

تقديم
تعاني البشرية اليوم أزمة .. وهذه
الأزمة ليست اقتصادية فالأوضاع الاقتصادية تمشي على ما يرام ، والبشرية تتحسن من
ناحية الدخول اليومي .. والفقر يكافح بشدة وهو يمشي باتجاه الزوال ، والترف المادي
يظلل أمماً كثيرة على وجه الأرض
.. كما ان الأزمة ليست كامنة في الخوف من الحرب حيث ان توازن القوى العالمية وتطور
السلاح النووي عند الأمم المتصارعة أوصل البشرية إلى حالة عجيبة حيث ان القوة
أبطلت القوة ، ولم تعد القوة هي التي بواسطتها يمكن حل المشاكل ، فالسلاح النووي
الموجود في متناول يد البشر بمقدوره أن يفني ٢٣ مثلاً من البشرية الحاضرة ، ولذا
فان البشرية اضطرت مرغمة أن تبحث في موضوع نزع السلاح النووي الرهيب ...
كما أن الأزمة ليست في إدارة وتنظيم
الحياة حيث أن تعقيد الحياة
__________________
وتسييرها الفني الآن
لمما تفخر به البشرية لأن التنظيم والادارة واستعمال الادمغة الالكترونية شيء عجيب
لمن يطلع عليه ويدرس كيف تسير الأمور فلقد أعلنت احدى الشركات الأمريكية انها ستزل
الى السوق عقلاً الكترونياً يتسع الى ألف مليار من المعلومات وهي تساوي في عالم
الإحصاء واحداً من ألف من جميع المعلومات المتاحة للجنس البشري والموجودة في
مكتبات العالم كلها حيث تصل الى مليون مليار من المعلومات ، ويجري حديثاً الآن
تصميم جهاز بامكانه ان يكلم مائتين وخمسين من السائلين في وقت واحد ، ويقال انه في
أمريكا فقط سيكون لديها في عام ١٩٨٠ ثمانون ألف عقل الكتروني ...
ولكن مع هذا فهناك أزمة تأخذ بالخناق
وتلح وتضغط على العقل البشري المتزن الهادئ وعلى كل من يدرس الأوضاع وينظر بعين
المتأمل الى واقع الحياة البشرية .. هذه الأزمة هي أزمة الضمير والوجدان البشري
الذي لم يذق طعم الراحة والسعادة رغم كل هذه التيسيرات المادية الهائلة. انه مريض
يعاني من مرض عضال قد استعصى حله ، وكل ما نرى في واقع الحياة البشرية انما هو من
نتائج هذه الأزمة .. وانك لتسمع صيحات الخطر والانذار من العقلاء في الأرض جميعاً
من الشرق والغرب على حد سواء وأبرزها صيحة الدكتور ألكسيس كاريل الفرنسي الذي قضى
عمره في دراسة الطب في كتابه ( الانسان ذلك المجهول ) ودعا فيها الى تغيير الحضارة
التي نعيشها وإبراز فكرة أخرى للتقدم البشري ...
ان منشأ هذه الأزمة هو أن كل ما درس عن
الانسان ناقص مشوّه ، كلّ الدراسات على الاطلاق ، وخاصة في علم النفس الذي اعتبر
عاماً
خاضعاً للدراسة فقد
كان العلماء يتعثرون جداً فيه كما تضاربت نظرياتهم وآراؤهم. والسبب في ذلك هو ان
عالم النفس ليس كعالم المادة ، فدراسة المادة بلغت حداً هائلاً من التقدم ولكن علم
النفس يقف كالقزم المشوه الصغير أمام دراسات عالم المادة ، ولكن المهم هو ان علم
النفس قرر وبدأت دراسته ومع الزمن شيئاً فشيئاً تصحو البشرية الى فهم الانسان أكثر
فأكثر ولكن التقدم بطيء واعطاء القواعد الأساسية والمفاهيم الراسخة أصعب ..
هذه الأزمة هي أزمة الشرود عن الله ، هي
المعرفة الناقصة المشوهة المبتورة التي ليس لها علاقة بالذي صمم هذا الوجود وفطره
، والذي أحسن كل شيء خلقه ، ان الانسان الذي يدرس في الوقت الحاضر الدراسات
المختلفة ومنها الدراسة الطبية العجيبة الواسعة يجد ان هذه الدراسة مجزأة فهي
مجموعة مفرقة من المعلومات ، واكداس من ملاحظات ضخمة لا يجمعها شيء ولا يلم شتاتها
خيط؟! .. كما ان هذه الدراسة ـ يشعر الانسان بعد أن ينتهي منها ـ انها ما دلته
بشكل مباشر على القصد والتصميم في خلق الانسان العجيب ..
وكان لهذا الضرب من التفكير والدراسة
النتائج السيئة في العقل والقلب وقد أعطت نتائج معاكسة للشيء الذي يجب أن يصل اليه
الدارس ، لذا كان هذا الكتاب الذي يقوم بهذه المحاولة المتواضعة لاعادة انشاء
الصلة الطبيعية بين هذه الدراسة وبين ما تدل عليه وتقود اليه ..
أولاً : أهملت الدراسة النفسية في الطب
، فكل الأمراض سببها حمات راشحة وجرائيم وطفيليات ولكل مرض أعراضه ، وعندما وضعت
الاسباب النفسية في
الامراض ـ وقد حرث هذا مؤخراً حيث حشدت الاسباب النفسية من جملة الأمراض ـ وضعت بشكل
مبهم غير محدد أو واضح ، بخلاف عرض المرض حينما يكون سببه جرثومياً أو فطرياً أو
طفيلياً ، وهذا خلل بشع في الدراسة مع اعتراف المؤلفين في كتاباتهم ان الأسباب
النفسية الروحية تلعب دوراً هاماً في كل حادث من أحداث البدن ، هذا الخلل البشع
مضاعف الجانبين ، فهناك اهمال من جهة كما ان الدراسات غير متوفرة والمعالم مجهولة
في مثل هذه الأبحاث من جهة أخرى ، ولكن الشيء الذي نقرره هنا في هذه البحث انما هو
: ان الدراسة الطبية أهملت الدراسة النفسية الروحية ، فالدراسة المادية واسعة جداً
وكل فرع له كتابه بل كتبه التي لا تنتهي ، أما الدراسة النفسية فكتاب واحد صغير أو
ملخصات بسيطة يقدم فيها الطالب امتحانه ...
وهكذا يخرج الذي يدرس هذه المادة وهو
متضخم في جانب وضامر بشدة في جانب آخر ، مع ان الدراسة النفسية الروحية يجب أن
تعطى من الأهمية ما للجانب الآخر ، ولعل المستقبل يضطر الباحثين الى الدخول في هذا
الباب ولو لم يريدوا ، ذلك لأن الكثير من أسباب الامراض ومعالجاتها مدخلها نفسي
بحت ..
وثانياً : ان تركيب الانسان بجوانبه
المتعددة التشريحية والفيزيولوجية
والنسيجية كلها تجعل المتأمل ـ حتى بشلك بسيط ـ يخشع ويأخذه
__________________
العجب ـ كل العجب ـ
لهذا التركيب الفذ الفريد. هذا في الجوانب المادية عند الإنسان فقط فما بالك في
الجانب غير المنظور!. ولكن الدراسات والابحاث في هذا المجال كأنها تتعمد اغفال
محصلة هذه الابحاث وتجعله يخرج بنتيجة سلبية عما رأى وعاين ، ومع هذا فان الفلتات
تبدو هنا وهناك وهي تقر وتعترف ولو رغماً عنها بعظمة الإحكام والبناء وروعة
التناسق والعمل ... فالذي يعلم أن هناك ثلاثة عشر ألف مليون خلية عصبية أي ١٣
مليار خلية عصبية ـ والخلية بحد ذاتها بناء محير مدهش كما سيأتي معنا بشيء من
التفصيل ـ تعمل بشكل دقيق محكم متناسق متعاون لتأدية الأغراض الحيوية والفكرية.
والإنسان يدهش للرقم أولاً ثم لكيفية عملها وترابطها وإبداعها!.
كلها أسرار محيرة وألغاز مدهشة يكشف
الطب عن القليل منها والكثير يبقى طي الكتمان حتى يحين الوقت لكشف شيء منه؟ ..
والذي بعلم ان هناك ٧٥٠ مليون سنخ رئوي يعمل لتصفية الدن وذلك بامرار غاز الاكسجين
من الخارج الى الدم الاسود الوارد من البطين الايمن من القلب وطرح غاز الفحم منه
يأخذه العجب كل مأخذ أولاً من عمل السنخ الواحد لان جداره رقيق ، فهو أرق من ورقة
لفافة التبغ حيث يتألف الجدار من طبقتين من الخلايا لا تكاد ترى بالعين المجردة!.
وهذه الملايين المجتمعة من الاسناخ تنقي الدم بشكل مستمر ، وتقوم بهذا الجهد حيث
تنفخ الرئتان حوالي ٥٠٠ مليون مرة خلال الحياة وسطياً.
والكلية تقوم بتصفية الدن من جهة ثانية
وفيها واحات صغيرة جداً لا ترى إلا بالمجهر حيث يتفرع الشريان الذي يغذي الكلية
الى فروع دقيقة جداً حتى يصل الى تفريع شعري لا يرى إلى بالمجهر يلتف حول
نفسه ليشكل ما يعرف
بالكبة وفيها يمر الدم ببطء شديد ويتصفى بالرشح في الكبة قرابة ٢٠٠ ليتر من الدم
يومياً ويعود ليمتص مرة أخرى بواسطة الانابيب الكلوية التي يمر منها قرابة ١٩٨
ليتر ويطرح ليتران فقط وهما اللذان يعرفان بالبول الطبيعي. وهذه الكبب يصل عددها
الى المليون في الكلية الواحدة تقوم بتصفية مئات الالتار من الدن يومياً وان
الروعة لتكمن في العدد وفي بناء الكبة وفي كيفية العمل وفي الروعة الهائلة لتخليص
البدن من السموم التي تدخل جسمه ... والكثير الكثير من أمور الجسم العجيبة التي
سنتناولها بالتفصيل اثناء البحث .. كل هذه الروعة والدقة والحكمة والعظمة والسرعة
والاتقان والمهارة ، كل هذا يقوم على أساس القصد والتدبير والإحكام .. التي يغفل
عنها المؤلفون أو يتجاهلونها.
إن هذا الكتاب سيقوم بتناول الوجهة
الطبية التي تبحث تركيب الانسان أولاً من الوجهة المادية البحتة وهي تركيب الأجهزة
والاخلاط والأعضاء وكيف تقوم بوظائفها ، وعن دقة تركيبها وبنائها النسيجي الى غير
ذلك من الأبحاث ، ثم يتناول بعد ذلك البناء النفسي عند الانسان ـ على ضعف
الامكانيات وغموض البحث وعسر الخوض فيه ـ ثم بعد ذلك عن رحمة الله للبشر حينما
دلهم على ما يوافق تركيبهم المادي والروحي وجزاء الشرود عن هذا الطريق في صوره
المتعددة التي منها الزنى والخمر وغير ذلك مع أبحاث متفرقة تكمل هذا البحث الذي
تعجز المجلدات ومهرة الأدمغة عن الاحاطة به ...
ولا ننسب لأنفسنا القوة أو الامكانية في
خوض هذا البحث العظيم الدقيق ، ولكن على الأقل بعد اطلاع دام سبع سنوات ، علينا أن
نحرر ما وقع نظرنا
عليه ، حتى يعلم الذي لا تسنح له الفرصة بالاطلاع على ما اطلعنا عليه مقدار عظمة
الله في نفسه ، وسيكون هذا البحث قدر الامكان مزوداً بالرسوم التوضيحية ، وبعد كل
هذا نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع ونفس لا تشبع ، كما نعوذ
به من فتنة القول وفتنة العمل ..
ونأمل في هذا البحث أن لا نقع في الزلل
والمعذرة للقارئ إذا وجد ذلك فهذا تركيب الانسان .. « وخلق الإنسان ضعيفاً »
...
خالص جلبي كنجو
* * *
مدخل البحث
المصادفة
والقصد أو التصميم
كل ما في الكون ابتداء من بناء الذرة
حتى أعقد أشكال الحياة يشير الى التصميم والقصد في بناء الكون الحياة ، ولكن مع
هذا فهناك شبهة تدور في ذهن البعض وهي رد كل شيء الى « الصدفة » ... والحق يقال ان
الصدفة بذاتها أو فكرة المصادفة أو الاحتمالات لها قانون قائم بذاته يدرسه طلاب
الجامعات في كلية العلوم وله بحث قائم بذاته فليس هناك مجال لخبط عشواء ...
والآن ما هي فكرة المصادفة؟
هناك فرق بين شيئين الأول هو خلق الشيء
، والثاني ترتيب الشيء أو تركيبه حيث ان فكرة المصادفة لا يمكننا ان ندخلها البحث
الأول لأن الموجود لا تحكمه قانون المصادفة بحال من الأحوال ، وأما تركيب الأشياء
فقد يبقى موضع بحث ، كما أن حركة الشيء لا يمكن أن يرد الى المصادفة ، وهكذا تجد
ان قانون المصادفة يبقى مشوهاً مبتوراً منذ الأساس ، فإلقاء حجر النرد ذي الوجوه
السداسية قد تلعب الصدفة دورها
فيتكرر رقم واحد خمس
مرات أو ست مرات أو أكثر ، ولكن احتمال هذا نادر جداً كما أن احتمال سحب أوراق
مرقمة من ١ ـ ١٠ وموضوعة في كيس واحد بصورة مرتبة متدرجة ( بحيث ان الرقم ١ يأتي
في الأول ثم تتبعه الأرقام التالية بالترتيب ) احتمال ضعيف ونادر ولكن أين لقانون
المصادفة أن يلعب دوره في الوجود أصلاً أو في حركة المادة من الأساس؟!
وهناك فكرة الحياة أو ظاهرة الحياة حيث
يبقى قانون المصادفة عاجزاً عند هذه العتبة. فترتيب المواد بكيفية ما قد يوضع في
مدار البحث ولكن انبثاق الحياة من الموات يبقي كل من يريد أن يبحث عاجزاً عن
التفسير كليلاً في البحث وهذه نقطة أخرى جديرة بالنظر.
أولاً : أما قانون المصادفة فصيغته
الحرفية : ان حظ
المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة
المتزاحمة. وإليك مثلاً يوضح هذه الصيغة ، وقد مر
معنا وهو : وضع عشرة أرقام مرقمة من واحد الى عشرة في كيس واحد. فان احتمال ان
يكون الرقم واحد هو الأول احتمال واحد من عشرة لأن كل رقم من الأرقام العشرة قد
يكون هو المسحوب ، فالمصادفة ليس لها وجدان ولا ذاكرة كما يقول الرياضي الكبير
جوزيف برترند.
وثانياً : ان تطبيق هذا القانون انما
يتم على المادة غير الحية ، فدراسة الاحتمال على ضغط غاز في وعاء أو خليط من غازات
قد يصح ولكن على الخلية وباقي الحياة فانه يقف ، لان الترابط في الخلية مع ظاهرة
الحياة معجزة ومحيرة الى حد يجعل هنا القانون غير ساري المفعول في هذا المجال ..
وثالثاً : حتى يمكن فهم هذه المسألة
المعقدة فسوف نضطر الى ذكر
بعض أمثلة تحدد هذا
القانون ونبدأ بالبسيط حتى نصل الى الصعب المعقد.
المثل الأول : هو دور المصادفة في المثل
الأول الذي مر معنا وسوف آخذه بالتفصيل الآن ، لو كان معنا كيس فيه عشرة أرقام من
١ ـ ١٠ وأردنا أن نسحب ورقة واحدة فان احتمال أن يكون الرقم واحد هو الأول هو
احتمال واحد من عشرة لانه كما ذكرنا كل رقم قد يكون له الحظ في أن يكون هو المسحوب
ولكن المثل يعتقد بشدة أكثر عندما نريد أن نسحب رقمين متتابعين فان احتمال أن يكون
الرقم واحد ثم يتبعه الرقم اثنان هو احتمال واحد ضد مائة لاننا لو فكرنا كيف سيتم
الأمر فان احتمال رقم واحد ثم تنبعه الارقام الباقية بشكل غير محدد مثل واحد يتلوه
سبعة أو واحد يتلوه ثلاثة حتى يكتمل نصاب عشرة مرات ثم بقية الأرقام بالطريقة
نفسها فيكون المجموع مائة مرة وهي احتمال أن نسحب رقمين متتاليين ويكون الرقم
الأول واحداً والثاني اثنين ثم يتعقد المثل أكثر عندما نريد أن نسحب ثلاثة أرقام
متتالية بحيث تخرج الارقام واحد ، اثنان ، ثلاثة متتابعة فيكون احتمال ذلك هو
واحداً صد ألف ، وهكذا نتدرج في التعقيد والصعوبة حتى نصل الى حد عجيب وهو اذا
أردنا أن نسحب الارقام العشرة مرتبة بعضها تلو بعض بحيث تخرج الارقام من واحد الى
عشرة متتابعة فان احتمال هذا هو واحد ضد عشرة مليارات ، أي اننا إذا أردنا أن نسحب
الاوراق عشرة مليارات مرة فان احتمال أن تخرج الارقام مرتبة بعضها تلو بعض بشكل
متدرج من ( ١ ـ ١٠ ) هو مرة واحدة ، قد تكون المرة الاولى هي التي ستكون المطلوبة
ولكننا لا ننتظر معجزة لان الطبيعة شريفة غير مخادعة ولان احتمال عشرة مليارات هو
الذي يرد الى الذهن قبل
المرة الواحدة؟! ..
وهذا مثل بسيط جداً وهو سحب أرقام وسننتقل الى ضرب أمثلة معقدة أخرى بحيث اننا
سنصل الى أن نعطي للمصادفة الصفر وهي الاستحالة وستأتي معنا!! ..
والآن إلى مثل آخر وهو من عالم الادوية
والصيدلة ، لنفرض ان لدينا صيدلية مليئة بأنواع مختلفة من المعاجين والأحماض
والاسس والمراهم المنوعة والادوية العديدة ، ثم فجأة حدث اهتزاز أرضي بحيث ان هذه
الرفوف التي تحمل هذا الادوية والمعاجين طرحت كل ما عليها وسالت الأدوية على الارض
واختلطت ببعضها وامتزجت المراهم والمعاجين والمساحيق والسوائل ، ولما مضت الهزة
الارضية رجعنا الى هذه الصيدلية فاذا بنا أمام خليط غير متجانس من الأدوية ، ان
هذا الفرض هو الاقرب للمعقول ، ولكن كيف الحال لو وجدنا ان هذا الخليط قد حقق جواء
جديداً ليس في البال؟ بالطبع ان هذا مستغرب جداً لان تركيب الدواء يحتاج إلى نسب
معينة محددة والى تفاعلات معينة محددة ، ولكن مع ذلك قد يصدق ، ولكن كيف الحال لو
ان اختلاط هذا الادوية والمساحيق والسوائل والمراهم قد اوجدت دواء جديدا فذا يعالج
مرضا مستعصياً على الاطباء حتى الآن كما في الصدف أو الصلح وهما مرضان جلديان غير
مميتين أو معديين ( من العدوى ). او يشفي أمراضاً مخيفة كالسل والسرطان ان هذا في عالم المستحيل ، لأن تكون
الدواء
__________________
بنسبة معينة وبكيفية
معينة ليشفي مرضاً مخيفاً له حساب احتمالات فوق التصور.
بل كيف لو أن هذا المزيج ركب خلية أو
كائنا حياً سواء أكان نباتاً أم حيواناً بالطبع إن هذا لا يدخل ولا يندرج في البحث
أصلاً لأن امكانيات المصادفة تقف عند هذه العتبة وهي انبثاق الحياة. ومثل آخر يلقي
نوراً في هذا البحث وهو مثل المطبعة .. لو فرضنا انه لدينا مطبعة وفيها نصف مليون
حرف ثم حدثت هزة أرضية القت الحروف بعضها فوق بعض حتى اختلطت إلى حد كبير وتراكمت
فوق الارض ثم عدنا بعد ذلك إلى المطبعة بعد أن انتهت الهزة الأرضة لنرى خليطاً غير
متجانس من الحروف والكلمات ان هذا هو الأقرب للمعقول ولكن كيف الحال إذا رأينا
جملة أو جملتين مفيدتين فيهما معنى جميل أو مثل عميق أو بيت من الشعر بالطبع ان
هذا بعيد جداً ، وحتى لو حدث سيثير دهشة واستغراباً عميقين عند من يرى هذا الشيء ،
وبالطبع ان هذا يعود إلى قانون الاحتمالات وهو هنا تزاحم الحروف حتى تشكل الكلمات
ولقد مر معنا ان سحب عشرة أرقام متتالية واحتمال خروجها مرتبة بعضها خلف بعض
بالترتيب هو احتمال واحد ضد عشرة مليارات ولكن هنا المثل معقد جداً فهو ليس تزاحم
عشرة أرقام بل خمسمائة الف حرف؟! فالمثل يبلغ حداً من التعقيد بحيث ان قانون
الاحتمالات يصل إلى درجة المستحيل فيما إذا رجعنا إلى المطبعة لنجد قصيدة مؤلفة من
ألف بيت من الشعر الموزون الجميل ذي المعنى العميق والوزن المتناسق ولا يوجد فيها
أي خلل لغوي .. بالطبع ان هذا في عالم المستحيل لأنه في عالم الرياضيات ـ وهو عالم
دقيق ـ توجد حسابات دقيقة محددة
ومعلوم فيها ان أي
عدد أو زاوية أو رقم تناهى في الصغر فانه يصل إلى الصفر وهو يعتمد القانون المعروف =( أي لا نهاية ) وهنا أمامنا في قانون الاحتمالات امكانية واحتمال
حدوث هذا الشيء يبلغ رقماً لا يمكن تصوره بحيث انه يملأ من الأصفار صفحات وبحيث
انه لا يقرأ بشكل عملي أي يصل إلى اللانهاية وبالتالي فهو في عالم المستحيل أي
يستحيل حدوثه ، وهكذا يمكن نسف فكرة المصادفة بشكل جذري ونهائي حتى في عالم المادة
قبل عالم الاحياء الذي وقفت عنده فكرة المصادفة.
وخذ مثلاً آخر وهو مثل الانبوب الزجاجي
... فلو فرضنا ان لدينا انبوباً زجاجياً وفيه ألف كرة بيضاء وألف كرة سوداء
والكرات البيضاء تعلو الكرات السوداء ، وهذا الانبوب يتصل من إحدى نهايته بكرة
زجاجية مجوفة تتسع إلى أكثر من ألفي كرة من حجم الكرات الموجودة في الأنبوب
الزجاجي ، فلو القينا نظرة على الانبوب الزجاجي لوجدنا اللون الأبيض واضحاً كما ان
اللون الأسود واضح ، ولكن لو فرضنا اننا املنا الانبوب الزجاجي ( وهو لا يتسع في
قطرة إلا لكرة واحدة فقط بحيث تصبح الكرات بعضها فوق بعض ) بحيث أن الكرات اختلطت
في النهاية المجوفة التي تتسع للجميع فان اللون يصبح رمادياً ، وإذا أردنا ارجاع
الكرات الى الانبوب الزجاجي فان اللون لا يعود كما كان أي الأبيض متميز عن الأسود
بل يصبح اللون رمادياً وذلك لامتزاج الكرات السوداء مع البيضاء امتزاجاً تاماً ..
والآن فان امكانية أن تعود الكرات إلى ما كانت عليه أي الألف كرة البيضاء
منفصلة عن الكرات
السوداء تحتاج إلى احتمال لا يمكن تصوره وهو احتمال ٤٨٩ × ١٠ أي رقم ٤٨٩ مسبوق بـ ٦٠٠ صفر إلى
اليمين وهذا يحتاج الى ملء اسطر عديدة من الاصفار وهو رقم لا يمكن قراءته بحال.
وهذا المثل هو فقط في ناحية اللون مع تماثل باقي الشروط فكيف الحال لو حدث تغير في
شروط اُخرى وأين سيكون قانون المصادفة عند ذلك وهذا كما ذكرنا في عالم المادة فقط
وفي ترتيب الاشياء ..
وهناك امثلة أخرى متعددة في هذا الباب
ولكنا سنختم الامثلة بمثل أخير قام به عالم رياضي سويسري هو تشارلز يوجين جاي على
ذرة واحدة من العضويات والتي يمكن أن تشترك في تركيب خلية واحدة من خلايا الكائنات
التي تعمر هذا الوجود .. ومع أن الوزن الذري لابسط الأحيات هو ٣٤,٥٠٠ وهو آح البيض
ومع ذلك قام بتبسيط أول فاعتبر الذرات ٢٠٠٠ ( الفي ذرة ). وقام بتبسيط آخر فاعتبر
ان الذرات هي نوعان فقط بينما هي في الحالة العادية أربع جواهر على الاقل وهي
الفحم والهيدرجين والاكسجين والآزوت بالاضافة إلى الكبريت والنحاس والفوسفور
وغيرها من العناصر. وقام بتبسيط ثالث وهو اعتبار الوزن الذري عشرة وسطياً مع ان
الفحم ١٢ والاكسجين ١٦ ... فكانت نتيجة الحسابات التي وصل اليها هي أقرب للخيال
منها إلى الحقيقة حيث أن احتمال حدوث هذه الذرة تحتاج لثلاثة أشياء. أولاً :
الاحتمال النظري لحدوث هذه الذرة وثانياً : المادة وحجمها التي بامكانها أن تعين
رقم الاحتمال وثالثاً : الزمن الذي تحتاج اليه نظرية الاحتمالات حتى يمكن تشكيل
هذه الذرة الواحدة فقط؟!! ...
فكان احتمال المصادفة تقريباً ٢ × ١٠ أي مسبوق بـ ٣٢١ صفر إلى يمين الرقم!!!
...
وأما الحجم من المادة الذي نحتاج اليه
حتى تتحقق مثل هذه المصادفة فهو بحجم كرة ضخمة يحتاج الضوء لكي يقطع قطرها الى ١٠
١٦٤ سنة أي رقم واحد أمامه ١٦٤ صفراً ، ونتيجة قراءة هذا الرقم يكون بالسنين
الضوئية وهو ما يعادل المسافة التي لو سار الضوء سنة زمنية كاملة يستطع أن يقطعها
وهي ما تصل إلى رقم ستة ملايين مليون ميل أي ٦ × ١٠ ميل حيث أن الضوء يقطع في الثانية
الواحدة ٣٠٠ الف كيلو متر أو ١٨٦ الف ميل أو كما ذكرنا في السنة الواحدة ١١ مليون
ميل و ١٦٠ الف ميل أو كما ذكرنا في السنة الواحدة ٦ مليون مليون ميل على وجه
التقريب حيث وصلنا الى هذا الرقم بضربه عدة مرات حتى نصل إلى رقم السنه ، فهذه
الكرة المادية التي نحتاج اليها لحدوث احتمال تكون ذرة بسيطة مكونة من الفين من
الذرات وذات نوعين فقط من الجواهر وذات زون ذري وسطياً يبلغ العشرة ( كما ذكرنا
ثلاث تبسيطات لهذه الذرة الوحيدة ) هي ذات قطر يبلغ بالسنين الضوئية ١٠ ١٦٤ سنة؟!!
.. وهذا الرقم يبلغ في علم الفلك أكبر من الكون الذي تخيله انشتاين بـ سكستيليون
سكستيليون سكستيلون مرة ( تشارلز يوجين جاي ) .
وبقي علينا الشيء الثالث وهو الزمن
بالاضافة الى الاحتمال والكون
__________________
المادي فلو فرضنا ان
عامل الخض الحروري هو الذي يعمل وبقدر يبلغ ٥٠٠ مليون تريليون هزة في الثانية
الواحدة أي ٥ × ١٠
/ ثا ، والتي هي من رتبة ذبذبة الضوء ، فان الزمن الذي نحتاج اليه مع كل هذا هو ١٠
بليون سنة.
ولكن يجب أن لا ننسى مع ذلك ان الأرض
على آراء الجيولوجيين لم توجد إلا منذ بليوني سنة كما أن الحياة لم توجد إلا منذ
بليون سنة ( ١ × ١٠
) وهكذا فاننا نجد انفسنا ان الامكانية الزمانية والحجم المادي لا يسعفنا في تحقيق
تكوين ذرة واحدة ( مع وجود الذرات بالأصل أي ليس الخلق ) وهكذا نصل إلى أن نجعل
فكرة المصادفة هي الاستحالة لذرة واحدة. ولكن الكون ليس ذرة واحدة فقط مصممة على
نسق عجيب وتكوين غريب ، فتكوين الذرة مدهش محير وتركيب الفلك مدهش محير ، وتركيب
الخلية مدهش محير ، وتركيب الانسجة مدهش محير ، وتركيب الاعضاء مدهش محير ، كما ان
تركيب الكائن الحي مدهش محير ، وأما النفس فهي ذلك العالم الغامض المجهول الذي
تستشف البشرية بعض مكنونانه الآن ..
وهكذا نرى ان هذه الفكرة مستحيلة وذلك
في مستويات بسيطة وهي كما ذكرنا امثلة منها بناء الذرة الآحية البسيطة ، ولكن
الكون للناظر فيه من الاعاجيب واشكال الحياة المعقدة. بل ان تركيب الخلية بالذات
محير مدهش كما قلنا وسنبحث ذلك فيما سيأتي معنا .. وهكذا نصل الى تقرير قاعدة
أساسية في مستهل ابحاثنا اردناها في هذا الكتاب وهي ان كل هذه الدقة والتعقيد
والجمال والروعة في بناء الكائن الانساني
انما هي من ارادة
الله عز وجل الذي خلق هذا الانسان لهدف مرسوم وغاية محدده ... ( أفحسبتم
انما خلقناكم عبثاً وانكم الينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو
رب العرش الكريم )
المؤمنون ( ايحسب الانسان أن يترك سدى؟
.. ألم يك
نطفة من مني يمنى. ثم كان علقة فخلق فسوى. فجعل منه الزوجين الذكر والانثى. أليس
ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟
) النازعات.
بعض أسرار
الذرة ..
و ...
الخليّة ...
مع
فكرة عن ظاهرة : الموت والحياة ..
نظراً لأن البحث الذي نخوض فيه يجب أن
يكون متكاملاً ولا يشعر القارىء ان فيه فجوات ولذا فلابد من عرض نقطة البحث
الاساسية وهي تكوين الكون بالاصل الذي يقوم على قاعدة الذرة حيث ان بناء الذرة
بالذات معجز ومحير ، استطاع العلماء أن يضعوا له شكلاً رسموه في اذهانهم وتحقق
فعلياً عندما حدثت ظاهرة انشطار ( انفلاق ) الذرة ولكن نتائج ذلك مع الاسف كانت مع
خط التخلف الفكري البشري الذي تمثل في ظاهرة التدمير والحرب التي لا تبقي ولا تذر
فكان القاء القنابل الذرية وتطوير السلاح النووي ..
الـذرة
بناؤها ـ وزنها ـ أبعادها
مع فكرة عن الجدول الدّوري التضيف
العناصر
لمندلييف
الذرة هي أصغر جزء في الكون وقد سميت
باللغة الأجنبية Atom أي الجزء الذي لا يتجزأ ، وقد كان يظن في القديم أنها اصغر شيء
وهي جزء واحد لكل العناصر ، ولكن العلم الحديث وجهود العلماء التي بذلت في القرن
الحالي استطاعا أن يصلا إلى تحديد أساسي جوهري لبنية الذرة. فلقد وجدوا ان الذرة
بتركيبها هي أقرب ما تكون للنظام الشمسي ، فهي تتكون من الناحية المبدئية من ثلاثة
أجزاء : في المركز يتوضع البروتون وهو ذو شحنة ايجابية ومعه النترون وهو ذو شحنة
حيادية وهناك في المدارات الخارجية تتوضع الالكترونات وهي ذات شحنة سلبية ، وعدد
البروتونات الموجودة في النواة تساوي عدد الاكترونات المتوضعة في المدارات
الخارجية ، وهكذا تتوازن الذرة من الناحية الكهربائية ، وأما وزن الذرة فهو يتوقف
بشكل أساسي على البروتون والنترون ، حيث يوازي النترون من ناحية الوزن البروتون
ويشكل معه الوزن الأساسي للذرة. ولقد وجد أن وزن البروتون هو
١,٦×١٠ غرام ، أي أن الغرام الواحد من الناحية
الوزنية يساوي مليون مليار مليار مرة ، أو بكلمة أخرى أن وزن البروتون هو جزء من
مليون مليار مليار من الغرام على وجه التقريب ، والنترون ذو الشحنة الحيادية يقترب
بالوزن من وزن البروتون ، ولذا يشكل مع البروتون كما ذكرنا وزن الذرة. أما
الاكترون فهو أخف من البروتون بكثير وان كان يعادله من ناحية الشحنة الكهربائية ،
فوزن البروتون يساوي ١٨٣٧ مرة وزن الالكترون ؛ ولذا فان الأخير ذو وزن صغير جداً
إذا قيس بالبروتون ، وأما الشحنة الكهربائية للالكترون أو البروتون المتعادلين فهي
تساوي ١,٦ × ١٠
كولون ( وحدة من وحدات الشحنات الكهربية ) ، وأما من ناحية الأبعاد فالذرة تشبه
شكلاً كروياً ، وقطرها ضئيل يعادل الانغستروم ( ١٠ سم ) أي جزء من مائة مليون من السنتمتر
، ولكن العجيب يكمن في ان قطر النواة هو من رتبة ١٠ سم أي أصغر من قطر الذرة بـ ١٠ آلاف
مرة ، بحيث لو اننا كبرنا على سبيل المثال ذرة الهيدرجين مليار مرة فان الذرة تصبح
كرة يبلغ قطرها قدمين ، ولكن الكتلة الذرية أي النواة ستجتمع ( بروتونات ونترونات
) بشكل حبة الرمل في مركز الكرة والسبب في هذا يعود إلى الفراغ الهائل في تكوين
الذرة ما بين البروتونات والالكترونات ، وهو كما ذكرنا ينوف على ١٠ آلاف مرة وهو
في الحقيقة أمر يدعو إلى الدهشة والحيرة في أسرار الذرة وألغازها التي كشف القرن
الحالي عنها.
ونضرب مثلاً على ذلك فنقول : لو أن عشرة
ملايين ذرة اجتمع بعضها بجانب بعض ، فإنها تبلغ طولاً قدره مليمتر واحد فقط ،
والغريب
هو فيما يسمى بعدد
افوغادرو أو الذرة الغرامية فما هي يا ترى أعداد الذرات في غرام واحد من
الهيدروجين مثلاً؟. يقول العلماء انهم توصلوا إلى حساب عدد الذرات الموجودة في
غرام واحد من الهيدرجين بطرق متعددة ومعقدة ، وكلهم اتفقوا على رقم واحد هو ٦,٢ ×
١٠ أي إذا
أردنا أن نسميه فنقول إن غراماً واحداً من الهيدرجين فيه ٦٠٠ ألف مليار مليار ذرة
، وهو عدد يجعل الرأس يدور ويعجز عن التخيل والتصديق وخاصة إذا ضربنا هذا المثل :
وهو لو اننا وضعنا هذه الذرات جانب بعضها بعضاً في خط مستقيم فكم سيكون طول الخط
الذي ستشكله هذه الذرات من غرام واحد فقط من الهيدرجين؟ إن هذا الخط سيكون بطول
٤٠٠ ضعف عن الطول الممتد ما بين الشمس والارض والذي هو ٩٣ مليون ميل لأن الخط هو
٦٠ مليار من الكيلومترات وهم رقم محير فعلاً ..
وأما الألكترونات ذات الشحنة السلبية
والتي تتوزع في المدارات الخارجية فهي تدور حول النواة ولكن بأي شكل يا ترى ، لقد
اختلف العلماء في هذا الصدد ابتداء من الذين اكتشفوا المعطيات الأولى للذرة ومن
جملتهم رذرفورد وبور ، وأخيراً هايزنبرغ الالماني حيث استطاعوا أن يصلوا إلى تفسير
يعتبر عجيباً في حد ذاته عن دوران الالكترون حول البروتون ، فقالوا إنه لا يمكننا
بالضبط أن نعرف في لحظة معينة أين يوجد الالكترون في دورانه حول البروتون ، قد
نقول إنه يحتمل في لحظة ما أن يكون احتمال وجوده أكثر في نقطة دون أخرى ، أما تعيين
ذلك بالضبط فهو غير ممكن ، ولنسمع إلى طرف من أقوالهم في هذا الصدد وهو مبدأ عدم
التأكد. يقول هايزنبرغ : إن معلوماتنا في
لحظة معية عن مكان
أي جسم مادي صغير وحركته ليست دقيقة تماماً ، أي أن هنالك شكاً في صحتها يزداد
كلما كان الجسم أصغر ، وهذا الشك جزء من طبيعة الاشياء ، ولا علاقة له بتاتاً
بخواص الجهاز المستعمل للفحص أو القياس ، وبالتالي فإنه لا يوجد أي واسطة للتخلص
منه ، وهو موجود في جميع القياسات إنما يصبح واضحاً ويجب أخذه بعين الاعتبار فقط
في حالة الاجسام الصغيرة جداً
) ..
وهكذا يمكن القول أن الإلكترون لا يتبع
مساراً معيناً محدداً في حركته حول النواة ، بل هو حر في أن يتحرك في كل الفراغ
المحيط بالنواة ، وكل ما نستطيع معرفته هو احتمال وجود الالكترون في مكان معين في لحظة
معينة ، ولذلك فإن سلوك الالكترون يعين كتابع احتمال باللغة الرياضية.
والعجيب يكمن في سرعة دوران الالكترون
حول النواة التي لا يعادلها شيء سوى سرعة الضوء وهي فعلاً محيرة ولا يمكن تصورها
بل يمكن تعقلها فقط. حيث أن سرعته ان رتبة قطر الذرة كما قلنا هو ١٠ سم أي جزء من مائة مليون من السنتمتر ،
لقد وجد ان سرعة دورانه هي ١٠٠/١ من سرعة الضوء ، والمعلوم أن سرعة الضوء هي ٣٠٠
الف كم في الثانية الواحدة ، فتكون سرعة دوران الالكترون في الثانية الواحدة حول
النواة هي ثلاثة آلاف كيلومتر ، وهو فعلاً رقم محير ومدهش لمن يقف
__________________
ويتأمل أسرار الكون
والحياة ، حيث يضج كله بالحياة والحركة في صورة دوران الالكترون حول النواة ، ولذا
يمكن تصور الالكترون كغمامة مشحونة سلباً تختلف كثافتها من نقطة لأخرى ولكنهما
تزداد في المناطق التي يكون وجود الالكترون فيها اكثر احتمالاً كما ذكرنا ..
ولقد وجد أن أبسط ذرة في الكون هي ذرة
الهيدرجين ، لأن النواة تحمل بروتوناً واحداً ، والمدار الخارجي منه الكترون واحد
، وبتدرّج بناء الذرات بشكل عجيب محير ، حيث يزداد بناء الذرة بروتوناً بروتوناً ،
والمثل على ذلك الهليوم حيث يوجد في النواة بروتونات ، ثم الليتيوم حيث يوجد ثلاثة
ثم البريليوم حيث يوجد أربعة ثم البور خمسة ثم الفحم ستة ثم الآزوت سبعة ، اكسجين
ثمانية ، فلور تسعة ، نيون عشرة ، صوديوم أحدى عشرة ، مغنزيوم اثنتا عشرة ، وهكذا
يتدرج حتى يصل إلى معدن اللانتانيوم حيث له سلسلة خاصة تمتد من رقم ٥٧ ـ ٧١ أي ٥٧
بروتون ، وباضافة واحد ثم واحد تدريجياً حتى نصل إلى معدن له ٧١ بروتون. ( نحن
نذكر البروتون فقط لأن الوزن لا يتعين فقط كما ذكرنا بالبروتون بل مجموع
البروتونات والنترونات ذات الشحنة الحيادية ) ثم يتدرج أيضاً حتى الرقم ٨٩ في
عنصرالاكتانيوم حيث له سلسلة خاصة تمتد من ٨٩ ـ ١٠٣ ، وهذا الترتيب العجيب جعل
الكيماوي الروسي مندلييف يكتشف الجدول الدوري للعناصر الموجودة في الطبيعة ، وكانت
نقطة تحول هامة في فهم العناصر وترتيبها فهي موجودة وفق قانون وليس خبط عشواء كما
دحضنا سابقاً فكرة الصدفة ، فالذرات لمن يراها يتصور مهندساً يرتب الذرات فيضيف
الى السابقة بروتوناً جديداً وعدداً معيناً من النترونات فإذا هو عنصر جديد له
مواصفات جديدة وخواص
جديدة ، فالهليوم
كما ذكرنا فيها اثنان من البروتونات ويأتي بعده الليتيوم وهو عنصر معدني بينما
الأول هو غاز من الغازات الخاملة ، بينما الليتيوم يعتبر من المعادن النشيطة فما
الذي حدث؟ ان هذا لا يقول عنه العلم شيئاً ..
ثم نأتي لنرى كيف تلعب النترونات الدور
المهم في اعطاء الوزن الذري لكل عنصر ، فنحن كما ذكرنا نجد ان وزن الهيدرجين يأتي
من وزن النواة حيث يوجد فيه بروتون واحد فوزنه الذري واحد والهليوم وزنه الذري ٤
وليس ٢ لأن فيه بروتونات ٢ ونترونات ٢ ، واما الليتيوم فوزنه الذري ٦ وليس ٣ لأنه
فيه ٣ بروتونات و ٣ نترونات ، وأما البريليوم فوزنه الذري ٩ لأن فيه بروتونات ٤
ونترونات ٥ ، وهاك أمثلة على ذلك : ( بور B الوزن ١٠ P= ٥ N= ٥ ، فحم = C ١٢ (N ٦+ ٦N ) ، آزوت N١٤
(N٧ +
٧P
) وهكذا ... الخ ) والعجيب في هذا التصنيف الدوري الذي اكتشفه مندلييف انه استطاع
أن يحدد عناصر لم تكن مكتشفة بعد ، لأن ترتيب الجدول الذري يجعل هناك نوعاً من
القفزات أو الفجوة ما بين عنصر وآخر في الوزن الذري وعدد البروتونات ، مما حدا
بمندلييف أنا يتنبأ بأن هذا القانون يحتم وجود عناصر جديدة لم تكتشف بعد ، وفعلاً
اكتشف بعد ذلك وهي الكانديوم والجرمانيوم والفاليوم وتكنتيوم والاستاتين
والفرانسيوم والبروميتوم .. وكان هذا دليلاً كبيراً على الدقة والروعة في بناء
الكون وتدرجه واحكام عناصره.
بقي علينا بعد أن أخذنا هذه الفكرة
المجملة عن تركيب الذرة وعناصرها الأساسية التي هي البروتون والنترون والالكترون
وكيف
تتوزع هذه العناصر
كما تعرفنا على الأوزان والشحنة الكهربية وكيف يدور الالكترون وسرعته ، بقى علينا
أن نعرف كيف تتوزع الالكترونات في المدار الخارجي الذي يحيط بالنواة ..
كما ذكرنا ان عدد الالكترونات يجب أن
يساوي عدد البروتونات الموجودة في النواة حتى تتزن الذرة كهربياً وذلك لتعادل
الشحنات الكهربية حيث لا تؤثر النترونات على التوازن الكهربي باعتبارها حيادية وان
كانت توثر الأخيرة في الوزن الذري للجوهر .. ان الالكترونات لا تتوزع في مدار واحد
بل في عدة مدارات رمز لها باحرف ك. ل. م. ن. K. L. M. N ولقد وجد ان هناك
قانونين يحكمان توزع الالكترونات في المدارات الخارجية ، الأول : وهو النظام
الثماني حيث أن الذرة يلزم لاستقرارها الخارجي أن يكون في المدار الأخير ثمانية
الكترونات ، فإذا لم يوجد هذا العدد عمدت إما إلى طرح الألكترونات الخارجية أو أخذ
الكترونات حتى يكتمل الاتزان الخارجي ؛ والمثال على ذلك الفلور وهو غاز ، فالنواة
فيها ٩ بروتونات و ١٠ نترونات فيكون الوزن الذري ١٩ وفي المدار الخارجي في الطبقة
الاولى كـ K يوجد الكترونات وفي الطبقة الثانية يوجد ٧ الكترونات فيكون مجموع
الالكترونات تسعة وهي تعادل عدد البروتونات الموجودة في النواة ، وهكذا يحصل اتزان
الذرة من الناحية الكهربية ، ولكن كما أسلفنا من ناحية نظام الثماني يوجد من
الناحية الكهربية ، ولكن كما أسلفنا من ناحية نظام الثماني يوجد في المدار الأخير
٧ الكترونات ، ولذا فانها تحتاج إلى الكترون جديد حتى يتزن العنصر من ناحية
التعامل الخارجي ، ولذا يأخذ الكترون وتصبح شحنة هذا الغاز سلبية وذلك لأن عدد
الالكترونات أصبح ١٠ بينما البروتونات تسعة ولذا رجحت كفة الالكترونات بواحد
وهكذا أصبحت شحنة
هذا الغاز سلبية وبقدر شحنة واحدة.
وهكذا تسير الأمور في كل الذرات .. وأما
القانون الثاني فهو أن عدد الالكترونات في كل طبقه من المدارات تتوزع وفق القانون
٢ ن ٢ ٢ N ٢ حيث يرمز N إلى رقم الطبقة ، وهكذا نجد أن الطبقة الأولى فيها الكترونات ( ٢
× ١ = ٢ )
والطبقة الثانية فيها ثمانية الكترونات ( ٢ × ٢ = ٨ ) والطبقة الثالثة فيها ١٨ ( ٢ × ٣
= ١٨ )
والرابعة ٣٢ ( ٢ × ٤
= ٣٢ ) وهكذا يسير هذا القانون الذي يحكم نظام الذرة المدهشة ..
وهكذا نجد أن بناء الذرة بناء فذ مدهش
يتدرج من الهيدروجين حتى اللورانسيوم ، فيكون المجموع العام للعناصر الموجودة في
الكون هي ١٠٣ عنصر منها المعادن ومنها أشباه المعادن ومنها الغازات ومنها العناصر
المشعة ومنها غير المشعة وهي تتدرج بشكل عجيب بإضافة بروتون الى الذي يسبقه وعدد
من النترونات جديد فيتشكل عنصر جديد يختلف عن الذي يسبقه اختلافاً جوهرياً من
ناحية التفاعلات والخواص مع أن الوحدة الأساسية للبناء هي البروتون والنترون
والالكترون لكل العناصر الموجودة في الكون. وهنا نتساءل كما ذكرنا ، فمثلاً عنصر
النيون فيه من البروتونات ١٠ والنترونات ١٠ فيكون الوزن الذري عشرين وبعده مباشر ،
يأتي عنصر الصوديوم وعدد البروتونات فيه ١١ والنترونات ١٢ فيكون الوزن الذري ٢٣
فما الذي أدى ( مع هذا الفارق البسيط بين الاول والثاني ) إلى أن يكون الأول غازاً
والثاني معدناً والأول غازاً خاملاً والثاني معدناً نشيطاً؟. من الذي منح الصفة
وهذه الخاصة ليفرق
الثاني عن الأول مع أن الثاني يأتي مباشرة بعد الأول ، ولا يفرق عنه إلا ببروتون
واحد فقط وباثنين من النترونات؟؟ بالطبع لن يستطيع العلم أن يجيب على هذا السؤال!.
وختاماً لهذا البحث سوف نورد مثلاً
ظريفاً لأخذ فكرة مبسطة عن الذرة أورده أحد العلماء هو ستورمر ، تخيل هذا العالم
الكون الحالي ثم أراد أن يكبر الحجم للموجودات مع المحافظة على النسبة الكائنة بين
الأبعاد وذلك لتصور القياس الذري وصعوبة إدراكنا لذلك فقال :
لنكبر الحاجيات ١٠٠ مرة في البدء يصبح
الرجال مردة ، فتصل قامتهم إلى ما يعادل نصف برج إيفل ، ونصبح النحل حيوانات مخيفة
لها أبعاد الثيران ، وإن الشعرة التي سمكها ١٠/١ ملم تصبح حبلاً سميكاً من رتبة ١
سم ، ثم لنتخيل أننا نستطيع تكبير هذا العالم الجديد ١٠٠ مرة أيضاً أي أن العالم
الأولي يكون قد كبر ١٠,٠٠٠ مرة فيصبح بعد الرجال بعد الجبال الشاهقة التي يتراوح
ارتفاعها ما بين ١٥ و ٢٠ كم متر ، كما وأن النحلة يصبح بعدها مئات الأمتار ، وتصل
سماكة الشعرة إلى واحد متر كما وإن الجراثيم الصغيرة التي لم تكن أبعادها تذكر في
العالم القديم نظراً لصغرها والتي هي من رتبة جزء من ألف من الميلمتر يصبح لها بعد
مساو لسنتمتر واحد ، ثم لنمدد هذا العالم الحاصل ١٠٠ مرة أخرى أي يكون قد مدد
العالم الأولي مليون مرة حيث يصبح قطر الشعرة مساوي إلى ١٠٠ متر وتصبح الجراثيم
كائنات من رتبة متر واحد ، غير أن بعد الذرات لا يزال في هذا العالم الخيالي
صغيراً جداً ولا يتجاوز عشر المليمتر ، ثم لنعمل تمديداً أخيراً بحيث أن العالم
الأولي يمدد ١٠٠ مليون مرة ، عندئذ تصبح ذرة الهيدروجين واضحة وقطرها مساو لسنتمتر
واحد تقريباً ، وفي ذات الوقت تصبح سماكة الشعرة مساوية
الى ١٠ كم وتصبح
الجراثيم وحوشاً هائلة من رتبة ١٠٠ متر ، وأما البشر ؟!!
ونختم البحث برسم توضيحي مبسط للجدول
الدوري للعناصر الذي تناولناه فيما سبق حتى يكتمل البحث :

الرقم العلوي للعنصر يرمز الى عدد
البروتونات الموجودة في النواة ، والرقم السفلى يشير الى الوزن الذري على وجه
التقريب بدون كسور ..
__________________
بعض
اسرار الخليّة
كما أن الذرة هي أصغر جزء في المادة
سواء كانت من المادة أو من تشكيلات الحياة المعقدة ، كذلك تعتبر الخلية حجر الأساس
في بناء الكائن الحي بمجموعه العام ، ومن الخلية يبدأ سر الحياة المحير ، حيث نرى
ظاهرة تدب في مجموعة المادة الميتة فتنبثق الحياة وتسير وتتعقد حتى تصل إلى تكوين
أكرم الكائنات وأشرفها ألا وهو الانسان ، والخلية بحد ذاتها وتركيبها الخاص تبدو
فيها ظاهرة الإعجاز ، ومن أسرار الخلية المحيرة تنبثق بقية أنواع الحياة وأنماطها
...
في الإنسان من مجموعة الخلايا التي تقوم
بعمل واحد يتشكل النسيج ، ومن مجموعة الأنسجة التي تتضافر لتؤدي مهمة واحدة يتشكل
العضو ، ومن مجموعة الأعضاء يتشكل الجهاز ، ومن مجموعة الأجهزة يتشكل الكائن الحي
بإعجاز وتفرده الفذ المدهش المحير ...
تتكون الخلية على وجه العموم من حجرة
يغلفها غشاء مضاعف وتملأ هذه الحجرة مادة سائلة اختلفوا على حقيقتها ، هل هي شبه
غروية أم لا؟ وتستقر في هذه المادة السائلة المسماة بالسيتوبلاسما النواة وفيها
يكن سر الحياة للخلية ، لأن الخلية إذا جردت من النواة لم تستطع أن تتابع سيرها في
الحياة ، والنواة بناؤها أيضاً دقيق فيحيط بها أيضاً غشاء
نووي مضاعف ويستقر
داخلها أهم شيء في الخلية وهو ما يسمى بالموروثات التي يتم بواسطتها نقل صفات
النوع الى ذاريه كما يستقر داخل النواة نواة لها تسمى بالنّوية بالاضافة الى شبكة
كروماتينية ...
يبلغ وزن الخلية ( ويمثلها خاصة نطفة
الانسان ، التي يتم بواسطتها التلقيح مع بويصة المرأة لإنشاء خلية جديدة كاملة يتم
خلق الانسان منها فيما يعد ) تبلغ من الوزن ١٠
غرام أي جزء من مليار من الغرام وهي فيما إذا قورنت ببيضة النعامة التي تبلغ من
الوزن ١٠٠ مائة غرام فان بيضة النعامة التي يتخلق منها ولد النعامة تكون أكبر من
ناحية الوزن بـ ١٠٠ مليار مرة ، وإذا ما قورنت مع بيضة الضفدع فان بيضة الضفدع
أكبر من ناحية الوزن من نطفة الانسان بـ ١٠٠ مليون مرة ، وهذه الأرقام توحي بمدى
صغر النطفة الانسانية التي تكون الانسان ولكنها من ناحية الفعالية والنتيجة شيء
مدهش للغاية ، لأن الخلية الانسانية الأولى لمجرد أن تتكون تبدأ من الانقسام بشكل
سريع ودقيق وهادف حتى تنقسم ما يقرب من خمسين انقساماً ، ويكون عدد الخلايا
الانسانية عند ذلك بالملايين وهي مستعدة للتخصص فيما بعد ..
يبلغ قياس أقطار الخلية بالميكرونات
فالكرية الحمراء مثلاً والتي تشكل أهم خلايا الدم تبلغ وسطياً حوالي ٧ ميكرونات من
ناحية قطرها ، والميكرون كما هو معروف يمثل جزء من ألف من الميلمتر أي أن قطر
الكرية الحمراء يبلغ ٧ سبعة أجزاء من الألف من الميلمتر وهذا رقم صغير جداً أمام
أضخم وأكبر خلية وأكبرها في الجسم والتي هي البيضة التي يقذفها المبيض عند المرأة
حيث يصل قطرها الى حدود مائتي ٢٠٠ ميكرون ، ولقد استطاع المجهر العادي أن يرى
الخلية بشكل حجرة ، وكان هذا حدثاً مهماً في تاريخ البشرية حيث كشف ان الكائنات
الحية تتكون من مجموعة هائلة من الخلايا التي تجتمع فيما بينها لكي تؤسس
جهازاً واحداً يقوم
بوظيفة واحدة ، ومن مجموعة الأجهزة التي تتناسق أيضاً مع بعضها في العمل لكي يتكون
الكائن الحي ...
وتعتبر الحمات الراشحة أيضاً من الخلايا
الوحيدة وكذلك الجراثيم ، أما الجراثيم فلقد استطاعت المجاهر العادية أن تراها ،
وأما الحمات الراشحة فلم تستطع المجاهر العادية رؤيتها ، وبفضل التقدم العلمي
استطاع العلماء أن يصلوا إلى اختراع مجهر عظيم في تكبير الأشياء حتى يتسنى للعين
البشرية رؤيتها ، فلقد أمكن بواسطة هذا المجهر الجبار تكبير الأشياء قرابة ثلاثين
إلى مائة ألفمرة ويزيد ، وهكذا استطاع العلماء أن يروا ولأول مرة الحمة الراشحة
التي كانت تسبب الكثير من الأمراض ووجدوا أن للحمات الراشحة أنواعاً وذراري وفصائل
مختلفة منها ما يسبب مرض الجدري وشلل الاطفال والحصبة وسواه ، والمهم أنهم رأوا
بأعينهم هذه الحمات التي كانوا يتهمونها بإحداث هذه الأمراض ، وحتى أن بعض
النظريات التي تدرس موضوع السرطان اتهمت الفيروس أي الحمة الراشحة بإحداث مرض
السرطان ولكن لم يحصل برهان قاطع يدعم آراءهم ... واستطاع المجهر الالكتروني فضلاً
عن ذلك أن يرى الذرات البروتينية الكبيرة التي تبلغ في أبعادها حدود مائة ١٠٠
انغستروم وهو جزء مائة مليون من السنتمتر ، ويرمز له بالرمز A وكذلك الحموض الامينية التي تبلغ حدود عشرات A أنغستروم ، ولكن
قدرة المجهر الالكتروني تقف عند أبعاد الجوهر والتي هي في حدود ٢ ـ ٤ A وقد يتغلب على
هذا العائق اختراع المجهر البروتوني الذي سيكبر أبعاد الاشياء في حدود ٨٠٠ ألف مرة
أو حتى المليون والمستقبل هو الذي سيطلعنا على هذا الشيء ...
تخصص الخلية :
عندما تتخصص الخلية يحدث أمر على درجة
كبيرة من الأهمية ، فالخلية العادية نفسها تتحول لتؤدي دوراً معيناً يختلف باختلاف
المكان الذي تقبع فيه كما تختلف باختلاف الزمن الذي تمر به ، فهي الخلية العادية
في الجسم تصبح على سطح الجلد متقرنة متوسفة تتساقط من على الجلد بعد أن قامت بدور حمايته
وهي في العضلات مجموعة ألياف متراصة تقوم بعمل التقلص العضلي ، وهي في البانكرياس
تقوم بدور الأفراز الداخلي كالانسولين والغلوكاكون وهما هورمونان ينظمان السكر في
الدم وبدور الافراز الخارجي حيث تصب عصاراته عن طريق قناة ويرسونك التي تلتقي مع
القناة الكبدية الجامعة حيث يصب الجميع في العقج وهي تحوي الخمائر الهضمة لمواد
الطعام الثلاثة أعنى السكريات والبروتينات والشحميات ، وهي في الدرق تقوم بفرز
هورمون التيروكسين الذي يلعب دوراً هاماً في أشياء كثيرة منها الحرارة والاستقلاب ، كما ان الخلية في الامعاء الدقيقة
تقوم بدور الامتصاص من الزغابات المعوية حيث تنفذ المواد بسرعة مدهشة إلى داخل
الزغابة بفضل الخلايا التي تمتص بسرعة حيث تمر المواد بدورها الى الاوعية الدموية
واللنفاوية التي تنقل المواد بالتالي إلى مركز الجمارك العام وهو الكبد.
والخلية في جهاز التنفس تلعب دوراً
مهماً في جعل الجدار للسنخ الرئوي حساساً جداً لمرور الغازات وهما ائنان الأكسجين
وغاز الفحم ، حتى يتصفى الدم بشكل رائع ويصبح حاملاً للأكسجين إلى الأنسجة العطشى
له حتى يجري الاستقلاب والاحتراق ونشر القدرة وبث الحياة ، والخلية المتمثلة في
الدم بالكرية الحمراء هي التي تحتوي المادة عظيمة
__________________
الفعالية وهي
الهيموغلوبين الذي يقوم بجعل الاكسجين إلى الانسجة وفي طريق العودة حمل غاز الفحم
ليطرح عن طريق الرثتين وبالتالي تخليص البدن من زيادة الفاسدة في الجسم ، أو أن
الخلية المتمثلة في الكرية البيضاء التي تقوم بفعل المناعة في الجسم وبلع الجرائيم
الداخلة إلى البدن وإحداث المعركة الضارية لصد الغزو الجراثيمي أياً كان مكانه في
الدبن وذلك عن طريق إنسلال الكريات البيض من العروق الشعرية الى الخارج تحت الجلد
حيث تسقط تلك الخلايا المسماة بالكريات البيض ميتة وهي تدافع ع الدبن ، وما القيح
الذي نراه ـ في الحقيقة ـ إلا اشلاء تلك الكريات المدافعة عن العضوية في سبيل
انقاذ الجسم ، وأما الخلية في العين فهي الحساسة بشكل رائع بالنور والمتمثلة بشكل
محيط في العين بشكل المخاريط التي تتحسس للنور القوي والالوان والعصيات المتحسسة
بالنور الضعيف الابيض فقد ، والخلية في الأذن هي التي تشترك في تلقي السمع ونقله
بواسطة الاعصاب إلى مراكزه العليا حتى يفهم على أتم وجه ، والخلايا في العظام هي
التي ترتشح بالكنسي لتجعل العظم قاسياً يتحمل الضغوط والهزات ، والخلايا في مراكز
التناسل تتهيء بشكل خاص حيث سنتناولها في البحث ، وابرزها شكل النطفة حيث نري شكل
النطفة مؤلفاً من رأس وعنق وذمب وحيث نرى البيضة الكبيرة التي سيلتقي بها الحيوان
المنوي بشكل مدور كبير.
وأخيراً ، عندما نكلم عن الخلايا ،
لننظر في الخلايا العصيبة التي تتوزع في قر الدماغ على ستة طبقات ومن هذه الطبقات
تتوزع الخلايا أنواع العمل فشيء للحس وآخر لحركة وآخر للذوق وآخر للإشراف عل
الأعمال البدنية ، وأما الإدراك والتفكير والتخيل ففي أي الخلايا يقع هذا العمل
المدهش ، إن العلم لا يستطيع أن يجيب على هذه الأسئلة لأنها ليست من اختصاصه
تماماً ...
استهلاك الجسم للخلايا :
يستهلك الجسم من خلاياه حوالي ١٢٥ مليون
خلية في الثانية الواحدة اي بمعدل ٧٥٠٠ مليون خلية في الدقيقة الواحدة وكمثال على
ذلك فإن احد قطاعات الجسم وهو الوسط الداخلي الدموي يستهلك من الكريات الحمر في كل
ثانية حوالي مليوني كرية حمراء ، أي يستهلك في الساعة الواحدة أكثر من عدد سكان
العالم بحوالي خمس مرات ، وذلك لأن الدم الذي يصل حجمه الى خمس ليترات في جسم
الإنسان يحتوي في الملم ٣ الواحد وسطياً خمسة ملائين كلية حمراء ، أي أن مجموع
الكريات الحمر في دم الإنسان الواحد يبلغ ٢٥ مليون مليون كلية بحيث أننا لو أردنا
أن نصفّ هذه الكريات جنب بعضها بعضاً على خط واحد ونحن نعرف أن متوسط قطر الكرية
الواحدة يبلغ سبعة ميكرونات فإن الناتج معناً سيكون حوالي (١٧٥) كيلو متر أي أن
بإمكان هذا الخط أن يطوق الكرة الارضية باكمالها ٤ ـ ٥ مرات ، وجرب أن تحسب ذلك
إذا علمت أن قطر الكرة الارضية ١٢٧٥٦ كم و = ١٤ و ٣؟! ..
عمر الخلية :
يختلف عمر الكرية الحمراء التي تمثل
نوعاً من أنواع الخلايا عن أعمار باقي الخلايا ، فهناك الخلايا التي لا تعيش إلا
أياماً معدودة بسيطة ، وهناك الكرية الحمراء التي تعيش وسطياً حوالي شهرين ، وهناك
الخلايا التي تعيش ما عاش الإنسان ، تولد بعدد محدود مقدر وتبقى كما هي لا تزيل
إلا بحالة واحدة وهي النمو السرطاني الخبيث ، كما أنها لا تنقص إلا بالأفات التي
تدمر الخلايا وتتلفها ، ولعلنا نريد أن نعرف ما هي هذه الخلايا؟ إنها أشرف خلايا
الجسم وأندرها وأنبلها إنها خلايا الجملة العصبية المركزية التي يقدر عددها بحوالي
١٤ مليار خلية عصبية على ما
عدها العالم فون
إيكونومو ، وهي التي تسيطر على نشاط البدن وفعاليته جميعا وهي التي يكمن فيها
النشاط الفكري ، والتخيل الذهني ، وشخصية الانسان إجمالاً ، أو كما وصف الدماغ
أحدهم فقال : هذا هو عجيبة الدهر الذي في تلافيفه بنيت المختبرات واستنبطت
الاختراعات ، وبين تعاريجه أسست معاهد العلم ، وعلى تحاديبه نصب ميادين الطيارات والسيارات
، وداخل تجاويفه سطعت الكهرباء ، كتلة صغيرة وسعت ما ضاق به الكون الفسيح ، هذا هو
رافع الإنسان إلى أعلى الرتب وهذا هو أساس العلم والعمران . أو كما أراد أن يصفه العالم الأمريكي
جودسون هويك عندما ألقى محاضرة في معهد التاريخ بنيويورك ديسمبر ١٩٥٧ فقال : لو
جمعنا كل أجهزة العالم من الرادار والتلغراف والتلفزيون والتلفون ثم بدأنا بتصغير
ما اجتمع لدينا حتى توصلنا بهذه الكومة الهائلة من الأشرطة والأجهزة المعقدة إلى
حجم الدماغ فإنها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ؟! ..
الحمات الراشحة :
في الخلية يكمن سر الحياة وخاصته في
النواة حيث ترقد الكروموسومات ( الصبغيات ) التي تحدد الجنس وصفات النوع إلى
الأجيال القادمة ، ولقد وجد أن النقلة من عالم الجماد إلى عالم الأحياء الذي يمتاز
بالتكاثر والتغذي والتنفس والحس إنما تتم عن طريق الخلية التي تظهر أوضح ما يكون
في عالم الحمات الراشحة ، حيث وجد أن بعض الحمات الراشحة تأخذ طوراً صفات الجماد
فيدرسها الكيمياوي على أساس أنها مادة ليست حية فهي تتبلور كما هي في صفات
الجمادات وإن كانت ذرتها كبيرة ومعقدة ، وطوراً آخر يدرسها الجرائيمي على أنها
حمات
__________________
راشحة لأن فيها صفات
الأحياء وهي التكاثر ، ولذا فإنها مخلوقات عجيبة ، والحمات لا تتطفل إلا على
الأحياء ولذا فهي لا تعيش إلا داخل الخلية ولها أنواع متعددة مثل حمة الجدري وحمة
شلل الأطفال وحمة النزلة الوافدة وحمة فسيفساء التبغ والعاثيات وهذه الأخيرة تسطو
على الجراثيم خاصة ، ولذا فإن هذا الانتقال من طور إلى طور وبشكل يدعو للتأمل
والعجب من الجماد إلى الحياة وبالعكس ، إن هذا قد يجعلنا نقول لعل سر الخليقة يكمن
في هذا التحول عندما يقول الله كن فيكون؟!!
تكوين الاعضاء والاجهزة :
في جسم الانسان ألف مليون مليون خلية [
١٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠ ] وهذه الخلايا تشكل مجموع الأجهزة في الانسان مثل جهاز
التنفس ، وجهاز الهضم ، والجهاز البولي ، والجهاز التناسلي ، والجهاز اللنفاوي ،
والجهاز الدموي ، والجهاز العضلي ، والجهاز الصقلي العظمي ، والجهاز العصبي ،
والجهاز الجلدي ، والجهاز الضام ، بالاضافة إلى الحواس كالسمع والبصر والذوق والشم
والإحساس عن طريق الجلد ، فمجموع هذه الأجهزة تتعاون معاً لتشكل كينونة واحدة هي
الكائن الانساني ، كما أن الجهاز الواحد بالذات ينقسم إلى أعضاء مثل الجهاز الهضمي
الذي ينقسم إلى الفم واللسان والحلق والبلعوم والمري والفؤاد والمعدة والبواب
والاثني عشرية والأمعاء الدقيقة ثم الأمعاء الغليظة ثم السين الحرقفي ثم المستقيم
ثم الشرج ، وهو كما نرى يؤلف حوالي ١٢ ـ ١٣ عضواً ، وهذه الأعضاء تتعاون تعاوناً
وثيقاً فيما بينها لتؤدي دوداً بالغ الأهمية بالنسبة للكائن الإنساني وهو التغذية
، ومثل آخر على ذلك جهاز التنفس حيث يشترك الأنف أو الفم في أول مجرى التنفس وخاصة
مجرى الانف ثم الحلق ثم الرغامي ثم القصبات ثم القصيبات ثم الأسناخ الرئوية التي
يبلغ عددها ٧٥٠ مليون سنخ رئوي وتفرش سطحاً مساحته سبعون متر مربع وكله
للتبادل الغازي
بنظام محكم بديع ، وهو كما ترى حولي ٥ ـ ٦ قطع أعضاء ، وهذه الاعضاء تتعاون معاً
تعاوناً وثيقاً لتؤدي غرضاً بالغ الاهمية بالنسبة للكائن الانساني وهو عملية
التنفس وتتلخص في نقل الأكسيجن إلى الكرية الحمراء حيث يرتبط بالهيموغلوبين الموجود
في الكرية الحمراء وهذه تنقلها بدورها إلى الأنسجة العطشى حيث تقوم عمليات الأكسدة
والاحتراق واستنفاذ الغذاء ونشر الطاقة والحرارة اللازمه الضرورية للانسان حتى
يتابع مسيرة الحياة ، ثم نقل غاز الفحم الناتج من الاحتراق عبر الأوردة حتى يصب
مجموعها العام في القلب الأيمن أي الأذينة اليمنى ثم البطين الأيمن ثم ينتقل عبر
الشريان الرئوي إلى الرئتين حيث يجري طرح غاز الفحم إلى الخارج حيث ينقلب الدم
الفاسد الاسود إلى دم أحمر قان يحمل الأكسجين بدلاً من غاز الفحم ثم ينتقل بدوره
إلى القلب الأيسر أي الاذينة اليسرى بواسطة الاوردة الرئوية الاربعة حيث تصب في
أعلى الاذينة اليسرى وبالتالي إلى البطين الايسر ثم عبر الشريان الأبهر أو ما يسمى
بالوتين إلى جميع أجهزة الجسم حيث تتغذى بواسطة الاكسجين والاغذية المنقولة إليها.
الانسجة :
ذكرنا فيما مضى أن الخلايا الموجودة
والتي تشكل الانسان تصل إلى حوالي الف مليون مليون خلية وهذه تتوزع إلى أجهزة
متعاونة متفاهمة ، وهذه الاجهزة تنقسم إلى أعضاء متعاونة متفاهمة متناسقة يكمل
بعضها عمل بعض وتتساند فيما بينها ، وكذلك فإن العضو نفسه ينقسم إلى أنسجة متعاونة
متناسقة يكمل بعضها بعضاً ، ومثلاً على ذلك المعدة فهي تنقسم إلى أربع طبقات من
الناحية النسيجية ، فلو تأملناها من الخارج لرأينا أنها تشبه القربة وهي مكونة من
قطعة واحدة من اللحم ، ولكن لو أخذنا جدار المعدة وحاولنا أن نتبين محتوياته تحت
المجهر المكبر
لوجدنا أن هذا
الجدار مكون من أربع طبقات فهو أشبه ما يكون بجدار يغلفه جدار ثان ، والجدار
الثاني يغلفه جدار ثالث ثم جدار رابع ، وهذا ما يعلل لنا لماذا تستطيع المعدة أن
تهضم اللحم وهي لحم ، ومع ذلك لا تنهضم مع الطعام ، فأما الجدار الداخلي الاول
فنراه مكوناً من طبقة من الخلايا المخاطية التي تفرشه حيث تقوم بإفراز حمض كلور
الماء بنسبة معينة هي أربعة بالالف ، ومن خلايا معينة وهي الخلايا المسماة
بالخلايا الهامشية بالإضافة إلى الخمائر وإلى ما يسمى بالعامل الداخلي وهو الذي
يقوم بالدور الاساسي في تكوين الفتامين ب ١٢ الذي يلعب دوراً هاماً وحيوياً في
تكوين الكريات الحمر ووقاية الانسان من فقر الدم .. وتحت هذه الطبقة نجد طبقة أخرى
وهي ما تعرف بالطبقة تحت المخاط ، وتحت هذا الجدار الثاني نرى جداراً ثالثاً يغلف
الثاني وهذا الجدار الثالث عضلي وهو الذي يتمطط فيما إذا امتلأت المعدة كثيراً
والتكوين العضلي ليس واحداً بل يترتب أيضاً على ثلاث طبقات هو الآخر ، حيث نرى
أولاً طبقة عضلية ذات اتجاه منحرف ، ثم طبقة أخرى عضلية ذات اتجاه دائري يحيط
بالجدار المعدي ، ثم طبقة عضلية ثالثة ذات اتجاه طولاني ، وهذا الترتيب البديع مهم
للغاية حيث يسير التمطط المعدي في أي اتجاه كان ، فاذا امتلأت المعدة ولنفرض بسائل
ثقيل يترسب في القاع فإن عمل العضلات الدائرية يلعب دوراً اساسياً هنا ، وإذا
امتلأت بطعام يملأ الفضاء المعدي برمته فإن عمل العضلات الطولانية هو الذي يحل
المشكلة هنا ، وإذا اجتمع العاملان معاً تضافرت العضلات الطولانية والدائرية معاً
، وإذا لم يكن هناك نظام معين في تمدد المعدة تضافرت العضلات بأشكالها الثلاثة
معاً؟!! ... ثم يحيط بالجدار الثالث جدار رابع وهو ما يسمى بالطبقة المصلية وهذه
الطبقة هي الدرع الذي يغلف الطبقات جميعها من جهة كما يكون صلة الوصل مع
بقية الاجهزة داخل
البطن بالإضافة إلى دخول التروية الدمويه من خلال هذه الطبقة حيث تغلف وتستر
الاوعية الدموية والاعصاب ، وأما الاعصاب فهي تشكل ضفائر عصبية تسمى بضفائر مايسنر
وأورباخ ، تتوضع الأولى تحت الطبقة المخاطية وتتوضع الضفيرة الثانية ما بين
الطبقات العضلية ، أو باضبط ما بين الطبقة العضلية الطولانية والدائريه ، ثم لنلق
نظرة أدق مما ذهبنا إليها خاصة ونحن الآن انتقلنا من المستوى الذي نرى فيه رأي
العين المجردة إلى النظر عبر التكبير وهي الرؤية المجهرية حيث نصل إلى اسرار جديدة
وألغاز حديثة كشف العلم الحديث عن بعض أسرارها ...
الغشاء العاقل :
نحن الآن مع النسيج حيث نرى الحجر
الخلوية وهي تتراص جنباً إلى جنب وبين الحين والآخر نرى ما يشبه النهر الصغير وهو
يمر ما بين الخلايا ويصغر تدريجياً حتى يصل إلى درجة من الصغر لا نستطيع أن نميزه
ونحن نتابع مسيره ، وهكذا يكون قد ضاع ما بين الحشود الخلوية وهذه هي صورة التغذية
الخلوية حيث تتم التغذية عن طريق التشرب ، وحيث يحيط بالخلايا السائل الخلالي وكأن
مجموع الخلايا وهو هكذا بالفعل يغطس في سائل كالاسفنجة التي تغطس في السائل ...
وحتى يمكن لنا أن نفهم كيف تتغذى
الخلايا فان هذه الصورة البسيطة غير مقنعة تماماً خاصة لمن يريد أن يصل إلى أعماق
الحقيقة وهذا ما دفع بالاطباء والباحثين أن يتعرفوا إلى كنه الامور وحقيقتها قدر
الإمكان ... لقد وجدوا أن للخلية غشاء يغلفها ويمتاز هذا الغشاء بخاصية عجيبة وهي
أن يشبه المرشحة الانتخابية فهذا الغشاء ترشح منه المواد من داخل الخلية إلى
خارجها والتي تمثل نتائج الاستقلاب وبقايا الفضلات الفاسدة وغاز الفحم كما أنها
تدخل المواد التي تحتاجها الخلية
من السكر والماء
وسواهما ، ولكن العجيب يكمن في أنها تدخل ما تشاء وترفض ما تشاء عن طريق الغشاء
الخلوي فمثلاً تسمح وبمنتهى السرعة بدخول مادة البوتاس حيث يشكل البوتاس الموجود
ضمن الخلايا ٩٨% من بوتاس البدن عامة و ٢% يوجد في الدم بينما تمنع شاردة ( معدن )
الصوديوم والكلور لان المنطقة الانتحابية لمادة الصود هي خارج الخلايا وهذه وتلك
معدن. فالصود والبوتاس معدنان متقاربان ولكن الغشاء يرفض الاول بينما يأخذ الثاني
هذا مع العلم ان ذرة البوتاس وزنها ٣٩ بينما وزن ذرة الصود ٢٣ أي أن ذرة البوتاس
أكبر وأثقل ، وبالإضافة إلى هذه نجد أن الغشاء لا يسمح بدخول المواد البروتينية
بينما يسمح بدخول السكر .. والبولة وهذه الخاصية عجيبة في الواقع ، فما هو السر
الذي يجعل هذا الغشاء يتصرف كالعاقل ، فهو يرفض إدخال عنصر كالصوديوم مثلاً بينما
هو يسمح بإدخال عنصر آخر كالبوتاسيون حتى لتعتبر الخلية الملجأ الامين الوحيد
لشاردة
البوتاسيوم في البدن.
وأما تكوين الغشاء الذي يحيط بالخلية
وثخانته والعمل الذي يقوم به فهو فعلاً مدهش فلقد وجد أن ثخن الغشاء يتراوح وسطياً
ما بين ١٢٠ ـ ١٤٠ A ( كنا
قد ذكرنا أن الانغستروم A يساوي جزء من (١٠)
عشرة ملايين من السنتيمتر ) وهو يتركب من طبقتين من المواد الدسمة وتكون هتان
الطبقتان الدسمتان ( يقصد بالدسم الشحوم ،
__________________
والشحوم عادة يدخل
في تركيبها الفحم والهيدرجين والأكسيجن بخلاف البروتين الذي يدخل في تركيبه بالإضافة
الى ما مر الآزوت ) مغلفتين بطبقتين أخريين من الموارد البروتينية والآن أين
الثقوب التي تمر منها المواد والذرات من داخل الخلية إلى خارجها؟ إن الجواب على
هذا هو أن أحدث ما توصل اليه العلم عن طريق المجهر الالكتروني الذي يكبر حوالي ١٠٠
ـ ٦٠٠ ألف مرة أن الثقوب هي بحالة ديناميكية غير ثابتة ، أي أنها تتشكل من وقت
لآخر حيث تتعرى مناطق ثم تنستر لتحدث في مناطق أخرى ثقوباً جديدة وهكذا ، وهذا
يجلعنا نقف متأملين عن قدرة الخلية العيبة التي يستهلك منها جسم الانسان كما مر
معنا ١٢٥ مليون خلية في الثانية الواحدة!!! ...
إلى داخل الخلية :
والآن لنحاول أن ندخل عبر ثقوب الغشاء
الخلوي إلى داخل الخلية لنرى العالم الذي يقع خلف هذا الستار المجهول.
ليست الخلية حجرة صغيرة محاطة بغلاف
وفيها سائل متجانس بل إنها كالبحر الذي يعج بأنواع مختلفة من الحيتان والاسماك
والحيوانات المختلفة ، فلننظر إلى هذه العناصر الموجودة داخل الخلية وهذا قبل
الوصول إلى النواة ، لان النواة كما ذكرنا فيها سر حياة الخلية وسنفرد لها بحثا
خاصاً. أولاً وجد أن تركيب الانسان من العناصر هو بالنسب المئوية التالية : من
عنصر الاكسيجن ٨١ و ٦٢ ومن الفحم ٣٧ و ١٩ ومن الهيدرجين ١٤ و ٠ ، ومن الآزوت ٣٨ و ١
ومن الكلس ٦٣ و ٠ ومن الفوسفر ٦٤ و ٠ ومن الكبريت ٢٦ و ٠ ومن الصود ١٨ و ٠ ومن
الكلور ٢٢ و ٠ ومن الماينزا أقل من ٠٤ و ٠ والعجيب في هذه النسبة انها تشبه النسبة
الموجودة في النباتات في زمن الربيع عندما تزهر فهل هذا لان الانسان يمثل ربيع
الوجود؟!! ..
الماء والحياة :
وأما الماء فهذا يحتاج لحديث كامل لوحده
ذلك لانه يمثل أساس الحياة فهو يدخل في تركيب جميع الكائنات الحية وطالما وجدت
الحياة فحتماً سيوجد الماء معها ، وهو يدخل في تركيب الخلية بشكل حيوي أساسي ،
ولنسمع الى أستاذ علم النسج في كلية الطب وهو يقول لنا بالحرف الواحد : يتخلل
الماء جميع الانسجة ولا حياة للخلايا بدون الماء وصدق الله العظيم إذ قال : ( وجعلنا من
الماء كل شيء حي )
ـ واضيف له تتمة الآية لأن سياق الآية ليس له معنى إذا كان لا يدل على الشيء الذي أراده
من معجزة الماء ـ وهو يوجد في الخلية بثلاثة أشكال وليس بشكل واحد عادي كما نعرفه
نحن في الحياة الطبيعية فهو يوجد بشكل متحد اتحاداً كيمياوياً في هيولى الخلية أو
متشرب بجزئياتها أو كما يوجد الماء في عيون الإسفنح ، والماء يتمتع بنسبة ثابتة في
الخلية حسب ما تحتويه من الشحوم. ثم لنلق نظرة على محتويات الخلية غير المصورة ،
أي الاجزاء التي لا تتجمع بشكل كتل وتأخذ أحجاماً وصوراً معينة ثابتة وتقوم بدور
معين كما ذكرنا عن المصورات الحيوية أو ما تسمى بالميتوكوندريا إننا نجد أولاً
الماء كما ذكرنا ثم الاملاح المعدنية حيث تحتوي خلايا جميع الاحياء ما يلي من
العناصر المعدنية بالدرجة الاولى P,O,N,H ثم عناصر ثانوية وهي Na
( صوديوم ) Mg مغنزيوم ، S كبريت ، CL كلور ، K بوتاس ، Ca كلس ، Fc حديد ، ثم عناصر بكمية قليلة جداً وهي B بور ، F
فلور ، Si سيليس ، Mn منغنيز ، Cu نحاس ، I يود وهكذا نرى وسطياً في كل خلية حية من العناصر المعدنية حوالي
١٨ عنصراً وهي العناصر الموجودة في
التراب الذي نعيش
عليه مصداقاً لقول الله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان
من سلالة من طين ).
رحلة مع ذرة السكر :
والآن الى سر جديد من اسرار الخلية :
بعد أن عبرنا ثقوب الغشاء الخلوي عبر
تلك البوابات السرية المتحركة فإننا نواجه جدار الخلية من الخارج وإذا بالجدار
ينفتح منه باب للدخول وهذا الباب ليس للعموم فمن شاء دخل بل ان على الثقب بواباً
عاقلاً حكيماً فهو يسمح لبعض الذرات بالدخول كما في ذرة البوتاس ويمنع ذرة الصود
مع أن ذرة البوتاس أكبر من ناحية الوزن الذري من الصود ولكن انها ارادة البواب
العاقل الذي يقف على البوابة السرية المتحركة التي تكمن في أي نقطة من جدار الخلية
، من هذه الذرات الهامة التي معها اجازة دخول ذرة السكر ، ولكن هل الخلية هي
المركز الأول للتفتيش والدخول لنر؟ إذن فلنحاول الآن أن نتتبع مسير ذرة السكر من
نقطة الدخول الأولى حتى تستحيل الى غازات تنطلق في الهواء وهي غاز الفحم ونجار
الماء ...
إذا رافقنا ذرة السكر نجد انها إذا كانت
من نوع النشويات بدأت بالتغير من لحظة مرورها الاولى بالفم وذلك بسبب وجود خميرة
النشا في الغدد اللعابية الموجودة في الفم وهي غدة تحت الفك وغدة تحت اللسان
والغدة النكفية ، وأما إذا كانت من أنواع السكاكر الأخرى ـ وللسكاكر أنواع وليست
نوعاً واحداً كما يتوهم حيث تنقسم إلى سكاكر خماسية وسكاكر سداسية والأخيرة لها
أنواع عديدة منها سكر العنب وسكر اللبن وسكر الثمار وغيرها ـ فانها تصل إلى
الامعاء وهناك يحصل لها التغير الاساسي حيث لا يمكن لها أن تدخل جدار المعي بدون
جواز مرور وهذا الجواز هو عملية الفسفرة في مصطلح الكيمياويين ومن هناك تصل الى
الكبد عبر الدوران حيث يعتبر مركز الجمارك العام
وهنا يحصل أعجب
وأغرب الأشياء في البدن وهو تحول السكر الى ما يسمى بالغليكوجين أو مولد السكر لأن
هذا يعتبر المركز التمويني العام للسكر في الدم وحتى نعرف تنائج هذا الأمر فاننا
يجب أن نعرف ان كمية السكر في الدم في حدود ٥ ـ ٦ غرامات وهذه لا تكفي أكثر من ربع
ساعة لحاجة البدن فمن أين سيأتي امداد الدم بالسكر وبشكل منتظم ، خاصة وإذا علمنا
ان غذاء الخلايا العصبية الأول والمفضل هو السكر بالدرجة الأولى فاذا حصل نقص عن ٥٠
ملغ في ١٠٠ سم
من الدم فان المرء يشعر باضطراب ذهني وانزعاج ، وإذا هبط أكثر من ذلك عن ٤٠ ملغ
اصيب المرء بارتعاشات عضلية واغفاء متزايد واختلاجات ، وإذا حصل أكثر من هذا حدث
ما يسمى بالسبات السكري وهي حالة الغيبوبة الكاملة بسبب نقص السكر الشديد!! إن
الذي يؤمن كل هذا هو الكبد مركز التموين الأول لأن السكر حينما يمر الى الكبد ينظر
الكبد نظرة البصير في وضعه فاذا كان يحتاج اليه قلبه من سكر عادي الى مولد سكر (
غليكوجين ) وإذا زاد عن حده الذي يريده حوله الى مراكز التموين الأخرى وهي العضلات
حيث يختزن هناك أيضاً بشكل مولد سكر يكون تحت الطلب ، وبعد هذا يكون هناك انتظام
ما بين مقدار السكر في الدم ووضعه في الكبد فاذا استنفد البدن السكر قام الكبد
بشكل آلي تلقائي بحل السكر المتكاثف عنده إلى سكر بسيط مستساغ الى الدم ومن الدم
ينتقل الى كل خلايا الجسم التي تحتاجه ، وهنا نتساءل : يا ترى ما الذي يحدث للسكر
عندما يعبر الدم الى الكبد هل يتحول كله الى مولد سكر أم ماذا وذلك قبل أن نصل الى
خاتمة المطاف في الخلية؟ ان الطب يجيبنا فيقول ان أمام السكر ثلاثة طرق وهذه الطرق
تنظم أيضاً بحسب حاجة الجسم فهو أما أن يجتاز الطريق السريع فوراً فلا يتحول
الى شيء خلال الكبد
بل فوراً الى الانسجة حيث يحترق ويتحول الى غاز فحم وماء وهذه الطاقة كما ذكرنا
تصرف تدريجياً حسب حاجة الخلية وإما أن يتحول إلى دسم وشحم حسب حاجة البدن لذلك
وحسب الفائض ولذا نرى أن الاكثار من النشويات تؤدي الى سمنة واما أن يدخل العضلات
ليتحول الى مولد سكر كما ذكرنا أو في الكبد ولكن وضعه في العضلات يختلف عن وضعه في
الكبد لأن الكبد يقلب الغلوكوز الى غليكوجين عند زيادة الوارد من الغلوكوز ( سكر
العنب ) ويحصل العكس أي حل الغليكوجين إلى غلوكوز عند حاجة البدن وهذا طبعاً يمشي
باستمرار ودون توقف لحظة واحدة من ليل أو نهار وذلك لأن استهلاك الجسم للسكاكر
دائم من أجل تموين الجسم بالطاقة والحرارة اللازمة للحياة ...
ان مولد السكر في العضلات إما ان يتحول
الى حمض لبن اثناء استهلاكه وهذا بدوره يتحول في الكبد من جديد الى مولد سكر أي ان
الحلقة تكون مغلقة ولا يضيع شيء سوى هذه التحولات ، واما ان يحرق ويستفاد من
القدرة المتشكلة. ثم لنتابع رحلة هذه الذرة التي مرت في هذا الطريق الوعر المنظم
الشائك المتناسق!! حيث تصل الى البوابة السرية المتحركة في جدار الخلية حيث يلقى
القبض على ذرة السكر بواسطة خميرة ويقوم هورمون الانسولين بدور السائق الذي يوصل
الذرة الى الخلية وبدور المسهل لدخول الذرة السكرية الى الخلية حيث تصل الى مثواها
الاخير ( فمستقر فمستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام. وهنا
لنتساءل مرتين أولاً من الذي يسيطر على كل هذه التفاعلات المعقدة والمنظمة ، ثم
كيف يستقر السكر في الدم بنسبة معينة ثابتة لا تزيد أو تنقص وهي غرام واحد فقط في
كل ليتر من الدم بحيث ان النقص أو الزيادة يؤدي إلى اضطرابات
مخيفة أهمها السبات
والداء السكري المشهور في الزيادة وهنا يقف المتأمل خاشعاً وهو يرى هذه الاسرار
العجيبة وهي تخبره عن بعض التفاصيل الرائعة التي تحدث أولاً هناك من المنظمات
الهورمونية ما يحير ، فهناك المنظمات الهورمونية التي تقوم بفعل لجم لزيادة السكر
وهناك هورمونات مضادة تفعل بالعكس وهي تعمل بانتظام فالانسولين هو الذي يقوم بانقاص السكر في البدن
وذلك بزيادة ادخاله الى الخلايا لزيادة استخدامه او لحجم انحلاله من الكبد وزيادة
قابليته للتحول الى الدسم وانقاص التحولات الأخرى التي تصل الى سكر كما في تحولات
الدسم والحموض الامينية ، وأما الهورمونات المضادة وهي تشترك جميعها بحل السكر فهي
هورمون الفلوكاكون الذي يفرز من المعثكلة وهورمون النمو من الفص الامامي للغدة
النخامية وبعض هورمونات قشر الكظر والإدرينالين من لب الكظر وكذلك البتروكسين وهو هورمون الغدة
الدرقية الذي يتعاون أيضاً في الاستقلاب وحل السكر أيضاً ، وأما الثبات والتوازن
ما بين هذه الهرمونات وتنظيم افرازها بالتعاون مع الكبد وجعل السكر في ثبات
واستقرار في الدم ، ان الأمر فعلاً يدعو الى الدهشة والعجب ولكن لا عجب في ابداع
خلق الله ( صنع الله الذي اتقن كل شيء ) النمل.
تكوين البروتين الخلوي :
وبعد بحث موضوع السكر في الخلية هناك سر
مهم أيضاً استطاع العلم الحديث أن يكشف عنه وخاصة بعد اختراع المجهر الالكتروني
__________________
وهذا السر هو في
تكوين البروتين الخلوي لأننا كنا قد ذكرنا ان الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول
البروتينات الى داخل الخلية فكيف إذن يتكون البروتين الخلوي اعتمادا على امكانيات
الخلية وحدها خاصة وان بعض الخلايا في الجسم تقوم بتركيب هورمانات هي في غاية التعقيد
كما في هورمون الانسولين من خلايا بيتا في جزر لانغرهانس من المعثكلة أو
البتروكسين من خلايا الغدة الدرقية أو هورمون النمو من العنصر الأمامي من الغدة
النخامية أو التستومكرون وهو هورمون جنسي عند الذكور من خلايا لبديغ في الخصية ،
حقاً ان الأمر يدعو الى الدهشة خاصة وان الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول الذرات
البروتينية المعقدة فكيف يحدث الأمر اذن هنا؟؟ .. حتى يمكن أن نفهم الاجابة بشكل
دقيق وصحيح لابد من فهم شيئين ، أولاً ما هو البروتين وكيف يتكون أصلاً؟ وثانياً
من الذي يكونه داخل الخلية التي ما زلنا حتى الآن نبحث بعض اسرارها الغامضة
المحيرة ...
ان المواد البروتينية ومنها اللحم هي
عبارة عن اجتماع مجموعة ضخمة من الاحماض الامينية والحمض الاميني هوعبارة عن ذرة
من اجتماع حمض وأمين كما هو اسمه والحمض معروف والامين هو الذي يوجد في تركيبه ذرة
آزوت مع ذرتين من الهيدرجين وتكون صفاته معاكسة للحمض أي تميل للقلوية ، وهكذا فان
الحمض الأميني يحمل خاصيتين خاصية الحموضية والقلوية وهي ميزة هامة له وهذا شيء
بسيط في أول البحث ولكن كيف تتكون البروتينات المعقدة خاصة وان عدد الاحماض
الامينية كثير والاعقد هو اجتماع الاحماض الامينية بشكل اذا اختلف قليلاً عن الآخر
فان هذا يعطي مركباً يختلف كل الاختلاف عن المركب الاول حتى ان تبديل بعض الذرات
في المركب نفسه يقلب المركب رأساً على عقب. ان السر في هذا يعود الى حد الحياة في
الخلية الذي
هو النواة حيث يستقر
مركز الرئاسة والادارة وتنظيم الأمور هناك وهذا ما كشف العلم الحديث عنه فلنسمع
طرفاً من هذا النبأ العظيم .. بعد الجهود المضنية الشاقة التي رافقت اختراع المجهر
الالكتروني والبحث عن أسرار الخلية وجدوا ان الخلية لا يمكن أن تعيش بدون نواة
فقالوا ان سر الحياة هو في النواة ، فبدأوا يدرسون النواة وهناك في النواة تبينوا
وجود اجسام غريبة ..
لم يعيروها في اول الأمر انتباهاً
كبيراً ولكن مع متابعة البحث والدرس وجدوا ان هذه الاشكال ثابتة كما انها في كل
انقسام خلوي عندما تنشطر الخلية الى نصفين يتولد منه خليتين جديدتين بحيث ان
الخلية البنت تشبه الام الأصلية تماماً وجدوا ان لهذا الانقسام علاقة بهذه
الموجودات داخل النواة حيث انها تنقسم الى نصفين مع كل انشطار خلوي ووجدوا انها
تتلون بالاصباغ بشدة فسموها الصبغيات ، ولكن مع متابعة البحث والجهد تبين للعلماء
ان هذه الصبغيات لها دور كبير في الوراثة حيث ان الصفات الوراثية تكمن في هذه
الصبغيات وحيث تنتقل من الآباء إلى الابناء والاحفاد من خلالها وتبين للعلماء ان
هذا الأمر ثابت في كل الانواع الموجودة من الاحياء النباتية أو الحيوانية أو حتى
الانسان بالذات.
وهنا يتساءل المرء : ولكن أين تقبع هذه
الصفات الوراثية في خلية لا ترى إلا بالمجهر؟ اللون للشعر والعينين ، طول القامة ،
لحن الصوت ، قسمات الوجه ، شكل المشية ، المزاج ، تشكيل العظام والعضلات ، شكل
الاصابع والأظافر ، استطاعة الأنف ، فتحة العينين ، اهداب الاجفان ، استدارة الصدر
، المفاصل ، الهورمونات ، الاخلاط ، العدد ، الزمر الدموية ، الأمراض الوراثية ،
شكل الجمجمة ... الخ ) .. كلها أسرار من الاسرار التي لا يعرف العلم عنها حتى الآن
إلا القليل
وما لنا نستعجل
فلنسمع الحديث إلى الآخر!! ..
يقول العلماء ان هذه الصبغيات هي الاساس
في الوراثة ولكن ما هو تركيبها يا ترى؟ وبدأ البحث المضني حتى استطاعوا أن يتعرفوا
ـ ليس فقط على تركيب هذه الصبغيات ـ بل توصلوا إلى اثبات ان هذه الصبغيات لها ما
يشابهها في التركيب ايضاً في داخل الخلية .. وجدوا ان الصبغي مكون من اجتماع حمض
فوسفور وسكر خماسي ( أي فيه خمس ذرات فحم وهو سكر الريبوز ولذا سمي المركب بالحمض
الديبي ) بالاضافة الى مركب عضوي آزوتي فاطلق على هذا المركب الثلاثي الحمض الديبي
النووي واختصاراً سمي بـ د. ن. آ D.N.A ووجد ان هذا الحمض يشبه السلم فيه عمودان يربط بينهما درج ولكن
هذا السلم ليس مستقيماً بل ملفوف على نفسه بحيث اننا لو جعلناه على استقامة واحدة
وربطنا العمودين ببعضهما لامتد هذا الحمض خارج النواة مسافة متر ونصف؟!! .. كما
وجد ان هناك احماضاَ تشابههن؟ في الخلية ولكن لها ميزة تختلف عن ميزة الاول من
ناحية تركيب ذرة الاكسجين فقط فيه فمسي R.N.A ر. ن. آ ، ووجد
من هذا الاخير ثلاثة أنواع في الخلية الواحدة ..
والآن بعد هذه المقدمة لنعرف كيف يتم
تركيب البروتين في هيولي الخلية ( المادة التي تحيط بالنواة وتقع ما بين النواة
والغشاء الخلوي تسمى بالهيولي الخلوية ) لقد وجد ان في هيولي الخلية الواحدة ما
يقرب من ٥٠٠ الف جسيم ريبي أي من النوع الأخير الذي شرحناه بالاضافة الى ٥٠٠ مصورة
حيوية ( مرت سابقاً وستشرح لاحقاً ) بالاضافة إلى ٥٠٠ مليون ذرة انزيمية!! ..
والأهم لقد استطاع العلماء أن يتعرفوا وبالجهود المضنية طبعاً ان الحمض د. ن. آ D.N.A يشبه الاستاذ الذي يعطي المعلومات لتلاميذه لكي يقوموا بأمر ما
وإذا بالحمض الثاني ر. ن. آ
R.N.A ينطلق من النواة كالرسول الذي يحمل رسالة هامة وهناك يقترب من
الجسميات الريبية في الهيولي (نوع من انواع ر. ن. آ الثلاثة ويهمس لها سراً في أن
تقوم بعمل ما وهنا يتحرك طرق ثالث في القضية وهو النوع الثالث من الحمض ر. ن. آ R.N.A ويسمى بالناقل أو المنحل فينادي الأحماض الامينية أن هلمي إلي ...
فتجتمع إليه لتسمع ماذا سيقول لها وهنا يضعها تحت تصرفه ثم يبدأ ليصفها بشكل فني
دقيق ماهر وكأنه أعقل العقلاء حتى يبني منها البروتين الذي يناصبه أو الهورمون
الذي يريد إطلاقه فمن علسّمه يا ترى كل هذا؟!! ..
مريكز الخلية :
ومن جملة هذا العنصر لنسجه في السائل
الخلوي المركز وسمي بذلك لأنه يحاول أن يكون في مركز الخلية واضعاً النواة إلى أحد
أقطاب الخلية والعجيب في هذا العنصر انه يتكون من اسطوانة فيها تسعة أنابيب أو
الياف أخرى فما هو السر في الرقم يا ترى ولماذا ترتبت بهذا الشكل ايضاً؟ هذا الأمر
سر من الاسرار ، ولقد وجد أن هذا المريكز يظهر وكأنه المخطط والمهندس لمرحلة
النشطار الخلوي حيث أنه يقوم أثاء انقسام الصبغيات فيرسم خطوطاً وطرقاً دقيقة أمام
الصبغيات المنشطرة وهذه الخطوط تشبه بشكلها المغزل ثم لا يلبث أن يتكون في الخلية
من كل طرف ما يشبه الكوكب المشع ، وكأنه القمر المنير في الظلمات ولذا سميت هذه
الاشعة بالأشعة الكوكبية وتصدر الأوامر للصبغيات أولاً أن تقف بحالة استعداد في
منتصف الخلية ثم يؤمر كل شطر من شطري الصبغي المنقسم أن يتجه إلى أحد طرفي الخلية
ولكن كيف سيمشي في هذا الظلام؟ لا حرج عليه ان هذا النور الهادي وهذه الاشعة
العجيبة التي تخطط له السير وتوضح له الطريق تجعله يمشي على هدى هذا الشعاع وهو
يتهادى ويمشي في هدوء حتى
يصل الى طرف الخلية
الاول حيث يكون قد وصل في الوقت نفسه توأمه لى الطرف الآخر وهكذا تنقسم الخلية إلى
قسمين بعد أن تنشطر الصبغيات بهذه الكيفية.
فمن الذي علم هذا الجماد أن يقوم بكل
هذا التناسق والإبداع ومن أعطاه هذه الحكمة ودرسه فنون الحركة الرائعة المتناسقة
الحكيمة؟!! ..
تفسير نشأة الحياة :
والآن بعد هذا البحث الذي يعد موجزاً
بسيطاً جداً عن بعض اسرار الخلية يحق لنا أن نتساءل كيف نفسر نشأة الحياة وظهور
الخلية الأولى في الحياة؟ ومع كل الوضوح الذي يشير إلى الجواب بدون تكلف نجد بعض
المؤلفين والكاتبين السين يقفون ليتكلموا بطريقة علمية نرى ان ذهنهم العلمي يخونهم
في أدق المواقف وأحرج التفسيرات وأهمها ، ومن هؤلاء استاذ يدرّس في كلية الطب في
قسم النسج يقول ما يلي بالحرف الواحد :
« إن علم الحياة وما تفرع عنه من علوم
أخرى على النحو المار ذكره ما تزال جميعها عاجزة عن تفسير كيفية نشوء الحياة
الاولى وتكون أول مادة حية على سطح الأرض ، ولعل نظرية النشوء الذاتي الأولى في
ظروف خاصة وعهود متناهية في القدم هي النظرية الاكثر قبولاً في القوت الحاضر ».
ونقف قليلاً لنناقش الكاتب في هذه
العبارة. أولاً : نظرية النشوء والتولد الذاتي من الناحية التجريبية نقضها العالم
باستور من الأساس في تجربته المعروفة المشهورة.
ثانياً : ماذا تعني كلمة النشوء الذاتي
، هل تغني أن الخلية خلقت نفسها بنفسها أو أنها تكونت صدفة من اجتماع العناصر ، أو
الاحتمال الثالث وهو لا أدري؟!! فاما انها أوجدت نفسها بنفسها فهو كلام متهافت لأن
معنى الخلق هو الايجاد فكيف توجد نفسها بعد أن لم تكن موجودة
وأما الصدفة فليرجع
الى بحث المصادفة في أول الكتاب ، وأما لا أدري فلا ندري بماذا نجيب عليه!!!
من هنا نفهم ماذا يعني ان الانسان عندما
بخوض بحثاً ما ثم يخونه ذهنه العلمي أو أنه لا يستعمل ذهنه العلمي في هذا المجال
الخطير الذي يجب على العالم أن يقرر قبل كل الناس حقائق الامور وبديهياته وهو ما
قاله رب العزة ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) .. إنه ليس هناك من مكان للصدفة خاصة
وقد بحثنا هذا الموضوع في أول مدخل الكتاب حتى ننفي الحظ والفوضى في بناء الكون
ونشأة الحياة ، وهكذا تسد جميع الأبواب أمام من يتأمل في هذه الظاهرة العجيبة ولا
يجد إلا الحق الابلج الواضح المبين وهو يقلو له ( الله خالق كل شيء وهو
على كل شيء وكيل )
ثم لنسمع مع ذلك كلاماً في هذا المجال لأحد العلماء لا لنسند فكرتنا منه لأن ظهور
هذه الفكرة وبديهيتها تضغط على العقل البشري ولا تجعل له مهرباً من الاعتراف بها
طائعاص أم مكرهاً .. يقول بوخز وهو من أكثر الماديين غلواً ومن الذين اتهموا
داروين بأنه يصانع رجال الكنيسة وقف أمام ظاهرة خلق الحياة من جماد ليقول بالحرف
الواحد : ( إن البتّ في أمر التولد الذاتي للكرية الأولى التي نشأ عنها الأصل
الأول أمر غير متيسر ، لأن الأحوال المناسبة لتولد الكرية الأولى تولداً ذاتياً
غير معروفة ، والكرية ذاتها على بساطتها ذات بناء وتركيب يمتنع معه صدورها من
الجماد مباشرة ، بل إن ظهورها من الجماد ليعد في نظر العلم معجزة ليست أقل بعداً
عن العقل منظهور الاحياة العليا من الجماد مباشرة ) ... وصدق الله الخالق حينما
يقول : ( ذلك الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء
فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل. لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخير.
) سورة
الانعام. وهكذا نكون قد انتهينا من البحث الأول وهو مبحث الخلية حتى ندخل الآن
التركيب المادي لأجهزة الإنسان المعقدة وعالمه النفسي الغريب المجهول.
تخلق
الإنسان
يقول الخالق العليم : ( ولقد
خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة
فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً
آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة
تبعثون )
سورة المؤمنون ...
لنحاول على ضوء هذه الآية أن نتبين بعض
الاسرار المادية في تكوين الإنسان وتخلقه حيث استطاع الطب الحديث أن يكشف بعض
أسرار التكوين ، وذلك بعد أن مررنا في الأبحاث الأولى على مكوّنات الخلية المعقدة
وبعض اسرارها المحيرة ...
إن تكوين الانسان من ناحية العناصر التي
تتعاون في تركيبه هي بالدرجة الأولى من الماء حتى ليقال ليس الإنسان سوى برميل
صغير من الماء مع عناصر معدنية أخرى نستطيع أن نكوّن منها مسماراً صغيراً من
الحديد وراس عود ثقاب من الكبريت وكمية من الكلس تعين في دهن جدار من مادة الكلس
التي تستعمل لتبيض الجدران وعناصر أخرى بحيث أنها لا تبلغ في القيمة سوى ما يعادل
٤٠ قرشاً سورياً ، ولكن السر لا يكمن في نوعية المواد وإنما يكمن في كيفية تركيب
هذه المواد بعضها إلى بعض ، وهذا المثل ينطبق على أبسط ذرات الخلية كما ينطبق على
أعقد التركيبات الحيوية التي تتولد من الجسم ...
إن العنصر الذي يتكون من الجسم مهما بلغ
من البساطة كما في الهورمونات والمنتجات الحيوية يتكون من اجتماع ذرات معينة من
عناصر التربة نفسها وأهمها المكونات العضوية التي يتداخل في تركيبها الفحم
والهيدرجين
والأكسجين بالدرجة الأولى ، وهذه العناصر البسيطة تكوّن آلاف الآلاف من المركبات
العضوية المعقدة حتى ان علماً كاملاً من العلوم التي تدرس تسمى بالكيمياء العضوية
حيث تشترك عناصر معينة محددة في تكوين مئات وآلاف من المواد في الطبيعة ، والغريب
في هذه التكوينات ان الذرات الداخلة في تركيبه إذا اختلفت اختلافاً بسيطاً أو
تبدلت في موضعها من مكان لآخر حصل مركب آخر مغاير للأول في خواصه وصفاته مغايرة
تامة.
العفريت ذو الاقنعة المتعددة
:
ومن الأمثلة على ذلك مادة الكولسترول
التي يصطنعها الجسم البشري فهي بالأصل مادة شحمية دسمة تعتبر من دسم البدن ولكن
هذا المركب يعد من مركبات البدن السحرية ، ولنسمع إلى الطب لكي يقص علينا قصة هذا
العفريت الذين يتلون في كل لحظة إلى مركب جديد وشخصية جديدة فهو ذو الأقنعة
المتعددة. فهو تارة كولسترول في الدم بشكل دسم ( الكولسترول مادة شحمية اذا ترسبت
على جدران الاوعية الدموية سببت ارتفاع الضغط ) وهو تارة أخري بشكل ينافي
الكولسترول تماماً مع أن البناء الكيمياوي هو واحد ولكن تغيرت بعض ذرات البناء فقط
فإذا بهذا المركب يصبح هورموناً يعطي صفات الذكورة كلها من توزع الشعر في البدن
وخاصة الوجه وغلظ الصوت وشدة العضلات وضيق الحوض واتساع الصدر والمزاج الشديد نسبة
للانثى ونموا الأعضاء التناسلية الخاصة ، وبينما هذا المركب يمشي في هذا الاتجاه
إذا بتحولات طفيفة تطرأ على بعض ذراته فاذا به ينقلب بشكل عجيب ويصبح هورموناً
أنثوياً يعطى للأنثى كل صفات الانوثة من توزع الشعر ، ورقة الجلد ، ونعومة الصوت ،
وكثرة الشحم في البدن ، وضعف العضلات وكبر الحوض العظمي حتى يتسع للحمل والولادة
وضيق الزنار الكتفي
العظمي على عكس
الرجل تماماً بالاضافة إلى المزاج الجنسي الأنثوي الخاص بها ، إن هذا التحول فعلاً
يدعو للدهشة إن هذا العفريت ذا الأقنعة المتعددة يخلع هذا القناع أيضاً ليلبس
قناعاً جديداً يغابر الأول مغايرة تامة وذلك عند تبدل جديد في ذراته وبشكل طفيف مع
المحافظة على الهيكلة الأصلية للبناء الأول للمركب إذا به ينتج ليس مادة دسمة كما
في الكولسترول الأصلي ولا هورموناً جنسياً مذكراً كما في الاوستروجين أو انثوياً
كما في البروجسترون والاستراديول ، ولكن ينتج شيئاً جديداً هو فيتامين D s
الذي يلعب دوراً مهماً في امتصاص الكلس من الأمعاء وترسيبه على العظام وبناء
العظام وتمتينها حتى يتسنى للإنسان أن يعتمد على هذا الهيكل ويتحرك ومع تغير جديد
في هذا المركب إذا به ينقلب ويرتدي قناعاً جديداً ليس مركباً دسماً أو هرموناً أو
فيتاميناً بل صورة الحموض الصفراوية التي تفرز من الكبد حيث تسهل امتصاص الأغذية
من الأمعاء وتقلب الخمائر في الأمعاء من شكل خامل هادىء إلى شكل فعال نشيط ، وإذا
تغيرت الذرات قليلاً ايضاً لنفس المركب بحيث نقلت ذرات فوضعت في مكان آخر أو حذفت
بعض الذرات مما يعرفه الكيمياويون والأطباء أكثر من غيرهم إذا بهذا المركب يصبح من
أهم هورمونات قشر الكظر ( شرحنا قشر الكظ فيما مر معنا ) وهو ما يعرف بالالدوسترون
الذي يحبس الملح والماء أو مركب آخر يسمى بالديزوكسي كورتيكوسترون ، ومع لعب جديد بهذا المركب اذا بهذا
العفريت
__________________
يغضب وينتفض ليصبح
مركباً جديداً يشد عضلات القلب ويقويها وكأنه يريد أن يعزم أن يكتفي بهذه التغيرات
التي ألبسته كل هذه الأقنعة المتغيرة المتبدلة. فاذا بهذا العفريت العجيب يتنقل من
مادة دسمة إلى هورمون إلى فيتامين إلى حمض صفراوي إلى مادة تقوي القلب وهي من
مركبات الديجتال ( الديجتال مادة موجودة في النباتات تقوم بتأثير مقو لعضلات القلب
) فأي سر عجيب في هذه التبدلات ومن الذي يطورها ويحورها على هذه الكيفية
المدهشة؟!! ...
قصة النطفة الانسانية :
اذن الانسان هو تراب + ماء وتتكون سلالته
وفق هذه المعادلة ومن قدرة الله العظيمة وبإرادته تنطلق الروح لتخلق الانسان بعد
أن كان طيناً ( ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ) ، وأما باقي الرحلة وهي النطفة التي
سوف تستقر في قرار مكين فلنسمع إلى العلم والطب وهو يقص علينا أنباء هذه الرحلة
الأسطورية العجيبة للنطفة وهي تستقر في القرار المكين؟!! ..
تعتبر الخصية هي المصنع الذي يكوّن
الحيوانات المنويه أو النطف والخصية بحد ذاتها ذات تركيب دقيق فهي تتكون من مجموعة
ضخمة من الأنابيب المنوية التي تلتوي وتتحلزن بشدة بحيث أن طول الأنبوب الواحد يصل
إلى المتر ويجتمع من هذه الأنابيب ما يقرب من ألف أنبوب ، وتتصل هذه الأنابيب
بعضها مع بعض ثم تصب جميعها وكأنها روافد لنهر عظيم هو البربخ حيث تلتقي هذه
الأنابيب وتشكل شبكة تسمى بشبكة هيللر ، ومن هذه الشبكة ينصب ١٠ ـ ١٢ قنينة على
البربخ حيث تلتقي الأمواج الزاخرة من النطف ذات الأذناب الطويلة التي تسبح باتجاه
واحد ، وعندما تصل إلى البربخ ، وطول البربخ ستة أمتار والسر فيه هو أن يمتلىء
بأعداد ضخمة من الحيوانات المنوية لأن التفاف البربخ وتعرجه
الطويل يجعل
إمكانيات استيعابه لكل هذه النطف أمراً ميسوراً ، وتقف النطفة قليلاً في هذه
القناة الطويلة المتعرجة التي تبلغ من الطول ستة أمتار قبل أن تنتقل إلى قناة أخرى
تصعد بها إلى الأعلى لتصب في خزان معد هناك وهو ما يسمى بالحويصل المنوي حيث تجتمع
فيه الحيوانات المنوية. لنسر مع النطفة في هذه القناة الطويلة ولنحاول أن نقبض على
إحدى النطف لنرى تركيبها العجيب ، إننا نراها بين أيدينا وكأنها رأس قذيفة موضوعة
على خيط طويل يغذ بها السير إلى المهمة الرائعة وهي خلق الانسان ويبلغ طول الذنب عشرة أضعاف طول هذه القذيفة ولنتساءل
ما فائدة هذا الذنب الطويل؟ إنه للسباحة السريعة فهو كالمحرك الذي يحرك هذا المركب
الصغير ويسير بسرعة جبارة ، ثم لننظر إلى رأس هذا الحيوان المنوي الذي سميناه
بالقذيفة انه يشبه الكمثرى حتى يتطاول ويأخذ شكلاً مدبباً من الامام كما إنه مصفح
من طرفة الامامي حتى يستطيع بهذا أن يدخل البيضة بسرعة فهو قذيفة مصفحة ، ثم لننظر
في محتويات هذه القذيفة إن فيها سراً عميقاً هائلاً جعل فيها حيوية عجيبة وهو ما
يسمى بالانقسام المنصف فالصبغيات أو المورثات التي تكمن فيها صفات الأب ليست كاملة
بل يوجد نصفها بالضبط ، ولذا فهي تنتظر بلهفة تلك اللحظة التي ستجتمع فيها مع
البيضة حيث تنقل الأخرى بدورها صفات الأم عن طريق نصف الصبغيات أيضاً ومع اجتماع
النصفين يتخلق انسان كامل ، ثم نتساءل إذا كان تكون النطفة هو بهذا الشكل من مصنع
الخصية ، فما هو السر أن يكون الصفن خارج الجسم ولا يكون داخل الجسم في أمان
أكثر؟!! ... ويجيب الطب فيقول ان الخصية بالأصل كانت قرب الكلية في الظهر وذلك في
الحياة الجنينة ، ولكن مع ولادة الإنسان تنزل الخصية إلى مكانها الطبيعي وهو الصفن
خارج الجسم
__________________
فهو مسكنها الاخير ،
والسبب في هذا يعود إلى أن النطف لا يمكن أن تعيش في حرارة البدن بل لا بد لها من
حرارة تنزل عن حرارة الجسم بـ ٣ ـ ٤ درجات ، ولذا كان أنسب مكان للخصية هو في
الصفن وهنا نتذكر قول الله تعالى وهو يخبرنا : ( وإذا أخذ ربك من بني
آدم من ظهور ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا ) حيث كانت الخصية في الظهر عند الكلية
فهل هذه الآية إشارة الى هذا المعنى؟!! وهذه حقيقة علمية كشف الطب الحديث عنها.
عمل ملكة الغدد :
ثم لنتابع الرحلة لنرى ما هي العوامل
التي تهىء لإخراج النطفة إلى حيز الوجود إن تلك الغدة العجيبة التي هي ملكة الغدد
في الجسم وهي النخامة ترسل من فصها الامامي هورموناً يقوم بدور الرسول المحرض فهو
يستثير حمية النطف أن تنمو وتتقدم وهكذا تتنشط النطف حتى تمر بمراحل وأدوار
متعاقبة حتى تصل إلى دور النطفة الجاهزة للالقاح هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ترسل
ملكة الغدد رسولاً آخر يحث بعض المراكز الخلوية المندسة بين النطف وهي ما تعرف
بخلايا ليديغ وسرتولي حيث تقوم هي بدورها بافراز هورمون جنسي يقوم باعطاء الخواص
الجنسية للذكر من غلظ الصوت وبروز الحنجرة وصلابة العضلات وشدة المزاج وضيق الحوض
وكبر الاكتاف وتوزع الشعر وخاصة في العانة وتحت الابط وبقية الجسم بشكل عام
بالإضافة إلى الميل الجنسي ، وهكذا يتكون الذكر على ثلاث مستويات لكي يستمر النسل
البشري ويتكاثر فهو أولاً حصل تكون النطف التي فيها سر التكوين ، ثم حصل الميل
النفسي ، وثالثاً كانت المظاهر الخارجية كلها خاصة للذكر ومميزة له عن الأنثى ،
وإن المتأمل ليقف خاشعاً وهو يرى هذه المظاهر فما الذي جعل هذا الهورمون الجنسي
المذكر والذي يسمى بالتستومترون ان تصنع بصلات
الشعر أن تخرج
بكيفية معينة في ناحية السرة تختلف عنها في الأنثى ، فهي في الذكر مثلثة تبدأ من
السرة وتمتد إلى الاسفل بينما هي في الأنثى مجتمعة حول الفرج ، ثم كيف احتال هذا
الهورمون على اقناع بقية بصلات الشعر والجسم فجعلها تظهر في كل الجسم بينما هي في
الأنثى نادرة فلا يرى الشعر في الجسم إلا في حالات شاذة ، ثم كيف استطاع هذا
الهورمون ذو قدرة الاقناع العجيبة أن يفهم الحبال الصوتية أن تكون بهذه الكيفية
بحيث تعطي غلظ الصوت ، أو كيف أعان العضلات وجعلها تبدأ لتدخل البروتينات فيها
وبالتالي تشتد العضلات وتقسو ، وأما انفتاح عظام الصدر ومفاصله ، وضيق عظام الحوض
ومفاصله فما هو السر فيها يا ترى ، وكيف تسنى لهذا الهورمون أن يتحدث بلغات مختلفة
ولهجات متباينة فيؤثر على العظام والمفاصل والعضلات وحبال الصوت وغضاريف الحنجرة
وبصلاة الاشعار ، وأخيراً المزاج النفسي حيث يبقى الاخير سراً محيراً ولغزاً
مدهشاً فمن الذي وهبه كل هذه القدرات؟!!.
وبينما نحن في هذا الحديث والحيوان
المنوي يمشي في ذلك النفق السحري كالغواصة يشق عباب المفرزات والاخلاط والماء
الكدر ولا يصطدم بالجدران ، وحتى لو اصطدم فان هذه القلنسوة التي تغطي رأسه جعلته
مصفحاً مدرعاً لا يتأثر ، وبجانب هذه النطفة يمشي شعب كامل من النطف يبلغ الملايين
كلهم يسيرون في هذه المسيرة العظيمة التي هي أنشودة تخلق الانسان العظيم.
ومن حين لآخر يضيق النفق ويتسع حتى نصل
إلى المستودع العام للتخزين الذي هو الحويصل المنوي حيث تجتمع النطف في انتظار
المناسبة الجنسية حتى تتدفق وتنطلق للقاء الموعود .. ان اجتماع النطف في الحويصل
المنوي مهم ، فلولا ذلك لاستمر تدفقها إلى الإحليل ثم القضيب وهكذا يحصل إفراز
مستمر وهذا ما يجعل المصنع يصدر بضائعه إلى حيث
يخسرها!! ولكن هذا
ليس من طبائع هذا التركيب المتناسق البديع ، ولذا لا بد من تخزين البضائع حتى يحين
الوقت الملائم وتأتي الشاحنات المناسبة فتملأ البضائع وتصدر حيث يحصل الربح
والخير. فكيف بتخلق الانسان؟!!
والآن كيف سيصل الحيوان المنوي بأمان
إلى الرحم وأمامه من العقبات والاخطار ما يهدد حياته بالفناء ، فالإحليل ( وهو
المجرى الذي يسير فيه البول والسائل المنوي ) طويل ثم إن طبيعة الوسط في مجرى
الإحليل حامض وذلك بسبب مرور البول المستمر ، ثم ان طول طريق المهبل خطر بسبب
الحموضة الشديدة الموجودة فيه أيضاً ، ثم ان المفرزات في الحويصل المنوي قليلة.
فما العمل اذن وأمامه كل هذه المخاطر؟؟ ..
حقاً ان قصة الحياة عجيبة ، ان الذي
صممها حسب كل شيء بمقدار كما قال : ( إنا كل شيء خلقناه
بقدر )
، فبما ان العقبة الاولى هي الاوساط الحامضية لذا فان تفاعل السائل المنوي هو قلوي
، وحتى يتم إيصال هذه المادة المهمة التي هي ماء الحياة إلى الرحم لا بد من مقدمات
كثيرة ، فلا بد من احتقان الوصيل المنوي حتى يتدفق الذي اجتمع فيه إلى الخارج وهذا
لا يتم إلا بالتوجيه العصي من مراكز الاشراف العصبية المجتمعة في النخاع وهذه بدورها
تتلقى الاوامر من الدماغ ولكن كيف سيرسل الدماغ أوامره؟ إنها ستكون من خلال الفكرة
التي يكونها عن الوسط الخارجي وهذه ستتكون من خلال الحواس وأهمها النظر ، ولذا فان
النظر يحرك الفكرة الغريزية فتنطلق الأوامر بسرعة إلى النخاع حيث يضغط على الأعصاب
بدوره ، والأعصاب تنبه الحويصل المنوي والغدد الأخرى ، فما هي إلا لحظات حتى تفرز
بعض الغدد المختبئة في الطريق إفرازاتها وهي الغدد البصلية الإحليلية ومفرزها ذو
طبيعة قلوية ولذا فانه يضمن الطريق البولي أن لا يوذي الحيوانات المنوية ولكن هل
يكفي هذا؟
لا بد من ضمانات أخرى
ولذا تفرز غدة البروستات مفرزاتها أيضاً وهكذا يكون الطريق عبر القضيب قد مهد
تماماً وتنظف من المفرزات الحامضية ثم ان وضع الانتشار في العضو التناسلي يكون قد
تم وذلك من الأوامر العصبية التي هيأت كل الاطراف المهمة لتأدية هذا الفرض الحيوي
، وهنا يحصل الدفق السريع فلا يقف طويلاً السائل المنوي في الطريق البولي كما ان
المفرزات الاولى تكون قد عدلت المفرزات الحامضية في الطريق البولي في إحليل الرجل
ومهبل المرأة ، وهكذا يكون الأمر قد وصل أقرب ما يكون إلى تأمين حياة هذه النطفة
الضعيفة المسكينة التي تحمل الأمانة العظيمة والسر الهائل الذي هو الانسان ..
ويبقى تفسير الرعشة الجنسية أو حصول الارتواء الجنسي سراً من الاسرار النفسية التي
لا يمكن تفسيرها بالبساطة التي فسرنا فيها الأمور السابقة ..
وكم سيكون عدد الضحايا من الحيوانات
المنوية في الطريق يا ترى؟ لا شك أن العدد كبير لأن طبيعة الحياة فيها الجهاد
والتضحية والموت ولكن دقة التصميم وروعة البناء غطت كل هذه المسائل ، ان الدفقة
الواحدة من السائل المنوي فيها ما يقرب من ٤٠٠ مليون حيوان منوي ، انه شعب منوي
كامل من الحيوانات المنوية التي تبدأ السباق الجبار لكي يحصل قصب السبق للفائز
الأول الذي سيصل إلى البويضة ويلتحم بها ويكوّن الانسان ، وبينما نحن نرقب هذا
السباق المخيف ليس بين العشرات ولا المئات بل ملايين النطف الزاحفة إلى أعلى وهي
تضرب بسياطها الطويلة مزجرة في الطريق تخبط المفرزات المخاطية وتصعد بسرعة جبارة
وكأن هذه الأذناب المحركات الهائلة لهذه القذائف المحشوة بالسر الانساني ، أقول
بينما نحن نرقب هذا السباق تكون البويضة في البوق تتهادى في مشيها كأنها الملكة
وهي محاطة بما يشبه الحاشية من حولها وتضع على رأسها الاكليل المشع!! وهي تستعد
لاستقبال الفائز الأول ، ولكن من
أين جاءت هذه وكيف
تكوّنت ، إذن لنستمع إلى الطب وهو يروي لنا قصتها العجيبة؟!! ..
مصنع البيوض عند المرأة :
يعتبر المبيض المصنع الذي يكوّن بويضات
المرأة والعجيب في هذا المصنع أنه يبنى وتوضع فيه المواد الأولية وهي الخلايا التي
سيتكون منها البويضات ولكن لا يفتح هذا المصنع أبوابه للانتاج حتى سن البلوغ حتى
تكتمل الأنثى وتتهيأ من ناحية المظهر الجسمي والنفسي ، وعندما تدخل سن البلوغ يبدأ
المبيض الهاجع بالعمل وتنطلق البيضة الأولى منه.
لقد وجد أن في المبيض ما يقرب من ٤٠٠
ألف جريب ( والجريب كيس يشبه الجراب الصغير فيه خلايا صغيرة تحيط بالبيضة الأصلية
التي تحمل صفات الأم ) ، ولا ينطلق من المبيض سوى ٤٠٠ جريب وسطياً خلال الحياة هو
ما يعادل بيضة واحدة في كل شهر ، وهذا الذي يحدث حيث أن الدورة الطمثية أو ما تسمى
بالعادة الشهرية تستغرق عند المراة الطبيعية ٢٨ يوماً أي ما يعادل شهراً قمرياً ..
وتمر معنا في هذا البحث ملاحظات دقيقة شيقة فأولها الفصل الجنسي أو الموسم الجنسي
، فلقد وجد أن عند الحيوانات مواسم وأوقات معينة يحدث فيه إمكانية التلاقح
والتناسل مع وجود النزو أو المي الجنسي للجنس الآخر وهذه المدة تتراوح بين أشهر
كما في الكلاب والقطط وبين أيام قليلة في السنة كما في الضفادع. أما الانسان فهي
عند المرأة تمتد ما يقرب من ٤٠ سنة وهي وسطياً ما بين العمر ١٢ ـ ٥٠ سنة أما الرجل
فهي مدى الحياة ، ثم ان القدرة الجنسية وإمكانية التلاقح والميل الجنسي موجودة عند
الانسان على طول أيام السنة وهذا ما يجعل الأمر في منتهى الخطورة وهذا يرجعإلى أن
الحيوانات مضبوطة الفرائز كما في أجهزة الطعام
والبول والتنفس فهي
تخضع لسنة وقانون معين حيث ينطفىء الميل الجنسي خارج أيام الموسم الجنسي ، ويتفرغ
الحيوان لمشاغله الأخرى ، أما الانسان فلقد ربط هذا الجهاز مع مفتاح الارادة عند
الانسان فهو ينظم ذلك قلة وكثرة ضبطاً وانفلاتاً حسبما تقوده إرادته ، ولذا كان
الانسان الكائن الوحيد الذي سيحاسب على هذه الاجهزة التي امتلكها .. ( انا عرضنا
الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
إنه كان ظلوماً جهولاً ـ سورة الأحزاب ) ، والملاحظة الأخرى هي فكرة التناوب في
قذف البيوض من المبيضين بالتناوب فهذه قاعدة في كل غدد الجسم ، فافراز الهورمونات
متقطع وليس مستمراً وعمل الكبب الكلوية بالتناوب فكل فوج يعمل يربح قسماً آخر من
العمل كما ان الأسناخ الرئوية لا تنفتح كلها أثناء التنفس ، وأما الأوعية الشعرية
الدموية فلا تتوسع كلها إلا في حالات خاصة كزيادة الجهد والصدمات وسواها ، وهذه
قاعدة في كل غدد الجسم وأجهزته .. ثم للنظر في البويضة فهي لا تكون لوحدها في
المبيض بل هي محاطة كالملكة تماماً بحاشية كبيرة من الخلايا وهي تضع على رأسها
تاجاً مشعاً من الخلايا ( محاطة بمجموعة من الخلايا تسمى التاج أو الاكليل الشعاعي
) وهي موجودة ضمن قربة صغيرة تسمى جريب دوغراف وهذا الجريب يحتوي في داخله
بالاضافة للخلايا على سوائل هورمونية تهيء الرحم لاستقبال البيضة الملقحة وإذا مر
الشهر بدون أن يحصل تلقيح انهدم الغشاء المخاطي في الرحم وسال الدم الغزير الذي
يعرف بالدم الطمثي أو دم العادة الشهرية.
وهنا نتساءل وكيف يحصل انطلاق البيضة من
المبيض ما دامت موجودة في داخله كالسجن وأشد؟؟ يجيب الطب على هذا السؤال فيقول :
يوجد ارتباط معقد ما بين غدد الجسم الداخلية
فالغدة النخامية هي دماغ الغدد ومفتاحها الرئيسي ، أو هي بالأحرى ملكة الغدد
الموجودة
في الجسم بدون نزاع
حيث تتربع على عرشها في داخل الجمجمة في مكان محمي تماماً وهذا العرش هو السرج
التركي وهي ترسل أوامرها من هناك من أعلى الجسم ومن جملة الأوامر هورمون يحمل
رسالة مستعجلة إلى الجريب الموجود في المبيض يأمره أن يتحرك ويزيد من مفرزاته
ويستدعي الاحتياطي من جنوده الخلوية وهكذا تجتمع الخلايا الاحتياطية وتشكل جيشاً
خلوياً يحيط بالبيضة ليسير معها يحميها مما تتعرض له حتى يوصلها إلى حدود البلاد
وحدود البلاد هنا هي قشرة المبيض ويكون الجريب قد كبر إلى درجة كبيرة تبلغ حبة
الكرز ويضغط على قشرة المبيض الرقيقة وهنا يأتي هورمون آخر مرسل باقصى سرعة من
ملكة الغدد يأمر حرس الحدود أن يفسحوا المجال بسرعة للبيضة بالخروج وللجريب أن
ينفجر كما ينفجر اللغم الموضوع على الحدود حينما يمر عابر سبيل بدون معرفة بطبيعة
الحدود ولكن هذا الانفجار مرسوم فهو يدفع بالبيضة إلى البوق الذي يطبق على المكان
المنفتح من جدار المبيض وكأن هناك تفاهماً ما بين حرس الحدود وهذا البوق الذي هو
نهاية المفير .
وعندما يتسلم البوق هذه الامانة العزيزة يكون الجريب المنفقىء قد دلق سوائله في
فسحة البطن وهذه السوائل هي هورمونات تثير الميل الجنسي عند المرأة وكأنها تحت
المرأة حتى لا يضيع هذا الجهد المبذول ، ويحصل التلقيح ولا يلقي بالبيضة إلى الموت
لأنها لا تعيش أكثر من ٢٤ ساعة على أبعد حد وينقلب الجريب بعد ذلك إلى مهمة جديدة
تعين البيضة التي انطلقت في سبيلها فهو لا ينسى طول الصحبة على الوفاء لها ولذا
تسمى بقية الجريب بالجسم الأصفر لأنه يمتلىء بمادة صفراء هي هورمون خاص يسمى
بالبروجسترون ( اللوتئين ) حيث يمهد الطريق أمام البيضة فيما إذا
__________________
تلقحت فهو يرسل
أخباراً مستعجلة إلى الرحم يفهمه بأن يستعد لاستقبال البيضة التي هي في الطريق
إليه وعندما يسمع الرحم بهذه الأخبار المهمة يستعد لاستقبال الضيف العزيز فيبسط
الفرش الوثيرة والوسائد المريحة والزرابي الثمينة ( الزرابي هي السجاد ) كل هذه في
صورة تسميك غشاء باطن الرحم حيث تزداد غدده وطبقات خلاياه وبينما الرحم في
الانتظار إذا بالأخبار المؤسفة تنقل له أن هذا الضيف العزيز قد مات في الطريق
فيتأثر ويبكي دماً لا دمعاً على هذا الضيف العزيز وهو ما يعرف بالدم الطمثي.
والآن إلى البويضة التي انطلقت في
الرحلة المرسومة هنا يحصل تطور خطير ومهم وهو ما يعرف بالانقسام المنصف الذي يجعل
البويضة تملك تصف الكروموسومات حتى تلتقي بالنطفة التي تملك أيضاً نصف
الكروموسومات ( الصبغيات ) من الأب حتى يتشكل من اجتماع النصفين بشر سوي متكامل ،
والآن حانت ساعة الصفر لأن الحيوان المنوي الذي تركناه وهو ينطلق كالصاروخ عبر
الرحم إلى النفير والبوق وهو يضرب بذنبه الطويل ويشق عباب المفرزات بأسرع حركة وهي
الحركة اللولبية وفي مقدمته القلنسوة المدرعة فكيف سيتم اللقاء التاريخي؟؟؟ ..
لقاء
الحيوان المنوي والبويضة :
لو تصورنا أننا ارسلنا رجلاً مغمض
العينين من شرق سوريا من مدينة القامشلي ومن الغرب رجلاً آخر من اللاذقية مغمض
العينين ودفعناهما في اتجاهين معاكسين وحددنا لهما غرفة على شاطىء نهر الفرات تبعد
عن مدينة دير الزور بمسافة ٢٥ كم إلى الجنوب الشرقي فكيف نتصور اللقاء هل هو أقرب
للمستحيل أم هو مستحيل فعلاً؟ إن هذا يحدث تماماً للنطفة والبيضة لأن البوق الذي
تسير فيه البيضة يعتبر نفقاً هائلاً بالنسبة لها واكثر بالنسبة للنطفة حيث أن قطر
النطفة يبلغ بضعة ميكرونات ويبلغ قطر البويضة ٢٠٠ ميكرون بينما يبلغ طول النفير ١٢
سم وثخانته ١ سم وهي على كل حال أجزاء من السنتمتر من الداخل
( لمعة النفير )
ونعيد فنذكر القارىء أن الميكرون هو جزء من ألف من الميلمتر وهكذا فإن طول النفير
يبلغ ( ٢٤٠ ألف ) ضعف للنطفة وتعبر النطفة ثلثي هذه المسافة في مدى ساعات ثم
لنتصور كثافة القذائف المتسابقة فهي كما ذكرنا بالملايين والسبّاق الأول هو الذي
يلتحم بالبويضة حيث إنه يقترب من البويضة ويرسل لها انزيماً خاصاً يعتبر كرسول
يخبر البويضة أن ها قد جئت فافتحي الباب فتبعث له إشارة من جدارها الخارجي أن
اقترب وهو مخروط الجذب كما يسميه الأطباء حيث تتبارز منطقة صغيرة من الجدار
الخارجي للبويضة فيقترب من هذا التبارز الحيوان المنوي وإذا بالجدار ينفلق من جهته
ويلجه الحيوان المنوي بقلنسوته المصفحة من جهة ثانية ويترك وراءه الذنب الطويل
الذي ساعده في هذه الرحلة الطويلة فجزاه الله كل خير ، ولكن لم يعد بحاجة اليه
فليبق إذن في الخارج وليدخل إلى جوف البويضة الحشوة الانسانية النصفية. وتقترب
النواتان وتندمج الصبغيات وتكتمل وإذا بالكروموسومات تتراكب على بعضها وتخلق
انساناً جديداً له صفات الأب والأم معاً.
وهنا نتساءل وكم تساءلنا وكم سوف نتساءل
مع المستقبل أين تكمن الصفات الوراثية لهذا الانسان الجديد؟ إنها تكمن في الحمض
البربي النووي منقوص الاكسجين الذي رمزنا له بـ. D.N.A ( د. ن. آ ) كل
صفات الإنسان تكمن في هذا الحمض الذي يبلغ من الطول (٣٠) ثلاثين انغستروم A ولكن كما قال
العالمان واطسون وكريك يتكون من ألف دورة يتوزع فيها المورثات التي تحمل صفات
الانسان الإرثية بطريقة يعجز الطب عن تفسيرها. إن البيضة التي تكونت الآن من
اجتماع البويضة التي انطلقت من المبيض والنطفة القادمة من الذكر تبلغ من الوزن
جزءاً من مليون من الغرام وهذا الجزء اليسير سيخلق منه الإنسان بكامله وصدق الخالق
العظيم ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه
فجعلناه
سميعاً
بصيراً )
ولقد وجد أن هذه الخلية الملقحة لها زمان ومكان إذا قدمت أو أخرت لم يحصل الالقاح
ولم يتم تخلق الإنسان ، فأما الزمان فالبويضة تنزل في اليوم الرابع عشر من الدورة
الشهرية وتعيش لساعات قليلة أو يوم على ابعد حد إذا لم تلتق بالحيوان المنوي وكذلك
فإن الحيوان المنوي يدخل إلى البوق وله من العمر ٣ ـ ٤ أيام لا أكثر فإذا حصل
التلقيح كان عمره عمر الإنسان وإذا لم يحصل مات في ايام فأي سر في التلقيح ومن
الذي وهب هذه القدرة العجيبة لهذه البيضة الملقحة؟ وأما المكان فلقد وجد أن المثلث
الوحشي ( الثلث البعيد عن الرحم فيما إذا قسمنا النفير إلى ثلاثة أقسام : ثلث قريب
من الرحم وثلث متوسط وثلث بعيد عن الرحم ، ونسأل لماذا هذا المكان بالذات حتى أن
التلقيح لو حصل في غير هذا المكان لا يتم ولا يتابع سيره؟ على العلماء ذلك تعليلات
شتى ولا يوجد تعليل واضح موحد للقضية سوى أن يقول الإنسان تدبير الرب الحكيم ( أفرأيتم
ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين.
على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون. ولقد علمتم النشأة الأولى فلو لا
تذكرون )
ثم يبدأ انقسام هذه الخلية الجديدة التي سميناها بالبيضة الملقحة ولقد منحت قدرة
هائلة في التكاثر حتى أن الأطباء يعرفون هذا الشيء كما يقول القرآن ( يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) إن كبر الرحم والبطن عند المرأة وبسرعة
هو بالدرجة الأولى حمل ثم نشكل بغيره لأن نمو الرحم هو أسرع من نمو أخبث السرطانات
المعروفة ولكن شتان ما بين هذا النمو الذي يقود إلى الحياة والنضارة ، وذلك إلى
الموت والآلام وهكذا فإن قدرة الحياة أسرع من الموت.
إن الخلية الجديدة التي تبلغ من الوزن
جزءاً من مليون من الغرام
تصبح في موعد
الولادة مخلوقاً متكاملاً يزن ثلاثة آلاف ومئتين وخمسين غراماً (٣٢٥٠) غراماً
ويبلغ مقدار خلاياه (٢٠٠) بليون خلية أو على ما ذكر صاحب كتاب « لماذا نموت »
الدكتور عبد المحسن صالح ألف مليون مليون خلية وهو رقم هائل ، وهذا نتيجة
الانقسامات العديدة ، وأما الوزن فقد ازداد ما يفوق على ثلاثة آلاف مليون مرة عما
كان عليه عندما كان يرقد في الخلية الأولى؟!! ..
بعد أن يتم تلقيح البيضة تضرب في محيطها
الخارجي جداراً كتيماً بحيث أن جميع النطف التي تأتي بعد ذلك وتضرب برؤوسها الجدار
لا تستطيع اختراقها وهكذا تموت بقية النطف. ثم لنتابع رحلة البيضة الملقحة حيث نجد
أنها تبدأ بالانقسام بشكل سلسلة هندسية ٢ ، ٤ ، ٨ ، ١٦ ، ٣٢ ، ٦٤ ، ١٢٨ ، ٢٥٦ ،
٥١٢. وهذا ينتج عدداً ضخماً من الخلايا مع عدم زيادة حجم البيضة الأصلية اي أن
الذي يحصل هو تقسم البيضة فقط واثناء هذا الانقسام تكون البيضة سائرة في نفق البوق
حيث تدفعها التيارات المصلية الموجودة في البوق وتستغرق هذه الرحلة عبر هذا النفق
البوقي قرابة عشرة أيام حيث يكون الانقسام قد أخذ ذروته وعلى ما يذكر البعض يحصل
قرابة خمسين انقساماً وعندما تصل إلى الرحم يكون الغشاء المخاطي الرحمي مهيأ
لاستقبالها كما ذكرنا وهنا يبدأ عمل عجيب ومهم وهو دخول البيضة إلى داخل الجدار
الرحمي والجدار مغلق أمامها؟ ثم لا نلبث أن نرى أن هذه البيضة التي أصبح لها شكل
التوتة من كثرة ازدحامها بالخلايا أن تمد أرجلاً كأرجل الاخطبوط تعمل بقوة وعنف في
فتح الجدار الرحمي أمام التوتة ، وعندما يتم لها ذلك تنطمر هذه البيضة التوتية في
جدار الرحم ويغلق الباب الذي فتح لها خلفها ثم ماذا؟ إن هذه الأرجل الأخطبوطية
تمتد على مدار التوتة وهي ما تعرف بالزغابات حيث تقوم
يقضم محتويات الجدار
مع العروق الدموية فينسكب الدم الغزير بشكل برك تحيط بهذه العلقة!! لأنها علقت في
جدار الرحم وتنغمس الأرجل الأخطبوطية في برك الدم لتمتص الغذاء للجنين.
العلقة واللوحة المضفية :
وهكذا نرى أن العلقة الإنسانية تصبح
محاطة من كل الجوانب بالزغابات الكوريونية التي تمتص من الدم كل ما يلزم لتخلق
الجنين من الماء والأملاح المعدنية والفيتامينات والكريات والاحينات والدسم فهل
هناك أعجب من أن يكون المرء في غرفة ، والمواد الغذائية من فواكه وخضروات ومآكل
طيبة ووجبات دسمة تقدم له من السقف والأرض والنوافذ وجدران الغرفة ، إن هذا هو ما
يحصل بالضبط للعلقة الانسانية حين تتغذى!! ... لو دخلنا الى داخل هذه العلقة
لوجدنا أن بعض المناطق منها لها شكل يختلف عن بقية المناطق ، هذا المكان رقيق يشبه
اللوحة أو القرص الصغير سمي باللوحة المضفية وهو أبعد الأماكن التي يتخيلها الذهن
والتي يمكن أن تكون مصدر الكيان الإنساني ، وهكذا نرى أن أكداس الخلايا التي تكونت
وشكلت ما يعرف بالتوتة يختص قسم منها بالتكوين الخارجي للمضغة ويختص قسم صغير منها
في تكوين الخريطة الأولى للمساحة الانسانية ، هذه اللوحة يسمونها بمجموع الوريقات
التي ستتخلق منها الأعضاء وهي تعرف بالوريقة الباطنة والظاهرة والمتوسطة فلنر الآن
كيف ستبدأ عملية التخلق ... تظهر ميزابة في وسط المضغة والتي ستكون في المستقبل
الدماغ والنخاع كما تظهر بجانبها قطع عرفت بالقطع البدئية ومن هذه القطع تتولد
الفقرات وامتدادها العظمي وهي عظام الأطراف ومنها العضلات حيث تمتد لتكون عضلات كل
الجسم ، والعجيب أن العظام تتكون بالأصل ثم تأتي العضلات بعد ذلك لتكسوها وصدق
الله العظيم ( فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ) ثم تبدأ
العملية الجبارة في
خلق أعضاء الجنين فطائفة من الخلايا تختص بالحواس وأخرى بالعظام وثالثة بالعضلات
ورابعة بالأجهزة وهكذا يتكون من الوريقة الباطنة الرغامى والقصبات والرئتان
والبلعوم والأنبوب الهضمي والكبد والمعثكلة كما يتشكل من الوريقة المتوسطة الجمجمة
ونسيج الرأس الضام وعضلانه وعضلات الأطراف وهيكل العظام والجهاز التناسلي وغشاء
الجنب ( غشاء الجنب يغلف الرئتين ) والثامور ( غشاء يغلف القلب ) والصفاق ( غشاء
يغلف الأمعاء ) والقلب والعروق ، والبلغم والجملة البيولية ، كما يتكون من الوريقة
الظاهرة بشرة الجلد والعناصر الملحقة به من غدد وأشعار وأظافر وأعضاء الحواس
والجملة العصبية فكيف خططت كل هذه الأجهزة وكيف سار البناء في نسق واحد بحيث أن كل
مجموعة خلوية تقوم ببناء جهاز خاص بل نسيج خاص وهي لا تعمل مستقلة بل متعاونة مع
غيرها بحيث أن كل جهاز يأخذ مكانه الطبيعي وأي خلل يعطي تشوهات خطيرة للمستقبل كما
يعرض الحياة للخطر ، ولذا لم نجد أن العين نمت في البطن أو أن اليد انبثقت من
الرأس أو أن الأذن نبتت على الساق ، أو أن الشرج ركب في الظهر ( يا أيها
الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك ، كلا
بل تكذبون بالدين )
وعندما ينمو الجنين أو بالأصح عندما تنمو المضغة وجد أنها خلال الاسابيع الأولى
تشبه كثيراً مضغة الزواحف والطيور وحتى الخنازير!! ولكن ما أن يكتمل الشهر الثاني
حتى يبدأ تخلق الإنسان وينشأ إنشاء جديداً وصدق الله ( ثم انشأناه خلقاً آخر
فتبارك الله أحسن الخالقين ).
تكوّن
الذكر والانثى
لقد وجد أن المضغة الانسانية يكون طولها
٥ ملم في اليوم الخامس والثلاثين ثم تزيد بمعدل ملمتر واحد يومياً حتى نهاية الشهر
الثاني أي تصبح ٣٠ ملم أو ٣ سم عندما يكون العمر شهرين وفي نهاية الشهر الثالث يتم
تكوّن الاعضاء
التناسلية الخارجية وهنا نتساءل ولكن كيف تحدد الجنس ذكراً أم أنثى؟ إن هذا يعود
إلى الايام الأولى من تخلق الانسان وبالضبط في اللحظة التي التقى فيها الحيوان
المنوي بالبوضة فلقد وجد أن الحيوانات المنوية تحوي من الصبغيات كما مر ٢٣ صبغياً
ووجدوا أن الحيوانات المنوية نوعان من ناحية حمل الصفات الجنسية فقسم يحمل صبغياً
يرمز له بـ X وصبغياً آخر يرمز له بـ Y كما وجد أن الذكر
تحتوي خلاياه على ٢٣ زوجاً من الصبغيات ٢٢ زوجاً منها تتعلق بالصفات الجسمية
والزوج الأخير يتعلق بالصفات الجنسية وهو مكون من اجتماع صبغي X
مع صبغي Y وهكذا فإن صبغة الذكر الجنسية هي XY ، بينما وجدوا أن
الأنثى لا تحتوي إلا نوعاً واحداً من الصبغيات الجنسية هي X فقط ووجدوا أن
الصيغة الجنسية في خلايا الانثى هي كما يلي ٢٣ زوجاً منها ٢٢ زوجاً للصفات الجسمية
و XX الزوج الأخير للانوثة ومن هذا الشرح البسيط تتبين لنا حقيقة هامة
وهي أن الذكر هي الذي يحدد جنس الجنين بفضل الحيوانات المنوية متغايرة الصيغة فإذا
التحم حيوان منوي بحيوي صيغة X كان الجنين انثى لأن البويضة بطبيعة الحال تحمل صيغة X
فتكون النتيجة هي الصيغة الجنسية XX وهي صيغة الانثى بينما إذا التقى حيوان منوي يحمل الصبغي Y
كان الجنين ذكراً لأن الصيغة ستكون XY وهي صيغة الذكر. وصدق الله حينما قال : ( أيحسب
الإنسان أن يترك سدى. الم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى. فجعل منه (
أي المنى أو النطف )
الزوجين الذكر والانثى )
فالآية هنا تشير إلى أن تحديد الجنس يعود للنطف عند الذكر وهي حقيقة علمية كشف
العلم الحديث عن سرها؟!!
وحتى ندرك أهمية هذا الأمر وخطورته وأن
أي زيادة أو نقص يسبب خللا خطراً على الكيان الإنساني ومنها تناذر كلاين فلتر
وتناذر
تورنر فأما الأول
فهو الصيغة الجنسية نفسها مع زيادة في صبغي واحد فقط هو صبغي X
والصيغى العامة هي ( YXX ) بينما الثاني هو ( X فقط ) أي عدد الصبغيات في الأول هو ٤٧ بدلاً من ٤٦ والثاني هو ٤٥
بدلاً من ٤٦ وحتى ندرك المظاهر الخطيرة لزيادة صبغي واحد فإن ما يسمى بتناذر كلاين
فلتر يظهر أثره في المصاب به قصوراً عقلياً مع انعدام الحيوانات المنوية وظهور
الاثداء كالمرأة عنده بالإضافة إلى أمراض خطيرة كالسكري وانتفاخ الرئة وكذلك ما
يعرف بتناذر المرض المنفولي حيث يشبه المريض بسحنته سحنة المنفوليين فلقد وجد أن
السر في هذا المرض هو زيادة صبغي واحد كما في التناذر الذي مر أي عدد الصبغيات هو
٤٧ بدلاً من ٤٦ وصيغتها هي ( YXX ) بدلاً من ( XX ) عند الانثى أو ( YX ) عند الذكر وأبشع مظاهر هذا المرض هو القصور العقلي الشديد حيث
لا يستفيد منه أهله إلا التخريب والإزعاج وكل هذا من أجل زيادة صبغي واحد في
البناء الكروموسومي الذي يعد مصمم الإنسان ومركبه.
سير التخلق الانساني :
والآن بعد أن اكتمل تكوّن الإنسان ورسمت
خريطته بشكل إجمالي في الشهرين الأولين ( حيث يعتبر الشهر الأول مرحلة بيضية لأن
شكل الإنسان ما زال في طور البيضة والشهر الثاني يعتبر مرحلة مضغية لأن شكل
الإنسان وكأنه قطعة لحم ممضوغة ) يدخل الإنسان مرحلة الجنين الكامل حيث تتكامل
أعضاؤه وتتميز وتأخذ الشكل النهائي. ثم يبدأ في الشهر الثالث لينمو نمواً جديداً
فلقد وجد العلماء أن الزغابات التي كانت تقضم خلايا الرحم وتكون بركاً دموية
للتغذية والتي كانت تحيط بالعلقة من كل جهة تستحيل من جميع الأماكن غلا موضعاً
واحداً حيث تتكون المشيمة ، والمشيمة لها قصة خاصة سنشرحها بعد قليل ،
كما وجد أن السائل
الامينوسي يتكون في هذا الشهر ويحيط بالجنين وفائدة هذا السائل أنه يحيط بالجنين
من كل جهة ولذا فهو يجعل الجنين بحالة سابح فيه مما يقيه من الرضوض التي يتلقاها
الرحم خاصة والرحم غائر في البطن ، كما أنه يسهل حركة الجنين وهذا مهم لان وضعية
الجنين حين الولادة مهمة وإذا لم تكن نظامية وهي أن يأتي الولد منكوساً ( رأسه إى
أسفل ) وبحيث أن المنطقة الخلفية للجمجمة هي التي تطبق على فوهة الرحم وهو ما
يسميه المولدون بالمجيء القمي فإذا لم يكن المجيء كذلك كانت الولادة عسيرة وقد
تتعرض حياة الأم مع حياة الطفل طبعاً إلى الخطر ، والذي يخفف من خطورة هذا الأمر
هو السائل الأمينوسي الذي يسمح بحركة الجنين وأخذ الوضيع المناسب كما أن هذا
السائل يوزع الضغط بشكل متساو على الجنين في حالة الرض أو ضغط الرحم أثناء المخاض
حسب مبدأ باسكال المشهور في ضغط السوائل ، وبالاضافة إلى هذا فان السائل يوسع
فهوهة عنق الرحم وذلك عندما يكون ما يعرف يجيب المياه وهو جيب يتكون في أسفل الرحم
عند فوهة العنق من ضغط السائل الأمينوسي باستمرار على أغشيى الجنين وعندما ينبثق
هذا الجيب وهو ما يعرفه عامة الناس ( بأن ماء الرأس انفجر ) فان هذا السائل فه
هورمون خاص يحرض المخاض وينبه عمليات تقلص الرحم ، فأي سر عجيب يكمن في هذا السائل
الذي هو في شكل الماء حتى يقوم بكل هذه الوظائف مجتمعة.
وأما المشيمة ، وما أدراك ما المشيمة
فانها المصفاة الامنية والمغذية العاقلة والمديرة الحكيمة لأمور الحياة للجنين فهي
التي تمتض الدم من رحم الأمر وتدفعه إلى دوران الجنين وهي التي تهضم الطعام مثل
الآحيات بحيث أنه تجعلها بسيطة مستساغة ثم تبعث بها إلى الجنين حتى لا يتضايق منها
خاصة وإن الكبد لا يقوم بعمله إلا في دور متأخر وهي التي تدخل
الغازات والماء
والاملاح المعدنية والسكريات إلى الجنين ، ولولاها لما عاش لحظة واحدة وإذا مرت
دسم ثقيلة بعثت بخمائرها حتى تحيلها إلى صابون دسمي يمكن إمراره إلى دم الجنين ثم
تفكيكه بعد ذلك حتى يستفيد منه الجنين كما أن السكر إذا فاض عند الحاجة انقلبت
خلايا المشيمة إلى مستودعات تخزين لمولد السكر حتى يحل بعد ذلك في الوقت المناسب
الذي يحتاج اليه الجنين ، وأما الخلايا الأمامية من المشيمة فهي تفرز العديد من
الهرمونات التي تكفل للجنين أن يتابع حياته كما تحافظ على الاستقرار والاتزان في
اخلاط جسم الجنين ومفرزاته ، فمن الذي لقنها كل هذه الدروس وخطط لها كل هذه
البرامج؟!
ثم ننظر لنرى حماية الجنين المدهشة وهو
مدفون في الأعماق وهو حي ومع أن جلد البطن وعضلاته مع الأحشاء بالإضافة غلى سماكة
الرحم كل هذا يحميه مع ذلك كله فإنه محاط بثلاثة أغشية وهي الساقط والكوريوني
والأمينوسي مما يجعل الإنسان يدهش لقول الله تعالى حينما يقول ( يخلقكم في
بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ) ـ الزمر ـ فهو إن كان المقصود به ظلمة
البطن وظلمة الرحم وظلمة الأغشية كان جائزاً ولكن الآية تشير إلى أن هذا في البطن
أي أن الظلمات موجودة في البطن فهل هي هذه الأغشية الثلاثة؟ والحق يقال إن العلم
كلما تقدم وكشف المزيد من أسراره ازداد إيمان المسلم وهو يرى الآيات التي تشير إلى
بعض القضايا العلمية الدقيقة التي كشفت أسرارها في هذا القرن وصدق الله حينما ( سنريهم
آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق او لم بكف بربك أنه على كل
شيء شهيد )
ـ فصلت ـ ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم افلا
تبصرون؟ )
ـ الذرايات ـ ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك
بغافل عما تعملون )
النمل : ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) ... ولنتابع تطور الجنين وتخلقه خلال
أشهر
الحمل تدريجياً انه
في الشهر الثالث يبلغ طوله ثلاثة سنتمرات ٣ سم ووزنه ١١ غراماً فقط ويكون الرأس
كبيراً مخيفاً يقارب في حجمه ثلث حجم الجنين ، وأما الأحشاء فهي بارزة مع الكبد في
حالة فتق فما هذا المنظر وأي جراح سيصلح له هذا الفتق ويرد احشاءه؟ لا نستعجل
فالارادة الحكيمة تفعل فعلها ، كما نلاحظ ظهور العينين والأذنين والأطراف كجذمور
صغير!!
وفي نهاية الشهر الثالث يبلغ طول الجنين
١٠ سم ووزنه ٥٥ غراماً أي أن طوله أصبح ثلاثة أضعاف خلال شهر ووزنه تضاعف إلى خمسة
أضعاف ، ولا يلبث ذلك الفتق أن يزول وترجع الأحشاء مع الكبد إلى الداخل ويتكون
موضع السرة حيث يبقى بصمة على مر الزمن تذكر الانسان بالموضع الذي خرج منه!! ..
وفي نهاية الشهر الرابع يصبح طوله ٢٠ سم
ووزنه ١٧٠ غراماً أي تضاعف الطول خلال شهرين سبع مرات وتضاعف الوزن ١٧ مرة!! كما
يتشكل الجهاز الهضمي ويبدأ الكبد بالعمل ولكن الجنين مع هذا يبدو أحمر اللون أصلع
كما أنه يبدو بشع المنظر متجعد الجلد ، ولكن لا نستعجل لان كل شيء سيتم على ما
يرام ، ففي نهاية الشهر الخامس يصبح طوله ٣٠ سم ووزنه ٦٥٠ غراماً كما يظهر شعر
الرأس وتبدأ غدد الجلد في العمل. اذن بدأت مظاهر الجمال بالظهور حسناً فهل انتهى
الأمر أم انه بحاجة إلى أشياء جديدة؟ هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى تتمة فالاجفان
مطبقة ملتصقة ببعضها ولا أظافر كما ان لون الجلد ما زالد أحمراً ، ولا تزال تجعدات
الجلد موجودة كما ان الخصيتين ما تزالان في الظهر ولكن ما أن يصل إلى الشهر الثامن
حتى يكون طوله ٤٥ سم ووزنه ٢٥٠٠ غرام ، والاجفان منفصلة والشحم تحت الجلد أخفى
التجعدات كما ان لون الجلد أصبح أبيض وردياً جميلاً وهاجرت الخصيتان من الظهر إلى
الصفن ، وفي نهاية
الشهر التاسع يكون طوله ٥٠ سم أي تضاعف طوله ما يقرب من ١٧ مرة والوزن ٣٢٥٠ غراماً
أي تضاعف الوزن قرابة ٣٢٥ مرة كما ان الاجهزة تكون كاملة ويكون الجنين في تمام
تخلقه لا ينقصه شيء. فكيف سارت الأمور في هذا الطريق مرحلة مرحلة لا تسبق مرحلة
أخرى ولا تستأخر وكل منهما توصل الجنين إلى مرحلة أخرى تتمم الاولى؟! أي خلق واي
ابداع سبحانك اللهم؟!! ...
الولادة
:
ولنلق نظرة على أجهزة هذا الجنين عندما
يحين الوقت لنزوله إلى الكدح!! ان وزن القلب ٢٠ غراماً ووزن الرئة ٣٠ غراماً ووزن
الكلية ١٢ غراماً ووزن الدماغ ٣٥٠ غراماً ، أما وزن الدرق والمعثكلة فهي ٣ غرامات
والكبد يزن ١٢٥ غراماً ، أما وزن النخامة ملكة الغدد فهو نصف غرام لا أكثر!! ..
بينما وزن المشيمة ٥٠٠ غرام لانها في الحقيقة تمثل جميع أعضائه وأجهزته العاملة
فهي التي تغذيه وتحميه وتهيء له كل ما يحتاج لنموه واستقراره واتزانه فما أعقلها
تلك الأم الصغيرة؟! ..
ثم لننظر الى هذه الانشوطة التي يتعلق
بها الجنين وهو يتأرجح بها مسروراً والتي تسمى بالحبل السري إنها أرجوحة مسلية (
طول الحبل السري ٥٠ سم ) فهو يلعب ويتحرك كيفما يشاء ويخبط برجليه ويديه جدار
الرحم معلناً وجوده وحياته ومخبراً بوضعه وسروره بهذه الحالة كما أن هذا الحبل
يحوي مواسير الدم التي تنقل من المشيمة إلى الجنين حيث نجد في الحبل وريداً ضخماً
وشريانين يقومان بايصال الدم وإرجاعه فهي مهمة مقدسة ، ولذا كان لهذا الحبل مزايا
مهمة جداً فقصره يعرض لشدة الضغط على المشيمة وبالتالي انفكاكها وتعريض حياة
الجنين للخطر بنقص تروية الدم كما أن طول الحبل قد يجعله ينسدل أو يلتف على عنق
الجنين ليقوم بعمل
أشبه ما يكون بعملية شنق للجنين وهي إذا حدثت قطعت ورود الدم إلى الدماغ وبالتالي
هلاك الجنين فأي أسرار وأي إبداع في كل جزء من هذا المخلوق وهذا الكون ( الذي أحسن
كل شيء خلقه )
، ( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ) ، ( ولقد كرمنا بني آدم ) ...
وطالما تحدثنا في هذه الصخامة التي وصل
اليها الجنين وهي ما ناحية الطول أكثر بـ ١٧ مرة ، ومن ناحية الوزن أكثر بـ ٣٢٥
مرة عما كانت عليه المضغة في نهاية الشهر الثاني حيث حصل الانعطاف الانساني في
تخليق المضغة وتكوينها ، فماذا يحصل للرحم وهل هو بهذه السعة والصخامة أم انه
يتمدد؟ وإذا تمدد فهل يصل إلى هذا التمدد الهائل؟ يجيبنا الطب ويقول : ان الرحم
تبلغ من الحجم عند الفتاة الغذراء حوالي ٢ ـ ٣ سم بينما هي تصل في أواخر الحمل إلى حجم
خمسة ألتار أو ما يعادل ٥٠٠٠ سم ٣ أي أن حجم الرحم ازداد بمقدار ٢٥٠٠ ضعف تقريباً
كما أنه يصل في بعض الحالات إلى ١٠ ليترات أو حتى ١٥ ليتراً كما في الحالات
المرضية التي تعرف بالاستسقاء الأمينوسي أو الجنين الوطل أو الحمل التوأم!!! فكيف
استطاعت عضلات الرحم أن تتمطط بهذه الكيفية حتى استطاعت أن توسع الحجم إلى ألفين
وخمسمائة ضعف كما انها بعد الوضع تعود إلى ما كانت عليه فأي سر عجيب هذا الذي
تحتويه؟! وأما الوزن فتزداد عشرين ضعفاً حيث يكون وزن الرحم قبل الحمل ٥٠ غراماً
بينما هو عند الوضع كيلو غرام واحد فما هي المواد التي انضمن إليها وتشربت بها حتى
زادت بهذا الشكل؟ إنها أسرار وألغاز يحتار حتى الطب في تعليلها وهي من اختصاصه!!
ثم نتساءل حول هذه الضخامة المفرطة كيف يتسنى للبطن أن يحتويها حتى ليصل قعر الرحم
إلى أسفل عظم القص والذي يسمى بالذيل الخنجري؟ حقاً إن الحمل معجزة بحد
ذاته لولا اننا
نراها كل يوم فتبلد حسنا اتجاهها ، ثم لننظر في مستويات أخرى حتى نرى هذا الانقلاب
الهائل في جسم المرأة والذي يتجلى في كل ناحية من ناحية جسمها ، أولاً على مستوى
الحوض حيث انها تستعد لتدخل الجنين وخروجه حياً وهذا بحد ذاته عجيبة من العجائب
سنتعرض لها بعد قليل ، ثم ان المبيض يكون قد لحم فلم يعد يفرز شيئاً وكأنه صامت
ينظر إلى هذه المسرحية العجيبة وهي مسرحية تخلق الانسان وأما الدم فهو قد أعلن
استنفاره للقضية ولكن كيف بامكانه أن يخدم القضية الخطيرة؟ هنا يحصل تشاور على
مستوى عال وتكون النتيجة كالتالي :
يقول الدم ، ما هو الشيء الذي أستطيع أن
أقدمه لكم فتكون الإجابة لا عليك سوف تبعث الغدة النخامية أوامرها لقشر الكظر حتى
يزيد من افراز هورمون الحابس للملح والماء وهو الالدوسترون فاذا زادت كتلة الدم
بزيادة الماء كان هذا أحسن وذلك احتياطاً للطوارىء فيما لو حصل نزف فتكون كمية
الدم أكبر ولكن هل هذا يكفي؟ انه لا يكفي اتصلوا سريعاً بالكبد حتى يزيد لنا من
كمية مولد الليفين ويدفعها إلى الدم حتى يتخثر الدم بسرعة فيما إذا حصل ، نزف خاصة
وان المشيمة سوف تقتلع وتنسلخ من قعر الرحم ، وكل هذا سيعرّض لخطر النزف ، وأما
أنت أيها الدم فاستوعب كل ما نرسل إليك طالماً أظهرت إخلاصك للموضوع ، ويكون جواب
الدم انني الخادم المخلص لهذا الانسان العظيم الذي أساعد ف إظهاره إلى صفحة الوجود
، ثم لا تلبث الأوامر المشددة أن تنطلق إلى الكبد ليزيد من تقوية الدم وشد أزره في
الأزمات وذلك يتوليد المزيد من الحديد والخضاب ، وهكذا يحصل التعاون ما بين الغدة
النخامية والكظر والكبد والدم ، هناك أمور أخرى يجب أن نحتاط لها وهي موضوع
الجراثيم الانتهازية التي تنتظر مثل هذه الفرص حيث
تنفتح الأوساط
العقيمة فتجدها مزارع طيبة للنمو والتكاثر!! إذن فلترسل الأوامر إلى نقي العظام
حتى يزيد من انتاج الكريات البيض وجعلها في أهبة الاستعداد لمقاومة الإنتان ،
وهكذا يرتفع رقم الكريات البيض بضعة آلاف في الملم بالاضافة إلى الصفيحات التي ترسل إلى
الدم لتعاون هي ايضاً في قطع النزيف فيما لو حصل؟!! انقلاب شامل في كل أجهزة البدن
، كلها تستعد للمهمة الخطيرة : الأعصاب ، الغدد ، الأخلاط ، العضلات ، المفاصل ،
العظام ...
ترسل الأوامر الهورمونية إلى مفاصل
الحوض بالخاصة حتى ترتخي وتهيء الطريق ولا تضايق المرور وهذا عن طريق هورمون
الرولاكسين الذي يقوم بهذا الفعل خاصة ، ثم ماذا عن الهورمونات السحرية العجيبه
التي تفعل بترقيق شديد جداً يبلغ الجزء من المليون ، انها تعمل على أروع المستويات
، فالجسم الأصفر الذي استمر في دأبه ونشاطه مدة خمسة أشهر وسطياً تقول له المشيمة
جزاك الله كل خير فلقد تعبث كثيراً وأرى أن ترتاح لأقوم بالمهمة التي تقوم بها
وإذا بخلايا المشيمة الأمامية تقوم بالاضافة إلى عملها الامتصاصي للدم تقوم بإفراز
هورمونات تعين على استقرار الجنين داخل الرحم وهي ما تسمى بالبرولانات ( آ ) و ( ب
) A + B بالإضافة إلى الجريبين واللوتئين ، وهذه الهورمونات على تفاهم
مستمر مع النخامة وهي تخبر النخامة في كل لحظة عن صحة الجنين ونموه وتقدمه ، وعن
نموه الخلوي والجهازي والعضوي على وجه العموم ، وعندما تحين ساعة الصفر تكون الخطة
ان توقف هذه الهورمونات المفرزة وخاصة الجريبين دفعة واحدة حيث تحصل المفاجأة
العجيبة وهي انقطاع الهورمونات التي كانت تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم انها
قضية مدبرة بتفاهم كامل بين الغدد والاعضاء ، وهكذا يتزعزع وجود الجنين ويبدأ
المخاض الشاق ، وهنا تحصل العجيبة وهي مرور الجنين من الأعضاء التناسلية إلى
الخارج ،
إن فوهة العنق مغلقة
تماماً بسدادة ليفينية ، وان المضيق العلوي فيه فتحة عظمية يبلغ قطرها في حدود (١٢)
سم فكيف سيمر الجنين من هذه الفتحة؟ تبدأ ملكة الغدد النشيطة في إرسال الأوامر من
الفص الخلفي بشكل منظم إلى عضلات الرحم وهذا الهورمون يفرز من خلايا خاصة مهمتها
هي هذه وفي هذا القسم يفرز هورمون آخر مهمته أن يضاد ادرار البول ، فماذا يحصل لو
حصل خطأ بسيط ، فكانت الأوامر للخلايا الثانية وليست الأولى ، لم يحصل هذا مطلقاً
ولا في امرأة واحدة فكيف سار هذا الناموس البديع المتناسق المحكم؟؟؟
يبدأ هورمون الفص الخلفي للنخامة
بإفرازاته المنظمة المقلصة لعضلات الرحم ، وهكذا تسير التقلصات وتدفع الجنين إلى
أسفل ، وتبدأ آلام المخاض عند الحامل ومع تكرار هذا الأمر ينفتح العنق وفيه خاصية
عجيبة أيضاً حيث يبلغ من انفتاحه درجة كاملة بحيث يتساوى مع جدران الرحم ثم ينبثق
جيب المياه الذي تكلمنا عنه ويبدأ رأس الجنين يحاول أن يتطابق مع الفوهة التي سيمر
بها ويكون هذا باطباق ذقنه إلى صدره والتقدم بمؤخرة رأسه وهكذا يمر الولج إلى أسفل
بينما تكون الأم في آلامها المريرة تعاني ما تعاني!! ولكن ما أن ترى المولود
بجنبها حتى تنسى كل ما تألمت في سبيل هذه الثمرة العزيزة الغالية التي هي ثمرة
الحب ( المولود الجديد ) ـ وعندما يصل المولود إلى هذه الحياة تحصل قضية ايضاً هي
معجزة في حد ذاتها وهي حجم الرحم الكبير والفراغ الكبير بعد خروج الجنين وليس هذا المهم
بقدر أهمية انسلاخ المشيمة وانفتاح برك الدم التي كانت تغذي الجنين ، لولا إرادة
الله العجيبة التي حفظت هذا الكائن في كل مراحلة لكانت كل ولادة معناها الموت
الحقيقي للأم لأن الدم سيخرج كالسيل الدافق من أفواه تلك البرك التي تنضح به ولكن
ما أن تنزل المشيمة حتى ينقبض الرحم بشكل عجيب حيث يصبح
في قساوة الحجر بحيث
ان الذي يضع يده على بطن الولود يشعر بتلك الكتلة القاسية التي هي دلالة ممتازة
على انقباض الرحم ولذا سميت هذه العملية بعملية الرقاء الحسي وسميت الرحم في هذه
الحالة بكرة الأمان وفعلاً انها كرة أمان تطمئن الطبيب إلى أن الوضع على ما يرام
ولا خوف على الأم التي وضعت فتبارك الله أحسن الخالقين.
تغذية الطفل :
أسرار وأسرار يحار الطب والعلم في
تفسيرها ومنها كيف سيتغذى هذا الوليد بعد أن جاء إلى هذا العالم الجديد وهو غريب
عليه ولم تعد معه تلك المشيمة التي كانت تقدم له الطعام مهضوماً جاهزاً ، ان
الارادة الحكيمة هيأت له الثدي كاحسن ما يكون فلننظر بدقة إلى كيفية هذا التكوين :
خلال الحمل تكون الأوامر المرسلة للثدي
هي بالاستعداد فقط وهي هنا تكاثر الغدد ولذا نرى حوالي ٢٥ فصاً عذباً لا للبن ومتى
حان الوضع ترسل النخامة أوامرها لغدد الثدي بالافراز ويبدأ الافراز ، وهنا نتساءل
كيف تحول الدم الذي يغذي الثدي إلى لبن مفيد للطفل حقاً انه سر من الأسرار العجيبة
المدهشة فلقد وجد أن طريقة وصول المواد الدسمة وغيرها عن طريق اللبن هو عن طريق
الافراز العائد للخلية ، ومعنى هذا ان الخلية الغدية تمتلىء بكرات الدسم فلا
تستطيع عبور العشاء الخلوي فينجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم ثم تعود الخلية مرة
أخرى فتجدد الغشاء الخلوي وما ذهب منها ، وهكذا ولقد وجد أن اللبن يحتوي على كافة
المواد التي يحتاجها الجسم وان تركيز المواد فيه يختلف مع تطور عمر الطفل .. كما
ان اللبن معقم فلا يحتوي على الجراثيم بالإضافة إلى أن أجسام المناعة تمر من خلاله
مما تعطي الطفل مناعة مهمة ضد الأمراض وذلك من دم والدته ، وإذا ذهبنا نعدد مزايا
حليب الأم
وأفضليته على باقي
أنواع الحليب سواء حليب الحيوانات أو الحليب المجفف فانه يتفوق بشدة ... وهذا كله
من رحمة الله بهذا المخلوق الذي يلد ضعيفاً وهو يحتاج للرحمة والعناية والغذاء
فأمن له كل ذلك وبشكل متناسق فتغذية الطفل تخلق حناناً وعطفاً ورحمة من الأم على
ولدها وتشد الناحية الروحية العاطفية بينهما ...
لنستمع إلى سيد قطب وهو يحدثنا عن
الاعجاز في خلق اللبن عند الآية القرآنية : ( وإن لكم في الإنعام
لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم
هو؟ انه مستخلص من بين فرث ودم ، والفرث ما يبقى في الكرش بعد الهضم وامتصاص
الامعاء للعصارة التي تتحول إلى دم. هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم فاذا
صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب الذي لا يدري أحد
كيف يكون ...
وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم
إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج اليها من مواد هذا الدم عملية عجيبة
فائقة العجب وهي تتم في الجسم في كل ثانية كما تتم عمليات الاحتراق ، وفي كل لحظة
تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد
... وقد بقي هذا كله سراً إلى عهد قريب. وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن
هنا من خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد
ليتصورها فضلاً على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة وما يملك انسان يحترم
عقله أن يماري في هذا أو يجادل. ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده
لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة ).
تشخيص
الحمل :
بقي علينا بعد هذه الرحلة الطويلة أن
تعرف على بعض الاسرار الأخرى المدهشة منها كيفية تشخيص الحمل؟ فلقد وجد أن الحمل
لا يشخص بشكل قطعي في الاشهر الأولى ولكن ابتداء من الشهر الرابع وما بعده بأيام
يبدأ قلب الجنين بالنبض ، ويعد سماع دقات قلب الجنين من الأعراض اليقينية لتشخيص
الحمل ، وهنا نجد توافقاً عجيباً بين هذا الرقم وعدة المتوفى عنها زوجها حيث سجل
القرآن تلك العدة كما يلي : ( والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشراً ) وهذا الرقم يطابق إلى درجة عجيبة الرقم
الذي يحدده الطب لوضوح العلامات اليقينية للحمل ، وهذا الشيء مهم من أجل الميراث
والنفقة وما سواهما من الأمور الهامة في الأسرة وحق الذرية فهل كان الذي أنزل عليه
القرآن ( عليه الصلاة والسلام ) طبيباً اخصائياً اطلع على علم التشريح الجنيني
وأدرك هذه الاسرار ثم سجلها ، أم أن هناك أمراً أهم وهو اطلاع الله على السر وأخفى!!!
...
ومن هذه الاسرار أيضاً عدم جماع الرجل
لامرأته في وقت الحيض حيث أن غشاء الرحم المخاطي يكون في هذه المرحلة في حالة توسف
وانسلاخ ولذا فإن الجماع في هذه الحالة له أضراره المؤكدة وأولها اصابة الرحم
بالتهاب وانتان وذلك بسبب انكشاف الطبقات الداخلية للرحم كما لو جرحت اليد والجرح
مفتوح فكيف سيعمل التلوث ، ان الرحم بالضبط هي في حالة جرح ولكن من باطنها فأي
جماع سيؤدي إلى صعود الجراثيم من المهبل إلى عنق الرحم وإذا صعدت فإن البيئة
مناسبة جداً لإحداث الاصابة الانتانية هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الحالة النفسية
للمرأة تكون أبعد ما يمكن عن الجماع والاستثارة الجنسية ، فلقد وجد الطب أن افراز
هورمون معين هو ( الفوليكولين ) هو الذي
ينمي الإثارة
الجنسية والحس الجنسي وهذا يزداد إفرازه قبل القاء البيضة أي بدءاً من أول الطهر
حتى اليوم الرابع عشر من الدورة حيث تلقى البيضة في هذا اليوم ، وفي هذا اليوم
بالذات يندلق هذا السائل مع انفجار جريب دو غراف الذي تحدثنا عنه وبهذا تزداد
الغريزة الجنسية في هذا اليوم أكثر من بقية أيام الدورة مما تجعل المرأة تتوافق مع
هذا الافراز تماماً فزيادة الغريزة والميل الجنسي مع الاستعداد للالقاح والعكس
بالعكس .. حيث يقل الميل الجنسي بعد إلقاء البيضة وتكون الجسم الأصفر الذي هو من
مخلفات جريب دوغراف المنفجر الذي أعطى البيضة ، وهذا الجسم الأصفر يعطي هورموناً
هو البروجسترون أو اللوتئين وهذا الهورمون يحدث تأثيرات مخالفة لتأثيرات الهورمون
الأول حيث ينمي هذا الحب والعطف والرحمة فالهورمون الأول هو هورمون المحبات بينما
الهورمون الثاني هو هورمون الأمهات!! كما لوحظ أن الهورمون الأول يحدث انقلاباً في
كل الجهاز التناسلي عند المرأة وبشكل يتفق مع امكانية الالقاح ، فالأعضاء
التناسلية عند المرأة يؤثر عليها فينمي الشفرين والبظر كما ينمي غدد بارتولان وهذه
تفرز مواد مخاطية تساعد في عملية الجماع كما أن هذا الهورمون ينمي المهبل ويزيد من
حموضته بزيادة سكر العنب الذي يتحول إلى حمض لبن بفضل جراثيم المهبل مما يحمي
المهبل حماية جيدة من الانتانات ويزيد من مقاومته ولكن طالما ازداد الحمض فإن هذا
فيه خطر على الحيوانات المنوية التي يضر بها الحمض ولكن يحدث أمر على درجة كبيرة
من الغرابة وهو ما يعرف بمفرز العنق الآحي اللصوق حيث تفرز غدد العنق أي عنق الرحم
في يوم الاباضة مادة رائقة لصوقة مثل آح البيض لا تبقى أكثر من ٢٤ ساعة وهي تعدل
مفرزات المهبل الحامضة من جهة كما أنها تشبه السلم الذي سوف يصعده الحيوان المنوي
الذي مهد له الأمر كل هذا التمهيد وأما تأثير هذا الهورمون ( أي الفوليكولين
على الرحم ) فإنه
يزيد من المقوية العضلية أي قوة توتر العضلات كما ينقص عتبة تقلصها أي أن المثير
الذي كان يدفعها إلى التقلص في السابق فإن أضعف من يحرض عضلات الرحم على التقلص
وهذا له فائدة حيث أن الرحم تقوم بعمل يشبه عمل الاجاصة التي تمتص المني بواسطة
عنق الرحم من المهبل امتصاصاً كما لو تصورنا إجاصة من المطاط لها فوهة موضوعة في
ماء وضغطنا هذه الاجاصة فإنها تسحب الماء بقوة بعد رفع اصبعنا عنها وهذا ما يحدث
بالضبط للرحم في الجماع وحتى في النفير يقوم هذا الهورمون بما يسهل مهمة الالقاح
البشري حيث يؤثر على العروق الدموية قتتسع وتحتقن وهذا ما يجعل النفير يفرز سائلاً
مطلياً يشكل تياراً يساعد في هجرة البيضة حتى تلتقي بالحيوان المنوي وتتلقح كما
يؤثر هذا الهورمون في قشرة الدماغ فينبه الشهوة الجنسية عند المرأة فانظر كيف أثر
هذا الهورمون الآخر بتأثيرات متعاكسة تماماً مع الفوليكولين حيث تنعدم تأثيرات
البروجسترون على المهبل ، وأما العنق فتكف مفرزاته وأما الرحم فيرفع عتبة تقلصه
حتى يؤمن سريراً ثابتاً هادئاً للجنين الإنساني وأما في قشر الدماغ فينمي الأمومة
في قلب المرأة فكيف اتفق لهذين الهورمونين أن يقوما بمثل كل هذه الاعمال؟ إنها
إرادة الله الطليقة المنشئة التي تحدث كل هذا ...
وهكذا نجد أن الظرف النفسي لا يوافق
عملية الجماع مطلقاً بل على العكس ، كما أن القذارة التي يكون عليها المهبل حيث إن
الدم الطمئي يمتاز بأنه وريدي أسود لا يتخثر كما أنه يحتوي كمية من مادة الزرنيخ ،
هذا بالإضافة إلى أن الجماع قد يحدث احتقاناً في المنطقة وفي الرحم مما يؤدي إلى
زيادة كمية القذف الدموي ، هذه الأشياء التي ذكرناها بالإضافة إلى أشياء كثيرة
لسنا بصددها الآن ترينا حكمة القرآن حينما
يقول : ( ويسألونك
عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا
تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ـ البقرة ـ. ومع هذا نسمع عن بعض
أساتذة التوليد الذين يدرسون طلاب الطب ان الجماع في الحيث ليس فيه أذى إنما هو
غير جيد من الناحية الميكانيكية لا أكثر؟!! ..
إن هذا الجواب بالإضافة إلى تفسيرات
أخرى تدل على ان الذهنية العلمية ربما خانت أصحابها حين يبحثون في مثل هذه القضايا
، فما هو السر يا ترى في كل هذه المواقف؟ إنها عقدة الفرار من الله .. إنها نتائج
التعليم الغربي الذي ما زال يعاني من الفصام النكد الذي حصل بين العلم والدين وذلك
نتيجة اضطهاد الكنيسة لرجال العلم في القرون الوسطى في أوربا والتي نجانا الله
منها في عالمنا بسبب فكرتنا الإسلامية العظيمة عن الكون والحياة والإنسان.
إن الحيض أذى بلا شك من كافة النواحي
البيولوجية والغريزية والنفسية وصدق الله وخرص المكذبون!!
وآخر المطاف في هذ البحث هو موضوع الفصل
بين الجنسي واعطاء تدريس مختلف لكل من الجنسين ولنأخذ مثلاً على ذلك : أن شريطي
موجود فكل سلك ملفوف بعازل يعزله عن رفيقه ويحدث اتصال في مكان مناسب خاص فتحصل
الإضاءة وتنتشر القدرة الكهربية بينما إذا حصل اتصال ما بين الشريطين في غير
المكان المطلوب أدى إلى تعطيل التيار فكيف الأمر لو حصل اتصال على طول الخط كما هو
في اتصال الجنسين اليوم!! ولنستمع إلى الدكتور الكسيس كاريل صاحب كتاب « الانسان
ذلك المجهول » وهو يحدثنا عن بعض الأشياء التي يجب أن نحددها للانثى والذكر ( إن
الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتي من
الشكل الخاص للاعضاء
التناسلية ومن وجود الرحم والحمل أو من طريقة التعليم إذ أنها ذات طبيعة أكثر
أهمية من ذلك أنها تنشأ من تكوين الأنسجة ذاتها ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيماوية
محددة يفرزها المبيض ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن الانوثة
إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليماً واحداً ، وأن يمنحا قوى واحدة
ومستويات متشابهة ، والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافاً كبيراً عن الرجل فكل خلية
من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائهن وفوق كل شيء
بالنسبة لجهازها العصبي فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للين مثل قوانين عالمنا
الكوكبي ، فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها ومن ثم فنحن مضطرون إلى
قبولها كما هي فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعاً لطبيعتهن دون أن يحاولن تقليد
الذكور ، فان دورهن في تقدم الحضارة اسمى من دور الرجل فيجب عليهن أن لا يتخلين عن
وظائفهن المحددة ... ولذا يحب ألا تلقن الفتيات التدريب العقلي والمساوي ولا أن
تبث في نفسها المطامع التي يتلقاها الفتياها وتبث فيهم ) ونحن لا نسلم بكل ما يقول هذا الكاتب
ولكن هذه الإشارة مهمة في توضيح ما يعاني المجتمع الغربي ...
__________________
الجملة العصبيّة المركزية
يقول الخالق العليم ( أفلم
يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى
الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )
إن القلب المعني به هنا هو الدماغ مركز التفكير في الانسان وهذا الجهاز هو موضع
بحثنا الآن ، فما هو تركيبه يا ترى؟ وما هي مكوناته وعمله الفيزيولوجي؟ وما هي
أسراره المحيرة التي لم يكشف النقاب إلا عن القليل منها؟ لنسمع إلى الطب وهو يحدثنا
عن بعض هذه الأسرار ...
يعتبر الدماغ بالنسبة إلى الجسم بمثابة
الحكومة العاقلة العالمة المخلصة والتي تتحكم في كل الجسم على الاطلاق تحكماً
مطلقاً ويعتبر الجسم بمثابة الشعب المتفاني في الطاعة ، وتتكون الجملة العصبية من
اجتماع عدة عناصر تتعاون فيما بين بعضها البعض ، كما أنها تتعاون من جهة أخرى مع
باقي غدد الجسم وأخلاطه ، وحتى نأخذ فكرة مبدئية عن الأمور نقول أن الجملة العصبية
في الإنسان هي أهم جزء في البدن حيث تمثل قيادة الجسم من الناحية المادية والفكرية
وهي تتكون من المخ والمخيخ والجذع الدماغي الذي يتكون بدوره من ثلاث قطع هي الساق
المخية وهي مزدوجة والحدبة الحلقية وتسمى بجسر فارول أيضاً نسبة لمكتشفها وثالثها
وهي البصلة ، وهناك
النخاع الشوكي وهو موجود في قناة عظمية تحفظه من كافة الجوانب ويتفرع من النخاع
أعصاب عديدة تسري في الجسم كسريان أسلاك البرق والهاتف وهكذا نرى أن عناصر الجملة
العصبيه هي سبعة وهي تمثل مركز القيادة الذي يتلقى الأخبار ويرسل الأوامر ولكن كيف
يتم هذا الأمر؟ إن هذا كله سنتعرض له بالتفصيل بعد قليل ، ولتبدأ بأبسط الأشياء
حتى نصل إلى الأشياء المعقدة ..
الخلية العصبية :
الشيء الأول الذي نريد أن نفهمه هو
السؤال التالي : ما هي الأعصاب؟ يقول الطب أن حجر الأساسي أو اللبنة الأساسية في
تكوين الجهاز العصبي هو العصبون أو الخلية العصبية أي كباقي الأجهزة التي تشكل
الكائن الحي الراقي ولكن تختلف الخلية العصبية عن باقي خلايا الجسم بمميزات هامة
وعظيمة هي التي جعلت هذه الخلايا تتمتع بمركز القيادة بينما تعتبر باقي الخلايا
تحت حكم الأولى الخلية العصبية تمتاز بشكلها الساحر المعقد والذي يشبه الأخطبوط
بأرجله أو الشجرة كثيرة الأغصان التي لا تحمل أوراقاً حيث أن الخلية العصبية تتخد
من ناحية شكلها الجسمي شكلاً كروياً أو مغزلياً أو نجمياً أو بيضياً ومن هذا الجسم
يخرج من طرفه استطالات كأغصان الاشجار ومن الطرف الآخر يخرج ما يشبه جذع الشجرة أي
محور غليظ طويل ولقد سميت الاغصان أو الاستطالات بالاستطالات الهيولية وسمي الجذع
بالمحور الاسطواني والسؤال الذي يهمنا في هذا الصدد هو : ما هو السر الذي يمكن في
هذه الخلية حتى تكون مقراً للادراك والتفكير والمحاكمة والتصور والخيال والإبداع
والذكاء والإرادة والشخصية وهي خلية كباقي خلايا الجسم تتغذى بنفس المواد وتتفاعل
كما يتفاعل باقي الخلايا ولها نفس التركيب الداخلي أي هيولى خلوية ونواة وكروموسومات
فأي سر
عجيب تحتويه هذه
الخلية السميعة البصيرة الناطقة المفكرة؟ إن الطب بالطبع لا يجيبنا على هذا السؤال
ولكن مع المستقبل قد نكشف له أسرارها؟!! ..
ان الخلية العصبية لها لون رمادي ولذا
تعطي المناطق التي تقطن فيها اللون الرمادي وهو ما نشاهده في الطبقة السطحية
القشرية الخارجية لمخ والمخيخ حيث تجتمع الخلايا العصبية بينما هي في النخاع داخله
في المركز أي بعكس توزع الخلايا في المخ وهي تبلغ في تعدادها رقماً خيالياً حيث
استطاع العالم فون ايكونومو أن يعد خلايا الدماغ بـ ١٤ مليار ( ألف مليون ) خلية
عصبية ولنتصور الآن ترابط هذه الخلايا كلها دفعة واحدة في العمل من أجل المحافظة
على سلامة الكينونة الإنسانية أن هذه الخلايا العصبية تقوم بعمل مدهش فذ وبشكل
متناسق ومتكامل وموحد حتى أن العالم جودسون هريك القى محاضرة في معهد التاريخ
بنيويورك في ديسمبر عام ١٩٥٧ أراد أن يعطي تشبيهاً للدماغ فقال لو أننا جمعنا كل
أجهزة العالم من التلفون والتلغراف والرادار والتلفزيون ثم حاولنا أن نصغر هذه
الكومة الهائلة من الأجهزة المعقدة حتى استطعنا وبمجهود جبار أن نوصلها إلى مثل
حجم الدماغ فانها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ. وصدق لأن الدماغ بلغ من التعقيد
حداً يعجز الدماغ عن فهمه!!! ..
إن الخلية العصبية لا تعمل بشكل مفرد بل
تتعاون مع باقي الخلايا والفضل في هذا يعود إلى تفصل الخلايا مع بعضها البعض وذلك
عن طريق هذه الشبكة الهائلة من الاستطالات الهيولية حتى لقد وجد أن بعض الخلايا
متصل بما يقرب من ١٨٠٠ خلية أخرى وهكذا نصل إلى شيئين ، الأول هو ذلك الترابط
الوثيق بين الخلايا العصبية والشيء الثاني هو عدد الممرات التي يمكن أن تنشأ من
خلال هذا الترابط الهائل
وخاصة بين ١٤ ألف
مليون خلية عصبية بالطبع إن الرقم الذي يحصل لا يمكن قراءته بحال من الأحوال وهذا
واقع الدماغ المحير المعقد.
والخلية العصبية كما قال جون فايفر في
كتابه « العقل البشري » هي عبارة عن سلك حي يولد وينقل نبضات كهربائية سريعة ،
إنها تحتفظ بنفسها مشحونة وجاهزة للعمل بمساعدة بطارية في داخلها تعمل بواسطة خليط
من الاكسجين والسكر وتشحن اوتوماتيكياً وهي تدور ، أي أنها ترسل ما يقرب من بضع
مئات من النبضات في الثانية حينما تصل إليها نبضات غامزة من أعضاء الحس أو من
خلايا عصبية أخرى ... وتقوم ألياف الاستقبال للخلية الواحدة باتصالات دقيقة بألياف
الإرسال لحوالي خمسين خلية عصبية أخرى وهكذا تنقل الاشارات من خلية إلى أخرى وهي
تمر داخل الجهاز العصبي
) ..
ونظراً لتعقد البحث في الجملة العصبية
المركزية لذا سوف نحاول أن نأخذ بعض الافكار المبسطة عن تركيبها وعن عملها من جهة
ثانية والتعقيد يكمن في كلا القسمين وإن كان في القسم الثاني أشد وأعجب.
داخل الجمجمة :
لنحاول أن ندخل إلى الجوف القحفي المغلق
حتى نتعرف على بعض الأسرار ولكن كيف الطريق إلى ذلك؟ لنتسلق أحد الأعصاب الشمية
الموزعة بشدة في المنخر ولكن هذه الملامسة سوف تثير منعكس العطاس الشديد حيث سيطرح
أي غريب يحاول أن يخرش القسم المخاطي من داخل المنخر ولكن لنحاول أن نخترق الغشاء
المخاطي ثم نتسلق أحد الأعصاب الشمية ولكن إلى أين؟ يأتي الدليل ليقودنا إلى
المتاهات
__________________
العجيبة وبينما نحن
نسير إذا بالعصب يمر من ثقبة من خلال صفيحة عظيمة وهذه الصفيحة مثقبة بشدة لمرور
باقي ألياف العصب الشمي ، هذه الصفيحة تسمى بالصفيحة الغربالية لأنها تشبه الغربال
في منظرها ثم يصعد العصب الشمي إلى داخل القحف حيث يتصل لكتلة تشبه البصلة ولذا
سميت بالبصلة الشمية وبعدها يتخذ الطريق الشمي طريقاً معقداً لسنا بصدده الآن وهنا
داخل القحف ماذا نجد؟ كتلة رخوة هشة سريعة التأثر ولكنها مغلفة بثلاثة أغلفة وذلك
لحماية المخ وباقي عناصر الجملة العصبية والغشاء الأول بعيد جافي ولذا يسمى بالأم
الجافية وكأن الغشاء أما تحوط الجملة العصبية ولكن نظراً لبعد الغشاء الأول سمي
بالأم الجافية وهناك الطبقة الرقيقة الحنونة التي تحيط المخ مباشرة ولذا سميت
بالأم الحنون وما بين الغشائين يوجد غشاء نسيج يشبه نسيج العنكبوت ولذا سمي
بالغشاء العنكبوتي وهو رخو يلتصق بشدة بالأم الجافية ويتباعد عن الأم الحنون حتى
يترك المجال لسائل يحيط بالجملة العصبية والأجواف الاخرى حماية للمص وغيره من
الرضوض وهنا يقف الإنسان متأملاً متسائلاً عن شدة هشاشة وضعف الجملة العصبية من
جهة وشدة فعاليتها وعظمة تركيبها من جهة أخرى ولذا احيطت بكل هذه العناية والتكريم
ولنربط ما بين هذه الأغشية الثلاثة التي تحيط بالدماغ وما بين الاغشية الثلاثة
التي كانت تحيط بالجنين حينما كان في بطن أمه. والدماغ موضوع ضمن صندوق عظمي هو
القحف حيث تشتد سماكته في بعض المناطق الخطرة والتي تتعرض للصدمات أكثر من غيرها
كما في الجبهة والقفا وحيث ترق في المناطق الاخرى التي لا تتعرض للصدمات كما في
الصدغين ، وداخل هذا الصندوق العظمي يوجد تجاويف وحفر وميازيب بحيث تناسب الفصوص
الدماغية تماماً فالصندوق في الداخل ليس أملساً بل فيه البوارز والمنخفضات بشكل
يتلاءم مع المحتوى الدماغي ولذا نجد
بروزاً مزدوجاً في
الامام يناسب الفصوض الدماغية الجبهية والتي يقال أن لها علاقة بتكوين الشخصية ،
كما أن القفا بارز بحيث يأخذ شكل الفص القفوي الدماغي والذي له علاقة وثيقة
بالرؤية وأما البصلة الشمية التي تحدثنا عنها والتي تختص بحاسة الشم عند الإنسان
فهي تقع في قاع القحف في منخفض منه بجنب الخط المتوسط حيث يقوم بجانبها ارتفاع
وكأنه عرف الديك ولذا سمي هذا الارتفاع بنتوء عرف الديك وهذا النتوء يتناسب مع
الفاصل الفارغ ما بين نصفي كرة الدماغ ، وفي مؤخرة قاع الصندوق القحفي توجد فجوة
صغيرة هي الثقبة القفوية والتي تمر منها العناصر العصبية التي تعتبر صلة الوصل ما
بين الدماغ والنخاع الشوكي وهي التي مرت معنا وهي الساقان المخيتان والحدبة
الحلقية أو جسر فارول وأخيراً البصلة السيسائية والمجموع العام يسمى يالجذع
الدماغي ، وأما المخيخ فيسكن منطقة تقع تحت المخ مباشرة حيث يفصل عن المخ بما يشبه
الخيمة ولذا سمي هذا الفاصل بالخيمة المخيخية ، وأما النخاع الشوكي وطوله ٤٣ سم فهو
يسكن تجويفاً عظيماً محمي من كافة الأطراف بالفقرات العظيمة وهي سبع فقرات في
منطقة الرقبة و ١٢ فقرة في منطقة الظهر وخمس فقرات في منطقة القطن وخمس فقرات في
منطقة العجز وأخيراً هناك عدة فقرات تشكل العصعص أو العجز النهائي ، ولو نظرنا في
تكوين الفقرات وشكلها لأخذنا العجب كل مأخذ فهي أشبه ما تكون بالصحن الطائر على
وجه العموم وإن كانت تختلف اختلافاً طفيفاً من مكان لآخر بحيث تتناسب مع المنطقة
التي يمر منها النخاع فهي بالخلف ممتدة بنتوء يسمى النتوء الشوكي حيث تحمي النخاع
من الخلف مع صفيحات أخرى تتمفصل مع النتوء وتتمادي به وهي الصفيحات الفقرية وفي
الامام يوجد جسم منتفخ هو جسم الفقرة وفي الجانبين توجد نتواءت معترضة للحماية
الجانبية وبين
كل هذه العناصر ترقد
الثقبة النخاعية التي تحوي النخاع الشوكي والذي يبلغ قطره سنتمتر واحد وفي داخله
قناة تسمى بالقناة المركزية حيث تحوي جدارنها خلايا تفرز السائل الدماغي الشوكي
وتتمادى هذه القناة المركزية في الأعلى حيث تنفتح على منطقة تسمى بالبطين الرابع
وهي مهمة جداً من الوجهة التشريحية والفيزيولوجية وهي كائنة في البصلة السيسائية
وفيها مركز هام يسمى بمركز الحياة وهو في حقيقته المركز المهيمن على الحركات
التنفسية ولذا فإن تخريبه يؤدي إلى انقطاع المركز القائد الذي ينظم الحركات
التنفسية وبالتالي الموت ، إلا أن يبقى ذلك الإنسان يتنفس دائماً بالرئة الفولاذية
الاصطناعية!! ..
تمفصل العمود الفقري :
وهكذا نرى أن النخاع يحاط بالحماية
العظمية من الأمام والخلف ، وأما من الأعلى والأسفل فهو يتمفصل مع بقية الفقرات
ويوجد بين الفقرة والأخرى قرص غضروفي حتى يتسنى للإنسان الحركة والتنقل ، ولولا
هذه الخاصية لبقي الإنسان جامداً لا يستطيع أن ينحني ولا أن يلتقط الاشياء من
الارض ولا أن يميل إلى الجانبين ، والخلاصة سوف يبقى قطعة واحدة إلا من الاسفل
والاعلى حيث تتعلق به الأطراف وتتحرك على مستواها فقط ، وهذا كله يتم بفضل هذا
التمفصل الرائع المحكم وبفضل العضلات التي تحيط الفقرات من كل جانب وتمكن العمود
الفقري الذي يتكون من ٣٣ ـ ٣٥ قطعة أن يتحرك ، ومن نتائج هذا التمفصل وهذه القدرة
البديعة فيه يمكن أن نعرف خطرة الخلل الذي يحدث فيما لو حصل على أي مستوى ، ومن
أمثلته تكلس الأربطة التي تربط ما بين الفقرات فإن هذا يؤدي إلى مرض خطير يعرف
بمرض ماري سترومبل حيث يصاب العمود الفقري بأجمه بالصمل ويصبح كله ملتصقاً قطعة
واحدة لا يتحرك لأية جهة بحيث أنه لو
أراد أن يستدير لما
أمكنه إلا أن يلتفت جميعاً. ومن جملة الخلل انفتاق القرص الغضروفي الذي يسكن ما
بين الفقرات فإنه يؤدي إلى آلام مبرحة ويعرف بفتق النواة اللبية أو ما يعرف ما بين
العوام بـ ( الديسك ).
وأما من الداخل فالنخاع محاط بثلاثة
أغشية كما هو الحال في الدماغ ويسبح في السائل الدماغي الشوكي بكثرة بحيث أنه يمكن
سحب هذا السائل من الظهر من المنطقة التي ينتهي فيها سير النخاع وهي أسفل الظهر
وله دلالة هامة في الأمراض ، وهنا نقف متأملين أيضاً هذا السر العظيم في هذا
السائل الرائق الذي يشبه ماء البحر ، فلقد وجد فيه نسبة معينة من العناصر والخلايا
بحيث أن أي زيادة أو نقص فيها تكشف عن الأمراض التي تنتاب الجملة العصبية المركزية
، فلقد وجد أن هذا السائل يحوي دائماً في الحالة الطبيعية ربع غرام من الآحين ونصف غرام من السكر وسبعة غرامات ونصف
من الكلور وهو معدن يشترك في تكوين ملح الطعام مع معدن الصوديوم ، هذه النسبة
موجودة في ليتر واحد من السائل الدماغي الشوكي بحيث أن أي زيادة أو نقص تدل على
مرض من الأمراض فزيادة الآحين ونقص السكر والكلور يدل على التهاب السحايا ،
والسحايا هي الأغشية الثلاثة التي تحيط بالجملة العصبية ويحدث أن تصاب بالتهاب وهو
مرض خطير وفي هذه الحالة يعتبر بزل السائل الدماغي الشوكي مهماً جداً في تشخيص هذا
المرض وهذه الاسرار العجيبة التي استطاع الأطباء أن يتعرفوا
__________________
عليها هي من الأمور
البديهية الأولى التي يعتمدون عليها في كشف الأمراض ومعالجتها.
الاعصاب
:
ثم لننظر في الأعصاب التي تسيطر على
الجسم وتأمره بالحركة كما أنها تتلقى الأوامر منه ، أن اتصال الاعصاب بالجسم هو
على مستويين الأول الاعصاب الارادية وهي تسيطر على طائفة معينة من العضلات في
الجسم التي تسمى بالعضلات المخططة لأن العضلات قسمان قسم مخطط أي ذو شكر مخطط وهذا
يختص البعضلات التي تتدخل فيها الإرادة لتعمل كما في عضلات اليد حين تكتب أو عضلات
الساق والفخذ وهناك نوع ثاني من العضلات هو العضلات الملس والإرادة لا تتدخل فيها
وإنما تسيطر عليها جملة عصبية خاصة ومنها أجهزة الهضم والتنفس والبلع وعمل القلب
وبالطبع فإن هذا من مصلحة الإنسان لأن هذه الاجهزة لو كانت خاضعة لعمل الارادة
فمعنى ذلك أن الانسان لن يكتب له النوم طول الحياة حتى ولا الغفلة لأن هذا معناه
الموت المحتم له ، ولكن مع هذا نجد أن عملية التنفس وضربات القلب والهضم وبعض
العمليات الاخرى تعمل حتى لو كان الإنسان نائماً.
إن الجهاز الذي يسيطر على هذه العضلات
هو الجهاز الودي ونظير الودي وحقاً إنها ودي من الود والحب لأنه يحب الانسان ويوده
، وهنا يكمن سر آخر من أعاجيب اسرار التكوين وهو اتزان الاعصاب النباتية أي
الاعصاب الودية ونظيرة الودية فالاول يشبه البنزين أو المسرع في الآلة والثاني
يقوم بعمل مضاد ، فالاعصاب الودية تسرع القلب وتزيد من الحركات التنفسية وتبطىء
الحركات المعوية وتوسع الحدقة وتقبض العروق الدموية فيرتفع ضغط الدم كما يحدث تشنج
مصرة المثانة مع وهن العضلة المثانية ، وأما الجملة الغدية فيحدث تعرق مع زيادة
الافراز الداخلي
والخارجي بالاضافة
إلى زيادة سكر الدم.
وبالطبع إن هذا كله يمشي مع الدور الذي
يلعبه العصب الودي والذي يعاكسه تماماً نظير الودي ، فالعصب الاول يظهر نشاطه في
الغضب والانفعال والخوف والرياضة وأعمال العنف والهيجان وغيرها ، وبالطبع فإن الكيان
الإنساني في هذه الحالة يثور كما في الرياضة مثلاً وتتوسع حدقة العين ليرى جيداً
ويمارس النشاط وهو يرى كاحسن ما يكون ثم إن هذا النشاط يستدعي زيادة عمل القلب
ولذا تزداد ضربات القلب ويرتفع ضغط الدم حتى تحسن التزوية ، ولكن انقباض العروق
ليس عاماً في كل أجهزة الجسم إذ لو كان الامر كذلك فمعنى هذا أن عروق القلب
الدموية سوف تنقبض ايضاً وبالتالي سوف تقل التروية الدموية عن القلب ويصاب الانسان
بخناق الصدر وهو الم شديد يحصر الصدر ويجبر الانسان على الانقطاع عن الحركة وقد
يؤدي إذا زادت الحالة إلى انقطاع التروية عن بعض مناطق القلب وبالتالي حدوث
الكارثة المريعة وهي حدوث احتشاء القلب أو ما يعرف عند عامة الناس بالجلطة الدموية
القلبية التي قد تكون السبب في موت الانسان احياناً ، ولنتصور الآن أن أي جهد يقوم
به الانسان ويبدأ نشاط العصب الودي ليقوده إلى هذا الحالة الوخيمة ، ولكن العصب
الودي يقوم بعمل عجيب هنا وهو انه يقبض جميع العروق إلا العروق التي تغذي العضلة
القلبية وهي العروق الاكليلية بل على العكس يحدث توسع هذه العروق وزيادة تروية
العضلة القلبية بالدم وبالتالي القيام بالدور خير قيام حينما ينشط هذا العصب في
العمل كما في الغضب والهياح والركض والمباريات والعمل الجنسي وسواة ..
ثم لننظر في جملة هذه الاسرار أيضاً وهو
تشنج مصرة المثانة ، إن
الانسان في هذه
الحالات يشعر حتى ولو كان بحاجة إلى التبول كأن الدافع قد انقطع والسبب في هذه عمل
هذا العصب الذي يرى أن هذا العمل لا يناسب هذه الحالة فيتصل بالمثانة فيأمر عضلات
المثانة أو تسترخي ويأمر عضلات عنق المثانة أن تشتد حتى لا يخرج البول في هذه
الحالة ، فمن علمه هذه العلوم ودربه على هذه الفنون يا ترى؟ انه يتصرف كالعاقل
تماماً وأما إفراز الغدد فإنه مناسب لهذه الحالة ولذا يحدث التعرق كما يحدث زيادة
إفراز هورمونات قشر الكظر حتى يتساند مع بقية الجسم في العمل ، وأما العصب المبهم
أو نظير الودي فإنه يقوم بعمل معاكس تماماً ولذا فإنه ينشط أثناء النوم ولذا تبطؤ
ضربات القلب ويزداد عمل الجهاز الهضمي لهضم الطعام كما تقل الافرازات والحركات
التنفسية ويهبط ضغط الدم وتقبض حدقة العين وينخفض مقدار السكر في الدم لان النشاط
الذي يحتاج إلى المزيد من السكر لا داعي له في هذه الحالة وهكذا نجد أن البدن في
حالة اتزان وثبات عجيبة بفضل عمل هذين العصبين الذي يقومان بمثابة الجهاز المسرع
والمبطأ في الكيان الانساني أو البنزين والفرامل كما في السيارة؟!! ..
واما الأعصاب التي تتداخل في عمل
الإرادة والتي قلنا أنها تسيطر على العضلات المخططة فإن أمرها أعجب ، ويتساءل
الإنسان هنا ما الذي جعل هذه الأعصاب تتداخل في الإرادة؟ وما هي الإرادة؟ وأين
مكانها؟ وكيف ميزت العضلات التي تتعلق بالارادة بهذه الخطوط التي أعطتها المنظر
المخطط المرقط وكأنها جلد النمر!! إن هذا يعود إلى أن الاعصاب الارادية تتصل بقشر
المخ الذي يعتبر المركز الاساسي لارقى العمليات الذهنية وحيث ترقد بين ئنايا تلك
الخلايا شخصية الانسان التي تأمر وتنهى وتسيطر على الجسم وتحركه ، إن خلايا القشر
الاوامر بواسطة الالياف التي سميناها بالمحاور الاسطوانية وهذه المحاور تنزل بعد
أن تعبر
ممرات عجيبة ودهاليز
مخيفة ومنعطفات رهيبة وأماكن مدهشة واتصالات فذة عظيمة ..
النخاع الشوكي :
وتصل أخيراً إلى منطقة خاصة في النخاع
الشوكي وهي القرون الأمامية لأن منظر النخاع الشوكي يبدو وكأنه قرص أبيض وفي داخله
منطقة رمادية بشكل حرف H باللغه الأجنبية ، أو بشكل الهلالين الملتقيين في أوساطهما وتبرز
امتدادات من الأمام والخلف ثنائية بحيث تشكل ما يشبه شكل القرون ولذا سميت بالقرون
الأمامية والقرون الخلفية ، ولقد وجد أن النخاع الأبيض يتكون من مرور قرابة ٤٠ الف
ليف عصبي ، وأكثر من شتى الحزم ، وهي في المناطق الأمامية خاصة بالحركة ، وفي
الخلف خاصة بالحس وعندما تأتي الألياف الصادرة من قشر الدماغ وهي تحمل أمر من
الأوامر فانها تصل إلى خلايا القرن الأمامي في النخاع الشوكي حيث تفهم الخلية
الأمر الذي يجب أن يكون ، ومن خلايا القرن الامامي تنطلق الالياف العصبية إلى
العضلات المطلوبة حيث تأمرها بالانقباض أو الاسترخاء حسب الحالة التي يريدها الجسم
، وإذا تتبعنا مسير العصب لوجدناه أولاً يتغلف كما تتغلف اسلاك التلفونات ، لأن الاسلاك
لا تترك عارية خوفاً من حصول تماس كهربي وانقطاع التيار بالتالي ، كما يحدث
أحياناً في بيوتنا العادية ، ولذا فان العصب يتغمد عند مروره بالمادة البيضاء
بالغمد النخاعي ، وعندما يخرج من الجملة العصبية فانه يتغلف بغلاف ثاني هو غمد
شوان نسبة للعالم الذي اكتشفه ، ويقف المرة متعجباً من هذه الكيفية في الحفظ
والتدبير؟!!
وعندما يسير العصب في الجسم وهو مغلف
بغلافين ومحصن أتم التحصين تنتقل عبره السيالة العصبية إلى المكان المطلوب وهو هنا
العضلة
الارادية المخططة
وعندما يصل العصب إلى الليف العضلي ينتهي فيه بعد أن يفقد الاغماد التي تغلفه حتى
يتصل بشكل صميمي مع الليف العضلي ولقد وجد إن كل ليف عصبي يحكم ما يقرب من ١٠٠ ليف
عضلي وكأنه آمر وحدة تتألف من مائة جندي!!
السيالة العصبية :
وهنا نقف لنسأل كيف يتم انتقال السيالة
العصبية؟ وما هو تكوينها؟ وكيف تؤثر في الليف العضلي حتى تدعوه إلى التقلص؟ لقد
وجد أن طبيعة السيالة العصبية عجيبة فهي فيزيائية كيميائية ، ولذا فان هرس العصب
أو قطعة ثم توصيله بعد ذلك لا يجعله ناقلاً للسيالة العصبية بخلاف السلك المعدني ،
كما وجد أن للسيالة العصبية قانون خاص في انتقال السرعة ، فهي سريعة كلما ازداد
القطر في الليف العصبي وكأن السيالة سيارة تستطيع أن تسرع كلما ازداد عرض الشارع
الذي تمر منه ، فهي قد تصل في بعض الامكنة إلى سرعة أكثر من مائتي ميل في الساعة ،
أي اسرع من طائرة نقل الركاب.
وأما السيالة العصبية بالذات فهل هي
سائل يسري في العصب بالطبع لا فهي تيارات ونبضات كهربية ، ولقد وجد أن عنصر
البوتاسيوم والكالسيوم يتداخل أيضاً في حدوث ظاهرة السيالة العصبية ، وعندما ينتهى
الليف العصبي في العضلات يشكل ما يعرف باللوحة الحركية حيث يتفرع إلى فروع صغيرة
وفي التنبيه يطلق مادة خاصة هي الاستيل كولين أو الادرينالين ، وحتى يزول تأثير
هذه المادة هناك خميرة تعرف بخميرة الكولنيستراز وهي تزيل وتخرب الاستيل كولين.
ومن هذا الاتزال تتنبه الالياف العضلية بشكل متزن فزيادة الاستيل كولين
تحدث أعراضاً مخيفة
كما إن زيادة خميرة الكولنستراز تحدث اعراضاً مخيفة ومن اتزان هذين العنصرين يتجلى
ثبات التقلص العضلي واسترخائه ولقد وجد أن مرض الوهن العضلي الوخيم الذي يتجلى
بضعف القدرة العضلية عند القيام بأبسط الجهود وكذا ضعف المضغ في الفك بمجرد القيام
بمضغ خفيف بالاضافة إلى هبوط الجفن والوهن والضعف السريع كل هذا ينتج عن زيادة
تكثف خميرة الكولينستراز التي تزيل تأثير الاستيل كولين سريعاص بحيث لا تترك
مجالاً للتقلض العضلي كما أن التسمم بمادة الفوليدول ( سم الحشرات والفئران ) يحدث
اعراضاً مضادة وهي أعراض زيادة تركز مادة الاستيل كولين من تقبض الحدقة ووذمة
الرئة الحادة أحياناً وحالة التسمم العامة وكل هذا يعود السبب فيه إلى خلل التوازن
في الجسم بين هذه المادة والخميرتها.
إن الالياف العصبية التي تتحكم في البدن
تبلغ حداً من السعة والانتشار في الجسم البشري بحيث لا تكاد تصدق فلقد وجد أن طول
العروق الدموية وتوزعها في الجسم تبلغ ما يقرب من الف ميل ولكن ماذا نقول عن الاعصاب وهي
تروي كل الجسم بل تقريباً كل خلية في الجسم من أبعد المناطق إلى أقربها ومن أدقها
إلى أعظمها ، من رأس الأصبع القدمي الى جذر السن ، وهي بهذا الانتشار تقوم بتحريك
مئات الازواج من العضلات وعشرات المفاصل كما تأخذ الحس عن جميع مناطق الجسم من حس
اللمس والالم والحرارة والبرودة والضغط والحس العميق أو ما يعرف بحس الاوتار
والمفاصل والعظام والعضلات ، بالاضافة إلى حس معرفة الاشياء ، وهو حس معقد نسبياً
حيث تميز اليد البشرية ، ولو كان الانسان مغمض العينين بين الدبوس وقطعة الورق
والقطعة المعدينة والجلد الرطب
وقطعة الخشب ، حقاً
إنها اسرار عجيبة يقف الانسان متأملا ولا ينقطع تأمله ..
نقل الحس :
يهيمن الدماغ على الجسم بواسطة ٨٦ عصب
منها ٢٤ فقط للرأس وهي مزدوجة في الجانبين بالإضافة إلى الاعصاب الودية ونظيرة
الودية التي تكلمنا عنها والتي لها علاقة بالحياة النباتية في الجسم ، والاعصاب
التي تخرج من جانبي النخاع هي ٣١ عصب في كل جانب ، وميزة هذه الاعصاب إنها مختلطة
أي للحس والحركة ، وذكرنا أن الحركة تأتي من الارادة الكائنة في قشر الدماغ والذي
سنفرد لها حديثاً خاصاً ، وأما الحس فلقد وجد أن له انماطاً متعددة فهناك حس الالم
، وحس الحرور وهو ما يتعلق بالحرارة والبرودة ، وهناك حس اللمس والحس المبهم
العميق ، وأخيرا الحس المعقد في معرفة الاشياء فكيف تنتقل كل هذه الانماط من الحس
وفي مكان واحد هو النخاع؟ إن هذا يحتاج لكتاب وحده ولكن حتى نأخذ فكرة مبسطة نقول
إن الدماغ هو المركز النهائي الذي يتلقى الاخبار والنخاع هو المركز الاول فاذا
قطعنا النخاع بشكل معترض ونظرنا فيه لوجدنا أنه يشبه الخارطة الجغرافية التي تتوزع
فيها البلاد والانهار والجبال والوديان والعواضم وطرق المواصلات وكذلك النخاع فهو
طريق مواصلات لاعقد شبكة مواصلات عرفت حتى الآن حيث أن الالياف الصغيره التي لا
تتجاوز ٢٠ ميكرون في أبعد الحدود تجتمع معاً لتؤلف حزماً تتخذ تسميات معينة مثل
كول وبورداخ وديجرين وغورس وغيرها وكلها لها امكنتها الخاصة التي تعرفها في كل
نخاعات البشر وهي تختص بحس معين فهي تقوم على مبدأ الاختصاص ، وهذا العدد الجبار
من الالياف الذي يجتمع لينقل الاخبار القادمة من كل الجسم ، منها ما يصعد إلى أعلى
بشكل مستقيم ومنها ما يتصالب ، إما فور وصوله إلى النخاع حيث يصل
إلى الطرف المقابل
أو يتصالب بعد وصوله إلى بعض النقاط المعينة وكلها لها حكمة في هذا التصالب وفي
مكانه وكلما ارتقينا صعوداً في النخاع تزداد الالياف القادمة من الجسم والتي
تخبرنا عن أوضاع الجسم كله. وتصعد انماط الحسن اخيراً بعد أن تجتمع في شريط غليظ
ينقل الاحساسات ويسمى بشريط رايل الحسي ، ومن الاحساسات التي تنتقل ذكرنا الحس
المبهم العميق ، وهو حس الاوتار والعضلات والمفاصل حيث تنقل الاخبار عن أوضاعها
فهذا النوع من الحس يمشي ضمن حزمتين من الالياف وينتهي في المخيخ ، لان عمل المخيخ
الاساسي هو التوازن ولذا فان هذه الحزم بمجرد وصولها إلى المخيخ تنعكس من المناطق
التي وصلتها الياف وحزم عصبية تنزل إلى النخاع لكي تنسق عمل العضلات ووضعها حتى
يبقى وضع الانسان بشكل متزن متناسق ، وأما انماط الحس العام ، وهي اللمس والالم
والحرارة فانها تصل إلى مكان أمين ترتاح فيه بل تنام فيه قليلاً من طول وعناء هذا
السفر الطويل والعمل المتواصل الدؤوب ، إن هذا المكان الذي تجتمع فيه اسمه السرير
البصرى ، ومن هذا السرير العجيب يصدر ما يشبه الا كليل المشع الذي ينقل الاخبار
العامة إلى مركز محدد في الدماغ هو المركز العام للحس وهو الفص الجداري في المخ.
قوس الانعكاس :
ان النهايات الحسية في الجسم ليست
نهايات الاعصاب وانما تشكلات وأجسام خاصة معدة لتلقي نوع واحد من الحس كما في
جسميات باشيني ومايسنر وكراوس وهوفيني وهذه الأجسام معقدة من جهة وعديدة فهي تمثل
أجهزة استقبال انماط الحس وتقدر في الجسم بحوالي ٣ ـ ٤ ملايين جهاز للألم و
٥٠٠,٠٠٠ جهاز حساس للمس أو الضغط وأكثر من ٢٠٠,٠٠٠ جهاز حساس للحرارة وهكذا تجتمع
أخبار الاحساسات بشكل هائل
وتصعد عبر النخاع
وهنا تحدث مشكلة طريفة وهي ، في حال تعرض الجسم لخطر ما كما في تعرض اليد للنار
فان اليد تسحب فوراً والسبب في هذا يعود إلى آلية خاصة في النخاع هي ما تعرف بقوس
الانعكاس فعندما تصل الأخبار الحسية عبر الألياف إلى الجذور الخلفية في النخاع وهي
مراكز الحس فان هذا الخطر لا ينقل إلى المخ حتى تأتي الأوامر منه ، بل ان النخاع
يتصرف تلقائيا وفق المصلحة العامة حيث تصل الأخبار عبر خلايا الوصل في النخاع من
خلايا الحس في الخلف إلى خلايا الحركة في الأمام وهذه ترسل بدورها أخبارا إلى
عضلات المنطقة كي تتقلص بكيفية معينة تقي البدن من الخطر الذي تعرض له ، وهكذا
يتكون قوس الانعكاس العظيم ، ثم تصعد الأخبار إلى الدماغ كي يقرها أو يعدلها ،
ولقد قدر أن عدد الإشارات التي تصب في الجهاز العصبي في كل ثانية تبلغ مائة مليون
إشارة قادمة من الأعضاء الحسية ، ولكن ما يصدر إلى قشر الدماغ هو ١٠٠ إشارة فقط أي
إشارة واحدة من مليون إشارة حتى لا يشتغل المخ بكل هذه التوافه بل بخلاصة الأمور
وأخطرها وحتى يتفرغ للعمليات الاشد رقياً ، والحق يقال ان الدماغ عالم محير يجعل
الإنسان وهو يبحث فيه وكأنه يدور في متاهة ...
نظرة عن قشر الدماغ :
لو ألقينا نظرة على المخ لوجدنا انه
يتكوّن من فصين بشكل بيضي ومن لونين ، اللون السطحي رمادي رقيق ، وفي الداخل تجتمع
الألياف العصبية الصادرة من هذه الخلايا وهي بلون أبيض لأنها مغلفة بمادة دهنية
تشبه تغليف الأسلاك الكهربية ، ولقد وجد ان هذه الخلايا العصبية التي تجتمع في
القشر هي المراكز الأساسية لقيادة البدن وهي مركز الإرادة والشخصية والتفكير
والنشاطات الذهنية الراقية ، كما نلاحظ ان هذا السطح يتكون من تلافيف ومنعطفات
فليس القشر سطحاً أملساً ولا
علاقة لهذا الأمر
بالذكاء كما تبين مؤخراً لأنه كان يعتقد في السابق ان كثرة التلافيف تحدد الذكاء ،
ويبلغ وزن الدماغ حوالي ١٢٠٠ غرام تقريباً وهو يجثم مثل الزهرة فوق ساق نحيفة التي
هي النخاع الشوكي ، والخلايا العصبية التي تشكل القشر تتراكم فوق بعضها بحيث أنها
تشكل ستة طبقات ، ويبدو ان كل منطقة من مناطق الدماغ تتراكم فيها أنواع خاصة من
الخلايا أكثر من غيرها.
فمثلاً ، وجد ان مناطق الحركة التي نحن
بصدد البحث فيها تكثر فيها الخلايا التي تشبه بشكلها شكل الهرم ولذا سميت بالخلايا
الهرمية وهي تختص على ما يبدو في الحركة ، كما وجد ان قشر الدماغ تتوزع فيه مناطق
وكل منطقة تختص بعمل معين ، فهناك منطقة للرؤية وهي تتركز أكثر ما يكون في مؤخرة
الدماغ وهو ما يعرف بالفص الدماغي القفوي ، كما وجد ان المنطقة الصدغية تختص
بالسمع ، والمنطقة الأمامية وهو ما يسمى بالتلفيف الجبهي يختص بالحركة ، وتتجمع
مراكز الحركة حول شق في التلافيف الأمامية يعرف هذا الشق بشق رولاندو ، وأما منطقة
الحس فتقع خلفه مباشرة وهي مسؤولة عن الحس العام في الجسم والذي قلنا انه يتجمع في
السرير البصري ليصعد بأشعة تشبه التاج أو الإكليل إلى الفص الجداري في الدماغ ،
ويبدو ان مراكز الذوق تكمن في أسفل التلفيف الصدغي الأول لأن نفس المنطقة تمر فيها
بعض الأثلام بحيث تقسمها إلى تلافيف ولذا يوجد في كل فص من فصوص الدماغ عدة تلافيف
وكل تلفيف بل كل جزء مهما دق من التلفيف يهيمن على بعض المناطق في الجسم ، واما
الشم فيمر إلى منطقة بين نصفي الكرة المخية بعد أن تجتاز الألياف الشمية الصفيحة
الغربالية والتي تمثل سقف الأنف حيث تذهب إلى البصلة الملقاة في قاع الصندوق
العظمي القحفي وبعدها إلى المركز الذي يشبه في شكله حصان البحر ولذا سمي بتلفيف
حصان
البحر وكلها تشبيهات
واشعارات وأمثلة حتى يمكن إدخال هذه المعلومات المعقدة عن الدماغ إلى الدماغ.
اصابات جهاز الدماغ :
ويبدو ان هناك مراكز للكلام والكتابة
بحيث أنها إذا أصيبت فانها تعطي أعراضاً في غاية الغرابة فمنها ما يصبح المصاب
يسمع فيفهم ما يقال له ويرى فيفهم ما يرى ويميز الشيء الذي يراه ولكنه لا يستطيع
أن يلفظ الكلمة التي سمعها أو المعنى الذي فهمه كما انه لا يستطيع كتابة الشيء
الذي رآه أو فهمه عندما نطق به أمامه وهي ما تعرف بالحبسة أي كان لسانه انعقد
وانحبس فلا يستطيع أن يتلفظ ولا أن يكتب وتعرف بالحبسة الحركية لأن مكانها قريب من
المناطق الخاصة بالحركة والتي نوهنا عنها قبل قليل.
وهناك نوع من الحبسة أعجب فهو يسمع ولا
يفهم ما يقال كما قال القرآن : ( ومثل الذين كفروا
كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) وهذا المثل في تشبيه الكافرين هو مثل
الدابة التي تسمع صوت الراعي ولكن لا تفقه منه شيء ، ولكنه مع هذا يتكلم بشكل جيد
ولكن لا فائدة ولا معنى لكلامه وهي حالة عجيبة فعلاً أو هناك نوع يتعلق بالرؤية
فهو يرى الكتابة ولكن لا يعرف ما معنى الكتابة مع انه يكتب ويقرأ ولكنه لا يفقه ما
يكتب وماذا يقرأ وهذه الأمور تتعلق بالمراكز الروحية النفسية والتي تتعلق بالفعاليات
الذهنية العالية ، وهناك نوع من الحبسة أعجب بها أيضاً وتتعلق ببعض المراكز
الموجودة في قشر الدماغ بحيث ان المريض يمتلك أذنان وعينان سليمتان من الخارج ،
ولساناً وأجهزة للتصويت والنطق سليمة من الخارج ولكنه إذا رأى لا يفقه ما يرى وإذا
سمع لا يفقه ما سمع ،
وإذا أراد النطق عجز
عن ذلك ، وإذا أراد الكتابة خانته يده وهي أشبه شيء بما قاله القرآن عن المنافقين
: ( صم بكم عمي لا يرجعون ) أي لا ينطق ولا يسمع ولا يرى ، والمركز
المتعلق بهذا النوع من الاصابة المخيفة التي تغلق منافذ العالم أمام المريض وجد
لها مركز يسمى بمركز بروكاً وهو في المنطقة الخلفية السفلية من التلفيق الجبهي
الايسر عند اليمن ( أي الذين يستعملون يمناهم دوماً ) بالاضافة إلى التلفيف الصدغي
والقفوي الأوليين ، وهناك الحبسة المعروفة بحبسة النسيان فلا يعود يتذكر الأسماء
والاشخاص والأرقام وغير ذلك ولكن لم يعرف منطقة خاصة بهذه الحبسة لأن خلايا
الذاكرة أثمن من أن تملك لمنطقة معينة من قشر الدماغ ، ولقد وجد ان استئصال نصف
كرة دماغية بأكملها لا يجعل الانسان يفقد ذاكرته ، وهناك أنواع مخيفة من الحبسات
لها مناطق معينة ايضاً في قشر الدماغ مثل فقد معرفة الأشياء عن طريق اللمس فإذا
لمس الشيء لا يستطيع أن يميزه هل هو ناعم أو خشن ، وهناك من المناطق فيما إذا
تخربت جعلت الانسان غير قادر على تقدير الابعاد فيضل طريقه إلى بيته ويشعر ان
البيت الذي يسكنه كأنه بيت الجن ففيه الدهاليز المروعة والسراديب المخيفة ، وإذا
أراد أن يخرج من الغرفة التي هو فيها صعب عليه الأمر كما انه يدخل غرفاً لا يقصدها
، ويتعثر بالأثاث الذي يصادفه وقد يصل الأمر إلى الحيرة في الاتجاه الى اليمين أو
اليسار!!! ..
وقد يصاب التلفيف الهامشي العلوي فلا
يعرف المريض يمينه من يساره ويفقد التعرف على أعضائه ، وإذا اراد أن يعد أصابع يده
ضيع في العد ولم يدر ترتيبها!!! ...
وأخيراً ، في هذه الإصابات المخيفة
المرعبة ( لمن تكون من نصيبه وهي شيّقة لمن يقرأها أو يطلع عليها ، ولذا ترى
الاطباء وهم يصفون
هذه الحالات عندما
يرونها بأنها حالات جميلة لتذكر المعلومات الطبية أو للعرض أمام التلاميذ!!! )
الاصابة في منطقه قريبة من المنطقة الحركية حيث يكون المريض غير مصاب بالشلل ولكنه
لا يتمكن من القيام بالحركات اللازمة لتنفيذ عمل ما ، فاذا أراد أن يربط ربطة
العنق عجز عن ذلك ، وإذا أراد أن يشعل سيجارة لم يستطع إلى ذلك سبيلاً ، وإذا أراد
أن يربط حذائه خانته أعضاؤه ، وإذا اراد أن يكتب جملة وهو يعرفها تماماً لم تسعفه
إمكانياته ، وإذا قدمت له علبة صغيرة ليفتحها انقلب طفلاً صغيراً يحاول أن يتعرف
إلى أسرار فتحها بل ان الطفل الصغير بفتحها في النهاية ويعجز الأخير عن فتحها وهي
الحالة التي تعرف يفقد معرفة استعمال الأشياء ، وهنا يشعر الانسان بعد قراءة هذا
الفصل ان عليه أن يأخذ نفساً طويلاً ويحمد الله على نعمه طويلاً أيضاً.
بعد أن ألقينا نظرة سريعة على توزيع
المناطق لنأخذ المنطقة التي بدأنا في الحديث عنها وهي المنطقة الحركية ، ذكرنا ان
القشر يتكوّن من ستة طبقات من الخلايا مثل الخلايا الذرية والهرمية التي تختص
بالحركة وخلايا بتز وكثيرة الاشكال وغيرها وهناك خلايا بور كنج وهي اختصاصية في
المخيخ وسنفرد لها بحثاً خاصاً ، لقد وجد ان المنطقة الحركية التي تجتمع حول شق
رولاند في المخ تشرف على الجسم وهي بشكل معكوس أي ان مركز ابهام القدم هو في
الاعلى ويقع أسفل منه مركز الساق ثم الركبة ثم الفخذ وهكذا ، كما وجد أن توزيع
المناطق يرجع من ناحية المساحة إلى شدة فعاليته وهكذا فان مركز الشفتين واللسان
والفم هو أوسع وأكبر من منطقة الظهر ، كما وجد ان نفس المنطقة فيما إذ دققنا البحث
فيها لوجدنا ان كل عضلة من عضلات الجسم قد يكون لها مركز خاص والحق ان قشر الدماغ
معقد محير في تركيبه وعمله مع ان مساحته
فيما لو فرشت فانها
لا تتجاوز قدمين مربعين وهذه الخارطة الإنسانية فيها مراكز ومراكز كما لو نظرت إلى
خارطة جغرافية تماماً فهنا الجبال وهناك الوديان ، وهناك الأنهار ولكن خارطة
العالم. معلومة معروفة الآن بينما خارطة الدماغ الانساني فيها قارات وقارات مجهولة
غير معروفة وان كشف منطقة بمساحة طابع بريد يحتاج إلى جهود مجموعة كاملة من
العلماء الأفذاذ المتفرغين وإلى مدى سنوات طويلة ويذكر صاحب كتاب العقل البشري جون
فايفر ان عالمة من جامعة متشيجان في أميركا هي السيدة اليزابيت كورسي أصبح لها
ثلاثون عاماً وهي تشتغل لكشف بعض الممرات العصبية في دماغ القردة.
وهذه المراكز الحركية فيها اختصاصات
فمنها ما يسمى بالمناطق المحركة المادية وحولها المناطق المحركة الروحية النفسية ،
ولعلنا نتساءل ما الفرق بين المنطقتين وهل كل المراكز في الدماغ هي بهذا الشكل؟ ان
الاجابة السريعة على السؤال الثاني موجودة وهي ان كل المراكز لها اختصاص روحي نفسي
كما في السمع والبصر وغيرها ولكن ماذا يعنى بها؟ ان هذا يحتاج لتوضيح .. يمكن ان
نفهم المركز الروحي باختصار على انه المركز الذي ينظم وينسق ويرتب الحركات كما انه
يفهم ماذا يرسل اليه وكيف يرتب الحركة المطلوبة وأوضاعها بحيث يتحقق الانسجام
الكلي في الحركات ، وأما المناطق المحركة المادية ففيها طريقان الطريق الأول ويعرف
بالطريق الهرمي وهو الذي يأتي من التلفيف الجبهي وينزل إلى البصلة حيث يتصالب مع
الألياف القادمة من نصف الكرة المخية الآخر.
وهكذا فان كان نصف كرة مخية يحكم ويسيطر
على النصف المقابل للجسم ، وهكذا فان اصابة المنطقة الحركية في نصف الكرة المخية
الايمن يحدث فالج في القسم الأيسر من الجسم كله وكلها
تدرجت الاصابة إلى
أسفل أصابت المناطق التي تحكمها مباشرة والتي تقع تحتها مباشرة ، وأما الطريق
الثاني للألياف التي تسيطر على حركة البدن فتنبثق من مناطق أخرى من الدماغ مثل
الفص الجداري والفص الصدغي بالاضافة إلى الفص الجبهي في الكرة المخية وعمل الجملة
خارج الهرمية يشترك مع بعض الجزر الرمادية ( وهي الخلايا العصبية التي تشكل مراكز
باجتماعها ) المدفونة في أعماق الكرة المخية وهي ما تعرف بالدماغ المتوسط وهي
نامية جداً في الحيوانات الدنيا ، وعمل الطرق خارج الهرمية ينصب على تكميل العمل
الارادي الواعي كما في السير حيث تبدأ الحزم الإرادية السير وتنهيه فقط بينما تقوم
المناطق خارج الهرمية ببقية تحريك الأعضاء اثناء السير وكأن هذه الأماكن تسيطر
وتعمل بشكل نصف ارادي وكذا الحال في الأمور العادية من الحياة والتي تشبه السير
حيث لا يسيطر الوعي كلياً وإنما في بعض جوانبه حيث ان المشي لا يتدخل فيه الوعي
كلياً بل في بعض أجزائه وكذلك الحال في أمور كثيرة مثل قيادة السيارة وربط الحذاء
وربطة العنق واشعال السيجارة والقيام بالأعمال المنزلية الكثيرة.
ترابط الجهاز العصبي :
ان المناطق التي تتوزع في خارطة الدماغ
الانساني ليست مستقلة عن بعضها البعض وانما مترابطة مع بضها بشكل وثيق ويتم هذا
بأشكال مختلفة فهناك مثلا الألياف التي تصل الفصوص مع بعضها البعض بحيث انها تعبر
منطقة لأخرى وتخبر كل منطقة عما يحدث عند جارتها فهذه ألياف تصل ما بين الفص
الجبهي والجداري أو الجبهي والصدغي وهكذا ، يطلق على هذه الألياف التي تصل ما بين
المناطق بهذا الشكل الألياف الارتسامية ، وهناك شكل آخر للاتصال وهو عن طريق معبر
مهم يقع ما بين نصفي الكرة المخية في الأسفل ويسمى بالجسم الثفني حيث تعبر
الألياف الواردة من
نصف كرة مخية هذا الجسم إلى نصف الكرة المخية الآخر وهكذا فان الدماغ يتصرف ككل
وليس كأجزاء متفرقة فمثلاً عندما تركب سيارة وترى النور الأحمر فان هذا يصل إلى
شبكية العين التي تتوزع فيها خلايا عصبية من نوع معين هي المخاريط والعصيات والنوع
الأول مختص بالنور المركز القوي وبالألوان ، والنوع الثاني مختص بالنور الضعيف
الأبيض وهكذا ينتقل النور الأحمر عبر ألياف العصب البصري التي يبلغ عددها حوالي
٥٠٠,٠٠٠ ليف ( نصف مليون ) بحيث ان كل ليف يمثل عملاً تلفزيونياً مستقلاً ويصل هذا
الاحساس اللوني الضوئي إلى السرير البصري ويتشعع من هناك إلى الفص القفوي حيث يصل
إلى هناك ويفسر وتقوم الخلايا العصبية بفهمه ومحاكمته وماذا يعني ثم ترسل أوامراً
من عندها من خلال اتصالها بالتلفيف الجبهي ان هذا الأمر خطر ويعني أن تقف وتستجيب
خلايا الفص الجبهي وتقول لها جزاك الله خيراً عن هذا الفهم والعمل وتبدأ عملية
معقدة وهي الانتقال من مجال الاحساس إلى مجال الحركة حيث تؤمر خلايا معينة باطلاق
الاشارات العصبية إلى العضلات المخصصة بالضغط على الفرامل وهي عضلات الأطراف
السفلية حيث تنقبض بعضها وينبسط بعضها الآخر كما ان أوامر أخرى ترسل إلى الأطراف
العلوية حيث تنبسط بعض العضلات وينقبض بعضها الآخر وهكذا وتقوم اليد بنقل الجهاز
الذي يفصل لامحرك عن المسننات في السيارة ان هذا الأمر البسيط العقد يتم في ثوان
بسيطة فكيف صمم هذا الجهاز وكيف ركب! ولا يسعنا إلا أن نقول : ( يا أيها
الانسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك ).
انك الآن تقرأ هذا الكتاب وأنت ثابت في
مقعدك ولكن ما هو وضع الدماغ تماماً الآن؟ لقد استطاعت الدراسات الطبية أن تتبين
كما
يذكر صاحب كتاب
العقل البشري ان الالياف العصبية تتماوج كأعشاب البحر التي تتقاذفها التيارات كما
ان أعضاء الحس في البروتوبلاسما تتحرك ببطء إلى الامام وإلى الخلف وتنتفخ وتتقلص
وتتماوج من جانب الآخر ، وهذه الحركة في الالياف تحصل اثناء الوعي والنظر والنشاط
الذهني ، أما في حالة النوم فهي ثابتة راكدة نائمه ، وهذه من خصائص الخلايا
العصبية ، ومن خصائصها أيضاً وجود مادة داخل الخلية عرفت باسم جسيمات نيسل ولم
يعرف دورها تماماً ولكن وجد ان هذه الجسيمات هي من اختصاص الخلية العصبية حيث انها
لا توجد في باقي خلايا الجسم فهل أسرار الخلية العصبية تكمن في هذه الجزئيات يا
ترى؟ لم يجب الطب عن هذا السؤال سوى انه لاحظ ان هذه الجسيمات تقل اثناء العمل
وتكثر اثناء الراحة ، وفي احدى النظريات ان مستودعات ومخازن الذاكرة تجتمع في هذه
الجزئيات البروتينية وهي أكبر وأعقد تجمعات ذرية حتى الآن وتوجد بكميات وافرة جداً
قدرت بألف بليون بليون من هذه الجزئيات ، وأما بحث الذاكرة فسنتكلم عنه لوحده لانه
بحث معقد.
ثبات الخلايا العصبية :
ومن جملة خصائص الخلية العصبية انها
تولد بعدد ثابت مع ولادة الانسان حيث يكون عددها قد اكتمل في الحياة الرحمية وقبل
الولادة بأشهر وهذا العدد يبلغ حوالي ١٤ مليار ، منها ٩ مليارات في المخ لوحده حيث
تتوزع في ٦٤ منطقة من مناطق الدماغ فقط تلك التي تشترك في بناء واحد مشترك ، وهذا
الثبات في العدد مهم لان الخلايا لو تغيرت وتكاثرت كما تتغير وتتكاثر حلايا البدن
فان معنى هذا ان على الانسان أن يتعلم اللغة كل ستة أشهر مرة أخرى ويكون معنى هذا
أيضاً فقدان الذاكرة وتعلم ممارسة الحياة وبالاختصار
لا حضارة انسانية ،
فثبات الخلايا العصبية هو الذي جعلها تجمع الخبرات والمعلومات وتنمي الثقافة
والأفكار والمفاهيم ، هذا ويحدث النقص والزيادة في حالتين تعد كل حالة أبشع من
الأخرى ، فأما النقص فيحدث في الأمراض الاستحالية حيث تستحيل الخلية العصبية وتوذي
بفعل عوامل مختلفة منها الالتهابي المرضي واذا حدث هذا فإن نتيجة هذا الأمر ان
المناطق التي تسيطر عليها هذه الخلايا تفقد عملها ، فاذا كانت الخلايا تسيطر على
الحركة ، عجزت العضلات عن الحركة وأصيبت بالضمور والارتخاء وهو ما يشاهد في المرض
الشائع المعروف باسم ( شلل الأطفال ) حيث تصاب الخلايا التي تسيطر على الحركة في
الجذور الأمامية من النخاع الشوكي. والعجيب في هذا المرض إن هذه الفيروسات تصيب
الامعاء اولاً ثم تصعد وليس لها ولع أو حب إلا لهذه المنطقة من الجسم وهي القرون
أو الجذور الأمامية من النخاع الشوكي وما أعجبها من محبة ومودة!!
وهكذا تستحيل هذه الخلايا في هذه
المنطقة الخطرة واذا بالطفل بين عشية وضحاها يفقد السيطرة على أطرافه بل قد يصل
الأمر إلى اصابة مركز التنفس في البصلة السيسائية وهكذا قد يؤدي لامرض إلى الموت
اختناقاً ما لم يسعف؟!
وإذا أصيبت المناطق الحسية فقد الحس
وهكذا كما مر معنا ايضاً في بحث الحبسات ، وإذا اُصيبت خلايا القشر العلوية أصيب
المرء بفالج يشمل نصف الجسم وبشكل واسع ومخيف كما في النزوف الدماغية أو الخثرات (
أي انسداد الشريان بخثرة ) حيث تنقطع التروية عن بعض المراكز التي تسيطر على هذه
الأماكن الحركية.
وأما الزيادة فتحدث في حالة أبشع وهي
نمو الأورام الخبيثة أي السرطان حيث تنمو الخلايا نمواً فوضوياً شاذاً ، والتكاثر
هنا كما نرى
ليس من مصلحة
الإنسان بالتأكيد ، لأن معنى وجود السرطان في أي منطقة من الجسم الحكم بالإعدام
على ذلك الإنسان فما بالك بالدماغ!!
ومن جملة خصائص الخلية العصبية تأثرها
الشديد بالاكسجين ، فوزن الدماغ كما ذكرنا يبلغ ١٢٠٠ غرام ، أي يزن جزء من خمسين
جزء من وزن الجسم ، ولا تفوق الكائنات بدماغها دماغ الإنسان فالنملة يحوي دماغها
٢٥٠ خلية عصبية ، بينما يحتوي دماغ النحلة على ٩٠٠ خلية عصبية ، في حين يصل دماغ
الشمبانزي الكبير إلى حوالي وزن دماغ الطفل الذي يزن ٣٥٠ غرام ، وهناك الفيل الذي
يزن دماغه ثلاثة أضعاف وزن دماغ الانسان ، والحوت الكبير الذي يزن دماغه خمسة
أضعاف وزن دماغ الإنسان ، ولكن النسبة ما بين وزن الكائن ووزن دماغه هي أرقى وأكبر
شيء عند الإنسان فقط حيث تعادل النسبة تقريباً ٧٣ و ٢% ، بينما هي عند الحيوانات
القاضمة ٢ و ٠% ، ومع كل هذا فإن وزن الخلايا العصبية في قشر المخ يبلغ ١١٦ غرام ،
وثخن القشر بضعة ملمترات أكثرها في المنطقة الجبهية حيث تصل إلى ٥ و ٤ ملمتر.
ولنتصور الآن أن رقي الإنسان وعظمته
والملكات الفكريه السامية والعمليات الذهنية الراقية والتوقد الروحي والخيال
والابتكار والفن والابداع والكشف والإدراك والتخيل والتحليل والتركيب والشخصية
والإرادة كلها .. في ١١٦ غرام فقط. إن هذه الخلايا مع كل عظمتها هي ضعيفة جداً ( يريد الله
أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً )
لأن أي نقص في الأكسجين القادم إلى الدماغ يعرضه لاخطار مخيفة ، فمع كل ما شرحنا
من نسبة الدماغ الى وزن الجسم الكامل ، مع هذا فإن الدماغ يحتاج إلى ربع كمية
الاكسجين التي يستهلكها الجسم بما فيه الدماغ ، أي ان ٢٥% من الاكسجين القادم من
طريق الرئتين يصرف إلى الدماغ ، وليس هذا فقط بل أيضاً السكر
الصرف ، أي الغلوكوز
فلا تقبل خلايا الجملة العصبية إلا هذه الحلويات الفاخرة أي سكر الغلوكوز فقط
وترفض أي سكر آخر ولو كان يختلف من ناحية البناء ذرة واحدة فقط!!
وتظهر مشاكل نقص الاكسجين في حالة
الولادة ، ولتنقل في هذا الصدد قولاً للدكتور جراء والتر ، وهو أحد الباحثين
البريطانيين البارزين في ميدان العقل : إن التقلصات والامتدادات التشنجية للجنين
إنما هي دليل على نقص في كمية الاكسجين اللازمة له ، ويازدياد النمو يأخذ النقص في
الازدياد حتى يشق الطفل عند مرحلة معينة من الولادة طريقه إلى الحرية أو إلى
الكارثة؟! والكارثة هي الموت أو الفوالج أو العته العقلي مدى الحياة!؟ وذلك فان
الذي يموت شنقا أو اختناقا أو غير ذلك من اسباب الموت التي لا تحصى ، فما إذا
انقطعت الترويه الدمويه عن الدماغ لمدة خمسة دقائق فقط هي التي تكون السبب في
الموت حتى لو توقف القلب عن النبضان ، فإن بامكان تمسيد القلب أن يعيده إلى
الخفقان ، لأن خلاياه لا تموت بانقطاع الاكسجين حتى إلى ربع أو نصف ساعة ، بينما
خلايا الدماغ تموت نهائياً فيما إذا انقطع عنها الاكسجين لمدة خمسة دقائق فقط ،
وقد أمكن بتخفيض الحرارة من ٣٧ o إلى ٢٨ o مئويه
أن تبقى الخلية ٧ ـ ١٠ دقائق محرومة من الأكسجين كما يمكن إطالة قدرتها إلى نصف
ساعة إذا انخفضت الحرارة الجسمية إلى ١٠ o درجات
والسبب في هذا قلة الاحتراقات والتفاعلات ضمن الخلية وبالتالي نقص الحاجة إلى
الاكسجين.
التخدير :
ومن خصائص الخلية العصبية أيضاً خاصية
قبولها للمواد المنومة وكانت فتحاً مبيناً في عالم الجراحة ، خاصة حيث وجد ان من
جملة
المركبات الداخلة في
تركيب الخلية العصبية بعض المواد الدسمة التي لها دور في قبول المواد المنومة
العديدة مثل الاتير والكلورفورم وغاز أول أوكسيد الازوت والسيكلوبروبان ، والأخيران
هما من الغازات الطيارة بالاضافة إلى أنواع سائلة كما في النوعين الاولين
والهالوتين وتري كلور الاتيلين وأتيل الكلورايد ( اسماء علمية لطائفة من المخدرات
) وهكذا تقدمت الجراحة شوطاً بعيداً بفضل هذه الخاصية التي تتمتع بها الخلية
العصبية وهي اصطفاء المواد المنومة ولنتصور كيف يمكن فتح بطن أو إجراء أي عمل
جراحي بدون تخدير بل قلع سن لا أكثر ، فكيف بجراحة القلب المفتوحة أو المغلقة ، أو
بجراحة الدماغ أو بالجراحات التي تستغرق الساعات الطوال والتي قد تمتد إلى ١٠
ساعات بالطبع لولا وجود مواد التخدير هذه لما أمكن للجراحة أن تتقدم كل هذا التقدم
ولقد وجد ان التخدير يبدأ اولاً فيثبط المراكز القشرية والروحية في المخ ثم يؤثر
على المخيخ والنويات القاعدية في المخ ثم يؤثر ثالثاً على النخاع الشوكي واخيراً
على المراكز البصلية وهنا يكمن أشد الخطر لأن مركز التنفس يوجد في هذا المكان وكما
ذكرنا ان المادة المخدرة لا تنزل بشكل شاقولي في المراكز العصبية لان النخاع هو
القطعة السفلى ، بل تقفز عن البصلة ، ولو لم يكن هذا الترتيب لمات المخدّر ولما
أمكن اجراء أي عمل جراحي بل كانت المواد المخدرة مميتة.
فانظر إلى هذه الدقة وهذا التسلسل البديع
في عمل المخدرات ، فكيف ثم هذا الأمر ورتب بهذه الكيفية حتى يخدم الانسان ، حتى
لقد قيل ان الجراحه ما كانت لتتقدم لولا التخدير والصادات الحيوية ( مثل البنسلين
والسولفا والكلورامفنكول والتتراسكلين وسواها ) ، ( وسخر لكم ما في
السموات وما في الارض جميعاً من منه ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) سورة الجاثية.
الدوران الدموي في الجهاز
العصبي :
وفي الجملة العصبية دوران يشبه الدوران
الدموي ولكنه على مستوى السائل الدماغي الشوكي وبالطبع لا نزال نذكر من الابحاث
التي مرت معنا في تخلق الانسان السائل الأمنيوسي والذي يقي الجنين من الرضوض ويوزع
الضغط على جسمه في المخاض ان ذلك السائل ايضاً كان يخضع لقانون دوار هو الإفراز
والامتصاص ، فاما افرازه فكان من الغشاء الأمنيوسي الذي يغطي المشيمة من الداخل (
راجع الصور ) وباقي الغشاء الامنيوسي للامتصاص وأي خلل في الافراز أو الامتصاص يؤدي
الى نتائج وخيمة ، فأما القلة فتسبب انكماش الرحم على الجنين ومنعه من النزول بشكل
سوي ، والزيادة تؤدي إلى الاستسقاء الامنيوسي ولقد وجدت حالات بلغ السائل ٥ و ١٤
ليتر مع ان السائل بحجمه العادي هو لترلا أكثر!! وهذا الحديث مرتبط بحديث الدوران
في السائل الدماغي الشوكي ، ويبدو ان الجسم يحوي العديد من هذه الدوامات حتى ليقال
ليست الحياة سوى دوامة من النشاطات ، وهنا أيضاً توجد مناطق تفرز هذا السائل
ومناطق تمتصه ، فأما المناطق التي تفرزه فهي الحلايا التي تفرش باطن الدماغ حيث
نجد ان باطن الدماغ محفور في كل جانب ببطين جانبي ، وهناك بطين ( مصغر بطن ) ثالث
وبطين رابع ، وهكذا نرى ان الدماغ محفور في أربع مناطق وهذه البطينات مملؤة بهذا
السائل وهكذا نرى الدماغ اشبه ما يكون يمادة معلقة في سائل فهي محاطة من كل
الجوانب بهذا السائل وفي ضمنها هذا السائل.
وأما مناطق الامتصاص فهي كائنة في
النسيج العنكبوتي وتتم قرابة عشر دورات يومياً من الافراز والامتصاص لهذا السائل
وأي خلل في الافراز والامتصاص يؤدي إلى نتائج في منتهى الخطورة نظراً لعلاقة
هذا السائل من
الناحية المكانية بأنبل عناصر الجسم الذي هو الدماغ ، إن نقصه مخيف وزيادته أشد خطراً
، فهذا السائل يمر من أماكن الافراز من الحفر والدهاليز المخية الداخلية عبر انفاق
وثقب إلى الخارج تعرف هذه الثقب بأسماء مختلفة مثل مونرو ، لوشكا ، ما جندي ، فإذا
زاد الافراز أو نقص الامتصاص لسبب من الأسباب يعطل ميكانيكية الامتصاص كالتهاب
السحايا مثلا ( وقلنا أن السحايا هي مجموعة الأغلفة التي تغلف الدماغ وهي الأم
الجافية والنسيج العنكبوتي والأم الحنون ) فإن كمية السائل تزداد وأخيراً تضغط نفس
الأماكن التي أفرزتها وهذه الخلايا التي تفرزها حساسة كالجلد تماماً فيصاب المريض
بالصداع الشديد والنعاس وبطء النبض والقيء أحيانا ، وتعرف هذه الحالة باستسقاء
الدماغ وتحصل غالباً عند الاطفال ومع المزيد من الضغط على النسيح الدماغي الناعم
شديد الحساسية اللطيف الرقيق ، يبدأ الطفل في حالة تقرب من الغيبوبة وتفتل كرتا
العين إلى الاسفل بحيث ان البؤبؤ يرى كقرص الشمس الذي يغيب في الأفق وهذه العلامة
مهمة في تشخيص هذا المرض وتعرف بعلامة غروب الشمس وهي في الحقيقة غروب شمس العمر!!
إن هذه الدوامات الهائلة هي قاعدة في
بناء الجسم فدورة السائل الامنيوسي هي من هذا القانون وكذا دوامة السائل الدماغي
الشوكي وكذا الخلط المائي في كرة العين ( سيأتي شرحه ) وكذا بناء كافة مواد الجسم
حتى المواد الدهنية كان يظن أنها مستودعات تخزين ثابتة وجد أنها تتغير باستمرار ،
وقد استطاع العلماء معرفة ذلك باعطاء العناصر المشعة بحيث يمكن تتبع مرور هذا
العنصر في الجسم بتتبع اشعاعاته التي يصدرها كما في الموانىء التي تتلقى اشعاعات
السفن!! فوجد أن الدهن يتجدد باستمرار وكذا كل انسجة الجسم حتى العظام التي هي أقل
أنسجة الجسم تغيراً تخضع
لهذا القانون ،
وهكذا نغير جميع أجهزتنا وأعضائنا وأنسجتنا ( عدا الدماغ ) كل سبع سنوات مرة
واحدة. والعجيب الغريب أنك تحافظ على لون جلدل وعينيك وتقاطيع وجهك وزمرة دمك
وطولك وتفصيل جسمك مزاجك وهيئتك وأنت أنت لم تتغير وأنت أنت تتغير ( كل شيء
هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ).
إن محيط الجمجمة عند الطفل الذي يبلغ
السنة من العمر هي ٤٦ سم وعندما يصبح عمره ١٨ شهر يكون محيط الجمجمة ٤٧ سم ولقد
رأيت حالة من استسقاء الرأس بلغ محيط الجمجمة ٧٠ سم أي تمدد محيط الجمجمة ٢٣ سم
فكيف أمكن حصول هذا الأمر بحيث أن رأس الطفل الذي كان يناهز بضعة أشهر من العمر
كان يبلغ من الحجم أكبر من رأس الرجل الكهل ، وماذا يستطيع الإنسان أن يقول وهو
يمر من بحث إلى بحث وكأنه يسبح في بحر من المجهول وليس أمامه سوى جزر طافية من
المعلوم!! .. ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ).
وقد يتساءل الإنسان كيف يتم تغذية
الدماغ بالدم؟ ان طرز ورود الدم إلى الدماغ أيضاً طرز خاص وفيه ميزات فالشرايين
انتهائية غير متفاغرة مع بعضها البعض وهذا يحتاج لشيء من التفصيل ، لقد وجد
الاطباء التشريحيون أن كل شرايين الجسم تنتهي بتفاغر مع بعضها البعض : أنها تشكل
شبكة متصلة مع بعضها البعض فإذا أنسد أحد الشرايين تدفق الدم إلى المنطقة من جدول
دموي آخر يتصل بالشريان المنسد بينما لا نجد هذا الشيء في شرايين الدماغ وهذا ناتج
بسبب وضع الدماغ داخل القحف وكثرة الشرايين الواردة والجيوب الوريدية التي تنقل
الدم من الدماغ إلى الخارج ..
تنطلق بعض الشرايين من الشريان الرئيسي
في البدن وهو الابهر وتصعد إلى العنق باسم الشريان السباتي حيث يتفرع إلى فرعين
سطحي
وعميق والأخير يعطي
شعبة قبل أن يدخل إلى الدماغ حيث يعطي خمسة فروع منها للعين ومنها للمنطقة
الأمامية في المخ ومنها للخلف ومنها للمنطقة الوسطى وهي ما تسمى بالشريان المخي
الأمامي والمخي المتوسط والموصل الخلفي والمشيمي وهكذا تتكون ثلاث شبكات دموية
منها ما يغذي قشر الدماغ ومنها ما يغذي الاعماق ومنها ما يصل إلى الضفائر المشيمية
التي تفرز السائل. الدماغي الشوكي فترويها ، وهكذا نرى أن تروية الدماغ قوية جداً
، وأما المخيخ والجذع الدماغي فان هناك شرايين تصعد من ميزابة العمود الفقري إلى
داخل القحف فتشكل شرياناً واحداً هو الشريان القاعدي تصدر منه شعب شريانية تغذي
الجذع الدماغي وثلاث فروع للمخيخ واحد علوي واثنان سفليان أمامي وخلفي ويتابع
الشريان مسيرة فيلتقي مع الشرايين المخية الأمامية التي ذكرناها ويتكون ما يشبه
الاضلاع السبعة وهو الذي يطلق عليه مسبع فيللس.
وهكذا نرى أن نظام تروية الدماغ متقن
ومنظم بحيث أن أي منطقة من الدماغ مهما صغرت فإنها تروى تماماً بالشرايين الصغيرة
الانتهائية المتفرعة من الشرايين الكبيرة. وأما الأوردة فهناك أوردة ضخمة تسمى
الجيوب وعددها (٢١) جيب وريدي يسحب الدم من الدماغ إلى القلب الأيمن ، والكمية من
الدم التي تدخل بالانقباض والاسترخاء الشرياني تتعادل مع الكمية من الدم التي تخرج
عن طريق الوريد الوداجي المستقر في جانب العنق من كل طرق ، وهذا التنظيم مهم واي
خلل فيه يؤدي إلى مضاعفات خطيرة جداً.
والآن لنتساءل ما المصير فيما لو انسد
أحد الشرايين؟ ان ابسط الشرايين فيما لو انسد وانقطعت ترويته عن منطقة لمدة دقائق
يجعل الخلايا العصبية في موت نهائي لا رجعة له وإذا بنا فجأة نرى الفالج
الشقي أو فالج وشلل
للطرفين السفليين أو الحول ، أو انعدام الرؤية في طرفي العين ( النصفين المتباعدين
الصدغيين ) أو انعقال اللسان وحدوث الحبسة أو الصمم اللفظي ، أو انفلات المصرات (
المثانة والمستقيم ) أو الآلام المبرحة الشديدة أو التواء العنق أو الرقص باشكال
مختلفة منها الحاد ومنها البطىء!! ويجدر بك وأنت تتأملها أن تعرف النعم التي تفيض
عليك ( وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ).
الحاجز الدماغي :
وعندما يصل الدم الى الدماغ هل انتهت
القصة؟ انها لم تنتهي بعد ، فلقد وجد أن هناك حاجزاً بين الدم والمخ هذا الحاجز هو
الخلايا الدبقية أو النسيج الذي يتوزع بين الخلايا العصبية بمثابة الدعم ان هذا
النسيج هو بمثابة الخادم الذي يقدم الطعام الجاهز إلى الخلايا العصبية والحلوى
الفاخرة التي هي الغلوكوز ، كما أن هذا النسيج هو بمثابة الجمارك التي تحتج المواد
التي لا ترغب بها. وهي أيضاً المقبرة للخلايا العصبية التي تموت ، كما أنها الغربال الفني لكل المواد
التي تمر من الدم إلى الخلايا العصبية النبيلة.
إن حقن بعض الاصبغة التي تقتل الجراثيم
تجعل جميع الجسم يتلون بها إلا الدماغ ، وان حقن محلول الصود في الوريد يجعل جميع
البدن يغرق فيه خلال ١٠ دقائق بينما لا يجتاز الحاجز الدماغي إلا بعد ستين ساعة!!
إن أي سكر غير سكر الغلوكوز مرفوض ولو كان يختلف عنه بذرة لا أكثر فقشر الدماغ لا
يستطيب إلا هذا النوع من الحلوى
__________________
وان السكر الموجود
في الدماغ لا يكفيه أكثر من دقيقة واحدة ولذا يقوم الكبد وسائر الانسجة بتقديم
الضرائب إلى الدماغ في صورة هذا السكر وإذا صدف إن كان الجسم يعاني أزمة ومجاعة
فإن جميع النسيج تتنازل عن سكر الغلوكوز للدماغ فقط حفاظاً على سلامته ، وإذا دخل
السكر الخلية العصبية شكل مع الاكسجين ما يشبه المولد الكهربائي الذي يشحن ويستعد
للإفراغ وإذا أفرغ عاد وامتلأ مرة أخرى خلال واحد من الألف من الثانية.
وإذا نقص الاكسجين ماذا يحدث؟ يغضب
السكر ويتملص من الاحتراق فتركض خلفه الخمائر ترجوه وتستعطفه فلا يرضى بالرجوع إلا
بعد أن تتوسط (١٢) خميرة!! وهكذا يمر السكر في (١٤) مرحلة يتداخل فيها اثنا عشر
خميرة لتحلل السكر ( ذكرنا أن الخميرة تشبه المسرع للتفاعل حيث أن قطعة اللحك
تحتاج لكي تتفتت إلى حمض كلور الماء المركّز ولعدة أيام ، وإذا غليت بحمض كلور
الماء المركز لمدة ٢٤ ساعة تتفتت بينما هي في خميرة البسين حطاماً في مدى ساعات
بعدون حمض مركز ولا غليان مستمر ) وتتداخل عدة هورمونات في عملية تحلل السكر أهمها
هورمونات غدة المعثكلة التي تحرق الوقود السكري ، فإذا خرج الدم بعد كل هذه
التفاعلات كانت حرارته أزود بدرجة واحدة مما دخل نتيجة الاحتراقات في التفاعل.
وأي خلل في استخدام الوقود السكري في
الخلية يعطه نتائج مذهلة فاستنشاق غاز أول أكسيد الآزوت يحدث هذا اللل فاذا بالرجل
يضحك ويضحك ( سمي الغاز المضحك ) أما الباريتوريات فهي منومة : والسيانور مادة
سامة ، والمسكالين تحدث ما يشبه مرض الذهان والسبب في كل هذا يعود إلى خلل
الاستقلاب في الغلوكوز والسكر وهكذا تتبين لنا مدى الدقة في الخلق ، والاحكام في
الصنعة ، والروعة في
البناء!! .. ( وفي الارض
آيات للموقنين وفي انفسكم أفلا تبصرون؟؟
).
قديماً يقول المثل رب صديق في الأمس عدو
في المستقبل وهكذا يحدث مع الخلايا الدبقية التي تمثل الصديق الحميم الذي يخالط
الجملة العصبية حيث وجد ان تسرطن الدماغ يتم في هذه الخلايا الدبقية وهكذا تسلم
هذه الخلايا الدماغ إلى مقصلة الاعدام ، وأما خلايا القشر الدماغي بالذات فلا
تتسرطن وهو أمر يدعو إلى التأمل أيضاً.
فكرة عن مخطط الدماغ الكهربي
:
كان أول من فكر بموضوع تخطيط الدماغ
الكهربائي طبيب ألماني اسمه هنز بيرجر حيث لاحظ هذا الرجل ان خلايا الدماغ ترسل
اشارات كهربائية كما ترسل الاشارات من الموانىء إلى السفن التي تعبد عن الساحل أو
كإشارات اللاسلكي ، وهذه الاشارات إذا أمكن إلتقاطها وتكبيرها إلى مليون مرة يمكن
فهمها ونقلها الى آلة ترسم هذه الاشارات بشكل خطوط وموجات ، وقد نجح في هذا ولكن
مدرسة التحليل النفسي التي نادى بها فرويد في أوربا في تلك الأيام كانت قد نالت
إعجاب الأطباء والجمهور فلم يلاق إلا السخرية والضحك عليه حتى لقّب باسم حصان كان
يلعب في السيرك ، وكان هو بالمقابل غير حريص على كسب الناس والتودد اليهم ( والحق
يقال ان قيمة الباحث لا تأتي من مقدرة الباحث في كسب الناس والتأثير عليهم بل إلى
صحة المعلومات التي أدلى بها وهذا المصير كان لكثير من العلماء ... )
يوضع في العادة منافذ ومستقبلات
للاشارات الكهربية على الجمجمة من الخارج وتتصل هذه المستقبلات بأسلاك تنقل
التيارات الكهربية الضعيفة إلى جهاز يضخم هذه التيارات مليون مرة ويسجلها على قطعة
من الورق بشكل خطوط أشبه ما تكون بامضاءات بيد مرتعشة غير
واضحة ، ولقد لاحظ
الأطباء ان هذه المنافذ لا تؤدي المطلوب وهي أشبه يأخذ رأي أمة من ١٦ شخص أو معرفة
تيارات المحيط الهادي بوضع ١٦ دليل عائم لأن كل منفذ يأخذ التيارات من ملايين
الخلايا العصبية ولذا فان التقاط الاشارات الكهربية ومعرفة وضع الخلايا العصبية
بشكل جيد يحتاج إلى أكثر من مليون منفذ أو مستقبل للكهرباء ، وبالطبع فان هذا
الشيء غير ممكن من الناحية الواقعية ، ولقد ابتكر الدكتور جون ليلي من جامعة
بنسلفانيا جهاز فيه ٤٠٠ مستقبل كهربائي كما أن الدكتور انتونين ريموند من المركز
الأهلي للبحث العامي في باريس يصمم جهازاً فيه ٢٠ مستقبل لقشرة المخ بأملها
ويستقبل الاشارات بثانية واحدة ، وعلى العموم فان الأجهزة الموجودة بين أيدي
الأطباء اليوم يعرف منها الكثير والى المستقبل قد يمكن اكتشاف أشياء مثيرة وهامة من
هذه الأجهزة أو بتطويرها.
لقد وجد ان الخلايا العصبية في الدماغ
حينما تكون بحالة استراحة وشرود ترسل ١٠ نبضات في الثانية الواحدة وهي بنظم خاص
يعرف بنظم ألفا ونفس هذا النوع له أقسام منها قسم يسمى بموجات ألفا M
م وقسم P ويقول جون فايفر ان الشخصين اللذين يحملان هذين الطرازين من موجات
الدماغ فيما إذا اجتمعا فلا ننتظر منهما إلا عدم التوافق ويدخلان في مناقشات حادة
مريرة ، ومن النظرة الأولى لا يحدث ارتياح أو انسجام بينهما!!
ثم ان هذه الموجات التي ترسم على الورق
تتسطح فجأة فما إذا ركّز الانسان تفكيره أو أثير بانفعال أو سمع ضجة كبيرة أو قام
بحساب معقد ، وإذا بقي النظم كما هو دل غالباً على حالة مرضية.
وإذا قمنا بدراسة للمخطط الدماغي فاننا
سوف نعثر في الحالة الطبيعية
على النظم السوي من
نموذج ألفا الذي مر ، وقد تكون الاشارات أقل من ١٠ في الثانية أو أكثر وكلها تدل على
مزاج سوي ، ولقد وجد ان هذا النموذج يكون مضطرباً عند الأطفال ويكون في حدود ٤ ـ ٧
نبضات في الثانية ومضطرب ، وهي في الحقيقة تعبير جيد عن وضع الأطفال الفكري ولغة
الأطفال ، وإذا تقدم في العمر يبدأ نظم الدماغ يتدرج الى الحالة السوية حتى يصل
إلى سن ١٤ سنة أو أكثر حيث يصبح نظم ألفا هو المسيطر على فعالية الخلايا العصبية
الكهربي.
وللهم في مخطط الدماغ الكهربي انه
استطاع أن يحدد بعض الأمراض المخيفة كما في الصرع حيث يمكن تحديد المرض بالضبط ولو
لم يكن المريض في حالة نوبة حيث يظهر على المخطط اضطراب في فعالية الخلايا يتظاهر
بارتفاع موجات التخطيط وهو ما يعرف بنموذج الذروة ، كما يمكن بواسطة اليخطيط الكشف
عن بعض الأورام المجفونة بدقة في تلافيف الدماغ وهذه تحتاج إلى دراسة خاصة.
وأخيراً أمكن التعرف إلى نقطة هامة في
هذا البحث وهو الكشف عن شخصية الانسان من خلال تخطيط الدماغ وظهور مخططات شاذة عند
القتلة والمجرمين والأطفال المعتوهين ، وهنا نقف على عتبة عالم جديد حيث نرى
البحار النفسية المتلاطمة والأفكار الذهنية التي تمر كالريح فهل يا ترى بالامكان
قراءة الأفكار ومعرفة التداخلات النفسية العجيبة المعقدة من خلال هذه الآلات التي
تلتقط لنا هذه الاشارات العائمة من بحار تلافيف الدماغ؟ وهل بالامكان معرفة تكوين
الشخصية من خلال هذه الرسوم الواضحة؟ والحق يقال ان هذه المعلومات قربت لنا
الايمان وجعلته قاب قوسين أو أدنى حيث يقول القرآن : (
اليوم نختم
على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون
) سورة يس ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون.
حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم
سمعهم
وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا
الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة واليه ترجعون. وما كنتم تستترون أن يشهد
عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم ان الله لا يعلم كثيراً مما تعملون.
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين
) سورة فصلت.
ما هو عمل المخيخ؟
لعل القارىء لاحظ مقدار الدقة والتعقيد
في بناء الجهاز العصبي وكأننا نمشي في بحر متلاطم من المجهول ، وبين الحين والآخر
نرى بعض الجزر الطافية من المعلوم وكما قال الدكتور ألكسيس كاريل في كتابه (
الانسان ذلك المجهول ) ان الانسان مجموعة من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة ،
والآن ما المخيخ وماذا يعمل؟ ..
يعتبر المخيخ من جملة الأجزاء السبعة التي
تكوّن الجهاز العصبي لمجموعه العام وهي المخ والمخيخ ثم الساقان المخيتان ،
والحدبة الحلقية أو جسر فارول ، والبصلة السيسائية ، والنخاع الشوكي.
ويمكن أن نقول باختصار ان المخيخ هو
مركز توافق وانسجام حركات البدن وأي خلل فيه يؤدي إلى الاضطراب في تأدية الوظيفة ،
ولا يتداخل في الأعمال الذهنية كما نرى لأن تلك الأعمال على ما يبدو هي من اختصاص
قشر المخ.
يتألف المخيخ من ٢٠ قسماً ، ومن ستة
جسور تصل ما بينه وبين بقية أقسام الجهاز العصبي المركزي حيث يكون الجسران
العلويان للعبور من المخيخ إلى خارجه بينما تكون الجسور الأربعة السفلى للمرور من
خارج المخيخ إلى داخله وفي هذه الجسور العريضة تزدحم آلاف الآلاف من الألياف
العصبية التي تحمل الرسائل القادمة من الجسم تخبر عن حاله كما
يخرج من المخيخ
الألياف التي تفهم قشر المخ بما يحدث كما تتفهم مع الساقين المخيتين والحدبة
الحلقية والبصلة السيسائية وهكذا يسير توازن البدن وانسجام حركاته على أتم وجه.
إذا نظرنا إلى المخيخ من الخارج نراه
وكأنه كومة من خيطان يزن قرابة ١٤٣ غرام كما انه يتكون كما في المخ من قشر رمادي
ومن مادة بيضاء ولكن قشر المخ كما مر يتكون من ستة طبقات ، أما في المخيخ فيتكون
من ثلاث طبقات وفيه نوع خاص من الخلايا ذات شكل اخطبوطي هي خلايا بور كنج ، وإذا
نظرنا إلى المخيخ من الداخل فاننا نجد ما يشبه تفرعات الشجرة ، ولقد كان يظن ان
مركز الحياة هنا ولذا كانت تسمى شجرة الحياة وداخل التلافيف البيض في الدماغ يظهر
ما يشبه الجزر الطافية من المادة الرمادية أي تجمعات الخلايا العصبية ، وهكذا نرى
في بحث تلافيف المخيخ ست جزر من المادة الرمادية وبشكل متناظر وهذه الجزر تستقبل
السفن من الخارج وهي هنا بصورة الألياف العصبية التي تحمل الرسائل اليها ومنها إلى
الخارج ، وهنا نتساءل ماذا يحدث لو اننا قمنا بتخريب بعض المناطق في المخيخ؟ لقد
وجد ان الأقسام العشرين التي ذكرناها في تشريح المخيخ تتوزع فيما بينما الأعمال
فالأقسام الأمامية خاصة بالتوازن والأقسام الوسطى خاصة بالمقوية العضلية حيث تصرف
الأوامر اللازمة للعضلات المعينة أن تتقلص بما يناسب الحركة ولنتصور مقدار دقة هذا
العمل إذا كان مثلاً فتح باب السيارة يحتاج لمجهود يفوق (٤٠٠) ضعف مجهود إدارة قرص
التلفون ، ولنتصور أيضاً مقدار الجهد الذي نصرفه حينما نقلب صفحة من كتاب وبين رفع
ثقل يزن خمسين كليوغرام؟!! كما ان الأقسام المتوسطة تشرف على أوضاع الأعضاء
والأعمال الودية في البدن ( ذكرنا هذا البحث سابقاً ) وأما الأقسام الخلفية فهي
تختص بتنسيق الأعمال الارادية التامة والجزئية ،
وبعد أن ذكرنا هذا
التقسيم البسيط لنتصور مدى الضرر الذي يلحق بالانسان فيما إذا تخربت بعض المراكز
وكانت بحجم لا يزيد عن حجم العدسة الصغيرة.
ان مشكلة التوازن مشكلة معقدة ، وحتى
الوقوف البسيط العادي يعتبر حركة بهلوانية عجيبة ، فالمخيخ مركز القيادة في
التوازن وكأنه القبطان الذي يدير دفة السفينة في بحر متلاطم الأمواج أو كأنه
القائد الذي يسير بالطائرة في جو مليء بالزوابع والعواصف والغيوم ، وبدون أن يحدث
أي اضطراب هام يقوم المخيخ بادارة دفة العمل بشكل منظم دقيق هادىء متزن ...
وحتى يمكن للانسان أن يتزن اثناء الوقوف
، واثناء التمايل ، واثناء الجلوس ، واثناء المشي ، فان عدة عناصر تشترك في اقرار
هذا التوازن وهي العضلات والعظام والمفاصل والأعصاب التي تنقل الحس عبر النخاع
الشوكي والدهليز في الاذن الباطنة ( تقسم الاذن إلى ثلاث أقسام خارجية ووسطى
وباطنة ) فأما الدهليز ففيه مناطق تسمى بالتيه أي ان الذي يمر فيها يصاب بالتيه
وهو يمر في هذه الدهاليز السحرية العجيبة ومن جملة العناصر التي تقر التوازن أقنية
تمثل اتجاهات الفراغ أي من الأمام إلى الخلف ، وبشكل أفقي ، وهي الأقنية نصف
دائرية الوحشية والخلفية والعلوية ، وهذه الاقنية بواسطة البلغم الداخلي الذي يمر
فيها تتعرف على وضع الانسان فيما اذا كان قائماً ، أو قاعداً ، أو نائماً ، أو
مائلاً حسب ميلان السائل داخل الأقنية حيث يرتطم ببعض الجسيمات الحسية التي تنتقل
عبر العصب الدهليزي إلى المخيخ ، كما تنتقل إلى المخيخ الأخبار الصادرة من وضع
العظام والمفاصل والعضلات ويقوم المخيخ بدوره في تنسيق الاعمال وجعلها مترابطة إلى
بعضها البعض.
ولذا فان أي خلل يصيب المخيخ يعطل هذا
التوازن ، فعلى مستوى
العين تحدث الرأرأة
حيث ترقص العين ولا تستقر اثناء النظر اما إلى الأعلى والأسفل وأما إلى الأيمن
والأيسر وأما بشكل فوضوي حسب منطقة الاصابة والسبب في هذا يعود إلى ان المخيخ ينسق
حركة عضلات العين ، حيث ينسق حركة العين ستة عضلات وهي العلوية والسفلية والانسية
والوحشية والمنحرفة الكبيرة والمنحرفة الصغيرة حيث يؤمّن بواسطة هذه العضلات حركة
العين إلى الأعلى والأسفل واليمين واليسار وبشكل منحرف بحيث يمكن بهذه الطريقة
تدوير كرة العين ، والمخيخ يهيمن على توازن هذه العضلات بحيث ان انقباض أحدها
يستدعي استرخاء الآخر فيما إذا كان المطلوب من حركة العين مثلاً النظر الايمن
فالمفروض ان تتقلص العضلة اليمنى وتسترخي اليسرى فتنفتل كرة العين الى الايمن
وهكذا بقية الحركات والمخيخ يشرف على عمل العضلات بحيث يجعلها متوافقة متفاهمة مع
بعضها البعض فهو صلة الوصل والاداري العام والمنظم الواعي الدقيق!!
فاذا حدث اختلال في هذه المراكز لم يبق
قرار لكرة العين فتصاب بالرأرأة حيث تتراقص بشكل يدعو للتأمل والنظر ، وبالاضافة
إلى هذا فان أي خلل آخر على مستو آخر من مستويات المخ يحدث اضطراباً وعدم انسجام
في عضلات أخرى من البدن ...
وهذا الشيء يعرفه الاطباء جيداً فالمشية
تضطرب فاذا أراد أن يمشي فانه يشبه السكران في مشيته حيث يتطوح والسبب في هذا هو
ان انسجام حركة العضلات مع التقدير المحكم لنقل الخطوة اضطرب ولذا فانه يمد رجله
أكثر أو أقل مما هو مطلوب كما ان اتزانه يضطرب ، ولذا فانه يوسع ساحة استناده
فيباعد بين رجليه حتى يستطيع أن يتمكن من الاتزان ويشتد الامر أكثر فأكثر فيما إذا
أغمض عينيه لان النظر يخفف من خطأ التقدير ولذا فانه يتزن أكثر ولكنه إذا أغمض
عينيه
مال الى السقوط
سريعاً ، ولقد جرب تخريب المخيخ في الطيور فوجد ان الطير إذا ألقي في الهواء سقط
كالجسم الذي ليس فيه حراك مع انه يبصر ما يحل به ولكنه لا يستطيع أن ينظم حركات
جناحيه ، ويصل الامر إلى أن الوقوف بحد ذاته يصبح مشكلة وخاصة اذا أغمض عينيه فانه
يميل إلى السقوط ، وتسمى هذه العلامة بعلامة رومبرغ وهي مهمة في تشخيص أمراض المخيخ
، ويصبخ الميل للسقوط أكثر فيما إذا طلب من المريض وضع رجل أمام الاخرى اثناء
الوقوف.
ويحدث الرجفان في الاطراف فاذا طلب من
المريض أن يضع اصبعه على أنفه تعذر عليه ذلك واضطرب بشدة وأصيب برجفان يزداد كلما
ازداد قربه من الهدف ولذا يعرف هذا بالرجقان القصدي. كما انه إذا قلب كفيه سوية
اضطرب الامر معه وأخذ يقلب الواحدة ويخطأ في الثانية وهكذا.
وإذا أراد أن يتكلم اُصيب بالرتة وهي
تقطع الكلمات وعدم فهم الكلام منه بشكل واضح فهو يتكلم ولكن كلامه مضطرب والسبب في
هذا يعود إلى عود انسجام عضلات التصويب حيث ان النطق عند عند الانسان يقوم على
الجهاز العصبي أولاً وعضلات التصويت وهي الحبال الصوتية في الحنجرة بالاضافة الى
حركة اللسان والشفتين ، فأي اضطراب الانسجام ما بين حركة العضلات في أي منطقة حصل
اضطراب التصويت خاصة إذا علمنا ان اللسان فقط يحتوي على ١٧ عضلة والوجه فيما يزيد على
٣٠ عضلة وكل حرف من الحروف التي يتكلم بها الانسان لها مخارج معينة من الحلق أو
الحنجرة أو مقدم اللسان أو من الشفتين فاذا حدث أي خلل بسيط أصبح الانسان عاجزاً
عن تفهيم الآخرين عما يريد إلا بصعوبة بالغة وصدق الله : ( ألم نجعل
له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ).
مناطق حيوية في أعماق الدغل
المخي :
بعد أن أخذنا فكرة بسيطة عن عمل المخ
والمخيخ فهل انتهت القصة الآن؟! لم تنته بعد ، فهناك بعض المناطق ذات الحيوية
المهمة في أدغال المخ الداخلية بين الملايين من الألياف العصبية الصادرة والواردة
، وكنا قد ذكرنا من جملة هذه المناطق الحدبة الحلفية ، والساق المخية ، والبصلة
السيسائية ، والأعصاب القحفية ، والغدة النخامية ، ونويات مبعثرة في أعماق المخ
تسمى بالدماغ المتوسط ، فلنحاول الآن أن نلقي نظرة سريعة على هذه العناصر وعلى
عملها ..
فما هو المركز الذي تحتله مثلاً الحدبة
الحلقية؟!! أو ما يقال له النواة المذنبة ؟!
لقد وجد أن هناك بعض المناطق التي تغطس في عق الدماغ أو ما تسمى بالدماغ المتوسط
وفيها يشاهد السرير البصري الذي تحدثنا عنه وتشكلات عصبية أخرى مثل النواة العدسية
والنواة المذنبة وهذه التشكلات لها ارتباطات بالدماغ أي قشر المخ من جهة كما أن
لها ارتباطات بالجذع المخي أو ما يسمى بالمخ المستطيل.
إن منطقة الجذع المخي أو المخ المستطيل
فيها مراكز على درجة كبيرة من الأهمية ، فإذا ألقينا نظرة على البصلة السيسائية
وهي القسم السفلي من الجذع الدماغي ـ وتبلغ من الوزن عدة غرامات ـ فإننا نجد فيها
مراكزاً يسمى عقدة الحياة لأننا لو أدخلنا إبرة في نقرة إنسان ما أسفل العظم
القحفي تماماً إلى مسافة عدة سنتمترات ، فإن الموت المفاجىء هو
__________________
الذي ينتظرنا لأن
مركز التنفس هو الذي يرقد هنا ، ومركز التنفس هذا هو الذي ينظم الحركات التنفسية
ويعدّلها ويبطؤها أو يسرعها ، ونحن في الحالة الطبيعية لا نشعر بتنفسنا لأن يحدث
بدون إرادة منا ولكن إذا ركزنا انتباهنا عليه فإن بالإمكان تسريعه أو إبطاؤه.
والسبب في هذا يعود إلى الأوامر الجديدة التي ترسل من الدماغ إلى هذا المركز الذي
يقف كالجندي المخلص يقوم بحراسته على أتم وجه ويبدل من حراسته كما يأتيه الأمر من
قشر المخ ويتلقاه بكل سرور ، وفوراً يقوم بتعديل عمله على وفق ما جاءته الأوامر من
الأعلى.
لقد وجد أن هناك تشكلات معقدة ،
وارتباطات تبلغ درجة مخيفة من الدقة ، ففي جذع الدماغ حيث يحصل ارتباط الجزر
الرمادية بألياف عصبية قصيرة ، وحيث تنشأ من مجموع هذه الشبكات القصيرة من الالياف
أعقد الارتباطات ، وبين المكان والآخر من هذه التعقيدات نرى بعض الجزر الرمادية
وكأنها الأحجار الصغيرة في الشبكات الكثيفة من أعشاب قاع البحر أو قاع النهر حينما
تحجز في داخلها ...
نرى أن هذه التشكلات المعقدة تكمن فيها
مراكز عجيبة في تنظيم الجسم وكأن المنطقة السفلية من الجماغ بندول الساعة الرقاس ،
لأن تنظيم الإفرازات للغدد الموجودة في الجسم يكمن في هذه المناطق ، كما يكمن فيها
تنظيم سرعة التنفس ، وضربات القلب وتعديلها وتوقيتها والمراكز المحركة للأوعية
الدموية في الجسم كله التي ترفع توتر الدم أو تنقصه حسب حاجة البدن وما يواجهه من
ظروف ، كما تكمن فيها مراكز البلع ، والمضغ ، والتصويت ، وتنظيم السكر في البدن ،
وافراز العرق ، واللعاب ، ومركز النوم واليقظة ، وكذا تنظيم المشي ، ودورات الحيض
، وتنظيم حرارة البدن ، والتأثير على غدد التناسلية ، وبناء وهدم المواد في الجسم
باشكالها الثلاثة وهي البروتينات والسكريات
والشحوم ، وكذلك
المد والجزر في سوائل البدن ، وأصبغة الجسم كل ذلك ، بما يوافق الحرارة المحيطة
بالبدن وحسب المناطق الموجودة فيه ، ان كل ما مر يتعلق بهذه المنطقة الحيوية
الحساسة لتنظيم الجسم وجعله في حالة متوازنة على أحسن وجه ، ولقد وجد مؤخراً أن
العواطف تتعلق أيضاً بهذه المنطقة وعند إجراء بعض العمليات الجراحية على بعض
المناطق تحسنت بعض الأعراض المرضية ...
الافراز الغدي :
إن تنظيم الإفرازات الغدية في الجسم
يمثل إحدى عجائب التكوين الجسمي ، حيث إن إحدى هذه المراكز ، وهي الغدة النخامية
التي تناولناها بالذكر سابقاً والتي لا تتجاوز في وزنها نصف الغرام تفرز تسعة
هورمونات أو عشرة وبواسطة هذه الهورمونات التسعة يمكن السيطرة على العملية
التناسلية عند الإنسان ، وكذا مفرزات الغدة الدرقية ومفرزات قشر غدة الكظر ، وإفراز لبن الثدي عند المرأة ،
والعظام والمفاصل والعضلات في حالة النمو ، وتسمى هذه الهورمونات باللغة الأجنبية
كما يلي : T.S.H ـ ACTH ـ I.C.S.H ـ F.S.H ـ L.T.H ـ GH ـ M.S.H. A.D.H. ، والاكسيتوسين ، وسنبحث موضوع الغدد الصم في بحث مستقل بذاته ،
ولكن الشيء الذي نشير إليه الآن هو أن تنظيم هذه الإفرازات الداخلية بهذه الدقة
والتي تؤثر بترقيق يبلغ الواحد من المليون يدعو إلى الدهشة والاستغراب فعلاً ،
__________________
حيث تؤثر المراكز
التي ذكرناها على الغدة النخامية ، والتي تقوم هي بدورها بتنشيط كل هذه المراكز
على العمل فهي تقنع المبيض بقذف البيضة ، كما تحض الخصية عند الذكر على إفراز
الحيوانات المنوية وهي التي « تتفاهم » مع العضلات والمفاصل والعظام على أن يتم
النمو بمقدار محدد من جهة ومتناسق مع بعضه من جهة أخرى ويؤدي الغرض تماماً ، وهي
التي تتشاور مع الرحم في ساعة الخلاص حتى تبعث رسلها لكي يقنعوا الرحم أن يتقلص
ويفرغ محتواه من الجني ، وهي التي تبعث وفودها إلى الكلية لامتصاص السوائل
المطروحة في تلك المحافظ التي يزيد عددها على المليون في الكلية الواحدة ، والتي
تطرح (٢٠٠) ليتر يومياً من السوائل ويمتص منه (١٩٨) ليتراً أي أنه لولا هذا
التنظيم الدقيق لمات الإنسان من الجفاف في يوم واحد أو حتى أقل ، أي في مدى ساعات.
ولولا هذا التنظيم الدقيق لما استطاع النسل البشري أن يتابع طريقه أبداً ، ومن بين
كل هذه المتاهات المحيرة تبرز يد الارادة الحكيمة العاقلة المدبرة ، توجه الأمور ،
وتحكم الاتصالات ، وتسير الأحداث ، حتى يصل إلى أحسن خلق وابدع وجود ( فسبحان
الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون.
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكذلك تخرجون ، ومن آياته ان خلقكم من
تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون )
سورة الروم.
التنفس :
أما كيف يتم التنفس فذلك أيضاً معجزة من
المعجزات؟!! ففي هذه المنطقة التي ذكرناها توجد بقعة خاصة للشهيق ، وبقعة خاصة للزفير
، وقد وجد أن تنبيه إحدى هاتين البقعتين يؤدي إلى تثبيط الأخرى ، ولولا هذا النظام
المتناوب لاضطرب حبل الأمور ، ولدام الشهيق فترة أطول أو أقصر. ولكل حالة من هاتين
الحالتين نتائجه
البعيدة المدى ، حيث
أن بطء التنفس يؤدي إلى تراكم غاز الفحم في الجسم ، وغاز الفحم هذا له تأثير خاص
على المراكز التنفسية فهو الذي ينبهها ، وليس الاكسجين ، وهذا أمر يدعو إلى التأمل
، وعندما تصل الأوامر والتنبهات إلى مركز التنفس العام ويكون الوضع فيه شيء من
الخلل يعدّله على الفور فإذا زادت كمية الفحم انطلقت الأوامر تخبر أن الجسم في خطر
من زيادة غاز الفحم فتتحول الأوامر إلى تلك البالونات الصغيرة جداً والمسماة
بالأسناخ الرئوية حيث تمتلىء بشدة بالهواء ويزداد بالتالي ورود الاكسجين ، وهكذا
فإن أي زيادة أو نقص في الغازات يعدل فوراً وإلا دخل الإنسان في غيبوبة ثم إلى
الموت إذا لم يسعف. إن زيادة غاز الفحم بمقدار ٢ و ٠% يجعل حجم الهواء المتنفس
مضاعفاً كما ان نقصه ٢ و ٠% يوقف التنفس.
وهكذا فإن الإنسان في تنفسه كأنه يعبر
شلالات نياجراً على حبل ممتد فوقها ومعه عصا للتوازن وأي ميل إلى الجانبين يرديه
إلى الخطر المبين ، وبهذه الكيفية السحرية يتنفس الإنسان يومياً (٢٣٠٠٠) مرة بمعدل
١٦ مرة في الدقيقة ولا يستطيع أن يبقى بدون هواء أكثر من دقيقتين ، وتنتفخ اسناخه
التي تبلغ ٧٥٠ مليون سنخ والتي تفرش سطحاً يبلغ مساحته (٧٠) متر مربع في متوسط
الحياة (٢٠٤) مليون مرة مع العلم أنها تنقي الدم بمعدل ٥ ليترات في كل دقيقة!!
فتباركت اللهم واهب الحياة ( تبارك الذي بيده
الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليلوكم أيكم أحسن عملاً وهو
العزيز الغفور ).
سورة تبارك.
تمتمة القلب وتسبيحه وعلاقته
بالتنظيم الحروري :
وأما تنظيم ضربات القلب فهي أيضاً سر من
أسرار الخلق والابداع ،
فهو ينبض بمعدل ٧٠
ضربة في الدقيقة الواحدة أي بمعدل يصل إلى (١٠٠) ألف مرة يومياً و ٤٠ مليون مرة
سنوياً ، وما يزيد عن (٢٠٠٠) مليون مرة في متوسط العمر ، ولننظر إلى هذا التسبيح
العظيم الذي لا يكف ، ولا يفتر ، في ليل أو نهار ( كل قد علم صلاته وتسبيحه )
ولننظر أيضاً إلى الآية الرائعة في الجسم والتي هي تنظيم الحرارة ، ان هناك ما
يشبه ميزان الحرارة داخل الجسم ، فإذا جاءت الأخبار الحسية من الجلد تخبر عن الوسط
الخارجي ودرجة حرارته سارعت هذه المناطق الكائنة في الجذع الدماغي وما فوقه إلى
جهاز الدوران تستحثه على أن يحمي الحدود الخارجية وتأمره أن يقوم بدور العامل
المخلص في هذه الأزمة ويستجيب جهاز الدوران المرن المتاهب وهو يقول إن الأزمات هي
التي تكشف الرجال ( وتجدون الناس معادن ) وسرعان ما تحدث تقلصات العروق الدموية
ونضح القلب للدم بما يفي حاجة الجلد ، فإذا كان بارداً قل تدفق الدم الذي يحمل
الحرارة ليعدل البرودة والعكس بالعكس وعندما يحصل الاتزان تبعث الجسيمات الحسية
بشكرها العميق إلى المركز العام المنظم وتدعو له بالخير ودوام البقاء!! ..
النطق والبيان :
وأما تنظيم عملية التصويب والنطق فإنها
أعجوبة بحد ذاتها لولا أنها تحصل في كل لحظة لكل من ينطق من أبناء البشر فينسون
بالألف والعادة هذه المعجزة.
ولنتملى في هذه الآية العجيبة قليلاً ..
أولاً : كيف يتم التفكير والإدراك والتخيل وتركيب الكلمات والجمل والأفكار وربط كل
هذا بعضه إلى بعض بحيث يخرج الكلام منسجماً متوازناً يهدف إلى معنى ، إن هذا يقف
الطب حتى الآن عن الإجابة عليه ، ثم كيف يستخدم
الإنسان الأسماء حتى
يتفاهم مغ غيره على الشيء الذي يريده أيضاً معجزة من المعجزات ، ثم كيف يتنقل هذا
الأمر من عالم الماديات المحسوسة إلى عالم الروح والفكر حيث يتم التعبير بالأشياء
المجردة ، الحق يقال إننا درسنا عمومات الطب من أوله حتى آخره ، ومع ذلك لم نستطع
حتى الآن أن نفقه هذه الاسرار ، كما ان الاطباء الذين يبحثون هذه القضايا يقفون
مشدوهين امام هذه الظواهر الفذة العجيبة المحيرة ( الرحمن. علم القرآن.
خلق الإنسان. علمه البيان. )
سورة الرحمن ، إن النطق في مستواه الفكري قبل البحث عن كيفية حدوث التصويت بعد
ظاهرة غير مفهومة في عرف العلم ، وحقاً إن الإنسان محير بتركيبه ... ثم لنتأمل على
المستوى المادي ، إن الحبال الصوتية بفضل تقلصها وارتخائها بالاضافة إلى عضلات
اللسان ، وغضاريف الحنجرة ، وعضلات الوجه ، وإطباق الشفتين ، ثم الأجواف المحفورة
في الجمجمة هي التي تعطي الصوت رنينه الخاص لكل إنسان بحيث يكون لكل إنسان صوته
المميز الخاص ( فورب السماء والأرض انه لحق مثل ما انكم
تنطقون )
سورة الذاريات.
وأما الأعصاب فهي تلعب الدور المهم في
اعطاء الأوامر الى العضلات المناسبة بحيث تتناسق هذه العضلات مع بعضها البعض
فيرتخي قسم حين حين ينقبض قسم آخر فلا يطغى عمل على عمل ولا يفسد عمل عضلات عمل
عضلات أخرى ، فإذا انطلق الهواء من الرئتين فإن الحبال الصوتية هي التي تعترضه
أولاً حتى يخرج الحرف الحلقي المناسب وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء
والغين ثم ينطلق الى الفم حتى يخرج من أحد زوايا اللسان أو من مقدمه أو من إطباق
الشفتين ، هذا بالنسبة لمخرج الحرف الواحد ولنتأمل طويلاً كيف يجب أن ينطلق الهواء
وبسرعة هائلة حتى يقذف من مكانه المناسب فيخرج الحرف المناسب ثم يتبعه صوت آخر
ليتحول الى مكان آخر حتى يعبر عن حرف آخر
وهكذا حتى تكتمل
كلمة واحدة تعني شيئاً معيناً ، وتتابع الحروف عجيب لأن الحرف الأول من الكلمة قد
يكون مخرجه من الشفة بينما يكون الحرف الثاني الذي يليه مباشرة من الحلق والثالث
من جانب اللسان ، فإذا اكتملت الكلمة الواحدة تتابعت كلمات اُخر وتتابعت الجمل
فإذا معنى جميل يدركه الذهن ( وما أدراك الذهن؟!! ) ، ويجب أن نلاحظ أن العضلات
والغضاريف والحبال الصوتية مزدوجة وهناك تناسق عجيب ما بين الشطرين فإذا حصل خلل
ما في المخيخ مثلاً الذي يقوم على تناسق عضلات التصويت حدث المرض المعروف بالرتة
وهو تقطع الكلمات وعدم فهم ما يقدله المريض تماماً الا بصعوبة ، ولنعلم أن هذه
العمليه المتكررة يشرف عليها ثلاثة أعصاب رئيسية وألياف عصبية وفروع عصبية صغيرة
لا تحصى ، بالاضافة الى سبع عشر عضلة في اللسان وما يزيد على عضلة في الوجه ، فأي ابداع وأي عظمة
هذه ..
شرطي المرور المتواضع :
ثم لنقف عند شرطي المرور المتواضع
المسمى بلسان المزمار والذي يقف عند تقاطع الطرق القادمة من الانف والفم والتي تصب
في المري الموصل إلى المعدة ، وفي الرغامى الموصلة إلى الرئتين ، ان شرطي المرور
هذا يقف عند تقاطع طرق ولكنها من أخطر المناطق في الجسم لأن شرب نصف كأس من الماء
إذا وصل إلى الرئتين كان معناه إما ما يشبه الاختناق والموت أو السعال لمدة لا
يعلمها الا الله حتى تطرد جميع جزئيات الماء الداخلة ، فكيف بالمأكولات؟ إن معناها
الموت الزؤام لأنها سوف تسد الطرق الهوائية وتؤدي إلى الاختناق.
ولقد ذكرنا فيما سبق أن انقطاع الاكسجين
لمدة خمس دقائق عن
الدماغ معناه موت
الخلايا العصبية النهائي الذي لا رجعة فيه ، إن هذا الشرطي المخلص لا يرتاح لحظة
واحدة من ليل أو نهار لأن عملية البلع مستمرة حتى بدون طعام وشراب وهو يشير بيده
الكبيرة التي تشبه الملعقة الواسعة حيث يمرر اللقمة أو اللعاب إلى المري ثم ينزل
لتستمر عملية التنفس كما هي ، ان جميع الجسم لا ينسى له هذه الخدمة ويمده بالغذاء
والحاجات التي يحتاجها ويزيد ، إن هذا الشرطي المتواضع يأخذ راتبه المفرز له من
الجسم عن طريق الدم والأخلاط ثم يتابع عمله بدون أن يظهر الغرور ، بل يقوم به في
منتهى الإخلاص.
عملية المضغ :
وأما عملية المضغ وتنظيمها فهي أيضاً من
اختصاص المنطقة التي نبحثها ومن آيات الإعجاز في البدن ، فالفم هو ذلك الطاحون
الصغير الأنيق ، حيث تقوم الأسنان بضغط يصل إلى خمسين كيلوغرام على السنتمتر
الواحد المربع بفضل العضلات الماضغة ، ولنا أن نعرف ان أربعة عشر عضلة تشترك في
المضغ منها ستة لرفع الفك السفلي إلى أعلى وستة للخفض وواحدة في كل جانب للتحريك
الجانبي وتتضافر أربعة منها للحركة الأمامية الخلفية وهذا الطاحون الصغير فيه منطقة
ثابتة ومنطقة متحركة حتى يحصل التمكن من هرس وطحن المواد ؛ ولذا فان الفك السفلي
هو المتحرك فقط ، وأما الأسنان فهي اختصاص قائم بذاته فمنها للتقطيع ومنها للتمزيق
ومنها للجرش والطحن ...
تنظيم النوم :
ومن جملة اختصاصات هذه المنطقة التي
نبحثها ـ منطقة أسفل الدماغ ـ تنظيم النوم عند الانسان ، ويعتبر النوم من آيات
الاعجاز في تركيب الكائن الحي ، ومن الأمور التي تذكر بالموت : ( وهو الذي
يتوفاكم بالليل
ويعلم
ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما
كنتم تعملون )
، فقد وجد ان الآلية التي يتم بها النوم آلية معقدة لم تكشف أسرارها النهائية حتى
الآن ، ومن جملة النظريات التي قيلت : إن حالة اليقظة تولد مواداً سامة مترقية
تؤثر على الجهاز العصبي فتدعوه إلى النوم ، كما قيل بوجود هورمون خاص للنوم ، وذكل
ان انفصال الواحدات العصبية عن بعضها في مكان التمفصل وانقطاع مرور السيالة
العصبية يدخل الجهاز العصبي في حالة النوم والراحة ، ولكن هذه النظريات تهاوت
الواحدة تلو الأخرى ، ومع جهود العلماء المضنية تبين لهم وجود بعض المناطق التي
تسيطر على النوم واليقظة وتبين ان نمو بعض الأورام في هذه المناطق يؤدي إلى نوب
الوسن والنوم ، كما ان حالة التهاب الدماغ النومي تدل على أن تخريب بعض المناطق
يؤدي بالمريض إلى فقد حالة اليقظة ودخوله في حالة من تغيّم الوعي والنوم ، وفي
الحقيقة يعتبر النوم مهماً جداً للكائن الحي ولولا النوم لما استطاع الكائن الحي
أن يتابع مسيرة الحياة ، ولا يستطيع الرجل العادي ان يبقى بدون نوم أكثر من أيام
قليلة لأن الحرمان من النوم يعتبر من الآلام لامضنية الشاقة المعذبة التي لا تطاق
، وعندما جربت بعض التجارب على الجنود لترك النوم كان ضبط الأمر في منتهى الصعوبة
لأنه لا يمكن إلا أن يأخذ الانسان ولو غفوة بسيطة لا ينتبه لها ، ولقد تبين ان
الجسيمات العصبية الموجودة داخل الخلية العصبية المسماة بجسميات نيسل لها علاقة
بالتعب والراحة حيث وجد انها تنقص وتميل إلى الاختفاء في التعب والمجهود الفكري ،
ولكنها في الراحة والنوم ترجع كما كانت ، إن هذه الظاهرة لفتت نظر العلماء ...
ولكن ما هو السرّ الذي يكمن وراءها يا ترى؟
إن النوم يمثل حاجة البدن كالطعام
والشراب والغريزة الجنسية تماماً ،
ولذا فلا عجب اذا
كان الانسان يقضي ما يقرب من عشرين سنة من حياته في النوم لأن ثلث العمر يمضي في
النوم ، وكما ان العضلات ترجع الى طبيعتها بالراحة كذلك فان راحة الجهاز العصبي هي
النوم ، لأن الجهاز العصبي يعمل بمجرد الاستيقاظ ولا يعرف طريقه إلى الراحة مطلقاً
فهو يتلقى الملايين من الأخبار من الأجهزة الحسية عن طريق الجلد والحواسية عن طريق
الحواس ، والحس النباتي أي أخبار الأجهزة الداخلية باستمرار في كل لحظة ، وأي خلل
في هذه العناصر يستدعي الدماغ القيام بعمل إضافي ، ولكنه مع هذا في حالة راحة
الجسم المطلقة يعمل ويكفي انه يعمل على أرقى المستويات وهي العمليات الذهنية
الراقية ، ومع هذا يجب أن نعلم أن الدماغ ـ حتى في حالة النوم المطلقة ـ يستمر في
العمل فهناك حراس المناوبة الذين لا يقفون عن العمل وهم الذين يسهرون على عمل
القلب وتنظيم سرعة التنفس وتعديلها بما يناسب ، وصرف الحرارة اللازمة حتى يبقى
البدن في الحرارة المعهودة وهي في حدود ٣٧ درجة
مئوية ، وكذلك ترسل الأوامر إلى الامعاء حتى تستغل فرصة راحة البدن فتقوم بتفتيت
الطعام وامتصاصه وتمثله وتخزينه أو حرقه حسبما يريده ويحتاجه البدن ، وكذلك ترسل
الأوامر إلى عضلات المستقيم والمثانة حتى ترخي وتستوعب مخلفات الاحتراق وهي البول
والغائط ، ونقف هنا لنتساءل. ولكن إذا امتلأت قد تخرج من مكانها وتنفلت للخارج؟!!
لا حرج أرسلوا الأخبار السريعة إلى العضلات التي تضبط المستقيم والمثانة من الخارج
وهي فوهات الخروج أو ما تعرف بالمصرّات الخارجية فيشتد تقلصها ، وهكذا تحبس هذه
النفايات المتخلفة من احتراقات الحسم وبقاياه. وأما العين فيجب أن ترسل الأخبار
إلى الفتحة التي تتلقى النور لتنقبض إذ لا حاجة للعمل ، ولذا فان محل التصوير يجب
أن يغلق!! وهكذا تنقبض الحدقة ويصغر حجمها!! ... ( وجعلنا
نومكم
سباتاً
، وجعلنا الليل لباساً ، وجعلنا النهار معاشاً ) ...
ولكن هل النوم أيضاً هكذا بدون زمن محدد
، فلينم الإنسان ما يشاء؟ كلا بالطبع ، لقد وجد أن المعدل الطبيعي الجيد لراحة
البدن وسطياً ما بين ٦ ـ ٨ ساعات وهذه النسبة تزداد عندما يكون الولد صغيراً ،
ويعتبر الجنين في نوم مستمر وهو في رحم أمه ، وأما الرضيع فهو أيضاً ينام كل الوقت
إلا إذا شعر بالجوع أو الألم ، ثم تنقص النسبة حتى تصل إلى اقل من ٦ ساعات عندما
يكون الإنسان في مرحلة الشيخوخة ، وهنا نقف لنتساءل : هل تستمر هذه النسبة في
الحياة الأخرى فيبقى فيها الإنسان في حالة يقظة دائمة؟ أما أهل النار فيقول الله
تعالى : ( لا يقضى عليهم فيموتوا ) ويقول ( لا يموت فيها ولا يحي
).
وأما أهل الجنة فيبدو أن انقلاباً في
تكوينهم سيحدث على ما ورد في الحديث المروي في الصحيحين : ( ان أول زمرة يدخلون
الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء
اضاءة ، لا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، ولا يتفلون ، أمشاطهم الذهب ،
ورشحهم ـ العرق ـ المسك ، ومجامرهم الألوّه ـ العود الذي يتبخر به ـ وأزواجهم
الحور العين ، أخلاقهم على خلق أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء ).
وكما ان قانون الاتزان يسري على كل
أعضاء وأخلاط البدن كذلك فانه يسري في النوم ، ولذا فان الزيادة فيه تؤدي إلى
المزيد من النعاس والنقص فيه يؤدي إلى الضجر وعدم الراحة ، وخير ما يقال في هذا
المجال حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المروي في صحيح البخاري : ( يعقد
الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب كل عقدة : عليك ليل طويل
فارقد ، فاذا استيقظ وذكر الله انحلّت عقدة ، فان
توضأ انحلت عقدة ،
فان صلى انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) ، وان الذي يتأمل في هذا الحديث وما
ورد في شأن قيام الليل يأخذه العجب كل مأخذ من دفع النشاط والحيوية في الانسان
بحيث ان هذا الأمر يحتاج إلى بحث مستقل بذاته ، فمثلاً من جملة الاسرار لقد وجد ان
الانسان في نوم عميق في الساعة الأولى ثم يخف هذا الأمر وخاصة بعد الساعة الثالثة
من النوم وهذا يجعلنا نربطه مع الحديث المروي في الصحيحين عن صلاة النبي داوود
عليه الصلاة والسلام وصيامه ( أحب الصيام إلى الله صيام داوود كان يصوم يوماً ،
ويفطر يوماً ، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داوود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه
وينام سدسه ) وكذلك الآيات الواردة في سورة المزمل عن قيام الليل ( يا أيها
المزمل قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو أنقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن
ترتيلا ، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا ، ان ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا ) وصدق القرآن الكريم حيث يكون سكون
الليل الذي يعين على فهم القول أكثر ويشتد وقع الكلام على النفس أكثر ، والمهم هو
أننا نقف أمام ظاهرة في منتهى الخطورة من جهة وفي منتهى الأهمية من جهة ثانية وهي
تنظيم الحياة والنوم فالاسلام حض على أشياء معينة لها دور مهم وعظيم في دفع النشاط
والحيوية في قلب الانسان وجعل الجملة العصبية المركزية في اتزان وصحة جيدة ، ان
هذا يجعلنا نسرع إلى التطبيق أولاً ، وقبله نشعر بالعظمة الهائلة التي تظلل هذه
النصوص وهي تتحدث عن أمور جاء الطب الحالي ليوضح بعض جوانبها ، ( ومن آياته
منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضلة ان في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) سورة الروم ...
__________________
ومن جملة الأشياء المحيرة في ظاهرة
النوم هي الاحلام التنبؤية ، حيث ان الاحلام عدة أنواع فرؤية بعض الاشياء التي لها
علاقة بحوادث اليوم أو ما يفكر فيه المرء بشكل كبير قد يفسر الى حد ما ، وذكرنا
كلمة الى حد ما لان نفس هذه الاحلام التي تعلل ببساطة يتعجب المرء كيف يمكن لهذه
الصور الجديدة أن تتجمع من أكداس محتويات الذاكرة ، فصورة ما قد يكون المرء لم
يرها طول عمره يراها في المنام فكيف تم تشكيل هذه الصورة الجديدة؟ ثم ماذا يقول
لنا الطب عن بعض الاشياء التي يراها الانسان في المنام ثم تتحقق معه بعد فترة من
الزمن قصيرة او طويلة ، وروى لي الكثير من الاخوة هذه الظاهرة منها حادثة رويت لي
عن أحد الاخوة عندما كان في كرب نفسي ومادي شديد ، وكان هذا الرجل يتوقع أن يستشهد
في سبيل الله ، ولكن بعد نوم في تلك الليله قابل أخاً آخر كان قد سبقه في الشهادة
فأراد أن يصافحه الاول فرفض الآخر ، وفهم هذا الاخ وكان ينتظر الموت ما بين لحظة
وأخرى انه لن يموت في هذه الفترة ، وفعلاً فرّجت عنه هذه الازمة بعد ذلك ولم يمت ،
ولعل هذه الحادثة لو رويت بتفصيلاتها فيها عبرة كبيرة ولكن رويناها بسرعة كشاهد
صغير ، وعلى هذا يمكن أن نقول ان ظاهرة الاحلام التنبؤية يقف الطب أمامها حائراً
ذاهلاً لا يستطيع لها تفسيراً ، وهذا المثل مروي بشكل واضح بيّن في قصة يوسف عليه
الصلاة والسلام عندما رأى الكواكب والشمس والقمر تسجد له ثم فسّر الامر بعد ذلك في
مدى يزيد عن عشرين سنة ...
حركة الاوعية الدموية :
ونأتي الى سر آخر محير من أسرار هذه
المنطقة التي نبحثها والتي لا تتجاوز في المساحة بضع سنتمترات والتي سميناها منطقة
أسفل الدماغ وما تحت السرير والجذع الدماغي.
من جملة الاشياء التي تنظمها هذه
المنطقة الصغيرة في حجمها ، الكبيرة في فعلها تنظيم حركة الاوعية الدموية ،
فالانابيب التي يمر فيها الدم تبلغ من الكثافة والانتشار حداً لا يكاد يصدق في
البدن حيث يبلغ طولها ما يزيد عن مائة ألف ميل وهي تتغلغل بين جميع أنسجة الجسم
حتى العظم الكثيف وتروي جميع المناطق التي تصل اليها ، وهذه الانابيب هي أشد مرونة
من المطاط لان فيها أليافاً عضلية مرنة على طول جدارنها بحيث إن استرخاء هذه
العضلات الصغيرة يؤدي الى توسع الانابيب ، وبالتالي هبوط الضغط الدموي ، كما ان تقلص هذه العضلات يؤدي الى
ارتفاع التوتر بسبب ضيق سعة الانابيب التي يمر فيها الدم ، والعجيب في هذه
الانابيب السحرية انها في حالة معتدلة من التقلص والارتخاء فهي في الحالة الطبيعية
متقلصة ومرتخية بنفس الوقت بشكل متناسق بحيث تحفظ للوعاء الدموي قطره المناسب ،
وهذه الحالة المعتدلة من التوتر تعتبر مقوية لجدران هذه لاوعية ، وهذا القانون
يسري على كل عضلات الجسم ، فالعضلات الملساء التي تغلف جدران الوعية أو تشترك في
تأليف الجدار تكون في حالة معتدلة من التوتر بحيث تحفظ للعضو أو الجهاز وضعه
الطبيعي كما في الاوعية الدموية أو في الجدار الرحمي أو جدار المعدة أو المثانة.
والتقلص يؤدي إلى ألم ، فمثلاً تعتبر حركات التقلص في المعدة حين فراغها من الطعام
انذاراً بالجوع ، كما ان امتلاء المثانة والمستقيم بنفايات الجسم تدعو إلى زيادة
التقلص العضلي في الجدران وبالتالي الآلام الخفيفة المنبئة التي يعتادها الجسم
وهذه تخبر بدورها
__________________
النهايات العصبية
الحسية التي تنقل الاخبار وترجع بسرعة هائلة حاملة الاوامر الى المصرات الخارجية
لكي تنفتح وتلقي ببقايا الاحتراق وفضلات الغذاء.
إن السيطرة على حركة الاوعية تعتبر حركة
منسقة في غاية الإبداع ، فأيّ تقلب في الظروف الخارجية أو الداخلية يستدعي العمل
الفوري وزيادة أو نقص سعة الوعاء بما يناسب الحالة الجديدة ، فمثلاً عندما يحصل
النزيف من أي مكان من الجسم ترسل الأوامر فوراً الى الاوعية لكي تتقلص حتى يكون
صبيب الدم أقل ما يمكن من الخارج بالاضافة إلى ارسال صيحات الاستغاثة والاشارات
الحمراء إلى الصفيحات الدموية ومولد الليفين والفيتامين ك والكلس والعامل السابع
والخامس وغيرها حتى تشكل الخثرة الدموية التي تعتبر سدادة في فوهة التمزق ، ثم
ترسل الاوامر إلى الصديق الهادىء الذي يعتبر مقبرة الكريات الحمر وهو الطحال وإلى
مركز الجمارك العام وهو الكبد حيث يكون تخزين الدم وافراً فيأقبية هذه المستودعات
فترسل كميات الدم الاحتياطية على الفور وهي تقول لبيك لبيك!! وهكذا يتعاون الجسم
كله لإنفاذ جهاز الدوران مما حل به من أزمة ، وصدق الرسول 6حينما قال : ( مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، اذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر ).
ويحدث عكس هذا الأمر في النوم أو في الصدمة حيث تزداد سعة الاوعية الدموية
وبالتالي يهبط الضغط الدموي ، فإذا ازداد هذا الأمر فإن تروية الدماغ تضطرب ويحدث
الاغماء المعروف ، وهنا نقف لنسجل نقطة من أعجب النقاط في هذا الاتزان السحري.
إن اتزان سعة الأوعية ومدى انفتاحها مهم
للغاية فأي زيادة أو فقص في قطر الوعاء يؤدي إلى كوارث ، فزيادة الضغط الدموي أو
إذا قلنا نقص قطر
الوعاء وزيادة تقلصه يؤدي إلى بطء الدوران في المنطقة كما لو شبهنا الأمر بمرور
السيارات في شارع عريض كما في شارع بيروت في دمشق فإن السيارات بامكانها أن تمشي
بسرعة بينما إذا كانت السيارة في شارع ضيق كسوق ساروجة مثلاً حيث ازدحام السيارات
والناس وضيق الطريق ، فإن السائق لا يستطيع أن يمشي إلا بمنتهى البطء حتى لا يقع
في حادث. فكيف الأمر إذا كانت السيارات تمشي في طرق الأوتوستراد العريض الذي يصل
إلى المطار مثلاً ، إن هذا يحدث ما يشبهه على مستوى أوعية الجسم حيث يؤدي زيادة
تقلص الأوعية إلى بطء مرور الدم ، وبالتالي حدوث الخثرات ، كما إذا تعاقبت
السيارات الكثيرة مع ازدحام الناس والعربات والأطفال والإغراض المعروضة على الرصيف
أمام الحوانيت!! فلا بد من حدوث بعض الحوادث كذلك يحدث أمر الخثرة حيث ترتص عناصر
الدم على بعضها ولكن الرعب يكمن فيما إذا تصورنا حدوث هذا الأمر في أحد شرايين
الدماغ خاصة وقد علمنا أن شرايين الدماغ انتهائية وليس فيها مفاغرات جانبية ، ان
هذا الكلام معناه انسداد شريان يغذي منطقة هي من أكثر المناطق رقياً ونبلاً وأهمية
وحيوية في الجسم ومعنى انقطاع التروية عن منطقة عصبية الموت الأخير والنهائي
للمنطقة ، وهكذا تظهر النتائج اما بشكل فالج شقي يشمل نصف الجسم بما فيه الوجه حيث
ترتخي الأطراف وينسدل الجفن ويلتوي الفك وينحرف اللسان ويضطرب الصوت وتخرج
المفرزات من الفم!! أو يحدث الأمر بشكل نقص الحس أو انعدامه في الجسم ، فإذا وخز
بإبرة أو دبوس لم يشعر بذلك ، وإذا أحرقت قدمه لم يشعر بذلك ، وإذا قطع جلده لم
ينتبه إلى أن قطعة من جسده تقطع!! وهكذا حسب المناطق التي تصيبها هذه الانسدادات ،
وما أفظعها من نتائج لا يعرفها حق المعرفة إلا من رآها حيث يتمنى المريض
أن يشرب شربة ماء
فلا يستطيع لأنه يقذفها مرة أخرى من فمه ، ولأن شراع الحنك الذي يساعد في البلع
مشلول!! ( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه
) سورة النرو
زز
وحدوث عكس هذا الأمر ، أي زيادة سعة
أوعية له نتائج مماثلة ، فسعة القطر يؤدي إلى نقص دفع الدم إلى أعلى ، وهكذا فإن
الدم يندفع إلى أسفل وإلى أعماق الأجهزة وإلى مستودعات التخزين وهكذا يقل ورود
الدم إلى الدماغ ، والدم يحمل الاكسجين ذلك الغاز اللطيف الذي يبعث الحياة بقدرة
العليم الخبير ، وهكذا يحصل فقر دم موضعي للدماغ ، وهذا ما يعلل الإغماء الذي يحصل
، والذي يجب أن يكافح رأساً برافعات الضغط من أمثال الأدوية المعروفة ( وايامين ،
أرامين ، نور ادرينالين ، هايبرتنسين ) ورفع القدمين والساقين إلى أعلى حتى يتدفق
الدم إلى أسفل ولتزداد تروية الدماغ وبالتالي انتعاشه.
إن هذه الاسطورة العجيبة من التوازن
الخفي في أخلاط الجسم وأعضائه لتمثل البناء المحكم الذي اتقن الله صنعته ، حيث
تتجلى مظاهر الربوبية العظيمة ، والألوهية المطلقة وهي تسطر هذا الوجود.
تنظيم الحرارة ودور التعرق :
ولنتأمل الآن ظاهرة أيضاً مدهشة من ظاهر
الاتزان والإبداع وهي موجودة في منطقة ما تحت السرير ، أي مراكز أسفل الدماغ ، هذه
الظاهرة هي كيفية تنظيم الحرارة والتعرق؟
لقد وجد أن هناك منطقتان في الداخل تعمل
الأولى فعل المسرع والأخرى فعل المبطىء بحيث يحصل التوازن ، فالمنطقة الأولى تقوم
بدور زيادة الخسارة الحرورية ، والثانية تقوم بدور إنقاص الخسارة
الحرورية ، أي إن
الأولى تقاون الحر ، والثانية تقاوم البرد ، وكل هذا عن طريق عالم الجلد المدهش ،
إن منابع الحرارة في الجسم تتوزع في كل المناطق التي تقوم بفعل آلي أو إفرازي أو
أي نشاط ، ولكن المنبع الأساسي للحرارة في الجسم هو العضلات حيث يشكل عمل العضلات
طاقة حرورية تعادل ٤٠% من حرارة البدن العامة ، وترتفع أثناء الجهود الرياضية
الشديدة إلى ٨٠% وأما القلب فيعطي سبع الحرارة العامة ٧ / ١ وأقل العناصر في توليد
الحرارة هو الدماغ حيث يعطي أقل من جزء من ثلاثين مما تولده العضلات ، وحتى إذا
ازدادت الحرارة فإن هنالك مراكز معدلة تخفض الحرارة بسرعة في الدماغ نظراً لشدة
تأثره بها ، وأما الغدد العرقية فهي مراكز التهوية الخفية في الجسم بالإضافة إلى
مراكز التهوية عن طريق الزفير. يوجد تحت جلد الشخص العادي ثلاثة ملايين غدة عرقية
تتوزع في أماكن أكثر من غيرها فهي تحت الابط وحول الثدي أكثر ، بينما هي في ظهر
اليد أو الوجه أقل ، وهذه الغدد تشكل بمجموعها العام جهاز كلوياً جديداً ، وتتألف
الغدة العرقية من انبوب ملتوي يفرز العرق بحيث تشكل لو جمعنا هذه الأنابيب طولاً
يزيد على أربعة كيلومترات!! وهي تقوم بدور وزارة السياحة والاصطياف في الجسم!!
ويشترك في الاستقلاب الحروري أيضاً غدة مهمة هي غدة الدرق بمفرزها المشهور
التروكسين حيث وجد أن صرف ملغرام واحد من التروكسين يرفع الاستقلاب الأساسي مقدار ألف كالوري ، كما تتدخل غدة
الكظر في الاستقلاب ونشر الحرارة بفضل مادة الادرينالين التي تفرز من لب الكظر ،
وتقوم ملكة
__________________
الغدد ( النخامة )
بالسيطرة على توازنات هذه الغدد ذات الافراز الداخلي.
والآن لنتأمل كيف يتم التنظيم الحروري
بشكل مفصل أكثر بعد أن أخذنا نظرة إجمالية : إن حرارة الجسم تستقر حول رقم معين لا
تتجاوزه هي في الانسان ٣٧درجة ، وفي الحيوانات الثديية ٣٩ درجة ، وفي الطيور ٤١
درجة ، وهذا الرقم يبقى مستقراً لا ينزل ولا يصعد إلا في الحالات المرضية خاصة
الحموية ( أي المسببة عن الحمى ) هذا مع العلم ان درجة الحرارة في سيبيريا قد تصل
إلى الدرجة ـ ٦٢ أي ٦٢ درجة تحت الصفر كما قد تصل إلى الدرجة فوق الصفر ف منطقة الصحراء الكبرى في
بلاد الطوارق في شمال أفريقيا ...
فكيف يبقى البدن بعد كل هذا الاضطراب في
الحرارة الخارجية محتفظاً بحرارته في درجة حرارة معينة لا يزيد ولا ينقص؟ ان
الكارثة سوف تحل لو انخفضت درجة الحرارة إلى حج معين أو إذا ارتفعت الحرارة إلى ٤٣
ـ ٤٥ درجة ، كما ان الكريات البيض تموت تحت الدرجة ٢٥ وفوق الدرجة ٤٣ ، ومعنى هذا
انتهاء الإنسان لان مناعة الانسان تتركز في الكريات اليبض ، فكيف يحصل هذا الاتزان
السحري العجيب؟ لنتصور الآن ان درجة الحرارة التي تحيط بنا بلغت الدرجة (٤٠) وهي
الدرجة عالية في أيام الصيف شديدة الحر ، تبعث الجسيمات الحسية المتوزعة تحت الجلد
والمختصة بالحرارة ويبلغ عددها ما يزيد عن [ ٢٠٠,٠٠٠ ] مائتي ألف جهاز ـ وكل جهاز
يحتاج وحده إلى شرح مطول ـ تبعث هذه الجسميات بالاخبار عبر أسلاك البرق المتشعبة
في الجسم إلى كل نقطة ، وهي الالياف العصبية ، فتصل الاخبار إلى المقسم الأول في
تلقي الاخبار وهو النخاع حيث تدخل من المنطقة الخلفية مع آلاف الاخبار الاخرى ،
ومن خلايا القرون الخلفية للنخاع المختصة
بالحس يحصل فهم ما
حدث ، وأما الخلايا فإنها تدهش للاخبار وتقول يجب أن نسرع في ارسال الاخبار إلى
المركز العام ( وفي الحقيقة نحن الذين نسرع في كلماتنا ، لان اتزان هذا العمل
وهدوؤه لا يقوم على الانفعالات بل على النواميس والسنن المحكمة التي ركب على
أساسها الجهاز البشري ) ، وتنطلق الاخبار إلى مركز القيادة العامة بعد أن تمر هذا
الاخبار في مناطق شتى ، وتنعرج في منعطفات عجيبة ، وتبدأ القيادة العامة في مواجهة
هذه الجالة الطارئة فترسل الاوامر إلى أعصاب الجلد وتدق أجراس الخطر ، وتبدأ
الاعصاب الجلدية في ارسال التنبيهات الى العروق الدموية التي تروي السطح الخارجي
فيزداد مرور الدم ، وبهرع الدم كعادته وهو يقول أنا الخادم المخلص لهذا الانسان
العظيم ، وبزيادة توارد الدم يزداد اشعاع الحرارة.
وتبدأ تحولات جديدة في الأوامر إلى
الغدد العرقية فيزداد افرازها للعرق ـ والعرق بحد ذاته يحتوي كمية كبيرة من الماء
ويمتص كمية كبيرة من الحرارة ـ وباطراح العرق تحصل التهوية الجلدية وتتوازن
الحرارة في خارج الجسم وداخله ، وأما التيروكسين والادرنالين وهما مفرزاً الغدة
الدرقية وغدة لب الكظر فإن إفرازهما يتناسق مع جاحة البدن في هذه الحالة ، ويبقى
دور نفس الزفير فهو محمل ببخار الماء الذي يمتص أيضاً كمية كبيرة من الحرارة ،
وهذا هو السر في ان الكلاب تلهث دائماً لان الغدد العرقية لا توجد عندها إلا بكمية
قليلة وفي أخمص القدم فقط ( فمثله كمثل الكلب إن
تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث )
وهكذا يعوض الكلب عن التعرق باللهاث.
تنظيم السكر :
ونأتي إلى ظاهرة بديعة من ظواهر التوازن
والتنظيم لمنطقة ما تحت
السرير وهو الذي
تكلمنا عنه فيما مضى بشكل عابر ، ألا وهو تنظيم السكر في الدم ..
إن نسبة السكر في الدم يجب أن تكون في
حدود ثابتة لا تتعداها وهي وسطياً غرام واحد في الليتر من الدم ، أي إن مجموع ما
هو موجود في الدم ٥ ـ ٦ غرامات لا أكثر ، وهذه الكمية يستنفذها البدن في مدى ربع
ساعة لا أكثر فكيف السبيل إلى تغذية الجسم ومده بطاقة الاحتراق ، خاصة ويعتبر
السكر الحلوى الفاخر المفضل لخلايا الجملة العصبية التي لا تأخذ سواه؟! ان مركز
القيادة العامة يحتل العرش وله وزراء صدق يعاونونه في هذه المهمة الرائعة وهي
استتاب التوازن والامن في ربوع المملكة وتوفير الغذاء الاولي لخلايا الجسم جميعها
بدون استثناء ، فمن هم هؤلاء الوزراء الذي يعاونون هذا الملك ويتفاهمون مع الرعية
ويطعمونها ، ويعيش الجسم كله في سلام بدون حرب ولا تفضيل طبقة على طبقة ، أللهم
إلا في الازمات ، ان جملة الوزراء هنا هي الانسولين الذي يفرز من المعثكلة ويعتبر
رئيساً للوزارة وبقية الوزراء هم الغلوكاكون الذي يفرز أيضاً من المعثكلة
والتيروكسين الذي يفرز من غدة الدرق ، والادرنالين الذي يفرز من لب غدة الكظر ،
وهورمون النمو الذي يفرز من الفص الامامي للغدة النخامية ، وهناك الوزير الذي يفرز
من قشر غدة الكظر وهذا يحمل شارة خاصة على رتبته وهي ذرة الاكسجين في النافذة الحادية
عشرة من بنائه الذري!! وهكذا نرى أن هناك خمسة وزراء الذي هو الانسولين وحده بخطة
، ولكن هل انتهت العناصر التي تتخل في موضوع اتزان السكر في الدم؟ هناك مركز
الجمارك العام وهو الكبد وهو يحوي أكبر المستودعات لتخزين السكر ولكن بشكل مكثف ،
وهو ما يسمى بالنشا الحيواني أو مولد السكر ،
وهناك المستودعات
الاحتياطية في حالة الفيضانات كما في زيادة الوارد من السكر وهذه المستودعات
الاحتياطية هي العضلات والانسجة بشكل عام ، وهناك كما في أي وزارة أمناء عامون
وهنا الامين العام العصب الودي ، وله مساعد مثله هو نظير الودي.
والآن لننظر إلى هذا الائتلاف العجيب في
العمل ، فالانسولين مهمته حرق السكر وإدخاله إلى الخلية للاستفادة منه وزيادة
ادخاره ، وقد أوكل مهمة معاكسة لوزرائه الخمسة فهم يقومون بعكس هذا العمل وهو
زيادة حل السكر وايجاده في الدم والامين العام الاول يساعد الوزراء فهو يقوم
يتثبيط عمل الانسولين ، والامين العالم الثاني يقوم بزيادة عمل الانسولين وهكذ
يحدث الشد والجذب من كل جانب بحيث يستقيم التوازن وكأنه على حد السيف ..
وهذا الاتزان على غاية من الاهمية ، لان
زيادته معناه مرض السكري الذي يؤدي فيما إذا ازدادت نسبة السكر في الدم إلى
الغيبوبة والسبات وفقد الوعي وقد يصل إلى درجة الموت ، ونقصه يحدث نتائج مماثلة
وكأن هذا الميزان الذي يقوم بالقسط يزن أدق العيارات؟ كيف لا وهذه الهورمونات التي
تحدث التوازن والاستقرار تؤثر باجزاء صغيرة تقدر بواحد من مليون ، والغدة النخامية
تزن نصف غرام بما فيها من هورمونات وخلايا واخلاط ودم وأجزاء!!! ( والسماء
رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان ) سورة الرحمن ..
فكرة عن الاعصاب الرأسية :
ان ظاهرة انبثاق الاعصاب من عناصر
الجهاز العصبي تستحق الوقوف أمامها طويلاً ، فلقد وجد أن الجذع الدماغي وهو المكان
الاسفل من الدماغ تنبجس منه عيون عصبية تشكل اثني عشر زوجاً في الرأس ،
(
فانبجست
منه اثنتا عشرة عينا ) وواحداً وثلاثين في باقي الجسم وهذه
الاعصاب تقوم بمهمام عجيبة ومهمة للغاية ، فهي تأخذ الحس من الرأس ، وترسل إليه
الأوامر الحركية ، وإذا بالعضلات تتقلص وترتخي بكيفية معينة ، وإذا تعابير الخوف ،
أو المحبة ، أو الضحك ، أو التبسم ، أو الكره ، أو الحقد ، أو الدهشة والاستغراب
كلها تظهر على محياك فتظهر ما يكنه الدماغ (
ولو نشاء
لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم
) سورة محمد.
فمن أصل الأربعة والعشرين عصباً يتفرد
منها ستة لحركات العينين ، حيث تتحكم هذه الاعصاب الستة في عضلات العين وهي تبلغ
سبعة عضلات في كل عين وهذه العضلات بواسطة الاوامر العصبية يمكن أن تدير كرة العين
الى كافة الجوانب وهكذا فأنت تنظر أيها القارىء إلى أعلى وأسفل ويمين وشمال وبشكل
دائري ومنحرف ، ومن العضلات السبعة عضلة تختص برفع الجفن العلوي وخفضه وكأنها
الخيط الذي يسحب الستار أمام العين حتى ترى الموجودات ، والاعصاب في كل جهة تتزن
مع الاعصاب في الجهة الاخرى بشكل متناسق ولذا فإن الانسان يرى بعينيه منظراً
واحداً ولولا هذه الرؤية المزدوجة الواحدة لما استطاع أن يرى بشكل جيد فهو اما أن
يرى الاشكال مضاعفه أو مضطربة ، ولذا فإن أي خلل في الجهاز الذي ينسق حركة العضلات
ويوازنها يحدث الرأرأة المعروفة وهي اهتزاز كرة العين وعدم التمكن من تثبيت النظر
تماماً ، وأي خلل بسيط في الجهاز المعصب لهذه الاشرطة العضلية الصغيرة السبعة يحدث
هبوط الجفن العلوي وانسدال الستارة ، أو الحول للأيمن أو للأيسر ، وهذه الاعصاب
الثلاثة لكل عين يختص كل واحد منها بعضلات معينة فواحد يختص بتحريك كرة العين
إلى الأسفل والوحشي فقط ، وواحد اختصاصه أن يدير العين إلى
الوحشي فقط وواحد اختصاصه أن يدير العين إلى أعلى ، وأسفل وانسي ، وإلى الأعلى
والأنسي ولا يعتدى أحد من الثلاثة على اختصاص الآخر ، كما لا ينفرد كل من الثلاثة
بعمله بل يتعاون الثلاثة مع الثلاثة في الطرف الآخر على تركيز العينين في جهة
واحدة على منطقة بعينها ، هذا من ناحية تحريك عضلات العين فقط ، وهناك العصب
البصري واختصاصه معقّد جداً ، وهو ينقل الصور المرئية والألوان المشاهدة عبر نصف
مليون ليف عصبي ، وكأنها
ألف جهاز تلفزيوني ملون ، وهكذا نرى ان ثمانية أعصاب تختص بالعين اثنان للأبصار
وستة لحركة عضلات العين أي ان ثلث الأعصاب القحفية الرأسية مختصة بالعينين ( ألم نجعل له عينين ، ولساناً وشفتين
). وفي قاع
الصندوق العظمي الذي يحوي الدماغ نرى البصلة الشمية بجانب الخط المتوسط على كل
جانب ، وهذه الكتلة التي تشبه البصلة يأتيها العصب الشمي من أعلى المنخر ثم يسير
في خط متعرج معقد حيث يتوزع إلى عدة أقسام ويصل إلى المركز الشمي الكائن في
الأخدود العميق ما بين نصفي الكرة المخية ، وإصابة هذا العصب تؤدي إلى فقد الشم ،
إن الأعصاب القحفية لها ميزات تختلف عن الأعصاب الشوكية التي تتحكم في الجسم لأن
الأعصاب الشوكية دوماً أعصاب مختلطة أي تجمع الحس والحركة ، أما الأعصاب القحفية
فهي إما اختصاصية بالحس مثل العصب الشمي ، أو اختصاصية بالحركة كما في العصب محرك
المشترك ، والاشتياقي والمحرك الوحشي ، وهي الأعصاب التي تحرك عضلات العين ، وإما
أعصاب مختلطة حسية حركية ومن هذه الأعصاب المسمى
__________________
بمثلث
التوائم لأن له ثلاثة فروع وكأنها التوائم
الثلاثة وهو ينقل الحس بثلاثة فروع من الوجه والفك العلوي والفك السفلي كما انه
يحرك العضلات الماضغة ، وهي أربعة عضلات في كل جانب ، وإصابة هذا العصب تؤدي إلى
آلام مبرحة لا يعرفها إلا من ذاقها وهو ما يعرف بألم مثلث التوائم.
ثم نأتي إلى العصب الوجهي
الذي يعد عمله معجزة من المعجزات ، فهو يسيطر على مجموعات مختلفة من العضلات في الوجه
تبلغ (٤٦) عضلة موزعة في الجانبين ، وهذه العضلات منها ما هو موزع حول الشفتين وهي
تختص بالنطق وتعابير الوجه ، لأن بعض الحروف لها مخارج الشفتين وهي تختص بالنطق
وتعابير الوجه ، لأن بعض الحروف لها مخارج باطباق الشفتين مثل حرف الباء ، وهذه
العضلات نوعان موسع للشفتين وهي (٢٢) عضلة ومضيق للشفتين وهي اربعة موزعة حول فوهة
الفم أي ان ٢٦ عضلة فقط تتوزع حول الشفتين ، وهكذا يقوم العصبان الوجهيان في
الساحة الوجهية بالمساعدة في النطق وذلك بارخاء أو تقليص العضلات حسبما تدعو
الحادة ، وهكذا تظهر تعابير الوجه من الفرح والحزن ، والسعادة والشقاء ، واللذة
والآلم ، والحب والكره ، والخوف والرجاء ، والضيق والانشراح ( تعرف في
وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
).
وبالمناسبة فقد وجد ان العضلات التي
تشترك في اظهار البسمة هي أقل عدداً من العضلات التي تظهر العبوس وتقطيب الجبين
ولذا فانه من الأيسر على الانسان أن يبتسم من أن يعبس.
ثم نأتي إلى العصب الثامن وهو العصب السمعي
الذي يحوي مجموعتين من الألياف العصبية واحدة خاصة بالسمع والثانية خاصة بالتوازن.
ويكفي أن نعلم ان السمع يعد بحق معجزة مدهشة سنتعرض لها بالتفصيل فيما بعد ، وهذا
العصب ينقل المسموعات بعد أن تصل إلى ما يزيد عن عن ( ٠٠٠ و ١٠٠ ) مائة ألف خلية
عصبية سمعية ، والأذن تقسم إلى
ثلاث أقسام منها
القسم الداخلي ويسمى الأذن الباطنة ، فيه مكان يسمى التيه لأن الداخل اليه يتوه من
كثرة الدهاليز والتعاريج والمداخل والأبواب والأقنية والمجلاّت ، ومن الجدير بالذكر ان هذه الأعصاب
التي نبحثها لها مناطق خاصة تعتبر المنطلقات الأولى للعصب أو النواة الأولى التي
تشكل العصب وهي موجودة في الجذع الدماغي خاصة وتشكل ستة أعمدة في كل جانب وكأنها
أعمدة تدمر الأثرية!! حيث تنطلق منها الألياف أو تصل اليها الألياف حسب اختصاص
العصب.
وأما
العصب التاسع فهو مختلط ، أي حسي
حركي ، ويختص بمنطقتي البلعوم واللسان ، خاصة في المنطقة التي يقف عندها شرطي
المرور المتواضع!! وهي تقاطع الطرق التنفسية حيث يدخل الهواء ، والهضمية حيث تدخل
السوائل والأطعمة ، ولذا فإن هذا العصب يشرف على أعلى البلعوم والقسم الخلفي من
اللسان ، فينقل الحس ويرسل الأوامر الحركية. وفيه حساسية خاصة للغثيان إذا ما دغدغ
، وإصابته تؤدي إلى آلام مبرحة تكون أحياناً مثل آلام عصب مثلث التوائم وانعدام
منعكس الغثيان ( الميل للقيء ) حتى لو دغدغ المكان الخلفي من اللسان وأول البلعوم
( ما لجرح بميت من إيلام ) ..
وأما
العصب العاشر فهويته غامضة إلى
حد ما ، ولذلك يسمى بالعصب المبهم ، كما أن وظائفه محيرة إلى حد ما ولذلك يسمى
أحياناً بالعصب الحائر ، فهذا العصب يختص بحركة وحس الأعضاء الحشوية
__________________
الداخلية ، أي
الرئتين والقلب والمري والمعدة والأمعاء الدقيقة والغليظة والرغامى.
وهذا العصب هو جزء من جهاز كامل يتكون
من نوى مبعثرة في كل النخاع والجملة العصبية العلوية وهي ما ذكرناها سابقاً الودي
ونظير الودي ، فمهمة هذا العصب الداخلية : الهدوء والبطء فهو يمثل الفرامل في حركة
القلب ، كما يمثل الجهاز العاصر للقصبات ، ولذلك يحدث تشنج قصبي وضيق في التنفس
إذا اشتد نشاطه ، أما في المعدة والأمعاء فهو يمثل المسرع حيث يزداد إفراز المعدة
وتزداد حركة الأمعاء. وكل هذه التحركات تحدث بمعزل عن الوعي والإرادة ، فهي
الأجهزة المنظمة الخفية الداخلية ، وأما في المثانة فيقوم بزيادة ارتخائها مع شدة
تحرك الحالبين حتى يطرح البول إلى الخارج ، وعلى مستوى غدد اللعاب يزيد من إفرازها
ولذلك يشعر المرء أحياناً عندما يميل إلى القيء بزيادة اللعاب في فمه ، وهاذا
إنذار من فرط نشاط العصب المبهم أو الحائر!! كما أنه يميل إلى إنقاص سكر الدم.
وهذه العلامات تمثل بمجموعها العام خطاً عريضاً للتفاعل الداخلي الهادىء عندما
يكون الجسم في حالة راحة أو نوم. وأما الودي فانه يقوم بعكس هذا تماماً كما مر
معنا في صفحات سابقة ، ولنا أن نتأمل قليلاً هذه المعدلات العجيبة في الجسم ، وهذا
التوازن البدين الذي نسقه كله وأبدعه رب عظيم خبير عليم ( وفي خلقكم وما يبث من
دابة آيات لقوم يوقنون ) سورة الجاثية.
وبالإضافة إلى ما مرّ فإن هذا العصب له
تفرع مهم هو ما يسمى بالعصب المنعكس حيث يعصب الحنجرة وشراع الحنك ، وهكذا يشرف
على الصوت ولحنه ، كما يشرف على البلع. ولذا فان إصابته تعني بحة الصوت ، والصوت
المضاعف ، كما تعني عدم القدرة على البلع وقذف السوائل المبتلعة عن طريق الأنف
وذلك بسبب عجز شراع الحنك على
الإطبقا عند البلع
على الحفر الأنفية الخلفية أو ما يسمى بالبلعوم الأنفي لأن تقاطع الطرق الذي
ذكرناه في منتهى الاهمية حيث أن اللقمة عندما تصل إلى مؤخرة اللسان أمامها أحد طرق
ثلاثة : الحفر الانفية الخلفية ، والرغامى أول طريق الرئتين ، والمري وهو الطريق
الذي يجب أن تسلكه فكيف سيتم إدخال هذه اللقمة البسيطة إلى مأمنها الوحيد؟ تشترك
عدة أعضاء فشراع الحنك يغلق الفوهتين الانفيتين الخلفيتين ( وهما امتداد الحفر
الانفية ) ويتقدم شرطي المرور وهو لسان المزمان فيغلق الفوهة التنفسية من الأعلى ،
ويتحرك اللسان وكأنه اللوح الخشبي الطريق للفران فيقذف باللقمة بشكل فني إلى مقدمة
المري ومؤخرة البلعوم فتتلقفها عضلات البلعوم وهي تهتف لهذا العمل الرائع!! ثم لا
تلبث أن تنقبض عضلات البلعوم الاولى وترتخي العضلات التي تحتها مباشرة فتنزلق
اللقمة الطعامية إلى أسفل ، وإذا بالعضلات التي ارتخت قبل لحظات تنقبض على اللقمة
الطعامية ويسترخي ما تحتها من العضلات مباشرة وهكذا تتقدم اللقمة الطعامية خطوة
أخرى حتى تصل إلى المعدة ، حقاً انها أسرار وأمور في منتهى الدقة والابداع.
وبهذه الطريقة نفهم كيف أن اصابة الفرع
المنعكس من العصب المبهم يؤدي إلى قذف السوائل المبتلعة من الانف لان شراع الحنك
لا يغلق الفوهتين الأنفيتين الخلفيتين أو ما يسمى بالبلعوم الأنفي وهكذا يقذف
اللسان بالأطعمة والسوائل الى الطريق الأول بدلاً من الطريق الثالث كما يحدث
للسائق الغريب عندما يمر في بلدة ما ولا يعثر على الإشارات التي تدله على طريقه
فيضل ويسلك طريقاً آخر يخالف ما عزم عليه!!
وأما العصب الحادي عشر فهو يختص بتقويم
الرقبة وانعطافها بفعل عضلتين في كل جانب تسمى الأولى بالعضلة القصيّة الترقوية
الخشائية لأنها تتثبت على ثلاث مناطق حتى تتقوم الرقبة تماماً وتنعطف بالاضافة إلى
مساعدة العضلات
الاخرى في المنطقة ، والارتكازات الثلاث هي عظم القصّ في منتصف الصدر وعظم الترقوة
وهو يمتد أفقياً ما بين الكتف وعظم القص ، وفي الاعلى الخشّاء وهو قطعة من العظم
الصدغي حيث ترقد الاذن ، وأما العضلة الثانية فهي العضلة شبه المنحرفة الممتد ما
بين الرقبة والظهر من الخلف ، وأي خلل يصيب هذا العصب يؤدي إلى انحراف الرقبة وعلو
كتف على آخر وهو ما يعرف بالإجل.
وفي ختام العصاب القحفية يأتي العصب
الثاني عشر أو العصب تحت اللسان الكبير ، ويختص هذا بحركة عضلات اللسان ، وتتعبر
حركات اللسان من أبدع الحركات البهلوانية فهو يحتوي على (١٧) سبع عشرة عضلة ،
ثمانية منها مزدوجة وواحدة مفردة ، وتمكنه هذه العضلات من التحرك إلى كافة الجهات
، ولذا فهو يقوم بأدوار مختلفة فهو يتدخل في مسرحية المضغ والبلع والتصويت والذوق
فهو ممثل عجيب يقوم بأربعة أدور!! والعصب تحت اللسان الكبير يشرف على تحركه كيفما
بأربعة أدور!! والعصب تحت اللسان الكبير يشرف على تحركه كيفما كانت الحالة ، وأما
الحس فهناك ثلاثة أعصاب تنقل الحس من اللسان وهي العصب البلعومي اللساني من الخلف
، والعصب اللساني من الإمام ( وهو فرع من العصب الفكي السفلي أحد الشعب الثلاثة من
عصب مثلث التوائم ) ، والعصب الرئوي المعدي ( المبهم ، أو الحائر ) الذي ينقل الحس
من بعض المناطق العميقة ، والجدير بالذكر ان الذوق الذي يتمتع به اللسان وينقل عن
طريق الحس يتوزع في عدد من النتوءات الدرقية تبلغ (٩٠٠٠) تسعة آلاف نتوء ذوقي.
والآن بعد أن استعرضنا هذه الانبثاقات
العجيبة للاعصاب الراسية التي تبلغ ٢٤ عصب وكلها تخرج من منطقة لا تتجاوز بضعة
سنتمترات مربعة فالعصب الشمي والبصري يخرجان من الدماغ مباشرة ( اقصد للخ ) والعصب
المحرك المشترك ( الثالث ) يخرج من الساق المخية بالإضافة الى العصب
الاشتياقي وهو
الرابع ، ويخرج من الحدبة عصب واحد هو مثلث التوائم ( الفكي السفلي والفكي العلوي
والعيني ) ، وفي الثلم الذي يقع ما بين الحدبة والبصلة يخرج ستة أعصاب ، ثلاثة من
كل جانب وهو العصب المحرك الوحشي ( السادس ) الذي يعصب عضلة العين المستقيمة
الوحشية ، والعصب السابع الوجهي وهو يعصب عضلات الوجه (٢٣) عضلة ، والعصب الثامن
السمعي وهو ينقل السمع والتوازن ، والاعصاب الاربعة الاخيرة تخرج من البصلة وهي
العصب البلعوني اللساني ( التاسع ) ، والعصب المبهم ( العاشر ) والعصب الشوكي (
الحادي عشر ) ، والعصب تحت اللسان الكبير ( الثاني عشر ) وانتظام عمل هذه الاعصاب
المزدوجة يحافظ على سحنة الوجه ، كما أنه يرتب الوظائف ويعطي تعابير الوجه
اللازمة.
إن الكارتة التي تقع بشلل احد هذه
الأعصاب التي مرّت آنفاً لا يمكن تصورها حتى يراها الإنسان ويعلم مدى الدقة
العظيمة في عمل هذه الأعصاب ، فاصابة العصب الشمي يجعل المرء لا يفرق ما بين رائحة
العطر الذكية ورائحة اللحم المحترق مثلاً ، وإصابة العصب البصري من أعجب الاصابات
لأن نتائجها تختلف حسب المكان المصاب ، فقد يصاب المرء بالعمى في عين واحدةو ، أو
يفقد الرؤية الصدغية في الجانبين أوي يفقد الرؤية الانفية في الجانبين ، وقد يفقد
الرؤية الصدغية في عين بالإضافة إلى فقد الرؤية الأنفية في العين الأخرى ، وقد
يفقد الرؤية في الربع العلوي من كل عين في الجهة اليمنى ، أو الربع السفلي وهكذا ،
وقد يصاب بالعمى الكامل فلا يعود يرى شيئاً سوى السواد المطلق ، ولنعلم أن أهم
الأمراض التي تسبب التهاب العصب البصري الانتاني سببه الداء الافرنجي ، أي ان هذا
الداء هو من بركات الزنى!!! ومثل ذلك أيضاً الداء المعروف بالتابس حيث تبقى حدة
البصر كما هي ولكن تضيق ساحة الرؤيا وسببه المرض الإفرنجي ايضاً ، وإصابة
الأعصاب المحركة
لعضلات العين تحدث الحول أو انسدال الجفن.
وإصابة العصب مثلث التوائم تحدث إرتخاء
الفك السفلي وانحرافه فيما إذا فتح المريض فمه ، كما ان الحس في الوجه يضطرب
فمنطقة تحس والمنطقة التي فوقها لا تحس وبشكل قوس خلف قوس وهو ما يعرف بعلامة قشر
البطل!! فقشرة لا تحس والتي بعدها تحس وهكذا!! كما يضطرب الذوق في اللسان خاصة في
المنطقة الأمامية من اللسان ، فإذا وضعت على اللسان ملحاً لم يعرفه هل هو ملح؟ ام
سكر؟ أم فلفل أحمر؟. كما إن إمرار شعرة على بللورة العين من الامام تجعل العين لا
تبدي أي حركة مع أنه كما هو معروف في الحالة الطبيعية تغلق العين بشكل انعكاسي
سريع.
وأما إصابة العصب الوجهي فهي أدهى وأمر
، فالتشوّه أولاً والعجز الوظيفي ثانياً ، فإذا ضحك انحرف وجهه وكأنه يبكي. وإذا
أراد إغلاق عينيه بقيت المنطقة المصابة مفتوحة ، وإذا صفر انتفخ خد وبقي الآخر كما
هو؟!! وإذا كشّر عن أسنانه مال الوجه إلى الجهة السليمة!! وهي كارثة لمن تحل به ،
ولكن لطف الله كبيز فلقد وجدان ٨٠ ـ ٩٠ % من الحوادث تشفى شفاء نهائياً.
وإصابة العصب السمعي تحدث اختلال السمع
واختلال التوازن والمشي وكأنه يتطوح (
وترى الناس
سكارى وما هم بسكارى ).
وإصابة العصب المبهم تحدث بحة الصوت
والصوت المضاعف ، وذلك باصابة العصب الذي ينظم حركة الحبال الصوتية فترتخي فيخرج
الصوت مبحوحاً ، كما أن عدم انسجام حركة الحبلين الصوتيين معاً ، يؤدي إلى تضاعف
الصوت ، بالإضافة إلى الغص في بلغ السوائل والاطعمة إلى درجة قذفها من الأنف.
وإصابة العصب الشوكي تحدث انحراف الرقبة
وارتفاع كتف على اخرى.
وإصابة اللسان تحدث انحراف اللسان وعدم
تناسقه في حركة المضغ أو البلغ أو التصويت ، وهكذا تحدث الرتة في الكلام ( وان تعدوا
نعمة الله لا تحصوها .. إن الإنسان لظلوم كفار ). سورة إبراهيم.
فكرة
عن الدماغ المتوسط :
في خضم الدخل المخي وبين الألياف الصاعد
والنازلة ترقد بعض النويات الرمادية في وسط الدماغ ، وهذه التشكلات نامية جداً عند
الحيوانات ، ومن هذه النويات السرير البصري والنواة المذنبة ، والنواة العدسية ،
واللطخة السوداء ، والنواة الحمراء ، وجسيم لويس ، والتشكلات الشبكية المعقدة ولقد
ذكرنا معظمها فيما مر.
لقد وجد أن التنبيهات العصبية القادمة
من قشر المخ مر بما يشبه المصافي ـ وهذه هي المناطق التي نحن بصددها ـ فتعدلها
وهكذا تصدر الأوامر بشكل متناسق الى العضلات اللازمة حتى تقوم بالفعل المطلوب ،
وإن اصابة هذه المناطق تطيح بهذا التعديل فيصاب الجسم بفرط الحركة أو بنقص الحركة
، ومن جملة الأمراض العجيبة التي تنتج من إصابة هذه المناطق المرض المعروف بجفان
باركنسون ـ نسبة للعالم باركنسون الذي كان اول من وصفه ـ حيث ترى المريض وهو جامد
السحنة ويمشي ورأسه إلى الأمام وكأنه يسعى خلف مركز ثقله ، ويضرب برجليه الأرض ،
وأما يداه فهو يحرك أصابعه باستمرار وكأنه يسبح بالمسبحه أو يعد النقود ، وهذه
الحالة نرى منها حوادث ليست بالقليلة ، ولقد وجد أن السبب في هذا المرض هو إصابه
النواة التي تشبه العدسة وهي النواة العدسية ، والإصابة ليست في كل هذه النواة
التي تزن ما يقرب الغرام ، بل في جزء منها ، فلقد وجد أن هذه النواة لها ثلاثة
أقسام ويحدث المرض بإصابه القسم البعيد وهو ما يسمى باللحاء ، وبقي هذا المرض
مشكلة
حتى حدثت الحادثة
التالية وهي فعلاً تدل على تعقيد الجملة العصبية وقلة المعلومات في شأنها : بينما
كان أحد الجراحين يفتح دماغ أحد المرضى المصابين بهذا الرجفان أخطأ في ربط أحد
الشرايين الذي يغذي المنطقة القريبة من النواة العدسية وهي ما تعرف بالنواة
الشاحبة ، ولعله ندم على هذا الفعل ايضاً ، ولكن بعد فوات الأوان حيث تخربت المنطقة
، وكما نعرف أن موت الخلايا العصبية نهائي وغير متراجع ولكن هذه الغلطة كانت فتحاً
مبيناً في معالجة هذا المرض حيث لاحظ هذا الجراج أن الرجفان اختفى تماماً من
المريض المصاب برجفان باركلسون ، وجلبت هذه الحادثة اهتمام الأطباء فبدأوا يجربون
تخريب هذه المنطقة بحذر ، ثم تأكدوا أنه فعلاً يؤدي تخريب هذه المنطقة إلى الشفاء
النهائي من هذا المرض الوبيل ، وطبقت المعالجة على مدى واسع فأعطت نتائج طيبة.
ويقال إن أحد الجراحين الأمريكيين ويسمى كوبر يجري هذه العملية بالتخدير الموضعي
بإدخال إبرة من خلال القحف وبزاوية مرسومة بدقة إلى هذه المنطقة والمريض بكامل
وعيه وعندما يصل إلى المنطقة يخرب النواة الشاحبة ، وإذا بيد المريض التي كانت
تهتز وهي بحالة الراحة تقف عن الرجفان وتكون العملية قد انتهت وقبض الطبيب خمسة
آلاف دولار في نصف ساعه!
ولكن هل حلت يا ترى مشكلة كل الامراض
التي تتجلى بفرط الحركه أو نقص الحركه؟ لم تحل سوى مشكله المرض الذي ذكرناه آنفاً
فقط ..
إن هناك سبعه أمراض مشهورة ، منها أربعة
تتجلى بفرط الحركه ، وهي ما تعرف بداء رقص سيدنهام ، وهونتكتون ، والكنع ، والرقص
الشقي ، وثلاثة منها تتجلى بالصمل وبطء الحركة وجمودها وهي ما تعرف بالتنكس الكبدي
العدسي المترقي ، والتصلب الكاذب والشلل المهيج ،
وهذا الأخير هو مرض
باركنسون الذي اكتشفت معالجته وبدون قصد وتصميم سابقين بل ساقهم اليها قدر الله
المغيب ( وكان أمر الله قدراً مقدوراً ) والكثير من الادوية والمعالجات كشفت
بهذه الطريقة وقصة اكتشاف الأشعة السينية ليست ببعيدة عنا.
أيها القارىء لا تستطيع أن تتصور بشاعة
هذه الأمراض حتى تراها حاضرة في بعض المرضى ، فهذه الأمراض تجعل المصاب يرقص ..
ويرقص بدون توقف!! والرقص أنواع ..!! فهو يتحرك ولا يكف عن الحركة طالما هو مستيقظ
فمنه ما يتميز بحركات لا إرادية فجائية سريعة غير منتظمة وليس لها غياة وهكذا
يتحرك طوال الوقت ، لا يستقر ولا يهدأ لحظة من ليل أو نهار طالما هو مستيقظ فإذا
نام هدأت حركته ، ومنها ما يتظاهر الرقص فيها بحركات التوائية بطيئة غير منتظمة ـ
كالأفعى ـ وخاصة في الأطراف العلوية وهذا الرقص أشبه ما يكون بالرقص الهندي أو رقص
أهل بلاد الشرق الأقصى ولكنه هنا باصابة مرضية!! ومن هذه الحركات الرقصية ما يصيب
نصف الجسم فقط وتبين ان سببه هو اصابة منطقة صغيرة بحجم العدسة الصغيرة وهو ما
يعرف بجسيم لويس الذي قضى العلماء عشرات السنين في دراسته حتى اكتشفوا بعض أسراره
، وتصبح الطامة أكبر عندما يضاف إلى الرقص العته العقلي أي التار العقلي وضعف
المحاكمة الذهنية. ومن الرقص ما يعرف بالتشنج الالتوائي حيث يتظاهر بحركات
التوائية بل يضيف الدوران أيضاً!! وهذه الأنواع المتباينة من الرقص الشرقي والعربي
والغربي لا يريدها المريض وهو مع هذا لا يستطيع إلا أن يرقص .. ويرقص بدون توقف!!
ولا تضحك أيها القارىء فإن شر البلية ما يضحك ومع الأسف الشديد عندما يصاب إنسان
ما بهذا المرض ويعرض أمام
الاطباء فإنهم لا
يعتبرون بل يضحكون ، ولا يتأثرون بل يتغاضرون ، ( أفمن هذا الحديث
تعجبون ، وتضحكون ولا تبكون ، وأنتم سامدون ) ـ غافلون ـ ومع الأسف فإن ظاهرة قسوة
القلب وعدم الرحمة وعدم التأثر والخشوع ومعرفة نعمة الله على الإنسان التي تفيض
عليه وتغرقه في كل لحظة أول من يقع فيها وينساها هوالطبيب ، وكما قال لي أحدهم : (
إننا نعظ الناس بالموت فبماذا نعظ الطبيب ) وأنا أضيف : ليس الموت فقط بل كل ما
يمر أمامهم ، يمرون عليه وهم غافلون لاهون لاعبون ..!!
فكرة مبسطة عن الغدة
الصنوبرية :
تقع هذه الغدة في مكان يصعب الوصول اليه
وهذا مما دعا إلى عدم معرفة دور هذه الغدة الحقيقي ، فهي تقع في أعلى الجذع
الدماغي قريباً من السويقات المخية بين حديبات تسمى الحديبات التوأمية ، ولقد لوحظ
ان هذه الغدة تشبه العين الثالثة عند الحيوانات مثل الضفادع ، فهي تلون الجلد حسب
حاجة البدن فيما إذا تعرض للنور. ونزع هذه الغدة يفضي إلى عدم الاصطباغ المعهود
للجلد في حالة التعرض للنور ، وأما في الإنسان فدورها مجهول وغامض حتى الآن وهذا
يذكرنا بالفكرة التي طرحناها في الكتاب وهي : ان هناك قارات وقارات مجهولة ولكن
أين؟ في الدماغ البشري .. وقد أورد البعض ان لها دوراً في الحاسة السادسة وقراءة
الافكار ولنسمع إلى نص كامل في دور هذه الغدة من أستاذ الفسيولوجيا في جامعة دمشق
في كلية الطب .
يرى كثيراً من العلماء ان وظيفة هذه
الغدة تتعلق بنمو الحاسه
الجنسية ، وهي تماثل
في الحشرات العيون والنوافذ إذ تتلقى الاشعاعات الاثيرية التي يستعصي إدراكها على
الحواس المعروفة فتنقلها إلى أجزاء المخ ، وهذه تجعلها جلية واضحة وتحولها إلى لون
من الوان الوعي. وهي بذلك تعتبر مقر الحاسة السادسة ، وتكوّن في الحيوانات حاسة
الاتجاه وغريزة التأويب فالنحلة تجمع الرحيق ثم تندفع نحو قفيرها في اتجاه مستقيم
قاطعة طريقاً قد يبلغ طولها الميلين أو أكثر مهتدية بهدي هذه الحاصة ، ولذلك فهي
عضو حسي يتلقى الذبذبات من الخارج ووظيفتها في الانسان حسب رأي ( سينل ) الاستجابة
إلى الذبذبات التي تنبعث من الأشياء ولا تستطيع الحواس الخمس المعروفة أن تدركها
إما لبعدها أو لتدخل ما نسميه المواد المعتمة ، وهي إذن مقر المواهب الخفية التي
تسمى عند الانسان بالاستشفاف وكذلك التخاطر ( التلباثي ) أي انتقال الأفكار في ذهن
شخص لآخر ) اهـ. والفقرة الأخيرة تذكرنا بحادثة عمر ضي الله عنه عندما كان واقفاً
على المنر يخطب وفجأة توقف عن الكلام ثم قال يا سارية الجبل الجبل!! أي الزم الجبل
، وسارية هذا أحد القواد الذين يقاتلون في جبهة تبعد مئات الكيلومترات عن المدينة
المنورة مركز القيادة العام حيث كان يخطب أمير المؤمنين : ويسمع القائد في نفس
اللحظة هذا الكلام ويلتجىء إلى الجبل الذي كان يمر بجانبه وينجو من كمين كان قد
نصبه العدو ...
الذي يستوقفنا في هذا البحث رؤية عمر 2 هذا الشيء من مكان سحيق ، وسماع سارية
لكلام عمر من بعد سحيق ، إنها ظاهرة تستلفت النظر حقاً ولنستمع إلى الدكتور الكسيس
كاريل صاحب كتاب « الانسان ذلك المجهول » وهو يحدثنا عن هذه النقطة بالذات : ( إن
البصر المغناطيسي وتراسل الافكار : معلومات أولية للملاحظة العلمية ، وفي استطاعة
من وهبوا هذه القوة آن يستشفوا أفكار الأشخاص الآخرين
السرية دون أن
يستخدموا أعضاءهم الحسية. كما انهم يحسون أيضاً بالأحداث السحيقة سواء من الناحية
الفراغية أم من الناحية الزمنية ، وهذه الصفة استثنائية وهي لا تنمو إلى في عدد
قليل من بني الانسان إلا ان هناك كثيرين يملكون هذه الصفة بحالة بدائية ، وهم
يستخدمونها دون بذل أي جهد وبطريقة تلقائية .. ويبدو البصر المغناطيسي مسألة عادية
لمن يملكونه ، وهي يجلب لهم معلومات أكثر توكيداً من المعلومات التي يحصل الانسان
عليها بواسطة أعضاء الحس ...
وتراسل الافكار كثير الحدوث ، ففي كثير
من المناسبات في أوقات الموت أو الخطر العظيم يدفع الفرد إلى انشاء علاقة معينة
بشخص آخر ، فالرجل الذي كتب عليه الموت أو أن يصبح ضحية إحدى الحوادث وإن لم تعقب
الوفاة إصابته في الحادث يبدو لصديقه وكأنه في حالة طبيعية لا غبار عليها ، لأن
شبح الموت يظل عادة صامتاً ، وقد يحدث أحياناً أن يعلن الشخص الذي سيموت أنه سيموت
عما قريب ، وكذلك فإن البصر المغناطيسي قد يرى أيضاً منظراً أو شخصاً أو قطعة من الارض
على بعد سحيق [ تذكر حادثة عمر 2 ] ويكون في استطاعته أن يصفها بدقة
تامة .. وهكذا فإن معرفة العالم الخارجي قد تصل إلى الانسان عن طريق مصادر. آخرى
غير أعضاء الحس ، ومن
المحقق ان الفكر قد ينتقل من فرد لآخر ولو كانت تفصل بينهما مسافة كبيرة
، وهذه الحقائق التي تنتمي إلى علم ما وراء النفس الجديد يجب أن تقبل على علاتها ،
انها تكون جزء من الحقيقة ، وتعبر عن جانب نادر يكاد يكون غير معروف من أنفسنا ،
ومن الجائز أنها مسؤولة عن الدقة العقلية الحاذقة التي تلاحظ في أفراد معينين )
اهـ ص ١٤٧ ـ ١٤٨ من كتاب الانسان ذلك المجهول.
إن ما مر يذكرنا بما جاء في القرآن
الكريم على لسان يعقوب [
ولما
فصلت
العير قال لهم أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ]
هذا بعد قطع الأمل من رؤيته وكان الاخوة في طريقهم لأخذ الوالد الصبور للقاء ولده
الذي فقده منذ بضعة عشر عاماً.
والآن بعد أن انتهينا من إلقاء بعض
الأضواء على معالم مجهولة في التكوين العصبي عند الإنسان وكنا حتى الآن نسبح في
العالم المادي للانسان فلننتقل الآن لبحث قضايا تعد من أخطر القضايا التي يبحثها
الأطباء والفلاسفة والمفكرون وهي كيفية التفكير والمحاكمة الذهنية ، وكيف يحدث
التذكر وأين يوجد؟
سؤال طرح وما زال يطرح وسيظل يطرح : ما
هي الذاكرة وأين تقع؟
بعض الأفكار عن الذاكرة
كل شيء يتغير باستمرار في جسم الانسان :
الأخلاط ، الخلايا ، السكريات ، الشحوم ، البروتينات ، الماء .. الخ ، ولكن شيئاً
واحداً له صفة الديمومة والاستمرار وعدم التغير : إنها الخلايا العصبية. وهذا شيء
مهم للغاية لأن مفتاح السر في موضوع الذاكرة يبدأ من هذه النقطة وهي : ان ثبات
الخلايا العصبية يجعلها تزيد من أكداس الذاكرة لحظة بعد لحظة ، ولو تغيرت الخلايا
العصبية كباقي خلايا الجسم ، فإن هذا يعني اننا سنبدأ بتعلم اللغة من جديد كل ستة
أشهر!!
والآن ما هي النقاط التي يقف الانسان
أمامها حائراً في قضية الذاكرة؟ ما هي كمية المعلومات التي يمكن أن تختزنها ذاكرة
الانسان العادي؟ ثم ما هي أنواع الذاكرة؟ ثم أين توجد هذه الأماكن السحرية التي
تستوعب كل هذه الذكريات؟ ثم كيف تشترك الذاكرة في تكوين شخصية الإنسان؟ ثم كيف
تستحضر المعلومات من بين الاكداس الهائلة من الذكريات ولو كانت شيئاً بسيطاً؟ ثم
هل يحتفظ الانسان بكل ذكرياته أم ينساها ويبقى محتفظاً بالمعلومات التي يكررها
دوماً؟ ثم كيف تحصل آلية الذاكرة بالذات؟ ثم ما هي الذاكرة وهل يتفاوت الناس فيها؟
ثم ما هي علاقة الذاكرة بملكات العقل السامية؟ وأخيراً هل يمكن تنمية الذاكرة
وتقويتها؟ وما هي الشروط التي تتداخل في تقويتها؟
ـ ١ ـ
ان الصورة التي تراها بعينيك أيها
القارىء تنطبع في مؤخرة كرة العين على منطقة حساسة للنور تسمى ( الشبكية ) وهذه
المنطقة فيها طائفتان من العناصر الحساسة للنور : الطائفة الأولى هي العصيات ، وهي
حساسة للنور الضعيف العادي ، وتتوزع في محيط الشبكية. والطائفة الثانية هي
المخاريط وهي في المركز والعصيات تشكل طبقة من عشرة طبقات من الشبكية ويقدر عدد
العصيات في العين الواحدة بـ [ ١٤٠ ] مليون عصاة ، ويقدر عدد المخاريط في العين
الواحدة بـ [ ٦ ـ ٧ ] مليون مخروط ، أي أن مجموع الأعضاء المستقبلة للنور في
العينين يبلغ حوالي [ ٣٠٠ ] مليون عنصر مستقبل للضوء!! ثم تنتقل الصورة بعد
انطباعها على الشبكية بشكل مقلوب عبر العصب البصري وهكذا تنتقل الصور في العينين
عبر مليون جهاز تلفزيوني ملون!! ولكن إلى أين؟ تصل إلى نقطة أولى تقع فوق الغدة
النخامية وهناك يتصالب العصبان البصريان بنصفيهما حيث يندمج كل جهة بحيث يشكل
مزيجاً من النصف الأول وهو من الطرف والعين الموافقة والنصف الثاني من العين
الأخرى وهذا مهم وأساسي لأن الصور ترى مجسمة بهذه الطريقة!! وإذا أردت أن تجرب حظك
أيها القارىء في صحة هذا الكلام فحاول أن تغمض عيناً وتفتح عيناً ، وقرب سبابة
اليد اليمنى إلى سبابة اليد اليسرى وأنت تنظر بعين واحدة ، وأسرع في تقاربهما فسوف
ترى أن السبابتين لن تلتقيا ، بينما إذا نظرت بكلتا العينين وهما مفتحتان فسوف
تستطيع أن تقارب السبابتين بكل راحة ، إن هذا هو السر في امتزاج ألياف العصبين
البصريين حتى يمكن رؤية الأشياء بشكل مجسم.
والآن إلى أين ستصل الألياف العصبة
البصرية؟ إنها تندفع إلى السرير البصري ومنه بشكل أشعة إلى مركز الرؤية العام حيث
تنطبع الصورة ، ثم تفهم ، ثم ترسل إلى مستودعات الذاكرة!!
إن الكيفية التي أوردناها ـ بشكل مختصر
جداً ـ هي عن اختزان صورة واحدة في مستودعات الذاكرة ، إن الإنسان العادي يختزن كل
يوم من الصور المرئية فقط نصف مليون صورة في مستودعات الذاكراة العظيمة ، أي أن ما
يقرب من عشرة مليارات صورة تختزن في مستودعات الذاكرة في متوسط حياة الإنسان
العادي ، هذا فقط من ناحية اختزان المرئيات ، أضف إلى ذلك المسموعات ، والأشياء
التي تشم ، وتذاق ، ولمس وتحس ، خاصة وأن الحواس ليست خامة فقط كما يتصور عامة
الناس ، بل قد تصل إلى [٢٠] عشرين حاسة على ما قرره صاحب كتاب العقل البشري جون
فايفر ...
إن كمية المعلومات التي تختزن في
الذاكرة شيء لا يكاد يصدق ، ولو أردت أن تسجل ذكرياتك فإن حياتك كلها لا تكفي ، بل
لو اشتغل أبناؤك وأحفادك في هذا لما استطاعوا اليه سبيلاً ولاحتاجوا إلى الوقت ،
والجهد ، والمال لشراء الأوراق ، حتى لقد قدر بعضهم أن مخزون الذاكرة يتسع إلى
[٩٠] مليون مجلد مليء بالمعلومات!!
ـ ٢ ـ
إن الذاكرة معقدة بأنواعها ، ولا نتصور
أنها فقط تلك الأشياء التي نقرؤها أو نسمعها ثم نسجلها في قائمة الذكريات ، إن
أبسط أنواع الذاكرة تلك التي تحدث معنا بشكل عادي ثم نتذكرها فيما بعد ..
أولاً : الذكريات منها ما هو اختصاصي
بالمرئيات فيتذكر الانسان
الصور ، ومنها
المسموعات فيتذكر ما سمع ، وقد يكون خليطاً من اثنين أو أكثر. وهكذا تختلف نسبة
الخلط في الذكريات. ثم إن نفس الذكريات قد تكون من النوع الخاطف فقد تكون راكباً
سيارة وهي تمشي بسرعة ، فيقع نظرك بسرعة كبيرة على منظر تهشم سيارة ، أو على شاب
منالهايبيز ، أو على اعلان لجريدة مثل ( فضيحة البرانس المفتوحة في بيرون!! ) ، إن
هذه اللقطة السريعة تنطبق فوراً في الذاكرة وتضاف إلى الأكداس الهائلة ، ويمكن
استرجاعها فيما بعد ، وان رقم الـ [١٠] مليارات الذي ذكرناه فيما سبق هو في صدد
هذا النوع من الذاكرة. وهناك الذاكرة التي تتعلق باتقان الأعمال والمهارة فيها ،
مثل المشي ، وركوب الدراجة ، والركض ، وقيادة الموتور ، أو السيارة ، أو تقليب
صفحات كتاب ، أو الكتابة ، أو الطعام ، أو الشرب ، وحتى الأعمال الغريزية المختلفة
، فالدماغ يقوم أولاً بفهمها وتعلمها ثم إرسال الأوامر إلى العضلات المناسبة لتقوم
بها ، وعندما يزداد التمرين والاتقان ، ترسل نسخة من هذه الذكريات إلى النويات
القاعدية في الدماغ حتى يسيرهذا الأمر بشكل آلي ، فلو ركز السباح نظره على الأفعال
التي يقوم بها فقد يغرق ، ولو ركز الانسان انتباهه على كيفية البلع لأصيب (
بالشردقة ) ولو ركز انتباهه على الكلام أثناء الخطبة أو النقاش لتلعثم وهكذا ،
وأما ذكريات الطفولة أو الاحداث قريبة الاجل فالانسان العادي ينسى ما فعل منذ
ساعات قليلة ولكن الذاكرة الجبارة في الطفولة تطبع حتى أبسط الحوادث العادية
ويتذكرها الانسان فيما بعد بشكل واضح يدعو إلى الدهشة والاستغراب.
ـ ٣ ـ
إن القضية التي تحير أكثر من غيرها هي :
ما هي الاماكن التي تختزن كل هذه الذكريات وأين تقع؟ لو تصورنا ان اختزان كل جزىء
يتم في خلية عصبية
واحدة فإن جميع خلايا الدماغ لا تكفي الا لاختزان جزء يسير من الذكريات ، لأن
مجموع الخلايا العصبية في المخ يبلغ تسعة مليارات خلية ، وفي الجهاز العصبي بكامله
بالاضافة إلى المخ [١٤] مليار خلية ، فكيف تختزن إذن كل هذه الاكداس من الذكريات؟!
..
فكر العلماء في هذه المعضلة ولم يعثروا
على تفسير واضح قطعي مؤكد في هذا الصدد فهل هناك يا ترى منطقة بعينها من الدماغ هي
المسؤولة عن الذاكرة ، لم يعثر العلماء على منطقة بعينها من الوجهة التشريحية تختص
بالذاكرة بحيث يؤدي تخريبها إلى فقدان الذاكرة الكامل والنهائي ، وهذا من الاسرار
العظيمة في تركيب الجهاز العصبي عند الانسان إذ لو كان الامر كذلك لكان معنى هذا
أن تخرب منطقة في الدماغ يعني خسارة أعظم وأثمن الاشياء عند الانسان الا وهي
الذاكرة ، فالذاكرة هي أثمن من أن تؤتمن عليها مجموعة خاصة من الخلايا العصبية ،
ولقد وجد أن تخريب ٩٠% من منطقة تتعلق بالذاكرة البصرية عند بعض الحيوانات لم يؤد
إلى فقدان الذاكرة ، كما أن استئصال نصف الدماغ تماماً عند بعض المرضى لم يجعلهم
يفقدون ذاكرتهم ، فهل هذا لان هناك نسخة مضاعفة للذاكرة في كل من نصفي الكرة
المخية؟!!
من بين البحوث الشيقة التي اجريت على
منطقة الفصوص الصدغية في الدماغ ما يلي : لقد وجد ان اصابة هذه المنطقة يؤدي إلى
اضطراب الذاكرة ، وآخر التحريات في مضمار هذه المنطقة بالذات استطاع العلماء أن
يلقوا نوراً خافتاً على موضوع الذاكرة ، فهذه المنطقة تتدخل على ما يبدو في صناعة
الذكريات واستحضارها ، كما يبدو أنها تتدخل في تكوين الذكريات الوهمية ، فقد يشعر
الانسان أحياناً عندما يسمع كلام شخص ما ، في موضع ما ، في زمن ما ، أنه قد رأى
مثل هذا الشيء سابقاً وهو ما يعرف ( رؤية الشيء من قبل ) ...
ولكن هل الفص الصدغي هو المسؤول
تشريحياً عن الذاكرة؟ بالطبع لا .. إذن فأين توجد الذاكرة؟ في الدماغ ، أو في غير
الدماغ إذا صح طرح السؤال؟ ... الذي يبدو هو أن نفس الخلايا العصبية بجموعها العام
تشترك في تكوين الذاكرة بواسطة الجزئيات البروتينية الموجودة داخل الخلايا العصبية
، فوجود [٣٠] ألف مورثة في الخلية الواحدة وإمكانية تشكل قرابة [٣٠] ألف حمض أميني
مختلف يجعلنا نفكر في هذه التعقيدات الذرية هل هي التي تشترك في موضوع الذاكرة
خاصة وهذه التعقيدات تبلغ ألف مليار مليار جزىء في الدماغ ، هل تحمل هذه الجزئيات
آثار الذاكرة كما يحدث في الصفيحة المعدنية التي تحمل آثار طرق الحداد بالمطرقة
عليها؟ أم هل تتوزع الصورة في هذه الجزئيات الذرية ثم يعاد تشكيلها مرة أخرى؟ لا
أحد حتى الآن يعرف أين يوجد السر في موضوع الذاكرة؟!!
ـ ٤ ـ
قدر بعض العلماء أن المرئيات أو المسموعات
تنطبع في الدماغ كما تنطبع الصورة على جزئيات الفضة في لوحة الفوتوغراف الحساسة ،
ومن خلال هذا التفرق للصورة والبعثرة للذكرى بحيث تزدحم الذكريات في حزئيات خلايا
الدماغ كالفسيفساء ، وبقدرة قادر ، تجتمع هذه الجزئيات المتفرقة لتعيد تشكيل
المنظر الذي رآه الانسان ، ولكن من خلال هذه الكومات والأكداس الهائلة من الذاكرة
يبدأ العقل في امكانية إيجاد صورة جديدة فهو يتخيل الجن على صورة معينة ، أو يتخيل
جنة عدن على صورة معينة ، وهكذا تبرز خاصية جديدة من خصائص الجهاز العقلي الجبار
وهي خاصية التخيل ، ويتعقد الأمر أكثر عندما تستطيع اثارة التخيل عند من يسمع اليك
بتحريك كومات الذاكرة عنده فإذا به يجمع الجزئيات ويكومها ويتخيل ما تتخيل أنت ،
ثم يتعقد الأمر
إلى درجة تجعل الرأس
يدور عندما يفكر على هذا النحو وهو اسختلاص العلاقات من بين الاشياء التي ترد إلى
الذهن ، فما الذي يجمع مثلا بين العجلة وقطعة النقود والقمر والشجرة؟ الاستدارة ،
ولكن ماذا تقول عندما استطاع العلماء أن يكتشفوا سنن الكون ، فأرخميدس اكتشف قانون
دفع السوائل ( دافعة أرخميدس ) ، وأينشتاين اكتشف النظرية النسبية ، ونيوتن اكتشف
قانون الجاذبية ، وابن الهيثم اكتشف أسراراً في عالم البصريات ، وهكذا ... وعلى
قدر مزج هذه الذكريات والخروج بنتائج جديدة تسمو شخصية الانسان ، إن ٢٧ حرفاً
يستخرج منها آلاف الآلاف من الكلمات ، فما هي الأفكار والآراء التي يمكن استخراجها
من مليارات المليارات من معلومات الذاكرة؟ حقاً انه شيء مدهش ، فما أتعس الانسان
الذي يبلد ذهنه ويعطي لعقله إجازة مفتوحة ، أو يطلق لشهواته العنان ( فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصّلاة واتبعوا
الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فاولئك يدخلون الجنة ولا
يظلمون شيئاً ) سورة مريم ...
[ إن شخصية الإنسان هي مجموع لحظات
الجهد الواعي ، وكما قال جون فايفر ( إننا نمثل في أية لحظة حاصل جميع ذكرياتنا
وجميع الانطباعات التي تركت آثارها على أجهزتنا العصبية ) ].
ـ ٥ ـ
من ينظر إلى مكتبة عامة تضم آلاف الآلاف
من الكتب على رفوف أنيقة ، وبين الحين والآخر تسحب بعض الكتب من بعض الرفوف
لاستخراج كلمة أو جملة ثم يرجع الكتاب إلى مكانه ، وبين الحين والآخر ترد كتب
جديدة ونشرات حديثة تضم إلى مجموعة الكتب الموجودة في هذه المكتبة ، من ينظر إلى
هذه المكتبة ، يجد خليطاً عجيباً من شتى
المعلومات والارقام
والإحصائيات والأسماء والأشياء ، وإذا تمكنت ـ أيها القارىء ـ من التنقل بين ممرات
هذه المكتبة الضخمة الأنيقة من غرفة إلى أخرى ومن رف لآخر : فإنك سوف تصل في نهاية
المطاف إلى قاعات كبيرة جداً وقد تراكمت فيها أكداس مخيفة من الكتب فوق بعضها
البعض وقد علاها الغبار ، ولا تمتد لها يد الاستعمال والمطالعة.
إن ذاكرة الانسان هي أشبه ما تكون بهذه
المكتبة ، فهناك بعض المعلومات التي تستعمل باستمرار ، وهناك المعلومات التي تضاف
باستمرار ، وهناك أكداس هائلة من المعلومات قد لفها النسيان [ آفة العلم النسيان ـ
حديث ـ ] وقد يتساءل الانسان : هل كل ما فعله الانسان أو سمعه او رآه محفوظ في هذه
السجلات أو هو في عالم الفناء؟ هذا ايضاً سؤال بحث فيه العلماء وقد انتهوا إلى
نتائج مذهلة في هذا الصدد ، فلا شيء يضيع ( وكل شيء عنده بمقدار
، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال )
سورة الرعد ، ونروي في هذا الصدد هذه الحادثة : جرّبت طريقة التنويم المغناطيسي
على بنّاء ماهر يشتغل في بناء الابنية ذات الهدسة الفنية الرفيعة ، ثم طرح عليه
سؤال عن طوبة موجودة في جدار ما ، من بناء ما ، كان قد بناها في زمن ما ، فكان
جوابه أن هذه الطوبة كانت قد جرقت في الأتون أكثر من اللازم ، وأنها تحوي في الزاوية
السفلى منها حصاة أرجوانية وأنها تحوي في الزاوية اليمنى العليا نتوءّ يشابه
الانخفاض الموجودة في الجدار ، هذا مع العلم بأنه كان قد بنى [٢٠٠٠] ألفي طوبة في
ذلك اليوم ، ومنذ عشر سنوات ، وعندما يصل الإنسان إلى هذا الحد من التفكير تعتريه
قشعريرة ، ويشعر بالبرودة تتمشى في مفاصله ، ويشعر أن كل شيء يقوم به أو يراه أو
يسمعه هو موجودة في سجل لا يضيع ( وإنّ عليكم لحافظين.
كراماً
كاتبين.
يعلمون ما تفعلون )
[ إن كلّ
نفس لمّا عليها حافظ ] ، [ وقالوا يا ويلتنا مال
هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم
ربك أحداً ] ...
ـ ٦ ـ
تنمو الذاكرة مع نمو الانسان فهى تبقى
لمدة لحظات عندما يكون الطفل ما بين الشهر الثالث والسنة الأولى من العمر ، وعندما
يصل الطفل إلى نهاية السنة الاولى تبدأ الذاكرة في الاستقرار وتستمر لمدة اسبوعين
، وفي نهاية السنة الثانية تمتد لمدة بضعة أشهر ، وفي نهاية السنة الرابعة تمتد ما
امتدت الحياة ، والذاكرة عنيدة على الزوال فهي لا تنتهي إلا بالموت وتكون تجربة
الموت هي آخر التجارب التي يمر فيها الانسان [ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ].
ونقف قليلاً لنطرح السؤال التالي وهو :
ما هي علاقة الذاكرة بالذكاء وهي يتفاوت الناس في ذاكرتهم؟ أما الذاكرة فهي القدرة
على استيعاب المعلومات واسترجاعها. وأما الذكاء فهو القدرة الذهنية على الفهم
والتحليل والربط والاستنباط والتخيل والابداع ، والحق يقال إن الذكاء شيء محير كما
اننا عندما نطلق على فلان انه قوي الشخصية وآخر ضعيف الشخصية ، ان حكمنا هذا سريع
ولكن تحليله يحتاج لمجلدات!!!
وأما تفاوت الناس في ذاكرتهم فهذا وارد
ولكن أصدق ما يقال في هذا الباب إن جميع الناس على الاطلاق يمتلكون مقدرة متقاربة
من الذكاء والذاكرة ، وقلة نادرة جداً من الناس هي التي تكون مزودة بملكات عقلية
راقية ، وأقول حتى النقطة الاخيرة مشكوك فيها إلى
حد لان الرقي الذهني
إنما يأتي من الجهد المبذول ، واستعمال هذا الجهاز الجبار الذي لا يعرف الكلل أو
الملل ، إن الدماغ لا يعرف التعب جتى لو عمل ما يزيد على عشر ساعات متواصلة ،
وإنما الذي يتعب هو البدن بالقعود بكيفية معينة!! ولذا فان العباقرة والفلاسفة
وعظماء المفكرين إنما تكونت مواهبهم من استغلال هذه القدرات الدفينة ، وهذه
الطاقات الكامنة.
ذكرنا فيما مضى ان كل خلية عصبية تتصل
بما يقرب من خمسين خلية عصبية أخرى وأحياناً يصل هذا الأمر إلى ألف (١٠٠٠) خلية
عصبية ومن هنا ندرك قيمة الممرات حيث تتشكل شبكة كثيفة مخيفة من الاتصالات وقد
تصاب بالدوار فيما إذا بدأت تتصور عدد المرات التي يمكن أن تتشكل بعد هذه
الاتصالات الكثيرة ، ان تعلم الكلمات والافكار والمهارات إنما يعني تشكل ممرات
جديدة ، وسرعة إعادة ما تعلم إنما يعني أن الطريق معبد لمرور النبضات الكهربية عبر
هذه الممرات العديدة ، والدهاليز المخيفة ، والتعرجات العجيبة. ولذا فإننا نقرر
حقيقة أساسية عرضها القرآن أيضاً بشكل منير وهي إن في مقدور الانسان أن يصل إلى
درجة هائلة من الرقي ، ولكن هذا إنما يتم ببذل الجهد ـ وإيجاد ممرات عصبية جديدة ،
ومن مزيج ذكريات الانسان تحصل تفاعلات معقدة جداً ومن العقل الواعي المتدبر تستنبط
علاقات جديدة ، وافكار باهرة ـ (
والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمن المحسنين
) سورة
العنكبوت.
ـ ٧ ـ
إن ما مر معنا عن أبحاث الذاكرة ليس إلا
معلومات سطحية لم توصلنا إلى أعماق القضية ، وينطبق هذا الشيء على فهم كيف يعمل
العقل؟ وكيف يتم
التفكير؟ وما هي الإرادة؟ وأين يكمن الوعي واللاوعي أو ما يسمى بالشعور واللاشعور؟
وكيف يحصل فهم المسموعات والمبصرات؟ وقلبها من صور إلى معاني؟ وكيف تستنبط الأفكار
المجردة من خلال المحسوسات؟ وما هو الذكاء؟ وكيف يتم التخيل والابتكار؟ وكيف يحصل
الاحساس الجمالي؟ وكيف يتم الاحساس الخلقي؟ وكيف تنمو الجرأة الأدبية؟ وكيف تتم
الأحلام؟ وكيف تتحقق الأحلام التنبؤية للمستقبل؟ وما هي علاقة الأعضاء بالنفس ،
وكيف يؤثر كل واحد على الآخر؟ إلى فيض لا ينتهي من الأسئلة التي لا تجد جواباً ،
ولذا فإننا سوف نختم أبحاثنا عن الذاكرة بالمعلومات السطحية التي يلمسها الوعي
مباشرة [ يعلمون
ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ]
سورة الروم.
ومن جملة هذه اللمسات السطحية السؤال
التالي : هل بالإمكان تقوية الذاكرة وتنميتها؟ ..
إن الشيء الذي يقرره الطب ، والذي تأكد
منه علماء النفس هو أن هذا الشيء هو في مقدور الانسان ، ولكن ما هي الشروط التي
تتدخل حتى تنمو الذاكرة؟
بين يدي الآن وبشكل مختصر (١٢) اثنا عشر
عاملاً تتدخل في تنمية الذاكرة وتقويتها. ومن هذا الرقم نعرف مدى تعقيد الجملة
العصبية ، ودقة تركيب الانسان ، فما هي هذه العوامل؟
١
ـ التقوى : أو ما نسميها
بالنظافة النفسية الداخلية ، ولعل سائلاً يقول وما هو أثر التقوى في الحفظ أو
الذاكرة؟ والجواب أن التقوى تحدث حالة نفسية عجيبة هي مزيج من الهدوء ، والاهتمام
، والخشوع ، والتقدير ، والتأمل ، والتدبر ، ووزن الأمور ، وهذا المزيج ينتج حافظة
هائلة وعندما نتذكر بعض الحوادث عن العلماء المسلمين الأقدمين فإننا
نعرف كيف يتدخل هذا
العامل في الحافظة أو الذاكرة. ونقتطف من هذه الحوادث الحادثتين التاليتين :
أ ـ حادثة الإمام البخاري صاحب كتاب
الصحيح المشهور عندما قدم بغداد : أراد بعض طلاب الحديث اختبار ذاكرته فأعدوا له (١٠)
عشرة طلاب ، وكل منهم قد حفظ (١٠) عشرة أحاديث بشكل مغلوط ، وصورة الغلط هو خلطم
متون الأحاديث بأسانيدها
، ولما حضر الإمام البخاري وروى له الطالب الأول الأحاديث العشرة الأولى المغلوطة
، وكلما روى له حديثاً يقول الإمام البخاري لم أسمع بهذا ، فأما العلماء فقالوا
للنظر في أمر هذا الرجل ، وأما الجاهلون فقالوا إن الرجل لا يعرف شيئاً!! وهكذا
سرد عشرة طلاب مائة حديث مغلوط ولما انتهوا قال الإمام البخاري للطالب الأول ذكرت
الحديث الفلاني وروى له الحديث بمتنه ، وذكرت أنه عن فلان وروى له السند الذي رواه
الطالب ، والحديث ليس كذلك بل هو عن فلان عن فلان وصحح له الحديث ، وهكذا حتى صحح
الأحاديث العشرة بحيث نقل المتون إلى أسانيدها التي تلائمها ، واستمر في تصحيحه
لكل طالب حتى انتهى من المائة حديث والعجيب في هذه القصة هو أولاً حفظه المائة
حديث المغلوط لمجرد سماعه لها للمرة الاولى ، ثم تصحيحه الفذ من ذاكرته الجبارة ،
ويكفي أن نعلم عن هذا الإمام أنه اختار أحاديثه الصحيحة وهي في حدود (٥٠٠٠) خمسة آلاف
حديث من (١٠٠) ألف حديث ، ولم يكن يكتب الحديث في صحيحه إلا بعد صلاة استخارة وكان
يستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من
__________________
عشرين مرة ليسجل في
كراسه كلمة أو جملة او اسم عالم أو بعض ألفاظ حديث أو أشياء أخرى ..
ب ـ حادثة شمي الأئمة السرخسي من فقهاء
الحنفية : سأل تلاميذه مرة كم كان يحفظ الإمام الشافعي؟ فأجابوه بأنه كان يحفظ (٣٠٠)
كراس عن ظهر قلب فأجابهم : إن الإمام الشافعي يحفظ زكاة ما أحفظ أنا اي (١٢٠٠٠)
كراس وكتابه المبسوط في الفقه الحنفي يتألف من ٣٠ جزء ويقع في آلاف الصفحات وقد
أملاه على تلاميذه وهو مسجون في بئر لأنه رفض أن يعطي فتوى باطلة للحاكم في ذلك
الزمان!!
وليس معنى الحوادث التي ذكرناها انها
تعتمد فقط على عامل التقوى ، بل تتدخل فيها عوامل أخرى بالطبع ، ولكننا أردنا أن
نشير إلى دور هذا العامل الذي كان يحتل مركزاص مهماً في نفسية علمائنا الاقدمين ،
وصدق الشاعر حين قال :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
|
|
فـأرشـدنـي إلى تـرك المعاصي
|
وأنـبـأني بـأن الـعـلم نـور
|
|
ونور الله لا يهدي لعاصي ( مذنب )
|
وتنسب هذه الابيات إلى الإمام الشافعي.
٢ ـ ومن جملة العوامل التي تتدخل في
تنمية الذاكرة التكرار ، فترداد قطعة من الشعر أو من النثر (٢٠) مرة يثبتها في
الذهن أكثر ما لو كررت (١٠) مرات ، هذا إذا تدخل عنصر الترداد فقط ..
٣
ـ الاهتمام : كلما اهتم
الانسان بالشيء ، وتعلق مصيره به حفظه أكثر والعكس بالعكس.
٤
ـ الارتباط بالاحداث : إن ارتباط حادثة
بخوف أو فرح أو حزن أو معركة ترسخ الذكريات أكثر. وهذه طريقة القرآن الكريم لانه
كان
يتنزل مع الاحداث (
سورة الانفال : غزوة بدر ، قسم من سورة آل عمران : غزوة أًُحد ، سورة الحشر : غزوة
بني النضير ، قسم من سورة النور : حادثة الافك وهكذا ).
٥
ـ فهم الكلام : كلما ازداد فهم
القطعة كانت أسهل في الحفظ وكلما تعقدت تعسّر حفظها.
٦
ـ الجرس الموسيقي : إن صيغة الكلام
الجميلة تساعد في الحفظ ، ولذا كان العلماء ينظمون العلوم بقصائد شعرية ، وقبل هذا
الجرس القرآني فهو جرس موسيقي يعين على الحفظ.
٧
ـ مصدر الكلام : إن سماع الكلام
من قائد غير سماع الكلام من رجل عادي ، ومعرفة ان الكلام وحي من الله يعطي سلطاناً
على القلوب غير كلام البشر.
٨
ـ الحب والكره ، والخوف والرجاء
: يتدخل العامل النفسي فحب البحث العلمي جعل الكثيرين يحفظون المعلومات الكثيرة ،
والخوف من الرسوب جعل الطلاب يحفظون برنامج دراستهم!!
٩
ـ السلامة الجسمية : الجوع يحرم
الإنسان من تركيز فكره ، وبالتالي جودة الحفظ ، والاضطراب العام يحرم الانسان من
الانكباب على الحفظ ، وكذا المرض ، والضعف ، والوهن.
١٠
ـ سلامة الدماغ : ان الذاكرة تعتمد
بشكل رئيسي على سلامة الخلايا العصبية ، وكلما تأثرت خلايا الجملة العصبية بشيء ما
، سبب هذا اختلال الذاكرة ، كالعته والجنون ، والتهاب الدماغ ، والضعف العقلي ،
وتنكس الخلايا العصبية.
١١
ـ السن : في الطفولة تنطبع أحداث كثيرة ،
وتترقى الذاكرة
حق تصبح أشد ما يكون
في السن ما بين ٢٠ ـ ٣٠ وتبقى كما هي حتى سن متأخرة ما لم يحدث الخرف العقلي ..
١٢
ـ الوقت : الصباح قبل طلوع
الشمس وقبل الغروب : أوقات اعتدال للحفظ والمذاكرة ، والربيع فصل طيب للمذاكرة ،
وهدوء الليل وقت جميل للتأمل وهكذا ( فسبح بحمد ربك قبل
طلوع الشمس وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ) سورة طه.
وهكذا نكون قد انتهينا من أبحاث الجملة
العصبية المركزية بعد أن ألقينا قليلاً من الضوء على بعض أسرارها المحيرة ، والله
المستعان في بحث الامور القادمة.
حول بعض الحواس
يقول الخلاق العليم [ ويوم يحشر أعداء الله
إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما
كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء
وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا
أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون. وذلكم ظنكم
الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ]
سورة فصلت.
نصت الآيات السابقة على ثلاث حواس عظيمة
ستقوم بدور الشاهد في المحكمة وذلك حين يعرض الإنسان للحساب بين يدي رب العالمين ،
ونظراً لعظمة تركيب هذه الحواس ذكرها الله تعالى فلنحاول أن نتبين أسرار هذه
الحواس :
ـ
حاسة السمع ـ
تعتبر حاسة السمع معقدة جداً ،
والمعلومات الموجودة بين أيدينا الآن تتناول شروحاً خفيفة في كيفية انتقال الصوت
لا أكثر ، وأما كيف يحصل فهم الكلمات التي تسمع؟ وكيف يحصل تمييز الأصوات العديدة
جداً عن
بعضها البعض؟ وأين
تقع خزائن الذاكرة الذاكرة للمسموعات؟ إلى جانب أسئلة كثيرة لا تجد جواباً عليها.
ولا أزال أذكر أحد اساتذة الطب وهو يشرح لنا كيف يتم انتقال الصوت وحصول السمع ،
قال : إننا نعرف كيف يتم هذا الأمر ، أما كيف تدركه الخلايا العصبية وتفهمة فلا
نتدخل نحن في هذا البحث ، وهكذا يخونهم ذهنهم العلمي عندما يريدون بحث الأمور
المعقدة التي يجب أن تطرق ولا يتهرب منها!!.
الاذن الخارجية والوسطى
ـ ١ ـ
يقسم الأطباء الأذن إلى ثلاثة أقسام من
باب التبسيط ، وهي : الاذن الخارجية ، والوسطى ، والداخلية أو الباطنة وهي أخطر
الأقسام الثلاثة ، وأشدها حيوية وأهمية ، فأما الأذن الخارجية فهي صيوان الأذن
الخارجي مع الممر الذي يوصل إلى غشاء الطبل. وأما الأذن الوسطى ففيها ثلاث عظيمات
تشبه أدوات الحداد ( المطرقة والسندان ) وركابة السرج ( الركابة ) وعضلتان (
المطرقة والركابة ) ، ويوجد نفق يوصل ما بين الأذن الوسطى والبلعوم في الفم هو
نفير ( اوستاش ) ، والأذن الباطنة فيها ما يشبه الحلزون ( القوقعة ) ، وثلاثة
إطارات غير كاملة ( الأقنية نصف الدائرية أو الأقنية الهلالية ) وهذه الأقسام
متصلة ببعضها ومتداخلة بحيث يتوه الذي يبحث فيها ولذلك سميت بالتيه!! وفي داخل هذه
الأقنية العظمية ، أقنية عشائية تشبه الكيس ( الكييس ) ، أو القربة التي تمتلىء
بالماء ( القريبة ) ، وداخل الحلزون الذي يدور دورتين ونصف يوجد عضو كورتي ، وهذا
النفق الدوار أشبه ما يكون بتلك الدهاليز التي يدور فيها المرء ويشعر أنه في متاهة
فهي تقسم إلى ثلاثة أنفاق تمشي سوية في الحقيقة.
ـ ٢ ـ
تعتبر الأذن الباطنة المستقبل للأصوات ،
والأذن الوسطى والخارجية الجهاز الناقل للاصوات ، وأما كيف يتم الإيصال والاستقبال
، فقد كشف الطب اللثام عن أسراره .. يعتبر انتقال الصوت نتيجة اهتزاز جزيئات
المادة ، ولذا فإن الصوت لا ينتقل ما لم يكن هناك وسط مادي ( هواء ، سائل ، غازات
، أجسام صلبة ) ، الصوت له سرعة معينة ثابتة هي [٣٤٠] متر في الثانية الواحدة ،
ولذا فإن تفريغ وعاء مغلق من الهواء يضعف من انتقال الصوت ، وإعادة ملئه بالهواء
يعيد قوة الصوت وسماعه مرة أخرى ، ويختلف حسب اختلاف كثافة المادة فهو في الماء
أسرع من الهواء ، حيث تبلغ سرعته [ ١٤٣٥ متر في الثانية ] في الدرجة ٨ أي أكبر من
سرعة انتقال الصوت في الهواء بأربع مرات ، وهذا الرقم يتضخم أكثر في الانتقال في
الأوساط الصلبة ، فوضع الاذن على سكة القطار يجعلنا نسمع صوت قدومه من بعد عدة
كيلومترات .
ونظراً لأن نقل الصوت يعتمد على الأذن
الخارجية ، والأذن الوسطى ، ولذلك فإن تصميم هذا الجهاز يجب أن يتناسق بمنتهى
الدقة مع خاصية النقل ، ولذلك فإننا نرى الاذن الخارجية تتألف من مادة غضروفية وهي
من ناحية المتانة وسط ما بين اللحم والعظم ، وفيها تعاريج والتواءات لجمع الصوت ،
فهي كالصيوان المستقبل ، ومن الصيوان ينتقل الصوت عبر ممر يبلغ طوله ٥ و ٢ سم ،
ومقوس إلى الاسفل ، حيث ينتهي بغشاء مرن جداً
__________________
هو غشاء الطبل هذا
المجرى ينقل الصوت بأمانة كما يحتوي على الشعر في القسم الأمامي لاصطياد ذرات
الغبار ، وغدد صملاخية تفرز مادة الصملاخ لتقوم بنفس الدرر.
إن انحناء المجرى مهم في موضوع الحماية
إذا دخل فيه شيء لأن الطريق المستقيم سهل ، أما المتعرج فانه يجعل الإصابة لا تأتي
مباشرة على غشاء الطبل ، وبالتالي الأذن الوسطى وعيمات السمع. كما أن نفس تكوين
الأذن من الخارج مصممة بشكل يحمي فوهة المجرى ، فهناك قطعة لحمية صغيرة تظلل فوهة
المجرى وهي ما تسمى بالحنطة ومقابلها على صيوان الاذن توجد قطعة أخرى لحماية تسمى
بمقابل الحنطة ، وهكذا تتوفر حماية المدخل بالتعرج والشعر والغدد الصملاخية والقطع
اللحمية في فوهة المجرى ...
إن اهتزاز غشاء الطبل يعني هز عظيمات
السمع الثلاث لأن كل عظم متعلق بالآخر ومتمفصل معه بشكل فني ، والعظم الأول الذي
يتصل بغشاء الطبل هو عظم المطرقة ، والعظم الذي يتصل بالأذن الباطنة هو عظم
الركابة ، وبينهما عظم السندان ، ومجموع العظيمات الثلاث تبلغ في وزنها (٥٥)
ملغرام فقط ، ولذا فهي خفيفة وتتجاوب مع الاهتزاز ، وأما التمفصل بين العظيمات فهو
في منتهى الروعة لأن أدنى صوت ، أو حفيف أو قرقعة ، أو همس ، أو كلمة معناه اهتزاز
غشاء الطبل واهتزاز العظيمات التي تنقل الاهتزاز بدورها إلى الأذن الباطنة.
والعجيب أن أوساط الأذن تناسب نقل الصوت
تماماً وهي الهواء في المجرى ، والأجسام الصلبة في الأذن الوسطى المتمثلة بعظيمات
السمع ، والأجسام الصلبة والسوائل في داخل الأذن الباطنة المتمثلة في الرمال
السمعية ، والبلغم الداخلي والخارجي ، تقوم عظيمات السمع بتسريع مرور
الصوت إلى الأذن
الباطنه ، كما أنها تضخم الصوت أيضاً ، فسطح غشاء الطبل يبلغ (٢٠) ضعفاً لسطح
قاعدة عظم الركابة ، ولقد وجد أن الصوت يزداد عشرة أضعاف حينما يصل إلى قاعدة
الركابة ، واهتزاز عظم الركابة يمثل أعجب مفصل يمكن تصوره فهو يمكن أن يهتز بشكل
مختلف من حين لآخر ، خاصة إذا قارنا هذا المفصل بمفصل الركبة مثلاً الذي يتحرك
باتجاه واحد ، لا أكثر مع شيء من التدوير ، ولكن المفصل هنا يتحرك وفقاً للصوت أو
الاهتزاز الذي يصل إليه من غشاء الطبل ، وقاعدة عظم الركابة تستند إلى نافذة بيضية
الشكل ، مستورة بغشاء ، وعندما تهتز قاعدة عظم الركابة فانها تهز معها هذا الغشاء
، وهذا بدوره يخض اللنف الداخلي المحيطي بشكل يتواق مع طبيعة لحن الصوت وشدته ،
ولكن ماذا يحدث فيما إذا كانت الأصوات القادمة شديدة؟ لقد وجد أن هذا العظم الصغير
يحور اتجاه تمفصله بحيث يبقى محافظاً على نقل الصوت إلى الأذن الباطنة على شكل
يقيها من الأذى إلى حد ما ، وأما العضلتان ، أي عضلة المطرقة وعضلة الركابة ، فإن
الأولى تسعي لإدخال عظم الركابة اكثر إلى داخل النافذة البيضية ، وعضلة الركابة
تفعل بالعكس ، وهكذا يحدث الاتزان بتقلص العضلتين معاً. وحسب الحالة والصوت يشتد
تقلص إحداهما على الأخرى ، وإذا اشتد الصوت أكثر فإن كلاً من العضلتين يخفف من حدة
التأثير على الأذن الباطنة ... بقي علينا أن نعرف في الأذن الوسطى عمل نفير أوستاش
، فهذا النفق الذي يمتد ما بين البلعوم في عمق الفم وما بين الأذن الوسطى ، يقوم
بتعديل الضغط بين داخل الأذن الوسطى وخارجها ، خاصة وغشاء الطبل يسد الفوهة سداً
محكماً ، ولعلنا نشعر بدور هذا النفير في الرشح والتعرض للبرد ، وأحياناً أثناء
ركوب السيارة والسير لمدة طويلة ، فاننا نشعر أن السمع تناقص عندنا ، وبشيء من
الألم الخفيف
ولكن ما أن تحدث
عملية البلع أو التثاؤب حتى نشعر كأن الأذن قد فتحت وبدأنا نسمع بشكل طبيعي ، إن
السبب في هذا يرجع إلى أن عملية البلع تقلص عضلة خاصة تفتح بواسطتها فوهة النفير
ويدخل الهواء ويتعادل الضغط ويرجع كل شيء إلى مجراه ، وإذا لم يتم هذا الأمر فقد
يؤدي أحياناً إلى تمزق غشاء الطبل ، والنفير ايضاً يصرف المخاط والسوائل التي قد
تتجمع في الأذن الوسطى إلى البلعوم ، كما يمثل فتحة جيدة لإتقان السمع كما في
الآلة الموسيقية ، فالصوت يجود بواسطة الثقوب الموجودة فيها ، ولعل هذا أيضاً هو
السر في أن الذين يرمون بالمدافع يبقون أفواههم مفتوحة أثناء انطلاق القذيفة ،
وحصول الصوت المرتفع ، حيث يتأمن اتزان الضغط إلى حد ما بين خارج الأذن الوسطى
وداخلها!! فيا أيها القارىء تأمل وانظر ، ألا يسوقك هذا إلى المزيد من معرفة الله
، والمزيد من الالتجاء اليه (
ففروا إلى
الله إنني لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إنني لكم منه نذير
مبين )
سورة الذاريات.
ـ ٣ ـ
إن الصوت يمثل حركة اهتزازية كما مر في
الأوساط المادية ، وهذا الاهتزاز يتراوح بدرجات مختلفة ، والأذن الطبيعية تسمع
الصوت فيما إذا كان مقدار اهتزاز الصوت يتراوح ما بين ( ١٦ ـ ٢٠٠٠٠ ) هزة في
الثانية ، وإذا زاد الصوت عن هذا المقدار لم تعد تسمع شيئاً ، ولكن يحدث شعور مزعج
غامض قد يصل إلى درجة إيذاء الأذن ، حتى إن هذه الطريقة تستعمل في مثل السمك حيث يرفع
التواتر إلى درجة كبيرة كذلك فإن الأذن تسمع هذه الاهتزازات ولكن على شرط أن تكون
شدتها معتدلة ، ولقد قدرت هذه للاذن الطبيعية في حدود (١٢٠) ديسبل
ـ واحدة من وحدات
الشدة السمعية الصوتية ـ وتبلغ حساسية الأذن لسماع الأصوات درجة كبيرة بحيث أنها
تفرق ما بين صوتين فيما إذا زاد أو نقص عدد التواترات ثلاثة فقط ، وهكذا يمكن
للأذن فيما إذا بقيت الشدة ثابتة أن تميز ما بين (١٥٠٠) لحن مختلف ، وأن تعرف
وتميز فيما إذا بقي اللحن أو عدد الاهتزازات ثابتاً ما بين (٣٢٥) صوتاً مختلفاً في
الشدة ، أو أن تميز ما بين (٣٤) الف لحن مختلف في الشدة والتواتر أو الاهتزاز ،
وهو رقم مدهش فعلاً ، وهكذا يميز الانسان ما بين صوت الرجل والمرأة ، والطفل ، حيث
يكون صوت الرجل غليظاً ، وأما صوت المرأة والطفل فهو حاد ، كما يميز ما بين صوت
امرأة وامرأة ، وصوت طفل وطفل ، فيما إذا تغير لحن الصوت قليلاً ، بل حتى ليقال إن
كل إنسان في هذا الوجود له صوته الخاص به ، وإن المتأمل ليأخذه العجب في قدرة
الأذن على التقاط كافة الأصوات والتمييز ما بين صوت الإنسان وتغريد البلابل ،
وحفيف الاشجار ، وخرير المياه ، وزقزقة العصافير ، وخوار البقر ، وثغاء الغنام ،
ونهيق الحمير!! ، وصلصلة السلاح ، وفرقعه المدافع ، وفرقعة الباب ، وصرير الاقلام.
وبواسطة السمع بصغي الطبيب إلى أصوات
القلب ، والتنفس ويعرف المرض الذي ينتاب القلب ، فهذا الصوت هو امتداد دقة القلب ،
أو تضاعف دقاب القلب ، أو أصوات كالنفخ وهي علامة تدل غالباً على المرض ، والصدر
في الخراخر فهي إما كصوت فقاعاب الارجيلة ، أو حتى غطيط النماء ( الخراخر الفطاطة
) ، أو مثل الصفير أو مثل الصوت القادم من كهف أو الداخل في جرة ، أو صوتاً
كالوزيز وهكذا ...
وبواسطة السمع يتفاهم البشر على بعضهم
ماذا يريدون وهكذا يفهم الولد ماذا يقول أبواه تدريجياً ويتعلم النطق ولولا النطق
لكان حال الانسان كالبهيمة
العجماء ، بل حتى
البهيمة لها لغتها الخاصة في التفاهم
: وهكذا يتعلم الإنسان النطق ويرتقي في سلم المعرفة ويتفاهم البشر ، وتتفرع اللغات
وتتباين اللهجات وتتنوع الشعوب.
الاذن الباطنة :
ـ ٤ ـ
قبل أن ندخل إلى الاذن الباطنة ، هناك
بعض الأفكار الرئيسية في البحث : فالاذن الباطنة لها اختصاصان : الأول للسمع ،
والثاني للتوازن ، وهي مكونة من دهاليز وممرات معقدة ، ولذا سميت بالتية.
يتكوّن جدار الاذن الباطنة الذي يشرف
على الاذن الوسطى من نافذتين علوية هي النافذة البيضية وسفلية هي النافذة المدورة
، ونتساءل ماذا تفعل كل من النافذتين؟ إن هاتين النافذتين تتصلان بعالم داخلي خاص
، ولنحاول الآن أن نعبر النافذة البيضية مع هزات الصوت إلى الداخل لنتعرف إلى
العناصر الخفية التي تختبيء داخل هذه الصخرة .
قاعة واسعة يسبح فيها سائل هو البلغم المحيطي ، لنتجه إلى اليمين فماذا سنرى ،
إننا كالغواصين الذين يبحثون في آثار سفينة غرقي في قاع البحر وقد دخلوا إلى غرفها
الداخلية ، أو كأننا في قاع البحر ندخل بعض الكهوف الصخرية السحرية ، إن الشيء
الذي يواجهنا في اليمين هو
الحلزون وهو نفق
يدور دورتين ونصف ، لنحاول دخول النفق فماذا سنرى؟ إن هذا النفق ليس مدوراً كما
كنا نتوقع ولكنه مقسوم بصفيحة من وسطه ، وهكذا فإن فيه طابقاً علوياً وطابقاً
سفليا ، لنحاول دخول الطابق العلوي بعد أن عبرنا منطقة الدهليز ، إن النفق مظلم
ونحن نتحسس الجدران حتى لا نصطدم بشيء لا نعرفه ، وبينما نحن نتحسس هذا الطابق
الدوار ، إذا بنا نصطدم في الايمن بحاجز يرتفع بشكل مائل إلى الاعلى حتى يصل إلى
جدار هذا النفق ، ما هذا الجدار؟ انه غشاء ( رايسنر ) وما باله؟ لا تتعجل ان هذا
الغشاء يقسم أيضاً الطابق العلوي الى قسمين : قسم مثلث في الايمن حيث توجد قناة
خاصة تحتوي على عضو مهم هو عضو كورتي ، والقسم الباقي من الطابق العلوي ويسمى
بالزاحف الدهليزي لانه يزحف من الدهليز الى قمة الحلزون ، وأما الطابق السفلي
فيسمى بالزاحف الطبلي ، لانه يزحف إلى النافذه المدوره التي تتصل بالاذن الوسطى
وبالتالي غشاء الطبل. إن الزاحف الدهليزي العلوي والزاحف الطبلي السفلي يجتويان
اللنف الخارجي ويتصلان ببعضهما في القمة ، وهكذا فاننا ندور في الحلزون بعد أن
دخلنا الزاحف الدهليزي العلوي لنصل إلى قمة الحلزون. ولندخل الطابق السفلي وهكذا
نمر في أسفل المكان الذي كنا نمر فيه قبل قليل ، واننا لننظر الى سقف الطابق
السفلي ونسمع قرع الأصوات في الطابق الذي يعلونا ، إن كلا من الطابقين يشكل نصف
دائرة حيث يكون سقف الطابق السفلي هو أرض الطابق العلوي ، وهكذا يتصل كل من
الطابقين ببعضهما ولكن إلى اين سنصل في هذه الجولة الدوارة ، إننا نكاد نشعر
بالدوار ونحن نفتل في هذا النفق السحري واذا بنا نصل مرة أخرى الى الجدار الذي
بدأنا في الدخول منه وهو الجدار المشرف على الاذن الوسطى ، ولكننا في هذه المرة
نصل إلى النافذة المدورة ، وهكذا فاننا بدأننا الرحلة من النافذة البيضية ووصلنا
في ختامها الى النافذة المدورة. لنعود من جديد إلى
الدهليز الذي دخلنا
منه حتى نصل في طريقنا إلى قمة الحلزون وهاك ندخل الطابق العلوي مرة أخرى ، ان
المنطقة المثلثية اليمنى تحتوي عضواً حساساً جداً ، هو عضو كورتي ، لنحاول أن
نقترب من غشاء رايسنر ولنضغطه قليلاً ، انه لين جداً ، ولكن ماذا حدث يا ترى بعد أ
، ضغطنا هذا الغشاء بمثل هذا الهدوء ، إنه يحتوي بلغماً ( سائل لنفاوي ) داخلياً ،
وهو إذا تحرك فإنه يؤثر على رمال موضوعة على بساط خاص ومن هذا البساط تبرز أهداب
صغيره وكأنها الحشائش الجميلة ، أيها القارىء لا تتصور أنني اكتب لك موضوعاً
إنشائياً ، أو أنني أصف ما يدور في الخيال ، لان هذا الشيء الذي أقدمه هو أيضاً
أقل مما هو عليه جهاز السمع المعقد السحري ، ولكأننا في قاع نهر جميل أو قاع بحيرة
جميلة حيث تنبت الاعشاب بين الرمال الصغيره ، إن هذه الرمال هي الرمال السمعية وعند
اضطراب السائل الداخلي تتحرك الرمال والاهداب المتصلة من تحت البساط بخلايا خاصة
بالسمع وهي متوضعة بكيفية خاصة بحيث تشكل من اجتماعها نفقا صغيراً يسمى بنفق كورتي!
لنحبس أنفاسنا قليلاً فنحن الآن في عالم عجيب : أنفاق ضمن أنفاق ، وسراديب داخل
سراديب ، ودهاليز في دهاليز!! إن هذا العضو المسمى بعضو كورتي يضم ما يقرب ( ٠٠٠ ,١٠٠ ) خلية سمعية ،
حيث تتصل بالخلايا ومن بين العظم الكثيف الياف عصبية في منتهى الرقة وتجتمع لتشكل
العصب السمعي الذي يصل إلى عقدة سكارباً ثم الحدبة الحلقية ثم الفص الصدغي من فصوص
الدماغ لان اختصاص هذا الفص هو السمع ، ولنرتاح قليلاً من هذا التيه!! حتى نتابع
رحلة الاستطلاع ..
إن كيفية السمع حتى الآن غامضة لم تعرف
منها إلا الأُمور السطحية البسيطة ولكنها على قلتها وبساطتها دليل إيماني مهم على
أن القرآن هو كتاب الله المقروء ، كما أن الكون بكل قطاعاته الأحياء والموات
والانسان كتاب الله المنظور ، وان كل صغيرة وكبيرة في بناء التركيب الانساني هو
آية ودليل تقرب الانسان من الخالق العظيم.
لقد وجد الأطباء أن اهتزاز البلغم
المحيطي الذي يسبح في الزاحف الدهليزي والزاحف الطبلي يؤثر على القناة الملعقية
التي تحوي عضو كورتي وهي تحوي البلغم الداخلي ، وهذه القناة مغلقة من نهايتيها
وتتصل بقناة بعضو التوازن أي القريبة والكييس ، واهتزاز البلغم الداخلي يؤثر على
أهداب الخلايا والرمال السمعية التي ذكرناها وهذه بالتالي تنقل عبر ألياف العصب
السمعي بشكل سيالة عصبية ونبضات كهربية إلى الفص الصدغي حث تفهم على أتم وجه ،
ولقد وجد أن هذا العضو حساس تجاه كافة أنواع الأصوات ، وكل قسم منه خاص بنوع خاص
من الأصوات ، فالأصوات الغليظة تتمركز مناطق استقبالها في قمة الحلزون ، والأصوات
الحادة في القاعدة ، ونتساءل كيف يتم تمييز هذه الآلات المؤلفة من المزيج العجيب
الغريب من الأصوات؟ وكيف تفهم في الفصوص الدماغية؟ وكيف تميز الأذن بين القول
الهادىء والشديد؟ وبين النثر والشعر؟ وبين الكلام العادي والنغم الموسيقي؟ وحتى
النغم الموسيقي له أنواعه المختلفة المتباينة والتي يتفنن أصحاب الموسيقي في
إظهارها للبشر إلى درجة الإزعاج الشديد.
ـ ٥ ـ
التوازن
: ذكرنا أن الأذن تختص بالسمع وتختص
بالتوازن ، وجهاز التوازن في الأذن مكوّن من أقنية ثلاثة ، وزقين يشبهان في
شكليهما
القربة والكيس ولذا
سميا بالقريبه والكييس ، أما الأقنية الثلاثة فهي تمثل أبعاد الفراغ الثلاثة ، أي
من الأمام إلى الخلف ، ومن اليمين إلى الشمال ، ومن الأعلى إلى الأسفل ، وبهذه
الكيفية يتوازن الرأس والأعضاء في الفراغ ، ويبدو أن القريبة والكييس لهما اختصاص
في توازن بقية الأعضاء ... ولقد وجد أن تخريب إحدى الأقنية يحدث رأرأة في العين
على مستوى القناة المخربة ، فإذا خربت القناة الأفقية حدثت رأرأة افقية في العين ،
وهكذا تتصل بهذه الأعضاء ألياف العصب الدهليزي الذي ينقل حس الأوضاع ووضعية الرأس
إلى المخيخ حيث يتم التوازن بالاشتراك ما بين الدهليز والمخيخ والحبال الخلفية من
النخاع الشوكي التي تنقل الحس العميق ، بالإضافة إلى البصر الذي يقدر الوضع
والمسافات والعظام والمفاصل والعضلات التي تتلقى الأوامر اللازمة حتى تحدث الشد
المناسب ، وهكذا يتوازن الانسان ، ولذلك لا عجب إذا قلنا أن أبسط العمليات الجسمية
مثل الوقوف ، أو المشي ، أو الجلوس ، أو الركض ، أو التسلق ، أو الكتابة ، أو
القيادة ، أو الاعمال المعقدة تعتبر حركات بهلوانية من أعلى المستويات.
ـ
حاسة البصر ـ
يعتبر البصر مع السمع الجهاز المميز عند
الإنسان ، والنوافذ التي يطل منها على العالم الخارجي ويتلقى منها المدركات ويكيف
وجوده حسب الاخبار التي تصل إليه من العالم الخارجي ، ولذا ورد ذكر هاتين الحاستين
في القرآن أكثر من غيرهما : ( إن السمع والبصر
والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً )
، وفي الحقيقة : إن تعلم النطق يتم عن طريق السمع بالدرجة الاولى ، وإذا ولد
الإنسان وهو أصم ، فإنه يصعب عليه الانسجام مع المحيط الخارجي أو التفاهم معه
ويحدث لديه قصور عقلي شديد ،
بمعنى أن هذا الجهاز
هو الذي ينمي مدركات الإنسان وذهنه ووعيه ، وأما الكتابة فإنها تحصل عن طريق البصر
بالدرجة الاولى ، ومن هاتين الحاستين يصعد الانسان في الوعي والإدراك ( ن ، والقلم وما يسطرون
) ( الرحمن ، علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه
البيان )
، بل إن الآيات الأولى التي نزلت في القرآن الكريم : (
اقرأ باسم
ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم. علّم
الإنسان ما لم يعلم ) وصدق الله العظيم ، فقد تعلم الانسان
بالقلم أشياء لا يمكن تصورها. ولكن نود أن نلفت نظرك أيها القارىء إلى أن السمع
يأتي من ناحية الاهمية قبل البصر ، فالكثير من الذين حرموا نعمة البصر ـ حتى وهم
صغار ـ يتعلمون ويبلغون درجة راقية من الفهم والإدراك والعلم ، وأبو العلاء المعري
مثل واضح لهذه الفكرة ، فقد ولد سليم السمع والبصر ولكنه فقد بصره في سنوات عمره
الأولى ولم يمنعه ذلك من تلقي العلوم والمعارف ووصوله إلى درجة عظيمة من النبوغ ،
وكتابة الشعر ، وبقي علماً في الشهرة حتى يومنا هذا. ولكننا لم نسمع بأن الإنسان
الذي يولد وهو أصم يمكن أن يرتقي في سلم المعرفة ويصبح عالماً مشهوراً ، لأن الفهم
والنطق يتعلقان إلى درجة كبيرة على ما يبدو بالسمع وحتى ليقال ان الذي يفقد سمعه
قبل النطق لا ينطق وهي حقيقة علمية ، ان هذه الفكرة تلقي ضوءاً خاشعاً على الآيات
القرآنية التي تقدم السمع دوماً على البصر ... ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً
وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون
) سورة النحل
، ( ثم سواه ونفخ فيه من
روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلاً ما تشكرون
) سورة السجدة
، ( وهو الذي أنشأ لكم
السمع والابصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون
).
حتى يمكن اعتبار هذا قاعدة مطردة في
الآيات القرآنية ، وما أعجبها
من قاعدة تجعل الذي
يعثر على هذه الاسرار يزداد إيماناً : ( ليستيقن الذين أوتوا
الكتاب وليزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) يقين ، وزيادة ايمان ، وعدم ارتياب.
ـ ١ ـ
النور
والتمييز :
كما أن السمع يتم بواسطة الصوت ، كذلك
فإن الإبصار يتم بواسطة النور ، ولا رؤية بدون شعاع ضوئي ، ولقد احتار العلماء في
معرفة ماهية النور لانه ينتقل ولو لم يكن هناك وسط مادي ، فإذا قمنا بتجربة الصوت
وهي احضار حوجلة ثم محاولة تفريغها من الهواء ووضع جرس كهربائي رنان داخلها فان
الصوت يضعف تدريجياً مع نقص الهواء ، أما النور فلا يتأثر البتة فما هي طبيعته يا
ترى؟ .. درست طبيعة النور وخواصه فوجد أنه ينتشر بسرعة جبارة تبلغ (٣٠٠٠٠٠)
ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة ، أي أنه يقطع المسافة ما بين الشمس
والارض والتي تبلغ (٩٣) مليون ميل في حوالي ثمانية دقائق وسطياً ، كما أن من جملة
خواصه أنه ينكسر في الاوساط الشفافة وله قانون خاص في موضوع الانكسار ، وأما
طبيعته فقالوا فيها أقوال منها انه فوتونات طاقة!!
ينطلق الشعاع الضوئي من الجسم إلى العين
ويخترق سلسلة أوساط سفافة كاسرة للنور حتى يقع على منطقة حساسة في العين هي منطقة
الشبكية وفيها العناصر الحساسة للنور حيث تتأثر منها وينتقل هذا التأثير بشكل
سيالة عصبية عبر ألياف العصب البصري إلى السرير البصري ومن السرير تصدر ألياف
عصبية تشبه الاشعة إلى الفص القفوي حيث يعتبر مركز الرؤية العام في الدماغ وهو
مضاعف في فصي الدماغ.
ـ ٢ ـ
بواسطة العين وما تتلقى من نور يمكن
للإنسان أن يتعرف على المحيط الخارجي تماماً ، ويشترط أن تكون الرؤيا بالعينين حتى
تكون الرؤيا مجسمة كأوضح ما تكون ، وبواسطة العين يتعرف الإنسان على الاشياء من
ناحية شكلها هل هي مدورة أو مربعة أو مستطيلة أو كروية أو مسطحة ، كما يعرف
الالوان لأن اللون الأبيض العادي هو خليط من اللون الأخضر والأحم والبنفسجي ،
وبقية الألوان تشتق من هذه الالوان الثلاثة
كما يتعرف على أبعاد الشكل الذي يراه وتناسب أبعاده مع بعضها البعض ، وعن طريق
البصر تقدر المسافات بمنتهى الدقة ، فالسائق من خلال الرؤية يقدر تماماً المسافة
التي تفصل ما بين سيارته والسيارة التي أمامه ، والذي يمشي يقدر المسافات التي
تحيط به تماماً ويتجنب البشر الآخرين فلا يصطدم بهم ، كما لا يصطدم بالاشياء التي
تكون في طريقه كما يقدر الإنسان بواسطه البصر البعد بين شيئين يقع نظره عليهما ،
وهكذا يميز بين الاشياء ، كما يقدر الإنسان ببصره درجة الاضاءة للمرئيات عامة ...
كما يعد البصر الجهاز الذي بواسطته يقرأ الانسان فيفهم ما يقرأ ، ويبصر المنظر
فيفهم ما يبصر ، وهكذا فإن جهاز البصر مع السمع يعتبران جهاز التمييز عند الانسان.
( قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم من إله
غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ) سورة الانعام. وبواسطة البصر يتزن
الأنسان في حركاته كما يتزن ببصيرته على المستوى الفكري النفسي.
__________________
ـ ٣ ـ
كرة
العين :
تعتبر كرة العين التي تزن ثمانية غرامات
من أروع غرف التصوير الفنية ، فهي غرفة مظلمة مغلفة بثلاثة جدران هي من الظاهر إلى
الباطن : الصلبة وهي التي تعطي اللون الأبيض للعين ، والمشيمية وهي التي تروي
بعروقها العين ، والشبكية في الداخل وهي التي تحمل العناصر الحسّاسة والمستقبلة
للضوء وهي المخاريط والعصيات. وفي المقدمة توجد بللورة رقيقة هي القرنية تدخل
النور القادم إلى العين ، ثم يجتاز النور بعد القرنية سائلاً كاسراً للنور هو
الخلط المائي الذي يقع ما بين القرنية والقزحية ، والقزحية هذه هي التي تعطي
العينين لونهما المعهود وتفتح في مركزها بثقبة واحدة خاصة لاستقبال النور كعدسة
المصور وهي الحدقة ، وإذا دخل النور الحدقة واجه بللورة من نوع جديد هي الجسم
البللوري ، وهي أعجب بللورة موجودة في الوجود لأنها تتمدد وتتقلص بحيث تختلف وجوه
تحدبها إلى درجة كبيرة ، وبالتالي تتطابق العين مع المناظر التي تقع امامها ، فإذا
كانت المسافة المرئية قريبة تمددت وتقلصت بما يناسب الحالة والعكس بالعكس فهي
البللورة الحركية العاقلة ، وبعد الجسم البللوري يدخل النور خلطاً جديداً سفافاً
كاسراً للنور هو الخلط الزجاجي فإذا انتهى النور من عبوره وصل إلى الشبكية حيث
تستقبله العصيات والمخاريط وتنقله بشكل سيالة عصبية إلى الفص القفوي.
ـ ٤ ـ
جهاز
الوقاية :
يعتبر جهاز الوقاية في العين من الأجهزة
الجميلة الرائعة ، فالعين أولاً
موجودة في منطقة من
الوجه منخفضة ، يحيط بها ثلاث تلال مرتفعة ، فمن الأعلى الحاجب والبروز العظمي
الجبهي وكأنه السقف المظلل ، وبهذه الطريقة تحمى العين من الضربات ، والأشعة ،
والعرق. ومن الاسفل ارتفاع الوجنة ، ومن الجانب الثالث الهرم الأنفي. وبالاضافة
إلى هذا فإن كرة العين موجودة في تجويف محتفر في عظم الجمجمة وهو ما يسمى بالوقب ،
ولا توضع العين مباشرة بين جدران هذا التجويف بل يهيأ المكان بالوسائد والطنافس ،
وهكذا يجب أن يعامل الضيف العزيز ، وتأتي كرة العين لتستقر بين هذه الوسائد
الشحمية!! وإذا ما اختلت سماكة هذه الوسائد بالزيادة كما يحدث في بعض الأمراض جحظت
العين إلى الخارج ، وهو ما يحدث عندما يزداد نشاط الغدة الدرقية في مرض بازدو.
وهذه الحماية من الخارج فإذا وصلنا إلى
العين بالذات وجدنا وسائل الحماية الذاتية ، فالعين مغطاة بجفنين يفتحان ويغلقان
بمنتهى السرعة حتى ليضرب فيهما المثل فيقال ( طرفة عين ) ، فإذا اتصل الجفنان من
الأمام تداخلت الأهداب ، وهكذا تستر العين كأحسن ما يكون ، ثم تغلف العين من
الأمام والأجفان من الداخل بغشاء رقيق شفاف ساتر هو ما يعرف بملتحمة العين ، فإذا
استطاعت ذرات الغبار ، أو نسمات الريح الخفيف ، أو بعض الجراثيم المتسللة أن تصل
إلى العين كانت غدة الدمع لها بالمرصاد حيث تفرز مادة مطهرة تسمى بخميرة الليزوزيم
وفي داخل الأجفان تكمن الغدد وكأنها مراصد المراقبة ترطب العين ، وتطهرها ، وتحافظ
على رونق العين وبريقها. هذه الغدد المعروفة بغدد ميبوميوس وزايس ومول حيث تنفتح
الغدد الأولى بـ ٢٠ ـ ٣٠ فوهة من الطبقة الأولى من طبقات الجفن السبعة وهي ترقد
قريباً من أماكن نبت الأهداب ، وبهذا الجهاز الفني تحفظ العين من الصدمات واللكمات
،
وضوء الشمس والعرق
النازل من الجبهة ، والرياح ، والغبار والجراثيم ، والأجسام الغريبة.
أما العنصر الجمالي في العين فهذا بحث
مستقل بذاته لأن العين من العناصر الجمالية في وجه الانسان من حيث الكبر ،
والاستدارة ، وفتحة الجفن ، وشدة البياض ، ولون القزحية ، وطول الأهداب ، واستدارة
الحاجب ، ووضع الجبهة ، وتقطيعة الأنف ، ووضعية الوجنة ، واسوداد لون أشعار الحاجب
والأهداب ، مع تناسب غلظ الأشعار للرجل أو المرأة ، وعدم وجود العيوب ... الخ ..
ـ ٥ ـ
الدمع
:
إن غدة الدمع تفرز باستمرار فتطهر العين
، وترطبها ، وتعطيها بريقها الخاص ، ولكن أينالمصرف ، إن هناك طريقاً خاصاً يصرف
مفرز الدمع إلى الأنف ، فإذا زادت الكمية طفحت إلى الخارج كما يحدث في البكاء ( ترى
أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق )
سورة المائدة ... ونتساءل هنا ما علاقة التأثر والحشوع بالبكاء وإفراز هذه الغدة
الدمعية؟ إن النفس تحتاج إلى غسل وتطهير كأي عضو وما هذه الحالة إلا تطهيراً من
الذنوب كما يطهر الدمع كرة العين ، إن حالة الخشوع والتأثر هي حالة وجدانية
النفعالية نتيجة معرفة روعة التصميم ، ودقة البناء ، وعظمة القدرة ، حيث تخطط يد
الاراده الحكيمة ، وتحور ، وتنسق على كيفية مذهلة وينتقل هذا التأثير عبر أعصاب
معينة فتدعو هذه
الغدة إلى الفراز فتفرز الدمع الهتون ، حيث تصل النفس إلى مرحلة تعجز عن التعبير
فيعبر البكاء ، وهذه الحالة النفسية الوجدانية هي حال العارفين الصالحين العلماء
العاملين ( ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) سورة الاسراء. إن المنظر الجميل يهيج
الرؤية والصوت الجميل يهيج السمع ، والرائحة تهيج الشم ، والطعم اللذيذ يهيج غدد
اللعاب ، وكذلك المعنى الجميل فإنه يثير الخواطر ويفرز الجمع ...
ـ ٦ ـ
الاوساط الشفافة :
تمتاز العين باحتوائها على أوساط شفافة
كاسرة للنور ، مهمتها أن تجمع الحزم الضوئية حتى تلتقي في الشبكية تماماً وبذلك
تحصل الرؤية الواضحة ، واذا اختل هذا الشيء فوقع خيال الشيء المرئي أمام الشبكية
أو خلفها حدثت عيوب الرؤيا مثل الطمس والحسر وسواه ، ولنتأمل هذه الأوساط الشفافة
قليلاً ، ففي الأمام توجد القرينة وهي تشبه بللورة الساعة ، ومكونة من خمس طبقات ،
وفي الطبقة المتوسطة تجتمع صفيحات رقيقة تشبه البللور يصل عددها إلى خمسين صفيحة
منضدة فوق بعضها البعض ، وخلف القرينة يوجد سائل يفرز من منطقة تسمى البيت الخلفي
حيث يصل إلى البيت الأمامي المحدود من الأمام بالقرينة ومن الخلف بالقزحية التي
تعطي لون العين.
وإذا دخلنا إلى داخل العين من خلال ثقبة
القزحية وهي الحدقة ، فإننا سوف نصطدم بالجسم البللوري الذي يقف خلف الحدقة تماماً
،
__________________
ومن خلف القزحية
تمتد منطقة ما بين نهاية البللورة إلى زاوية القزحية الخلفية ، إن هذه المنطقة هي
منطقة البيت الخلفي التي تفرز سائلاً يشبه في تركيبه المصورة الدموية ، ويبلغ حجمه ( ١,٢٥ سم ٣ ) وهذا الخلط
يؤمن توازن العين فلا تنكمش كرة العين ، كما لا تنتفخ أكثر من اللازم فهو كالسائل
الذي يملأ البالونة ، ويمر هذا السائل من خلال حدقة العين إلى البيت الأمامي حيث
يفرغ بأقنية وأوردة صغيرة جداً يبلغ مقدارها (٣٠) قنية و (١٢) اثنا عشر وريد مائي
، وزيادة هذا السائل أو نقصه يؤثر بشكل واضح على كرة العين ، ومرض الزرق أو ما
يسميه عامة الناس ( الماء الاسود ) سببه هو ازدياد توتر هذا السائل في العين ،
وإذا لم يعالج قد يؤدي إلى العمى وفقد الرؤية. وهكذا يستتب التوازن في العين
بافراز هذا السائل وافراغه تماماً كما مر معنا في بحث افراز السائل الامينوسي عند
الجنين وامتصاصه ، أو السائل الدماغي الشوكي في الجملة العصبية ، وأما المنطقة ما
بين الجسم البللوري والشبكية فهي مملوءة بسائل ثابت هو الخلط الزجاجي.
التطابق
في الرؤية :
ولنقف الآن أمام ظاهرة من ظواهر العين
المتقنة بشكل عظيم ، وهي التطابق مع المسافات والتطابق مع النور ، وتشكيل الأخيلة
بشكل واضح على الشبكية ، إن الجسم البللوري مرن بشكل كبير فهو يزيد من تحدب وجهه
المشرف على الحدقة ، أو يمدده وينقص من تحدبه ، وكل هذا يتناسب مع النظر للاشياء
القريبة أو البعيدة ، فعندما تنظر ـ أيها القارىء ـ إلى بعد ٥ ـ ٦ أمتار فان العين
ترى الأشياء بدون جهد
__________________
كبير ، ولكن إذا
اقترب المنظر فكيف يمكن للعين أن تتابع الرؤية بشكل واضح؟ يقوم الجسم البللوري ،
بشكل آلي ، بزيادة تحدب وجهه على القدر المناسب مع المسافة المناسبة وهكذا يزداد
جمع الاشعة وبالتالي توضعها على الشبكية تماماً ، ورؤية الخيال بشكل واضح ، وحتى
لا تتأذى العين تشترك الحدقة في هذا الفعل أيضاً بشكل جميل فالقزحية تحتوي في
الأمام على خلايا تحتوي على الصباع بكمية كبيرة مما يعطي العين اللون المناسب وهو
متعلق بالوراثة ، ويحوي بعد ذلك طبقتين من الألياف العضلية. النوع الأول : عضلات
دائرية ، أي تحيط بالحدقة على شكل دوائر. والنوع الثاني : يصعد من الحدقة كالأشعة
، ولذا سميت بالعضلات الشعاعية ، والآن فما هو دور هذه العضلات الموزعة بهذا الشكل
الجميل وكأنه تخطيط جميل لزهرة في الربيع!!
إن العضلات الدائرية يسيطر عليها العصب
نظير الودي ، والعضلات الشعاعية يؤثر عليها العصب الودي ، وهذان العصبان متنافسان
دوماً في السابق على الجسم ، وكل منهما يعاكس عمل الآخر دوماً ، وكأنهما الشريكان
المتشاكسان المتفاهمان!! لأن التوازن ينشأ من شد وجذب كلا العصبين ، كما أن الجسم
البللوري يتمدد ويتحدب بشكل آلي حسب قربي الشيء المنظر وبعده ، فإن الحدقة تنقبض
وتتوسع حسب القرب والبعد وحسب درجة الإضاءة أيضاً لأن دخول كمية زائدة من النور
إلى العين معناه فساد جهاز التصوير في غرفة التصوير هذه ، وكل منا يعرف لماذا يحرص
المصور على بقاء الغرفة معتمة عند تحميض الصور لأن العين تلتقط الصورة وتحمضها
بنفس الوقت. فاذا كان الجسم قريباً فهو يرى ولو كانت فتحه الرؤيا صغيرة ولذا تضيق
الحدقة ، وإذا كان الجسم بعيداً احتاج الى رؤية واسعة ماسحة ولذا توسعت الحدقة ،
وأما كيف يتم ضيق الحدقة وتوسعها بواسطة العضلات فهذا يتم بواسطة العصب الودي
ونظير الودي اللذين
يسيطران على الألياف العضلية الشعاعية والدائرية ، فالودي يسيطر على العضلات
الشعاعية ، ولذا فان تقلص هذه العضلات يعني شد أطراف الدائرة الحدقية وبالتالي تتوسع
الحدقة ، وهذا يناسب فعل الودي لأن هذا العصب ينشط في الانفعال والهياج فزيادة قطر
الحدقة يعين على رؤية الأشياء أكثر وعلى خدمة الانسان وقدرته على التصرف أكثر في
هذه المواقف والازمات الحرجة ، ونظير الودي يفعل عكس ذلك لان اختصاصه بالراحة
والنوم والهدوء فهو يسيطر على العضلات الدائرية التي تقبض الحدقة وتنقص من قطرها ،
وفي الحالة الطبيعية تبقى فتحة الحدقة وسطاً بين توازن العصبين وخلف القزحية حيث
يكمن الجسم الهدبي تنطلق ألياف عضلية ثخانة الواحد منها (٢٢) ميكرون وعددها ما
يقرب من (١٤٠) ليف عضلي في كل جانب حيث تنتشر على الوجه الخلفي لمحفظة البللورة أو
الجسم البللوري ، وماذا تعمل هذه الالياف العضلية؟
إن تقلص هذه الالياف يعني شد البللورة
من الجانبين وبالتالي تمدد البللورة وقلة تحدب الوجه الامامي لها وهذا يعني نقص
قدرة التقريب
، وإذا ارتخت هذه الالياف رجعت البللورة فتحدب وجهها الامامي وبالتالي زادت قدرة
التقريب ، إن ما يحدث اثناء النظر للقريب يحدث على مستويين : الاول في الحدقة ،
والثاني في البللورة ، فأما الحدقة فتتقبض الالياف الدائرية وتصغر الحدقة بالتالي
، وأما الالياف المعلقة للبللورة فانها ترتخي ويزداد تحدب وجه البللورة ، ويزداد
التقريب تبعاً لذلك ، وهكذا
__________________
تتوافق كل من الحدقة
والبللورة مع الوضع ، كما تتوافق كل منهما مع الاخرى في الوضعية ، وأما في النور
الذي يعد منبهاً آلياً لعضلات الحدقة فتتقبض وتصغر حتى لا تدخل كمية كبيرة من
النور الى داخل العين وتؤذيها ، كما أنه لا حاجة لهذه الكمية الكبيرة حتى تتبين
العين مصدر النور ، وهذا المنعكس مهم في كشف أمراض العين ، مثل إصابات الدماغ ،
والنزوف الدماغية ، كما أن هناك علامة جميلة لكشف مرض افرنجي العصب الثالث وهي
بقاء حدقة العين بشكل نقطة صغيرة وعدم التفاعل مع النور أو القرب والبعد ، وهذه
العلامة هي علامة ( ارجايل روبرتسون ) وهي تشخص مرض الافرنجي الذي يصب العصب
المحرك المشترك ، أي أن هذا المرض أيضاً من بركات الزنى والحوادث الجنسية المشبوهة
التي تنقل هذا المرض!! وكأن تضييق الحدقة هذا بصمة الانحراف على عينيه ، أو هي ضيق
الرؤية أمام ناظرية علامة لضعف البصيرة!!. كما أن الموت يبطل فعاليات التوازن
جميعها فتتسع الحدقة ولا تستجيب للنور ( انما يستجيب الذين
يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم اليه يحشرون ) سورة الانعام. وهناك بعض الادوية التي
تفعل مثل العصب الودي ( الادرنالين ، نور ادرينالين ) فتوسع الحدقة وكذلك
الاتروبين ، وهناك مواد تفعل بالعكس أي تقلد العصب نظير الودي فتضيق مثل الاسيتل
كولين ، والازرين ، والبيلوكاربين ، أي ان سمة التوازن موجودة في الكون حتى على
مستوى المواد البسيطة.
ـ ٧ ـ
دور المخ في الرؤية :
ان تفاعل الحدقة السريع من النور ،
وانقباضها على قدر درجة الاضاءة ، يتعلق بمراكز انعكاسية موجودة في المناطق السفلى
من الدماغ ،
ولكن تقدير المسافات
والابعاد وفهم المرئيات ، يتعلق بقشر الدماغ حيث ترقد مراكز الوعي والادراك والفهم
والتحليل والذاكرة والابداع ، واصابة هذه المناطق تؤدي إلى العمي الروحي ، أي إن
الإنسان المصاب يرى الاشياء ولكن لا يفقهها ( وتراهم ينظرون اليك
وهم لا يبصرون ).
وهكذا نرى ان المخ يتدخل بشكل كبير في موضوع الرؤية ، وحتى فهم الالوان يبدو ان
الدماغ هو الذي يتدخل أيضاً في فهمها ، ولقد وجد ان تخريب بعض المناطق في الفصّ القفوي يعطى نتائج متباينة
فهناك مناطق للرؤية العادية ، وأخرى للفهم والإدراك ، وثالثة للألوان ، وهكذا ...
ـ ٨ ـ
كيف نرى الالوان :
والآن هناك قضية مازالت في قيد النظريات
والبحوث ، وليس هناك من حقيقة علمية ثابتة في هذا الموضوع ، وهي رؤية الألوان ،
حيث بحث فيه الكثير من العلماء وأعطوا آرائهم. ( يونغ ، هرنغ ، هيلموتز ) فكيف
تبصر العين الالوان؟
إن العين فيها إحساسان للرؤية : الاول ،
الإحساس عديم اللون ، والثاني : الاحساس اللوني ، وتمتاز العصيات بميزتين الاحساس
للرؤية الضعيفة
__________________
وللنور العادي ،
وتمتاز المخاريط بميزتين الرؤيا المركزة شديدة الإنارة وتمييز الالوان.
لا شك أنك لاحظت ـ أيها القارىء ـ أنك
إذا دخلت إلى الظلام فجأت بعد أن كنت في الضياء أنك لا ترى شيئاً البتة ، ثم تتوضح
لك الاشياء شيئاً فشيئاً ، إن هذا يعود إلى مطابقة العين من النور والظلام بواسطة
المخاريط والعصبات ، فعندما تدخل الظلام تبدأ المخاريط عملها حق تصل قوة العين إلى
خمسين ضعفاً فتشعر انك بدأت ترى الاشياء أكثر وضوحاً ، ولكن اختصاص الرؤية الضعيفة
أو الرؤيا الليلية يعود إلى العصيات فتبدأ عملها ، وما أن تنقضي فترة (٤٥) دقيقة
حتى تصبح قوة العين في التمييز (٥٠٠) ضعف ، وقد وجد أن السر يعود في هذا إلى مادة
خاصة في العصيات هي مادة الرودوبسين ، وهي مادة بروتينية ذات وزن ذري يبلغ (٢٧٠)
الف ، وذات لون أحمر وهي تنقلب في النور إلى مادة صفراء مبيضة ، وتتحلل إلى مادة
الرتينين ومادة بروتينية أخرى فيها فيتامين A وهذا الفيتامين (
آ ، A) يتحول إلى شكل غير فعال ، فبعد أن يطرد من مكانه الاصلي يترك
العين إلى الدوران الدموي وهو حزين كاسف البال ( ما يسمى بالفيتامين A
المفروق ) وسرعان ما يرسل الكبد الاخبار اليه ليحضر ، وعندما يصل إلى الكبد يقنعه
بأن هذا العمل انما هو من أجل مصلحة البدن ، وأن هذا الامر لا يحتاج إلى مفارقة
أبدية ، بل هو فراق ولقاء وكل أمور الحياة هكذا ، وينقلب الفيتامين آ إلى شكل جديد
فعال هو الشكل المقرون لأنه سيقترن من جديد بالمادة الاصلية ، ويتم هذا الامر بليل
، وهكذا يتفكك الرودوبسين في النور ويتركب من جديد في الظلام ويشترك الفيتامين آ
بشكل كبير في هذا العمل ، وإذا نقصت كمية الفيتامين أدى هذا الامر إلى خلل
المطابقة للرؤية في الظلام وحدوث العشاوة أو ما يسمى بالعمى الليلي وتتميز
بضعف القدرة على
التمييز في الليل والظلام ، ونتساءل ما هو السر في ان هذه المادة إذا تركبت أثرت
على الرؤية الليلية ونقلت سيالة عصبية معينة إلى قشر الدماغ؟
إن هذا السؤال بالاضافة إلى أسئلة أخرى
لا يستطيع العلم أن يجيب عنها الآن ، ان العين تضاعف من قدرتها على التمييز بشكل
هائل لا يكاد يصدق فأنت أيها القارىء ترى في وضح النهار حيث تكون الانارة متوسطة
وتبلغ هذه واحد لامبير ( وحدة ضوئية للرؤية ) ولكن هذه القدرة يمكن أن ترتفع إلى
١٦ ضعف كما يمكن أن تنخفض إلى ٢٠ مليون ضعف وهكذا يبلغ احساس العين ما بين الحدود
الدنيا والحدود القصوى ما ينوف على ٢٠ مليون ضعف!! فبامكان العين أن ترى حتى إذا
بلغت الرؤية مقدار ( ٠.٠٠٠٠٠٠٧ ) لامبير ، وإذا زادت عن الحدود القصوى أحست العين
بشعور مؤلم ، كما ان المقدار الضوئي إذا نزل إلى ما دون الحدود الدنيا لم تعد تشعر
العين بشيء.
ويجب أن نعلم ونحن على مدخل بحث الألوان
أن العين لكي ترى الشيء يجب أن تتوافر فيه أربعة شروط : الضوء الكافي + الطوال
الكافي للرؤية + المدة الكافية حتى يرتسم الخيال على الشبكية + طول الموجة الكافية
حتى يمكن للعين أن ترى ، لأن العين لا ترى كل الموجودات فإذا زادت طول موجة الضوء أو نقصت عن حد معين لم تعد ترى
العين شيئاً ( حدود العين في أطوال الموجات ما بين ٠.٤ ـ
__________________
٨ و ٠ ميكرون ،
والميكرون كما مر هو جزء من ألف من الميلمتر ) وهذا الشيء مهم لتبيين فكرة أساسية
وهي : أن العين ليس بمقدورها رؤية كل شيء في الكون ، فإذا زادت حدة ضيائه عن القدر
المحدد أو نقصت عن القدر المحدد لم تعد العين ترى شيئاً ، كما أن الشيء إذا تناهى
في الصغر عجزت العين عن الرؤيا.
ولقد ذكرنا فيما مر معنا أن الإنسان
ركّب المجهر الاليكتروني الذي يكبر الأشياء ( ٠٠٠ ,٣٠٠ ) ثلاثمائة ألف مرة ومع ذلك
لم يستطع رؤية الذرة فيما إذا توصلوا إلى اختراع المجهر البروتوني الذي يكبر ( ٠٠٠
,٨٠٠ ) ثمانمائة ألف مرة وحتى المليون مرة ، ولكن ماذا سيفعلون برؤية القوة
الكهربية والمغناطيسية والجاذبية!! كما أن العين تكل عن الرؤية فيما إذا كان وقت
انطباع الخيال غير كافٍ ، ومبدأ السينما انما يقوم على أساس تتابع الأخيلة بحيث
يشعر المشاهد وكأنها أحداث متلاحقة مع أن المناظر مقطعة ولكن التحكم في سرعة عرض
المناظر متتالية بما يكفي لرسم منظر على الشبكيه تفهمه وبعده بزمن لا يزيد ولا
ينقص يلحقه منظر آخل ( هي التي تجعل المنظر السينمائي متتالياً ) وهكذا فإذا
بالمشاهد تتلاحق والصور كأنها الحياة العادية بين يديك ، وكل الأمر بني على
القاعدة الثالثة التي ذكرناها ( علم الإنسان ما لم يعلم ).
وأما المبدأ الرابع وهو المبدأ الموجي
فعلى أساسه أيضاً يمكن فهم كيفية الرؤية الملونة فإذا عكس الجسم كل النور المسلط
عليه ظهر بلون أبيض وهي جميع الأشعة التي بعثها!! وإذا امتص الجسم الذي يسلط عليه
النور كل الاشعة ، لم تعد ترى العين شيئاً وكان اللون الأسود ، وأما إذا امتص
الجسم جميع الأشعة إلا اللون الاحمر ظهر منظر الجسم أحمراً ، وهكذا إذا امتص الجسم
جميع الأشعة إلا اللون الاحمر ظهر منظر الجسم أحمراً ، وهكذا إذا امتص كل الألوان
إلا الاخضر ظهر اللون أخضراً ،
وهكذا بقية الألوان
، وأما اللون الرمادي فهو الوسط ما بين الأبيض والأسود. ورؤية الالوان بشكل كامل يمتاز
بها الانسان فهو يرى من الالوان ويميز ما بينها ما لا يقع تحت العد والحصر ...
تجربة
نيوتن : لو سلطنا نوراً أبيضاً من مصباح على
موشور زجاجي

بعد أن يعبر عدسة
مقربة ، وكان الموشور مائلاً فإننا سوف نرى ان الضوء الابيض يتحلل إلى سبعة ألوان
هي من الأعلى الى الاسفل اللون الاحمر والبرتقالي والأصفر والاخضر ، والازرق
والنيلي والبنفسجي ، ان هذه الالوان السبعة هي التي تتشكل في قوس قزح وهي التي
تتشكل بالتحليل الطيفي الذي ذكرناه ، ولقد تبين ان هذه الالوان السبعة من مزيجها
يتشكل اللون الابيض فيما إذا قمنا بتجربة أخرى معاكسة لها وهي جمع الالوان
المتشكلة بعدسة مقربة فنرى تشكل بقعة لونية بيضاء مرة أخرى ، ولقد وجد أن لهذه
الالوان أطوال موجات معينة ، تبدأ من الاحمر حيث تكون طول الموجة ( ٦٢٠ ـ ٧٦٠ )
ميلي مكرون ، وتنتهي بالبنفسجي وطول الموجة ( ٣٩٠ ـ ٣٤٠ ) ميلي ميكورن. والعين
تميز ما بين هذه الحدود حوالي (١٢٨) لون
أساسي أو ما يسمى
بالنغم اللوني ، ولقد وجد أن لكل لون تواتر معين ، أي عدد اهتزازات الموجات في
الثانية
، واصغر التواترات هي اللون الأحمر حيث تبلغ ٤ × ١٠ ١٤ هزة ثانية أي ٤٠٠ مليون هزة
في الثانية الواحدة ، وأما اللون البنفسجي فيبلغ تواتره ٧٨٠ مليون مليون هزة في
الثانية الواحدة ، وكل تواتر يصيب العين يولد فيها احساساً معيناً للون ، وبهذا
نعرف ان الالوان في تواتراتها التي لا حد لها بين اللون الأحمر والبنفسجي تؤلف عدد
لا نهائي من طيوف الألوان المرئية ..
وفي العين البشرية تتمركز منطقة تمييز
الألوان في بقعة تسمى اللطخة الصفراء حيث تزدحم المخاريط بشكل كبير جداً ، وتحتوي
المخاريط مادة تساعدها في تمييز الألوان هي اليودوبسين ، والعجيب في المخاريط عدة
أمور : منها أولاً اختصاصها بالألوان ، ومنها انها تشتد حساسيتها للالوان حسب درجة
الاضاءة ففي النهار تزداد حساسيتها للون الأحمر والأصفر بينما تنقص حساسيتها في
الظلام ، وفي الضوء الضعيف للأخضر
__________________
والازرق ، وكأنها
الانشودة السحرية على شاطىء البحر حيث تنطلق النظرات الحالمة مع أمواج البحر
المتكسرة الخضراء الزرقاء!! ..
ولعنا نتساءل : هل كل الكائنات ترى مثل
ما ترى؟ لقد وجد ان الشبكية في عيون الحيوانات النهارية مثل الحمام والدجاج تحوي
فقط المخاريط ، ولذا فهي ترى اللون الابيض الشديد وبقية الألوان ، وأما الحيوانات
الليلية مثل البوم والخفاش فلا يوجد في شبكية العين عندها الا العصي فلا ترى إلا
النور الضعيف الابيض فقط وهي ما تناسب الرؤية الليلية ، ولقد وجد ان بعض الحيوانات
مثل الكلاب والقطط والماشية لا ترى الالوان مطلقاً ، بل ترى الأبيض والاسود
والظلال الرمادية أي أن رؤيتها هي أشبه ما تكون بمناظر الافلام غير الملونة!!
وليتصور الانسان نفسه وقد انقلب هذا الوجود إلى اللون الرمادي والاسود والابيض فقط
مثل الصور الفوتوغرافية ومحيت الالوان من صفحة الوجود فلم يعد يرى شمس الاصيل ،
وغروب الشمس ، وبروغ القمر والغابات ذات الالوان الساحرة ، والطيور بألوانها
الرائعة ، والكون بألوانه الفذة ، والزهرة في الربيع ، والنبتة في الحقل ، والثمرة
في البستان ، كلها ألوان مع ألوان وجمال مع جمال ، انها ظاهرة الجمال في هذا الوجود
( ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين
) ( وأنبتت من
كل زوج بهيج )
( أمن خلق السموات والارض وأنزل لكم من السماء
ماء فانبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم
يعدلون )
سورة النمل.
وبين الحين والآخر يطلعنا الله تعالى
على نعمه العظيمة فهناك الأمراض التي تصيب العين بعمى الألوان مثل مرض دالتون حيث
لا يميز المصاب اللون الاحمر ، واللون الأخضر بشكل أضعف ، والمرض المسمى ( دي
تانوبيا ) حيث يحدث عكس مرض دالتون أي عدم تمييز اللون
الاخضر ، واللون
الأحمر بشكل أخف ، وهناك المرض المسمى ( تري تانوبيا ) حيث لا يميز المصاب ولا
يتعرف على اللونين الأزرق والبنفسجي وهناك العمى اللوني الكامل حيث يفقد تمييز
الألوان كلها فيرى مثل رؤية الماشية والقطط!! .. ( ولقد كرمنا بني آدم
وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا
تفضيلاً ).
والجدير بالذكر ان من جملة أسباب عمى
الألوان : التسمم الزمن بالتبغ والخمر!! .. لقد وجد ان الالوان الاساسية هي ثلاثة
الاحمر والاخضر والازرق أو البنفسجي ، كما وجد ان الالوان الضوئية إذا مزجت مع
بعضها بنسب معينة أعطت النور الابيض مثل مزج الاحمر مع الاخضر المائل للزرقة وكذلك
مزج الاصفر البرتقالي والازرق الخفيف ، ويجب أن نفرق هذه الظاهرة والتي تسمى
بظاهرة انصهار الألوان عن ظاهرة مزج المواد الصباغية حيث يؤدي مزج اللون الاصفر
والازرق إلى اخض ، بينما يؤدي على مستوى الضوء إلى اللون الابيض ، إن هذه الظاهرة
اعتمد عليها في كيفية رؤية الألوان في العين ، فالمخاريط على ما يبدو حساسة
للألوان الثلاثة الاحمر ، والاخضر ، والأزرق ، وتأثر أحد هذه الالوان يتبعه تأثر
بشكل أخف للونين الباقيين أي أن موجات لون معين يؤثر على بعض المخاريط بشكل مكثف
وعلى المخاريط التي تتلقى بقية الالوان بشكل أخف ، وإذا نبهت المجموعات الثلاثة
سوياً وبالتساوي حصل الإحساس باللون الأبيض ؛ ولكن إذا فسرت هذه النظرية عمى
الألوان وبعض المشاكل الأخرى فهل انتهى الموضوع؟ إن قشر المخ يشترك أيضاً في تحليل
الالوان حسب ما تنقل الالياف العصبية من تأثرات بالألوان المحيطية ، وقشر المخ
يحللها ويركبها ويفهمها على النحو المناسب ، وكأن قشر المخ لوحة فنان للالوان ،
ومختبر تحليل
للالوان ، ونفسية
شاعر متأثرة بالالوان ، ومعمل فذ لانتاج كافة الالوان بمزج الالوان المختلفة
لتحصيل لون جديد.
هذه إشارات عابرة حول فكرة الالوان
ومحاولة فهمها.
ـ ٩ ـ
حدود الحواس :
وختاماً لبحث هذه الحاسة العظيمة نقف
عند عتبة خطيرة وهي محدودية الحواس ، إن البصر له حدود لا يتجاوزها كما ذكرنا في
الشروط الاربعة لرؤية شيء مهم ، كما أن نفس الشيء المرئي إذا ابتعد أكثر من اللازم
لم يعد يرى وإذا اقترب أكثر من اللازم تشوشت رؤيته ، وهي ما تعرف بنقطة المدى ،
ونقطى الكتب ، والالوان المرئية لها طيوف يمكن للعين أن تبصرها ولكن هناك إشعاعات
عديدة ، لا تراها العين ، ولا يدركها البصر ، إن هذا يجعلنا نقول ان هناك أشياء
غير منظورة في هذا الكون ، فهناك إشعاعات مجهولة ، وطاقات خبيئة وقوى خفية ، ولكن
الانسان كما يستوعب المرئيات ببصره ، والمسموعات باذنه والمحسوسات عامة بحواسه ،
كذلك فإنه يستوعب اللا محسوسات بذهنه والمحسوسات عامة بحواسه ، كذلك فإنه يستوعب
اللا محسوسات بذهنه المتقد الجبار ، ان النفس الانسانية عالم فسيح ، ففيها ما
تدركه الحواس وما لا تدركه الحواس ، فيها الواقعية والخيال ، فيها الماديه والروح
، إن هذه المعاني والحقائق الجميلة تلقي ظلا هادئاً خاشعاً على الآيات القرآنية ( فلا أقسم
بما تبصرون وما لا تبصرون. انه لقول رسول كريم ) سورة الحاقة ( لا تدركه
الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير. قد جاءكم بصائر من ربكم ) سورة الانعام ( وقال الذين لا يرجعون لقاءنا لولا أنزل علينا
الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا
في
أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً )
سورة الفرقان ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) سورة البقرة.
إن هناك عوالم غير مرئية كالجن
والملائكة ، وعندما يأتي المنكرون ليبحثوا هذه القضية يخونهم ذهنهم العلمي كالعادة!!
فإذا كانت هناك الطيوف المرئية والطيوف غير المرئية وهناك الإشعاعات اللونية
المبصرة ، والإشعاعات غير المبصرة ( مثل الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية ،
واشعة غاماً وألفا ، والأشعة السينية وسواها ) ، وإذا كانت هناك قوى نشعر بآثارها
دون أن نراها كقوى الجاذبية ، والمغناطيسية ، والكهربية ، والاشعاعات الكونية ،
أفلا يحق لأولئك أن يشغلوا ذهنهم العلمي أمام هذه النقطة حتى يؤمنوا ... ولكن ( ولو أننا نزلنا
اليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا
أن يشاء الله ، ولكن أكثرهم يجهلون )
سورة الانعام ...
القصة الرائعة الجميلة عندما طلب موسى
من ربه الرؤية تعلمنا بعض الاسرار التي كنا نبحثها (
ولما جاء
موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر اليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل
فان استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ، فلما
أفاق قال سبحانك تبت اليك وأنا أول المؤمنين ) سورة الأعراف ..
فيا أيها القارىء الكريم انظر معي إلى
العين هذه الحاسة التي نبصر بها ، إن فيها ثلاث جدران ، منطقة للأبصار ، وجدران
للتغذية والحماية والجمال ، وفيها سائلان احدهما ثابت والآخر مثل الدوامة يفرغ
ويفرز ليل نهار ، وفيها بللورتان واحدة أمامية ثابتة والثانية خليفة متبدلة ،
وفيها واجهة للجمال وحماية للعين من النور الساطع وهي القزحية ، وفيها غدد من شتى
الأنواع للدهن والمفرزات والترطيب والتطهير والحماية ،
والدمع ، وفيها
أقنية وممرات شتى لتصرف السوائل والدمع ، وفيها سبع عضلات للتحريك المتزن واسدال
الستار ورفعه امام الرؤية وهو الجفن العلوي ، والجفن العلوي فيه سبع طبقات احداها
تشكل قالب الجفن وهو الظفر الجفني ، وفي العين (٣٠) ثلاثون شرياناً مغذياً ،
وثلاثة أعصاب محركة ، وعصب ينقل الحس ، وعصب ينقل المبصرات عبر شريط يضم نصف مليون
ليف ، وهذه الالياف تنقل المبصرات من (١٤٠) مليون عصاة و ( ٧ ملايين مخروط ) ،
وبعد ذلك الوسادة الشحمية التي ترقد عليها العين والجدار العظمي الذي يغلفها من كل
جانب ، والمرتفعات العظمية الثلاث التي تقف كأبراج المراقبة والرصد ، أو كأن العين
هي الجندي في الخندق العميق ، أفكل هذا : من حماية العظام ، وضيافة الشحوم ، وعدد
العضلات ، وروعة المبصرات ، ودقة التجهيزات وتصريف القنوات ، وجريان الينابيع
والشلالات وتغذية الشريينات ، وتصريف الاورده والبلغم لم يدل على الخالق العظيم!!!
..
حاسّة
الشم
ما زال موضوع الشم حتى الآن محيراً
للعلماء فما هي طبيعة الروائح التي نشمها؟ وما علاقة الرائحة بالتركيب الكيماوي
للمادة؟ وهل هناك روائح أساسية وتشتق منها بقية الروائح عن طريق المزج بين اثنين
أو أكثر من هذه الروائح الاصلية بنسب متفاوتة؟ وما علاقة الرائحة بالروح؟ وكيف
تفهم الخلايا العصبية الروائح وتميز ما بينها؟ ..
درس العلماء حاسة الشم واعطوا بعض
المعلومات الاولية البسيطة في هذا البحث ، فلقد وجد أن حاسة الشم تتركز في الانف
وخاصة في القسم العلوي من الانف ، فلو نظرنا إلى جدار الانف الداخلي لوجدنا
فيه ثلاث قطع عظمية
مغلفة بغشاء مخاطي يعلو بعضها البعض وتسمى القرينات ، وكأنها القرون الصغيرة في
هذا المكان ، وهو تشترك في عملية تسخين الهواء أثناء مروره بالأنف ، فإذا نظرنا
إلى ما فوق القرين العلوي رأينا المنطقة الشمية بمساحة تبلغ ( ٢٥٠ ملم ٢ ) ، في
هذه المنطقة تتوزع ألياف العصب الشمي بعد أن تجتاز سقف الأنف من خلال صفيحة مثقبة
كالغربال هي الصفيحة الغربالية ، وتتوزع هذه الألياف العصبية بحيث يكون لكل خلية
شمية ( ٦ ـ ٨ ) أهداب تغطس في سائل مخاطي يعلوها ، فإذا وصلت الروائح الشمية إلى
تلك المنطقة انحلت في السائل المخاطي أولاً ثم في المواد التي تحويها تلك الاهداب
وهي من طبيعة دسمة تساعد على حل المواد الكيمياوية.
وهكذا نرى أن عملية الشم هي اشبه ما تكون
بعملية كيمياوية بينما طبيعة الصوت تقوم على قواعد فيزيائية ، وأما الضوء فهو أعقد
بكثير.
والآن كيف نفسر الشم وعلاقته بالمواد
الكيمياوية؟ لقد وجد أن هناك بعض المواد الكيمياوية التي تختلف من ناحية التكوين
اختلافاً جذرياً جوهرياً ومع ذلك فإنها تعطي نفس الرائحة مثل ( رائحة الكافور
وكحول السيليكونونيل ، والديورين ) فكيف سنفسر الشم إذن؟ ان آخر نظرية طرحت هي
التي قدمها آمور على (١٩٦٤) وتسمى بالنظرية الفراغية الكيمياوية فالمواد كما يبدو
تنحل في الأهداب الشمية بحيث تنحل كل مادة في شكل هندسي يناسبها ، وكأن الروائح هي
الضيف العريز ، فالمقعد للشخص ، وعلاّقة الثياب من أجل معطفه ، وعند العتبة المكان
الملائم لحذائه ، وعلى الأرض الفرش اللازم لتمديد رجليه المتعبتين ، والحمام بشكله
المناسب لكي يغتسل!!! .. فالروائح سبعة أساسية وبقية الروائح هي مزيج من هذه
الروائح بنسب متفاوتة ، وهكذا فمكان استقبال الروائح الاتيرية متطاول بشكل حوض
السباحة في
الحمام ، والروائح
المسكية لها مكان استقبال يشبه البركة المستديرة ، والروائح الزهرية لها مكان
استقبال يشبه المفتاح ، والروائح الكافورية كأن مكان استقبالها طاسة الحمام!!! ..
وهناك الروائح النعناعية والروائح الكريهة. وهكذا فاننا نشم رائحة الثمار ، والعسل
، والكافور ، والازهار ، والعطور ، والثوم ، والبصل والتبغ ، والمسك ، والجبن ،
والطعام الشهي ، ورائحة اللحم الفاسد والنباتات المتفسخة!! وإذا كان الجو عابقاً
برائحة طيبة فإن الانسان يشعر بالرائحة في الدقائق الثلاث الأولى ثم تبطل حاسة
الشم ، ولعل الكثيرين منا شعروا بهذا الشيء عندما دخلوا وسطاً فيه رائحة طيبة أو
كريهة.
إن الالياف تصعد
إلى المخ حيث تستقر في منطقة أولى هي البصلة الشمية ثم تنتقل إلى مناطق أخرى مثل
تلفيف حصان البحر ، وقرن آمون والجسم المشرشر .. إلخ ) وتمتاز بارتباط خاص مع
مناطق كثيرة في المخ ، ولذا تشترك الرائحة مع إثارة شهية الطعام ، وتحريك
الدوافع الجنسية ، كما تقوم بتأثيرات روحية مهمة ( يسن استخدام الطيب يوم الجمعة
) كما تشترك بأفعال الذاكرة ، وقوة الشم تزداد عند بعض الحيوانات مثل الكلاب مما
يجعلها تتبع الاثار واكتشاف آثار الجريمة احياناً ، وتؤثر الرائحة ولو كانت
بكمية زهيدة جداً فلقد وجد ان تأثير رائحة عطرية مثلاً تؤثر بتركيز يبلغ ٣٤ و ٤
× ١٠ ـ١١ ملغ في كل سم ٣ من الهواء أي ان الرائحة تؤثر فيما إذا بلغت حوالي خمسة
اجزاء من (١٠٠) مليون
|
|

تمثيل لاشكال الجزئيات التي يقاله انها تسبب الاحساسات الشمية الخمسة
الاول حسب النظرية الفراغية الكيميائية عام ١٩٦٤ نظرية آمور
|
مليون من الغرام في
السم ٣ ، وهكذا فان هذه الحواس عند الانسان هي نوافذ مدهشة حساسة بديعة رائعة
دقيقة محكمة تصل الإنسان بالعالم الخارجي ...
حاسة الذوق
يعتبر الذوق من الحواس التي تستقر في
اللسان وباطن الفم ، ويتحسس اللسان بأنواع مختلفة من الطعوم تبلغ ستة أنواع :
الحلو والمر ، والمالح ، والحامض ، والطعم المعدني ، والقلوي وهذه المذاقات وبنسب
مختلفة ، وهناك التقاء ما بين الطعم والرائحة حيث تؤثر بعض المواد برائحتها وطعمها
فتسبب ما يسمى بالنكهة ، كما أن نفس هذه الطعوم والمذاقات تتوضع على اللسان في
أمكنة محددة ، فالطعم الحلو تتوضع نتوآته الذوقية في مقدمة اللسان ، والطعم المر
في مؤخرة اللسان ، وأما المالح فيتوضع على جوانب اللسان وذروته ، كما تحس به معظم
أعضاء الفم ، مثل الشفتين والحنك وباطن الخدين ، وقع الفم ، وأما الطعم الحامض
فيتوضع على جوانب اللسان.
وهذه النتوآت الذوقية عجيبة ومدهشة في
تركيبها ، فهي تكون في اللسان ما يشبه الكهوف الصغيرة العديدة حيث تكون فتحة
البرعم الذوقي صغيرة وتتمادى مع سطح اللسان وفي داخل البرعم ترقد الخلايا الذوقية
وهي ترسل أهدابها التي تتحسس الذوق ويدخل العصب الذي ينتشر بأليافه من قاعدة هذه
الكهف الذوقي .. وفي داخل هذا الكهف نرى الخلايا الحسية والخلايا التي تسندها ،
والخلايا التي تحيط بالبرعم الذوقي ، وتتوزع البراعم الذوقية في الحليمات اللسانية
، والحليمات اللسانية
ثلاثة أنواع ،
الحليمات الخيطية ، والكمئية ، والحليمات الكأسية ، ولقد

وجد أن البراعم الذوقية تصل أحياناً في
الحليمة الواحدة إلى (٢٥٠) برعم ذوقي ، ولقد قدر البعض أن عدد النتوآت ( البراعم )
الذوقية في اللسان تصل إلى حوالي
برعم ذوقي تنقل طعم الأكل ، بأنواعه الأساسية وهي الحلو والحامض والمر والمالح ،
كما تنقل أنواعاً متباينة من المذاقات ، فأنت تشعر بطعم الفاكهة من البرتقال ،
والتفاح ، والموز والكرز ، والمشمش ، والأجاص ، والخوخ ، وطعم الخضروات من البندورة
، والخس ، والخيار ، والجزر والكوسا ، والباذنجان ، وبطعم الخبز ، والثريد ،
والأكل اللذيذ ، من اللحم والدمس والمرق ، إلى أنواع لا يحصيها العد ، ولا نريد أن
نسترسل فيها حتى لا يسيل لعاب القارىء!!.
ولننظر الآن إلى هذا اللسان العجيب الذي
يحتوي على (١٧) عضلة للحركة ، وعلى غشاء مخاطي يغلفه ، وعصب خاص لتحريكه في كل نصف
، أي عصبان رأسيان هما العصب تحت اللسان الكبير في كل
جانب ، و (٦) ستة
أعصاب لنقل الحس ، ثلاثة في كل جانب هي : ( العصب اللساني لنقل الحس من مقدمة
اللسان ) و ( العصب البلعومي اللساني من مؤخرة اللسان ) و ( العصب المبهم من
البلعوم والمزمار ) ، وهذا اللسان ترقد فيه من النتوءات والبراعم الذوقية الآلاف ،
ويحس بالاطعمة من شتى المأكولات ، وهو بعد كل هذا يستخدم في المضغ ، والبلع ،
والذوق ، والتصويت فأي ممثل عجيب الذي يقوم بكل بهذه الأدوار. ولقد بلغت دقة
التأثر في الذوق أن اللسان يحس بالطعم المر ولو بلغ تركيزه على اللسان أربعة أجزاء
من مائة ألف ، وهو مع ذلك المكان الذي تخرج منه حروف كثيرة للنطق .. ( لقد خلقنا
الانسان في كبد. أيحسب الن يقدر عليه أحد ، يقول أهلكت مالا لبداً. أيحسب ان لم
يره أحد ، ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين ، وهديناه النجدين ) سورة البلد ( يوم تشهد
عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ).
فيا أيها القارىء العاقل انظر وتأمل ،
ان القلب ليخشع ، وان العين لتدمع ، وان العقل ليركع ، أمام هذه الآلاء العظيمة ( فبأي آلاء
ربكما تكذبان )
سورة الرحمن.
اُجراس الإنذار في الجسم
البشري
ما هو السير في الألم؟ كيف نحس بالحر
والبرد؟ كيف نشعر بالآلام البطنية؟ كيف نعين الشيء الذي نلمسه بأصابعنا ، وما هي
حاسة اللمس؟ كيف ينتقل الحس العضلي؟ إن هناك شبكة مخابرات هائلة منتشرة على مستوى
سطح الجلد والطبقة التي تحته مباشرة!! وهي تنقل الإحساسات من العالم الخارجي ،
وهكذا تتعاون الحواس جميعاً في تفهم المحيط الخارجي. إن انتشار الأعصاب تحت الجلد
شيء لا يكاد يصدق ، وتنتهي الألياف العصبية بجسيمات خاصة يختص كل نوع منها بنقل حس
معين ، فهناك جسميات تنقل الحر ، وأخرى تنقل البرد ، وثالثة للمس والضغط ، ورابعة
الحس الآلم ، وخامسة تختص بنقل الحس العضلي أو ما يسمى بالحس العميق ، وهكذا تتنوع الإحساسات وتتباين ،
وهذه الجسيمات تتباين في أشكالها فهي أما بشكل سلال ، أو دوائر متحدة المركز فيها
خط ، أو متطاولة مع ألياف عصبية متفرعة فيها ... وتبلغ في تعدادها أرقاماً هائلة
فهناك ( ٣ ـ ٥ ) ملايين جهاز حسّاس للألم و ( ٠٠٠ ,٢٠٠ ) جهاز حساس للحر
__________________
و (٠٠٠ ,٥٠٠) جهاز
حساس للمس والضغط ، حتى يمكن أن يقال أن الجلد البشري ما هو إلا سطح يغطي شبكة
هائلة من الألياف العصبية ، وهذا الجد عبارة عن خارطة مدهشة لتقاسم الأعصاب
السيطرة عليها ، بحيث إن هناك (٦٢) عصباً يسيطر على الجسم ـ عدا الرأس ـ وتنقل
الحس منه ، وفي الرأس (١٤) عصباً ، أي أن هناك (٧٦) عصباً تسيطر على مساحات
الإحساس في الجسد البشري.
ولنحاول الآن أن نفهم شيئاً عن عمل هذه
الأجهزة المعقد ، وأبسطها ما يسمى بقوس الانعكاس ، فأنت أيها القارىء إذا لامست
شيئاً ساخنا فإنك تبعد يدك لا شعورياً وبدن إرادة منك وبسرعة تبلغ جزء من مائة من
الثانية ، إن هذا يتم بواسطة نقل التنبهات عن طريق الأعصاب الحسية التي تصل إلى
المنطقة الخلفية من النخاع الشوكي حيث تبلّغ الأخبار إلى الخلايا ، وقتوم الخلايا
بالاتصال بالمنطقة الأمامية من النخاع حيث ترقد مفاتيح السيطرة على العضلات في
خلايا القرون الأمامية ، ومن هناك تنطلق الأوامر إلى الأعصاب المحركة للعضلات
المناسبة فتنسحب اليد بسرعة مدهشة وبشكل انعكاسي ، ولذا يسمى هذا الفعل بالقوس
الانعكاسي ..
وبواسطة الجسيمات الحسية التي تنقل حس
البرد والحر يحدث التوازن الحروري في الإنسان والذي يبقى عند درجة معينة لا
يتعداها وهي (٣٧) درجة مئوية ، وإذا هبطت الحرارة إلى ما دون الـ (٢٥) درجة مئوية دخل
الجسم في حالة تخدير وفقد الحس ، وهكذا فإننا نرى أن الحس له قواعد تنظمه ونواميس
تسير أمره ، فمثلا إذا ارتفعت حرارة الجسم بدأ يتضايق منها ثم يدخل في مرحلة الألم
من الحرارة ، ثم يصل الألم إلى ذروته ، ثم لا يتعدى هذا الحد فمهما زاد الحر حتى
لو احترق الجلد فإنه لا يتعدى تلك الحدود القصوى التي وصلها ، وكذلك فان
الجسميات التي تنقل
حس البرودة وهي جسيمات تومسا ، ترسل صيحات الخطر ، وإشارات الإنذا وتدق أدراسه
ويزداد الأمر حتى يصل إلى
درجة
يقف عندها ويتخدر الجسم ، ولذا فإنه من جملة طرق التداخل في العمليات الجراحية هي
التبريد
، حيث يعمل الجراح على قاب
__________________
ناشف غير مدمى كما
في عمليات الجراحة القلبية ولقد وجد أن أشد الألم كما في الحرق مثلاً يتوضع في
الجلد السطحي بحيث أن الحرق إذا أصاب المناطق العميقة فإنه لا يؤلم بنفس الشدة ،
وهذا يذكرنا بالآية القرآنية ( كلما نضجت جلودهم
بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ) سورة النساء.
إن شدة الاحساس وضعفه تتوزع في الجسم
حسب الوظيفة التي يقوم بها العضو فهي في الشفتين والاعضاء التناسلية أشد ، وفي
القرنية وهي بللورة العين الأمامية شديدة الحساسية وللألم بوجه خاص ، ولذا يستخدم
المنعكس القرني لفحص سلامة الأعصاب حيث تمرر شعرة أمام القرنية فيلاحظ إطباق
الأجفان السريع لحمايتها ، أما أخمص القدم فهو ضعيف الإحساس ، بينما أنامل اليدين
تمتاز بمنتهى الحساسية لأنها مراكز تحسس الموجودات ، وهكذا يشعر الإنسان بالبرد
والحر حيث تمثل فيه أجراس الإنذار فيقي نفسه من البرد والحر ، ولولا هذه الخاصية
لهلك الإنسان من البرد والحر ، ولكنه مع هذا متزن في حرارته مهما تقلبت الظروف
الجوية التي تحيط به.
إن الجسيمات الحسية
هي أشبه بميزان الحرارة الخارجي الذي يقيس درجة حرارة الجو أو برودته ، ثم يرسل
هذه الأخبار عبر نبضات عصبية كالتلغراف وفي ألياف لا يتجاوز قطرها ١/٤٠٠٠ من
البوصة وبسرعة تبلغ (٢٠٠) ميل في الساعة أو أكثر ، وعندما تصل الانباء إلى مراكز
القيادة في مناطق ما تحت السرير التي تكلمنا عنها فيما مضى ، يدرس الأمر ويفهم ثم
ترسل الأخبار والاوامر بمنتهى السرعة إلى العروق الدموية السطحية وإلى الغدد
العرقية ، حيث يكثر ورود الدم وإفراز العرق وبالتالي زيادة الاشعاع الحراري ،
والتبخر المائي ، مما يوازن الحرارة
من جهة كما يبرد
الجسم من جهة أخرى ، وكل هذا بفضل الماء الذي يتمتع بهذه الخواص وهكذا تتزن حرارة
الجسم ، ويستقيم أمره ، وتصلح أحواله على كل نحو.
وأما جسيمات اللمس فهي أدق ، فعن طريق
تلمس الموجودات تشعر بسطحها الخارجي ، وهكذا يميز الإنسان ما بين الناعم والخشن ،
والاملس والجعد ، وباللمس يعرف الشيء الذي تقع يداه عليه ولو كان مغمض العينين ،
وهكذا يميز الانسان ما بين الورقة ، والقلم ، وقطعة النقود ، والكتاب والطاولة
والجدار ، وسائر الاشياء والموجودات!! والمستقبلات العصبية هنا تتأثر بشكل آلي على
ما يبدو ، وهكذا تتناسق الحواس مع المحيط الخارجي بشكل بديع ، فالعين مع الضوء ،
والأذن مع الصوت ـ وتقوم على القواعد الفيزيائية ـ والشم والذوق على المستقبلات
الكيماوية ، وهذه المستقبلات آية فكيف تنوعت استجابات هذا الكائن البشري الذي الذي
حوى من الالغاز والاسرار ما يدهش الالباب ( لقد خلقنا الإنسان في
أحسن تقويم )
سورة التين.
وأما الجسيمات التي تنقل حس الالم فهي أعجب
وأعقد ، فكيف تنقل الالياف العصبية كل هذه الاخبار المختلفة وكأنها الألوان
المتباينة ، أو الطعوم المختلفة ، وكيف يدرك الدماغ معنى الالم؟ إن الطب يخبر
ولكنه يقف عند عتبة الشرح والتفسير وكأنه سيدخل دغلاً سحرياً لا تكف أشجاره ،
وموجوداته عن التغير في كل لحظة ...
وأما الجسيمات التي تنقل الحس العميق
فهي تنقل أخبار العضلات والمفاصل والعظام والاوتار بحيث أن أي خلل بخبر عنه في
منتهى السرعة ويعدل على الكيفية المناسبة ، فأنت الآن أيها القارىء لعلك جالس على
مقعد مريح ولكن هل تعرف كيف تتناسق عضلات وجهك وجذعك في هذه اللحظة ، إن أكثر من
خمسين مفصل ومائتي عظم ، وما يزيد
على مائتي عضلة
تتحكم في اتزان وضعك هذا ، ولولا هذا الاتزان لسقطت منبطحاً على الأرض ، فمن يوازن
كل هذه الاشياء؟ إن الحس العميق هو الذي ينقل الاخبار إلى المراكز العليا ثم يشتسرك
المخيخ مع الحس العميق مع دهليز الاذن في تحقيق التوازن والقضاء على الفوضى وعدم
الاتزان.
ومن خلال دراسة هذه الحواس العظيمة في
الإنسان وفي الكائنات الأخرى استطاع العلماء ابتكار أشياء جديدة ، مقلدين بذلك هذا
الوجود وكيف تسير نواميسه ، ومن هذه الأشياء نذكر شيئين : الأول ما يتطق بالمستقبلات
الحرارية ، والثاني بما فوق الأصوات ، فلقد مر معنا أن الانسان يسمع الأصوات التي
تتراوح ذبذباتها ما بين (١٦) هزة إلى (٢٠) ألف هزة في الثانية الواحدة ، وإذا
تجاوز الرقم الأخير عجز الإنسان عن السماع ، وتسمى بما فوق الأصوات وهي تتعلق بحدة
الصوت ، فلقد وجد أن هناك حيوانات لها من قوة إرهاف السمع ما يفوق الإنسان مثل
القطة التي تسمع الأصوات التي يبلغ تواترها (٥٠) ألف هزة في الثانية ، والفار يسمع
الأصوات التي يبلغ تواترها (٤٠) ألف ، والشمبانزي (٣٣) ألف ، وأما الخفاش فهو أعجب
الحيوانات في هذا المجال حيث يسمع (١٢٠) ألف هزة في الثانية الواحدة ، ومن جملة
أسرار الوجود العجيبة ، هذا الكائن الذي قلده العلماء في اكتشاف جهاز الرادار ،
فهو حيوان ليلي يعيش في الكهوف وينشط في عمله اثناء الظلام فلا قيمة للرؤية في هذا
الوسط ، ولذا فهو يبعث صرخات ما فوق الصوت ثم تنعكس إليه ثانية فيسمعها بأذنيه
الكبيرتين ، وهكذا يقدر بدقة بعد الأشياء والفرائس عنه مع تحديد اتجاهها بشكل رائع
، وكل هذا بفضل قدرته على سماع التواترات العالية ، ومبدأ الرادار في اكتشاف
الطائرات من الناحية المبدئية يعتمد على نفس الفكرة.
وأما المستقبلات الأخرى فهي المستقبلات
الحرارية عند نوع من الثعابين هي ( الأفعى المصوتة ) أو ( الثعبان المصوت ) فهو
يملك في الحفر الوجهية التي عنده نوعاً من المستقبلات الحرارية هي انتفاخات تحيط
بنهايات الأعصاب ويبلغ عددها ( ٥٠٠ ـ ١٥٠٠ ) واحدة في الملم ٢ من الحفر الوجهية ،
وبهذه الطريقة يمكنه أن يكتشف خلال ( ٥/٠ ) نصف ثانية جسم فأر تزيد درجة حرارته (
١٠ ٥ ) عشر درجات مئوية عن المحيط ، ويبعد (٤٠) سم عن الثعبان ، إن هذه الطريقة
العجيبة في تحديد الكائنات الحية التي تبعث بالحرارة الغريبة ، وقد استخدم نفس
المبدأ في صواريخ الهوك التي ، تلحق الطائرات التي تولد الحرارة بشكل طبيعي أثناء
تحليقها أو هجومها ، باعتبارها تحرق وقوداً ولا تطري بدونه ..
والآن إلى بحث شيق من أبحاث الترابط في
الجسم وهو بحث الغدد الصم ...
الغدد الصّمّ الداخليّة
سميت هذه الغدد بالغدد الصم لأنها تلقي
بمفرزاتها إلى الوسط الداخلي ، أعني الدم ، ولذا فهي صم مغلقة ، وهذه الغدد صغيرة
في حجمها ووزنها ، ولكنها كبيرة في فعاليتها وتأثيرها ، وهي تكوّن ما يشبه الملك
الذي يتربع على العشر ممثلاً في الغدة النخامية ، وبقية الوزراء الذين يسيطرون على
فعاليات الجسم ويصرفون أمورها ، فالغدة النخامية هي التي تسيطر على فعالية بقية
الغدد في الجسم ، وهي تترابط مع الإدارة العامة ، أي الدماغ ...
إن إدارة أمور البدن تتم بكيفيتين :
الأولى سريعة عن طريق
الأعصاب ، والثانية
بطيئة عن طريق الأخلاط الداخلية التي تنقل الهورمونات المؤثرة ، وبهذه الكيفية
يتزن البدن أمام الأمور مفاجئة السريعة ، ومع ظروف المحيط المتقلبة ، وهذه
الهورمونات أو الحاثات لها مراكز خاصة للإفراز تسمى الغدد الداخلية وتبلغ في الوزن
مائة غرام لكل الغدد .. وتعتبر الغدة النخامية ملكة الغدد الأخرى ، أو دماغ الغدد
الأخرى ، أو هي مفتاح للأخلاط البدنية ، وهذه الغدة ترقد في تجويف عظمي في أسفل
عظم القحف ، ويسمى بالسرج التركي ، وتبلغ في الوزن حوالي نصف غرام ، وفيها ثلاث
فصوص ، أمامي وخلفي ومتوسط ، ومن هذه الفصوص الثلاثة تفرز (١٠) عشرة هورمونات حسب
آخر التقارير العلمية ، وهذه الغدة تقع من ناحية التشريح العصبي أسفل السرير
البصري ، ولذا فهي تتصل بمناطق ما تحت السرير ، وهكذا فإن مركز القيادة العامة
يستقر في الدماغ ، ومن هذا المركز يحدث الاتصال مع ملكة الغدد ، وهذه بدورها تفرز
الهورمونات التي تحث البدن على القيام بوظائفه. وهنا نتساءل : كيف تؤثر هذه الهورمونات
أو الحاثات او الرسل النخامية فتقنع الغدة الدرقية والمبيض والخصية وقشر الكظر
والعظام والمفاصل والعضلات والثدي والجلد والعروق الدموية وعضلة الرحم والكلية ،
أقول : كيف تقنع كل هذه الأعضاء ، وبكم من اللهجات واللغات ، حتى تنشط وتشتغل؟
فإذا بالدرق يفرز التيروكسين ، وإذا بالمبيض يهيء البيضة الانسانية التي تعتبر
نقطة إنطلاق تخلّق الانسان ، وإذا بالخصية تهيء الحيوانات المنوية ، وإذا بقشر
الكظر يفرز قرابة ثلاثين هورموناً لينظم الشوارد المعدنية والماء والسكر في الدم
كما ينظم ضغط الدم ، وإذا بالعظام والمفاصل والعضلات تنمو بشكل متناسق متكامل حتى
توصل الطفل الصغير إلى مرحلة الشباب والنضارة والقوة ، وإذا بالثدي يفرز الحليب
شراباً سائغاً للطفل يبني جسمه وعظامه ودماغه ودمه وأخلاطه وغدده ومفرزاته ، وإذا
بالجلد يفرز صباغاً خاصاً
يلون الجلد بما
يناسب حرارة المحيط ، ومقدار نوره ، وهكذا نرى الجلد الأبيض والأسمر والحنطي
والأسود ، وإذا بالعروق الدموية تتوسع وتتقبض بما يناسب حاجة البدن ، وإذا بعضلة
الرحم تتقلص وبشكل منتظم وفي وقت معين حتى تخرج الجنين إلى درب الحياة ، وإذا
بالكلية تمتص المفرزات وتنظم السوائل وتعدل المعادن وتفرز النشادر ، وتطلق
الهيدرجين ، فكيف تمكنت هذه الملكة العظيمة أن تتحدث بكل لهجات ولغات شعبها المطيع!!
لا حرج في ذلك فهذا دأب الحكام المخلصين الذين يريدون أن يتفهموا مشاكل شعوبهم حتى
يحلوها فالأمير خادم لقومه ( إنّا كل شيء خلقناه
بقدر ).
إن أول الغدد التي نبحثها في الجسم هي
الغدة النخامية ، وهي تفرز عشرة هورمونات كما ذكرنا ، فما هي هذه الهورمونات وأين
تؤثر؟
إن ستة من هذه الهورمونات تفرز من الفص
الامامي للغدة النخامية ، وهي كما نرى تؤثر على أعضاء أخرى ، فمثلاً هورمون أو
حاثّ الغدة الدرقية يؤثر على غدة الدرق ، بينما غدة الدرق هذه تؤثر على الدم
والجسم بمجموعه العام ، وهذا واحد ، والشيء المهم هو الاتزان البديع الرائع في
إفراز الهورمونات ، فالشيء الاول أن الإفراز متقطع غير مستمر ، بمعنى أن إفراز هذه
الهورمونات يمشي بشكل موجات كأمواج البحر في أخلاط الجسم الزاخرة ، وكأن جسم
الإنسان هو خلاصة مكثفة لهذا الموجود ففيه أمواد البحر ويابسة البر وقمم الجبال!!!
والشيء الثاني هو التضاد ما بين الغدة
النخامية وبقية الغدد التي تؤثر عليها ، وكأنه هذه الهورمونات أثقال متوازنة في
كفتي ميزان يزن أدق العيارات؟ كيف لا والهورمونات تؤثر بمقادير زهيدة جداً تبلغ
واحداً من مليون!! وكيف يقع هذا التثبيط والاتزان الرائع؟
لقد وجد أن مفرزات الغدة النخامية تحرض
الدرق ( مثلاً ) على إفراز مادة التيروكسين ، والتيروكسين هو هورمون الغدة الدرقية
الذي يقوم بنشاط متعدد الوجوه على مستويات متعددة في البدن سنذكرها بعد حين ،
والتيروكسين يقوم بفعل معاكس لهورمون الغدة النخامية ، فكلما زاد إفراز الغدة
النخامية زاد نشاط الغدة الدرقية وزاد التيروكسين ، وزيادة إفراز التيروكسين يلجم
ويثبط النخامة فكلما زاد التيروكسين في الدم كلما ثبط الغدة النخامية أكثر ، وإذا
قل مفرز الغدة النخامية قلّ إفراز التيروكسين وبالتالي تحررت النخامة وزاد افرازها
، وهكذا تمشي هذه العجلة البديعة والحلقة الرائعة من التوازن بين هورمونات الغدة
النخامية ، والهورمونات التي تفرز من الغدد التي تحرضها النخامة على الإفراز ...
إن الفص الامامي من النخامة فيه أنواع
متباينة من الخلايا ، وكل نوع من هذه الخلايا يمثل المصنع الذي ال يقف عن الصنع
والتحضير وإعداد الهورمونات لإرسالها الى الدوران العام خاصة ، وهناك جملة أوردة
كبيرة تحيط بالنخامة أهمها الجيب الاكليلي لانه يشبه الإكليل الذي يلبسه الملك ،
ولا عجب في هذا فالنخامة ملكة الغدد كما ذكرنا ، وهذه الهورمونات التي تفرز من
الغدة النخامية إلى الدوران معقدة جداً في تركيبها ، فهي تتجمع من عشرات الاحماض
الامينية وليست ذرات بسيطة كما يتصور ، كالحاثة المنشطة القشر الكظر وتسمى
اختصاراً بـ ( .C. A. H. T ) تتكون من اجتماع (٣٩) تسعة وثلاثين حمضاً أمينياً ويبلغ وزنها الذرى
(٤٥٠٠)
، ولقد استطاع العلماء تركيبه من الناحية
__________________
الصنعية ، ولكن ما
القول في هورمون
النمو الذي يجمع (١٨٨) حمضاً أمينياً ووزنه الذري (٢١٥٠٠) وحاثة افراز اللبن التي
تتكون من اجتماع (٢٠٦) حمض أميني ، وهورمون الغدة الدرقية الذي يبلغ وزنه الذري
(٣٠٠٠٠) ثلاثين ألفاً ، والحاثات التناسلية التي بلغ وزنها الذري (٢٩) ألف ، كما
أن عمر هذه الحاثات التي تفرز من الغدة النخامية قصير ، فهورمون أو حاث قشر الكظر
يعيش حوالي (٥ ـ ٢٠) دقيقة من نصف عمره الحيوي
، وهورمون النمر يبلغ نصف عمره الحيوي (٣٥) دقيقة ، ومغذي الدرق أقل من ساعة.
وقارن أيها القارىء بين قدرة الخلايا في
إنتاج هذه الحاثات بهذه السرعة ، وبين اجتماع العلماء والجهود والاموال والخبرات
والمصانع والانكانيات والادمغة من أجل تقليد هذه الخلايا المتواضعة لتركيب حاث
صغير عدد أحماضه الامينية (٣٩) وليس (٢٠٦) أو ثلاثمائة ، لان إنكانيات العلماء
والمخابر لم تصل بعد إلى هذا المستوى ، فكيف بتركيب الحلية بالذات فضلاً عن إيجاد
ذبابة ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين
تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا
يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب )
سورة الحج ...
إن الهورمونات الستة التي تفرز من الفص
الامامي للغدة النخامية هي هورمون النمو ويرمز له بالرمر GH ، ويقوم هذا
الهورمون بالاتصال بمحطات توليد النمو في الجسم ، وهي العظام والغضاريف
__________________
وأنسجة الاتصال
فيتفاهم معها على البذة الجثمانية التي سيكون عليها هذا الكائن ، وفيبدأ العظم في
التفاهم مع الدم والكلس والمعادن والأخلاط والبروتينات والشحوم وبقية الغدد على
انجاز الهيكل العظمي بشكل يتفق مع الخريطة الهندسية التي أطلعه عليها هورمون النمو
، وكأن هذا الهورمون هو المهندس الذي يصمم الخريطة وبقية الأعضاء هم العمال
والمقاولون والبناؤون والعتالون والنقالون الذين يبنون هذه البناية الإنسانية
الفريدة ، وهكذا يقوم الهيكل العظمي بشكل متزن من كل جهاته ويساهم معه غضروف
الاتصال ، وأنسجه الاتصال في كل البدن.
وأما الحاث الذي ينبه الثدي على إفراز
اللبن فهو يطلع
غدد الثدي وخلاياها على الطريقة السحرية الغامضة التي يمكن بواسطتها قلب محصول
الدم في الخلايا إلى حليب يناسب الطفل من كل جانب ، كما أن نفس الحليب يزداد تركيز
المواد فيه مع الزمن بحيث يناسب الولد مع تقدم نموه واشتداد عضلاته ، وقوة مفاصله
، وتدرج تكوينه.
وأما الحاث الثالث فهو الذي يتصل
الدرقية
وهو يعلم الدرق كيفية اصطياد اليود من الدم ، وتركيب هورمونات الدرق منه مثل
التيرونين والتيروكسين ، والتيروكسين بدوره يفعل كما ذكرنا على مستويين : الأول هو
تثبيط مفرز الغدة النخامية ، والثاني على مستوى
__________________
الجسم ، فهو يؤثر في
كل الأجهزة على الإطلاق عدا الدماغ لأنه مركز القيادة ، والطحال لأنه المقبرة
الموحشة المنعزلة ، والخصية والرحم لأنهما من اختصاص الغدة النخامية.
وهذا الهورمون أصح ما يقال عنه إنه هورمون
الفعالية والنشاط فهو يدفع النشاط والحيوية في كل مسارب البدن ، فالقلب يضرب ،
والتوتر يرتفع ، والفعالية تزداد ، والعرق يتصبب ، والصوت يعلو ، والحرارة تتدفق
في أرجاء البدن ، والنمو يزداد ، ومنعكسات الجهاز العصبي تزداد ، والكلية تعمل ،
ويزداد ادرار البول ، والعضلات تشتد ، والسكاكر تحرق ، والشحوم تذاب في البدن ،
والفيتامينات تتكون مثل الفيتامين A من الكاروتين ... إنها الفعالية والنشاط في كل مستويات البدن.
إنها حرارة العمل ، ونشاط الانتاج ، ووهج الحيوية ، ولكن إذا زاد الأمر أو نقص
انقلب الأمر بشكل مريع ، وهو ما يعرف بقصور الغدة الدرقية ونشاط الغدة الدرقية ،
ففي الأول يسيطر الكسل والخمول على كل فعاليات البدن ، فإذا تحرك نقل المريض نفسه
ببطء ، وإذا تكلم كان صوته خشناً خافتاً وكأنه ينبعث من كهف ، وأما وجهه ففيه
تعابير البلادة ، وأما قلبه ففيه بطء الحياة ، وهكذا يعم الكسل وينتشر الخمول!!
وإذا اشتد نشاط هذه الغدة تدفق العرق من الجسم فلا تصافح المريض إلا ويده رطبة من
التعرق ، وتفيض الحرارة على الجسم فيشعر المريض وكأنه في أتون ويتضايق من الحر.
ويميل إلى حب البرد ، وإذا تكلم ارتفع صوته واشتد غضبه وحدثت لديه الانفعالات بسرعة
وبشدة ، وإذا مد يديه أصابهما الرجفان ، وهكذا تنتشر السرعة ، ويعم الاضطراب
العصبي وكأن الحالة الأولى هي القطار البطىء والثانية هي القطار الأهوج السريع!!!
...
وأما الحاث الرابع فهو الرسول الموقر
إلى مملكة الكظر حيث يقابل
عناصر الدولة في
الحدود الأولى ، وهي القشر في الكظر ، وهناك تشرح الخطة التي يجب أن يقوم بها
الكظر ، حيث يبدأ بإفراز الهورمونات من ثلاث مناطق ، وبعدد يبلغ الثلاثين هورموناً
، وهي تقوم بثلاث وظائف حيوية : الأولى على مستوى السكاكر ، والثانية على مستوى
معادن البدن ، والثالثة في الوظائف الجنسية ، ولذا تسمى هذه الهورمونات : بالقشرية
السكرية ، والمعدنية ، والجنسية. وهي تفرز من مناطق اختصاص من منطقة قشر الكظر.
وهذه الهورمونات الثلاثون تقوم بجملة
عجيبة في البدن فتعدل الشوارد المعدنية فيه ، وتحسن وظائف أجهزته ، وتحافظ على
اتزان أخلاطه ، وتسير أموره ، وتضبط موازينه فيما يزيد على سبعين وظيفة لسنا
بصددها الآن ، هذا مع العلم بأن كل الكظر بما فيه القشر واللب لا يتجاوز وزنه سبعة
غرامات فقط.
وأما الرسولان الأخيران فهما يرسلان إلى
مراكز الجنس ومستودعات الذخيرة الإنسانية ، وهي الخصية والمبيض ، وهناك تشرح الخطة
المفصلة لانضاج البيضة الإنسانية وإعدادها للالقاح ، كما يهىء الحيوان المنوي بما
يلزمه في الرحلة التي يقطعها عبر الرحم والأخلاط والمفرزات والطرق المتعرجة ،
والمسارب الملتوية ، والأحماض والسوائل ، فهو يزود بذنب طويل يساعده على الحركة
اللولبية ، كما يفهم كيف يجب أن يمشي وأي الطرق يختار ، وما هي السرعة التي يجب أن
يسير بها ، والطريقة التي يسرع بها ، وأنسب ما تكون الحركة اللولبية ، كما يغطى
رأسه من الأمام بخوذة مصفحة حتى لا يتأثر بالصدمات والرضوض والضربات ، وهي
القلنسوة الامامية ، وحتى يلج بها جدار البيضة التي تنتظره. ثم يزود بعد ذلك
بالأدعية أن يحفظه الله في رحلته الميمونة الخطرة!! فكيف علمت وعلمت هذه
الهورمونات ، أهو عامل الصدقة؟ أم هو
قوة النطفة بذاتها ،
أم هي القوة المدبرة اللطيفة الحكيمة والعقل المنظم الدافع الذي يبعث الحياة ،
ويهب الحكمة ، ويمنح الرحمة ، ويعطي الهداية للكائنات .. ( قل أرأيتم
ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ايتوني
بكتاب من قبل هذا أن أثارة من علم إن كنتم صادقين ) سورة الأحقاف .. ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ) سورة الطور ..
هذا ما كان من أخبار الفص الأمامي للغدة
النخامية ، وأما الفص المتوسط فيفرز حاثاً يتعلق بالجلد حيث يوفد هذا السفير إلى
تلك الأصقاع النائية الشاسعة التي تغطي الوجود الانساني كله من مفرق رأسه إلى قدمه
، ولا تنفتح عنه إلا في الفوهات مثل الفم والانف والاحليل والمستقيم ، والجلد في
هذه الفوهات يستدير ويفصل بطريقة ملائمة جداً ، ويأتي هذا السفير إلى تلك الاصقاع
فيخبرهم بالخطر الذي يتعرض له الجلد من الضياء والحرارة والأعداء الخارجيين ، لذا
فان أنسب تلوين يأخذه هو من طبيعة الأرض ولون الأرض التي يعيش عليها ، كما أن
المناطق التي تتعرض بكثرة للنور يجب أن لا تبقى بيضاء والا احترقت خاصة في المناطق
التي تزداد فيها أشعة الشمس مثل المناطق الاستوائية ولذا يتلون الجلد باللون
الأسود ويحدث العكس في المناطق الباردة والمناطق القليلة الشمس.
إن تتظيم الصباغ الذي بلون الجلد يعود
إلى هذا الهورمون الحاث حيث يتفاهم مع خلايا قاعدة الجلد على افراز صباغ خاص يسمى
بالميلانين ، وهذا الصباغ يلون الجلد باللون المناسب حسب الحرارة ووهج الضياء
الخارجي ، ولنا أن نتساءل أمام هذه الحقيقة : ما ذنب الزنجي الاسود حتى تسقط حقوقه
، وتداس كرامته ، ويحرم من التعليم ، ويسام الخسف والهوان والضيم والذل ، ويسلط
عليه الفقر والجهل
والمرض ، ويطارد
كالكلب ، بل يكتب على المطاعم ممنوع دخول الكلاب والسود!! ما ذنبه إذا كان كل صباغ
الميلانين هذا الذي يتوزع في جلده يساوي غراماً واحداً فقط ، ولكن هل تساوي هذه
الحضارة المزيفة غراماً واحداً من الخلق والإنسانية؟!! ...
وآخر الأقسام الثلاثة من النخامة هو
الفص الخلفي ، ويسمى بالفص العصبي ، لأن له اتصالات عصبية مباشرة مع مراكز الدماغ
العليا أكثر من الفص الأمامي والمتوسط ، وكما ذكرنا سابقاً فهناك مراكز تقع فوق
النخامة وتحت السرير البصري ، وهذه المناطق هي مناطق التنظيم والقياده العليا التي
تنصّب الملوك ، وتعين الأمراء ، وترسل الرسل ، وتهيمن على الجميع!! إن هذه المنطقة
ترسل أليافاً عصبية تسيطر بها على فعالية الغدة النخامية حتى تتناسق في العمل مع
بقية أعضاء الجسم عن طريق الدماغ ، وهذه الألياف تنحدر إلى الغدة وتتوزع في الفصوص
الثلاثة ، وأكثرها في الفص الخلفي ، ويبلغ عدد الألياف وسطياً في كل فص (٥٠) ألف
ليف عصبي ، فهي شبكة اتصالات هاتفية مكونة من أكثر من (١٠٠٠٠٠) مائة ألف خط
للتفاهم وتنسيق الجهود.
هذا الفص يفرز ثلاثة هرمونات ، وهذه
الهورمونات تقوم بثلاثة أدوار هي تقليص عضلة الرحم ، وتقبيض الأوعية الدموية ،
والدور الثالث عبارة عن عملية مضادة للإدرار في الكلية. فأما الهورمون الأول فهو
الذي ينظم تقلص الرحم في ساحة الخلاص وبشكل تدريجي ونتساءل لماذا يبدأ هذا
الهورمون عمله وفي هذه اللحظة بالذات؟ لقد وجد من أسرار التنظيم العجيبة أن هناك
تضاداً ما بين إفراز هذا الهورمون من غدة النخامة ، وما بين الهورمونات التي
تفرزها المشيمة المتعلقة بأرجل هي أقوى من مائة (١٠٠) أخطبوط إلى جدار الرحم ، وهي
هورمونات البروجسترون والأستروجين ، ولقد لوحظ ان هذه
الهورمونات تنخفض كلياً
وبسرعة في لحظة ما ، وكأن هذا اللجام للغدة النخامية قد أفلت وكأن تعلق المشيمة
بجدار الرحم قد تزعزع من الأساس فيبدأ هذا الهورمون باقناع الرحم أن يتقلص لدفع
الجنين إلى الخارج بشكل منظم تدريجي بعد أن حواه تسعة أشهر كاملة ( حملته أمه
كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) ونتساءل مرة أخرى ما الذي دعا الى
هبوط مستوى هورمونات المشيمة من الدم كلياً دفعة واحدة وبسرعة؟ هل لأن المشيمة
شاخت ، أو ماذا؟ لا أحد يدري وقيل في هذا تعليلات مختلفة ولكن أصدق ما يقال هو
قدرة الله المنسقة للكون والحيان والانسان .
وييدأ الرحم في التقلص ، ويبدأ صراخ
الأم وتمر بمراحل مختلفة من الالم يشتد فيها تدريجياً حتى يصل الألم إلى درجة لا
تستطيع الام أن تخرج معه صوتها ، نقف هنا لنلفت نظر القارئ إلى نقطة عجيبة وهي :
إن تفلص الرحم المنظم المشتد تدريحياً هو الذي يخرج الجنين إلى الحياة لأن نقص
التقلص يفضي إلى ما يعرف بعطالة الرحم حيث يمتنع الرحم عن التقلص ويبقى الجنين في
الداخل ينتظر ساعة الخلاص ، وهنا يعمد الاطباء إلى ما يعرف بتحريض المخاض عن طريق
حقن مواد ودوائية في الوريد ، وإذا اشتد تقلص الرحم حدث ما يعرف باشتداد تقلص
الرحم ، وفرط مقوية الرحم التي قد تصل إلى درجة تكزز الرحم حيث تتوالى التقلصات
بدون فواصل راحة وكأنها هستريا تشنجية في عضلة الرحم ، ويصل الامر في آخره إلى أن
تنقبض الرحم مرة واحدة فلا ترتخي ، وهذا معناه الهلاك المبين للجنين ، لا تشنج
الرحم
__________________
وانقباضه بهذا الشكل
يعني انقطاع ورود الدم إلى الجنين عبر المشيمة ، ويبدأ الجنين في التالم ويرسل
صيحات النجدة وإشارات الاستغاثة ، ولكن كيف سنعرف أنه في حالة محنة وكرب؟ إنه يرسل
صرخات النجدة من خلال أثمن ما يملك وهو دقات القلب ، وهكذا يعرف الطبيب وضع الجنين تماماً
من خلال سماع دقات قلب الجنين ، وتكون إشارات الاستغاثة تماماً كالإشارات الخضراء
والصفراء والحمراء. فالقلب أولاً يسرع ثم يبطؤ ، ثم تخف ضرباته ويضيع انتظامه ،
وكأن الحالة الأولى الانفعال السريع ثم التراخي ثم الاقتراب من سكرة الموت وضياع
الوعي ، فما أعقل قلب هذا الجنين الذي يرسل هذه الإشارات المعبرة!! ان سماع هذه
الدقات يعني للطبيب أن يتدخل بسرعة لانقاذ حياة هذا الذي يغرق في الموت كل لحظة.
إن هذا الهورمون هو الذي ينظم تقلصات
الرحم كحد السيف فلا تزيد ولا تنقص وكل شي بمقدار ، حتى يسهل خروج الجنين إلى
الحياة ولكن إذا خرج سالماً هل انتهت القضية؟ إن المحنة تبقى للأم فجدار الرحم
مثقوب بآلاف الثقوب من أوعية الدم التي كانت تغذي المشيمة وها هي قد انفتحت دفعة
واحدة فيا للهول الهائل!! إن هذا يعني موت الأم في دقائق لأن النزيف سيقتلها ولن
ينقذها شيء في هذه اللحظة إلا القدرة الحكيمة اللطيفة التي رتبت الأمور!!
يا أيها الهورمون الذكي لقد كنت تشبه
الذي يلعب الأستغماية فأنت تبرز وجهك للرحم فيخاف وينكمش ثم تختفي فيرتخي الرحم
ويبش ،
__________________
وهكذا تتوالى
التقلصات ، فالآن جاء دورك أيها الهورمون الذكي إجعل الرحم ينقبض دفعة واحدة ،
ولفترة طويلة
، لقد جاء دور الانقباض الآن!! ألا تعجب أيها القارىء ما بين خطورة الانقباض قبل
قليل وفائدته الآن!! ان انقباض الرحم قبل قليل معناه موت الجنين ، وعدم انقباض
الرحم الآن يعني موت الام ، نفس العمل يميت ويحيي ، فتباركت اللهم الذي جعلت من
الموت حياة ومن الحياة موتاً ( إن الله فالق الحب
والنوى ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنّى تؤفكون ، فالق
الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم. وهو الذي
جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون.
وهو الذي انشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام ، هذا هو عمل هذا
الهورمون الذكي العاقل فهو هورمون ساعة الخلاص ، وهو هورمون النجدة ، وهو هورمون
التخفيف والمواساة للأم.
وأما الهورمون الثاني من الفص الخلفي
للنخامة فهو يتعلق بالعروق الدموية المرنة ، فهو يخنقها أو يرخيها. وأما كيف يتم
هذا التقلص أو الارتخاء ، وبالتالي يرتفع ضغط الدم أو ينزل ، فان السبب فيه يرجع
إلى أن هذا الهورمون له علاقة وصحبة قديمة مع عناصر مهمة في جدار العرق الدموي
وخاصة الشرايين ، فالشريان يتكون جداره من ثلاث طبقات ، وتحوي الطبقة المتوسطة
أليافاً عضلية مرنة ، فإذا تقلصت هذه الألياف العضلية أدى ذلك إلى صغر لمعة الوعاء
الدموي وبالتالي اشتد
__________________
ضغط الدم ، والعكس
بالعكس ، إن هذا الهورمون الجوال لا يهمه من كل ما يحيط به إلا هذه المنطقة فقط
فيأوي اليها ويفهمها أن ترتخي وتتقلص بما يناسب حالة البدن بشكل عام من الداخل أو
الخارج. وأما كيف يتم التفاهم بين هذا الهورمون وبين الألياف العضلية اللاارادية
أو ما تسمى بالألياف الملس فتقوم بما املاه عليها اقتناعها؟ فذلك سر من الاسرار!
وأما الهورمون العاشر والأخير من سلسلة
هورمونات الغدة النخامية ، أو الهورمون الثالث من هورمونات الفص الخلفي من النخامة
، فيختص بالكلية فهو معجب بها ولا يحب غيرها ، ولذا فهو يأوي اليها ليقوم ببعض
المهام التي تعتبر في منتهى الخطورة بالنسبة للجسم ، إن هذا الهورمون يقع تأثيره
بعمل معين وفي منطقة معينة ، فأما العمل المعين فهو الامتصاص وكأنه ذلك الحيوان
الاسطوري الذي لا يكف عن شرب السوائل ليل نهار ، وأما مكان عمله فهذا يحتاج لشرح
بسيط.
لقد وجد أن الكلية تتكون من مليون كبة!!
وما هي الكبة؟ أهي كبة شعر؟!؟ لا إنها كبة من شعريات دموية فالشريان الكلوي يتفرع
حتى يصل إلى درجة عظيمة من الدقة والصغر وهنا يلتف على نفسه حتى يكون كبة ، ولكن
من وعاء دموي صغير هو أرفع من الشعرة ، وهذه الكبة يحيط بها غشاء هو أشبه بالقربة
التي تتلقى السوائل التي ترشح من هذه الكبة ، ومن هذه القربة يمتد أنبوب متعرج ثم
يشكل عروة صغيرة
، ثم يتعرج مرة أخرى حتى يلتقي بأمثاله ، مكوّناً أنبوباً كبيراً ، وهكذا تجتمع
الأنابيب فتكوّن أنبوباً أكبر ، وهكذا حتى تصب فيما يسمى بالكؤوس الكلوية ، وهي
تشبه الخلجان البحرية ، ثم
__________________
يلقى البول المتكون
الراشح في الحويضة ثم يمر إلى الحالب فالمثانة فالاحليل ، ثم إلى الخارج نهائياً ،
ان الأنبوب القريب من الكبة تمتص منه معظم السوائل المرتشحة وهي ما تقارب ٨٥% ،
والمنطقة التي تقع بعد عروة هائلة تسمى بالأنبوب البعيد وهنا يمتص قرابة ١٤% من
السائل الراشح ، والامتصاص هنا يخضع لهورمون الغدة النخامية ، ولذا سمي بالهورمون
المضاد للأدرار ، ويتم الامتصاص هنا بشكل فاعل أي أن الامتصاص هنا يتعلق بكمية هذا
الهورمون في الدم ، وبكمية الشوارد المعدنية والسوائل التي توجد في البدن ، ولكن
الشيء المهم هو أن هذا الهورمون هو الذي يمسك هذه القناة فيصرف سوائلها ، بينما
تعتبر المنطقة القريبة من الكبة منطقة منفعلة يتم الامتصاص فيها بشكل آلي وبدون
تدخل أحد ، فهي قناة عامة لا يد لأحد فيها ، وحتى نتفهم خطورة هذا العمل الذي يقوم
به الهورمون فيجب أن نعلم أن كمية الدم المارة في الدقيقة الواحدة هي (١٣٠٠) سم ٣
أي أن الكلية تقوم بتصفية (١٨٠٠) ليترة من الدم يومياً فأي مصفاة عجيبة هذه!! وهذه
المصفاة تصفي من الدم عشرات العناصر من المعادن والسموم والنفايات ، والمخلفات
والمواد التي تعتبر حصيلة استقلابات البدن ، ولذا يعتبر فحص البول مهماً جداً لكشف
الكثير من الأمراض التي تختص بجهاز البول وببقية الأجهزة.
إن الدم الذي يمر يرشح منه في تلك
القربة السحرية ـ وتسمى بمحفظة بومان ـ مقدار يبلغ (١٢٧) سم ٣ في الدقيقة أي ما يعادل
(١٨٣) ليتر من البول يومياً فكيف يمتص ثانية؟ إن امتصاصه يتم عن طريق الأنابيب
القريبة ، ثم الأنابيب البعيدة ، بواسطة هورمون النخامة المسمى بالهورمون المضاد
للإدرار ، وهكذا يمتص ( ٥ و ١٨١ ) ليتراً ويطرح (٥ و ١) ليتراً يومياً وهو البول
العادي الذي يطرحه كل واحد منا ، وهكذا يمتص (١١٠٠) غرام من ملح الطعام و (٤١٠)
غرام من ثاني فحمات الصوديوم و (١٥٠) غرام
من سكر العنب ...
وهذا يعني أن سوائل البدن التي تتراكم ما بين الخلايا وتقدر بـ (١١) ليتر تترشح وتمتص
(١٦) مرة في اليوم الواحد ، أي ان أخلاط البدن الداخلية تنقى وتصفى من الكدر
والسموم والبقايا والنفايات والمواد الضارة ، والزائدة ، والتي لا لزوم لها ،
ومحاصيل الاستقلاب ، كلها تنظفها الكلية من الجسد (١٦) مرة في اليوم ، فأي عناية
وأي نظافة وأي تصفية عجيبة هذه!!
وإذا وقعت الواقعة وفقد هذا الهورمون من
البدن فماذا يحدث؟ بول دائم ليلاً نهاراً! إن المريض يبول ويبول بدون توقف ، وحتى يعوض عما يبول يشرب ويشرب ويشرب
الماء ، وهكذا فان المريض لا يبقى له شغل إلا أن يكون بجانب حنفية الماء ودورة
المياه ، وإذا لم يفعل هذا تجفف جسمه ومات في مدى أيام قليلة ، وكل هذا بسبب فقد هذا
الهورمون الذي يسيطر على إدرار البول في الجسم وبتأثير يبلغ ملغرامات بسيطة قليلة
...
إنه الاتزان المحكم ، والدقة الرائعة ،
والحكمة المهيمنة ، والإرادة المدبرة ، فلا شيء يقوم بالفوضى أو على الفوضى ، ولا
شيء يوجد من تلقاء نفسه بل تقوم السنن والنواميس والقوانين المطردة الدقيقة
الرائعة المتزنة ... ( وخلق كل شيء فقدره
تقديراً )
سورة الفرقان.
وهكذا رأينا في الغدة النخامية التي تزن
نصف غرام ويبلغ طولها ١ سم وعرضها ( ١ ـ ٥ و ١ ) سم وارتفاعها نصف سنتمتر ، أي أن حجمها
يبلغ (١) سم ٣ ، وجدنا فيها ثلاثة فصوص ، يوجد في الفص الأمامي
__________________
وحده خمسة أنواع من
الخلايا ، وتفرز هذه الغدة (١٠) عشرة هورمونات ، وتتصل بالدماغ بأكثر من (١٠٠) ألف
خط هاتفي ( ليف عصبي!! ) وتسيطر على الدرق وقشر الكظر والخصية والمبيض والثدي
وأجهزة النمو ، أي العظام والمفاصل والعضلات والغضاريف ، وعلى العروق الدموية
والكلية وعضلة الرحم. وهي بهذه السيطرة والهيمنة تعدل أخلاط البدن ، وتصحح مزاجه ،
وتضبط سوائله ، وتصرف فائضه ، وتقوّم ميزانيته ، وتعدل أحماضه وقلوياته ، وتوازن
شوارده ، وتحكم تفاعلاته ، فكيف تم هذا المزيان الرائع؟ وكيف ركبت هذه الآليات
المعقدة؟ وكيف وزنت الأمور وأقيمت بالقسطاس المستقيم؟ .. ( وإن من
شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم ) سورة الحجر.
والان الى بحث شيق آخر من أبحاث الروعة
والعظمة في هندسة وبناء الانسان.
وزارات الجسم
مكن أن يشبه الجسم إلى حد بعيد بالأمة
والدولة ، فالخلايا هي أفراد الشعب العامل ، وتجمع الخلايا في عمل واحد يشبه
المديريات والمؤسسات ، والاختصاصات في الجسم تشبه الوزارات إلى حد ما ، فالجهاز
العصبي المركزي هو بمثابة السلطة الحاكمة المهيمنة ، المخلصة ، العاقلة ، العالمة
، والجسم كله يمثل الشعب المتفاني في الطاعة وتقديم الولاء.
وأما جهاز الدوران فهو يجمع بين خاصية
نقل الغذاء والاكسجين إلى الأنسجة العطشى الجائعة وإرجاع بقايا الاحتراق ونفايات
الغذاء ، فهذا الجهاز يعبّد الطرق ، ويشق الممرات ويحس الوصل ، ولذا فهو أشبه
بوزارة المواصلات.
وأما الجهاز الهضمي فهو ينقل إلى
الأمعاء النشويات والبروتينات والدسم والماء والأملاح المعدنية والفيتامينات ويلقي
الفضلات والقمامة التي لا يحتاجها البدن ، ولذا فإن هذا الجهاز أشبه بوزارة
التموين في الجسم.
وأما الغدد العرقية
فهي أشبه بوزارة السياحة والاصطياف لأنها تبرد الجسم وتخفف من حرارته.
وأما الجلد واللحف والأظافر والاشعار فهي تمثل الانسان من
الخارج ، فهي أشبه بوزارة الخارجية!!
وأما جهاز التنفس فهو يأتي بالغازات
الضرورية للبدن مثل الاكسجين ويطرح غاز الفحم وهكذا يتصفى الدم من الكدر ، ولذا
فهو اشبه بوزارة الاقتصاد لأنه يستورد ويصدر.
أما العضلات والمفاصل والعظام فهي أشبه
بوزارة الدفاع أو الحربية والجيش لأنها تدافع عن الانسان كما تقوم بالهجوم إذا لزم
الأمر.
وأما الكبد فهو مركز الجمارك العام لأن
كل ما يرد إلى البدن من الطريق الهضمي يمر فيه حيث يبعد المشتبه به ، ويدخل
المرغوب فيه ، كما يعدل الشيء المشكوك به ويرسل معه مراقباً حتى يلقيه خارج الحدود
عن طريق الكلية ، وهو ما يعرف بالازدواج الكبريتي أو الغلو كوروني ، لأن هاتين
المادتين تترافقان مع المادة التي ستطرح إلى الكلية.
وأما الطحال فهو المقبرة الموحشة
للكريات الحمر لأن الكرية لا تعيش أكثر من شهرين وسطياً حيث تنقل إلى الطحال
وتواري مثواها الأخير وطريقة الدفن في الطحال عجيبة فهي اشبه ما تكون بطريقة الدفن
__________________
عند المسلمين حيث
يدفن الجثمان ويرجع بالتابون خلافاً لطريقة الآخرين الذين يدفنون الجثمان والتابوت
جميعاً ، ومظهره هنا العودة بذرة الحديد مرة أخرى حتى يتستفيد منها الجسم في بناء
كريات حمر جديدة!!
وأما النخاع الموجود في باطن العظام
وأماكن أخرى متنائرة في الجسم فهي أشبه ما تكون بوزارة الصناعة لأنها تصنع الكريات
الحمر والبيض والصفيحات ، وعناصر أخرى كثيرة.
وأما الجهاز البولي فهو أشبه بوزارة
الداخلية لأنها تطرح العناصر المشتبة خارج الحدود ، وتحافظ على نظام البدن الداخلي
حتى يتزن ولا يتقلب ، كما تنظم السوائل الداخلة والخارجة حتى لا يحصل العبث
بالنظام الداخلي ولذا فهي مصفاة البدن الكبيرة والمحافظة على الاتزان الداخلي.
وأما الحواس فهي امتدادات وزارة
الخارجية ، أي الجلد.
وأما اللسان وأعضاء التصويت فهي وزارة
الإعلام التي تذيع الاخبار وتبث الأحاديث ، وتنقل الأفكار والمفاهيم ، والإذاعة هي
مراكز التصويت المتجمعة في الحبال الصوتية والحنجرة وغضاريفها ، واللسان وعضلاته ،
والجمجمة وحفرها ، والشفة ومقدم الفم.
وبقي أن نتساءل : أين تقع وزارة الأوقاف
بين هذه الوزارات؟ والجواب أنه لا حاجة لمكان تحدد فيه لأن الجسم وغدده وأخلاطه
ودمه ولمفه وعروقه وأعصابه وشعره وجلده كله يمشي وفق الناموس الذي رسمه له الخالق
العظيم ، فكل خلاياه وأنسجته وأعضاءه وأجهزته انما هي في حالة عبادة واستسلام
وإسلام لله رب العالمين ، فليس هناك من مكان يخصص لعبادة الله والتفرغ له وأماكن
أخرى تخصص لعبادات أخرى ( أأرباب متفرقون خير
أم الله الواحد القهار )
الكل يعبد ويسبح الله والكل يصلي لله وفق اختصاصه ، فالدم يصلي في جريانه ، والرئة
تصلي
في تنفسها ، والقلب
يصلي في نبضاته ووالعصب يصلي في سريانه ( كل قد علم صلاته
وتسبيحه والله عليم بما يفعلون )
سورة النور.
ونقف هنا لنلفت نظرالقارىء ولنحرك وجدان
الطبيب والعالم ، إن الانسان سخر له الكون وهو يتصرف فيه كما يشاء ، وتتخصص طوائف
البشر في الصناعات والحرف تعالج عللها وتكتشف أسرارها ، وتسخر سننها ، ولكن أخطر
الاختصاصات هو الذي ينصب على نفس الانسان ، فالانسان يختص بدراسة كل الكون ،
والطبيب يختص بمفتاح هذا كله وهو الانسان ، فماذا أثمرت هذه الدراسة؟
إن كاتب هذه السطور درس الطب سبع سنوات
طويلة مليئة من عمره فلم يسمع كلمة الله من أحد من الذين يختصون بالدراسات الطبية
العميقة سواء على مستوى الطب الطبيعي أو على مستوى الطب المرضي ، إلا ان تذكر الكلمة عرضاً وبسرعة ،
أو أن يفتتح الكتاب بجملة ( بسم الله الرحمن
الرحيم )
، ثم تقرأ ، وتقرأ مئات الصفحات حتى تفرغ من الكتاب فلا تشعر بلمسة إيمان ، أو
نبضة روح من المؤلف أو المترجم أو الناقل ، آيات تمر ، ومعجزات تسطر ومع هذا لا
يتحرك وجدان ، ولا تستيقظ ( وكأين من آية في
السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) وحقاً إن الآية بالذات لا فائدة منها
إلا للمتفكر والمتأمل والمتدبر ( وما تغني الآيات
والنذر عن قوم لا يؤمنون )
، وتقرأ كتاباً لمؤلف آخر فتراه يعرض الآية القرآنية مبتورة وبمنتهى السرعة ، ثم
اننا لفظنا الآية القرآنية والاصح أن يقال آية قرآنية لأن كتابين كبيرين من كتب
الطب ليس فيهما الا نصف آية من القرآن وبشكل مبتور ، فيا أيها
__________________
القارىء بالله عليك
ما فائدة الآيات إذا لم توصل إلى الإيمان ، وهل يكفي أن نقول ان الماء فيه سر
الحياة وفيه خواص عجيبة ومدهشة ثم نأتي لنستشهد بالقرآن فنقول : ( وجعلنا من
الماء كل شيء حي )
وباقي الآية؟! فلتبلغ!! ان تتمة الآية هو المقصود من سوق الآية فالماء وغيره آية
تشده البصيرة وتقود إلى الايمان ، ولذلك كانت الآية القرآنية كما يلي : ( وجعلنا من
الماء كل شيء حي افلا يؤمنون )
سورة الأنبياء.
وطالما سار الأمر في هذا البحث ، فلنسمع
شهادة التاريخ وشهادة العلماء لا لندعم به إيماننا ، ولكن لنحاكم أولئك الذين لا
يصدقون إلا بما يقوله أصحاب الاسماء الرنانة ، والشهادات العريضة ، ونسوا ان
الانسان مهما بلغ علمه ، وارتفعت خبرته فانه لا يحيط بالوجود ، ولا ينفذ إلى خزائن
الأسرار ، لأنه مركب من نقص ، وضعف وقصور ، وهوى ، (
يريد الله
أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا )
سورة النساء.
لنذكر أولاً احصائية قام بها العالم
دينرت عن كبار
العلماء والفالسفة في القرون الاربعة الاخيرة ، وكان عددهم (٢٩٠) عالماً ، فوجد ما
يلي : (٢٨) منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما ، (٢٤٢) أعلنوا إيمانهم على رؤوس الاشهاد و
(٢٠) لم يكونوا يبالون بالوجهة الدينية ، وهذا يعني أن ٩٢% أظهروا إيمانهم أمام
الناس ، وهذا ما يثبت الفكرة التي طرحناها لامتنا وهي ان العلم والطب هما من جملة
محاريب الإيمان ، ولنسمع إلى اقوال بعض العلماء في هذا الصدد :
١ ـ الطبيب المشهور باستور : ( الإيمان
لا يمنع أي ارتقاء كان ،
__________________
لأن كل ترق ، يبين
ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله ، ولو كنت علمت أكثر مما أعلم اليوم ، لكان
ايماني بالله أشد وأعمق مما هو عليه الآن ).
٢ ـ الدكتور ( وتز ) عميد كلية الطب في
باريس ، وعضو اكاديمية العلوم ، وكيميائي : ( اذا أحسست في حين من الأحيان أن
عقيدتي بالله قد تزعزعت وجهت وجهي الى أكاديمية العلوم لتثبيتها ) ..
٣ ـ باسكال : ( صنفان فقط من الناس يجوز
أن نسميهم عقلاء : الذين يعرفون الله ، والذين يجدّون في البحث عنه لأنهم لا
يعرفونه ).
٤ ـ اينشتاين : ( إن الإيمان هو أقوى
وأنبل نتائج البحوث العلمية ) ، ( ان الايمان بلا علم ليمشي مشية الأعرج ، وان
العلم بلا إيمان ليتلمس تلمس الأعمى ) ..
٥ ـ ادمون هربرت ، جيولوجي ذائع الصيت ،
ومدرس بجامعة السوربون : ( العلم لا يمكن أن يؤدي الى الكفر ، ولا الى المادية ،
ولا يفضي إلى التشكيك ).
٦ ـ فابر : العلامة المؤرخ الطبيعي : (
كل عهد له أهواء جنونية ، واني اعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية وهو مرض
العهد الحالي وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي من أن ينزعوا مني العقيدة بالله ).
٧ ـ ألبرت ماكوب ونشستر : أستاذ الاحياء
بجامعة بايلور وعميد أكاديمية العلوم بفلوريدا سابقاً : ( ان اشتغالي بالعلوم قد
دعم إيماني بالله حتى صار أشد قوة وأمتن أساساً مما كان عليه من قبل ، ليس من
شك ان العلوم تزيد
الانسان تبصراً بقدرة الله وجلاله ، وكلما اكتشف الانسان جديداً في دائرة بحثه
ودراسته ازداد إيماناً بالله ) ..
٨ ـ اسحق نيوتن : ( ان هذا التفرع في
الكائنات وما فيها من ترتيب أجزائها ومقوماتها وتناسبها مع غيرها ومع الزمان
والمكان لا يمكن أن تصدر إلا من حكيم عليم ).
ـ * ـ
الطعام والتغذية
يقول الخالق الرازق : ( فلينظر
الانسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها
حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، متاعاً لكم
ولأنعامكم )
سورة عبس ...
ـ ١ ـ
كيف يستطيع الإنسان أن يتغذى بكل هذه
الأنواع ، من الأطعمة ، من الماء الى الخبز الى اللحم إلى الفاكهة الى الخضراوات ،
كيف تهضم امعاؤه كل هذه الأصناف المتباينة من الأغذية؟ كيف تهضم المشوي والمقلي
والمسلوق؟ كيف تهضم المطبوخ والنيء؟ كيف تتقبل وبنفس الوقت المالح والحامض والحلو
والمر؟ ثم كيف تتحول هذه الأغذية الى طاقة تحرك البدن ، ومواد ترميم ، وخامات
تصنيع جديدة؟
ـ ٢ ـ
ثم لننظر في الأسنان والشفاه والفم وكيف
ركب بشكل مدهش لتقبل الطعام ، فالأسنان منها القواطع والثنايا الأمامية لتقطيع
الطعام ، ومنها الأنياب لتمزيق اللحم والأشياء القاسية ، والأضراس في كل جانب
لطحن وجرش المأكولات
، بحيث ان اللقمة تنقلب إلىعجينة عندما تصل إلى المري والمعدة.
ثم لننظر في الغدد اللعابية وهي ثلاثة
أزواج : تحت الفك ، وتحت اللسان ، والغدة النكفية في كل جانب ، وهذه الغدد تفرز
المصل والمخاط والخمائر الخاصة بهضم النشويات وتبلل الطعام وتبلل الحلق ويصل
إفرازها اليومي إلى قرابة اللتر ، والخميرة التي تهضم النشا يبقى تأثيرها حتى
الساعة والنصف ولولاها لتأخر امتصاص النشويات وكلنا يعرف عسر الهضم عند المسنين
وذلك لنقص إفراز هذه الخميرة من غدد اللعاب ، كما تذيب مفرزات الغدد المواد فنشعر
بطعمها وهكذا نشعر بطعم المواد ومذاقها ، كما تشترك في تزليق المواد الصلبة فيسهل
بلعها ، وفي تليين الغذاء فيسهل مضغه ، كما تقوم هذه المفرزات بتعديل المواد
الداخلة الى الفم فيما إذا كانت ضارة أو حارة أو باردة وهكذا نشرب الشاي الساخن
الذي لا يتحمله إلا الفم بهذه الدرجة وبفضل الغدد اللعابية ، كما تقوم الغدد
اللعابية بجرف الخلايا المتوسفة وبقايا الأغذية والجراثيم ، وهكذا تفعل هذه الغدد
كما تفعل أمانة العاصمة في تنظيف هذه الأماكن وتطهيرها ، كما تعتبر مشعراً في
العطش فعندما تنقص السوائل في البدن يشعر الإنسان بجفاف حلقه فيشرب الماء ، ونرى
الخطباء الذي يتكلمون الساعات الطويلة ، والمتحدث والمتكلم العادي فكيف يمكن لكل
واحد فيهم من متابعة حديثه وتزييت لسانه؟!! إنه اللعاب الذي يرطب جوف الفم ولولاه
لما استطعنا متابعة الحديث ، وكلنا يشعر بذلك عندما يجف حلقه كيف يصعب عليه
الكلام.
فكيف اجتمعت كل هذه الوظائف في هذا
اللعاب العجيب فهو المنظف والمطهر والمعدل والمرطب والمزلق والملين والحامي ،
والمبلل ، والمذوق ، والمحلل ، والمشعر ، وجرس الانذار في الفم ، عشرات الوظائف في
سائل
واحد في الفم ناهيك
عن المواد المتعددة الداخلة في تركيبه من الماء والمعادن والأملاح والقلويات
والخمائر ...
ـ ٣ ـ
من الطارق؟ تتساءل المعدة ، ويكون
الجواب الطعام الشهي!! وينفتح الفؤاد على مصراعيه لدخول اللقمة الطعامية ، وتتسارع
غدد المعدة لفرش المكان لاستقبال الضيف ، وينهمر المخاط المزلق ، والحمض والخمائر
، ومواد أخرى ليبدأ التفاعل التاريخي لهضم الطعام ، إن جدار المعدة مفروش بخمسة
وثلاثين مليون غدة ، فيها أربعة أنواع من الخلايا ، وتفرز هذه الخلايا مواد
متباينة منها خميرة المعدة المسماة بالببسين ، وحمض كلور الماء ، والمخاط ، وهكذا يتهيء ربط المعدة
بالحمض وله قيمة مقدرة محددة هي أربعة بالألف ، كما يتسرع تفاعل هضم الطعام ،
ويزداد تحلله ، وهكذا ينقلب إلى ما يسمى بالكيلوس بعد أن تعمل به خمائر الهضم
الموجودة في المعدة ويتهيأ الطعام لدخول الأمعاء الدقيقة حتى يمتص ويرسل إلى مركز
الجمارك العام وهو الكبد.
ونتساءل هنا كما ذكرنا في السابق : إن
المعدة تهضم اللحم وهي لحم ، فلماذا لا تهضم نفسها؟
إن السر في هذا يعود إلى المخاط الذي
تفرزه ملايين الغدد المستقرة في جدار المعدة ، وقيل إن هذا المخاط إما أن يحوي
مادة معدلة تحمي المعدة أو تحدث فراشاً داخلياً يغطي جدار المعدة كله من الداخل ،
وعلى أية حال فهو أمر فذ.
__________________
وهناك عامل فذ آخر من آليات الجسم
الرائعة ، وهي عملية تكوين الخميرة الهاضمة ، فهي ترسل من الغدد ، وكأنها المسدس
الذي ضغط فيه زر الأمان ، ولذا فإنها تكون بحالة عطالة وهي ما تعرف بطليعة الخميرة
فاذا وصلت إلى وسط المعدة الحامضي انقلبت إلى شكل فعال يفتك باللحم والشحم ويغير
ويحول وكأنها المارد الذي انطلق من القمقم ، إن الحمض يلمس هذه الخميرة لمسة صغيرة
فتقلب إلى خميرة فعالة مؤثرة ..
ـ ٤ ـ
استطاع العلماء في عام (١٩٣٠) أن
يكتشفوا عاملاً مهماً يتكون في جدار المعدة الداخلي وسمي بالعامل الداخلي لكاسل ،
فقد لوحظ أن المصابين بقرحة المعدة إذا استؤصل قسم كبير منها وخاصة القاع ارتاحوا
من الأعراض الهضمية المزعجة السابقة ، ولكن لونهم يبدأ بالاصفرار ، وأجسامهم تصاب
بالوهن ، ويعتريهم الكلال بشكل عام. فما هو السبب يا ترى؟
لقد وجد أن مصنع الدم هو نخاع العظام
حيث يكون الكريات الحمر وغيرها ، وهو يستورد المواد الخام من الجسم ، ومن جملة
المواد الخام الحديد والفيتامين B١٢ ب١٢ فاذا اختل وصول المادة الخام بعارض ما وقف المصنع عن
الإنتاج بقدر ما يلزمه ، وحدث ما يعرف بفقر أو فاقة الدم ، وهذه المادة الخام التي
نحن بصددها الآن هي الفيتامين ( ب١٢ ) ( B١٢ ) ، فهذه
المادة إذا جاءت إلى وزارة التموين قامت بإنضاجها وتهيئتها على الوجه الأكمل لكي
ترسل إلى مصنع الكريات الحمر ، وعملية الإنضاج تتم بواسطة عامل كاسل الداخلي الذي
تكلمنا عنه ، فإذا فقد هذا العنصر كما في قطع المعدة ، أو ضمورها وعدم قدرتها على
الإفراز بسب ما ، اختل نضج الفيتامين ب١٢ ولم يتكون على الوجه السوي ،
وبالتالي فان مصنع
الكريات الحمر
لا يصنعها بشكل سوي لائق ويصبح وضعه كوضع الفرّان الذي يشتد الطلب عليه ولا يستطيع
تلبية ذكل فيخرج الخبز بسرعة بشكل غير ناضج ، وهكذا تخرج الكريات الحمر غير ناضجة
وهو ما يعرف بفقر الدم كبير الكريات تماماً كالرغيف الكبير المعجّن الذي لا يستساغ!!
رحلة سياحية إلى مركز
الجمارك العام ( الكبد )!!
ـ ١ ـ
بعد أن يصل الطعام إلى المعي الدقيق
تتدفق عليه عصارات قادمة من الكبد والمعثكلة لهضم الطعام وتحليله الى عناصره
الأولية ، وهكذا يتحلل السكر والبروتين والدسم وغيره ، ثم تنشأ عمليات معقدة تشترك
فيها عشرات الخمائر من أجل ايجاد الصيغة المناسبة لوضع المواد حتى يمكن ادخالها من
زغابات الامعاء ، وننظر فنرى بستاناً عجيباص من الزغابات وهي تتراقص على طول نفق
الامعاء ، وكأنها السنبل الأخضر تداعبه النسمات الرخية ، ويبلغ هذا الحقل السحري
من الزغابات رقماً عجيباً حيث يوجد في السنتمتر المربع الواحد ثلاثة آلاف زغابة
فكم سيبلغ العدد يا ترى في كافة الأمعاء ، خاصة وان طول هذا النفق يبلغ ثمانية
أمتار ، ويفرش سطحاً يبلغ (٤٨) ثمانية وأربعين متراً مربعاً ، أي إن عدد الزغابات
يصل في المعي الرقيق (١٤٤٠) مليون زغابة معوية ، ويقع خلفها سطح دموي يبلغ (١١)
متراً مربعاً ومعه (٥)
__________________
أمتار مربعة من
اللنف ، لأن العرق اللنفاوي هو الذي ينقل الدسم بشكل رئيسي ، وكل زغابة معوية عالم
بذاته فهي مؤلفة من شريان ووريد دموي وعرق لنفاوي ، كما يوجد على سطحها الخارجي
المطل على لمعة المعي طبق من العصيات الصغيرة المترابطة التي تقدر بـ (٣٠٠٠) في كل
خلية أي يبلغ عددها في ( الملم ٢ الواحد ) الملمتر المربع الواحد (٢٠٠) مليون فكم
ستبلغ في سطح الامعاء كلها؟!
هنا من هذا المكان يتحول الطعام إلى
سائل من نوع خاص حتى يمتص ، وهنا ترتب جوازات السفر حتى يمكن عبور الغشاء المخاطي
، والدخول إلى الزغابة المعوية وبالتالي إلى الدم الداخلي حتى يمكن الوصول إلى
الكبد ، لأن الأوردة التي تنقل محتوى الأغذية المختصة من الأمعاء تنقل بواسطة
الوريد الباب ، وهذا يصل أولاً إلى الكبد مركز الجمارك العام. ولنحاول تدبير جواز
سفر وهو الاتفاق مع إحدى الخمائر التي تنقلنا إلى الداخل لنرى نهاية هذه الرحلة
الاسطورية!! .. ثم لنمشي مع تيار الدم وبعد فترة قصيرة تلقي بنا عصى الترحال إلى
الجزيرة السحرية وهي عالم الكبد حيث نرى غدة محمرة تزن كيلوغرام ونصف وتعمل
خلاياها بنفس العمل ، إن هذه الغدة تقوم بما يصل إلى السبعين وظيفة من وظائف الجسم
الهامة والتي بدونها لا يعيش الجسم أكثر من ساعات محدودة معدودة ، فما هي هذه
الوظائف على وجه الإجمال؟ ندخل إلى الكبد مع الوريد الباب ، فيتفرغ بنا إلى فروع
أدق ، وهكذا نمشي في هذه المتاهة حتى نصل إلى التفرعات الأخيرة حيث تصل المواد إلى
مراكز العمل الداخلية ، فما هو عملها؟
ـ ٢ ـ
في هذا المركز مستودعات التخزين العظيمة
للسكر والبروتين والدسم والماء والدم والفيتامينات حيث يختزن الفيتامين ب ١٢
وفيتامين C ( ث )
وفيتامين ( آ )
وغيره .. وهذا التخزين متحرك وليس بثابت فهو كالمحطة ركاب نازلون وركاب صاعدون
والمواد في حركة دائمة وتبدل دائم ، وقصة تنظيم السكر التي تحدثنا عنها فيما سبق
قصة عجيبة نضيف اليها أن الأنسولين هو الهورمون الأساسي الذي ينظم عمل السكر ، وقد
استطاع العالم سانجر أن يكتشف تركيبه بعد جهود دامت عشر سنوات ، وعرف انه مركب من
سلسلتين من الاحماض الأمينية في السلسلة الاولى ثلاثون حمضاً أمينياً ، وفي
السلسلة المناظرة واحد وعشرون حمضاً أمينياً ، وبينهما جسور كبريتية مضاعفة وفيه (٧٧٧)
جوهراً.
وهكذا يعد الكبد من أعظم مستودعات
التخزين في الجسم ، ولكن هذا المخزن لا تنقطع فيه الحركة ، كما أن فيه تحولات
مدهشة ، فالسكر عندما يخزن يكثف إلى الغليكوجين ، كما ينحل إلى غلوكوز عندما يراد
إطلاقه إلى الدوران ، وهذا الاختزان عجيب في تنوعه ، فالمستودعات العادية لا
يمكنها أن تخزن الجوامد والسوائل وبقرب بعضها البعض ، بينما يقوم الكبد بتخزين
السكر والبروتين والدسم والماء والدم والأملاح والفيتامينات وبشكل محوّر ، وقدرة
الكبد في اختزان الدم تجعله احتياطياً محترماً في حالات احتياج البدن للدم ، كما
تجعله يتدخل في تنظيم كتلة الدم الجوّالة في الدوران ، وبالتالي في ضغط الدم.
وأما عمليات التكوين فهي أغرب ، فمن
الكبد يتم تصنيع بروتينات الدم ، وهي الألبومين والغلوبولين والفلوبولين
والفيبرنوجين ، والبروترومبين ، والهيبارين ، والأجسام الضديه والعوامل المتدخلة
في تخثر الدم كالعامل الخامس والسابع ، وهذه الاسماء التي أوردناها تحتاج كل كلمة
إلى العديد من الصفحات لكي تشرح على الوجه الأكمل ، فمثلاً موضوع تخثر الدم ـ حيث
تشترك العديد من العناصر في إيجاده ـ المهم فيه هنا هو الاتزان العجيب في ميوعة
الدم وتخثره ، فتخثر الدم يحدثه البورترومبين بينما
يحدث ميوعته
الهيبارين ، ومن اتزان هذين العنصرين ينساب الدم في العروق كأفضل ما يكون ، ينقل
الغذاء والاكسجين ويعود حاملاً غاز الفحم وفضلات الاحتراق ، ولو زادت نسبة أحد
هذين العنصرين بمقدار طفيف جداً لكان هذا معناه تخثر الدم أي تجلطه وانقلابه إلى
أشبه ما يكون بالوحل ، كما أن العكس يجعل الدم في ميوعته كالماء ، وبهذا الاتزان البديع ينساب الدم في
مجاريه محتقظاً بلزوجته ، قائماً بوظائفه ..
ويعلم الكبد أن الحديد والنحاس
والفيتامين ب١٢ تتدخل كلها في صناعة الدم ، لذلك فهو يحتفظ بها في مستودعات
التخزين لكي ترسل حسب الحاجة ، فكيف تقوم بهذه الخلايا هذه الوظائف كلها؟ ... ومن
هذه التفاعلات المعقدة المضطرمة تنتشر الحرارة وبعم الدفء في الأحشاء فتطمئن إلى
سير العمل وروعة البناء وإحكام التكوين ..
ـ ٣ ـ
ونقف أخيراً أمام اصطياد الجراثيم
والصباغات والمواد السامة ، وهي التي جعلتنا نسمي الكبد مركز الجمارك العالم لأنه
يفتش الدم القادم فيبعد المشبوه ويمرر الطبيعي فإذا ما لوحظ أن هناك من يبعث
بالنظام تصدى له بطرق يعجز عنها أعقل العقلاء!!! ..
هذه العملية هي ما تسمى بتعديل السموم ،
فالسموم الداخلة إلى البدن يقوم الكبد بإيقاف أذاها بعدة طرق ، أولها : الاعتقال
والقاء القبض على المجرم الضار حيث توضع في يديه الأقفال ويرسل مخفوراً إلى
المراكز التي تتولى طرحه خارج البدن ، وهي ما تعرف بالازدواج
__________________
الكبريتي أو
الغلوكوروني ، أو الازدواج مع الحمض الأميني. وهي طريقة كيميائية ـ حيث يرسل معه
شرطي للرقابة يقوم بإيصاله إلى المركز الذي يتولى طرحه خارج البدن والشرطي هنا كما
ترى هو الكبريتات أو الحمض الاميني أو الحمض الغلوكوروني. أو أن هناك طريقة آلية
فيزيائية تستعمل مع الزئبق حيث يدفع إلى المنحدرات التي تتلقفه وترسله إلى المناطق
التي تتولى طرحه خارج البدن وهي هنا الطرح عن طريق الاقنية الصفراوية إلى الامعاء
الدقيقة فالامعاء الغليظة حيث ينطرح مع الغائط!! ..
ولكن يحدث أن يوجد بعض المجرمين شديدي
الخطر الذي يخشى من أن يتملصوا من يد الشرطي أو يفتكوا به ، أو الذي لا يجدي معهم
الدفع والطرح ، فالطريقة المناسبة إذن هي السجن والاعتقال المديد!! وهكذا يحتجز
المورفين والستركنين ، ومن المعلوم أن السجون الاصلاحية تقوم بارشاد المجرمين
وتثقيفهم حتى إذا اطمأنت إلى عدم ضررهم في المجتمع أخرجتهم من السجون مرة أخرى ،
وهكذا يفعل الكبد مع هذه المواد حيث يطرحها بشكل بطىء بحيث إنها لم تعد تحدث الضرر
في البدن.
وبالإضافة الى هذا توجد الشبكات
المنتشرة في الكبد التي تصطاد الجراثيم والاصبغة ، وهي أشبه بدوريات الشرطة اليت
تقف عند المقارق ، والمراكز الحساسة ، وهي ما تعرف بالشبكة الغندوتليالية ، وهكذا
يتخلص البدن من أذى السموم والجراثيم والأصبغة ... ولكن ما هي الحالة عندما يزداد
ورود المواد السامة إلى الكبد فلا تستطيع التعديل ولا تكفيها المنفردات والزنزانات
والسجون الجماعية!! هنا تحدث ثورة المساجين وهكذا يتدمر الكبد ويضطرب حبل النظام
وتعم الفوضى ويتخرب الجسم ، هذا ما يحدث تماماً في الحالة المعروفة بتشحم الكبد
أو تشمع الكبد حيث
يؤدي تناول الخمر المستمر إلى تشمع الكبد
ومعنى تشمع الكبد الحكم بالاعدام البطيء على المصاب ومن هنا ندرك معنى تحريم الخمر
في الإسلام ، ولماذا حرمت امريكا الخمر على شعبها.
ـ ٤ ـ
ان امريكا أصرت على تحريم الخمر عام
(١٩١٩) ميلادي وأصرت على التحريم أربعة عشر عاماً كاملة ، وحدث خلالها الشيء
العجيب ، بليون نشرة تشرح أضرار الخمر ، (٤٠٤) مليون دولار مصادرات ، (١٦) مليون
دولار غرامات ، سجون (٥٣٢٣٣٥) شخص. إعدامات رمي بالرصاص (٣٠٠) شخص. ومع كل هذا زاد
عدد مصانع الخمر المحظورة تجارة مربحة ، سخرت الاساطيل والامكانيات والقوى لصد
الشعب عن هذه العين الآسنة ولكنه لم يرتدع لأن التكاليف لا تبنى الا على اساس الايمان
، وهكذا فعل الاسلام بنى العقيدة ورسخها ثم جاء بالتكاليف فحرمت الخمرة ونجحت
التجربة بآيات قليلة ، وبركة تحريم الخمر سارية في بلاد الشرق حتى اليوم من أثر
تلك التربية حيث لا يشكل عدد مدمني الخمر بالنسبة الى العالم الغربي شيئاً يذكر ...
ـ ٥ ـ
ومن رحلة التخزين والتحويل والقلب
والتكثيف والحل وتعديل السموم ، وادخار المواد ، وإفراز المصنوعات ، وتكوين
البروتينات ،
__________________
وبعد كل هذا نقف
قليلاً لنوجه سؤالاً إلى الاطباء والعلماء العقلاء الذين يمرون على هذه الآيات وهم
عنها معرضون!! .. إجيبونا على هذه الدقة العظيمة من صممها؟ وعلى هذه الروعة
الكامنة من هندسها؟ وهل تقود هذه إلى الخشوع والتبتل أم الى الشرود والجفاف؟ وهل
تعمق الايمان أم تزعزع اليقين؟ وهل تفتح ينابيع الرحمة أم توصدها وتجعل القلب
كقساوة الحجر؟ أم تقود إلى الانكباب على المتاع الرخيص والانقياد الى الملذات
والشهوات وحب الجاه؟ أم أن هذه المعلومات تعمق الهوة ما بين العلم والدين والاطباء
والخالق الذي فطرهم؟ أم أن الطب صومععة كفر وزاوية إلحاد؟ أم أن الطب يقود إلى
الانفلات وجمع الفتات وتقليب الصفحات؟؟. وتكديس أوراق البنكنوت!! اللهم لا ...
( أيحسب الانسان ان
يترك سدى. ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى. فجعل منه الزوجين الذكر
والانثى. أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) سورة القيامة.
سبحانك فبلى.
والحمد لله رب العالمين.
مراجع الكتاب باللغة العربية
القرآن الكريم
١ ـ كتاب علم الغريزة جزء أول وثاني
للدكتور محمد شفيق البابا.
٢ ـ كتاب مصير البشرية للكاتب الفرنسي
ليكونت دي نوي ترجمة أحمد عزت طه وعصام أحمد طه.
٣ ـ كتاب هذا الانسان للدكتور حبيب
صادر.
٤ ـ كتاب الكيمياء العامة للاستاذ أدوار
خوري.
٥ ـ كتاب الكيمياء العامة واللاعضوية
للدكتور موفق سخاشيرو.
٦ ـ كتاب الخلية وعلم الجنين للاستاذ
الدكتور هاني خليل بطيخ.
٧ ـ كتاب النسيج العام جزء أول وثاني
لمؤلفه الدكتور كنعان الجابي.
٨ ـ كتاب الكيمياء الحيوية للمؤلفين
الدكتورين هيثم خياط واسماعيل عزت.
٩ ـ كتاب قصة الايمان نديم الجسر.
١٠ ـ كتبا التشريح الطبيعي جزء ١ ـ ٤
دكتور فايز المط.
١١ ـ كتاب جراحة الصدر والقلب للدكتور
محسن أسود.
١٢ ـ كتاب الأمراض العصبية للدكتور فيصل
الصباغ بالاضافة الى كتاب أمراض الجهاز الحركي.
١٣ ـ كتاب طب الاطفال للدكتور سهيل
بدورة.
١٤ ـ كتاب التوليد الطبيعي والمرضي
للدكتور برمدا والدكتور قنواتي.
١٥ ـ كتاب أمراض الغدد الصم والاستقلاب
دكتور جوزيف صايغ.
١٦ ـ التخدير والانعاش للدكتور برهان
العابد.
١٧ ـ كتاب الفيزياء ، الدكتور محمد
الخطيب.
١٨ ـ كتاب الوجيز في أمراض العين جزء ١
ـ ٢ تأليف الدكتور ممدوح الصباغ.
١٩ ـ كتاب الفيزيولوجيا الحيوانية ،
وظائف الاتصال الدكتور زياد قطب.
٢٠ ـ كتاب روح الدين الاسلامي عفيف عبد
الفتاح طبارة.
فهرست
|
صفحة
|
|
|
صفحة
|
تقديم
|
٥
|
|
الاعصاب
|
١٠٢
|
المصادفة أو القصد والتصميم
|
١٣
|
|
نظرة عن قشر المخ
|
١١٠
|
أبحاث الذرة
|
٢٣
|
|
ثبات الخلايا العصبية
|
١١٨
|
بعض أسرار الخلية
|
٣٥
|
|
فكرة عن مخطط الدماغ الكهربي
|
١٢٩
|
تخصص الخلية
|
٣٨
|
|
ما هو عمل المخيخ
|
١٣٢
|
عمر الخلية
|
٤٠
|
|
تتمة القلب وتسبيحه
|
١٤١
|
الأنسجة
|
٤٣
|
|
شرطي المرور المتواضع
|
١٤٤
|
الغشاء العاقل
|
٤٥
|
|
تنظيم النوم
|
١٤٥
|
رحلة مع ذرة السكر
|
٤٩
|
|
بعض الافكار عن الذاكرة
|
١٧٦
|
تكوين البروتين الحلوي
|
٥٢
|
|
حاسة السمع
|
١٩١
|
تفسير نشأة الحياة
|
٥٧
|
|
حاسة البصر
|
٢٠٢
|
تخلق الانسان
|
٥٩
|
|
دور المخ في الرؤية
|
٢١٣
|
العفريت ذو الاقنعة المتعددة
|
٦٠
|
|
كيف نرى الالوان
|
٢١٤
|
عمل ملكة الغدد
|
٦٤
|
|
حاسة الشم
|
٢٢٤
|
مصنع البيوض عند المرأة
|
٦٨
|
|
حاسة الذوق
|
٢٢٧
|
لقاء الحيوان المنوي والبويضة
|
٧١
|
|
أجراس الانذار في الجسم البشري
|
٢٣٠
|
تكوين الذكر والانثى
|
٧٦
|
|
الغدد الصم الداخلية
|
٢٣٦
|
الولادة
|
٨٢
|
|
وزارات الجسم
|
٢٥٢
|
تشخيص الحمل
|
٨٩
|
|
الطعام والتغذية
|
٢٥٩
|
الجملة العصبية المركزية
|
٩٤
|
|
رحلة سياحية الى مركز الجمارك العام
|
٢٦٣
|
|