما بعد اليومين. ومن ثمّ فهم
الفقهاء من قوله صلىاللهعليهوآله : «فوق ثلاثة أيّام» الثلاثة فما فوق.
يجوز في جماعة غير ذوي العقول اعتبار جمع التأنيث
قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ). جاء وصف الأيّام ـ وهو جمع مكسّر ل «يوم» الذي هو مذكّر
حيث قوله تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ
مُسْتَمِرٍّ) بجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء).
__________________
قال أبو حيّان
الأندلسي : و «نحسات» صفة لأيّام ، جمع بألف وتاء ، لأنّه جمع صفة لما يعقل.
قال الزمخشري ـ
في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... الَّذِي
خَلَقَهُنَ) ـ : الضمير في «خلقهنّ» للّيل والنهار والشمس والقمر ، لأنّ
حكم جماعة ما لا يعقل حكم الانثى أو الإناث. يقال : الأقلام بريتها وبريتهنّ.
قال المحقّق
رضي الدين الأسترآبادي ـ بشأن الجمع غير العاقلين ـ : هو ثلاثة أقسام ، مذكّر لا
يعقل كالأيّام والجبيلات. ومؤنث يعقل كالنسوة والزينبات. ومؤنّث لا يعقل كالدور
والظلمات. فيجوز أن يكون ضمير جميعها الواحد المؤنّث الغائب ، بتأويل الجماعة. وأن
يكون النون (نون جمع المؤنّث) لكونها جمع غير العاقلين ، وقد تقدّم [عند الكلام عن
الضمائر] أنّ النون موضوع له. فنقول : الأيّام والجبيلات ، والنساء والزينبات ،
والدور والغرفات ، فعلت وفعلن ...
* * *
وأمّا وصف
الملائكة بصيغة الجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء) ـ في المرسلات ، والنازعات ،
والصافّات ، والذاريات ـ فباعتبار كون الموصوف هم جماعات الملائكة.
فقوله : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) أي الجماعات الملقيات ، جمع جماعة الملائكة. وكذا قوله
: (فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً).
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً). وهكذا قوله : (فَالْمُقَسِّماتِ
أَمْراً).
وقوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ
عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ). صافّات : حال من الطير ، باعتباره اسم جنس جمع ، فهو
كالجمع المكسّر لغير ذوي العقول.
__________________
ومثله قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِناتُ الْجِيادُ). أي الخيل الصافنات ، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم
، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض.
التعبير عن العقلاء ب «ما» الموصولة
فقد جاء في
القرآن الكريم مواضع استعمل فيها «ما» الموصولة فيمن يعقل :
منها قوله
تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).
وقوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ).
وقوله : (وَالسَّماءِ وَما بَناها).
وقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا
أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ).
وقوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ).
وقوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ).
وقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).
وقد تخلّص أهل
الأدب من ذلك من وجوه :
الأول : جواز
استعمال «ما» الموصولة فيمن يعقل جوازا مطّردا وإن كان غير غالب.
قال أبو البقاء
العكبري : «ما» هنا بمعنى من. ولها نظائر في القرآن.
وجاء في
الكافية لابن حاجب : و «ما» في الغالب لما لا يعلم ، وقد جاء في العالم قليلا. حكى
أبو زيد : سبحان من سخّركنّ لنا وسبحان ما سبّح الرعد بحمده. وقال تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).
__________________
الثاني : أنّ
الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء. وهذا أبعد الوجوه.
الثالث ـ وهو
الأوجه ـ : أنّه إجراء على الصفة لا على الذات.
قالوا : و «ما»
تختصّ أو تغلب في غير العقلاء فيما إذا اريد الذات ، وأمّا إذا اريد الوصف فلا. كما
تقول : ما زيد ـ في الاستفهام ـ أي أفاضل أم كريم. وأكرم ما شئت من الرجال ، تعني
الكريم أو اللئيم.
قال الفرّاء :
قال تعالى (ما طابَ لَكُمْ) ولم يقل «من طاب». وذلك أنّه ذهب إلى الفعل (أي الوصف) [أي
فانكحوا الطيّبات من النساء]. كما قال : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) يريد : أو ملك أيمانكم.
ولو قيل في
هذين «من» كان صوابا ، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول في الكلام : خذ من
عبيدي ما شئت ، إذا أراد مشيئتك ، فإن قلت : «من شئت» فمعناه : خذ الذي تشاء.
وهكذا قال أبو
البقاء : وقيل : «ما» تكون لصفات من يعقل ، وهي هنا كذلك ، لأنّ «ما طاب» يدلّ على
الطيب منهنّ.
وقال الزمخشري
: وقيل : «ما» ذهابا إلى الصفة.
قل رضيّ الدين
الأسترآبادي : وتستعمل أيضا في الغالب في صفات العالم نحو : زيد ما هو وما هذا
الرجل ، فهو سؤال عن صفته. والجواب : عالم أو غير ذلك. قال : وقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ). يجوز أن يكون سؤالا عن الوصف ، ولهذا قال موسى عليهالسلام (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ).
قال الزمخشري ـ
ردّا على من زعم أنّ «ما» في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها. وَالْأَرْضِ وَما طَحاها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها). مصدريّة ـ : وليس بالوجه ، لقوله (فَأَلْهَمَها) ، وما
__________________
يؤدّي إليه من فساد النظم. قال : والوجه أن تكون «ما» موصولة ، وإنّما
اوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية ، كأنّه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي
بناها. ونفس ، والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها. وفي كلامهم : سبحان ما سخّركنّ
لنا.
وقال ـ في
تفسير سورة الكافرون ـ : فإن قلت : فلم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت : لأنّ المراد
الصفة ، كأنّه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحقّ.
وقال الطبرسي ـ
في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ) ـ : إنّه يجوز أن يكون ذهب به مذهب الجنس ، كما يقول
القائل : لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء. فيذهب مذهب الجنس ثم يفسّره ب «من».
وأقول ـ توضيحا
لذلك ـ : إنّ «ما» قد يراد به الذات ، فذلك الغالب أن يقع على غير ذوي العقول. ولكن
قد يقع على ذوي العقول مرادا به الوصف لا الذات ، فذلك هو الشائع واستعمله القرآن.
ومنه السؤال عن الماهية أيضا ، يؤتى بما دون «من» وإن كان سؤالا عن ماهية عاقل
فيقال : زيد ما هو ، وما هذا الرجل. فإنّ السؤال عن شخصيّته وعن تكوينه الذاتي في
أوصافه الخاصّة ، وليس المراد السؤال عن معرفة شخصه ، فلا يصحّ أن يقال في الجواب
: إنّه ابن فلان أو من آل فلان. بل ينبغي أن يجاب بما يعرّف شخصيّته الذاتية وأن
يؤتى بأوصاف تخصّه.
نعم ، لو اريد
السؤال عن شخصه كان يجب أن يقال : من هو ، فيجاب بأنّه ابن فلان أو من آل فلان.
وفي الحديث عن
أبى الحسن موسى بن جعفر عن آبائه عليهمالسلام قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوآله المسجد ، فإذا جماعة قد أطافوا برجل. فقال : ما هذا؟
فقيل : علّامة. قال : وما العلّامة؟ قالوا : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها
وأيّام الجاهلية وبالأشعار والعربية. فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ، ولا ينفع من علمه.
__________________
ومنه قوله
تعالى ـ حكاية عن فرعون ـ : (وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ). وذلك لمّا دعاه موسى عليهالسلام إلى شريعته وقال : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ). عاد عليه فرعون وسأله عن سمات هذا الربّ والتي جعلته
ربّا للعالمين ، ولم يسأله عن ذاته المقدّسة وعن اسمه الخاصّ. وإلّا لكان حقّ
الجواب أن يقول موسى عليهالسلام : الله ، بل أجابه بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُمَا ... رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) وفيه تعريض بفرعون ، حيث ادّعى الربوبيّة ، لأنّ له ملك
مصر ، وأنّ أنهارها تجري من تحته. فهو يملك ـ فيما زعم ـ رقعة من الأرض وليست كلّها وفي
مقطع من الزمان لا في كلّ الأزمان ، ولاناس معدودين وليس كلّ الخلائق من الأوّلين
والآخرين.
والخلاصة : إنّ
التعبير ب «ما» عن الشيء قد يكون تعريفا بعين ذاته ، فهذا ما يغلب استعماله في غير
ذوي العقول. وقد يكون تعريفا بصفاته وعناوينه التي كوّنت شخصيّته الخاصّة ، فهذا
يعمّ ويغلب استعماله في العقلاء أيضا. وقد جاءت تعابير القرآن على هذا النمط ،
وجاريا على أساليب كلام العرب الفصيح.
وعليه ، فكان
قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) تعبيرا عن الطيّبات من النساء ، أي فانكحوا الطيّب من
النساء. قال مكّيّ بن أبي طالب : أي فانكحوا الطيّب أي الحلال. و «ما» تقع لما لا
يعقل ، ولنعوت ما يعقل ، ولذلك وقعت هنا لنعت ما يعقل.
وكذا قال ـ في
قوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) ـ : وقعت «ما» لمن يعقل ، لأنّ المراد بها صفة من يعقل.
قال : و «ما» يسأل بها عمّا لا يعقل وعن صفات من يعقل.
قال الفرّاء : (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد : أو ملك أيمانكم.
__________________
فإنّه عنى
الطيّبات ، ثم بيّنه بقوله : «من النساء». كما أنّه عنى المملوك ثم بيّنه بالفتيات
وكذلك قوله (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ ...) فإنّه عنى جانب الاستمتاع ، ثمّ جاء البيان بالنساء. ومثله
قوله (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) أي ما وقع في نكاحهم ، ثم بيّنه بقوله : «من النساء».
وقال الزمخشري
ـ في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها ...) ـ : جعلت «ما» مصدريّة ، وليس بالوجه ، لقوله «فألهمها»
، وما يؤدّي إليه من فساد النظم. والوجه : أن تكون موصولة ، وإنّما اوثرت على «من»
لإرادة معنى الوصفية ، كأنّه قال : والسماء والقادر العظيم الذي بناها. ونفس والحكيم
الباهر الحكمة الذي سوّاها. وفي كلامهم : «سبحان ما سخّركنّ لنا». وقال ـ في قوله (لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ـ : فإن قلت : لم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت : لأنّ
المراد الصفة ، كأنّه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحقّ.
وقال ـ في قوله
(وَما خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ـ : والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر
والانثى من ماء واحد. وقرأ ابن مسعود : والذي خلق الذكر والانثى. تبيينا لموضع «ما» وأنّها موصولة.
قال الفرّاء :
كلّ هذا ـ أي التعبير ب «ما» عن العقلاء فيما ذكر من الآيات ـ جائز في العربية.
ضمائر تخالف مراجعها
قال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).
__________________
فقد شبّه
المنافقون ـ في حالتهم المزرية ـ بالذي استوقد نارا لإنارة الطريق ، لكنّه افتقدها
فور الوقود. ومن ثمّ كان يجب ـ حسب الظاهر ـ إفراد الضمائر كلّها ، حيث عودها على
المشبه وهو مفرد!
لكن هذا من باب
تناسي التشبيه ـ كما في الاستعارة المرشّحة ـ كما في قول أبي تمام من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد
الشيباني ويذكر أباه. وهذا البيت في مدح أبيه وذكر علوّ قدره ورتبته :
ويصعد حتّى
يظنّ الجهول
|
|
بأنّ له حاجة
في السماء
|
استعار الصعود
لعلوّ القدر والارتقاء في مدارج الكمال ، ثمّ بنى عليه ما يبني علوّ المكان
والارتقاء في السماء. فلولا أنّ قصده أن يتناسى التشبيه ويصرّ على إنكاره فيجعله
صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية ، لما كان لهذا الكلام وجه.
ونحوه قول أبي
الفضل ابن العميد في غلام جميل قام على رأسه ليستره عن الشمس :
قامت تظلّلني
من الشمس
|
|
نفس أعزّ
عليّ من نفسي
|
قامت تظلّلني
ومن عجب
|
|
شمس تظلّلني
من الشمس
|
فلولا أنّه
تناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا التعجّب.
وكذا قول أبي
الطباطبا العلوي في وصف غلام صبيح :
لا تعجبوا من
بلى غلالته
|
|
قد زرّ
أزراره على القمر
|
فلولا أنّه
تناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا النهي عن التعجّب.
ونظيره ما جاء
في نفس التشبيه ـ من غير استعارة ـ كما في قول عباس بن الأحنف في قصيدة يصف فيها
محبوبته ، يخاطب نفسه :
__________________
هي الشمس
مسكنها في السماء
|
|
فعزّ الفؤاد
عزاء جميلا
|
فلن تستطيع
إليها الصعودا
|
|
ولن تستطيع
إليك النزولا
|
فقد شبّهها
بالشمس تشبيها صريحا من غير أن يطوي ذكر المشبّه به ، ومع ذلك فقد تناسى التشبيه ،
وبنى على المشبّه ما هو من شأن المشبّه به.
وقوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي خضتم في الكفر والعناد كالذي خاضوه. فالعائد محذوف. وهذا
من تشبيه الخوض بالخوض ، لا الخائضين بالخائضين. وهو من حسن التشبيه حيث وقع بين
الفعلين لا الفاعلين.
وقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). المراد به الجنس وهو عامّ في مفهومه يشمل الواحد
والكثير ، وبما أنّ الآية ذات مصاديق كثيرة لوحظ المعنى ليعمّ الحكم من غبر ومن حضر
ومن يأتي من بعد.
وقوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ
لَكُما ... أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ...). المراد به الجنس أيضا. وهو نوع من الالتفات اللطيف ،
حيث يبدأ الكلام بمفرد ، لكنّ المتكلّم ـ حيث أراد الجنس لا الفرد الخاصّ ـ ينحو
بكلامه إلى جانب العموم وإرادة الشمول.
وهنا بشأن هذه
الآية حكاية ظريفة : زعمت بنو اميّة وبنو مروان أنّها نزلت بشأن عبد الرحمن بن أبي
بكر. وحينما كتب معاوية إلى عامله بالمدينة مروان بن الحكم بأن يبايع الناس ليزيد
قال عبد الرحمن : لقد جئتم بها هرقليّة ، تبايعون لأبنائكم! فقال مروان : أيّها
الناس ، إنّ هذا هو الذي قال الله فيه (وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ...) فسمعت عائشة ، فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت
أن اسمّيه لسمّيته. ولكنّ الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله.
__________________
ما يستوي فيه المفرد والجمع
من ذلك لفظ «الطاغوت»
يقع على الواحد والجمع :
* قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). وقال : (يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ). جاء في التفسير أنّه أراد : كعب بن الأشرف رأس اليهود.
وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ
أَنْ يَعْبُدُوها). أراد به الأصنام.
قالوا : هو في
الأصل مصدر «طغى» ، وأصله : طغيوت ، على وزان : فعلوت ، مثل : الرهبوت ، والرحموت.
فقدّم الياء وأبدل منها ألفا فصار طاغوت.
* ومن ذلك قوله
تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ. إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).
ومثله قوله : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي
خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...).
والمراد
بالإنسان هنا الجنس الذي يطلق على الواحد والجمع سواء ، بدليل الاستثناء هنا.
* قال تعالى : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً
تَهْجُرُونَ). قال الزمخشري : والسامر ، نحو الحاضر في الإطلاق على
الجمع. وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون. وكانت عامّة سمرهم ذكر القرآن
وتسميته سحرا وشعرا ، وسبّ النبيّ صلىاللهعليهوآله. و «تهجرون» من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر ـ بالضمّ
ـ : الفحش. وبالفتح : الهذيان.
* ومنه «الفلك»
يطلق على المفرد والجمع ، قال تعالى في المفرد : (وَمَنْ مَعَهُ فِي
__________________
الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) وقال في الجمع : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ
فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فهو في المفرد كقفل ، وفي الجمع كاسد.
وقوله (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ) ، يحتمل المفرد والجمع ، وذلك لأنّ «الفلك» يذكّر ويؤنّث.
فيحتمل في ضمير التأنيث أن يكون لذلك ، أو لإرادة الجمع.
* ومنه ما جاء
مفردا بلفظة التمييز أو الحال أو المفعول به ، ويراد به الجمع ، لا باعتبار
المجموع ، بل باعتبار كلّ واحد منهم : قال تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً). أي أنفسا ، والمراد : كلّ واحدة نفسا. وقال : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). أي رفقاء ، والمراد : كلّ واحد رفيقا.
قال الزمخشري :
والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه. ويجوز أن يكون مفردا بيّن
به الجنس في باب التمييز.
وقال : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً). أي أطفالا ، والمراد : كلّ واحد طفلا.
وقال : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي
وَكِيلاً). أي وكلاء.
وقال : (خَلَصُوا نَجِيًّا). أي أنجياء أو أنجية.
قال الزمخشري :
ويجوز أن يقال : هم نجي كما قيل : هم صديق ، لأنّه بزنة المصادر.
* ومنه لفظ «العدوّ».
فإنّه يطلق على الواحد والجمع على سواء. قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي).
قال الراغب :
يقال : رجل عدوّ ، وقوم عدوّ. قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ
__________________
اللهُ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
(وَهُمْ لَكُمْ
عَدُوٌّ).
* وقال تعالى : (فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). أي أصدقاء أحمّاء.
__________________
الباب الخامس
القصص القرآني
على منصّة التحقيق
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ)
القصّة :
الحديث. الخبر. الأمر الحادث. الاحدوثة. الشأن. الحال. جمعها : قصص ، والمصدر قصص.
يقال : قصّ
عليه الخبر قصصا ، إذا حدّثه به. والقصّ والقصص : تتّبع الأثر. يقال : قصصت أثره
أي تتبّعته. قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى
آثارِهِما قَصَصاً) ، أي رجعا إلى الوراء ليستعلما الحال. وقال ـ على لسان أمّ موسى ـ : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ). أمرتها بالفحص وتتبّع أثره ، ولتنظر من يأخذه من الماء.
وقصص القرآن :
أخباره عن أحوال الماضين ، من امم وأنبياء سالفين. وعن
__________________
حوادث واقعة في سوالف الأيّام ، ممّا فيه العبر والاعتبار للباقين.
وللقصّة أثرها
المباشر في النفوس وآكد في التربية والتعليم ممّا لو كان الكلام عاريا عن شواهد
وأمثال. ذلك أنّ النفوس تهفو إلى معرفة ما بين الأحداث وعللها وأسبابها من ربط. وكذا
بينها وبين النتائج المترتّبة عليها من علاقة وثيقة. فلو أنّ المتكلّم أبان وجه
العلل والأسباب ، وكشف عن النتائج الحاصلة بشكل مستدلّ متين ، ووضع يده على مواضع
العبر منها وذوات الاعتبار ، لكان قد اقترب من غايته في تأثير النصح والإرشاد ، في
أقرب طريق وأفضل اسلوب مؤثّر.
قال نظام الدين
النيشابوري القمي ، صاحب التفسير : الإنسان قد يذكر معنى فلا يلوح له مبلغ تأثيره
ولا مدى تفهيمه كما ينبغي ، حتّى إذا شفّعه بشاهد مثال ولا سيّما قصص الماضين ـ فيما
إذا كان بصدد الوعظ والإرشاد ـ فتراه كلاما ذا وقع وتأثير حسبما يراد. ذلك أنّ في
الطباع محاولة المحاكاة مع المشهود من جمال أو كمال. فإذا ذكر المعنى وحده كان قد
أدركه العقل ، ولكن مع منازعة الخيال ومحاولة رفضه في بادئ الأمر ، أمّا إذا شفّع
بذكر شاهد من أحوال الماضين وذكرت الأسباب المؤاتية والنتائج الحاصلة منها ، رغبت
النفس في لمسه في ذات ضميره ، فيكون أوقع في النفس وأقرب إلى القبول وإمكان
التأثير. ومن ثمّ كان من الضروري الإكثار في القرآن من ذكر القصص والأمثال ، فإنّه
الكتاب الّذي انزل تبيانا لكلّ شيء وهدى ورحمة للعالمين.
وقال الإمام
الرازي ـ بصدد بيان فائدة ذكر قصص الأنبياء في القرآن ـ :
إنّه سبحانه
لمّا بالغ في تقرير الدلائل والبيّنات وفي الردّ على شبهات المعاندين ، شفّعها
بذكر أحوال الامم السالفة ومواضعهم من الأنبياء ، لغرض أنّ الكلام إذا طال في
تقرير نوع من أنواع المعارف ، فربّما حصل نوع من الملال ، وليس إذا حصل انتقال من
نوع إلى نوع ، ليزيد طراوة وينشط من رغبة السامعين.
وأيضا ليكون
الرسول صلىاللهعليهوآله والمؤمنون في تسلية عمّا يواجهوه من أذى الأعداء ،
__________________
وليتأسّوا بمن سلف من الأنبياء والصالحين.
وكذلك ليكون
تنبّها للجهّال المعاندين ، فلينظروا في أحوال الماضين من آبائهم وليعتبروا بما
اصيبوا من الفشل والخسران ، وأنّ الله تعالى لينصر أولياءه ويكون جنده هم الغالبين.
وأخيرا فإنّها
معجزة قرآنيّة يذكر قصص الماضين نقيّة وسليمة من أكدار التحريف والتشويه ، على يد
نبيّ أمّي لم يكتب ولم يقرأ الكتب.
اسلوب القصّة في القرآن
إنّ اسلوب
القصّة في القرآن جاء متميّزا عن الاسلوب المعروف للقصّة في التراث الأدبي
والإنساني ، حيث يكتفي القرآن الكريم بذكر الأحداث بشكل مقتطفات وبصورة إجماليّة
أحيانا تاركا التفاصيل ، وأحيانا بشكل متقطّع غير موصول ، واضعا يده على نقاط هي
بيت القصيد من القصّة ، وفي الأغلب بشكل الاستطراد في التعرّض لمفاهيم وحقائق
وموضوعات عقائديّة أو أخلاقيّة أو كونيّة (سنن الطبيعة) أو شرعيّة ، وغير ذلك من
الخصوصيّات التي قد تثير ملاحظة كبيرة حول اسلوب القصّة في القرآن الكريم. وبذلك
تخرج عن كونها عملا فنيّا مستقلّا له مميّزاته الخاصّة.
وهذا يعود إلى
أنّ القرآن كتاب هداية ، وإنّما استخدم الفنّ لغايته في أمر الهداية ، ومن ثمّ
فإنّه يقتصر على موضع الحاجة منه في سبيل تحقيق هدفه الخاصّ ، ولا يعيره اهتماما
فيما لا يعود إلى هذا الجانب بالذات.
وشيء آخر ، كان
اسلوب القرآن اسلوب خطاب لا اسلوب كتاب ـ كما نبّهنا ـ فلا ملزم له بسرد القضايا بانتظام وانسجام والإتيان
بالتفاصيل والجزئيّات ، كما هو شأن الكتاب ، فلا يراعي فيما يقصّ من قصص ترتيبها
الزمني ولا التواصل في ذكر حادثة ، بل
__________________
ينتقل من حدث إلى آخر ، ثمّ يأخذ بالتجوال حسب اقتضاء الكلام.
ومن ثمّ
فالقرآن يجري في ذكر الحادثة على اسلوبه الخاصّ في ذكر سائر المواضيع من المزج
والالتقاط وضمّ بعض الموضوعات والمفاهيم إلى بعض ، لمناسبة يراها مقتضية ، وبذلك
يخرج عن أساليب الكتب المدوّنة ، لا لشيء إلّا لأنّه كلام صيغ على اسلوب الخطاب ،
وفي فسحة عمّا يتقيّد به اسلوب الكتاب. فهو يمزج الحقائق الكونيّة بالمعارف
العقائديّة ، وبالأحكام الشرعيّة ، وبالموعظة والإرشاد والتبشير والتحذير ،
والعواطف والمشاعر والأحاسيس بالعقل والإدراك.
كما أنّه قد
يكرّر الموضوعات والمفاهيم بصيغ متنوّعة وفي سياقات مختلفة ، كلّا حسبما يقتضيه
المقام وناسب اتجاه الهدف من ذكر القصّة. وفي كلّ مرّة قد يزيد أو ينقص ، وقد يوجز
أو يطنب حسب المناسبة ، ومن ثمّ فله اسلوبه الخاص خارجا عن أساليب القصّة في الأدب
الرائج.
ميزات القصّة في القرآن
تمتاز القصة في
القرآن في نقطتين أساسيّتين : الاولى تحرّي جانب الصدق والواقعيّة ، وليس مجرّد
تخييل. الثانية جانب الهدف والغرض الذي جاء من أجله القصص في القرآن. فالقرآن لم
يتناول القصّة باعتبار أنّها عمل فنّي ، ولم يأت بها من أجل الحديث عن الماضين ،
أو للتسلية أو المتعة كما يفعل المؤرّخون والقصّاصون. وإنّما كان الغرض من القصّة
في القرآن هو : المساهمة مع جملة الأساليب العديدة الاخرى التي استخدمها القرآن ،
لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينيّة والتربويّة ، وكانت القصّة القرآنيّة من أهمّ هذه
الأساليب!
وانطلاقا مع
هذه الفكرة وعلى هذا الأساس ، يمكن أن نحدّد الفرق بين القصص القرآني وغيره من
القصص ببعض النقاط التي تشكّل الميزات والخصائص والصفات الرئيسيّة للقصص القرآني ،
ويمكن أن نجد هذه الخصائص قد اشير إليها في القرآن الكريم
في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ. ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
حيث يمكن أن
نفهم من هذه الآية اتّصاف القصص القرآني بالواقعيّة والصدق والحكمة والتربية
الناجحة :
أولا ـ الواقعيّة
، بمعنى ذكر الأحداث والقضايا والصور التي لها علاقة بواقع الحياة الإنسانيّة
ومتطلّباتها المعاشة في مسيرة التاريخ الإنساني ، مقابل أن تكون القصّة في القرآن
إشارة وتعبيرا عن الصور ، أو الخيالات ، أو الأماني ، أو الرغبات التي يطمح إليها
الإنسان ، أو يتمنّاها في حياته.
ذلك لأنّ
القرآن الكريم يريد من ذكر القصّة وأحداثها ، إعادة النظر في التأريخ الإنساني
والقضايا الواقعيّة التي جرّبتها البشرية في حياتها ، والتي عاشتها الامم
والرسالات الإلهيّة السالفة ، والتي تبيّنت محاسنها عن مساوئها ، وليؤخذ منها
الاعتبار في الحاضر المعاش ، فلا يجرّب ما جرّبته الآباء وحلّت بهم الندامة من قبل.
أمّا إذا
انفصلت القصّة عن هذا الواقع ، وكانت مجرّد تسلية وسرد أحداث التاريخ الماضي ومن
غير نظر الاعتبار بها ، فهذا أشبه بكتب الأساطير منها بكتب التربية والأخلاق.
والإنسان في
مسيرته التكامليّة ، بحاجة إلى أن ينطلق مع الواقع نحو الطموحات والكمالات ، وبدون
ذلك (بلا درس واقعه في الماضي والحال) سوف ينفصل هذا الإنسان عن واقعه الراهن ،
فيضيع في متاهات الآمال والتمنّيات ، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحالة في
الإنسان عند ما تحدّث عن اليهود : (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ).
وعندئذ (عند ما
خاض الإنسان في أمانيه من غير ملاحظة واقعه) لا يصل الإنسان إلى أهدافه وآماله
العليا. لأنّ من لا ينطلق في اتجاه المسير من البداية فلا يبلغ النهاية.
__________________
ومن هنا نجد
القرآن الكريم يحاول أن يعالج من خلال القصّة ، الواقع الّذي كان يعيشه المسلمون
في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله فيذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحية ،
كما يعالج الواقع الذي سوف تعيشه الأجيال والعصور الإنسانيّة المستقبليّة من ناحية
اخرى.
وهذا هو الذي
يفسّر لنا ما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام من قولهم : «إنّ القرآن يجري كما تجري الشمس والقمر ،
كلّما جاء منه شيء وقع».
وأنّ القرآن
حيّ مع الأبد ، لا يموت مع من نزل في شأنهم بالذات. فإنّ انطباق هذا الكلام على القصص والأحداث ذات العلاقة
بالأنبياء وأقوالهم أو بالتاريخ الماضي ، إنّما هو بلحاظ هذا البعد والصفة في
القصّة القرآنيّة.
ولعلّ في الآية
السالفة (لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) إشارة إلى هذه الصفة في القصص القرآني بوجه عام.
ثانيا ـ تحرّي
الصدق في ذكر الأحداث والوقائع التاريخيّة التي تعرّض لها الأنبياء وأقوامهم في
حياتهم. وذلك في مقابل الأكاذيب والانحرافات في الفهم والسلوك أو الخرافات التي
اقترنت بقصص الأنبياء والامم السالفة حسبما سجّلت «مشوّهة ومحرّفة» في كتب العهدين
بالذات ، على أثر ضياع وتحريف للحقائق عن قصد أو بدون قصد أو اشتباه أو جهل.
فما ورد في
القرآن من أخبار وحوادث هي امور وحقائق ثابتة ليس فيها كذب أو خطأ أو اشتباه ، كما
حصل في الكتب السالفة. ذلك لأنّ القرآن وحي إلهيّ ، والله لا يعزب عن علمه ذرّة في
السماء والأرض ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والحاضر والماضي والمستقبل
لديه سواء. ويؤكّد على هذه الحقيقة قوله تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً
يُفْتَرى)!
__________________
وشيء آخر لعلّه
أهم ، وهو : أنّ الأخذ بعبر التاريخ إنّما يصحّ إذا كان إخبارا عن صدق ، ذلك لأنّه
أخذ بتجارب مرّت على حياة الإنسان ، إن حسنة أو سيّئة ، ولا تجربة إلّا إذا كانت
واقعة ، لا مجرّد فرض وتخييل!
والقرآن ، حتّى
في ضرب الأمثال ، إنّما يضع يده على حقائق مرّت على حياة الإنسان ، لغرض العبرة
بها (كي لا تتكرّر إذا كانت مريرة ، ولتتداوم إذا كانت جميلة) ولا عبرة بمجرّد
خيال لا واقع له.
ثالثا ـ التربية
على الأخلاق الإنسانيّة العالية ، في مقابل التركيز على الأحاسيس والانفعالات في
شخصيّة الإنسان ، والتربية على الاهتمام بالغرائز. وإنّما اتّصفت في القرآن
بالأخلاقيّة ، لأنّ المسيرة والحركة التكامليّة للإنسان ـ سواء على مستوى الفرد أو
الجماعة ـ إنّما تقوم على أساس الأخلاق ، بعد العقيدة بالله تعالى والرسالات
واليوم الآخر. بل إنّ الاتّصاف بالأخلاق العالية هو الذي يمثّل عنصر التكامل
الحقيقي في حركة الإنسان الفرديّة والجماعيّة. ولذا كانت قاعدة المجتمع الإنساني
في نظر الإسلام قاعدة أخلاقيّة ، والسلوك الرّاقي للإنسان هو السلوك الأخلاقي. وقد
ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قوله : «بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها».
لذا جاءت
القصّة في القرآن الكريم ذات طابع أخلاقي وللتربية على الإيمان بالله والعمل
الصالح ، والسلوك الأفضل في الحياة الفرديّة والاجتماعية. ولعلّ هذا هو معنى الهدى
والرحمة في الآية السالفة. ولذلك ورد قوله صلىاللهعليهوآله أيضا : «إنّما بعثت رحمة للعالمين».
رابعا ـ الحكمة
وكشف الحقائق الكونيّة وسنن التاريخ والقوانين والأسباب التي تتحكّم أو تؤثّر في
مسيرة الإنسان ، وعلاقاته الاجتماعيّة ، والحياة الكونية المحيطة به. لأنّ هذه
الحقائق الكونية لها علاقة بمسيرة الإنسان التكامليّة ، ما دام أراد الله تعالى
لهذا
__________________
الإنسان أن يكون مختارا في حياته ومستعبدا للعلم والحكمة في تنظيم مسيرته. ولذا
كان من أهداف الرسالة : تعليم الكتاب والحكمة ، حتّى ينتفع بها الإنسان في تقييم
حياته وتنظيم مسيرته. ولعلّه لهذه الصفة يقتصر القرآن الكريم في ذكر القصص
والأحداث التاريخيّة على ما يكون له علاقة بهذه الجهة وفي اتّجاه هذا الهدف بالذات.
وإلى ذلك أشارت الآية : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ) ، حيث ينفتح من كلّ باب منه ألف باب. وعلى وزان قوله
تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). وهذا بخلاف ما لو كانت القصّة لمجرّد التسلية أو لتدوين
الحوادث والوقائع التاريخيّة ، كما هو شأن كتب التواريخ.
تلك ميزة
القصّة القرآنية ، تعبيرا عن واقع الحياة ، لغرض التربية والعبرة بتجارب التاريخ ،
ولكشف الحقائق الراهنة المؤثّرة في مسيرة الإنسان نحو الكمال. وليس عبثا ولا مجرد
تسلية أو تخييل. وهكذا افترقت القصّة القرآنية عن غيرها بأنّها قصّة الأحياء ،
قياسا للباقين على الماضين. وليس سرد حكاية الأموات أو نقل آثارهم فيما تمتّعوا
بالحياة ، وأكثره عبث لا خير فيه. ولذلك كان القرآن المنزّل أحسن الحديث.
أغراض القصّة في القرآن
نجد القصّة
القرآنيّة تستوعب في مضمونها وهدفها كلّ الأغراض الرئيسيّة التي جاء من أجلها
القرآن الكريم ، بعد أن كانت القصّة هي الأداة المفضّلة التي استخدمها القرآن في
سبيل تحقيق أهدافه وأغراضه جمع. ومن ثمّ نرى القرآن قد استخدم القصّة لإثبات الوحي
والرسالة. وإثبات وحدانيّة الله ، وتوحّد الأديان في أساسها ، والإنذار والتبشير ،
ومظاهر القدرة الإلهيّة ، وعاقبة الخير والشرّ والصبر والجزع والشكر والبطر وما
إلى ذلك من أهداف رساليّة وعقائديّة ، تربويّة واجتماعيّة وسنن التاريخ وما شابه. وإليك
__________________
الأهمّ من هذه الأغراض :
١ ـ كان من
أغراض القصّة إثبات الوحي والرسالة ، وأنّ ما ينزل على محمّد صلىاللهعليهوآله هو وحي من عند الله ، لا شيء سواه. فمحمّد صلىاللهعليهوآله لم يكن يكتب ولا يقرأ الكتب ولا عرف عنه أنّه جالس
أحبار اليهود والنصارى ، ثمّ جاءت هذه القصص في القرآن على أدقّ وصف وأحسن بيان ،
لا تحريف فيها ولا تشويه ، فكان أدلّ دليل على أنّه وحي يوحى وليس نقلا عن كتب
محرّفة أو أقاصيص مشوّهة. والقرآن ينصّ على هذا الغرض نصّا في مقدّمة بعض القصص أو
في أعقابها.
جاء في أوّل
سورة يوسف : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الْغافِلِينَ).
وفي نهاية
السورة : (لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
وجاء في سورة
القصص قبل عرض قصّة موسى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ
مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وبعد انتهائها : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ
ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا. وَلكِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ).
وجاء في سورة
آل عمران في مبدأ عرضه لقصّة مريم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).
وفي سورة «ص»
قبل عرض قصّة آدم : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ. ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ
مُبِينٌ. إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ...).
__________________
وفي سورة هود
بعد قصّة نوح : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا).
فكلّ هذه
الآيات وأمثالها إنّما جاءت لتؤكّد فكرة الوحي الّتي هي الفكرة الأساسيّة في
الشريعة الإسلاميّة.
٢ ـ وكان من
أغراض القصّة : بيان وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء ، وأنّ الدين كلّه من
الله سبحانه ، وأنّ الأساس في الجميع واحد ، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
ولمّا كان هذا غرضا أساسيّا في الدعوة وفي بناء التصوّر الإسلامي فقد تكرّر مجيء
هذه القصص على هذا النمط ، مع اختلاف في التعبير ، لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في
النفوس. وربّما وردت قصص عدّة من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة ، معروضة بطريقة
بديعة لتؤيّد هذه الحقيقة.
خذ مثلا سورة
الأنبياء ، يتابع قصص موسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيّوب
وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ومريم. ويعقّب كلّا بذكر جميل ، وفي النهاية
يقول : (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ... وهذه هو الغرض الأصيل من هذا الاستعراض الطويل ،
وغيره من الأغراض الاخرى يأتي عرضا وفي ثناياه!
وجاء في سورة
النحل : (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
وفي سورة
المائدة : (إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ).
وفي سورة
البيّنة : (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
__________________
وهذا الغرض
يهدف في حقيقته إلى بيان إبراز الصلة الوثيقة بين الشريعة الإسلاميّة وسائر
الشرائع الإلهيّة التي دعا إليها الرسل والأنبياء جميعا ، وإنّ الإسلام يمثّل
امتدادا لها ، ولكنّها يحتلّ منها مركز الخاتمة التي يجب على البشريّة جمعاء
الرضوخ إليها : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ...). وبذلك يسدّ الطريق على أهل الزيغ الذين يلتهجون بمساقاة
الأديان الغابرة والحاضرة وأنّ اتّباع أحدها يكفى للرشد واحتضان معالم الهداية
والنجاة في الآخرة ، على أساس أنّها حقيقة واحدة موحاة من قبل الله تعالى وأنّ
الإسلام يصدّقها كذلك!
والقرآن يرفض
هذه الفكرة المفرّقة رفضا ويؤكّد على أنّ الحقيقة تركّزت في طريق تكاملها في شريعة
الإسلام ، وقد صرّح القرآن بذلك في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) ، أي لا محيد ـ في بلوغ سعادة الحياة ـ عن متابعة شريعة
الإسلام بالذات!
٣ ـ وأيضا من
تمام هذا الغرض بيان أنّ الدعوة الرساليّة في الإسلام ليست بدعا في تاريخ الرسالات
، وإنّما هي وطيدة الصلة بها في الأهداف والتصورات والمفاهيم : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ
...). بل إنّها تمثّل امتدادا لهذه الرسالات ، وتلك الرسالات
تمثّل الجذر التاريخي للرسالة الإسلاميّة ، فهي رسالة إلهيّة لها هذا الامتداد في
التاريخ الإنساني ، ولها هذا القدر من الأنصار والمضحّين والمؤمنين.
٤ ـ وهكذا
يؤكّد على أنّ وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة ، وطريقة مجابهة قومهم
لهم واستقبالهم متشابهة ، وأنّ العوامل والأسباب والظواهر التي تواجهها الدعوة
واحدة. وقد أكّد القرآن في عدّة مواضع على هذه الحقيقة ، وأشار إلى اشتراك
الأنبياء في قضايا كثيرة. من ذلك قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ).
__________________
وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما
يَفْتَرُونَ).
وكذلك قوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
ويتحدّث القرآن
أحيانا عن الرسل حديثا عامّا ، ليؤكّد هذه الوحدة بينهم في الوسائل والأساليب ،
كما جاء في سورة إبراهيم : (... جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ).
والسبب وراء
تأكيد القرآن لهذه الحقيقة هو : بيان صلابة تلك المواقف وأنّها جميعا حقّ غالب في
نهاية المطاف : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
(وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ).
٥ ـ ومن ثمّ
كان من أغراض القصة في القرآن الرئيسيّة هو بيان أنّ الله ينصر أنبياءه في النهاية
ويهلك المكذّبين ، وذلك تثبيتا لموقف محمّد صلىاللهعليهوآله وتأثيرا في نفوس المؤمنين : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).
وتبعا لهذا
الغرض كانت ترد قصص الأنبياء مجتمعة ، مختومة بمصارع من كذّبوهم. ويتكرّر بهذا عرض
القصص كما جاء في سورة «العنكبوت» :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ. فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ).
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) إلى أن يقول : (فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ. فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ
النَّارِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ ...) إلى أن
__________________
يقول : (إِنَّا مُنْزِلُونَ
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَلَقَدْ
تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).
(وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).
(وَقارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ).
(فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ
الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.
وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وتلك هي
النهاية الواحدة للمكذّبين!
٦ ـ وكان من
أغراض القصّة بيان نعم الله على أصفيائه وخالصي عباده ، كقصص سليمان وداود وأيّوب
وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريّا ويونس وموسى ، فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء
الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتّى ، ويكون إبرازها هو الغرض الأوّل ، وما
سواه يأتي عرضا.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ
هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً
وَبُكِيًّا).
٧ ـ وأيضا بيان
غواية الشيطان لهذا الإنسان ومبلغ عدائه له ، وتربّصه به الدوائر والفرص ، فليحذر
بنو آدم من هذا العدوّ الذي أغوى أباهم من قبل. ولا شكّ إنّ إبراز هذه المعاني
والعلاقات بواسطة القصّة يكون أوضح وادعى للحذر والالتفات. لذا نجد قصّة آدم
تتكرّر بأساليب مختلفة تأكيدا لهذا الغرض. بل يكاد يكون هذا الغرض هو الهدف
الرئيسي لقصّة آدم كلّها.
__________________
وأغراض اخرى
كثيرة تلتقي مع أغراض الرسالة في عدد وفير ومستوى رفيع.
أسرار التكرار في القصص القرآني
وهذا يعود إلى
تعدّد الأغراض التي تهدفها القصّة في مجال التربية. وليست القصّة إذا ذكرت مرّة
استنفدت أغراضها الدينيّة والتربويّة ، ليكون التحدّث عنها مرّة اخرى عبثا وتكرارا
للمكرّر!
القصّة إذا
كانت ذات جوانب عديدة فإنّها إنّما تذكر كلّ مرّة بلحاظ جانب منها مناسب للحال
والمقام ، وقد يعفى هذا الجانب ويلحظ جانب آخر في مناسبة اخرى وهكذا لعدّة مرّات.
وأكثر القصص
تكرارا في القرآن حديث موسى وفرعون وتاريخ حياة بني إسرائيل. ذلك أنّ اليهود كانت
جاورت العرب منذ حين ، وكانت العرب تعرف من شأنهم وتعظّم من قدرهم ما لا تكاد
تعرفه أو تقدّره من سائر الامم. وكانت الأدوار التي مرّت على حياة بني إسرائيل
ومواقفهم مع الأنبياء أشبه بحالات كانت تعتور العرب حين ظهر الإسلام. فكانت
العلاقة وثيقة بين الحياتين ، تلك في غابرها الماضي وهذه في حاضرها الراهن.
والملاحظ في
تكرار قصّة نبيّ الله موسى عليهالسلام الفرق بين روحها العامّة عند ما تذكر في السور المكّيّة
، وروحها في السور المدنيّة. فإنّما تؤكّد في القصص المكّي منها على العلاقة
العامّة بين موسى من جانب وفرعون وملأه من جانب آخر ، دون أن تذكر أوضاع بني
إسرائيل تجاه موسى نفسه ، إلّا في موردين يذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن
العقيدة الإلهيّة بشكل عام. وهذا بخلاف الروح العامّة لقصّة موسى في السور
المدنيّة ، فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل. وتتحدّث عن هذه العلاقة
وارتباطها بالمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة.
__________________
وهذا قد يدلّنا
على أنّ هذا التكرار للقصّة في السور المكّيّة إنّما كان لمعالجة روحيّة تتعلّق
بحوادث مختلفة واجهت النبي والمسلمين ومشاكلهم مع المشركين ، ومن أهداف هذه
المعالجة توسعة نطاق المفهوم العامّ الذي تعطيه القصّة في العلاقة بين النبي
والجبّارين من قومه ، وأنّ هذه العلاقة لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن
موقف ، والتاريخ يكرّر نفسه.
وهكذا يختلف
سرد قصص نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء ، باختلاف الأحوال التي كان يعالجها المسلمون
في طول الدعوة ، فأطوارا بمكّة وأطوارا بالمدينة حسب تغيّر الأوضاع.
ومن الناحية
الأدبية أيضا نرى القرآن عند ما يكرّر الحديث عن حادث أو عن ظاهرة طبيعيّة ، فإنّه
لا يكرّرها إلّا وفي هذا التكرار نكتة وظرافة لاحظها حسب المناسبة. الأمر الذي
يزيد في بلاغة البيان القرآني وربّما إلى حدّ الإعجاز. إذ يعني ذلك : أنّ بإمكانه
سرد قصّة واحدة بأنحاء وأشكال ، كلّ مرّة يأتي بالعجيب من الكلام ، بحيث لا يملّ
السامع من الإصغاء ، حتّى ولو سمعها في عدّة مواطن ، فإنّه لا يمجّها لمرّة اخرى
واخرى ، لما في كلّ مرّة من طراوة وإبداء شيء جديد ، وفي كلّ جديد لذّة! وقد عدّ
ذلك وجها من وجوه إعجاز القرآن في بديع بيانه.
ولتاج القرّاء
أبي القاسم محمود بن حمزة الكرماني تصنيف لطيف بهذا الشأن ، ذكر فيه الفوارق
البديعيّة في مكرّرات الآيات ، وأبدع في ذلك. اقتطفنا منه قبسات عند الكلام عن
الإعجاز البياني للقرآن.
الحرّية الفنّية في قصص القرآن
هناك ظواهر
كثيرة من ظاهرات الحرّية الفنّية (الأدبيّة) توجد في القرآن عند سرد أحداث التاريخ
ممّا جعلته ممتازا عن مثل التوراة التي هي أشبه بكتاب تاريخ منه بكتاب
__________________
هداية. ونستطيع أن نعرض عليك منها الظواهر التالية :
١ ـ إهمال
القرآن ـ حينما يقصّ ـ كثيرا من مقوّمات التاريخ من زمان ومكان ، وأحيانا أبطال
المعركة. فليس في القرآن الكريم قصّة واحدة عنى فيها الزمان. أمّا المكان إهمالا
يكاد يكون تامّا لو لا تلك الأمكنة القليلة المبعثرة هنا وهناك والتي لم يلفت
القرآن الذهن إليها. كما عمد إلى إهمال الأشخاص في بعض أقاصيصه إهمالا تامّا. اللهمّ
إلّا إذا كان لمعرفة الأشخاص دخلا في العبرة بها.
وهذا من اصول
البلاغة في الكلام ، أن لا يذكر من الحادث إلّا ما كانت له صلة بغرض الكلام.
٢ ـ اختياره
لبعض الأحداث دون بعض. فلم يعن القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة
في أمّة تصويرا تامّا كاملا ، وإنّما يكتفي باختيار ما يساعده على الوصول إلى
أغراضه ، أي ما يلفت الذهن إلى مكان العظة وموطن الهداية ، ولعلّه من أجل ذلك كان
القرآن ، يجمع في الموطن الواحد كثيرا من الأقاصيص التي تنتهي بالقارئ إلى غاية
واحدة.
٣ ـ كان لا
يهتمّ بالترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها ، وإنّما يخالف في
هذا الترتيب ويتجاوزه ، الأمر الذي أكثر من الإشارة إليه الاستاذ الشيخ محمد عبده.
قال ـ بعد سرد قصص بني إسرائيل ذوات عبر من سورة البقرة ـ : جاءت هذه الآيات على
اسلوب القرآن الخاصّ الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه ، فهو في هذه القصص لم يلتزم
ترتيب المؤرّخين ولا طريقة الكتّاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع ،
حتّى في القصّة الواحدة. وإنّما ينسق الكلام فيه باسلوب يأخذ بمجامع القلوب ،
ويحرّك الفكر إلى النظر تحريكا ، ويهزّ النفس الكلام فيه باسلوب يأخذ بمجامع
القلوب ، ويحرّك الفكر إلى النظر تحريكا ، ويهزّ النفس للاعتبار هزّا. وقد راعى في
قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إيّاها ، وضروب الكفران
والفسوق التي قابلوها بها ، وما كان في أثر كلّ ذلك من تأديبهم بالعقوبات ،
وابتلائهم بالحسنات
__________________
والسيّئات ، وكيف كانوا يحدثون في أثر كلّ عقوبة توبة ، ويحدث لهم في أثر
كلّ نوبة نعمة ، ثمّ يعودون إلى بطرهم ، وينقلبون إلى كفرهم!
وهكذا قصّة لوط
جاءت في سورة الحجر : (فَلَمَّا جاءَ آلَ
لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. قالُوا بَلْ جِئْناكَ
بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ. وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ. فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ. وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ
أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ. وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَسْتَبْشِرُونَ. قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ. وَاتَّقُوا اللهَ
وَلا تُخْزُونِ. قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ. قالَ هؤُلاءِ
بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ...).
لكنّها لو
لوحظت مع إحدى قصص لوط في القرآن كقصّته في سورة هود (الآيات :
٧٨ ـ ٨٣) تختلف
عنها في ترتيب سرد أحداثها ، فتبتدئ بمجيء الملائكة ، ثمّ حاله واضطرابه النفسي ،
ثمّ مجيء القوم ، ثمّ موقفه وعرض بناته حتّى لا يخزى ، ثمّ ردّهم عليه وعزمهم على
إتمام عزمهم ، ثمّ موقف الملائكة وإخبارهم إيّاه بأنّهم رسل ربّه ، وإخبارهم بمجيء
العذاب وموعده ، ثمّ نوع العذاب.
فهنا نلحظ أنّ
المحاورة بينه وبين قومه تتمّ قبل أن تخبره الملائكة بأنّهم رسل ربّه. والقصّة
تجري بعد ذلك وقد رتّبت وقائعها الترتيب الذي يشعر بأنّ الزمن هو المحور الذي يربط
هذه الوقائع المختارة أو هذه الأحداث المصوّرة.
أمّا في سورة
الحجر فالملائكة تعلّمه كلّ شيء قبل مجيء قومه ، ومع ذلك تمضي المحاورة مع قومه
وكأنّه لم يعلم بأنّ أضيافه من الملائكة.
وليس يخفى أنّ
هذا بعيد عن الوقائع ، ومشاكلته قريب من القصص وما فيه من حرّيّة تؤذن للقاصّ بأن
يرتّب أحداثه الترتيب الذي يصل إلى الغرض ويؤدّي إلى الأهداف.
ولعلّ السبب في
هذا الاختلاف : القصد من قصّة لوط في سورة هود هو تثبيت قلب
__________________
النبي صلىاللهعليهوآله ومن أجل ذلك عنى القرآن أوّلا بما ينال لوطا من أذى
وقلق نفسي ، كما نال محمّدا صلىاللهعليهوآله وهو باخع نفسه على أن لا يكونوا مؤمنين وضائق به صدره
الكريم. أمّا القصد من القصّة في سورة الحجر فقد كان بيان ما ينزل بالمكذّبين من
عذاب ومن ثمّ بدأ به قبل كلّ شيء.
٤ ـ إسناده بعض
الأحداث لاناس بأعيانهم في موطن ، ثمّ إسناده الأحداث نفسها لغير الأشخاص في موطن
آخر. ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) إذ نراه في سورة الشعراء مقولا على لسان فرعون نفسه : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا
لَساحِرٌ عَلِيمٌ).
ويبدو أنّ هذا
كلام تذاكره فرعون مع بطانته من رجال الدولة ، فصحّ إسناده إليه تارة وإلى الملأ
من قومه تارة اخرى. ولذلك نجد تعقيب الآية الاولى بقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ. قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي
الْمَدائِنِ حاشِرِينَ). نفس التعقيب الذي جاء للآية الثانية. سوى تبديل «أرسل»
بقوله «وابعث». وتبديل «ساحر» بقوله «سحّار». والسحّار (من أبنية الحرف) هو صاحب
السحر. ويتّحد مع الساحر في المفهوم.
وهكذا تجد في
قصّة إبراهيم من سورة هود أنّ البشرى بالغلام كانت لامرأته ، بينما نجد البشرى
لإبراهيم نفسه في سورة الحجر وفي سورة الذاريات. ذلك لأنّ البشرى بالذرّية لإبراهيم بشرى لامرأته العجوز
، كما يبدو ذلك من سرد القصّة في سورة الذاريات.
٥ ـ إنطاقه
الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مختلفة حين يكرّر القصّة. ومن ذلك تصويره
لموقف الإله من موسى حين رؤيته النار ، فقد نودي في سورة النمل بقوله : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ
مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها). وفي سورة القصص : (فَلَمَّا أَتاها
__________________
نُودِيَ
مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). وفي سورة طه : (فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ طُوىً).
وذلك يشبه
تصويره للموقف الواحد بعبارات مختلفة حين صوّر خوف موسى ، فمرّة اكتفى بقوله : (خُذْها وَلا تَخَفْ). ومرّة اخرى قال : (فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ
إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ). وهكذا في غيرهما من المواقف ، كتعبيره بالرجفة مرّة
وبالصيحة اخرى والطاغية في غيرهما. وكتعبيره في انشقاق الحجر عن الماء في قصّة
موسى ، فانفجرت مرّة وانبجست اخرى.
وهكذا من
المسائل التي جعلتهم يعدّون القصص القرآني من المتشابه. ولكن ليس من شكّ في أنّ
الاختلاف كان نتيجة تغيّر في القصد أو الموقف ، وأنّ هذا التغيّر جعل هذه قصّة
وتلك قصّة ، وما لا نرى من اختلاف ليس إلّا الصور الأدبية التي تلائم المقاصد
والأغراض.
خذ لذلك مثلا
قصّة موسى وصاحبه وفعله العجائب. فتارة يقول له موسى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) واخرى : (لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً نُكْراً). لأنّ الإمر ـ بكسر الهمز ـ هو الأمر العجب. وكلّ أمر
خالف المألوف فهو يثير العجب ، سواء أكان خيرا أم شرّا.
وهذه العبارة
جاءت بشأن خرق السفينة بما لا يستلزم غرق أهلها ، فقد أثار عجب موسى ، حيث لم تعد
فيه فائدة ولا حكمة ظاهرة ، ولعلّ فيه حكمة خفيّة!
أمّا النكر فهو
الأمر المنكر البادي قبحه بوضوح ، وهو يعود إلى قتل الغلام وهو طفل لم يعقل شيئا
ولم يرتكب ذنبا.
ومن ذلك أيضا
التعبير عن الأرض اليابسة ، بالهامدة مرّة وبالخاشعة مرّة اخرى ،
__________________
وذلك لاختلاف الموقف والغرض :
فالاولى في
سورة الحج : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً. وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا
أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ).
والثانية في
سورة فصّلت : (وَمِنْ آياتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى
الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. إِنَّ
الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
والفارق بين
الآيتين هو السياق ، حيث مساق الكلام في الآية الاولى مساق الحديث عن البعث
والنشور ، فناسب التعبير بالهمود بعده نشور. والهمود هو الخمود والهدوء يشبه همود
الموت.
أمّا الآية
الاخرى فسياقها سياق عبادة وضراعة فناسب التعبير بالخشوع ، خشوع الذلّ والاستكان ،
يقال : خشعت الأرض إذا يبست ولم تمطر.
والشواهد على
ذلك كثيرة ووفيرة في القرآن.
حالات كائنة أبرزها الترسيم
هناك الكثير من
قصص قرآنيّة هي ترسيمات لحالات واقعيّة كائنة ، حكاية عن أمر واقع ، وليست مجرّد
فرض أو تخييل. وهذا كحديث الأمانة وعرضها على السماوات والأرض والجبال فأبين أن
يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، إنّه كان ظلوما
__________________
جهولا.
وهذا تمثيل
لعرض الاستعدادات. كان الإنسان أكثر استعدادا وأقوى قابليّة لحمل الأمانة ، وهي
ودائع الله أودعها الإنسان لقابليّته الذاتيّة. والتي هي عبارة عن العقل والقدرة
الهيمنة والإبداع ، وحتّى يكون خليفة الله في الأرض. استحقّ الشموخ إلى هذا المقام
الرفيع ، بفضل قابليّته الفائقة ، غير أنّه جهول بشأن نفسه ظلوم لا يعرف قدر نفسه.
فهذا ترسيم رائع
للقابليّات واستجلاء أرقاها وأقومها ، وهو أمر واقع وليس محض خيال.
وحديث «أخذ
الميثاق» : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا. أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) حكاية حال واقعة ... بيانا لفطرة الإنسان على التوحيد :
الإنسان ، في
جبلّته مفطور على الإقرار بالتوحيد. كما في الحديث المستفيض عن النبي صلىاللهعليهوآله : «كلّ مولود يولد على الفطرة ...».
وهو المعني
أيضا بقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها). وهكذا قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). إشارة إلى العهد المودع في فطرة الإنسان. وكلّ إنسان
إذا راجع ضميره وجد هذا العهد جليّا بأسطره الواضحة. ومن ثمّ صرّح الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام أنّ الأنبياء إنّما بعثوا ليثيروا دفائن العقول ،
فدلائل التوحيد
لائحة في عقول بني الإنسان لو لا تراكم الغبار عليه. وهكذا كانت العقول حجج الله
الباطنة ، وكان الأنبياء الحجج الظاهرة جاءوا لدعم العقول.
قال
__________________
الإمام الكاظم عليهالسلام : «إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للنّاس الحجج بالعقول».
وهذا هو العهد
الذي عاهد الله الإنسان عليه ، معنيّا به الفطرة التي فطر الناس عليها. كناية عن
العقول التي ركّبت في ذوات الأنفس.
أمّا ما حسبه
البعض من إرادة «عالم الذرّ» ـ حسبما جاء في بعض التفاسير ـ وأنّ الله أخرج ذرّيّة
آدم من صلبه وأشهدهم على ربوبيّته ... فهذا شيء لا مساس له بالآية الكريمة. ولا
كانت الآية مشيرة إليه ، بل ومنافاته مع ظاهر التعبير ، حيث قوله تعالى : (مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، وليس من ظهره فحسب.
القصّة في القرآن حقيقة واقعة
سبق أن نبّهنا
أنّ القصّة في القرآن هي حكاية عن أمر واقع ، كانت تجربة مرّت على حياة الإنسان ،
إن زاهية أو مريرة ، لغرض الاعتبار بها ، ولا اعتبار بما فرضه الوهم أو تصوّره
الخيال!
نعم قصص القرآن
حوادث واقعة (تاريخيّة) رسمتها ريشة الفنّ الأدبي في أبدع صورها وأروع أشكالها ،
لغرض التأثير على النفوس والأخذ بمجامع القلوب. فهناك مزج بين التاريخ والأدب وليس
مجرّد فنّ التمثيل.
ذلك أنّ القرآن
استخدم الفنّ في ترويج دعوته ، مع الحفاظ على الواقع المتمثّل به ، لغرض التأكيد
على التأثير ، ومتجنّبا مجالات الوهم ومحض الخيال ، إذ لا تأثير لمجرّد الفرض وقد
أكّد علماء التربية على مجانبة الابتناء على أساس منهار ، إذ لاقوام لبناء كان
أساسه على شرف هار. التربية لها مجال حقيقي في حياة الإنسان ، فلا ينبغي بناؤها
على أساس الفرض ممّا لا واقع له سوى الوهم والخيال. وسرعان ما ينهار البناء إذا لم
يكن له أساس مكين.
على أنّ القرآن
ـ وهو كتاب هداية له دعوة الحقّ ـ في غنى عن التمثّل بمفروضات
__________________
الخيال ، بعد وفور الأحداث والتجارب التي مرّت على حياة الإنسان ، وقد
كلّفته أثمانا باهظة إن رابحة أو خاسرة ، هي تصلح لأن تقع موضع عبرته في مستقبل
الزمان ، نظرا لوحدة متطلّبات الحياة في غابر الأزمان وحاضرها والآتي.
والخلاصة : أنّ
القصّة في القرآن هي تجربة واقعيّة قاسها الإنسان في حياته الغابرة ، ولتكون عبرة
في مستمرّ حياته ، وليست مجرد فرض خيال :
أوّلا ـ لأنّه
في غنى عن اللجوء إلى مفروضات خياليّة أو مشهورات هي مقبولات عامّيّة ، بعد وفرة
التجارب ذوات العبر في سالف حياة الإنسان.
ثانيا ـ لأنّ
البناء على أساس الفرض والخيال سرعان ما ينهار إذا ما كسحته واقعيّات الحياة ولا
سيّما بعد فضح الحال.
* * *
هذا ولكن هناك
من يرى من قصص القرآن ـ كلّها أو جلّها ـ هي مشهورات عامّيّة استندها القرآن ، لا
اعترافا بها ، بل معبرا للوصول إلى غايته في الهداية والإرشاد ، على طريقة الخطابة
في البيان. وبعضهم أجاز كونها تمثيلات مجرّدة تقريبا للمطالب إلى الأذهان ... ولعلّ
هذا إفراط بشأن القرآن!
يقول محمد أحمد
خلف الله : القرآن يجري في فنّه البياني على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيّل ،
لا على ما هو الحقيقة العقليّة ، ولا على ما هو الواقع العملي. فهو حينما يتحدّث
عن الجنّ وعن عقيدة المشركين فيهم وأنّهم يستمعون إلى السماء ليعرفوا أخبارها ثمّ
يقومون بعد ذلك بإلقاء هذه الأخبار على الكهنة ، وكان الكهنة يدّعون الاطلاع على
الغيب ومعرفة الأسرار في كلّ ذلك يجرى على هذا المذهب.
جاء في الرازي
عند تفسيره لقوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) ما يلي : «وأمّا تشبيه هذا الطلع برءوس الشياطين ففيه
سؤال ، لأنّه قيل إنّا ما رأينا رءوس الشياطين ، فكيف يمكن تشبيه شيء بها؟ وأجابوا
عنه بوجوه ،
__________________
الأوّل ـ وهو الصحيح ـ : أنّ النّاس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في
الصورة والسيرة ، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشويه في الصورة والسيرة ،
فكما حسن التشبيه بالملك عند تقرير الكمال والفضيلة في قوله (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فكذلك وجب أن يحسن التشبيه برءوس الشياطين في القبح
وتشويه الخلقة».
وجاء في الكشاف
عند تفسيره لقوله تعالى : (لا يَقُومُونَ إِلَّا
كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) ما يأتي : «لا يقومون إذا بعثوا من قبورهم إلّا كما
يقوم الذي يتخبّطه الشيطان أي المصروع. وتخبّط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون
أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. والخبط : الضرب على غير استواء ، كخبط العشواء. فورد
ما كانوا يعتقدون.
والمسّ :
الجنون ، ورجل ممسوس ، وهذا أيضا من زعماتهم وأنّ الجنّي يمسّه فيختلط عقله ،
وكذلك جنّ الرجل ، ضربته الجنّ. ورأيتهم لهم في الجنّ قصص وأخبار وعجائب. وإنكار
ذلك عندهم كإنكار المشاهدات».
يقول الاستاذ
خلف الله : يجري القرآن على هذا المذهب الأدبي في محاولته هدم عقيدة المشركين
السابقة ، وقد كانت تعتبر العقبة الاولى في سبيل الدعوة الإسلاميّة لما فيه من
إتاحة الفرصة للمشركين بأن يدّعوا أنّ محمّدا من الكهّان وأنّ الذي يطلعه على
الغيب هم الشياطين وليس وحي السماء.
حارب القرآن
هذه الفكرة وحاربها تدريجيّا وبأساليب مختلفة. فالجنّ كانت تقعد مقاعد للسمع. ولكن
الكواكب أصبحت رجوما والشهب أصبحت رواصد (وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً رَصَداً). والجنّ تخطف الخطفة حتّى بعد رسالة محمّد صلىاللهعليهوآله وحتّى بعد أن حدثت المعجزة ومنعت الجنّ من الاستراق. (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ
__________________
مِنْ
كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).
ذلك اسلوب
محاربة الفكرة يوم أن كان سلطانها قويّا وإيمانهم بها عنيفا ، ويوم أن كان القرآن
في أوّل عهده بهم.
ولكن حينما
تقدّم الزمن وحينما استقرّ الأمر في البيئة واشتهر أمر المعجزة وأخذ القوم يصدّقون
بالرجم انتقل القرآن إلى اسلوب آخر في محاربة الفكرة فادّعى أنّ الجنّ ما كانت
تعلم الغيب وأنّها لو كانت تعلمه ما لبثت في العذاب بعد أن فارق سليمان عليهالسلام الحياة (فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي
الْعَذابِ الْمُهِينِ).
واسلوب
المحاورة قد يوقع بعض المفسّرين في إشكالات خاصّة ، حينما يأخذون المسائل مأخذ
الجدّ ويحاولون البحث عن الأجرام السماويّة وهل كانت موجودة قبل محمّد أو لم تكن؟
وإذا كانت فكيف جعلت رجوما؟ وهكذا إلى أن يضيّقوا هم أنفسهم بأمثال هذه المسائل. جاء
في الرازي ما يلي :
يروى أنّ السبب
في ذلك أنّ الجنّ كانت تتسمّع لخبر السماء ، فلمّا بعث محمّد صلىاللهعليهوآله حرست السماء ورصدت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقا
السمع رمي بشهاب فأحرقه لئلّا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النبي
أمره ويرتاب الناس بخبره. فهذا هو السبب في انقضاض الشهب وهو المراد من قوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ). ومن الناس من طعن في هذا من وجوه :
أحدها : أنّ
انقضاض الكواكب مذكور في كتب القدماء ، قالوا إنّ الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع
منها بخار يابس وإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب.
وثانيها : أنّ
هؤلاء الجنّ كيف يجوز أن يشاهدوا الالوف منهم يحترقون ، ومع ذلك يعودون لمثل
صنيعهم!
__________________
وثالثها : كيف
يجوز خرق ثخن السماء إذا نفذوا. وإذا لم ينفذون فكيف يستمعون إلى أسرار السماء من
ذلك البعد البعيد؟ وكيف لا يسمعون إلى كلام الملائكة وهم على الأرض؟
ورابعها : لم
لم يسكت الملائكة عن ذكر الأحوال المستقبلة كي تتمكّن الجنّ من استماعها؟
وخامسها : أنّ
الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تحرق النار!
وسادسها : كيف
جاز تداوم القذف بعد النبوّة وحتّى بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله في حين أنّ الاستراق كان لأجل خلط أمر الوحي؟
وسابعها : أنّ
هذه الرجوم تحدث بالقرب من الأرض ولو كانت قريبة من فلك السماء لما شاهدنا حركتها!
وثامنها : لم
لم ينقل الشياطين أسرار المؤمنين إلى الكفار ، إذا كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة
إلى الكهنة؟
وتاسعها : لم
لم يمنعوا ابتداء من الصعود إلى السماء حتّى لا يحتاج في دفعهم إلى قذف الشهب؟
لكن لو فطن
الرازي من أوّل الأمر إلى أنّ القرآن إنّما يحارب هذه العقيدة ويحاول هدمها
باسلوبه الخاصّ ، القائم على فكرة التدرّج ، وأنّ هذا التدرّج يشبه تماما التدرّج
في التشريع في مسألة محاربة الخمر وغيرها وأنّ النسخ في التشريع إنّما يعلّل بهذه
الفكرة. لو فطن الرازي إلى كلّ هذا لما أتعب نفسه وأتعب غيره في هذه الوقفات
الطويلة ، ولقال بأنّ القرآن إنّما يأخذ الناس بتصوّراتهم ، وأنّه في هذا الموقف
قد سلّم بهذه العقيدة ، لا لأنّها حقّ وصدق ، وإنّما لأنّه يريد أن يهدمها
تدريجيّا ، فيسلّم بها أوّلا ثمّ يأخذ في هدمها مستعينا بالزمن.
__________________
فقد اتّضح أنّ
القرآن كان يأخذ الناس بتصوّراتهم ويأخذهم بالعرف والعادة وأنّه كان يفعل هنا ما
كان يفعله في امور التشريع من أخذ الناس بعاداتهم ومن تغيير هذه العادات تدريجيّا
، الأمر الذي من أجله كان النسخ في التشريع.
فقد وضح أنّ
القرآن قد قصّ في القصص التي كانت موطن الاختبار لمعرفة نبوّة النبي صلىاللهعليهوآله وصدق رسالته ما يعرفه أهل الكتاب عن التاريخ ، لا ما هو
الحق والواقع من التاريخ ، وأنّه من هنا لا يجوز الاعتراض على النبي صلىاللهعليهوآله وعلى القرآن الكريم بأنّ هذه الأقاصيص أخطاء من أخطاء
التاريخ!
وبعد فنلفت ذهن
القارئ إلى أنّه إذا وضح لديه الوضوح الكافي أنّ القصّة القرآنيّة قد قصد منها إلى
التاريخ ، فإنّه يتعيّن عليه أن يؤمن بما جاء فيها على أنّه التاريخ ، وذلك كتقرير
القرآن لمسألة مولد عيسى عليهالسلام وتقريره لمسألة إبراهيم عليهالسلام وأنّه لم يكن يهوديّا ولا نصرانيّا.
أمّا تلك التي
يقصد منها إلى العظة والعبرة وإلى الهداية والإرشاد فإنّه لا يلزم أن يكون ما فيها
هو التاريخ ، فقد تكون المعارف التأريخيّة عند العرب أو عند اليهود ، وهذه المعارف
لا تكون دائما مطابقة للحقّ والواقع ، واكتفاء القرآن بما هو المشهور المتداول ،
أمر أجازه النقد الأدبي وأجازته البلاغة العربيّة وجرى عليه كبار الكتّاب. ومن هنا
لا يصحّ أن يتوجّه اعتراض على النبي صلىاللهعليهوآله أو على القرآن الكريم!
* * *
وبعد فهذا الذي
ارتآه الاستاذ خلف الله ، كان قد سبقه إلى ذلك الكاتب الشهير طه حسين في كتابه «في
الشعر الجاهلي» والاستاذ علي عبد الرزاق في كتابه «الإسلام واصول الحكم» وغيرهما
حتّى أصبح ذلك من ميزات الفكر الإسلامي الحديث ، وربّما أثار ضجّة في الأوساط
الدينيّة ولا يزال. وأخيرا قام الاستاذ خليل عبد الكريم بعرض وتحليل القصص القرآني
بصورة نقد وتعليق على كتاب الفنّ القصصي في القرآن للاستاذ
__________________
خلف الله ، وزاد عليه الكثير ممّا حسب أنّ خلف الله أغفله! غير أنّه زاد في
الطين بلّة ، يقول ـ معترضا على كلامه الأخير بشأن ما قصد من القصّة القرآنيّة إلى
التاريخ ـ : إنّنا نقف مع خلف الله مليّا عند القصص التاريخي ، إذ لم يحدّد لنا
المعيار الذي انطلق منه لتحديد تاريخيّة القصّة :
هل هو ثبوتها
في مدوّنات التاريخ المعتمدة؟
أم هل هو
احتفاظ الشعوب في ذاكرتها لوقائعها؟
وهل مجرّد
ورودها في التوراة يضفى عليها صفة التاريخيّة؟
لقد كان حريّا
به وهو بصدد كتابة بحث أكاديمي أن يفعل ذلك ، ولعلّ إغفاله ذكر هذا المعيار هو
الذي دفع به إلى إضفاء الصفة التاريخيّة على قصص ووقائع وأحداث في حين أنّها ليست
كذلك. فنزاع ابني آدم وقتل أحدهما الآخر وجهل القاتل بكيفيّة دفن جثّة أخيه
المقتول ، هذا ليس تاريخا ، وإنّما هو أدخل في باب الميثولوجيا (علم الأساطير). ولهذه
الأحدوثة مثيلات في عقائد العديد من الشعوب القديمة والبدائيّة الحاليّة ، مثل
أحدوثة الطوفان والسفينة المعجبة التي أنقذت البشريّة من الانقراض!
وكذلك حكاية
عاد وهود وهلاك القوم بالريح التي تحمل العذاب الأليم ، فهي من الفولكلور (قصص شعبيّة) العربي القديم ، وحتّى الآن يضرب مثل للرسول (الوافد أو
المندوب) المشئوم ب «وافد عاد»!
وتلحق بها قصّة
صالح وثمود ، والناقة المدهشة التي تشرب يوما وكلّ سكّان القرية يوما ، وسدوم (مدائن
لوط) التي ضربها أحد الزلازل ، فنسب إلى لعنة حاقت بهم من جرّاء شذوذهم الجنسي ،
تنفيرا من دعاة الإصلاح لهذا العمل الخبيث. وكذلك قصّة أصحاب الكهف الذين لبثوا
فيه أكثر من ثلاثة قرون وهم يغطّون في نوم عميق وينعمون بأحلام ورديّة دون أن
يصابوا بجوع أو ظمأ ولا تتغيّر أجسامهم بمضيّ القرون ، فلمّا استيقظوا ظنّوا أنّهم
ناموا بضع ساعات.
__________________
وكذا قصّة ذي
القرنين الذي غزا البلاد ودوّخ السلاطين والملوك والأقيال ، وسار إلى الشرق حتّى
وصل إلى حدود بلاد يأجوج ومأجوج ، فبنى سدّا منيعا بينه وبينهم ، ومن ضمن ما رآه
في رحلاته تلك : الشمس وهي تغرب في عين حمئة.
ومع ذلك يذهب
خلف الله إلى أنّ هاتين الحكايتين من صلب التاريخ. فكلّ هذا من قصص الفولكلور
الشعبي الذي كان يتناقله عرب الجزيرة أو اليهود وكان معروفا ومحفوظا في عهد محمّد صلىاللهعليهوآله ويردّده الجميع ، فكيف يعتبره خلف الله تاريخا وكيف
يعدّ حكايات اللطيفة حينا والمرعبة حينا آخر تاريخا؟
أمّا الأوعر من
ذلك فإنّه يعتبر حكاية موسى وفرعون وخروج بني إسرائيل من مصر ، وضرب ملأ فرعون
بالجراد والضفادع والقمّل والدّم ، وتحدّي موسى للسحرة ، وانقلاب العصى إلى حيّة وثعبان
أو جان ... إلخ. نقول إنّه يعتبر كلّ هذه الحكايات تاريخا ، مع أنّه لا يوجد في
العالم بلد أحرص على تدوين تاريخه كتابة كمصر ، وليس في التاريخ المصري شيء منها ،
ومع ذلك عدّها المؤلّف قصصا تاريخيّا!
والأشدّ إثارة
للدهش أن يضفى صفة التاريخيّة على المحاورة التي دارت بين المستضعفين والمستكبرين
، ثمّ بين هؤلاء الآخرين وبين الشيطان ، أو على سؤال الله عيسى عمّا إذا كان قد
طلب من تبعه أن يعبدوه هو وأمّه؟
ويلحق به ما
جاء على لسان اليهود أنّهم قتلوا المسيح رسول الله ، فبأيّ مقياس يعدّ هذا تاريخا؟
وهل يمكن للقصص
التي أوردنا أمثلة منها أن تنضوي تحت صفة التاريخيّة؟ وبقدر ما أخفق المؤلّف في
إفضاء صفة التاريخيّة على هذه القصص ، بقدر ما حالفه التوفيق في القول بأنّها
حقيقيّة بحسب اعتقاد المخاطبين بالقرآن المعاصرين لمحمّد!
فعرب الجزيرة
آنذاك كانوا يؤمنون بصحّة وقائع قصص عاد وهود وثمود وصالح والناقة وآيات العذاب
الأليم ... إلخ.
واليهود يؤمنون
بصدق قصّة موسى وفرعون وملئه والضفادع والقمّل والدّم
والآيات المفصّلات وموسى وشعيب وانقلاب العصيّ إلى حيّات وثعابين ... إلخ
وخروج بني إسرائيل وانشقاق البحر ... إلخ وقبلها بقصّة ابني آدم وبالطوفان
وبالسفينة الرائعة التي حفظت ذرّيّة آدم من الغرق ... إلخ.
إذن كان الأولى
أن يصف هذه القصص بأنّها القصص الشعبيّة والقصص الدينيّة ، ولا يغضّ هذا من قيمتها
أو يقلّل من قدرها أو يهوّن من مصداقيّتها أو ينال من حقيقتها! خلاصة القول إنّ
الكسوة التاريخيّة التي حاول المؤلّف (خلف الله) أن يدّثر بها تلك القصص ليست
ملائمة لها!
* * *
ويتلخّص هذا
المذهب (الذي وسموه باسم الفكر الإسلامي الحديث) في أنّ القرآن قد استخدم القصص
الشعبيّة وكذا القصص الدينيّة الشائعة معبرا للبلوغ إلى أهدافه في تبليغ رسالة
الله ، ومن غير أن يكون ذلك اعترافا بصحّتها أو إذعانا بصدقها ، على طريقة فنّ
الخطابة وعلى أساس الأخذ بالمشهورات أو المقبولات (لدى العامّة) ولو تمثيلا ولتكون
ذريعة لتحقيق الغرض في الهداية والإرشاد. وكان ذلك يكفي تبريرا للاستناد إلى قضايا
يعترف بها المعاصرون أو المخاطبون استنادا تمثيليّا ، وبذلك يمكن التأثير عليهم في
التبشير والإنذار!
إذن فالقرآن لا
يتحمّل عبأ مسئوليّة القضايا المستند إليها ، بعد أن كانت وسائط لإنجاز الهدف من
دون أن تكون هي مقصودة بالإثبات ، والغاية تبرّر الواسطة.
وبهذا التعليل
حاولوا التخلّص من تبعات القول بتأريخيّة تلك الأحداث.
وحجّتهم في ذلك
، والتي دعتهم إلى سلوك هذا المسلك الوعر (حيث ارتكاب خلاف ظاهر التعبير!) أنّهم
وجدوا أنفسهم في مأزق عن الإجابة الوافية لو تسالموا على واقعيّة تلك القصص والتي
عليها صبغة التمثيل في حسبانهم!
__________________
ملحوظة
هنا ملاحظة
خطيرة يجدر التنبّه لها ، هي أنّ أصحاب هذا الفكر الحديث ـ حسب مصطلحهم ـ إنّما
حسبوا حسابهم حفاظا على كرامة القرآن وأنّه في آفاق عالية من السموّ والرفعة ، ومن
غير أن يتنازل مع رغبة الطامعين أو يتسافل حيث المذاهب العامّيّة الساقطة.
فإن كان القرآن
يتمثّل بقصص شعبيّة دارجة ، فإنّ معناه مجرّد التمثيل وإن كانت عناصره على أساس
التخيّل والتصوير ، فإنّ هذا ليس بعيب ، إنّما العيب فيما إذا رضخ لأوهام ساطية
على الحقائق ، لمجرّد أنّ العامّة تقبله وترضاه ، الأمر الذي هو استرضاء متسافل
مقيت ويتحاشاه القرآن الكريم.
يقول الاستاذ
خليل عبد الكريم ـ ردّا على من زعم أنّ القرآن إنّما صوّر قصّة أصحاب الكهف طبقا
لآراء أهل الكتاب ، لغرض إثبات نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله ، حيث كانت آراء اليهود هي المقياس الذي به يقيسون صدق
النبيّ صلىاللهعليهوآله فلو نزل القرآن بغيرها أي بما يخالف المقياس المذكور
لكذّبوا النبيّ ولما آمنوا به أو بالقرآن الذي جاء به ـ يقول ردّا على ذلك : وهل
آمن اليهود برسوليّة محمّد وصدّقوه واتّبعوه ، بعد أن جاءهم بصورة لما يعرفه أهل
الكتاب؟!
قال : أليس
القول بأنّ مجيء القرآن مطابقا للصورة التي يعلمها أهل الكتاب في خصوصيّة عدّة
أصحاب الكهف ومدّة مكثهم ، وذلك للتدليل على صدق نبوّة محمّد ، أليس لهذا القول
دلالته الصريحة أنّ معلومات أو معارف أهل الكتاب وحصرا وتحديدا اليهود ، حاكم على
القرآن ، وبعبارة أوضح : أنّ القرآن رضخ لمقياس اليهود حتّى تثبت نبوّة محمّد
ورسوليّته!! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا!
هل ما قاله
البعض من القدامى ووافقه بعض المعاصرين ، يتّفق مع رأي القرآن في اليهود؟ وكيف
يلائم ما جاء في القرآن ، إنّ بشأن عدّة الفتية أو مدّة مكثهم بالكهف ، تصوير
معارف اليهود ، وقد رماهم القرآن بكلّ خسيسة ودفعهم بكلّ نقيصة ، وأوعر من هذا
جميعه أن تكون المطابقة لهذه المعارف هي مقياس صدق محمّد وأنّه رسول يوحى إليه
من السماء؟!
إنّ المنطق
والعقل لا يقبلان ذلك ويرفضانه ، فالشخص العاديّ يشمئزّ من اتّخاذ قالة الكذوب
ميزانا لصحّة كلامه ، فما بالك بالله تعالى جلّ جلاله!
وقفة فاحصة؟
غير أنّا لو
اعتبرنا تلك القضايا بعين التحقيق وتعمّقنا النظر الدقيق ، لرأيناها صورة طبق
الواقع ، لا وهم ولا مجرد تمثيل!
إنّ أكثر
القضايا التي قصّها القرآن قد اكتشفت آثارها وتبيّنت دلائل صدقها بعد حين.
ولنبدأ بما
ذكره الاستاذ خليل أخيرا بشأن قضايا إسرائيلية ـ مصريّة. وأنّها لو صحّت لما أهمل
ذكرها التاريخ المصري القديم :
قلت : كثير من
أحداث مصر القديم لم يسجّلها التاريخ ، بعد أن كان مهمّة التاريخ الأثري هو مجرّد
وصف البلاط الملكي وزهو رجالات الحكم ومجونهم في البذخ والترف والأفراح ، ليس غير.
أمّا الأوضاع الاجتماعية وما عليه سائر الناس من الأحوال والأوضاع ، فهذا ممّا لا
يهتمّ به التاريخ القديم سوى ما كانت له صلة بأحوال الملك وحواشيه. فالتاريخ
القديم إنّما هو تاريخ الملوك ، وليس تاريخ الامم ، على خلاف ما وسم الطبري تاريخه.
ومثلا لذلك
نقول : كانت رحلة العبرانيين (بني اسرائيل) إلى مصر أمرا لا ينكر ، في حين أنّه لم
يأت ذكر منها في تاريخ مصر القديم. وكذا موسى وهارون ، فضلا عن يوسف وإخوته ويعقوب
، شيء لا يمكن الغضّ عنه في تاريخ مصر ، ومع ذلك لم يأت في كتابات
__________________
مصر القديمة ولا إشارة إليه.
وهل نستطيع أن
نشطب على كثير من هذه القضايا ـ المقطوع بصحّتها ـ بحجّة أنّها لم تذكر في كتابات
الأهرام؟ وهل يمكننا الغضّ عن حادث خروج موسى ببني إسرائيل قاصدا أرض فلسطين ، وقد
عبر البحر إلى وادي سيناء مارّا بمضيق من البحر الأحمر في منطقة قريبة من خليج
السويس ولعلّه كان متّصلا بالبحيرة المرّة وأصبحت أرضا يابسة وقد اتّخذها موسى
معبرا لقومه. والمحلّ مشهور باسمه إلى الآن.
على أنّ
إبراهيم وابنيه إسحاق وإسماعيل وكذا موسى وهارون ومن بعدهما من أنبياء ، ملأ
بذكرهم الآفاق ، لم يذكرهم التاريخ المسجّل ، فهل يصلح ذلك حجّة للقول بكونهم رجال
أساطير؟
هذا ذو القرنين
عرف أخيرا أنّه «كورش» الملك الفارسي العظيم وجاء ذكره في كتب العهد القديم وهو
الذي فتح بابل عام (٥٣٨ ق م) وأطلق سراح بني إسرائيل من الأسر وحماهم وأسكن قسما
منهم في مدينة «شوش» تحت زعامة «دانيال النبيّ» وسرّح الباقي إلى أرض فلسطين
بزعامة «عزرا» ليشيد بناء الهيكل وإحياء آثار بني اسرائيل وتجديد بناء البيت
المقدس وتعهّد تكاليف عمران تلك البلاد وغير ذلك من أعمال خير قام بها على أساس
بسط العدل في الأرض. وبناء السدّ لحماية أقوام مستضعفين عن هجمات قبائل وحشيّة ،
كان أحد آثار هذا العمل الخيري. وهذا شيء عرفه الأوائل وعثر عليه أهل التحقيق من
المتأخّرين. ولا تزال الكشوف الأثريّة تطلعنا على غيوب من أسرار هذا
القصص القرآني والذي لم يسجّله التاريخ.
ومواضع الغرابة
في كلام هذا الكاتب المسترسل (خليل عبد الكريم) كثير سوف ننبؤك عليها ، والآن وقبل
كلّ شيء لا بدّ من النظر في أهمّ نقاط ركّز عليها بحثه الحاضر :
__________________
أوّلا ـ كيف
يصف هذه القصص بأنّها من التراث الشعبي والتي كان يعرفها العرب المعاصر لمحمّد ،
وبالأحرى أن يكون محمّد صلىاللهعليهوآله أعرف بها من غيره ... هذا في حين أنّ القرآن يباريهم
بأنّها من الآثار التي كان يجهلها محمّد وقومه من قبل؟
هو عند ما يذكر
قصّة نوح والطوفان والسفينة بتفصيل وبيان ، يعود فيقول : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ
نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ...). فلو كانت العرب تعرفها وتعدّها من تراثها الشعبي الدارج
، لكانت أولى بالردّ على هذا التحدّي الصارخ!
وكذا عند ما
ينتهي من قصّة يوسف وإخوته يقول : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ).
وهكذا بشأن
الصدّيقة مريم وبشرى الملائكة لها يقول : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).
فلو كان أهل
الكتاب يعرفون التفاصيل المروعة والتي جاءت في القرآن نقيّة زاكية ، لكانوا أولى
بمجابهته وهم أشدّ المناوئين للإسلام ولرسالة محمّد صلىاللهعليهوآله!
لكنّهم (العرب
واليهود والنصارى) عرفوا الصدق والأمانة في القرآن ، فلم يلهجوا بشيء سوى مناوئته
عن طريق التواطؤ على العداء الغاشم.
أفهل من
المعقول أن يكون محمّد قد أخذ تلك الأقاصيص من أفواه العرب وأهل الكتاب وقصّها
عليهم ، ثمّ تحدّاهم بها ، وهؤلاء جميعا سكتوا عليها من غير إجابة صارمة؟!
فما لكم ـ يا
أهل الفكرة الإسلاميّة الحديثة!! ـ كيف تحكمون؟!
ثانيا ـ ما وجه
الاستغراب أو الإنكار لصحّة تلك الأحداث التي قصّها القرآن ، والتي دعت البعض (وهم
أصحاب الإلحاد) إلى فرضها مسرحيّات تمثيليّة ، والبعض الآخر (وهم أهل الفكرة
الإسلاميّة الحديثة ـ أو العقل الإسلامي الحديث) إلى فرضها
__________________
التراث الشعبي الرائج ، أفهل لا يمكن صدق مصداقيّتها وأنّها أحداث تاريخيّة
كانت قد قبعت في زوايا الجهل التاريخي ، وقد كشف القرآن عن وجهها ، حتّى ولو كانت
غريبة ـ نسبيّا ـ في شكلها وهندامها؟! ولنذكرها بتباع :
حديث ابني آدم!
أمّا حديث ابني
آدم إذ قرّبا قربانا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر ... فكان ذلك سبب قتل
قابيل لهابيل ... واحتار فيم يفعل بجثّة أخيه. حتّى هداه الغراب ليواريه في التراب
...
فهذا حديث وصفه
الله بأنّه نبأ حقّ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ...)! فمن الجرأة على الله وعلى كتابه المجيد أن يوصف بأنّه
من الأساطير الشائعة في عقائد العديد من الشعوب القديمة والبدائيّة.
نعم هذا الحادث
في شكله هذا الترتيب ، من عمل الفنّ التصويري في القرآن. فهناك في بدء الخليقة وقع
تشاحن بين بني آدم وهم في بداية مرحلة الحياة الاجتماعية ، والتي أساسها التعاون
والتكافل في الحياة ، دون التباغض والتباعد ، لو لا أن تتداركهم الهداية الربّانيّة
الأمر الذي نبّه الله آدم وزوجته عليه حينما أخرجهما من الجنّة ليعيشا وذرّيّتهما
على وجه الأرض. (قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
قال سيد قطب :
هذه القصّة تقدّم نموذجا لطبيعة الشرّ والعدوان ، ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة
، وتقفهما وجها لوجه ، كلّ منهما يتصرّف وفق طبيعته ...
واتل عليهم نبأ
هذين النموذجين من نماذج البشريّة ، اتله عليهم بالحقّ ، فهو حقّ وصدق في روايته ،
وهو ينبئ عن حقّ في الفطرة البشريّة ، وهو يحمل الحقّ في ضرورة
__________________
الشريعة العادلة الرادعة.
إنّ ابني آدم
هذين ـ قبل كلّ شيء ـ هما في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيّبة. فهما في
موقف طاعة بين يدي الله. موقف تقديم قربان ، يتقرّبان به إلى الله : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) .. (فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ). والفعل مبنيّ للمجهول ، ليشير بناؤه هكذا إلى أنّ أمر
القبول أو عدمه ، موكول إلى قوّة غيبيّة ، وإلى كيفيّة غيبيّة ... إيحاء بأنّ الذي
قبل قربانه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله ، فالأمر لم يكن له يد فيه
، وإنّما تولّته قوّة غيبيّة بكيفيّة غيبيّته ، تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته
... فما هناك مبرّر ليحنق الأخ على أخيه ، وليجيش خاطر القتل في نفسه.
(قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) وهكذا يبدو هذا القول ـ بهذا التأكيد المنبئ عن الإصرار
ـ نابيا مثيرا للاستنكار ، لأنّه ينبعث من غير موجب ، اللهمّ إلّا ذلك الشعور
الخبيث المنكر ، شعور الحسد الأعمى ، الذي لا يعمر نفسا طيّبة.
والسياق يمضي
ليزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة بتصوير استجابة النموذج الآخر ، ووداعته وطيبة
قلبه : (قالَ إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). هكذا في براءة تردّ الأمر إلى وضعه وأصله ، وفي إيمان
يدرك أسباب القبول ، وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتّقي الله ، وهداية له إلى الطريق
الذي يؤدّي إلى القبول ، وتعريض لطيف به لا يصرّح بما يخدشه أو يستثيره.
ثمّ يمضي الأخ
المؤمن التقيّ الوديع المسالم ليكسر من شره الشرّ الهائج في نفس أخيه الشرير : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ
اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).
وهكذا يرتسم
نموذج من الوداعة والسلام والتقوى ، في أشدّ المواقف استجاشة للضمير الإنساني
وحماسة للمعتدى عليه ضدّ المعتدي ، وإعجابا بهدوئه واطمئنانه أمام نذر الاعتداء ،
وتقوى قلبه وخوفه من ربّ العالمين ...
__________________
... إلى آخر
القصّة وهي حكاية عن تقابل نموذجين من الطباع البشري منذ البدء ولا يزال ، هما في
تناحر وتنازع ، غير أنّ طابع الشرّ يؤول لا محالة إلى الندم والخسران في نهاية
المطاف.
ولا عجب إذ كان
الطابعان قد تمثّلا في ابني آدم يوم ذاك ، كما هو جار في ذراريهما عبر العصور ،
والعاقبة للمتّقين.
حديث الطوفان والسفينة
أمّا حديث
الطوفان والسفينة ـ الذي زعمه الاستاذ خليل أنّه حديث أساطير ـ فلعلّه نظر إلى ما
أورده المفسّرون من خرافات إسرائيلية ، شوّهوا بها وجه القرآن الوضيء ، وقد
تكلّمنا عن الطوفان وأنّه حادث محلّي عمّ السهل الذي كان يعيشه قوم نوح ، وليس كما
فرضته التوراة من شمول وجه الأرض كلّها ... وعلى ما قرّرنا وشهدت له دلائل من
القرآن ودعمه التاريخ ، لم يكن أمثال هذا الحادث غريبا عن طبيعة المناخ ، ولا
سيّما في السهول المحاطة بمرتفعات تهطل منها السيول الهائلة بين حين وآخر ، ومنها
حادث طوفان نوح وقد تكلّمنا عن ذلك بتفصيل فراجع.
حديث عاد وثمود وقوم هود
وأمّا حكاية
عاد وثمود وقوم هود ، والتي عدّها الاستاذ من الفولكلور العربي القديم ، فالذي
يجعلها من الفولكلور ، هي الأساطير التي حيكت حولها في طول المدّة ، وحسب العادة
عند القصّاصين ، حيث لا يقنعهم نقل الحوادث بخالصتها ما لم يصوّروها في أشكال
غريبة هائلة ، لتقع موضع إعجاب السامعين كلّما بالغوا في تهويل الأحداث وزادوا في
غرابتها.
الأمر الذي
نجده في قصّة إرم عاد ، والتي قصّها أعرابي مجهول هو عبد الله بن قلابة على عهد
معاوية ، كان قد ذهب في طلب أباعر له شردت. فبينما هو يتيه في ابتغائها إذ
اطّلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب فدخلها فوجدها مبنيّة بلبن من ذهب
ولبن من فضّة قصورها ودورها وبساتينها وأنّ حصباءها لآلئ وجواهر وترابها بنادق
المسك وأنهارها سارحة وثمارها ساقطة ... إلخ. قال ابن كثير : هذا كلّه من خرافات
الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس. قال : وهذه
الحكاية لم تصحّ ولو صحّ إسنادها إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك أو أصابه
نوع من الهوس والخبال ... وعلى أيّة حال فهذا ممّا يقطع بعدم صحته.
أمّا الآيات من
سورة الفجر : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها
فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي
الْأَوْتادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).
فقد جمع الله
في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبّارين الّذين عرفهم التاريخ العربي القديم ، مصرع
: «عاد إرم» وهي عاد الاولى. وهم من العرب العاربة أو البائدة والتي ابيدت قبل بزوغ الإسلام ، فكانوا ذلك العهد حديث
أمس الدابر وقد عفى عليهم الزمان ومحي جلّ آثارهم.
وعاد جيل من
العرب كان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمل ، في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن
، وكانوا بدوا ذوى خيام تقوم على عماد ، وكانوا ذوى قوّة وبطش وأقوى قبيلة في
وقتها وأميزها (الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) في ذلك الأوان.
قال أبو جعفر
الطبري : وأشبه الأقوال والذي دلّ عليه ظاهر التنزيل أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة. لأنّ
المعروف من كلام العرب من العماد ، ما عمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل
عليها البناء ، ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح ، بل وجّه أهل التأويل
إلى أنّه عنى به طول أجسامهم ، وبعضهم إلى أنّه عنى به عماد خيامهم ، فأمّا عماد
البنيان فلا يعلم من أحد من أهل التأويل وجّهه إليه. وتأويل القرآن إنّما يوجّه
إلى
__________________
الأغلب الأشهر من معانيه ما وجد إلى ذلك سبيل ، دون الأنكر.
وأمّا إرم فقد
قيل : إنّها قبيلة تفرّعت من قوم عاد ، كما يقال : تميم نهشل. قال أبو جعفر الطبري
: وأشبه الأقوال بالصواب عندي أنّها اسم قبيلة من عاد ولذلك جاءت القراءة بترك
الإضافة. وهو رأي قتادة.
ويرى
المتأخّرون أنّ عادا من القبائل الآراميّة ، ولذلك سمّوا : عاد إرم ، والعرب
يضربون المثل بها في القدم.
غير أنّ
اللغويّين فسّروا الإرم بالعلم يبنى من الحجارة وجمعه آرام. قال ابن الأثير : الآرام
، الأعلام. وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يهتدى بها ، واحدها إرم كعنب. وكان من
عادة الجاهليّة أنّهم إذا وجدوا شيئا في طريقهم لا يمكنهم استصحابه تركوا عليه
حجارة يعرفونه بها حتّى إذا عادوا أخذوه. وفي الحديث : «ما يوجد في آرام الجاهليّة
وخربها فيه الخمس».
والعماد :
البناء الرفيع ، جمعه عمد وعمد ، واحدته عمادة.
وعليه فيكون
معنى الآية : أنّهم كانوا يبنون أعلاما رفيعة ضخمة لغاية الصيت والفخار بحيث لم
يكد يوجد لها مثيل ذلك الأوان.
وقد جاء
التصريح بذلك في سورة الشعراء : (... أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...).
والرّيع :
المرتفع من الأرض. والظاهر أنّهم كانوا يبنون فوق القلال والمرتفعات بنايات ضخمة
رفيعة بحيث تبدو للناظر من بعد كأنّه علامة. وكان القصد هو التفاخر والتطاول
بالمقدرة والمهارة ، ومن ثمّ سمّاه عبثا. ولو كان لهداية المارّة ومعرفة الاتّجاه
ما
__________________
قال لهم : «تعبثون».
ويبدو من قوله
: (وَتَتَّخِذُونَ
مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أنّ عادا كانت قد بلغت من الحضارة الصناعيّة مبلغا يذكر
، حتّى لتتّخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور وتشييد العلامات على المرتفعات ،
وحتّى ليجول في خاطر القوم أنّ هذه المصانع وما ينشئونه بوساطتها من البنايات
والقلاع سوف يكفي لحمايتهم في سبيل الخلود ، ووقايتهم من مؤثّرات الجوّ ومن غارات
الأعداء ...
كما يبدو من
ظاهر التعابير الواردة في الآيات أنّ قوم عاد كانوا حضّرا لا قبائل رحّل ، فيما
حسبه الطبري وغيره من المفسّرين. فقد كانت لهم مباني ومصانع وعيون وجنّات وأعلام ،
وتلك مساكنهم كانت ظاهرة حتّى أوان ظهور الإسلام : (وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ).
أمّا مساكن عاد
فبالأحقاف بين اليمن وحضرموت كانت بمرأى من العرب في رحلاتهم الشتويّة إلى جنوبيّ
الجزيرة. وكذا ثمود كان مقامها في الحجر المعروفة بمدائن صالح بين المدينة وتبوك ،
وقد قطعت الصخر وشيّدته قصورا ، كما نحتت الجبال ملاجئ ومغارات وبقيت مشهودة لدى
العرب في رحلاتهم الصيفيّة إلى شماليّ الجزيرة.
واقتران ذكر
ثمود مع عاد فلكونهما معا من أجيال العرب البائدة والباقية آثارها حتّى حين وفي
منتهى رحلتي الشتاء والصيف. على أنّ المؤرّخين ذكروا أنّ ثمود كانت تسكن جنوبي
الجزيرة بجوار قوم عاد ، فلمّا ملكت حمير أخرجوهم إلى تيماء الحجاز. وذكر صاحب
كتاب فتوح الشام أنّ ثمودا ملئوا الأرض بين بصرى وعدن! فلعلّها كانت في طريق
هجرتها نحو الشمال ، كما ذكر جرجي زيدان.
وفي دائرة
المعارف المترجمة : «ثمود قوم من العرب الأقدمين بادوا قبل ظهور النبي صلىاللهعليهوآله مثلهم في ذلك مثل عاد ...».
__________________
قلت : يبدو من
ظاهر تعبير القرآن أنّ ثمود كانوا قريبي عهد بعاد ومسكنهم ـ قبل مغادرة البلاد ـ بقرب
مساكنهم وعلى معرفة من أحوالهم وما حلّ بهم من سوء العقبى :
قال تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي
أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً. فَاذْكُرُوا
آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ...).
وقد عثر
المنقّبون على كثير من آثار قوم ثمود بديار حجر وبقايا وكتابات غنّية بإثبات حضارة
تلك الأقوام البائدة والتي ذكرها القرآن بإتقان ، وليس أخذا من أفواه العرب
من غير أساس ، كما حسبه الاستاذ خليل عبد الكريم وزملاؤه من أصحاب الفكر الإسلامي
الحديث؟!
ناقة صالح!
أمّا ناقة صالح
فقد جاء وصفها في القرآن بأنّها معجزة صاحبت دعوة صالح حين طلبها قومه للتصديق : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) وهكذا طلبت ثمود تلك الخارقة فاستجاب الله لعبده صالح
وأعطاه هذه الخارقة في صورة ناقة. ولا يذكر تفصيلا عنها سوى كونها بيّنة من ربّهم
وأنّها ناقة الله وفيها آية منه. قال سيد قطب : ومن هذا الإسناد نستلهم أنّها كانت
ناقة غير عاديّة ، أو أنّها أخرجت لهم إخراجا غير عاديّ. ممّا يجعلها بيّنة من
ربّهم وممّا يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى ، ويجعلها آية على صدق نبوّته. ولا
نزيد على هذا شيئا ممّا لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن. قال : ولا
__________________
نخوض في وصفها كما خاض المفسّرون القدامى ، لأنّه ليس لدينا سند صحيح نعتمد
عليه في هذا الوصف. فنكتفي بأنّها كانت خارقة كما طلبت ثمود.
نعم جاءت
الإشارة إلى جانب خارقيّتها بشأن قسمة الماء بينهم وبينها : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً
لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ
بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ).
(قالَ هذِهِ ناقَةٌ
لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ). قال الحسن : كانت ناقة من النوق ، وكان وجه الإعجاز
فيها أنّها كانت تشرب ماء الوادي كلّه في يوم. وهو ماء معيّن كان مخصّصا للشرب كما سنذكر.
هذا جلّ وصف
تلك الناقة الخارقة حسبما جاء إجماليّا في هذا المصدر الوثيق. أمّا كيف أخرجت
الناقة ، وكيف كان إرسالها تأكل في أرض الله بلا أن تتعرّض لسوء ، وكيف كانت قسمة
الماء بينها وبين القوم ، والماء لديهم كثير (أَتُتْرَكُونَ فِي ما
هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ
...)؟!
قال الشيخ محمد
عبده ـ ما ملخّصه ـ : دلّ مجموع الآيات على أنّ آية الله في الناقة أن لا يتعرّض
لها أحد من القوم بسوء في نفسها ، ولا في أكلها ولا في شربها. وأنّ ماء ثمود قسمة
بينهم وبين الناقة إذ كان الماء قليلا ، فكانوا يشربونه يوما وتشربه هي يوما. وروي
أنّهم كانوا يستعيضون عنه في يومها بدرّ لبنها الوفير. وهي آية لهم!
ولعلّ الماء
كان معيّنا خاصّا لشربهم دون سقي الأرض والمواشي. إذ ذكر في سورة القمر معرّفا
بلام العهد : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ). وفي الحديث : أنّ النبي صلىاللهعليهوآله دلّ المسلمين على البئر التي كانت تشرب منها الناقة حين
مرّوا بديار قوم صالح في غزوة تبوك. وأمرهم أن يستقوا منها ويهريقوا ما استقوا من
غيرها من تلك الآبار. قال العلماء : وقد علمها بالوحي.
__________________
حديث سدوم!
كان أهل سدوم
وهم قوم لوط ذوي أخلاق رديئة لا يتعفّفون من منكر يأتونه على رءوس الأشهاد ، كما
قال تعالى على لسان لوط وهو يعظهم ويؤنّبهم : (وَتَأْتُونَ فِي
نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) وقد شاعت عنهم المنكرات وارتكاب الفواحش والمظالم بحيث
سارت بها الركبان وضرب بهم المثل في كلّ عمل قبيح.
جاء في بعض كتب
الأدب العبري : أنّ سارة زوج إبراهيم أرسلت إلى لعازر كبير عبيد إبراهيم ليأتيها
بسلامة لوط. فلمّا دخل مدينة سدوم لقيه رجل من أهلها فعمد إلى لعازر بحجر ضربه به
في رأسه فأسال منه الدم ، ثمّ تعلّق به الرجل قائلا : إنّ هذا الدم لو بقي في بدنك
لأضرّك ، فقد نفعتك بإخراجه ، فأعطني أجري! فترافعا إلى القاضي فحكم على لعازر
بإدانته الأجر. فلمّا رأى لعازر ذلك من القاضي ، عمد إلى حجر فضرب به رأسه وأسأل
دمه وقال له : الأجر الذي وجب لي عليك بإسالة دمك ، ادفعه إلى ضاربي جزاء لضربه
إيّاي. وإلى ذلك يشير المعرّي :
وأيّ امرئ في
الناس ألفى قاضيا
|
|
ولم يمض
أحكاما لحكم سدوم
|
فلمّا أن طغى
عصيانهم وجاوزوا الحدّ أخذهم العذاب ودمّروا تدميرا ، سنّة الله جرت في الخلق ،
وقد أكّد عليه القرآن ، وليس عن صدفة كما زعمه أصحاب الفكر الإسلامي الحديث! قال
تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). ذكر ذلك تعالى بعد أنّ قصّ حديث قوم نوح وعاد وثمود. وقوم
إبراهيم وقوم لوط ، وأصحاب مدين وفرعون وموسى (فَأَمْلَيْتُ
لِلْكافِرِينَ. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).
وتلك خرائب قرى
لوط (بأرض فلسطين ـ على ضفاف البحر الميّت) لم تزل
__________________
مشهودة للعرب المعاصر لنزول القرآن في رحلاتهم إلى الشام صباحا ومساء (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ). يرون ديارهم التي عفت وأضحت خرابا يبابا! ألا فليعتبروا
ويحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابهم ، إن تمادوا في الغيّ والضلال البعيد!
أصحاب الكهف والرقيم!
قصّة أصحاب
الكهف ، تعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة. كيف تطمئنّ به ، وتؤثره على زينة
الأرض ومتاعها ، وتلجأ به إلى الكهف حين يعزّ عليها أن تعيش به مع الناس. وكيف
يرعى الله هذه النفوس المؤمنة ، ويقيها الفتنة ، ويشملها بالرحمة.
وفي القصّة
روايات شتّى وأقاويل كثيرة. فقد وردت في بعض الكتب القديمة وفي الأساطير بصور شتّى.
ولكن يجب الوقوف فيها عند حدّ ما جاء في القرآن ، فهو المصدر الوحيد المستيقن. ولتطرح
سائر الروايات والأساطير التي اندسّت في التفاسير بلا سند. وبخاصّة أنّ القرآن
الكريم قد نهى عن استفتاء أحد فيهم ، وعن المراء والجدل رجما بالغيب (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً
ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).
والكهف :
المغارة الواسعة. والرقيم ، قيل : إنّه معرّب «أركه ekrA» اليونانيّة أحد أسماء مدينة «بطرا»
هي قصبة الأنباط. كانت مدينة صخريّة قائمة في مستو من الأرض ، تحيط بها
الصخور كالسور المنيع ، وهي واقعة في «وادي موسى» عند ملتقى طرق القوافل بين «تدمر»
و «غزّة». وقد عمرت في إبّان دولة الأنباط وكثرت فيها الأبنية ، فلمّا ذهبت الدولة
تخرّب معظمها ، وبقي منها إلى الآن أطلال لا تفنيها الأيّام ولا يؤثّر فيها
الإقليم. منها «خزنة فرعون» وهي بناء شامخ منقور في صخر ورديّ اللّون ، على وجهته
نقوش وكتابات بالقلم النبطي ، وبجانبها مسرح منقور في الصخر أيضا ، ويستطرق من
هناك إلى
__________________
سهل واسع فيه عشرات من الكهوف الطبيعيّة أو المنقورة ، ولبعضها وجهات
منقوشة وجدران أكثرها ظهورا مكان يقال له «الدير». وكانت هذه الكهوف مساكن
الحوريّين القدماء ، ويلجأ إليها اليوم بعض المارّة ، فرارا من المطر أو البرد.
ومدينة بطرا ،
أو الرقيم أنشأها الأنباط ـ في الجنوب الشرقي من فلسطين ـ مدينة عربيّة قبل القرن
الرابع قبل الميلاد ، وظلّت قائمة إلى أوائل القرن الثاني بعده ، إذ دخلت في حوزة
الرّومان سنة ١٠٦ م.
وبطرا لفظ
يوناني معناه الصخر. وقد سمّي البلد بذلك لأنّ مبانيه منحوتة في الصخر ، واسمها
القديم سلع وسالع. ويعني أيضا الصخر. ولا زالت أطلاله إلى اليوم في وادي موسى في
الأردن ، ويسمّى أيضا وادي السيق.
والعرب شاهدوا
آثار هذه المدينة بعد الإسلام وسمّوها «الرقيم» وهو تعريب أحد أسمائها اليونانية ،
لأنّ اليونانيّين كانوا يسمّونها أركه ـ كما تقدّم ـ فحرّفه العرب وقالوا : الرقيم.
وقال المقريزى
في عرض كلامه عن التيه : «إنّ بعض المماليك البحريّة هربوا من القاهرة سنة ٦٥٢ ه
فمرّت طائفة منهم بالتيه فتاهوا خمسة أيّام ، ثمّ تراءى لهم في اليوم السادس سواد
على بعد فقصدوه ، فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلّها من رخام أخضر. فدخلوا بها
وطافوا ، فإذا هي قد غلب عليها الرمل حتّى طمّ أسواقها ودورها ، ووجدوا بها أواني
وملابس. وكانوا إذا تناولوا منها شيئا تناثر من طول البلى ، ووجدوا في صينيّة بعض
البزّازين تسعة دنانير ذهبا عليها صورة غزال وكتابة عبرانية. وحفروا موضعا فإذا
حجر على صهريج ماء ، فشربوا ماء أبرد من الثلج. ثمّ خرجوا ومشوا ليلة فإذا بطائفة
من العربان ، فحملوهم إلى مدينة الكرك ، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارفة ... ودفع
لهم في كلّ دينار مائة درهم ... وقيل لهم : إنّ هذه المدينة لها طوفان رمل يزيد
تارة وينقص اخرى
__________________
لا يراها إلّا تائه.
ولعلّ في هذا
الوصف اختلاطا للحقيقة بالخيال ، وأنّ المماليك شاهدوا أطلال بطرا ـ كما احتمله
زيدان ـ ووجدوا الدنانير ، إمّا من ضرب اليهود أو النبطيين ، وقد زار المدينة غير
واحد من المستشرقين في القرن الماضي (١٩) وقرءوا ما عليها من نقوش نبطيّة.
من هم أصحاب الكهف؟
قد ذكر
المؤرّخون والمفسّرون عن أهل الكهف شيئا كثيرا ، أورده الطبري في التاريخ وفي
تفسيره ، ويتّفق أكثر الروايات على القول بأنّ عددا من الفتية نبذوا عبادة الأوثان
واعتنقوا التوحيد في مدينة «أبسس» ثمّ فرّوا من تلك المدينة وأووا إلى كهف وكان معهم كلب
عجزوا عن إبعاده ، وناموا في هذا الكهف. ثمّ جاء الملك الوثني داقيوس (ويسمّى أيضا
داقينوس وداقيانوس) ومعه أتباعه للقبض عليهم ، ولكن لم يستطع أيّ واحد منهم دخول
الكهف ، فبنوا عليهم باب الكهف ليموت الفتية جوعا وعطشا ، ونسي الناس أمرهم بعد
ذلك.
وفي يوم من
الأيّام بعث أحد الرعاة برجاله وأمرهم بفتح فم الغار ليتّخذه حظيرة لغنمه ، ولمّا
دخلوا لم يروا أوّل الأمر الفتية الذين بعثهم الله في الأجل الذي ضربه ليقظتهم. وعند
ما استيقظوا كانوا لا يزالون يملؤهم الفزع والرعب من الخطر الذي نجوا منه ، فعمدوا
إلى الحيطة وبعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاما. ولم يعرف بائع الطعام
النقود التي دفعها إليه الفتى ، فساقه إلى الملك وهناك تبيّن كلّ شيء : فقد نام
الفتية ثلاثمائة سنة وتسعا ، وكانت الوثنيّة قد انقرضت خلال هذه المدة وحلّ محلّها
التوحيد ، وفرح الملك بأصحاب الكهف فرحا عظيما ، لأنّ بعثهم أيّد عقيدة دينية كان
البعض يشكّ في صحّتها ، وهي أنّ الناس يبعثون كما هم بالجسد والروح معا.
__________________
ولم يكد الفتى
يعود إلى الكهف ثانية حتى ضرب الله على آذانهم مرّة اخرى. فجاء الناس وشيّدوا هناك
ـ على المغارة ـ مسجدا ، تبرّكا بهم.
* * *
وهنا عدة أسئلة
اخرى :
ما هي تلك
المدينة التي هرب منها الفتية ولجئوا إلى الكهف؟
يقول ابن عاشور
: والذي ذكره الأكثر أنّ في بلد يقال له : «أبسس» ـ بفتح الهمزة وسكون الباء وضمّ
السين ، بعدها سين اخرى ـ وكان بلدا من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد إرمينيّة وأنطاكيّة.
قال : وليست هي
«أفسس» بالفاء ، المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها ، فإنّها من
بلاد اليونان ، وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرّخين والمفسّرين ، وهي قريبة من «مرعش»
من بلاد إرمينيّة.
وأبسس هذه هي
مدينة «عربسوس» القديمة في «كبادوشيا» ، وكانت تسمّى أيضا «أبسس». وتسمّى
اليوم «برپوز».
فهل كانت مدينة
«أبسس» هذه هي المسرح الذي وقعت فيه تلك الحوادث بما فيها من غرائب؟
أمّا «ده غوى»
فيؤيّد هذا الرأي معتمدا على براهين استمدّها من النصوص. وفي الحقّ إنّ بعض
الرحّالة قالوا : إنّهم رأوا في مدينة «أبسس» هذه كهفا كان به جثث ثلاثة عشر رجلا
قد يبست.
قال ياقوت :
أبسس ، اسم لمدينة خراب قرب «أبلستين» من نواحي الروم. يقال :
__________________
منها أصحاب الكهف والرقيم. وقيل : هي مدينة دقيانوس. وفيها آثار عجيبة مع
خرابها.
وفوق هذا فقد
تضمّنت مجموعة النصوص المتعلّقة بتاريخ السلاجقة ما ينصّ على أنّ «عربسوس» هي
مدينة أصحاب الكهف والرقيم. وربما كان اكتشاف هذه الجثث الثلاث عشرة هو الأصل لهذا
القول ، ثمّ حرّف الناس «أبسس» فيما بعد إلى «أفسس»؟
وقيل : هي
البتراء (بطرا) مدينة أثريّة في الأردن وفيها المسرح الكبير ، حسبما تقدّم. ولعلّه
المراد فيما اثر عن ابن عباس ، قال : الرقيم ، واد دون فلسطين قريب من أيلة.
* * *
متى كان هذا الهروب واللجوء؟
والأكثر على
أنّه كان بعد ظهور النصرانيّة ولعلّه في بدايتها. كانت الديانة النصرانيّة دخلت في
تلك الجهات ، وكان الغالب عليها دين عبادة الأوثان على الطريقة الروميّة الشرقيّة
قبل تنصّر قسطنطين. فكان من أهل «أبسس» نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة
الأصنام ، وكانوا في زمن الإمبراطور «دقيانوس» الذي ملك في حدود سنة ٢٣٧ م.
وكان متعصّبا
للديانة الرومانيّة وشديد البغض للنصرانيّة ، ولذلك توعّدهم بالتعذيب ، فاتّفقوا
على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له : «بنجلوس» أو
«أنخيلوس».
وتقول الروايات
إنّ الملك الوثني الذي اضطهد النصارى كان يسمّى «داقيوس» الذي ملك ما بين (٢٤٩ ـ ٢٥١
م). أمّا الملك النصراني الذي بعث الفتية في عهده فهو الملك «تيودوس» الثاني (٤٠٨
ـ ٤٥٠ م). فتكون مدّة مكوثهم في الكهف ما يقرب من (٢٠٠) سنة ، وهذا لا يتّفق مع ما
ورد في القرآن من أنّ أصحاب الكهف (لَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)؟!
__________________
يقول الدكتور
عبد الوهاب النجّار ـ معلّقا على ذلك في الهامش ـ : الذي ألاحظه ، أنّ عبارة دائرة
المعارف الإسلامية كعبارة أكثر المفسّرين ، تعتبر أنّ قوله تعالى (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ
مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) خبر عن مدّة مكث أهل الكهف في كهفهم منذ دخلوه إلى أن
استيقظوا!
ولكنّي أفهم
غير ذلك وأقول : إنّ قوله (وَلَبِثُوا ...) معمول لقوله (سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ ...) فهو من مقول السائلين وليس خبرا من الله تعالى ، ولذا
أتبع ذلك القول بقوله (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ). وكذا هنا أتبع قوله (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ ...) بقوله (اللهُ أَعْلَمُ بِما
لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...).
فالقرآن ساكت
عن عددهم وكذا عن مقدار لبثهم ، إذ لا غرض يترتب على الهدف الذي ساقه القرآن.
وقد ورد هذا
القول عن ابن عباس وتلميذه قتادة.
قال ابن عباس :
إنّ الرجل ليفسّر الآية يرى أنّها كذلك ، فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض!
ثمّ تلا : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ...) قال : لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ، لكنّه حكى مقالة القوم في العدد وفي المدّة ، وردّ
عليهم بأنّه تعالى أعلم.
وقال قتادة :
في حرف (أي قراءة) ابن مسعود : وقالوا لبثوا في كهفهم ... يعني إنّما قاله الناس ،
ألا ترى أنّه قال : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا).
وفي رواية اخرى
عنه أيضا : هذا قول أهل الكتاب ، فردّ الله عليهم (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا).
* * *
قلت : قصّة
أصحاب الكهف ، حسبما جاءت في القرآن ، قصّة قديمة موغلة في القدم ، يرجع عهدها إلى
ما قبل الميلاد ، ولعلّه بقرون. ولأنّها بقضيّة يهوديّة أشبه منها أن تكون قضيّة
مسيحيّة.
__________________
روى محمد بن
إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ، قال : إنّ النضر بن الحرث بن
كلدة وعقبة بن أبي معيط ، أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقالوا لهما :
سلاهم عن محمّد ، وصفا لهم صفته ، وخبّراهم بقوله ، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل
وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتّى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود
عن النبي صلىاللهعليهوآله وقالا لهم ما قالت قريش.
فقال لهما
أحبار اليهود : اسألوه عن ثلاث ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فهو
رجل متقوّل ، فارأوا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ، ما كان
أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض
ومغاربها ، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟
وفي رواية اخرى
: فإن أخبركم عن الثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبيّ.
فانصرفا إلى
مكّة ، فقالا : يا معاشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد ، وقصّا عليهم
القصّة. فجاءوا إلى النبي صلىاللهعليهوآله فسألوه. فاستمهلهم النبي صلىاللهعليهوآله حتّى يأتيه الوحي ، فمكث اسبوعين حتّى نزلت الآيات بشأن
أصحاب الكهف وذي القرنين وبشأن الروح : إنّه من أمر ربّي ولم يبيّن.
وفي هذا الوصف
الذي جاء في رواية ابن اسحاق ، دلالة واضحة على أنّ حديث الفتية حديث قديم يرجع
عهده إلى الدهر الأوّل. وربّما يعني ذلك : العهد القديم السابق على عهد موسى وبني
إسرائيل. فقد كان حديثا شائعا يتداوله أبناء الأديان القديمة وتوارثها المتأخّرون
ومنهم اليهود. ولعلّه كان من شعارات أصحاب الأديان ، هي معرفة هكذا قصص دينيّة
فيها اضطهاد وفيها الصبر والأناة والمقاومة تجاه الإلحاد ، وفي النهاية : النصر
والظفر ... فهو حديث غلبة الحقّ على الباطل ، وظهور السلام على العسف والطغيان في
أيّ زمان. (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). جاءت الآية حديثا عن مواضع الأنبياء الظافرة.
إذن فقد كان
حديث الفتية رمزا قديما لانتصار التوحيد على الشرك كلّه ، وشعارا
__________________
لائحا بمحجّة الدين الظاهرة والدائمة على مدى الدهر.
وجاءت القصّة
في الأوساط المسيحيّة بعنوان «نوّام أفسس السبعة» نشرت لأوّل مرّة في الشرق في كتاب سرياني يرجع
تأريخه إلى القرن الخامس بعد الميلاد. ووردت عند الغربيّين في كتاب «ثيودوسيوس» عن الأرض المقدّسة. وقصّة أصحاب الكهف مشهورة ذائعة في
الآداب الشرقيّة والغربيّة على حدّ سواء.
غير أنّ فكرة
تقادم القصّة في أوساط سابقة على المسيحيّة ، قد شغلت أذهان المحقّقين ، حتّى عثر
بعضهم على آثار مشابهة في مصادر يهوديّة ويونانيّة وغيرهما ، منها : قصّة «أنياس»
ـ حوني ـ التي جاءت في كتاب «تعانيت» في فصول من كتاب «التلمود». وكان قد استغرق
نومه ٧٠ سنة.
وهكذا قصّة «هلني»
والنوّام التسعة بساردينيا ، التي أشار إليه «أرسطو» ، وغير ذلك ممّا ذكروه بهذا
الصدد.
حديث ذي القرنين؟
وهكذا حديث ذي
القرنين ، الرجل الذي جاب البلاد وطاف المعمورة فأتى مطلع الشمس (شرقيّ الأرض)
ومغربها (غربي الأرض) حديث قديم قد يرجع تاريخه إلى عهد بعيد. غير أنّ الذي حقّقه
بعض أعلام العصر ، الأستاذ أبو الكلام آزاد الهندي ، مستمدّا من نصوص التوراة (العهد
القديم) هو احتمال أن يكون هو الملك الفارسي «كورش» الكبير (٥٥٧ ـ ٥٢٨ ق. م) الذي
دانت له البلاد شرقا وغربا. استولى على بلاد ماداى وآسيا
__________________
الصغرى وبابل. وأطلق سراح اليهود من أسر البابليين وأذن لهم بالعودة إلى
فلسطين وأعانهم على إحياء القدس من جديد. ومن ثمّ جاء ذكره في أسفار التوراة
بإعظام وتبجيل.
وكانت تسميته
بذي القرنين تعبيرا عن رؤيا رآها دانيال النبيّ عند ما كانوا في الأسر ، وكانت الرؤيا تبشّر بخلاصهم على يد ملك ذي سلطان قاهر
يسطو على بلاد ميديا وفارس.
جاء في الرؤيا
: «في السّنة الثالثة من ملك «بيلشاصّر» البابلي ، ظهرت لي أنا «دانيال» رؤيا ... وكان
في رؤياي ، وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند
نهر أولاي ، فرفعت عينيّ ورأيت وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان ، والقرنان
عاليان ... رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا ، فلم يقف حيوان قدّامه ولا منقذ
من يده ، وفعل كمرضاته وعظم ...
ثمّ إنّه طلب
من الله أن يبعث له من يعبّر له الرؤيا ، وإذا بشبح إنسان واقف قبالته ، وسمع صوتا
يقول : يا جبرائيل ، فهّم هذا الرجل الرؤيا ... فجعل جبرائيل يفسّر الرؤيا في
تفصيل حتّى أتى على ذكر الكبش والقرنين ، فقال : أمّا الكبش الذي رأيته ذا القرنين
، فهو ملك مادى وفارس ...
وبالفعل فإنّ «كورش»
وحدّ مملكتي ماديا وفارس غربا وشمالا واستولى على بابل في الجنوب وبسط سلطانه على
أرجاء البلاد.
وهكذا جاء في
كتاب «إشعياء» : وأقول بشأن كورش ، إنّه خير راع اصطفيته ، وإنّه يحقّق إرادتي ،
ويجدّد بناء اورشليم ويعمر بيتي من أساس.
__________________
وفي الأصحاح ٤٥
: هكذا يقول الربّ لمسيحه يعنى كورش : إنّي منحت لك القدرة والسطوة والملك. وسوف
يخضع أمامك كلّ الملوك ، ويفتح لك الأبواب كلّها وسوف تصفى لك الأرض ويذاب لك
النحاس والحديد ، وتستولي على خزائن الأرض وذخائرها ، ـ إلى قوله ـ أنا أنهضته
بالنصر وكلّ طرقه اسهّل. وهو يبني مدينتي ويطلق سبيي ...
وفي الأصحاح ٤٦
جاء تشبيه كورش بالعقاب الكاسر ، يقول : أبعث من المشرق عقابا كاسرا ينقضّ على الأكاسرة
ليحطّمهم ويفعل في الأرض ما اريد ، وسوف يتحقّق على يديه ما قضيت.
وكتاب إشعياء ـ
ولعلّه عاش قبل ظهور كورش بأكثر من قرن ونصف (١٦٠ سنة) ـ لم يؤلّف في زمن واحد. وقد
أكمله بعده أنبياء متأخّرون وبعضهم عاصر ظهور كورش وسقوط بابل. غير أنّ الجميع
وصفوا كورش بالقدرة والسطوة الربّانيّة والذي جاء ليخلّص العباد من الظلم والجور
عليهم. وهكذا فعل في خلاص بني اسرائيل وإعادة بناء البيت وقد ملك الأرض شرقا وغربا
وبسط العدل فيها.
الأمر الذي
يهمّنا ويرتبط بصلب البحث عن شخصيّة ذي القرنين في كتب السالفين.
وفي كتاب إرميا
، أصحاح ٥٠ : أخبروا في الشعوب وارفعوا راية الفخار ، وقولوا : أخذت بابل ، وخزي
بيل ومردوخ وأوثانها وسحقت الأصنام. لأنّه قد طلعت عليها من الشمال أمّة تهدم كلّ
هذه البنايات وتكسر سطوتها.
وفي هذا
التعبير جاء تشبيه الامّة الفارسيّة ذلك اليوم بالشمس الطالعة والتي تبعث على
العالم أشعّتها للدفء والحيويّة والنشاط.
__________________
وهكذا جاء
التعبير في القرآن عن ذي القرنين بالعبد الصالح ، والذي منحه الله القدرة والسطوة
، لا ليستعملها في الشرّ ، بل في الخير والصلاح ونشر العدل في البلاد وحماية
العباد عن مظالم الطغاة.
فكانت سيرته
حسنة وكانت سياسته على أساس الحكمة وقد ارتضاه الله ، فألهمه الخير ووفّقه في
إسعاد العباد وإصلاح البلاد.
ومن العباد
ملهمون وربّما محدّثون ، وإن لم يكونوا أنبياء. الأمر الذي ينطبق على ذي القرنين
بكلّ وضوح. ولعلّه هو كورش على ما جاء في العهد العتيق ، نظرا لهذا الانطباق أيضا
حسب الظاهر.
وإليك وصفه على
ما جاء في القرآن :
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً).
(إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً).
(فَأَتْبَعَ سَبَباً
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً).
(قُلْنا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً).
(قالَ أَمَّا مَنْ
ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً
نُكْراً).
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً).
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ
لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما
لَدَيْهِ خُبْراً).
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا
يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً).
(قالُوا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
(قالَ ما مَكَّنِّي
فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
رَدْماً).
(آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا
جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)
(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً).
(قالَ هذا رَحْمَةٌ
مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي
حَقًّا).
والذي يبدو من
هذه الآيات : أنّ لذي القرنين شأنا عند الله ، وأنّه كان ملهما من عنده ، بعثه
الله سطوة على الطغاة ونجاة للعباد في أرجاء البلاد.
وهكذا جاء في
منشور كورش دعما لإحياء القدس من جديد وإطلاق سراح إسرائيل من الأسر. منوّها أنّ
ذلك من أمر الإله ربّ العالمين.
جاء في كتاب
عزرا ، أصحاح ١ : ١ ـ ١١ : «وفي السنة الاولى لكورش ملك فارس ، عند تمام كلام
الربّ بفم إرميا ، نبّه الربّ روح كورش ملك فارس ، فأطلق نداء في كلّ مملكته ،
وبالكتابة أيضا ، قائلا : «هكذا قال كورش ملك فارس : جميع ممالك الأرض دفعها لي
الربّ إله السماء ، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا ...».
وجمع الإعانة
من كلّ أبناء ملكه الوسيع ، قائلا : «وكلّ من بقي في أحد الأماكن ، حيث هو متغرّب
، فلينجده أهل مكانه بفضّة وبذهب وبأمتعة وببهائم ، مع التبرّع لبيت الرّبّ في
اورشليم.
وحتّى أنّه
أرجع التراث الإسرائيلي الذي كان قد نهبه بخت نصّر ، وردّه إلى البيت ، وكانت
أواني من ذهب وفضّة ما يعدّ بالالوف».
والتعبير في
هذا البيان : أنّ الربّ نبّه روح كورش. وهو الوحي بمعنى الإلهام.
وهذا يتّحد مع
قوله هو : وهو أوصاني أن أبني له بيتا ... أي وقع في خلدي فعل هذا الخير. وكلّ
فكرة خير إنّما هو من عند الله. كما أنّ فكرة الشرّ من الشيطان. (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى
أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ).
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).
__________________
وهذا هو إلهام
الشرّ الشيطاني. أمّا إلهام الخير الرحماني ، فهو كما بشأن أمّ موسى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ
أَرْضِعِيهِ ...). وأوحينا بمعنى ألهمنا ، في القرآن كثير.
وهكذا «قلنا»
حديثا مع ذوات الأنفس وليس مشافهة بالكلام. وليس بشأن الإنسان فحسب ، بل بشأن
الحيوان والجماد ، أيضا كثير.
فجاء حديثا مع
أصحاب البقرة : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ). إذ لم يكن خطاب مشافهة ، ولا دليل على أنّه بواسطة
الرسول. والمحتمل قويّا هو إيحاء هذا المعنى كما في أمّ موسى.
وهكذا قوله
بشأن بني إسرائيل ـ بعد هلاك فرعون ـ : (وَقُلْنا مِنْ
بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ...). إلقاء في النفوس بطبيعة الحال.
وكان الخطاب مع
النار في قوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ
كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أيضا من قبيل إيحاء إرادته تعالى ، لكن تكوينا. نظير
الإيحاء إلى النحل والنمل وسائر الحيوان ليسلكوا سبل ربهم ذللا.
ومن هذا القبيل
قوله تعالى بشأن مردة بني إسرائيل : (فَقُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). لم يكن خطاب تكليف بل خطاب تكوين.
وهكذا الحديث
مع الأرض والسماء في قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ...).
(فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).
فلا غرابة
بعدئذ أن يأتي بشأن الإيحاء ـ نفسيّا ـ إلى عبد من عباد الله الصالحين : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا
أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ
فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ... وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً
الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً.)
وهذا عند ما
سار كورش متوجّها في فتوحاته نحو الغرب لتسخير بلاد ليديا ،
__________________
فوقع ملكها «كرزوس» أسيرا في يد كورش ، وكان قد تآمر ضدّه مع سائر الدول
للقضاء على امبراطوريّة فارس ، ولكنّه فشل ووقعت بلاده طعمة رخيصة للملك الفارسي ،
ومن ثمّ حاول إحراقه بالنار ، لكنّه سامحه وعفى عنه ، حسب دأبه مع سائر أمراء
البلاد الذين بغوا عليه وأصفح عنهم.
وبذلك نرى
الآيات لعلّها تتصادق مع ما سجّله التاريخ بشأن كورش. فقد قويت شوكته بعد أن وحّد
فارس ماديا بعد الاستيلاء على «إكباتان» (همدان ـ اليوم). فذهب متوجّها نحو الغرب
لإخضاع مناوئيه هناك (ليديا). الأمر الذي يتصادق مع قوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) (بتوحيد بلاد فارس وماديا) (وَآتَيْناهُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (أي علما بطرق الفتح والظفر على الخصوم)
(فَأَتْبَعَ سَبَباً
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) (هي الضفة الغربيّة من آسيا الصغرى ، حيث بلاد ليديا ، تركيا الحاليّة) (وَجَدَها) (أي الشمس) (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ
حَمِئَةٍ) حيث بحر إيجة ويسمّى بحر المغرب ، وبحر مرمرة وعلى
امتدادهما البحر الأسود ، وكلّها تضرب بالسواد ، كأنّه الوحل. والحمأة : الطين
الأسود. وكانت الشمس تغرب على آفاق تتاخم تلك البحار الضاربة لونها إلى السواد.
وهكذا سار كورش
(ذو القرنين) بجيوشه نحو مغرب الشمس (غربيّ بلاد فارس ـ آسيا الصغرى) حتّى أوقفه
البحر ، ولم يكن من شبر أمامه من يابس ـ في مسيرته تلك ـ! فما ذا بعد قرص الشمس
المحتقن وقد تخضّب بحمرة كأنّه ينزف ما فيه من طاقة ... ما ذا بعد قرص الشمس وقد
اصفرّ واحتضر وتضاءل عند الافق ، ثمّ هوى وسقط غارقا في العين الحمئة ... في خليج «إزمير» ، بين الماء والطين الأسود العكر اللّذين يسكبهما نهر «جيديس»؟
لقد رأى كورش (ذو
القرنين) في هذا المشهد ما يشدّه إلى الخالق الأعظم ، مالك
__________________
السماوات والأرض ومسيّر الأفلاك القابض الباسط العظيم المتعال.
لقد تضاءل ـ رغم
ملكه العريض ـ أمام سقوط الشمس في عين حمئة ، حيث أظلمت الدنيا بعدها ، فعرف أنّ
لكلّ شيء نهاية ، وكلّ شيء هالك إلّا وجه الله الكريم. لقد توصّل كورش ـ بما لديه
من خلفيّة روحيّة استمدّها من زرادشت ـ إلى حقيقة البعث والممات ، وعظمة الله في
الآفاق.
هذا هو شعب
ليديا قد صار في قبضته ، فما ذا يفعل بهم؟
لقد منح الله
ذا القرنين حرّية اختيار العفو عنهم أو تأديبهم والتنكيل بهم ... واختار ذو
القرنين العفو عمّن تاب وآمن. وقال : من كان هذا شأنه فسماح وعطف ويسر وتكريم
وأمان ورحمة. ومن كفر وطغى وتجبّر فضرب بالأعناق وعنف وتأديب.
قال تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها
قَوْماً. قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ
تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ... قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ
ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً).
نحو مغرب الشمس!
نعم قام كورش
بحملة نحو المغرب (غرب بلاد فارس) حيث مغرب الشمس بالنسبة إليهم.
والشمس لا تغرب
في مكان محدّد تهوي إليه حتّى الصباح الثاني. وإنّما أيّ مكان في الكرة الأرضيّة
تغرب فيه الشمس عند الافق يسمّى مغرب الشمس ، وبالتالي فمغرب الشمس شيء نسبيّ ... قد
يراه ابن الصحراء وراء التلال ، وهو بالنسبة له مغرب الشمس ، وقد يراه ابن السهل
الساحلي شاطئ البحر ، وقد يكون سطح البحر المنحني مغربا للشمس في نظر الرائي ، وما
هي ـ آنذاك ـ إلّا مشرقة عند قوم آخرين.
__________________
وتؤخذ لحظة
الغروب عند ما يقع الافق على منتصف قرص الشمس تماما ، ونقول ساعتها : هذا مغرب
الشمس!
فإذا قلنا :
إنّ كورش توجّه نحو مغرب الشمس ، فمعنى ذلك أنّنا نقول : إنّ مسار الحملة كان صوب
الغرب.
فإذا كان كورش
ـ ملك فارس الكبير ـ يقيم في «أنشانا ـ خوزستان الحاليّة» على خط طول (٥٠ ش) فإنّ
اتّجاهه صوب المغرب يعني حملته على «ليديا ـ تركيا حاليّا».
بعد أن انتصر
كورش على الميديّين ودخل عاصمتهم «همدان» ، ساد الوجوم والانزعاج ربوع أعظم
الممالك قاطبة ذلك الحين : مملكة مصر الفرعونيّة ، مملكة الليديين (ليديا) ومملكة
البابليّين. وجرت بينهم مفاوضات لتحقيق الاتّحاد بينهم لمواجهة كورش ، وكانت مملكة
ليديا (تركيا الآن) أخوف الثلاثة وأحرصهم على تحقيق هذا الاتّحاد العسكري ، رغم
أنّ ملكها «كرزوس» كان قد بذل أقصى جهوده لازدهار ليديا حتى صارت عاصمتها «سارد»
يقال عنها بسارد الذهبيّة.
وقد بلغ
الاضطراب بملك ليديا درجة أنّه كان يتوقّع هجوم كورش على بلاده بين لحظة واخرى ،
ومن ثمّ جهّز الملك الليدي نفسه ، فدخل في مفاوضات مع اسبراطة (إحدى الدول
اليونانية) وضمّها إلى حلفه واتّحدت بابل ومصر كذلك معه وسارت الجيوش نحو كورش في
إيران.
يقول الاستاذ
خضر : لم يكن كورش ـ إذن ـ معتديا ولا سفّاحا ولا طامعا في ملك أحد.
أمّا الجيوش
التي سارت نحو كورش فلم تكن جيوش الحلفاء جميعا ، فالملك «نبونيد» ملك بابل لم يكن
ليجسر على القيام بأيّ حركة ، لخوفه من انتقام الفرس. والأسبارطيون وعدوا
بالمساعدة ولكنّهم تقاعسوا عن العمل ، متمسّكين بسياسة العزلة التي ظلّوا دوما
يتّبعونها. أمّا ملك مصر (آماسيس) الذي أدرك خطر الفرس على بلاده فقد
__________________
رضي بإرسال جيش صغير بطريق البحر. ولكن ملك ليديا «كرزوس» لم ينتظر وصول
النجدات من حلفائه ، بل أسرع بالهجوم وعبر نهر «هاليس» (قزل أرماق) وضرب البلاد
التي في طريقه.
وفجأة اصطدم
بجيش كورش عند مدينة «بتريّة» أو «بتريوم» ـ العاصمة القديمة للحيثيّين ـ ودارت رحى حرب ضروس بين الجيشين ... واضطرّ الملك
الليدي إلى الانسحاب غربا حتّى حدود مملكته.
واندفع كورش
نحو «مغرب الشمس» متقدّما بسرعة وباغت جيش ليديا عند أسوار العاصمة (سارد) أو (سارديس)
فسحق الجيش الليدي منذ الحملة الاولى ووقع الملك الليدي أسيرا وجميع قادة جيشه
وجنوده سنة ٥٤٦ ق. م. وهنا يأتي دور الآية الكريمة : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا
أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ...).
قال الدكتور
خضر : كان العالم القديم آنذاك قد تعوّد من الملوك الفاتحين المنتصرين تدمير
البلاد المقهورة التي تخرج مغلوبة مهزومة من المعارك الحربيّة ... ولكن كورش عامل
كرزوس بالحسنى ـ وفقا للآية الكريمة ـ كما كانت شيمته الكريمة مع سائر الملوك
المغلوبين ، كان يعاملهم الحسنى ، كما فعل بملك ماد وملك أرمنستان وغيرهما.
ويذكر هيرودوت
أنّ كورش كان يودّ ـ في بداية الأمر ـ أن يختبر صلابة الملك الأسير وإيمانه فأمر
بإضرام النار ليلقى فيها ، ثمّ عدل عن ذلك ـ رأفة ورحمة به ـ وزاد من إكرامه
وتعزيزه ، وبلغ من إكرامه أن اتّخذه مستشارا كان يستشيره في مهامّ اموره.
وأمّا بقيّة
رواية هيرودوت من إلقاء الملك الأسير ـ فعلا ـ في النار ، ثمّ عنّ له ـ لبادرة
بدرت من كرزوس ـ فأمر بإنجائه وذويه من النار ... فإنّ المحقّقين من أرباب
__________________
التاريخ المعاصرين ، لا يتوافقون على صحّته ، إذ كان متنافيا مع معتقدات
الفرس آنذاك ، حيث تقديسهم لجانب النار وأن لا تتلوّث بالأقذار ، فضلا عن مخالفته
لشيمة ملوك الفرس عامّة من اتّخاذ طريقة الرأفة بالاسراء الملوك والأخذ بجانب
حرمتهم بالذات.
ولعلّ هيرودوت
أخذ هذه القصّة من قصّاصين قبله وسجّله في كتابه من غير تحقيق.
بعد ذلك واصل
كورش زحفه غربا في آسيا الصغرى لإخضاع المستعمرات اليونانيّة ـ وكانت قد رفضت
التحالف مع كورش في حربه مع ملك ليديا ـ كما كان من الطبيعي بعد انتصاره على
الليديّين أن يفكّر كورش في الوصول إلى بحر إيجة (غرب ليديا) الذي تحتاج إليه
الإمبراطوريّة الفارسيّة لتسهيل مصالحها التجارية العالميّة ، وكانت المدن
الأيونيّة (المستعمرات اليونانية) على شواطئ هذا البحر مشهورة بغناها ، ولكنّها
منقسمة على بعضها وبالتالي كانت ضعيفة ، فكانت تؤلّف غنائم سهلة التناول تغري
الفاتحين.
وكانت مباغتة
فجيعة لليونانيّين على شواطئ آسيا الصغرى عند ما رأوا الجيوش الفارسيّة الجرّارة
تطبّق عليهم جميعا وتستولي بحملة واحدة على مدنهم كلّها على سواحل بحر إيجة.
هذا هو ذا قد
بلغ كورش مغرب الشمس بالنسبة لبلاده ، لقد صار على حافّة البحر الأبيض المتوسّط ،
فأين العين الحمئة إذن؟؟
وجدها تغرب في عين حمئة!
حين توقّف كورش
عند شواطئ بحر إيجة ـ وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسط ـ وجد الشاطئ ـ كما
هو معروف في الخريطة ـ كثير التعاريج ، حيث تتداخل ألسنة البحر داخل اليابس ، ومن
أمثلة هذه الألسنة البحريّة خليج هرمس
__________________
ومندريس الأكبر ومندريس الأصغر ، ويتعمّق خليج «إزمير» إلى الداخل بمقدار (١٢٠
ك. م) تحيط به الجبال البللوريّة التي سمّاها «فيلبسون nosppilihP» : «العين الليديّة الكارية» حيث تحيط هذه الجبال من الغرب إلى الشرق حافّتي هذا
اللسان البحري الذي يتّخذ شكل العين ، ويصبّ فيه نهر «غديس» المياه العكرة
المحمّلة بالطين البركاني والتراب الأحمر ، من فوق هضبة الأناضول التي تنحدر ببطء
نحو الغرب قبل أن تصل إلى الحافّة الغربيّة ، ولذلك تزيد سرعة جريان نهر «غديس» في
اتّجاه السهل الساحلي المتقطّع في شكل خلجان وأخوار وأجوان لا حصر لها ، حتّى يصل مستوى قاعدة بحر إيجة ،
حيث يصبّ في خليج «إزمير» الغارق بين قمم الجبال المحيطة به بارتفاع يتراوح بين
١٠٠٠ و ٢٠٠٠ متر.
وحين وقف كورش
ذو القرنين عند «سارد» قرب إزمير تأمّل قرص الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا
الخليج الذي يشبه العين [الكبيرة] تماما واختلطت حمرة الغسق بالطين الأحمر والأسود
الذي يلفظه نهر «غديس» في عين خليج إزمير.
ونرجّح أن تكون
تلك هي العين الحمئة التي ذكرها القرآن.
وهكذا ورد في
التفسير : العين الحمئة ، هي عباب الماء ولجّته المليئة بالوحل ، أي الطين الأسود
الفاحم.
روى عبد الرزاق
بإسناده إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى عن عثمان بن حاضر الحميري الأزدي (أبو حاضر
القاصّ ، شيخ من أهل اليمن مقبول صدوق وذكره ابن حبّان في الثقات) ، قال : قال لي ابن عباس : لو رأيت إليّ وإلى معاوية ،
وقرأت : (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) (أي وحلة) وقرأ : «حامية» (أي دافئة). فدخل كعب فسأله معاوية ، فقال : أنتم
أعرف بالعربيّة ، ولكنّها تغرب في عين سوداء.
__________________
وفي رواية :
قال ابن عباس لمعاوية : في بيتي نزل القرآن. لكنّه أرسل إلى كعب وسأله ، فقال :
كعب : سل أهل العربيّة فإنّهم أعلم بها. ثمّ فسّرها بماء وطين.
قال أبو حاضر :
لو أنّي عندكما أيّدتك بكلام وتزداد به بصيرة في «حمئة»! قال ابن عباس : وما هو؟
قال : فيما نأثر قول الشاعر ـ وهو تبّع اليماني ـ فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه
بالعلم واتباعه إيّاه :
قد كان ذو
القرنين عمرو مسلما
|
|
ملكا تدين له
الملوك وتحشد
|
فأتى المشارق
والمغارب يبتغي
|
|
أسباب ملك من
حكيم مرشد
|
فرأى مغيب
الشمس عند مغابها
|
|
في عين ذي
خلب وثأط حرمد
|
فقال له ابن
عباس : ما الخلب؟ قال : الطين ، بلسانهم (أي الحمير). قال : فما الثأط؟ قال :
الحمأة (الوحل وهو الطين الرقيق الأسود). قال : فما الحرمد؟ قال : الأسود. فدعا ابن عباس غلاما أن يأتي بالدواة ، فقال له : اكتب
ما يقوله الرجل.
قال الدكتور
خضر : والبحث العلمي الجغرافي تتبّع نشأة المدن القديمة على خليج إزمير ، مثل «أفسوس»
و «ملطية» فوجد أنّ هذه الحمأة السوداء التي كانت تعكر خليج إزمير حين نظر كورش
إلى الشمس وهي تغرب في هذا الخليج ، هي الرواسب التي سدّت جانبا كبيرا من هذا
الخليج ، وبعد أن كانت «أفسوس» و «ملاطيّة» ـ وكانتا ميناءين في الزمن القديم ـ صارتا
تقعان اليوم على بعد بضعة كيلومترات من البحر.
كما أنّ ميناء «إزمير»
نفسه لم ينج من الامتلاء وبرواسب الطين التي كان يجلبها نهر «غديس» إلى الشمال منه
بقليل. وأخيرا اضطرّت الحكومة التركيّة إلى تحويل مياه
__________________
النهر بعيدا عن هذا الخليج.
* * *
ثمّ وبعد أن
فرغ من أمر آسيا الصغرى ـ الواقعة في غربيّ البلاد ـ توجّه شمالا وفي شرقيّ البلاد.
لإخضاع أقوام هناك كانوا قد تعسّفوا وأفسدوا في الأرض ، فحاربهم محاربة عنيفة طالت
ثماني سنوات ، حتّى ساد الأمن على تلك البلاد.
ثم أتبع سببا
حتى إذا بلغ مطلع الشمس (شرقي البلاد) وجدها تطلع على قوم (وحش) لم نجعل لهم من
دونها سترا. عن الباقر عليهالسلام : لم يعلموا صنعة البيوت فلم يعرفوا بناية السقوف والبنيان ، سوى اللجوء إلى
الأسراب وغدران المياه من حرارة الشمس.
والمنطقة كانت
صحراوية قاحلة ممتدّة من شماليّ بحر قزوين حتّى شواطئ المحيط الهندي وتشمل بلاد «مكران
ـ سيستان وبلوجستان». وظلّ كورش يعالج إخضاع تلك الأقوام خلال ثمانية أعوام.
وقد دلّت الدراسات
التي اجريت على قياس الجنس الإنساني سنة ١٩٠١ م بالهند قبل التقسيم وحين كانت
صحراء غيدروسيا (مكران ، بلوجستان ، سيستان) تابعة لها على حدود إيران وأفغانستان
، على أنّ السّكّان ينتمون إلى الجنس التركي الإيراني الذي يتّسم بقصر القامة على
العموم. ومعظمهم من ذوي الرءوس العريضة ، ويبلغ قياس مخّهم (٨٠ ـ ٨١) وانوفهم
طويلة وشعر رأسهم ولحيتهم غزير ولون العيون والشعر أسود غالبا وبشرتهم بيّنة فاتحة
وهي تميل إلى الدكنة كلّما اقتربنا من الشاطئ ...
وهذه سمات
بقايا قبائل بدائيّة شرسة كانت تعيش بالإقليم منذ (٤٠٠٠) سنة ويمكن تقسيم سلالاتهم
إلى البلوش ـ البراهوئي ـ الهنود والبربر.
وقسم من البلوش
يعيش الآن في سهل كججهر حتّى خطّ عرض (٣١) شمالا ويقطن عدد كبير منهم السهول
الجنوبيّة وشماليّ سندة وناحية يعقوب آباد. أمّا البراهوئي
__________________
فيتجمّعون حول «كلات» و «كوطة» وتتّسع رقعة تواجدهم لتشمل منطقة «ليس بيله».
والراجح أنّ البلوش ـ كما يقول علماء الأجناس البشريّة ـ دخلوا صحراء مكران عن
طريق كرمان وسجستان وانتشروا سريعا حتّى حدود الهند ... وإن كان ذلك لا يزيد على
درجة التكهّن كما قيل ، وقد يكون الأقرب إلى الصواب أنّ معظمهم كانوا من الجنس
الهندي ...
وأقدم تسمية
لدينا لهذه المنطقة ما عثر عليه المؤرّخون في نقوش بهستون (بيستون) ... وهي لفظة
مكيا «aikeM»
كما ذكر لنا هيرودوت ... أو لفظة «snaikyM» أي بلد الميكيان التي كانت ضمن
ولايات الإمبراطوريّة الفارسية الرابعة عشرة. ويجمع هيرودوت في كلامه ـ في مواضع
اخرى ـ بين الميكيان واليوتيان «snaitU» والباركانيان «snainakiraP» الذين كانوا مقاتلين كالباكتان «snatkoP» ... وعيّن بطليموس الحدود بين
الهند وفارس بحيث ترك الجزء الشرقي من «سيستان» في الهند ... ويقول أرّيان «nairrA» : إنّ الغيدروسيّين أو
الكيدروسيّين (سكّان غيدروسيا) كانوا يقيمون في الوديان الداخليّة إلى الغرب من
سيستان ، وقد سمّي الإقليم كلّه باسمهم كدروسيا «كدرسيا» (غدروسيا) «aisordaC» كما ذكر مولانا أبو الكلام آزاد
نفس التسمية للإقليم ...
وتتفرّع من
قبائل غيدروسيا جماعات بدائيّة تسمّى «الأشيوفاكوي» كانت تقطن المناطق الصحراويّة
المطلّة على المحيط الهندي وهم من الصيّادين القدامى ... ويمثّلهم الآن قبائل «الميديّة»
وبعض القبائل الاخرى ...
وظلّ غيدروسيا (مكران
، سيستان ، بلوجستان) الاسم المعترف به ـ لتلك الصحاري غرب الهند ـ في الزمن
القديم ... ومن النادر أن نعثر على تسمية هيرودوت «مكيا» في الكتابات التاريخيّة
منسوبة للإقليم ...
غير أنّنا لا
ننكر بقاء استعمال هذه التسمية طوال القرون السبع الميلاديّة الأوائل حتّى جاء
الفتح الإسلامي للإقليم في العام السابع عشر للهجرة الموافق سنة ٦٣٩ م. فقد
ذكروا لنا أنّهم وجدوا الاسم «مكيان» (مكران). وهو النطق الحالي عند البلوش.
وتقترب الصورة
من الوضوح حين فسّر «مولسويرث سيكس» «htrowseluoM sekys» المقطع الأخير من الاسم منطوقا
بالسنسكريتيّة ، على أنّه «عرانيا» ومعناها : الأرض القاحلة.
ويؤكّد «هولدخ»
أنّ اسم «غيدروسيوي» هو مكران ، وهو اسم عشيرة من «لس بيلة» ... وعشيرة كدور أو «غيدور»
الآن اسم عشيرة ضئيلة الشأن من أصل هندي لا يزيد عدد من بقي منها حتّى الآن على (٢٠٠٠)
نسمة.
وكثيرا ما بحث
العلماء في أصل اسم «بلوش» وأسماء القبائل والعشائر الرئيسيّة القديمة الجذور. ويرون
ـ على الأرجح ـ أنّ جميع أسماء القبائل والعشائر الحديثة (الموجودة الآن) ليست
إلّا منسوبة إلى السلف وليس الحال كذلك بالنسبة للأسماء الأقدم عهدا مثل
الغيدروسيين ، كما أنّ بعض الأسماء الرئيسيّة الموجودة الآن إمّا أن تكون ألقابا
أو الفاظا تدلّ على المدح أو الذمّ.
ومن الواضح أنّ
الأرض القاحلة (غيدروسيا) كانت مأوى لقبائل متأخّرة ، لا تعرف الزراعة ولا
الاستقرار ولا بناء البيوت الثابتة حتّى ولا الخيام. وأنّهم كانوا يعيشون على
الجمع والالتقاط حتّى تحين فرصة بين وقت وآخر فيغيرون على حدود الصحراء المتاخمة
للأمارات الفارسيّة في القرن السادس قبل الميلاد.
والإقليم من
الناحية الطبيعيّة جزء من الصحاري الحارّة المتاخمة للمدارين والتي يقلّ المعدّل
السنوي للأمطار فيها عن (١٠٠ م. م). وهذا لا يسمح بنموّ غطاء نباتي واضح. والإقليم مصاب
بالجفاف منذ ما لا يقلّ عن خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وهو نوع الجفاف المطلق ،
وربما لم يجد السكّان القدامى من قبائل غيدروسيا البدائيين (زمن كورش في القرن
السادس قبل الميلاد) إلّا جذور النباتات لالتهامها. فالبيئة فعلا تخلو تماما إلّا
من نباتات تلاءمت للحياة في الأقاليم المناخيّة أو البيئات التي يسودها الجفاف أو
تلك التي لا تتمتّع إلّا بقسط ضئيل من الرطوبة مثل صحراء سيستان ومكران. فهذه
__________________
النباتات ـ بما لها من تركيب خاصّ ـ تتحايل على الحصول على أكبر كميّة
ممكنة من الماء والاحتفاظ به. ومن ثمّ كانت الجذور أطول وأكثر تشعّبا من السيقان. ولذا
فقد كانت هذه القبائل تحفر في الأرض بحثا عن هذه الجذور لتقتات بها.
وعند ما كان
العطش يهدّد حياة هذه القبائل كانوا يفتحون جذوع بعض النباتات الصحراويّة التي
تتّصف بالانتفاخ ويمتصّون ما فيها من ماء مخزون.
والبيئة ـ والحال
هذه ـ تشبه تماما ما توحي به الآية الكريمة التي عبّرت عن نمط حياة هؤلاء الأقوام
المعيشيّة حيث قال تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ
دُونِها سِتْراً). فسبحان الله أصدق القائلين!
وما أروع دقّة
القرآن وشموليّته ومعالجته لهذه القضايا ، في شكل إشارات عابرة تترك للعقل البشري
على تتابع العصور مهمّة الكشف والتنقيب عن تفصيلاتها واتّخاذ العبرة والموعظة
الحسنة منها!
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً).
وهي رحلة ثالثة
، كانت اولاها إلى الغرب لإخضاع بلاد ليديا ، والثانية نحو الشرق شماليّ بحر قزوين
لإخضاع قبائل عزّل وحش لم يعرفوا حتّى الوقاء من الشمس ، وهذه هي الثالثة نحو
الشرق أيضا ، ولكن حيث متّجه بلاد قوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود. (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بين الجبلين من سلسلة جبال قوقاز. والسدّ : الجبل
الشامخ يصعب عبوره كأنّه سدّ حاجز.
(وَجَدَ مِنْ
دُونِهِما) (وراءهما)
(قَوْماً لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ قَوْلاً) لصعوبة لغتهم ووعورة لهجتهم بحيث لم يكد يمكن التفاهم
معهم بسهولة.
ينتهي هذا
الطريق الذي سلكه كورش ، إلى منطقة جبلية وعرة متضرّسة تمثّل حائطا جبليّا طبيعيّا
عرضيّا شامخا يحول دون هجرات الشعوب المتوحّشة وإغارتها على من وراء الحائط الجبلي
من شعوب بدائيّة مستضعفة.
__________________
ولكن الحائط
الجبلي كان منثلما من وسطه بثغرة (مضيق جبلي) مخيفة ، اتّخذها الغزاة المتوحّشون معبرا نحو الشعوب
المسالمة في ظهرانيه ، حيث كانت تتعرّض باستمرار لهجمات اولئك البرابرة المتوحّشين.
كان قد قضى
الملك الهخامنشي العظيم «كورش» ثماني سنوات في تأديب وإخضاع قبائل غيدروسيا الهمجيّة في صحاري
سيستان ومكران وبلوچستان ، وزحزح حدود الإمبراطوريّة حتّى حدود نهر «سيحون» حيث
بنى مدينة باسمه على شاطئ هذا النهر ، فكانت هذه المدينة تسمّى إبّان عصر الإسكندر
«المدينة الأقصى الكورشي» ويعتقد أنّها مكان مدينة «اوراتپّه» الحاليّة.
ووجد كورش أنّه
الأوان لتأديب الشعوب المتوحّشة التي كانت تغير عبر مضيق داريال في جبال قوقاز ،
على شعوب إماراته الطيّبة في آذربيجان وجورجيا وإرمينيا جنوب الحائط الجبلي الرهيب
الذي يسمّى جبال القوقاز التي تمتدّ من بحر قزوين في الشرق عند مدينة «دربند» حتّى
«سرخوم» على البحر الأسود. فتوجّه إليها سنة ٥٣٧ ق. م. وقضى بالإقليم حوالي تسع
سنوات متوالية ، ما بين بناء السدّ عبر المضيق وتأديب قبائل الأسكوذيّين
أو «الماساجيت» أو «يأجوج ومأجوج» على حدّ تعبير القرآن.
وحيث إنّ كورش
قد وصل إلى الحائط الجبلي العظيم (جبال قوقاز) فهذا معناه أنّه عبر كردستان
وآذربيجان وإرمينيا وجورجيا ، ووصل إلى أجزاء من داغستان ، حتّى مدينة «دربند» وما
حولها ، وكذلك إقليم اوسنينا الجنوبيّة ، ويكون شمال هذا الحدّ حائط القوقاز
الجبلي ، ذو فتحة في منتصفه تسمّى مضيق «داريال» حيث تقيم جماعات يأجوج ومأجوج ،
وإلى الجنوب من هذا الخطّ الجبلي كانت تقيم جماعات مجرّدة من الحضارة ، وصفهم
القرآن بقوله : (لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي يعسر التفاهم معهم. هذا إن
__________________
فسّرنا «من دونهما» بما قبل السّدّين لا الوراء كما سبق.
وقد اتّخذ كورش
طريقه إليهم متوجّها شمالا عبر إقليم كردستان الجبلي الوعر الذي يعتلي ظهر
المرتفعات الآسيويّة وسلاسل الجبال على محاورها المنتشرة في موقع يضمّ بعضا من
شمال العراق وشرق أو جنوب شرق تركيا وبعضا من غرب إيران. ويسكنه الأكراد منذ سنة (٢٤٠٠
ق. م.) والإقليم به معابر مشهورة لمرور التجارة بقوافلها وفيالق الحروب بجحافلها ،
وهي معابر تتّجه على محور عام يخدم الصلات والعلاقات فيما بين قلب آسيا وشرقها
الأقصى وآسيا الصغرى والشام. وقد احترف الأكراد ـ علاوة على تمرير التجارة ـ حرفة
الرعي واقتنوا قطعانا من الأغنام والماعز ، وعاشوا عيشة البداوة والحركة في حركات
فصليّة شبه منتظمة سعيا وراء المرعى وتأمين العشب لقطعان أغنامهم.
وعلى ذلك فقد
عبر كورش إقليما متضرّسا وعرا ، غنيّا بالموارد الاقتصاديّة المتاحة تكفل تأمين
إطعام الجيوش الفارسيّة ، وانحرف شمالا بشرق حتى بلغ بحيرة أروميّة التي يصبّ فيها
نهر طلخة وهي أكبر بحيرات فارس ، وتقع في الشمال الغربي من فارس في إقليم آذربيجان
ويبلغ طولها ١٣٠ كم وأقصى عرضها بلغ ٥٠ كم. وهي بحيرة ضحلة قليلة الغور لا يزيد
عمقها على ٢١ مترا. وعلى صخرة «كورجين» تقع قلعة قديمة تشرف على البحيرة قبالة
شاطئ «سلماس». ووجد فيها نقش يشير إلى عراقتها في القدم. ويبدو أنّ كورش آثر
محاذاة شواطئ بحر قزوين (خزر) بحيث يكون البحر عن يمينه وهو متّجه نحو الشمال إلى
جبال قوقاز. ومعنى ذلك أنّه سلك ضفاف نهر طلخة نحو الإقليم الساحلي لبحر قزوين. والإقليم
عبارة عن سهول ضيّقة تتّسم بالدفء ، لأنّ ارتفاعها قليل وقد ينخفض دون سطح البحر ،
ويندر أن يحدث الصقيع (الجليد) هناك في الشتاء ، كما يندر أن ترتفع درجة الحرارة
في الصيف عن ٣٢. ولكن الرطوبة شديدة ، وتكثر الأمطار وتتوزّع على مدار السنة ،
وبسبب هذه الأمطار الغزيرة تنمو الغابات النفضيّة مثل البلوط والدردار ، وهي التي
تنفض أي تسقط أوراقها في فصل الشتاء.
وظلّ كورش
محاذيا شاطئ بحر قزوين حتّى وصل إلى نهر أطلق عليه اسمه «كورش» أي سائرس (سيروس). والإقليم جزء من آذربيجان الشرقية التي تقع في الجنوب
الشرقي من قفقاسيا وتشمل سهول نهر «كورا» المنخفضة والتي تحيط بها الجبال من كلّ
الجهات. فلا تنفتح إلّا من جهة الشرق حيث بحر قزوين.
وهذه الجبال هي
القفقاز من الشمال ، وإرمينيا من الغرب ، وجبال آذربيجان الشرقية من الجنوب. وتجري
المياه نحو هذه السهول من جميع الأطراف من الجبال المحيطة بها ، وتكون شديدة
الانحدار ، لقصر المسافة التي تقطعها ، فتحفر أودية واسعة سحيقة ، تعتبر من مراكز
الزراعة في الإقليم. وأمطار هذه السهول نادرة لانحصارها بين المرتفعات التي تحجب
الأمطار عنها ، ممّا يجعلها جافّة ، ولكن هذا الجفاف يعوّض بالمياه المتدفّقة التي
تجري من المرتفعات. وأشهر هذه المجاري وأطولها نهر «كورا» الذي يجري من جورجيا (گرجستان)
ويمرّ من عاصمتها تفليس ، ثمّ يدخل أراضي آذربيجان حيث يرفده نهر «أيورا» المنساب
أيضا من جورجيا ، ويتّجه النهر نحو الجنوب الشرقي حتّى يصبّ في البحر.
وعليه فكان
العائشون في المنطقة في رفاهيّة من العيش ، حيث خصوبة الأرض ووفرة المياه ، آمنين
مطمئنّين سوى ما كان يهدّدهم أقوام وحشيّة كانوا يسكنون وراء الجبال فربما أغاروا
عليهم بين حين وآخر. ولم يكن التهديد لسكّان تلك المناطق الشاطئيّة وحدها من
القبائل الوحشيّة ، بل كان يشمل سكّان إرمينيا وجورجيا أيضا.
من هم يأجوج ومأجوج؟
عنوان أطلقه
القرآن الكريم على السلالات البشريّة المتوحشة في عصر ذي القرنين.
(قالُوا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ
__________________
تَجْعَلَ
بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ...).
والجغرافيّة
البشريّة تحاول وضع تصوّر محدّد لأنماط الاستيطان البشري لتلك الجماعات وتدرس
تسلسلهم في قائمة الأجناس البشريّة ، وتحدّد الحقبة الحضاريّة ـ من عمر البشريّة ـ
التي كانوا يعيشون أثناءها.
تذكر بعض
الدراسات أنّ أصل يأجوج ومأجوج من أولاد يافث بن نوح ، وأنّ التسمية مأخوذة من
أجيج النار وهو : ضوؤها وشررها ، عنوان مستعار يشير إلى كثرتهم وشدّتهم.
وذكر بعض
المدقّقين في البحث عن تأصيلهم : أنّ أصل المغول والتّتر من رجل واحد يقال له : «ترك».
وهو نفس الذي سمّاه أبو الفداء باسم «مأجوج». فيظهر من هذا القول أنّ المغول
والتتر هم المقصودون بيأجوج ومأجوج ، وهم كانوا يشغلون الجزء الشمالي من آسيا ،
تمتدّ بلادهم من «التبّت والصين» إلى المحيط المنجمد الشمالي ، وتنتهي غربا بما
يلي بلاد «التركستان».
وكلمة «تتر»
تكتب تاتار وتكتب تتار ، وهي اسم لشعب يختلف مدلوله باختلاف العصور. وقد ورد في
الكتابات الاورخونيّة التركيّة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثامن ، ذكر طائفتين
من القبائل التتريّة ، وهما «التتر الثلاثون» و «التتر التسعة». ولكن «طومسون» (nosmohT) يرى أنّ التتار اسم يطلق حتى في
ذلك العصر على المغول أو فريق منهم ، وليس الشعب التركي! ويقول : إنّ هؤلاء التتار
كانوا يعيشون على وجه التقريب في الجنوب الغربي من بحيرة بيكال حتى كرولين. ويقول : إنّ الترك اخرجوا من منغوليا ليحلّ محلّهم
المغول ، حينما قامت إمبراطوريّة قره خطائي. وقد صحبت بعض العشائر التتريّة قبائل الترك حين خرجت من
منغوليا وسارت معها متّجهة من أواسط آسيا
__________________
صوب الغرب.
وجاء في أخبار
الغزوات المغوليّة التي تمّت في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) أنّ
الغزاة كانوا يعرفون (في الصين ـ والعالم الإسلامي ـ والروسيا ـ وغرب اوربا) باسم
التتر وهي بالصينية : تاتا.
وقد أطلق ابن
الأثير (ت ٦٣٠ ه) هذا الاسم (التتر) على أسلاف «جنكيزخان» وأنّهم نوع كثير من
الترك ، وكانت مساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين.
وقد قسّمت عدّة
شعوب باسم التتر في خطاي والهندوستان وجين ماجين ، وبين القرغيز وفي كلارا (بولندا)
وباشقرد (المجر) وفي سهوب (دشت) قفچاق. وفي البلاد الشماليّة بين البدو. ولا يزال
يطلق على جميع الشعوب التركيّة حتّى اليوم اسم التتار.
ويظهر أنّ
الشعوب التي انحدرت من أصل مغولي وتتحدّث بالمغوليّة كانت تسمّى نفسها باسم التتر
، ولكن حلّ محلّ هذا الاسم بعد عهد جنكيزخان في منغوليا وآسيا الوسطى اسم «مغول»
وهو الاسم الذي استعمله رسميّا جنكيزخان.
وقد ورد هذا
الاسم في المصادر الإسلاميّة «مغل» و «مغول». وكذلك ينطق سلالة المغول في
أفغانستان الذين احتفظوا بلغتهم حتى اليوم بهذا الاسم (مغل).
وكان هؤلاء
التتر أثناء غزو تيمور يعيشون عيشة البدو الرحل فيما بين أماسيّة وقيساريّة ،
ويتراوح عددهم بين ثلاثين ألفا وأربعين ألف اسرة.
وقد اتّسع
مدلول كلمة «تتر» باعتباره اسم شعب يتكلّم التركيّة في حوض نهر «ثولغا» من قازان حتى آستراخان وشبه جزيرة القرم وجزء من سيبريا ، أي في المكان الذي
حدّده القرآن خلف السدّين أي وراء حاجز جبال القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.
__________________
وهم الذين
سكنوا هذه المناطق قبل الميلاد وعرفوا بالوحشيّة والإغارة على المسالمين. وكلّ
الأبحاث العلميّة الحديثة تؤكّد على أنّ الشعب الذي يتحدّث بالتركيّة في آستراخان
على بحر قزوين شمال جبال القوقاز ، من سلالات التتر القدامى الذين كانوا يغيرون
عبر مضيق داريال الجبلي في جبال القوقاز ، على شعوب جورجيا وإرمينيّة وآذربيجان. وهم
يقيمون الآن في السفوح الشماليّة لجبال القوقاز ، ويطلق عليهم «ششن أنفوشيا». وينتمي
سكّان كبرداي أو قبرطاي أيضا إلى الجنس التتري وهم مبالغون في عصبيّتهم ويتفاخرون
بها أشدّ المفاخرة وينظرون إلى جميع العناصر المجاورة لهم من شركسيّة وغيرها نظرة
فيها شيء من الاحتقار. وجميع هذه القبائل تسمّى تتر في آسيا.
ويرى أبو
الكلام آزاد أنّ كلمتي يأجوج ومأجوج تبدوان كأنّهما عبريّتان ، ولكنّهما في الأصل
والواقع أجنبيّتان اتّخذتا الصورة العبريّة ، فهما تنطقان باليونانية گوگ «goG» وماگوگ «gogaM». ويبدو أنّ فرعا منهم سكن ما وراء القوقاز في القرن
السابع قبل الميلاد وعاصر كورش غارة من غاراتهم. وسنذكره.
وقد حدّد
مولانا أبو الكلام ، الأدوار السبعة لخروج يأجوج ومأجوج كالتالي :
الدور الأوّل
منها كان قبل ٥٠٠٠ سنة وقد اندفعت هذه القبائل نحو الجنوب الغربي من سيبريا إلى
هضاب وسط آسيا (منغوليا).
الدور الثاني
ويبدأ ما بين ١٥٠٠ ـ ١٠٠٠ ق. م. وفيه كانت تتابع موجات المغوليّة من أقصى الشمال
الشرقي نحو سهول الصين وهضاب وسط آسيا ومنغوليا والتركستان الغربيّة وزونغاريا.
الدور الثالث
وصلت جحافل المغول حوالي ١٠٠٠ ق. م. إلى منطقة بحر قزوين والبحر الأسود وشمال
القوقاز وحوض نهر الدانوب والفلجا. وظهرت قبائل «سي تهين» على مسرح التاريخ سنة
٧٠٠ ق. م. وهاجمت مناطق آسيا الغربيّة.
__________________
الدور الرابع ـ
جعله أبو الكلام سنة ٥٠٠ ق. م. حيث برز كورش كأعظم ملوك العالم قاطبة ، فقد أخضع
ميديا وليديا وبابل والشام وجميع الممالك الشرقيّة حتّى نهر السند وسيحون.
وبذلك توقّف
سيل قبائل «سي تهين» وخصوصا بعد أن أقام كورش سدّ داريال في جبال القوقاز.
الدور الخامس
تزعزع أمن الصين بجحافل جديدة من قبائل المغول الهمجيّة ويطلق الصينيّون على هؤلاء
المتوحّشين اسم «هيونغ نو» وقد تحوّر فيما بعد وصار «هون». ولم يجد إمبراطور الصين
بدّا من تشييد سور الصين الحجري العظيم ، لصدّ هجمات هذه القبائل.
وبذلك توقّف
غزو قبائل «هون» لسهول الصين بعد بناء السور ، ولكن ذلك جعلهم يتوجّهون نحو أواسط
آسيا من جديد.
وفي الدور
السادس تجمّع شمل هذه القبائل في اروبا تحت قيادة «آتيلا» وقضوا على الإمبراطوريّة
الرومانيّة في القرن الرابع الميلادي.
وكان الدور
الأخير هو هجوم جنكيزخان على الحضارة الإسلامية من منغوليا في القرن الثاني عشر
للميلاد وخرّبت بغداد.
ويذكر
المؤرّخون أنّ هذه القبائل كثيرا ما أفسدت في الأرض وبطشت بالآمنين وهدّمت حضارات
وأراقت دماء وحرّقت زروعا ومدنا ، وكم أهلكوا الحرث والنسل؟! فهم إذن مفسدون في
الأرض بنصّ القرآن ـ أصدق الحديث ـ وشهادة التاريخ.
* * *
إنّ منطقة بحر
قزوين والبحر الأسود وجبال القوقاز كانت مستقرّا لجماعات من المغول والترك من فجر
التاريخ ، وتتار شبه جزيرة القرم حول البحر الأسود ، والأتراك والمجريون
والفنلنديون ، هم المتخلّفون من ذرّيتهم في المنطقة ، ولم يكن هؤلاء يقنعون
__________________
بالموارد الطبيعيّة المتاحة لهم في الأرض التي احتلّوها ، وإنّما كان مضيق
داريال معبرا لهم إلى حضارات العالم القديم في غرب آسيا ، وما زالت سلالاتهم حتّى
اليوم تقيم في المنطقة ، وإن اتّخذوا أسماء جديدة ، فالجركس مثلا اسم عام يطلق على
هؤلاء الأقوام.
وكانت هذه
القبائل المتوحّشه زمن كورش تسكن المنحدرات الشماليّة والجنوبيّة لسلاسل جبال
قوقاز ولكن في أقصى الغرب ، أي الضفة اليسرى لنهر قوبان وروافده وشاطئ البحر
الأسود حتّى نهر شخة ، وما تزال البقية منهم في القوقاز وما والاها.
* * *
وهناك للشيخ
طنطاوي حديث مع عالم من أمّة يأجوج ومأجوج. يقول : كان أوّل ما ألّفت كتابا من
كتبي ، كان انتشاره وترجمته في بلاد «روسيا» بناحية «قازان» وما والاها. حيث ترجمت
تلك الكتب باللغة القازانية. وكانت مقالة «يأجوج ومأجوج» نشرتها في أواخر القرن
التاسع عشر بمجلّة «الهلال» ، ثمّ اعيد نشرها بزيادة تحقيق في جريدة «المؤيّد»
المنتشرة إذ ذاك في أقطار العالم الإسلامي في نحو العشر سنين الاولى من القرن
العشرين.
يقول : بينما
أنا بالمدرسة الخديويّة أدرّس اللغة العربيّة ، إذ قابلني تلميذ فقال : قد قابلني
الاستاذ عبد الله بوبي من مدينة «أوفا» ببلاد روسيا ويريد موعدا للمقابلة بالمنزل
، فعيّنت له موعدا ليلا ، فلمّا حضر خاطبني باللغة العربيّة الفصحى ، وأوّل ما
بادرني به أن قال : عرفتك من مؤلّفاتك وقرأت في «المؤيّد» أنّك تقول : إنّنا من «يأجوج
ومأجوج». وهذه المقالة ترجمتها بلغتنا ولم أطلع عليه الشيوخ الكبار ، لظنّهم أنّ
هذا كفر وقد جهلوا أصلنا ، وإنّنا نحن المغول «يأجوج ومأجوج» والتتر فريق من تلك
الامم. فأنا والشبّان جميعا فهمنا مقالك ...
* * *
ومن الغريب
وليس بعجيب تصريح «جنكيزخان» بأنّ قومه المغل والترك (التتار)
__________________
هم قوم «يأجوج ومأجوج» الذين حدّث عنهم القرآن وحذّر بطشهم.
جاء في كتاب
بعثه إلى محمّد خوارزم شاه يؤنّبه على تعسّفه في سياسته الغاشمة وقتله الودعاء من
أصحابه (التجّار المغل) ونهب أموالهم زورا. متوعّدا له شرّ الانتقام إن هو لم يتلاف الخرق قبل
توسّعها.
جاء في الكتاب
: «... كيف تجرّأتم على أصحابي ورجالي وأخذتم تجارتي ومالي ، وهل ورد في دينكم أو
جاز في اعتقادكم ويقينكم أن تريقوا دم الأبرياء أو تستحلّوا أموال الأتقياء أو
تعادوا من لا عاداكم وتكدروا صفو عيش من صادقكم وصافاكم. أتحرّكون الفتنة الخامدة
وتنبّهون الشرور الكامنة؟! أو ما جاءكم عن نبيّكم ... أن تمنعوا عن السفاهة غويّكم
وعن ظلم الضعيف قويّكم؟! أو ما أخبركم مرشدوكم ومحدّثوكم عنه قوله : اتركوا الترك
ما تركوكم؟! وكيف تؤذون الجار وتسيئون الجوار ونبيّكم قد أوصى بهم ... فتلافوا هذا
التلف قبل أن ينهض داعي الانتقام وتقوم سوق الفتنة ويظهر من الشرّ ما بطن ويروج
بحر البلاء ويموج ، وينفتح عليكم سدّ «يأجوج ومأجوج» وسينصر الله المظلوم ،
والانتقام من الظالم أمر معلوم ، ولا بدّ أنّ الخالق القديم والحاكم الحكيم يظهر
سرّ ربوبيّته وآثار عدله في بريّته ، فإنّ به الحول والقوّة ومنه النصرة مرجوّة ،
فلترونّ من جزاء أفعالكم العجب ، ولينسلنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كلّ حدب ...
__________________
وأيضا كان بين
ممالك مغل وممالك خوارزم منطقة وسيعة يحكمها أمراء «قراختائيان» وكانت ما وراء
النهر (سمرقند وبخارا) تحت سلطتهم وكانت الفاصل الحاجز بين المغل والخوارزميّة. فعمد
الملك محمد خوارزم شاه إلى فتحها وإلحاقها بممالكه الوسيعة الأمر الذي تحقّق سنة
٦٠٧ ه. وفي سنة ٦١٢ ه. زحف خوارزم شاه من مدينة «جند» نحو مساكن قبائل «قپچاق»
فواجه أفواج «جوجي» ابن جنكيزخان ، وهذا وإن سامحه وأخبره أنّه لم يأت للحرب سوى
إخماد نائرة بعض البغاة. لكن الملك محمد خوارزم شاه لغروره عزم على مقاتلتهم ، سوى
أنّ «جوجي» غادر المحلّ ليلا وأخبر أباه بمفاجأة الملك الخوارزمي وأنّه عازم على
مقاتلتهم بالذات ، فكان أوّل بادرة حدثت بين الدولتين.
ويضيف الشيخ
طنطاوي هنا : أنّ الملك الخوارزمي لمّا غزا بلاد ما وراء النهر ، سرت السرائر
وابتهجت القلوب بهذا الفتح. وكان إذ ذاك في «نيسابور» عالمان فاضلان فأقاما العزاء
على الإسلام وبكيا. فسئلا عن ذلك فقالا : وأنتم تعدّون هذا الثلم فتحا وتتصوّرون
هذا الفساد صلحا ، وإنّما هو مبدأ الخروج وتسليط العلوج وفتح سدّ يأجوج ومأجوج ،
ونحن نقيم العزاء على الإسلام والمسلمين وما سيحدث من هذا الفتح من الحيف على
قواعد الدين (وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).
قال الطنطاوي :
فهذا تصريح من هذين العالمين بما أوردناه بشأن يأجوج ومأجوج وأنّهم من أقوام التتر
، وانظر كيف ظهر صدق كلامهما في حينه وظهر التتر وأفنوا المسلمين وماج الناس بعضهم
في بعض.
(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ).
__________________
يأجوج ومأجوج في التأريخ
وهكذا جاء لفظ
يأجوج ومأجوج في الأسفار القديمة وفي التأريخ ، تعبيرا عن أمّة متوحّشة يموج بعضهم
في بعض ، ويكونون خطرا بين حين وآخر يهدّد الامم المتحضّرة المجاورة لها وحتّى غير
المجاورة إلى حدّ بعيد.
جاء في سفر
التكوين عند ذكر ولد نوح وأحفاده : «بنو يافث : جومر ومأجوج وماداي».
وفي سفر حزقيال
، يتحدّث عن جوج ، أرض مأجوج ، وأنّهم يفسدون في الأرض وأن سوف يذلّ بهم جبابرة
الأرض.
وذكر جيمس هاكس
: أنّ السوريّين ـ في القرون الوسطى ـ سمّوا قبائل التتر بمأجوج. وكانت العرب
تعتبر السهول الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين ببلاد يأجوج ومأجوج. وفي أيام
حزقيال كانت الأقوام السكيتيّة في الشمال الغربي من آسيا وراء جبال قوقاز معروفين
بأقوام مأجوج ، وفي عام (٦٢٩ ق. م) انسالوا بجموعهم نحو مدينة «ساردس» عاصمة ليديا
، وتغلّبوا عليها ، واستولوا عام (٦٢٤ ق. م) على ملك ماديا «سياكرس» ، وأخذوا
بالهجوم نحو مصر ، لو لا أن واجههم الملك «پساميتخس» بالهدايا الكثيرة ليقنعهم
بالرجوع إلى أوطانهم.
وحزقيال يصفهم
بالفروسيّة والقدرة على ضرب الكتائب بما يفوقون سائر الامم. وهكذا وصفهم مؤرّخو
يونان القدامى.
ولهيرودوت حديث
عن هذه الأقوام يتوافق مع حديث حزقيال.
وله أيضا حديث
عن أقوام وحش كان مسكنهم وراء جبال قوقاز ، سمّاهم «ماساگت» (ماساجيت setegassaM) «مأجوج» وقال عنهم : أنّهم أصحاب
فروسيّة وشجاعة فائقة ، ويعتبرهم البعض أنّهم من أفخاذ الأقوام السكائيّة (السكيتيّة)
حسبما
__________________
جاء في كلام حزقيال.
ومن ثمّ جاء
قول المؤرّخين بأنّ هذه القبائل التي سمّيت «ميگاگ» عند اليونان و «منگوگ» عند
الصينيّين هي «يأجوج ومأجوج» التي ذكرت في القرآن.
ذكر الاستاذ
أبو الكلام آزاد : أنّ لفظتي يأجوج ومأجوج ، يبدو في صيغتهما أنّهما عبريّتان ، في
حين أنّهما أعرق وذواتا أصل غير عبراني. وقد عبّر اليونان عنهما «گوگ» (goG) و «ماگوگ» (gogaM). وهكذا جاءتا في الترجمة
السبعينيّة للتوراة ، ومنها تسرّب إلى اللغات الاروبيّة.
وقد اطلق على
أقوام وحش كانوا يسكنون منذ (٦٠٠ ق. م) ما وراء جبال قوقاز ، عرفوا باسم «التتر»
وبلادهم حسب تعبير الصينيّين معروف باسم «منغوليا» ، وهذه القبائل قد اطلق عليهم «المنغول»
(المغول). والمصادر الصينيّة تعطينا أنّ أصل هذه الكلمة هي : «منگوگ» أو «منچوگ»!
وهذا قريب من الكلمة في صيغتها العبريّة «مأجوج» وعند اليونان «ميگاگ».
وفي تاريخ
الصين نجد الحديث عن قبيلة اخرى باسم «يوشي» (ihceuY) ، والظاهر أنّ الكلمة حرّفت فيما
بعد في صورة «يأجوج» العبريّة. وجاءت في تعبير الإفرنج : «يوئه چي».
إذن فالتعابير
الواردة في التاريخ القديم (تاريخ هيرودوت) : «ماساگيت» (ماساجيت). وعند اليونان :
«گوگ» و «ماگوگ» ، وطبقا للتوراة : «جوج» و «مأجوج» ، وعند الصينيين : «منگوگ» أو «منچوگ»
، و «يوشي» (يأجوج». والإفرنج : «يوئه چي» ... كلّها عن أصل هذه الكلمة تعبيرا عن
أقوام وحش همج كانوا خطرا على البلاد ، وجاء التعبير عنهم في القرآن ب «يأجوج
ومأجوج» وأنّهم مفسدون في الأرض.
وقد التمس أهل
البلاد الخصبة من كورش (ذي القرنين) أن يجعل لهم سدّا يمنعهم عن هجمات تلك الأقوام.
__________________
أين السدّ وأين موضعه الآن؟
سبق أن دلّت
الشواهد على أنّ موضعه هي الثغرة في ثنايا جبال قوقاز ، كانت تعبرها أقوام وحش
للإغارة على المسالمين في الأرض. وعرفت الثغرة باسم مضيق «داريال» حسبما مرّ ، وهي
بالقرب من مدينة «تفليس» عاصمة «گرجستان».
لمسنا من
المفاهيم القرآنيّة المفسّرة أن لم يكن من سبيل ـ في القرن السادس قبل الميلاد ـ إلى
الأمان للشعوب المسالمة البدائيّة الضعيفة جنوب جبال القوقاز (في آذربيجان وجورجيا
وإرمينيّة وسواحل جنوب بحر قزوين) إلّا بتشييد سدّ منيع يحكم إغلاق الثغرة بين
شطري جبال قوقاز ويحول دون عبور القبائل المغوليّة (القديمة المتوحّشة) للمسلك
الجغرافي الوحيد نحو تلكم الشعوب المستضعفة. ويبدو أنّ الحائط الجبلي المذكور في
القرآن كان ممتدّا امتدادا عرضيّا كبيرا يفضي من جانبيه إلى بحرين لا يمكن عبورهما
(بحر قزوين في الشرق والبحر الأسود في الغرب). لذلك عرض القوم البدائيّون الضعفاء
في جنوب جبال قوقاز على ذي القرنين (كورش) بناء سدّ يوقف زحف المتوحّشين تماما.
وقبل أن نتحدّث
عن سدّ ذي القرنين وأنّه هل هو سدّ كورش الذي بناه على أقوم استحكام ممّا يتطلّب
تقدّما حضاريّا من حيث الإمكانيّات التي قدّمها كورش لانجاز هذا المشروع الجلل
والذي يعدّ آية في تاريخ البشريّة الصناعيّة والهندسيّة والعلميّة ... لا بدّ أن
نلقي ضوء على المقدرات الفنّية يوم ذاك ولا سيّما في بلاد فارس على عهد كورش أي
قبل الميلاد ببضع قرون.
التحضّر البشري في عهد ذي القرنين
يقول الدكتور
عبد العليم ـ استاذ الجغرافيا المساعد في جامعة ابن سعود ويحمل شهادة زمالة
الجغرافيّين الملكيّة ـ لندن ـ : دراسة جغرافيّة منطقة السّدّ ، دراسة جيولوجيّة
واقتصاديّة ، لمعرفة إمكانيّاتها الطبيعيّة والإمكانات البشريّة التي كان من
المفروض
توفّرها للوفاء باحتياجات السّدّ التي طلبها ذو القرنين ، ودراسة مدى
التحضّر البشري حينذاك.
بالنظر إلى
الآية الكريمة (فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ
حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً
قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) نرى أنّ الإمكانيّات التي قدّمها كورش لإتمام السّدّ هي
: الخبرة والمهندسين والإشراف. وأمّا الإمكانيّات التي طلبها من سكّان المنطقة
فكانت تنحصر في :
١ ـ القوّة
البشريّة (العمالة).
٢ ـ خامات
الحديد.
٣ ـ الفحم أو
الخشب لصهر الحديد.
٤ ـ خامات
النحاس.
٥ ـ عدد ما من
حيوانات الجرّ والحمل.
٦ ـ استهلاك
العمّال والمهندسين من طعام وشراب ومأوى.
ولنا أن نتساءل
: هل كانت «فارس» على درجة من التحضّر والتقدّم بما يوفّر الخبرة الهندسيّة لتشييد
السدود والأعمال العمرانيّة الضخمة؟
لفارس ،
حضارتها الخاصّة بها بلا شكّ. ولكن مصر الفرعونيّة ـ بشهادة التاريخ ـ قدّمت لها
أعظم مدرسة في التشييد والبناء والصناعة. لقد قدّمت مصر ـ وكانت على اتّصال وثيق
ببلاد الشرق الأدنى منذ ٤٠٠٠ سنة ـ للحضارة الفارسيّة العلوم الرياضيّة والهندسيّة
والطبّ والفلك وتعبيد الطرق والكتابة والتقويم والساعات والورق وفنّ المكتبات وحفظ
الوثائق ، والأثاث الدقيق والمصقول ، وفنّ التلوين.
ولم تقتبس فارس
من حضارة مصر فقط ، وإنّما نقلت أيضا ـ زمن الهخامنشيّين ـ من بابل كثيرا من
العلوم والفنون والصناعات. وهكذا من اليونان استخدموا مهندسين كبارا لفنّ النحت
وبناء القصور الشامخات والأعمدة الرفيعة والأقواس من الرخام
__________________
والأحجار الثمنية. ولا ننكر أنّهم ـ أي الفرس ـ أضافوا إلى ما أخذوه
وخلّفوا لنا حضارة راقية ، هي مزيج من حضارات العالم القديم مصر ـ بابل ـ يونان.
وإجابة على
السؤال ، يمكن القول : إنّ الفرس ـ في عصر الهخامنشيين ـ امتازوا بمهارتهم في فنّ
العمارة والبناء. يشهد بذلك كلّ ما اكتشفه علماء الآثار هناك من أبنية تدلّ على
عظمة التصميم الهندسي ، ودقّة اختيار الموادّ الخام ، وتطويعها للغرض الإنشائي
المنشود. فقد أخذ البنّاءون الفرس يتعلّمون فنّ المعمار من الشعوب التي خضعت لهم (سومر
ـ آشور ـ كلدان ـ يونان) وسرعان ما استوعبوا أسراره. ومن ينظر إلى مقبرة وقصور
كورش ، ودارا الأوّل ، وخشيارشا الأوّل ، يدرك عمق تأثّر المعمار الفارسي بما يحيط
به من أنماط في مصر ويونان وبابل وميديا وليديا ... وندرك نحن ذلك إذا فحصنا جيّدا
ما شيّده كورش في «پاسارگاد» رغم تهدّمها. فالواقع أنّها صور من الروعة والجمال ترسم
ملامح الفن الفارسي الهخامنشي منذ أربعة وعشرين قرنا. وتزداد صور الروعة إشراقا
إذا فحصنا «نقش رستم» بالقرب من «برسبوليس» والآثار الموجودة في هذه المدينة.
بالإضافة إلى
ذلك توجد أبنية فارسيّة قدّر لها أن تفلت من مخالب الحروب والدمار والغارات
والسرقات وتقلّبات الأجواء ، وهي تتمثّل في مجموعة من حطام القصور وبقاياها موجودة
حتّى الآن في العواصم الفارسيّة القديمة مثل «پاسارگاد» و «پرس پوليس» و «اكبتانا
ـ همدان».
وهي جميعها
تفيد في دراسة مراحل تطوّر فنّ التشييد والبناء في تلك المرحلة من حكم
الهخامنشيّين لفارس ، وتؤكّد أنّ الهخامنشيّين تتلمذوا على حضارات امم مجاورة
وأحسنوا التلمذة وأجادوها في كلّ الحقول ، سواء أكانت الصناعات المختلفة أو
التكنيك
__________________
أو تعبيد الطرق أو الإنشاءات المعماريّة والفنّية والجسور والسدود.
وكلّها اتّسمت
بطابع الأصالة في التخطيط وحسن التنفيذ بما يمكن أن يجعلنا نقول : إنّ الفرس صنعوا
ممّا نقلوه رمزا شاهدا على اتّجاههم الخاصّ واسلوبهم المتطوّر.
ويبدو ممّا بقي
من آثار حجريّة ودرج وأعمدة وأقواس ، وتماثيل الحيوانات المجسّمة ، وبقايا البناء
الذي خلّد فيه كورش ذكرى انتصاره على الميديين ، درجة كفاءة التحضّر الفارسيّ
آنذاك. ويبدو أيضا ممّا بقي من آثار أنّ صورا قد نحتت من الحجر في هذا المكان من «مشهد
مرغاب» ولكنّها خربت ، وأنّ نقشا يظنّ أنّه لكورش قد درس ، وعلى مقربة من هذا
البناء بناء عظيم من الحجر يقع في ستّ مدرجات وقد عرف هذا البناء اليوم باسم قبر
أمّ سليمان. ويعتقد المحقّقون أنّه قبر كورش. كما عثر على مقربة منه نقش ترجمته : «أنا
كوروش الملك الهخامنشي ...» وفي پاسارگاد تمثال بارز منحوت من الحجر يصوّر شخصا
واقفا مادّا يده إلى الأمام وله جناحان وأجنحة شبيهة بتماثيل الآشوريّين ، إلّا
أنّ لحيته فارسيّة وتاجه مصري وثيابه عيلاميّة (ـ وهو تمثال كورش ، حسبما استقرّ
عليه الرأي أخيرا ـ وينطبق على ذي القرنين الذي جاء وصفه في القرآن وفي العهد
القديم ، باعتبار أنّ لتاجه قرنين ، أحدهما إلى الأمام والآخر إلى الخلف). هذا علاوة على الكثير من الحفريّات التي تدلّ على أنّ
الخرائب هي آثار مدينة عامرة وعريقة موغلة في القدم ، لم يبق منها سوى خرائب وآثار
قصور وأبنية كثيرة فخمة بقيت الأجزاء الحجريّة منها. يدلّك على فخامتها تلك الدرج
وهي مائة وست درجات في عرض سبعة أذرع تتصاعد إلى قاعة فسيحة عليها مائة عمود من
الرخام وبعضها قائمة حتّى اليوم.
وعلى أجنحة
الدرج تماثيل وتصاوير رجال منحوتة على الحجر وكان سرير الملك يحمله ٢٨ مجسّمة
حجريّة ، رمزا إلى ممثّلي الممالك التي سخّرها داريوش ، وهو جالس على السرير ويرى
من خلفه رجل يظنّ أنّه خشيارشا. كما عثر المنقّبون في
__________________
سروستان وفيروزآباد على أقواس وقباب لأبنية قديمة ، يعتقد أنّها من بقايا
عصر كورش الكبير ، كما يوجد حجر مكعّب الشكل يعرف بتخت طاوس في پاسارگاد على مقربة
من مقبرة كورش كان واحدا من أعتاب معبد قديم.
أضف إلى ذلك «ترعة
سويس» ـ قناة تصل البحر الأحمر بالمتوسط ـ ذلك المشروع العظيم ، كان أوّل من أمر
بحفرها هو الملك الفارسي داريوش الأول الهخامنشي. وذلك بعد أن استولى على مصر
وبلاد إفريقيّة مجاورة. وقد عثر في حفريّات هناك على ضفاف الترعة كتيبة فيها دلالة
واضحة على السيرة الحسنة التي كان يراعيها ملوك فارس مع أبناء البلاد التي كانوا
يمتلكونها آنذاك. الأمر الذي يدلّ على حضارة راقية كانت تسود إمبراطوريّة فارس.
والأمثلة لا
حصر لها في هذا المبحث من موضوعنا ، وكلّها تجيب على السؤال المطروح : هل كانت
فارس على درجة من التحضّر والتقدّم بما يوفّر الخبرة الهندسيّة لتشييد السدود
والأعمال العمرانية؟
ومن العرض
البسيط قد تحقّقنا من تقديم كورش الخبرة والمهندسين والإشراف لسكّان منطقة سهول
القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.
* * *
وأمّا عن
الإمكانيّات التي يمكن أن يكون قد طلبها ذو القرنين من الامم المسالمة في المنطقة
الوادعة ، حسب فهمنا للآية الكريمة ، فنأخذ أوّلا : القوّة البشرية (العمالة) التي
يمكن أن يكون كورش قد طلبها. فإنّ المنطقة حسب التخمين العام كانت آهلة ومزدحمة
بالسكّان ويمكن حساب عدد السكّان (تقريبا) في إقليم آذربيجان ـ إرمينيّة ـ داغستان
ـ جورجيا وما والاها سنة ٥٥٠ ق. م كان على الأرجح ما يقرب من ٠٠٠ / ١٧٠ نسمة.
__________________
فلو افترضنا
أنّ العمالة كانت تمثّل بنسبة ٦% من السكّان ، لعرفنا أنّ العمالة التي تقدّر
للاشتراك في بناء السدّ ما يزيد على (٠٠٠ / ١٠٠) مائة ألف عامل.
وهذا العدد
يمكنه بالفعل إنجاز العمل في سدّ ثغرة «داريال» لمدّة عشر سنوات تقريبا.
والموادّ الخام
التي شيّد منها سدّ ذي القرنين حسب وصف القرآن الكريم : خامات الحديد.
تحتوي أراضي آذربيجان
على معادن الحديد بكمّيات كبيرة ، ويشهد لذلك قيام صناعة الحديد والصلب الآن في
مدينة «باكو». فإذا كان الإقليم غنيّا به الآن فلا شكّ أنّه كان أغنى زمن كورش
بالطبع.
أمّا إرمينيّة
فغنيّة بمعادنها ، ويكثر بها على وجه الخصوص خام الحديد والنحاس والرصاص والزرنيخ
وحجر الشبّ والكبريت والذهب. وابن الفقيه هو الكاتب الإسلامي الوحيد الذي أمدّنا بمعلومات قيّمة
عن الثروة المعدنيّة في إرمينيّة.
ويذكر المؤرّخ
الأرمني (ليونتيوس) أنّ مناجم الحديد والفضّة في تلك البلاد كشفت حوالي نهاية
القرن الثامن للميلاد ، وتدلّ ملامح الأرض على مناطق محفورة في الجبال تشير إلى
استنفاد السّكّان الأقدمين لاحتياطي الحديد القديم الذي كان يستخرج في العراء دون
عناء كبير. وهي تقع في منتصف الطريق بين أطرابزندة وأرزن الروم. كما يوجد الحديد
بوفرة في جورجيا بالقرب من «تسخالطابو» و «محج قلعة» و «دربند» في داغستان وغيرها.
وفي مناطق الحدود الإرمينيّة في تركيا إقليم الحديد المشهور الذي يقدّر احتياطيه
بحوالي ٢٥ مليون طنّ وتبلغ نسبة الحديد في الفلز ما بين ٦٠ ـ ٦٦% وهي نسبة عالية. وقد
استخرج الحيثيّون من آلاف السنين كمّيّات هائلة من الحديد من هذا الإقليم ، وأهمّ
مناطق انتاجه الآن هناك إقليم «ديفرجي».
__________________
أمّا عن الفحم
والأخشاب اللازمين لصهر الحديد ، فتكوينيّات منطقة «كلاكنت» بأرمينيّة فيها
احتياطيّ كبير. وفي سواحل البحر الأسود تعتبر مناجم «زونفلداك» من المناطق الغنيّة
جدّا بخامات الفحم ، وهو من النوع البيتومين ويعطي نوعا جيّدا من فحم الكوك الذي
يستخدم في صناعة الحديد.
وأمّا عن
الأخشاب فيذكر ابن حوقل أنّ إقليم أردبيل كثير البساتين والأنهار والمياه والأشجار
والفواكه الحسنة والخيرات والغلّات ، وكذلك إقليم المراغة. ويقول عن إقليم اروميّة
: إنّه كثير الكروم والمياه الجارية والضياع والرساتيق. ويضمّ الإقليم أيضا : أشنة
، كثيرة الشجر والخضر والخيرات ومدينة برذعة ، كثيرة الخصب والزرع والثمار
والأشجار.
كما أنّ مجموعة
أنهار كورا (كوروش) ونهر ترك ، وكذلك صولاق ونهر آراكس ونهر آيورا ، كلّها محاطة
بمساحات هائلة من الأخشاب ، لانتشار أشجار الدردار والبلوط والصنوبر والارز والشوح
والعرعر والزيتون البرّي.
خامات النحاس ـ
التي طلبها «كورش ذو القرنين» من سكّان الإقليم حسبما عبّر القرآن الكريم : (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) ... هذه الخامات ثبت علميّا وتأريخيّا توفّرها بالمنطقة
، فالدراسات الجيولوجيّة الحديثة أثبتت وجودها بوفرة في تكوينيّات «زنجان» و «أنارك»
وشمال أصفهان وفي جنوب آذربيجان ، كميّات هائلة منه. وفي إرمينيّة أصبحت مناجم
النحاس الكبيرة المعروفة منذ القدم ، شاهد على استخراج السكّان القدامى لخاماته ،
خصوصا في منطقة «كدابك» وما يتبعها من منجم فرعي في إقليم «كلاكنت» ـ بين
البزاوتيول وبحيرة كوك جاي ـ وقد اعيد إحياء مجد الإقليم في مجال استخراج النحاس
حديثا في السنوات الأخيرة ، بفضل إدارة إخوان «سيمنس» مؤسّسي مصانع سبك المعادن
هناك.
ومن ناحية
توفّر العدد اللازم من حيوانات الجرّ والحمل ، فالإقليم غنيّ بالثروة الرعويّة
والحيوانيّة ، لأنّه يقع بين خطّي عرض ٣٠ ـ ٤٥ شمالا ، وينحصر بين إقليم البحر
المتوسط غربا وإقليم الصين شرقا ويمتدّ في اوراسيا بين التركستان الصينيّة
ورومانيا ، ويشمل بذلك كلّ آذربيجان وإرمينيّة والقوقاز وجورجيا وداغستان وأنجازيا
وأجاريا. ولكثرة حشائش الإقليم سمّيت إقليم المراعي المعتدلة الدفيئة ، وهي غنيّة
تكفي رعي الماعز والضأن على الهضاب ، والأبقار والمواشي في السهول ، والجمل أيضا
معروف هناك وهو من نوع ذي السنامين وحيوان الياك (kAY). وقد استخدمه السكّان في النقل تماما كالحمير ، وهو
يمتاز على الحمير بوجود أظفار في رجليه تساعده على ارتقاء المرتفعات والتنقّل
بأحماله بينها. كما يوجد هناك منذ القدم عشرات الآلاف من الخيول السيسي الشهيرة
بقدرتها على حمل الأثقال وجرّ العربات.
ومن حيث توفّر
المؤن لمواجهة استهلاك العمّال والمهندسين من غذاء لازم حتّى إتمام تشييد السّدّ ،
فقد عرف الإقليم جميع الحبوب من آلاف السنين ، وكانت إرمينيّة تعتبر من أخصب أملاك
الخلافة العباسيّة ، وكانت الغلال تستنبت فيها بكثرة وتصدر إلى الخارج كبغداد مثلا
، وكان السمك يكثر في بحيراتها وأنهارها ويصدر إلى الخارج أيضا ، وكانت خيرات الإقليم تتوجّه زمن كورش إلى همدان وسائر
البلاد المعروفة ذلك اليوم.
وأودية هذا
الإقليم الكبير مزدحمة بغابات الأشجار المثمرة ، وفي مناطق العراء كانت زراعة
البطاطا والشمندر السكّري من أهمّ حرف السكّان في العصور القديمة.
ففي آذربيجان
كان القمح الشتوي يزرع هناك بنجاح كبير ، علاوة على أنواع اخرى من الحبوب وكذلك
الكروم والجوز ... وداغستان بلاد زراعيّة بالدرجة الاولى من
__________________
العصور القديمة حتّى الآن ، فهي تنتج القمح والذرّة والبطاطا والخضروات
والكرمة ، كما أنّ الماشية ترعى في سفوح الجبال وأشهر مواشيها الأغنام ... ومناخ
جورجيا (گرجستان) من آلاف السنين ملائم لزراعة الحبوب وخاصّة الذرّة والكرمة
والحمّضيّات والشمندر السكّري وهذه المزروعات تجدها في كلّ أنحاء الإقليم. وثروة
الإقليم بالماشية هائلة ، إذ تنتشر المراعي الواسعة كما رأينا وتربّى عليها قطعان
الماشية وخاصّة الأغنام.
ومن الملامح
التي عرضناها بإيجاز تأكّد لنا قدرة الإقليم على تموين العمّال والمهندسين بالطعام
والشراب الكافي ، دون أن يحدث نقص في إمدادات الغذاء ، أي أنّ الأمن الغذائي كان
مكفولا.
والموادّ الخام
اللازمة كانت متوفّرة ، من حديد ونحاس وفحم وأخشاب ، وحيوانات الجرّ والحمل كانت
موجودة تفي بالغرض تماما. والأيدي العاملة الرخيصة كانت متوفّرة كذلك. والخبرة
الفارسيّة ، والتخطيط الدقيق لكورش كلّها كانت مقوّمات نجاح تشييد أعظم السدود في
العالم ، لدرجة جعلت القرآن يصفه بالردم ، أي السّدّ الضخم الهائل في قوله تعالى :
(فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً).
وبعد فإليك
الكلام عن السدّ (سدّ ذي القرنين الذي ذكره القرآن) وهل هو سدّ كورش التاريخي؟
سدّ كورش (ذي القرنين) التاريخي؟
في وصف شامل
لسدّ كورش (ذي القرنين) وتحديد موقعه الجغرافي حاليّا على الخريطة السياسيّة ،
وتحديد نوعيّة الدولة التي كانت تسيطر على المنطقة الجبليّة التي شيّد فيها ، يمكن
القول : إنّه من المعطيات السابقة ، تتبلور ملامح سدّ كورش التاريخي في :
__________________
أنّ السّدّ بني فيما بين عامي ٥٣٩ ق. م. و ٥٢٩ ق. م. في مكان جبليّ شاهق
شديد التضرّس قائم كجدارين شامخين على جانبيه ، وبذلك ـ وعلى هذه الصورة ـ يكون
السّدّ حجازا مضافا على الجدارين ، في مكان المضيق الجبلي الذي كان موجودا بينهما
، ويعرف بمضيق «داريال» ، وهو موسوم في جميع الخرائط الإسلاميّة والروسيّة في
جمهوريّة جورجيا (گرجستان).
وقد استخدمت في
تشييد السدّ زبر الحديد أي قطع الحديد الكبيرة ، وافرغ عليها النحاس المنصهر. وهذا
هو وصف القرآن ، ولا نقبل عنه بديلا ، مهما كانت درجة التقارب أو التشابه ، ونرفض
أيّ سدّ آخر يكون قد شيّد من الحجارة ـ مثل سور الصين العظيم ـ حتى ولو كانت عناصر
ومقوّمات وظروف إنشائه مشابهة لما جاء عن سدّ ذي القرنين.
وقد رأينا خلال
السرد التاريخي أنّ القبائل المغولية ـ وراء سلسلة جبال قوقاز ـ كانت لا تتكاسل عن
الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد.
وكلّ صفحات
التاريخ تذكر لنا أنّ ثمّة توقّف مفاجئ حدث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة
المتوحّشة ، وتشير أصابع الدقّة التاريخيّة نحو الحقبة التي ظهر فيها كورش
الهخامنشي!
ومن ثمّ جاء
قول المؤرّخين بأنّ هذه القبائل التي سمّيت «ميگاگ» عند اليونان و «منگوگ» عند
الصينيّين ، هم قوم «يأجوج ومأجوج» الذين جاء ذكرهم في القرآن. وقد تقدّم الكلام
عن ذلك.
هذا وقد تتّبع
مولانا أبو الكلام آزاد ، من خلال استقراء التاريخ ومراجعة النصوص في العهد القديم
وما جاء فيها عن يأجوج ومأجوج ، ووصل إلى نفس ما هو قائم في الواقع في جمهورية
جورجيا (گرجستان) الآن ، وقد عثر على كتل هائلة من الحديد المخلوط بالنحاس ،
موجودة في جبال قوقاز ، مبعثرة في منطقة مضيق «داريال» الجبلي.
وهذه حقيقة
قائمة لكلّ من أراد أن يشاهدها برأي العين.
جبال شاهقة
تمتدّ من البحر الأسود حتّى بحر قزوين ، التي تمتدّ لتصل بين البحرين طوال ١٢٠٠ ك.
م. وهي جبال التوائيّة حديثة التكوين ، شامخة متجانسة التركيب ، إلّا من كتل هائلة
من الحديد الصافي المخلوط بالنحاس الصافي في مضيق داريال. غير أنّ جسم الجبال
الصخري (جبال قوقاز) من جانبي السدّ تآكل بفعل عوامل التعرية طوال ٢٥٠٠ سنة وصار
هناك فراغ فيما بين الصخور الجبليّة وجسم السدّ الحديدي النحاسي. وأصبح كتلا ضخمة
تبعثرت في معبر المضيق.
ويشار إلى هذا
السدّ في الأطالس الجغرافيّة الحديثة بين فلادي (idalF) وكوكس (ssakauiK) وبين تفليس. ويذكره الأرمن ـ هناك
ـ في صفحات تاريخهم (الشاهد على أحداثهم) باسم «بهاك غورائي» و «كابان غورائي» أي
مضيق كورش أو «ممرّ كورش». كما أنّ سكّان گرجستان يعرفونه في بلادهم باسم الباب
الحديدي ، وذكره الأتراك في كتاباتهم أيضا باسم «دامركاپو» (قاپو). و «دامر» ـ بالتركيّة ـ يعنى : الحديد. و «قاپو» : الباب.
فالسدّ شيّد في
منطقة جبليّة بين صدفين في مضيق داريال ، وليس في مناطق سهليّة مثل سور الصين
العظيم. وقد اقيم لإيقاف زحف الأجناس المتوحّشة عبر جبال القوقاز إلى شمال مملكة
فارس وغرب آسيا ، ولم يكن لحجز مياه السيول والفيضان مثل سدّ مأرب.
وقد شيّد من
خامات الحديد واشعلت النيران لصهر النحاس ليصبّ فوق الحديد. وبقاياه تدلّ فعلا على
انطباق مواصفاته مع ما جاء في القرآن الكريم.
ولذلك عبّر
القرآن عن متانته بقوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً).
إذن ، لم يكن
السدّ من الحجر ، مثل سور الصين العظيم. أو جدار «دربند» الذي بناه
__________________
أنوشيروان الملك الساساني بعد (١٠٠٠ عام) من بناء سدّ كورش. أو سدّ «مأرب» الذي
شيّد لتنظيم الريّ ووقاية المنطقة ـ وعاصمتها مدينة مأرب قاعدة المملكة السبئيّة (باليمن)
ـ من أخطار الفيضانات الموسميّة ، وتهدّم بين (٥٧٠ ـ ٥٤٢ ق. م) على أثر السيل العرم
(الهائج المدمّر) ونتيجة للإهمال بشأن ترميم ثلمها.
هذا هو سدّ
كورش ذي القرنين ـ كما وصفه القرآن الكريم ـ يشهد على ذلك جميع الشعوب التي دخلت
اوربا عن شمال جبال قوقاز وشاهدته بعد ما شيّد أو اجتازت مضيق داريال قبل تشييده. هذا
هو السدّ ، في منطقة استراتيجيّة ذات أهمّية كبيرة ، جرّ عليها موقعها هذا صعابا
كثيرة ، فطمعت فيها كلّ الدول المجاورة!
هكذا ، فكلّ من
سيطر على الإقليم صارت كلّ المناطق شماله وجنوبه تحت رحمته ، لذلك فقد وصل الغزاة
إلى المنطقة من فجر التاريخ. فغزاها الآشوريّون والكلدانيّون والمصريّون والقدماء
والفارسيّون ، ثمّ اليونانيّون ... وخضعت لنفوذ بيزانطة في القرن الثالث الميلادي
بعد أن انتشرت المسيحيّة في جنوبها في القرن الأوّل الميلادي. وكذلك استولت الصين
على جنوب قوقاز في القرن الرابع الميلادي. وكانت دولتا الفرس والروم كفرسي رهان
على امتلاك إرمينيا وقوقاز وآذربيجان طول التاريخ.
بناء جدار «دربند»
وفيما بين عامي
(٥٣١ ـ ٥٧٩ م) حكم الفرس في عهد أنوشيروان هذه المنطقة ووجد الملك الفارسي أنّ
السدّ (الذي بناه كورش قبل ١٠٠٠ عام) لم يعد يمنع المغيرين عن بلاد فارس ، خصوصا
وأنّ النوعيّة قد تغيّرت ، فقد اضيف إليها العنصر الروماني
__________________
والتركي.
فمن أين جاء
التهديد هذه المرّة ، وكيف بطل مفعول السدّ الكورشي؟
... كان بحر قزوين
يضرب بأمواجه أقدام جبال قوقاز من جهة الشرق ، وكانت مياه البحر الأسود تضرب
أقدامها من ناحية الغرب. وكان من المستحيل على الغزاة بعد بناء سدّ كورش الشهير أن
يتوغّلوا إلى جنوب قوقاز.
ولكن بعد (١٠٠٠
عام) من بناء السدّ في مضيق داريال ، كان البحر قد فعل مفعوله في مياه بحر قزوين.
وبما أنّه بحر
مغلق لا يتّصل ببحار العالم ومحيطاتها ، فقد تناقصت مياهه وانحسرت عن شواطئه ،
متراجعة نحو القاع ، فانكشف جزء مدرّج على طول امتداد تعاريج الساحل وظهر بذلك
شريط ساحلي ضيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال قوقاز عند «دربند» وصار
الرومان البيزنطيّون والأتراك يتدفّقون على شمال فارس عبر هذا الشريط الساحلي الذي
بلغ اتساعه ٣٠ ميلا بين بحر قزوين وجبال قوقاز.
لذلك أمر «أنوشيروان»
ببناء جدار من الحجر بين مياه بحر قزوين وأقدام الجبال ، بعرض هذا الشريط الساحلي
، حتى التحم الجدار تماما بجبال قوقاز ، وبذلك عاد لسدّ كورش مفعوله مرّة اخرى.
جدار «دربند»
ويجدر بنا ونحن
على وشك الانتهاء من حديث ذي القرنين ، أن نتحدّث شيئا عن السدود المعروفة في
العالم القديم وربما اشتبهت بسدّ ذي القرنين الآتي في القرآن الكريم :
__________________
منها : «جدار
دربند» أو «حائط قوقاز» الذي بناه الملك الساساني أنوشيروان في امتداد جبال قوقاز
حتى مياه بحر قزوين في طول سبعة فراسخ ، سدّا لهجمات أقوام همج كانوا وراء السدّ ،
كانوا يغيرون على حدود ممالك فارس ، فصدّهم ببناء هذا الحائط العظيم ، وجعل له
بابا ضخما كان يوصد بوجه المغول والتتار. واشتهر بباب الأبواب وكانت مدينة «دربند»
والتي بناها أنوشيروان في نفس المكان ، قد سمّيت بنفس الاسم. وهي اليوم عاصمة
جمهوريّة «داغستان» على ساحل البحر ، لقد كانت الحروب دامية بين ملوك فارس والقبائل الوحش
خلف جبال قوقاز منذ عهد بعيد ، حيث أطماع تلك الأقوام الصحراويين في ثراء منطقة
آذربيجان وإرمينيّة وداغستان وگرجستان وسائر البلاد الخصبة الغنيّة بالحرث والنسل.
وكان الملك الساساني «قباد» (والد أنوشيروان) كان قد شنّ حملاته الدفاعية ضدّ أقوام
التتر ، ليمنعهم عن إغارة البلاد ، وكانوا يغيرون عبر حدود ممالك فارس حتى نهر
كورا (كورش القديم) ، فحاربهم «قباد» ومزّق شملهم في حروب دامية وقتلهم شرّ قتلة
وسبى وغنم الكثير من أموالهم. وهكذا كانت الإغارات والهجمات ظلّت مستمرّة بين حين
وآخر حتى جاء دور «أنوشيروان» وتسنّم الحكم ، فكان ممّا شدّ العزم على إنهاء تلك
العرقلة ، أن قام بتشييد حائط متين يحجز دون إغارات الأقوام الهمج نهائيّا ،
وليريح شعبه من المزاحمين طول حقبات.
وفيما بين عامي
٥٣١ ـ ٥٧٩ م (أي بعد بناء سدّ كورش بألف عام) وجد الملك أنوشيروان أنّ السدّ
القديم لم يعد يمنع المغيرين عن فارس ، خصوصا وأنّ النوعيّة قد تغيّرت ، فقد اضيف
إلى أقوام التتر والمغول ، العنصر الروماني والتركي ، وكان بحر قزوين قد أخذ في
الانخفاض والانحسار عن أقدام جبال قوقاز ، نظرا لأنّه بحر مغلق لا يتّصل بالمحيطات
، فقد تناقصت مياهه وانحسرت عن شواطئه نحو القاع ، فانكشف جزء مدرّج على طول
امتداد تعاريج الساحل ، وظهر بذلك شريط ساحليّ ضيّق بين خطّ ماء البحر الجديد
وأقدام جبال القوقاز عند «دربند» وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك ، مع البقايا
__________________
من أقوام التتر الهمج يتدفّقون على شمال فارس ، عبر هذا الشريط الساحلي
الذي بلغ اتّساعه (٣٠ ميلا) بين بحر قزوين وجبال قوقاز.
لذلك قام
أنوشيروان ببناء جدار متين من الصخور الغلاظ ، ممتدّا من سفوح جبال قوقاز حتى مياه
البحر ، وآخذا فيه بعض الشيء ـ على ما ذكره المسعودي والحموي ـ حتى التحم الجدار مع الجبال تماما.
* * *
وهل كان
أنوشيروان هو الذي تبنّى بناء جدار دربند ، أم كان هو القائم بتجديد بنائه بعد
انهيارات حصلت في أطرافه وتضعضع وأشرف على الخراب ، فأعاد أنوشيروان بناءه على اسس
متينة وعلى استحكام بالغ بقي طيلة قرون. (وقد كان قائما حتى عهد المسعودي سنة ٣٢٣
ه)؟
يبدو من كتاب
تاريخ كرمان : أنّ الجدار كان قد بني قبل ذلك بما أثّر فيه طول العهد
__________________
من التضعضع والإشراف على الانهيار ، فكان أنوشيروان قام بترميمه وتجديد
عمارته.
جاء فيه : أنّ
شاهنشاه إيران أنوشيروان عمد من «المدائن» عاصمة ملوك الفرس ، قاصدا مدينة باب
الأبواب لترميم السدّ في منطقة «شروان». فأخذ طريقه على ساحل الخزر ومعه العمّال والمهندسون
لعمارة السدّ. وأنفق أموالا طائلة ، لكن المشروع استنفدها دون الاكتمال. وبعد
التدبّر والمشاورة رأى الملك أنّ أحدا من عظماء مملكته لا تسعه المساهمة في إكمال
المشروع الجلل ، سوى الأمير «آذرماهان» وكان واليا على بلاد كرمان من قبل السلطان.
وكانت بلاد كرمان يوم ذاك غنيّة بالثروات الطبيعيّة والزراعيّة بما يفوق سائر البلاد.
غير أنّ الملك
لم يرقه تكليف موظّفيه بأكثر من المقرّر الرسمي المفروض عليهم ، حيث كان خلاف
العدل السلطاني. ولذلك عزم على المسير إليه في ألف من خواصّه المهندسين والعمّال
الفنّيين ، حتى ورد «إيلغار گواشير» نازلا في دار الأمير ، فوعدهم بالمساهمة في المشروع بما
يكفي مئونة إكمال السدّ نهائيّا ... ذكروا أنّ السدّ اكتمل بما بذله أمير كرمان
آنذاك.
شكوك حول كورش : هل هو ذو القرنين؟
ربما تشكّك
البعض في الرأي القائل بأنّ ذا القرنين ـ الذي وصفه القرآن بالصلاح ـ هو كوروش
الكبير الملك الفارسي العظيم؟!
وعمدة مسارب
الشكّ هو جانب سلوكه السياسي المتسامح مع أصحاب الأديان وحتى مع عبدة الأوثان ،
ومن غير أن يسير سعيا وراء إعلاء كلمة الله في الأرض. يشهد لذلك سلوكه الخاصّ مع
البابليّين وإفساح المجال لهم في عقيدتهم الاولى ولا سيّما تزلّفه في تكريم كبير
آلهتهم «مردوك» ـ حتى أنّه عدّ نفسه موضعا لعنايته في منشور عام ، كما ردّ إلى
عبدة الأوثان كلّ ما نهب منهم من أصنام وجعلها في معابد كانت تسمّى «شادي
__________________
دل» أي فرحة النفس.
يقول في ذلك
الاستاذ محمد خير رمضان : تلك المقاطع التاريخيّة إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على
وثنيّة كورش وتعظيمه للآلهة وإفساح المجال لعبادتها لكلّ الشعوب المقدّسة لها. ويكفيك
ما قاله في منشوره العام : «أرجعت الآلهة التي نقلت إليها (معابد بابل) إلى
مواطنها ... وأعدت إلى سومر وأكد آلهتها التي حملت إلى بابل ووضعتها في قصورها
التي تسمّى «شادي دل» وبذلك أنهيت غضب الآلهة بأمر من مردوك الإله الكبير ـ ومردوك
هو صنم بابلي.
وهذا يقوي ما
ذهب إليه المؤرّخون ممّا قيل عن عقيدته وإعطائه الحريّة الدينيّة كيفما كانت ،
وبخاصّة عبادة الأصنام. لا كما هي صفات ذي القرنين ـ حسبما جاءت في القرآن ـ من
أنّه كان يحارب هذا الشرك. ولا يتعامل معهم ولا يقبل منهم إلّا الإيمان أو الحرب!!
ومن ناحية اخرى
هي جانب بناء السدّ ـ الذي ذكره القرآن ـ تشكّكوا في كونه من عمل كورش بالذات ،
ولعلّه قام بترميمه نظير ما عمله أنوشيروان بعد ألف عام. ومستند الشكّ أنّه لم يأت
في التاريخ ذكر عن بناء هذا السدّ على يد كورش ، في حين أنّه لم يكن بذلك البعيد
بحيث يجهل تاريخ حياته ولا سيّما في مثل هذا العمل الضخم ، كما لم يذكره هو في
مفاخره حيث ذكر مفاخر هي أقلّ شأنا من بناء هذا السدّ العظيم.
يقول الاستاذ
محمد خير رمضان : لا دليل لاستناد بناء السدّ إلى كورش ، وعمدة ما يستدلّون به :
أنّ القبائل المغوليّة كانت لا تتكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال
القرن السادس قبل الميلاد ... وكلّ صفحات التاريخ تذكر لنا أنّ ثمّة توقّفا مفاجئا
حدث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المتوحّشه ... وتشير أصابع الدقّة
التاريخيّة نحو الحقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي.
هذا هو الدليل
الوحيد الذي استند إليه أصحاب القول بأنّ السدّ من عمل كورش
__________________
الكبير. ولكن :
هل يعني توقّف
هذه القبائل : أنّ كورش بنى السدّ؟!
لما ذا لا نقول
: إنّ السدّ كان مبنيّا من قبل ، ولكنّ الحوادث الطبيعيّة أثّرت في جوانب السدّ ،
كأن تكون مياه بحر قزوين قد انحسرت عن شواطئه فكانت القبائل تغزو من الساحل الذي
كان مكانه الماء ، ثمّ اعيد ترميم السدّ في عهد ذلك الملك. ووقفت هجمات القبائل
المتوحّشة على تلك المنطقة بعد هذا؟!
وهذا نظير ما
حدث على عهد أنوشيروان بعد ألف عام ... أفليس من المعقول أن يكون كورش قد فعل مثل
صنيع أنوشيروان في ذلك ، ويكون السدّ ـ بطبيعة الحال ـ قد بني قبله بزمن طويل؟!
قال : إنّني
أرى ما ذكرته أسلم ، لأسباب :
١ ـ لم يثبت
تاريخيّا قطّ أنّ كورش قد بنى سدّا هناك ...
٢ ـ لم يذكر
كورش في الوثيقة السابقة التي كتبها ، أنّه بنى السدّ ... رغم أنّ هذا يعدّ عملا
عظيما جدّا لا يرتقي إليه أيّ عمل من أعمال كورش السابقة ...
فكيف يهمل كورش
ذكر هذا السدّ ـ والذي استغرق بناؤه عشر سنوات كما يقول الاستاذ خضر ـ والذي هو
أبلغ آثاره على مرّ السنين ، ثمّ يذكر أشياء اخر أبسط منه بكثير ، والتي يشارك
فيها ملوك غيره؟!!
٣ ـ ليس كورش
بذلك الملك القديم جدّا حتى تخفى أخباره على جزيرة العرب ... في حين يجب أن لا
ننسى أنّ قصص الفرس كانت منتشرة بين العرب ، وكان لهم أنصار بينهم ، وقد تأثّروا
بأدبهم ورواياتهم وقصصهم الشعبيّة ... وتحدّثنا السيرة النبويّة الشريفة عن النضر
بن الحارث ، الذي قدم من الحيرة وكان قد تعلّم بها أحاديث ملوك فارس وأحاديث رستم
واسفنديار ... وكان يحدّث بها إثر ما يقوم رسول الله صلىاللهعليهوآله من مجلسه حينذاك ...
وإذا كان كورش
من أعظم ملوك فارس ، فلا بدّ أنّه كان له نصيب من بين تلك
الأحاديث ...
قال : هذا ما
بدا لي خلال هذا البحث ، والقارئ حرّ فيما يرتئيه ، وبخاصّة بعد أن بيّنت له كلّ
الأوجه بدقّة وإنصاف ...
* * *
إذن فمن هو ذو
القرنين؟
يرى الاستاذ
رمضان : إنّه رجل آخر. عاش في عصور غابرة. قبل تبّع. وقبل الإسكندر. وقبل كورش. فقد
كان في زمن نبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام (أي قبل كورش هذا بألف
عام) كما ذكره وصحّحه ثقات المؤرّخين!!
إذن فذو
القرنين رجل آخر ضاعت أخباره على مرّ التاريخ ولم يسلم منها إلّا ما ذكره الله ـ عزوجل ـ وما ثبت عن الرسول صلىاللهعليهوآله ونتف اخرى قليلة من التاريخ ، اعتمدها بعض الثقات من
المؤرّخين.
وهنا أورد
روايات وحكايات ـ أسندها إلى السلف ـ بشأن ذي القرنين :
ذو القرنين في الروايات
قال : وأنا هنا
سأصل بالقارئ إلى النتيجة ، من تلك الروايات إلى ما سنستقرّ عليه بعونه تعالى.
فقد ذكر
الأزرقي وغيره : أنّ ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل عليهالسلام وطاف معه بالكعبة المكرّمة هو وإسماعيل عليهالسلام.
وروي عن عبيد
بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما : أنّ ذا القرنين حجّ ماشيا ، وأنّ إبراهيم لمّا
سمع بقدومه تلقّاه ، فلما اجتمعا دعا له الخليل ورضّاه وأنّ الله سخّر لذي القرنين
السحاب يحمله حيث أراد.
وقال إسحاق بن
بشر عن عثمان بن الساج عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان ذو القرنين ملكا
صالحا رضي الله عمله وأثنى عليه في كتابه وكان منصورا وكان
__________________
الخضر وزيره. وذكر أنّ الخضر عليهالسلام كان على مقدّمة جيشه ، وكان عنده بمنزلة المشاور ...
وروى الفاكهي
من طريق عبيد بن عمير ـ أحد كبار التابعين ـ : أنّ ذا القرنين حجّ ماشيا فسمع به
إبراهيم فتلقّاه. ومن طريق عطا عن ابن عباس : أنّ ذا القرنين دخل المسجد الحرام
فسلّم على إبراهيم وصافحه ، ويقال : إنّه أوّل من صافح. ومن طريق عثمان بن الساج : أنّ ذا القرنين سأل إبراهيم
أن يدعو له. فقال : وكيف وقد أفسدتم بئري! فقال ذو القرنين : لم يكن ذلك عن أمري ،
يعني أنّ بعض الجند فعل ذلك بغير علمه! وذكر ابن هشام ـ في التيجان ـ : أنّ
إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في شيء فحكم له! وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن
أحمد : أن ذا القرنين قدم مكّة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة ، فاستفهمهما
عن ذلك ، فقالا : نحن عبدان مأموران ، فقال : من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش (!؟)
فشهدت! فقال : قد صدقتما. قال ابن حجر : فهذه الآثار يشدّ بعضها بعضا وتدلّ على
قدم عهد ذي القرنين.
إزاحة شبهات؟!
تلك شبهات
اثيرت حول الرأي القائل بأنّ ذا القرنين ـ الذي جاء وصفه في القرآن ـ هو كورش
الهخامنشي الملك الفارسي العظيم!!
لكنّها لم تحسب
حسابها الدقيق ، ومن ثمّ فإنّ الترجيح مع هذا القول المعتمد على اصول متينة ، أمّا
الشبهات أو الشكوك فلا مجال لها بعد إحكام الدليل :
__________________
أوّلا ـ ليس في
الروايات أو الحكايات التي سردوها لغرض إثبات قدم عهد ذي القرنين بما يقارن عهد
إبراهيم الخليل. ليس فيها ما يفيد اليقين ، لضعف الأسناد واضطراب المتون إلى حدّ
بعيد.
يقول الدكتور
صلاح عبد الفتاح الخالدي ـ ردّا على اختيار الاستاذ محمد خير رمضان يوسف ـ : «كم
كنت أتمنّى على الاستاذ ... أن يأتي على رأيه بأدلّة علميّة يقينيّة ، وهذه لا
تكون إلّا فيما اخذ من القرآن والحديث الصحيح ، أمّا اعتماده على كلام مؤرّخين
ومفسّرين ، لا دليل عليه من المصادر المعتمدة ، فهذا لا يقبل في البحث العلمي
المنهجي اليقيني.
ولذلك نحن
مضطرّون أن نخالف الاستاذ محمد خير في ترجيحه عن ذي القرنين ، من أنّه كان يعيش في
زمن إبراهيم عليهالسلام كما أنّنا مضطرّون إلى ترك كلّ الأقوال المذكورة في كتب
التاريخ والتفسير ، عن التقاء ذي القرنين بإبراهيم عليهالسلام في فلسطين أو الحجاز ، لكونها غير مذكورة في حديث واحد
صحيح ، يمكن للإنسان أن يعتمده ويطمئنّ به ، والله أعلم».
كورش هو ذلك العبد الصالح؟
جاء في وصف
القرآن لذي القرنين ما ينمّ على صلاح وإيمان واعتقاد بالله العظيم ، وأنّه كان على
بصيرة من أمره وموضع عنايته تعالى فيما انتهجه من الحياة السياسيّة الاجتماعيّة ،
وفي سبيل إحياء كلمة الله في الأرض ، بما آتاه الله من القدرة والحكمة وحسن
التدبير :
(إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ...)
(قُلْنا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ...)
__________________
(قالَ ما مَكَّنِّي
فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ... هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ...)
كان قد مكّنه
الله في الأرض وكان قد استخدم سلطانه هذا في سبيل عمارة الأرض وإفشاء السلام فيها
، وبذلك وبنعمته تعالى أصبح عبدا شكورا!
وهل تتصادق
صفات كهذه مع سيرة كورش السياسيّة آنذاك؟
الممعن في سيرة
كورش بدقّة يجده على الوصف الذي جاء في القرآن الكريم :
كان مؤمنا
معتقدا بالله العظيم وأن لا حول ولا قوّة إلّا به ، وأنّه تعالى هو الذي رعاه
وألهمه الخير وهداه إلى سبيل الرشاد ، في إصلاح البلاد والعناية بشئون العباد. الأمر
الذي يبدو بوضوح من سيرته الحكيمة مع مختلف شعوب الأرض :
يقول الدكتور
خضر : ويميل كثير من المؤرّخين إلى اعتبار أنّ كورش كان ملكا يتّصف بالعقل والحزم
والعزم والرأفة في آن واحد ، وأنّه كان يمضي إلى آخر المطاف في أيّ عمل يبدأه ،
ولا يترك أيّ عمل دون إتمام. وكان يلجأ إلى العقل أكثر من لجوئه إلى القوّة.
وكان يعامل
الشعوب المغلوبة معاملة حسنة تتّصف بالرأفة والشفقة ، بخلاف ما كان عليه الحال عند
الملوك الآشوريّين والبابليّين ، وكان يعامل الملوك المهزومين معاملة طيّبة جدّا
لدرجة أنّهم كانوا يصبحون أصدقاء حميمين له وكانوا يقدّمون له العون إذا تطلّب
الأمر.
وكان العدل
يرفرف على جميع الشعوب التي خضعت له من نهر السند حتى بحر إيجة (وهي مسافة تقرب من
طول الولايات المتّحدة الأمريكيّة من الشرق إلى الغرب) ... ومن خليج عدن حتى صحراء
بحر قزوين. وكان النظام الذي أرسى الحاكم العظيم كورش دعائمه في هذه الإمبراطوريّة
المترامية الأطراف عملا خارقا يعدّ من الأعمال الخالدة المجيدة في تاريخ الشرق بل
في تاريخ العالم كلّه ...
حقّا ... لقد
كان حاكما رحيما مستنيرا يدعو إلى الخير ... وكان يلقّب بالملك
__________________
الأكبر ... وظلّ هذا تقليدا عامّا لكلّ عاهل فارسي.
ويرى العلّامة
أبو الكلام آزاد : أنّ كورش كان يطبّق تعاليم الفيلسوف والحكيم المشهور «زرادشت»
والتي تدعو إلى الخير وتعتقد بالحياة الاخرى وبقاء الروح. كما يرى أبو الكلام آزاد
في تعاليم «زرادشت» أنّها محور دارت عليه الدعوة إلى طهارة النفس وحسن العمل ، يرى
فيها أيضا تحريما لعبادة الأصنام في أيّ شكل من الأشكال.
ومن دلائل
تديّن الحاكم العظيم كورش ما كشفه الاستاذ «هرتزفلد» (dlefzreH) من بقايا معبد قديم ، يعتقد أنّ
كورش هو الذي بناه في مدينة «پاسارگاد» ويقوم هذا المعبد على مقربة من قصر الملك ،
وقبره في تلك المنطقة. وهذا المعبد يعبّر عن مبلغ أهميّة هذه الديانة في عهد كورش
ومن بعده. ويراها المؤرّخون ديانة قديمة كانت ذات أهميّة كبيرة عند أهل فارس
القديمة ، وأنّها دعت كلّ إنسان وحثّته على اختيار أحد الطريقين : إمّا أن يملأ
قلبه بالخير والنور أو ينغمس في الشرّ والظلمة. وعلى كلّ فسيلاقي جزاءه ويحاسب على
ما آتاه. ويعتبر المؤرّخون هذه العقيدة أقدم ديانة ظهرت في آسيا تعتقد بالحساب بعد
البعث.
قال الدكتور
خضر : ولعلّنا نجد في قول ذي القرنين ما يشير إلى ذلك :
(قالَ أَمَّا مَنْ
ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً).
أي هناك إلها ،
سيرد إليه كلّ إنسان يوم البعث للحساب ، فإن كان ظالما في حياته فسوف يعذّبه الله
عذابا شديدا.
وقد ذكرت كتب
المؤرّخين أنّ كورش لم يعمل السلب والنهب في القبائل الأيونية التي أخضعها ، ولم يسمح بالنهب والقتل فيما آل إليه من
مدن وممالك. وكان بذلك على العكس تماما من الملوك الآشوريّين ... فإنّهم جعلوا
المدن التي فتحوها في مستوى الأرض ، وكانوا يتبجّحون بأنّهم تركوها خرابا يبابا ،
فلم يعد يسمع فيها نباح كلب
__________________
أو صياح ديك. وقد ورد نفس الشيء عن ملوك عيلام.
وحين رأى الناس
سلوك كورش ، وقارنوا ذلك بما كان سائدا ومتّبعا آنذاك ، كانوا يعتبرونه حاكما
عادلا منصفا ، طيّب القلب يحبّ الخير للناس.
ويعتبره
المؤرّخون أوّل من أرسى الاسس الأخلاقيّة في العالم القديم وأدخل اسلوبا جديدا
لمعاملة الممالك التابعة والشعوب المغلوبة.
ويذكر المؤرّخ
اليوناني الكبير «هيرودتس» أنّ كورش ـ بعد إخضاع بابل ـ توجّه نحو الشمال الغربي
لإعادة الأمن على البلاد ، وإخضاع القبائل الوحش (ماساجيت ـ مأجوج) التي كانت تشنّ
إغارتها على البلاد الآمنة. يقول : وكان قد توجّه لذلك الصوب بدافع إلهي ... أوّلا
: أصالة نزعته الإلهيّة ... وثانيا : ثقته النفسيّة اعتمادا على ما مكّنه الله
تعالى من القوّة والسطوة وقدرته الفائقة على إخضاع كلّ الصعاب.
ويقول «ول
ديورانت» : كان كورش من الحكّام الذين خلقوا ليكونوا حكّاما ، والذين يقول فيهم «إمرسن»
: كان الناس يبتهجون عند ما يرون هؤلاء يتوّجون. فلقد كان ملكا بحقّ في روحه
وأعماله ، قديرا في الأعمال الإداريّة والفتوح الخاطفة المحيّرة ، كريما في معاملة
المغلوبين ، محبوبا لدى أعدائه السابقين ، فلا عجب والحالة هذه أن يتّخذ اليونان
منه موضوعا لعدّة روايات بطوليّة وأن يصفوه بأنّه أكبر أبطال العالم.
كان وسيّما
بهيّ الطلعة ـ وقد اتّخذه الفرس نموذجا للجمال البشري حتى آخر أيّام فنونهم
القديمة ـ وأنّه أسّس الاسرة الهخامنشيّة اسرة الملوك العظام التي
حكمت بلاد الفرس في أزهى أيّامها وأعظمها شهرة ، وأنّه نظّم قوّات ميديا وفارس
الحربيّة ، فجعل منها
__________________
جيشا قويّا لا يقهر ، وأنّه استولى على سرديس (سارد) وبابل ، وقضى على حكم
الساميّين في غربيّ آسيا ، فلم تقم له بعدئذ قائمة مدى ألف عام كاملة ، وضمّ إلى
الدولة الفارسيّة كلّ البلاد التي كانت من قبل تحت سلطة آشور وبابل وليديا وآسيا
الصغرى ، حتى أصبحت تلك الإمبراطوريّة أوسع المنظّمات السياسيّة في العالم القديم
ومن أحسنها حكما في جميع عصور التاريخ.
ويبدو ـ على ما
نستطيع أن نتصوّره فيما يحيط به من سدم الأساطير ـ أنّه (كورش) كان أحبّ الفاتحين
إلى النفوس ، وأنّه أقام دولته على قواعد من النبل وكريم السجايا ، وأنّ أعداءه
كانوا يعرفون عنه لين الجانب فلم يحاربوه بتلك القوّة المستيئسة التي يحارب بها
الرجال حين لا يجدون بدّا من أن يقتلوا أو يقتلوا ...
... وكانت اولى
القواعد السياسيّة التي تقوم عليها دولته : أن يترك للشعوب المختلفة ـ التي تتألّف
دولته منها ـ حرّيّة العبادة والعقيدة الدينيّة ، لأنّه كان عليما كلّ العلم
بالمبدإ الأوّل الذي يبني عليه حكم الشعوب ، وهو : أنّ الدين أقوى من الدولة ، ومن
أجل ذلك لا نراه ينهب المدن أو يخرّب المعابد ، بل نراه يبدي كثيرا من الإكبار
والمجاملة لآلهة الشعوب المغلوبة ، ويسهم بما له في المحافظة على أضرحتها ...
ويزيدك نباهة
بشأن هذا الرجل العظيم ، تلك وثائقه بشأن حقوق الامم :
وثيقة إعلان حقوق الامم
التي أصدرها
كورش الأكبر مؤسّس الإمبراطوريّة الفارسيّة منذ سنة ٢٥٠٠ أي قبل الميلاد ب ٥٠٠ عام
وإليك نصّ المنشور الذي أصدره كورش إثر فتح بابل سنة ٥٣٩ ق. م. وقد نقش على
اسطوانة من الطين المطبوخ (الفخار) وجدت سنة ١٦٧٩ م في منطقة «اور» في ما بين النهرين
من سهل العراق. وقد كتبت باللغة البابليّة. والاسطوانة محفوظة في المتحف البريطاني
بلندن :
__________________
أنا كورش
«أنا كورش ملك
العالم ، الملك الكبير ، الملك المقتدر ، ملك بابل وسومر وأكد ، ملك الجوانب
الأربعة للعالم ، ابن قمبيز (كمبوجيه) الملك الكبير ، ملك أنشان (أنزان خوزستان :
عيلام) حفيد ملك أنشان الكبير ، من أعقاب «چيش پيش» الملك الكبير ، ملك أنشان ،
دوحة السلطنة الأبديّة ، موئل عناية «بعل ونبو» وموضع رعايتهما. دخلت «تين تير ـ بابل» بلا حرب ولا
مقاومة ، فاستبشر الناس بي ، وارتقيت على أريكة البلاد بسلام ، إذ ربط «مردوك»
الإله الكبير قلوب الناس بي ، حيث احترمت جانبه طيلة حياتي ... دخل
جيشي العظيم بابل بكلّ سهولة ، ولم أسمح لأيّ شخص أن يثير الخوف والرعب في أرض «سومر
وأكد». وتأمّلت الأوضاع وآلمتني مشاهد وهنها في بابل ، فبذلت جهدي في إحياء
المعابد والهياكل وإصلاح عمارتها ، كما سعيت في الترفيه على أهل بابل ورفع شقاء
العيش عنهم ، فأصبحوا في ظلّي مرفّهين ومتحرّرين من نير الذلّ الذي كان وضعه عليهم
سلاطينهم من قبل (يقصد : نبوكدنصّر وأحفاده). فعمرت البلاد وأصلحت شئون العباد ،
ومن ثمّ ابتهج «مردوك» كبير آلهة بابل بأعمالي وقد أثنيت عليه بكلّ سرور ، فغمرني
بعنايته الشاملة ... أنا كورش الذي أثنيت عليه وكذا ابني قمبيز وكلّ أفراد عسكري ،
فشملنا جميعا ببركاته. فملوك العالم ، المتّكئون على أرائكهم في القصور ، كلّهم من
البحر الأعلى حتى البحر الأسفل ، وملوك المغرب الذين يعيشون في الخيام ، قدّموا لي
الخراج والهدايا الكثيرة ولمسوا قدميّ وقبّلوهما بكلّ خضوع ...
وجمعت شمل
الناس وأحييت بلادهم وشيّدت معابدهم على ما راموا ، وأرجعت إليها كلّ ما نهب منها
من مجوهرات وصور آلهة وأموال ، والتي كان «نبونيد» (آخر ملوك بابل ، حفيد
نبوكدنصّر) قد استلبها ونهبها ،
__________________
فأعدتها في أماكنها الآمنة بكلّ صفاء وخلوص ، وبذلك كنت قد أرضيت خاطر
الإله الكبير «مردوك» والذي كان قد غضب من أعمال الجبابرة من قبل ، وأرجو أن تبتهل
الآلهة التي أرجعتها إلى أماكنها ، إلى الله وملائكته (بعل ونبو) كلّ صباح ، ليدوم
عمري في عافية. وليقولوا : إنّ كورش وولده قمبيز يكرمان من شأن الإله في إكبار
وإعظام ...»
وثيقة إعلام تحرير اليهود
التي أصدرها
كورش بشأن بناء القدس الشريف وإعادة مجده وتحرير بني إسرائيل من الأسر البابلي
وتزويدهم بالعدّة والمال. والوثيقة مسجّلة في سفر عزرا ، الذي تزعّم اليهود في
عودتهم إلى اورشليم وإحياء ما درس من آثار الديانة اليهوديّة وصحائفها وكتبها ...
جاء فيه :
«نبّه الربّ
روح كورش ملك فارس ، فأطلق نداء في كلّ أرجاء مملكته الواسعة وكتب دستوره العامّ
إلى كافّة الشعوب التي تحت حكمه. وهذا هو نصّ المنشور :
«أنا كورش ملك
فارس ، أرفع ندائي بأنّ الربّ إله السماء ، هو الذي منحني السلطة على جميع ممالك
الأرض ، وأمرني أن اعيد بناء بيته في اورشليم التي في يهوذا. وعليه فأوجّه ندائي
إلى جميع شعوب اليهود الذين يعيشون في ظلّ حكومتي ، من كان منهم يريد الهجرة إلى
اورشليم ـ موطنه الأصل ـ ويعمر بيت الإله إله إسرائيل ، فالله معه وتحت رعايته ،
وعلى اولئك الذين يجاورون أبناء اليهود في أيّ البلاد ، عليهم أن يساعدوا هؤلاء
بالزاد والمال وحمولة الركوب ، وهدايا يقدّمونها إلى بيت الربّ في اورشليم.
__________________
ويقول الاستاذ
أبو الكلام آزاد : إنّ أهمّ شيء في وصف ذي القرنين ـ حسبما جاء في القرآن الكريم ـ
هو : خلوص نيّته وطهارة إيمانه بالله ، وتمجيده لساحة قدسه تعالى ، وعقيدته
بالحياة الاخرى ... فهل هذه الصفات تتصادق مع سمات كورش؟
ولعلّ القرائن
والشواهد الراهنة في حياة كورش ، تؤيّد جانب الإثبات ، وأنّ سماته نفس السمات
والصفات المذكورة في وصف ذي القرنين ...
واولى هذه
الشواهد ، هي عقيدة اليهود بشأنه ، حتى جعلوه المنجي المنتظر من قبل الله ، ورفعوه
إلى منزلة المسيح ، أي الصفوة من أوليائه المخلصين.
ولا شكّ أنّ
اليهود يصعب عليهم الإيمان برجل هو خارج مذهبهم في الإيمان بالله تعالى فضلا عن
عابد وثن أو ساجد نار ...
وأيضا فمن
المقطوع به أنّ كورش كان على دين «زردشت» وهو دين التوحيد والعقيدة بوحي السماء
ويوم الجزاء والدعوة إلى الطهارة والقداسة في الحياة .. وكان لا بدّ أنّ كورش كان
يستقي في أخلاقه الكريمة من هذا المعين الصافي والضافي بمكارم الأخلاق ، والتي
منها الدعوة إلى رءوس الأخلاق الثلاثة :
١ ـ «هو مت (پندار
نيك)» : صدق النيّة.
٢ ـ «هوخت (گفتار
نيك)» : صدق القول.
٣ ـ «هو ورشت (كردار
نيك)» : صدق العمل.
هذا هو أساس
تعاليم زردشت الدينيّة ، ومن مثل هذه الأخلاق يمكن أن يتكوّن مزاج كورش الملكي الفخيم!
قال : فإن كان
ذو القرنين يدين بدين «مزديسنا» أي بالدين الزردشتي ، ويثبت له القرآن الإيمان
بالله واليوم الآخر ، ليس هذا فحسب ، بل يجعله من الملهمين من عند الله ، أفلا
يلزم من هذا أنّ دين زردشت كان دينا صحيحا إلهيّا؟ أجل ، يلزم هذا ، وليس هنالك ما
يحملنا على رفض هذا اللزوم ، لأنّه قد ثبت الآن نهائيّا أنّ دين زردشت كان دين
التوحيد والأخلاق الفاضلة ، وأنّ عبادة النار والعقيدة الثنويّة ليستا منه ، بل من بقايا مجوسيّة «مادا» التي اختلطت بالزردشتيّة في العصور التالية.
ثمّ يأخذ
مولانا أبو الكلام آزاد في الكلام عن ديانة زردشت وأنّها كانت دين توحيد خالص
وكانت دعوتها قائمة على أساس فضيلة الأخلاق والإيمان بيوم الحساب ، وكان ازدهار
هذه الديانة على عهد الهخامنشيين كما يبدو من وثائق نحتها ملوكهم العظام على صخور
الجبال.
تلك وثائق
داريوش ـ الذي تسنّم الحكم بعد كورش بثمان سنوات ـ تتجلّى على صفاح الجبال الشامخة
قبل ألفين وخمسمائة عام ، جاء في إحداها :
«هو الله
العظيم ، «آهورامزدا» ، خالق السماوات والأرض وخالق الإنسان ومنحه لذّات الحياة
، والذي أكرم داريوش بكرامة الملك والسلطنة على مملكة واسعة الأرجاء ، ومنحه برجال
أكفاء وأفراس جياد ...».
وجاء في اخرى :
__________________
«يقول الملك
داريوش : «آهورامزدا» هو الذي منحني بفضله الملك وغمرني بتوفيقه لإشادة مباني
العدل وسيادة الصلح والأمن في كلّ البلاد وفي كلّ أصقاع الأرض ... فيا آهورامزدا!
أعنّي وأهلي وكلّ أهل الأرض الذين جعلتهم تحت سلطاني ، لنكون في حمايتك وحراستك ،
ربّ كما دعوتك فاستجب لي دعائي ...».
وفي ثالثة :
«أيّها الإنسان
، أقول لك ما أمرني الإله «آهورامزدا» : كن على الصراط المستقيم ولا تحد عنه شيئا
، ولا تظنّ بأحد ظنّ سوء ، ومن الأجرام والآثام فاحترز وكن على حذر ...».
يقول الاستاذ
آزاد : ولا تنس أنّ داريوش هو من بني أعمام كورش ، وتسنّم الحكم بعده بثماني سنوات
، ومن ثمّ فما يقوله داريوش ، هو في الحقيقة لسان حال سلفه كورش ، وكلّ ما ذكره
داريوش وتضرّع إلى الله مبتهلا : أنّ توفيقاته على القيام بمهامّ الامور إنّما هي
بفضله ورحمته تعالى ... أفهل لا يكون ذلك متصادقا مع ما ذكره القرآن الكريم عن
لسان ذي القرنين : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ
رَبِّي)!.
وقد مرّ عليك
منشور كورش بشأن الأسرى اليهود وإعادة بناء الهيكل في اورشليم : «هكذا قال كورش
ملك فارس : جميع ممالك الأرض دفعها لي الربّ إله السماء ، وهو أوصاني أن أبني له
بيتا في اورشليم التي في يهوذا ...».
هنا ملحوظة؟
إنّ كارثة الإسكندر
المقدوني الفضيعة ، والتي اصيبت بها إمبراطوريّة فارس ذاك العهد ، هي بعينها
ككارثة بخت نصّر الفجيعة ، والتي اصيب بها القدس وجامعة اليهود في حينها ... فقد
أبادت وكسحت كلّ معالم الحضارة في المنطقة ، ومزّقتها شرّ ممزّق ، فلم تبق
__________________
لها أثرا يذكر ، ليس في المدنيّة فحسب بل وحتى وثائق الديانة السائدة هناك
ذهبت أدراج الرّياح.
يقول الاستاذ
آزاد : في الحقيقة يجب أن لا ننسى الغزو الإسكندري ، لم يكن ليبيد دولة الفرس
وحدها ، بل وشمل المقدّسات الدينيّة فمزّقها ... وفي رواية قديمة جاء : أنّ كتاب
زردشت كان يحوي على اثني عشر ألف ورقة مكتوبا عليها بالذهب. وهذا وإن كان مبالغا فيه ، غير أنّ هذا الكتاب بجملته
قد احترق حين هجم الإسكندر في ضمن سائر الكتب والصحائف ... على غرار ما اصيبت
التوراة بحملة بخت نصّر!
ومن ثمّ عاملهم
نبيّ الإسلام صلىاللهعليهوآله معاملة أهل الكتاب ، وقال : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب».
وعن الإمام
أمير المؤمنين عليهالسلام : «إنّي أعلم ما عليه المجوس ، عندهم شريعة يعملون بها
، وكتاب يؤمنون به. فعاملوهم معاملة أهل الكتاب ...».
* * *
بقي هنا سؤال :
كيف يثني رجل التوحيد على آلهة عبّاد الوثن ـ كما عرفت في منشور بابل ـ لو كان
كورش ذلك العبد الصالح (ذا القرنين) الذي يصفه القرآن؟!
لكن يجب أن لا
ننسى أنّ رجال الحكمة يرون الإنسان ـ على مختلف شعوبه ـ إنّما يرنو بفطرته
الذاتيّة إلى خالقه المتعالي ، هادفا ذلك الجمال الأوفى ، حتى ولو اختلفت التعابير
وتنوّعت الأساليب :
عباراتنا
شتّى وحسنك واحد
|
|
فكلّ إلى ذاك
الجمال يشير
|
وحتّى الوثني
إنّما يهدف الزلفى إلى الله تعالى ، وقد جعل الوثن رمزا يهديه إلى ذلك
__________________
المقصد الأعلى والمطلوب الأوفى ، قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)!
ومن ثمّ نرى
كورش عند ما يتكلّم مع بني جلدته وفي أوساط توحيدية خالصة ، يذكر الإله تعالى
ويصفه باسمى تمجيد : «آهورامزدا» يعني الخالق الحكيم ، ربّ العالمين ، ربّ
السماوات والأرض ومدبّرهما.
وهو عند ما
يعلن بمشروعه الفخيم بشأن إطلاق سراح بني إسرائيل والتعبئة لإعادة بناء القدس
الشريف وإحياء معالم دين اليهود المتمزّق ، نراه يعبّر عنه سبحانه ب «يهوه» على
حدّ تعبير اليهود أنفسهم ، يريدون ذاته المقدّسة ، خالق السماوات والأرض ومدبّرهما.
وهو كذلك عند
ما يصف الإله المتعالي بلسان البابليين ، لكنّه يصفه وصفا لا ينطبق إلّا على الله
سبحانه ، وإن كان التعبير منساقا حسب مصطلح المنطقة. فهو يعبّر ب «مردوك» ـ وفق
تعبير أهل بابل ـ ولكن يصفه بعظمة ربّ الأرباب وإله العالمين. وهكذا عبّر عنه ب «بعل»
بمعنى الربّ الأعلى والسيّد المالك إله السماوات.
وقد كان
البابليّون يرون من «مردوك» ممثّل الإله ربّ العالمين.
هذا ، مضافا
إلى ما يراه المؤرّخون من أنّ هذا المنشور الملكي كان قد نظّم بمعونة كبار الكهنة
وعلى وفق آداب ومراسيمهم الدينيّة ، والذي جاء تعقيبا على منشور سابق كتبه الكهنة
أنفسهم ترحيبا بجانب الملك الفاتح النبيل.
فلا غرو أن نجد
فيه تعابير تتّفق مع رسوم البابليين محضا ... أمّا المعنى والمحتوى فمحتمل التأويل.
* * *
والسؤال الأخير
: حتى ولو كانت الشواهد وفيرة على أنّ كورش هو ذو القرنين
__________________
المذكور في القرآن ، وأنّه هو الذي بنى السدّ الحديدي العظيم ... فمثل هذا
المشروع الجلل ، والذي كان ـ على الفرض ـ من أكبر مفاخر الاسرة الهخامنشيّة ولا
سيما كورش رأس السلسلة ... فلما لم يذكره المؤرّخون ، ولم يلهج به أبناء الفرس
المتعصّبين على مفاخرهم في التاريخ ، وهلّا ذكره كورش في مفاخره ضمن سائر مفاخره
والذي هو أعظمها وأجلّها ... ولم لم يعرفه العرب عنه ذلك وكانوا مولعين بذكر تاريخ
الفرس وبطولاتهم ، ولا ننسى أنّ قصص الفرس كانت منتشرة بين العرب ، وكان لهم أنصار
بينهم ، وقد تأثّروا بأدبهم ورواياتهم وقصصهم الشعبيّة ...؟!
والإجابة على
ذلك واضحة لمن سبر تاريخ ذلك العهد وما اعتورته من خطوب وأحداث كادت تكسح بكلّ
آثاره وتذروها ذرو الريح العقيم. إنّ ما حدث بعد عهد الهخامنشيين من هجمات الإسكندر
المقدوني العمياء ، لم يدع شيئا من معالم الحضارة قبلها إلّا طمسته وعملت في
إمحائها عن صفحة الوجود ، عملا مستمرّا طول أحقاب ، بحيث أنست كلّ معالم التاريخ
وآثار المدنيّة العظيمة والتي شيّدتها الحكماء والنبلاء من ذي قبل.
وفي العهد
الساساني قامت حركة لإحياء التراث القديم ، ولكن من غير جدوى وبعد عهد طويل. وإنّما
هي مقتطفات من أفواه الرجال وفيها الكثير من التحريف والتحوير ، فهي بأن تكون صورة
ممسوخة ، أشبه منها أن تكون حقائق ناصعة.
تلك كانت مغبّة
أجرام قام بها الإسكندر وأخلافه (السلوكيّون) حوالي قرن ، ومن بعدهم (الأشكانيّون)
طيلة خمسة قرون ، حتى جاء دور الساسانيين ليقوموا بإحياء التراث القديم من جديد.
الأمر الذي جعل
صفحة التاريخ خلوا من ذكر تلكم الآثار الجليلة والتي كان من حقّها الخلود مع الأبد.
وحتى أنّ أبناء
الفرس لم يكد يعرف منهم شيئا من جلائل آثار كورش وأعقابه ،
__________________
فضلا عن غيرهم من عرب الجزيرة.
وأمّا أنّ كورش
نفسه ، لم لم يذكر ضمن مفاخره بناء ذلك السدّ العظيم ، فالأمر أيضا واضح ، بعد أن
علمنا أنّ بناء السّدّ كان من اخريات أعماله الضخمة ، والذي كان حتفه فيه ولم
يمهله الأجل لتسجيله ، كما سجّل غيره من أعمال ...
والعمدة في
التدليل على عمليّة السدّ على يد كورش ، ما ذكره الاستاذ خضر بهذا الشأن ، قال :
«وقد رأينا
خلال السرد التاريخي أنّ القبائل المغوليّة كانت لا تتكاسل عن الانقضاض على مناطق
آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد. وكلّ صفحات التاريخ تذكر لنا أن
ثمّة توقّف مفاجئ حدث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المتوحّشة. وتشير
أصابع الدقّة التاريخيّة نحو الحقبة التي ظهر فيها كورش الأخميني أو الهخامنشي. ...
هذا بعد أن لم
نعرف في التاريخ القديم ما يصلح تفسيرا تطبيقيّا للآية سوى ما عرفناه بشأن كورش
العظيم ، فلعلّه هو ذو القرنين الذي جاء ذكره في القرآن ـ حيث الأكثر انطباقا عليه
ـ والله العالم بحقيقة الحال.
سدّ مأرب العظيم!
وحيث جرى
الحديث عن سدّ ذي القرنين ، كان المناسب التحدّث عن سدّ مأرب وقد اشتبه الأمر على
بعضهم فحسبه هو المنسوب إلى ذي القرنين.
قال الحموي :
هو بين ثلاثة جبال يصبّ ماء السيل إلى موضع واحد ، وليس لذلك الماء مخرج إلّا من
جهة واحدة ، فكان الأوائل قد سدّوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص (الصاروج)
فيجتمع فيه ماء عيون هناك ، مع ما يفيض من مياه السيول ، فيصير خلف السّدّ كالبحر
، فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا من ذلك السّدّ بقدر حاجتهم
__________________
بأبواب محكمة وحركات مهندسة ، فيسقون حسب حاجتهم ثمّ يسدّونه إذا أرادوا
...
وذكر البيروني (٣٦٢
ـ ٤٤٠) ـ في الآثار الباقية ـ : أنّه قيل : هو شمر يرعش الحميري (وسمّي بذلك
لذؤابتين كانتا تنوسان على عاتقيه ، وقد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وجاب شمالها
وجنوبها ودوّخ البلاد وأخضع العباد. وبه يفتخر أحد مقاول اليمن وهو أبو كرب أسعد
بن عمرو الحميري في شعره الذي يقول فيه :
قد كان ذو
القرنين قبلي مسلما
|
|
ملكا علا في
الأرض غير معبّد
|
بلغ المشارق
والمغارب يبتغي
|
|
أسباب ملك من
كريم سيّد
|
فرأى مغيب
الشمس وقت غروبها
|
|
في عين ذي
حماء وثأط حرمد
|
من قبله
بلقيس كانت عمّتي
|
|
حتى تقضّى
ملكها بالهدهد
|
ورجّح البيروني
هذا القول ورآه أقرب الأقاويل ، فإنّ الأذواء كانوا من اليمن ، كذي المنار وذي
الأذعار وذي الشناتر وذي نواس وذي جدن وذي يزن ، وأخباره مع هذا تشبه ما حكي عنه
في القرآن ...
وشمر يرعش هذا
هو أوّل ملوك حمير من الطبقة الثانية ، كانت مدّة ملكه (٢٧٥ ـ ٣٠٠ م).
وأسعد أبو كرب
هو سابع ملوكهم من نفس الطبقة (٣٨٥ ـ ٤٢٠ م).
ولعلّ الأمر
اشتبه على البيروني ، إذ الذي يفتخر به أسعد أبو كرب ، هو ثاني ملوك حمير من هذه
الطبقة ، واسمه «الصعب» الملقّب بذي القرنين عندهم وقد ملك سبأ وريدان وحضرموت (٣٠٠
ـ ٣٢٠ م). وبه افتخرت العرب الأوائل في أشعارها وخطبها ، منها خطبة قسّ بن ساعدة
الأيادي المعروفة :
__________________
«يا معشر أياد!
أين الصعب ذو القرنين ، ملك الخافقين ، وأذلّ الثّقلين ، وعمّر ألفين ، ثمّ كان
ذلك كلحظة عين ...».
وأنشد ابن هشام
للأعشى :
والصعب ذو
القرنين أصبح ثاويا
|
|
بالحنو في
جدث أميم مقيم
|
قوله بالحنو ،
يريد : حنو قراقر ، الذي مات فيه ذو القرنين بالعراق.
وسننبّه : أنّ
تلك الأبيات وهذه الخطبة من مختلقات الأواخر ، وليس عليها صبغة جاهليّة قديمة.
وأغرب منه ما
ذكره المفجّع في أخبار ملوك اليمن. قال : لمّا مات «ياسر ينعم» (٢٥٠ ـ ٢٧٥ م) آخر
ملوك حمير من الطبقة الاولى ، قام من بعده «شمر يرعش» (٢٧٥ ـ ٣٠٠ م) ـ أوّل ملوكهم
من الطبقة الثانية ـ فجمع جنوده وسار في (٠٠٠ / ٥٠٠) خمسمائة ألف رجل حتى ورد
العراق ، فأعطاه «يشتاسف» (عامل ملوك الفرس على العراق) الطاعة ... فسار لا يصدّه
شيء نحو بلاد الصّين ، فلمّا صار بالصغد تحصّن أهلها بمدينة «سمرقند» فاستنزلهم من
غير أمان وقتل منهم مقتلة عظيمة وأمر بالمدينة فهدمت ، فسمّيت : شمركند ، فعرّبتها
العرب «سمرقند». ولكنّه مات هو وجنوده في طريقهم إلى الصّين ...
فبقيت سمرقند
خرابا إلى أن ملك «تبّع الأقرن» (ثالث ملوك حمير بعد شمر يرعش ـ على رواية حمزة
الأصفهاني) فتجهّز نحو الصّين ، فورد العراق ، فأعطاه «بهمن بن اسفنديار» الطاعة. حتى
وصل إلى سمرقند فوجدها خرابا فأمر بعمارتها ، وسار حتى أتى بلادا واسعة فبنى «التبّت»
، ثمّ قصد الصين فقتل وسبى وأحرق ، وعاد إلى اليمن مظفّرا ... وعن الأصمعي : على
باب سمرقند نقوش وكتابات بالحميرية تعيّن أبعاد البلاد عنها ...
__________________
وهكذا ذكر ابن
خلدون : أنّ شمر يرعش (٢٧٥ ـ ٣٠٠ م) ـ سمّي بذلك لارتعاش كان به ـ ويقال إنّه وطئ
أرض العراق وفارس وخراسان وافتتح مدائنها وخرّب مدينة الصغد وراء جيحون ، فقالت العجم «شمركند» أي شمر خرّب ، وبنى
مدينة هناك باسمه وعرّبته العرب فصار «سمرقند». ويقال : إنّه الذي قاتل «قباذ» ملك فارس وأسره! وأنّه الذي حيّر «الحيرة» وكان ملكه (١٦٠) سنة وذكر بعض الأخباريّين أنّه ملك
بلاد الروم! وأنّه استعمل عليهم «ماهان قيصر». ذكر ذلك ولم يعلّق شيئا ...!
لكنّه في
المقدّمة يأتي عليها ويذروها ذروا ، ويجعلها أوهاما خرافيّة هي أشبه بقصص شعبية
أساطيريّة ، يقول : ومن الأخبار الواهية ما ينقلونه عن التبابعة ملوك اليمن وجزيرة
العرب ، أنّهم كانوا يغزون من قراهم بجيوش حافلة إلى أقاصي البلاد ويدوّخون
المعمورة كلّها بحملات متتالية ، وأنّ ذا الإذعار من ملوكهم غزا المغرب ودوّخه ،
وكذلك ياسر ابنه بلغ وادي الرمل في بلاد المغرب ، وأنّ تبّع الآخر وهو أسعد أبو
كرب ، ملك الموصل وآذربيجان ولقى الترك فهزمهم وأثخن ثمّ غزاهم ثانية وثالثة ،
وأغزى بعد ذلك ثلاثة من بنيه : بلاد فارس ، وإلى بلاد الصغد من بلاد امم الترك
وراء النهر ، وإلى بلاد الروم. فملك الأوّل البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى
الصين فوجد أخاه الثاني قد سبقه إليها ، فأثخنها في بلاد الصين ورجعا جميعا
بالغنائم ، وتركوا ببلاد الصين قبائل من حمير ، فهم
__________________
بها إلى هذا العهد. وبلغ الثالث إلى قسطنطينيّة فدرسها (هدمها ومحى أثرها
نهائيّا) ودوّخ بلاد الرّوم ورجع ...
قال : وهذه
الأخبار كلّها بعيدة عن الصحّة ، عريقة في الوهم والغلط ، وأشبه بأحاديث القصص
الموضوعة ... ثمّ أخذ في التدليل على بطلانها بأساليب النقد النزيه ... وهكذا يقول الدكتور السيد سالم ـ في حديثه عن تاريخ
جاهليّة العرب ـ : «لا شكّ أنّ ما رواه العرب عن فتوحاته لا يعدو قصصا خرافيّة. والثابت
أنّه (تبّع الأكبر ـ شمر يرعش) انتصر على مناطق من بلاد العرب الجنوبيّة وأنّه
تغلّب على قبائل تهامة التي كانت تسكن على ساحل البحر الأحمر ...».
وهكذا يستبعد
الدكتور «هبو» تلك الأخبار عن ملوك التبابعة ، يقول : «فعصر التبابعة عند العرب من
أزهى العصور وأكثرها إثارة لخيالهم الخصب ، إذ يرون القصص الخياليّة والأساطير عن
قوّتهم وعظمتهم ، فينسبون إليهم غزو إفريقيا والهند والصين وإخضاع فارس وبلاد ما
وراء النهر ومصر والمغرب ... ممّا دعا ابن خلدون إلى وصف هذه الروايات بالوهم
والغلط ...».
* * *
تلك أساطير
بائدة أو شئت فقل قصص شعبيّة حاكتها أوهام خيال هي أشبه بطيف أحلام.
إنّ سبأ كانت
في أوّل أمرها إمارة أو مشيخة صغيرة تحكم ناحية صغيرة من اليمن ، ثمّ أخذت تتّسع
حتى شملت اليمن كلّه وحضرموت وتهامة. هذا فحسب ولم تتعدّ حدود اليمن في يوم من
الأيّام.
كانت عاصمة سبأ
مدينة مأرب حتى نهاية القرن الثالث للميلاد ، ثمّ حلّت محلّها
__________________
مدينة ظفار. ولذلك أسباب سياسيّة واقتصاديّة ذكرها المؤرّخون.
يقول جرجي
زيدان : أخبار اليمن ـ على ما ترويه العرب ـ أكثرها مبالغ فيها ، وبعضها أقرب إلى
الخرافات منه إلى الحقائق ... كغزو شمر يرعش المشرق فدوّخ خراسان وهدم مدينة
الصّغد وبنى سمرقند ... وأنّ أسعد أبو كرب غزا الصين والترك ، وغير ذلك ممّا يخالف
العقل فضلا عن نصوص التاريخ العامّة ...
وقد نبّهنا أنّ
الأبيات المنسوبة إلى تبّع أو أسعد أبي كرب ، تبدو مختلقة وأنّها من صنع بعض أبناء
اليمن بعد ظهور الإسلام ، إذ ملامح الاقتباس من القرآن عليها لائحة. والمنسوب إلى
قسّ بن ساعدة ، خرافة مفتعلة لا يعتريها شكّ!
من الذي بنى سدّ مأرب؟
أمّا ومن الذي
بنى سدّ مأرب ، الذي حطّمه سيل العرم ، على ما جاء ذكره في القرآن الكريم؟
مأرب ، وتسمّى
أيضا «سبأ» هي أشهر مدن اليمن القديمة ، ويلوح أنّ لفظها آرامي الأصل ، مركّب من «ماء»
و «رأب» أي الماء الكثير أو السيل الكبير. ويؤخذ ممّا عثر عليه من أنقاضها أنّها
كانت مستديرة الشكل ، قطرها نحو كيلومتر ، يحدق بها سور منيع له بابان ، أحدهما
شرقيّ والآخر غربيّ. وبجانب الباب الغربيّ ، كتابة تفسيرها : أنّه من بناء يثعمر
بين بن سمهعلي ينوف مكرب سبأ. وفي وسطها آثار هيكل يسمّيه أهل تلك الناحية الآن : هيكل
سليمان.
وكان السيل في
وادي «أذنة» يجري في شرقيّها ، ليسقي ما بين يديها وما حولها ، فتصير كأنّها في
جنان وغياض ، غير ما كان فيها من الأبنية الضخمة من الرخام.
قال الطمحان
يذكر مأرب :
أما ترى
مأربا ما كان أحصنه
|
|
وما حواليه
من سور وبنيان
|
__________________
وقال علقمة يصف
بناياتها :
ومنّا الذي
دانت له الأرض كلّها
|
|
بمأرب يبنى
بالرخام ديارا
|
وبذلك جاء
تصديق قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ...)
(وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا
فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ...).
* * *
أمّا السّدّ ،
فقد كثر في بلاد اليمن بناء الأسداد ، وهي جدران ضخمة كانوا يقيمونها في عرض
الأودية لحجز السيول وخزن المياه ورفعها ، لريّ الأرضين المرتفعة ، كما يفعل اليوم
في بناء الخزّانات. وإنّما عمد السبائيون إلى بناء الأسداد ، لقلّة الأنهار ومجاري
المياه في بلادهم (بل في الجزيرة كلّها) مع رغبتهم في إحياء زراعتها ، فلم يدعوا
واديا يمكن استثمار جانبيه بالماء إلّا حجزوا سيله بسدّ ، فتكاثرت الأسداد بتكاثر
الأودية التي تكثر فيها السيول ، حتى تجاوزت المئات. وقد ذكر الهمداني في «يحصب
العلوّ» من مخاليف اليمن وحده ثمانين سدّا ، وكانوا يسمّون كلّ سدّ باسم خاصّ به.
وإلى ذلك أشار
شاعرهم :
وبالبقعة
الخضراء من أرض يحصب
|
|
ثمانون سدّا
تقذف الماء سائلا
|
وأشهر أسداد
اليمن «العرم» وهو سدّ مأرب الشهير. هو أعظم أسداد بلاد العرب وأشهرها ، وقد كثر
ذكره في أخبار العرب وأشعارهم على سبيل العبرة ، لما أصاب مأرب بانفجاره ، وإليه
أشار القرآن في سورة سبأ :
(فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ
__________________
وَشَيْءٍ
مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ...)
(فَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ).
أمّا موضع هذا
السدّ ، ففي الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هي شعاب من جبل السراة الشهير ،
تمتدّ مئات من الأميال نحو الشرق الشمالي ، وبين هذه الجبال أودية تصبّ في واد
كبير يعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقيّ ، وهو أعظم أودية الشرق ، تمييزا له عن
ميزاب «مور» أعظم أودية الغرب المنشعبة من جبل السراة المذكور.
وشعاب الميزاب
الشرقيّ كثيرة تتّجه في مصابّها ومنحدراتها نحو الشرقيّ الشماليّ ، وأشهر جبالها
ومواضعها في ناحية «رداع العرش» و «ردمان» و «قرن» والجبال المشرفة على «سويق» ،
وفي ناحية «ذمار بلد عنس» جميعا.
فشعاب هذه
المواضع وأوديتها ، إذا أمطرت السماء تجمّعت فيها السيول ، وانحدرت حتى تنتهي
أخيرا إلى وادي «أذنة» وهو يعلو نحو (١١٠٠ متر) عن سطح البحر ، فتسير فيه المياه
نحو الشرق الشمالي ، حتى تنتهي إلى مكان قبل مدينة مأرب بثلاث ساعات ، هو مضيق بين
جبلين ، يقال لكلّ منهما : «بلق» ، يعبّر عن أحدهما بالأيمن وعن الآخر بالأيسر ، والمسافة
بينهما (٦٠٠) ستّمائة خطوة (أو ذراع) ويسمّيها الهمداني : «مأذمي مأرب» يجري السيل
الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرقيّ الشماليّ في واد هو وادي أذنة.
واليمن مثل
سائر بلاد العرب ، ليس فيها أنهر ، وإنّما يستقي أهلها من السيول التي تجتمع من
مياه المطر ، فإذا أمطرت السماء فاضت السيول وزادت مياهها عن حاجة الناس ، فيذهب
معظمها ضياعا في الرمال. فإذا انقضى فصل المطر ظمئ القوم وجفّت أغراسهم ، فكانوا
إمّا في غريق أو حريق ، وقلّما ينتفعون حتى أيّام السيول من استثمار البقاع
المرتفعة (الهضبات) عن منحدرات الجبال. وكان قد يفيض السيل حتى يسطو على
__________________
المدن والقرى ، فينالهم من أذاه أكثر ممّا ينالون من نفعه. فساقتهم الحاجة
إلى استنباط الحيلة في اختزان المياه ورفعه إلى مستوى الهضبات وتوزيعه على قدر
الحاجة. فاختار السبأيّون المضيق بين جبلي «بلق» وبنوا في عرضه سورا عظيما عرف
بسدّ مأرب أو سدّ العرم ، لريّ ما يجاور مدينتهم (مأرب) من السهول والهضبات.
والجبلان المذكوران
، بعد أن يتقاربا عند مضيق بلق ، ينفرجان ويتّسع الوادي بينهما ، وعلى ثلاث ساعات
منهما نحو الشمال الشرقي من مدينة مأرب أو سبأ ، في الجانب الغربي أو الأيسر من
وادي أذنة. فإذا جرى السيل حاذى بابها الشرقي ، وبين المضيق والمدينة متّسع من
الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من سفوح الجبال نحو (٣٠٠) ميل مربّع ، كانت جرداء
قاحلة ، فأصبحت بعد تدبير وإلجام المياه بالسدّ ، غياضا وبساتين على سفحي الجبلين
، وهي المعبّر عنها بالجنّتين بالشمال واليمين أو بالجنّة اليمنى والجنّة اليسرى ،
على ما جاءت الإشارة إليه في القرآن.
والسدّ المشار
إليه عبارة عن حائط ضخم أقاموه في عرض الوادي ، على نحو (١٥٠) ذراعا نحو الشمال
الشرقي من المضيق ، سمّوه «العرم». وهو سدّ أصمّ طوله من الشرق إلى الغرب نحو (٨٠٠)
ذراع ، وعلوه بضعة عشر ذراعا ، وعرضه (١٥٠) ذراعا ، لا يزال ثلثه الغربي أو الأيمن
باقيا إلى اليوم.
ويظهر ممّا
شاهدوه في جزئه الباقي أنّه مبنيّ من التراب والحجارة ينتهي أعلاه بسطحين مائلين
على زاوية منفرجة ، تكسوهما طبقة من الحصى كالرصيف يمنع انجراف التراب عند تدفّق
المياه.
فالعرم يقف في
طريق السيل كالجبل المستعرض ويصدّه عن الجري ، فتجتمع مياهه وترتفع ارتفاعا عاليا
يفي بريّ المرتفعات.
وقد جعلوا طرفي
السدّ عند الجبلين أبنية من حجارة ضخمة متينة ، فيها منافذ ينصرف منها الماء إلى
إحدى الجنّتين اليمنى أو اليسرى.
فأنشئوا عند
قاعدة الجبل الأيمن بناءين بشكل المخروط المقطوع ، علوّ كلّ منهما
بضعة عشر ذراعا ، سمّوهما الصدفين ، إحداهما قائم على الجبل نفسه ، والآخر
إلى يساره ، وبينهما فرجة عرضها خمسة أذرع ، وقاعدة الأيمن منهما تعلو قاعدة
الأيسر بثلاثة أذرع. والأيسر مبنيّ من حجارة منحوتة ، يمتدّ منه نحو الشمال والشرق
جدار طوله ٤٠ ذراعا ينتهي في العرم نفسه ويندغم فيه. وعلوّ الجدار المذكور مثل
علوّ الصدف ومثل علوّ العرم.
وفي جانب كلّ
من الصدفين ، عند وجهيهما المتقابلين ، ميزاب يقابل ميزابا في الصدف الآخر. والميزابان
مدرّجان ، أي في قاع كلّ منهما درجات من حجارة كالسّلّم ، الدرجة فوق الاخرى. ونظرا
لشكل الصدفين المخروطين ، ولما يقتضيه شكل الميزاب السّلمي ، أصبحت المسافة بينهما
عند القاعدة أقصر منها عند القمّة.
ويظهر من وضع
المخروطين أو الصدفين على هذه الصورة ، أنّ أصحاب ذلك السدّ كانوا يستخدمون
المسافة بينهما مصرفا يسيل منه الماء إلى سفح جبل بلق الأيمن فيسقي الجنّة اليمنى.
وأنّهم كانوا يقفلون المصرف بعوارض ضخمة من الخشب أو الحديد ، تنزل في الميزابين
عرضا ، وكلّ عارضة في درجة ، فتكون العارضة السفلى أقصرها جميعا ، فوقها عارضة
أطول منها فأطول إلى العليا وهي أطولها جميعا.
والظاهر أنّ
تلك العوارض كانت مصنوعة على شكل تتراكب فيه أو تتداخل ، حتّى يتألّف منها باب
متين يسدّ المصرف سدّا محكما يمنع الماء مع الانصراف إلّا عند الحاجة.
فإذا بلغ الماء
في علوّه إلى قمّة الصدفين رفعوا العارضة العليا ، فيجري الماء على ذلك العلوّ إلى
سفح الجبل في أقنية معدّة لذلك ، ونقر أو أحواض لخزن الماء أو توزيعه في سفح ذلك
الجبل. فلا يزال الماء ينصرف حتى يهبط سطحه إلى مساواة العارضة الثانية فيقف ،
فمتى أرادوا ريّا آخر نزعوا عارضة اخرى ، وهكذا بالتدريج وعلى قدر الحاجة.
وفي الطرف
الأيسر من العرم ـ وهو الغربي الذي ينتهي بالجنّة اليسرى ـ كالحائط ـ دعوناه السدّ
الأيسر ـ عرضه عند قاعدته (١٥) ذراعا ، وطوله نحو (٢٠٠) ذراع ، وبجانبه من اليمين
مخروطان أو صدفان أيمنان ، أحدهما متّصل بالعرم نفسه والآخر بينه
وبين السدّ الأيسر ، فيتكوّن من ذلك مصرفان ، مثل المصرف الأيمن ، لكلّ
منهما ميزابان مدرّجان متقابلان ، تنزل فيهما العوارض وتنزع حسب الحاجة لصرف الماء
إلى الجنّة اليسرى ، وينتهي العرم من حدّه الغربي بحائط منجليّ الشكل مبنيّ بحجارة
منحوتة صلبة ، لعلّه الذي وصفه الهمداني : العضاد.
فكان السيل إذا
جرى في وادي أذنة حتى تجاوز المضيق بين جبلي بلق ، صدّه العرم عن الجري فيتعالى
ويتحوّل جانب منه نحو اليسار إلى السدّ الأيسر ، فإذا أرادوا ريّ الجنّة اليمنى
رفعوا من العوارض بين الصدفين الأيمنين على قدر الحاجة. وإذا أرادوا ريّ الجنّة
اليسرى صرفوا الماء من المصرفين بنفس الطريقة ، فيجري الماء في أقنية وأحواض في
سفح الجبل الأيسر حتى يأتي مأرب ، لأنّها واقعة إلى اليسار من السدّ.
* * *
وأمّا من هو
الذي بنى السدّ (سدّ مأرب العظيم) ... ومتى؟
فقد عثر
المنقّبون في انقاض سدّ مأرب على نقوش كتابية بالحرف المسند (الخطّ الحميري)
استدلّوا منها على بانيه. أهمّها نقشان ، أحدهما على الصدف الأيمن الملاصق للجنّة
اليمنى ، تفسيره : «أنّ يثعمر بين بن سمه على ينوف مكرب سبأ ، خرق جبل بلق وبنى
مصرف رحب لتسهيل الرّيّ». والآخر على الصدف الآخر ، تفسيره : «أنّ سمه على ينوف
مكرب سبأ اخترق بلق وبنى رحب لتسهيل الرّيّ».
«سمه على» هذا
هو والد «يثعمر» المذكور ، وكلّ منهما بنى صدفا أو حائطا ، وكلاهما من أهل القرن
الثامن قبل الميلاد ... فهما مؤسّساه ، ولم يتمكّنا من إتمامه ، فأتمّه خلفاؤهما ،
وبنى كلّ منهم جزءا ونقش اسمه عليه. فعلى المخروط أو الصدف في اليسار نقش قرءوا
منه : «كرب إيل بين بن يثعمر مكرب سبأ بنى ...» ، وعلى جزء آخر من السدّ اسم «ذمر
على ذرح ملك سبأ» ، وفي محلّ آخر اسم «يدع إيل وتار» ، وعلى السدّ الأيسر مما يلي
الجنّة اليسرى عدّة نقوش بمثل هذا المعنى ... ممّا يدلّ على أنّ هذا السدّ لم
يستأثر
ببنائه ملك واحد. تلك هي العادة في تشييد الأبنية الكبيرة في كلّ زمان ...
ويجدر بالذكر
أن نعلم أنّ اسم «شمر يرعش» قد حكّ على صخر عثر عليه في أنقاض مدينة مأرب ، وليس
في انقاض السدّ ، ويرجع تاريخه إلى سنة (٢٧٠) بعد الميلاد.
ومن ثمّ فنوجّه
عتابنا اللّاذع إلى الاستاذ أحمد موسى سالم ، في ذهابه إلى الرأي القائل بأنّ ذا القرنين
ـ المذكور في القرآن والمتّسم ببناء سدّ يأجوج ومأجوج ـ هو الملك الحميري «شمر
يرعش» ... بدافع عصبيّة عنصريّة ... وليحتكر كلّ شخصيّة عظيمة لقوميّته العربيّة
حتى ولو خالف الواقع وعارضه التاريخ.
فقد غضب
الاستاذ (سالم) لأنّهم قالوا بأنّه (ذا القرنين) فارسي أو يوناني أو رومي ، وليس
عربيّا. وأغمض عينه عن كلّ شيء سوى الميل بكونه عربيا من اليمن. إن هذا إلّا تعصّب
مقيت يتنافى وعصرنا الحاضر ، الذي تبدّى فيه كلّ شيء ، ولم يبق جانب إبهام على
قضايا التاريخ القديم. كما كانت قبل اليوم.
كيف يرضى استاذ
يعيش في عصر النور ، أن يجعل نفسه في غطاء التعامي عن كلّ مقوّمات التحقيق المعاصر
، والتي دلّتنا على أنّ بناء السدّ ـ أي سدّ كان : السدّ الحديدي في جبال قوقاز. أو
سور الصين. أو سدّ مأرب ـ الذي يرجع تاريخه إلى قرون قبل الميلاد ...
ليجعله من بناء
ملك عاش بعد الميلاد بقرون ...!
فقد صحّ قولهم
: «حبّ الشيء يعمي ويصمّ» ، والعصمة لله.
__________________
سور الصين الكبير!
نجح «تشن شيه
هوانج» (gnuauHhihCnihC)
سنة ٢٢١ ق. م لأوّل مرّة في التاريخ في جمع شمال الولايات والإمارات الصينيّة ،
وبذلك تجمّعت لديه كلّ أسباب القوّة البشريّة والاقتصاديّة ، فشرع في بناء سور
الصين العظيم ، وخصّص لذلك آلاف المهندسين ومئات الالوف من العمّال لنحت الأحجار ،
واستمرّ البناء حتى تمّ سدّ الحدود الشماليّة بين الصين ومنغوليا ، حيث
كانت تعيش القبائل الهمجيّة الدائمة الإغارة على سهول الصين.
ويمتدّ هذا
السور من مياه البحر الأصفر (جزء من بحر الصين) حتى سلاسل جبال (تاين داغ). وبلغ
طوله (١٥٠٠) ميل ، حوالي (٢٤٠٠ كم) في خطّ ممتدّ من الساحل المواجه لشبه جزيرة «لياوتونج»
حتى «تشيا يوكوان» آخر الحصون في وسط آسيا ، عبر أقاليم «هوبي ، وشانسي ، وشينسي ،
وكانسو». ومساره يتلوّى ويلتفّ تابعا سلاسل الجبال ـ قممها وحوافّها ـ ومنحدرا
خلال الوديان العميقة ، مغطّيا أكثر من (٣٢٠٠ كم) ، ويتراوح ارتفاع السور في الجزء
الشرقي منه بين (٥ أمتار) و (١٠ أمتار) ، وعرضه من (٨ أمتار) عند القاعدة إلى (٥
أمتار) عند القمّة ، حيث يوجد رصيف واسع يسمح بمرور ستّة فرسان جنبا إلى جنب ،
تحميهم متاريس محصّنة. وعند بناء السور كان له (٢٥٠٠٠) برج تبلغ مساحة كلّ منها خمسة أمتار مربّعة ، وارتفاعه (١٣
مترا) ، وتبرز هذه الأبراج قائمة حتى اليوم.
__________________
ويشتمل على عدد
من البوّابات الضخمة في مناطق متباعدة يقوم على حراستها جنود أشدّاء.
أمّا خارج
السور فثمّة العديد من أبراج المراقبة فوق قمم التلال أو على المضايق. وهذه مع
أبراج السور كانت تستخدم للإنذار بالدخان أو الرايات نهارا ، وبالنيران ليلا. وهكذا
يمكن الإبلاغ عن اقتراب الغزاة في الحال ، فترسل التعزيزات لأيّ جزء على الحدود.
التركيب
المعماري للسور : يتكوّن قلب السور من التراب والحجر ، تغطّيه واجهة من الطوب (الآجرّ)
، وكلّ ذلك قد اقيم على أساس من الحجر.
وفي المواضع
التي تمرّ فوق التلال ، حفر خندقان متوازيان أو نحتا في الصخر ، بينهما (٨ أمتار)
، وقد وضعت في الخنادق كتل ضخمة من الجرانيت ، يصل ارتفاعها إلى عدّة أمتار ، وعلى كلّ من الجانبين
بنيت حوائط من الطوب الأحمر يصل طولها إلى أقلّ من المتر قليلا ، عمودية على واجهة
السور ، وقد ارتبط الطوب مع بعضه ببلاط أبيض (لعلّه الصاروج) بلغ من الصلابة بحيث
لا يمكن لأيّ مسمار أن ينفذ فيه.
وكانت المسافة
بين حائطي الطوب تملأ بالتراب الذي يدكّ جيّدا ، وليفرش بالرصيف من الأحجار ،
ممرّا للجنود الفرسان.
وفي شمال «پكن»
يتبع السور قمم جبال بالغة الانحدار ، والتي لا يمكن حتى للجداء أن تتسلّقها.
وبعيدا في الغرب في «شينسي وكانسو» غالبا ما يتبع السور أسهل الدروب.
وقد بني من
الرواسب الطفليّة أو التربة الصفراء ، تغطّيها طبقة رفيعة من الطوب أو الحجر.
__________________
والسور القائم
اليوم يرجع عهده كلّه تقريبا إلى اسرة «مينج» ، لكنّ الكثير من أساساته يبلغ عمرها
أكثر من ألفي عام. والخطّ الطويل من الطوب الرمادي يعود إلى تاريخ الصين
القديم ، إذ يفصل بين طريقين للحياة ويحول بين الحياة البدوية وبين الفلّاحين
المسالمين.
وبذلك يمثّل
حائطا شاهقا من الحجارة والطوب والطين ، من الشرق (حيث البحر) إلى الغرب (حيث جبال
تاين داغ) ، وبذلك يحكم حصر صحراء «جوبي» تماما في الشمال وعزلها عن سهول الصين
الخصبة الكثيرة الأمطار والأنهار والخيرات والعظيمة التحضّر بشعبها العريق ، من
فجر التاريخ ، منذ (٤٠٠٠) أربعة آلاف سنة!
ولم يقتصر
اهتمام الإمبراطور «تشن شيه هوانج» على حماية بلاده من قبائل المغول الهمج في
صحراء منغوليا (جوبي) وتوفير الأمن للبلاد. بل تعدّاها إلى سنّ قوانين وتشريعات
جديدة لتوحيد نظم الحكم والقضاء على الإقطاع.
وبذلك تبيّن
أنّ هذا السور العظيم ، ليس بذلك السدّ المنيع الذي بناه ذو القرنين ، حسبما جاء
في القرآن. إذ هذا مبنيّ من الحجر والطوب والصاروج ، وذاك مبنيّ من زبر الحديد
المفرغ عليها صهير النحاس.
ويقول «ول
ديورانت» في وصفه عن هذا السور العظيم : «إنّ «شي هونج ـ دي» لمّا بلغ الخامسة
والعشرين بدأ يفتح البلاد ويضمّ الدويلات التي كانت الصين منقسمة إليها من زمن
بعيد ، فاستولى على دولة «هان» في عام (٢٣٠) ق. م ، وعلى «چو» في عام (٢٢٨) وعلى «ويه»
في عام (٢٢٥) ، وعلى «تشو» في عام (٢٢٣) ، وعلى «ين» في عام (٢٢٢). واستولى أخيرا
على دولة «تشي» المهمّة في عام (٢٢١) ، وبهذا خضعت الصين لحكم رجل واحد ، لأوّل
مرّة ، منذ قرون طوال ، أو لعلّ ذلك كان لأوّل مرّة في التاريخ كلّه. ولقّب الفاتح
نفسه باسم «شيء هونج ـ دي» ، ثمّ وجّه همّه إلى وضع دستور ثابت دائم
__________________
لإمبراطوريّته الجديدة.
وكان الرجل
قويّ الشكيمة ، عنيدا لا يحول عن رأيه ، وكان عقد العزم على أن يوحّد بلاده بالدم
والحديد.
ولمّا أن وحّد
بلاد الصين وجلس على عرشها ، كان أوّل عمل قام به أن حمى بلاده من الهمج البرابرة
المجاورين لحدودها الشماليّة ، وذلك بأن أتمّ الأسوار التي كانت مقامة من قبل عند
حدودها ، ووصلها كلّها بعضا ببعض. وقد وجد في أعدائه المقيمين في داخل البلاد
موردا سهلا يستمدّ منه حاجته من العمّال لتشييد هذا البناء العظيم الذي يعدّ رمزا
لمجد الصين ودليلا على عظيم صبرها. وهو أضخم بناء أقامه الإنسان في جميع عصور
التاريخ. ويقول عنه «ولتير» : إنّ أهرام مصر إذا قيست إليه لم تكن إلّا كتلا
حجريّة من عبث الصبيان لا نفع فيها».
إذن فمن غريب
الأمر ما ذهب إليه بعضهم من أنّ هذا السور هو السدّ الذي بناه ذو القرنين!
قال الاستاذ
محمد خير رمضان يوسف : ما كنت أظنّ أنّ الخطأ في التحقيق يصل بالبعض إلى هذا الحدّ
... فقد خلط بين السدّ والسور ، رغم أنّه يعرف الفارق الكبير بينهما ، من حيث
الطول أو الهيئة أو المكان!
فيذكر الاستاذ
الطبّاخ : أنّه لا ينافي أن يكون السدّ (سور الصين) من آثار ذي القرنين ، لأنّ
البنّائين إنّما هم صينيّون ، وهو مقتضى قوله تعالى : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي بقوّة فعلة أو بما أتقوّى به من الآلات ... وهذا لا
ينافي أيضا أن ينسب بناؤه إلى ملك الصين الذي كان في ذلك الزمن ، حيث إنّه كان
بطلب منه وعمل على مرأى منه ، إلّا أنّه لمّا كان ضعيفا لا يتمكّن من عمله بنفسه
ورعيّته ، وكان عدوّه قويّا ليس في الوسع مقاومته وردّ غارته ، استنجد بذي القرنين
، لمّا وصل إليه دفع ذي القرنين من الجنود ما لا قبل لأحد بها ، فاضطرّ المغوليّون
إلى السكوت وعدم الممانعة ، فتمكّن الصينيّون بمعونة ذي القرنين
__________________
من القيام بعمل هذا السدّ الهائل ...
وأغرب منه ما
كتبه الاستاذ محمد جميل بينهم مقالا ـ في مجلّة الإخاء التي كانت تصدر في طهران في
عدد (٣٢) من السنة الثالثة في ١ / ج ٢ / ١٣٨٢ ه ـ تشرين الأوّل سنة ١٩٦٢ م ـ ردّا
على مقال الاستاذ أبو الكلام آزاد ، الذي نشر في نفس المجلّة ـ أوّل آب سنة ١٩٦٢ م
ـ!
قال صاحب
المقال (محمد جميل بينهم) : كنت كتبت مقالا نشرته مجلّة العرفان في أيار سنة ١٩٥٥
م برهنت فيه على أنّ السور الصيني الكبير إنّما هو سدّ يأجوج ومأجوج الذي ورد ذكره
في القرآن الكريم ، وحاك القصّاصون حوله الخرافات والخزعبلات ... ولمّا اتيح لي
الوصول إلى الصين ، وزرت هذا السور ، ازددت وثوقا بما ذهبت إليه في ذلك المقال ،
خصوصا وإنّي رأيت بامّ عيني الصدفين (!) أي رأسي الجبلين المتقابلين الذين ساوى
بينهما ذو القرنين ... ورأيت أيضا زبر الحديد في الأنقاض ، حيث يقوم عمّال الحكومة ـ اليوم ـ بترميم البناء ...؟!
يقول الاستاذ
محمد خير رمضان تعقيبا عليه : وأنا لا أزيد أن أقول : إنّ هذا من أعجب ما قرأت في
مغالطة التحقيق ... فيا لله وللأوهام ...؟!
لمحة عن الإسكندر المقدوني!
ولعلّك تتساءل
: ما هو السبب في شيوع القول بأنّ ذا القرنين المذكور في القرآن ، هو الإسكندر
المقدوني (اليوناني) ، وقد شاع وصف سدّ ذي القرنين بالسدّ الاسكندري؟! قد تكرّرت
آراء من يرى ـ من المفسّرين وبعض أهل التاريخ ـ أنّه الإسكندر في عدّة مراجع :
__________________
وأوّل من
وجدناه ذكر ذلك من أهل التاريخ ، هو أحمد بن داود الدينوري (ت ٢٨٢ ه) في كتابه «الأخبار
الطوال». ذكر فتوحاته في الهند والصين ، وكرّ راجعا إلى بلاد يأجوج ومأجوج ،
وبنائه السدّ ، حيث قصّ الله خبرهم في القرآن.
وبعده العلّامة
المؤرّخ الجغرافي أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت ٣٤٥ ه) في كتابه «التنبيه
والإشراف». قال فيه : وأخبار الإسكندر وسيره ومسيره في مشارق الأرض ومغاربها وما
وطئ من الممالك ولقى من الملوك وبنى المدائن ورأى من العجائب ، وأخبار الردم ...
ومن المفسّرين
الكبار الإمام الفخر الرازي (ت ٦٠٦ ه) في تفسيره الكبير ، استنادا إلى أنّ إنسانا
هذا شأنه ، قد ملك المشرق والمغرب وطاف البلاد ، لا بدّ أن يبقى ذكره خالدا غير
مطموس ولا مغمور ، ولا أحد من ملوك العالم ـ فيما سجّله التاريخ ـ يعرف بهذا الوصف
سوى الإسكندر اليوناني ...
ثمّ يعترض على
هذا الرأي بأنّ الإسكندر هذا كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه ، فتعظيم
الله إيّاه يوجب الحكم بأنّ مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق ... وذلك ممّا لا سبيل إليه
... قال : وهو إشكال قويّ ...
وتبعه على ذلك
المتأثّرون بتفسيره ، منهم : نظام الدين الحسن بن محمد القمي النيسابوري (ت ٧٢٨ ه)
في تفسيره «غرائب القرآن». قال فيه : وأصحّ الأقوال أنّ ذا القرنين هو الإسكندر بن
فيلقوس ـ ولكنّه وصفه بالرومي ، خطأ ـ واستدلّ بما استدلّ به الرازي. وأجاب عن
الإشكال بأن ليس كلّ ما ذهب إليه الفلاسفة باطلا ، فلعلّه أخذ منهم ما صفا ، وترك
ما كدر ...
وعلّامة بغداد
أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي (ت ١٢٧٠ ه) في
__________________
تفسيره «روح المعاني» يسرد الأقوال بشأن شخصية ذي القرنين ، وينتهي أخيرا
بأنّه الإسكندر المقدوني ـ الموصوف تارة باليوناني واخرى بالرومي ـ يقول : وكأنّي
بك بعد الاطّلاع على الأقوال ، وما لها وما عليها ، تختار أنّه إسكندر بن فليقوس
الذي غلب «دارا» ملك فارس وأنّه كان مؤمنا لم يرتكب مكفّرا من عقد أو قول أو فعل
... أمّا تلمذته على أرسطو فلا تمنع من ذلك ، فقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة ،
كما خالف أرسطو استاذه أفلاطون في كثير من المسائل ... هذا وقد ذكر الفيلسوف صدر
الدين الشيرازي أنّ أرسطو كان حكيما عابدا موحّدا قائلا بحدوث العالم ودثوره ...
وسبقهم إلى ذلك أصحاب
التفسير بالمأثور :
جاء في تفسير
مقاتل بن سليمان البلخي (ت ١٥٠) : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ) يعنى : الإسكندر قيصر! ويسمّى الملك القابض على قاف ،
وهو جبل محيط بالعالم. وذو القرنين ، لأنّه أتى قرني الشمس : المشرق والمغرب ...
وفي تفسير أبي
جعفر الطبري (ت ٣١٠) : «كان شابّا من الروم ، فجاء وبنى مدينة الإسكندريّة»!
وفي تفسير
الماوردي أبي الحسن علي بن محمّد البصري (ت ٤٥٠) : «قال معاذ بن جبل : كان روميّا
اسمه الإسكندروس. قال ابن هشام : هو الإسكندر ، وهو الذي بنى الإسكندرية».
وأخرج ابن عبد
الحكم في فتوح مصر عن قتادة : الإسكندر هو ذو القرنين.
وعن وهب بن
منبّه : كان ذو القرنين رجلا من الروم. وكان اسمه الإسكندر. وإنّما سمّي ذا
القرنين ، لأنّ صفحتي رأسه كانتا من نحاس!
وأخرج ابن عبد
الحكم في فتوح مصر عن السدّي والحسن : كان أنف الإسكندر ثلاثة أذرع. وعن عبيد بن
يعلى : كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة!
__________________
وللحافظ
إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت ٧٧٤) هنا محاولة غريبة : عمد إلى الجمع بين الروايات المختلفة بشأن الإسكندر ،
وأنّه شخصان ، هو في أحدهما روميّ ، وفي الآخر يونانيّ مقدونيّ.
أخرج بإسناده
إلى إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة ، قال : إسكندر هو ذو القرنين ، وأبوه
أوّل القياصرة ، وكان من ولد سام بن نوح.
فأمّا ذو
القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس من ذريّة إسحاق. قال : كذا نسبه ابن عساكر في
تاريخه ، المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندريّة ، وكان متأخّرا عن الأوّل
بدهر طويل. كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة. وكان أرسطاطاليس الفيلسوف
وزيره ، وهو الذي قتل دارا وأذلّ ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
قال : وإنّما
نبّهنا عليه لأنّ كثيرا من الناس يعتقد أنّهما واحد ، وأنّ المذكور في القرآن هو
الذي كان أرسطاطاليس وزيره ، فيقع بسبب ذلك في خطاء كبير وفساد عريض طويل كثير!!
فإنّ الأوّل
كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا وكان وزيره الخضر ، وقد كان نبيّا على ما
قرّرناه قبل ... وزاد في التفسير : أنّه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل وأوّل ما
بناه وآمن به وأتبعه.
وأمّا الثاني
فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا ، وقد كان بين زمانيهما أزيد من ألفي سنة ، فأين
هذا من هذا ، لا يستويان ولا يشتبهان إلّا على غبيّ لا يعرف حقائق الامور!!
ولعلّك أيّها
القارئ النبيه ، في غنى عن التدليل على مواضع الضعف من هذه الأوهام والتي هي أشبه
بالخيال من الحقيقة! فإنّ التناقض والتهافت فيما تلوناه عليك باد بعيان من غير
حاجة إلى البيان.
وللدكتور عبد
العليم عبد الرحمن خضر تفصيل وتبيين عن مواضع الإسكندر
__________________
المقدوني ، والتي لا تدع مجالا لاحتمال كونه ذا القرنين المذكور في القرآن
، ولا احتمال أن يكون هناك إسكندران : روميّ ويونانيّ ـ كما حسبه البعض ـ لأنّ
القضية تعود إلى وثائق التاريخ وليس هناك عبث في الكلام ...
ومن المعاصرين
، ذهب الاستاذ محمد جمال الدين القاسمي (ت ١٣٢٢ ه) إلى أنّ ذا القرنين الذي جاء
ذكره في القرآن ، هو الإسكندر الكبير المقدوني.
يقول : اتّفق
المحقّقون على أنّ اسمه (ذا القرنين) الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندريّة
بتسعمائة وأربعة وخمسين سنة (٩٥٤) قبل الهجرة ، وثلاثمائة واثنين وثلاثين (٣٣٢)
سنة قبل ميلاد المسيح عليهالسلام.
وردّ على ابن
القيّم ابن الجوزيّة في زعمه : أنّه سبق هذا الإسكندر بقرون كثيرة ...
قال ابن قيّم ـ
في كتابه «إغاثة اللهفان» في الكلام على الفلاسفة ـ : ومن ملوكهم الإسكندر
المقدونيّ وهو ابن فيلبس ، وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قصّ الله تعالى نبأه في
القرآن ، بل بينهما قرون كثيرة ، وبينهما في الدين أعظم تباين. فذو القرنين ـ في
القرآن ـ كان رجلا صالحا موحّدا لله تعالى ، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عبّاد الأصنام ، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وبنى
السدّ بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأمّا هذا المقدونيّ فكان مشركا يعبد الأصنام
هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستّمائة سنة (!!). والنصارى تؤرّخ له. وكان أرسطاطاليس وزيره وكان مشركا
يعبد الأصنام ...
وهنا يأتي
القاسمي ليردّ عليه قائلا : إنّ المرجع هم أئمّة التاريخ ، وقد أطبقوا على أنّه (أي
ذي القرنين) هو الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندرية. وقد أصبح ذلك من
الأوّليّات عند علماء الجغرافيا.
... وأمّا ما
جاء في وصفه في القرآن ، فلعلّه لخصال حسان لا تمسّ جانب عبادته
__________________
للأوثان ... بل لعلّه من المحتمل أنّه خالف شعبه وتبع استاذه في التوحيد ،
كما قيل.
وهكذا ذكر
الاستاذ محمد فريد وجدي : لا ينافي أن يكون المقصود بذي القرنين هو الإسكندر
المقدوني ، على ما كان فيه من الشذوذ في بعض الامور.
هذا وإنّا
لنستغرب صدور مثل هذا الكلام من مثل القاسمي والوجدي وقد عاشا القرن العشرين ودرسا
أساليب النقد التاريخي الصحيح ، وعرفا من الإسكندر المقدوني ذلك الطاغية الذي عاش
حياته القصيرة في الترف والزهو وقد أبطرته النعمة وأطغته العظمة ، فعلا في الأرض
واستكبر وأفسد فيها وأهلك الحرث والنسل وحاول إبادة الحضارات والثقافات واصول
الديانات وأحرق المكتبات ، وانهمك على اللذّات واللهو العارم ، فأنشأ لنفسه سرايا
على نسق ملوك الشرق المبطرين ، وأحاط نفسه بالندمان وأهل الخلاعة ، وتغلغل في
متاهات الغلوّ ، حتّى ادّعى أنّه هو وحده يرجع إليه الفضل في تلك الفتوحات. ثمّ
تنمّر حتى ادّعى أنّه ابن الإله «جوبة» ودعا إلى عبادته.
تسع آيات إلى فرعون وقومه!
وهناك من أصحاب
الفكر الإسلامي الحديث ـ حسب مصطلحهم ـ من يستنكر على القائل بأنّ تلك الآيات
حوادث واقعة ، ويراها قصصا شعبيّة تسلّمها الخصوم فاستغلّها القرآن جدلا بالتي هي
أحسن!
يقول الاستاذ
خليل عبد الكريم ـ ردّا على الاستاذ محمد أحمد خلف الله ، مذهبه في إضفاء الصفة
التاريخيّة على هذه الأحداث ـ : أمّا الأوعر من ذلك فإنّه (الاستاذ خلف الله)
يعتبر حكاية موسى وفرعون ، وخروج بني إسرائيل من مصر ، وضرب ملأ فرعون بالجراد
والقمّل والضفادع والدّم ، وتحدّي موسى للسحرة ، وانقلاب العصي إلى حيّة أو
__________________
ثعبان أو جانّ ... نقول : إنّه يعتبر كلّ هذه الحكايات تاريخا ، مع أنّه لا
يوجد في العالم بلد حرص على تدوين تاريخه كتابة كمصر ، وليس في التاريخ المصري شيء
من هذا ، ومع ذلك فقد عدّها المؤلّف قصصا تاريخيّا ...
لـمّا أخذت
فرعون العزّة بالإثم وعتى عن أمر الله تعالى وتمادى في تكذيب موسى وهارون ،
واستمرّ في إعنات بني إسرائيل وإيقاع ضروب الإذلال والإهانة بهم ، أمر الله تعالى
موسى أن يعلن فرعون وقومه بوقوع العذاب بهم. فكانوا كلّما وقع بهم عذاب بعد إنباء
موسى إيّاهم به وعدوه بالإيمان تارة وبإرسال بني إسرائيل اخرى إن كشف الله عنهم
العذاب. وكلّما كشف الله عنهم عادوا إلى طغيانهم وغدروا بعهدهم وخاسوا بوعدهم ،
وهكذا إلى أن وقعت الآية الكبرى والبطشة العظمى ، وهي إغراق فرعون في اليمّ ونجاة
بني إسرائيل. والآيات ـ حسبما ذكره المفسرون ـ هي :
١ ـ الجدب «أخذناهم
بالسنين» بأن قلّ عنهم ماء النيل وقصر عن إرواء أراضيهم.
٢ ـ النقص من
الثمرات بسبب ما أتى عليها من الجوائح والعاهات.
٣ ـ الطوفان ،
قيل بطغيان النيل حتى دخل بيوتهم ومساكنهم فخرّبها ، وفاض على مزارعهم فأفسدها في
وقت كان الزرع فيها ناميا.
٤ ـ الجراد ،
بأن هجمتهم جحافل الجراد فأكل الزرع واجتاح الثمار.
٥ ـ القمّل ،
قيل : هو السوس الذي يفسد الحبوب. وقيل : القراد ، دويبة تتعلّق بالبعير ونحوه وهي
كالقمل للإنسان تلسعه وتأخذ راحته. وأبدلتها التوراة بالبعوض ، كما يأتي.
٦ ـ الضفادع ،
كثرت عليهم حتى نغضت عليهم عيشتهم بسقوطها على فرشهم وأوانيهم وطعامهم.
٧ ـ الدم ، قال
زيد بن أسلم : سلّط الله عليهم الرعاف بحيث أزعج عليهم الحياة.
٨ ـ الطمس على
أموالهم ، فتوالت عليهم الخسران في مكاسبهم.
٩ ـ اليد
البيضاء ، إذ كان يضع يده في جيبه ثمّ يخرجها بيضاء من غير سوء.
__________________
والاستاذ عبد
الوهاب النجار ـ بعد أن ذكر كلام المفسّرين ـ رجّح أن تكون الآيات التسع كما يلي :
١ ـ السنون ، ٢
ـ نقص الأموال ، ٣ ـ نقص الأنفس ، ٤ ـ نقص الثمرات ، ٥ ـ الطوفان ، ٦ ـ الجراد ، ٧
ـ القمّل ، ٨ ـ الضفادع ، ٩ ـ الدّم.
* * *
وقد ذكرت
التوراة الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملائه ، وجعلتها اثنتي عشرة آية :
١ ـ انقلاب
العصى حيّة. (الأصحاح ٧ من سفر الخروج عدد ١٢).
٢ ـ انقلاب نهر
النيل دما سبعة أيّام وموت السمك فيه ونتن مائه. (أص ٧ : ١٧ ـ ٢٤)
٣ ـ صعود
الضفادع من النهر إلى أرض مصر ومضايقتها للمصريّين حتى غطّت أرض مصر كلّها. (أص ٨
: ١ ـ ١٠)
٤ ـ كثرة
البعوض بأرض مصر على الناس والبهائم. (أص ٨ : ١٦ ـ ١٩)
٥ ـ كثرة
الذباب في أرض مصر وبيوت المصريّين كثرة فاحشة حتى تنغّصت عيشتهم. (أص ٨ : ٢٠ ـ ٢٤)
٦ ـ تفشّي
الوباء في مواشي المصريّين. (أص ٩ : ١ ـ ٧)
٧ ـ فشوّ
الدماميل في الناس والبهائم. (أص ٩ : ٨ ـ ١٢)
٨ ـ نزول البرد
العظيم فأهلك الحرث والنسل. (أص ٩ : ١٣ ـ ٣٥)
٩ ـ كثرة
الجراد فأفسدت الزرع والثمار. (أص ١٠ : ١ ـ ١٥)
١٠ ـ إظلام
السماء ثلاثة أيّام. (أص ١٠ : ٢١ ـ ٢٣)
١١ ـ موت كلّ
بكر من الناس والبهائم. (أص ١١ : ١ ـ ٩)
١٢ ـ اليد
البيضاء. (أص ٤ : ٦ ـ ٩)
__________________
* * *
رأى فرعون
الآيات ولكنّه تمادى في كفره وأصرّ على عناده ، وعاد في اضطهاد بني إسرائيل ،
معتزّا بما له عليهم من القهر والغلبة والسلطان ، فطبيعيّ أن يضجّ بنو إسرائيل
بالشكوى إلى موسى ممّا حاق بهم من الحيف والجور. فوصّاهم موسى بالصبر والاستعانة بالله
، ووعدهم بالنصر وحسن العاقبة. فلم يكفكف ذلك دموعهم وقالوا له : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا
وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا)! فمنّاهم هلاك عدوّهم وإخراجهم من الضيق إلى السعة وأن
يكونوا خلفاء في الأرض التي وعدوا بها. وأراد فرعون أن يبطش بموسى ، متحدّيا إلهه حتى لا يكون
منه تبديل لدين القوم. ولكنّ موسى عاذ بالله من شرّ هذا المتكبّر العاتي ، فكان
عياذا. فاصيب فرعون وقومه الدمار والهلاك (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ).
انطلق موسى
بقومه من أرض مصر ، ذاهبا إلى أرض فلسطين ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ
أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ
دَرَكاً وَلا تَخْشى).
فهل كان هذا
الانطلاق بناء على أمر صدر له من فرعون ، بعد أن أمضّه الله وقومه بسوء العذاب ،
في الآيات التسع؟
تقول التوراة :
إنّ ذلك كان بناء على سماح فرعون لهم بالانطلاق ، ليخلص من ضروب العذاب التي حاقت
بقومه.
جاء في الاصحاح
١٢ : ٢٩ ـ ٣٣ من سفر الخروج : «فحدث في نصف الليل أنّ الربّ ضرب كلّ بكر في أرض
مصر ... وكان صراخ عظيم. لأنّه لم يكن بيت ليس فيه ميّت ... فدعا فرعون موسى
وهارون وقال : قوموا اخرجوا من بين شعبي ، أنتما وبنو إسرائيل جميعا ، واذهبوا
اعبدوا الربّ كما تكلّمتم. خذوا غنمكم أيضا وبقركم كما
__________________
تكلّمتم واذهبوا ، وباركوني أيضا. وكذلك ألحّ المصريّون على بني إسرائيل
ليخرجوا من أرض مصر ، حيث خوفهم من الفناء ...
لكن فرعون ندم
على سماحه لخروج بني إسرائيل ـ وقد كان هو وقومه يستعبدونهم ـ فعزم على اتّباعهم
ليردّهم عبيدا أذلّاء ... وكان بنو إسرائيل قد بلغوا ساحل البحر الأحمر ـ على خليج
السويس ـ وأطلع عليهم فرعون مع شروق الشمس ، وأيقن بنو إسرائيل بالهلاك وأنّ فرعون
باطش بهم.
فسكّن موسى
روعهم وضرب البحر ، فكان فلقتين وظهرت اليابسة بينهما ، فأمر بني إسرائيل بالعبور
، فعبروا من الشاطئ الغربي إلى الشاطئ الشرقي ...
وأشرف فرعون في
ذلك الحين على الموضع الذي عبر منه بنو إسرائيل ، فرأى طريقا في البحر لا وعورة
فيه ، وبنو إسرائيل بين فرقي الماء لم يمسّهم أذى. فطمع أن يعبر في أثرهم هو
وجنوده ، فاقتحموا الطريق اليابس في البحر خلف بني إسرائيل.
فلمّا جاز بنو
إسرائيل البحر عن آخرهم وكان فرعون وجنوده قد توسّطوه انطبق عليهم البحر فكانوا من
المغرقين ...
لمحة عن حياة بني إسرائيل في مصر
ذكر الاستاذ
أحمد يوسف أحمد ـ في كتابه : فرعون موسى ـ قصّة الولادة والرسالة ـ والخروج ـ :
أنّ يوسف الصديق عليهالسلام قد دخل مصر في عهد الاسرة السادسة عشرة ، في أيّام أحد
ملوكها المدعوّ «أبابي الأوّل». وقد وجدت لوحة أثريّة عبارة عن شاهد مقبرة ذكر
فيها اسم «فوتي فارع» وهو المذكور في التوراة «فوطيفار ـ عزيز مصر». كما استدلّ من
بعض الآثار عن الاسرة السابعة عشرة ، على حدوث جدب في مصر قبل هذه الاسرة ، وهو ما
ذكر في القرآن والتوراة عن سنيّ القحط.
إذن فدخول يوسف
يمكن تحديده قريبا من سنة (١٦٠٠ ق. م) في عهد الملك أبابي المذكور. ويكون دخول بني
إسرائيل بعد ذلك بنحو ما يقرب من (٢٧ عاما) وهي
المدّة التي أقامها يوسف في بيت سيّده ، مضموما إليها المدّة التي قضاها في
السجن. يضمّ إلى ذلك مدّة الرخاء والخصب ، ثمّ بعض مدّة الجدب ، إلى أن قال لإخوته
: (وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).
وإذا اطّلعنا
على حياة ملوك الفراعنة ، فيما بين هذه الاسرة والاسرة التاسعة عشرة ، لم نجد أيضا
ذكرا يثبت أيّ اضطهاد حدث لقوم إسرائيل ، ولا أيّ ذكر لهم أثناء ذلك.
ولكن التوراة
تذكر أنّ فرعون مصر الذي اضطهد بني إسرائيل ، كان يستخدمهم في بناء مدينتين :
رعمسيس وفيثوم. وقد ثبت من الحفائر الأثريّة وجود مدينة باسم «فيثوم» أو «بر ـ توم»
ومعناها : بيت الإله توم. ومدينة اخرى باسم «بر رعمسيس» أي بيت أو قصر رعمسيس.
والاولى اكتشفت
بواسطة العالم الفرنسي «نافيل» سنة (١٨٨٣ م) وموضعها الآن : تلّ المسخوطة ، في
مديريّة الشرقيّة. والثانية اكتشفت بواسطة العالم المصري الاستاذ محمود حمزة في
سنة (١٩٢٨ م) وموضعها بلدة «قنتير» وتسمّى بالمصري القديم : «خنت نفر» أو الوسط
الجميل. وأيضا «بر رعمسيس» هي التي بناها «رعمسيس» الثاني ، لتكون عاصمة لملكه في
مصر في وسط الوجه البحريّ ، ليكون بها قريبا من الحدود المصريّة ، لتساعده على صدّ
الأعداء. كما أنّه أيضا بنى مدينة «فيثوم» ، واتّضح من وجود بعض آثار الجدران في
المدينة أنّها أيضا كانت حصنا مصريّا. وتكون التوراة قد أخطأت في حسبانها مخازن
للغلال.
إذن فرعمسيس
الثاني قد يعتبر الفرعون الذي اضطهد بني إسرائيل ، وولد موسى عليهالسلام في زمنه. ويضاف إلى ذلك عداؤه الشديد للشعوب الآسيويّة
التي ظلّ يحاربها متغيّبا عن مصر زهاء تسع سنوات. وقد يكون كرهه لبني إسرائيل
المقيمين في مصر مترتّبا على خشيته من أن يصبحوا حزبا ممالئا لأعدائه المواطنين
لهم من قبل ، ولا سيّما
__________________
وقد تكاثروا في عددهم وتناسلوا حتى كانت لهم جالية كبيرة تشمل جزءا عظيما
من مديريّة الشرقيّة.
وحيث إنّ الملك
رعمسيس الثاني قد أشرك معه ابنه الملك «منفتاح» في الحكم قبل وفاته ، وكان «منفتاح»
الولد الثالث عشر لرعمسيس ـ وقد بلغ أولاده (١٥٠) ـ وكان (أي منفتاح) مسنّا حين
ولايته للعهد ، فيكون قد عاصر موسى في بيت أبيه ... وبحقّ قال لموسى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً
وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ). ويكون «منفتاح» هو فرعون الخروج ، الذي ارسل إليه موسى
وهارون عليهماالسلام لإخراج بني إسرائيل من مصر ـ وكان موسى حينما بعث إلى
فرعون هذا قد بلغ الثمانين ، وأخوه هارون أكبر منه بثلاث سنين ـ وتكون التوراة على صواب عند ما قالت : وفي هذه الأثناء
كان ملك مصر ـ تقصد الملك رعمسيس ـ قد مات ...
وقد عثر
العلّامة «فلندرس بتري» على حجر من الجرانيت القاتم ، ورقمه في دار الآثار (٥٩٩)
وهو عبارة عن لوحة كبيرة يبلغ ارتفاعها (٣) أمتار و (١٤) سم ، وهو منقوش من
الوجهين ، أحدهما للملك «امنحتب» الثالث من الاسرة (١٨) يذكر فيه كلّ ما عمله
لمعبد «آمون».
أمّا الوجه
الآخر فقد استعمل في شأن الملك «منفتاح» ابن رعمسيس الثاني من الاسرة (١٩). وذكر
فيه عبارات باسلوب شعري يفتخر فيها بانتصاره على اللوبيّين. ويشير إلى سقوط عسقلان
وجيزر ويانوعيم في فلسطين.
وجاء في ضمنها
عبارة تشير إلى بني إسرائيل ، ونصّها الحرفيّ : «لقد سحق بنو إسرائيل ولم يبق لهم
بذر». وهذا أوّل نصّ رسميّ في الآثار ، ذكر فيه بنو إسرائيل.
وقد عثر على
هذا الحجر في كوم الحيتان بطيبة الأقصر.
وهذا الحجر
يبدو منه للمدقّق : أنّ «منفتاح» لم يكتبه في عهده ، وإلّا لكانت لهذه الحوادث
الخطيرة التي يذكرها فيه شأن عظيم كان يجب أن يدوّن في أثر خاصّ ، لا أن
__________________
يستعمل له حجر كان لغيره من قبل.
ويظهر أنّ
الكهنة التابعين لمنفتاح هم الذين استعملوا هذا الحجر ودوّنوا ما به ليشيدوا بذكره
، فيقوموا بذلك بواجب التخليد ، حيث لم يكن منتظرا أن يموت الملك بتلك الصورة
المعجّلة التي مات بها ، وقد أرادوا أن يوهموا الناس أنّ فرعون قد سحق بني إسرائيل
، تمويها وقلبا للحقائق ، حتى يستروا أمام الشعب المصري الذي كان يحترم ديانتهم ،
خذلانهم وخذلان إلههم أمام موسى ، حين كان فرعون يتعقّب بني إسرائيل.
ويكون العثور
على جثّة «منفتاح» ووجودها الآن بالمتحف المصري ، مصداقا لقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ
لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).
وقد وجدت
الجثّة مع غيرها من الجثث في قبر «أمنحتب الثاني» بالأقصر.
وظهر من آثار
قبر «منفتاح» أنّه لم يكن مهيّأ كما يجب لدفن ملك مثله ، لأنّ موته لم يكن منتظرا
، فلم يهيّأ له قبر خاصّ.
* * *
أمّا موضع
العبور فلم يعرف بالضبط ، والتوراة تورد أسماء أمكنة مرّ بها بنو إسرائيل حتى أتوا
إلى مكان العبور. وهذه الأمكنة ليست مسمّياتها معروفة اليوم. والبحّارة في البحر
الأحمر يسمّون مكانا في خليج السويس «بركة فرعون» ويقولون : إنّ العبور كان بها ،
وهي بعيدة عن السويس كثيرا ، تمارّ بها السفن البخاريّة بعد نصف الليل إذا قامت من
السويس في المساء.
قال الاستاذ
النجار : وإنّي لاستبعد ذلك كثيرا وأعتقد أنّ خليج السويس كان يمتدّ من تلك
الأزمان إلى البحيرة المرّة أو يقرب منها ، وفي هذا الخليج من تلك الناحية كان
عبورهم. وبعبارة اخرى إنّهم عبروا مكان شماليّ المكان المعروف بعيون موسى ، في
البرّ الآسيوي ، وهي لا تبعد عن السويس كثيرا.
__________________
وتقول التوراة
: إنّ الله أرسل ريحا شرقيّة على البحر فأزالت الماء حتى ظهرت اليابسة ، وعبر بنو
إسرائيل فتبعهم فرعون فغرق. والعبارة هكذا : فقال الربّ لموسى ... قل لبني إسرائيل
أن يرحلوا ، وارفع أنت عصاك ومدّ يدك على البحر وشقّه ، فيدخل بنو إسرائيل في وسط
البحر على اليابسة ...
ومدّ موسى يده
على البحر ، فأجرى الربّ البحر بريح شرقيّة شديدة كلّ الليل وجعل البحر يابسة
وانشقّ الماء. فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن
يمينهم وعن يسارهم ...
وأخذ بعضهم من
ذلك شبهة أنّ فلق البحر كان بهبوب العواصف ، ولم تكن آية معجزة! لكن لم يعهد أن
تعمل الريح مهما اشتدّت هذا العمل العجيب في الخليج مرّة اخرى ، بل كلّ الدهر ،
سواء قبل هذه الحادثة أم بعدها ، فلم فعلت ذلك حين أمر موسى بني إسرائيل بعبور
البحر ، ذلك الحين فقط؟!
قال الاستاذ
النجّار : فلم يكن ذلك إلّا بعناية خاصّة من الله تعالى لإنفاذ ما في علمه.
* * *
وبعد فإذ قد
علمنا أنّ سجلّات التاريخ ، غالبيّتها إنّما تعنى بشئون السلاطين وإضفاء وابل
الثناء عليهم خاصّة ، حتى ولو كان بقلب الحقائق وتبديل سيّئاتهم حسنات وإعفاء ما
سواها من شئون ، فيا ترى هل تجد هناك مجالا لوصف محاسن خصومهم أو الإشادة بذكرهم ،
ولا سيّما إذا استدعى ذلك مسّا بكرامة الأسياد أو الحطّ من شأنهم الرفيع!!
لم تكد الوثائق
التاريخيّة القديمة تتجاوز رغبات حاشية الملوك والامراء ، فيما يعود إلى تفخيم
شأنهم وتعظيم جانبهم بالذات ، وأن لا يذكر هناك شيء يشينهم أو يضع من شأنهم إطلاقا.
فما هي إلّا إملاءات تمليها الأسياد ، حسب ميولهم واتّجاهاتهم
__________________
الخاصّة.
أمّا المحاسن
فتذكر وتسجّل بتفصيل وتبيين ـ حتى ولو كانت مصطنعة ـ وأمّا المساوئ فتعفى ، وتصبح
نسيا منسيّا.
وقد عرفت مدى
جهود السلطة المقدونيّة في طمس مآثر الحكم الهخامنشي الرهيب ، بحيث طوى عليها
التاريخ فتنوسيت حتى عن أذهان أبناء الفرس أنفسهم ، حيث تداوم العمل المستمرّ في
إخماد تاريخ السلف طيلة قرون.
أفلا تعجب من
تناسي ذكر كورش ومآثره وحتى اسمه ورسمه عند أكبر مؤرّخي الفرس : الحكيم الفردوسي
فلم يتحدّث عنه بشيء!!
هذا جانب خطير
من مضاعفات سلطة الأجانب على البلاد.
وهكذا الأمر
بشأن موسى ومواقفه الرهيبة مع فرعون وملائه ... فيا ترى لم لم يأت له ذكر في
سجلّات مصر القديمة؟!
فيا فضيلة
الاستاذ خليل عبد الكريم ، هل تجد فسحة لإنكار حضور موسى عليهالسلام نفسه شخصيّا في مصر ذلك العهد وفي تلك الحقبة من
التاريخ القديم ، هل يتخالج في فكرك (الإسلامي الحديث!) إنكاره رأسا ، بحجّة أنّ
سجلّات مصر قد أهملته؟! أو أنّك تحسب الحديث عن موسى المصري ـ حسبما جاء في القرآن
الكريم ـ كسائر قضاياه التي حسبتها ـ أنت وزملاؤك ـ قصصا شعبيّة لا واقع لها؟!
فإن خالجتك
نفسك في إنكار وجود موسى المصري (ولادة ونشأة ومبعثا) ... فقد ارتكبت خطأ عظيما
يجب الاستغفار منه!!
وهكذا سائر
قضاياه في مصر ، قد أغفلتها سجلّات تاريخ مصر القديمة ، لا لشيء إلّا لكونها مخازي
تغضّ من كبرياء فراعين مصر!!
وقد عرفت أنّ
أوّل وثيقة مصريّة سجّلت عن بني إسرائيل ، هي اللّوحة المرقّمة (٥٩٩) بدار الآثار
المصريّة ، جاء فيها الحديث عن الملك «منفتاح» ابن رعمسيس الثاني من الاسرة (١٩)
وجاء فيها عرضا ، الكلام عن بني إسرائيل باعتبار سحقهم على يد هذا
الملك الجبّار.
هكذا جاء قلب الحقائق ، وتبديل المخازي
محاسن ، وثبتها مقلوبة في ذمّة التاريخ.
هذا وقد تمّ
ترقيم هذا البحث بجوار مشهد الإمام الرضا عليهالسلام بخراسان في ظهيرة يوم
الجمعة سادس
عشر ربيع الثاني عام ١٤٢٣ ه ق ٧ / ٤ / ١٣٨١ ه ش.
والحمد لله ربّ
العالمين ـ محمد هادي معرفة
فهرس الآيات
البقرة
٢
: (ذَلِكَ
الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)................................. ٢٥٢
٨ : (وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)............... ٢٥١
١٧ : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي) ٤١٢
٢٥ : (وَأُتُواْ بِهِ
مُتَشَابِهاً)...................................................... ٤٢
٣٠ : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)....... ٢٢ ، ١٢٣ ، ٣٧٦
٣١ : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي
بِأَسْمَاء هَـؤُلاء) ٢١ ، ١٢٣ ، ٣٩٦
٣٣ : (فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ
بِأَسْمَآئِهِمْ)................................................ ٣٩٧
٣٤ : (وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ)....................... ٢١ ، ١٢٣
٣٦ : (فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي) ٣٩٥
٣٨ : (قُلْنَا اهْبِطُواْ
مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ
فَلاَ خَوْفٌ) ٢٠ ، ٣٩٥ ، ٤٠١ ، ٤٥١
٦٢ : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ)...................... ٣٧١
٦٣ و ٦٤ : (وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ... ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ
ذَلِكَ).. ٧٣
٦٥ : (فَقُلْنَا لَهُمْ
كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ)......................................... ٤٧٢
٧٣ : (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ٤٧٢
٧٨ : (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ)............. ٤٢١
٨٩ : (فَلَمَّا جَاءهُم
مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ).................... ١٦
١٠٢ : (وَاتَّبَعُواْ مَا
تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ) ٢١١ ، ٢١٩ ، ٢٢٣
١٠٦ و ١٠٧ (مَا نَنسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ) ٣٦٠
١١٥ : (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ)..... ٣٥٩
١٢٠ : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءهُم بَعدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن
وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) ١٤١
١٢١ : (الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ)............. ٢٥٢
١٢٣ : (نَعْبُدُ إِلَـهَكَ
وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ)...................... ٥٢
١٣٥ : (وَقَالُواْ كُونُواْ
هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ١٢
١٣٦ : (قُولُواْ آمَنَّا
بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ... وَمَا
أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ) ١٢
١٣٧ : (فَإِنْ آمَنُواْ
بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي
شِقَاقٍ)....... ١٢
١٣٨ : (صِبْغَةَ اللّهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ).................... ١٢
١٥٠ و ١٥١ : (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ) ٣٠٥
١٦٤ : (وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ)........................................ ٤١٥
١٧٧ : (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء
وَحِينَ الْبَأْسِ) ٣٧١
١٨٥ : (شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ) ٢٥٢
١٨٧ : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)............ ٢٠٠
٢١٢ : (وَالَّذِينَ
اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ
حِسَابٍ)........ ٢٦٥
٢٢٨ : (وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ)...................... ١٤٢ ، ٣٨٣
٢٢٨ : (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).................... ١١٥ ، ١١٧ ، ١٥٥
٢٢٨ : (وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)............................................. ١١٧
٢٢٩ ـ ٢٣٢ : (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ
مِن بَعْدُ) ١٤٠
٢٢٩ : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)......... ١٤٥
٢٣٣ : (لاَ تُضَآرَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)............................................. ١٣٩
٢٣٤ : (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)......................... ٣٦٨ ، ٣٧٤
٢٣٥ : (وَلاَ تَعْزِمُواْ
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)...................... ٢٢٥
٢٣٧ : (إَلاَّ أَن يَعْفُونَ
أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)....................... ٢٢٥
٢٥٥ : (اللّهُ لاَ إِلَـهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ... وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ١٧
٢٥٥ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)..................................... ٣٣١
٢٥٧ : (وَالَّذِينَ
كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُمَاتِ)....... ٤١٥
٢٦٠ : (قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)........................... ٣١٩
٢٧١ : (إِن تُبْدُواْ
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ
خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ) ٢٧٣
٢٧٥ : (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ) ١٩١ ، ٣٩٢ ، ٤٤
٢٨٢ : (إِذَا تَدَايَنتُم
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)............................ ٢٤٠
٢٨٢ : (وَاسْتَشْهِدُواْ
شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)..... ١٣٢
٢٨٤ : (وَإِن تُبْدُواْ مَا
فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء
وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء) ٢٦٤
٢٨٦ : (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا
مَا اكْتَسَبَتْ).................................... ٢٥٣
آل عمران
٧ : (وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)............................. ٢٩٣
١١ : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ
مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ).................. ١٢٤
١٤ : (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ)........................ ٤٠٠
١٩ : (إِنَّ الدِّينَ عِندَ
اللّهِ الإِسْلاَمُ)............................................. ١٢
٣١ : (قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)...................... ١٥٧ ، ٤٢٧
٣٥ : (إِذْ قَالَتِ
امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)................. ٨٣
٤٤ : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ٨٦ ، ٤٣٥ ، ٤٥٠
٤٦ : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)............................. ٨٨
٤٩ : (أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا
بِإِذْنِ اللّهِ)...... ٢٨٢
٥٢ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى
عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).... ٣٧٦
٥٥ : (إِذْ قَالَ اللّهُ
يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)........................... ١٠٣
٥٩ : (خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ)..................................................... ٢٤٩
٦٤ : (قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ
نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) ٧
٦٧ : (حَنِيفًا مُّسْلِمًا)......................................................... ٨٩
٨٥ : (وَمَن يَبْتَغِ
غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ)...... ١٢
١٠٦ و ١٠٧ : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ).............................. ٢٠٠
١٣٨ : (هَـذَا بَيَانٌ
لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ)...................... ٢٥٣ ، ٣٩٤
١٤٦ : (وَكَأَيِّن مِّن
نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ).... ٤٢٧
١٥٩ : (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)....................... ٢٨٣
١٨١ : (إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَاء)............................................ ٣٥٨
١٨٧ : (فَنَبَذُوهُ وَرَاء
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً)............................ ٢٧٢
١٩٥ : (أَنِّي لاَ أُضِيعُ
عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ)...... ١١٦
النساء
١ : (إِنَّ اللّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)............................................... ١٦٧
٢ و ٣ : (وَآتُواْ الْيَتَامَى
أَمْوَالَهُمْ ... وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى
فَانكِحُواْ مَا طَابَ) ١٦٢ ، ١٦٣ ، ٤٠٨ ، ٤١١
٣ : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى
أَلاَّ تَعُولُواْ) ١٦٧ ، ١٧١ ، ٤٠٩
٤ : (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ
عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا)...................................... ٤١٦
٧ : (لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ
مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) ١٢٥
١١ : (يُوصِيكُمُ اللّهُ
فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)................ ١٢٥ ، ١٢٧
١١ : (فَإِن كُنَّ نِسَاء
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ ... فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ) ٤٠٣ ، ٤٠٥
١٣ ـ ١٤ : (وَصِيَّةً مِّنَ
اللّهِ ... وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ... وَمَن
يَعْصِ اللَّهَ ... يُدْخِلْهُ نَارًا) ١٢٨
١٩ : (وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ)............................................... ١٥٥
٢٢ : (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) ١ ، ٣ ، ٨ ، ٤٠ ، ٤١٠ ، ٤١٢
٢٤ : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم
بِهِ مِنْهُنَّ)....................................... ٤٠٨
، ٤١٢
٢٥ : (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ).................................................. ١٧٦
٢٥ : (مِّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)............................... ٤٠٨
٣٢ : (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ
مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ)................... ١١٥
٣٤ : (الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ ...) ١١٧ ، ١٢١ ، ١٤٩ ، ١٥٤
٣٤ : (وَاللاَّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) ١٤٩
٣٦ : (وَمَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ).......................................... ٤٠٨
، ٤١١
٤٢ : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ
يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا) ٢٦٩
٦٠ : (يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ)............... ٤١٥
٦٩ : (وَحَسُنَ أُولَـئِكَ
رَفِيقًا)................................................. ٤١٦
٨٢ : (أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ
فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا).... ٢٤٤
٩٩ : (فَأُوْلَـئِكَ عَسَى
اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا).................. ٣٠٠
١٢٩ : (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ
أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ)...................... ١٧١
١٥٣ : (يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ
مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ) ٦٥
١٥٣ : (أَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ)..... ٦٥
١٥٧ : (وَمَا قَتَلُوهُ
وَمَا صَلَبُوهُ ... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)............................. ١٠٤
١٥٧ ، ١٥٨ : (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ
وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ) ١٠٢ ، ١٠٦
١٥٩ : (وَإِن مِّنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) ١٠٧
١٦٢ : (لَّـكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن) ١٥ ، ٢٥٢ ، ٣٦٨ ، ٣٧١
١٦٣ ـ ١٦٦ : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا
أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ)............. ١٤
١٦٤ : (وَكَلَّمَ اللّهُ
مُوسَى تَكْلِيمًا).............................................. ٢٧
١٦٦ : (لَّـكِنِ اللّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ)............................ ٣١٢
١٧٦ : (وَإِن كَانُواْ
إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)................. ٤٠٤
١٧٦ : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ... فَإِن كَانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ٤٠٥
المائدة
٧ : (إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ)............................................ ٣٢٠
١٨ : (نَحْنُ أَبْنَاء
اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)........................................ ٣٠٦
، ٣٦٢
٣٣ : (أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ
الأَرْضِ)................................................. ٣٤٧
٣٨ : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا)................................... ٤٠٣
٤٤ : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ
لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ) ٤٢٦
٤٦ : (هُدًىً وَمَوْعِظَةً
لِّلْمُتَّقِينَ)............................................... ٢٥٢
٤٨ : (وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ).. ٤٢٧
٦٤ : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء) ٣٥٦ ، ٣٥٩
٦٧ : (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ)............................................. ١٧٤
٦٩ : (إِنَّ
الَّذِينَ
آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ)....................... ٣٦٨ ، ٣٧٠
٨٣ : (وَإِذَا سَمِعُواْ
مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا) ١٥
١٠٥ : (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) ٢٥٤
١١٠ : (إِذْ قَالَ اللّهُ
يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ٨٨ ، ٩٠
١١٠ : (وَالإِنجِيلَ وَإِذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي)........................ ٢٨٢
١١٦ : (وَإِذْ قَالَ اللّهُ
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ
إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ) ٨٦
١١٧ : (فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)............................... ١٠٣
الأنعام
٢ : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ)............... ٢٧٨
١٢ و ٢٠ : (الَّذِينَ خَسِرُواْ
أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)........................... ٢٥٣
١٩ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) ١٤
٢٠ : (الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ)....................... ١٦
٢٣ : (ثُمَّ لَمْ تَكُن
فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)................... ٢٦٩
٢٥ : (وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ
كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا) ٣٠٤
٣٨ : (مَّا فَرَّطْنَا فِي
الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)........................................ ٢٤٦
٥٢ : (وَلاَ تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)............... ٢٨٤
٥٩ : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ).................................................. ٧٢
٦٠ : (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ).............. ١٠٣ ، ٢٦٨
٦١ : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)........................................................ ٢٦٨
٧١ : (كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ)............................ ١٩١
٧٣ : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ
الْحَقُّ) ٣٧٧
٧٤ : (وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)..................................... ٥١
، ٣٠٩
٨٣ ـ ٨٨ : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ... وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَقَ وَ) ٥٩
٨٤ و ٨٥ : (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ
دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ـ إِلَى قَوْلِه ـ وَعِيسَى)...................... ٥٣
٩٧ : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).......... ٣٢٧
١٠٣ : (لاَّ تُدْرِكُهُ
الأَبْصَارُ)................................................. ٢٧١
١٠٨ : (وَلاَ تَسُبُّواْ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ
عِلْمٍ)......... ٤٠٠
١١٢ : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي) ١١٨ ، ١٩٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٨ ، ٤٢٨ ، ٤٧١
١١٤ : (وَالَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ)................ ١٦
١٢١ : (إِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ).. ١٨٨ ، ٢١٩ ، ٢٢٨ ، ٤٧١
١٢٥ : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلاَمِ).............................................. ٣٢٠
١٢٨ : (قَالَ النَّارُ
مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَليمٌ)...... ٣٠١
١٤١ : (وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).......................... ٤٢ ، ٣١٣
١٥١ : (قُلْ تَعَالَوْاْ
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ) ١٢٨
١٥٥ : (وَهَـذَا كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)................. ٣٠٠
١٦٤ : (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)............... ٢٥٣
الأعراف
٦ : (فَلَنَسْأَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).................... ٢٥٠ ، ٢٦٠
٨ و ٩ : (وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) ٢٦٤
١٠ : (وَجَعَلْنَا لَكُمْ
فِيهَا مَعَايِشَ)............................................. ٣٢٦
٢٠ ـ ٢٢ : (قَالَ مَا نَهَاكُمَا
رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا
مِنَ الْخَالِدِينَ ... فَدَلاَّهُمَا) ١٩
٢٢ : (وَنَادَاهُمَا
رَبُّهُمَا)...................................................... ٢٧٠
٢٣ و ٢٤ : (قَالاَ رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ) ٣٩٥ ، ٤٠٢
٢٥ : (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ
وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)............................. ٤٠٢
٢٨ : (إِنَّ اللّهَ لاَ
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء)............................................. ٢٥٦
٣٧ : (قَالُواْ ضَلُّواْ
عَنَّا)..................................................... ١٣٦
٤٠ : (إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ
السَّمَاء)........ ٣٢٦
٥١ : (فَالْيَوْمَ
نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا)............................... ٢٧٢
٥٤ : (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ)................................................. ٢٨٢
٥٩ ـ ٦٤ : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ... فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ) ٣٢
٧٣ ـ ٧٤ : (وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ
غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ) ٤٥٧
١٠٧ : (فَإِذَا هِيَ
ثُعْبَانٌ).................................................... ١٩٤
١٠٩ : (قَالَ الْمَلأُ مِن
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)....................... ٤٣٤
١١٦ : (سَحَرُواْ أَعْيُنَ
النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)... ٢٠٣ ، ٢٢٠ ، ٢٢١
١١٧ ـ ١١٩ : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ
عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وكَانُوا) ١٩٥ ، ٢٢١
١٢٧ : (وَقَالَ الْمَلأُ مِن
قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) ٢٥١
١٢٩ : (أُوذِينَا مِن قَبْلِ
أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)............................ ٥٥٣
١٣٧ : (وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) ٣٦٧
١٤٢ : (وَوَاعَدْنَا مُوسَى
ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ...)........................ ٣٧٤
١٤٢ ـ ١٤٨ : (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ
لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ... وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ
مِنْ) ٦٤ ، ٦٥ ، ٣٧٤
١٤٨ : (أَلَمْ يَرَوْاْ
أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً).............................. ٦٨
١٥٠ : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ
الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ) ٦٣
١٥٤ : (وَلَمَّا سَكَتَ عَن
مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ
لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) ٦٣
١٥٥ : (وَاخْتَارَ مُوسَى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم) ٦٤ ، ٦٥
١٥٧ : (فَالَّذِينَ آمَنُواْ
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ)...................................... ٥٢
١٧١ : (وَإِذ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ
خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ) ٧٣
١٧٢ : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى) ٤٣٧
١٧٩ : (أُوْلَـئِكَ
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)...................... ٣٩٢
١٨٦ : (مَن يُضْلِلِ اللّهُ
فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ).................................. ٣٧٣
١٩٤ و ١٩٥ : (إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ) ٤٠٠
١٩٧ : (وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ)...... ٤٠٠
١٩٨ : (وَتَرَاهُمْ
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)................................ ٢٥١
٢٠٣ : (هَذَا بَصَائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ).......................... ٢٥٣
الأنفال
١ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ
ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ) ٣٠٥
٢ : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)........................... ٢٥١
٤ و ٥ (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ
رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ) ٣٠٤
١٧ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ)........................................ ٢٥٠
١٧ : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى).................................... ٢٥٠
٢١ : (وَلاَ تَكُونُواْ
كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ)......................... ٢٥١
٢٥ : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً
لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)........................ ٣٠٨
٣٣ : (وَمَا كَانَ
اللّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ)....... ٢٦٣
٣٤ : (وَمَا لَهُمْ أَلاَّ
يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا
كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ) ٢٦٣
٣٨ : (إِن يَنتَهُواْ
يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)....................................... ٢٤٠
٤٦ : (وَلاَ تَنَازَعُواْ
فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)..................................... ٢١
٥٥ : (إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)..................... ٢٥٣
التوبة
٢٨ : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)................................................... ٥٣
٣٠ : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ ... قَاتَلَهُمُ
اللّهُ) ٢٤٠ ، ٣٠٥ ، ٣٠٨ ، ٣٦٢
٣٢ : (وَيَأْبَى اللّهُ
إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)................................ ٣
٣٣ : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ١١٠ ، ١١١ ، ١٧٤
٦٧ : (نَسُواْ اللّهَ
فَنَسِيَهُمْ)................................................... ٢٧٢
٦٩ : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي
خَاضُواْ).............................................. ٤١٤
١١٤ : (وَمَا كَانَ
اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ٥٤
١٢٨ (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ)............................................... ٢٨٦
يونس
٣ : (ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)...................................... ٣٣٥
٩ : (تَجْرِي مِن
تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).................................. ١٩٩
٢١ : (وَإِذَا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي
آيَاتِنَا)........ ٣٨٥
٢٢ ـ ٢٣ : (هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) ٣٨٦ ، ٤١٥
٢٢ : (جَاءتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ)................................................. ٣٨٧
٢٦ و ٢٧ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ)....... ٢٠١
٣٣ : (كَذَلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)............. ٢٥٣
٤٥ : (وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَ) ٢٦٠
٧٧ : (أَتقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)............... ٢٢٠
٨٧ : (وَتَكُونَ لَكُمَا
الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ)........................................ ٣٩
٩٠ : (آمَنتُ أَنَّهُ لا
إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ)....... ٣٦٦
٩١ : (آلآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)............................ ٣٦٦
٩٢ : (فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)................... ٣٦٦ ، ٥٥٧
هود
٢٠ : (يُضَاعَفُ لَهُمُ
الْعَذَابُ)................................................ ٢٦٩
٢٨ : (أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)......................................... ٣٧٨
٤٠ ـ ٤١ : (حَتَّى إِذَا جَاء
أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) ٣١ ، ٤٦ ، ٤٩ ، ٣١٤
٤٢ و ٤٣ : (وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ... قَالَ لاَ عَاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ) ٣١ ، ٣٨ ، ٤٠
٤٤ : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ
ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي)............................... ٤٧٢
٤٨ : (قِيلَ يَا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ) ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠
٤٩ : (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء
الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن
قَبْلِ هَـذَا) ٣٧ ، ٤٢٦ ، ٤٥٠
٦١ : (هُوَ أَنشَأَكُم
مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)................................. ٢٤
١٠٥ ـ ١٠٨ : (يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ ... إِلاَّ
مَا شَاء رَبُّكَ) ٢٩٥
١٠٧ : (فَعَّالٌ لِّمَا
يُرِيدُ).................................................... ٣٥٨
١٠٨ : (وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء) ٢٩٤
١١٦ : (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي
الأَرْضِ)... ٥٠
١٢٠ : (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي
هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ) ٤٢٨
يوسف
٢ ـ ٣ (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٢ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ٤٢٥
٤ : (إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)............ ٣٩٩
١٩ : (فَأَرْسَلُواْ
وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ)........................................... ٢٨٠
٢١ : (وَاللّهُ غَالِبٌ
عَلَى أَمْرِهِ)................................................ ١١٥
٢٩ : (يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)......... ٣٨٤
٣١ : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً).................................................. ٢٨٧
٣١ : (إِنْ هَـذَا إِلاَّ
مَلَكٌ كَرِيمٌ)............................................... ٤٤٠
٤٥ : (بَعْدَ أُمَّةٍ)........................................................... ٢٨٧
٤٩ : (ثُمَّ يَأْتِي مِن
بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)................. ٣٦٤
٥٤ و ٥٥ : (وَقَالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِ ... قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ
الأَرْضِ) ٣٦٣
٦٧ : (وَقَالَ يَا بَنِيَّ
لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ
وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ) ٢٢٩
٦٨ : (مَّا كَانَ يُغْنِي
عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ) ٢٣٠
٨٠ : (خَلَصُواْ نَجِيًّا)........................................................ ٤١٦
٩٣ : (وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)............................................... ٥٥٤
١٠٢ : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ٤٥٠
١١١ : (وَلَـكِن تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) ٢٥٢
١١١ (لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) ٤٢١ ، ٤٢٢ ، ٤٢٥
الرعد
٣ : (وَمِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْن)................... ٤٢ ، ٣١٣ ، ٣١٦
٩ : (عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)..................................... ١٧
١٠ : (بَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ).............................................. ٣٢٠
١٢ : (يَكَادُ سَنَا
بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)....................................... ٣٤٢
١٩ : (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)............................................. ٢٩٣
٢٣ : (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)........... ١٩٨
٢٨ : (الَّذِينَ آمَنُواْ
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ).................................. ١١٣
٣٨ و ٣٩ : (لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتَابٌ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٣٥٨ ، ٣٥٩ ، ٣٦١
إبراهيم
٤ : (وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)........................... ١١٣
٩ : (جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم
بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)........................ ٤٢٨
١٦ : (مِّن وَرَآئِهِ
جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ)................................. ٣٧٩
١٧ : (وَيَأْتِيهِ
الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ
غَلِيظٌ). ٢٥٠ ، ٣٧٩
٢٢ : (وَمَا كَانَ لِيَ
عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ
تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) ١٨٩
٢٤ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) ٣٢٧
٣٥ ـ ٤١ : (وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن
نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ... رَبَّنَا اغْفِرْ لِي و) ٥٤
٤٨ : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ).............................. ٢٩٤
٥٠ : (سَرَابِيلُهُم مِّن
قَطِرَانٍ)................................................. ٢٩١
الحجر
٦ : (يَا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)................................ ٦٧
٩ : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)......................... ٨ ، ١٧٤ ، ٣٢٥
١٦ ـ ١٨ : (وَلَقَدْ جَعَلْنَا
فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ... وَحَفِظْنَاهَا مِن
كُلِّ) ٣٢٣ ، ٣٢٦ ، ٣٣٧ ، ٣٣٨
٢١ : (وَإِن مِّن شَيْءٍ
إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)................. ٣٣٥
٢٦ : (مِّنْ حَمَإٍ
مَّسْنُونٍ)..................................................... ٢٤٩
٢٩ : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)................ ٢١ ، ٢٢
٤٢ : (إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ).................................... ٢٢٠
٦١ ـ ٧٣ : (فَلَمَّا جَاء آلَ
لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ. قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ. قَالُواْ بَلْ
جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ) ٤٣٣
٧٧ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً للمُّؤْمِنِينَ)............................................ ٢٩٣
٨٨ : (إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِّنْهُمْ)........................................... ٣١٣
٨٨ : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
للمُّؤْمِنِينَ)........................................... ٣١٣
٨٩ ـ ٩١ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ. كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ٣٠٤
٩٢ و ٩٣ : (فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)....................... ٢٦٠
٩٧ : (يَضِيقُ صَدْرُكَ)...................................................... ٣٢٠
النحل
٢٢ : (فَالَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ)................. ٢٥٣
٢٥ : (لِيَحْمِلُواْ
أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) ٢٥٤
٢٨ (تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلآئِكَةُ).................................................... ٢٦٨
٣٦ : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ) ٤٢٦
٥١ : (لاَ تَتَّخِذُواْ
إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ)............ ٤٣ ، ٣١٥
٥٨ : (وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)........... ١٢١ ، ٢٠٠
٦٩ : (لِّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ)...................................................... ٢٩٣
٨٩ : (وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ) ٢٥٢ ، ٤٢٤
١٠١ : (وَإِذَا بَدَّلْنَا
آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ
مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) ٣٦١
١٢٠ : (قَانِتًا لِلّهِ
حَنِيفًا)..................................................... ٣٨٩
١٢٧ : (وَلاَ تَكُ فِي
ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)......................................... ١٧٤
الإسراء
٢ : (أَلاَّ تَتَّخِذُواْ
مِن دُونِي وَكِيلاً)............................................. ٤١٦
٣ : (ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ).................................................. ٤٩
٤ : (وَقَضَيْنَا إِلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)................ ٣٩
١٣ : (وَكُلَّ إِنسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا).. ٢٧٧
١٥ : (وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ٢٥٣ ، ٢٥٦
١٦ : (وَإِذَا أَرَدْنَا
أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) ٢٥٦
٣٩ : (لاَّ تَجْعَل مَعَ
اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ)............................................ ٣١٥
٤٠ : (أَفَأَصْفَاكُمْ
رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا). ١٢٣
٤٤ : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ
السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدَهِ وَلَـكِن) ٣٤٦ ، ٣٩٧ ، ٣٩٨
٥٧ : (أُولَـئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ) ٤٠٠
٦٥ : (إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)..................... ٢٤
٧٠ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ)................................................... ٢٣
٧٦ : (وَإِن كَادُواْ
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا)................. ٣٩ ، ٢٣١
٧٩ : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)........ ٣٠٠
٨٥ : (وَمَا أُوتِيتُم مِّن
الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)......................................... ٣٢٨
١٠٤ : (وَقُلْنَا مِن
بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ).......................... ٤٧٢
الكهف
٢٢ : (فَلَا تُمَارِ
فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا)............... ٤٦٠
٢٥ ، ٢٦ : (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا لَبِثُوا) ٣٠٩ ، ٤٦٤
٤٩ : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ... وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ) ١١٨ ، ١٦٧
٥٠ : (وَهُمْ لَكُمْ
عَدُوٌّ)..................................................... ٤١٦
٦٤ : (فَارْتَدَّا عَلَى
آثَارِهِمَا قَصَصًا)........................................... ٤١٧
٧١ : (لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئًا إِمْرًا)................................................. ٤٣٥
٧٤ : (لَّقَدْ جِئْتَ
شَيْئًا نُّكْرًا)................................................ ٤٣٥
٧٧ : (حَتَّى إِذَا أَتَيَا
أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا)................. ٣٩١
٨٣ : (وَيَسْأَلُونَكَ عَن
ذِي الْقَرْنَيْنِ)........................................... ٥٤٧
٨٣ ـ ٩٨ : (وَيَسْأَلُونَكَ عَن
ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا).............. ٤٧٠
٨٤ : (إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)........................ ٥١٧
٨٦ : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا
قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ٣٤٧ ، ٤٧٤ ، ٤٧٦ ، ٥١٧
٨٧ ـ ٨٨ (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ
فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ... وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء
الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ) ٤٧٢
٩٤ : (قَالُوا يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى) ٤٨٦
٩٥ ـ ٩٦ (فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) ٤٩٧
٩٨ : (هَذَا رَحْمَةٌ مِّن
رَّبِّي)............................................ ٥١٧
، ٥٢٥
١٠١ : (الَّذِينَ كَانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي).............................. ٣٠٣
١٠٣ ـ ١٠٦ (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ... قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ
...
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)...................................................... ٢٦٦
١٠٥ : (الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) ٢٦٥
مريم
١٦ ـ ٣٠ (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ
مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) ٩٢
٢٧ : (فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)..................... ٨٣
٢٨ : (يَا أُخْتَ هَارُونَ
مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)........... ٨٣ ـ ٣٠٩
٢٩ : (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ
قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)..................... ٨٨
٤١ ـ ٤٧ : (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ) ٥٤
٥٨ : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ) ٤٢٩
٦٤ : (وَمَا نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)................. ٢٧٢ ، ٣٣٥
٦٧ : (لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ)....................................................... ٢٩٣
٦٨ ـ ٧٢ : (فَوَرَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ... وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا).......... ٢٨٠
٧١ : (وَإِن مِّنكُمْ
إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)............... ٢٧٩ ، ٢٨١
٧٢ : (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا).......................... ٢٨٠
٨١ : (وَاتَّخَذُوا مِن
دُونِ اللَّهِ آلِهَةً)............................................. ٣١٥
٨٦ : (وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)..................................... ١٩٧
٩٦ : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)............... ٣٠٢
طه
١١ ـ ١٢ : (فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِي يَا مُوسَى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ
بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) ٤٣٥
١٥ : (إِنَّ السَّاعَةَ
ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا)......................................... ٢٨٧
٢١ : (خُذْهَا وَلَا تَخَفْ)..................................................... ٤٣٥
٣١ : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)....................................................... ٥٢
٢٩ : (وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي).............................................. ٣٠٢
٥٢ : (لَّا يَضِلُّ رَبِّي
وَلَا يَنسَى)....................................... ١٣٦
، ٢٧٢
٥٣ : (وَأَنزَلَ مِنَ
السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى).................. ٣١٣
٦٣ : (إِنَّ هَـذَا
لَسَاحِرٌ أنَّ ... وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)........ ٣٣٥ ، ٣٦٨ ، ٣٧٠
٦٦ : (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)............ ٢٠٢ ، ٢٢١
٦٩ : (وَلَا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)......................................... ٢٢٠
٧٧ : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا
لَّا تَخَافُ دَرَكًا) ٦١ ، ٥٥٣
٧٨ : (فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)...................... ٥٥٣
٨٣ ـ ٨٥ : (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن
قَوْمِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضَى) ٦٣ ، ٥٥٣
٨٦ ـ ٩٧ : (فَرَجَعَ مُوسَى
إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ
وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ) ٦٣
٨٥ : (وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ).................................................... ٦٧
٨٨ : (عِجْلاً جَسَدًا
لَّهُ خُوَارٌ)................................................. ٦٨
٨٩ : (أَفَلَا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا)......................................... ٦٨
٩٦ : (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا
وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) ٦٤ ، ٦٦
١٠٣ : (إِن لَّبِثْتُمْ
إِلَّا عَشْرًا)................................................. ٣٧٥
١٠٤ : (إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)............................. ٣٣٥
١١٠ : (وَلَا يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْمًا)............................................... ٢٧١
١١٥ : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).................... ٢٧٢
١١٧ : (فَلَا
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)....................................... ١٩
١٢٢ : (ثُمَّ اجْتَبَاهُ
رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)...................................... ٢٠
١٢٣ : (هْبِطَا مِنْهَا
جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) ٣٩٥
١٢٦ : (قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)................... ٢٧٢
الأنبياء
١ و ٢ : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ... لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)........ ٣٨٢
٣ : (هَلْ هَذَا إِلَّا
بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ)............................................... ٣٨٣
١٨ : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).............. ٣٢٥ ، ٤٦٦
٣٣ : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) ٣٣٤ ، ٣٩٧ ، ٣٩٩
٤٧ : (وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا و...) ٢٦٤
٦٣ : (بَلْ
فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ)........................... ٢٨
٦٩ : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا
وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)............................... ٤٧٢
٧١ و ٧٢ : (وَنَجَّيْنَاهُ
وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا) ٥٤
٧٤ و ٧٥ : (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ
حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ
الْخَبَائِثَ ... وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا) ٥٨
٧٨ : (وَدَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) ٣٩٦ ، ٤٠٢ ، ٤٠٤
٧٩ : (وَسَخَّرْنَا مَعَ
دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)....................... ٣٩٧ ، ٣٩٩
٨١ : (وَلِسُلَيْمَانَ
الرِّيحَ عَاصِفَةً)............................................. ٣٨٧
٨٣ : (إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)........................ ١٩١
٩٢ : (إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).................. ٣٧٥ ، ٤٢٦
٩٦ : (حَتَّى إِذَا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ).............. ٤٩٣
١٠١ و ١٠٢ : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا
الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) ٢٨٠ ، ٢٨١
١٠٣ : (لَا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)............................................. ٣٧٤
١٠٤ : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)............................. ٢٩٤
١٠٥ : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا
فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ).... ١٦٢
الحج
٢ : (يَوْمَ تَرَوْنَهَا
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ) ٢٥٠ ، ٢٦١
٥ : (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ... وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ) ٣١٥ ، ٤٣٦
١٩ ـ ٢٤ : (هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن
نَّارٍ) ٣٩٥ ، ٤٠١
٣٠ و ٣١ : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ حُنَفَاء)..................................... ٣٨٩
٤٤ : (فَأَمْلَيْتُ
لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).......................... ٤٥٩
٤٥ : (فَكَأَيِّن مِّن
قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) ٤٥٩
٤٦ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) ٣٠٤
٥٢ : (وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله) ٣٢٥
٧٨ : (وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)................................... ١٤٦
المؤمنون
١٢ ـ ١٤ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ... فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً).... ٣٢١
١٤ : (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ
خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).................. ٢٢ ، ٢٨٢
١٧ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)................. ٣٣٤
٣٦ : (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ
لِمَا تُوعَدُونَ).......................................... ٢٣٩
٥٢٠ : (جَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).............. ٩٢
٥٢ و ٥٣ : (وَإِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ... فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا) ٣٧٥
٦٧ : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
سَامِرًا تَهْجُرُونَ).......................................... ٤١٥
٨٦ : (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)............................. ٣٣١
١٠٠ : (وَمِن وَرَائِهِم
بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).................................... ٣٧٩
١٠١ : (فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ)............. ٣٦٠
النور
١١ : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).................................. ٢٥٣
١٥ : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ).......................................................... ٢٨٧
٣٠ و ٣١ : (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ) ١٦٠ ، ١٦١ ، ٢٤١
٣١ : (وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)................................ ١٦٢ ،
٢٤١
٣٩ : (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)............. ٢١٢
٤٠ : (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).................................... ٣
٤١ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ) ٣٩٧ ، ٣٩٩ ، ٤٠٧
٤٣ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) ٣٣٩
٤٥ : (وَاللَّهُ خَلَقَ
كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ)........... ٣٩٦ ، ٣٩٧
الفرقان
٥ : (قَالُوا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)..................... ٤
٦١ : (تَبَارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا)......... ٣٣٧
الشعراء
٤ : (فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)............................................ ٣٩٩
٧ : (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)........................ ٣١٣
١٥ : (كَلَّا فَاذْهَبَا
بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ).......................... ٣٩٦ ، ٤٠٣
١٦ : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ).............................................. ٤١١
١٨ : (ألَمْ نُرَبِّكَ
فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ).......................... ٥٥٦
٢٣ : (وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ)............................................ ٤٠٩
، ٤١١
٢٤ ـ ٢٨ : (رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
... رَبُّ الْمَشْرِقَ) ٤٠٩ ، ٤١١
٣٢ : (فَإِذَا هِيَ
ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ)................................................. ٢٥٠
٣٤ : (قَالَ لِلْمَلَإِ
حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)................................. ٤٣٤
٦٣ : (فَانفَلَقَ فَكَانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).................................... ٦١
٧١ ـ ٧٣ : (قَالُوا نَعْبُدُ
أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ. قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ
تَدْعُونَ. أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) ٤٠١
٧٧ : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِّي)....................................................... ٤١٦
٨٦ ـ ٨٩ : (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ... وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الضَّالِّينَ) ٥٤
١٠٠ و ١٠١ : (مَا لَنَا مِن شَافِعِينَ. وَلَا
صَدِيقٍ حَمِيمٍ).......................... ٤١٦
١١٩ : (وَمَن مَّعَهُ فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)...................................... ٤١٥
١٢٨ ـ ١٣٤ : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذَا
بَطَشْتُم) ٤٥٥
١٤٦ ـ ١٤٨ : (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا
آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) ٤٥٨
١٥٦ ـ ١٥٧ : (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ
وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ. وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابُ) ٤٥٨
١٨٤ : (وَاتَّقُوا الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)................................. ٣٣٩
١٩٦ و ١٩٧ : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ
يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ) ١٠
٢١٥ : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)........................... ٢٨٤
النمل
٨ : (فَلَمَّا جَاءهَا
نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا)........................ ٤٣٤
٩ و ١٠ : (وَأَلْقِ عَصَاكَ
فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
يَا مُوسَى لَا تَخَفْ) ١٩٤ ، ١٩٥ ، ٤٣٥
١٤ : (وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)............................. ١٦
١٦ : (عُلِّمْنَا مَنطِقَ
الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ)................................ ٣٢٠
١٨ و ١٩ (حَتَّى إِذَا أَتَوْا
عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَسَاكِنَكُمْ ... فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) ٣٢٠
٢٥ : (اللَّهُ الَّذِي يَخْرُجُ
الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)........................... ٣٤٦
٨٠ و ٨١ (فَإِنَّكَ لَا
تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ ... إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن) ٣٩٢
٨٧ : (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي
الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)............. ٣٤٦
٨٨ : (صُنْعَ اللَّهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)........................................ ١١٩
القصص
٣ : (نَتْلُوا عَلَيْكَ
مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)..................... ٤٢٥
٥ : (وَنُرِيدُ أَن
نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) ١٦٢
٦ : (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا
يَحْذَرُونَ) ١٦٢ ، ٣٤٩
٧ : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى
أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)....................................... ٤٧١
٨ : (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) ٣٤٩
١١ : (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ
قُصِّيهِ)................................................. ٤١٧
١٥ : (فَاسْتَغَاثَهُ
الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)......................... ٣٦٤
٢٣ : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ)..........................
٢٧ : (فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ)......................................... ٣٧٥
٣٠ و ٣١ : (فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ ... وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا
رَآهَا تَهْتَزُّ) ١٩٥ ، ٢٥٠ ، ٤٣٥
٣٨ : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي
يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) ٣٤٩ ، ٣٥٤
٤٤ ـ ٤٦ : (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا) ٤٢٥
٦٥ و ٦٦ : (وَيَوْمَ
يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ) ٢٦٠
٧٦ : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ
مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ
مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي) ٧٠ ، ٧١
٧٨ : (وَلَا يُسْأَلُ عَن
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)...................................... ٣٦٠
٧٩ : (يالَيْتَ لَنَا
مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).......................... ٧١
العنكبوت
١٢ و ١٣ : (وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ) ٢٥٤
١٤ ـ ٤٠ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ) ٤٢٩
١٧ : (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكًا)...................................................... ٢٨٢
٢٥ : (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا)................ ٢٦٧
٢٩ : (وَتَأْتُونَ فِي
نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ)............................................ ٥٤٩
٣٨ : (وَعَادًا وَثَمُودَ
وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ)............................... ٤٥٦
٣٩ : (وَقَارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) ٧١ ، ٣٥٠
٤٣ : (وَتِلْكَ
الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ).................... ٣٢٤
الزوم
٢٦ : (وَلَهُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ)............................ ٣٤٦
٣٠ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ٣٨٩ ، ٤٣٧
٥٧ : (فَيَوْمَئِذٍ لَّا
يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ).................................. ٢٦٨
لقمان
٢ و ٣ : (تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْحَكِيمِ. هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ).................. ٢٥٢
١٥ : (وَإِن جَاهَدَاكَ
عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ٣٥٥
٢٠ : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)................ ٣٤٦
٣١ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).................................. ٢٩٢
السجدة
٤ : (للَّهَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)................. ٢٥٨
٥ : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) ٢٤٥ ، ٢٥٧ ، ٣٣٥
١١ : (قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ).............................. ٢٦٨
٢٠ : (وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا
أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا) ٢٧٣ ، ٢٧٤
الأحزاب
٤ و ٥ : (وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ... أدْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) ١٧٣
٢١ : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) ١٥٧
٣٥ : (إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... ِ وَالْحَافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ) ١١٦ ، ٢٤١
٣٦ : (وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ١٤٤ ، ١٧٢
٣٧ : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ... لَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ١٧٣
٣٨ ـ ٤٠ (مَّا كَانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلُ وَ) ١٧٤
٥٢ : (وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا)......................................... ١٦٧
٧٢ : (إنَّا عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) ٢١
سبأ
١٣ : (إعْمَلُوا آلَ
دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)........................ ٧٨
١٤ : (فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي
الْعَذَابِ الْمُهِينِ) ٤٤١
١٥ و ١٨ (لَقَدْ كَانَ
لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن
رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) ٥٣٥
١٦ و ١٩ : (فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) ٥٣٥
٢٨ : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ).......................................... ٣٦٩
٤٢ : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ)............. ٢٧٣
فاطر
١ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)..................................... ٣٤٥
١ : (زِيدُ فِي الْخَلْقِ
مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)......................... ٣٥٨
١٠ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)......................... ٣٢٧
١١ : (مَا يُعَمَّرُ مِن
مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)..................... ٢٧٧
١٣ و ١٤ : (وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ. إِن تَدْعُوهُمْ لَا
يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا) ٤٠١
١٨ : (وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ
مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) ٢٥٣
٢٢ : (إِنَّ اللَّهَ
يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ)................... ٣٩٢
٤١ : (إِنَّ اللَّهَ
يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا)............................. ٣٤٥
يس
٢٩ : (إِن كَانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً وَاحِدَةً)...............................................
٣٣ : (وَآيَةٌ لَّهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا)...................................... ٣٤٧
٣٦ : (سُبْحَانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ
وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) ٣١٦
٤٠ : (لَا الشَّمْسُ
يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ٣٣٤
٦٠ ـ ٦١ : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا) ٤٣٧
٨٢ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ
إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).......................... ٣٧٧
الصافات
١ ـ ٣ : (وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا)............... ٣٩٧ ، ٤٠٧
٦ ـ ١٠ : (إِنَّا زَيَّنَّا
السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ
مَّارِدٍ ... إِلَّا مَنْ خَطِفَ) ٣٢٣ ، ٣٢٦ ، ٤٤٠
١١ : (مِّن طِينٍ لَّازِبٍ)...................................................... ٢٤٩
٢٢ ـ ٣٤ : (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ) ٢٦١ ، ٣١٣
٢٤ : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم
مَّسْئُولُونَ)....................................... ٢٥٠
، ٣٦٠
٢٧ ـ ٢٩ : (وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ. قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا
عَنِ الْيَمِينِ. قَالُوا) ٢٦٠
٤٠ ـ ٥٠ : (إِلَّا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ... فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ) ٢٦١
٦٢ ـ ٦٦ : (أَذَلِكَ خَيْرٌ
نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ... إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ. طَلْعُهَا كَأَنَّهُ) ١٩١ ، ٤٣٩
٧٥ ـ ٨٤ : (وَلَقَدْ نَادَانَا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ... َإِنَّ مِن
شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ. إِذْ جَاء رَبَّهُ) ٢٦ ، ٥١
٧٧ : (وَجَعَلْنَا
ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ)................................... ٣٨ ،
٣٩ ، ٥٠
٧٩ : (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ
فِي الْعَالَمِينَ).......................................... ٣٨٠
٨٩ : (إِنِّي سَقِيمٌ)............................................................ ٢٨
٩٨ ـ ١٠٠ (فَأَرَادُوا بِهِ
كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ. وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي
سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ) ٥٤
١٠١ ـ ١١٣ : (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ... وَبَارَكْنَا
عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ
مُبِينٌ) ٥٦
١٠٧ : ١١٣ (سَلَامٌ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. أنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْنَاهُ) ٢٦ ، ٣٨٠
١١٤ ـ ١٢٢ : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى
وَهَارُونَ ... سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي) ٢٦ ، ٣٨١
١١٦ : (وَنَصَرْنَاهُمْ
فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ)....................................... ١١٥
١٢٣ ـ ١٣٢ : (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ
الْمُرْسَلِينَ ... سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
أنَّهُ) ٢٦ ، ٣٨١
١٣٣ ـ ١٣٥ : (وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ
... إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) ٥٨
١٣٧ ـ ١٣٨ : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم
مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ)........................ ٤٥٩
١٤٥ : (فَنَبَذْنَاهُ
بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ).......................................... ٣٠٨
١٤٩ و ١٥٥ : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ
وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ) ١٢٢
١٥١ ـ ١٥٢ : (إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللَّهُ).............................. ١٢٣
١٧٣ : (وَإِنَّ جُندَنَا
لَهُمُ الْغَالِبُونَ)............................................ ٤٢٨
ص
١٧ ـ ٢٠ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا
دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
... وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ) ٧٨
٢١ و ٢٢ : (وَهَلْ أَتَاكَ
نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ
فَفَزِعَ مِنْهُمْ) ٣٩٦ ، ٤٠٣ ، ٤٠٤
٣٠ : (وَوَهَبْنَا
لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).............................. ٧٨
٣١ : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ)............................... ٤٠٨
٤١ : (إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)........................ ١٩١
٤٥ ـ ٤٧ : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ... إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ
ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِندَنَا) ٥٩
٥٨ : (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ).............................................. ٣١٥
٦٤ : (إ نَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ
تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)....................................... ٢٦٧
٦٧ ـ ٧١ : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ. أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ. مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ
الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ٤٢٥
٧٥ : (مَا مَنَعَكَ أَن
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)............................. ٢١ ، ٢٢
٨٨ : (وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).............................................. ٤٩٣
الزمر
٣ : (مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)..................................... ٥٢٦
٦ : (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ).......................................................... ٣١٣
١٠ : (إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)................................ ٢٦٥
١٧ : (وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا)................................. ٤١٥
٢٣ : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).. ٢٥١
٢٨ : (قُرآنًا عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)............................................. ٣١١
٣٣ : (وَالَّذِي جَاء
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)..................... ٤١٤
٤٢ : (اللَّهُ يَتَوَفَّى
الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).............. ١٠٣ ، ٢٦٨
٥٣ : (إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)......................... ١٩
٦٠ : (وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ)................. ٢٠١
٦٣ : (لَهُ مَقَالِيدُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)......................................... ٣٤٦
٧١ : (وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)..................................... ٢٩٩
٧٣ : (وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا).................................. ٢٩٩
غافر
٧ : (الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ٣٩٦
٢٣ و ٢٤ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ
فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) ٧١ ، ٣٥٠
٣٦ و ٣٧ : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ
يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ) ٣٥٠
٣٧ : (كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلَّا فِي تَبَابٍ) ٣٥١
٤٠ : (أُوْلَئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ).......................... ٢٦٤
٥٢ : (يَوْمَ لَا يَنفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)........................................ ٢٦٨
٦٧ : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلًا).................................................... ٤١٦
فصلت
٣ : (كِتَابٌ فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا).......................................... ١٠
٨ : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)..................... ٢٩٤
٩ ـ ١٢ : (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ) ٢٥٨ ، ٣٤٦ ، ٣٩٥ ، ٣٩٨ ، ٤٧٢
١٣ : (أَنذَرْتُكُمْ
صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)................................ ٣٠٥
١٦ : (فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ)..................... ٣٩٦ ، ٤٠٦
٣٠ : (إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةُ)............... ٣٢٦
٣٧ ـ ٣٩ : (وَمِنْ آيَاتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) ٤٠٧ ، ٤٣٦
٤١ ـ ٤٢ : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ٣ ، ٥ ، ١٠٢
الشورى
٥ : (وَالْمَلَائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ)................. ٣٩٦
١١ و ١٢ : (فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ) ١٧
١٣ : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا
بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) ١٢
٢٩ : (وَمِنْ آيَاتِهِ
خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ)............... ٣٤٦
٣٣ : (وَمَزَّقْنَاهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)................. ٢٩٣
٤٠ : (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا).............................................. ٢٦٩
٤٥ : (خَاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ).............................. ٢٥١
٥١ : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء) ٢٧٠
الزخرف
٦ ـ ٧ : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا
مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُون).. ٤٢٨
١٦ و ١٨ : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ).......................... ١٢٢
١٨ : (أَوَمَن يُنَشَّأُ
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)........... ١٢٢ ، ١٣٤ ، ١٣٧
١٩ : (وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) ١٢٢ ، ٣٩٦
٢٨ : (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)............................................ ٥٠
٤٠ : (أَفَأَنتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)............. ٣٩٢
٧٠ : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)................................... ١٩٨
٨٢ : (سُبْحَانَ رَبِّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ)............................ ٣٤٦
الدخان
٤ : (فِيهَا يُفْرَقُ
كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)...................................... ٢٧٦
، ٢٧٧
٢٥ و ٢٦ : (كَمْ تَرَكُوا مِن
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)................... ٣٦٧
٢٧ : (وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ)...................................... ١٩٩
، ٣٦٧
٢٨ : (كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ)................................. ٣٦٧ ،
٣٦٨
٥٦ : (لَا يَذُوقُونَ
فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى)............................... ٣٠١
٥٨ : (فَإِنَّمَا
يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)................................... ٣٩٣
الجاثية
١٠ : (مِن وَرَائِهِمْ
جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا)......................... ٣٧٩
١٣ : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)........................ ٢٢
٢٠ : (هَذَا بَصَائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ)............................ ٢٥٢
٢٤ : (وَمَا لَهُم بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)............................... ٣١٢
الأحقاف
٩ : (قُلْ مَا كُنتُ
بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ)...................................... ١٤
، ٤٢٧
١٠ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) ١٥
١٢ : (وَمِن قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا
عَرَبِيًّا).......... ١٠
١٧ و ١٨ : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَّكُمَا ... أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)... ٤١٤
محمّد
٤ : (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).......................... ١٨٦
الفتح
٨ و ٩ : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ٣٨٤
٢٨ : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) ٣٢٥
الحجرات
٩ : (وَإِن طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)........................ ٤٠٢
١١ : (لَا يَسْخَرْ قَومٌ
مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء
عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ) ٣٠٣
١٣ : (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) ٢١ ، ١١٦ ، ١٧٧
ق
٤ : (وَعِندَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ).................................................. ١٦٧
٦ : (فَلَمْ يَنظُرُوا
إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن
فُرُوجٍ). ٣٢٨ : ٣٣٧
١٨ : (مَا يَلْفِظُ مِن
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)................................. ١٦٧
١٩ : (وَجَاءتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)......................................... ٢٨٧
٢٢ : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ)................................................. ٢٥١
٢٧ : (رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)............................... ٢٦٧
٢٨ : (لَا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَّ).................................................... ٢٦٧
٣٧ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).. ٣١٩ ، ٣٩٢
الذاريات
١٩ : (فَالْمُقَسِّمَاتِ
أَمْرًا)................................................... ٤٠٧
٢٩ : (وَفِي السَّمَاء
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)....................................... ٣٣٥
٣٩ : (مَا تَذَرُ مِن
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ).............................. ٥
٤٦ ـ ٧٠ : (وَالسَّمَاء
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ).............................. ٣٢٩
٥٢ : (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ).................................. ٣١٣ ، ٣١٦
٥٦ : (وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).................................. ١٨٨
الطور
٤١ : (أَمْ عِندَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)........................................ ٣٠٤
النجم
٤ ـ ١٢ : (إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ... فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا
أَوْحَى).. ٧
١٣ و ١٤ : (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى. عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)....................... ٢٧١
٢١ و ٢٢ : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنثَى ، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى).................. ١٢٢
٣٦ : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى).................................... ١٠ ،
١٥
٣٧ و ٣٨ : (وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)............... ١٠ ، ٢٥٣
٣٩ : (وَأَن لَّيْسَ
لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)....................................... ١١٦
٤٥ : (وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى)..................................... ٣١٤
القمر
١١ و ١٣ : (فَفَتَحْنَا
أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا. فَالْتَقَى
الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) ٤٧ ، ٣٤ ، ٣٢٧
١٩ : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ
مُّسْتَمِرٍّ)................................................. ٤٠٦
٢٧ ـ ٢٨ : (إِنَّا مُرْسِلُو
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ) ٤٥٧
٤٩ : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)............................................ ٢٧٧
٥٠ : (وَمَا أَمْرُنَا
إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).................................... ٣٧٧
الرحمان
١٠ : (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ).................................................. ٣٤٦
١٤ : (مِن صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ)................................................ ٢٤٩
١٥ : (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ)......................................... ١٨٨
١٧ : (رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)......................................... ٤٠٣
١٩ : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ).................................................. ٦١
٢٩ : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ)................................................. ٣٥٨
٣٩ : (فَيَوْمَئِذٍ لَّا
يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ)........................ ٢٥٠ ، ٢٦٠
٤٦ ـ ٧٠ : (وَمِن دُونِهِمَا
جَنَّتَانِ ... مُدْهَامَّتَانِ ... فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ... فِيهِمَا
فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ٣٩٥
٥٢ : (فِيهِمَا مِن كُلِّ
فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)..................................... ٤٢
، ٣١٣
٥٦ : (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ).................. ١٩٨
الواقعة
٧ : (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا
ثَلَاثَةً).................................................... ٣١٣
٣٥ ـ ٣٧ : (إِنَّا
أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا).................. ١٩٨
الحديد
١١ : (مَن ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ)........................ ٣٥٦
٢٠ : (كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)...................................... ٢٩٣
٢٢ : (مَا أَصَابَ مِن
مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ
أَن نَّبْرَأَهَا) ٢٧٦ ، ٢٧٧
٢٦ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)............. ٥٠
المجادلة
١٩ : (اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ) ١٩١
٢١ : (كَتَبَ اللَّهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)................... ١١٥ ، ٤٢٨
٢٢ : (لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ) ٢٥٥
الحشر
١٩ : (وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ).......................... ٢٧٢
٢٤ ـ ٢٢ : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا) ١٧
الصف
٦ : (إِذْ
قَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم
... وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي) ٩٤
المنافقون
٤ : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).............................. ٤١٦
١٠ : (فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ
الصَّالِحِينَ) ٣٧٢ ، ٣٧٣
الطلاق
٣ : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)............................................ ٢٣٩
١٢ : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)........................ ٣٤٢
التحريم
٤ : (إِن تَتُوبَا إِلَى
اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ
هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ) ٤٠٣ ، ٤٠٤ ، ٢٤٢
٦ : (لَا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).............................. ٣٩٦
١٠ : (ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) ٣١ ، ٢٤١
١٢ : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ).................................................... ٨٣
الملك
٣ ـ ٥ : (الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ... وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ) ٣٢٨ ـ ٣٣٧
٤ : (ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)................................................. ٣١٥
٥ : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ)........ ٣٢٢ ، ٤٤١
القلم
٤ : (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ)............................................... ٢٨٢
٤٩ : (لَوْلَا أَن
تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ)..................... ٣٠٨
٥١ ـ ٥٢ : (إِن يَكَادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ
وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ) ٢٢٩
الحاقة
٣٥ و ٣٦ : (فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)................ ٢٩١
المعارج
٤ : (تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ).... ٢٤٥ ، ٢٥٧
٨ ـ ١٠ : (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ،
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ، وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) ٢٦٠
٤٠ : (ب ِرَبِّ
الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ).......................................... ٤٠٣
نوح
٢٦ : (رَّبِّ لَا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا).............................. ٣٨
الجن
١ : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا)........... ٣٢٥
٨ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا)........... ٣٢٥ ، ٣٢٣
٩ : (وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهَابًا رَّصَدًا) ٣٢٣ ، ٣٢٥ ، ٤٤٠
١١ : (وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)....................... ٣٣٥
١٦ : (وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا)........................ ٣٣٥
المدّثر
٣٠ : (عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ)................................................... ٣٧٥
٣٨ : (كُلِّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)........................................... ٢٥٣
٤٨ ـ ٣٩ : (إِلَّا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ. فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. مَا سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ. قَالُوا لَمْ) ٢٦١
القيامة
٢٢ ـ ٢٥ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ
أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) ٢٠١ ، ٢٧١
الانسان
٦ : (عَيْنًا يَشْرَبُ
بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)................................ ١٩٩
١١ : (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ
شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)........................ ٢٠١
١٣ و ١٤ (مُتَّكِئِينَ فِيهَا
عَلَى الْأَرَائِكِ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا)................... ١٩٩
المرسلات
١ : (وَالْمُرْسَلَاتِ
عُرْفًا)..................................................... ١٢٤
٥ : (فَالْمُلْقِيَاتِ
ذِكْرًا)....................................... ١٢٤
، ٣٩٧ ، ٤٠٧
٦ : (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا)........................................................ ٣٩٧
٣٦ : (وَلَا يُؤْذَنُ
لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ).............................................. ٢٦٨
النبأ
٩ : (وَجَعَلْنَا
نَوْمَكُمْ سُبَاتًا).................................................. ٣٠٢
١٢ : (وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا)........................................... ٣٢٨
٣٣ : (وَكَوَاعِبَ
أَتْرَابًا)...................................................... ١٩٨
النازعات
١ ـ ٤ (وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا. وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا. وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا. فَالسَّابِقَاتِ
سَبْقًا)... ١٢٤
٥ : (فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا)....................................... ١٢٤
، ٣٩٧ ، ٤٠٧
٢٤ : (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى).................................................... ٢٥١
٢٧ ـ ٣٠ : (أَأَنتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ... وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)...... ٢٥٨
عبس
١ : (عَبَسَ وَتَوَلَّى).......................................................... ٢٨٣
٣٨ ـ ٤٢ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُّسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ.
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) ٢٠١
التكوير
٧ : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ).................................................. ٣١٣
المطففين
٢٤ : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ
نَضْرَةَ النَّعِيمِ)....................................... ٢٠١
الانشقاق
٧ و ٨ : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)................ ٢٦٤
الأعلى
٦ و ٧ : (سَنُقْرِؤُكَ فَلَا
تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ).................................. ٣٠٠
١٨ و ١٩ : (إِنَّ هَذَا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)........ ١٠ ، ١٤
الغاشية
٦ : (لَّيْسَ لَهُمْ
طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ)........................................... ٢٩١
٢٥ و ٢٦ : (إِنَّ إِلَيْنَا
إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)............................. ٢٣٩
الفجر
٦ ـ ١٤ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ) ٤٥٤
البلد
١ و ٢ (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا
الْبَلَدِ. وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)............................. ٢٦٢
الشمس
٥ : (وَالسَّمَاء وَمَا
بَنَاهَا)..................................... ٤٠٨
، ٤٠٩ ، ٤١٢
٦ ـ ٧ : (وَالْأَرْضِ وَمَا
طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)....................... ٤٠٨ ، ٤١٢
الليل
٣ : (وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنثَى)......................................... ٤٠٨
ـ ٤١٢
التين
١ ـ ٣ : (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)..................... ٢٦٢
٤ ـ ٦ (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) ٤١٥
القدر
٤ : (نَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).......................... ٣٣٥
البينة
٥ : (وَمَا أُمِرُوا
إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ٤٢٦
القارعة
٥ : (كَالْعِهْنِ
الْمَنفُوشِ)..................................................... ٢٨٧
العصر
١ ـ ٣ : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ
الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)..................... ٤١٥
الكافرون
٢ و ٣ : (لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)................. ٤٠٨ ، ٤١٢
المسد
٤ : (وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ).......................................... ٢٢٥
، ٢٤٠
الاخلاص
١ ـ ٤ : (قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا
أَحَدٌ).......... ١٧
الفلق
٤ : (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ
فِي الْعُقَدِ)............................................ ٢١١
٥ : (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ
إِذَا حَسَدَ)...................................... ٢٢٩
، ٣٢٣
١ ـ ٦ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ).... ٢٢٣
المصادر
آراء المتشرقين حول القرآن الکریم
: عمر إبراهيم رضوان ، دارطيبة ـ الرياض ، ١٤١٣.
الآثار الباقیة عن القرون الخالية
: أبو ريحان البيروني ، وزارت فرهنگ وارشاد إسلامي ـ طهران ـ ٢٠٠٠ م.
آلاء الرحمان في تفسير القرآن : الشيخ
محمد جواد البلاغي ، مكتبة الوجداني ـ قم ـ الطبعة الثانية.
الإتقان في علوم القرآن : جلال الدين
السيوطي ، مطبعة المشهد الحسيني ـ القاهرة ـ ١٣٨٧.
الاحتجاج : أبومنصور أحمد بن علي
الطبرسي ، النجف ـ ١٣٨٦.
أحكام القرآن : أبوبكر أحمد بن علي
الجصّاص ، دار الكتاب العربي ـ ١٣٣٥.
إحياء علوم الدين : أبوحامد الغزالي ،
مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٥٨.
الأخبار الطوال : أحمد بن داود الدينوري
، القاهرة ـ ١٩٦٠ م.
اساس البلاغة :جارالله الزمخشري ،
دارالكتب ـ مصر ـ ١٩٧٣ م.
الاستبصار : الشيخ أبوجعفر محمد بن
الحسن الطوسي ، دارالكتب الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٩٠.
الإسرائيليات والموضوعات : أبوشهبة محمد
بن محمد مكتبة السنّة ـ القاهرة ـ ١٤٠٨.
أسد الغابة : ابن الأثير ، المطبعة
الوهبية ـ ١٢٨٠.
الإصابة في تمييز الصحابة : أبن حجر
العسقلاني ، مطبعة السعادة ـ مصر ـ ١٣٢٨.
إعراب القرآن : المنسوب إلى الزّجاج ،
القاهرة ـ ١٩٦٣ م.
الأعلام : خير الدين الزركلي ، بيروت ـ
١٣٩٠.
الأمالي : السيّد الشريف المرتضى علم
الهدى ، دارالكتاب العربي ـ بيروت ـ ١٣٨٧.
الأمالي : الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي
الصدوق ، النجف ـ ١٣٨٩.
إملاء ما منّ به الرحمان : أبو البقاء
العكبري ، مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٨٠.
بحارالأنوار : محمّد باقر المجلسي ،
مؤسسة الوفاء ، بيروت ـ ١٩٨٣ م.
بداية المجتهد : محمّد بن أحمد (أبن رشد
الأندلسي) ، مكتبة الكلّيات الأزهرية ـ مصر ـ ١٣٨٩.
البداية والنهاية : أبن كثير ، مكتبة
المعارف ـ بيروت ـ ١٩٧٧ م.
البرهان في علوم القرآن بدر الدين
الزركشي ، دارإحياء الكتب العربية ـ ١٣٧٦.
البيان في تفسير القرآن : آية الله
السيّد أبو القاسم الخوئي ، المطبعة العلمية ـ قم ـ ١٣٩٤.
تاريخ الطبري : محمّد بن جرير ، دار المعارف
ـ مصر ، ١٩٧١ م.
تاريخ القرآن : تولديكه : (نقلاً عن
آراء المستشرقين).
تأويل مشكل القرآن : ابن قتيبة ،
دارالتراث ـ القاهرة ـ ١٣٩٣.
التبيان في تفسير القرآن : الشيخ
أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٩٠.
تفسير أبن أبي حاتم : عبد الرحمن الرازي
، المكتبة العصرية ـ بيروت ـ ١٤١٩.
تفسير أبن كثير (تفسير القرآن العظيم) :
أبن كثير ، دارإحياء الكتب العربية ـ مصر.
تفسير البحر المحيط : أبوحيان الأندلسي
، دارالفكر ـ بيروت ـ ١٣٩٨.
تفسيرالبرهان : السيد هاشم بحراني ،
مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٤١٩.
تفسير البيضاوي : عبدالله بن
عمرالبيضاوي ، مؤسسة شعبان ـ بيروت.
تفسير التحرير والتنوير : أبن عاشور ،
مؤسسة التاريخ العربي ـ بيروت ـ ١٤٢٠.
تفسير الجلالين : دار إحياء الكتب
العربية ـ مصر ـ ١٣٤٢.
تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم :
الشيخ طنطاوي جواهري ، مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ١٣٥٠.
تفسير الصافي : المولى محمد محسن
الكاشاني ، المطبعة الإسلامية ، طهران ، ١٣٨٤.
تفسير العياشي : أبو نضر محمد بن مسعود
، المكتبة العلمية الإسلامية ـ طهران.
تفسير الفرقان : الدكتور محمد الصادقي ،
إسماعيليان ـ قم ـ ١٤١٠.
تفسير القاسمي (محاسن التأويل) : محمد
جمال الدين القاسمي ، مؤسسة التاريخ العربي ـ بيروت ـ ١٤١٥.
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) :
محمد بن أحمد القرطبي ، القاهرة ـ ١٣٨٧.
تفسير القميّ : علي بن إبراهيم القمّي ،
النجف ـ ١٣٨٧.
تفسير الماوردي (النكت والعيون) :
أبوالحسن علي بن محمد ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤١٢.
تفسير المراغي : أحمد مصطفى المراغي ،
مصر ـ دار الفكر.
تفسير المنار : الشيخ محمد عبده ، تأليف
محمد رشيد رضا ، دار المعرفة ـ بيروت.
تفسير جزء عم (تفسير القرآن العظيم) :
محمد عبده نشر أدب الحوزة ـ ١٣٤١.
تفسير عبد الرزاق : ابن همّام ، دار
الكتب العلمية ـ بيروت ، ١٤١٩.
تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان :
نظام الدين النيسابوري (هامش جامع البيان للطبري).
تفسير مقاتل بن سليمان : مؤسسة التاريخ
العربي ، بيروت ، ١٤٢٣.
التفسير الكبير (مفاتيج الغيب) : فخر
الدين الرازي ، الطبعة الثانية ـ دار الكتب العلمية ـ طهران.
تفسير نور الثقلين : الشيخ عبد العلي
الحويزي ، إأسماعيليان ـ قم ـ ١٤١٥.
التفسير المبين : محمد جواد مغنية ، دار
الكتاب الإسلامي.
التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري
عليه السلام : مطبعة مهر ـ قم ـ ١٤٠٩.
التوحيد : الشيخ أبو جعفر محمد بن علي
الصدوق ، دار المعرفة ـ بيروت.
تنزيه الأنبياء : السيد الشريف علم
الهدى ، مكتبة بصيرتي ـ قم.
تنزيه القرآن عن المطاعن : القاضي عبد
الجبار ، دارالنهضة الحديثة ـ بيروت.
تهذيب التهذيب : أبن حجر العسقلاني ،
دار صادر ـ بيروت ـ ١٣٢٥.
ثواب الأعمال : الشيخ أبو جعفر محمد بن
علي الصدوق ، النجف ـ ١٣٩٢.
جامع البيان في تفسير القرآن : محمد بن
جرير الطبري ، دار المعرفة ـ بيروت ـ ١٣٩٢.
جامع الشواهد : محمد باقر الشريف
الأردكاني ، الطبعة الحجرية.
جمهرة اللغة : ابن دريد محمد بن الحسن
البصري ، حيدرآباد الدكن ـ ١٣٤٥.
جواهر الكلام : الشيخ محمد حسن النجفي ،
دارإحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٩٨١ م.
حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
محمد حسين هيكل ، مطبعة مصر ـ القاهرة ـ ١٣٥٤.
الحيوان : الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر
، تحقيق يحيى الشامي ، دار مكتبة الهلال ـ بيروت ـ ١٩٨٦ م. الحيوان للدراسات
العليا في جامعة بغداد.
الخرائج : والجرائح : قطب الدين
الراوندي ، مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام ـ قم ـ ١٤٠٩.
الخصال : الشيخ أبو جعفر محمد بن علي
الصدوق ، مكتبة الصدوق ـ طهران ـ ١٣٨٩.
الخطط المقريزية : أحمد بن علي المقريزي
، دار العرفان ـ بيروت.
الخلاف : الشيخ أبوجعفر محمد بن الحسن
الطوسي ، طهران ـ ١٣٨٢.
دائرة المعارف الإسلامية الكبرى : إشراف
كاظم البجنوردي ، طهران ـ ١٩٩١ م.
دائرة المعارف الإسلامية (المترجمة إلى
العربية) : دار المعرفة ـ بيروت.
دائرة معارف القرن العشرين : محمد فريد
وجدي ، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين ـ ١٣٨٦.
الدرّ المثور : جلال الدين السيوطي ،
دارالفكرـ بيروت ـ ١٤١٤.
الدروس الشرعية : الشهيد محمد بن مكي
العاملي ، الطبعة الحجرية.
الدفاع عن القرآن ضدّ منتقديه : عبد
الرحمان بدوي ، مكتبة مدبولي الصغير.
دعائم الإسلام : القاضي أبو نعيمة
النعمان المصري ، دارالمعارف ـ مصر ـ ١٩٦٥.
ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم
الصالح (سلسلة القصص القرآني) : محمد خير رمضان يوسف ، دار القلم ـ دمشق ـ ١٤١٥.
الرحلة المدرسية : الشيخ محمد جواد
البلاغي ، النجف.
روح المعاني : أبو الفضل محمود الآلوسي
، إدارة الطباعة المنيرية ـ مصر.
الروض الأنف : عبد الرحمان السهيلي ،
مكتبة الكلّيات الأزهرية ـ ١٣٩١.
سعد السعود : ابن طاووس سيد رضي الدين ،
افست مؤسسة النشر الرضي ـ قم ـ ١٣٦٣.
سنن أبن ماجة (سنن المصطفى) : أبو عبد
الله محمد بن يزيد ، دار الفكر ـ بيروت.
سنن البيهقي (السنن الكبرى) : أبو بكر
أحمد بن الحسين ، دارالمعرفة ـ بيروت.
سنن الترمذي : محمد بن عيسى الترمذي ،
المكتبة الإسلامية.
سنن الدارمي : عبد الله بن عبد الرحمن ،
دار إحياء السنة النبوية.
السنن الكبرى : أحمد بن الحسين البيهقي
، دارالمعرفة ـ بيروت ـ ١٤٠٦.
سنن النسائي : أبو عبد الرحمن أحمد بن
شعيب ، مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٨٣.
سنن أبي داود : سليمان بن الأشعث ،
دارأحياء السنّة النبوية.
سيبويه : أبو بشر عمرو ، مؤسسة الأعلمي
ـ بيروت ـ ١٣٨٧.
سير أعلام النبلاء : شمس الدين الذهبي ،
مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤١٠.
السيرة النبوية : أبن هشام ، مصطفى
البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٥٥.
شبهات حول الإسلام : سيد محمد قطب ،
مكتبة وهبة ـ الطبعة الثالثة ـ ١٩٥٨ م.
شرح الكافية في النحو : الشيخ رضي الدين
الإسترآبادي ، دارالكتب العلمية ـ بيروت.
شرح المعلّقات السبع : الحسين بن أحمد
الزوزني ، منشورات أرومية ـ قم ـ ١٤٠٥.
شرح نهج البلاغة أبن أبي الحديد ،
دارإحياء الكتب العربية ـ مصر ـ ١٩٦٥ م.
الصحاح : إسماعيل بن حماد الجوهري ،
دارالعلم للملايين ـ بيروت ـ ١٣٧٦.
صحيح البخاري : أبو عبد الله محمد بن
إسماعيل البخاري ، مطابع الشعب ـ ١٢٧٨.
صحيح مسلم : أبو الحسين مسلم بن الحجاج
القشيري ، مكتبة محمد علي صبيح ـ ١٣٣٤.
العرب قبل الإسلام : جرجي زيدان ، دار
الهلال ـ القاهرة.
علل الشرائع : الشيخ أبو جعفر محمد بن
علي الصدوق ، النجف ـ ١٣٨٥.
علم اليقين : المولى محمد محسن الفيض
الكاشاني ، بيدار ـ قم ـ ١٤٠٠.
عوالي الثاني : ابن أبي جمهور الإحسائي
، سيد الشهداء ـ قم ـ ١٤٠٣.
العين : الخليل بن أحمد الفراهيدي ، دار
الجهرة ـ قم ـ ١٤٠٥.
عيون أخبار الرضا عليه السلام : الشيخ
أبوجعفر محمد بن علي الصدوق ، النجف ـ ١٣٩٠.
غنية النزوع : ابن زهر السيد حمزة بن
علي ، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ـ قم ـ ١٤١٧.
فتح الباري : ابن حجر العسقلاني ،
دارالمعرفة ـ بيروت ـ ١٣٠٠.
الفتوحات المكية : محيي الدين ابن عربي
، دار صادر ، بيروت.
الفصل في الملل والنحل : ابن حزم علي بن
أحمد ، دار المعرفة ـ بيروت ـ ١٣٩٥.
الفقه على العذاب الأربعة : عبد الرحمان
الجزيري ، دارإحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٤٠٦.
فقه اللغة وسرّ العربية : أبو منصور
الثعالبي ، مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٩٢.
الفن القصصي في القرآن الكريم : محمد
أحمد خلف الله ـ مع شرح وتعليق خليل عبد الكريم ، مؤسسة الإنشارات العربي ـ بيروت
ـ ١٩٩٩ م.
في ظلال القرآن : سيد قطب ، الطبعة
السادسة
قرب الاسناد : عبد الله بن جعفر الحميري
، النجف.
قصص الانبياء : عبد الوهاب النجار ، دار
الثقافة ـ بيروت ـ ١٣٨٦.
القصص القرآني : السيد محمد باقرالحكيم
، المركز العالمي للعلوم الإسلامية ـ قم ـ ١٤١٦.
قصّة الحضارة : ول ديورانت ، لجنة
التأليف والترجمة ـ القاهرة ـ ١٩٥٦ م.
الكافي : أبوجعفر محمد بن يعقوب الكليني
، دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٨٩.
الكافي في الفقه : أبو الصلاح الحلبي ،
مكتبة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ـ إصفهان.
الكامل في التاريخ : أبن أثير ، دار
صادر ـ بيروت ـ ١٣٩٩.
الكتاب المقدس (كتب العهد القديم والعهد
الجديد) : جمعية التوراة البريطانية والأجنبية.
الكشاف : جارالله الزمخشري ، الطبعة
الثالثة ـ دار الكتب العلمية ـ طهران.
كفاية الأثر : الخزار الرازي ، الطبعة
الحجرية ـ ١٣٠٥ ، في مجموعة كتب.
كمال الدين : الشيخ أبوجعفر محمد بن علي
الصدوق ، طهران ـ ١٣٩٠.
كنز العمال : علي المتقي الهندي ، مؤسسة
الرسالة ـ بيروت ـ ١٤٠٥.
لسان العرب : أبن منظور ، بيروت ـ ١٣٧٦.
لسان الميزان : أبن حجر العسقلاني ،
مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٣٩٠.
المبسوط : الشيخ أبوجعفر محمد بن الحسن
، المطبعة الحيدرية ـ طهران.
متشابهات القرآن ومختلفة : محمد بن علي
بن شهر آشوب ، بيدار ـ قم ـ ١٣٦٩.
المجازات النبوية : السيد الشريف الرضي
أبوالحسن محمد ، مؤسسة الحلبي ـ القاهرة ـ ١٣٨٧.
مجمع الأمثال : أحمد بن محمد الميداني ،
بيروت ، دارالفكر ، ١٣٩٣.
مجمع البيان : أبوعلي الفضل بن الحسن ،
المكتبة الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٨٢.
المحاسن : أحمد بن محمد البرقي ، المجمع
العالمي لأهل البيت ـ قم ـ ١٤١٣.
المحجة البيضاء : الفيض الكاشاني ،
مؤسسة النشرالإسلامي ـ قم ـ المطبعة الثانية.
المختلف (مختلف الشيعة) : العلّامة
الحسن بن يوسف الحلّي ، مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم ١٤١٧.
مختصر في شواذ القرآن : ابن خالويه ،
مصدر ـ ١٩٣٤ م.
مذاهب التفسير الإسلامي : جولد تسهير ،
تعريب عبدالحليم النجار ، القاهرة ـ ١٣٧٤.
مروج الذهب : أبوالحسن علي بن الحسين
المسعودي ، المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر ـ ١٣٨٤.
مسائل علي بن جعفر : مؤسسة آل البيت ـ
قم ـ ١٤٠٩.
المستدرك على الصحيحين : الحاكم
النيسابوري ، مكتبة المطبوعات الإسلامية ـ حلب.
مستدرك الوسائل : ميرزا حسين النوري
الطبرسي ، مؤسسة آل البيت ـ قم ـ ١٤٠٧.
المسند : أحمد بن الحنبل ، دارصادر ـ
بيروت.
مشكل إعراب القرآن : مكي بن أبي طالب ،
بغداد ـ ١٩٧٥ م.
المصاحف : أبوبكر عبدالله السجستاني ،
المطبعة الرحمانية ـ مصر ـ ١٣٥٥.
المطوّل : سعد الدين مسعود التفتازاني ،
افست الداوري ـ قم.
معاني الأخبار : الشيخ أبو جعفر محمد بن
علي الصدوق ، النجف.
معاني القرآن : يحى بن زياد الفرّاء ،
مصرـ ١٩٧٢.
المعجزة الخالدة : السيد هبة الدين
الشهرستاني ، مكتبة الجوادين ـ الكاظمية.
معجم البلدان : شهاب الدين الياقوت
الحموي ، دارصادر ـ بيروت ـ ١٣٧٦.
المعجم الزوولوجي : محمد كاظم الملكي ،
النجف ـ ١٣٧٦.
معجم لغات القرآن (نثرطوبى) : أبوالحسن
الشعرأني ، ملحق تفسيرأبي الفتوح الرازي.
معجم مقاييس اللغة : أبن فارس أبوالحسين
أحمد ، مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٩٢.
المعجم الوسيط : دارإحياء التراث العربي
ـ بيروت.
المعرب : أبومنصور الجواليقي ، دار
القلم ـ دمشق ـ ١٤١٠.
مغني اللبيب : ابن هشام جمال الدين يوسف
، نحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد والطبعة الحجرية.
مفاهيم جغرافية في القصص القرآني : عبد
العظيم عبدالرحمان خضر ، دارالشروق ـ السعودية ـ ١٤٠١.
مفتاح الكرامة السيد محمد جواد العاملي
، مؤسسة آل البیت.
المفردات : الراغب الإصفهاني ، مصطفى
البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٨١.
مقدمة ابن خلدون : عبد الرحمان بن محمد
، المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة.
المقنعة : الشيخ محمد بن محمد بن نعمان
المفيد ، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم ـ ١٤١٠.
ملحق ترجمة كتاب «مقالة في الإسلام
لتسدال» : هاشم العربي ، مطبعة النيل المسيحية ـ مصر ـ ١٩٢٥. المناقب (مناقب آل
أبي طالب) : مكتبة علامة ـ قم.
من لايحضره الفقيه : الشيخ أبوجعفر محمد
بن علي الصدوق ، دارالكتب الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٩٠.
منهاج الصالحين : آية الله السيد
أبوالقاسم الخوئي ، الطبعة الخامسة ، المطبعة العلمية ـ قم ـ ١٣٩٥. المهذّب :
القاضي ابن البرّاج ، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم ـ ١٤٠٦.
الموسوعة المصرية : لجنة التحرير ،
وزارة الثقافة والاعلام ـ مصر.
الميزان في تفسير القرآن : العلامة
السيد محمد حسين الطباطبائي ـ طهران ـ دارالكتب الإسلامية.
نهاية المرام : السيد محمد بن علي
العاملي (صاحب المدارك) ، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم ـ ١٤١٣.
النهاية في مجرّد الفقه والفتاوي :
الشيخ أبوجعفر محمد بن الحسن ، دارالكتاب العربي ـ بيروت ـ ١٣٩٠.
نهج البلاغة : تصحيح صبحي الصالح ،
بيروت ـ ١٣٨٧.
النوادر : فضل الله بن علي الراوندي ،
دار الحديث ـ قم.
الهدى إلى دين المصطفى : الشيخ جواد
البلاغي ، النجف ـ ١٣٨٥.
الهيئة والإسلام : السيد هبة الدين
الشهرستاني ، النجف ـ ١٣٨٤.
الوافي بالوفيات : صلاح الدين خليل بن
أبيك الصفدي ، دارإحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٤٢٠.
وسائل الشيعة : الشيخ محمد بن الحسن
الحرّ العاملي ، مؤسسة آل البيت ـ قم ١٤١٢.
مصادر فارسية
ايران باستان حسن پیرنیا
(مشير الدولة) ، ابن سينا ـ طهران ١٣٤٤.
تاريخ تمدن الإسلامي : ويل دورانت ،
الطبعة الرابعة ـ طهران ـ ١٣٧٣ ش.
تاريخ ايران : حسن پیرنیا ،
مكتبة خيام ـ طهران.
تاريخ هيرودوت : ترجمة المازندراني ،
وزرات فرهنگ وهنر ـ تهران.
تفسير أبي الفتوح الرازي (زوج الجنان وروح
الجنان) : المطبعة الإسلامية ـ طهران ـ ١٣٥٢ ش.
تفسير أبي مسلم (بررسى آراء ونظرات
تفسيرى أبو مسلم اصفهاني) : قم ـ ١٣٧٤ ش.
تفسير نمونه : لجنة التأليف ، دارالكتب
الإسلامية ـ قم ـ الطبعة الأولى.
قاموس كتاب مقدس : جيمس هاكس ، مكتبة
ظهوري ـ طهران ـ ١٩٢٨ م.
كوروش كبير ذوالقرنين : أبوالكلام آزاد
، ترجمة باستاني پاریزي ـ نشر علم ـ طهران ـ ٢٠٠١ م.
لغت نامه : دهخدا ، جامعة طهران ـ ١٤١٩.
فهرس المواضیع
الباب
الأول ـ هل للقرآن من مصادر................................................ ٦
الوحي مصدر القرآن الوحید!...................................................... ٧
شرائع
إبراهيمية منحدرة عن أصل واحد......................................... ١١
وحدة المنشأ هو السبب للتوافق على
المنهج...................................... ١٣
القرآن یشهد بأنّه مُوحى...................................................... ١٤
القرآن فی زُبُر الأوّلين........................................................ ١٤
(أَوَلَمْ يَكُن
لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)............................... ١٥
مقارنه عابرة بين القرآن وكتب سالفة محرّفة......................................... ١٦
معارف فخيمة امتاز بها الإسلام................................................ ١٦
جلائل صفات الله في القرآن................................................... ١٧
وصفه تعالى كما في التوراة؟.................................................... ١٨
الله يصول ويجول ضدّ بني آدم؟................................................ ٢٠
الإنسان سرّ الخليقة.......................................................... ٢١
ميزات الإنسان الفطرية....................................................... ٢٢
خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!........................................ ٢٥
الحفاظ على كرامة الأنبياء..................................................... ٢٥
إبراهيم لم يكذب قطّ!........................................................ ٢٨
قصّة الطوفان في التوراة....................................................... ٢٩
حادث
الطوفان في القرآن.................................................. ٣٠
مواضع عِبرأغفلتها التوراة.................................................... ٣١
هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟............................................... ٣٢
نقض فريضة الشمول؟..................................................... ٣٣
الطوفان ظاهرة طبيعية حيث أرادها الله....................................... ٣٤
لا شاهد على شمول الطوفان................................................ ٣٧
آثارجيولوجية؟............................................................ ٣٨
(رَبِّ لَا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ)............................................... ٣٩
(لَا عَاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)............................................. ٣٩
(قُلْنَا احْمِلْ
فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)...................................... ٤١
(وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِّ)................................................. ٤٣
(حَتَّى إِذَا جَاءَ
أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ).......................................... ٤٦
(فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا).................................... ٤٧
(وَجَعَلْنَا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)................................................ ٤٨
نوح بعد الهبوط........................................................... ٥٠
والد إبراهيم تارح أو آزر؟..................................................... ٥١
الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق!............................................ ٥٥
قصّة لوط مع ابنتيه كما هي في التوراة.......................................... ٥٧
يعقوب ينتهب النبوّة من أخيه عيسوا........................................... ٥٨
يعقوب يصارع الربّ.......................................................... ٥٨
خروج بني إسرائيل وتجاوزهم البحر.............................................. ٥٩
قصّة العجل والسامري........................................................ ٦٢
مواضع الاختلاف بين القرآن والتوراة
بشأن العجل............................. ٦٣
نظرة في قولة السامري...................................................... ٦٢
ما كانت صفة العجل؟..................................................... ٦٨
مَن هُو السامري؟......................................................... ٦٩
مَن هُو قارون؟.............................................................. ٧٠
(مَا إِنَّ
مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)............................................. ٧١
حادث نتوق الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل...................................... ٧٢
قصّة داود وامرأة أوربا......................................................... ٧٧
القرآن والأناجيل............................................................. ٧٨
الصدّيقة مريم................................................................ ٧٩
يا اُخت هارون؟............................................................. ٨٣
ابنة عمران؟................................................................. ٨٥
تأليه الصدّيقة مريم!.......................................................... ٨٦
ويكلّم الناس في المهد وكهلاً؟.................................................. ٨٨
مرين تعود بانها وقد جاوز سنّ الرضاعة.......................................... ٩١
عيسى يحاجّ العلماء في سنّ مبكّر.............................................. ٩٣
الكهولة هو تخطّي الثلاثين.................................................... ٩٣
التبشير بمقدم رسول الإسلام محمّد............................................. ٩٤
قَصَّةُ الصَّلب................................................................ ٩٧
مسألة التوفّي............................................................... ١٠٢
الباب الثاني ـ القرآن وثقافات عصره............................................. ١١٠
التأثر بالبيئة!................................................................. ١١١
هل تأثّر القرآن بثقافات عصره؟.............................................. ١١١
١ ـ مجاراة في الاستعمال.................................................. ١١٢
٢ ـ خطاب القرآن عامّ................................................... ١١٣
٣ ـ حقيقة لا تخييل...................................................... ١١٤
ثقافات جاهليّة كافحها الإسلام.............................................. ١١٥
المرأة وكرامتها في القرآن................................................... ١١٥
وللرجال علیهنّ درجة.................................................... ١١٧
تفضيل البنين على البنات................................................ ١٢١
للذكر مثل حظّ الأنثين................................................... ١٢٤
محاولات فاشلة.......................................................... ١٢٦
دية المرأة على النصف!................................................... ١٢٩
المرأة في مجال الشهادة.................................................... ١٣٢
نكتة أدبيّة في الآية...................................................... ١٣٥
المرأة في مجال القضاء..................................................... ١٣٦
المرأة في مجال الحضانة.................................................... ١٣٧
الطلاق والعِدة والعدد.................................................... ١٣٩
واضربوهنّ!............................................................. ١٤٩
(وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)........................................ ١٥٨
تعدّد الزوجات.......................................................... ١٦٢
تعدّد زوجات النبيّ....................................................... ١٦٧
تحرير الرقيق تدريجياً...................................................... ١٧٤
خرافات جاهليّة بائدة....................................................... ١٨٦
الجنّ في تعابير القرآن..................................................... ١٨٧
کلام عن مسّ الجنّ...................................................... ١٩٠
التشبيه في رؤوس الشياطين............................................... ١٩١
أوصاف جاءت على مقاييس عامّة........................................... ١٩٥
الحُور العين............................................................. ١٩٦
الأشجار والأنهار........................................................ ١٩٩
ابيضاض الوجوه واسودادها............................................... ٢٠٠
كلام عن السحر في القرآن.................................................. ٢٠٢
أقسام السحر........................................................... ٢٠٥
سَحَرَة فرعون............................................................ ٢٢٠
سَحَرة بابل............................................................. ٢٢٢
النفاثات في العقد........................................................ ٢٢٤
ظواهر روحيّة غريبة...................................................... ٢٢٧
كلام عن إصابة العين...................................................... ٢٢٩
نظرة فاحصة عن إصابة العين............................................. ٢٣٢
هل تأثر القرآن بالشعر الجاهلی؟............................................. ٢٣٧
الاقتباس................................................................ ٢٣٨
هل فی القرآن
تعابیرجافیة؟.................................................. ٢٤٠
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَهَا)................................................ ٢٤٠
(فَخَانَتَاهُمَا)........................................................... ٢٤١
الباب الثالث ـ موهم الاختلاف والتناقض........................................ ٢٤٣
كلام عن موهم الاختلاف في القرآن............................................ ٢٤٤
السلامة من الاختلاف إعجاز!.............................................. ٢٤٨
الأسباب الموهمة للاختلاف.................................................. ٢٤٩
هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتّقين.................................... ٢٥٢
ولا تزر وازرة وزر أخرى................................................... ٢٥٣
وصاحبهما في الدنيا معروفاً............................................... ٢٥٥
إن الله لا يأمر بالفحشاء................................................. ٢٥٦
ألف سنة أو خمسون ألف سنة............................................ ٢٥٧
خلق السماوات والأرض في ستة أيّام....................................... ٢٥٨
تسأؤل بعضهم بعضاً..................................................... ٢٦٠
لا أقسم بهذا البلد....................................................... ٢٦٢
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم............................................ ٢٦٣
والوزن يومئذ الحقّ........................................................ ٢٦٤
مواطن القيامة متفاوتة.................................................... ٢٦٦
الله يتوفّى الأنفس حين موتها............................................... ٢٦٨
ولا يكتمون الله حديثا.................................................... ٢٦٩
مضاعفة العذاب........................................................ ٢٦٩
التكليم من وراء الحجاب.................................................. ٢٧٠
نظرة أو انتظار؟......................................................... ٢٧١
التناسي أو النسيان...................................................... ٢٧٢
كسب التأنيث والتذكير.................................................. ٢٧٣
فرعون يُقتل أبناء إسرائيل قبل بعثة
موسى أم بعدها؟......................... ٢٧٥
التقدير أزلاً أم في ليلة القدر؟............................................. ٢٧٦
متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافي التقدير
مع الاختيار؟......................... ٢٧٧
إن منكم إلاّ واردها...................................................... ٢٧٩
فتبارك الله أحسن الخالقين................................................ ٢٨١
عبس وتولّى............................................................. ٢٨٢
أسئلة مع أجوبتها لابن قتيبة................................................. ٢٨٦
اختلاف القراءة هل يوجب اختلافاً في
القرآن؟............................... ٢٨٧
القرآن شيء والقراءات شيء آخر.......................................... ٢٨٨
موهم الاختلاف والتناقض زيادة على ما
سبق.................................. ٢٩١
مطاعن ردّ عليها قُطب الدين الراوندي..................................... ٣٠٣
الباب الرابع ـ هل هناك في القرآن
مخالفات........................................ ٣١١
مخالفات علمية؟!............................................................. ٣١٢
هل هناك في القرآن ما یخالف
العلم؟.......................................... ٣١٢
ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين............................................... ٣١٢
وَلكِن تعمى القلوب التي في الصدور!...................................... ٣١٨
فتبسم ضاحكاً من قولها.................................................. ٣٢٠
فخلقنا المضغة عظاماً؟.................................................... ٣٢١
وجعلناها رجوماً للشياطين................................................ ٣٢٢
سبع سماوات عُلا........................................................... ٣٢٨
مسائل ودلائل............................................................. ٣٣٤
١ ـ (كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ)............................................ ٣٣٤
٢ ـ (فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرَائِقَ)............................................... ٣٣٤
٣ ـ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ)............................................. ٣٣٦
٤ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ
خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)........................... ٣٣٧
٥ ـ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ).............................................. ٣٣٧
٦ ـ (وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)............................ ٣٣٩
٧ ـ (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ)............................................... ٣٤٢
تقاسيم الأرض.......................................................... ٣٤٣
محتملات ثلاثة.......................................................... ٣٤٣
أرضون لا تُحصى........................................................ ٣٤٤
المختار في تفسير «مِثْلَهُنَّ»............................................... ٣٤٥
٨ ـ (وَجَدَهَا تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)........................................ ٣٤٨
أخطاء تاريخيّة!............................................................. ٣٤٩
مشكلة هامان........................................................... ٣٤٩
فأوقد لي يا هامان على الطين!............................................ ٣٥٤
صناعة الآجر واستخدامه منذ عهد قديم!................................... ٣٥٥
قولة اليهود : يدالله مغلولة................................................ ٣٥٦
قولة اليهود : عزيز ابن الله!............................................... ٣٦٢
قال اجعلني على خزائن الأرض............................................ ٣٦٣
عامّ فيه يُغات الناس وفيه يعصرون......................................... ٣٦٤
فاليوم ننجّيك ببدنك.................................................... ٣٦٦
من هو فرعون موسى؟...................................................... ٣٦٧
(كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ).......................................... ٣٦٧
شبهة وجود اللحن في القرآن................................................. ٣٦٨
لیس فی القرآن لحن...................................................... ٣٦٩
(وَقَطَّعْنَاهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا)...................................... ٣٧٥
(وَنُقَدِّسُ لَكَ)........................................................ ٣٧٦
ثم قال له كن فيكون..................................................... ٣٧٦
(وَكَانَ وَرَاءَهُمْ
مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)............................... ٣٧٨
(وَطُورِ سِينِينَ)........................................................ ٣٧٩
(سَلَامٌ عَلَى إِلْ
يَاسِينَ)................................................. ٣٨١
(وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا).......................................... ٣٨٢
ثلاثة قروء.............................................................. ٣٨٣
الالتفات وتنوّع الكلام................................................... ٣٨٤
(جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ).................................................. ٣٨٧
(قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)............................................. ٣٨٧
(تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا).......................................... ٣٩٠
أتيا أهل قرية استطعما أهلها.............................................. ٣٩١
إنّما البيع مثل الربا........................................................ ٣٩١
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ).................................... ٣٩٢
(هَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)................................................. ٣٩٣
موارد زعموا فيها مخالفات في عود
الضمير!..................................... ٣٩٥
تغليب جانب ذوي العقول................................................ ٣٩٧
استعارة تخييليّة........................................................... ٣٩٨
مًثنّى يراد به الجماعات.................................................... ٤٠١
جمع يراد به الاثنان فما فوق.............................................. ٤٠٢
يجوز في جماعة غير ذوي العقول اعتبار
جمع التأنيث.......................... ٤٠٦
التعبير عن العقلاء بـ «ما» الموصولة........................................ ٤٠٨
ضمائر تخالف مراجعها................................................... ٤١٢
ما يستوي فيه المفرد والجمع............................................... ٤١٥
الباب الخامس ـ القصص القرآني................................................. ٤١٨
أسلوب القصّة في القرآن.................................................... ٤٢٠
ميزات القصّة في القرآن..................................................... ٤٢١
أغراض القصّة في القرآن..................................................... ٤٢٥
أسرار التكرار في القصص القرآني............................................. ٤٣١
الحرّية الفنّية في قصص القرآن................................................ ٤٣٢
حالات كائنة أبرزها الترسيم.................................................. ٤٣٧
القصّة في القرآن حقيقة واقعة................................................ ٤٣٩
وقفة فاحصة؟............................................................. ٤٤٩
حديث بني آدم!........................................................... ٤٥٢
حديث الطوفان والسفينة.................................................... ٤٥٤
حديث عاد وثمود وقوم هود................................................. ٤٥٤
ناقة صالح!................................................................ ٤٥٨
حديث سدوم!............................................................ ٤٦٠
أصحاب الكهف والرقيم!................................................... ٤٦١
من هم أصحاب الكهف!................................................ ٤٦٣
متى كان هذا الهروب واللجوء؟............................................. ٤٦٥
حديث ذي القرنين؟........................................................ ١٦٨
نحو مغرب الشمس؟..................................................... ٤٧٥
وجدها تغرب في عين حمئة!............................................... ٤٧٨
من هم يأجوج ومأجوج؟.................................................. ٤٨٧
يأجوج ومأجوج في التاريخ................................................ ٤٩٥
أين السدّ وأين موضعه الآن؟.............................................. ٤٩٧
التحضّر البشري في عهد ذي القرنين....................................... ٤٩٧
سدّ كورش (ذي القرنين) التاريخي؟......................................... ٥٠٥
بناء جدار«دربند»....................................................... ٥٠٨
جدار«دربند»........................................................... ٥٠٩
شكوك حول كورش : هل هو ذوالقرنين؟................................... ٥١٢
ذو القرنين في الروايات................................................... ٥١٥
إزاحة شبهات؟!......................................................... ٥١٦
كورش هو ذلك العبد الصالح؟............................................ ٥١٧
وثيقة إعلان حقوق الأمم................................................. ٥٢١
أنا كورش............................................................... ٥٢٢
وثيقة إعلام تحرير اليهود.................................................. ٥٢٣
هنا ملحوظة؟........................................................... ٥٢٦
سدّ مأرب العظيم!......................................................... ٥٣٠
من الذي بنى سدّ مأرب؟................................................. ٥٣٥
سور الصين الكبير!...................................................... ٥٤٢
لمحة عن الإسكندر المقدوني!............................................... ٥٤٦
تسع آیات إلى فرعون وقومه!............................................. ٥٥١
لمحة عن حياة بني إسرائيل في مصر......................................... ٥٥٥
فهرس الآیات.............................................................. ٥٦٢
المصادر................................................................... ٥٩٢
فهرس المواضيع............................................................. ٥٩٨
|