في قاعدة الفراغ والتجاوز

المسألة الثانية : في أنّ أصالة الصحّة في العمل (٢٦٠٨)

______________________________________________________

٢٦٠٨. اعلم أنّا إن قلنا باختصاص مورد قاعدة حمل فعل المسلم على الصحّة بفعل غير الحامل ، فالنسبة بينها وبين قاعدة الشكّ بعد الفراغ هو التباين.

وإن قلنا بكونه أعمّ منه ومن فعل الحامل ، بناء على ما يظهر من بعضهم من شمول الاولى لفعله كما سيجيء في محلّه ، فالنسبة بينهما بحسب المورد بالنسبة إلى فعل الحامل عموم من وجه ، لاختصاص الاولى بما كان الشكّ فيه في وجه الفعل وصفته ، أعني : صحّته بعد إحراز وقوعه ، وعمومها لما كان الشكّ فيه قبل تجاوز المحلّ وبعده ، واختصاص الثانية بما كان الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ وعمومها لما كان الشكّ فيه في الصفة أو الموصوف ، ففي مادّة الاجتماع يحكم بالصحّة من وجهين. وتظهر الثمرة في مورد الاجتماع في المعاملات ، بناء على اختصاص الثانية بالعبادات مطلقا أو في الجملة على الخلاف كما سيجيء ، فيحكم بالصحّة حينئذ لأجل القاعدة الاولى دون الثانية.

وقيل : لا بدّ حينئذ من تخصيصها بصورة تجاوز المحلّ ، تخصيصا لها بمفهوم عمومات قاعدة الفراغ ، مثل قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» فإنّ عموم القاعدة الاولى يعمّ صورة تجاوز المحلّ وعدمه ، فيخصّص بمفهوم «إذا خرجت». وفيه إشكال بل منع ، لما تقرّر في محلّه من عدم جواز العمل بمفهوم الدليل مع عدم العمل بمنطوقه ، والمقام من قبيل ذلك ، لفرض عدم العمل بقاعدة الفراغ في المعاملات.

بعد الفراغ عنه لا يعارض بها الاستصحاب إمّا لكونها من الأمارات ، كما يشعر به (٢٦٠٩) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في بعض روايات ذلك الأصل ـ : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" (١) ، وإمّا لأنّها وإن كانت من الاصول إلّا أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب (٢٦١٠) يدلّ على تقديمها عليه ، فهي خاصّة بالنسبة إليه ، يخصّص بأدلّتها أدلّته ، ولا إشكال في شيء من ذلك.

إنّما الإشكال في تعيين مورد ذلك الأصل من وجهين : أحدهما من جهة تعيين معنى" الفراغ" و" التجاوز" المعتبر في الحكم بالصحّة ، وأنّه هل يكتفى به أو يعتبر الدخول في غيره؟ وأنّ المراد بالغير ما هو؟ الثاني : من جهة أنّ الشك في وصف الصحّة للشيء ملحق بالشكّ في أصل الشيء أم لا؟

وتوضيح الإشكال من الوجهين موقوف على ذكر الأخبار (٢٦١١) الواردة في هذه القاعدة ، ليزول ببركة تلك الأخبار كلّ شبهة حدثت أو تحدث في هذا المضمار ،

______________________________________________________

٢٦٠٩. لأنّه بمنزلة العلّة. وحاصلها : أنّ الغالب في مورد القاعدة هو التفات الفاعل إلى فعله وصفته من الصحّة والفساد ، والعاقل الملتفت لا يتعمّد إلى ترك الفعل أو إلى إيقاعه على وجه الفساد ، مع كونه مطلوبا منه على وجه الصحّة.

٢٦١٠. لأنّ الشكّ في مورد القاعدة إمّا في صفة الفعل أو وقوعه ، والأصل عدم كلّ منهما ، فلو لم تكن القاعدة مقدّمة على الاستصحاب للغي اعتبارها ولعري عن الفائدة. ويرشد إليه تقديمها عليه في مورد الأخبار الواردة في المقام.

٢٦١١. استدلّ عليه أيضا ـ مضافا إلى الأخبار ـ بوجوه أخر ، منها : الإجماع في الجملة. ومنها : بناء العقلاء على الصحّة بعد تجاوز المحلّ. ومنها : ظهور حال العاقل المريد لإيقاع الفعل على وجه الصحّة ، كما أشار إليه فخر الدين في الإيضاح في مسألة من شكّ في بعض أفعال الغسل ، قال : «إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف ، الذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح ، وهو يعلم الكيفيّة والكميّة ، الصحّة» انتهى. ومنها : الغلبة ، لأنّ الغالب في الأفعال الصحّة ، فتأمّل جيّدا.

فنقول مستعينا بالله : روى زرارة في الصحيح (٢٦١٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : " إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء" (٢). وروي إسماعيل (٢٦١٣) بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : " إنّ شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه" (٣). وهاتان الروايتان ظاهرتان في اعتبار الدخول في غير المشكوك. وفي الموثّقة (٢٦١٤): " كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو" (٤). وهذه الموثّقة ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير. وفي موثّقة ابن أبي يعفور : " إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه". وظاهر صدر هذه الموثقة كالاوليين وظاهر عجزها كالثالثة. هذه تمام ما وصل إلينا من الأخبار العامّة.

وربّما يستفاد العموم (٢٦١٥) من بعض ما ورد في الموارد الخاصّة ، مثل :

______________________________________________________

٢٦١٢. قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال : يمضي. قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال : يمضي. قلت : شكّ في القراءة وقد ركع؟ قال : يمضي. قلت : شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال : يمضي على صلاته. ثمّ قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء». ومثلها ما رواه الحلبي عن الصادق عليه‌السلام وهي مرويّة في الفقيه ، إلّا أنّ فيها : «وكلّ شيء شكّ فيه وقد دخل في حالة اخرى فليمض ، ولا يلتفت إلى الشكّ» الحديث.

٢٦١٣. رواه عنه الشيخ في الحسن بمحمّد بن عيسى الأشعري.

٢٦١٤. قيل رواه الشيخ في الصحيح عن ابن بكير الثقة الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام.

٢٦١٥. أمّا من الأوليين فبتنقيح المناط وإلغاء خصوصيّة المحلّ ، واستفادة ورودهما لبيان إعطاء القاعدة. وفيه نظر. وأمّا من الثالثة فبتضمّنها لما هو بمنزلة العلّة المنصوصة.

قوله عليه‌السلام في الشكّ في فعل الصلاة بعد خروج الوقت من قوله عليه‌السلام : " وإن كان بعد ما خرج وقتها فقد دخل حائل فلا إعادة" ، وقوله عليه‌السلام : " كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّرا فأمضه كما هو". وقوله عليه‌السلام فيمن شكّ في الوضوء بعد ما فرغ : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ". ولعلّ المتتبّع يعثر (٢٦١٦) على أزيد من ذلك.

وحيث إنّ مضمونها لا يختصّ بالطهارة والصلاة ، بل يجري في غيرهما كالحجّ ، فالمناسب الاهتمام في تنقيح مضامينها ودفع ما يتراءى من التعارض بينها ، فنقول مستعينا بالله ، فإنّه وليّ التوفيق.

إنّ الكلام يقع في مواضع : الموضع الأوّل : أنّ الشكّ في الشيء ظاهر لغة وعرفا في الشكّ في وجوده ، إلّا أنّ تقييد ذلك في الروايات بالخروج عنه ومضيّه والتجاوز عنه ، ربّما يصير قرينة على إرادة كون وجود أصل الشيء مفروغا عنه ، وكون الشكّ فيه باعتبار الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا.

______________________________________________________

٢٦١٦. منها ما رواه في الفقيه عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إن شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر ثلاثا صلّى أم أربعا ، وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك». وهي وإن كانت أخصّ من المدّعى ، لأجل اختصاص موردها بصورة اليقين بالإتمام حين العمل ، إلّا أنّه يمكن إتمامها بعدم القول بالفصل. وفيه نظر ، لأنّها بظاهرها إنّما تدلّ على اعتبار الشكّ الساري لا قاعدة الفراغ ، وقد تقدّم الفرق بينهما في كلام المصنّف رحمه‌الله.

ومنها : ما في ذيل صحيحة زرارة : «فإذا قمت عن الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حال اخرى في الصلاة أو غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله ، لا شيء عليك». ومنها : ما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : «رجل شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة؟ قال : يمضي على صلاته ولا يعيد».

نعم لو اريد الخروج والتجاوز عن محلّه ، أمكن إرادة المعنى الظاهر (٢٦١٧) من الشكّ في الشيء. وهذا هو المتعيّن ، لأنّ إرادة الأعمّ (٢٦١٨) من الشكّ في وجود الشيء والشكّ الواقع في الشيء الموجود ، في استعمال واحد ، غير صحيح. وكذا إرادة خصوص الثاني ، لأنّ مورد غير واحد من تلك الأخبار هو الأوّل ، ولكن

______________________________________________________

٢٦١٧. لأنّه إذا اريد بالتجاوز في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه» هو التجاوز عن محلّ الشيء المشكوك فيه ، فهو لا ينافي كون المراد بالشكّ فيه الشكّ في وجوده دون صفته.

٢٦١٨. توضيحه : أنّ الشكّ في الشيء تارة يطلق ويراد به كون الشيء مشكوكا فيه ، فيكون لفظ «في» حينئذ صلة لا ظرفا ويكون مؤدّاه الشكّ في وجوده. واخرى يراد به الشكّ الواقع في الشيء الموجود ، بأن كان لفظ «في الشيء» ظرفا مستقرّا متعلقا بأفعال العموم ، والمراد بوقوع الشكّ في الشيء الموجود وكونه ظرفا له تعلّق الشكّ بما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، لأنّه مع الشكّ في بعض ما يعتبر في الشيء الموجود ينزّل منزلة وقوعه فيه ، فيعبّر عنه بالشكّ في الشيء ، على أن يكون الظرف صفة للشكّ من باب المسامحة. وهذان المعنيان لا تصحّ إرادتهما من كلام واحد إلّا على القول بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، وهو ضعيف كما قرّر في محلّه.

وقد أورد عليه بعض مشايخنا بأنّ حمله على إرادة المعنى الأوّل لا ينافي شمول الأخبار لصورتي الشكّ في وجود شيء والشكّ في صفته ، أعني : الصحّة فيما نحن فيه ، بناء على كون الشكّ في وجوده أعمّ من الشكّ في وجوده الواقعي والشرعيّ ، لأنّ ما ليس بصحيح شرعا ليس بموجود كذلك ، فعلى التقديرين يصدق كون الشكّ في وجوده.

ويمكن دفعه بأنّ المنساق من الشكّ في الشيء هو الشكّ في وجوده الواقعي ، وحمله على المعنى الأعمّ يحتاج إلى قرينة ، فتأمّل.

يبعد ذلك في ظاهر موثّقة محمّد بن مسلم من جهة قوله : " فأمضه (٢٦١٩) كما هو" ، بل لا يصحّ ذلك (٢٦٢٠) في موثّقة ابن أبي يعفور ، كما لا يخفى.

لكنّ الإنصاف : إمكان تطبيق (٢٦٢١) موثّقة محمد بن مسلم على ما في الروايات ، وأمّا هذه الموثّقة فسيأتي توجيهها على وجه لا تعارض الروايات إن شاء الله تعالى.

الموضع الثاني : أنّ المراد بمحلّ الفعل (٢٦٢٢) المشكوك في وجوده هو الموضع (*)

______________________________________________________

٢٦١٩. لأنّ وجوب البناء على وقوع الفعل على ما هو عليه في الواقع من الاشتمال على أجزائه وشرائطه ، ظاهر في اختصاص الحكم بصورة الشكّ في صحّة الفعل بعد إحراز وقوعه لا في نفس الوقوع.

٢٦٢٠. لصراحتها في اعتبار كون الشكّ في بعض ما يعتبر في الوضوء شطرا أو شرطا ، فتكون صريحة في الشكّ في الصحّة. ولكن قد يقال بأنّ ظاهرها فرض الشكّ في وجود ما يعتبر في الوضوء ، لا في صحّة الوضوء باعتبار بعض ما يعتبر فيه. والفرق بينهما واضح ، وإن كان الأوّل مستلزما للثاني ، وحينئذ يتعيّن حملها على إرادة المعنى الأوّل. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المراد بقوله : «إذا شككت في شيء من الوضوء» هو الشكّ في صحّة الوضوء. والتصريح بكون الشكّ في وجود بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، إنّما هو من جهة أنّ الشكّ لا بدّ أن يكون ناشئا من الشكّ في وجود بعض ما يعتبر فيه ويؤيّده رجوع الضمير في «غيره» إلى الوضوء دون المشكوك فيه كما سيجيء ، فإنّ اعتبار الدخول في غير الوضوء يؤيّد كون المقصود بالشكّ المقصود بيان حكمه هو الشكّ في صحّة الوضوء ، لا الشكّ في خصوص ما يعتبر فيه.

٢٦٢١. بأن يراد بقوله «امضه كما هو» هو البناء على وقوعه على نحو ما ينبغي أن يقع عليه ، لا البناء على كون الواقع واقعا على ما ينبغي أن يقع عليه.

٢٦٢٢. هذا مبنيّ على كفاية مجرّد التجاوز عن محلّ الفعل المشكوك في وجوده أو صحّته في عدم الاعتداد بالشكّ. وأمّا على القول باعتبار الدخول في

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الموضع» ، الموضوع.

.................................................................................................

______________________________________________________

الغير ، فلا بدّ أن يكون هذا الغير مترتّبا على المشكوك فيه ، بأن كانت مرتبته بعد مرتبته ، لأنّه مقتضى اعتبار التجاوز عنه والدخول في غيره. والترتّب بالمعنى المذكور إمّا أن يكون شرعيّا ، كأفعال الصلاة والطهارات والحجّ ونحوها. وإمّا أن يكون عاديّا ، كاعتياد الاستبراء قبل الاستنجاء. وإمّا أن يكون عقليّا ، كترتّب الحرف الساكن على المتحرّك ، بأن شكّ حين التكلّم بالساكن في أنّه انتقل إليه من الحرف المتحرّك قبله أو من متحرّك آخر بدله ، فإذا شكّ في حال التكلّم بكاف كلمة «أكبر» في أنّه انتقل إليه من الهمزة المتحرّكة أو من متحرّك آخر ، بنى على الأوّل هذا والمتيقّن من كلمات الأصحاب في جريان القاعدة هو ما كان الترتّب فيه شرعيّا أو عقليّا ، ولكن إطلاق الأخبار يشمل الجميع.

ثمّ إنّ الترتّب إمّا أن يكون وضعيّا ، بمعنى توقّف صحّة الفعل الثاني على الإتيان بالأوّل كما في أفعال الطهارات والصلاة. وإمّا أن يكون تكليفيّا ، بأن يجب الإتيان بأحدهما قبل الآخر ، وإن صحّ مع التأخّر أيضا. فثمرة التأخير مجرّد حصول العصيان به في الإلزاميّات ، كأفعال منى في الحجّ ، لأنّ رمي الجمرة مثلا واجب قبل الحلق ، إلّا أنّ العمل مع التأخير يقع صحيحا أيضا. وكذا سجدتا السهو بالنسبة إلى الفراغ من الصلاة إذا وقع فيها ما يوجبهما ، ومثلهما الأذان والإقامة من المندوبات ، فإنّ مرتبتها متأخّرة عن مرتبته في التكليف الندبي. وقد تضمّن حكم الشكّ في الأذان بعد الدخول في الإقامة صحيحتا زرارة والحلبي المتقدّمتان سابقا. وإمّا أن يكون في الكمال ، بأن يتوقّف كمال أحدهما على تقدّم الآخر عليه ، كتوقّف كمال قراءة القرآن على تقدّم الطهارة والاستقبال ، وتوقّف كمال الصلاة على تقدّم الإقامة عليها. وقد تضمّنت الصحيحتان حكم الشكّ في الإقامة ، فمع الشكّ في وقوع ما ينبغي تقدّمه يبنى على وقوعه. والمتيقّن من كلمات الأصحاب في جريان القاعدة هو الأوّل ، وإن كانت الأخبار تعمّ الجميع ، وهو أيضا ظاهر جماعة من المتأخّرين ممّن التزم بعموم الأخبار.

الذي لو اتي به فيه لم يلزم منه اختلال في الترتيب المقرّر. وبعبارة اخرى : محلّ الشيء هي المرتبة المقرّرة له بحكم العقل (٢٦٢٣) أو بوضع الشارع أو غيره ولو كان نفس المكلّف من جهة اعتياده بإتيان ذلك المشكوك في ذلك المحلّ. فمحلّ تكبيرة الإحرام قبل الشروع في الاستعاذة لأجل القراءة بحكم الشارع ، ومحلّ كلمة" أكبر" قبل تخلّل الفصل الطويل بينه وبين لفظ الجلالة بحكم الطريقة المألوفة في نظم الكلام ، ومحلّ الراء من" أكبر" قبل أدنى فصل يوجب الابتداء بالساكن بحكم العقل ، ومحلّ غسل الجانب الأيسر أو بعضه في غسل الجنابة لمن اعتاد الموالاة فيه قبل تخلّل فصل يخلّ بما اعتاده من الموالاة.

______________________________________________________

ثمّ إنّ اعتبار الترتّب فيما حصل الترتّب فيه بين الفعلين بحسب الوضع أو العادة أو الكمال واضح. وأمّا في غيره ، مثل ما لو شكّ في بعض حالاته في الإتيان بالصلاة أو إحدى الطهارات أو غيرهما ، أو في إيقاعها على الوجه المأمور به ، فلا بدّ حينئذ من اعتبار الدخول في الفعل الذي اعتبر الشارع عدمه في المشكوك فيه ، كالأكل والشرب والمشي والنوم ونحوها بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّ مرتبة هذه الامور متأخّرة عنها ، لأنّ المراد بالترتّب ـ كما عرفت ـ مجرّد كون الفعل الذي حصل الشكّ بعد الدخول فيه ممّا من شأنه أن يوقع بعد المشكوك فيه على بعض الوجوه ، فإذا اعتاد الإتيان بالصلاة في أوّل وقتها ، فإذا شكّ في الإتيان بها بعد مضيّ الوقت المعتاد مع الاشتغال بما ينافيها ، لا يعتدّ بهذا الشكّ ويحكم بوقوعها.

٢٦٢٣. يعني : أنّ الابتداء بالساكن لمّا كان محالا عقلا (*) ، فلازم هذا الحكم العقلي أن يكون محلّ الراء من كلمة «أكبر» قبل الفصل اليسير. وأنت خبير بأنّ

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «قوله : محالا عقلا ... ، عند الجمهور ، خلافا لبعضهم حيث جعل الابتداء بالساكن في غير الألف متعسّرا لا متعذّرا. قيل : الظاهر أنّ مناط هذا الخلاف على أنّ الحركة هل هي انفصال ما للحرف عن المخرج بعد اتّصاله به ، والسكون اتّصاله به من غير انفصال مطلقا ، أو هي انفصال تامّ ، وهو اتّصال بلا انفصال تامّ؟ فعلى الأوّل الابتداء بالساكن متعذّر مطلقا. وعلى الثاني متعسّر ، كما في صورة ألزمه والاختلال ، ولكن في غير الألف ، لتعذّره فيه مطلقا. وهو ظاهر. وأمّا ـ كون الحركة بالمعنى الثاني ، والسكون بالمعنى الأوّل ، فمستلزم لوجود الواسطة بينهما ، كما أنّ كونهما بعكس هذا مستلزم لردّ التقابل بينهما ، فافهم. ثمّ الحقّ منهما هو المعنى الأوّل والحكم بالتعذّر ، كما هو المشهور ، انتهى. منه دام ظلّه».

هذا كلّه ممّا لا إشكال فيه إلّا الأخير (٢٦٢٤) ، فإنّه ربّما يتخيّل انصراف (٢٦٢٥) إطلاق الأخبار إلى غيره ، مع أنّ فتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة إطلاقات (٢٦٢٦) كثيرة ، فمن اعتاد الصلاة في أوّل وقتها أو مع الجماعة ، فشكّ في فعلها بعد ذلك ، فلا يجب عليه الفعل. وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ من الصلاة فرأى نفسه فيه وشكّ في فعل الصلاة. وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتدّ به أو قبل دخول الوقت للتهيّؤ ، فشكّ بعد ذلك في الوضوء ، إلى غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها.

نعم ذكر جماعة من الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شكّ في الجزء الأخير ، كالعلّامة (٥) وولده والشهيدين والمحقّق الثاني وغيرهم قدّس الله أسرارهم.

______________________________________________________

الراء في كلمة «أكبر» ليس بساكن ، لكونه متحرّكا بالضمّ ، إلّا أن يريد به حال الوقف. وكيف كان ، فالأولى التمثيل بكاف كلمة «أكبر».

٢٦٢٤. أي : المحلّ العادي.

٢٦٢٥. يمكن منع الانصراف ، لعدم المنشأ له ، لأنّ منشأه إمّا كثرة الاستعمال أو كثرة الوجود أو كمال بعض الأفراد ، وشيء منها غير متحقّق في المقام ، لأنّ صدق التجاوز والخروج والمضيّ بالتجاوز عن المحلّ الشرعيّ والعقلي والعادّي على حدّ سواء. مضافا إلى منع كون الأخيرين منشأ للانصراف ، كما قرّر في محلّه.

٢٦٢٦. فيه نظر ، لأنّه إن أراد بالإطلاقات إطلاق الأمر بالصلاة ونحوه ، فلا ريب في عدم تحقّق الإطلاق مع الشكّ في الامتثال. وكذلك إن أراد بها إطلاقات الإطاعة ، لعدم صحّة التمسّك بها مع الشبهة في المصداق الخارجي. فالمتعيّن حينئذ في الموارد المذكورة هو التمسّك بقاعدة الاشتغال.

واستدلّ فخر الدين على مختاره في المسألة بعد صحيحة زرارة المتقدّمة : بأنّ خرق العادة على خلاف الأصل ، ولكن لا يحضرني كلام منهم في غير هذا المقام ، فلا بدّ من التتبع والتأمّل.

والذي يقرب في نفسي عاجلا هو الالتفات إلى الشكّ ، وإن كان الظاهر من قوله عليه‌السلام فيما تقدّم : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" : أنّ هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل ، فهو دائر مدار الظهور النوعي ولو كان من العادة ، لكنّ العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضا مشكل (٢٦٢٧) ، فتأمّل. والأحوط ما ذكرنا.

الموضع الثالث : الدخول في غير المشكوك إن كان محقّقا للتجاوز (٢٦٢٨) عن المحلّ ، فلا إشكال في اعتباره ، وإلّا فظاهر الصحيحتين الاوليتين اعتباره ، وظاهر إطلاق موثّقة ابن مسلم عدم اعتباره. ويمكن حمل التقييد (٢٦٢٩) في الصحيحين

______________________________________________________

٢٦٢٧. وجه الإشكال : ما أشار إليه من أنّ العمل بعموم ما يستفاد من الرواية يستلزم الالتزام بفروع يبعد التزام الفقيه به. والأمر بالتأمّل إشارة إلى الإشكال في مخالفة الرواية ، وطرحها بمجرّد الاستبعاد المزبور.

٢٦٢٨. توضيحه : أنّ تحقّق التجاوز عن المحلّ تارة يستند إلى الدخول في الغير ، كما إذا شكّ في تكبيرة الإحرام بعد الدخول في الاستعاذة للقراءة من دون فصل طويل ، بحيث لو لم يشرع فيها كان محلّ التكبير باقيا. واخرى لا يستند إليه ، بأن يتحقّق التجاوز قبل الدخول في الغير ولو لأجل الفصل المعتدّ به بينهما. وعلى الأوّل لا إشكال في عدم الاعتناء بالشكّ ، لكونه متيقّنا من الأخبار الواردة في المقام. وعلى الثاني فيه إشكال. وظاهر الصحيحين اعتبار الدخول في الغير ، وظاهر الموثّق عدم اعتباره. وممّا ذكرناه يندفع ما يتوهّم من العبارة ، من كون ظاهرها كون الدخول في الغير أعمّ من التجاوز عن المحلّ ، وليس كذلك ، لكون الأمر بالعكس. ووجه الاندفاع واضح ممّا ذكرناه.

٢٦٢٩. لا يخفى أنّه يمكن ترجيح الأخبار المطلقة بحمل الغير في الأخبار المقيّدة على مطلقة ، بأن يدّعى أنّ تقييدها به إنّما هو من جهة كون التجاوز عن

على الغالب خصوصا في أفعال الصلاة ، فإنّ الخروج من أفعالها يتحقّق غالبا بالدخول في الغير ، وحينئذ فيلغو القيد. ويحتمل ورود المطلق على الغالب ، فلا يحكم بالإطلاق.

ويؤيّد الأوّل ظاهر التعليل (٢٦٣٠) المستفاد من قوله عليه‌السلام : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" وقوله عليه‌السلام : " إنّما الشكّ إذا كنت في شىء لم تجزه" بناء على ما

______________________________________________________

المحلّ ملازما للدخول في الغير ، لعدم خلوّ الشخص من جميع الأفعال بناء على تجدّد الأكوان. والتنافي بين الأخبار إنّما يتمّ إن كان المراد بالغير في الأخبار المقيّدة خاصّا لا مطلقا.

ولكن يدفعه : أنّ ظاهر اعتبار الدخول في الغير في الأخبار المقيّدة في الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ كون المناط في الحكم هو الدخول في الغير لا مطلق التجاوز عن الشيء. وإناطة الحكم بالأوّل يرشد إلى كون المراد بالغير خاصّا لا مطلقا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ذلك من النكات البيانية التي تلاحظ في البلاغة ، لا في استنباط الأحكام الشرعيّة من خطاباتها ، كيف ولو اعتبرت هذه النكات لزم القول باعتبار مفهوم الوصف أيضا ، لعدم قصوره في الإشعار بالعليّة عمّا ذكر ، بل اعتبار هذه النكات في كلام البلغاء أيضا ليس على وجه يكون مستندا للأحكام الشرعيّة ، ولذا لا يعتبر مفهوم الوصف وإن كان واردا في الكلام المجيد أيضا ، فلا غرو حينئذ فيما عرفت من دعوى احتمال كون التقييد بالدخول في الغير لأجل كون التجاوز عن المشكوك فيه ملازما له ، لا لأجل كونه مناطا في الحكم ، سيّما في الكلام الذي لم يرد لإظهار البلاغة.

وممّا ذكرناه قد ظهر أنّ التنافي بين الأخبار المطلقة والمقيّدة إنّما هو على تقدير كون المراد بالغير خاصّا لا مطلقا ، بأن لم يكن التجاوز عن المحلّ ملازما للدخول في الغير. وعلى تقديره لا بدّ من الجمع بينهما بأحد الوجهين اللذين ذكرهما المصنّف قدس‌سره.

٢٦٣٠. لا يخفى أنّ مؤيّد كلّ منهما مبعّد للآخر ، وبالعكس. ووجه التأييد

سيجيء (٢٦٣١) من التقريب ، وقوله عليه‌السلام : " كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ...". لكنّ الذي يبعّده أنّ الظاهر من" الغير" في صحيحة إسماعيل بن جابر : " إن شكّ في الركوع بعد ما سجد وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض" بملاحظة مقام التحديد (٢٦٣٢) ومقام التوطئة للقاعدة المقرّرة بقوله عليه‌السلام بعد ذلك : " كلّ شيء شكّ فيه ..." كون السجود والقيام حدّا للغير الذي يعتبر الدخول فيه ، وأنّه لا غير أقرب من الأوّل بالنسبة إلى الركوع ، ومن الثاني بالنسبة إلى السجود ، إذ لو كان الهويّ للسجود كافيا عند الشكّ في الركوع ، والنهوض للقيام كافيا عند الشكّ في السجود ، قبح في مقام التوطئة للقاعدة الآتية التحديد بالسجود والقيام ، ولم يكن وجه لجزم المشهور (٦) بوجوب الالتفات إذا شكّ قبل الاستواء قائما.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ارتكبه بعض من تأخّر من التزام عموم" الغير" وإخراج الشكّ في السجود قبل تمام القيام بمفهوم الرواية (٢٦٣٣) ، ضعيف جدّا ، لأنّ

______________________________________________________

بظاهر العلّة هو وجود العلّة مع التجاوز عن المحلّ مطلقا ، سواء دخل في الغير أم لا. مضافا إلى أنّ الخبر المعلّل أقوى دلالة ، فيرجّح على الخالي من التعليل في مقام التعارض. ولذا عمل بما دلّ على عدم تنجّس البئر بالملاقاة مطلقا وإن كان مائها قليلا معلّلا بأنّ لها مادّة ، وإن كان الغالب فيها الكريّة. وإلى إمكان أن يكون قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» واردا في مقام إمضاء طريقة العقلاء لا تأسيسا لحكم شرعيّ ، بأن كان المراد الإشارة إلى أنّ العاقل المريد للفعل لا يخرج من محلّه غالبا إلّا بعد الإتيان به على وجهه ، كما أشار إليه فخر الدين في الإيضاح ، كما تقدّم عند بيان الأدلّة على تأسيس القاعدة.

٢٦٣١. في الموضع الرابع.

٢٦٣٢. يعني : من الإمام عليه‌السلام ، لفرض عدم سبق سؤال في صحيحة إسماعيل ، بخلاف صحيحة زرارة ، ولذا ترك الاستدلال بالثانية.

٢٦٣٣. أي : بمفهوم القيد المذكور في الرواية المذكورة من قوله : «بعد ما

الظاهر أنّ القيد وارد في مقام التحديد.

والظاهر أنّ التحديد بذلك توطئة للقاعدة ، وهي بمنزلة ضابطة كليّة ، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في فهم الكلام ، فكيف يجعل فردا خارجا بمفهوم القيد عن عموم القاعدة؟! فالأولى أن يجعل هذا كاشفا (٢٦٣٤) عن خروج مقدّمات أفعال الصلاة عن عموم" الغير" ، فلا يكفي في الصلاة مجرّد الدخول ولو في فعل غير أصلي ، فضلا عن كفاية مجرّد الفراغ.

______________________________________________________

قام» بعد قوله : «إن شكّ في السجود» فإنّ الغير الذي يعتبر الدخول فيه يشمل بعمومه النهوض من السجود إلى القيام. ومفهوم القيد مخرج له من العموم. هذا توضيح ما توهّمه بعض المتأخّرين.

٢٦٣٤. اعلم أنّ ما يناسب المقام هو الكلام في مقامين :

أحدهما : تعيين المراد بالغير الذي اعتبر الدخول فيه في الأخبار في عدم الاعتناء بالشكّ ، وكذا بمحلّ المشكوك فيه الذي ينبئ عنه التعبير بالخروج والمضيّ والتجاوز فيها.

وثانيهما : بيان حكم مقدّمات الأفعال من حيث اندراجها تحت عموم القاعدة وعدمه.

أمّا المقام الأوّل ، فاعلم أنّه نسب إلى العلّامة في بعض أقواله والشيخ في النهاية أنّ المراد بالغير الذي يعتبر الدخول فيه هو الجزء الركني ، فمحلّ الشكّ في تكبيرة الإحرام باق إلى حدّ الركوع ، وفيه إلى السجود ، وفيه إلى حدّ الركوع في الركعة الثانية. فإذا شكّ في التكبير في حال القراءة ، أو فيها قبل الركوع ، أو فيه قبل السجود ، أو فيه قبل الركوع في الركعة الثانية ، يبني على عدم وقوع المشكوك فيه أو صحّته ، فيأتي به على وجه الصحّة ، بخلاف ما إذا شكّ في الأوّل في حال الركوع ، وفي الثاني في حال السجود ، وفي الثالث في حال الركوع في الثانية ، فيبني حينئذ على الوقوع إن كان الشكّ فيه ، وعلى الصحّة إن كان الشكّ فيها. و

.................................................................................................

______________________________________________________

حينئذ يتّحد محلّ الشكّ مع محلّ السهو ، حيث يجب على الساهي أيضا الإتيان بما سها عنه قبل الدخول في الأركان لا بعده. والمشهور أنّ المراد بالغير هو الأفعال المستقلّة في مقابل المشكوك فيه المعنونة في الفقه ، كالقراءة والركوع والسجود والتشهّد والقيام ، دون مقدّماتها كرفع الرأس من السجود والنهوض للقيام والانحناء للركوع ونحوها. فإذا شكّ في التكبير بعد الدخول في القراءة يبني على وقوعه لا قبلها.

والمحقّق الأردبيلي بعد أن نقل عن الشهيد الثاني عدم الالتفات إلى الشكّ بعد الدخول في الأفعال المذكورة ، إلّا فيما إذا شكّ في الحمد بعد الدخول في السورة ، فيعيد وفاقا للشيخ ، استنادا إلى اتّحاد محلّ القراءتين ، وطرحا للرواية المعارضة بالضعف ، قال ما حاصله : إنّ مقتضى عموم الأخبار مثل قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» هو عدم الالتفات إلى الشكّ بعد الدخول في الغير مطلقا ، حتّى إذا شكّ في الحمد بعد الدخول في السورة ، بل في الآية بعد الدخول في الاخرى ، بل في كلمة بعد الشروع في الاخرى ، فلا يجب العود ، لتحقّق مطلق الانتقال إلى الغير.

وقال في جملة كلام له في المقام : «وبالجملة ، كلامهم أيضا لا يخلو عن اضطراب ، فإنّه يفهم تارة اعتبار جزء عمدة مثل الركن ، وتارة الاكتفاء بجزء في الجملة. فكأنّهم نظروا إلى عرف الفقهاء وما يعدّونه جزءا ، فالقراءة مثلا شيء واحد ، فتأمّل ، فإنّه أيضا مجمل ، وأنّه لا يتمّ في كلّ الروايات والمسائل ، ولا عرف في ذلك. ويمكن الصدق بأنّ هذا محلّ السورة والفاتحة ، بل محلّ الآية وغير ذلك ويدلّ على اعتبار ذلك صحيحة معاوية المتقدّمة ، فتأمّل ، فإنّ العمل به غير بعيد ، للأخبار السابقة الظاهرة» انتهى.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ المسألة ثلاثيّة الأقوال ، وأوّل من أخذ في الاعتراض على المشهور هو المحقّق المذكور ، ولله درّه إذ كم من مزايا في الزوايا

.................................................................................................

______________________________________________________

مستورة عن المحقّقين محجوبة عن المضطلعين ، نبّههم عليها بكشف حجابها ، وأرشدهم إليها برفع نقابها ، فطلعت عن أفق الخمول في زيّ القبول ، فشكّر الله سعيه.

ثمّ إنّه لا إشكال في مساعدة عموم الأخبار لما ذكره المحقّق المذكور. فالعمدة في المقام بيان ما يصلح أن يكون مستندا للمشهور ، لما عرفت من عدم مساعدة عموم الأخبار لما ذكروه ، وهو يتوقّف على بيان المراد بالشكّ في الشيء والتجاوز والمضيّ والخروج منه على ما تضمّنه الأخبار.

وقد أعطى المصنّف قدس‌سره تحقيق الكلام في ذلك في الموضع الأوّل والثاني حقّه بما لا مزيد عليه ، فلا جدوى لإطالة الكلام فيه. وقد ذكر في الموضع الثاني أنّ محلّ المشكوك في وجوده مرتبته المقرّرة له شرعا أو عقلا أو عادة ، وموضعه الذي لو أتي به فيه لم يلزم منه اختلال في النظم والترتيب المقرّر.

وهذا المحلّ والموضع عند الشيخ والعلّامة في بعض أقواله ما بين الأركان في الصلاة ، وهو محلّ النسيان ، لأنّه إذا نسي بعض الأجزاء وتذكّره بعد الدخول في ركن آخر ، فإذا بنى على تدارك المنسيّ فلا يخلو : إمّا أن يتداركه مع تدارك الركن الذي تذكّره فيه بعده ، وإمّا أن يتداركه من دون تدارك الركن بعده. فعلى الأوّل تلزم زيادة الركن ، وعلى الثاني يلزم الإخلال بالنظم المعتبر شرعا. فلا بدّ حينئذ إمّا أن لا يلتفت إلى المنسيّ ، كما إذا كان المنسيّ غير ركن ، وإمّا أن يبني على بطلان الصلاة كما إذا كان المنسيّ ركنا. وعلى قياسه الكلام فيما نحن فيه ، فمحلّ المشكوك فيه أيضا ما بين الأركان ، فإن شكّ في جزء قبل الدخول في ركن يلتفت إلى شكّه ، وإن شكّ فيه بعده لا يلتفت إليه ، ويبني على وقوعه إن كان الشكّ فيه ، وعلى صحّته إن كان الشكّ فيها.

ولكنّك خبير بأنّ هذا الوجه مخالف لصريح الأخبار ، لأنّ مقتضاه كما عرفت وجوب الالتفات إلى الشكّ ، والعمل بمقتضى أصالة العدم فيما حصل

.................................................................................................

______________________________________________________

الشكّ قبل الدخول في ركن آخر. وقد صرّحت الأخبار بعدم الالتفات إلى الشكّ في الأذان بعد الدخول في الإقامة ، وإلى الشكّ في السجود بعد القيام وإن لم يركع. وهو أيضا مخالف لما رواه الشيخ في الإستبصار عن عبد الرحمن قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال : قد ركع».

وبعد بطلان هذا القول ، فلا بدّ أن يكون المراد بمحلّ المشكوك فيه المرتبة المقرّرة للأجزاء ، والموضع الذي يجب الإتيان بها فيه مع الالتفات ، وبالغير ـ الذي يعتبر الدخول فيه ـ هو الجزء الذي يجب الإتيان به بعد محلّ المشكوك فيه. وهذه الأجزاء ملحوظة على وجه الإطلاق عند المحقّق الأردبيلي ، وبعناوينها المخصوصة المعنونة في الفقه ، على نحو ما تقدّم عند المشهور.

واحتجّ لمذهب المشهور بوجوه :

أحدها : الأصل ، لأنّ مقتضاه البناء على عدم الإتيان بالمشكوك فيه ، ووجوب الإتيان به مطلقا ، وقد خرجنا من مقتضاه بأخبار الباب ، ولكنّ المتيقّن منها هو عدم الاعتناء بالشكّ فيما حصل الشكّ بعد الدخول في الأفعال التي لها عنوان خاصّ على نحو ما تقدّم.

وفيه : ما عرفت من عموم الأخبار لكلّ جزء وفعل وإن كان بعض آية بل كلمة واحدة ، فهو إنّما يوافق مذهب الأردبيلي قدس‌سره لا مذهبهم.

وثانيها : أخبار الباب ، ودلالتها من وجوه :

أحدها : سؤال الراوي وتقرير الإمام عليه‌السلام ، كما في صحيحتي زرارة والحلبي ، حيث سألا عن الشكّ في الأذان بعد الدخول في الإقامة ، وفي التكبير بعد الدخول في القراءة ، وفي القراءة بعد الدخول في الركوع ، وفيه بعد الدخول في السجود ، وفيه بعد القيام ، وهذه الأفعال كلّها ممّا له عنوان خاصّ في كلمات الأصحاب ، وحكم الإمام عليه‌السلام بالمضيّ بعد السؤال عن كلّ واحد منها يدلّ على كون المراد

.................................................................................................

______________________________________________________

بالعموم ـ الذي أسّسه الإمام عليه‌السلام بعد هذه الأسئلة ـ هو العموم بالنسبة إلى مثل هذه الأفعال لا مطلقا.

وثانيها : تخصيص الإمام عليه‌السلام هذه الأفعال بالذكر من دون سبق سؤال من الراوي في حسنة إسماعيل بن جابر ، فإنّه توطئة لبيان ضابط موارد القاعدة على نحو ما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وثالثها : التقييد بالخروج والدخول والعطف يتمّ على بعض النسخ في صحيحتي زرارة والحلبي ، إذ لو كان المراد بالدخول في الغير هو الدخول في مطلقه ـ كما هو مقتضى مذهب الأردبيلي رحمه‌الله ـ لزم إلغاء أكثر هذه القيود ، لفرض كون الخروج من محلّ فعل ملازما للدخول في غيره ، لعدم خلوّ المكلّف من فعل في حال من حالاته بناء على تجدّد الأكوان ، فيلغو قيد الدخول والعطف ب «ثمّ» المفيد للتراخي.

والجواب ، أمّا عن الأوّل فبعدم الاعتداد بالتحديد الوارد في كلام الراوي ، ولذا قد ذكروا أنّ خصوصيّة السؤال لا تخصّص عموم الجواب. نعم ، يتمّ ذلك لو كان واردا في كلام الإمام عليه‌السلام ، والفرض خلافه.

وأمّا عن الثاني ، فبأنّ غايته الدلالة على خروج مقدّمات الأفعال من العموم على نحو ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، وهو أخصّ من المدّعى ، لأنّ المفروض على مذهب المشهور عدم جريان القاعدة فيما لو شكّ في بعض آية بعد الدخول في بعض آخر ، وهو لا يثبته.

نعم ، يبقى الإشكال في عدم تعرّض الإمام في حسنة إسماعيل لصورة الشكّ في الركوع بعد أن قام عنه ، فإنّ القيام من أفعال الصلاة أيضا ، بل قيل بكونه ركنا ، فإنّه يوهن كون المراد منها بيان خروج المقدّمات من العموم ، كما أنّه يوهن كون المراد تحديد مورد القاعدة على ما يوافق المشهور ، وإلّا كان عليه التعرّض للصورة المفروضة ، لما عرفت من كون القيام من الأفعال أيضا. وانتظر لتمام الكلام في

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك في المقام الثاني.

وأمّا عن الثالث ، فبأنّه إنّما يتّجه لو كان المراد بالغير مطلقة ، وليس كذلك ، بل المراد به ما يترتّب على المشكوك فيه بالمعنى الذي قدّمناه عند شرح قوله : «إنّ المراد بمحلّ الفعل المشكوك في وجوده ...» ، لصحّة التقييد بالدخول والعطف ب «ثمّ» على هذا التقدير.

وتوضيحه : أنّ المراد بالغير يحتمل أن يكون مطلقه ، ويحتمل أن يكون ما كان مرتّبا على المشكوك فيه بالمعنى الذي أوضحناه هناك ، ويحتمل أن يكون ما كان من الأفعال المستقلّة المعنونة في كلمات الأصحاب كما ذكره المشهور. ولغويّة قيدي الدخول والعطف ب «ثمّ» إنّما يتم على الأوّل ، لكون كلّ واحد من الخروج والمضيّ والتجاوز ملازما حينئذ للدخول في الغير ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «ويمكن حمل التقييد في الصحيحين ...» ، ولكن لا يتعيّن به الثالث ، لصحّة التقييد والعطف على الثاني أيضا ، لحصول التراخي غالبا ـ حقيقة أو رتبة ـ بين المشكوك فيه وما يترتّب عليه على هذا التقدير أيضا. نعم ، قد اتّفق في باب الصلاة كون الخروج من محلّ المشكوك فيه ملازما بحسب العادة للدخول في غيره ، ومجرّد ذلك لا يوجب لغويّة أكثر القيود المذكورة بعد تعميم مورد القاعدة لغيرها. نعم ، يتمّ ذلك لو اختصّت بها ، وليس فليس.

وثالثها : حصول التعارض بين مناطق أخبار الباب ومفاهيمها لو قلنا بعموم الغير الذي يعتبر الدخول فيه ـ لكلّ فعل ، لأنّ مقتضى منطوق قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» هو عدم الاعتناء بالشكّ فيما لو حصل الشكّ بعد الدخول في الغير ، ومفهومه الاعتناء به لو حصل قبله. فإذا حصل الشكّ في آية من الفاتحة بعد الدخول في اخرى ، أو في كلمة منها بعد الشروع في اخرى ، فكما يتحقّق الشكّ في وقوع الآية أو الكلمة السابقة بعد الدخول في غيرهما ، كذلك يحصل الشكّ في الفاتحة من حيث المجموع قبل الخروج

.................................................................................................

______________________________________________________

منها ، لكون الشكّ في وقوع الجزء مستلزما للشكّ في صحّة الكلّ. فمقتضى المنطوق هو البناء على وقوع الآية أو الكلمة المشكوك فيها ، ومقتضى المفهوم هو الالتفات إلى الشكّ الثاني والإتيان بالمشكوك فيه ، لفرض عدم الانتقال عن الفاتحة ، ومع التعارض تعود الأخبار مجملة ، فيجب الرجوع إلى مقتضى الأصل في غير مورد اليقين بجريان القاعدة. ومقتضى الاستصحاب هو البناء على عدم الوقوع ، إلّا فيما وقع الشكّ بعد الدخول في الأفعال المستقلّة المعنونة في كلمات الأصحاب ، لأنّ هذا هو المتيقّن ممّا خرج من مقتضى الأصل.

والجواب أمّا أوّلا : فبأنّ المنطوق أقوى دلالة ، فيقدّم على المفهوم في مورد التعارض.

وأمّا ثانيا : فبأنّ الشكّ في صحّة مجموع الفاتحة مسبّب عن الشكّ في وقوع الآية أو الكلمة المشكوك فيها ، فبعد البناء على وقوعها يرتفع الشكّ في صحّة الفاتحة ، فيقدّم جريانها في الجزء على جريانها في الكلّ ، لتقدّم الأصل في الشكّ السببي عليه في الشكّ المسبّب.

وأمّا ثالثا : فبلزوم التعارض على مذهب المشهور أيضا فيما لو شكّ في الركوع بعد الدخول في السجود مثلا ، لكون ذلك أيضا سببا للشكّ في صحّة الصلاة من حيث المجموع.

ورابعها : موثّقة ابن أبي يعفور ، فإنّ ضمير «في غيره» فيها كما قرّره المصنّف رحمه‌الله في الموضع الرابع راجع إلى الوضوء ، دون المشكوك فيه من أجزاء الوضوء لئلّا يلزم مخالفة الإجماع. ومحصّل قوله عليه‌السلام : «إذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» أنّ الشكّ في شيء من أجزاء الوضوء إنّما لا يعتنى به إذا حصل الشكّ بعد الدخول في فعل آخر غير الوضوء ، ومقتضى مفهومه الالتفات إليه إذا حصل الشكّ قبله ، سواء كان حصوله في أثناء الوضوء أو بعده قبل الدخول في غير الوضوء. وإذا لوحظ كون ذكر الوضوء من

.................................................................................................

______________________________________________________

باب التوطئة وتحديد موارد القاعدة التي أشار إليها بعده بقوله : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» يستفاد منه أنّ كلّ مركّب ذي أجزاء إذا حصل الشكّ في بعض ما يعتبر فيه من أجزائه أو شرائطه ، إنّما لا يعتنى بهذا الشكّ إذا حصل بعد الدخول في غيره ، وهو منطبق على مذهب المشهور في الأفعال المستقلّة المعنونة في كلمات الأصحاب ، لكون كلّ واحد منها مركّبا ذا أجزاء.

والجواب : أنّ مقتضى الموثّقة على التقرير المذكور لا ينطبق على شيء من مذهب المشهور وغيره ، بل ينطبق تارة على مذهب الأردبيلي ، واخرى على مذهب المشهور ، وثالثة لا ينطبق على شيء منهما ، لأنّ الصلاة بتمام أجزائها شيء واحد مركّب ، فإذا شكّ في بعض أجزائها قبل الفراغ منها ، فمقتضى التقريب المذكور في دلالة الموثّقة هو الالتفات إلى هذا الشكّ ، حتّى لو شكّ في تكبيرة الإحرام في حال التسليم ، لفرض حصوله قبل الفراغ من الصلاة التي هي مركّب واحد ، وهو لا ينطبق على شيء من المذاهب حتّى على مذهب الشيخ والعلّامة. وإذا شكّ في آية بعد الدخول في اخرى لا يجب الالتفات إلى هذا الشكّ ، لأنّ كلّ آية مركّب ذو أجزاء. وكذا الكلام في الكلمة الواحدة ، لأنّها أيضا مركّبة من أحرف ، وهو ينطبق على مذهب الأردبيلي رحمه‌الله دون المشهور. وإذا شكّ في الركوع بعد الدخول في السجود فهو ينطبق على المذاهب.

وبالجملة ، إنّه لا يمكن العمل بالموثّقة على إطلاقها ، ولا تنزيلها على مذهب المشهور ، لعدم الدليل عليه ، فتعود مجملة. نعم ، يمكن توجيهها بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في الموضع الرابع ، فلا تغفل. ومن التأمّل في جميع ما قدّمناه تظهر قوّة قول المولى المقدّس الأردبيلي قدس‌سره فتدبّر.

وأمّا المقام الثاني ، فاعلم أنّ ظاهر المصنّف رحمه‌الله ـ بل صريحه ـ الميل إلى خروج مقدّمات أفعال الصلاة من عموم القاعدة ، بمعنى عدم شمول القاعدة لها ، فيكون خروجها منها من باب التخصّص دون التخصيص. وربّما يظهر من بعض مشايخنا

.................................................................................................

______________________________________________________

عموم القاعدة لها ، لأنّه إذا شكّ في السجود في حال النّهوض صدق عليه أنّه شكّ في السجود بعد الخروج منه والدخول في غيره ، فبنى فيه على خروج ما أخرجه الدليل.

وما ذكره المصنّف رحمه‌الله لا يخلو من إشكال ، لأنّ حاصل ما ذكره أنّ حكم الإمام عليه‌السلام بالمضيّ عند الشكّ في الركوع بعد الدخول في السجود وفي السجود بعد القيام ، إنّما هو للتحديد وبيان ضابط ما يعتبر فيه الدخول في الغير ، في مورد القاعدة التي أشار إليه بقوله : «كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره ، فليمض عليه». ومقتضاه اختصاص القاعدة بغير مقدّمات أفعال الصلاة. وأنت خبير بأنّ العمدة في ذلك حسنة إسماعيل بن جابر ، لأنّ التحديد المستفاد من صحيحة زرارة إنّما هو مستفاد من كلام الراوي ، ولا اعتداد به كما أشرنا إليه.

وأمّا الحسنة فربّما يشكل الأمر فيها بأنّها لو وردت لبيان ضابط موارد القاعدة بمعنى خروج مقدّمات أفعال الصلاة منها أشكل الأمر حينئذ في قوله : «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض» لأنّ الشكّ في الركوع تارة يحصل في حال القيام ، بأن يشكّ في حاله في أنّه ركع أم لا. واخرى في حال القيام بعد الركوع ، بأن يشكّ في حاله في صحّة ركوعه ، لأجل الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، بأن يشكّ في حصول الانحناء إلى الحدّ الشرعيّ وعدمه ، أو نحو ذلك. وثالثة في حال الهويّ إلى السجود ، إمّا بأن يشكّ في انحنائه من القيام من دون ركوع وقيام بعده أصلا ، أو في صحّة ركوعه مع العلم بحصول القيام بعده. ورابعة في حال السجود. والصورة الأخيرة مورد لمنطوق الرواية ، وما عداها داخلة في مفهومها فلو كانت واردة لتحديد موارد القاعدة من حيث إخراج مقدّمات أفعال الصلاة منها ، أشكل الأمر بالصورة الثانية ، وكذا الثالثة في الجملة ، لكون القيام بعد الركوع من أفعال الصلاة ، بل قيل بكونه ركنا.

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ الشكّ في الشيء ظاهر في الشكّ في وجوده لا في صحّته ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله في الموضع الأوّل ، فلا تشمل الرواية بحسب مفهومها للصورة الثانية ولا للشقّ الثاني من الصورة الثالثة.

قلت : مع التسليم إنّ الشكّ في صحّة شيء لا بدّ أن ينشأ من الشكّ في وجود ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، فالرواية شاملة للشكّ في الصحّة بهذا الاعتبار ، كما هو صريح المصنّف رحمه‌الله في الموضع الخامس.

ثمّ إنّ هذا الإشكال لا يختصّ بما اختاره المصنّف رحمه‌الله من خروج مقدّمات أفعال الصلاة من مورد القاعدة ، بل هو وارد على دعوى كون قوله عليه‌السلام : «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض» واردا في مقام تحديد موارد القاعدة وضابطها ، سواء قلنا بأنّ الخارج هو مقدّمات أفعال الصلاة أم قلنا بغير ذلك ، لكون الشكّ في صحّة الركوع في حال القيام بعده داخلا في مفهوم الرواية ، ومقتضاه الالتفات إلى الشكّ حينئذ ، وهو مخالف للقاعدة ، سواء قلنا بخروج المقدّمات منها أم لا ، وسواء قلنا بمذهب الأردبيلي أم بمذهب المشهور.

ثمّ إنّ ثمرة القول بخروج مقدّمات أفعال الصلاة من عموم القاعدة من باب التخصّص أو التخصيص ، إنّما تظهر في الحكم بخروج الجميع على الأوّل ، والاقتصار على ما أخرجه الدليل على الثاني.

وتفصيل الكلام على القول بكون مقدّمات أفعال الصلاة من باب التخصيص ـ الذي مقتضاه عدم الالتفات إلى الشكّ فيما لو حصل الشكّ في بعض أفعالها بعد الدخول في بعض مقدّمات أفعالها ، إلّا ما دل الدليل على وجوب الالتفات فيه ـ أنّ الظاهر انعقاد الإجماع على وجوب العود والعمل باستصحاب العدم إذا حصل الشكّ في السجود في حال رفع الرأس عنه أو النهوض للقيام. مضافا إلى حسنة إسماعيل المتقدّمة الدالّة على ذلك بمفهوم القيد في قوله عليه‌السلام : «وإن

.................................................................................................

______________________________________________________

شكّ في السجود بعد ما قام فليمض» فإنّا وإن لم نقل بمفهوم اللقب من حيث هو ، إلّا أنّه لا إشكال فيه فيما ورد منه في مقام التحديد ، بالتقريب الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله.

لا يقال : تمكن استفادة الحكم من مفهوم الشرط أيضا. لأنّا نقول : لا مفهوم للشرط هنا ، لأنّه من قبيل قولك : إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن درست فاحفظه ، و (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أو نحو ذلك ممّا ورد الشرط فيه لبيان حال الموضوع ، لا لبيان انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه كما قرّر في محلّه.

وإلى ما رواه الشيخ في الاستبصار عن عبد الرحمن قال : «قلت لأبي ـ عبد الله عليه‌السلام : رجل رفع رأسه عن السجود فشكّ قبل أن يستوي جالسا ، فلم يدر سجد أم لم يسجد؟ قال : يسجد. قلت : فرجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائما ، فلم يدر سجد أم لم يسجد؟ قال : يسجد». وهي صريحة في وجوب العود في حالتي رفع الرأس والنهوض.

ولكن هذا مع عدم تخلّل التشهّد بين السجود المشكوك فيه والنهوض ، كما في الركعة الاولى والثالثة. وأمّا إن شكّ في السجود في حال النهوض عن التشهّد ، فالظاهر بقائه تحت عموم القاعدة ، وعدم شمول الروايتين لهذه الصورة ، لأنّ المنساق منهما ورودهما لبيان حكم مجرّد الشكّ المتعلّق بالسجود في حال الشروع في النهوض أو الدخول في القيام من دون التفات إلى تخلّل التشهّد بينهما ، والمتيقّن منهما صورة عدم التخلّل. وهذا المعنى في الرواية الثانية أظهر من الاولى ، من جهة سبق السؤال فيها ، فإذا سألك العامي عن حكم من شكّ في السجود في حال النهوض قبل أن يستوي قائما ، هل يخطر ببالك صورة تخلّل التشهّد بينهما ، أم تجيب ببيان حكم صورة عدم التخلّل؟

لا يقال : إطلاق الجواب كاف في المقام. لأنّا نقول : لا إطلاق لقوله «يسجد» بحسب المفهوم ، وإنّما هو بحسب الأحوال ، والإطلاق بحسب الأحوال إنّما ينفع

.................................................................................................

______________________________________________________

بالنسبة إلى الحالات الملازمة لذيها دائمة أو غالبة ، ولا شكّ أنّ الشكّ في السجود في حال النهوض غير ملازم لتخلّل التشهّد دائما ولا غالبا كما لا يخفى.

هذا كلّه مضافا إلى أنّه لو شكّ في السجود بعد الشروع في التشهّد لا يلتفت إليه ، لعموم القاعدة ، فإذا فرغ من التشهّد وشرع في النهوض فبطريق أولى. بل لو شكّ فيه بعد الدخول في جلسة الاستراحة لم يلتفت إليه ، وإن كانت الجلسة مستحبّة ، وذلك بأن يجلس بعد السجود معتقدا بكون جلوسه للاستراحة ، ثمّ شكّ في الإتيان بالسجدة الثانية. فلا يرد حينئذ أنّ هذه الجلسة لا تتعيّن كونها للاستراحة إلّا بعد العلم بالإتيان بالسجدة الثانية. وإلّا يحتمل كونها الطمأنينة الواجبة بين السجدتين ، فتأمّل.

هذا ، وأمّا لو شكّ في التشهّد في حال النهوض فالظاهر بقائه أيضا تحت عموم القاعدة ، لعدم المخصّص له هنا أيضا. وأمّا إذا شكّ في الركوع ، في حال الهويّ للسجود ، فالمشهور بين أساطين العلماء وجوب العود والإتيان بالركوع ، نظير الشكّ في السجود في حال النهوض للقيام ، استنادا أوّلا إلى حسنة إسماعيل المتقدّمة ، وثانيا إلى أنّ الحكم إذا ثبت في صورة الشكّ في السجود في حال النهوض للقيام بالروايتين المتقدّمتين ، يثبت فيما نحن فيه أيضا بالإجماع ، لعدم الفاصل بينهما.

وفصّل بعضهم بين الصورتين ، فحكم بعدم الالتفات إلى الشكّ هنا ، لعموم أخبار القاعدة. وأجاب عن حسنة إسماعيل بمنع ورودها في مقام التحديد ، لعدم ظهورها فيه ، فتأمّل. وعدم المفهوم للشرط أيضا كما تقدّم. وعن رواية الإستبصار بمعارضتها بما رواه الشيخ فيه أيضا عن عبد الرحمن قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال : قد ركع» والروايتان رواهما الشيخ عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وبعد

.................................................................................................

______________________________________________________

تعارضهما فإمّا ترجّح هذه ، لموافقتها للقاعدة إن قلنا بكون الأصل مرجّحا ، أو يحكم بتساقطهما ، فيرجع إلى القاعدة إن قلنا بكونه مرجعا.

أقول : وتحقيق المقام أن يقال : إنّه إن ثبت الإجماع المذكور ـ كما هو ظاهر صاحب الرياض ـ يتعيّن الحكم بوجوب العود والالتفات إلى الشكّ ، لأنّ تعارض الروايتين من قبيل تعارض الأظهر والظاهر ، لأنّ رواية النهوض للقيام أظهر بل نصّ في حصول الشكّ قبل القيام ، لقوله عليه‌السلام : «فشكّ قبل أن يستوي قائما» بخلاف رواية الهويّ للسجود ، فإنّ قوله : «رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع» محتملة لإرادة حصول الشكّ بعد الدخول في السجود ، وإن كانت ظاهرة في القبليّة التي منعها صاحب الرياض مدّعيا ظهورها في الأوّل ، نظرا إلى اعتبار معنى الغاية في الرواية المستفادة من كلمة «إلى» وكون «أهوى» بمعنى سقط. لكنّه فاسد ، إذ الظاهر أنّ كلمة «إلى» فيها بمعنى الجانب ، و «أهوى» بمعنى : أمال ، ويتعدّى بالباء ، ويقال : أهوى بيده إلى الشيء ، أي : مدّها ليتناوله كما في المصباح. ومعنى الرواية : أهوى بنفسه ـ أي : أمالها ـ إلى جانب السجود ، فلم يدر أركع أم لم يركع ، فالظاهر حينئذ وقوع الشكّ قبل السجود ، سيّما بملاحظة العطف بالفاء المعقّبة.

وأمّا كون «أهوى» بمعنى سقط فهو غير صحيح ، إذ هو بمعنى أمال ، وما هو بمعنى سقط هو «هوى» من دون ألف زائدة ، والموجود في الرواية هو المزيد دون المجرّد.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ الرواية ظاهرة في حصول الشكّ قبل السجود ، ومع تعارض الأظهر والظاهر لا بدّ أن يرتكب التأويل في الظاهر دون الأظهر ، فتحمل رواية الهويّ إلى السجود على صورة حصول الشكّ بعد الدخول في السجود ، حتّى يندفع التعارض المتراءى بينهما بواسطة الإجماع على عدم الفصل.

ومن هنا يظهر ضعف استدلال البعض بترجيح أحد المتعارضين أو الرجوع إلى القاعدة بعد تساقطهما على ما تقدّم. وإن لم يثبت الإجماع المذكور يتعيّن

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم بالمضيّ وعدم العود إلى الركوع ، لعدم تعارض الروايتين بأنفسهما ، لاختلاف موردهما بالفرض ، فيجب العمل بكلّ منهما في مورده ، لكون تعارضهما مسبّبا عن الإجماع المذكور ، وقد فرضنا عدمه ، فيكون الشكّ في الركوع في حال الهويّ باقيا تحت عموم القاعدة ، سيّما إذا كان الهويّ عن قيام ، يعني : القيام الذي بعد الركوع ، لأنّه لو شكّ في الركوع بعد الدخول في هذا القيام يجب البناء على وقوعه حتّى على مذهب المشهور ، لكون هذا القيام من الأفعال الواجبة المعنونة في كلمات الأصحاب ، بل قيل بركنيّته ، فمع التجاوز عنه فأولى بعدم الالتفات إلى الشكّ في الركوع.

ويدلّ على عدم وجوب العود بعد الدخول في القيام ـ مضافا إلى عموم القاعدة ـ خصوص ما رواه الشيخ عن الفضيل قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أستتمّ قائما فلا أدري أركعت أم لا؟ قال : بلى ركعت فامض في صلاتك ، فإنّما ذلك من الشيطان». ولا ينافيه ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «عن رجل شكّ وهو قائم فلا يدري أركع أم لم يركع؟ قال : يركع ويسجد».

وفي معناها غيرها ، لإجمال القيام في هذا الروايات ، لتردّده بين القيام المتصل بالركوع والقيام الذي بعده ، فلا يتحقّق حينئذ الدخول في غيره ، فتنطبق هذه الأخبار على مفهوم عمومات القاعدة ، من قوله عليه‌السلام «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» وهكذا ، بخلاف رواية «أستتمّ قائما» لظهورها في حصول الشكّ بعد رفع الرأس عن الركوع.

فإن قلت : كيف يتصوّر الشكّ في الركوع بعد القيام عنه ، لأنّ العلم بكونه قياما عن ركوع فرع العلم بتحقّق الركوع ، فالقيام الذي يشكّ في حاله مردّد بين القيام الذي قبل الركوع وبعده. ومن هنا يظهر ضعف فرض حصول الشكّ في الركوع في حال الهويّ عن قيام ، مع فرض حصول العلم بكون هذا القيام هو الذي بعد الركوع ، إذ الشكّ في الركوع يوجب الشكّ في كونه القيام الذي قبل الركوع

.................................................................................................

______________________________________________________

أو بعده فلا وجه للتأييد بهذه الصورة لصورة الشكّ في حال الهويّ على ما ادّعيت ، فلا بدّ حينئذ أن تحمل رواية «أستتمّ قائما» ـ كما ارتكبه بعضهم ـ على صورة اختلاف محلّ الركوع المشكوك فيه والقيام الذي حصل الشكّ بعد الدخول فيه ، بأن حصل الشكّ في ركوع الركعة الاولى بعد أن يستتمّ قائما في الركعة الثانية ، وهكذا.

لأنّا نقول : يمكن فرضه بحصول الشكّ في صحّة الركوع بسبب الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا مع العلم بوقوع أصله ، بأن شكّ في حال القيام أو الهويّ في بلوغ انحنائه إلى الحدّ الذي يعتبر في الركوع شرعا ، أعني : بلوغ كفيه إلى ركبتيه ، أو نحو ذلك ، أو وجد نفسه قائما معتقدا بكونه عن ركوع ، ثمّ شكّ في هذه الحالة أو في حال الهويّ عنها في الركوع ، فلا وجه لتأويل الرواية من دون صارف عن ظاهرها ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب العود إلى الركوع إذا شكّ في حال الهويّ إلى السجود ـ على تقدير ثبوت الإجماع المذكور ـ إنّما هو في صورة حصول الشكّ في الركوع في حال الهويّ إلى السجود ، مع عدم العلم بحصول القيام الذي بعد الركوع ، لأنّ هذا هو المتيقّن من الإجماع المذكور على تقدير ثبوته ، لعدم تعرّضهم للتفصيل في الشكّ في الركوع في حال الهويّ بين العلم بكونه عن القيام الذي بعد الركوع وبين عدم العلم به ، ولا لاتّحاد حكمهما. ومع العلم بكونه عن القيام الذي بعده فالمتّجه عدم وجوب العود ، للعمومات ، مضافا إلى شمول رواية عبد الرحمن المتقدّمة له : «في رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع» ولا معارض لها هنا ، لعدم تحقّق عدم القول بالفصل هنا ، مضافا إلى الأولويّة المتقدّمة.

فتلخّص من جميع ما قدّمناه : أنّ الخارج من عموم القاعدة هي صورة حصول الشكّ في السجود في حال النهوض للقيام من دون تخلّل التشهّد بينهما. و

.................................................................................................

______________________________________________________

ظهر أيضا ضعف قول المشهور بخروج مقدّمات أفعال الصلاة مطلقا من العموم ، إلّا أن يكون نظرهم إلى الوجه الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وبقي هنا شيء لا بدّ من التنبه عليه ، وهو أنّ القول بخروج مقدّمات الصلاة من العموم ممّا يوهن القول بعموم القاعدة حتّى بالنسبة إلى المعاملات كما تقدّم ، لأنّه مع خروج مقدّماتها منه مع ارتباطها بها وتخلّلها بينها ، وورود أغلب أخبار الباب في الصلاة وبعضها في الطهارات كيف يتعدّى إلى الحجّ والزكاة والخمس فضلا عن أبواب المعاملات والسياسات؟ لأنّ هذه المقدّمات ـ لأجل ما ذكرناه ـ أقرب اعتبارا إلى الاندراج تحت العموم من سائر الأفعال الأجنبيّة عن موارد العمومات.

وإن شئت قلت : إنّ خروجها مستلزم لخروج غيرها بالأولويّة. مع أنّ الأمر في خروج هذه المقدّمات من العموم ـ على مذهب المشهور من اختصاصه بأفعال الصلاة ، وعلى القول المختار وفاقا لبعض محقّقي المتأخّرين من عموم القاعدة لكلّ باب ـ دائر بين التخصيص والتخصّص ، والثاني أولى ، لبقاء العموم حينئذ على حاله ، لأنّه على تقدير اختصاص مورد القاعدة بأفعال الصلاة يكون المراد بالشيء أو الغير في أخبار القاعدة الأفعال المعهودة للصلاة ، فيكون خروج المقدّمات بحسب الموضوع ، وعلى التعميم بحسب الحكم. ومقتضى أولويّة التخصّص على التخصيص عدم شمول القاعدة لما عدا باب الصلاة أو هو مع أبواب الطهارات ، على ما سيجيء في كلام المصنّف رحمه‌الله.

ولكنّ الجواب عن الأوّل ـ مع ما عرفت من الإشكال في إخراج المقدّمات مطلقا ، أو عدم الدليل عليه ـ بمنع الأولويّة المذكورة. وما ذكر من الأولويّة الاعتباريّة غير مفيد في الأحكام المبتنية على التعبّد. وعن الثاني بأنّ أولويّة التخصّص على التخصيص فرع ارتكاب التخصيص في لفظ الشيء والغير في الأخبار ، لأنّ حملهما على إرادة الأفعال المخصوصة ـ أعني : أفعال الصلاة لا يتمّ إلّا

والأقوى : اعتبار الدخول في الغير (٢٦٣٥) وعدم كفاية مجرّد الفراغ ، إلّا أنّه قد يكون الفراغ عن الشيء ملازما للدخول في غيره ، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء ، فإنّ حالة عدم الاشتغال بهما يعدّ مغايرة لحالهما وإن لم يشتغل بفعل وجوديّ ، فهو دخول في الغير بالنسبة إليهما.

وأمّا التفصيل بين الصلاة والوضوء ، بالتزام كفاية مجرّد الفراغ من الوضوء و

______________________________________________________

بذلك ، ولا أولويّة للتخصّص على هذا الوجه على التخصيص.

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في كون خروج المقدّمات من باب التخصّص أو التخصيص مسبّب عن الشكّ في كون المراد بالشيء والغير في الأخبار أفعالا مخصوصة أو مطلقها ، فمع زوال الشكّ السببى بعموم اللفظ أو إطلاقه يرتفع الشكّ المسبّب ، كما قرّر في مسألة المزيل والمزال ، وإلّا أشكل الأمر في جميع العمومات المخصّصة ، إذ مع حمل العموم على إرادة الأفراد المعهودة ـ أعني : ما عدا المخرج ـ يلزم كونه من باب التخصّص ، ومع حمله على العموم يلزم كونه من باب التخصيص ، وطريق الإشكال في الجميع متّحدة ، ولا إشكال بحمد الله تعالى.

٢٦٣٥. ترجيحا للجمع الثاني من حمل الأخبار المطلقة على الغالب. ويدلّ عليه وجوه :

أحدها : أنّ الأمر هنا دائر بين حمل المطلق على المقيّد ، وبين حمل التقييد على الغالب ، ولا ريب أنّ التصرّف في المطلق أولى. نعم ، ربّما ينافره تعليل بعض الأخبار المطلقة بقوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ».

وثانيها : أنّ الأخبار المطلقة وإن قويت دلالتها لأجل تضمّن بعضها التعليل المذكور ، إلّا أنّ الأخبار المقيّدة لأجل ورود القيود المأخوذة فيها في مقام التحديد والتوطئة لبيان القاعدة أقوى منها دلالة ، كما هو واضح عند المتأمّل.

وثالثها : قوّة الأخبار المقيّدة من حيث السّند ، لصحّة جملة منها ، بخلاف مقابلتها.

لو مع الشكّ في الجزء الأخير منه ، فيردّه اتحاد الدليل في البابين ؛ لأنّ ما ورد من قوله عليه‌السلام فيمن شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الوضوء : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" عامّ بمقتضى التعليل لغير الوضوء أيضا ، ولذا استفيد منه حكم الغسل والصلاة أيضا. وكذلك موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة ، صدرها دال على اعتبار الدخول في الغير في الوضوء ، وذيلها يدلّ على عدم العبرة بالشكّ بمجرّد التجاوز مطلقا من غير تقييد بالوضوء ، بل ظاهرها يأبى عن التقييد. وكذلك روايتا زرارة وأبي بصير المتقدّمتان آبيتان عن التقييد. وأصرح من جميع ذلك في الإباء عن التفصيل بين الوضوء والصلاة قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة : " كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّرا فأمضه".

الموضع الرابع : قد خرج من الكليّة المذكورة أفعال الطهارات الثلاث ، فإنّهم أجمعوا على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل إتمام الوضوء يأتي به وإن دخل في فعل آخر ، وأمّا الغسل والتيمّم فقد صرّح بذلك فيهما بعضهم على وجه يظهر منه كونه من المسلّمات ، وقد نصّ على الحكم في الغسل جمع ممّن تأخّر عن المحقّق ، كالعلّامة والشهيدين والمحقّق الثاني ، ونصّ غير واحد من هؤلاء على كون التيمّم كذلك.

وكيف كان ، فمستند الخروج قبل الإجماع الأخبار الكثيرة المخصّصة للقاعدة المتقدّمة ، إلّا أنّه يظهر من رواية ابن أبي يعفور (٢٦٣٦) المتقدّمة وهي قوله عليه‌السلام : " إذا شككت في شىء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشىء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شىء لم تجزه" : أنّ حكم الوضوء من باب القاعدة ، لا خارج عنها ، بناء على عود ضمير" غيره" إلى الوضوء ، لئلّا يخالف الإجماع على وجوب الالتفات إذا دخل في غير المشكوك من أفعال الوضوء ، وحينئذ فقوله عليه‌السلام : " إنّما الشكّ" مسوق لبيان قاعدة الشكّ المتعلّق بجزء من أجزاء العمل ، وأنّه إنّما يعتبر إذا كان مشتغلا بذلك العمل غير متجاوز عنه.

______________________________________________________

٢٦٣٦. لأنّ تعليل حكم الشكّ في بعض أجزاء الوضوء بقوله : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» يدلّ على كون حكمه منطبقا على قاعدة الفراغ ، وأنّ

هذا ، ولكنّ الاعتماد على ظاهر ذيل الرواية مشكل من جهة أنّه يقتضي بظاهر الحصر أنّ الشكّ الواقع في غسل اليد باعتبار جزء من أجزائه لا يعتنى به إذا جاوز غسل اليد ، مضافا إلى أنّه معارض للأخبار السابقة فيما إذا شكّ في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء آخر قبل الفراغ منه ، لأنّه باعتبار أنّه شكّ في وجود شىء بعد تجاوز محلّه يدخل في الأخبار السابقة ، ومن حيث إنّه شكّ في أجزاء عمل قبل الفراغ منه يدخل في هذا الخبر.

ويمكن أن يقال لدفع جميع ما في الخبر من الإشكال : إنّ الوضوء بتمامه في نظر الشارع فعل واحد باعتبار وحدة مسبّبه وهي الطهارة ، فلا يلاحظ كلّ فعل منه بحياله حتّى يكون موردا لتعارض هذا الخبر مع الأخبار السابقة ، ولا يلاحظ بعض أجزائه كغسل اليد مثلا ، شيئا مستقلا يشكّ في بعض أجزائه قبل تجاوزه أو بعده ليوجب ذلك الإشكال في الحصر المستفاد من الذيل.

وبالجملة : فإذا فرض الوضوء فعلا واحدا لم يلاحظ الشارع أجزائه أفعالا مستقلّة يجري فيها حكم الشكّ بعد تجاوز المحلّ ، لم يتوجّه شيء من الإشكالين في الاعتماد على الخبر ، ولم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة ، إذ الشكّ في أجزاء الوضوء قبل الفراغ ليس إلّا شكّا واقعا في الشيء قبل التجاوز عنه. والقرينة على هذا الاعتبار (٢٦٣٧) جعل القاعدة ضابطة لحكم الشكّ في أجزاء الوضوء قبل الفراغ عنه أو بعده.

______________________________________________________

الشكّ في بعض أجزاء العمل ـ كالوضوء ونحوه ـ إنّما يلتفت إليه مع التشاغل به وعدم الفراغ منه ، إذ لو كان حكم الوضوء خارجا من القاعدة لزم تعليل حكم فرد خارج من العامّ ، بنفس هذا العامّ ، ولا محصّل له أصلا.

٢٦٣٧. يعني : أنّ القرينة على اعتبار الشارع للوضوء شيئا واحدا فيما صدر عنه من الأخبار الكثيرة وقام على طبقها الإجماع ، هو جعل قاعدة الفراغ ضابطة لحكم الشكّ في بعض أجزائه قبل الفراغ منه وبعده ، لأنّه إذا كان حكم الشكّ

ثمّ إنّ فرض الوضوء فعلا واحدا لا يلاحظ حكم الشكّ بالنسبة إلى أجزائه ليس أمرا غريبا ، فقد ارتكب المشهور مثله في الأخبار السابقة بالنسبة إلى أفعال الصلاة حيث لم يجروا حكم الشكّ بعد التجاوز في كلّ جزء من أجزاء القراءة حتّى الكلمات والحروف ، بل الأظهر عندهم كون الفاتحة فعلا واحدا ، بل جعل بعضهم القراءة فعلا واحدا ، وقد عرفت النصّ في الروايات على عدم اعتبار الهوي للسجود والنهوض للقيام.

وممّا يشهد لهذا التوجيه إلحاق المشهور الغسل والتيمّم بالوضوء في هذا الحكم ، إذ لا وجه له ظاهرا إلّا ملاحظة كون الوضوء أمرا واحدا يطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض ، أعني" الطهارة".

الموضع الخامس : ذكر بعض الأساطين (٧) : أنّ حكم الشكّ (٢٦٣٨) في الشروط

______________________________________________________

في بعض أجزاء الوضوء هو الالتفات إلى الشكّ إذا حصل قبل الفراغ منه ، لا يتمّ جعل ضابطه مع ذلك قاعدة الفراغ ، إلّا مع فرض الوضوء بتمام أجزائه شيئا واحدا.

٢٦٣٨. توضيح المقام يحتاج إلى بسط في الكلام ، ليتضح به ما أجمله المصنّف من النقض والإبرام ، فنقول : لا إشكال في شمول عمومات القاعدة للأفعال. وفي شمولها للشروط مطلقا ـ سواء كانت من شرائط الصلاة أم غيرها ـ أقوال ، أشار إليها المصنّف رحمه‌الله في طيّ كلماته.

أحدها : نعم ، إن حصل الشكّ بعد الفراغ من العمل ، فيستأنفه مع إحراز الشرط المشكوك فيه إن حصل في أثنائه. والظاهر ـ كما هو المصرّح به في كلام بعضهم ـ أنّه المشهور بين الأصحاب.

وثانيها : المنع مطلقا ، سواء حصل الشكّ في أثناء العمل أو بعد الفراغ منه. وهذا يظهر من صاحب المدارك والفاضل الهندي. وفي كشف اللثام بعد أن نقل عن العلّامة في التحرير والتذكرة والمنتهى أنّه إن شكّ في أثناء الطواف استأنفه مع الطهارة ، لأنّه شكّ في العبادة قبل تمامها ، لأنّ الشكّ في شرطها شكّ فيها ، وإن

.................................................................................................

______________________________________________________

شكّ بعد الفراغ لا يلتفت إليه ، قال : «والوجه أنّه إن شكّ في الطهارة بعد يقين الحدث فهو محدث يبطل طوافه ، شكّ قبله أو بعده أو فيه. وإن شكّ في نقضها بعد يقينها فهو متطهّر يصحّ طوافه مطلقا. وإن تيقّن الحدث والطهارة وشكّ في المتأخّر ففيه ما مرّ في كتاب الطهارة. ولا يفرّق الحال في شيء من الفروض بين الكون في الأثناء وبعده ، وليس ذلك من الشكّ في شيء من الأفعال» انتهى. ومثله في المدارك ، إلّا أنّه لم يذكر صورة اليقين بالطهارة والحدث والشكّ في المتأخّر منهما. ومراده بما مرّ في كتاب الطهارة هو الحكم بكونه محدثا في الصورة المفروضة. وكيف كان ، فكلاهما صريحان في اعتبار الاستصحاب ، وإلغاء قاعدة الفراغ.

وثالثها : القول بالموجب مطلقا ، حتّى إنّه لو شكّ في بعض الشروط بعد أن تهيّأ للدخول في العمل لا يلتفت إليه ، فضلا عن الدخول فيه أو الفراغ منه. وهو محكيّ عن صاحب كشف الغطاء ، قال : «إنّ الشكّ في الشروط بالنسبة إلى الفراغ عن المشروط ـ بل الدخول فيه ، بل الكون على هيئة الداخل ـ حكم الأجزاء في عدم الالتفات ، فلا اعتبار بالشكّ في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها بعد الدخول في الغاية. ولا فرق بين الوضوء وغيره» انتهى.

ورابعها : التفصيل بين الشروط ، بأنّ الشرط المشكوك فيه إن أمكن إحرازه وتحصيله حين الشكّ في أثناء العمل ـ كالستر والاستقبال والنيّة بالنسبة إلى الصلاة ـ لا يلتفت إليه ، ويبني على وقوعه بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، ويجب إحرازه بالنسبة إلى اللاحقة إن لم يكن حاصلا حين الشكّ. وإن لم يمكن إحرازه حين الشكّ في الأثناء كالوضوء ، فإنّ محلّ إحرازه قبل الدخول في الغاية من الصلاة ونحوها ، يبني على وقوعه مطلقا حتّى بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة أيضا ، فيمضي على ما شكّ فيه ، ولا يجب إحرازه في الأثناء. اختاره صاحب الجواهر.

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن التفصيل بوجه آخر ، بأن لا يعتبر الشكّ في الشرط بالنسبة إلى مشروطه الذي تهيّأ للدخول فيه أو شكّ في أثنائه ، بخلاف غيره من الغايات الأخر التي يريد الإتيان بها بعده ، فيجب الالتفات إليه ، والبناء على عدم وقوعه بالنسبة إليها. فإذا شكّ في الطهارة في حال تهيّئه للظهر أو في أثنائها بنى على وقوعه ، فيمضي في الظهر ، ويتطهّر للعصر أو غيرها من الغايات الأخر. وصاحب كشف الغطاء مع اكتفائه بالتهيّؤ كما عرفت اكتفي بهذا الشرط الثابت بالقاعدة بالنسبة إلى الغايات الأخر ، كما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ، فيكون ما احتملناه تفصيلا بالنسبة إلى هذا التعميم.

والتحقيق ما اختاره المصنّف من التفصيل بين الفراغ من المشروط فيلغو الشكّ بالنسبة إلى شرطه ، وبين مشروط آخر بعده فيعتبر بالنسبة إليه. وتحقيقه يتوقّف على بيان محلّ الشروط ومرتبتها حتّى يتفرّع عليه معرفة تجاوز محلّها وعدمه ، لابتناء صدق الروايات على صدق تجاوز المحلّ للمشكوك فيه وعدمه.

فنقول : إنّ جميع الأفعال لا تخلو : إمّا أن يكون بعضها مقدّما على بعض آخر مع الاتّصال أو الانفصال ، وإمّا أن يكون أحدهما مقارنا للآخر ، بمعنى وجودهما في زمان واحد ، كالأكل ماشيا والشرب قاعدا. والشروط بالنسبة إلى مشروطها من قبيل الثاني ، لأنّ ما هو شرط ـ من الطهارة والاستقبال والستر والساتر وإباحة المكان ونحوها ـ بالنسبة إلى الصلاة إنّما هو الحاصل منها في زمان العمل لا قبله.

وأمّا الوضوء فلا ريب في عدم كونه شرطا للصلاة ، بل هو سبب لما هو شرط لها ، وهي الطهارة. وأمّا الطهارة وكذا الاستقبال ونحوه الحاصل قبلها فليست شرطا لها ، لأنّ ما هو شرط منها ما هو حاصل حين الاشتغال بالصلاة ، لأنّ الشرط هو الخارج الذي له مدخل في وجود المشروط ، ولا مدخل لما تقدّم منها على الصلاة في وجودها ، ولذا لو فرض حصول الاستقبال أو الستر أو إباحة الساتر أو المكان برضا مالكهما مقارنا لابتداء تكبيرة الإحرام صحّت صلاته بلا إشكال. ووجوب

.................................................................................................

______________________________________________________

إحراز ما ذكر قبل التلبّس بالصلاة إنّما هو من باب المقدّمة ، لعدم حصولها غالبا حينه. فما اشتهر في الكتب من أنّ الشرط ما تقدّم على المشروط وجودا ليس بجيّد. اللهمّ إلّا أن يحمل على المسامحة ، وإرادة تحصيله من باب المقدّمة ، وإن كان اتّصافه بوصف الشرطيّة حين التلبّس.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ محلّ الشرط ومرتبته هو حين التلبّس بالمشروط ، فإذا فرغ المكلّف من المشروط فقد خرج من محلّه وتجاوزه. ولا ريب أنّ ما ذكرناه من الشروط شرائط لجميع أجزاء الصلاة ، لاعتبار وجودها عند التلبّس بكلّ جزء جزء منها. فإذا شكّ بعد الشروع في السورة في وقوع الفاتحة في حال الطهارة والاستقبال ونحوهما ، يصدق عليه التجاوز عن محلّ الشرط والدخول في غيره بالنسبة إلى الفاتحة ، فيجب تحصيل الشرط المشكوك فيه بالنسبة إلى الأجزاء الباقية إن أمكن. وكذا الكلام في الآية ، بل الكلمة ، فإذا شكّ في استجماع آية أو كلمة للشرائط بعد الدخول في اخرى صدق التجاوز عن محلّ شرائطهما.

ومن هنا يمكن التفرقة بين محلّ أفعال الصلاة ومحلّ شرائطها على مذهب المشهور ، من كون محلّ كلّ فعل هو ما قبل الدخول في آخر من الأفعال التي لها عنوان مستقلّ في كلماتهم ، كالتكبير والقراءة والركوع والسجود والقيام والتشهد ونحوها كما تقدّم سابقا. فإذا شكّ في الإتيان بآية بعد الدخول في اخرى يجب الالتفات إلى شكّه ، لعدم تجاوز محلّ المشكوك فيه. وإذا شكّ في الاستقبال في آية بعد الدخول في اخرى لا يلتفت إلى شكّه ، لما عرفت من تجاوز محلّ الشرط حينئذ. وهذا لازم مذهبهم وإن لم يلتزموا به.

ثمّ إنّ المراد بالشروط التي هي مجرى القاعدة هي الشروط الواقعيّة دون العلميّة ، لأنّه إذا قلنا بكون الطهارة عن الخبث شرطا علميّا للصلاة ، فمع الشكّ في طهارة بدنه أو ثوبه يحكم بصحّة صلاته في الواقع ، فلا يصلح مثل هذا الشرط أن يكون موردا للقاعدة ، وهو واضح.

.................................................................................................

______________________________________________________

وإذا عرفت هذا فاعلم أنّه يدلّ على الشقّ الأوّل من المدّعى ـ وهو عدم الالتفات إلى الشكّ في الشرط بعد الفراغ من مشروطه بالنسبة إلى أجزاء الصلاة وغيرها ـ ما أشار المصنّف رحمه‌الله من العمومات الواردة في الباب ، ولكن ليعلم أنّ العمدة منها موثّقة ابن أبي يعفور «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه» وتقريب الاستدلال بها على وجهين :

أحدهما : أن يفرض الشكّ والفراغ بالنسبة إلى نفس المشكوك فيه ، بأن يقال فيما حصل الشكّ في بعض الشروط عند قراءة آية بعد الدخول في اخرى : إنّ محلّ الشرط المشكوك فيه كان حين قراءة الآية السابقة ، وقد تجاوزه ودخل في غيره.

وثانيهما : أن يفرض الشكّ والفراغ بالنسبة إلى الجزء المشكوك في شرطه ، بأن يقال : إنّ الشكّ قد وقع في الآية السابقة بحسب وجودها الشرعيّ بعد تجاوز محلّها والدخول في غيرها فلا يلتفت إليه ، لأنّ ما هو فاسد كالعدم في نظر الشارع.

هذا بناء على شمول أخبار الباب لكلّ من الشكّ في الوجود والصحّة. ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بصحيحة زرارة : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء».

وإنّما قلنا إنّ العمدة في المقام هي الموثّقة ، لأنّ الظاهر إطباق القائلين بجريان القاعدة في الشروط على عدم اعتبار الدخول في فعل آخر عند الشكّ في بعض شروط فعل سابق عليه ، وكفاية مجرّد الفراغ من الفعل المشكوك في شرطه في الحكم بعدم الالتفات إليه. وحينئذ يشكل الاستدلال بالصحيحة المعتبرة للدخول في الغير ، على الوجهين في تقريب الاستدلال بها ، بخلاف الموثّقة ، لأنّ ظاهرها بحسب مفهوم العلّة كفاية مجرّد الفراغ ، وتجاوز محلّ المشكوك فيه في عدم الالتفات إلى الشكّ. ولا ينافيه صدرها المعتبرة للدخول في الغير ـ يعني : غير الوضوء ـ عند الشكّ في شيء من الوضوء ، إذ يكفي في الدخول في غير الوضوء مجرّد الفراغ منه ،

.................................................................................................

______________________________________________________

كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في الموضع الثالث. مضافا إلى الأخبار الخاصّة الدالّة على كفاية مجرّد الانصراف عن الوضوء في عدم الالتفات إلى الشكّ الواقع فيه.

وبالجملة ، إنّ الصحيحة لأجل مخالفتها لما هو ظاهرهم الإطباق عليه يشكل التمسّك بها في المقام. اللهمّ إلّا أن يوجّه بأنّ الشروط وإن قارنت مشروطها وجودا ، إلّا أنّها مقدّمة عليه طبعا ، فيكتفي في صدق الدخول في غيره الشروع في مشروطه ، لتأخّره عن شرطه طبعا وإن قارنه وجودا. نعم ، لمّا كان الشرط مستمرّا مع مشروطه وجودا ، فما لم يحصل الفراغ من مشروطه لم يصدق التجاوز عن محلّه ، فيعتبر الفراغ عن المشروط أيضا ليصدق كلّ من التجاوز والدخول في الغير المتأخّر عن المشكوك فيه ولو طبعا.

هذا كلّه [مضافا](*) إلى إمكان منع شمول الصحيحة للشكّ في الشروط ، إمّا لأنّ خصوصيّة المورد ـ أعني : الشكّ في الأذان والتكبير والقراءة والركوع ـ قرينة على كون المراد في قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» هو الشكّ في وجود الشيء ، لا في صحّته بعد إحراز وجوده. ولكن يدفعه ما تقرّر في محلّه من أنّ خصوصيّة السبب لا تخصّص عموم الجواب. وإمّا لأنّ الظاهر من الشكّ في الشيء لغة وعرفا ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في الموضع الأوّل والسادس ـ هو الشكّ في وجود الشيء لا في صحّته ، ومرجع الشكّ في وجود الشرط إلى الشكّ في صحّة المشروط.

ومن هنا يظهر إمكان المناقشة في سائر أخبار الباب أيضا. فينحصر الدليل في موثّقة ابن أبي يعفور ، مع إمكان المناقشة فيها بأنّ غايتها الإطلاق من حيث اعتبار الدخول في الغير وعدمه ، وهو مقيّد بما دلّ على اعتبار الدخول في الغير في عدم الالتفات إلى الشكّ ، كما أوضحناه عند شرح ما يتعلّق بكلامه في الموضع الثالث ، فراجع. فلا بدّ حينئذ إمّا من التزام اعتبار الدخول في الغير في الشروط أيضا ، وإمّا

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أثبتناه ليستقيم المعنى.

.................................................................................................

______________________________________________________

من التزام قاعدتين في المقام ، إحداهما جارية في الشكّ في الوجود ، والاخرى في الشكّ في الصحّة ، مع اعتبار الدخول في الغير في الاولى دون الثانية.

والحاصل : أنّ الجمع بين مطلقات الأخبار ومقيّداتها كما يمكن بتقييد مطلقاتها كذلك يمكن بحمل مقيّداتها على صورة الشكّ في الوجود ، ومطلقاتها على صورة الشكّ في الصحّة. ولكن يدفع الأوّل مخالفته لما عرفته من إطباقهم على عدم اعتبار الدخول في الغير في الشروط. والثاني أنّه مخالف لظاهر الأخبار ، لأنّ ظاهرها إعطاء قاعدة واحدة مطّردة في مواردها. مضافا إلى ظهور ما عدا موثّقة ابن أبي ـ يعفور ـ سواء كانت مطلقة أم مقيّدة ـ في الشكّ في الوجود كما تقدّم.

والأولى أن يقال : إنّ قوله عليه‌السلام : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» في الموثّقة المذكورة أعمّ من الشكّ في الوجود والصحّة ، وغاية ما ثبت من تقييدها ـ من حيث ظهور المقيّد من الأخبار في الشكّ في الوجود كما تقدّم ـ هو تقييدها بالدخول في الغير بالنسبة إلى الشكّ في الوجود دون الصحّة ، إذ لا بدّ في التقييد من الاقتصار على ما اقتضاه دليله. ومن هنا يظهر عدم المنافاة بين اعتبار الدخول في الغير عند الشكّ في الوجود ، وعدم اعتباره والاكتفاء بمجرّد الفراغ عند الشكّ في الصحّة.

ويدلّ على الشقّ الثاني من المدّعى ـ وهو أنّ عدم الالتفات إلى الشكّ في الشرط بالنسبة إلى مشروطه لا يستلزم عدم الالتفات إلى مشروط آخر يريد الإتيان به بعده ـ ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضا من عدم تحقّق التجاوز عن محلّ الشرط المشكوك فيه بالنسبة إلى المشروط الآخر ، فلا بدّ من إحرازه بالنسبة إليه وذلك لأنّ هذه القاعدة ليست من الأدلّة الاجتهاديّة حتّى يثبت بها لوازمها مطلقا ، شرعيّة كانت أو عقليّة أو عاديّة ، لأنّ عدم الالتفات إلى الشكّ بعد تجاوز محلّ المشكوك فيه إنّما ثبت تعبّدا من باب الأخبار ، وثبوت التعبّد بعدم الالتفات إلى الشكّ في تحقّق بعض شرائط المأتيّ به لأجل تجاوز محلّه ، لا يستلزم التعبّد بذلك بالنسبة إلى

.................................................................................................

______________________________________________________

مشروط آخر يريد الإتيان به بعده ، وهو واضح.

نعم ، لو ثبت اعتبار القاعدة من باب الظنّ النوعي ، بأن استند فيه إلى ظهور حال المكلّف المريد للفعل الصحيح أو الغلبة أو بناء العقلاء ، لاتّجه ما ذكر ، لكونها حينئذ من الأمارات الاجتهاديّة ، إلّا أنّه خلاف التحقيق ، إذ العمدة في المقام هي الأخبار العامّة. فلا بدّ حينئذ من التفصيل بين الشروط ، فإن كان الشرط المشكوك فيه ممّا أمكن تحصيله في أثناء العمل بنى على وقوعه بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، وأحرزه بتحصيله في الأثناء بالنسبة إلى اللاحقة ، إن لم يكن حاصلا حين الشكّ. وإن لم يمكن تحصيله في الأثناء ، لاستلزامه للفعل الكثير في أثناء الصلاة ، أو الانصراف عن القبلة ، أو للإجماع على اعتبار استمرار الشرط من ابتداء العمل إلى انتهائه ، كالطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة ، لإجماعهم على اعتبار وقوعها بطهارة واحدة في صحّتها أو نحو ذلك ، استأنف العمل فلا بدّ من مراعاة هذا التفصيل في الشروط.

وأمّا أدلّة باقي الأقوال ، فإنّهم وإن لم يذكروا على جملة منها دليلا ، إلّا أنّه يمكن أن يحتج للأوّل ـ وهو الذي اختاره العلّامة في كتبه الثلاثة ، على ما تقدّم عند نقل القول الثاني ـ بوجهين.

وليعلم أوّلا أنّه لم تظهر مخالفته لما اخترناه على سبيل الجزم ، لأنّ تفصيله بين الشكّ في الشرط في أثناء العمل والشكّ فيه بعد الفراغ منه ، بالقول بالالتفات إلى الشكّ في الأوّل دون الثاني ، إنّما استفدناه من تفصيله في كتبه الثلاثة بين الشكّ في الطهارة عن الحدث في أثناء الطواف ، وبين الشكّ فيها بعد الفراغ منه. فإن كان هذا التفصيل بالنسبة إلى خصوص الطهارة من حيث عدم إمكان تداركها في الأثناء انطبق على ما اخترناه. وإن كان ذكر الطهارة من باب المثال ، والمقصود هو التفصيل بين وقوع الشكّ في الأثناء وبعد الفراغ بالنسبة إلى مطلق الشروط ، غاير ما اخترناه.

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : أن يحمل الشيء في الصحيحة «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» على إرادة العناوين الكلّية ، كالصلاة والصوم والإحرام والطواف والسعي ونحوها ، والخروج منها إنّما يتحقّق بالفراغ منها ، فإذا شكّ في الأثناء في بعض شرائطها التفت إليه ، بخلاف ما لو حصل بعد الفراغ منه فلا يلتفت إليه.

وثانيهما : أنّ القاعدة لو عمّت الشكّ في الشرائط في أثناء العمل لزم التعارض بين منطوق الروايات ومفهومها ، لأنّه إذا شكّ بعد الفراغ من الفاتحة في حصولها حال الاستقبال أو الطهارة أو نحوهما ، فكما يحصل الشكّ في صحّة الفاتحة كذلك يحصل الشكّ في صحّة الصلاة ، وكما أنّ الصحيحة تدلّ منطوقا على عدم الاعتناء بالشكّ الأوّل ، كذلك تدلّ مفهوما على الاعتناء بالشكّ الثاني.

والجواب عن الأوّل : بأنّ الشيء عامّ ، فلا دليل على تخصيصه بما ذكر ، فهو يشمل الخروج من القراءة ، بل الفاتحة ، بل الآية منها ، بل الكلمة منها.

وعن الثاني : بأنّ الشكّ في المجموع مسبّب عن الشكّ في الجزء ، فإذا زال الشكّ عن الجزء بحكم القاعدة زال عن الكلّ أيضا ، كما قرّر في مسألة المزيل والمزال بل ليس هنا إلّا شكّ واحد ، لأنّ الشكّ في الكلّ عين الشكّ في الجزء ، وليس مغايرا له ، بل هما متّحدان بالذات متغايران بالإضافة والاعتبار ، نظير حركة جالس السفينة بحركتها التي تنسب إليها بالأصالة وإليه بالاعتبار ، فيكون الشكّ في الجزء هو مورد القاعدة خاصّة ، ولا يكون من مسألة المزيل والمزال في شيء.

وللقول الثاني بدعوى ظهور أخبار الباب ـ ما عدا موثّقة ابن أبي يعفور ـ في الشكّ في وجود الشيء لا في صحّته ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله في الموضع الأوّل والسادس.

وأمّا الموثّقة فلا يقول صاحب المدارك باعتبارها. ولعلّ الفاضل الهندي أيضا يوافقه في ذلك. مع أنّ دلالتها لا يخلو من إجمال ، لأنّ ظاهرها ـ وهو عدم

.................................................................................................

______________________________________________________

الالتفات إلى الشكّ فيما لو شكّ في بعض أجزاء الوضوء بعد الدخول في جزء آخر منه ـ غير مراد بالإجماع ، فلا بدّ أن يرجع ضمير «غيره» في قوله : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» إلى الوضوء دون الشيء. وحينئذ يقع الإشكال فيما علّله بقوله : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» لأنّ مقتضاه أنّ الشكّ الذي يجب الالتفات إليه هو ما وقع في أثناء العمل ، وهو غير معقول. اللهمّ إلّا أن يفرض المشكوك في أثنائه مركّبا ذي أجزاء وقع الشكّ في أثنائه باعتبار الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا.

فيكون محصّل العلّة بضميمة موردها : أنّ الشكّ الذي يجب الالتفات إليه هو الشكّ الذي وقع في أثناء المركّب باعتبار الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، وأنّ الشكّ الذي لا يلتفت إليه هو الشكّ الذي وقع في بعض ما يعتبر في المركّب بعد الفراغ منه. وهذا وإن صحّ في الوضوء ، إلّا أنّه لا ينطبق على شيء من المذاهب في مثل الصلاة ، إذ لا ريب في عدم الاعتداد بالشكّ في القراءة إذا حصل عند التسليم ، سواء قلنا بمذهب الشيخ والعلّامة أو المشهور أو الأردبيلي قدّس الله أسرارهم. والالتزام بظاهر العلّة والبناء على خروج ما أخرجه الدليل ، بأن يقال : إنّ كلّ مركّب وقع الإجماع على عدم الالتفات فيه إلى الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا قبل الفراغ منه فهو ، وإلّا فمقتضاها الالتفات إلى مثل هذا الشكّ ، يحتاج إلى جرأة عظيمة على مخالفة العلماء إن لم ينعقد الإجماع على خلافه.

والجواب : أمّا عن عدم حجّية الأخبار الموثّقة ، فبأنّه خلاف التحقيق كما قرّر في محلّه. وأمّا عن إجمال صدرها ، فبأنّ الإجماع المذكور قرينة على إرجاع ضمير «غيره» إلى الوضوء. وأمّا عن إجمال العلّة وعدم وجود القول بمقتضاها ، فبمنع إجمالها ، لأنّ المتبادر من الشكّ في الشيء حين الكون فيه هو الشكّ فيه قبل تجاوز محلّه ، وهو منطبق على الشكّ في الجزء والشرط ونفس المركّب والمشروط ،

.................................................................................................

______________________________________________________

على الوجه الذي تقدّم تحقيقه في بيان ما اخترناه. ويؤيّده سائر أخبار الباب ، لأنّ قوله عليه‌السلام في صحيحتي زرارة والحلبي : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» ظاهر في الخروج من محلّ الشّيء ، لأنّ الخروج من الشيء ظاهر في القطع بوجوده والشكّ في بعض أوصافه ، وهو محمول على إرادة الخروج من محلّه ، لينطبق على موردهما من الشكّ في أصل وجود الشيء.

وللقول الثالث بحمل العمومات على إمضاء طريقة العقلاء ، وما هو الظاهر من حال العاقل المريد للفعل المكلّف به من إبراء ذمّته عمّا تعلّق بها ، لأنّ العاقل لا يقدم على الفعل فيما يريد إبراء ذمّته به إلّا بعد إحراز جميع ما يعتبر فيه. وكذلك طريقة العقلاء مستقرّة على عدم الالتفات إلى الشكّ بعد التّهيؤ ، فضلا عن الدخول في المشروط والفراغ منه.

والجواب : منع ظهور ذلك من الأخبار ، لبعده عن مساقها. وبنائهم أيضا لم يثبت بحيث ينهض دليلا بنفسه.

وأمّا ما احتملناه في تضاعيف الأقوال من التفصيل ، فيمكن الاحتجاج له بأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو البناء على المضيّ في المشروط الذي شكّ في شرطه في حال التّهيؤ له أو بعد الدخول فيه ، دون سائر الغايات الأخر التي يريد الإتيان بها بعده. والجواب عنه يظهر بعد ضعف القول السابق الذي هو مبناه.

وللقول الرابع بأنّ محلّ الشروط التي لا يمكن تحصيلها في أثناء مشروطها هو ما قبل المشروط ، لعدم قابليّة أثنائه لذلك ، فبمجرّد الدخول في المشروط يتحقّق التجاوز عن محلّ هذه الشروط ، فلا يلتفت إلى الشكّ فيها بعد الدخول فيه بمقتضى العمومات ، بخلاف الشروط التي يمكن تحصيلها في الأثناء ، لأنّها حيث كانت شروطا لجميع أجزاء الصلاة مثلا ، فمحلّها بالنسبة إلى كلّ جزء هو محلّ الإتيان بهذا الجزء. فإذا شكّ في تحقّق شرط الجزء السابق بعد الدخول في آخر ، فقد تحقّق التجاوز عن محلّ الشرط بالنسبة إلى الجزء السابق ، ولم يتحقّق التجاوز عن محلّه

بالنسبة إلى الفراغ عن المشروط ـ بل الدخول فيه ، بل الكون على هيئة الداخل ـ حكم الأجزاء في عدم الالتفات ، فلا اعتبار بالشكّ في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها بعد الدخول في الغاية. ولا فرق بين الوضوء وغيره ، انتهى. وتبعه بعض من تأخّر عنه. واستقرب (٢٦٣٩) في مقام آخر إلغاء الشكّ في الشرط بالنسبة إلى غير ما دخل فيه من الغايات. وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأصحاب من اعتبار الشكّ في الشرط حتّى بعد الفراغ عن المشروط ، فأوجب إعادة المشروط.

______________________________________________________

بالنسبة إلى الجزء الذي دخل فيه ، وكذا غيره من الأجزاء اللاحقة ، فيجب إحرازه بالنسبة إليها إن لم يستلزم فساد الصلاة من جهة اخرى ، كإزالة النجاسة المستلزمة للفعل الكثير في أثنائها في بعض الصور ، بخلاف الطهارة عن الحدث ، فإنّ عدم جواز تجديدها في أثنائها ليس لذلك ، بل للإجماع على عدم صحّة الصلاة إلّا بطهارة واحدة ، وإن فرض عدم استلزام تجديدها في الأثناء للفعل الكثير.

والجواب : أنّ ما ذكره فيما يمكن تحصيله في أثناء العمل من الشروط موافق للتحقيق وأمّا بالنسبة إلى ما لا يمكن تحصيله في الأثناء ، فيرد عليه ما قدّمناه عند بيان ما اخترناه من كون محلّ الشروط مطلقا مقارنا لمحلّ مشروطها ، لمقارنتها له في الوجود ، فراجع. فإذا شكّ في وقوع الفاتحة مع الطهارة بعد الدخول في السورة ، فالتجاوز عن محلّ الطهارة وإن تحقّق بالنسبة إلى الفاتحة ، إلّا أنّه باق بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة. وعدم جواز تجديدها بالنسبة إليها ـ وإن فرض عدم استلزامه للفعل الكثير ـ إنّما هو للإجماع على وقوع جميع أجزاء الصلاة بطهارة واحدة ، وإلّا كان مقتضى القاعدة هو الحكم بالصحّة مع تجديدها في الأثناء إن لم يلزم البطلان من جهة اخرى ، كسائر الشروط التي لم يمنع الإجماع من تجديدها في الأثناء على ما أسلفناه ، والله العالم بحقيقة الحال.

٢٦٣٩. يعني : بعض الأساطين.

والأقوى : التفصيل بين الفراغ عن المشروط فيلغو الشكّ في الشرط بالنسبة إليه ، لعموم لغويّة الشكّ في الشيء بعد التجاوز عنه ، وأمّا بالنسبة إلى مشروط آخر لم يدخل فيه فلا ينبغي الإشكال في اعتبار الشكّ فيه ، لأنّ الشرط المذكور من حيث كونه شرطا لهذا المشروط لم يتجاوز عنه ، بل محلّه باق ، فالشكّ في تحقّق شرط هذا المشروط شكّ في الشيء قبل تجاوز محلّه.

وربّما بنى بعضهم ذلك (٢٦٤٠) على أنّ معنى عدم العبرة بالشكّ في الشيء بعد تجاوز المحلّ ، هو البناء على الحصول مطلقا (٢٦٤١) ولو لمشروط آخر ، أو يختصّ بالمدخول. أقول : لا إشكال في أنّ معناه البناء على حصول المشكوك فيه ، لكن بعنوانه الذي يتحقّق معه تجاوز المحلّ ، لا مطلقا. فلو شكّ في أثناء العصر في فعل الظهر بنى على تحقّق الظهر بعنوان أنّه شرط للعصر (٢٦٤٢) ولعدم وجوب العدول إليه ، لا على تحقّقه مطلقا حتى لا يحتاج إلى إعادتها بعد فعل العصر. فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه إنّما فات محلّه من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقّق ، لا من حيث كونه شرطا للمشروط المستقبل.

ومن هنا يظهر أنّ الدخول في المشروط أيضا لا يكفي في إلغاء الشكّ في الشرط ، بل لا بدّ من الفراغ عنه ، لأنّ نسبة الشرط إلى جميع أجزاء المشروط نسبة واحدة ، وتجاوز محلّه (٢٦٤٣) باعتبار كونه شرطا للأجزاء الماضية ، فلا بدّ من إحرازه للأجزاء المستقبلة. نعم ، ربّما يدّعى في مثل الوضوء أنّ محلّ إحرازه لجميع أجزاء الصلاة قبل الصلاة (٢٦٤٤) لا عند كلّ جزء.

______________________________________________________

٢٦٤٠. أي : الشكّ في الشرط بالنسبة إلى الغايات الأخر.

٢٦٤١. فيعمّ جميع الغايات المدخول فيها وغيره.

٢٦٤٢. فإنّ محلّ الظهر باعتبار أنّها شرط للعصر إنّما هو قبلها ، وأمّا باعتبار أنّها واجب في نفسها فمحلّها باق ما لم يخرج الوقت ، ولذا يجب الإتيان بها بعد العصر لو نسيها قبلها.

٢٦٤٣. مبتدأ وخبره قوله «باعتبار».

٢٦٤٤. فبالدخول فيها يتحقّق التجاوز عن محلّه.

ومن هنا قد يفصّل بين ما كان من قبيل الوضوء ممّا يكون محلّ إحرازه قبل الدخول في العبادة ، وبين غيره ممّا ليس كذلك ، كالاستقبال والستر ، فإنّ إحرازهما ممكن في كلّ جزء ، وليس المحلّ الموظّف لإحرازهما قبل الصلاة بالخصوص ، بخلاف الوضوء. وحينئذ فلو شكّ في أثناء الصلاة في الستر أو الساتر وجب عليه إحرازه في أثناء الصلاة للأجزاء المستقبلة.

والمسألة لا تخلو عن إشكال ، إلّا أنّه ربّما يشهد لما ذكرنا ـ من التفصيل بين الشكّ في الوضوء في أثناء الصلاة ، وفيه بعده ـ صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام ، قال : " سألته عن الرجل يكون على وضوء ثمّ يشكّ ، على وضوء هو أم لا؟ قال : إذا ذكرها (٢٦٤٥) وهو في صلاته انصرف وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك" (٨) ، بناء على أنّ مورد السؤال (٢٦٤٦) الكون على الوضوء باعتقاده ثمّ شكّ في ذلك.

الموضع السادس : أنّ الشكّ في صحّة الشيء المأتي به حكمه حكم الشكّ في الإتيان ، بل هو هو ، لأنّ مرجعه إلى الشكّ في وجود الشيء الصحيح. ومحلّ الكلام ما لا يرجع (٢٦٤٧) فيه الشكّ إلى الشكّ في ترك بعض ما يعتبر في الصحّة ، كما لو شكّ في تحقّق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية. لكنّ الإنصاف أنّ الإلحاق لا يخلو عن إشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشكّ في الشيء اختصاصها بغير هذه الصورة ، إلّا أن يدّعى تنقيح المناط أو يستند فيه إلى بعض ما يستفاد منه

______________________________________________________

٢٦٤٥. يعني : حالة شكّه.

٢٦٤٦. بأن كان مورد السؤال من قبيل الشكّ الساري لا الشكّ المعتبر في مورد الاستصحاب ، أعني : الشكّ في البقاء ، إذ لو كان من قبيل الثاني لم يكن له دخل فيما نحن فيه ، مضافا إلى مخالفته للإجماع في الجملة.

٢٦٤٧. حاصله : أنّ محلّ الكلام في الموضع الخامس (*) هو الشكّ في الشروط

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة. وهو سهو من قلمه الشريف قدس‌سره ، لأنّ الكلام في الموضع السادس كما تراه في المتن.

العموم مثل موثّقة ابن أبي يعفور ، أو يجعل أصالة الصحّة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلا برأسه ، ومدركه ظهور حال المسلم.

قال فخر الدين في الإيضاح في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطهارة : إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح ، وهو يعلم الكيفية والكميّة ، الصحّة (٩) ، انتهى. ويمكن استفادة اعتباره من عموم التعليل المتقدّم في قوله : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" ، فإنّه بمنزلة صغرى لقوله : " فإذا كان أذكر

______________________________________________________

التي لها وجود مستقلّ مع قطع النظر عن وجود مشروطها ، كالطهارة والاستقبال والستر ونحوها ، حتّى تكون بنفسها موردا للشكّ في الوجود ، لتجري فيها القاعدة بنفسها ، وإن قلنا بعدم شمولها للشكّ في الصحّة ، وفي هذا الموضع [ما](*) لم يكن كذلك ، بل يعدّ المشكوك فيه من كيفيّات المشروط وموجودا بوجوده ، كأداء الحروف من المخارج ، وعلى الإعراب المقرّر في النحو ، وعلى الترتيب المقرّر في اللغة ، وكالموالاة بين حروف الكلمة أو كلمات الآية أو نحو ذلك.

ولكنّك خبير بأنّ لكلّ ممّا ذكر أيضا وجودا مغايرا للمشروط. اللهمّ إلّا أن يقال ذلك بحسب الدقّة ، وإلّا فما ذكر لا يعدّ مغايرا للمشروط بحسب الوجود في نظر أهل العرف ، وهو المعتبر في صدق الأدلّة اللفظيّة.

ثمّ إنّه على تقدير جريان القاعدة في الشكّ في الصحّة ، فالكلام في اعتبار الدخول في الغير وعدمه في عدم الالتفات إلى الشكّ والالتفات إليه ، نظير ما تقدّم في سائر الشروط عند بيان ما اخترناه ، فراجع إلى ما ذكرناه عند شرح كلامه في الموضع السادس (**). وكذا الكلام في محلّ هذه الشروط نظير ما تقدّم هناك.

__________________

(*) كلمة «ما» مثبتة في الطبعة الحجريّة ، والظاهر أنّها من زيادة النسّاخ ومخلّة بالمعنى.

(**) هذا أيضا سهو من قلمه الشريف قدس‌سره ، والصحيح : الخامس ، لأنّ الكلام في سائر الشروط مضى مشروحا في الموضع الخامس.

فلا يترك ما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد به إبراء ذمّته" ، لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ، وعمدا خلاف إرادة الإبراء.

الموضع السابع : الظاهر أنّ المراد بالشكّ في موضوع هذا الأصل ، هو الشكّ الطارئ بسبب الغفلة عن صورة العمل. فلو علم كيفيّة غسل اليد وأنّه كان بارتماسها في الماء ، لكن شكّ في أنّ ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا ، ففي الحكم بعدم الالتفات ، وجهان : من إطلاق بعض الأخبار ، ومن التعليل بقوله : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" ، فإنّ التعليل يدلّ على تخصيص الحكم بمورده (٢٦٤٨) مع عموم السؤال ، فيدلّ على نفيه عن غير مورد العلّة.

نعم ، لا فرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه تعمّدا ، والتعليل المذكور بضميمة (٢٦٤٩) الكبرى المتقدّمة يدلّ على نفي الاحتمالين.

ولو كان الشكّ من جهة احتمال وجود الحائل على البدن ، ففي شمول الأخبار له ، الوجهان. نعم ، قد يجري هنا أصالة عدم الحائل فيحكم بعدمه حتّى لو لم يفرغ عن الوضوء ، بل لم يشرع في غسل موضع احتمال الحائل ، لكنّه من الاصول المثبتة. وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في بعض الامور المتقدّمة.

______________________________________________________

٢٦٤٨. يعني : بمورد التعليل ، وهو ما يتحقّق فيه الأذكريّة. والسؤال في الرواية وإن كان عامّا ، إلّا أنّ خصوصيّة العلّة من حيث أظهريّتها مقدّمة على عموم السؤال ، كما أنّ السؤال لو كان خاصّا والعلّة عامّة يؤخذ بعموم العلّة. وقد أشار إليه المصنّف رحمه‌الله عند الاستدلال بآية النبأ على حجّية خبر الواحد ، فراجع.

٢٦٤٩. توضيحه : أنّ قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» وارد في مقام بيان ظاهر حال المسلم المريد لإبراء ذمّته عمّا اشتغلت به ، وظاهر حاله عدم تركه ما يوجب فساد عمله عمدا ، كذا عدم تركه ما يوجب ذلك سهوا ، لأنّ الأوّل خلاف إرادة الإبراء ، والثاني خلاف الذكر. وتخصيص الأذكريّة في العلّة بالذكر إنّما هو لأجل وضوح عدم إقدام المريد للإبراء إلى الترك العمدي. واحتمال النسيان أيضا مندفع بأكثريّة الذكر وغلبته حين العمل وحاصل التعليل

.................................................................................................

______________________________________________________

حينئذ أنّ المريد للفعل لا يقدم إلى تركه عمدا ، لأنّه خلاف الإرادة ، ولا سهوا ، لأنّه أكثر تذكّرا للفعل حين العمل من غير هذه الحالة ، لندرة النسيان حين العمل.

ومن هنا يظهر الوجه في ضمّ المصنّف رحمه‌الله للكبرى إلى التعليل في نفي الاحتمالين ، وعدم استناده في ذلك إلى مجرّد العلّة. وحاصله : أنّ العلّة بملاحظة موردها تنفي الاحتمالين.

ثمّ اعلم أنّ للقاعدة فروعا مهمّة أخر قد أهملها المصنّف رحمه‌الله في المقام ، ولا بأس بالإشارة إليها على ما تقتضيه الحال ويسعه المجال.

الأوّل : أنّ المراد بالشكّ في مورد أخبار الباب هو المعنى المراد به في باب الاستصحاب ، أعني : الأعمّ من متساوي الطرفين ومن الظنّ غير المعتبر ، لكون الشكّ لغة أعمّ منهما. بل يظهر من الفيّومي اتّفاق أهل اللغة عليه ، قال : «قال أئمّة اللغة : الشكّ خلاف اليقين ، فقولهم : خلاف اليقين هو التردّد بين شيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر» انتهى. فلو شكّ في وقوع الفعل أو صحّته بنى عليهما وإن كان عدمهما مظنونا.

نعم ، قد استثنيت من ذلك الشكوك الواقعة في أثناء الصلاة ، فلو شكّ في القراءة أو الركوع أو غيرهما بعد الفراغ منها ، أو بعد الدخول في غيرها مع الظنّ بعدم الإتيان بها ، بنى على عدم وقوعها ، وإن اقتضت القاعدة خلافه. والدليل عليه هو النصّ ، لأنّه وإن ورد في عدد الركعات إلّا أنّه يثبت حكم الأفعال به أيضا بالأولويّة ، كما تمسّك به في المدارك ، لأنّ الركعة عبارة عن الأفعال المجتمعة ، فإذا اعتبر الظنّ في المجموع ففي الأجزاء بطريق أولى. ووجه تقدّم الظنّ على القاعدة حكومة أدلّته على أدلّتها.

الثاني : أنّ أخبار الباب قد وردت في الصلاة والطهارات ، وظاهر المعتنين بالفقه ـ كالشيخ والفاضلين والشهيد وغيرهم ـ عدم تعدّيهم عن مواردها ، ولعلّهم فهموا منها اختصاص القاعدة بها ، ولذا لم يتمسّكوا بها في غيرها من أبواب

.................................................................................................

______________________________________________________

العبادات والمعاملات والسياسات مع كثرة مواردها فيها. نعم ، تمسّك بها فيها غير واحد من أواخر المتأخّرين ، أوّلهم فيما أعلم فقيه عصره صاحب كشف الغطاء ، وإطلاق الأخبار جوابا وتعليلا يساعدهم. واختصاص مواردها بالصلاة والطهارات لا يضرّ في المقام ، لما تقرّر في محلّه من أنّ خصوصيّة السبب لا تخصّص عموم الجواب ، سيّما مع تعاضده بعموم العلّة في بعضها. نعم ، قوله عليه‌السلام : «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فتذكّرته تذكّرا فامضه كما هو» لا دلالة فيه على العموم بالنسبة إلى غير ما ذكر فيها ، لكنّه لا ينافي عموم غيرها ، لعدم إفادته حصر الحكم فيما ذكر فيه. فالتعميم لا يخلو من قوّة.

الثالث : أنّه إذا شكّ في بعض أفعال الصلاة أو غيرها بعد الدخول في فعل آخر محكوم شرعا بهدمه ، كما إذا شكّ في السجود بعد القيام في الركعة الثانية مع نسيان التشهّد ، فإنّه محكوم بهدم القيام والجلوس للتشهّد ، ففي عدم الالتفات إلى الشكّ في السجود ، بأن كان مكلّفا بالجلوس للتشهّد من دون سجود ، أو وجوب الالتفات إليه ، بأن كان مكلّفا بالجلوس لكلّ من السجود والتشهّد ، وجهان ، من كون الفعل المحكوم بهدمه شرعا بمنزلة عدمه ، فلا يصدق معه الدخول في الغير ولو شرعا ، ومن صدق الدخول في الغير حقيقة ، وأنّ الأمر بهدمه لأجل التشهّد لا يستلزم ذلك بالنسبة إلى السجود أيضا.

ويحتمل التفصيل في المقام ، بأنّ الشكّ في السجود بعد الدخول في القيام إن كان قبل تذكّر نسيان التشهّد يجلس للتشهّد من دون سجود ، لأنّه بمجرّد الشكّ قبل التذكّر كان محكوما بالمضيّ في صلاته وعدم العود للسجود ، فإذا تذكّر نسيان التشهّد بعده وكان محكوما بالجلوس له فهو لا يستلزم زوال الأمر الأوّل ، لعدم كشفه عن خلافه بحسب الواقع.

نعم ، لو كان تذكّره لنسيان التشهّد مستلزما لعلمه بترك السجود ، كان المتّجه حينئذ وجوب العود لكلّ منهما ، وإذ ليس فليس. مضافا إلى إمكان استصحاب

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر الأوّل ، لأنّ موضوعه الشكّ في السجود ، وهو باق بعد ، فتأمّل ، وإن كان بعد تذكّره يجلس لكلّ منهما ، لأنّه بمجرّد تذكّره كان محكوما بهدم القيام ، فهو بمنزلة الشكّ قبل القيام ، لعدم الاعتداد شرعا بالقيام الذي حصل الشكّ في حالته ، لسبق الأمر بهدمه بالفرض ، بخلاف الصورة الاولى.

وأوجه الوجوه أوّلها ، للشكّ في انصراف أخبار الباب إلى مثل المقام. ومجرّد الشكّ في شمولها له كاف في وجوب العود للسجود ، لاستصحاب عدمه ، إذ المانع من العمل به ليس إلّا عموم القاعدة ، وقد فرضنا عدم شموله للمقام.

الرابع : أنّ الأمر بالمضيّ وعدم الالتفات إلى الشكّ بعد الدخول في فعل آخر هل هو للعزيمة أو الرخصة؟ والأوّل هو المشهور. والثاني ممّا احتمله الشهيد في الذكرى. والأوّل هو الأقوى ، لا لظهور الأوامر فيه كي يمنع لأجل وقوعها في مقام الحظر ، لأنّ مقتضى استصحاب العدم عدم جواز المضيّ ، بل لأنّ الأمر الواقع في مقام الحظر أو توهّمه وإن لم يفد سوى ارتفاع المنع الثابت أو المتوهّم ، إلّا أنّ ذلك لا يفيد الرخصة ، بمعنى جواز الفعل والترك مطلقا ، بل يكون حكم مورد الأمر تابعا لموارده ، فإن كان المحلّ قابلا للإباحة فهو ، وإلّا فالعود في مثل المقام ـ أعني : أفعال الصلاة ونحوها من العبادات ـ والإتيان بالمشكوك فيه يحتاج إلى العلم بوجود الأمر به ، لأنّ الفرض كونه عبادة متوقّفة على قصد القربة ، وهو غير حاصل من دون العلم بالأمر ، فيكون الإتيان به تشريعا محرّما. والمشهور إن أرادوا بكون الأمر للعزيمة هذا المعنى فنعم الوفاق ، وإن أرادوا به ظهور الأوامر فيها فقد عرفت ضعفه.

ثمّ إنّ هذا إنّما هو فيما كان العود مخالفا للاحتياط ، وإلّا فلا إشكال في جواز العود والإتيان بالمشكوك فيه بقصد القربة المطلقة ، وذلك لأنّ الشكّ إن كان في بعض أفعال الصلاة بعد الدخول في آخر ، كالقراءة والركوع والسجود والقيام ونحوها ممّا لا يلتفت إلى الشكّ في بعضها بعد الدخول في آخر عند المشهور

.................................................................................................

______________________________________________________

على ما تقدّم سابقا ، فالعود مخالف للاحتياط ، لاحتمال تكرّر الفعل المشكوك فيه حينئذ عن عمد ، وهو مبطل للصلاة. وإن كان في بعض الأذكار الواجبة في الأفعال بعد الدخول في ذكر آخر ، كالشكّ في آية بعد الدخول في اخرى ، أو في إحدى تسبيحات الركوع أو السجود أو إحدى الركعتين الأخيرتين بعد الدخول في تسبيح آخر ، وكذا في أجزاء التشهّد والتسليم ، فالعود حينئذ والإتيان بالمشكوك فيه بقصد القربة المطلقة موافق للاحتياط ، لجمعه بين قول المشهور والقول بعموم القاعدة لجميع أفعال الصلاة وأذكارها ، لأنّ العود على القول الثاني وإن كان ممنوعا لأجل استلزامه التشريع المحرّم كما تقدّم ، إلّا أنّه إنّما يتأتّى في صورة الإتيان بالمشكوك فيه بقصد الجزئيّة والأمر بالخصوص ، كما هو مقتضى استصحاب العلم به. وهو لا ينافي جواز الإتيان به بقصد القربة المطلقة ، لأنّه على تقدير الإخلال به في نفس الأمر محرز للواقع ، وعلى تقدير عدمه من قبيل الذكر غير المخلّ بصحّة الصلاة ، فهو ينوي به القربة المطلقة وإن كان في الواقع مردّدا بين كونه جزءا أو ذكرا ، فالقول بوجوب المضيّ بالمعنى المتقدّم لا ينافي مثل هذا الاحتياط.

نعم ، لو كان العود مخلّا بالموالاة أمكن المنع منه على القول بالعموم أيضا من هذه الجهة ، كما لو قرأ بعد الفاتحة من السور الطوال وشكّ في آخرها في أوّل آية منها ، بحيث لو أعاد أخلّ بالموالاة المعتبرة بين السورة والركوع.

وكيف كان ، فحيثما أمكن الاحتياط في أثناء الصلاة وتركه وبنى على وقوع المشكوك فيه ، فهل يجوز له إعادتها بعد إتمامها احتياطا ، لاحتمال ترك المشكوك فيه ، أو لا يشرع له هذا الاحتياط؟ الظاهر هو الأوّل ، لأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال. ومجرّد إمكانه في الأثناء وتركه اختيارا لا يمنع ذلك ، وهو واضح وأولى منه بذلك ما لا يمكن فيه الاحتياط في الأثناء على ما عرفت.

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه فيما تبيّن كون الأمر بالمضيّ للعزيمة أو الرخصة ، وكذا تبيّن محلّ المشكوك فيه بأنّه ما قبل الدخول في فعل آخر مطلقا كما هو المختار ، أو فعل آخر من الأفعال المعنونة في كلمات العلماء كما هو المشهور على ما تقدّم ، وعدم تبيّن محلّ الشكّ مبنيّ على القول بعدم اعتبار الاستصحاب ، أو بناء على عدم جريانه في المقام ، لأجل العلم الإجمالي على ما سيجيء ، وإلّا فمقتضى استصحاب العدم وجوب العود والإتيان بالمشكوك فيه ما لم يدخل في فعل آخر من الأفعال المعنونة في كلمات الأصحاب ، لأنّ هذا هو المتيقّن حينئذ من عدم جريان الاستصحاب لأجل القاعدة.

فإذا لم يتبيّن شيء من الأمرين ، فإذا حصل الشكّ في فعل بعد الدخول في آخر مع احتمال بقاء محلّ المشكوك فيه ، كما إذا شكّ في آية بعد الدخول في اخرى ، لاحتمال بقاء محلّها إلى الركوع كما هو المشهور ، فالأوفق بالاحتياط لمثل هذا المكلّف المتردّد إبطال عمله واستئنافه من رأس. وحكي عن جماعة ـ كالوحيد البهبهاني وصاحب الرياض والجواهر ـ تكرار العمل بالبناء على وقوع المشكوك فيه والمضيّ على عمله بقصد القربة المطلقة ، ثمّ إعادته ثانيا مع المشكوك فيه كذلك. وما ذكرناه أحوط ، لاستلزام ما ذكروه لإلغاء قصد الوجه المعتبر عند المشهور ، بخلافه على ما ذكرناه من الإبطال والاستئناف ، فتدبّر.

الخامس : أنّه لا إشكال في جريان القاعدة فيما لو حصل الشكّ في فعل بعد الدخول في فعل آخر. وأمّا لو حصل قبله فذهل فدخل في غيره ثمّ التفت إلى شكّه ، ففي الالتفات إلى شكّه وعدمه وجهان ، من صدق قوله عليه‌السلام في الصحيحة : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» لعدم اعتباره لحصول الشكّ بعد الدخول في غيره ، ومن اعتبار ذلك في أكثر روايات الباب حتّى الصحيحة بحسب مفهومها ، لدلالتها بحسبه على وجوب العود مع حصول الشكّ قبل الدخول في غيره. ولا أقلّ من الشكّ في شمول الأخبار للمقام ، فيستصحب

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم المشكوك فيه حينئذ ، إذ لا مانع منه سوى شمول القاعدة للمقام ، وقد فرضنا عدمه. وهذا هو الأقوى.

نعم ، لو شكّ بعد الدخول في غيره في محلّ الفرض في الإتيان بالمشكوك فيه ، حين الشكّ فيه بأن شكّ في فعل قبل الدخول في غيره ، ثمّ ذهل فدخل في غيره والتفت إلى شكّه ، ولكن شكّ حينئذ في العمل بمقتضى شكّه قبل الدخول في الغير ، فالظاهر جريان القاعدة فيه ، لأنّ الشكّ في الإتيان بالمشكوك فيه قبل الدخول في الغير شكّ طار مغاير للشكّ قبل الدخول في الغير ، لأنّ الشكّ الأوّل متعلّق بالعمل بمقتضى الثاني ، فلا يعتدّ به للقاعدة.

السادس : أنّه إذا شكّ في بعض أجزاء الصلاة أو غيرها بعد الدخول في غيره ، فهو على وجوه :

أحدها : أن يكون ملتفتا وبانيا من أوّل الأمر على الإتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه وخاليا من جميع موانعه ، فذهل بعد الدخول فيه فشكّ في الإتيان ببعض ما يعتبر فيه بعد الفراغ من محلّه أو بعد الدخول في غيره. ولا إشكال في شمول أدلّة القاعدة لهذه الصورة من الأخبار ، وما اشتملت عليه من التعليل من قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» وقوله عليه‌السلام : «وأنّه حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» وكذا الأدلّة الاعتباريّة من بناء العقلاء ، وظهور حال العاقل المريد لإبراء ذمّته عمّا اشتغلت به ، والغلبة كما أشرنا إليه سابقا. ولا فرق فيه بين كون المحتمل ترك ما يعتبر في العمل عن عمد أو عن سهو.

وثانيها : أن لا يكون من ابتداء العمل بانيا على ذلك ، لا بمعنى البناء على عدم الإتيان بما يعتبر في العمل ، بل بمعنى الدخول في الفعل من دون التفات إلى ذلك. وهذا يتمّ في غير العبادات المفتقرة إلى قصد القربة ، إذ يعتبر فيها القصد إلى العمل بجميع أجزائه ، فيكون الشكّ في بعض أجزائها من قبيل الصورة الاولى. نعم ، يتمّ

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك فيها بالنسبة إلى شرائطها وموانعها ، لعدم اعتبار القصد إليها فيها من أوّل الأمر.

وكيف كان ، فظاهر الأصحاب جريان القاعدة في هذه الصورة أيضا ، لعدم مصرّح بالفرق بين الصورتين ، ولذا صرّح جماعة بصحّة الأعمال السابقة مطلقا ، كالعبادات التي يحتمل وقوعها بدون تقليد ، أو مع فقد شرط آخر ، أو وجود مانع ، أو الإخلال ببعض أجزائها. ويدلّ عليه إطلاق صحيحتي زرارة والحلبي.

نعم ، ربّما يشكل بالتعليل بالأذكريّة والأقربيّة إلى الحقّ حين العمل منه حين يشكّ ، لعدم تحقّق الأفضليّة مع عدم البناء من أوّل الأمر على الإتيان بالعمل بجميع ما يعتبر فيه بالمعنى الذي عرفته. ولعلّهم لم يطّلعوا على الأخبار المعلّلة ، أو رموها بالضعف على زعمهم ، أو حملوها على بيان الحكمة دون العلّة حتّى يلزم اطّرادها.

وأنت خبير بأنّ إعراضهم عن هذه الأخبار كاف في الإعراض عنها ، إذ لم يراع أحد منهم تحقّق الأذكريّة والأقربيّة إلى الحقّ في جريان القاعدة ولو بحسب النوع ، لعدم تحقّق ذلك في هذه الصورة ولو نوعا ، فلا يبعد حملها على بيان الحكمة.

هذا كلّه فيما حصل الشكّ في بعض الأجزاء أو الشروط ، وإن حصل الشكّ في المانع بعد الفراغ من العمل فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشكّ في مانعيّة الموجود ، كالخاتم في الإصبع إذا حصل الشكّ في وصول الماء إلى ما تحته بعد الفراغ من الغسل. وهو أيضا على قسمين :

أحدهما : أن يحتمل بعد الفراغ إدخاله الماء تحت الخاتم حين العمل. وظاهرهم إجراء القاعدة في هذه الصورة ، ولذا صرّح جماعة بصحّة الأعمال السابقة مع احتمال خلل فيها على ما تقدّم. ويدلّ عليه أيضا صحيحتا زرارة والحلبي. ويشكل بالتعليلين المتقدّمين ، بناء على اختصاصهما بصورة تذكّر المكلّف للبناء على إيقاع العمل من أوّل الأمر بجميع ما يعتبر فيه ، على نحو ما عرفت.

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيهما : أن يعلم من نفسه بعدم إدخاله الماء تحت الخاتم ، لكن احتمل وصول الماء تحت الخاتم بنفسه. وقد توقّف بعضهم في هذه الصورة استنادا إلى ظهور الأخبار في صورة صدور فعل عنه ، بناء على ظهور الخروج من الشيء والتجاوز عنه في وقوع أصل الشيء والشكّ في صحّته وفساده. وتؤيّده منافرته لظاهر التعليلين. ويدفعه : أنّ الظاهر أنّ المراد بالخروج والتجاوز عن الشيء هو الخروج والتجاوز عن محلّه كما تقدّم سابقا ، فيشمل الشكّ في وجود الشيء أيضا. ويحتمل ورود التعليلين لبيان الحكمة دون العلّة كما تقدّم.

الثاني : أن يكون الشكّ في وجود المانع ، كما إذا شكّ بعد الفراغ من الغسل في وجود حاجب في بدنه مانع من وصول الماء إلى البشرة. وظاهر الأصحاب هو الحكم بصحّة الغسل حينئذ ، لكن لا لقاعدة الفراغ ، بل لاستصحاب عدمه.

ويشكل بأنّ أصالة عدم الحائل لا تثبت انغسال البشرة حتّى يحكم بصحّة الغسل. وقد يمنع جريان القاعدة في المقام أيضا. نظرا إلى أنّ المتبادر من أخبار الباب هو المضيّ في العمل وعدم الاعتناء بالشكّ ، فيما وقع الشكّ في إيقاع أصل الفعل أو في إيقاعه على وجه الصحّة ، والشكّ في صحّة الغسل هنا ليس من أحد القبيلين ، لأنّ الشكّ في صحّته هنا مسبّب عن وجود الحائل وعدمه ، لا عن أصل إيقاع الفعل أو عن كيفيّة إيقاعه.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع الظهور ، بل ربّما يدّعى اعتبار الاستصحاب المذكور أيضا وإن كان مثبتا ، نظرا إلى أنّ الاصول المثبتة إنّما يمنع من العمل بها من باب الأخبار ، والاصول العدميّة معتبرة من باب بناء العقلاء ، فتأمّل ، فإنّ المقام لا يخلو من إشكال.

السابع : أنّه إذا اعتقد بشيء من الأحكام أو الموضوعات ثمّ شكّ في صحّة اعتقاده السابق ، ففي جريان القاعدة في تصحيح هذا الاعتقاد وجوه :

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : المنع مطلقا بناء على منع شمول أخبار الباب للاعتقادات ، لانصرافها إلى غيرها.

وثانيها : القول بالموجب كذلك جمودا على ظاهر الأخبار ، لعمومها لكلّ شيء.

وثالثها : التفصيل بين العلم بفساد منشأ الاعتقاد السابق ومدركه ، كما إذا اعتقد بالحكم من الاستقراء ، لأنّ فساد المدرك لا يستلزم فساد المدرك ، فلا يعتبر ، وبين نسيان مدركه فيعتبر ، لعموم الأخبار.

وأوجه الوجوه أوّلها ، لأنّ حمل شيء على الصحّة فرع قابليّته لذلك وصلاحيّته له ، والاعتقاد الجزمي لا يتّصف بشيء من الصحّة والفساد ، لأنّه طريق عقليّ من أيّ سبب حصل.

نعم ، المتصف بهما المعتقد ، لا صفة الاعتقاد. ولا تنافيه رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة في تضاعيف أخبار الباب عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إن شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثا صلّى أم أربعا ، وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» لأنّ المحمول على الصحّة فيها ليس هو الاعتقاد السابق ، بل المعتقد ، ونحن لا نتحاشى عنه.

وثمرة حمل الاعتقاد على الصحّة تظهر في الآثار المستقبلة ، فإذا شكّ المجتهد في صحّة اعتقاده السابق ، فمعنى حمل معتقده على الصحّة عدم وجوب إعادة أعماله التي بنى على اعتقاده السابق ، لكن يجب تحصيل اعتقاد جديد لأعماله الآتية. ومعنى حمل اعتقاده على الصحّة عدم وجوب إعادة المعتقد ثانيا ، ولا تحصيل اعتقاد آخر بعده ، فيكون الحمل على الصحّة من جملة أدلّة عدم وجوب تجديد النظر للمجتهد.

هذا كلّه إذا اعتبر الاعتقاد من باب الطريقيّة إلى الواقع. وأمّا إذا اعتبر من باب الموضوعيّة فالظاهر جريان القاعدة فيه ، لقابليّة الاعتقاد حينئذ للاتّصاف

.................................................................................................

______________________________________________________

بالصحّة والفساد ، كجواز الشهادة للعالم بناء على أخذ الاعتقاد جزء موضوع منه ، كما تقدّم في صدر الكتاب.

الثامن : أنّه علي القول المشهور من اختصاص مورد القاعدة بأفعال الصلاة ، أعني : الأفعال المعنونة منها في كلمات الأصحاب ، لا إشكال في جريانها في أفعال المختار. وأمّا المضطرّ ، كصلاة المريض جالسا أو مستلقيا أو مضطجعا ، ففي جريان القاعدة في أفعاله ، كالجلوس بدل القيام والإيماء والغمض بالعين بدل الركوع والسجود مع تعذّرهما ، محلّ إشكال ، لعدم عنوانه في كلمات الأصحاب على ما ادّعاه صاحب الجواهر.

وتحقيق المقام : أنّ الأفعال المذكورة إن ثبتت بدليّتها عن أفعال المختار شرعا فلا إشكال في جريان القاعدة فيها ، لعموم البدليّة ، فإنّ جعل الإيماء بدلا عن الركوع والسجود يقتضي تنزيله منزلتهما في جميع أحكامهما حتّى أحكام الشكّ. فإذا شكّ في الإيماء للركوع بعد الشروع في الإيماء للسجود ، لا يلتفت إلى شكّه وبنى على وقوع المشكوك فيه. وإن لم تثبت البدليّة فالأظهر عدم جريان القاعدة فيها ، لأنّ الفرض اختصاص القاعدة بأفعال صلاة المختار ، لأنّها المتيقّنة من أخبار الباب ، وغاية الأمر أن يتعدّى إلى ما هو بمنزلتها شرعا دون غيرها.

وتحقيق موارد ثبوت البدليّة موكول إلى نظر الفقيه. ومجمله ثبوت البدليّة في الإيماء للركوع والسجود. وأمّا الجلوس ففيه أقوال : المنع مطلقا وهو الأظهر ، والقول بالموجب كذلك ، والتفصيل بدعوى ثبوت بدليّته عن القيام في حال القراءة دون غيرها ، فعلى الأوّل يكون القيام ساقطا عن المضطرّ ، ويكون الجلوس من المقدّمات الشرعيّة للقراءة. وكذا الكلام في الاضطجاع والاستلقاء. فإذا شكّ في الإيماء للسجود بعد الجلوس قبل الشروع في القراءة يعود على الأوّل دون الأخيرين ، لعدم تحقّق الدخول في فعل آخر عليه دونهما. وإذا شكّ فيه بعد الشروع في القراءة لا يلتفت إلى شكّه على الأخيرين. وأمّا على الأوّل فالظاهر وجوب العود ،

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّه وإن دخل في القراءة إلّا أنّ القراءة ليست معنونة في الفقه بنفسها ، بل بوصف كونها حال القيام لا مطلقا.

والمعتبر على مذهب المشهور في عدم الالتفات إلى الشكّ في فعل من أفعال الصلاة هو الدخول في فعل آخر من الأفعال المخصوصة المعنونة في كلمات الأصحاب ، والجلوس على القول ببدليّته عن القيام واجب حيث يجب فيه القيام ، ومستحبّ حيث يستحبّ كما في حال القنوت. وفي حكم صلاة المضطرّ في جريان القاعدة فيها وعدمه النوافل ، حيث يجوز فعلها ماشيا وعلى الدابّة والإيماء لركوعها وسجودها.

هذا كلّه على مذهب المشهور. وأمّا على المختار من عموم القاعدة فلا فرق بين صلاة المختار والمضطرّ وغيرهما ، لأنّ المدار حينئذ على حصول الشكّ في فعل بعد الدخول في فعل آخر مطلقا ، من دون فرق بين العبادات والمعاملات على أصنافهما.

التاسع : أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع القاعدة تارة يكون ساذجا ، واخرى مشوبا بالعلم الإجمالي. ولا إشكال في جريانها على الأوّل. وأمّا الثاني : مثل ما لو توضّأ وضوءين أصلي وتجديدي ، وقلنا بعدم رفع التجديدي للحدث ، وصلّى بعدهما صلاة واحدة أو أكثر ، ثمّ تيقّن بطلان أحد الوضوءين. وإنّما قلنا بكون أحدهما تجديديّا ، لأنّه مع كونهما أصليّين. حصل العلم بصحّة الصلاة ، للقطع بوقوعه بعد وضوء صحيح رافع للحدث. وإنّما قلنا بعدم رفع التجديدي ، لأنّه إن قلنا برفعه كان كالأصلي. ومن هنا يظهر أنّه لو كانا تجديديّين وقلنا برفع التجديدي كانا كالأصليّين. وإن قلنا بعدم رفعه حصل العلم حينئذ ببطلان الصلاة الواقعة بعدهما.

ففرض احتمال الصلاة للصحّة والفساد فيما وقعت بعد الوضوءين علم ببطلان أحدهما ، لأجل الإخلال ببعض ما يعتبر فيه ، منحصر فيما ذكرناه. فقد

.................................................................................................

______________________________________________________

حكي عن العلّامة في المنتهى عدم الالتفات إلى هذا الشكّ ، لاندراجه تحت عموم القاعدة. ونقله الشهيد في محكيّ البيان عن السيّد جمال الدين بن طاوس واستوجهه.

وقال في المدارك : «ويمكن الفرق بين الصورتين ، بأنّ اليقين هنا حاصل بالترك ، وإنّما حصل الشكّ في موضعه ، بخلاف الشكّ بعد الفراغ ، فإنّه لا يقين فيه بوجه. والمتبادر من الأخبار المتضمّنة لعدم الالتفات إلى الشكّ في الوضوء بعد الفراغ الوضوء الذي حصل الشكّ فيه بعد الفراغ» انتهى.

وظاهره كون العلم الإجمالي مانعا من جريان القاعدة مطلقا. والذي يساعده التحقيق أنّ العلم الإجمالي إن كان مستلزما لخطاب شرعيّ يلزم من إلغائه مخالفته ، نظير الشبهة المحصورة إذا كان طرفاها محلّ ابتلاء للمكلّف ، لا تجري فيه القاعدة. وإن لم يستلزمها لا يعتبر فيه العلم الإجمالي ، ويراعى فيه مقتضى القاعدة ، نظير الشبهة المحصورة أيضا إذا كان كلّ من طرفيها أو أحدهما خارجا من محلّ الابتلاء. فالعلم الإجمالي على إطلاقه غير مانع من جريان القاعدة ، كما لا يمنع جريان الاستصحاب كذلك.

وتوضيح المقام : أنّ الطهارتين اللتين علم ببطلان إحداهما إجمالا إن ترتّب على بطلانهما حكم شرعيّ ، فالعلم ببطلان إحداهما يستلزم ترتّب هذا الخطاب عليه ، فلا تجوز مخالفة مثل هذا العلم الإجمالي كما قرّر في محلّه ، كما إذا صلّى بعد كلّ من الطهارتين الرافعتين صلاة واحدة وعلم ببطلان إحداهما ، فإنّ العلم الإجمالي ببطلان إحداهما مستلزم للعلم كذلك ببطلان إحدى الصلاتين لا محالة. وحينئذ يجب قضائهما من باب المقدّمة على وجه يحصل الترتيب بينهما على القول باعتباره ، على ما هو الحقّ من وجوب الموافقة القطعيّة ، وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة ، على ما حقّقناه في الشبهة المحصورة.

والقائل بجريان القاعدة في المقام إن أراد إجرائها بالنسبة إلى كلّ من طرفي العلم الإجمالي ، فهو مستلزم لمخالفة خطاب وجوب قضاء الفوائت قطعا. وإن أراد

.................................................................................................

______________________________________________________

إجرائها بالنسبة إلى أحدهما ، فهو مستلزم لمخالفته الاحتماليّة ، نظير ما قرّرناه في الشبهة المحصورة وغيرها من موارد العلم الإجمالي الذي تستلزم مخالفته مخالفة خطاب شرعيّ. وإن لم يترتّب على بطلانهما أو بطلان إحداهما حكم شرعيّ ، مثل الصلاة الواقعة بعد وضوءين تجديديّين أو أحدهما أصلي والآخر تجديدي ، وقلنا بعدم رفع التجديدي كما في محلّ الفرض ، فلا مجرى للقاعدة على الأوّل ، بخلاف الثاني.

أمّا عدم ترتّب حكم على بطلان الأوّلين ، فلفرض عدم استناد صحّة الصلاة على الوضوء التجديدي مع القطع بصحّته ، فضلا عن القطع ببطلانه تفصيلا أو إجمالا ، فلا يترتّب خطاب وجوب الإعادة والقضاء على بطلانهما. وأمّا عدم ترتّبه على العلم الإجمالي ببطلان أحدهما ، فلاحتمال كون الباطل هو التجديدي ، فلا يحصل العلم بتوجّه خطاب بوجوب الإعادة والقضاء بسبب هذا العلم الإجمالي.

وأمّا عدم جريان القاعدة على الأوّل ، فلفرض العلم التفصيلي ببطلان الصلاة فيه. وأمّا جريانها على الثاني ، فإنّه لا محظور فيه بعد فرض عدم استلزام مخالفة العلم الإجمالي حينئذ لمخالفة خطاب منجّز ، نظير ما حقّقناه في الشبهة المحصورة إذا كان أحد طرفي الشبهة خارجا من محلّ ابتلاء المكلّف.

هذا كلّه إن قلنا باعتبار القاعدة من باب الاصول. وإن قلنا باعتبارها من باب الظنّ ولو نوعا فالقول بالمنع أوجه ، لعدم تحقّق الكشف والظنّ ولو نوعا مع العلم الإجمالي بخلافها. وإن أراد صاحب المدارك بالمنع المطلق ذلك فلا اعتراض عليه. وإن أراد غير ذلك ، بأن منع جريان القاعدة مطلقا مع قوله باعتبارها من باب التعبّد ، فقد عرفت ما فيه. وما ادّعاه من انصراف الأخبار إنّما يتمّ على الأوّل لا على هذا القول ، إذ عليه لا فرق بين الشكّ البسيط والمشوب بالعلم الإجمالي في عموم القاعدة.

العاشر : أنّك قد عرفت سابقا أنّ عدم الالتفات إلى الشكّ بحكم القاعدة إنّما

هو فيما تحقّق التجاوز عن محلّ المشكوك فيه.

وعرفت أيضا محلّه على المختار من عموم القاعدة ومذهب المشهور. وهذا مع تعيّن محلّ المشكوك فيه واضح. وإن لم يتعيّن ذلك ، بأن كان المكلّف متجاوزا عن محلّ المشكوك فيه على تقدير دون آخر ، كما إذا علم بترك أحد جزءين إجمالا ، وكان متجاوزا عن محلّ أحدهما دون الآخر ، فهو على وجهين :

أحدهما : أن يتحقّق التجاوز عن محلّ الشكّ للمحتمل الذي فرض تحقّق التجاوز عن محلّه ، كما إذا علم في حال النّهوض للقيام بترك التشهّد أو السجود ، لأنّ المتروك إن كان هو السجود فقد تجاوز عن محلّه ودخل في غيره وهو التشهّد ، وإن كان هو التشهّد فقد بقي محلّه بعد ، لفرض عدم وصوله إلى حدّ القيام.

وثانيهما : أن يتحقّق التجاوز عن محلّ النسيان للمحتمل المذكور ، وهو الدخول في ركن آخر ، كما إذا علم حال النهوض للقيام بترك التشهّد أو الفاتحة ، إذ لو كان المتروك هي الفاتحة فقد تجاوز عن محلّ نسيانها ، وهو الدخول في الركوع.

أمّا الأوّل ففي جريان القاعدة فيه وجهان ، من بقاء محلّ التشهّد فيجب الجلوس له ، فإذا جلس يتحقّق بقاء محلّ السجود أيضا فيجب العود إليه أيضا ، مضافا إلى منع العلم الإجمالي من جريان القاعدة كما تقدّم ، ومن صدق التجاوز عن محلّ أحد الجزءين وهو السجود دون الآخر وهو التشهّد ، فيجب عدم الالتفات إلى الشكّ بالنسبة إلى الأوّل دون الثاني. والعلم الإجمالي غير مانع من جريان القاعدة في المقام ، لتعيّن أحد طرفيه ، إذ الجلوس للتشهّد واجب على كلّ حال ، لفرض بقاء محلّه ، لأنّه إن كان هو المتروك فواضح ، وإن كان هو السجود دونه فلا يترتّب على وجوده أثر ، لأنّه إنّما يعتبر مع سبقه بالسجود ، إذ لو التفت بعد التشهّد إلى نسيان السجود وجب تداركه معه ما لم يدخل في ركن آخر. وقد تقدّم في مسألة الشبهة المحصورة عدم وجوب الاجتناب عن أحد طرفيها مع تعيّن الاجتناب عن الطرف الآخر بالخصوص ، فكما أنّ العلم الإجمالي هناك غير

.................................................................................................

______________________________________________________

مانع من استصحاب الطهارة ، كذلك هو غير مانع من إجراء القاعدة هنا بالنسبة إلى ما تحقّق التجاوز عنه.

وأمّا دعوى كون الجلوس للتشهّد محقّقا لبقاء محلّ السجود ، ففيها أنّ الإذن في العود إلى التشهّد لا يستلزم الإذن في العود إلى السجود أيضا ، وإن استلزم بقاء محلّه ، بقاء محلّه لجواز التفكيك بين اللوازم في موارد الاصول ، بناء على ما هو الحقّ من كون اعتبار القاعدة من باب التعبّد دون الظنّ ولو نوعا ، فيجب حينئذ تدارك التشهّد لبقاء محلّه دون السجود ، سيّما على القول بكون الأمر بالمضيّ وعدم الالتفات إلى الشكّ من باب العزيمة دون الرخصة. ومن هنا قد قوّى هذا الوجه بعض مشايخنا. ولكنّك خبير بأنّه وإن فرض صدق التجاوز عن محلّ السجود ، إلّا أنّه لم يتحقّق الدخول في الغير كما هو المعتبر في عدم الالتفات إلى الشكّ ، لأنّه فرع العلم بالإتيان بالتشهّد ، وهو خلاف الفرض. وكيف كان ، فعلى ما قوّاه لا فرق بين أن يكون أحد الجزءين ركنا وعدمه.

نعم ، لو كان كلّ منهما ركنا فلا يمكن فرضه في هذا القسم ، بل هو داخل في القسم الثاني ، إذ مع فرض كون المتروك هو الجزء الأوّل الركني يحصل التجاوز عن محلّ نسيانه بالدخول في الجزء الآخر الركني ، وإن فرض بقاء محلّ شكّ هذا الجزء الركنى كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فالظاهر جريان القاعدة بالنسبة إلى الجزء الذي حصل التجاوز عن محلّ نسيانه ، لصدق التجاوز عن محلّه. ولا يلزم هنا ما يلزم في القسم الأوّل من استلزام العود إلى الجزء الذي فرض بقاء محلّ شكّه لتحقّق بقاء محلّ الجزء الآخر. والعلم الإجمالي بترك أحد الجزءين غير مانع من جريان القاعدة ، لعدم ترتّب خطاب شرعيّ عليه ، لأنّه لو فرض العلم بكون المتروك هو الجزء الذي فرض التجاوز عن محلّ نسيانه لا يجب تداركه ، فمع كون المتروك هو ذلك لا يحصل العلم بتوجّه خطاب وجوب تدارك ما علم تركه إجمالا ، فلا مانع من مخالفته بإجراء القاعدة.

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو كان الجزء الذي تحقّق التجاوز عن محلّ نسيانه جزءا ركنيّا ، فمن العلم إجمالا بكون المتروك هو هذا الجزء الركني المرتّب عليه بطلان الصلاة ، أو الجزء الذي بقي محلّ شكّه المرتّب عليه وجوب تداركه ، يحصل العلم بتوجّه خطاب إجمالي إليه ، وهو الخطاب المردّد بين وجوب إعادة الصلاة وبين وجوب تدارك ما بقي محلّ شكّه ، فلا تجوز مخالفة هذا العلم الإجمالي ، كما لا تجوز مخالفته لو ترتّب عليه خطاب تفصيلي ، كما في الشبهة المحصورة. اللهمّ إلّا أن يمنع اعتباره هنا أيضا ، على نحو ما عرفته في الوجه الثاني من القسم الأوّل من تعيّن أحد طرفي العلم الإجمالي.

ومن هنا يظهر الكلام فيما لو كان الجزءان معا ركنيّين ، كما لو شكّ في حال النهوض للقيام للركعة الثانية مثلا في ترك السجدتين أو الركوع. والله أعلم.

الحادي عشر : أنّه لو دار الأمر في مورد القاعدة بين الأقلّ والأكثر ، بأن شكّ بعد الدخول في السورة في ترك الفاتحة كلّا أو بعضا ، بأن تردّد المتروك بين النصف الأخير منها وبين تمامها ، ففي جريان القاعدة هنا وجهان ، من انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فلا يلتفت إلى شكّه ، لتحقّق التجاوز عن محلّ المشكوك فيه بالدخول في السورة ، فيكتفي بتدارك ما علم تركه تفصيلا ، وهو النصف الأخير من الفاتحة ، ومن أنّه يجب العود إلى تدارك النصف الأخير منها ، لفرض العلم بتركه تفصيلا ، ومع العود إليه لا يصدق التجاوز عن محلّه المشكوك فيه وهو النصف الأوّل ، فيجب العود إليه أيضا. وهذا لا يخلو من قوّة ، فتأمّل.

الثاني عشر : أنّه إذا نزّل فعل مركّب من أجزاء عديدة منزلة فعل واحد ، بحيث لا تجري القاعدة عند الشكّ في بعض أجزائه قبل الدخول في فعل آخر ، كالوضوء على ما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، فإذا شكّ في بعض شروطه ، كما إذا شكّ بعد الدخول في غسل اليد اليمنى في كون غسل الوجه بالماء المباح أو المغصوب ، ففي جريان القاعدة فيه وجهان ، من كون الشروط تابعة للأجزاء ، لأنّها الأصل في التركيب ، وظاهر تنزيل الأجزاء منزلة فعل واحد هو تنزيلها بمنزلته مع جميع

.................................................................................................

______________________________________________________

توابعها ولواحقها ، فتكون الشروط حينئذ في حكم الأجزاء ، فلا تجري فيها القاعدة إلّا إذا حصل الشكّ فيها بعد الدخول في فعل آخر غير الوضوء كالأجزاء ، ومن أنّ المتيقّن من تنزيل المركّب منزلة فعل واحد تنزيله بحسب أجزائه ، فتبقى الشروط تحت عموم القاعدة ، سيّما إذا كان خروج أجزاء الوضوء من عموم القاعدة من باب التخصيص دون التخصّص ، بتنزيلها منزلة فعل واحد على ما عرفت ، إذ مع خروج الأجزاء عن حكم القاعدة لا دليل على خروج شرائطها أيضا. والله أعلم.

المصادر

(١) الوسائل ج ١ : ص ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) الوسائل ج ٥ : ص ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ١.

(٣) الوسائل ج ٤ : ص ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

(٤) الوسائل ج ٥ : ص ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٥) قواعد الأحكام ج ١ : ص ٢٠٦.

(٦) مفتاح الكرامة ج ٣ : ص ٣٠٥.

(٧) كشف الغطاء : ص ٢٧٨.

(٨) الوسائل ج ١ : ص ٣٣٣ ، الباب ٤٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٩) إيضاح الفوائد ج ١ : ص ٤٣.

المسألة الثالثة في أصالة الصحّة في فعل الغير وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوى وعملا بين المسلمين ، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد المتّفق عليها عند الشكّ ، إلّا أنّ معرفة مواردها ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول ، يتوقّف على بيان مدركها من الأدلّة الأربعة (٢٦٥٠).

______________________________________________________

٢٦٥٠. ربّما يستدلّ على القاعدة بالأصل ، وهو يقرّر بوجهين :

أحدهما : ما ذكر الشيخ الأجلّ فقيه عصره الشيخ جعفر قدس‌سره ، قال في مقدّمات كشف الغطاء : «إنّ الأصل فيما خلق الله تعالى من الأعيان ـ من عرض وجوهر ، حيوان وغير حيوان ـ صحّته ، وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال أو أفعال ، فيبنى فيها على وقوعها على نحو ما خلقت له ، وعلى وفق الطبيعة التي اتّحدت به ، من مسلم مؤمن أو مخالف ، أو كافر كتابي أو غير كتابي. فيبنى إخباره ودعاويه على الصدق ، وأفعاله وعقوده وإيقاعاته على الصحّة ، حتّى يقوم شاهد على الخلاف ، إلّا أن يكون في مقابله خصم ، ولا سيّما ما يتعلّق بالمقاصد ونحوها ، ولا تتعلّق به مشاهدة المشاهد ، فإنّه يصدق عليه ، ويجري الحكم على نحو الدعوى فيه. فمن ادّعى القصد بإشارته دون العبث ، أو قصدا خاصّا لعبادة خاصّة أو معاملة كذلك ، أو ادّعى العجز عن النطق بألفاظ العبادات أو المعاملات ، أو عن الإتيان بها على وفق العربيّة فيما يشترط فيه كالطلاق ، أو العجز عن القيام أو تحصيل الماء في صلاة النيابة بطريق المعاوضة ، أو عن وطي المرأة بعد أربعة أشهر ، أو

.................................................................................................

______________________________________________________

قصد النيابة أو الأصالة أو الإحياء أو الحيازة ، إلى غير ذلك ، فليس عليه سوى اليمين.

وتفصيل الحال : أنّ الأصل في جميع الكائنات ـ من جمادات ونباتات أو حيوانات ، أو عقود أو إيقاعات ، أو غيرها من إنشاءات أو إخبارات ـ أن يكون على نحو ما غلبت عليه حقيقتها ، من التمام في الذات ، وعدم النقص في الصفات ، على طور ما وضعت له مبانيها ، وعلى وجه يترتّب آثارها فيها على معانيها ، من صدق الأقوال ، وترتّب الآثار على الأفعال».

ثمّ فرّق بين حال المسلم والكافر بوجوه أربعة ، يطول الكلام بنقلها. ولم أجد أحدا قبله عمّم القاعدة على نحو ما عمّمها ، ولازمه دعوى أصالة الحجّية في خبر الفاسق ، وأنّ نافي حجّيته يحتاج إلى إقامة البرهان عليه. وأنت خبير بأنّه لم يساعده دليل ، ولا اقتضاه برهان من عقل أو نقل ، لأنّ غاية ما يمكن أن يقال في الأعيان : إنّها بحسب جبلّتها ومقتضى نوعها أن تكون صحيحة ما لم يعرض لها ما يخرجها من مقتضى طبيعتها ووضع نوعها ، فإنّ الزيادة والنقصان وسائر العوارض الخارجة من مقتضى الطبيعة النوعيّة العارضة للإنسان والحيوان ، وسائر الأعيان من النباتات والجمادات ، إنّما هي من قبيل العوارض المانعة من عمل الطبائع مقتضاها ، فإذا شكّ خروج شيء من مقتضى نوعها ، فأصالة عدم عروض ما يخرجه من مقتضى الطبيعة النوعيّة تقتضي الحكم بصحّته. ولذا ترى الفقهاء يكتفون بأصالة الصحّة عن الاختبار في الأشياء التي يفتقر في بيعها إلى اختبارها ، ممّا يشكل اختبارها حين البيع ، كالبيضة وما يشابهها من الفواكه ونحوها ، وغاية الأمر أنّه بعد ظهور الفساد بالكلّية بعد العقد يحكم بفساده ، وفي الجملة ـ بأن لم يخرج بفساده من الماليّة ـ يحكم بخيار الفسخ للمشتري ، ولكن ما لم يظهر فساده يحكم بصحّته ، وصحّة العقد في الظاهر بمقتضى الأصل المذكور.

ولكنّك خبير بأنّ ذلك وإن تمّ في الأعيان ، إلّا أنّه لا يتأتّى في الأفعال والأقوال ، لأنّ طبيعة القول والفعل ليست ممّا يقتضى صدورهما عن الفاعل ، بحيث

.................................................................................................

______________________________________________________

يترتّب عليهما آثارهما من الصدق في الأقوال والآثار الشرعيّة في الأفعال ، فإنّا لم نجد فرقا بين صحيح العقد وفاسده من حيث اقتضاء طبيعة الألفاظ صدورها على وجه الصحّة بحيث يترتّب عليها الآثار الشرعيّة ، وكذا بين فعل الصلاة وأكل الربا من حيث كون مقتضى طبيعة الفعل كونه صادرا على وجه الصحّة إذ لا وضع ولا توظيف في الأقوال والأفعال بحسب طبيعتهما النوعيّة حتّى يقتضي صدورهما على هذا الوضع والتوظيف ، كما هو ظاهر كلامه ، بل الشارع إنّما لاحظهما ورتّب عليهما أحكاما شرعيّة على حسب ما لاحظ فيهما من المصالح والمفاسد ، لا أنّ طبيعتهما مقتضية لصدورهما على حسب ما رتّب عليهما الشارع من الآثار.

هذا إن أراد إثبات أصالة الصحّة في جميع الأشياء ـ من الأعراض والجواهر ـ بحكم الاستصحاب. وإن أراد إثباتها بحكم الغلبة في أفراد أنواعها إلحاقا للمشكوك فيه بالأعمّ الأغلب ، كما يشعر به قوله : «ونحو ما غلبت عليه طبيعتها» ففيه مع تسليم الغلبة أنّه لا اعتبار بها على القول بالظّنون الخاصّة ، سيّما في الموضوعات الخارجة التي لم يعمل بالظّنون المطلقة فيها أربابها.

وأحسن الوجوه التي يمكن حمل كلامه عليه أنّ ذلك منه مبنيّ على الأدلّة المختلفة بحسب اختلاف الموارد ، فمستند الأصل المذكور في الأعيان وعوارضها القائمة بها ما قدّمناه من الاستصحاب ، وفي أفعال المسلمين وأقوالهم ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من الآيات والأخبار ، وفي أفعال الكفّار وأقوالهم ما دلّ على تقريرهم على مذهبهم ، وهكذا. وقد ذكر في وجوه الفرق بين حال المسلم والكافر أنّ أقوال الكافر وأفعاله تحمل على الصحّة على مذهبه ، وليس مقصوده إثبات الكلّية بدليل واحد ، لا فتأمّل جيّدا.

وثانيهما أن يقال : إنّ الأصل في أفعال المسلمين وأقوالهم هي الصحّة ، لأنّ مقتضى التديّن بدين والتسلم لأحكام شريعة هو بناء هذا المتديّن في جميع أقواله وأفعاله على ما اقتضاه هذا الدين ، لأنّه مقتضى التديّن به والتسلّم له ، فيكون نفس

.................................................................................................

______________________________________________________

التديّن مقتضيا لذلك ، وتكون مخالفته ناشئة من الدواعي الخارجة. وفي موارد الشكّ يدفع احتمال وجود الدواعي الخارجة بالأصل ، فيكون الأصل في جميع أفعال المسلمين وأقوالهم صدورها على طبق شرع الإسلام. ولعلّه لذا جنح ابن جنيد والشيخ ـ فيما حكي عنهما إلى أنّ الأصل في المؤمن العدالة.

ويرد عليه أوّلا : منع كون التديّن بدين مقتضيا لصدور أفعال المتديّن بهذا الدين ، وأقواله على طبق هذا الدين ، لأنّ غاية ما يقتضيه التديّن اعتقاد صدق هذا الدين وحقّية ما جاء به صاحب الدين ، وأمّا اقتضائه لبناء المتديّن أفعاله وأقواله على طبق هذا الدين بحيث يكون ذلك هو الداعي والباعث فيهما فلا. نعم ، له مدخليّة في ذلك في الجملة ، لا بحيث يكون مقتضيا تامّا. بل التحقيق أنّ صدور الأفعال والأقوال ـ سيّما العاديّات منها ـ إنّما هو عن الدواعي النفسانيّة ، بحسب ما يلاحظ فيها من المصالح والمفاسد الدنيويّة المرتّبة عليهما. ورفع اليد عن المنافع الدنيويّة والإعراض عنها في بعض الموارد ـ لأجل الفرار عن ارتكاب المحرّم ـ إنّما هو من قبيل القهر والغلبة للنفس ، ومنعها من مشتهياتها من جلب المنافع ودفع المضارّ ، وإن استلزم الاقتحام في المهالك الاخرويّة. نعم ، ربّما يوجد أوحدي من الناس يكون بنائه في جميع أفعاله وأقواله على ملاحظة أحكام الشرع ، بحيث يكون ذلك طبيعة ثانية له تبعث على صدور الأفعال والأقوال عنه على مقتضاها.

وثانيا : مع التسليم أنّ دفع احتمال المانع بالأصل لا يثبت وجود المقتضي على وجه يعمل عمله إلّا على القول بالاصول المثبتة ، لأنّ أحدا إذا رمى سهما بحيث علمنا بأنّه لو لا الحائل لقتل زيدا ، فكما أنّ أصالة عدم الحائل لا تثبت القتل هنا ليطالب الرامي بدمه ، كذلك فيما نحن فيه ، لأنّ أصالة عدم داعي صدور العقد فاسدا لا تثبت صحّته.

نعم ، ربّما يفرّق بين الموانع الشرعيّة وغيرها ، كما يظهر من الكركي وصاحب الجواهر وبعض آخر ، بأنّ المانع إن كان شرعيّا يمكن إحراز المقتضي

.................................................................................................

______________________________________________________

بأصالة عدم المانع ، إذ كما أنّ ثبوت المانع الشرعيّ بحسب الشرع كذلك ارتفاعه ، فإذا ارتفع بحكم الأصل ثبت وجود المقتضي لا محالة ، بخلاف ما لو كان المانع عقليّا أو عاديّا كما في مثال الرمي ، فإنّ ثبوت الموانع العقليّة والعاديّة وارتفاعها إنّما هو بحسب العقل والعادة ، فإن كان هنا حكم عقليّ أو عاديّ حكم به وإلّا فلا ، كما في مباحث الألفاظ إذا شكّ في وجود القرينة ، أو نقل اللفظ عن معنى إلى آخر ، أو ورود الكلام تقيّة أو سهوا أو نسيانا ، فإنّ هذه كلّها موانع من حمل الكلام على حقيقته ، أو على المنقول عنه ، وعن إرادة المتكلّم بيان الواقع. وقد استقرّ بناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب هنا ، فبأصالة عدم المانع يحكم بإرادة الحقيقة وبيان الواقع ، بخلاف ما لو قلنا باعتباره من باب الأخبار.

ولما ذكرناه قد فرّقوا بين كون الحرير مانعا من صحّة الصلاة ، وبين كون عدمه شرطا لها ، لأنّه إذا شكّ في كون لباس المصلّي حريرا وعدمه ، فعلى الأوّل يحكم بصحّة صلاته ، لأصالة عدم المانع ، لما عرفت من كون أصالة عدم المانع الشرعيّ مثبتة لوجود المقتضي ، بخلافه على الثاني ، إذ لا بدّ من إحراز وجود الشرط في الحكم بالصحّة ، كيف لا والأصل عدمه.

ومثله الكلام في الماء الذي لم تعلم كريّته ولا قلّته سابقا ، كالمخلوق في الساعة إذا لاقى نجسا ، لأنّا إن قلنا بكون الكريّة عاصما ومانعا من الانفعال بالملاقاة ، يحكم بتنجّسه بأصالة عدم المانع ، مع وجود المقتضي له وهي الملاقاة. وإن قلنا بكون القلّة شرطا في الانفعال ، فلا بدّ في الحكم بتنجّسه من إحراز شرطه.

والتحقيق عدم الفرق بين الموانع ، بل إن كان الحكم في الأدلّة مرتّبا على مجرّد عدم المانع أمكن إثباته بأصالة عدمه ، وإن كان مرتّبا على نفس الممنوع منه ، كترتّب وجوب القصاص على عنوان القتل في مثال الرمي ، لا يمكن إثباته بأصالة عدم المانع حينئذ إلّا على القول بالاصول المثبتة ، من دون فرق بين الموانع. نعم ، يتمّ

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب بناء العقلاء ، لأنّ لازمه القول باعتبار الاصول المثبتة ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله في محلّه.

ومن هنا يظهر ضعف الفرق بين كون الحرير مانعا أو عدمه شرطا ، مع أنّ أصالة عدم المانع في المثال فرع العلم بعدمه في السابق حتّى يصحّ استصحابه اللهمّ إلّا أن يتشبّث بأصالة عدم المانع في هذا المورد مطلقا ، وهي مستلزمة لعدم كون هذا اللباس أيضا مانعا ، لاستلزام انتفاء الكلّي انتفاء أفراده ، ولكنّه إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة.

وأمّا ما ذكر من كون ثبوت الموانع العقليّة والعاديّة وارتفاعها بحسب حكم العقل والعادة ، ففيه : أنّ المقصود من أصالة عدم المانع العقلي أو العادّي ليس إثبات عدمها في الواقع حتّى يدّعى عدم إثبات الأصل لذلك ، بل المقصود منها إثبات الآثار الشرعية المرتّبة على عدمهما ، فإن كان الحكم مرتّبا على عدمهما فهو يثبت بنفيه بالأصل ، وإن كان مرتّبا على نفس الممنوع منه فهو لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة على ما عرفت.

وثالثا : مع التسليم أنّ التديّن بدين إنّما يقتضي صدور أفعال المتديّن وأقواله على طبق هذا الدين إذا كان عارفا بأحكامه ، لوضوح عدم اقتضائه لذلك بالنسبة إلى الجاهل فضلا عن المعتقد بخلافها. وكلمات العلماء في الحمل على الصحّة تعمّ العالم والجاهل ، بل المعتقد بالخلاف أيضا ، ولذا تحمل المعاملة الصادرة عن شخص على الصحّة وإن علمنا بجهله بأكثر أحكامها ، أو كان معتقدا بحلّية الميتة أو حصول الطهارة بالدبغ أو نحو ذلك ، فبمجرّد احتمال موافقة المعاملة للواقع يحكم بصحّتها ، ويكون اللحم أو الجلد المبيع ملكا للمشتري.

وربّما يستدلّ على القاعدة أيضا بوجهين آخرين سوى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله :

أحدهما : دليل الانسداد ، لأنّه يفيد اعتبار الظنّ حيث تمّت مقدّماته ، ولا يختصّ

ولا بدّ من تقديم ما فيه إشارة إلى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب ، فمنه آيات : منها : قوله تعالى : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (١) ، بناء على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه‌السلام : " لا تقولوا إلّا خيرا حتّى تعلموا ما هو" (٢) ، ولعلّ

______________________________________________________

بالأحكام. فيقال في المقام أيضا : إنّه قد علم اعتبار القاعدة في الجملة بالإجماع ، والعلم التفصيلي بمواردها منسدّ ، والعمل بالاصول فيها مخالف للعلم الإجمالي ، فيجب العمل بالظنّ في مواردها.

وثانيهما : استقراء الموارد الجزئيّة التي ثبت اعتبار القاعدة فيها بالإجماع أو الأخبار. منها : قبول قول ذي اليد فيما في يده في الملكيّة والطهارة والنجاسة والتذكية. ومنها : قاعدة كلّ ذي عمل مؤتمن في عمله من الوكلاء والنواب ، فإنّ قولهم وفعلهم ـ من العقود والإيقاعات والأعمال التي ائتمن بهم فيها ـ مسموعة شرعا بالإجماع. ومنها : قبول رواية الثقة في الأحكام عند عدم المعارض. ومنها : قبول شهادة الشاهد في مواردها. ومنها : قبول إقرار العقلاء على أنفسهم. ومنها : تصديق النساء فيما في أرحامهنّ. ومنها : الحكم بطهارة ما وجد في أسواق المسلمين من اللحوم والجلود ، وكونها مذكّاة. وغير ذلك من الموارد التي قام الدليل فيها بالخصوص على اعتبار القاعدة ، لأنّ استقراء هذه الموارد يعطي اعتبار القاعدة على وجه الكلّية ، إلّا فيما قام الدليل على عدم اعتبارها فيه.

فإن قلت : إنّ التمسّك بالاستقراء إنّما يتمّ على القول بالظنون المطلقة دون الخاصّة.

قلت : إنّ هذا استقراء في الأدلّة الشرعيّة من الأخبار والإجماعات ، والظنّ الحاصل منها كالحاصل من رواية معتبرة ، لوضوح عدم الفرق بين الظنّ الحاصل من مجموع عدّة روايات والحاصل من رواية خاصّة من حيث الاعتبار وعدمه ، والاستقراء إنّما لا يعتبر إذا كان الظنّ حاصلا من تتّبع موارد الحكم دون الأدلّة ، وهو واضح.

مبناه (٢٦٥١) على إرادة الظنّ (٢٦٥٢) والاعتقاد من القول.

ومنها : قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (٣) ، فإنّ ظنّ السوء إثم (٢٦٥٣) ، وإلّا لم يكن شيء من الظنّ إثما. ومنها : قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٤) ، بناء على أنّ الخارج من عمومه ليس إلّا ما علم فساده ؛ لأنّه المتيقّن. وكذا قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ). (٥)

والاستدلال به (٢٦٥٤) يظهر من المحقّق الثاني (٦) ، حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن مدّعيا سبق إذن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق : بأنّ الأصل صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد. لكن لا يخفى ما فيه من الضعف (٢٦٥٥). وأضعف

______________________________________________________

٢٦٥١. أي : مبنى التفسير. ولو لم يكن مبنيّا على ذلك كان ظاهر الآية ـ بمعونة التفسير بحسب مفهوم سياقها ـ النهي عن التكلّم في حقّ الغير بالسوء بمجرّد رؤية ما يصلح للخير والشر ، بأن يقال : فلان شارب بمجرّد رؤية شرب الخمر منه ، المحتمل كونه للتداوي وتشهّي النفس. وحمل فعل المسلم على الصحّة لا يبتني على حرمة التكلّم بالسوء المحتمل في فعله ، بل ظاهر الآية حينئذ هو النهي عن الافتراء ، لأنّ نسبة السوء إلى شخص من دون علم بصدوره عنه يشبه الكذب والافتراء أو داخل فيهما.

٢٦٥٢. عليه يبتني ما روي في بعض الكتب : «من قال : لا إله إلّا الله فقد كفر».

٢٦٥٣. وحمل فعل المسلم وقوله على الفاسد ظنّ السوء في حقّه ، فيكون إثما ، فيجب اجتنابه بحملهما على الصحيح.

٢٦٥٤. يعني : بآية عموم الوفاء. ولا يخفى أنّ الاستدلال بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة يظهر من جماعة ، فلازمهم أيضا جواز التمسّك بالآيتين وآية حلّ البيع للمقام.

٢٦٥٥. لضعف التمسّك بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة ، كما قرّر في محلّه.

منه (٢٦٥٦) دعوى دلالة الآيتين الاوليتين.

وأمّا السنّة : فمنها : ما في الكافي (٢٦٥٧) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : " ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلّبك عنه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا" (٧). ومنها : قول الصادق عليه‌السلام لمحمّد بن الفضل : " يا محمّد ، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال ، وقال : لم أقل ، فصدّقه وكذّبهم" (٨).

______________________________________________________

٢٦٥٦. لأنّ مرجع ضعف الآيتين الأخيرتين إلى عدم ظهور العمومات في الشبهات الموضوعيّة ، لأنّها من قبيل المجمل بالنسبة إليها. ولكنّهما على تقدير تسليم ظهورهما دالّتان على المدّعى ، والآيتان الأوليان لا دلالة فيهما على المدّعى أصلا ، لأنّ مساقهما مساق الأخبار الآتية ، وسيشير المصنّف رحمه‌الله إلى ضعف دلالتها ، وإلى أنّ وجوب الوفاء ولزوم العقود غير صحّتها ، إذ قد يتردّد الأمر في العقد الجائز بين الصحيح والفاسد. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المراد بوجوب الوفاء وجوب الالتزام بمقتضى العقود ، إن واجبا فعلى وجه الوجوب ، وإن جائزا فعلى وجه الجواز. مضافا إلى أخصّيتهما عن المدّعى. اللهمّ إلّا أن يتمّم دلالتهما بعدم القول بالفصل.

٢٦٥٧. رواها مرسلة عن الحسين بن المختار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. ولا يقدح فيها الإرسال بعد انجبار إرساله بالعمل ، لأنّ المدار في اعتبار الأخبار على الوثوق بصدورها لا على صحّتها اصطلاحا.

وأمّا دلالتها فبتقريب أنّها تدلّ على وجوب الحمل على الأحسن عند دوران الأمر بينه وبين الحسن. فمع دورانه بين الحسن وغيره ـ كالصحيح والفاسد فيما نحن فيه ـ بطريق اولى.

وهو يشكل بعدم وجوب الحمل على الأحسن عند دوران الأمر بينه وبين الحسن ، كدوران صلاة شخص بين الإتيان بها على وجه أكمل وكامل. اللهمّ إلّا

ومنها : ما ورد مستفيضا من أنّ" المؤمن لا يتّهم أخاه" وأنّه" إذا اتّهم أخاه انماث (٢٦٥٨) الإيمان في قلبه ، كما ينماث الملح في الماء" ، وأنّ" من اتهم أخاه فلا حرمة بينهما (٢٦٥٩) " ، وأنّ" من اتهم أخاه فهو ملعون ملعون" ، إلى غير ذلك من الأخبار (٢٦٦٠) المشتملة على هذه المضامين أو ما يقرب منها.

______________________________________________________

أن يقال : إنّه مع دوران الفعل بين الصحيح على اعتقاد الفاعل ، وفساده على اعتقاد الحامل ، وبين الصحيح على اعتقادهما ، بأن كان بين معتقدهما عموم مطلق ، بأن يرى الفاعل صحّة البيع بالعربيّة والفارسيّة ، ويراه الحامل فاسدا بالفارسيّة ، فأوقع بيعا وتردّد بين إيقاعه بالعربيّة والفارسيّة ، فالحمل على الصحيح على اعتقاد الفاعل حسن ، وعلى اعتقاد الحامل أحسن ، لاعتقاد الحامل مطابقة اعتقاده للواقع. ويمكن صدق الدوران بينهما مع الجهل باعتقاد الفاعل أيضا.

ولكنّك خبير بأنّ الرواية إن اختصّت بموارد دوران الأمر بين الحسن والأحسن يلزم تخصيص الأكثر ، لعدم وجوب الحمل على الأحسن في أكثر مواردها كما عرفت. وإن عمّت الصورتين لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. وإن اريد بها استحباب الحمل على الأحسن فلا يكون لها دخل فيما نحن فيه.

فإن قلت : إنّ صيغة الأفضليّة هنا مستعملة في معنى المجرّد ، مثل قوله تعالى : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لعدم حبّه لما دعونه إليه أصلا.

قلت : إنّ الحمل على هذا المعنى محتاج إلى القرينة ، مضافا إلى ما استظهره المصنّف قدس‌سره في معنى الروايات ، فإنّه وارد على هذا التقدير أيضا ، فلا تغفل.

٢٦٥٨. أي : ذاب.

٢٦٥٩. لعلّ المراد ارتفاع حقوق الأخوّة بينهما.

٢٦٦٠. مثل ما دلّ على تحريم إضمار السوء على الأخ المسلم ، وما يقرب منه. وما في خبر الجهني والمرويّ مرسلا عن الصادق عليه‌السلام من أنّ المؤمن وحده جماعة.

وأنت خبير بأنّ حرمة اتّهام الأخ المسلم وإضمار السوء عليه أعمّ من وجوب

هذا ، ولكنّ الإنصاف : عدم دلالة هذه الأخبار إلّا على أنّه لا بدّ من أن يحمل (٢٦٦١) ما يصدر من الفاعل على الوجه الحسن عند الفاعل ، ولا يحمل على الوجه القبيح عنده ، وهذا غير ما نحن بصدده ، فإنّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحا أو فاسدا لا على وجه قبيح ، بل فرضنا الأمرين في حقّه مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن الإذن واقعا أو قبله ، فإنّ الحكم بأصالة عدم ترتّب الأثر على البيع مثلا لا يوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام ، خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحّة ما هو الفاسد عند الحامل.

______________________________________________________

حمل فعل المسلم على الصحّة ، لأنّ وجوب تركهما لا يستلزم ترتيب آثار الصحّة على فعل الأخ ، لجواز التوقّف من هذه الجهة.

وأمّا ما دلّ على أنّ المؤمن وحده جماعة ، فمع الغضّ (*) عن سنده أنّه لم يبق على ظاهره ، لعدم اعتبار قول المؤمن الواحد في كثير من الموارد بل أكثرها ، كقول الفاسق مطلقا إجماعا ، وقول المؤمن مطلقا وفعله في مقام الدعوى إلّا من باب الشهادة مع استجماع شرائطها ، إلى غير ذلك ، فلو بني على الأخذ بظاهره وإخراج ما أخرجه الدليل لزم تخصيص الأكثر. فلعلّ المراد بالمؤمن في الرواية هو الكمّلين منهم ، مثل الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، أو هم مع من دونهم مثل سلمان وأبي ذر ومقداد. مضافا إلى ما قيل في معناه من أنّ المراد به إدراك فضيلة الجماعة لطالبها ولم يجدها ، تفضّلا من الله تعالى ومعاملة له على قدر نيّته ، فإنّها خير من عمله وفي الفقيه : «أنّ الواحد جماعة ، لأنّه إذا دخل المسجد وأذّن وأقام صلّى خلفه صفّان من الملائكة ، ومتى أقام ولم يؤذّن صلّى خلفه صفّ واحد». وبالجملة. إنّ اعتبار القاعدة في الجملة أوضح من أن يستند في إثبات اعتبارها إلى أمثال هذه الأخبار.

٢٦٦١. حاصله : دعوى ظهور الأخبار المذكورة في الأمر بحمل الفعل المحتمل

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «قد ضعّفه في الرياض. منه»

ثمّ لو فرضنا أنّه يلزم من الحسن ترتيب الآثار ، ومن القبيح عدم الترتيب ـ كالمعاملة المردّدة بين الربويّة وغيرها ـ لم يلزم من الحمل على الحسن (٢٦٦٢) بمقتضى تلك الأخبار الحكم بترتّب الآثار ، لأنّ مفادها الحكم بصفة الحسن في فعل المؤمن بمعنى عدم الجرح في فعله ، لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحسن ، ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن بعيد سلاما أو تحيّة أو شتما ، لم يلزم من الحمل على الحسن وجوب ردّ السلام.

______________________________________________________

وقوعه على الوجه الحسن والقبيح من حيث التكليف على وجهه الحسن ، لا على الوجه الحسن من حيث الوضع ، أعني : الصحّة والفساد.

ويحتمل أن يكون المراد دعوى ظهورها في الأمر بحسن الظنّ بالمؤمن والنهي عن سوء الظنّ به في أفعاله من حيث التكليف لا الوضع ، كما يرشد إليه قوله : «الآمرة بحسن الظنّ ...». وحيث كان حصول الظنّ من الامور الاضطراريّة ، فلا بدّ من حمل الأمر والنهي حينئذ على الأمر بتحصيل مقدّمات حسن الظنّ وترك مقدّمات سوء الظنّ ممّا هو في اختيار المكلّف.

٢٦٦٢. قد يقال : إنّ عدم اللزوم إنّما هو من جهة أنّ الحمل على الصحّة بمعنى ترتيب الآثار الشرعيّة على الفعل ، إنّما هو بعد إحراز موضوع هذه الآثار والعنوان الذي ترتّبت عليه ، والقاعدة لا تثبت عنوان الفعل كما سيجيء. فإذا أوقع معاملة وتردّدت بين الصحيحة والفاسدة ، فالحمل على الصحّة إنّما يجدي في ترتيب آثار البيع أو الإجارة أو غيرهما مع إحراز كون الواقع خصوص أحد الامور المذكورة ، مع تردّده بين الصحيح والفاسد منه ، لا مع تردّده بين الأمرين فصاعدا. وإذا تردّدت المعاملة بين البيع والإجارة ، فالحمل على الصحيح إنّما يجدي في ترتيب آثار القدر المشترك بينهما لا خصوص أحدهما. وعدم ترتيب الآثار فيما نحن فيه أيضا من جهة أنّه مع تردّد المسموع بين كونه شتما أو سلاما ، فالحمل على الصحّة لا يثبت كونه سلاما حتّى يجب ردّه ، لا أنّ الحمل على الحسن لا يفيد الصحّة بمعنى ترتيب الآثار.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا ، جمع الإمام عليه‌السلام في رواية محمد بن الفضل بين تكذيب خمسين قسامة ـ أعني البيّنة العادلة (٢٦٦٣) ـ وتصديق الأخ المؤمن ، فإنّه ممّا لا يمكن إلّا بحمل تصديق (٢٦٦٤) المؤمن على الحكم بمطابقة الواقع ، المستلزم لتكذيب القسامة ـ بمعنى المخالفة للواقع ـ مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم ، لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن الواحد. فالمراد من تكذيب السمع والبصر تكذيبهما فيما يفهمان من ظواهر بعض الأفعال من القبح ، كما إذا ترى شخصا ظاهر الصحّة

______________________________________________________

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ عدم وجوب الردّ في المثال يصحّ أن يستند إلى الوجهين ، أعني : عدم إثبات الحمل على الصحّة لعنوان الموضوع الخارجي ، وعدم اقتضاء الحمل على الحسن بمقتضى الأخبار ترتيب الآثار ، وإن كان حسن الفعل ملازما لبعض الآثار الشرعيّة ، والتمثيل إنّما هو من الجهة الثانية ، فتدبّر.

٢٦٦٣. في القاموس : «القسامة : الجماعة يقسمون على الشيء ويأخذونه ويشهدون» انتهى.

٢٦٦٤. لا يخفى أنّه يمكن الجمع بين تصديق الأخ وتكذيب خمسين قسامة بوجهين :

أحدهما : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا من حمل تصديق الأخ على حمل قوله على مطابقة الواقع والاعتقاد ، وتكذيب القسامة على عدم مطابقة الواقع مع مطابقة قولهم لاعتقادهم.

وثانيهما : ما ذكره عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بالآيات من حمل تصديق الأخ على معنى عدم ارتكاب القبيح في مقابل الكذب ، وتكذيب القسامة على عدم ترتيب آثار الواقع على خبره في مقابل تصديق خبر العادل ، لأنّ لتصديق خبر المخبر اعتبارين : أحدهما : كونه فعلا من الأفعال ، والآخر : كونه دالّا على معناه ، وتصديقه بالاعتبار الأوّل يراد به كونه مباحا ، وبالاعتبار الثاني يراد به مطابقته للواقع وترتيب آثار الواقع عليه ، ويقابله تكذيبه بالاعتبارين.

يشرب الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس الشرب. وكيف كان ، فعدم وفاء الأخبار بما نحن بصدده أوضح من أن يحتاج إلى البيان حتّى المرسل الأوّل ، بقرينة ذكر الأخ وقوله عليه‌السلام : " ولا تظنّنّ ...".

وممّا يؤيّد ما ذكرنا (٢٦٦٥) أيضا ما ورد في غير واحد من الروايات من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق ، مثل : رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : " لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة ، فإنّ صرعة الاسترسال (٢٦٦٦)

______________________________________________________

ولا يخفى أنّ الجمع الثاني أولى. أمّا أوّلا : فإنّ المراد بتكذيب السمع والبصر في صدر الرواية ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ تكذيبهما فيما يفهمان من ظواهر بعض الأفعال من القبح ، والمناسب للتفريع على هذا المعنى حمل تصديق الأخ على كون خبره باعتبار كونه فعلا من الأفعال مباحا ، ومع حمل تصديقه على هذا المعنى لا بدّ أن يراد بتكذيب القسامة عدم ترتيب آثار الواقع عليه ، لعدم إمكان حمله على مقابل التصديق بالمعنى المذكور ، لاستلزامه ترجيح المرجوح ، ومنافاته للتفريع المذكور.

وأمّا ثانيا : فإنّ حمل تصديق الأخ على مطابقة الواقع والاعتقاد ، وتكذيب القسامة على مخالفة الواقع وإن وافق اعتقاده ، ترجيح للمرجوح لا محالة. ثمّ إنّه قد استثني من الرواية مواضع وجوب قبول شهادة المؤمن على المؤمن وإن أنكر المشهود عليه.

٢٦٦٥. وجه التأييد : أنّه لو كان المراد بالأخبار المتقدّمة حمل فعل المسلم على الصحيح بمعنى حمل آثار الصحّة عليه ، لنافتها هذه الأخبار الناهية عن الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق ، وعن حسن الظنّ بالمؤمن مع غلبة الفساد على الزمان وأهله ، فوجه الجمع بينهما ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «فإنّ الجمع بينها ...».

٢٦٦٦. الصرع : الطرح على الأرض. وفي المجمع : «الاسترسال : الاستئناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدّثه. وأصله السكون والثبات» إلى أن قال : «ومنه : لا تثق بأخيك الحديث ، كأنّ المراد : يعرض له ما يثنيه عنك» انتهى.

لا تستقال (٢٦٦٧) " (٩). وما في نهج البلاغة عنه عليه‌السلام : " إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزية (٢٦٦٨) ، فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل ، فقد غرّر (٢٦٦٩) ". (١٠) وفي معناه قول أبي الحسن عليه‌السلام في رواية محمّد بن هارون الجلّاب : " إذا كان الجور أغلب من الحقّ ، لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيرا ، حتّى يعرف ذلك منه". إلى غير ذلك ممّا يجده (٢٦٧٠) المتتبّع.

______________________________________________________

٢٦٦٧. أي : لا يتدارك ، من الإقالة في البيع ، وهي الموافقة لنقضه وفسخه.

٢٦٦٨. أي : قبيح وفضيح.

٢٦٦٩. قال المحقّق القمّي رحمه‌الله في محكيّ حاشية القوانين : «أي : أوقع نفسه في الغفلة».

٢٦٧٠. مثل خبر الثمالي عن سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في حديث طويل يذكر فيه تفاصيل الحقوق ، وفيه : «وحقّ الناصح أن تلين له جناحك ، وتصغي إليه بسمعك فإن أتى بالصواب حمدت الله تعالى وإن لم يوفّق رحمته ولم تتّهمه ، وعلمت أنّه أخطأ ، ولم تؤاخذه بذلك إلّا أن يكون مستحقّا للتهمة ، فلا تعبأ بشيء من أمره على حال». والظاهر أنّ المراد بمستحقّ التهمة من يظنّ فيه ذلك لا من علم خلاف الحقّ في أفعاله.

وهو معارض للأخبار الناهية عن اتّهام المؤمن مطلقا. وربّما يدّعى تواتر الأخبار معنى على أنّ كلّ فاسق مستحقّ للتهمة ، وكذا ما دلّ على أنّه ليست بين البرّ والفاجر أخوّة ، كما ليست بين الذئب والكبش خلّة ، وعلى النهي عن مؤاخاة الفاجر والأحمق والكذاب ، وعلى نفي التشيّع عمّن لا يكون مطيعا لله ، وما دلّ على حصر المسلم فيمن سلم المسلمون من يده ولسانه ، والمؤمن فيمن ائتمنه المسلمون على أموالهم وأنفسهم ، وما دلّ على نفي الإسلام عمّن لا يهتمّ بامور المسلمين ، لأنّ هذه الأخبار معارضة لما دلّ على وجوب وضع أمر الأخ على أحسنه ، وعلى النهي عن اتّهام الأخ المسلم ، وعلى كون المؤمن وحده جماعة. ولو بني على تقييد إطلاق هذه الأخبار بما عرفت لزم تخصيص الأكثر.

فإنّ الجمع بينها وبين الأخبار المتقدّمة يحصل بأن يراد من الأخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ، والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، والتوقّف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار. ويشهد له ما ورد من : " أنّ المؤمن لا يخلو عن ثلاثة : الظنّ والحسد والطيرة ، فإذا حسدت فلا تبغ (٢٦٧١) ، وإذا ظننت فلا تحقّق (٢٦٧٢) ، وإذا تطيّرت فامض (٢٦٧٣) ". (١١)

الثالث : الإجماع القوليّ والعمليّ. أمّا القوليّ ، فهو مستفاد (٢٦٧٤) من تتّبع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة ، فإنّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحّة في الجملة مطابق للأصل وإن اختلفوا في ترجيحه على سائر الاصول ، كما ستعرف. وأمّا العمليّ ، فلا يخفى على أحد أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار على حمل الأعمال على الصحيح ، وترتيب آثار الصحّة في عباداتهم ومعاملاتهم ، ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلّا مكابرة.

الرابع : العقل المستقلّ الحاكم بأنّه لو لم يبن على هذا الأصل لزم اختلال نظام المعاد (٢٦٧٥) والمعاش ، بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بهذا الأصل أزيد من الاختلال الحاصل من ترك العمل بيد المسلمين ، مع أنّ الإمام عليه‌السلام قال لحفص بن

______________________________________________________

٢٦٧١. أي : تطلبه باستعمال الحسد.

٢٦٧٢. بالتجسّس والفحص عن وقوع المظنون ، أو بترتيب آثار الواقع عليه.

٢٦٧٣. أي : في عملك ، فإنّ الطيرة يذهبها التوكّل كما ورد في الخبر.

٢٦٧٤. قد حكي الإجماع على اعتبار القاعدة عموما عن جماعة فوق حدّ الاستفاضة ، كالبهبهاني والسبزواري وصاحب الرياض والقوانين. ولا إشكال في المحصّل منه أيضا في الجملة. وسيجيء خلاف المحقّق الكركي وغيره في عموم القاعدة في التنبيه الثاني وغيره ، فلا بدّ من الأخذ بالمتيقّن منه. اللهمّ إلّا أن يستند إلى عموم الإجماعات المحكيّة في موارد الشكّ.

٢٦٧٥. لأنّ اعتبار السوق واليد والائتمان بالنوّاب والوكلاء وصحّة الاقتداء وغير ذلك من جزئيّات هذه القاعدة.

غياث ـ بعد الحكم بأنّ اليد دليل الملك ، ويجوز الشهادة بالملك بمجرّد اليد ـ : " إنّه لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق" ، فيدلّ بفحواه على اعتبار أصالة الصحّة في أعمال المسلمين ، مضافا إلى دلالته بظاهر اللفظ ، حيث إنّ الظاهر (٢٦٧٦) أنّ كلّ ما لولاه لزم الاختلال فهو حقّ ؛ لأنّ الاختلال باطل ، والمستلزم للباطل باطل ، فنقيضه حق ، وهو اعتبار أصالة الصحّة عند الشكّ في صحّة ما صدر عن الغير. ويشير إليه أيضا ما ورد من نفي الحرج وتوسعة الدين وذمّ من ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم.

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّ المحمول عليه فعل المسلم ، هل الصحّة باعتقاد الفاعل أو الصحّة الواقعيّة (٢٦٧٧)؟ فلو علم أنّ معتقد الفاعل ـ اعتقادا يعذر فيه (٢٦٧٨) ـ صحّة البيع أو النكاح بالفارسية في العقد ، فشكّ فيما صدر عنه مع اعتقاد الشاكّ اعتبار العربيّة فهل يحمل على كونه واقعا بالعربيّة ، حتّى إذا ادّعي عليه أنّه أوقعه بالفارسيّة ، وادّعى هو أنّه أوقعه بالعربيّة ، فهل يحكم الحاكم المعتقد بفساد الفارسيّة بوقوعه بالعربيّة أم لا؟ وجهان ، بل قولان :

ظاهر المشهور الحمل على الصحّة الواقعيّة ، فإذا شكّ المأموم في أنّ الإمام المعتقد بعدم وجوب السورة ، قرأها أم لا؟ جاز له الائتمام به ، وإن لم يكن له ذلك إذا علم بتركها.

ويظهر من بعض المتأخّرين (٢٦٧٩) خلافه ، قال في المدارك في شرح قول المحقّق : " ولو اختلف الزوجان فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الإحرام وأنكر الآخر ،

______________________________________________________

٢٦٧٦. لعلّه مبنيّ على كون اختلال السوق في الرواية كناية عن اختلال نظام امورهم معادا ومعاشا.

٢٦٧٧. بعبارة اخرى : الصحّة باعتقاد الحامل.

٢٦٧٨. لاجتهاد أو تقليد. وقوله : «صحّة البيع» خبر «أنّ».

٢٦٧٩. وجه الظهور : أنّ تفصيله بين علم الفاعل بصحّة العقد في حال الإحلال وفساده في حال الإحرام ، وبين جهله بذلك ، بمعنى اعتقاد الصحّة في الحالين ، بتسليمه جريان القاعدة وإثباتها للصحّة الواقعيّة في الأوّل دون الثاني ،

فالقول قول من يدّعي الإحلال ترجيحا لجانب الصحّة" ، قال : إنّ الحمل على الصحّة إنّما يتمّ إذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الإحرام عالما بفساد ذلك ، أمّا مع اعترافهما بالجهل ، فلا وجه للحمل على الصحة ، انتهى. (١٢)

ويظهر ذلك من بعض من عاصرناه في اصوله وفروعه ، حيث تمسّك لهذا الأصل بالغلبة ، بل ويمكن إسناد هذا القول إلى كلّ من استند في هذا الأصل إلى ظاهر حال المسلم ، كالعلّامة وجماعة ممّن تأخّر عنه ، فإنّه لا يشمل إلّا صورة (٢٦٨٠) اعتقاد الصحّة ، خصوصا إذا كان قد أمضاه الشارع لاجتهاد أو تقليد أو قيام بيّنة أو غير ذلك.

______________________________________________________

يقتضي تخصيص مؤدّاها بالصحّة عند الفاعل ، إذ لو كان مؤدّاها عنده الصحّة الواقعيّة لم يكن وجه للتفصيل ، إذ لا بدّ حينئذ من الحمل على الصحّة ولو مع جهل الفاعل ، إذ يكفي فيه احتمال مطابقة الفعل للواقع ولو اتّفاقا وغفلة ونسيانا من الفاعل.

فالتفصيل مبنيّ على كون مؤدّاها هي الصحّة عند الفاعل ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّ الفاعل إن اعتقد صحّة العقد في حال الإحلال وفساده في حال الإحرام ، اتّحدت الصحّة عند الفاعل والحامل ، فتكون الصحّة عند الفاعل حينئذ هي الصحّة الواقعيّة ، أعني : الصحّة باعتقاد الحامل ، فالحمل على الصحّة حينئذ ولو باعتقاد الفاعل يستلزم الصحّة الواقعيّة ، بخلاف ما لو اختلف اعتقاد الفاعل والحامل ، بأن اعتقد الفاعل الصحّة في كلّ من حالتي الإحرام والإحلال ، واعتقد الحامل اختصاصها بحالة الإحلال ، بأن كان بين معتقدهما عموم مطلقا ، وحينئذ فالحمل على الصحّة على اعتقاد الفاعل لا يستلزم الصحّة على اعتقاد الحامل.

٢٦٨٠. لأنّ ظاهر حال المسلم إيقاع الفعل على حسب اعتقاده طابق الواقع أم لا ، فلو كان مرادهم من الصحّة الصحّة الواقعيّة كان الدليل أخصّ من المدّعى من وجه ، لعدم شموله لصورة جهل الفاعل ، وأعمّ من وجه آخر ، لعدم إفادته للصحّة الواقعيّة مع اعتقاد الفاعل بخلاف الواقع.

والمسألة محلّ إشكال من إطلاق الأصحاب (٢٦٨١) ومن عدم مساعدة أدلّتهم ؛ فإنّ العمدة الإجماع ولزوم الاختلال ، والإجماع الفتوائيّ مع ما عرفت (٢٦٨٢) مشكل ، والعمليّ في مورد العلم باعتقاد الفاعل للصحّة أيضا مشكل ، والاختلال يندفع بالحمل على الصحّة (٢٦٨٣) في غير المورد المذكور.

وتفصيل المسألة (٢٦٨٤):

______________________________________________________

٢٦٨١. يعني : للصحّة ، وإطلاقها ظاهر في الصحّة الواقعيّة.

٢٦٨٢. من الخلاف في المسألة.

٢٦٨٣. يعني : بالحمل على الصحّة الواقعيّة في غير مورد اعتقاد الفاعل للصحّة.

٢٦٨٤. توضيح هذا التفصيل : أنّ الشاكّ في صحّة فعل الغير إمّا أن يعلم بعلم الغير بصحيح الفعل وفاسده ، وإمّا أن يكون عالما بجهله ، وإمّا أن يجهل بحاله. وعلى الأوّل : إمّا أن يعلم بمطابقة اعتقاده ، لاعتقاده بأن اعتقدا بانحصار حصول الطهارة للجلود في التذكية ، وعدم حصولها بالدباغ ، أو اعتقدا بصحّة الصلاة بالوضوء أو غسل الجنابة أو بهما في غير الجنابة. وإمّا أن يعلم بمخالفته إمّا بالتباين الكلّي ، بأن اعتقد أحدهما وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة والآخر وجوب الإخفات ، أو بالتباين الجزئي. وذلك أيضا إمّا بالعموم والخصوص مطلقا ، بأن كان معتقد الحامل أعمّ ، كما إذ اعتقد صحّة العقد بالعربيّ والفارسي ، واعتقد الفاعل صحّته بالعربيّ خاصّة ، أو كان معتقد الفاعل كذلك ، كعكس المثال. أو بالعموم والخصوص من وجه ، كما إذا اعتقد الحامل صحّة السجود على التراب والنبات ، والفاعل صحّته على التراب والحجر ولكن هذه الصورة ملحقة بصورة أعميّة اعتقاد الحامل وأخصيّة اعتقاد الفاعل في قضيّة الحمل على الصحّة. وإمّا أن لا يعلم بالموافقة والمخالفة.

والصورة الاولى ـ أعني : صورة العلم بالموافقة ـ خارجة من محلّ النزاع ، لعدم ترتّب ثمرة فيها على كون المراد بالصحّة الصحّة عند الحامل أو الفاعل ،

.................................................................................................

______________________________________________________

لفرض موافقتهما. وكذا صورة أعميّة الصحّة عند الحامل من الصحّة عند الفاعل بالعموم والخصوص مطلقا ، لاستلزام الحمل على الصحّة عند الفاعل للصحّة عند الحامل أيضا لا محالة. وكذا صورة أعميّة معتقد الفاعل بالعموم مطلقا ، إذا قلنا بكون معاملاته ممضاة عند كلّ أحد حتّى المعتقد بفساده. فينحصر محلّ النزاع من صور العلم بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده في صورة أعميّة اعتقاد الفاعل مطلقا ، مع القول بعدم كون معاملات الغير ممضاة عند كلّ واحد ، وصورة التباين ، وصورة الجهل بالموافقة والمخالفة. وعلى صورتي أعميّة اعتقاد الفاعل وتباينه : إمّا أن يحصل اعتقاده من مستند يعذر فيه كالاجتهاد والتقليد ، وإمّا أن يحصل من مستند لا يعذر فيه للتقصير ، كحصوله من قول أبيه وأمّه أو معلّمه أو نحو ذلك. وهذه صور خمس من صور العلم باعتقاد الفاعل ، وإذا انضمّت هذه الصور إلى صورتي العلم بجهل الفاعل والجهل بالحال ، ينحصر محلّ النزاع في سبع صور.

أمّا صورة أعميّة اعتقاد الفاعل مع عدم العذر ، فالظاهر هو الحمل على الصحّة عند الحامل ، لإطلاق الأصحاب ، بل إطلاق الإجماعات المدّعاة في المقام ، فتأمّل ، وعموم السيرة المستمرّة بين المسلمين ، واختلال النظم لولاه ، بل الأخبار أيضا إن تمّت دلالتها ، وكذا الأصل على ما تقدّم عن كاشف الغطاء. والعمدة في المقام هي السيرة المستمرّة بين المسلمين كما لا يخفى.

وأمّا مع تحقّق العذر ـ كما هو الغالب ـ فربّما يشكل الحمل على الصحّة باعتقاد الحامل بعدم مساعدة الأدلّة عليه ، لأنّ عمدتها الإجماع محصّلا ومحكيّا ، والأخبار ، واختلال النظم لولاه ، والسيرة.

أمّا الأوّل فالمحصّل منه غير حاصل ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. والمحكيّ موهون بإنكار جماعة ، كالمصنّف رحمه‌الله والمحقّق القمّي.

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال النراقي : «وأمّا الإجماع فهو وإن أمكن ادّعائه ، بل القول بثبوته في موارد جزئيّة ، ويأتي الإشارة إلى بعضها ، ولكنّه على سبيل الكلّية ـ كما صرّح به الفاضل المولى محمّد باقر الخراساني في الكفاية وغيره ـ غير ثابت ، كيف وإنّا لم نقف من غيره التصريح بكليّة حمل جميع أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحّة والصدق ، وكلام الأكثر غير طائفة من المتأخّرين خال عن ذكر هذه القاعدة ، وإن عملوا في بعض المواضع على ذلك للدليل الخاصّ به ، وهو غير ثبوت الأصل الكلّي. ويكفيك في عدم ثبوت الإجماع ما ترى من الأكثر في الموارد الخاصّة ـ كآيات الشهادة والروايات والأخبار ، والأقوال من ذوي الأيدي وذوي الأعمال في الطهارات والنجاسات ، والدعاوي والمنازعات ، والمطاعم والمشارب وغير ذلك ـ أنّهم يختلفون في قبول الأقوال وتصحيح الأفعال ، ويطلبون في الموارد الجزئيّة أدلّة خاصّة ويتكلّمون فيها ، فإن لم يجدوا يرجعون إلى الأصل ، ولا يتمسّك بهذه القاعدة إلّا أقلّ قليل» انتهى موضع الحاجة.

وقد ذكر الشهيد في قواعده ـ فيما حكاه عنه في العوائد ـ موارد كثيرة وقع الخلاف فيها في العمل بقاعدة الحمل على الصحّة.

وأمّا الثاني فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من ضعف دلالتها. نعم ، إن تمّت دلالتها أمكن أن يقال : إنّ قوله : «ضع أمر أخيك على أحسنه» يقتضي الحمل على ما هو صحيح في الواقع لا عند الفاعل ، لكون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، والواقع عند الحامل هو ما اعتقد صحّته ، لكون اعتقاده طريقا إلى الواقع.

وأمّا الثالث فلمنع الاختلال لو حملناه على الصحّة باعتقاد الفاعل ، وإن سلّمناه على تقدير عدم الحمل مطلقا.

وأمّا الرابع فهو وإن كان متحقّقا في المقام ، ولذا ترى أنّهم يرتّبون على المعاملات المشكوك الصحّة والفساد آثار الصحّة الثابتة عندهم ، وهذا ممّا لا ينكر ، إلّا أنّ العمل لأجل إجماله لا يفيد وجه وقوعه ، فيحتاج تعيينه إلى دليل

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه. فبنائهم في المقام كما يحتمل أن يكون لأجل الحمل على الصحّة الواقعيّة ، كذلك يحتمل أن يكون لأجل الحمل على الصحّة عند الفاعل ، وكون الفعل الواقع على وجه الصحّة عنده ممضى عند كلّ أحد حتّى عند من يرى فساده ، إذا كان اعتقاده مستندا إلى مدرك صحيح ممضى عند الشارع ، كما إذا كان حاصلا من اجتهاد أو تقليد. فإذا وقع معاملة بالفارسيّة يجب ترتيب الآثار عليه حتّى ممّن يرى فسادها بالفارسيّة. ولكلّ من الاحتمالين مقرّب ومبعّد ، ومقرّب كلّ مبعّد للآخر.

أمّا مقرّب الأوّل فهو ظهور كلمات العلماء في كثير من الموارد في الحمل على الصحّة الواقعيّة ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله. ومنها عدم تجويزهم الاقتداء بمن كانت صلاته على رأي المأموم أو مجتهده باطلة ، وإن كانت صحيحة على رأيه أو مجتهده ، كما إذا يرى الإمام عدم وجوب السورة أو الاستعاذة فصلّى بدونهما ، وكانت السورة والاستعاذة واجبتين على رأي المأموم أو مجتهده ، ومع ذلك يجوّزون الاقتداء بمثل هذا الإمام مع الجهل بقراءته للسورة أو الاستعاذة في صلاته. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ذلك من جهة ما أشرنا إليه من احتمال كون الفعل الواقع صحيحا على رأي الفاعل أو مجتهده ممضى عند غيره ، وإن لم ير صحّته ، فتأمّل.

وأمّا مقرّب الثاني ، فإنّ ظاهرهم اعتبار الصحّة عند الفاعل في بعض مقامات أخر ، لأنّ ظاهرهم الحكم بالتحالف فيما لو اختلف المتبايعان في المبيع مع صحّة البيع على التقديرين على رأيهما أو رأي مجتهدهما ، وإن ترافعا عند من يرى بطلانه ، كما إذا اختلفا في كون المبيع خلّا أو عصيرا مع كون رأيهما أو رأي مجتهدهما طهارة العصير ، فيحكمون بالتحالف وإن ترافعا عند من يرى نجاسة العصير وعدم صحّة وقوعه مبيعا ، إذ لو كان المعتبر عندهم هو الحمل على الصحّة الواقعيّة ، فلا بدّ أن يرجّح مثل هذا الحاكم جانب مدّعي الصحّة على اعتقاده.

والتحقيق في مثل المقام : ترتيب آثار الصحّة الواقعيّة على الفعل المردّد بينهما

.................................................................................................

______________________________________________________

وبين الصحّة على اعتقاد الفاعل ، لما عرفت من ثبوت بنائهم على ذلك ، وإن تردّد ذلك بين كونه لأجل الحمل على الصحّة الواقعيّة ، أو لأجل حمله على الصحّة عند الفاعل ، وكون اعتقاده ممضى عند كلّ أحد ، لعدم ترتّب ثمرة على هذا التردّد والاحتمال.

وأمّا صورة التباين مع عدم العذر ففيها إشكال ، من عموم الأدلّة المقتضية للحمل على الصحّة الواقعيّة ، ومن غاية بعد الحمل على ذلك مع اعتقاد الفاعل خلافه بمجرّد احتمال الموافقة للواقع. مضافا إلى أنّ العمدة في المقام هي السيرة ، وهي غير متحقّقة. وأمّا إطلاق سائر الأدلّة فقد عرفت ما فيها ممّا قدّمناه.

وأمّا مع تحقّق العذر فالظاهر هو الحمل على الصحّة عند الفاعل ، بل نفي الإشكال عنه المصنّف رحمه‌الله. ويظهر الوجه فيه ممّا سبق ، سيّما وأنّ الحمل على الصحّة الواقعيّة مستلزم لتفسيق الفاعل ، لكونه مكلّفا بالأخذ بما أدّى إليه اجتهاده إن كان مستنبطا وبفتوى مجتهده إن كان مقلّدا ، ومخالفة الطرق الظاهريّة الممضاة عند الشارع حرام وإن خالفت الواقع.

وأمّا صورة الجهل بالموافقة والمخالفة ، فالمتعيّن هو الحمل على الصحّة الواقعيّة ، لعموم الأدلّة ، سيّما السيرة التي هي العمدة في المقام ، بل يمكن حمل نفس اعتقاد الفاعل على الصحّة كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وأمّا صورة العلم بجهل الفاعل ، فالظاهر هو الحمل على الصحّة الواقعيّة أيضا ، لعموم الأدلّة ، لأنّ عمدتها الإجماع والأخبار والسيرة واختلال النظم ، ولا فرق في شيء منها بين علم الفاعل بالصحيح والفاسد وعدمه ، سيّما السيرة التي هي العمدة في المقام ، لما عرفت من المناقشة فيما عداها.

ومن هنا يظهر ضعف ما يظهر ممّا نقله المصنّف رحمه‌الله عن المدارك من التفصيل بين علم الفاعل وجهله ، بدعوى عدم جريان القاعدة على الثاني. هذا إن أراد عدم جريانها مع جهل الفاعل بالصحّة والفساد. وإن أراد عدم إثباتها للصحّة الواقعيّة

.................................................................................................

______________________________________________________

مع جهله بالواقع ، بمعنى اعتقاده للصحّة حتّى في حال الإحرام ، بأن كان بين معتقد الفاعل والحامل عموم مطلق ، كما أشرنا إليه عند شرح كلام صاحب المدارك في بعض الحواشي السابقة ، فيظهر الكلام فيه ممّا قدمناه هنا.

ولا بأس بنقل كلامه بتمامه حتّى تظهر حقيقة الحال ، وتتّضح جليّة المقام ، بالإشارة إلى ما في كلامه في شرح قول المحقّق : «ولو اختلف الزوجان فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الإحرام وأنكر الآخر ، فالقول قول من يدّعي الإحلال ، ترجيحا لجانب الصحّة» فإنّه بعد بيان حكم العلم بوقوع العقد في الإحرام قال : «ولو اختلفا فادّعى أحدهما أنّه وقع في حال الإحلال ، وادّعى الآخر وقوعه في حال الإحرام ، فقد حكم المصنّف رحمه‌الله وغيره بأنّ القول قول من يدّعي وقوعه في حال الإحلال ، حملا لفعل المسلم على الصحّة ، والتفاتا إلى أنّهما مختلفان في وصف زائد على أركان العقد ـ المتّفق على حصولها ـ يقتضي الفساد ، وهو وقوع العقد في حالة الإحرام ، فالقول قول منكره.

وفي الوجهين نظر ، أمّا الأوّل فلأنّه إنّما يتمّ إذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الإحرام عالما بفساد ذلك ، أمّا مع اعترافهما بالجهل فلا وجه للحمل على الصحّة. وأمّا الثاني فلأنّ كلّا منهما يدّعي وصفا ينكره الآخر ، فتقديم أحدهما يحتاج إلى دليل. وكيف كان ، فينبغي القطع بتقديم قول من يدّعي الإحلال ، مع اعتراف مدّعي الفساد بالعلم بالحكم. وإنّما يحصل التردّد مع الجهل ، ومعه يحتمل تقديم قول من يدّعي تأخّر العقد مطلقا ، لاعتضاد دعواه بأصالة عدم التقدّم. ويحتمل تقديم قول مدّعي الفساد ، لأصالة عدم تحقّق الزوجيّة إلى أن يثبت شرعا. والمسألة محلّ تردّد» انتهى.

وقوله : «فلأنّه إنّما يتمّ ...» قد عرفت ضعفه. وقوله : «فلأنّ كلّا منهما يدّعي ...» يرد عليه : أنّ مرجع نزاع الزوجين في صحّة العقد وفساده في المقام ـ بعد اتّفاقهما على وقوع عقد منهما ـ إلى دعوى طروّ المفسد عليه ، وهو وقوعه

أنّ الشاكّ في الفعل الصادر من غيره : إمّا أن يكون عالما بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده ، وإمّا أن يكون عالما بجهله وعدم علمه ، وإمّا أن يكون جاهلا بحاله. فإن علم بعلمه بالصحيح والفاسد : فإمّا أن يعلم بمطابقة اعتقاده لاعتقاد الشاكّ ، أو يعلم مخالفته ، أو يجهل الحال.

لا إشكال في الحمل في الصورة الاولى. وأمّا الثانية ، فإن لم يتصادق اعتقادهما بالصحّة في فعل ـ كأن اعتقد أحدهما وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة ، والآخر وجوب الإخفات ـ فلا إشكال في وجوب الحمل على الصحيح باعتقاد الفاعل.

______________________________________________________

في حال الإحرام ـ وعدمه ، إذ الفرض استكمال العقد أركانه ، فيقال : الأصل عدم طروّ المفسد عليه ، فلا وجه لفرض كلّ منهما مدّعيا ومنكرا. ودعوى أنّ الغرض من نفي المفسد بالأصل إثبات وقوع العقد في حال الإحلال ، والأصل عدمه أيضا ، ضعيفة ، لأنّ الغرض من نفي المفسد ليس إثبات وقوعه في حال الإحلال وإلّا كان الأصل مثبتا ، بل الغرض نفيه ساكتا عن وقوعه في حال الإحلال ، لأنّ شرط صحّة العقد عدم وقوعه في حال الإحرام ، لا وقوعه في حال الإحلال حتّى يحتاج إلى إثباته بنفي ضدّه بالأصل ، كي يعارض ذلك بمثله.

وبالجملة ، إنّ صحّة العقد وفساده يترتّبان على عدم وقوعه في حال الإحرام ووقوعه فيه ، فبمجرّد نفي هذا الوصف تثبت صحّته. ولا تصحّ معارضته بأصالة عدم وقوعه في حال الإحلال ، لما عرفت من عدم ترتّب الصحّة على تحقّق هذا الوصف حتّى يحتاج في الحكم بها إلى إحرازه ، ليعارض ما ذكرناه بأصالة عدم هذا الوصف أيضا.

نعم ، تمكن الخدشة فيما ذكرناه أيضا بأنّه إن اريد بأصالة عدم المفسد أصالة عدمه مطلقا في هذا المورد ، ليثبت به عدم المفسد الخاصّ ، وهو وقوع العقد في حال الإحرام ، فهو لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة. وإن اريد بها أصالة عدم المفسد الخاصّ ، فهو فرع العلم بخلوّ العقد من هذا المفسد في زمان حتّى يستصحب

وإن تصادقا ـ كمثال العقد بالعربيّة والفارسيّة ـ فإن قلنا : إنّ العقد بالفارسيّة منه سبب لترتّب الآثار عليه من كلّ أحد حتّى المعتقد بفساده ، فلا ثمرة في الحمل على معتقد الحامل أو الفاعل ، وإن قلنا بالعدم كما هو الأقوى ، ففيه الإشكال المتقدّم من تعميم الأصحاب في فتاويهم وفي بعض معاقد إجماعاتهم على تقديم قول مدّعي الصحّة ، ومن اختصاص الأدلّة بغير هذه الصورة.

وإن جهل الحال ، فالظاهر الحمل لجريان الأدلّة ، بل يمكن جريان الحمل على الصحّة في اعتقاده ، فيحمل على كونه مطابقا لاعتقاد الحامل ، لأنّه الصحيح ، وسيجيء الكلام فيه. وإن كان عالما بجهله بالحال وعدم علمه بالصحيح والفاسد ، ففيه أيضا الاشكال المتقدّم ، خصوصا إذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب ، كما إذا علمنا أنّه أقدم على بيع أحد المشتبهين بالنجس ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون قد اتّفق المبيع غير نجس. وكذا إن كان جاهلا بحاله ، إلّا أنّ الإشكال في بعض هذه الصور أهون منه في بعض ، فلا بدّ من التتبّع والتأمّل.

الثاني : أنّ الظاهر من المحقّق الثاني (٢٦٨٥)

______________________________________________________

عدمه ، وهو خلاف الفرض. ويحتمل أن يكون نظر من رجّح جانب مدّعي الصحّة إلى قاعدة إحراز المقتضي والشكّ في المانع ، على ما يدّعي من بناء العقلاء على عدم المانع في مثله ، وقد عرفت أنّ مرجع اختلاف الزوجين إلى دعوى طروّ المفسد وعدمه. نعم ، لمانع أن يمنع تحقّق هذا البناء. ولكنّ الأمر في ذلك ـ بعد ما عرفت من جريان قاعدة الحمل على الصحّة في المقام ـ سهل يسير.

وأمّا صورة الجهل بحال الفاعل فالظاهر أنّها كسابقتها ، فتأمّل في المقام ، فإنّه من مزال الأقدام ومزلقة الأفهام ، لعدم عنوان المسألة في كلمات كثير من الأعلام.

٢٦٨٥. حاصل نزاعهم في المقام : أنّ العقد الواقع المحتمل للصحّة والفساد ، إذا تردّد بين حالين قابل للاتّصاف بالصحّة على إحداهما وغير قابل على الاخرى ، كما إذا تردّد البيع بين وقوعه في حال بلوغ البائع وصغره ، أو بين حال كونه عاقلا ومجنونا ، أو في حال كون المبيع نجسا غير قابل للتطهير وعدمه ، فهل يحمل

.................................................................................................

______________________________________________________

على الصحّة أم لا؟ بل يختصّ مورد الحمل بما كان العقد قابلا بالذات للاتّصاف بالصحّة ، بأن استكمل العقد أركانه من المتعاقدين والعوضين مع ما يعتبر فيها شرعا ، وكان الشكّ في اشتراط شرط مفسد وعدمه.

وتوضيحه : أنّه لا إشكال في أنّ جريان القاعدة في مورد فرع قابليّة المحلّ للاتّصاف بالصحّة والفساد ، وإلّا فلو تعيّن أحد الوصفين لم يبق مسرح لها أصلا. ومن هنا لا يحتمل جريانها في أفعال الصبيّ غير المميّز ، لعدم قابليّتها للاتّصاف بالصحّة شرعا. وأمّا الصبيّ المميّز غير البالغ فيما أمضى الشارع تصرّفاته فيه ، كجواز هبته ووصيّته ونحوهما ، فصريح كاشف الغطاء عدم جريانها فيها أيضا ، حيث قيّد موردها بفعل البالغ العاقل ، كما تقدّم عند تقرير الأصل في أصل المسألة ، ولكن ظاهر الفقهاء عدم الفرق ، لعدم الفارق بينهما. ولا يبعد كون جريانها فيها إجماعيّا فيما بينهم ، وإلّا نبّهوا عليه ، فالقول به غير بعيد. وتمكن دعوى استقرار السيرة عليه ، كيف لا وهو ليس أدون حالا من الكافر. وسنشير إلى جريان القاعدة في أفعاله أيضا ، بحملها على الصحّة ولو بحسب اعتقاده.

وأمّا إذا تردّد الفعل بين حالين قابل للاتّصاف على إحداهما دون الاخرى على ما عرفت ، فقد اضطربت كلماتهم فيه. وظاهر ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن العلّامة في القواعد والتذكرة عدم جريان القاعدة قبل استكمال المتعاقدين للأوصاف المعتبرة فيهما ، من البلوغ والعقل ونحوهما. وظاهر ما نقله عن الكركي عدم جريانها قبل إحراز استكمال العقد لأركانه ، من المتعاقدين والعوضين مع ما يعتبر فيهما. وظاهر المشهور هو جريانها مطلقا ، ومنهم العلّامة في بعض أقواله ، ففي القواعد بعد الحكم بعدم وقوع الطلاق الخلعي من الصغير وإن كان مراهقا ولا من المجنون المطبق ، قال : «ولو كان يعتوره أدوارا صحّ حال إفاقته ولو ادّعت وقوعه حال حياته ، وادّعى حال الإفاقة أو بالعكس ، فالأقرب تقديم قول مدّعي الصحّة» انتهى.

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد نقل المصنّف رحمه‌الله عنه وعن الكركي جريان القاعدة مع دعوى البائع الصغير. ونقل الكركي ـ بعد ما نقل عنه المصنّف رحمه‌الله أوّلا في باب الضمان ـ عن الشهيد رحمه‌الله في حواشيه الاعتراف بأصالة الصحّة في العقود ، ولكن بعد معارضتها مع أصالة عدم البلوغ تتساقطان ، وتبقى أصالة البراءة سليمة من المعارض ، فكأنّه لا أصل له ، وبأنّ وقوع العقد من بالغ مع صبيّ خلاف الظاهر. ثمّ قال : «وما ذكرناه أثبت».

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله وإن حقّق المقام ، وأتى بما فوق المرام ، ولكن قد بقي في كلامه بعد بعض ما يجب التنبيه عليه. وليعلم أوّلا أنّ مستند القاعدة ليس عمومات الكتاب والسنّة ليستند إليها في موارد الشكّ ، لما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله من قصورها دلالة ، بل العمدة في المقام هو الإجماع تحصيلا ونقلا في الجملة ، والسيرة المستمرّة بين المسلمين. فلا بدّ في توضيح المقام من الإشارة إلى شقوق المسألة ، ليتّضح بها الموارد التي أمكنت دعوى الإجماع أو استمرار السيرة فيها.

فنقول في قبال قول العلّامة المانع من جريان القاعدة فيما كان الشكّ فيه في بعض ما يعتبر في المتعاقدين : إنّ لاختلاف المتعاقدين بما يرجع إلى ذلك صورتين :

إحداهما : أن يتّفقا على استجماع أحدهما لجميع ما يعتبر فيه من البلوغ والعقل ونحوهما ، واختلفا في استجماع الآخر كذلك ، كدعوى الضامن تحقّق الضمان في حال الصغر أو الجنون أو السكر أو نحو ذلك ، وأنكره المضمون له. وهو على أقسام ، لأنّه تارة يظهر للحاكم الذي ترافعا إليه قبل إبراز الدعوى عدم تسالمهما على العقد بعد وقوعه ، بل كان الضامن مدّعيا للفساد بلا مهلة يعتدّ بها ، واخرى يظهر له منهما ذلك ، بأن يسلك الضامن على المضمون له بعد العقد مدّة كالمعترف بصحّته وإن لم يقرّبها ، ثمّ يبرز الدعوى ويترافع عند الحاكم ، وثالثة تجهل الحال.

والظاهر جريان القاعدة على الأوّل والثالث ، فإنّ الضامن وإن ادّعى صدور

.................................................................................................

______________________________________________________

الضمان في حال الصغر ، ولا يمكن حمل فعله على الصحّة من جهة ذلك ، لعدم ظهور فعله في الصحّة لذلك ، إلّا أنّ حمل فعل المضمون له على الصحّة يقتضي صحّة العقد ، لفرض صدور فعله في حال البلوغ والعقل والرشد ، وصحّة العقد من جهته تستلزم صحّته من جهة الضامن أيضا لا محالة ، لعدم الانفكاك بينهما. وسنشير إلى كون اعتبار القاعدة من باب الظهور النوعي لا التعبّد حتّى يصحّ التفكيك بينهما.

لا يقال : يعارض ذلك ظهور فعل الضامن في الفساد ، لدعواه وقوعه في حال الصغر. لأنّا نقول : إنّ غاية الأمر عدم ظهور فعله في الصحّة ، لأجل دعواه وقوعه في حال الصغر ، لا ظهوره في الفساد. ويدلّ على ما ذكرناه استمرار السيرة على ترتيب آثار الصحّة بحيث لا ينكر ، كيف لا ولو فرض موت المتعاقدين واحتمل وصيّهما وقوع العقد في حال صغر أحدهما لا يلتفت إلى ذلك أصلا ، ولا أظنّ الخصم ينكر ذلك ، وليس الوجه فيه إلّا ما ذكرناه من السيرة المستمرّة. وممّا ذكرناه يظهر حكم القسم الثاني بالأولويّة.

الثانية : أن لا يعلم استجماع أحدهما لجميع ما يعتبر فيه ، بأن ادّعى أحدهما وقوع العقد في حال صغر كلّ منهما أو جنونهما ، وأنكره الآخر وادّعى وقوعه في حال بلوغهما أو إفاقتهما. وهذه الصورة لا تخلو أيضا من الأقسام الثلاثة المتقدّمة. والظاهر جريان القاعدة هنا أيضا مع ظهور التسالم منهما بعد العقد مدّة ، للسيرة المستمرّة. وأمّا مع عدم ظهور ذلك فيشكل الحمل على الصحّة حينئذ ، لعدم تحقّق السيرة هنا ولو للشكّ فيه ، وحينئذ فأصالة عدم البلوغ وأصالة براءة ذمّة منكر وقوع الفعل في حال البلوغ ترجّح قول مدّعي الفساد ، سيّما أنّه منكر حقيقة. فظهر أنّ الأقوى هو الحكم بالصحّة فيما عدا هذا القسم. والعلّامة أيضا إن أراد بمنع صحّة التمسّك بالقاعدة في المقام هذا القسم فهو ، وإلّا فقد عرفت ضعف تعميم المنع. ومن هنا يظهر أيضا ضعف ما يظهر من المصنّف رحمه‌الله

.................................................................................................

______________________________________________________

من إطلاق القول بالموجب ، فتدبّر.

نعم ، على ما احتمل المصنّف رحمه‌الله في كلام العلّامة في التذكرة من إرادة صورة وقوع الضمان من الضامن من غير إذن من المديون ولا قبول من الغريم ، لا يكون ما ذكره مخالفا لما ذكرناه ، وصحّ ما ذكره بقوله : «فليس مع من يدّعي الأهليّة ظاهر يستند إليه ، ولا أصل يرجع إليه».

وأمّا قول الكركي قدس‌سره فهو بظاهره ظاهر الفساد ، إذ لا وجه لمنع الظهور فيما اختلفا في بعض ما يعتبر في العوضين مع تسالمهما على أهليّة المتعاقدين ، إذ لا ريب أنّ ظاهر حال العاقل البالغ الرشيد أنّه لا يتصرّف تصرّفا باطلا. والسيرة أيضا مستمرّة على الحمل على الصحّة في مثله ، بل جميع الأدلّة التي أقاموها على اعتبار القاعدة جارية في المقام.

والذي يمكن أن يكون مستندا لما ذكره وجهان :

أحدهما : أن يكون مبنى قاعدة الحمل على الصحّة عنده قاعدة إحراز المقتضي والشكّ في المانع ، التي ربّما يدّعى بناء العقلاء فيه على عدم المانع المشكوك فيه ، لرجوع الشكّ حينئذ في بعض ما يعتبر في أركان العقد إلى الشكّ في المقتضي ، فينحصر موردها حينئذ فيما كان الشكّ فيه في المانع ، كاشتراط شرط مفسد.

ولكنّك خبير بأنّ هذا المبنى بنفسه ضعيف ، لعدم الدليل عليه ، سيّما مع استمرار السيرة على الحمل على الصحّة ولو مع رجوع الشكّ إلى المقتضي.

وثانيهما : أن يكون مستند القاعدة عنده في العقود عموم وجوب الوفاء بالعقود ، كما تقدّم عند بيان الأدلّة على اعتبار أصل القاعدة. والتقريب فيه يتوقّف على بيان مقدّمتين : إحداهما : صحّة التمسّك بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة ، لوضوح كون الشبهة في موارد القاعدة في الموضوع. والثانية : أن تكون عمومات العقود متنوّعة بالنسبة إلى ما يعتبر فيها من الشروط دون الموانع ، بأن يقال : إنّ الشارع بعد أن اعتبر في البيع مثلا شروطا لصحّته ، فذلك يوجب

.................................................................................................

______________________________________________________

تقيّد موضوع البيع ، فيكون المحمول عليه الحليّة في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) هو المستجمع لهذه الشروط ، فيكون غير الجامع لها خارجا منه موضوعا لا حكما ، فيكون مقتضاه حينئذ حلّية ما جامع الشرائط مطلقا ، سواء وجد فيه بعض الموانع أيضا أم لا. وما دلّ على عدم ترتّب الأثر عليه لأجل وجود بعض الموانع فيه قد خرج من عموم الحلّ ، فيكون خروج فاقد بعض الشروط حينئذ من العموم خروجا موضوعيّا ، وواجد بعض الموانع خروجا حكميّا.

والسرّ في ذلك أنّ الشروط من جملة أجزاء المقتضي ، فاقتضاء البيع مثلا للحليّة لا بدّ أن يكون بعد استجماعه لجميع شرائط الصحّة ، وحكم الشارع عليه بالحلّية لا بدّ أن يكون بعد اعتبار هذه الشروط فيه ، وحينئذ يختصّ موضوع الحليّة بالجامع للشرائط ، فيكون الفاقد لها خارجا من موضوعها لا محالة ، بخلاف الموانع ، لأنّها مانعة من ترتّب الأثر بعد صلاحيّة المؤثّر للتأثير ، فلا يلزم حينئذ اعتبار عدم المانع في موضوع الحكم ، بل لا بدّ أن يكون ذلك معتبرا في ترتّب الحكم على موضوعه ، فيكون خروج الواجد للمانع من الحكم لا محالة.

لا يقال : إنّ عدم المانع من جملة الشرائط. لأنّا نقول : هذا مسامحة ، وإلّا فالشرط ما كان لوجوده تأثير في وجود المشروط ، فالوجود مأخوذ في مفهومه. مع أنّ عدم المانع لا تأثير له في وجود الممنوع منه ، وإنّما المعتبر مقارنة عدمه مع وجوده ، والفرق بينهما واضح ، لكون المقارنة أعمّ من التأثير.

ووجه توقّف صحّة الحمل على الصحّة على هذه المقدّمة أنّه قد ثبت بالمقدّمة الاولى جواز التمسّك بالعمومات ، مثل عموم الوفاء وحليّة البيع في الشبهات الموضوعة ، سواء كانت الشبهة في الصحّة ناشئة من الشكّ في وجود بعض شرائط الأركان ، ككون البائع بالغا عاقلا أو المبيع ملكا أو طاهرا ، أو من الشكّ في وجود بعض الموانع ، كاشتراط شرط مفسد. ولكن بهذه المقدّمة يثبت

.................................................................................................

______________________________________________________

التفصيل بين الشروط والموانع ، لأنّه إذا كان الشكّ في صحّة العقد ناشئا من الشكّ في وجود بعض الشرائط ، مع فرض كون وجود الشرط معتبرا في موضع الحكم العامّ لا يصحّ التمسّك بالعموم ، لأنّه إنّما يجدي بعد إحراز موضوعه ، فكما أنّه إذا شكّ في كون الواقع بيعا أو غيره لا مسرح للتمسّك بعموم (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) في إثبات حليّته ، كذلك لا مسرح للتمسّك به مع الشكّ في كون الواقع واجدا للشرط وعدمه ، بعد فرض أخذ وجوده في موضوع البيع في الحكم بحليّته ، بخلاف ما لو كان الشكّ في صحّته ناشئا من الشكّ في وجود المانع وعدمه ، لفرض عدم اعتبار عدمه في موضوع البيع في الحكم بحليّته ، فمع تحقّق الموضوع مع الشكّ في وجود المانع يدفع احتمال وجوده بإطلاق الحكم بحليّة البيع ، على ما هو الفرض بالمقدّمة الاولى من صحّة دفع احتمال وجود المانع بالعموم والإطلاق ، مضافا إلى أصالة عدمه.

لا يقال : إنّ أصالة عدمه لا تثبت وجود الممنوع منه إلّا على القول بالاصول المثبتة. لأنّا نقول : هذا إنّما يتمّ في الموانع العقليّة والعادّية ، وإلّا فالموانع الشرعيّة كما أنّ إثباتها بحكم الشرع وكذا نفيها ، فإذا ثبت نفيها بحكم الأصل ثبت وجود الممنوع منه لا محالة.

ومن هنا ربّما يفصّل فيما حصل الشكّ في كون اللباس حريرا وعدمه ، بين القول بكون الحرير مانعا من صحّة الصلاة ، وبين القول بكون عدمه شرطا فيها ، بالحكم بالصحّة على الأوّل دون الثاني ، إذ على الأوّل يدفع وجود المانع بأصالة عدمه ، بخلافه على الثاني ، لعدم إمكان إحراز وجود الشروط بالأصل ، كيف والأصل عدم الشرط. وأمّا الموانع العقليّة والعادّية ، فحيث لم يكن إثباتها بجعل الشارع ، تكون ـ وجودا وعدما ـ تابعة للواقع لا محالة ، فلا يمكن نفيها بالأصل في موارد احتمال وجودها.

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا غاية ما يمكن من توجيه كلام المحقّق الثاني. ومن التأمّل فيما ذكرناه يظهر أنّ مراده بعدم وجود العقد قبل استكمال أركانه ليس وجوده الشرعيّ ، حتّى يورد عليه بأنّه فرع إحراز صحّته ، ولا وجوده العرفي كي يورد عليه بمنع عدمه حينئذ ، كما أورده المصنّف رحمه‌الله عليه ، بل المراد وجوده المعتبر في تعلّق الحكم ، أعني : الملحوظ موضوعا للحكم في الأدلّة ، وهو وجوده العرفي المقرون بالشرائط ، سواء جامع بعض الموانع أم لا ، وهو أعمّ من الوجود الشرعيّ ، وأخصّ من الوجود العرفي ، كما يظهر ممّا أسلفناه.

ولكن يرد عليه مع ذلك أوّلا : منع صحّة التمسّك بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة مطلقا ، سواء كانت الشبهة في صحّة العقد ناشئة من الشكّ في فقد شرط أو وجود مانع ، كما قرّر في محلّه.

وثانيا : أنّ نفي احتمال المانع بالأصل فاسد جدّا ، لأنّه إن اريد به أصالة عدم المانع الخاصّ في هذه الواقعة فهو غير مسبوق بالحالة السابقة ، لعدم العلم بخلوّ هذا العقد من هذا المانع الخاصّ المشكوك فيه في زمان حتّى يستصحب عدمه. وإن اريد به عدم عروض المانع المطلق لهذه القضيّة ، ففيه : أنّه لا يثبت عدم المانع الخاصّ المشكوك فيه إلّا على القول بالاصول المثبتة. مع أنّ التفصيل بين الموانع فاسد ، لأنّ وجود الممنوع منه إن كان مرتّبا شرعا على مجرّد عدم المانع فأصالة عدمه تثبت وجوده مطلقا ، سواء كان المانع شرعيّا أم عقليّا أم عاديّا ، وإن لم يكن مرتّبا عليه كذلك فأصالة عدمه لا تجدي في إثبات وجود الممنوع منه إلّا على القول بالاصول المثبتة من دون فرق بين الموانع. وما تقدّم من عدم إمكان دفع احتمال وجود المانع العقلي أو الشرعيّ بالأصل على إطلاقه ممنوع ، كما يظهر ممّا عرفت.

هذا كلّه بحسب الكبرى. وأمّا بحسب الصغرى ، أعني : بيان الميزان في الفرق بين الشروط والموانع ، فاعلم أنّ الشرط ما كان له دخل في وجود المشروط ، وإليه يرجع تعريفهم له بأنّه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوده. فأشاروا بالفقرة الاولى إلى مدخليّة وجوده في وجوده ، وبالثانية إلى الاحتراز عن العلّة التامّة.

ولا يلزم النقض على طرده بعدم المانع ، حيث يلزم من عدم عدم المانع عدم الممنوع منه ، ولا يلزم من نفس عدمه وجود الممنوع منه ، فيكون في معنى الشرط ، إذ المستلزم فيه لعدم الممنوع منه هو عدم عدم الشرط ـ أعني : وجوده ـ ولعدمه عدمه لا وجوده ، والأمر في الشرط على عكسه. مع أنّه لا تأثير لعدم المانع في وجود الممنوع منه وتحقّقه كما تقدّم.

والمانع ما كان صادما في وجود الممنوع منه ، ففي الشرعيّات يكون صادما في حصول الامتثال وترتّب الأثر على المأتيّ به ، فيكون مصادما في الصحّة بمعنييها.

والأمر ربّما يتردّد بين كون وجود شيء مانعا وعدمه شرطا ، وبالعكس. والأوّل كالصلاة في الحرير ، فإنّه ربّما يتردّد بين كون وجوده مانعا كما هو الظاهر ، وبين كون عدمه شرطا في صحّتها. والثاني كما إذا قال الشارع : لا تبع ما ليس بملك لك ، لأنّ ظاهر النهي كما ستعرفه كون عدم الملك مانعا من صحّة البيع ، مع احتمال كون الملك شرطا كما هو المحقّق.

وميزان التمييز بينهما عند اشتباههما على وجوه :

أحدها : أن يحصل ذلك من مذاق الشرع ، كما أنّا قد علمنا بكون البلوغ والعقل والرشد ومعلوميّة العوضين وكونهما ملكا شرطا في صحّة البيع ، بل جميع ما يعتبر في أركان البيع من قبيل ذلك ، وكذا قد علم بكون جميع الشروط المفسدة ـ كاشتراط اتّخاذ العنب خمرا في ضمن العقد ـ من قبيل الموانع.

وثانيها : تنصيص الشارع بأنّه يشترط كذا في كذا ، ويمنع كذا من كذا ، أو ما يقرب منهما. وثالثها : أنّ ما يرد على طريق الأمر بالإتيان بشيء في شيء أو له ، كقوله : استقبل في الصلاة أو تطهّر لها ، يستفاد منه غالبا كونه شرطا فيه ، وما يرد على طريق النهي ، كقوله : لا تصلّ في الحرير ولا تتكلّم ولا تضحك فيها ، يستفاد

أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان. قال في جامع المقاصد ، فيما لو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن : ضمنت وأنا صبيّ ـ بعد ما رجّح تقديم قول الضامن ـ ما هذا لفظه :

فإن قلت : للمضمون له أصالة الصحّة في العقود ، وظاهر حال العاقد الآخر أنّه لا يتصرّف باطلا. قلنا : إنّ الأصل في العقود الصحّة بعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد ، أمّا قبله فلا وجود له ، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحرّ أو العبد ، حلف منكر وقوع العقد على العبد ، وكذا الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور ، لا مطلقا ، انتهى.

وقال في باب الإجارة ما هذا لفظه : لا شكّ في أنّه إذا حصل الاتفاق على حصول جميع الامور المعتبرة في العقد ـ من حصول الإيجاب والقبول من الكاملين ، وجريانهما على العوضين المعتبرين ـ ووقع الاختلاف في شرط مفسد ، فالقول قول مدّعي الصحّة بيمينه ؛ لأنّه الموافق للأصل ، لأنّ الأصل عدم ذلك المفسد ، والأصل في فعل المسلم الصحّة. أمّا إذا حصل الشك في الصحّة والفساد في بعض الامور المعتبرة وعدمه ، فإنّ الأصل لا يثمر هنا ؛ فإنّ الأصل عدم السبب الناقل. ومن ذلك ما لو ادّعى أنّي اشتريت العبد فقال بعتك الحرّ ، انتهى. (١٣)

ويظهر هذا من بعض كلمات العلّامة رحمه‌الله ، قال في القواعد : لا يصحّ ضمان الصبيّ ولو أذن له الوليّ ، فإن اختلفا قدّم قول الضامن ؛ لأصالة براءة الذمّة وعدم البلوغ ، وليس لمدّعي الصحّة أصل يستند إليه ، ولا ظاهر يرجع إليه. بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ؛ لأنّ الظاهر أنّهما لا يتصرّفان باطلا ، وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون ، انتهى. (١٤)

______________________________________________________

منه كونه مانعا. وربّما يظهر من بعضهم في الفقه اطّراد ذلك. ولكنّ الظاهر كونه علّامة غالبة ، إذ قد يرد بيان الشرطيّة على طريق النهي ، كما تقول : لا تبع ما ليس لك بملك ، مع أنّ الملك شرط في صحّة البيع ، وكذا قد يرد بيان المانعيّة على طريق الأمر ، كما تقول : صلّ بغير رياء ، مع كون الرياء مانعا من صحّة الصلاة. ولعلّ المتتبّع في الأخبار يجد شاهدا على صدق ما ادّعيناه ، وإن لم يحضرني الآن منها ما يناسبه.

وقال في التذكرة : لو ادّعى المضمون له : أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ ، وقال الضامن : بل ضمنت لك قبله. فإن عيّنا له وقتا لا يحتمل بلوغه فيه قدّم قول الصبيّ ـ إلى أن قال ـ : وإن لم يعيّنا وقتا ، فالقول قول الضامن بيمينه ، وبه قال الشافعيّ ؛ لأصالة عدم البلوغ. وقال أحمد : القول قول المضمون له ؛ لأنّ الأصل صحّة الفعل وسلامته ، كما لو اختلفا في شرط مبطل. والفرق : أنّ المختلفين (٢٦٨٦) في الشرط المفسد يقدّم فيه قول مدّعي الصحّة ؛ لاتفاقهما على أهليّة التصرف ؛ إذ من له أهليّة التصرّف لا يتصرّف إلّا تصرّفا صحيحا ، فكان القول قول مدّعي الصحّة ، لأنّه مدّع للظاهر ، وهنا اختلفا في أهليّة التصرّف ، فليس مع من يدّعي الأهليّة ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه. وكذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد ، انتهى موضع الحاجة. (١٥)

ولكن لم يعلم الفرق بين دعوى الضامن الصغر وبين دعوى البائع إيّاه ، حيث صرّح العلّامة والمحقّق الثاني بجريان أصالة الصحّة (٢٦٨٧) ، وإن اختلفا بين من عارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبين من ضعّف هذه المعارضة.

______________________________________________________

٢٦٨٦. هذه التفرقة جواب من العلّامة عن قول أحمد ، حيث سوّى بين حكم الاختلاف في الركن وبين حكمه في الشرط المفسد.

٢٦٨٧. فيما لو ادّعى البائع وقوع البيع في حال الصغر ، والمشتري وقوعه في حال البلوغ. قال في القواعد : «يحتمل تقديم قول البائع مع يمينه ، لأنّه مدّع للصحّة ، وتقديم قول المشتري ، لأصالة البقاء» انتهى.

وفي جامع المقاصد : «أنّ الاحتمال الثاني في غاية الفساد ، لأنّ أصالة البقاء مندفعة بالإقرار بالبيع المحمول على البيع الصحيح شرعا ، فإنّ صحّته تقتضي عدم بقاء الصبوة ، فلا يعدّ معارضا ، كما لا يعدّ احتمال الفساد معارضا لأصالة الصحّة في مطلق الأفراد في وقوع العقد البيعي.

فإن قلت : إنّهما أصلان قد تعارضا ، للقطع بثبوت وصف الصبوة سابقا.

قلت : قد انقطع الأصل بالاعتراف بصدور البيع المحمول على الصحيح ، كما

وقد حكي عن قطب الدين أنّه اعترض على شيخه العلّامة في مسألة الضمان بأصالة الصحّة ، فعارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبقي أصالة البراءة سليمة عن المعارض.

أقول : والأقوى بالنظر إلى الأدلّة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال : هو التعميم. ولذا لو شكّ المكلّف أنّ هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره؟ بنى على الصحّة. ولو قيل : إنّ ذلك (٢٦٨٨) من حيث الشكّ في تمليك البائع البالغ ، وأنّه كان في محلّه أم كان فاسدا ، جرى مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا.

______________________________________________________

يحكم بانقطاع أصالة بقاء ملك البائع بالاعتراف بصدور البيع لو اختلفا في صحّته وفساده. ولو ثبت في هذه المسألة تعارض الأصلين لثبت تعارضهما فيما لو قال : تبايعنا وادّعى أحدهما الفساد ، والفرق غير واضح. وكون الصبوة مستمرّة لا دخل له في الفرق» انتهى.

وقد حكي عن المصنّف رحمه‌الله منع دلالة كلامه على تسليم جريان أصالة الصحّة في المقام ، بناء على أنّ مقصوده الاعتراض على العلّامة في فرض التعارض بينها وبين استصحاب عدم البلوغ ، بناء على فرض المقام من موارد أصالة الصحّة ، لا أنّه يسلّم كونه من جملة مواردها ، فتدبّر فإنّه بعيد جدّا.

٢٦٨٨. فيكون الحكم بصحّة العقد لأجل حمل فعل البائع ـ الذي تسالما على بلوغه حين العقد ـ على الصحّة ، فإنّ صحّة العقد من جهته تستلزم صحّته من جانب المشتري أيضا لا محالة. وهذا مبنيّ على ما هو ظاهر الأكثر من كون اعتبار القاعدة من باب الظهور ، وإلّا فإن قلنا باعتبارها من باب التعبّد ، فالحكم بصحّته من جانبه لا يستلزم الحكم بصحّته من جانب المشتري أيضا إلّا على القول بالاصول المثبتة ، بل لا معنى للحمل على الصحّة من جانب البائع خاصّة حينئذ ، لعدم ترتّب أثر شرعيّ على الصحّة من جانبه خاصّة. وسيجيء الكلام في ذلك.

وربّما يقال بأنّ بناء المكلّف على صحّة فعله فيما فرضه المصنّف رحمه‌الله لعلّه مبنيّ على قاعدة الشكّ بعد الفراغ ، لا على قاعدة الحمل على الصحّة. وفيه : أنّ المشهور

ثمّ إنّ ما ذكره (٢٦٨٩) جامع المقاصد من أنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانه ، إن أراد الوجود الشرعيّ فهو عين الصحّة ، وإن أراد الوجود العرفيّ فهو يتحقّق مع الشكّ ، بل مع القطع بالعدم.

وأمّا ما ذكره من الاختلاف في كون المعقود عليه هو الحرّ أو العبد ، فهو داخل في المسألة (٢٦٩٠) المعنونة في كلام القدماء والمتأخّرين ، وهي ما لو قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ ، فراجع كتب الفاضلين والشهيدين.

______________________________________________________

لا يقولون بجريان قاعدة الفراغ فيما عدا العبادات ، بل فيما عدا أبواب الصلاة والطهارات.

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله لو استشهد بما لو شكّ المكلّف في أنّ هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره ، أو صغر البائع ، أو في حال صغرهما؟ لم يرد عليه الاعتراض بما أشار إليه بقوله : «ولو قيل إنّ ذلك ...». اللهمّ أن يزعم عدم قيام الدليل على الحمل على الصحّة في هذه الصورة ، لأنّ عمدة الأدلّة في المقام هو الإجماع والسيرة ، والمتيقّن منهما غيرها. وتحقيق المقام في ذلك يظهر ممّا أسلفناه سابقا.

٢٦٨٩. قد تقدّم ما يصحّحه ويزيّفه.

٢٦٩٠. يعني : أنّ ما جعله مقيسا عليه فهو داخل في عنوان هذه المسألة ، وعدم جريان الحمل على الصحّة فيهما غير مسلّم ، فراجع كتب الفاضلين والشهيدين حتّى تعرف عدم كونه وفاقيّا. قال في الشرائع : «إذا قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ ، أو قال : فسخت قبل التفرّق وأنكره الآخر ، فالقول قول من يدّعي الصحّة». وقال في المسالك : «نبّه بقوله «فالقول قول مدّعي الصحّة» على علّة الحكم ، وهو أصالة الصحّة في العقود ، فإنّ الظاهر من العقود الجارية بين المسلمين الصحّة ، فيكون مدّعي الصحّة موافقا للأصل. وهذا يتمّ في المسألة الاولى. وأمّا الثانية فمدّعي الفسخ لا ينكر صحّة العقد ، بل يعترف به ويدّعي أمرا آخر ، لكن لمّا كان الأصل عدم طروّ المبطل الموجب لاستمرار الصحّة ، أطلق عليه الصحّة مجازا وأراد به بقائها» انتهى.

وأمّا ما ذكره من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور لا مطلقا ، فهو إنّما يتمّ إذا كان الشكّ من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحّة فعله صحّة فعل هذا الفاعل ، كما لو شكّ في أنّ الإبراء أو الوصيّة هل صدر منه حال البلوغ أم قبله؟ أمّا إذا كان الشكّ في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ، أو في أهليّة أحد طرفي العقد ، فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الأوّل ومن الطرف الآخر في الثاني ، أنّه لا يتصرّف فاسدا. نعم ، مسألة الضمان يمكن أن يكون من الأوّل (٢٦٩١) إذا فرض وقوعه بغير إذن من المديون ، ولا قبول من الغريم ؛ فإنّ الضمان حينئذ فعل واحد شكّ في صدوره من بالغ أو غيره ، وليس له طرف آخر ، فلا ظهور في عدم كون تصرّفه فاسدا. لكنّ الظاهر أنّ المحقّق لم يرد خصوص ما كان من هذا القبيل ، بل يشمل كلامه الصورتين الأخيرتين ، فراجع. نعم ، يحتمل ذلك في عبارة التذكرة.

ثمّ إنّ تقديم قول منكر الشرط المفسد ليس لتقديم قول مدّعي الصحّة ، بل لأنّ القول قول منكر الشرط ، صحيحا كان أو فاسدا ؛ لأصالة عدم الاشتراط ، ولا دخل لهذا (٢٦٩٢) بحديث أصالة الصحّة وإن كان مؤدّاه صحّة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا. هذا ، ولا بدّ من التأمّل والتتبّع.

الثالث : أنّ هذا الأصل إنّما يثبت (٢٦٩٣)

______________________________________________________

٢٦٩١. أي : من قبيل الإبراء والوصيّة.

٢٦٩٢. أنت خبير بأنّ هذا إنّما يتمّ إن قلنا بتقدّم أصالة عدم الاشتراط على القاعدة ، وإلّا فلو عكسنا كما إذا قلنا باعتبار القاعدة من باب الظهور النوعي ، فلا ريب في عدم جريان الأصل في المقام ، وإن كان مؤدّاه موافقا لمؤدّاها. وتحقيق الحال في ذلك يظهر من التأمّل في المقام الثالث.

٢٦٩٣. توضيح الحال في المقام يحتاج إلى بسط في الكلام ، فنقول : إنّ مورد القاعدة كلّ فعل له نوعان :

صحيح وفاسد ، واحتمل الواقع في الخارج لكلّ منهما. والمراد بالصحّة

.................................................................................................

______________________________________________________

المحمول عليها هي الصحّة بحسب وسع نفس الفعل بحسب مرتبته ، مع قطع النظر عن صحّة اخرى طارئة عليه بسبب انضمامه إلى فعل آخر. وبعبارة اخرى : إنّ صحّة الفعل عبارة عن ترتّب آثاره الشرعيّة عليه ، ولكلّ فعل شرعيّ بحسب وسعه ومرتبته أثر شرعيّ سوى الأثر المرتّب عليه باعتبار انضمام فعل آخر إليه. فللإيجاب مثلا صحّة ، وللقبول صحّة اخرى ، وللمركّب منهما صحّة ثالثة.

وصحّة الأوّل مع تحقّق شرائطه ـ من وقوعه عن بالغ عاقل باللفظ العربي فيما يعتبر فيه ، مع العلم بالعوضين ، وكونهما ملكا لهما ، أو نحو ذلك ممّا يعتبر في ترتّب الأثر عليه ـ عبارة عن ترتّب النقل والانتقال عليه على تقدير تحقّق القبول على الوجه المعتبر ، مع تحقّق الامور المتأخّرة عنهما ممّا يعتبر في ترتّب الأثر عليه في مورد يعتبر فيه ذلك ، كالقبض في بيع الصرف مثلا.

وصحّة الثاني ـ مع تحقّق شرائطه ـ عبارة عن ترتّب أثره عليه على تقدير تقدّم الإيجاب عليه على الوجه المعتبر ، مع ما يعتبر في ترتّب الأثر عليه من الامور المتأخّرة.

وصحّة الثالث ـ مع تحقّق شرائطه ممّا عرفت ـ عبارة عن ترتّب الأثر عليه ، وهو النقل والانتقال علي تقدير ما يعتبر فيه من الامور المتأخّرة في مورد يكون ذلك معتبرا فيه.

فإذا شكّ في صحّة الإيجاب لأجل الشكّ في تحقّق بعض ما يعتبر في صحّته بالمعنى المذكور ، كما إذا شكّ في وقوعه عن غير بالغ مثلا فمعنى حمله على الصحّة فرضه على وجه لو تعقّبه القبول على الوجه المعتبر ـ مع سائر ما يعتبر في ترتّب الأثر من الامور المتأخّرة ـ ترتّب عليه الأثر من النقل والانتقال ففيما إذا شكّ في صحّة الإيجاب مع عدم العلم بتعقّبه للقبول ، أو مع ما يعتبر فيه من الامور المتأخّرة ، فحمله على الصحّة لا يقضي بتحقّق القبول أو مع ما يعتبر من الامور المتأخّرة ، لعدم توقّف صحّته على ذلك كما عرفت. وكذا حمل القبول على الصحّة فيما يشكّ فيه لا يقضي بتقدّم الإيجاب عليه. وكذا حمل العقد على الصحّة لا يقضي

.................................................................................................

______________________________________________________

بتحقّق ما يعتبر في ترتّب الأثر عليه من الامور المتأخّرة ، كالقبض في بيع الصرف الهبة والرهن بناء على اعتباره في صحّتها ، وإجازة المالك في الفضولي إذا شكّ في صحّته من جهة اخرى. بل إن علم تعقّبه للقبول في الأوّل ، وتقدّم الإيجاب في الثاني ، والامور المتأخّرة في الثالث وفي الأوّلين ، حكم بحصول النقل والانتقال ، وإلّا يحكم بالبطلان فيما عدا الفضولي ، وبالجواز فيه.

والمعيار الذي يمكن التعويل عليه : أنّ كلّ فعل يشكّ في صحّته إن كان بسبب الشكّ في الإخلال ببعض أجزائه أو شروطه المتقدّمة عليه أو المقارنة له ، أو في وجود بعض موانعه كذلك ، يحمل على الصحّة ، بمعنى فرضه كالجامع للأجزاء والشرائط والفاقد للموانع المذكورة وحينئذ إن ترتّب عليه أثر شرعيّ بنفسه من النقل والانتقال كما في الإيقاعات فهو ، وإلّا فإن توقّف ترتّب الأثر التامّ عليه على انضمام فعل آخر إليه أو شرط متأخّر كالقبض في الصرف ، لا يحكم بترتّب ذلك على حمل المشكوك فيه على الصحة ، بل المرتّب عليه حينئذ هو الأثر الناقص ، وهو كون الفعل بحيث لو انضمّ إليه الفعل الآخر مع الشروط المتأخّرة حصل الأثر التامّ ، لأنّ هذا المقدار هو الذي تفيده القاعدة. فالمقدار الذي يتلبّس الفعل بسببها بلباس الصحّة هو قابليّة الاستعداد لترتّب الأثر التامّ عليه في بعض الموارد وفعليّته في بعض آخر.

وممّا ذكرناه يظهر أنّه لو اختلف المتبايعان ، فادّعى المشتري كون المبيع ملكا للبائع حتّى يكون العقد أصليّا ، وادّعى البائع كونه ملكا لثالث ، وأنّه باعه من دون وكالة منه في بيعه ، حتّى يكون فضوليّا موقوفا على الإجازة ، لا يجوز بمجرّد الحمل على الصحّة الحكم بكون العقد أصليّا لا فضوليّا متعقّبا بالإجازة ، كما حكي عن بعضهم ، ليترتّب عليه انتقال المبيع إلى المشتري لزوما لا متزلزلا ، إذ مقتضى الحمل على الصحّة ليس كون المبيع ملكا للبائع أو كون البائع وكيلا في البيع ، لصحّته بدونهما كما في الفضولي ، ولا كون البيع فضوليّا مع تعقّب الإجازة. بل

.................................................................................................

______________________________________________________

لا معنى للحمل على الصحّة هنا ، لاتّفاقهما على صحّة العقد ، واختلافهما إنّما هو في أمر خارج منها.

وكذا لو اختلفا في السلف ـ بعد اتّفاقهما على حصول القبض في الجملة ـ في حصوله في مجلس العقد حتّى يصحّ أو بعد التفرّق حتّى يبطل ، فأصالة الصحّة لا تقتضي بحصوله قبل التفرّق ، لأنّه شرط في ترتّب الأثر التامّ لا في صحّة العقد من حيث هو كما تقدّم. وكذا لو اختلفا في تحقّق أصل القبض الصحيح. نعم ، لو حمل نفس القبض في الأوّل على الصحيح منه ترتّب على العقد أثره التام. ومن هنا يفرّق بين ما لو اختلفا في صحّة العقد لأجل الاختلاف في تحقّق القبض في مجلس العقد ، وبين ما لو اختلفا في صحّته من جهة الاختلاف في وقوعه بالعربي ، حيث يعتبر فيه ذلك ، لتوقّف صحّة العقد من حيث هو على العربيّة ، فحمله على الصحيح يقضي بوقوعه بها ، بخلاف الحمل على الصحيح على الأوّل كما عرفت.

وممّا قدّمناه يظهر سقوط ما أورده المحقّق القمّي رحمه‌الله في سؤاله وجوابه ـ في مسألة إنكار الزوجة وكالة العاقد عنها بعد مضيّ مدّة من زمان العقد وهو في بيت الزوج ـ على الشهيد الثاني.

وتوضيحه يتوقّف على نقل عين عبارتهما ، قال الشهيد الثاني في شرح قول المحقّق في بيع السلف : «إذا اختلفا في القبض هل كان قبل التفرّق أو بعده؟ فالقول قول من يدّعي الصحّة». «إنّما قدّم مدّعي الصحّة ، مع أنّها معارضة بأصالة عدم القبض قبل التفرّق ، لأنّ هذه الأصالة معارضة بأصالة عدم التفرّق قبل القبض المتّفق على وقوعه ، فيتساقط الأصلان ، ويحكم باستمرار العقد. وفي الحقيقة لا نزاع بينهما في أصل الصحّة ، وإنّما النزاع في طروّ المفسد ، والأصل عدمه. وهذا بخلاف ما لو اختلفا في أصل قبض الثمن ، فإنّ القول قول منكر القبض وإن تفرقا واستلزم بطلان العقد ، لأنّه منكر لقبض ماله الذي هو الثمن الثابت عند المسلم ، لما قلناه من اتّفاقهما على صحّة العقد في الحالين ، وإنّما الخلاف في طروّ المفسد ، و

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث كان الأصل عدم القبض كان المقتضي للفساد قائما ، وهو التفرّق قبل القبض. فلا يقدح فساد العقد به ، حيث إنّه مترتّب على ما هو الأصل مع تحقّق الصحّة سابقا. وليس هذا من باب الاختلاف في وقوع العقد صحيحا أو فاسدا. ومثله ما لو اختلفا في قبض أحد عوضي الصرف قبل التفرّق» انتهى.

وقال المحقّق القمّي رحمه‌الله بعد نقل كلامه : ظاهره أنّه يقول بكون العقود أسامي للأعمّ من الصحيحة ، ومقتضاه أنّ بعد صدق تحقّق عقد السلف يحتاج بطلانه إلى دليل ، والدليل في الصورة الثانية هو الأصل ، بخلاف الصورة الاولى ، لتعارض الأصلين وتساقطهما.

وأنت خبير بأنّ شرط الصحّة هو القبض قبل التفرّق ، وثبوت الصحّة إنّما هو بالعلم بتحقّق الشرط لا عدم العلم بانتفائه. ولا ينفع معارضة أصالة عدم التفرق قبل القبض في إثبات القبض قبل التفرّق. وإنّما يتمّ كلامه لو اريد من طروّ المفسد الإفساد المتأخّر عن الصحّة النفس الأمريّة ، مثل الفسخ قبل التفرّق في المثال الذي نقلناه عن المحقّق.

وأمّا لو اريد من ذلك طروّ الحكم بالفساد بإثبات المفسد في أصل العقد ، وإن كان يحكم عليه بالصحّة ظاهرا حينا ما ، لكونه صادرا من المسلم ، فلا ريب أنّه إذا كان وقوعه من المسلم وتلبّسه به دليلا على الحكم بالصحّة ، فيحتاج بطلانه إلى دليل ، فكما أنّ ثمّة الشكّ في تحقّق الشرط وهو القبض قبل التفرّق ، ولا يوجب الحكم ببطلان فعل المسلم ، فكذلك هاهنا الشكّ في تحقّق أصل القبض لا يوجب الحكم ببطلان فعل المسلم.

وإن كان النظر في أصل تحقّق العقد (*) مع قطع النظر عن فعل المسلم وتلبّسه به ، فالأصل عدم تحقّق الشرط بالنسبة إليهما جميعا. فالتحقيق فيه أيضا أنّ ترك

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، والظاهر أنّه تصحيف : القبض ، سيّما بملاحظة قوله في السطر التالي : فالتحقيق أنّ ترك القبض ....

.................................................................................................

______________________________________________________

القبض مطلقا أو قبل التفرّق لا يلزم أن يكون معصية ، إذ قد يكون سهوا أو جهالة أو اضطرارا ، فلا يبقى إلّا الغلبة حتّى يحكم بأنّ الظاهر من المسلم أنّه لا يفعل المعاملة إلّا جامعة لشرائط الصحّة. وسيجيء عليه الكلام السابق الذي ذكرنا أنّه تابع لحصول الظنّ ، فربّما لا يكون المسلم ممّن يحصل به الظنّ أو الوقت لا يقتضيه.

ثمّ استشهد لكون نظر الشهيد إلى حكاية الغلبة بكلام له في تمهيد القواعد في تعارض الأصل والظاهر ، ولا حاجة لنا في نقله.

وأقول : إنّ ما أورده المحقّق القمّي رحمه‌الله على ظاهر ما استدلّ به الشهيد وإن كان متّجها ، إلّا أنّ الشهيد مصيب في أصل دعواه من التفرقة بين الحكم بصحّة العقد فيما لو كان اختلافهما في تقدّم القبض على التفرّق وتأخّره عنه ، وعدمه فيما كان اختلافهما في أصل تحقّق القبض وعدمه. ويظهر الوجه في ذلك ممّا قدّمناه. ولو كان قد تمسّك بالقاعدة في الأوّل من دون فرض معارضتها بالأصل كما صنعناه لم يرد عليه شيء ، لتقدّمها على الأصل في الأوّل ، وعدم جريانها في الثاني ، فتبقى أصالة عدم الشرط فيه المقتضية للفساد سليمة من المعارض.

ثمّ إنّه وقع الوهم لبعض الشّراح ، ويظهر وجهه أيضا ممّا قدّمناه. قال المحقّق : «إذا زوّج الأجنبيّ امرأة ، فقال الزوج : زوّج العاقد من غير إذنك ، فقالت : بل أذنت ، فالقول قولها مع يمينها على القولين ، لأنّها تدّعي الصحّة» انتهى. قال الشهيد الثاني : «أراد بالقولين القول ببطلان العقد الفضولي ، والقول بصحّته موقوفا على الإجازة» انتهى. وحيث كان مرجع النزاع على الأوّل إلى بطلان العقد وصحّته ، وعليه فحمل العقد على الصحّة وتقديم قول الزّوجة لذلك ظاهر. وإنّما الإشكال على الثاني ، لأنّ دعوى الزّوجة للإذن إجازة منها للعقد ، فلا يحتاج تقديم قولها والحكم بصحّة العقد ولزومه إلى الحمل على الصحّة. فوجّهه الشهيد الثاني بأنّه «يمكن أن تظهر فائدته على تقدير أن يكون قد سبق منها بعد العقد ، بلا فصل ما يدل على كراهة العقد وبعد ذلك اختلفا في الإذن وعدمه ، فإنّ

.................................................................................................

______________________________________________________

إجازتها الآن لا تؤثّر في لزوم العقد بعد كراهتها له قبل ذلك ، فيرجع الأمر إلى دعوى الصحّة والبطلان على القولين» انتهى.

وأخرج بعض شرّاح قول المحقّق وجها آخر للحمل على الصحّة على القول بصحّة الفضولي موقوفا على الإجازة ، وهو أنّ الصحّة المحمول عليها العقد هي الصحّة التنجيزيّة لا التعليقيّة. ولم أتحقّق معنى لهذا الكلام ، لما عرفت من كون دعوى الإذن من الزّوجة إجازة للعقد من دون حاجة إلى الحمل على الصحّة في إثبات تنجّز العقد. مع أنّك قد عرفت ممّا حقّقناه سابقا أنّه مع دوران العقد بين كونه أصليّا وفضوليّا لا يمكن إحراز كونه أصليّا بقاعدة الحمل على الصحّة ، بل قد عرفت عدم جريان القاعدة حينئذ.

فما يخطر ببالي ويخالج فيه أنّ نظر المحقّق في الحكم بتقديم قول مدّعي الصحّة ـ وهي الزّوجة ـ إلى أنّ دعوى الزوج لعدم الإذن من الزّوجة متعلّقة بفعل الغير ، لكون الإذن فعلا لها دونه ، وهو ممّا لا يعلم إلّا من قبلها غالبا ، فتقديم قولها إنّما هو لأجل دعواها لمّا لا يعلم إلّا من قبل نفسها غالبا. ومثله ما لو انقلبت الدعوى فأنكرت الزّوجة إذن الزّوج ، وادّعاه ، فيقدم قول مدّعي الصحّة ـ أعني : الزوج ـ هنا أيضا ، لما ذكرناه.

وقد ذكر الشهيد لتقديم قول المدّعي لما لا يعلم إلّا من قبل نفسه خمسة وعشرين موضعا. وأضاف إليها بعضهم مواضع أخر. ولا يختلف ذلك على القول بصحّة الفضولي وبطلانه. ولا دخل لما ذكره المحقّق في قاعدة الحمل على الصحّة ، ولا حاجة إلى تجشّم التوجيه في كلامه. ولا ينافيه قوله : «لأنّها تدّعي الصحّة» لجواز أن يريد به دعوى الصحّة ، لأجل دعواها لما لا يعلم إلّا من قبل نفسها. نعم ، إطلاق الصحّة في العلّة ربّما أشعر بكون المناط في الحكم بها هي قاعدة الحمل عليها ، إلّا أنّ هذا الإشعار لم يبلغ مبلغا يصحّ الاستناد إليه في نسبة ذلك إلى المحقّق ، فتدبّر.

صحّة الفعل إذا وقع الشكّ في بعض الامور المعتبرة شرعا في صحّته ، بمعنى ترتّب (٢٦٩٤) الأثر المقصود منه عليه ، فصحّة كلّ شيء بحسبه. مثلا : صحّة الإيجاب عبارة عن كونه بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد في مقابل فاسده الذي لا يكون كذلك ، كالإيجاب بالفارسيّة بناء على القول باعتبار العربيّة ، فلو تجرّد الإيجاب عن القبول لم يوجب ذلك فساد الإيجاب.

فإذا شكّ في تحقّق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الإيجاب من البائع ، فلا يقضي أصالة الصحّة في الإيجاب بوجود القبول ؛ لأنّ القبول معتبر في العقد لا في الإيجاب. وكذا لو شكّ في تحقّق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقّق الإيجاب والقبول ، لم يحكم بتحقّقه من حيث أصالة صحّة العقد. وكذا لو شكّ في إجازة المالك لبيع الفضوليّ ، لم يصحّ إحرازها بأصالة الصحّة (٢٦٩٥). وأولى بعدم الجريان (٢٦٩٦) ما لو كان العقد في نفسه لو خلّي وطبعه مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون المصحّح طارئا عليه ، كما لو ادّعى بائع الوقف وجود المصحّح له ، وكذا الراهن أو المشتري من الفضوليّ إجازة المرتهن والمالك.

______________________________________________________

وممّا قرّرناه تظهر الحال في العقود التي يعتبر القبض بعدها في صحّتها ، إذا وقع التنازع في تحقّقه مطلقا أو على الوجه المعتبر ، كبيع الصرف حيث يعتبر تقابض العوضين فيه في المجلس ، وكذا السلف حيث يعتبر قبض الثمن فيه في المجلس ، ومثله الرهن والوقف والهبة. وإن قلنا بكون القبض شرطا في اللزوم كان الحال فيه كالفضولي حيث تعتبر الإجازة في لزومه. وبالتأمّل فيما قدّمناه تظهر الحال في سائر الفروع التي أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، فتدبّر.

٢٦٩٤. متعلّق بقوله : «يثبت».

٢٦٩٥. يعني : في العقد.

٢٦٩٦. لأنّ أصالة عدم الصحيح في سائر الفروع معارضة بأصالة عدم وجود المفسد ، بخلافها هنا.

وممّا يتفرّع على ذلك أيضا أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن والراهن البائع له ـ بعد اتّفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه ـ في تقدّم الرجوع على البيع فيفسد ، أو تأخّره فيصح ، فلا يمكن أن يقال ـ كما قيل ـ : من أنّ أصالة صحة الإذن تقضي بوقوع البيع صحيحا ، ولا أنّ أصالة صحّة الرجوع تقضي بكون البيع فاسدا ، لأنّ الإذن والرجوع كليهما قد فرض وقوعهما على الوجه الصحيح ، وهو صدوره عمّن له أهليّة ذلك والتسلّط عليه. فمعنى ترتّب الأثر عليهما أنّه لو وقع فعل المأذون عقيب الإذن وقبل الرجوع ترتّب عليه الأثر ، ولو وقع فعله بعد الرجوع كان فاسدا ، أمّا لو لم يقع عقيب الإذن فعل بل وقع في زمان ارتفاعه ، ففساد هذا الواقع لا يخلّ بصحّة الإذن. وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع فانعقد صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى.

نعم ، أصالة بقاء الإذن إلى أن يقع البيع قد يقضي بصحّته ، وكذا أصالة عدم البيع قبل الرجوع ربّما يقال : إنّها تقضي بفساده ، لكنّهما لو تمّا (٢٦٩٧) لم يكونا من أصالة صحّة الإذن ـ بناء على أنّ عدم وقوع البيع بعده يوجب لغويّته ـ ولا من أصالة صحّة الرجوع التي تمسّك بها بعض المعاصرين تبعا لبعض.

والحقّ في المسألة ما هو المشهور : من الحكم بفساد البيع وعدم جريان أصالة الصحّة في المقام ، لا في البيع ـ كما استظهره الكركي ـ ولا في الإذن ، ولا في

______________________________________________________

٢٦٩٧. فيه إشارة إلى كون الأصلين مثبتين فلا يعتدّ بهما. فإن قلت : لا إشكال في أنّه إن أذن المرتهن في البيع ، وشكّ الراهن قبل إيقاع البيع في رجوعه عن إذنه ، يجوز له استصحاب الإذن وإيقاع البيع بعده وترتيب الآثار عليه ، فما وجه الفرق بينه وبين ما لو شكّ في الرجوع بعد إيقاع البيع ، حيث حكم بكون الأصل في الثاني مثبتا؟ قلت : إنّ معنى استصحاب الإذن قبل إيقاع البيع هو جواز إيقاع البيع في هذه الحالة ، وهذا أثر شرعيّ مرتّب على المستصحب من دون واسطة. والمقصود منه في الثاني ترتيب الآثار على البيع الواقع بواسطة إثبات كونه واقعا في حال بقاء الإذن ، فيكون الأصل حينئذ مثبتا لا محالة.

الرجوع. أمّا في البيع ، فلأنّ الشكّ إنّما وقع في رضا من له الحقّ وهو المرتهن ، وقد تقدّم أنّ صحّة الإيجاب والقبول لا يقضي بتحقّق الرضا ممّن يعتبر رضاه ، سواء كان مالكا كما في بيع الفضولي أم كان له حق في المبيع كالمرتهن.

وأمّا في الإذن ، فلما عرفت من أنّ صحّته تقضي بصحّة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه لا بوقوعه عقيبه ، كما أنّ صحّة الرجوع تقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ، لا أنّ البيع وقع بعده. والمسألة بعد محتاجة إلى التأمّل بعد التتبّع في كلمات الأصحاب.

الرابع : أنّ مقتضى الأصل ترتيب (٢٦٩٨)

______________________________________________________

٢٦٩٨. توضيحه : أنّ الفعل المشكوك الصحّة والفساد لا بدّ أن يكون له نوعان : صحيح وفاسد ، حتّى يفرض التردّد في الفرد المشتبه بينهما. وما يترتّب على الصحيح منهما من الآثار الشرعيّة لا يخلو : إمّا أن يكون ترتّبها عليه من حيث كونه فعلا للفاعل ، وإمّا أن يكون أعمّ من ذلك ، بأن كانت للفعل جهتان : جهة صدور عن الفاعل ، وجهة وقوع عن الغير ، إمّا بالتسبّب والنيابة ، كالنيابة في الحجّ عن العاجز والصلاة عن الميّت ، أو بالآليّة كالموضّئ للعاجز عن المباشرة في الوضوء. وتختلف الآثار باختلاف الجهتين كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ولا إشكال في خروج ما لم يكن له صحيح ـ كالغسل بالفتح من حيث هو ـ من محلّ النزاع.

ولكن في التمثيل به للمقام نظر ، إذ صحيح الفعل من المعاملات ما ترتّب عليه أثره الشرعيّ ، وفاسده ما لم يترتّب عليه ذلك. ولا ريب أنّ الغسل ـ بالفتح ـ إن وقع على الوجه المعتبر شرعا ترتّب عليه أثره ، سواء كان الإتيان به بعنوان التطهير أم لا ، وإن لم يقع كذلك لم يقع عليه ذلك ، فلا وجه لإخراجه من محلّ النزاع ، وإدخال ما كان بعنوان التطهير ، لعدم مدخليّة قصد العنوان في تنوّع الغسل على نوعيه من الصحيح والفاسد ، لأنّ ملاقاة النجس مع الرطوبة كما أنّها سبب للتنجّس ، من دون مدخليّة قصد التنجيس كذلك الغسل المعتبر شرعا سبب

.................................................................................................

______________________________________________________

لحصول الطهارة من دون مدخليّة قصد التطهير في ذلك. ومقايسته على العمل المأتيّ به بصورة العبادة ـ من صلاة أو طهارة أو نسك حجّ ـ من دون علم بقصد تحقّق هذه العبادات قياس مع الفارق ، إذ عدم صحّة الحمل على الصحيح في هذه الموارد إنّما هو لعدم تحقّق عنوان الموضوع ، لعدم صدق أسامي هذه العبادات مع عدم قصد عنواناتها ، وإن قلنا بكونها أسامي للأعمّ من الصحيحة ، وسيجيء عدم إمكان إحراز عنوان الموضوع بهذه القاعدة. فالحمل على الصحيح فرع إحراز عنوان الفعل المشكوك الصحة والفساد ، فما لم يحرز عنوانه لا يصحّ حمله عليه ، ومن هنا يحصل الفارق ، ويبطل القياس. وأمّا القسم الأوّل ، أعني : ما كان ترتّب الأثر عليه من حيث صدوره عن الفاعل ، كالعقود والإيقاعات وأكثر العبادات وغيرها ، لأن ترتّب النقل والانتقال ونحوهما على العقد الصحيح ، وكذا حصول براءة الذمّة والخروج من عهدة التكليف على العبادة الصحيحة ، إنّما هو من حيث كونها فعلا له. ومن هذا القسم الوكالة في أبواب المعاملات ، لأنّ ترتّب الأثر على فعل الوكيل إنّما هو من حيث كونه فعلا له ، وإن كان فعله لأجل الموكّل وبإذنه ، إلّا أن هذا لا يوجب كون فعله عوضا وبدلا منه ، لأنّ هذه الحيثيّة ملغاة في فعله من حيث ترتّب الأثر عليه. واولى من الوكالة الواجبات الكفائيّة ، كالصلاة على الميّت وغسله وكفنه ونحوها ، لأنّ سقوط الوجوب عن الغير بفعل من يقوم به إنّما هو من حيث هو فعله ، لا من حيث كونه بدلا من فعل الغير ، فإذا شكّ في صحّة بعض هذه الأفعال وفسادها ، فلا إشكال في الحمل على الصحّة وترتيب آثارها عليه. وأمّا القسم الثاني ، فكالأفعال التي يستناب فيها عن الغير ، كما في الحجّ عن العاجز وعن الميّت ، وقضاء الفوائت عنه ، والاستنابة في طلب الماء والتراب عمّن يعجز عن طلبهما للوضوء والتيمّم ، فإنّ لهذه الأفعال جهة صدور ووقوع تختلف الآثار باختلافهما ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وهو رحمه‌الله وإن استوفي الكلام في هذا القسم ، إلّا أنّا نشير إلى جملة القول في مستنده ، ونقول : إنّ عمدة

الشاكّ جميع ما هو من آثار الفعل الصحيح عنده ، فلو صلّى شخص على ميّت سقط عنه ، ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير حكم بطهارته وإن شكّ في شروط الغسل من إطلاق الماء ، ووروده على النجاسة ، لا إن علم بمجرّد غسله ؛ فإنّ الغسل من حيث هو ليس فيه صحيح وفاسد ؛ ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من

______________________________________________________

الأدلّة على اعتبار القاعدة هي السيرة المستمرّة بين المسلمين ، والمتيقّن منها في المقام هو حمل الفعل المشكوك الصحّة والفساد الذي له جهة صدور ووقوع على الصحّة ، بمعنى ترتيب آثار جهة الصدور خاصّة فيما لم تعلم جهة وقوعه. ومن هنا يفرّق بين الجهتين وإن كانت الصحّة من حيث الوقوع ملازمة لها من حيث الصدور بحسب نفس الأمر. ومن هنا يندفع المنافاة بين اعتبار القاعدة من باب الظنّ النوعي الناشئ من ظهور حال المسلم أو الغلبة ، وعدم نهوضها لإثبات اللازم غير الشرعيّ ، وهو كون الفاعل في مقام إبراء ذمّة المنوب عنه ، فإنّ الظنّ بالملزوم وإن استلزم الظنّ بلازمه أيضا ، إلّا أنّ دليل اعتباره لمّا كان غير لفظيّ فلا بدّ فيه من الأخذ بالمتيقّن الذي عرفته.

ومن هنا قد أفتى جماعة باشتراط عدالة النائب ، بل ادّعى بعض مشايخنا اتّفاق الأصحاب عليه في الحكم بحصول براءة ذمّة المنوب عنه ، بخلاف الوكيل ، كما هو واضح ممّا قدّمناه ، لأنّ فعل الوكيل لما كان ذا جهة واحدة يمكن إحرازها بالحمل على الصحّة بعد العلم بصدور الفعل عنه إمّا بالمشاهدة والوجدان أو بإخباره ، لاعتبار خبره إجماعا وإن كان فاسقا ، بخلاف النائب ، فإنّه لما لم يثبت اعتبار إخباره عن إيقاعه للفعل فيما لم يعلم ذلك منه أو عن جهة وقوعه فيما علم إيقاعه له أو مطلقا ، فاعتبروا العدالة في سماع قوله في ذلك. نعم ، لا فرق فيه بين إخباره الفعلي والشأني ، بأن يستدلّ بظاهر أفعاله على إيقاعه له وعلى جهة وقوعه بأن يطالب الأجرة أو كان في مقام المطالبة بعد مضي زمان العمل أو نحو ذلك ، وهذا التعميم مستفاد من الشرع. والمقام بعد لا يصفو عن شوب إشكال ،

صلاة أو طهارة أو نسك حجّ ، ولم يعلم قصده تحقّق هذه العبادات ، لم يحمل على ذلك. نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه أمكن قبول قوله من حيث إنّه مخبر عادل ، أو من حيثيّة اخرى (٢٦٩٩).

وقد يشكل الفرق بين ما ذكر من الاكتفاء بصلاة الغير على الميّت بحمله على الصحيح ، وبين الصلاة عن الميّت تبرّعا أو بالإجارة ، فإنّ المشهور عدم الاكتفاء بها إلّا أن يكون عادلا.

ولو فرّق بينهما بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام إبراء الذمّة وإتيان الصلاة على أنّها صلاة ؛ لاحتمال تركه لها بالمرّة ، أو إتيانه بمجرّد الصورة لا بعنوان أنّها صلاة عنه ، اختصّ الإشكال بما إذا علم من حاله كونه في مقام الصلاة وإبراء ذمّة الميّت ، إلّا أنّه يحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ، كما يحتمل ذلك في الصلاة على الميّت ، إلّا أن يلتزم بالحمل على الصحّة في هذه الصورة.

ولهذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط المعتبرة في المباشر. ولهذا الاعتبار قد حكم بعضهم باشتراط العدالة فيمن يوضّئ العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّئ صحيحا ؛ ولعلّه لعدم إحراز كونه في مقام إبراء ذمّة العاجز ، لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه.

ويمكن أن يقال فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير المكلّف بالعمل أوّلا وبالذات كالعاجز عن الحجّ : إنّ لفعل النائب عنوانين : أحدهما من حيث إنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط المعتبرة في المباشر (٢٧٠٠) ، وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور

______________________________________________________

كما سنشير إليه في بعض الحواشي الآتية.

٢٦٩٩. كحمل قوله على الصحّة ، أو كون ذلك ممّا لا يعلم إلّا من قبله غالبا.

٢٧٠٠. كالجهر والإخفات وستر العورة لا جميع البدن في نيابة الرجل عن المرأة ، وكذا العبرة في صورة العكس بحال المرأة دون الرجل المنوب عنه.

الفعل الصحيح منه ، مثل : استحقاق الاجرة ، وجواز استيجاره ثانيا بناء على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحّة استيجاره ثانيا.

والثاني : من حيث إنّه فعل للمنوب عنه ، حيث إنّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب (٢٧٠١) أو الآلة (٢٧٠٢) ، وكان الفعل بعد قصد النيابة والبدليّة قائما بالمنوب عنه (٢٧٠٣) ، وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر والإتمام في الصلاة ، والتمتّع والقران في الحجّ ، والترتيب في الفوائت.

والصحّة من الحيثيّة الاولى لا تثبت الصحّة من هذه الحيثيّة الثانية (٢٧٠٤) ، بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب. وبعبارة اخرى إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه ، من حيث إنّه فعل الغير ، كفت أصالة الصحّة في السقوط ، كما في الصلاة على الميّت.

______________________________________________________

٢٧٠١. كما في مثال الاستئجار للحجّ.

٢٧٠٢. كما في مثال الوضوء.

٢٧٠٣. الأولى رفع «قائما» وقراءة «كأنّ» بتشديد النون ليفيد تنزيل فعل النائب منزلة فعل المنوب عنه ، لوضوح عدم كونه عينه.

٢٧٠٤. لا يخفى أنّ اشتراط العدالة لا يدفع الإشكال الوارد على الفرق بين الصلاة على الميّت والصلاة عنه ، إذ لو كان اشتراطها لإثبات الصحّة من الحيثيّة الثانية بعد إحراز كونه في فعله في مقام الإبراء بإخباره ، وجب عدم اشتراطها فيما علمنا بكونه في مقام الإبراء من دون إخباره ، وهو خلاف ظاهر مشترطي العدالة. وكذا لا بدّ أن يجب الاستخبار والاستعلام عن النائب في الإتيان بالفعل أو في كونه في مقام الإبراء ، وهو خلاف السيرة المستمرّة بينهم ، لأنّ الظاهر اكتفائهم في الخروج من عهدة التكليف باستيجار من ظاهره العدالة من دون استعلام بعده عن الإتيان بالفعل أو كونه في مقام الإبراء ، ولا كونه في مقام مطالبة الاجرة الذي هو في معنى الإخبار من النائب ، كما أشرنا إليه سابقا.

وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له (٢٧٠٥) ولو على وجه التسبيب ـ كما إذا كلّف بتحصيل فعل بنفسه أو ببدن غيره ، كما في استنابة العاجز للحجّ (٢٧٠٦) ـ لم تنفع أصالة الصحّة في سقوطه ، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين ، فيحكم باستحقاق النائب الاجرة وعدم براءة ذمّة المنوب عنه من الفعل ، وكما في استيجار الوليّ للعمل عن الميّت. لكن يبقى الإشكال في استيجار الوليّ للعمل عن الميّت ؛ إذ لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ. وبراءة ذمّة الميّت من آثار صحّة فعل الغير من حيث هو فعله (٢٧٠٧) لا من حيث اعتباره فعلا للولي ، فلا بدّ أن يكتفى فيه بإحراز إتيان صورة الفعل بقصد إبراء ذمّة الميّت ، ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الأخر (٢٧٠٨). ولا بدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبّع التامّ في كلمات الأعلام.

الخامس : أنّ الثابت من القاعدة المذكورة (٢٧٠٩)

______________________________________________________

٢٧٠٥. أي : للمكلّف المستنيب.

٢٧٠٦. لتكليفه بالمباشرة أوّلا وبالذات ، وبتحصيله ببدن الغير عند العجز عن المباشرة.

٢٧٠٧. في بعض النسخ بدله قوله : «وكما في استئجار الوليّ للعمل عن الميّت». ووجه الإشكال عدم تأتّي الحيثيّتين ، واعتبار الجهتين في استئجار الوليّ من قبل نفسه عمّا وجب عليه من قبل الميّت ، مع كون الأجير نائبا عنه ، وكونه مكلّفا بتحصيل الفعل بنفسه أو ببدن غيره ، كما في استئجار العاجز في الحجّ وإن لم نقل بالترتيب واعتبار العجز هنا.

٢٧٠٨. يعني : فعل الميّت.

٢٧٠٩. توضيح الكلام يقع في مقامين : أحدهما : أنّ الثابت بقاعدة الحمل على الصحّة هل هو مجرّد ترتّب أثر الفعل الصحيح عليه ، أو يثبت بها كون الفعل أيضا صحيحا؟ وبعبارة اخرى : أنّ الثابت بها مجرّد الحكم أو موضوعه الذي

.................................................................................................

______________________________________________________

يترتّب عليه ، أعني : كون الفعل صحيحا. وتظهر الثمرة في تعارض الاستصحاب معها كما سيجيء ، فيتعارضان على الأوّل ، وتقدّم عليه من باب الحكومة على الثاني. وثانيهما : أنّها تثبت متعلّقات الفعل وقيوده أيضا ، أم مجرّد وصف الصحّة. فإذا تنازع المتعاقدان ، فادّعى أحدهما كون المبيع حرّا ، والآخر كونه عبدا مع أوصاف كذا ، أو ادّعى أحدهما كونه ميتة والآخر دابّة مع أوصاف كذا ، وهكذا ، فهل يحكم مع الحكم بصحّة العقد بكون المبيع عبدا مع أوصافه المدّعاة أو دابّة كذلك ، حتّى يجب على البائع الخروج من عهدة جميع ذلك بمجرّد الحمل على الصحّة ، أو الثابت به مجرّد صحّة العقد حتّى يثمر ذلك في مجرّد تقديم قول مدّعي الصحّة؟ فيثبت به شيء مجهول في ذمّة البائع ، ويلزم على المشتري إقامة البيّنة على إثبات كلّ قيد أخذه في دعواه. فيجب عليه فيما اختلفا في كون المبيع عبدا أو حرّا إقامة البيّنة على كونه عبدا ، لصحّة تعلّق العقد بغيره أيضا من الأموال. فمجرّد ثبوت شيء في ذمّة البائع لا يثبت كونه عبدا. وكذا فيما اختلفا في كونه عبدا معيّنا أو حرّا لا يكفي مجرّد الحمل على الصحّة في إثبات المدّعى ، بل لا بدّ من إقامة البيّنة على كونه هذا العبد دون ذلك. وهكذا بالنسبة إلى الأوصاف المدّعاة.

أمّا المقام الأوّل ، فالظاهر فيه أنّ الثابت بالقاعدة هو الموضوع لا مجرّد الحكم وترتّب الآثار ، لما سنشير إليه من كون اعتبار القاعدة من باب ظهور حال المسلم كما هو ظاهر الأكثر ، أو الظهور الناشئ من الغلبة كما حكي عن بعضهم ، لا من باب الاصول بل ربّما يستظهر الاتّفاق عليه ، ولا ريب أنّ مقتضى الظهور المذكور هي صحّة الفعل.

وأمّا المقام الثاني ، فلم أقف على كلام في ذلك من الفقهاء ، إلّا العلّامة في قواعده على ما حكاه المصنّف رحمه‌الله من عبارتها ، وسوى ولده فخر الدين وشارحه المحقّق الثاني. قال في الإيضاح في بيان ما تنظّر فيه في القواعد : «منشؤه من أنّه يدّعي الصحّة ، والمالك يدّعي البطلان ، فيقدّم قول مدّعي الصحّة ، ومن أصالة عدم إجارة سنة ، والأصل أنّه إذا ادّعى مدّعي الصحّة بزيادة يتضمّنها ، والأصل

.................................................................................................

______________________________________________________

عدمها ، هل يكون القول قوله ، لإطلاق الأصحاب ، أم لا لأصالة العدم؟ الأولى (*) الثاني ، فيتعارضان فيقدّم قول نافي الزيادة. وإنّما قدّم قول مدّعي الصحّة قطعا فيما لم يشتمل الصحّة على زيادة ، كما إذا ادّعى أحدهما إجارة كلّ شهر بدينار ، وادّعى الآخر إجارة شهر واحد معيّن بدينار» انتهى. وقال في جامع المقاصد : «ينشأ من أنّه مدّع للصحّة ، وهي موافقة للأصل ، فيكون هو المنكر ، فيقدّم قوله باليمين ، ومن أنّه مع ذلك يدّعي أمرا زائدا ، وهو استئجاره سنة بدينار ، والمالك ينكره ، فلا يقدّم قوله فيه ، لأنّ الأصل عدمه ، ولأنّ الامور المعتبرة في العقد لم يقع الاتّفاق عليها ، فلم يثبت سببيّته ، وتقديم قول مدّعي الصحّة فرع ذلك ، كما حقّقناه في المسألة السابقة ، فعدم تقديم قوله أوجه» انتهى.

ولكنّك خبير بأنّ ظاهر كلمات هؤلاء الجماعة ممّن تقدّم عليهم أو تأخّر عنهم ـ سوى صاحب الكفاية على ما حكي ـ في مسألة اختلاف المتبايعين في كون المبيع حرّا أم عبدا أو كونه خمرا أو خلّا أو ما أشبه ذلك ، يعطي خلاف ما قدّمناه ، لأنّ ظاهرهم الحكم بكون المبيع عبدا أو خلّا بمجرّد الحمل على الصحّة ، وهو أيضا أمر زائد على صحّة العقد ، لأنّها أعمّ من تعلّقه بما يدّعيه مدّعي الصحّة في الواقع كما تقدّم. ولم يظهر من أحدهم إلزام مدّعي الصحّة على إقامة البيّنة على كون المبيع هو العبد مثلا ، لكونه مدعيا لأمر زائد.

ودعوى كون كلماتهم هذه منساقة لمجرّد بيان تقديم قول مدّعي الصحّة ، مع قطع النظر عن لزوم إقامة البيّنة عليه على ما يدّعيه من الأمر الزائد ، لكون ذلك موكولا على محلّ آخر ، وهو محلّ بيان لزوم إقامة البيّنة على من يدّعي أمرا على آخر ، في غاية البعد ، كإثبات كون المبيع هو العبد أو الخلّ مثلا بمجرّد الحمل على

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «هكذا في النسخة التي عندي من الإيضاح. منه». والعبارة في الإيضاح كما هي هنا ، انظر الإيضاح الفوائد ج ٢ : ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة على العمل الصحيح ، أمّا ما يلازم الصحّة من الامور الخارجة عن حقيقة الصحيح فلا دليل على ترتّبها عليه. فلو شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك ـ كالخمر والخنزير ـ أو بعين من أعيان ما له ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع لأصالة عدمه. وهذا نظير ما ذكرنا سابقا من أنّه لو شكّ في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ، يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ، لا فعل الظهر من حيث هو حتّى لا يجب إتيانه ثانيا ، إلّا أن يجري قاعدة الشكّ في الشيء بعد التجاوز عنه.

______________________________________________________

الصحّة على ما استظهرناه من كلماتهم ، وهو واضح عند المتأمّل.

فإن قلت : إنّ الوجه في الحكم بكون المبيع هو العبد أو الخلّ بمجرّد الحمل على الصحّة ، إنّما هو اتّفاق المتعاقدين على وقوع العقد على أحد الأمرين ، فإذا انتفى احتمال أحدهما بالقاعدة ثبت الآخر لا محالة. قلت : إنّ الأمر في عقد الإجارة ـ الذي أشار إليه العلّامة أيضا ـ كذلك ، فلا يصلح ذلك توفيقا بين كلماتهم. ثمّ إنّه يمكن أن يفصّل في المقام بوجه آخر تمكن دعوى استمرار السيرة على طبقه ، بأن يقال : إنّ ما يقع من جهته التنازع بين المتنازعين إن كان ممّا تنوط به صحّة العقد وفساده ، كفقد الشرط المعتبر أو وجود الشرط المفسد ، يحمل على الصحّة ، بمعنى ترتيب آثار الجامع ، لوجود الشرط المتنازع فيه أو فقد المانع كذلك. وإن كان ممّا لا يكون له مدخل في الصحّة والفساد ، كما إذا اختلفا في كون المبيع حرّا أو عبدا عالما بالقرآن مثلا ، فإن المدّعي قد أخذ في دعواه قيدين : أحدهما : كونه عبدا ، والآخر : كونه عالما ، فيحمل العقد على الصحّة من جهة الأوّل دون الثاني ، لعدم مدخليّته في الصحّة والفساد ، فيلزم المشتري على إقامة البيّنة عليه.

ومن هنا يظهر الوجه في حكم المشهور فيما اختلفا في كونه عبدا أو حرّا أو في كونه خمرا أو خلّا ، بكون المبيع عبدا أو خلّا بالحمل على الصحّة. وكذا يظهر أنّ الوجه فيما نقله المصنّف رحمه‌الله عن قواعد العلّامة هو الحكم بكون مدّة الإجارة سنة من دون حكم بكون الاجرة دينارا ، لاختلاف صحّة الإجارة و

قال العلّامة في القواعد في آخر كتاب الإجارة : لو قال : آجرتك كلّ شهر بدرهم من غير تعيين ، فقال : بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر ، فإن قدّمنا قول المالك فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل. وكذا الإشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى اجرة مدّة معلومة أو عوضا معيّنا ، وأنكر المالك التعيين فيهما. والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى (٢٧١٠) ، انتهى.

______________________________________________________

فسادها بتعيين المدّة وعدمه ، بخلاف الاجرة لتعيّنها على التقديرين ، فلا تختلف صحّتها وفسادها بكونها دينارا أو درهما في كلّ شهر. فيلزم على من ادّعى كونها دينارا إقامة البيّنة عليه ، وإلّا لزمته اجرة المثل إن لم تكن أقلّ من الدينار ، وإلّا فيلزم مقدار الدينار لاعترافه به. وعلى ما ذكرناه من التفصيل تدلّ السيرة المستمرّة بين المسلمين التي هي العمدة في إثبات القاعدة ، ولذا ترى أنّهم لا يشكّون في الحمل على الصحّة فيما اختلفوا في كون المبيع حرّا أو عبدا ، بخلاف ما لو اختلفوا في اشتراط العلم بالقرآن بعد اتّفاقهما على كونه عبدا.

٢٧١٠. كما لو قال : آجرتك كلّ شهر بدينار ، فقال : بل شهرا واحدا بدينار ، كما تقدّم في كلام الفخر في الحاشية السابقة ، لعدم تضمّن دعوى مدّعي الصحّة حينئذ لدعوى زائدة.

ثمّ اعلم أنّ في المقام أمرين لا بدّ في تتميم القاعدة من التنبيه عليهما : الأوّل : أنّ اعتبار القاعدة هل هو من باب الظهور ، أو التعبّد المحض؟ وبعبارة اخرى : هل هي من الأدلّة الاجتهاديّة الكاشفة عن الواقع ، أو من الأدلّة الفقاهيّة؟ وتظهر الثمرة في تعارضها مع ما عدا استصحاب الفساد من الاستصحابات الموضوعيّة على ما سيأتي ، فتقدّم القاعدة عليها على الأوّل كسائر الأدلّة الاجتهاديّة ، ويقع التعارض بينهما على الثاني. وإنّما استثنينا استصحاب الفساد لتقدّمها عليه مطلقا ، وإن قلنا باعتبارها من باب الاصول ، لكونها مجعولة في مقابله في جميع موارد جريانها ، لوضوح معارضة استصحاب الفساد مع أصالة الصحّة في مواردها ، فلو لم تكن

.................................................................................................

______________________________________________________

مقدّمة عليه لزم إلغائها. وظاهر الأصحاب اعتبارها من باب الظهور ، كما يشهد به تعبيرهم في أبواب الفقه بظاهر حال المسلم ، بل هو صريح الشهيد الثاني ، حيث جعل تعارضها مع سائر الاصول من جملة موارد تعارض الأصل والظاهر ، قال : «الرابع : ما اختلف في ترجيح الظاهر فيه على الأصل أو العكس ، وهو امور». وعدّ من جملتها ما بأيدي المخالفين من الجلد واللحم «فالمشهور بين الأصحاب أنّه طاهر مطلقا ما لم يحكم بكفر من بيده منهم ، وبه نصوص كثيرة مؤيّدة بظاهر حال المسلم من تجنّبه للمحرّم والنجس والميتة. وقيل يحكم بنجاسته لأصالة عدم التذكية ، مع عدم اشتراطهم بجميع ما نشترط من الامور المعتبرة في التذكية ، كالتسمية والقبلة واستحلالهم بجلد الميتة بالدبغ. ويعضده أيضا ظاهر حالهم في ذلك». وعدّ أيضا منها اختلاف المتعاقدين ببيع وغيره في بعض شرائط صحّته «كما لو ادّعى البائع أنّه كان صبيّا أو غير مأذون له أو غير ذلك ، وأنكر المشتري ، فالقول قوله على الأقوى ، وإن كان الأصل عدم اجتماع الشرائط ، عملا بظاهر حال المسلم من إيقاعه العقد على وجه الصحّة. وكذا القول في الإيقاعات. ويمكن ردّه إلى تعارض الأصلين ، وقد تقدّم» انتهى.

ثمّ إنّه على تقدير اعتبارها من باب الظهور ، فهل هو من باب ظهور حال المسلم وإمضاء الشارع لظاهر حالهم ، نظرا إلى كونه مقتضى التديّن بدين الإسلام ، كما هو ظاهر تعبيراتهم على ما عرفت ، أو من باب غلبة الصحّة في أفعال المسلمين؟ كما يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله في سؤاله وجوابه في مسألة اختلاف الزوجين ، بأن ادّعت الزوجة وقوع العقد من دون إذنها ، أو كون إذنها في حال صغرها أو جنونها. ولكلّ وجه. نعم ، احتمال كون اعتبارها من باب التعبّد ضعيف جدّا.

الثاني : أنّ في اختصاص القاعدة بأفعال المسلمين ، أو عمومها لأفعال الكفّار أيضا قولان. وظاهر المشهور من حيث تعبيرهم بما عرفته في الأمر الأوّل. هو الأوّل وصريح كاشف الغطاء كما تقدّم عند بيان الأصل في هذه القاعدة هو الثاني ، بمعنى

.................................................................................................

______________________________________________________

كون أفعال الكفّار محمولة على الصحّة بحسب اعتقادهم كما صرّح به والدليل على هذا التعميم استمرار السيرة بين المسلمين في الأعصار والأقطار على حمل أفعالهم على الصحّة ، ولذا تراهم لا يتأمّلون في معاملاتهم مع الكفّار في كون المبيع أو الثمن المأخوذ منهم ملكا لهم على معتقدهم وعدمه. ولكنّ التحقيق هو الأوّل ، لأنّ الصحّة المبحوث عنها في المقام هي الصحّة الواقعيّة ، وما استقرّت عليه السيرة في أفعال الكفّار هي الصحّة بحسب معتقدهم ، وإن كان الفعل فاسدا في الواقع ، فيحمل الفعل المشكوك الصحّة على معتقدهم على الصحّة كذلك لا الواقع. فهنا قاعدتان : إحداهما : حمل فعل المسلم على الصحّة الواقعيّة ، والاخرى : حمل فعل الكفّار على الصحّة على حسب معتقدهم. ولكن لا ثمرة لهذا الخلاف ، لجواز المعاملة معهم ولو مع العلم بكون المبيع أو الثمن المأخوذ منهم مكتسبا على حسب معتقدهم المخالف لطريقتنا ، سواء قلنا بعموم القاعدة أم لا.

ثمّ إنّه على تقدير عدم شمولها لأفعال الكفّار ، ففي جريانها في أفعال الكفرة من المخالفين كالنواصب والخوارج ، من حيث الحمل على الصحّة الواقعيّة أو الصحّة بحسب معتقدهم وجهان ، من عموم السيرة الجارية بين المسلمين ، فإنّ الشيعة وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يعاملون مع هذه الفرق ـ من حيث حمل أفعالهم على الصحّة ، مع غلبتهم ، سيّما في زمان معاوية وبني العبّاس لعنهم الله ـ كمعاملة بعضهم مع بعضهم ، من دون نكير من أحد من الأئمّة عليهم‌السلام مع طول المدّة عليهم ، ومن أنّ السيرة من حيث كونها من قبيل الأفعال التي لا دلالة فيها على جهة وقوعها ، يحتمل كون معاملة الشيعة معهم كمعاملتهم مع الكفّار من حيث حمل أفعالهم على الصحّة بحسب معتقدهم.

نعم ، الظاهر أنّ أفعال سائر الفرق من المخالفين ممّن لا يحكم بكفره ظاهرا ، وإن كانوا أنجس من الكلاب الممطورة في الواقع ، محمولة ـ كما هو ظاهر العلماء ـ على الصحّة الواقعيّة كالمؤمنين ، بل ظاهرهم ترتّب الأحكام المرتّبة على عنوان الإسلام ـ من وجوب الغسل والتكفين والدفن وصلاة الميّت ، وجواز تملّك

السادس : في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب ، فنقول : أمّا تقديمه على استصحاب الفساد (٢٧١٢)

______________________________________________________

القرآن والعبد المسلم أو نحو ذلك ـ عليهم أيضا. نعم ، لهم كلام في جواز مناكحتهم كما لا يخفى ، بخلاف الفرق المحكوم بكفرهم من المخالفين ، لأنّ ظاهرهم كونهم كالكفّار في هذه الأحكام ، حيث يستثنونهم عند ذكر هذه الأحكام ، وكذا في مسألة الطهارة فيما يعتبر فيه العلم أو يد المسلم. فحاصل المقام : أنّ المتيقّن من الحمل على الصحّة الواقعيّة هو أفعال الفرقة الناجية ، وسائر الفرق غير المحكوم بكفرهم من المخالفين. وأمّا المحكوم بكفرهم ففي أفعالهم وجهان. وأمّا الكفّار فأفعالهم محكومة بالصحّة على معتقدهم.

٢٧١١ (*). يعني : من المقامات التي أشار إليها في أوّل المسألة الثالثة بقوله : «إلّا أنّ معرفة مواردها ، ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ، ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول ...» ، وحيث ظهر الحال في المقام الأوّل والثاني في الامور المتقدّمة أشار هنا إلى المقام الثالث بقوله : «المقام الثالث».

٢٧١٢. لا يخفى أنّ مراد المصنّف رحمه‌الله في المقام بيان حال تعارض القاعدة تارة مع الاستصحابات الحكميّة الموجودة في موردها ، واخرى مع الاستصحابات الموضوعيّة ، أعني : استصحاب الامور التي يترتّب عليها الفساد وجودا أو عدما. ولعلّ المراد باستصحاب الفساد حينئذ استصحاب عدم ترتّب الآثار الوضعيّة ـ من النقل والانتقال ، وبقاء كلّ من العوضين على ملك مالكه ، ونحو ذلك ـ على المعاملة المشكوكة الصحّة والفساد ، وبقوله «ونحوه» مثل استصحاب حرمة تصرّف كلّ منهما في مال صاحبه. فإن قلت : إنّ الشكّ في فساد العقد وترتّب الآثار عليه لا بدّ أن يكون ناشئا من الشكّ في الموضوع ، مثل البلوغ والعقل و

__________________

(*) هذا سهو من قلمه الشريف ، لأنّ المقامات الثلاث لم تذكر في المسألة الثالثة ، بل إنّما ذكرت في باب تعارض الاستصحاب مع الأمارات والاصول.

.................................................................................................

______________________________________________________

الرشد في المتعاقدين أو أحدهما وكون العوضين أو أحدهما ملكا أو طاهرا ، أو نحو ذلك ممّا يعتبر في صحّة العقد ، فاستصحاب عدم هذه الامور حاكم على استصحاب الفساد وإن توافق مؤدّاهما ، فلا مورد لاستصحاب الفساد حتّى يفصّل بينهما في معارضتهما مع القاعدة. قلت : قد يسلّم استصحاب الفساد في بعض الموارد من الاستصحاب الموضوعي ، فينفرد لمعارضة القاعدة ، كما إذا اختلف الزوجان في وقوع العقد في الإحرام أو الإحلال ، فبعد تعارض استصحاب عدم وقوعه في كلّ من الإحرام والإحلال بقي استصحاب الفساد معارضا للقاعدة.

هكذا ذكره بعض مشايخنا. وفيه نظر ، لأنّ صحّة العقد مرتّبة على عدم وقوعه في حال الإحرام لا على وقوعه في حال الإحلال ، لعدم كون ذلك شرطا في صحّته ، بل وقوعه في حال الإحرام مانع منها ، فأصالة عدمه تكون حاكمة على أصالة الفساد ، لفرض عدم جريان أصالة عدم وقوعه في حال الإحلال ، لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه. فالأولى أن يمثّل لذلك بما إذا اختلف الزوج والمطلّقة الرجعيّة ، فادّعى الرجوع قبل انقضاء العدّة ، وادّعت وقوعه بعده ، فبعد تعارض أصالة عدم الرجوع في زمان العدّة وأصالة عدم انقضاء زمان العدّة قبل الرجوع ، تبقى أصالة الفساد معارضة مع القاعدة اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ عدم تجدّد علاقة الزوجيّة بعد الطلاق مرتّب على عدم وقوع الرجوع في زمان العدّة ، والأصل الأوّل يثبته وإن لم يثبت وصف تأخّر الرجوع عن زمان العدّة ، بخلاف تجدّدها ، فإنّه مرتّب على إحراز وقوعه فيه ، والأصل الثاني لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة ، فيكون الأصل الأوّل أيضا حاكما على أصالة الفساد.

ويمكن أن يقال : إنّ فرض التعارض بين الاستصحاب الحكمي والموضوعي وبين القاعدة إنّما هو مع الإغماض عن حكومة الاستصحاب الموضوعي على الحكمي ، تنبيها على موارد التعارض ، وتمييزا لما هو مضطرب كلمات الأصحاب ، لأنّ محلّ كلامهم في تقديم القاعدة على الاستصحاب إنّما هو الاستصحاب الموضوعي دون الحكمي ، لعدم خلافهم في تقديمها على الحكمي ، كما صرّح به بعض مشايخنا ، ولعلّه

وما في معناه فواضح ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الحالة (٢٧١٣) السابقة على الفعل المشكوك أو ارتفاعها ناش عن الشكّ في سببيّة هذا الفعل وتأثيره ، فإذا حكم بتأثيره فلا حكم لذلك الشكّ ، خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل من الظواهر المعتبرة ، فيكون نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولا الحاكم على أصالة بقاء الطهارة.

وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعيّة المترتّب عليها الفساد ، كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن ـ فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب خصوصا العلّامة وبعض من تأخّر عنه.

والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر كما هو ظاهر كلمات جماعة بل الأكثر ، فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات. وإن جعلناه من الاصول : فإن اريد بالصحّة في قولهم (٢٧١٤): " إنّ الأصل الصحّة" نفس ترتّب

______________________________________________________

لذا لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله أيضا للخلاف فيه ، وإن كان دعوى الاتّفاق لا يخلو من تأمّل ، لما حكاه المصنّف رحمه‌الله في التنبيه الثاني عن العلّامة من فرض التعارض بينها وبين أصالة البراءة فضلا عن الاستصحاب.

٢٧١٣. مضافا إلى أنّ قاعدة الحمل على الصحّة معارضة لأصالة الفساد ، لأنّ الشارع إنّما جعلها في مقابلها ، فلو لم تكن مقدّمة عليها لزم إلغائها. وإلى أنّ أدلّة الاستصحاب أعمّ من موارد هذه القاعدة ، فلا بدّ أن تكون مخصّصة بأدلّتها. ثمّ إنّه لا فرق في قضيّة حكومة القاعدة على الاستصحاب بين أن نقول باعتبار كلّ منهما من باب التعبّد أو الظنّ النوعي أو بالاختلاف ، إذ بعد إثبات موضوع الحكم ـ وهي صحّة المعاملة شرعا ـ من باب التعبّد أو الظنّ النوعي يزول الشكّ عن ترتّب حكمه عليه ، فلا يكون موردا للاستصحاب ، وهو واضح.

٢٧١٤. حاصله : أنّ المراد بالصحّة إن كان مجرّد ترتيب آثار الفعل الصحيح تكون أصالة الصحّة حينئذ في عرض الاستصحابات الحكميّة ، فيقدّم عليها الاستصحاب الموضوعي من باب الحكومة. وإن كان المراد بها صحّة الفعل أيضا ، بمعنى إثبات كون الواقع فعلا صحيحا بأصالة الصحّة ، وإن لم تثبت بها الامور الخارجة من حقيقة الفعل

الأثر ، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب الموضوعيّ عليها ؛ لأنّه مزيل بالنسبة إليها.

وإن اريد بها كون الفعل بحيث يترتّب عليه الأثر بأن يكون الأصل مشخّصا للموضوع من حيث ثبوت الصحّة له ، لا مطلقا ، ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّ نظر من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع تثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ، فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة. وأصالة الحمل على الصحيح تثبت كون الواقع بيعا صادرا عن بالغ ، فيترتّب عليه الصحّة ، فتتعارضان.

لكنّ التحقيق : أنّ الحمل على الصحيح يقتضي كون الواقع (٢٧١٥) البيع الصادر عن بالغ ، وهو سبب شرعيّ في ارتفاع الحالة السابقة على العقد ، وأصالة عدم البلوغ لا توجب بقاء الحالة السابقة على العقد من حيث إحراز البيع الصادر عن غير بالغ بحكم الاستصحاب ، لأنّه لا يوجب الرجوع إلى الحالة السابقة على هذا العقد ؛ فإنّه ليس ممّا يترتّب عليه وإن فرضنا أنّه يترتّب عليه آثار أخر ؛ لأنّ عدم المسبّب من آثار عدم السبب لا من آثار ضدّه ، فنقول حينئذ : الأصل عدم وجود السبب ما لم يدلّ دليل شرعيّ على وجوده.

وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع مستند إلى عدم السبب الشرعيّ ، فإذا شكّ فيه بني على البقاء وعدم وجود المسبّب ، ما لم يدلّ دليل على كون الموجود المردّد بين السبب وغيره هو السبب ، فإذن لا منافاة بين الحكم بترتّب

______________________________________________________

الصحيح ، كما تقدّم في التنبيه الخامس ، تكون أصالة الصحّة حينئذ في عرض سائر الاستصحابات الموضوعيّة ، فيقع التعارض بينهما في وجه على ما حقّقه في المتن.

٢٧١٥. في بعض (*) النسخ بدله : إنّ الحمل على الصحيح يقتضي كون

__________________

(*). في هامش الطبعة الحجريّة : «عبارة المتن هكذا : لكنّ التحقيق أنّ أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد ، لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد من غير البالغ ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فإنّ بقاء الآثار السابقة للعوضين مستند إلى عدم السبب الشرعيّ ، فالحمل يقتضي ... إلى آخر ما ذكره. وبدله هكذا : لكنّ التحقيق أنّ الحمل علي الصحّة يقتضي ... إلى آخر ما ذكره. منه».

.................................................................................................

______________________________________________________

الواقع .... ثمّ إنّ حاصل ما ذكره : أنّ قاعدة الحمل ـ على ما هو التحقيق وفاقا لظاهر الأكثر من كون اعتبارها من باب الظهور النوعي ـ يقتضي كون الواقع بيعا صادرا عن بالغ ، وهو سبب شرعيّ لارتفاع الحالة السابقة على العقد المشكوك الصحّة والفساد ، من كون المبيع ملكا للبائع والثمن للمشتري. وأمّا استصحاب عدم البلوغ فهو يوجب بقاء الحالة السابقة على العقد ، من بقاء المبيع في ملك البائع والثمن في ملك المشتري ، لكن لا من حيث إثبات تحقّق ذلك في ضمن كون الواقع بيعا صادرا عن غير بالغ بحكم استصحاب الحالة السابقة ، لأنّ عدم الانتقال المرتّب في السابق على عدم البلوغ مرتّب عليه من حيث عدم صدور البيع عن البالغ لا من حيث صدوره عن غير بالغ ، لأنّ عدم المسبّب يستند إلى نقيض السبب وهو عدم صدور البيع عن بالغ ، لا إلى ضدّه وهو صدوره عن غير بالغ ، فالرجوع إلى الحالة السابقة والحكم ببقائها في ضمن السبب الفاسد لا يوجب بقاء الحالة السابقة ، لأنّ عدم الانتقال في ضمن تحقّق السبب الفاسد ليس من آثار عدم البلوغ في السابق كما عرفت حتّى يثبت باستصحابه ، وإن ترتّب على استصحابه آثار أخر. فالمتيقّن حينئذ استصحاب عدم السبب الشرعيّ ، بمعنى أن يكون المراد باستصحاب عدم البلوغ استصحاب عدم تحقّق السبب الشرعيّ ، وهو لا ينافي كون الواقع سببا شرعيّا بحكم القاعدة حتّى يحكم بالتعارض بينهما ، لأنّ الأوّل يقتضي عدم ترتّب الأثر ، لعدم العلم بتحقّق السبب الشرعيّ ، والثاني يقتضي ترتّبه عليه ، لدلالته على كون الواقع سببا شرعيّا. هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

ولكنّك خبير بأنّا إن سلّمنا كون مقتضى الاستصحاب إثبات كون الواقع بيعا صادرا عن غير بالغ ، أمكن دعوى حكومة القاعدة عليه أيضا ، نظير حكومة البيّنة عليه ، لأنّ المأخوذ في موضع الاستصحاب هو الشكّ ، وإن آل إلى الظنّ بالبقاء بعد ملاحظة الحالة السابقة على القول باعتباره من باب الظنّ ، والقاعدة كالبيّنة رافعة لهذا الشكّ ، ومبيّنة لكون الواقع بيعا صادرا عن بالغ.

الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن غير بالغ ، وترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن بالغ ؛ لأنّ الثاني يقتضي انتقال المال عن البائع ، والأوّل لا يقتضيه ، لا أنّه يقتضي عدمه. (*)

__________________

(*) لم ترد" فإن اريد بالصحة في قولهم ـ إلى ـ يقتضي عدمه" في بعض النسخ ، وورد بدلها ما يلي : " وإن جعلناه من الاصول التعبدية ، فإن استفدنا من ادلتها إثبات مجرد صفة الصحة للفعل المشكوك ، فهي معارضة لأصالة الفساد ، لأنّها تحقق عدم ترتب الأثر. لكن الشك في الفساد لما كان مسببا دائما عن الشك في تحقق سبب الصحة ، أو أمر خارجي له دخل فيها ، كان أصالة عدم السبب أو عدم ذلك الأمر حاكمة على أصالة الصحة ، لأنّها مزيلة للشك في مجراها. هذا بحسب ملاحظة أصالتي الصحة والفساد ، إلّا أنّ دليل أصالة الصحة لما كان أخص من دليل أصالة الفساد ـ أعني الاستصحاب ـ وكان اللازم من العمل بعموم الاستصحاب مع الشك في الفساد إلغاء دليل اصالة الصحة رأسا تعيّن تخصيص عموم الاستصحاب بدليل أصالة الصحة. وإن استفدنا من أدلتها إثبات الفعل الموصوف بالصحة ، بأن جعلناها من الاصول الموضوعية ومن مشخصات الفعل المشكوك في وقوعه على وجه يحكم عليه بالصحة ، فهي بالنسبة إلى أصالة الفساد ـ إذا كان الشك من جهة الشك في تحقّق سبب الصحّة ـ حاكمة مزيلة ، كما إذا شككنا في كون العقد الواقع عربيا أو فارسيا أو بصيغة الماضي أو العقد الواقع على النقدين من دون تقابض بيعا حتّى يفسد أو صلحا حتّى يصحّ ، فإنّ المقتضي للحكم بعدم تحقّق الأثر وهو أصالة عدم تحقق سبب الصحّة وهو العقد العربي بصيغة الماضي أو الصلح ، والشك في ذلك كلّه مسبب عن الشك في كون السبب الواقع سببا أو لا؟ ، فإذا حكم الشارع بكونه سببا فقد ارتفع الشك في تحقق الأثر وتحقق سببه ، وأصالة عدم تحقّق سببه وأصالة عدم تحقّق السبب لا يقتضي عدم كون هذا العقد سببا ولا كونه واقعا على وجه الفساد.

وأمّا إذا كان الشك في شرط من شروط صحّة العمل كبلوغ العاقد ورؤية المبيع ونحو ذلك ، فقد يتوهّم : حكومة أصالة عدم الشرط على أصالة الحمل على الصحيح ، لأنّ الشك في كون الواقع هو الفرد الصحيح مسبب عن الشك في تحقّق الشرط ، فإذا احرز عدمه بالأصل ترتّب عليه كون الفعل فاسدا.

ويندفع : بأنّ أصالة عدم البلوغ لا يثبت كون الواقع هو الفرد الفاسد ، حتّى يتبين مجرى أصالة الصحّة أعني الشك في كون الواقع هو الفرد الصحيح أو الفاسد ، وإنّما يثبت كون الواقع فاسدا ، وهذا ليس مجرى أصالة الصحّة ، وإنّما هو الأثر المترتب على حكم الشارع في مجراها ، لوجوب حمل الفعل المشكوك على فرده الصحيح ، فكلّ منهما أصل موضوعي مجراه الموضوع الخارجي ، وهو بلوغ العاقد أو عدمه ، والمترتّب على الأوّل كون العقد فاسدا ، والمترتّب على الثاني كون العقد صحيحا ،

__________________

فيتعارضان. والموضوع الخارجي الثاني وإن كان الشك فيه مسبّبا عن الشك في الموضوع الأوّل ، إلّا أنّ خلافه ليس مما يترتّب بنفسه على إجراء الأصل في الأوّل نظير نجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة المترتب خلافها على استصحاب طهارة الماء ، إلّا أنّ إجراء الأصل في السبب لا يبيّن مجرى الأصل الثاني ، لأنّه من الموضوعات الخارجية الغير المترتبة بأنفسها على استصحاب أسبابها. والأصل في السبب إنّما يقدّم على الأصل الخارجي في المسبّب إذا كان المسبّب بنفسه من مجعولات الشارع ، كنجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، فإنّ استعمال طهارة الماء مبيّن لعدم نجاسة الثوب المستصحبة في نفسها. نعم ، لو قلنا بالأصل المثبت كانت أصالة عدم البلوغ مبينة لكون العقد هو الفرد الفاسد.

وبالجملة : ففي المقام أصلان موضوعان رتّب الشارع عليهما أثرين متنافيين وهما كون العقد الواقع صحيحا فاسدا ، وستعرف أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأصلين التعبّديين التساقط ، فاللازم في المقام الرجوع إلى أصالة عدم ترتب الأثر ، فحينئذ يختصّ أصالة الصحّة بما إذا كان الشكّ في تحقّق أصل السبب من جهة دوران الفعل الواقع بين السبب وغيره ، كما تقدّم إلّا أن يثبت إجماع مركب بين الشك في نفس السبب والشك في الشرط ، أو يقال تخصيص القاعدة بما عدا الشك في الشروط يوجب قلة فائدتها ، أو يقال إنّ المثبت مقدم على الثاني. وكيف كان ، فدفع التنافي بين الاصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في غاية الإشكال. والله العالم".

ـ وقد وردت في بعض النسخ زيادة كتب عليها : " خ ل زائد" وهي ما يلي : " لأنّه إذا شك في بلوغ البائع فالشك في كون الواقع البيع الصحيح بمعنى كونه بحيث يترتّب عليه الأثر شك في كون البيع صادرا من بالغ أو غيره ، هذا مرجعه إلى الشك في بلوغ البائع. فالشك في كون البيع الصادر من شخص صادرا من بالغ الذي هو مجرى أصالة الصحّة ، والشك في بلوغ الشخص الصادر منه العقد الذي هو مجرى الاستصحاب ، مرجعهما إلى أمر واحد ، وليس الأوّل مسببا عن الثاني ، فإنّ الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد. فمقتضى الاستصحاب ترتّب أحكام العقد الصادر من غير بالغ ، ومقتضى هذا الأصل ترتّب حكم الصادر من بالغ ، فكما أنّ الأصل معيّن ظاهري للموضوع وطريق جعلي إليه ، فكذلك استصحاب عدم البلوغ طريق ظاهري للموضوع ، فإنّ أحكام العقد الصادر من غير البالغ لا يترتب عند الشك في البلوغ إلّا بواسطة ثبوت موضوعها بحكم الاستصحاب. نعم ، لو قيل بتقديم المثبت على النافي عند تعارض الأصلين تعيّن ترجيح أصالة الصحّة ، لكنّه محلّ تأمّل.

ويمكن أن يقال هنا : إنّ أصالة عدم البلوغ توجب الفساد لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ؛ فإنّ بقاء الآثار السابقة مستند إلى عدم السبب الشرعيّ لا إلى عدم السببية شرعا فيما وقع. نعم ، لمّا كان المفروض انحصار الواقع فيما حكم شرعا بعدم سببية تحقّق البقاء ، فعدم سببية هذا العقد للأثر الذي هو مقتضى الاستصحاب

بقي الكلام في أصالة الصحّة في الأقوال والاعتقادات ، أمّا الأقوال (٢٧١٦) ،

______________________________________________________

نعم ، لو كان الشكّ مأخوذا في موضوعها أيضا لتمّ الحكم بالمعارضة بينهما ، وليس كذلك ، وإن كانت مجعولة ـ كالبيّنة وغيرها من الأمارات ـ في مقام الجهل بالواقع ، فتدبّر فإنّه لا يخلو من دقّة.

٢٧١٦. توضيحه يتوقّف على إيراد ما يمكن أن يستند إليه في المقام ، ثمّ الإشارة إلى مؤدّاه ومقدار دلالته ، فنقول : إنّه يدلّ على أصالة الصحّة في الأقوال ـ مضافا إلى عموم ما عدا الإجماع والسيرة من الأدلّة المستدلّ بها على أصل القاعدة ـ خصوص الكتاب والسنّة.

فمن الأوّل قوله تعالى في سورة البراءة : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) بتقريب أنّ الأذن مجاز عن كونه سريع التصديق لكلّ ما يسمع ، من باب إطلاق العين على الربيئة. وأمر الله تعالى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقول للمنافقين : يكون ذلك خيرا لهم ، ثمّ قارنه بتصديقه تعالى وتصديق المؤمنين. وغاير بين التصديقين بالباء واللام لنكتة ، وهي كون تصديقه للمؤمنين لانتفاعهم به ولأجل الرحمة منه عليه‌السلام عليهم ، كما عن تفسير

__________________

لا يترتب عليه عدم الأثر ، وإنّما يترتّب على عدم وقوع السبب المقارن لهذا العقد ، فلا أثر لأصالة عدم البلوغ المقتضية لعدم سببية العقد المذكور حتّى يعارض أصالة الصحّة المقتضية لسببيته ، وأصالة الصحّة تثبت تحقّق العقد الصادر من بالغ ، ولا معارضة في الظاهر بين عدم سببية هذا العقد الذي هو مقتضى الاستصحاب ، وبين وقوع العقد الصادر عن بالغ الذي يقتضيه أصالة الصحّة ، لأنّ وجود السبب ظاهرا لا يعارضه عدم سببية شيء وإنّ امتنع اجتماعهما في الواقع من حيث إنّ الصادر شيء واحد.

لكن يدفع هذا : أنّ مقتضى أصالة الصحّة ليس وقوع فعل صحيح في الواقع ، بل يقتضي كون الواقع هو الفرد الصحيح. فإذا فرض نفي السببية عن هذا الواقع بحكم الاستصحاب حصل التنافي.

وإن قيل : إنّ الاستصحاب لا يقتضي نفي السببية ، لأنّ السببية ليست من المجعولات بل يثبت بقاء الآثار السابقة. قلنا : كذلك أصالة الصحّة لا تثبت وقوع السبب وإنّما تثبت حدوث آثار السبب. وكيف كان ، فدفع التنافي بين الأصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في غاية الإشكال". (فرائد الاصول ، مجمع الفكر الاسلامى ، ج ٣ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٨٠)

.................................................................................................

______________________________________________________

العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام أنّه يصدّق المؤمنين لأنّه كان رءوفا رحيما للمؤمنين. ولا ريب أنّ تصديقه لله تعالى واجب ، كذلك تصديقه للمؤمنين بقرينة المقارنة ، وهو المطلوب. ومن السنّة ما روي عن القمّي في سبب نزول الآية أنّه «نمّ منافق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبره الله تعالى ذلك ، فأحضره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسأله فحلف أنّه لم يكن شيء ممّا ينمّ عليه ، فقبل منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : إنّه يقبل كلّ ما يسمع ، أخبره الله تعالى أنّي أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فأخبرته أنّي لم أفعل فقبل ، فردّه الله تعالى بقوله لنبيّه (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) الآية.

وما رواه في الكافي في الحسن بابن هاشم أنّه «كان لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه‌السلام دنانير ، أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ قال : سمعت الناس يقولون. فقال : يا بنيّ إنّ الله عزوجل يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم».

وما رواه في الكافي أيضا عن حماد بن بشير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من شرب الخمر بعد أن حرّم الله تعالى على لساني ، فليس بأهل أن يزوّج إذا خطب ، ولا يصدّق إذا حدّث ، ولا يشفع إذا شفّع ، ولا يؤتمن على أمانة ، فمن ائتمنه فأكلها وضيّعها فليس للذي ائتمنه على الله عزوجل أن يأجره ولا يخلف عليه».

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّي أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن ، فأتيت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت : إنّي اريد أن أستبضع بضاعة فلانا ، فقال لي : أما علمت أنّه يشرب الخمر؟ فقلت : قد بلغني من المؤمنين أنّهم يقولون ذلك. فقال لي : صدّقهم ، فإنّ الله عزوجل قال : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ثمّ قال : إنّك إن استبضعته فضيعها فدعوت الله أن يأجرني ، فقال : أي بنيّ ليس لك على الله أن

.................................................................................................

______________________________________________________

يأجرك ولا يخلف. قال : قلت له : ولم؟ فقال لي : إنّ الله عزوجل يقول : (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فهل تعرف أسفه من شارب الخمر؟ قال : ثمّ قال : لا يزال العبد في فسحة من الله عزوجل حتّى يشرب الخمر ، فإذا شربها فرّق الله عزوجل عنه سرباله ، وكان وليّه وأخوه إبليس لعنه الله ، وسمعه وبصره ويده ورجله ، يسوقه إلى كلّ ضلال ، ويصرفه عن كلّ خير».

وقد تعجّب صاحب مفتاح الكرامة ـ على ما حكي عنه ـ بعد ذكر هذه الرواية أو سابقتها من دعوى بعضهم عدم الدليل على قبول قول العدل في الموضوعات.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا إشكال في حمل قول المسلم على الصحّة على الوجه الأوّل من الوجهين اللذين أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله. وكذا على الوجه الأوّل من وجوه الوجه الثاني أيضا.

وأمّا على الثاني منها ـ أعني : الصدق المخبري ، وهو المطابقة للاعتقاد ـ فلا إشكال فيه أيضا ، لما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله من السيرة القطعيّة بين المسلمين. وثمرة الحمل على الصحة بهذا المعنى ـ أعني : المطابقة لاعتقاد المخبر ـ هي ترتيب الآثار الواقعيّة للمخبر به بعد نفي احتمال الخطأ في مقدّمات اعتقاده ـ وكذا احتمال السهو فيها ـ بالأصل. ولكن سنشير إلى ضعف الاعتماد على مثل هذا الأصل.

وأمّا على الثالث منها ، أعني : الصدق الخبري وهو المطابقة للواقع ، فهي العمدة في المقام ، وهو معنى حجّية خبر المسلم على غيره. وهذه المراتب الثلاثة مختلفة من حيث سهولة إثباتها وصعوبتها صعودا ونزولا ، فبإثبات التالي منها يثبت المقدّم منها بالاولويّة ، بخلاف العكس. وقد عرفت عدم الإشكال في الحمل على الصحّة على الوجه الأوّل والثاني منها. وأمّا على الثالث فلا دليل عليه. أمّا الأدلّة المستدلّ بها على أصل القاعدة ، فقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله وما علّقناه على كلامه ضعف ما عدا الإجماع والسيرة منها ، وأشرنا هنا إلى عدم تحقّقهما في المقام. وأمّا ما أشرنا إليه هنا من الآية والروايات فيرد عليهما : أنّ المراد بتصديق

.................................................................................................

______________________________________________________

المؤمنين فيها مجرّد التصديق الصوري لا التصديق الخبري ، أعني : ترتيب آثار الواقع على خبره ، وقد أوضح المصنّف رحمه‌الله ذلك عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يتمّ في الآية والرواية الاولى ، وأمّا الروايتين الأخيرتين فلا ، لأنّ إسناد التقصير فيهما في دفع البضاعة إلى الرجل القرشي مطلقا على إحداهما ، وعلى تقدير الدفع في الاخرى ، دليل على كون المراد بتصديق المسلمين فيهما هو التصديق الخبري لا محالة لا التصديق الصوري.

قلت : نعم ظاهرهما ذلك ، ولكن لا بدّ من حملهما على إرادة التصديق الصوري مع مراعاة الاحتياط في دفع البضاعة ، بقرينة الاستشهاد فيهما بالآية التي يتعيّن حملها على إرادة ذلك كما أشرنا إليه.

هذا كلّه مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله هنا. وحاصله : أنّا لو قلنا بظهور الآية والروايات في المدّعى ، وبنينا على خروج ما أخرجه الدليل ، لزم تخصيص الأكثر ، لأنّ المراد بالمؤمنين والمسلمين فيها العموم الأفرادي ، قضيّة لظاهر الجمع المعرّف ، والإجماع منعقد على عدم جواز تصديقهم في الشهادة والرواية إلّا مع شروط خاصّة ، ولا في الحدسيّات والنظريّات إلّا في موارد خاصّة ، كالفتوى ونحوه. ودعوى كون الخارج بحسب النوع لا الأفراد حتّى يلزم المحظور ، يدفعها ـ مع تسليم كثرة الأنواع الباقية ـ ظاهر الجمع المعرّف المقيّد للعموم الأفرادي.

مضافا إلى لزوم تخصيص المورد كما لا يخفى ، فلا مناص من حمل التصديق فيها على التصديق الصوري ، وإلى أنّ آية النبأ دالّة على وجوب التبيّن في خبر الفاسق ، فتخصّص الآية والأخبار المذكورة بها ، فلا تدلّ على تمام المدّعى من وجوب تصديق خبر المسلم مطلقا ، فتأمّل.

ثمّ مع التنزّل عن عموم الدعوى ، فهل يمكن إثبات وجوب حمل خبر العدل على الصدق على الوجه الثالث أو لا؟ وليعلم أنّ مرادنا بالعدل هنا مقابل ما علم فسقه ، لا العدل الواقعي ليدخل فيه ذلك ومن لم تحصل له بعد ملكة العدالة ،

.................................................................................................

______________________________________________________

كالكافر إذا أسلم ولم يصدر عنه بعد معصية ولم تحصل له ملكة بعد ، والمسلم بعد بلوغه كذلك ، ومن هو مجهول الحال.

ويدلّ عليه أوّلا : عموم الآية والأخبار السابقة. وثانيا : قوله عليه‌السلام : «المؤمن وحده جماعة».

وثالثا : الأصل ، لأنّ المانع من قبول قول المسلم فسقه ، كما يدلّ عليه تعليق وجوب التبيّن عليه في آية النبأ ، لأنّه يقتضي كون الإسلام من حيث هو مقتضيا للقبول ، وأنّ المانع منه الفسق ، فحيث علمت العدالة فهو ، وإلّا فحيث احتمل عروض الفسق يدفع بالأصل ، لأنّ الظاهر أنّ الفسق أمر وجودي ، وليس عبارة عن عدم الملكة حتّى لا يكون موردا للأصل ، وحيث يدفع احتماله بالأصل يعمل المقتضي عمله.

ورابعا : مفهوم آية النبأ ، لأنّ مقتضى تعليق وجوب التبيّن فيها على وصف الفسق هو اختصاص وجوبه بموارد العلم بفسقه ، لظهور الفاسق في ذلك ، فيدخل أقسام العادل على ما عرفت في مفهومها شرطا أو وضعا.

وفي الجميع نظر. أمّا الأوّل فلما تقدّم من عدم دلالتها على أزيد من التصديق الصوري.

وأمّا الثاني فلضعفه سندا ، كما تقدّم سابقا عند الاستدلال على أصل القاعدة. مضافا إلى أنّ إبقائه على ظاهره والبناء على تخصيص ما أخرجه الدليل يوجب تخصيص الأكثر كما تقدّم ، فلا بدّ من حمل المؤمن فيه على إرادة الكمّل من المؤمنين ، أو غير ذلك كما أشرنا إليه هناك.

وأمّا الثالث فمع عدم دلالة التعليق على الوصف إلّا من باب الإشعار الذي لا حجّية فيه ، أنّه يحتمل أن يكون التعليق على وصف الفسق من باب عدم المقتضي للقبول معه لا من باب وجود المانع ، إذ كما يحتمل كون الإسلام مقتضيا والفسق مانعا ، كذلك يحتمل كون المقتضي هي العدالة الواقعيّة ، ولا ظهور للآية في أحد

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتمالين. مع أنّ مقتضى التعليق وجوب التثبّت عن خبر مجهول الحال ، لكون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة دون المعلومة. ودعوى الانصراف إليها ممنوعة كما قرّر في محلّه. فتدلّ الآية على اعتبار العلم بعدم الفسق في قبول خبره. ودفع احتمال المانع حينئذ بالأصل لا يثبت وجود المقتضي إلّا على القول بالاصول المثبتة.

ومن هنا يظهر ضعف الرابع أيضا. وقد تقدّم توضيح الكلام في عدم دلالته على قبول خبر العدل مفهوما وصفا وشرطا وعلّة عند الاستدلال على حجّية خبر الواحد. ومع تسليم جميع ذلك أنّ الأدلّة المتقدّمة ـ ما عدا قوله عليه‌السلام : «المؤمن وحده جماعة» ـ إنّما تدلّ على التصديق المخبري دون الخبري كما هو المدّعى. أمّا الرواية المذكورة فإنّها بظاهرها ـ بعد الإغماض عمّا أشرنا إليه ـ إنّما تدلّ على وجوب تنزيل خبر المؤمن الواحد منزلة خبر الجماعة في ترتيب آثار الواقع عليه ، وهو معنى التصديق الخبري.

وأمّا ما عداها فتوضيح الكلام فيه : أنّ الشبهة في جواز قبول خبر المخبر ينشأ تارة من احتمال تعمّده للكذب ، واخرى من احتمال الخطأ في المقدّمات المحصّلة للاعتقاد وإن علمت مطابقته له ، وثالثة من احتمال السهو والنسيان ، ورابعة من احتمال وجود المعارض.

ثمّ إذا صرّح الشارع بقوله : صدّق العادل أو الثقة أو المؤمن أو المسلم ، فلا ريب أنّ الظاهر منه وجوب تصديقه من حيث احتمال تعمّده للكذب لا من جهة اخرى ، بل إن أمكن نفي سائر الاحتمالات بالاصول أو بناء العقلاء يعمل بمقتضى الخبر وإلّا فلا. وكذلك إذا قال : لا تصدّق الفاسق أو غير الثقة ، لأنّ ظاهره أيضا عدم جواز تصديقه من حيث احتمال تعمّده للكذب لا من جهة اخرى.

ومن هنا يظهر أنّ الظاهر من قول الشارع : صدّق فلانا هو التصديق المخبري دون الخبري. وحينئذ نقول : إنّ غاية ما تدلّ عليه الأدلّة المتقدّمة هو تصديق العادل أو المسلم ، وغايته الدلالة على تصديقه من حيث مطابقة خبره

.................................................................................................

______________________________________________________

لاعتقاده لا بحسب الواقع كما هو المدّعى. مضافا إلى شهادة التعليق على الوصف والتعليل في آية النبأ لذلك ، لأنّ التعليق به مشعر بعلّيته للحكم ، ولا ريب في عدم مدخليّة وصف الفسق فيما عدا احتمال تعمّد الكذب من الاحتمالات الأخر المتقدّمة. وأمّا التعليل فلتساوي خبر العادل والفاسق فيما عدا احتمال تعمّد الكذب من الاحتمالات المذكورة ، فلا يصلح التعليل بخوف الإصابة بجهالة أن يكون علّة لوجوب التثبّت في خبر الفاسق من حيث احتمال ما عدا تعمّد الكذب ، وإلّا لزم تعليل عدم جواز قبول خبر الفاسق بعلّة مشتركة بينه وبين خبر العادل ، وهو باطل بالبديهة.

ومن هنا قد ذكرنا في محلّه عدم جواز التمسّك بالآية على حجّية الإجماع المنقول بخبر العدل ، لأنّ المانع من قبول إخباره عنه ليس احتمال تعمّده للكذب ، بل احتمال خطائه في حدسه ، والآية لا تنفيه. وكذا قد ذكرنا عدم جواز التمسّك بها لجواز التمسّك بالعمومات قبل الفحص عن مخصّصاتها ، كما يظهر من صاحب الوافية وشارحه السيّد الصدر ، لأنّ المانع منه هو العلم الإجمالي بالتخصيص المسقط لها عن الظهور في العموم ، لا احتمال تعمّد الكذب من الراوي حتّى ينفي بالآية ، ولا لحجّية فتوى المجتهد لمقلّديه ، كما نقله بعض مشايخنا عن بعض معاصريه ، لأنّ المانع هنا أيضا هو احتمال الخطأ في الاجتهاد ، لا احتمال تعمّده للكذب في قوله : رأيي كذا.

ومع الإغماض عن جميع ما قدّمناه ، وتسليم دلالة الأدلّة المتقدّمة على تصديق خبر العادل في الموضوعات كما هو محلّ الكلام ، لأنّ الكلام في تصديقه في الأحكام قد تقدّم عند الكلام في حجّية خبر الواحد ، نقول : إنّها معارضة بما دلّ على حليّة محتمل الحرمة وطهارة محتمل النجاسة ما لم تقم على حرمته أو نجاسته بيّنة ، فإنّه يقتضي عدم حجّية خبر العدل الواحد فيه ، منها رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها بعد الحكم بإباحة محتمل الحرمة : «والأشياء كلّها على

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة». ومنها رواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال : «قال : كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك بأنّ فيه ميتة» إلى غير ذلك ممّا يقرب منها. فهذه الأخبار مقيّدة لإطلاق الأدلّة المتقدّمة.

ودعوى كون البيّنة في الاولى منها أعمّ من العدل الواحد فاسدة ، إمّا لكونها حقيقة شرعيّة في العدلين ، أو كون ذلك مرادا منها جزما ولو مجازا ، مضافا إلى صراحة الرواية الثانية فيه ، ولا بدّ أن يكون ذلك مرادا من الاولى أيضا ، لأنّ الأخبار يكشف بعضها عن بعض.

ولكن يدفع هذا الوجه أنّ غاية ما تدلّ عليه الأخبار المذكورة عدم حجّية خبر العدل في محتمل الحرمة أو النجاسة ، فيؤخذ بعموم الأدلّة المتقدّمة في غيرهما. ولا يمكن إتمام الدلالة بعدم القول بالفصل ، لعدم الثبوت ، ولا بالفحوى ، لعدم الأولويّة ، لاحتمال كون العلّة في عدم اعتبار قول العدل الواحد في محتمل الحرمة والنجاسة هي التوسعة من الشارع للمكلّفين فيهما ، فلا يلزم من عدم اعتبار قوله فيهما عدمه في غيرهما ، فضلا عن أن يكون ذلك على وجه الأولويّة.

ثمّ إنّه لا ينافي ما ذكرناه من الكلّية ـ وهو عدم حجّية قول العدل الواحد في الموضوعات ـ ثبوت اعتباره في بعض الموارد الخاصّة. وقد جمع الشهيد الثاني في خاتمة باب التعارض من تمهيد القواعد موارد يقبل في بعضها قول العدل الواحد ، وفي بعض آخر قول غير العدل أيضا ، وفي ثالث قول النساء أيضا.

قال : «أمّا الأوّل ، فمنها : إخبار العدل الواحد بهلال رمضان على قول بعض الأصحاب. ومنها : إخباره بعزل الموكّل الوكيل ، فإنّه كاف وحده ، كما دلّت عليه صحيحة هشام بن سالم. ومنها : إخباره بدخول وقت الصلاة والفطر للمعذور ، كالأعمى والمحبوس ومن لا يعلم الوقت ولا يقدر على التعلّم ، إمّا مطلقا أو مع تعذّر العدلين. ومنها : إخباره إذا كان مؤذّنا بدخول الوقت بالأذان للمعذور كما

.................................................................................................

______________________________________________________

مرّ قطعا ، أو لغيره أيضا على قول المحقّق وبعض الأصحاب ، استنادا إلى قوله عليه‌السلام : «المؤذّنون أمناء» ولا تتحقّق الأمانة إلّا مع قبول قولهم. ومنها : إخباره بكون الجدي من المستقبل على الجهة الموجبة للقبلة ، ونحوه من العلامات. ومنها : إخباره بوصول الظلّ إلى محلّ يعلم المخبر بأنّه يوجب دخول الوقت على قول بعض الأصحاب ، وإن لم يجز تقليده في أصل دخول الوقت.

وأمّا الثاني ، فمنها : إخبار ذي اليد بطهارة ما بيده بعد العلم بنجاسته ، أو بالعكس. ومنها : قبول قول الأمناء ونحوهم ممّن يقبل قوله في تلف ما اؤتمن عليه من مال وغيره.

وأمّا الثالث ، فمنها : قبول قول المعتدّة في انقضاء عدّتها بالأقراء ولو في شهر واحد ، سواء كانت عادتها منتظمة لا تخالف ذلك أم لا ، وإخبارها بابتداء الحيض بها وانقطاعه عنها بعد العلم بخلافه ما لم يعلم كذبها ونحو ذلك ، وهو كثير جدّا. ومنها : ادّعاء المطلّقة ثلاثا التحليل في وقت إمكانه مطلقا ، أو مع كونها ثقة على رواية ، أو إصابة المحلّل وإن أنكرها على الأقوى» انتهى.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت عدم الدليل على أصالة حجّية قول العدل الواحد في الموضوعات ، بقي الكلام في أصالة حجّية قول العدلين في غير باب المرافعات ، للإجماع القطعي على اعتبار البيّنة فيه. وليعلم أنّ الكلام هنا في مقامين : أحدهما : بيان الدليل على أصالة حجّية قول البيّنة في جميع الموارد إلّا ما أخرجه الدليل. والآخر : أنّه بعد إثبات هذه الكلّية إذا شكّ في اعتبار الزائد على العدلين ، هل يمكن نفيه بهذه الكلّية أم لا؟ المشهور في المقامين هو القول بالموجب ، كما يظهر بالتتبّع في أبواب الفقه ، ولذا تراهم في كثير من المقامات يعلّلون الثبوت بالبيّنة بأنّها حجّة شرعيّة قائمة مقام العلم ، مع عدم ورود النصّ بها في كثير منها ، بل إرسال الأصحاب هذه المسألة إرسال المسلّمات وتعليلاتهم بعموم حجّية البينة يوضح ما ذكرناه غايته. بل ادّعى بعضهم لأجل هذه القرائن الإجماع المحصّل في هذه

.................................................................................................

______________________________________________________

المقامات فضلا عن تحقّق الشهرة. وبالجملة ، لا إشكال في اشتهار كون البيّنة من القواعد المتلقّاة من الشارع.

نعم ، ربّما يحكى خلاف ذلك عن جماعة ـ منهم عبد العزيز بن البرّاج ، والشيخ في خلافه ، والمحقّق الخوانساري في شرح الدروس ، والفاضل الكاشاني والوحيد البهبهاني والنراقي في باب الطهارة والنجاسة ، ـ قالوا بعدم ثبوت النجاسة بقول العدلين ، لعدم الدليل على اعتباره عموما ، والحكم فيها معلّق على العلم ، لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». ومنهم السيّد في الذريعة ، والمحقّق الأوّل في المعارج ، والثاني في الجعفريّة وصاحب الوافية ، حيث قالوا بعدم ثبوت الاجتهاد بشهادة العدلين ، لعدم الدليل على اعتبارها مطلقا. ومنهم المولى المقدّس الأردبيلي في إخبار العدلين بطلوع الفجر في شهر رمضان.

والحقّ ما هو المشهور. ولنا على المقامين وجوه من الأدلّة :

أحدها الإجماع المحكيّ (*) المعتضد بالشهرة المحقّقة ، بل ربّما تدّعى استفاضته.

الثاني : قوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

فإن قلت : قد تقدّم أنّ المراد به التصديق الصوري دون الواقعي ، كما هو المطلوب في قبول شهادة العدلين.

قلت : لا شكّ أنّ الظاهر من الإيمان ـ المفسّر في الأخبار بالتصديق ـ هو التصديق الواقعي ، فلمّا لم يمكن إبقائه على ظاهره ، لمنافاته لمورد نزوله ، لما تقدّم من نزوله في المنافق النمّام ، يحمل على إرادة المعنى الأعمّ منه ومن التصديق الواقعي ، لأنّه أقرب إلى الحقيقة بعد تعذّرها. فحيث تمكن إرادة التصديق الواقعي فهو المتعيّن فيه ، وحيث لا تمكن ـ كما في موردها ـ يراد به التصديق الصوري. ولا يلزم منه

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «قوله : أحدها : الإجماع المحكيّ .... حكاه في العناوين ، بل هو من جملة المدّعين. وحكي أيضا اتّفاق الأصحاب عن طوالع الأنوار للمولى الوحيد السيّد باقر الاصبهاني. منه».

.................................................................................................

______________________________________________________

استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ المراد بها المعنى الأعمّ. والاختلاف إنّما جاء من اختلاف الموارد ، وهو لا يوجب الاختلاف في المفهوم المستعمل فيه اللفظ.

فإن قلت : يلزمه قبول قول العدل الواحد أيضا ، بل الفاسق والمنافق أيضا حيث لا يعلم كذبه كما في مورد الآية.

قلت : تخصّص عموم الآية بما دلّ على عدم اعتبار قولهم من رواية مسعدة بن صدقة وعبد الله بن سليمان كما تقدّم. وستعرف زيادة توضيح لذلك.

الثالث : قوله عليه‌السلام : «إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم». ومثله آخر ، وقد تقدّما ، بتقريب أنّ مقتضى تعليق وجوب التصديق والقبول على شهادة المسلمين اعتبار شهادة الجميع في القبول ، قضيّة لظاهر الجمع المعرّف المفيد للإحاطة والاستغراق الأفرادي ، وهو خلاف الإجماع. وبعد تعذّر الحقيقة إمّا أن يحمل على إرادة الماهيّة والجنس الصادق على الواحد والمتعدّد ، كما هو الظاهر بعد انسلاخ المعنى الحقيقي ، أو إرادة الجمعيّة في الجنس ، بأن تراد شهادة الجماعة من المسلمين بأيّ مرتبة اتّفقت من مراتب الجمع ، أو إرادة الطبيعة في ضمن فردين ـ أعني : عدلين ـ من المسلمين. ولا سبيل إلى ما عدا الأخير.

أمّا الأوّل فلكونه خلاف الإجماع ، سيّما في مورد الرواية ، أعني : الشهادة على شرب الخمر. ولا يجوز تخصيص المورد ، ومع التسليم يلزم تخصيص الأكثر كما تقدّم.

وأمّا الثاني فلعدم اعتبار الاستفاضة في موردها ، وإن اعتبرت في موارد خاصّة ذكرها الشهيد الثاني في باب القضاء والشهادات من الروضة. ودعوى أنّ المراد بالتصديق في الروايتين هو التصديق الصوري قد عرفت المناص منها عند الاستدلال بالآية. وممّا يومي إلى ما ذكرناه هو التعبير بالشهادة المشعر بإرادة شهادة العدلين ، فتأمّل.

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ السيّد السند سيّد مشايخ المصنّف رحمه‌الله قال في المناهل : «سمعت من الوالد دام ظلّه العالي وجود رواية دالّة على حجّية شهادة العدلين مطلقا» انتهى. وفيه دلالة على عدم وقوفه على الرواية العامّة.

الرابع : روايتا مسعدة وابن سليمان المتقدّمتان. والتقريب فيهما : أنّهما إنّما دلّتا على اعتبار البيّنة في الشبهات الموضوعيّة ممّا دار الأمر فيه بين الحليّة والحرمة أو الطهارة والنجاسة ، فيتعدّى إلى غير موردهما من الشبهات الموضوعيّة بالفحوى ، لتوسعة الشارع للمكلّفين في باب الحليّة والحرمة والطهارة والنجاسة ، حيث اكتفي منهم في الحكم بالحليّة والطهارة بعدم العلم بمقابلتهما ، ومع ذلك قد اعتبر البيّنة الموجبة للتضييق في الجملة في إثبات مقابلتهما ، فيثبت اعتبارها في غيرهما ممّا فيه الضيق بالنسبة إليهما بالأولويّة.

الخامس : آية النبأ بناء على تماميّة دلالتها مفهوما ، وصفا أو شرطا ، فإنّها تدلّ حينئذ على اعتبار قول العدل مطلقا ، ولكنّه يقيّد بما دلّ على عدم اعتبار قول العدل الواحد ، فيبقى غيره تحت إطلاقه.

السادس : التعليلات الواردة في جملة من الأخبار ، منها : ما رواه في الفقيه عن الفضل بن شاذان في بيان العلل التي لأجلها أمر المكلّفون بالأذان ، وفيها : «وجعل بعد التكبير الشهادتان ، لأنّ أوّل الإيمان التوحيد ، والإقرار لله تبارك وتعالى ، والإقرار للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، وأنّ طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان. ولأنّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان ، فجعل شهادتين شهادتين كما جعل في سائر الحقوق شاهدان ، فإذا أقرّ العبد لله عزوجل بالوحدانيّة ، وأقرّ للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، فقد أقرّ لجملة الإيمان ، لأنّ أصل الإيمان إنّما هو لله ولرسوله» الحديث.

ومنها : ما رواه إسماعيل بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف صار القتل يجوز فيه شاهدان ، والزنا لا يجوز فيه إلّا أربعة شهود ، والقتل

.................................................................................................

______________________________________________________

أشدّ من الزنا؟ فقال : لأنّ القتل فعل واحد والزنا فعلان ، فمن ثمّ لا يجوز إلّا أربعة شهود ، على الرجل شاهدان وعلى المرأة شاهدان».

وروى الشيخ عن علي بن إبراهيم مثله. قال الكليني : «ورواه بعض أصحابنا عنه عليه‌السلام. قال : فقال عليه‌السلام لي : ما عندكم يا أبا حنيفة؟ فقلت : ما عندنا فيه إلّا حديث عمر : إنّ الله أخذ في الشهادة كلمتين على العباد. قال : فقال لي : ليس كذلك يا أبا حنيفة ، ولكنّ الزنا فيه حدّان ، ولا يجوز إلّا أن يشهد كلّ اثنين على واحد ، لأنّ الرجل والمرأة جميعا عليهما الحدّ ، والقتل إنّما يقام على القاتل ، ويدفع عن المقتول». قوله : «ولكنّ الزنا فيه حدّان ...» ، أقول : لعلّه مبنيّ على الغالب ، وإلّا فربّما لا يثبت في الزنا إلّا حدّ واحد ، كما إذا صدر الفعل عن أحدهما عن جبر وإكراه لا عن رضا واختيار.

وفي هذه الأخبار دلالة على المقام الثاني أيضا. وأمّا دلالتها على المقام الأوّل فلا ، لورودها في الحقوق التي يتوقّف ثبوتها على حكم الحاكم. وقد تقدّم خروج باب القضاء من محلّ الكلام ، لقيام الإجماع وورود الأخبار المتكاثرة على اعتبارها فيه. وإنّما الكلام في إثبات اعتبارها في سائر الموارد ، من أبواب النجاسة ومعرفة الوقت والقبلة ونحوها ممّا لا دخل له في الترافع عند الحاكم.

وقد حكي عن طوالع الأنوار للسيّد السديد محمّد باقر الأصبهاني الاستدلال على المدّعى بما رواه في الكافي عن يونس عمّن رواه قال : «استخرج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، فإن لم يكونا امرأتين فرجل ويمين المدّعي ، وإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه ، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقّه ، وإن أبى فلا شيء عليه».

ويمكن توجيهه ـ مع اختصاصها أيضا بالحقوق ـ بأنّ المقصود بيان أنّ الشبهة في الحقوق تدفع بما جعله الشارع طريقا لدفع الشبهة مطلقا من الوجوه

.................................................................................................

______________________________________________________

الأربعة ، فتدلّ على اعتبار البيّنة كأخواتها في غير مقام الترافع أيضا.

فإن قلت : إنّ اليمين لا يعتبر من دون ضميمة حكم الحاكم ، فلا بدّ أن يكون المراد بيان اعتبار البيّنة أيضا في مقام الترافع خاصّة ، إبقاء للوجوه الأربعة على نسق واحد.

قلت : إنّ هذا خلاف ظاهر الرواية ، وقد خرجنا منه في خصوص اليمين بالدليل ، فبقي اعتبار البيّنة على إطلاقه. ويؤيّده ما رواه في الوسائل عن داود بن الحصين ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا شهدت على شهادة فأردت أن تقيمها فغيّرها كيف شئت ، ورتّبها وصحّحها بما استطعت ، حتّى يصحّ الشيء لصاحب الحقّ بعد أن لا تكون تشهد إلّا بحقّه ، ولا تريد في نفس الحقّ ما ليس بحقّ ، فإنّما الشاهد يبطل الحقّ ويحقّ الحقّ ، وبالشاهد يوجب الحقّ ، وبالشاهد يعطى ، وأنّ للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها بكلّ ما يجد إليه السبيل ، من زيادة الألفاظ والمعاني ، والتفسير في الشهادة ما به يثبت الحقّ ويصحّحه ، ولا يؤخذ به زيادة على الحقّ ، مثل أجر الصائم القائم المجاهد بسيفه في سبيل الله» لأنّها ظاهرة في استناد ثبوت الحقّ إلى نفس البيّنة من دون مدخليّة حكم الحاكم ، فهي دليل على ثبوت الحقّ بها قبل حكمه ، وإن كان له نقضه قبله.

وأمّا احتمال اختصاص ذلك بالحقوق ، نظرا إلى ورودها فيها ، فمع الإغماض عمّا عرفت في سابقتها أنّه يمكن دعوى عدم الفرق إن لم نقل بأولويّة غيرها بذلك ، كما يظهر من المحكيّ عن الفاضل الهندي في مسألة ثبوت النجاسة بشهادة العدلين.

السابع : بناء العقلاء على اعتبار البيّنة مطلقا ، وكون ذلك أمرا مركوزا في أذهانهم ممّا لا يقابل بالإنكار.

الثامن : الاستقراء ، لتلقّي العلماء لاعتبار البيّنة في جميع أبواب الفقه بالقبول ، مضافا إلى ثبوت اعتبارها في أغلبها بالنصّ والإجماع. وإنكار بعضهم لها في باب

.................................................................................................

______________________________________________________

النجاسة ودخول الوقت ـ مع دلالة النصّ على خلافه ـ غير مضرّ في المقام. ومرجع هذا الاستقراء في الحقيقة إلى الاستقراء في الأدلّة من الإجماعات والنصوص ، فلا يرد أنّ الاستقراء لا يثبت به حكم شرعيّ ، لأنّ ذلك إنّما هو فيما كان الاستقراء في غير الأدلّة ، كما أشرنا إليه في غير موضع ، وإلّا فلا فرق بين استفادة الحكم من دليل واحد وبين استفادته من أدلّة متعدّدة ، لعموم أدلّة اعتبارها.

التاسع : ما ذكره النراقي قال : «ويدلّ على المطلوب أيضا الأخبار الغير المحصورة المصرّحة بجواز شهادة المملوك ونفوذها قبل العتق وبعده والمكاتب ، والصبيّ بعد الكبر ، واليهودي والنصراني بعد الإسلام ، والخصيّ والأعمى والأصمّ والولد والوالد والوصيّ والشريك والأجير والصديق والضعيف ، والمحدود إذا تاب ، والعدل والمولود على الفطرة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة مدوّنة في أبواب متكثّرة.

وجه الدلالة : أنّها تدلّ بإطلاقها بل عمومها ـ لمكان المفرد المضاف والمعرّف ـ على قبول كلّ شهادة من كلّ هؤلاء المذكورين ، سواء كانت في مقام التنازع والترافع أو لا ، وسواء كان كلّ منهم منفردا أو متعدّدا ، اثنين أو أكثر ، خرج المنفرد بما يأتي فبقي الاثنان فما زاد. ثمّ قبول شهادة شخص ونفوذها وإن كان أعمّ من أن يجعل علّة تامّة للحكم بمقتضاها أو علّة ناقصة وجزء علّة ، إلّا أنّه ليس المراد كونها جزءا لما يفيد العلم قطعا ، إذ لا فرق في جزء ما يفيد العلم بين هؤلاء المذكورين وغيرهم. ولا معنى للتقييد بما قيّد به أكثر هذه الموارد من معرفة الصلاح أو الخيريّة أو العدالة أو العتق أو الإسلام أو البلوغ أو انضمام الغير ، أو كونه مرضيّا أو نائبا أو نحو ذلك. فيكون إمّا قبوله من حيث التماميّة أو الجزئيّة لغير العلم. وكلّ من يقول بصلاحيّته لجزئيّة العلّة لا يقول باشتراط الأزيد من الاثنين في غير الزنا ، فيحصل المطلوب بالإجماع المركّب القطعي.

فإن قيل : السائل والمسئول عنه في جميع تلك الأخبار إنّما هو في مقام بيان حكم آخر دون إطلاق الحكم أو عمومه ، فلا يفيد إلّا قبول شهادة هؤلاء في

.................................................................................................

______________________________________________________

الجملة ، ولا كلام فيه.

قلنا : قد مرّ في بعض العوائد المتقدّمة قريبا أنّ ذلك لا يضرّ في إطلاق اللفظ المطلق أو العامّ على سبيل الإطلاق ، وإنّما هو في بعض الموارد الذي ليس هنا منه» انتهى.

وحاصل ما ذكره في بعض العوائد المتقدّمة : أنّا إن قلنا بعموم المطلق من باب دليل الحكمة فالعمل بعمومه إنّما هو فيما لم يحتمل المقام لفائدة اخرى سوى بيان حكم المطلق ، وإلّا احتمل ورود الكلام لبيان هذه الفائدة ، كما في قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) لوروده لبيان حليّة ما يصيده الكلب ، لا من حيث بيان وجوب غسل موضع العضّ وعدمه ، وإن قلنا بعمومه من باب السّريان وتعلّق الحكم بالطبيعة المأخوذة في ضمن كلّ فرد ، فيتحقّق الحكم في ضمن الجميع.

والحقّ في الحكم بالعموم حينئذ اشتراطه بعدم العلم بعدم كون الكلام منساقا لبيان حكم الطبيعة ، ولا يشترط بالعلم بكونه منساقا لذلك ، وإلّا لا يحكم بالعموم ، لعدم تعلّق الحكم بالطبيعة حينئذ. فلو قال : خذ هذه الدراهم واشتر لي لحم الغنم ، فذهب المأمور واشترى الخبز ، فقال له الآمر : إنّي أمرتك باشتراء اللحم وأنت اشتريت الخبز ، لا يكون قوله : إنّي أمرتك باشتراء اللحم ، مطلقا معارضا لقوله : اشتر لحم الغنم ، لأنّ قرينة المقام دالّة على أنّ مراده ليس بيان إرادة طبيعة اللحم ، بل أراد به نفي إرادة الخبز ، فلا يمكن الاستدلال به على ثبوت الحكم لجميع الأفراد. هذا ملخّص كلامه ومحصّل مرامه.

وأقول : إنّ تحقيق المقام وإن كان كما ذكره في الحكم بالعموم من باب السراية ، إلّا أنّ القرينة قائمة في الأخبار ـ التي ادّعي إطلاقها أو عمومها في المقام ـ على ورودها في مقام بيان حكم آخر ، أعني : بيان تشريع شهادة هؤلاء الجماعة المذكورين ، لأنّ السؤال في هذه الأخبار طرّا عن أصل جواز شهادة هؤلاء ، لا عنها بحسب الموارد خصوصا أو عموما بعد الفراغ من أصل جوازها ، وهذا ما لا يقابل

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإنكار. وبالجملة ، إنّ عموم اعتبار البيّنة أوضح من أن يتمسّك فيه بمثل هذه الإطلاقات ، وفيما قدّمناه كفاية ، والمعاند لا يكفيه ألف حكاية.

نعم ، بقي في المقام إشكال من جهة اخرى ، وهو أنّ غاية ما يستفاد من الأدلّة المذكورة هو وجوب تصديق البيّنة من حيث الصدق المخبري دون الخبري ، على ما أشرنا إلى الفرق بينهما سابقا ، فغاية ما تدلّ عليه هذه الأدلّة نفي احتمال تعمّد الكذب في شهادة العدلين ، لا نفي الغفلة والسهو والنسيان ونحوها في المقدّمات اعتقادهما ، حتّى ينزّل المشهود به منزلة الواقع فيما كانت شهادتهما مبنيّة على الاعتقاد النظري دون الحسّي. فالأدلّة المذكورة مع تطرّق هذا الاحتمال لا تدلّ على اعتبار البيّنة. ولا يوجد مورد يخلو من جميع هذه الاحتمالات ، وإن وجد فنادر ، فأمّا اللفظيّة منها فلما أشرنا إليه عند بيان اعتبار شهادة العدل الواحد من ظهورها في نفي احتمال تعمّد الكذب خاصّة ، وأمّا غير اللفظيّة منها ـ من بناء العقلاء والاستقراء ـ فلأنّ ما ذكرناه هو المتيقّن منهما ، وأمّا دفع الاحتمالات المزبورة بالاصول فلا يعوّل عليه ، لكونها مثبتة في المقام.

ولعلّ ما ذكرناه هو الوجه في عدم اعتداد العلماء بشهادة العدلين في التقويمات والأروش والجنايات ، حيث اعتبروا فيها كونهما من أهل الخبرة. وكذا قد اعتبروا في باب الرواية بعد اعتبار عدالة الراوي كونه ضابطا ، لأنّ الشبهة في قبول قول الغير في هذه الأبواب ليست من حيث احتمال تعمّد الكذب ، حتّى ينفي بالأدلّة المتقدّمة على اعتبار قول البيّنة أو العدل الواحد ، بل من حيث احتمال الخطأ في الاجتهاد والنظر في التقويمات والسهو والنسيان في الرواية ، والأدلّة المذكورة لا تنفيها. وإن شئت قلت : إنّ اشتراطهم الخبرة والضبط في التقويم والرواية ليس من باب تخصيص أدلّة اعتبار قول البيّنة أو العدل الواحد ، بل من باب عدم شمول أدلّة اعتبار قولهما لقبول قول غير أهل الخبرة وغير الضابط.

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى ما ذكرناه إذا أخبرت البيّنة عن وقوع بيع أو غيره من العقود والإيقاعات ممّا اختلف فيه آراء الأصحاب ، أو عن طهارة ماء مخصوص في الخارج ، أو عن كون يوم معيّن أوّل شهر ، واحتمل كون الشهادة في الأوّل مبنيّة على اعتقاد الصحّة ، ولعلّنا لا نقول بصحّته لو اطّلعنا على اعتقاد البيّنة ، وفي الثاني على اعتقاد طهارة الماء القليل وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو رأي بعض الأصحاب ، وقلنا بانفعاله بها ، وفي الثالث على الاجتهاد في علم النجوم ، وقلنا بكون الحكم في أوّل الشهر منوطا بالرؤية كما في قوله عليه‌السلام : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» لا تسمع هذه الشهادات ، لعدم اندفاع الاحتمالات المذكورة بأدلّة اعتبارها. وهكذا في غير ذلك من الموارد التي احتمل ابتناء شهادة البيّنة على الاعتقاد النظري ، واحتملنا خطأه في بعض مقدّمات اعتقاده.

هذا ، ويمكن دفع هذا الإشكال ببناء العقلاء على عدم الالتفات إلى احتمال السهو والنسيان في الخطابات والأقارير والشهادات. وأمّا احتمال الخطأ في الاجتهاد في النظريّات ، فإن كان المشهود به ممّا لا يحتمل الاجتهاد فيه ، أو علم من حال الشاهد عدم بناء شهادته على الاجتهاد والنظر ، أو احتمل ذلك فيه لكن كان اجتهاده معتبرا عندنا أيضا ، فلا إشكال فيه.

وأمّا في غير ذلك فيمكن دفع الإشكال عنه من وجوه :

أحدها : أن يحمل المشهود به على الصحّة بعد ثبوت أصله بشهادة البيّنة ، فإنّها إذا شهدت بوقوع معاملة ، واحتملنا ابتناء شهادته على اعتقاد صحّته لأجل اجتهاده فيها كذلك ، وقلنا بعدم صحّتها على تقدير وقوعها على طبق ما زعمته البيّنة ، فأدلّة اعتبار قول البيّنة تدلّ على وقوع هذه المعاملة في الجملة ، لاندفاع احتمال تعمّد الكذب بهذه الأدلّة ، واحتمال السهو والنسيان ببناء العقلاء ، فإذا ثبت وقوعها في الجملة وتردّدت بين الصحيحة والفاسدة نحملها على الصحيحة ، حملا لفعل المسلم على الصحيح.

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن هذا الوجه لا يطّرد ، لاختصاصه بما كان من قبيل ذلك ، بأن كان فعلا محتملا للصحّة والفساد ، وكانت شهادة البيّنة مبنيّة على الاعتقاد الناشئ من الاجتهاد والنظر ، بخلاف ما لو شهدت بكون يوم معيّن أوّل شهر ، أو بطهارة ماء مخصوص كما تقدّم. ومرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في صحّة اعتقاد البيّنة وعدم خطائها في بعض مقدّمات اعتقادها ، فلا مسرح لقاعدة الحمل على الصحّة في مثله. اللهمّ إلّا أن يحمل اعتقاد البيّنة على الصحّة ، بناء على جريان القاعدة في الاعتقادات.

وثانيها : أن يحمل إقدام البيّنة على الشهادة وتعرّضها لها على الصحّة ، لأنّه أيضا فعل من أفعال المسلم منقسم إلى الصحيح والفاسد ، فيحمل الفرد المشكوك فيه منه على الصحّة. والفرد الصحيح منه ما كان ممضى عند الشارع وترتّب الأثر على ما أقدمت عليه ، والفاسد ما لم يكن كذلك.

وثالثها : أنّ المعتبر في الشهادة لما كان ما وقع على وجه الجزم واليقين دون الظنّ والتردّد ، فظاهر الشهادة على وجه الجزم استنادها إلى الحسّ دون النظر والاجتهاد ، لندرة حصول القطع منه ، فحينئذ يؤخذ بظاهرها ، ولا يلتفت إلى احتمال ابتنائها على الاجتهاد.

ولكن يشكل ذلك بمنع ندرة حصول اليقين من الأدلّة الاجتهاديّة ، لأنّه إن اريد به اليقين الوجداني فهو متّجه ، إلّا أنّه لا دليل على اعتباره في جواز شهادة الشاهد ، لأنّ الأدلّة الاجتهاديّة إذا ثبت اعتبارها شرعا أفادت اليقين الشرعي ، وجاز للشاهد بناء شهادته عليه ، وإن لم تكن معتبرة شرعا فعدالته مانعة من الاقتحام في الشهادة من دون مستند شرعيّ.

ورابعها وهي العمدة في المقام : أنّ المشهود به إن كان من الامور التي لها أسباب نظريّة بحيث تكون الشهادة مستندة إليها غالبا ، وإن استندت إلى الحسّ في بعض الأحيان ، وجب على الحاكم حينئذ أن يسأل الشاهد عن السبب ، ولا يعتني

فالصحّة فيها تكون من وجهين : الأوّل : من حيث كونه حركة من حركات المكلّف ، فيكون الشكّ من حيث كونه مباحا أو محرّما. ولا إشكال في الحمل على الصحّة من هذه الحيثيّة. الثاني : من حيث كونه كاشفا عن مقصود المتكلّم.

والشكّ من هذه الحيثيّة يكون من وجوه : أحدها : من جهة أنّ المتكلّم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن معنى أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى؟ ولا إشكال في أصالة الصحّة من هذه الحيثيّة بحيث لو ادّعى كون التكلّم لغوا أو غلطا لم يسمع منه.

الثاني : من جهة أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ومعتقد بمؤدّى ما يقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده؟ ولا إشكال في أصالة الصحّة هنا ايضا. فإذا أخبر بشىء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه ، ولا يسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله. وكذا إذا قال : افعل كذا ، جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة لمصلحة كالتوطين أو لمفسدة. وهذان الأصلان ممّا قامت عليهما السيرة القطعيّة ، مع إمكان إجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام. لكنّ المستند فيه ليس تلك الأدلّة.

______________________________________________________

بإطلاق الشهادة من دون ذكر السبب. وإن كان ممّا له أسباب نظريّة وحسيّة ، وكان الغالب استناد الشهادة إلى الحسيّة منها ، فالفرد المشكوك فيه يحمل على الغالب ، ولا يجب عليه السؤال عن السبب حينئذ ، لبناء العقلاء على هذه الغلبة في باب الشهادة في عدم الالتفات إلى احتمال استنادها إلى الأسباب الاجتهاديّة التي يحتمل فيها الخطأ.

ولعلّه إلى ذلك ينظر كلام الشهيد في قواعده ، لأنّه بعد الحكم بحمل إخبار المسلم على الصحّة قال : «يشترط في بعض الموارد هنا ذكر السبب عند اختلاف الأسباب ، كما لو أخبر بنجاسة الماء ، فإنّه يمكن أن يتوهّم ما ليس بسبب سببا وإن كانا عدلين. اللهمّ إلّا أن يكون المخبر فقيها يوافق اعتقاده اعتقاد المخبر. ومنه عدم قبول شهادة الشاهد باستحقاق الشفعة ، أو بأنّ بينهما رضاعا محرّما ، لتحقّق

الثالث : من جهة كونه صادقا في الواقع أو كاذبا. وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره ، فمعنى حجّية خبره صدقه. والظاهر عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح بهذا المعنى ، والظاهر عدم الخلاف في ذلك ؛ إذ لم يقل أحد بحجّية كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه حتّى نرتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل.

وربّما يتوهّم وجود الدليل العامّ من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ، وما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتّهامه عموما (٢٧١٧) ، وخصوصا قوله عليه‌السلام : " إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم" ، وغير ذلك ممّا ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا عدم دلالتها. مع أنّه لو فرض دليل عامّ على حجّية خبر كلّ مسلم ، كان الخارج منه أكثر من الداخل (٢٧١٨) ؛ لقيام الإجماع على عدم اعتباره في الشهادات ولا في الروايات إلّا مع شروط خاصّة ، ولا في الحدسيّات والنظريّات إلّا في موارد خاصّة ، مثل الفتوى وشبهها (٢٧١٩).

نعم يمكن أن يدّعى : أنّ الأصل في خبر العدل الحجّية ؛ لجملة ممّا ذكرناه في

______________________________________________________

الخلاف في ذلك ، وبأوّلية شهر ، أو بإرث زيد من عمرو ، أو بكفره ، والصور كثيرة». إلى أن قال : «وبالجملة ، لا ينبغي للشاهد أن يرتّب الأحكام على أسبابها ، بل وظيفته أن ينقل ما سمعه منها من إقرار أو عقد بيع أو غيره ، أو ينقل ما رآه ، وإنّما ترتيب المسبّبات وظيفة الحاكم ، فالشاهد سفير ، والحاكم متصرّف» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وهذا خلاصة الكلام في تحقيق عموم اعتبار قول البيّنة. وقد تقدّم في تضاعيف الأدلّة ما يدلّ على كفاية الاثنين في الشهادة ، بحيث يكون هذا أصلا في الباب يدفع به احتمال اعتبار العدد الزائد عليهما في بعض الموارد ، وبعد إثبات كفاية الشاهدين ثبت اعتبار الزائد عليهما بالأولويّة. والله العالم بحقيقة الحال.

٢٧١٧. أي : في جميع أفعاله وأقواله.

٢٧١٨. متعلّق بقوله «خرج».

٢٧١٩. كقول الطبيب وإخبار المقوّم عن القيمة ونحوهما.

أخبار الآحاد ، وذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع.

وأمّا الاعتقادات ، فنقول : إذا كان الشكّ في أنّ اعتقاده ناش عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدّماته ، فالظاهر وجوب الحمل على الصحيح ؛ لظاهر بعض ما مرّ من وجوب حمل امور المسلمين على الحسن دون القبيح.

وأمّا إذا شكّ في صحّته بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ، ولو ثبت ذلك أوجب حجّية (٢٧٢٠) كلّ خبر أخبر به المسلم ؛ لما عرفت من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر.

أمّا لو ثبت حجّية خبره : فقد يعلم أنّ العبرة باعتقاده بالمخبر به ، كما في المفتي وغيره ممّن يعتبر نظره في المطلب ، فيكون خبره كاشفا عن الحجّة لا نفسها. وقد يعلم من الدليل حجّية خصوص إخباره بالواقع ، حتّى لا يقبل منه قوله : اعتقد بكذا. وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واخرى بالإخبار بعلمه به. والمتّبع في كلّ مورد ما دلّ عليه الدليل ، وقد يشتبه مقدار دلالة الدليل.

ويترتّب على ما ذكرنا (٢٧٢١) قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم وصحّة التعويل في العدالة على اقتداء العدلين.

المقام الثاني : في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ، ومجمل القول فيها (٢٧٢٢):

______________________________________________________

٢٧٢٠. حاصله : أنّا إن قلنا بأصالة مطابقة اعتقاد المسلم للواقع ، وقد تقدّم أيضا أنّ الأصل في الخبر هو الكشف عن معتقد المخبر ، فلازم هاتين المقدّمتين حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم ، وهو واضح.

٢٧٢١. لأنّ المناط في قبول تزكية أهل الرجال هو اعتقاد المزكّي بعدالة الراوي لا إخباره عن الواقع ، وحيث فرض كون الكتابة كالقول كاشفة عن الاعتقاد تحقّق فيها مناط قبول الشهادة بعدالة الراوي. ونحوه الكلام في مسألة الاقتداء.

٢٧٢٢. توضيح هذا الإجمال على ما يسعه المجال وتقتضيه الحال : أنّه لا إشكال

.................................................................................................

______________________________________________________

في اعتبار قاعدة القرعة ، وقد نطق بها الكتاب ، وتواترت بها الأخبار. قال الله تبارك وتعالى في قصّة يونس على نبيّنا وعليه‌السلام : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) المراد بالمساهمة المقارعة ، وبكونه من المدحضين صيرورته معلوما بالقرعة ممتازا عن غيره ، والإدحاض : الإزالة والإبطال ، والمعنى : صار من المقروعين المعلومين المقهورين ، كما في المجمع. وصورة الواقعة كما في الخبر : أنّه عليه‌السلام لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمر الله به ، فركب في السفينة فوقفت السفينة ، فقالوا : هنا عبد أبق عن مولاه فأقرعوا ، فخرجت القرعة على يونس عليه‌السلام ، فرمى بنفسه في الماء فالتقمه الحوت.

وأمّا الأخبار فكثيرة مذكورة في محلّها. وموردها أعمّ من المشتبه في الواقع والظاهر ، ـ بمعنى كون المشتبهين متساويين في الاندراج تحت عموم الأدلّة الواقعيّة ـ كتزاحم الإمامين أو المترافعين عند الحاكم أو المتدرّسين عند المدرّس ، وغيرها ممّا أجمع الأصحاب على الرجوع فيها إلى القرعة ، مع كونه غير معيّن في الواقع والظاهر ، ومن المشتبه في الظاهر المعيّن في الواقع ، كما في اختلاط الموتى في الجهاد ، وتلف درهم من الودعيّين ، والعبد المعتق بين الاثنين أو أكثر ، إلى غير ذلك.

ولا إشكال في اعتبارها في المقامين ، لأنّه كما ورد أنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه أو لكلّ أمر مجهول الظاهر فيما كان مشتبها في الظاهر فقط ، كذلك قد ورد أنّها لكلّ أمر مشكل الظاهر فيما لم يكن معيّنا لا في الظاهر ولا في الواقع ، فهي كما تصلح لتمييز المشتبه في الظاهر خاصّة ، كذلك تصلح لترجيح ما لم يكن معيّنا في الواقع أيضا.

فما صدر عن الشهيد الثاني في موارد من اختصاصها بالمشتبه في الظاهر خاصّة ، استنادا إلى أنّها لكلّ أمر مشتبه ، ليس كما ينبغي. مضافا إلى ما ورد في خصوص المشتبه في الواقع ، مثل صحيحة الحلبي : «فمن قال : أوّل مملوك أملكه فهو حرّ ، فورث سبعة جميعا ، قال : يقرع بينهم وعتق الذي خرج سهمه». وإلى أنّ

.................................................................................................

______________________________________________________

تزاحم الإمامين أو المترافعين أو المتدرّسين ممّا أجمع الأصحاب ـ حتّى الشهيد الثاني ـ على اعتبار القرعة فيه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من التعميم في موردها ، وكونها أعمّ من التمييز والترجيح ، إنّما هو بالنظر إلى ظاهر كلمات الأصحاب ، وإلّا أمكن أن يقال بكونها للتمييز مطلقا من دون ترجيح لغير المعيّن في الواقع ، بأن يقال : إنّ جعل الأحكام الكلّية كما أنّه لا بدّ أن يكون ناشئا من المصالح والمفاسد الكلّية الكامنة التي لاحظها الشارع ، كذلك يمكن أن يقال بكون القرعة مجعولة لتمييز المصالح الشخصيّة في الموارد الخاصّة المشتبهة التي تختلف باختلاف زمان المكلّف ومكانه وسائر أحواله ، فهي دائما لكشف ما فيه المصلحة من الطرفين ، فلا يفرّق في ذلك بين ما كان من قبيل تزاحم الإمامين واختلاط الموتى في الجهاد.

وربّما يكشف عن هذا المعنى ما رواه في الفقيه والتهذيب عن محمّد بن حكيم عن الكاظم عليه‌السلام : «كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له : إنّ القرعة تخطئ. فقال : كلّ ما حكم الله به فليس بمخطئ» لأنّ الظاهر أنّ المراد بالإصابة إصابة ما فيه المصلحة للمتقارعين في نفس الأمر ، فتكون القرعة معتبرة في مواردها مطلقا لتمييز المصلحة الشخصيّة فيها خاصّة. ولم أر من تنبّه على هذا المعنى من الرواية.

لا يقال : إنّ ما ذكرته يرجع إلى مقالة الشهيد الثاني من كون القرعة للتمييز دون الترجيح.

لأنّا نقول : إنّه لا يقول للتمييز بهذا المعنى كما هو واضح ممّا قدّمناه.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ الأصحاب ـ كما ادّعاه بعض مشايخنا ـ قد أطبقوا على تقديم الاستصحاب ـ بل البراءة والتخيير والاحتياط ـ على القرعة ، فلا إشكال في الحكم. وإنّما الإشكال في وجهه ، وقد ذكروا له وجوها غير ناهضة :

أحدها : أنّ أدلّتها وإن كثرت بل ربّما بلغت الأخبار الواردة فيها حدّ التواتر ، إلّا أنّه قد تطرّق عليها الوهن لأجل كثرة المخصّصات الواردة عليها ،

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يعمل بها في مقابل الاصول ، بل لا يعمل بها مطلقا ما لم تنجبر بعمل الأصحاب أو جماعة منهم.

وفيه : أنّ مقتضى هذا الوجه جواز العمل بها بعد الانجبار ، وأمّا قبل الانجبار فعدم العمل بها حينئذ لعدم حجّيتها لا لتقدّم الاصول عليها.

وثانيها : أنّ الاصول مبيّنة للشبهة ، فيرتفع موضوع القاعدة بها ، فتكون الاصول واردة عليها. وهذا الوجه يظهر من صاحب العناوين.

وفيه : أنّه يمكن قلب هذه الدعوى ، بأن يقال : إنّ القرعة مزيلة للشكّ المأخوذ في موضوع الاصول ولو في الظاهر ، لأنّ المأخوذ في موضوع كلّ من القاعدة والاصول في الأدلّة هو الشكّ والجهل والشبهة وعدم العلم ، فإن كان المراد بهذه العناوين هو الجهل بالواقع خاصّة حتّى لا يكفي في إزالتها بيان الحكم الظاهري في مقام الجهل ، فلا ريب أنّ ذلك لا يختصّ بأحدهما ، وإن كان أعمّ من الجهل بالواقع والظاهر فكذلك. فاعتبار الجهل أعمّ منهما في موضوع القاعدة دون الاصول لا وجه له أصلا. بل ربّما يدّعى كون ظاهر رواية محمّد بن حكيم المتقدّمة كون القرعة كسائر الأمارات الظنّية كاشفة عن الواقع ، فتكون حاكمة أو واردة على الاصول.

ومن هنا يظهر فساد وجه ثالث في المقام ، وهي حكومة الاصول على قاعدة القرعة.

ورابعها : أنّ أدلّة القرعة أعمّ من أدلّة الاصول ، فتخصّص بها ، لكون الاولى أعمّ من الشكّ في التكليف والمكلّف به ، مع إمكان الاحتياط وعدمه ، مع كون الشبهة حكميّة أو موضوعيّة وغيرها.

فإن قلت : إنّ الإجماع منعقد على عدم جريان القرعة في الأحكام المشتبهة ، بل الضرورة قاضية بذلك ، وإلّا لاختلّ نظام الأحكام. وحينئذ تصير النسبة بين عمومات الاصول والقرعة عموما من وجه. ومحلّ الاجتماع مع الاستصحاب

.................................................................................................

______________________________________________________

هي الشبهات الموضوعيّة المسبوقة بالحالة السابقة ، ومحلّ الافتراق للاستصحاب هي الشبهة الحكميّة مطلقا ، ولقاعدة القرعة هي الشبهات الموضوعيّة مع عدم سبق حالة سابقة. وبعد التعارض في مورد الاجتماع لا بدّ من الرجوع إلى سائر القواعد.

قلت : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ لو ترتّبت المخصّصات ، حتّى لوحظت النسبة بعد التخصيص أوّلا بين الباقي تحت العامّ والخاصّ الآخر ، ولا دليل عليه ، لأنّ كلّا من الإجماع وعمومات الاصول مخصّص لعمومات القرعة في آن واحد ، فإنّ انعقاد الإجماع وإن تأخّر عن صدور الأخبار زمانا ، إلّا أنّه كاشف عن اقتران العامّ حين صدوره بما يؤدّي مؤدّاه.

وبالجملة ، إنّ جميع الأخبار وإن اختلفت صدورا بحسب اختلاف زمان الأئمّة عليهم‌السلام وزمان صدورها ، وكذلك الإجماعات وإن تأخّر انعقادها عن زمان صدور الأخبار بل اختلف زمان انعقادها ، إلّا أنّ جميع ذلك لا بدّ أن يفرض كالصادر في زمان واحد ، لكون جميع ذلك حاكيا عن حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكون الأئمّة عليهم‌السلام حاكين عنه لا منشئين للأحكام ، فهم عليهم‌السلام معه صلى‌الله‌عليه‌وآله كالمتكلّم الواحد في زمان واحد ، فلا وجه للتخصيص أوّلا ثمّ ملاحظة النسبة بعده.

فإن قلت : سلّمنا كون النسبة عموما مطلقا ، إلّا أنّ الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ مع قوّته ورجحانه عليه ، وليس المقام كذلك ، لأنّ رواية محمّد بن حكيم المتقدّمة تدلّ ـ كما أشرنا إليه ـ على اعتبار القرعة من باب الكشف عن الواقع ، فتكون حاكمة على عمومات الاصول ، وإن كانت خاصّة بالنسبة إلى عمومات القرعة.

قلت : لو لا الإجماع ـ كما نقل ـ على عدم وجوب الرجوع إلى القرعة ، بل جوازه أيضا في موارد الاصول ، لاتّجه ما ذكر كما لا يخفى.

هذا ، وتحقيق المقام مع الغضّ عن الإجماع المذكور : أنّا إن قلنا باعتبار الاصول من باب التعبّد فالقاعدة حاكمة عليها ، سواء قلنا باعتبارها من باب الظنّ النوعي ، كما هو ظاهر رواية محمّد بن حكيم المتقدّمة ، أم من باب التعبّد كما هو

أنّ ظاهر أخبارها أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ؛ فلا بدّ من تخصيصها بها ، فيختصّ القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب.

نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير ، وأصالتي الإباحة والاحتياط إذا كان مدركهما العقل ، وإن كان مدركهما تعبّد الشارع بهما في مواردهما فدليل القرعة حاكم عليهما ، كما لا يخفى. لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، والله العالم.

المقام الثالث : في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة أعني : أصالة البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير.

______________________________________________________

ظاهر أكثر أخبارها. أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني ، فإنّ ظاهر الأخبار الواردة فيها كونها مجعولة لتشخيص المشتبه الواقعي في مورد الشكّ ولو تعبّدا ، فيكون تقدّمها على الاصول نظير تقدّم البيّنة عليها ، بناء على اعتبار البيّنة من باب التعبّد.

فإن قلت : إنّ هذا مسلّم بالنسبة إلى البراءة والاحتياط والتخيير. وأمّا بالنسبة إلى الاستصحاب فلا ، لأنّه أيضا في الموضوعات مشخّص لحال الموضوع المشتبه ، ومبيّن لبقائه على حالته الاولى.

قلت : إنّ معنى اعتبار الاستصحاب في الموضوعات من باب التعبّد ترتيب آثار الموضوع المعلوم عليه ، لا وجوب البناء على كون الموضوع المشتبه البقاء موجودا في اللاحق ، أو كون الموضوع المشتبه البقاء على صفة كونه في اللاحق على الصفة المذكورة ، بخلاف قاعدة القرعة ، لأنّ ظاهر الأخبار الواردة فيها هو وجوب البناء على كون الموضوع المشتبه ما أخرجته القرعة ، لا على مجرّد ترتيب آثار الواقع عليه ، بل عليه وعلى كونه هو الموضوع المطلوب إخراجه بها.

وتظهر ثمرة هذا البناء في تقديمها على الاستصحاب في المقام وإن قلنا باعتبارها من باب العقل ، فالقاعدة واردة على ما عدا الاستصحاب ، لأنّ موضوع البراءة ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في أوّل باب التعادل والترجيح ـ هو عدم البيان ،

أمّا أصالة البراءة ، فلا تعارض الاستصحاب ولا غيره من الاصول والأدلّة ، سواء كان مدركها العقل أو النقل. أمّا العقل ، فواضح ؛ لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلّا مع عدم الدليل على التكليف واقعا أو ظاهرا. وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل (٢٧٢٣) فقد اتّضح أمره ، والاستصحاب وارد عليه.

وأمّا مثل قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي" ، فقد يقال (٢٧٢٤) إنّ مورد الاستصحاب خارج منه ؛ لورود النهي في المستصحب ولو بالنسبة إلى الزمان

______________________________________________________

وموضوع قاعدة الاحتياط هو احتمال العقاب ، وموضوع التخيير عدم الترجيح ، وهذه كلّها مرتفعة بالقاعدة. وأمّا الاستصحاب فهو حاكم على القاعدة إن قلنا باعتبارها من باب التعبّد ، وإن قلنا باعتبارها من باب الظنّ النوعي فالظاهر حصول التعارض بينهما.

وممّا ذكرناه يظهر ما في حكم المصنّف رحمه‌الله بكون عمومات الاستصحاب مخصّصة لعمومات القرعة ، لأنّ الحكم بالتخصيص إنّما يتمّ في غير مورد الحكومة على ما عرفت. هذا كلّه بناء على الإغماض عن انعقاد الإجماع على تقديم الاصول عليها ، وإلّا فلا مناص من العمل بمقتضاه ، ولكن ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله هنا عدم تحقّقه في المقام ، فتدبّر.

٢٧٢٣. مثل قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» ونحوه ، لتعلّق الحكم فيه بعدم العلم المساوق لعدم الدليل والبيان واقعا وظاهرا. هذا بخلاف قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» لتعليق الحكم بالإباحة فيه على عدم وصول نهي من الشارع الصادق مع ورود حكم ظاهري لمجهول الحرمة مخالف للإباحة. ولذا قد ذكر المصنّف رحمه‌الله في مسألة البراءة معارضة هذا الخبر مع أخبار الاحتياط ، بخلاف غيره من أخبار البراءة.

٢٧٢٤. القائل صاحب الرياض على ما حكاه عنه بعض مشايخنا. وحاصل ما ذكره : أنّه قد ثبتت بالإجماع ونحوه حرمة العصير قبل ذهاب ثلثيه بالنار ، بحيث لم

السابق. وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء حرمته لم يرد نهي عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلا بدّ من أن يكون مرخّصا فيه ، فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي ، وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عنه بعده ، كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية ، لدلّ على المنع عن كلّ كليّ ورد المنع عن بعض أفراده.

والفرق في الأفراد بين ما كان تغايرها بتبدّل الأحوال والزمان دون غيرها ، شطط من الكلام ، ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب.

ويتلوه في الضعف ما يقال : من أنّ النهي الثابت بالاستصحاب عن نقض اليقين ، نهي وارد في رفع (٢٧٢٥) الرخصة. وجه الضعف : أنّ الظاهر من الرواية بيان الرخصة

______________________________________________________

يظهر شموله لصورة ذهاب ثلثيه بالهواء ، ولذا صار هذا محلّ شبهة. ولكن لا يمكن التمسّك فيه بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» لصدق الغاية مع ذهاب الثلثين بالهواء ، إذ يصدق أنّه ممّا ورد فيه نهي ولو باعتبار وروده قبل ذهاب ثلثيه.

وتوضيح الجواب : أنّ العصير قبل ذهاب ثلثيه موضوع وبعده موضوع آخر ، فثبوت النهي في الأوّل لا يوجب ثبوته في الثاني وإن اشتركا في كونهما فردين من العصير ، ولكن النهي عن بعض أفراد العامّ لا يوجب النهي عن فرد آخر.

فإن قلت : إن فرض كونهما فردين متغايرين فكيف يجعل ذلك من موارد تعارض الاستصحاب مع قاعدة البراءة؟ ويشترط في الأوّل اتّحاد الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة حتّى يصدق معه البقاء والارتفاع.

قلت : نعم ، ولكنّ المدار في اتّحاد الموضوع والبقاء والارتفاع على الصدق العرفي لا المداقّة العقليّة كما تقدّم في محلّه ، ومع عدم الاتّحاد عرفا لا مسرح للاستصحاب ، والمقام ليس كذلك. وإنّما قلنا : وقد ثبتت بالإجماع ونحوه ، إذ لو ثبتت بعموم دليل لفظي أو إطلاقه لم يكن مجرى للاستصحاب وأصالة البراءة أصلا.

٢٧٢٥. حاصله : أنّه قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» وإن أثبت إباحة العصير بعد

في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاصّ ، لا من حيث إنّه مشكوك الحكم ، وإلّا فيمكن العكس بأن يقال : إنّ النهي عن النقض في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة الإباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البراءة ، فتأمّل.

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق ، فقوله : " لا تنقض اليقين بالشكّ" يدلّ على أنّ النهي الوارد لا بدّ من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق وفرض الشيء في الزمان اللاحق ممّا ورد فيه النهي أيضا. فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ، وكلّ نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغيّا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان ، فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشكّ لو لا النهي ، وهذا معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض.

______________________________________________________

ذهاب ثلثيه بالهواء من حيث كونه مشكوك الحكم ، إلّا أنّ استصحاب النهي السابق رافع لهذه الإباحة والرخصة ، وبهذا يدخل العصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء في الغاية دون المغيّا.

وحاصل الجواب : أنّ ظاهر قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» هو بيان الرخصة ما لم يصل النهي عن الشيء من حيث عنوانه الخاصّ لا من حيث إنّه مشكوك الحكم ، فيدلّ على إباحة كلّ شيء لم تعلم حرمته واقعا. والمراد بالنهي في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو المنع من نقض الحالة السابقة في المورد المشكوك البقاء ، من حيث كونه مشكوك البقاء فهو يفيد الحرمة الظاهريّة في مورد لم يعلم ارتفاع النهي الواقعي الثابت في السابق. وحينئذ فكما يمكن أن يقال : إنّ المراد بالرخصة في الرّواية الاولى غير مورد تحقّق النهي السابق ، كذلك يمكن أن يقال : إنّ المراد بالنهي في الرواية الثانية غير مورد ثبوت الرخصة للشيء من حيث كونه مشكوك البقاء ، فتتعارضان فتتساقطان.

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة (٢٧٢٦) الحكميّة والموضوعيّة ، بل الأمر في الشبهة الموضوعيّة أوضح (٢٧٢٧) ؛ لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة. مثلا : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشكّ في بقاء حرمته لأجل الشكّ في الذهاب ، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته بالأدلّة ، فيخرج عن قوله : " كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام".

نعم ، هنا إشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعيّة ، وهو قوله عليه‌السلام في الموثّقة : " كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره ، أو تقوم به البينة".

فإنّه قد استدل بها جماعة كالعلّامة في التذكرة وغيره على أصالة الإباحة ، مع أنّ أصالة الإباحة هنا معارضة باستصحاب حرمة التصرف في هذه الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب والحرّية في المملوك (٢٧٢٨) وعدم تأثير العقد في الامرأة. ولو اريد من الحلّية (٢٧٢٩) في الرواية ما يترتّب على أصالة الصحّة

______________________________________________________

٢٧٢٦. في إطلاق كلامه نظر ، إذ أصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة قد تكون حاكمة على الاستصحاب ، كما إذا بلغ ماله مقدار الاستطاعة للحجّ لو لم يكن عليه دين ، ولكن شكّ في اشتغال ذمّته بمقدار من الدين بحيث لا يفي ماله بالحجّ بعد إيفائه ، إذ أصالة البراءة عن هذا الدين حاكمة على استصحاب عدم الاستطاعة باعتراف من المصنّف رحمه‌الله في مسألة البراءة ، فلا بدّ من ملاحظة المقامات وضابطة الحكومة.

٢٧٢٧. قد تقدّم الكلام في ذلك في صدر الكتاب عند الكلام في فروع العلم الإجمالي ، عند بيان جواز المخالفة الالتزاميّة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، فراجع حتّى تتبصّر هنا.

٢٧٢٨. فيه نوع مسامحة ، لعدم كون أصالة الحرّية من أفراد الاستصحاب ، بل هي قاعدة اخرى في كلّ إنسان مشكوك الحرّية والرقية.

٢٧٢٩. بأن اريد بها قاعدة الصحّة في شراء الثوب والمملوك ، واستصحاب

في شراء الثوب والمملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة ، كان خروجا عن الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة ، كما هو ظاهر الرواية. وقد ذكرنا في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ، والله الهادي.

هذا كلّه حال قاعدة البراءة. وأمّا استصحابها ، فهو لا يجامع (٢٧٣٠) استصحاب التكليف ؛ لأنّ الحالة السابقة إمّا وجود التكليف أو عدمه ، إلّا على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين إلى إمكان تعارض استصحابي الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : صم يوم الخميس.

الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب ولا إشكال بعد التأمّل في ورود الاستصحاب عليها ؛ لأنّ المأخوذ في موردها بحكم العقل الشكّ في براءة الذمّة بدون الاحتياط ، فإذا قطع بها بحكم الاستصحاب فلا مورد للقاعدة ، كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط الجمع فيها بين القصر والتمام ، فإنّ استصحاب وجوب أحدهما وعدم وجوب الآخر مبرئ قطعيّ لذمّة المكلّف عند الاقتصار على مستصحب الوجوب.

هذا حال القاعدة ، وأمّا استصحاب الاشتغال (٢٧٣١) في مورد القاعدة

______________________________________________________

عدم النسب والرضاع في المرأة ، وهما حاكمان على استصحاب الحرمة. وأنت خبير بأنّه إنّما يتمّ إن كانت قاعدة الصحّة عامّة لفعل الشاكّ أيضا. اللهمّ إلّا أن يريد بها قاعدة الشكّ بعد الفراغ ، وهو أيضا إنّما يتمّ على تقدير عموم هذه القاعدة أيضا لصورة تذكّر الشاكّ للواقعة على ما وقعت عليه ، كما هو ظاهر الرواية. وقد تقدّم استشكال المصنّف رحمه‌الله فيه في الموضع السابع من المواضع المتعلّقة بالقاعدة. مع أنّ استصحاب عدم النسب إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة ، فتدبّر.

٢٧٣٠. حتّى يلاحظ فيه حكم التعارض والترجيح ، لأنّ الواقعة إن كانت مسبوقة بالتكليف فهي مورد لاستصحابه ، وإن كانت مسبوقة بعدمه فهي مورد لاستصحاب البراءة ، فهما لا يجتمعان أصلا.

٢٧٣١. يعني : بعد الموافقة الاحتماليّة بالإتيان بأحد المحتملين ، كما في مثال

على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا سابقا من أنّه غير مجد في مورد القاعدة لإثبات ما يثبته القاعدة ـ فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين. وحاصله أنّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال حاكم على استصحابه.

الثالث : [تعارض قاعدة] التخيير [مع الاستصحاب] ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه ؛ إذ لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير ، فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والإفطار في اليوم المحتمل كونه من شوّال مع استصحاب عدم الهلال ، ولذا فرّع الإمام عليه‌السلام قوله : " صم للرؤية وأفطر للرؤية" على قوله : " اليقين لا يدخله الشكّ".

وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين وهي المسألة المهمّة في باب تعارض الاصول التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع.

فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة من حيث كونهما موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين ، وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، وكونهما في موضوع واحد أو موضوعين ، وكون تعارضهما بأنفسهما أو بواسطة أمر خارج (٢٧٣٢) إلى غير ذلك (٢٧٣٣) ، إلّا أنّ الظاهر أنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلّا من جهة واحدة ، وهي أنّ الشكّ في أحد

______________________________________________________

الظهر والجمعة وكذا القصر والإتمام ، فإنّه بعد الإتيان بإحداهما يستصحب الاشتغال ، فيحكم بوجوب الإتيان بالاخرى.

٢٧٣٢. كالعلم الإجمالي في موارده.

٢٧٣٣. مثل وجود مرجّح لأحد الاستصحابين ، وعدمه. وعلى الأوّل : كون المرجّح من الاصول ، أو غيرها. وعلى الثاني : إمّا أن يكون من الظنون المعتبرة ، أو لا. وعلى التقادير : إمّا أن نقول باعتبار الاستصحاب من باب الوصف ، أو السببيّة. إلى غير ذلك.

ثمّ إنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله أيضا ينشعب إلى أقسام ، مثل كون الموضوع صرفا أو مستنبطا أو متعلّقا لحكم تكليفي أو وضعي ، والحكم كلّيا أو جزئيّا ، تكليفيّا أو وضعيّا ، إلى غير ذلك.

الاستصحابين (٢٧٣٤) إمّا أن يكون مسبّبا عن الشكّ في الآخر من غير عكس ، وإمّا أن يكون الشكّ فيهما مسبّبا عن ثالث. وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر فغير معقول.

وما توهّم له من التمثيل بالعامّين من وجه ، وأنّ الشكّ في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشكّ في أصالة العموم في الآخر. مندفع : بأنّ الشكّ في الأصلين مسبّب عن العلم الإجمالي بتخصيص أحدهما.

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ فرض تعارض الاستصحابين في موضوع واحد مشكل بل ممتنع ، لعدم إمكان وجود حالتين سابقتين لموضوع واحد حتّى يمكن استصحابهما معا ، كما هو قضيّة التعارض. ولعلّ إدراج المصنّف رحمه‌الله ذلك في الأقسام لاستيفاء الأقسام المقصورة عقلا لا الواقعة منها شرعا.

قلت : نمنع عدم الإمكان ، لإمكان فرضه في مثل الجلد المطروح ، فإنّ استصحاب الطهارة الثابتة حال الحياة يقتضي طهارته ، واستصحاب عدم التذكية يقتضي كونه ميتة ، وهو مستلزم لنجاسته. نعم ، ما ذكره النراقي من تعارض استصحاب الوجود والعدم في محلّ واحد قد أوضح المصنّف رحمه‌الله فساده سابقا.

٢٧٣٤. لا يخفى أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحابين بحسب التصوير العقلي لا يخلو : إمّا أن يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر ، وإمّا أن يكون كلّ منهما مسبّبا عن سبب مغاير لسبب الآخر ، وإمّا أن يكونا مسبّبين عن ثالث ، وإمّا أن يكون كلّ منهما مسبّبا عن الآخر. ولا سبيل إلى الأخير ، لعدم تعقّله كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. فما صدر عن النراقي من إدراجه تحت الأقسام وتمثيله له بالعامّين من وجه ممّا لا وجه له ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. وأمّا عدم إشارة المصنّف رحمه‌الله إلى القسم الثاني مع صحّته ووقوعه شرعا ، فلكونه في حكم القسم الثالث كما سنشير إليه.

ومثال الأوّل : الثوب النجس المغسول بالماء النجس المسبوق بالطهارة ، وكذا الثوب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض الطاهرة. والثاني : مثل واجدي

وكيف كان ، فالاستصحابان المتعارضان على قسمين : القسم الأوّل (٢٧٣٥) ما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، واللازم تقديم الشكّ السببي وإجراء الاستصحاب فيه ، ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر. مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ، فإنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبّب عن الشكّ في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ، فيستصحب طهارته ، ويحكم بارتفاع نجاسة الثوب.

خلافا لجماعة (٢٧٣٦) ،

______________________________________________________

المنيّ في الثوب المشترك ، لأنّ شكّ كلّ منهما في جنابته مسبّب عن وجدانه المني في الثوب ، أو عن علمه إجمالا بجنابته أو جنابة صاحبه ، فهنا شكّان مسبّبان عن أحدهما ، وعلمان إجماليّان مسبّبان عن الأوّل خاصّة. والثالث : كالماء النجس المتمّم بالطاهر كرّا ، لأنّ الشكّ في بقاء المتمّم ـ بالفتح ـ على نجاسته والمتمّم بالكسر على طهارته مسبّب عن علم إجمالي باتّحاد حكم الماءين إجماعا ، وكالمتوضّئ بالماء المشتبه النجاسة ، فإنّ الشكّ في بقاء طهارة البدن وكذا في بقاء الحدث مسبّبان عن الشكّ في نجاسة الماء ، أو عن العلم الإجمالي بارتفاع واحد من الطهارة والحدث.

٢٧٣٥. اعلم أنّ هذه المسألة هي المعنونة بمسألة المزيل والمزال ، وقد حكي عن الفاضل النراقي أنّه المبتدع لها ، ولا سابق له في ذلك ، حيث عنون المسألة ورجّح المزيل على المزال. وهو الأقوى ، وفاقا له ولجماعة من محقّقي مقارب عصرنا ومنهم المصنّف رحمه‌الله.

٢٧٣٦. اعلم أنّ الأقوال المخالفة ثلاثة : أحدها : الحكم بالتعارض والتساقط. وثانيها : الجمع بين الأصلين والعمل بهما في موردهما. وهو لجماعة منهم صاحب الرياض والمحقّق القمّي قدس سرّهما ، كما سيشير المصنّف رحمه‌الله إليه وإلى سابقه.

وثالثها : إعمال مرجّحات التعارض ثمّ التخيير بينهما. وهو الظاهر من جماعة ، ومنهم الفاضل الكلباسي في آخر مسألة التعادل والترجيح. ولكن لم

لوجوه (*) (٢٧٣٧) : الأوّل : الإجماع على ذلك في موارد لا تحصى ، فإنّه لا يحتمل الخلاف في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية كالطهارة من الحدث والخبث وكريّة الماء وإطلاقه وحياة المفقود وبراءة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحجّ ونحو ذلك على استصحاب عدم لوازمها الشرعية ، كما لا يخفى على الفطن المتتبّع. نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات يعارض أحدهما بالآخر ، كما سيجيء. ويؤيّده السيرة المستمرّة بين الناس على ذلك بعد الاطّلاع على حجّية الاستصحاب ، كما هو كذلك في الاستصحابات العرفية.

______________________________________________________

يظهر هذا من المعتنين بالفقه ، كالفاضلين والشهيدين وأمثالهم. وسنشير إلى ما يتعلّق بالأقوال عند بيان ما نقله المصنّف رحمه‌الله من الخلاف عن جماعة.

٢٧٣٧. تعليل لقوله : «واللازم تقديم الشكّ السببي ...». ولا يذهب عليك أنّ هذه الوجوه تبلغ تسعة ، وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى أكثرها ، أربعة منها بعنوان مستقلّ. وأشار إلى الخامس والسادس ـ وهما السيرة وبناء العقلاء ـ في ضمن الدليل الأوّل ، وإلى السادس بالخصوص بعد الفراغ من الأدلّة بقوله : «ويشهد لما ذكرناه ...» ، وإلى السابع بما نقله عن الشيخ علي في حاشية الروضة من الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي ، وليس الوجه فيه سوى كونهما من قبيل المزيل والمزال. وأمّا الثامن والتاسع فهما ما تمسّك به بعض مشايخنا.

أمّا الأوّل ، فإنّ العمل بالظواهر واجب ما لم يثبت دليل مخرج منها. والعمل بالاستصحاب في الشكّ السببي موجب لبقاء قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» على ظاهره ، لخروج الشكّ المسبّب منه حينئذ بحسب الموضوع ، لكون زوال النجاسة عن الثوب النجس من آثار غسله بالماء المستصحب الطهارة ، بخلاف العمل بالاستصحاب في الشكّ المسبّب ، لأنّه موجب لخروج الشكّ السببي من عموم حكمه ، لعدم كون نجاسة الماء من آثار استصحاب نجاسة الثوب ، فالعمل بالاستصحاب في الشكّ المسبّب مخصّص لعمومه لا محالة ، والأصل عدم التخصيص.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «لوجوه» ، ويدلّ على المختار امور :.

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة ، إنّه مع دوران الأمر في فرد بين إخراجه من حكم العامّ أو موضوعه فالثاني أولى ، لعدم استلزامه ارتكاب خلاف الظاهر فيه ، بخلافه على الأوّل ، كما قرّر في باب تعارض الأحوال عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.

وأمّا الثاني ، فإنّهم قد أجمعوا على تقديم الاصول اللفظيّة على العمليّة ، مثل أنّه إذا ورد عامّ ثمّ شكّ في تخصيصه بإخراج بعض أفراده ذاتا أو بحسب الأحوال ، كما لو ثبت حرمة العصير بإطلاق دليل لفظي أو عمومه ، فإذا شكّ في بقاء حرمته بعد ذهاب ثلثيه بالهواء يتمسّك بأصالة الإطلاق أو العموم ، لا باستصحاب الحرمة أو أصالة البراءة عنها ، وليس الوجه فيه سوى كون الشكّ في بقاء الحرمة السابقة أو في الإباحة مسبّبا عن الشكّ في إطلاق الدليل أو عمومه بالنسبة إلى حالة ذهاب ثلثيه بالهواء ، فإذا زال الشكّ عن الإطلاق أو العموم بأصالة الحقيقة يرتفع الشكّ عن مورد الأصلين.

وإنّما لم يذكر المصنّف رحمه‌الله الوجوه الخمسة الأخيرة في تضاعيف الأدلّة بحيالها ، لأنّ الخامس والسادس لم يثبتا على وجه يعتمد عليه في المقام ، ولذا جعلهما مؤيّدين للدليل الأوّل لا دليلا بحياله. وأمّا السابع فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من المناقشة في تحقّق الإجماع المذكور. وأمّا الثامن فإنّ مرجعه إلى الدليل الثاني من الأدلّة التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله ، كما سنشير إليه وإلى أنّ الفرق بينهما إنّما هو بحسب العبارة. وأمّا التاسع فإنّ الإشكال في تقديم المزيل والمزال إنّما هو مع اتّحاد دليلهما ، كالأخبار في مثال غسل الثوب النجس بالماء المستصحب الطهارة ، واعتبار الاصول اللفظيّة من باب بناء العقلاء ، فإذا ثبت بنائهم على تقديم ظواهر الألفاظ على الاصول العمليّة ، فهو لا يثبت المطلوب مع اتّحاد دليلهما وتساويهما في الاندراج تحته.

ويمكن أن يحتجّ للمقام بوجه عاشر ، وهو أنّ الأصل في الشكّ السببى والمسبّب لا يخلو : إمّا أن يعمل به في كلّ منهما ، أو لا يعمل به في شيء منهما ، أو يعمل

الثاني : أنّ قوله عليه‌السلام : " لا تنقض اليقين بالشك" باعتبار دلالته على جريان الاستصحاب في الشكّ السببي ، مانع (*) عن قابليّة شموله لجريان الاستصحاب في الشكّ المسبّبي ، يعني : أنّ نقض اليقين (٢٧٣٨) به يصير نقضا بالدليل لا بالشكّ ، فلا يشمله النهي في" لا تنقض". واللازم من شمول" لا تنقض" للشكّ المسببي نقض اليقين في مورد الشكّ السببي ، لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ، فيلزم من

______________________________________________________

به في الثاني خاصّة ، أو في الأوّل كذلك. وما عدا الأخير باطل. أمّا بطلان الأوّل فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في إبطال القول بالجمع. وأمّا الثاني فلمنافاته لدليل اعتبار الأصل. وأمّا الثالث فلعدم ظهور قول به ، فتعيّن الأخير وبوجه حادي عشر ، وهو أنّ الاستصحاب ليس بمؤسّس لحكم شرعيّ في مقابل الأحكام الخمسة ، ولا في مقابل خصوص المتيقّن السابق ، بل معناه في الموضوعات تنزيل المشكوك فيه منزلة المعلوم في ترتيب آثاره عليه ، وفي نفس الأحكام الحكم بوجودها في زمان الشكّ تنزيلا في المشكوك فيه منزلة المعلوم. فمعنى استصحاب طهارة الأرض المنشور عليها ثوب مستصحب النجاسة هو تنزيل هذه الأرض منزلة معلوم الطهارة في جواز ملاقاتها ، وجواز السجود والتيمّم عليها. ومعنى استصحاب نجاسة الثوب ترتيب آثار النجس الواقعي عليه من وجوب الاجتناب عنها في الصلاة ، وتنجّس ملاقيه ونحوهما. فكما أنّ طهارة الأرض بالذات لا تنافي عروض النجاسة عليها بالملاقاة للنجس الواقعي ، كذلك طهارة الأرض المذكورة من حيث ملاحظة كونها مستصحبة الطهارة بالذات ، لا تنافي عروض النجاسة عليها بسبب الملاقاة للمستصحب النجاسة. فالأرض طاهرة من حيث ملاحظة كونها مستصحبة الطهارة ، ومتنجّسة من حيث ملاحظة كونها ملاقية للنجاسة المستصحبة.

٢٧٣٨. يعني : نقض اليقين في مورد الشكّ المسبّب بسبب جريان الاستصحاب في الشكّ السببى. ثمّ إنّ حاصل هذا الدليل هو دوران الأمر في المقام بين إخراج

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مانع» ، مخرج للعامّ.

إهمال الاستصحاب في الشكّ السببي طرح عموم" لا تنقض" من غير مخصّص ، وهو باطل. واللازم من إهماله في الشكّ المسبّبي عدم قابلية العموم لشمول المورد ، وهو غير منكر.

وتبيان ذلك : أنّ مقتضى (*) عدم نقض اليقين رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن ، فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له إلّا رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ؛ إذ الحكم بنجاسته نقض لليقين بالطهارة المذكورة بلا حكم من الشارع بطروء النجاسة ، وهو طرح لعموم" لا تنقض" من غير مخصّص ، أمّا الحكم بزوال النجاسة فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلّا بحكم الشارع بطروّ الطهارة على الثوب. والحاصل : أنّ مقتضى عموم" لا تنقض" للشكّ السببي نقض الحالة السابقة لمورد الشكّ المسببي.

______________________________________________________

بعض أفراد العامّ من حكمه وموضوعه. وبعبارة اخرى : دوران الأمر فيه بين التخصيص والتخصّص. ويمكن تقرير الدليل بالعبارتين. أمّا الاولى ـ كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله ـ فبأن يقال : إنّ إجراء الأصل في الشكّ السببى موجب لخروج الشكّ المسبّب من موضوع «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالدليل ، لأنّ من آثار طهارة الماء المستصحبة المغسول به ثوب نجس ارتفاع النجاسة عن الثوب ، بخلاف العكس ، لأنّ نجاسة الماء ليست من آثار نجاسة الثوب التامّة بالاستصحاب ، لعدم كونها من آثار نجاسته شرعا وإن لزمتها عقلا ، فإخراج الشكّ السببى من العموم بسبب إجراء الاستصحاب في الشكّ المسبّب من باب التخصيص بلا مخصّص. ولا ريب أنّه إذا دار الأمر بين خروج فرد من موضوع العامّ بدليل ، وخروج فرد آخر من حكمه بلا دليل ، فالمتعيّن هو الأوّل.

وأمّا الثانية فبأن يقال : إنّه مع إجراء الاستصحاب في الشكّ السببى يلزم إخراج الشكّ المسبّب من موضوع النهي في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين» ومع

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مقتضي» ، معني.

ودعوى : أنّ اليقين (٢٧٣٩) بالنجاسة أيضا من أفراد العام ، فلا وجه لطرحه وإدخال اليقين بطهارة الماء. مدفوعة اوّلا : بأنّ معنى عدم نقض (٢٧٤٠) يقين النجاسة أيضا رفع اليد عن الامور السابقة المضادة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه وغيرها ، فيعود المحذور ، إلّا أن نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة الملاقي ، وسيجيء فساده. وثانيا : أنّ نقض يقين النجاسة بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر ، وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به ، بخلاف نقض يقين الطهارة بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة.

______________________________________________________

إجرائه في الشكّ المسبّب يلزم إخراج الشكّ السببى من النهي ، كما عرفته في التقرير الأوّل ، فيدور الأمر حينئذ بين التخصيص والتخصّص ، والمقرّر في باب تعارض الأحوال تقدّم الثاني علي الأوّل ، لأنّ الأوّل موجب لارتكاب خلاف الظاهر في العموم اللفظي ، بخلافه على الثاني ، لبقاء العموم حينئذ على ظاهره ، والعمل بأصالة الحقيقة بحسب الإمكان واجب.

٢٧٣٩. حاصله : أنّ الشكّ السببى والمسبّب من أفراد الشكّ المأخوذ في دليل الاستصحاب ، فلا وجه لإخراج أحدهما من العموم بإدخال الآخر. وأنت خبير بأنّ ضعف هذه الدعوى قد ظهر ممّا ذكره في سابقها ، بحيث صارت إعادتها ثانيا والتصدّي للجواب عنها كالمستغنى عنها ، فالأولى ترك ذكرها إلى قوله : «وقد يشكل».

٢٧٤٠. حاصله : بيان عدم المناص من تقديم الشكّ السببى ، بتقريب : أنّه مع تسليم تقديم الشكّ المسبّب أيضا فلا ريب أنّ هذا الشكّ أيضا قد يكون سببا لشكّ آخر ، كما إذا لاقى الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة شيئا آخر ، فصار هذا الشيء بذلك مشكوك النجاسة ، وحينئذ إن اريد من إدخال الشكّ المسبّب تحت العموم ترتيب آثاره التي منها تنجيس الثوب ملاقيه في المثال ، فحينئذ تعود الدعوى المذكورة بالنسبة إلى ملاقي الثوب ، وإن اريد منه الحكم بنجاسة الثوب مع الحكم بطهارة ملاقيه ـ عملا بالأصلين ـ فسيجيء فساده.

بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة كنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء من غير ورود دليل شرعيّ على نجاسته ؛ لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة (٢٧٤١) عن الماء ، بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ؛ فإنّه يوجب زوال نجاسة الثوب بالدليل الشرعي ، وهو ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر ، فطرح اليقين بنجاسة الثوب لقيام الدليل على طهارته.

هذا ، وقد يشكل (٢٧٤٢) بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب المغسول به ، كلّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حدّ سواء ؛ لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على حدّ سواء ، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أوّلا حتّى يجب نقض اليقين بالنجاسة ، لأنّه مدلوله ومقتضاه؟! والحاصل أنّ جعل شمول حكم العام لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم أو عن الموضوع ـ كما فيما نحن فيه ـ فاسد ، بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت الحكم.

______________________________________________________

٢٧٤١. يعني : في مفروض المثال من غسل الثوب النجس بالماء القليل المستصحب الطهارة بالصبّ عليه لا بغمسه فيه.

٢٧٤٢. حاصل الإشكال : أنّا وإن سلّمنا أنّ إبقاء الشكّ السببى تحت عموم قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» يصير دليلا على خروج الشكّ المسبّب منه دون العكس ، إلّا أنّه يتوقّف على قيام دليل على إبقاء الأوّل أوّلا ليصير خروج الثاني بالدليل ، ولا دليل عليه ، لأنّ نسبة العامّ في الشمول لأفراده نسبة واحدة ، وإن لزم من شموله لبعضها ما لزم ، نظير مسألة المانع والممنوع التي ذكروها في فروع دليل الانسداد ، لأنّ دخول الظنّ المانع تحته وإن منع دخول الممنوع منه فيه ، لأنّ موضوع الدليل المذكور كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل ، وبعد دخوله تحته يصير الممنوع منه من الظّنون التي قام الدليل على عدم اعتبارها ، إلّا أنّه فرع دخوله تحته قبله ، ولا دليل عليه ، فيتزاحمان في الاندراج تحته.

ويدفع : بأنّ فرديّة (٢٧٤٣) أحد الشيئين إذا توقّف على خروج الآخر

______________________________________________________

وقد أجاب شريف العلماء عن هذا الإشكال ـ فيما حكي عنه ـ بما حاصله : أنّ وجود الكلّيات في الخارج إنّما هو بوجود أفرادها ، ولا ريب أنّ الغالب وجود الشكّ السببي في الخارج قبل وجود الشكّ المسبّب ، كما في مثال الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، لأنّ الغالب وجود الشكّ في طهارة الماء قبل غسل الثوب به ، والشكّ في زوال النجاسة عن الثوب إنّما يحصل بغسله به ، فمع وجود الشكّ السببي قبل وجود الشكّ المسبّب يتحقّق كلّي حرمة نقض اليقين بالشكّ في ضمنه ، وهو يمنع تحقّقه في ضمن الشكّ المسبّب بعد وجوده. وأمّا فيما لو تقارن وجودهما ، كما لو حصل الشكّ في طهارة الماء حين غسل الثوب به أو بعده ، فيمكن إتمام المطلوب فيه بالإجماع المركّب.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب إنّما يتأتّى لو قلنا باعتبار الشكّ الفعلي في الاستصحاب ، وليس كذلك ، إذ يكفي في صحّة استصحاب نجاسة الثوب كون زوال نجاسته مشكوكا على تقدير غسله بالماء المشكوك الطهارة ، غاية الأمر أن يكون استصحاب النجاسة تعليقيّا. ولا مناص من القول بكفاية الشكّ الثاني ، لأنّ العامل بالاستصحاب هو المجتهد دون المقلّد ، لأنّه إنّما يفتي للمقلّد بمضمون الاستصحاب في الوقائع التي لم يبتل المكلّف بها بعد ، فيقول : إنّ الماء المشكوك الطهارة الذي علمت طهارته سابقا طاهر ، وكذا الثوب النجس المغسول به ، وهكذا. فالأولى في دفع الإشكال ما ذكره المصنّف رحمه‌الله فتدبّر.

٢٧٤٣. حاصله : أنّ الشكّ السببى من مصاديق حرمة نقض اليقين بالشكّ مطلقا ، سواء قلنا بخروجه من هذا الحكم بدخول الشكّ المسبّب فيه أم لا. وأمّا الشكّ المسبّب فصيرورته مصداقا له ومن جملة أفراده متوقّفة على خروج الشكّ السببي من حكمه ، وحينئذ لا يعقل إدخال الشكّ المسبّب في موضوع الحكم ، وجعله

المفروض الفرديّة عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته ، ولم يجز رفع اليد عن العموم ، لأنّ رفع اليد حينئذ عنه يتوقّف على شمول العام لذلك الشيء المفروض توقّف فرديّته على رفع اليد عن العموم ، وهو دور محال.

وإن شئت قلت : إنّ حكم العام من قبيل لازم الوجود للشكّ السببي ، كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ، فلا يوجد في الخارج إلّا محكوما ، والمفروض أنّ الشكّ المسببي أيضا من لوازم وجود ذلك الشكّ ، فيكون حكم العام وهذا الشكّ (٢٧٤٤) لازمان لملزوم ثالث (٢٧٤٥) في مرتبة واحدة ، فلا يجوز أن يكون (٢٧٤٦) أحدهما موضوعا للآخر ؛ لتقدّم الموضوع طبعا ، فالأولى أن يقال : إنّ ثبوت الحكم لكلّ يقين سابق ينحلّ الى رفع اليد عن اليقين السابق بما يضادّ لوازمه ، لأنّ الشيء إذا توقّف منعه على عدم ثبوت المقتضى للمقتضي ـ بالكسر ـ لم يصلح أن يكون مانعا له للزوم الدور.

الثالث : أنّه لو لم يبن على تقديم الاستصحاب في الشكّ السببي كان الاستصحاب قليل الفائدة (٢٧٤٧) جدّا ، لأنّ المقصود من الاستصحاب غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب ، وتلك الآثار إن كانت موجودة سابقا أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها ، فتنحصر الفائدة في الآثار التي كانت معدومة ، فإذا فرض معارضة الاستصحاب

______________________________________________________

من جملة أفراده بإخراج الشكّ السببي منه ، لأنّه بعد فرض كون هذا من جملة مصاديق العامّ وأفراده لا يجوز صرف اليد عن شموله له إلّا بعد إدخال الأوّل في موضوع الحكم ، والفرض أنّ دخوله فيه فرع خروج الثاني من حكمه ، وهو دور ظاهر.

٢٧٤٤. يعني : المسبّب.

٢٧٤٥. هو الشكّ السببي.

٢٧٤٦. لأنّ ملزوما واحدا إذا ترتّب عليه لا زمان ، فلو كان أحد اللازمين مع ذلك موضوعا للآخر لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّ فرض لزومها لملزوم ثالث تساويهما في مرتبة الوجود ، وقضيّة كون أحدهما موضوعا للآخر تقدّمه عليه ولو طبعا.

٢٧٤٧. لأنّ أغلب موارد الاستصحاب من قبيل الموضوعات التي يراد باستصحابها ترتيب لوازمها عليها ، لقلّة مورده في الأحكام.

في الملزوم باستصحاب عدم تلك اللوازم والمعاملة معها على ما يأتي في الاستصحابين المتعارضين ، لغى الاستصحاب في الملزوم وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفية التي يراد بالاستصحاب إبقاء أنفسها في الزمان اللاحق.

ويرد عليه : منع عدم الحاجة إلى الاستصحاب (٢٧٤٨) في الآثار السابقة ؛ بناء على أنّ إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار (٢٧٤٩) موقوف على إحراز الموضوع لها وهو مشكوك فيه ، فلا بدّ (*) من استصحاب الموضوع ، إمّا ليترتّب عليه تلك الآثار ، فلا يحتاج إلى استصحاب أنفسها المتوقّفة على بقاء الموضوع يقينا ، كما حقّقنا سابقا في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ، وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار ، كما توهّمه بعض فيما قدّمناه سابقا من أنّ بعضهم تخيّل أنّ موضوع المستصحب يحرز بالاستصحاب فيستصحب. والحاصل أنّ الاستصحاب في الملزومات محتاج إليه على كلّ تقدير.

______________________________________________________

٢٧٤٨. أي : الحاجة إلى استصحاب الملزوم في إثبات لوازمها الموجودة سابقا.

٢٧٤٩. كالثوب المستصحب النجاسة إذا لاقى طاهرا في زمان الشكّ في نجاسته ، لأنّ جملة من آثاره كانت موجودة في زمان العلم بنجاسته ، مثل حرمة لبسه في الصلاة وإدخاله في المسجد مع سراية نجاسته أو مطلقا ، وجملة منها قد حدثت في زمان الشكّ في نجاسته ، كتنجّس ملاقيه ، لفرض حدوث الملاقاة في زمان الشكّ ، فاستصحاب اللوازم الموجودة مغن عن استصحاب ملزومها ، واستصحاب لوازمه المعدومة ـ بمعنى استصحاب عدمها ـ معارض باستصحاب ملزومها ، فإذا فرض الجمع بينهما أو رجّحنا الثاني لمرجّح خارجي ـ على القولين في المسألة ـ لغي استصحاب الملزوم حينئذ ، لعدم ترتّب أثر عليه ، وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفيّة التي يراد بالاستصحاب إبقاء أنفسها في الزمان اللاحق.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع الانحصار ، إذ قد يكون استصحاب عدم بعض الآثار

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : فيه.

الرابع : أنّ المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في مورد الشكّ المسبّبي. بيان ذلك : أنّ الإمام عليه‌السلام علّل وجوب البناء على الوضوء السابق في صحيحة زرارة بمجرّد كونه متيقّنا سابقا غير متيقّن الارتفاع في اللاحق. وبعبارة اخرى : علل بقاء الطهارة المستلزم لجواز الدخول في الصلاة بمجرّد الاستصحاب. ومن المعلوم أنّ مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة عدم براءة الذمّة بهذه الصلاة ، حتّى أنّ بعضهم جعل استصحاب الطهارة وهذا الاستصحاب من الاستصحابين المتعارضين ، فلو لا عدم جريان هذا الاستصحاب ، وانحصار الاستصحاب في المقام باستصحاب الطهارة لم يصحّ تعليل المضيّ على الطهارة بنفس الاستصحاب ؛ لأنّ تعليل تقديم أحد الشيئين على الآخر بأمر مشترك بينهما قبيح ، بل أقبح من الترجيح (٢٧٥٠) بلا مرجّح.

وبالجملة : فأرى المسألة غير محتاجة إلى إتعاب النظر ؛ ولذا لا يتأمّل العامي بعد إفتائه باستصحاب الطهارة في الماء المشكوك ، في رفع الحدث والخبث به وبيعه وشرائه وترتيب الآثار المسبوقة بالعدم عليه.

هذا كلّه إذا عملنا بالاستصحاب (*) من باب الأخبار. وأمّا لو عملنا به من باب الظنّ ، فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا ؛ لأنّ الظنّ بعدم اللازم مع فرض الظنّ بالملزوم محال عقلا. فإذا فرض حصول الظنّ بطهارة الماء عند الشكّ ، فيلزمه عقلا الظنّ

______________________________________________________

معارضا باستصحاب آخر ، فيبقى استصحاب الملزوم مفيدا لإثبات بعض الآثار الأخر ، وذلك مثل استصحاب حياة المفقود لتوريثه من مورّثه الميّت ، لأنّ استصحاب عدم الانتقال من المورّث إليه معارض باستصحاب عدم الانتقال إلى وارث آخر ، وبعد تساقطهما يبقى استصحاب الحياة المفيد للانتقال بلا معارض.

٢٧٥٠. لوجود ما يقتضي التساوي بين الشيئين هنا ، بخلاف الموارد التي يقال فيها إنّه ترجيح بلا مرجّح ، لأنّه لعدم المقتضي للترجيح لا لوجود المقتضي لعدم الترجيح.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «بالاستصحاب» ، باستصحاب الطهارة.

بزوال النجاسة عن الثوب. والشكّ في طهارة (٢٧٥١) الماء ونجاسة الثوب وإن كانا في زمان واحد ، إلّا أنّ الأوّل لما كان سببا للثاني ، كان حال الذهن في الثاني تابعا لحاله بالنسبة إلى الأوّل ، فلا بدّ من حصول الظنّ بعدم النجاسة في المثال ، فاختصّ الاستصحاب المفيد للظنّ بما كان الشكّ فيه غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ، فافهم ؛ فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ويشهد لما ذكرنا أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب في امور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات إلى هذا الاستصحاب أبدا ، ولو نبّههم أحد لم يعتنوا ، فيعزلون حصّة الغائب من الميراث ، ويصحّحون معاملة وكلائه ، ويؤدّون عنه فطرته إذا كان عيالهم ، إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة على المستصحب.

ثمّ إنّه يظهر الخلاف في المسألة (٢٧٥٢) من جماعة ، منهم : الشيخ والمحقّق والعلّامة في بعض أقواله وجماعة من متأخّري المتأخّرين. فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يعلم خبره ، واستحسنه المحقق في المعتبر ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء ، بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ، وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفّارة ، بالمنع عن الأصل تارة والفرق بينهما اخرى.

______________________________________________________

٢٧٥١. هذا دفع لما يمكن أن يقال : إنّه مع الظنّ بالملزوم وإن استحال حصول الظنّ بعدم لازمه ، إلّا أنّه في مورد حصل الظنّ بالملزوم قبل حصول الظنّ بعدم لازمه ، وإلّا فلو فرض حصول الظنّ بعدم اللازم قبل حصول الظنّ بوجود ملزومه استحال أيضا حصول الظنّ بوجود الملزوم. ولا دليل على فرض حصول الظنّ بوجود الملزوم أوّلا ، لفرض حصول الشكّ في كلّ من الملزوم واللازم في زمان واحد ، فيتساويان في الاندراج تحت قاعدة الاستصحاب.

٢٧٥٢. لا يخفى أنّ ظاهر الشيخ والمحقّق قدس‌سرهما تعارض الاستصحابين وتساقطهما ، فلا بدّ من نقل كلام المعتبر ليتّضح به الحال ، قال : «لو كان له مملوك لا نعلم حياته ، قال الشيخ في الخلاف : لا تلزم فطرته. وللشافعي قولان ، أحدهما : تلزمه ، لأنّ الأصل بقائه. واحتجّ آخرون لذلك أيضا بأنّه يصحّ عتقه في الكفّارة

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا لم يعلم له موتا. واحتجّ الشيخ بأنّه لا يعلم أنّ له مملوكا ، فلا تجب عليه زكاته وما ذكره الشيخ حسن ، لأنّ الزكاة انتزاع مال يتوقّف على العلم بسبب الانتزاع ، ولم يعلم. وقولهم : الأصل البقاء معارض بأنّ الأصل عدم الوجوب. وقولهم : يصحّ عتقه في الكفّارة ، عنه جوابان ، أحدهما : المنع ولا يلتفت إلى من يقول الإجماع على جواز عتقه ، فإنّ الإجماع لا يتحقّق من رواية واحدة وفتوى اثنان أو ثلاثة. والجواب الآخر : الفرق بين الكفّارة ووجوب الزكاة ، بأنّ العتق إسقاط ما في الذمّة من حقّ الله ، وحقوق الله مبنيّة على التخفيف ، والفطرة إيجاب مال على المكلّف ، ولم يثبت سبب وجوبه» انتهى.

وقال في اصول المعتبر : «الثالث ـ يعني : من أقسام الاستصحاب ـ استصحاب حال الشرع ، كالمتيمّم يجد الماء في أثناء الصلاة ، فيقول المستدلّ على الاستمرار : صلاة مشروعة قبل وجود الماء ، فيكون كذلك بعده. وليس هذا حجّة ، لأنّ شرعيّتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة معه. ثمّ مثل هذا لا يسلم عن المعارضة بمثله ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة قبل الإتمام ، فتكون مشغولة بعده» انتهى. وليعلم أنّ ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن الشيخ في المبسوط نقله في المعتبر عن الخلاف ، والأمر فيه سهل.

وكيف كان ، فظاهر المحقّق ـ بل صريحه ـ في اصول المعتبر تعارض الاستصحابين وتساقطهما. وأمّا الشيخ فيحتمل في كلامه أيضا ذلك ، وترجيح استصحاب عدم الوجوب لمرجّح خارجي. وقد تقدّم سابقا أنّ هذا أحد الأقوال في المسألة. فتكون المسألة ذات أقوال أربعة :

أحدها : تقديم الشكّ السببى. وهو الأقوى ، وفاقا للمصنّف رحمه‌الله وجماعة من محقّقي المتأخّرين.

وثانيها : الجمع بين الأصلين. واختاره جماعة منهم صاحب الرياض والمحقّق القمّي قدس‌سرهما.

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثها : الحكم بالتعارض والتساقط. وقد عرفته من المحقّق قدس‌سره.

ورابعها : الحكم بالتعارض وملاحظة المرجّحات الخارجة ، ومع عدمها التخيير. وقد تقدّمت حكايته عن الفاضل الكلباسي في آخر مبحث التعادل والترجيح.

وقد استوفي المصنّف رحمه‌الله الكلام في بيان القول المختار ، ومن التأمّل فيه يظهر سقوط القول بالسقوط للتعارض. وأمّا القول بالجمع فسيشير المصنّف رحمه‌الله إلى ضعفه ، وسنشير أيضا إلى تتمّة الكلام فيه.

وأمّا القول الرابع ، فليعلم أنّ المرجّح إمّا أن يكون اجتهاديّا ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه ، أو فقاهتيّا مأخوذا في موضوعه الجهل بالواقع ، مثل تعاضد أحد الأصلين المتعارضين بأصل آخر. وعلى الأوّل : إمّا أن يكون مثبتا لحكم فرعي ، كموافقة الشهرة في المسألة الفرعيّة ، أو لحكم اصولي ، كموافقة الشهرة في المسألة الاصوليّة ، مثل شهرة تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي والوجودي على العدمي.

وأمّا المرجّح الاجتهادي المثبت لحكم فرعي ، ففيه : أنّ الاستصحاب معتبر من باب التعبّد في مورد الجهل بالواقع ، بمعنى أخذ الجهل في موضوعه ، والشهرة كاشفة عن الواقع ، فتختلف مرتبتهما ، فلا يصلح أحدهما مرجّحا للآخر. مع أنّ هذا قول بحجّية الشهرة في نفسها ، لا ترجيح لأحد الأصلين بها الذي هو فرع عدم حجّيتها في نفسها ، لأنّ العلم إجمالا بارتفاع الحالة السابقة في مورد أحد الأصلين يوجب خروج كلّ واحد من المتعارضين من عموم قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله عند بيان حكم القسم الثاني ، أعني : ما كان التعارض فيه ناشئا من أمر ثالث ، فالترجيح بالشهرة في الحقيقة عمل بالشهرة الموافقة لأحدهما لا بأحدهما الموافق لها ، بخلاف الترجيح في متعارضات الأخبار ، لأنّه فرع اعتبار المتعارضين منها كما قرّر في محلّه.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا المرجّح الاجتهادي المثبت لحكم اصوليّ ، فيرد عليه : ـ مضافا إلى ما عرفته في سابقه من عدم اتّحاد مرتبتهما ـ أنّ الترجيح بالشهرة في متعارضات الأخبار إمّا لكشفها ظنّا عن وجود دليل دالّ على تقديم الخبر الموافق لها ، فتكون مؤيّدة لاعتباره ، وإمّا عن وجود دليل آخر مثبت لما أثبته الخبر الموافق له ، وهما منتفيان فيما نحن فيه. أمّا الأوّل فإنّ المظنون عدم وجود خبر يدلّ على تقديم الأصل الموافق للشهرة أو الإجماع المنقول مثلا على القول بعدم حجّيته ، ولذا ترى أنّ الأخبار العلاجيّة مع كثرتها ليس فيها من الترجيح في متعارضات الاصول عين ولا أثر. وأمّا الثاني فلعدم أصل آخر لنا سوى الاصول المعروفة بأيدينا حتّى نكشف الشهرة مثلا عنه ، لكون انحصار الاصول في الأربعة عقليّا.

وأمّا المرجّح الفقاهتي ، كتعدّد الاصول من جانب دون آخر ، فليعلم أنّ مراتب الاصول مختلفة ، فإن كان الأصلان المتعارضان مرتبتهما دون مرتبة الأصل المعاضد لأحدهما لحكومته عليهما ، كأصالتي البراءة إذا كانت إحداهما موافقة للاستصحاب مثلا ، فلا وجه لعدّه من المرجّحات ، لفرض عدم جريانهما مع وجوده.

وإن كانت مرتبتهما فوق مرتبته لحكومتهما عليه ، كالاستصحابين إذا كان أحدهما موافقا لأصالة البراءة ، فلا وجه لعدّه أيضا من المرجّحات ، لفرض عدم جريانه مع وجودهما. وإن كانت مرتبتهما متّحدة مع مرتبته ، كتعارض استصحابين مع استصحاب وبراءتين مع براءة ، فالأقوى فيه أيضا عدم صحّة الترجيح ، لأنّ كلّ مورد تعارض فيه أصلان قد علم بخروج أحدهما من عموم دليلهما ، للعلم إجمالا بمخالفة أحدهما للواقع لا محالة ، فمع تعدّد المتعارضين من طرف دون الآخر يدور الأمر بين قلّة الخارج وكثرته ، ومعه لا دليل على الترجيح بالكثرة ، نظير ما لو علم بورود مخصّص على قولنا : أكرم العلماء ، إلّا أنّه دار الأمر بين كون الخارج فردا أو فردين ، بأن كان المخصّص قولنا : لا تكرم عمرا العالم ، أو قولنا : لا تكرم الزيدين العالمين ، لصيرورة العامّ مجملا بالنسبة إليهما ، وعدم ظهوره في خصوص أحد المحتملين.

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو دار الأمر في الخارج بين الأقلّ والأكثر ، بحيث كان الأقلّ مندرجا تحت الأكثر يؤخذ بالأقلّ ، لكونه متيقّنا ، ويدفع المشكوك فيه بظهور العامّ ، لأنّ العامّ ظاهر في الشمول للجميع ، والمتيقّن من خروج الخارج ما كان خارجا على كلّ تقدير ، وهو الأقلّ ، بخلاف ما لو كان المحتملان من قبيل المتباينين ، لإجمال العامّ بالنسبة إليهما كما عرفت ، وإن دار الأمر فيهما بين الأقلّ والأكثر. وما نحن فيه من تعارض الاصول مع التعدّد من أحد الجانبين من قبيل ذلك بالنسبة إلى العمومات المثبتة لها إن كان اعتبارها بأدلّة لفظيّة ، وإن كان اعتبارها بغير دليل لفظيّ فأولى بعدم الترجيح بالكثرة والعدد ، لفرض عدم ظهور لفظيّ لدليلها حينئذ.

وليس ما نحن فيه أيضا من قبيل ما دار الأمر فيه بين قلّة التخصيص وكثرته ، حتّى يدفع التخصيص الزائد المشكوك فيه بأصالة عدمه ، بل من قبيل ما دار الأمر فيه بين قلّة المخصّص ـ بالفتح ـ وكثرته مع اتّحاد التخصيص ، كما عرفته من مثال : أكرم العلماء ولا تكرم عمروا ولا تكرم الزيدين ، لأنّ الخارج من عموم أدلّة الاصول هو أحد الاصلين مع معاضده بتخصيص واحد ، أو معارضه العاري عن المعاضد ، وقد عرفت إجمال العامّ في مثله. وبالجملة ، إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا عدم صحّة الترجيح في متعارضات الاصول بالكثرة والعدد.

وقد زاد صاحب الإشارات بعد التصريح بجواز الترجيح بالشهرة والكثرة وجها آخر في الترجيح ، وهو قوّة دليل أحد الأصلين بالنسبة إلى دليل الآخر ، فيرجّح ما هو أقوى دليلا منهما.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ أدلّة الاصول الأربعة كلّها قطعيّة ، سواء قلنا باعتبارها من باب العقل أو الشرع ، فهذه من حيث الاعتبار والسند في مرتبة واحدة ، نظير المتعارضين من الكتاب ، فلا وجه لملاحظة القوّة بحسب السند.

وأمّا التخيير بعد عدم صحّة الترجيح بالوجوه المتقدّمة أو مع فرض عدمها ففيه أيضا إشكال ، لأنّ الحكم بالتخيير إمّا يستفاد من نفس دليل اعتبار الاستصحاب ،

وقد صرّح في اصول المعتبر بأنّ استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة. وقد عرفت أنّ المنصوص في صحيحة زرارة العمل باستصحاب الطهارة على وجه يظهر منه خلوّه عن المعارض ، وعدم جريان استصحاب الاشتغال.

وحكي عن العلّامة في بعض كتبه الحكم بطهارة الماء القليل الواقع فيه صيد مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرمي ، لكنّه اختار في غير واحد من كتبه الحكم بنجاسة الماء ، وتبعه عليه الشهيدان وغيرهما. وهو المختار ؛ بناء على ما عرفت تحقيقه ، وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة التي منها انفعال الماء الملاقي له. نعم ربما قيل : إنّ تحريم الصيد إن كان لعدم العلم بالتذكية فلا يوجب تنجيس الملاقي ، وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها اتّجه الحكم بالتنجيس.

______________________________________________________

أو من العقل. وكلاهما فاسدان. أمّا الأوّل فلأنّ أخبار الاستصحاب إنّما تدلّ على اعتباره في موارده تعيينا لا تخييرا. مع أنّه لا إشكال في دلالتها على الوجوب التعييني في الموارد السالمة عن المعارض ، فلو دلّت على العمل به تخييرا في موارد المعارضة لزم استعمال اللفظ في المعنيين. وأمّا الثاني فإنّ حكم العقل بالتخيير فرع اعتبار المتعارضين بالذات ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله في خاتمة الكتاب عند بيان حكم التعادل ، وقد أشرنا آنفا إلى عدم شمول أدلّة الاصول للمتعارضات منها.

فإن قلت : إنّ جميع ما ذكرت جار في متعارضات الأخبار أيضا ، لظهور أدلّتها في العمل بها تعيينا لا تخييرا ، مع أنّه لا إشكال في ظهورها في ذلك في الموارد الخالية من المعارض ، فلو دلّت على العمل بها تخييرا في موارد التعارض لزم استعمال اللفظ في معنيين. وكذا العقل إنّما يدلّ على التخيير في العمل بالمتعارضات منها على تقدير اعتبارها من حيث هي ، ولا دليل عليه بعد قصور أدلّتها عن الشمول لها ، فكيف حكموا بالتخيير فيها مع عدم المرجّح؟

قلت : لو لا أخبار الترجيح الناصّة بالتخيير مع عدم المرجّح لقلنا بالتساقط فيها أيضا ، وقد استرحنا فيه إليها. نعم ، لو قلنا باعتبارها من باب السببيّة دون الطريقيّة

ومرجع الأوّل إلى كون حرمة الصيد مع الشكّ في التذكية للتعبّد ؛ من جهة الأخبار المعلّلة لحرمة أكل الميتة بعدم العلم بالتذكية. وهو حسن لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلّا حرمة الأكل ، ولا أظنّ أحدا يلتزمه ، مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ، ولذا استفيد بعض ما يعتبر في التذكية (٢٧٥٣) من النهي عن الأكل بدونه.

ثمّ إنّ بعض من يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام صرّح بالجمع بينهما (٢٧٥٤) ، فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا. ويردّ عليه أنّه لا وجه (*) للجمع في مثل هذين الاستصحابين ؛ فإنّ الحكم بطهارة الماء إن كان بمعنى ترتيب (**) آثار الطهارة من رفع الحدث والخبث به ، فلا ريب أنّ نسبة استصحاب بقاء

______________________________________________________

كان المتّجه فيها الحكم بالتخيير أيضا.

والحاصل : أنّ حكم العقل بالتخيير ـ كما سيجيء عند بيان حكم تعادل الخبرين ـ إنّما هو فرع اعتبار المتعارضين ، وحيث قد عرفت عدم اعتبار الاصول المتعارضة فلا سبيل حينئذ إلى الحكم للعقل بالتخيير فيها. وأمّا الأخبار ، فإن قلنا باعتبارها من باب الطريقيّة ، فمقتضى القاعدة لو لا أخبار التخيير هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول. وإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة والموضوعيّة فمقتضى القاعدة هو التخيير ، فتخرج الأخبار حينئذ شاهدة له. وسيجيء توضيحه في باب التعادل والترجيح.

٢٧٥٣. كاشتراط التسمية المستفادة من قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

٢٧٥٤. أنت خبير بأنّ اللوازم الموجودة مع الملزوم في السابق ، وكذا المعدومة إذا فرض كونها بأنفسها موردا للأصل ، بمعنى استصحاب وجود الاولى و

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «لا وجه» ، لا معني.

(**) فى بعض النسخ : بدل «ترتيب» ، ترتّب.

الحدث والخبث إلى استصحاب طهارة الماء ، بعينها نسبة استصحاب طهارة الماء إلى استصحاب عدم التذكية. وكذا الحكم بموت الصيد ، فإنّه إن كان بمعنى انفعال الملاقي له بعد ذلك والمنع عن استصحابه في الصلاة ، فلا ريب أنّ استصحاب طهارة الملاقي واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق روحه ، نسبتهما إليه كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في الإيضاح ـ تقريبا للجمع بين الأصلين ـ في الصيد الواقع في الماء القليل ، من أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء وحلّ الصيد ، ولأصالة الموت حكمان : لحوق أحكام الميتة للصيد ونجاسة الماء ، فيعمل بكلّ من الأصلين في نفسه لأصالته ، دون الآخر لفرعيّته فيه ، انتهى. وليت شعري! هل نجاسة الماء إلّا من أحكام الميتة؟ فأين الأصالة والفرعيّة؟

وتبعه في ذلك بعض من عاصرناه (٢٧٥٥) ، فحكم في الجلد المطروح بأصالة الطهارة وحرمة الصلاة فيه. ويظهر ضعف ذلك ممّا تقدّم. وأضعف من ذلك حكمه في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض ، بطهارة الأرض ؛ إذ لا دليل على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس. وليت شعري! إذا لم يكن النجس بالاستصحاب منجّسا ولا الطاهر به مطهّرا ، فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعي عليه ؛ لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ، فأيّ فائدة في الاستصحاب؟!

قال في الوافية في شرائط الاستصحاب : الخامس : أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب. مثلا : إذا ثبت في الشرع أنّ الحكم بكون الحيوان ميتة يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع ذلك الحيوان فيه ، فلا يجوز الحكم باستصحاب طهارة الماء ولا نجاسة الحيوان في مسألة من رمى صيدا فغاب ، ثمّ

______________________________________________________

عدم الثانية ، فأيّ ثمرة لاستصحاب نفس الملزوم ، بل الاستصحاب غير جار فيه حينئذ ، لأنّ معنى استصحاب الملزوم ترتيب آثاره عليه في زمان الشكّ ، فإذا فرض كون نفس الآثار موردا للأصل وجودا وعدما فلا معنى لاستصحاب الملزوم. فمآل القول بالجمع إلى إلغاء الاستصحاب في الملزوم ، وترجيح استصحاب اللوازم عليه.

٢٧٥٥. هو المحقّق القمّي رحمه‌الله.

وجده في ماء قليل ، يمكن استناد موته إلى الرمي وإلى الماء". وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم وحكم بكلا الأصلين : بنجاسة الصيد ، وطهارة الماء ، انتهى.

ثمّ اعلم : أنّه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين عن الشيخ علي في حاشية الروضة : دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي. ولعلّها مستنبطة حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ، فلا يعارض أحد استصحاب كريّة الماء باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به ، ولا استصحاب القلّة باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس ، ولا استصحاب حياة الموكّل باستصحاب فساد تصرّفات وكيله. لكنّك قد عرفت (٢٧٥٦) فيما تقدّم من الشيخ والمحقّق خلاف ذلك.

هذا ، مع أنّ الاستصحاب في الشكّ السببي دائما من قبيل الموضوعي بالنسبة إلى الآخر ؛ لأنّ زوال المستصحب بالاستصحاب الآخر من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببي ، فهو له من قبيل الموضوع للحكم ، فإنّ طهارة الماء من أحكام الموضوع الذي حمل عليه زوال النجاسة عن المغسول به ، وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب كريّته؟ هذا كلّه فيما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ، فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشكّ في تعيينه : فإمّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعيّة عملية لذلك العلم الإجمالي ـ كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين ـ وإمّا أن لا يكون. وعلى الثاني : فإمّا أن يقوم

______________________________________________________

٢٧٥٦. أراد بذلك القدح في الإجماع المذكور بوجهين : أحدهما : أنّه ينافيه خلاف الشيخ والمحقّق في مثال الفطرة واشتغال الذمّة. الثاني : أنّ الشكّ السببى والمسبّب من قبيل الموضوع والحكم دائما ، وقد عرفت الخلاف في تقديم الاستصحاب في السببى عليه في المسبّب.

دليل من الخارج (*) على عدم الجمع ـ كما في الماء النجس المتمّم كرّا (٢٧٥٧) بماء طاهر ؛ حيث قام الإجماع على اتّحاد حكم الماءين ـ أو لا.

وعلى الثاني : إمّا أن يترتّب أثر شرعيّ على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ـ كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن فيمن توضّأ غافلا بمائع مردّد بين الماء والبول ، ومثله استصحاب طهارة كلّ من (٢٧٥٨) واجدي المنيّ في الثوب المشترك ـ وإمّا أن يترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى

______________________________________________________

٢٧٥٧. إلى قوله : «دون الترجيح والتخيير» في بعض النسخ (**) بدله قوله : أوّلا ، فالأوّلان يحكم فيهما بالتساقط ، والثالث يحكم فيه بالجمع ، كما إذا شكّ في تعيين السابق موتا من زيد وعمرو الحيّين ، أو شكّ في تعيين الباقي من النجاسة والطهارة في الماء النجس المتمّم كرّا بطاهر ، أو شكّ في تعيين النجس من أحد الإنائين المعلوم طروّ النجاسة على أحدهما. والأقوى في هذا هو التساقط ، وفرض الأصلين كأن لم يكونا ، سواء كان مع أحدهما مرجّح أم لا. فليس في تعارض الاستصحابين الترجيح ولا التخيير بعد فقد المرجّح ، بل الحكم من أوّل الأمر طرحهما. نعم ، هذا كلّه إذا لم يمكن الجمع بينهما ، بأن يكون الجمع مستلزما لمخالفة تكليف معلوم. أمّا إذا لم يكن كذلك وجب العمل بكليهما إن ترتّب على كلّ من المستصحبين أثر شرعيّ ، وإلّا اختصّ العمل بما له الأثر ، لأنّ مرجع الاستصحاب إلى ترتيب الآثار. فهنا صور ثلاث ، الاولى : ، ولا بدّ أن يكون على هذه النسخة بدل قوله بعد ذلك : وأمّا الصورة الثالثة وأمّا الصورة الرابعة ، هكذا : وأمّا الصورة الثانية وأمّا الصورة الثالثة.

٢٧٥٨. قد حكى بعض مشايخنا عن شيخه صاحب الجواهر أنّ جواز الجمع

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «من الخارج» ، عقلي أو نقلي.

(**) الأمر كما ذكره المحشّي قدس‌سره ، وللاستزادة انظر فرائد الاصول (طبعة مجمع الفكر الاسلامي) ج ٣ : ص ٤٠٧ ، كما استفدنا كثيرا من هذا التحقيق.

الموكّل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية.

فهناك صور أربع : أمّا الاوليان ، فيحكم فيهما بالتساقط ، دون الترجيح والتخيير ، فهنا دعويان : إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات خلافا لجماعة. قال في محكيّ تمهيد القواعد : إذا تعارض أصلان عمل بالأرجح منهما ؛ لاعتضاده بما يرجّحه ، فإن تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا (٢٧٥٩). ثمّ مثّل له بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء ... إلى آخر ما ذكره. وصرّح بذلك جماعة من متأخّري المتأخّرين.

والحقّ على المختار ـ من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ـ هو عدم الترجيح (٢٧٦٠) بالمرجّحات الاجتهاديّة ؛ لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري ؛ لعدم موافقة المرجّح لمدلوله حتّى يوجب اعتضاده.

وبالجملة : فالمرجّحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون للاصول حتّى

______________________________________________________

بين الأصلين هنا إنّما هو من جهة عدم حجّية الاستصحاب الجاري في حقّ أحد في حقّ الآخر ، فاستصحاب عدم جنابة أحدهما لا يثبت جنابة الآخر ، ولا العكس ، حتّى يقع التعارض بينهما.

وفيه : أنّ أحدهما قد يحتاج إلى استئجار الآخر لكنس المسجد أو لفعل الصلاة أو الحجّ عن ميّت ، بل الحيّ أيضا في الأخير مع عجز المستأجر بعد الاستطاعة ، أو نحو ذلك ممّا يتوقّف صحّة الإجارة فيه على طهارة الأجير ولو في الظاهر عند الموجر ، فلا وجه لمنع حجّية الاستصحاب الجاري في حقّ أحدهما في حقّ الآخر مطلقا.

٢٧٥٩. لعلّ المراد بهما تساقط الأصلين كما في الصورة الاولى والثانية ، والجمع بينهما كما في الصورة الثالثة. ولعلّ قيد الغلبة احتراز عن الرابعة ، نظرا إلى ندرتها.

٢٧٦٠. بالمراجعة إلى ما علّقناه على القسم الأوّل عند بيان القول بتعارض الأصل المزيل والمزال ، وملاحظة المرجّحات والتخيير مع عدمها ، تتبصّر هنا.

تعاضدها. وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلّة الاجتهادية ، فلا يرجّح بعضها على بعض لموافقة الاصول التعبّدية. نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ، بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهادية ، كما ادّعاه صريحا بعضهم. لكنّك عرفت فيما مضى عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريّا ، فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعية ومخالفتها.

هذا كلّه مع الإغماض عمّا سيجيء من عدم شمول" لا تنقض" للمتعارضين ، وفرض شمولها لهما من حيث الذات ، نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلا ؛ لامتناع ذلك بناء على المختار في إثبات الدعوى الثانية ، فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلا ؛ لأنّه إنّما يكون مع التعارض وقابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل.

الدعوى الثانية : أنّه إذا لم يكن مرجّح فالحقّ التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين من أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ؛ لعدم تناول دليل حجّيتهما لصورة التعارض ـ لما تقرّر في باب التعارض من أنّ الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد لا من باب الطريقية ـ بل لأنّ العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد اليقينين (*) يوجب خروجهما عن مدلول" لا تنقض" ؛ لأنّ قوله : " لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين مثله" يدلّ على حرمة النقض بالشكّ ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ ؛ لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء أحدهما المعيّن ؛ لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح ، وأمّا أحدهما المخيّر فليس من أفراد العام ؛ إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا لم يبق شيء. وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأنّ قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام" لا يشمل شيئا من المشتبهين.

وربّما يتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب نظير قوله : " أكرم العلماء" ، و" أنقذ

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «اليقينين» ، الضدّين.

كلّ غريق" ، و" اعمل بكلّ خير" ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لا بدّ من العمل بالممكن ـ وهو أحدهما تخييرا ـ وطرح الآخر ؛ لأنّ هذا غاية المقدور ، ولذا ذكرنا في باب التعارض أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح التخيير بالشرط المتقدّم (٢٧٦١) لا التساقط. والاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الإمكان ، فإذا تعذّر العمل باليقينين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحهما.

ويندفع هذا التوهّم بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه. وفيما نحن فيه ليس كذلك ؛ إذ بعد العلم الإجمالي لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدم القدرة.

نعم مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما (*) من دون علم إجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فإنّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما. وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين ؛ لعدم العثور على مصداق له ؛ فإنّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت (٢٧٦٢) أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم (٢٧٦٣) " لا تنقض" عنوان ينطبق على الواحد التخييري.

______________________________________________________

٢٧٦١. أي : كون اعتبار الدليلين من باب التعبّد والسببيّة دون الطريقيّة.

٢٧٦٢. حاصله : بيان الفرق بين ما نحن فيه والمثال المذكور ، الذي من قبيل قوله : أكرم العلماء وأنقذ كلّ غريق.

٢٧٦٣. كما هو كذلك فيما ذكره من مثال الاستصحاب ، لأنّ الخارج فيه

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما» ، ورد المنع تعبّدا عن الجمع بينهما.

وأيضا ، فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ليكون الفرد الآخر الغير المعيّن باقيا تحت العام ، كما إذا قال : أكرم العلماء وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ، فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ، إذ لا استصحاب في الواقع حتّى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ؛ لأنّ الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاخرى. نعم ، نظيره في الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ووجب نقض الآخر به. ومعلوم أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ؛ لأنّ المعلوم إجمالا فيما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين ـ لا بوصف زائد ـ وارتفاع الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد الاستصحابين وإلغاء الآخر.

فتبيّن أنّ الخارج من عموم" لا تنقض" ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ولا مخيرا ، بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي ، من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى قواعد أخر غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة. ولذا لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة ، وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى الاحتياط فيهما ، وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس المتمّم كرّا الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد ، وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد. فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها من باب التعبّد لا وجه له ؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاصول عن مدلول" لا تنقض" على ما عرفت. نعم يتّجه الترجيح بناء على اعتبار الاصول من باب الظنّ النوعي.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين ، فهو ما كان العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا توجب مخالفة عمليّة لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فإنّه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما. وليس العلم الإجمالي بزوال أحدهما مانعا من

ذلك ؛ إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد (*) لا يترتّب عليه حكم شرعي حتّى يكون ترتيبه مانعا عن العمل بالاستصحابين ، ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء مخالفة عملية لحكم شرعي أيضا. نعم ، ربّما يشكل ذلك في الشبهة الحكمية. وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدّمات حجّية الظن عند التكلّم في حجّية العلم.

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين ، فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما ممّا يكون موردا لابتلاء المكلّف دون الآخر ، بحيث لا يتوجّه على المكلّف تكليف منجّز يترتّب أثر شرعي عليه. وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين ؛ إذ قوله : " لا تنقض اليقين" لا يشمل اليقين الذي لا يترتّب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعي بحيث لا تعلّق له به أصلا ، كما إذا علم إجمالا بطروّ الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك. ونظير هذا كثير ، مثل : أنّه علم إجمالا بحصول التوكيل من الموكّل ، إلّا أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء ، والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ، فإنّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل ، لأصالة عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، ولم يعارضه أحد بأنّ الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الموكّل أيضا.

وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا ، فإنّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث إنّه سبب للإرث ووجوب النفقة والقسم. ويتّضح ذلك (٢٧٦٤) بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه.

ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات والرجوع إلى الاصول الأخر الجارية في لوازم المشتبهين ، إلّا أنّ ذلك إنّما يتمشّى في استصحاب الامور الخارجيّة ، أمّا مثل أصالة الطهارة في كلّ من واجدي المني فإنّه لا وجه للتساقط هنا.

______________________________________________________

كالباقي هو الواحد التخييري.

٢٧٦٤. أي : إجماع العلماء على العمل بالاستصحاب الذي يترتّب عليه أثر شرعيّ ، دون ما لم يترتّب عليه ذلك.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «اليد» ، البدن.

ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم إجمالي معتبر في العمل ، ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة الغير المحصورة. وفي القسم الثاني (٢٧٦٥) إن لم يكن هناك مخالفة عملية لعلم إجمالي معتبر. فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجمالي من عقل أو شرع أو غيرهما بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر.

والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في الشبهات الموضوعية ، ولازمه جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلّا أنّ تشخيص سلامتها عن الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد ، فلا بدّ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ، وإلّا فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى الاستصحاب الحاكم. وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي ، نظير تشخيص حجّية أصل الاستصحاب وعدمها. عصمنا الله وإخواننا من الزلل في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين.

______________________________________________________

٢٧٦٥. معطوف على قوله : «في القسم الأول». والمراد دخوله في الشقّ الثاني من القسم الثاني.

قد تمّ الجزء الثالث بيد مصنّفه الجاني موسى بن جعفر بن أحمد بن لطف علي بن محمّد صادق التبريزي ، يوم الثلاثاء من شهر جمادى الثانية ، من شهور السنة الثانية بعد ألف ومائتين وتسعين قد مضين من الهجرة المصطفويّة ، علي هاجرها آلاف ثناء وتحيّة. واسأل الناظرين فيه أن يغمضوا عمّا اطّلعوا عليه من الزلل والخطأ ، وأن يصلحوا ما استطاعوا ، وما توفيقي إلّا بالله ، وله الحمد أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، وصلّى الله على أشرف المرسلين وعترته المعصومين ، سنة ١٢٩٢.

المصادر

(١) البقرة (٢) : ٨٣.

(٢) الكافى ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ، الباب الاهتمام بامور المسلمين ، الحديث ٩.

(٣) الحجرات (٤٩) : ١٢.

(٤) المائدة (٥) : ١.

(٥) النساء (٤) : ٢٩.

(٦) جامع المقاصد : ج ٥ ، ص ١٦٢.

(٧) الكافى ، ج ٢ ، ص ٣٦٢ ، الباب التهمة وسوء الظن ، الحديث ٣.

(٨) الوسائل ، ج ٨ ، ص ٦٠٩ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٤.

(٩) الوسائل ، ج ٨ ، ص ٥٠١ ، الباب ١٠٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١.

(١٠) نهج البلاغة ، قصار الحكم : ١١٤.

(١١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٢٦٣.

(١٢) مدارك الأحكام ، ج ٧ ، ص ٣١٥.

(١٣) قواعد الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٥٦.

(١٤) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(١٥) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٨٧.

التعادل

و

التراجيح

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

خاتمة (٢٧٦٦)

______________________________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى عترته المعصومين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين.

٢٧٦٦. لا إشكال بل لا خلاف في أنّ البحث عن الأخبار من حيث التعادل والترجيح داخل في المسائل الاصوليّة. مضافا إلى أنّ تمايز العلوم على ما ذكروه إنّما هو بتمايز موضوعاتها أو بحدودها ، ومقتضاهما أيضا كذلك.

أمّا الأوّل ، فإنّ موضوع علم الاصول هي الأدلّة الأربعة ، فيكون البحث عن أحوالها من مسائل هذا العلم ، والبحث عن الأخبار من حيث التعادل والترجيح بحث عن أحوالها ، فيدخل في مسائله.

وأمّا الثاني ، فإنّ علم الاصول على ما عرّفوه هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة. ولا إشكال في انطباقه على ما نحن فيه. وربّما يتعجّب من أنّهم مع إكثارهم الخلاف في أغلب المسائل الاصوليّة من حيث اندراجها في المبادي أو المسائل الكلاميّة أو الفقهيّة ، قد أدرجوا هذه المسائل الخلافيّة في مقاصد هذا العلم ، وذكروا هذه المسألة في خاتمة الكتاب الموهم لخروجها من المقاصد ، مع ما عرفت من شهادة اتّفاقهم وموضوع العلم وحدّه بخلافه.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأقول : لعلّ الوجه فيه أنّ البحث عن الأدلّة من حيث التعادل والترجيح متأخّر شأنا عن البحث عن سائر أحوالها ، كالبحث عنها من حيث الدلالة أو الحجّية ، لأنّ البحث عنها من حيث التعارض فرع دلالتها وحجّيتها ، ولذا أخّروا البحث عنها من هذه الحيثية عنه عن سائر الحيثيّات ، فجعلوا البحث عنها من هذه الحيثيّة في الخاتمة إشارة إلى كون ذلك آخر ما يبحث عنه في هذا العلم ، لا إلى خروجه من مسائله.

وأمّا ما أشرنا إليه من إكثارهم الخلاف في أكثر المسائل الاصوليّة ، فذلك مثل دعوى دخول مباحث الألفاظ طرّا ، وكذا البحث عن حجّية الكتاب والسنّة والإجماع والعقل في المبادي. ودخول البحث عن حجّية الأوّلين في الكلام ، وعن أصالة البراءة والاستصحاب والاجتهاد والتقليد في الفقه ، أو البحث عن الأخيرين في الكلام.

نظرا في الأوّل إلى أنّ مسائل كلّ علم هي النسب الخبريّة المتعلّقة بأحوال موضوع هذا العلم من حيث إنّها أحوال موضوع هذا العلم ، والبحث عن دلالة الأمر والنهي والعموم والخصوص وسائر ما يتعلّق بها من المباحث اللفظيّة ليس بحثا عن أحوال الأدلّة من حيث إنّها أحوالها ، لعموم عنوان هذه المباحث ، إذ البحث عن دلالة الأمر مثلا ليس مقيّدا بعنوان ورودها في الكتاب والسنّة ، ولذا تنسب الدلالة إليه ولو مع وروده في غيرهما أيضا. والبحث في مباحث العلوم إنّما هو عن الأحوال المختصّة بموضوعات تلك العلوم ، إذ البحث عن أحوال العامّ لا يعدّ بحثا عن أحوال الخاصّ ، فمن هنا تخرج تلك المسائل من مقاصد هذا العلم. نعم ، لمّا كان البحث عن أحوال الأدلّة من حيث حجّيتها أو تعادلها وترجيحها متوقّفا على معرفة تلك المسائل ، فلا بدّ من ذكرها في المبادي.

والجواب : أنّ عنوان تلك المسائل وإن كان أعمّ ، إلّا أنّ بحث الاصولي عنها إنّما هو بعنوان ورودها في الكتاب والسنّة ، لعدم تعلّق غرضه بغير ذلك ، لعدم حاجته

في التعادل والتراجيح (٢٧٦٧) وحيث إنّ موردهما الدليلان المتعارضان ، فلا بدّ من تعريف التعارض وبيانه. وهو لغة من العرض بمعنى (٢٧٦٨) الإظهار ، وغلّب في

______________________________________________________

إلى البحث عن مفاهيم الألفاظ من حيث هي.

وفي الثاني إلى أنّ البحث عن الحجّية بحث عن موضوع الدليل من حيث كونه دليلا ، والبحث عن تشخيص موضوع العلوم داخل في المبادي ، لأنّ البحث عن أحوال الموضوع فرع إحراز نفس الموضوع وتشخيصه.

وفي الثالث إلى أنّ مرجع البحث عن حجّية الكتاب والسنّة إلى البحث عن حجّية قول الله تعالى والأئمّة الهدى عليهم‌السلام ، والبحث عنها محرّر في الكلام دون الاصول.

وفي الرابع إلى كون البحث عن تلك المسائل بحثا عن عمل المكلّف ، الذي هو موضوع علم الفقه دون أحوال الأدلّة.

وفي الخامس إلى أنّ مرجع البحث عن وجوب الاجتهاد والتقليد إلى البحث عن وجوب إطاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام.

وبالجملة ، إنّ الخلاف في جميع تلك المسائل موجود ، وقد قرّرنا الجواب عن الكلّ في محلّه. ولا يجدي الإطناب هنا طائلا ، فليطلب من مواضعها. نعم ، قد حرّرنا في محلّه كون مسائل الاجتهاد والتقليد من المسائل الفقهيّة دون الاصوليّة.

٢٧٦٧. التعادل مأخوذ من عدل الحمل بالكسر ، وهو نصفه ، فكأنّ الدليلين المتكافئين عدلا حمل لأجل تعادلهما وتساويهما. والترجيح في الأصل إحداث الرجحان والمزيّة في أحد الشيئين المتقابلين. وفي باب الأدلّة : تقديم أحد الدليلين المتعارضين لأجل مزيّة فيه. ولفظ الترجيح في عبارة المصنّف رحمه‌الله بصيغة المفرد ، وفي بعض العبارات بصيغة الجمع. ولكلّ وجه ، إذ الأوّل ناظر إلى فعل المستنبط ، والثاني إلى أفراده المتعدّدة مطلقا ، أو باعتبار تعدّد المرجّحات. ويحتمل أن يراد به جنس المفرد بعد انسلاخ معنى الجمعيّة ، ولكنّه خلاف الظاهر.

٢٧٦٨. في القاموس : عرض له كذا : ظهر وبدا ، والشيء له : أظهره ، وعليه : أراه إيّاه.

الاصطلاح (٢٧٦٩) على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ؛ ولذا ذكروا (٢٧٧٠):

______________________________________________________

٢٧٦٩. وجه التسمية والتغليب : أنّ الدليلين المتعارضين لأجل تعارضهما وتمانعهما بمدلولهما كأنّ كلّ واحد منهما يظهر نفسه ويبارزه لدفع الآخر ، فتكون العلاقة في الإطلاق هي المشابهة.

٢٧٧٠. منهم السيّد عميد الدين في المنية. ثمّ إنّ جريان أحكام التعادل والترجيح فرع إحراز تعارض الدليلين وتمانعهما ، فيكون النزاع في المسألة كبرويّا. والبحث عن تحقّق التعارض وعدمه في بعض الموارد ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ومنه يعلم ...» ـ استطراديّ ، لوجود المناسبة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ توضيح الكلام في أقسام التعارض : أنّ تعارض مدلول الدليلين إمّا أن يكون بمدلولهما المطابقي ، مثل قولنا : أكرم زيدا ولا تكرم زيدا ، أو بالمدلول المطابقي من أحدهما والتضمّني من الآخر ، مثل قولك : أكرم العلماء ولا تكرم قوما كذا ، إذا كان بعضهم من العلماء أو الالتزامي كذلك ، مثل تعارض المفاهيم مع سائر الأدلّة ، وهكذا.

وعلى التقادير : إمّا أن يكون التعارض ذاتيّا أو عرضيّا ناشئا من أمر آخر ، كما ورد أنّه عليه‌السلام متى خرج من مكّة إلى عرفات كان يقصّر في الصلاة ، وما دلّ على عدم جواز التقصير في الصوم في أربعة فراسخ ، إذ التعارض بينهما إنّما هو بواسطة ما ورد من قولهم عليهم‌السلام كلّما قصّرت أفطرت ، وكلّما أفطرت قصّرت» وإلّا فلا تعارض بينهما بالذات ، لاختلاف موردهما. وإن شئت قلت : إنّ تنافي مدلولي الدليلين إمّا بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام ، سواء كان اللزوم عقليّا أم عاديّا أم شرعيّا.

والأولى أن يقال : إنّ قيد التنافي في الحدّ أعمّ من أن يكون بين الدليلين البسيطين والمركّبين ، ومن المركّب والبسيط. وما أشرنا إليه من قبيل الثالث ، إذ

.................................................................................................

______________________________________________________

التنافي فيه في الحقيقة بين الرواية الاولى والأخيرتين. ووجه الأولويّة : أنّ التعارض موضوع يتعلّق به الحكم بالتخيير مع تكافؤ الدليلين ، وبالترجيح مع مزيّة أحدهما. وهذان الحكمان إنّما يتعلّقان بنفس المتعارضين ، لعدم إمكان تحقّق الحكم في غير موضوعه. فإذا فرض رجحان أحد المتعارضين ، وتعيّن تأويل المرجوح منهما ، فعلى ما اعتبرناه أوّلا من خروج الأمر الخارجي من طرفي التعارض لا بدّ من صرف التأويل إلى نفس الدليل المرجوح دون الأمر الخارجي ، لفرض خروجه من طرفي التعارض. وهو على إطلاقه غير صحيح ، إذ ربّما يتعيّن تأويل الأمر الخارجي أيضا بما يوافق الراجح ، كما إذا فرض كونه ظنيّا والراجح قطعيّا ، إذ المتعارضان كما قد يكونان قطعيّين وقد يكونان ظنّيين وقد يكونان مختلفين ، كذلك الأمر الخارجي قد يكون قطعيّا وقد يكون ظنّيا. فالأولى أن يفرض التعارض بين أحد الدليلين والدليل الآخر مع ضميمة الأمر الخارجي.

ثمّ إنّ التعارض قد يكون على وجه التناقض ، واخرى على وجه التضادّ ، وثالثة على وجه العموم من وجه. وأمّا على وجه العموم مطلقا فلا يشمله قيد التنافي ، لعدم التنافي بين العامّ والخاصّ ، وكذا المطلق والمقيّد بحسب العرف ، بل بين الظاهر والأظهر مطلقا. فلا يصغى إلى خلاف جماعة من أواخر المتأخّرين ممّن يظهر منه دخول ما أشرنا إليه في باب تعارض الأدلّة.

وممّن يظهر منه خروج ذلك منه السيّد عميد الدين في المنية (*) قال : «واعلم أنّ المتعارضين هما اللذان لا يمكن الجمع بين مدلوليهما ، إمّا بأن يكون أحدهما ينفي ما أثبته الآخر من الحيثيّة التي أثبتها مطابقة ، كما لو قال : صلّ في الوقت الفلاني فرضا ، ثمّ قال : لا تصلّ في ذلك الوقت فرضا ، أو التزاما كما لو قال : طف في ذلك الوقت أو صلّ فيه نفلا» انتهى. ولعلّ عدم تعرّضه للدلالة التضمّنية لعدم الاعتداد بها كما قرّر في محلّه.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «في مبحث حجّية الأخبار. منه».

أنّ التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضادّ. وكيف كان ، فلا يتحقق إلّا بعد اتحاد الموضوع وإلّا لم يمتنع اجتماعهما.

ومنه يعلم : أنّه لا تعارض (٢٧٧١)

______________________________________________________

وكذا الفاضل الجواد حيث قال : «التعارض أن يكون هناك دليلان يتضمّنان حكمين يتعذّر العمل بهما ، وليس أحدهما أولى من الآخر» انتهى ، لأنّ العمل بالعامّين مطلقا ممكن عرفا كما أشرنا إليه.

ويشهد بخروج ذلك من باب التعارض عقد باب في مباحث الألفاظ لكلّ من العامّ والخاصّ مطلقا والمطلق والمقيّد ، حيث يذكرون حكم كلّ منهما ووجه الجمع بينهما في بابه.

ثمّ إنّ تخصيص الدليلين في الحدّ بالذكر لبيان أقلّ المراتب ، وإلّا فقد يتحقّق التعارض بين الأدلّة. وكذا المراد منهما أعمّ من الدليل الاجتهادي والفقاهتي مع تساوي مرتبتهما ، كالخبرين والاستصحابين والبراءتين. وأمّا مع اختلاف مرتبتهما ، كالكتاب والسنّة مع الاصول ، بل الاستصحاب مع البراءة ونحوهما ، فلا تعارض بينهما ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وسنشير إلى توضيح ما يتعلّق به ، وكذا إلى سائر ما يتعلّق بأقسام المتعارضين من حيث كونهما قطعيّين أو ظنّيين أو بالاختلاف.

٢٧٧١. لا يذهب عليك أنّ قيد التنافي في الحدّ مخرج لأمرين : أحدهما : مخالفة الاصول للأدلّة الاجتهاديّة ، لعدم تحقّق التعارض بينهما ، لأجل اختلاف موضوعهما. وثانيهما : مخالفة الدليلين القطعيّين ، على ما سيشير إلى بيانه. وتوضيح المقام تارة ببيان الوجوه التي يمكن أن يتوهّم التنافي والتعارض من جهتهما بين الحكم الواقعي والظاهري في موضوع واحد ، واخرى ببيان ما يدفع ذلك.

أمّا الأوّل فاعلم أنّ الحكم الواقعي ما جعله الشارع ـ اقتضاء أو تخييرا ـ للموضوعات الواقعيّة من حيث هي ، يعني : مع قطع النظر عن تعلّق إحدى الإدراكات

.................................................................................................

______________________________________________________

بها ، فلا يتغيّر بالعلم والجهل. والظاهري ما كان مجعولا للجاهل بالحكم الواقعي أو موضوعه. فالفرق بينهما إنّما هو بأخذ الجهل في موضوع الثاني دون الأوّل. ومجرّد ذلك لا يدفع التنافي بينهما ، لأنّه إذا كان شيء في الواقع حراما ، فالشكّ في حرمته أو في موضوعها لا يخرج الموضوع الواقعي من وجوده الواقعي. فالمائع المردّد بين الخمر والخلّ إذا كان خمرا في الواقع تلازمه الحرمة في الواقع ، وحينئذ يمتنع عروض الرخصة له في الظاهر بأصالة الإباحة لوجوه :

أحدها : امتناع اجتماع الضدين ، قضيّة لتضادّ الأحكام الخمسة ، لأنّ الحرمة وإن ثبتت لشرب الخمر في الواقع من حيث هو والإباحة له في حال الجهل ، إلّا أنّ اختلاف جهة المنع والرخصة ـ أعني : جهتي الواقع والظاهر ـ لا يوجب اختلاف موضوعهما في الخارج ، نظير ما لو وجب إكرام زيد لكونه ابن عمرو وإهانته لكونه أخا بكر.

وثانيها : لزوم التكليف بما لا يطاق في بعض صور اختلاف الحكم الواقعي والظاهري ، وإن قلنا بكون تعدّد الجهة مكثّرة للموضوع ، نظير ما ذكروه في امتناع اجتماع الأمر والنهي مع تعدّد الجهة.

وثالثها : امتناع اجتماع المصلحة والمفسدة في موضوع واحد. والتقريب فيه يظهر من الوجه الأوّل. ورابعها : قبح تفويت مصلحة الواقع عن المكلّف ، لأنّه إذا كان فعل في الواقع واجبا أو حراما ، فالرخصة في الترك على الأوّل والفعل على الثاني في الظاهر ـ لأصالة البراءة ـ يوجب تفويت مصلحة فعل الواجب أو ترك الحرام لا محالة.

ومحظور هذه الوجوه لا يندفع إلّا بارتكاب التخصيص في أدلّة الواقع أو الظاهر. ولكن لا سبيل إلى الأوّل إجماعا ، فتعيّن الثاني ، كما عليه جماعة من متأخّري المتأخّرين.

بين الاصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ؛ لأنّ موضوع الحكم في الاصول الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم ، وفي الدليل نفس ذلك الشيء من دون ملاحظة ثبوت حكم له فضلا عن الجهل بحكمه ، فلا منافاة بين كون العصير المتّصف بجهالة حكمه حلالا على ما هو مقتضى الأصل ، وبين كون نفس العصير حراما كما هو مقتضى الدليل الدالّ على حرمته.

______________________________________________________

هذا كلّه في الحكم الواقعي بالقياس إلى مؤدّيات الاصول. ومنه يظهر قياس الواقع إلى مؤدّيات الطرق الاجتهاديّة ، لكونها ظاهريّة أيضا بالنسبة إلى الواقع الأوّلي. وكذا قياس مؤدّيات الطرق إلى مؤدّيات الاصول ، لكونها بمنزلة الواقع بالنسبة إليها.

وأمّا الثاني ، فإنّه يدفع الوجه الأوّل منع التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري بعد تغاير موضوعهما ، لأنّ موضوع الأوّل هو الواقع من حيث هو ، وموضوع الثاني هو الواقع بوصف كونه مجهولا. وقياسهما على وجوب إكرام زيد من جهة كونه ابن عمرو وإهانته من جهة كونه أخا بكر قياس مع الفارق ، لأنّ الموضوع في المقيس عليه واحد ، وكونه ابن عمرو وأخا بكر إنّما هما جهتا عروض الحكمين وسببه. ومنه يظهر ضعف الثالث أيضا.

وأمّا الثاني فيدفع بأنّ التكليف بما لا يطاق إنّما يلزم إذا تنجّز التكليف بالواقع مطلقا ، سواء علم به المكلّف أم لا ، وإلّا فمع كون الحكم الواقعي شأنيّا ، كما هو الفرض في موارد الجهل بالواقع ، فاللازم منتف لا محالة.

وأمّا الرابع فيندفع بأنّ مفسدة تفويت الواقع يندفع بتداركها بمصلحة اخرى وإن لم نعلمها تفصيلا ، واحتمال ذلك يدفع القبح المذكور. وممّا يكشف عن صحّة جميع ما ذكرناه حسن الاحتياط في موارد الاصول ، إذ الواقع لو كان مختصّا بها لم يبق مسرح للاحتياط حينئذ أصلا. وممّا ذكرناه تظهر الحال بالنسبة إلى سائر المراتب المذكورة التي منها ما نحن فيه ، وهي نسبة الأدلّة الاجتهاديّة إلى الاصول.

والدليل المفروض : إن كان بنفسه (٢٧٧٢)

______________________________________________________

٢٧٧٢. توضيح ما ذكره يتوقّف على بيان معنى الورود والحكومة ، والفرق بين الثاني والتخصيص ، والثمرة بينهما. وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى كلّ منها ، فنقول : أمّا الأوّل فهو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر في بعض الموارد على سبيل الحقيقة ، كجميع الأدلّة القطعيّة بالنسبة إلى الاصول ، بل وسائر الأدلّة الظنّية أيضا بالنسبة إلى الاصول العقليّة. فمع الشكّ في حليّة العصير مثلا ، فأصالة البراءة وإن اقتضت حلّيته في الظاهر ، إلّا أنّه إذا انعقد الإجماع على حرمته يرتفع موضوع الإباحة الظاهريّة به حقيقة ، لأنّ موضوعها العصير بوصف كونه مشكوك الحكم ، والفرض زوال الشكّ بسببه. وكذا المائع المردّد بين كونه خمرا أو خلّا ، وحصل القطع بكونه أحدهما بشهادة جماعة مثلا ، وهكذا. وكذا الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الاصول العقليّة ، كأصالة البراءة الاحتياط والتخيير ، لأنّ موضوع الاولى عدم البيان ، والثانية احتمال العقاب ، والثالثة عدم الترجيح لأحد الطرفين ، وهذه كلّها ترتفع بالأدلّة الاجتهاديّة ، لصلاحيّتها للبيان ، وكونها دليلا قطعيّا على عدم العقاب ، لفرض كونها مقطوعة الاعتبار ، ومرجّحة لأحد الطرفين.

وأمّا الثاني فهو أن يكون أحد الدليلين رافعا لحكم الدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه بلسان التفسير والبيان ، بمنزلة التفسير بلفظ «أعني» ونحوه. فالحكومة أن يكون أحد الدليلين متعرّضا لحال الآخر ومبيّنا للمراد منه ومقدار مدلوله ، برفع حكمه عن بعض أفراد موضوعه مع صدق موضوعه عليه حقيقة. والمراد بالتفسير والبيان أن لا يفهم التنافي بينهما من أوّل النظر كالقرائن المتّصلة ، فيكون مجموع المحكوم والحاكم بمنزلة كلام واحد مشتمل على قرينة ارتكاب التجوّز في بعض فقراته ، نظير الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الاصول العمليّة الشرعيّة ، لأنّ خبر الواحد مثلا وإن لم يرفع الشكّ حقيقة عن موضوع الاستصحاب

.................................................................................................

______________________________________________________

مثلا ، إلّا أنّه من حيث تنزيل مدلوله منزلة الواقع الاولي في إلغاء احتمال خلافه ، مبيّن بلسان التفسير لرفع حكم الاصول الجارية في مورده. وكذا عمومات العسر والضرر بالنسبة إلى سائر العمومات المثبتة للتكليف ، لأنّها مخصّصة لها بغير موارد العسر والضرر بلسان التفسير. والأمر بالمسارعة إلى الخيرات المقتضي لفوريّة التكاليف بالنسبة إلى الإطلاقات ، إلى غير ذلك ممّا أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وكذلك الاصول الحاكمة بعضها على بعض ، سواء اتّحد سنخها كالاستصحاب المزيل والمزال ، أم اختلف كالاستصحاب بالنسبة إلى البراءة ، كاستصحاب الحياة بالنسبة إلى أصالة البراءة عن وجوب فطرة عبده ، وهكذا.

وأمّا الثالث فإنّ تخصيص العامّ من باب تقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ ، لقوّته بالنسبة إليه ، بخلاف الحكومة ، لأنّ تقديم الحاكم على المحكوم كما عرفت لأجل عدم المعارضة بينهما عرفا ، وكون الحاكم مفسّرا للمراد من المحكوم ، لا من باب الترجيح لقوّة الدلالة.

وبالجملة ، إنّ التخصيص من باب دوران الأمر بين رفع اليد عن أحد الظهورين وترجيح أحدهما لقوّته. فالعامّ له ظهور في الشمول لمورد التعارض ، إلّا أنّه قد رفعت اليد عن ظهوره لقوّة ظهور معارضه ، بخلاف الحكومة ، إذ لا ظهور للمحكوم مع ملاحظة الحاكم في الشمول لمورد اجتماعهما ، لما عرفت من كونه مفسّرا للمراد منه ، ومبيّنا لمقدار دلالته ، ولذا يقدّم على المحكوم وإن كان له أدنى مرتبة من الظهور وأوّل درجة من الرجحان ، بخلاف التخصيص ، إذ لا بدّ للخاصّ من ظهور زائد على ظهور العامّ ليترجّح به عليه.

نعم ، تخصيص العامّ بالخاصّ إنّما هو فيما كان الخاصّ ظنّي الدلالة ، وإلّا فإن كان قطعيّا مطلقا أو بحسب الدلالة فهو وارد عليه على الأوّل ، وحاكم عليه على الثاني ، وسنشير إلى توضيحه.

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد اختلط الأمر على بعض الأجلّة ، كالمحقّق القمّي رحمه‌الله وصاحب الإشارات ، ففرضا التعارض بين الأمر بالمسارعة إلى الخيرات وسائر الأوامر المثبتة للتكاليف. وقد عرفت فساده.

وزعم صاحب الرياض كون تقديم الأدلّة اللفظيّة على الاصول من باب التخصيص. وقد عرفت الحال فيه. بل ليس في كلمات العلماء من الحكومة والورود عين ولا أثر ، بمعنى عدم تعبيرهم بهما في كلماتهم ، وإن كانوا قد قدّموا الأدلّة اللفظيّة على الاصول ، وكذا بعض الأدلّة اللفظيّة على بعض ممّا كان بينهما ورود أو حكومة ، كتقديم أدلّة العسر والضرر ونحوها على الأدلّة المثبتة للتكاليف ، إلّا أنّهم لم يبيّنوا وجه التقديم ، وأنّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة. وقد عرفت حقيقة الحال في الجميع.

وبقي هنا شيء يتعلّق بعبارة المصنّف رحمه‌الله ، وهو أنّ ما ذكره في ضابط الحكومة بعد قوله : «ومتفرّعا عليه» بقوله : «وميزان ذلك أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغوا خاليا عن المورد» بظاهره ظاهر الفساد ، لمنع الملازمة في كثير من موارد الحكومة ، مثل أنّ الخاصّ ظنّي الدلالة حاكم على العامّ كما سيأتي. ولا ريب أنّه مع عدم العامّ لا يكون الخاصّ بلا مورد ، مثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم ، ومثل أكثر الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الاصول الشرعيّة.

نعم ، ما ذكره من الأمثلة من قبيل ما ذكره مع تأمّل فيها أيضا ، إذ لو لا الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكوك لم تكن القاعدة التي أشار إليها لغوا محضا ، لموافقتها لأصالة البراءة ، فتكون مؤكّدة لحكم العقل.

نعم ، الغرض من الدليل الحاكم بيان حال المحكوم ومقدار دلالته كما أشرنا إليه ، فلولا الدليل المحكوم كان الحاكم لغوا بلا مورد ، بمعنى خلّوه من محلّ يتعلّق به الغرض المذكور ، لا كونه لغوا محضا لا تترتّب عليه فائدة أصلا. ولعلّه لأجل ما

يفيد العلم صار المحصّل له عالما بحكم العصير (*) ، فلا يقتضي الأصل حلّيته ؛ لأنّه إنّما اقتضى حليّة مجهول الحكم (٢٧٧٣) ، فالحكم بالحرمة ليس طرحا للأصل ، بل هو بنفسه غير جار وغير مقتض ؛ لأنّ موضوعه مجهول الحكم. وإن كان بنفسه لا يفيد العلم بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علمي :

______________________________________________________

قدّمناه كانت العبارة المزبورة مضروبا عليها في بعض النسخ المصحّحة ، ولكن كان الأولى حينئذ أن يضرب على قوله أيضا «لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور».

ثمّ إنّ الحكومة قد تكون بالتخصيص ، بأن كان أحد الدليلين رافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، وقد تكون بالتعميم في موضوع الدليل الآخر ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في غير موضع من كلماته. وتظهر الحال في الأوّل ممّا تقدّم.

وأمّا الثاني فمثاله في الأحكام استصحاب الطهارة بعد خروج المذي المثبت لعدم ناقضيّته ، فإنّه حاكم على ما دلّ على اشتراط الطهارة في الصلاة أو غيرها ممّا هو مشروط بها ، فإنّه معمّم لموضوع الدليل المذكور بحيث يشمل من خرج منه المذي بعد الطهارة وإن كان هو مشكوك الطهارة في الواقع. وكذلك استصحاب نجاسة ماء زال تغيّره من قبل نفسه ، فإنّه حاكم على الأدلّة المثبتة لأحكام النجاسة ، ومعمّم لموضوعها لما يشمل مثل هذا الماء المشكوك النجاسة.

ومثاله في الموضوعات استصحاب الطهارة أو النجاسة أو الحدث بالنسبة إلى ما دلّ على اعتبار هذه الامور وجودا أو عدما في الصلاة. وكذا ما لو ورد الأمر بإكرام العلماء ، وقامت البيّنة على كون رجل عالما ، وهكذا. وما ذكره المصنّف رحمه‌الله في ضابطة الحكومة إنّما ينطبق على ما لو كانت الحكومة فيه على وجه التخصيص ، فلا يشمل ما لو كانت فيه على وجه التعميم ، وهو واضح.

٢٧٧٣. قال في الحاشية «هذا حال الأصل بعد اطّلاع المجتهد على الدليل. و

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : العنبي مثلا.

فإن كان الأصل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ـ كأصالة البراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين ـ فالدليل أيضا وارد عليه ورافع لموضوعه ؛ لأنّ موضوع الأوّل عدم البيان ، وموضوع الثاني احتمال العقاب ، ومورد الثالث عدم المرجّح لأحد طرفي التخيير ، وكلّ ذلك يرتفع بالدليل العلمي المذكور.

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعية كالاستصحاب ونحوه ، كان ذلك الدليل حاكما على الأصل ، بمعنى أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل ، فالدليل العلمي المذكور وإن لم يرفع موضوعه أعني الشك ، إلّا أنّه يرفع حكم الشك أعني الاستصحاب. وضابط الحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبيّنا لمقدار مدلوله ، مسوقا لبيان حاله ، متفرعا عليه.

وميزان ذلك : أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغوا خاليا عن المورد (*) ، نظير الدليل الدالّ على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة أو مع كثرة الشك أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل ، فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكوك ، فلو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم الشكوك ـ لا عموما ولا خصوصا ـ لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور.

______________________________________________________

أمّا نفس الدليل الدالّ على حكم الشيء مع قطع النظر عن اطّلاع المجتهد عليه ، فموضوعه ذات الفعل مع قطع النظر عن كونه معلوم الحكم أو مجهوله ، ومحموله الحكم الشأني الغير المنجّز على المكلّف. ولا منافاة بين الحكم الشأني لذات الفعل من حيث هو ، وثبوت ضدّه الفعلي من حيث صفة جهالة حكمه. فلك أن تعتبر الجهل بالحكم في دليل الأصل صفة للمكلّف ، فتقول : لا منافاة بين كون المكلّف من حيث هو محكوما بالحكم الشأني ، ومحكوما بضدّه الفعلي من حيث كونه جاهلا بالحكم. لكنّ الأوّل أوفق بأدلّة الاصول» انتهى.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : بظاهره.

والفرق بينه وبين التخصيص : أنّ كون المخصّص بيانا للعام إنّما هو بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، وهذا بيان بلفظه ومفسّر للمراد من العام ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير.

ثمّ الخاص ، إن كان قطعيّا تعيّن طرح عموم العام ، وإن كان ظنيّا دار الأمر بين طرحه وطرح العموم ، ويصلح كل منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ، فلا بدّ من الترجيح بخلاف الحاكم ، فإنّه يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، ولا يكتفى بالمحكوم في صرف الحاكم عن ظاهره ، بل يحتاج إلى قرينة اخرى ، كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة.

فالثمرة بين التخصيص والحكومة تظهر في الظاهرين ، حيث لا يقدّم المحكوم ولو كان الحاكم أضعف منه ؛ لأنّ صرفه عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة اخرى ، هي مدفوعة بالأصل. وأمّا الحكم بالتخصيص فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاص ، وإلّا أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه.

فلنرجع إلى ما نحن بصدده من (*) حكومة الأدلّة الظنيّة على الاصول ، فنقول : قد جعل الشارع مثلا للشيء المحتمل للحلّ والحرمة حكما شرعيّا أعني الحلّ ، ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة ـ كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير ـ حجّة ، بمعنى أنّه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه للواقع ، فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم ، لا يترتّب عليه حكم شرعي كان يترتّب عليه لو لا هذه الأمارة ، وهو ما ذكرنا من الحكم بالحليّة الظاهرية ، فمؤدّى الأمارات بحكم الشارع كالمعلوم ، لا يترتّب عليه الأحكام الشرعية المجعولة للمجهولات.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة (٢٧٧٤) جار في الاصول اللفظية

______________________________________________________

٢٧٧٤. توضيح المقام أنّ اعتبار أصالة الحقيقة لا يخلو : إمّا أن يكون من باب التعبّد وأصالة عدم القرينة ، أو من باب الظهور النوعي أو الشخصي. ولا إشكال في عدم جريانها مع القرينة القطعيّة بخلافها ، لارتفاع موضوعها بها حقيقة. وأمّا مع

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : ترجيح.

.................................................................................................

______________________________________________________

القرينة الظنّية التي اعتبرها الشارع جعلا أو إمضاء فنقول : إنّه على الأوّل لا يخلو : إمّا أن يكون دليل التعبّد مطلقا ، أو مقيّدا بعدم القرينة. وعلى الثاني أيضا يحتمل أن يكون دليل اعتبار الظنّ النوعي أو موضوع نفس الظنّ مطلقا أو مقيّدا بما عرفت وأمّا على الثالث فالمدار فيه على صفة الظنّ ، وهو واضح فالأقسام خمسة أو ستّة. وإذا ورد عامّ وخاصّ ، فالخاصّ لا يخلو : إمّا أن يكون قطعيّا مطلقا ، أو ظنّيا كذلك ، أو قطعيّا دلالة وظنّيا سندا ، أو بالعكس. وبضرب الأربعة في الخمسة ترتقي الأقسام إلى عشرين.

ونقول في توضيح أحكام هذه الأقسام : إنّه إذا ورد عامّ وخاصّ فلا إشكال في تقديم الخاصّ عليه في الجملة. وإنّما الإشكال في وجه التقديم ، فإن كان الخاصّ قطعيّا مطلقا فلا إشكال في كونه من باب الورود ، لارتفاع موضوع أصالة الحقيقة في العامّ به حقيقة.

وإن كان ظنّيا مطلقا ، أو سندا خاصّة كالنصّ من الآحاد ، أو دلالة كذلك كالخاصّ الظنّي من الكتاب ، فإن كان العمل بأصالة الحقيقة من باب التعبّد المقيّد أو الظنّ النوعي كذلك دليلا أو موضوعا على ما عرفت ، فالخاصّ وارد عليها ، لرفعه موضوعها حقيقة بالفرض. وإن كان من باب التعبّد المطلق فالخاصّ حاكم عليها ، لأنّ الخاصّ وإن لم يعلم بصدوره عن الشارع ولا بما هو المراد منه واقعا ، إلّا أنّه بمقتضى دليل اعتباره دلالة وسندا منزّل بمنزلة الواقع ، بجعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم ، في عدم ترتّب ما كان يترتّب على هذا الاحتمال من الأثر لو لا حجّيته ، وهو وجوب العمل بالعامّ. وبعبارة اخرى : أنّ العمل بأصالة الحقيقة في العامّ إنّما هو في مورد احتمال وجود المخصّص وعدمه ، والخاصّ المعتبر شرعا رافع لاحتمال العدم شرعا ، فيكون بمقتضى دليل اعتباره حاكما عليها.

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان من باب الظنّ النوعي ، فتقديم الخاصّ حينئذ من باب الحكومة ـ كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله ـ إن كان ظنّي السند خاصّة ، ومن باب المعارضة وتقديم أقوى الظنّين بحكم العقل إن كان ظنّيا مطلقا أو بحسب الدلالة خاصّة. ولكن سنشير إلى ما يخدش فيه.

وإن كان من باب الظنّ الشخصيّ ، فإن زال الظنّ بالعموم بسبب وجود الخاصّ فلا مسرح للأصل فيه ، لانتفاء مناط اعتباره ، وإلّا فالخاصّ حاكم عليه ، لأنّ الظنّ المذكور منزّل بمنزلة عدمه بمقتضى دليل اعتبار الخاصّ ، لأنّ مقتضاه تنزيل مؤدّى الخاص بمنزلة الواقع في رفع اليد بسببه عن عموم العامّ ، كما يظهر تقريبه ممّا عرفت.

ومن هنا يظهر أنّ تقديم الخاصّ على العامّ من باب التخصيص ، وتقديم أحد الظاهرين لقوّته ورجحانه ، لا من باب الورود أو الحكومة ، مختصّ بصورة خاصّة ، وهي كون الخاصّ ظنّيا مطلقا أو بحسب الدلالة. ويظهر أيضا أنّ ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله عند بيان الفرق بين الحكومة والتخصيص من كون الخاصّ مبيّنا للمراد بالعامّ بحكم العقل لأجل قوّة ظهوره. وبعبارة اخرى : كون تقديم الخاصّ من باب تقديم الأظهر على الظاهر إنّما هو في الصورة المزبورة.

وبقي في العبارة شيء ، وهو أنّ المراد بالنصّ في قوله : «فثبت أنّ النصّ وارد ...» إن كان أعمّ من النصّ الحقيقي ـ أعني : ما لا يحتمل النقيض ـ وما كان أظهر بالنسبة إلى العامّ ـ وحاصله : دعوى ورود الخاصّ إن كان قطعيّ الدلالة والسند ، وحكومته إن كان ظنّيا سندا أو دلالة ـ يرد عليه حينئذ سؤال الفرق في العامّ والخاصّ ظنّي الدلالة بين ما لو قلنا باعتبار أصالة الحقيقة من باب التعبّد ، وما لو قلنا باعتبارها من باب الظنّ النوعي ، حيث حكم هنا بالحكومة علي الأوّل ، وبالمعارضة على الثاني فيما يأتي من كلامه ، وسنشير إليه. وإن أراد به النصّ الحقيقي ـ أعني : قطعيّ الدلالة ـ يرد عليه أوّلا : إلغاء قوله : «في الجملة» لأنّ ر

أيضا ، فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز. فإن كان المخصّص مثلا دليلا علميّا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنصّ القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلميّ في مقابل الأصل العملي (*). وإن كان المخصّص ظنيّا معتبرا كان حاكما على الأصل ؛ لأنّ معنى حجّية الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لو لا حجّية هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم ؛ فإنّ الواجب عرفا وشرعا العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصّص وعدمه ، فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم. فثبت : أنّ النصّ وارد على أصالة الحقيقة (**) إذا كان قطعيّا من جميع الجهات ، وحاكم عليه إذا كان ظنيّا في الجملة ، كالخاص الظنّي السند مثلا. ويحتمل أن يكون الظنّي أيضا واردا ، بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا معلّقا على عدم التعبّد بالتخصيص ، فحالها حال الاصول العقلية ، فتأمّل (٢٧٧٥).

هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة. وأمّا إذا كان من جهة الظنّ النوعي الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة أو من غيرها فالظاهر أنّ النص وارد عليها مطلقا وإن كان النصّ ظنيّا ، لأنّ الظاهر أنّ دليل حجّية الظنّ الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند أصالة الظهور ، مقيد بصورة

______________________________________________________

ضمير «كان» في قوله : «إن كان ظنّيا في الجملة» راجع إلى النصّ ، وظنّية النصّ لا تتصوّر إلّا بحسب السند. وثانيا : أنّه تبقى صورة معارضة العامّ والخاصّ ظنّيّ الدلالة مسكوتا عنها في كلامه.

٢٧٧٥. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى كون اعتبار أصالة الحقيقة من باب التعبّد المقيّد على خلاف التحقيق ، لأنّ الحقّ اعتبارها إمّا من باب التعبّد المطلق أو الظنّ النوعي كذلك. وقد مرّ تحقيقه في أوائل الكتاب عند بيان اعتبار الظواهر.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : فإطلاق المتعارضين عليها مسامحة.

(**) فى بعض النسخ زيادة : في الظاهر.

عدم وجود ظنّ معتبر على خلافه ، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل ، نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل.

ويكشف عمّا ذكرنا أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا موردا يقدّم فيه العام ـ من حيث هو ـ على الخاصّ وإن فرض كونه أضعف الظنون (٢٧٧٦) المعتبرة ، فلو كان حجّية ظهور العام غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه ، لوجد مورد يفرض (*) فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاص من ظنّ العام حتّى يقدّم عليه ، أو مكافئته له حتّى يتوقّف ، مع أنّا لم نسمع موردا يتوقّف في مقابلة العام من حيث هو والخاص ، فضلا عن أن يرجّح عليه. نعم ، لو فرض الخاص ظاهرا أيضا خرج عن النص ، وصارا من باب تعارض (٢٧٧٧) الظاهرين ، فربّما يقدّم العام. وهذا نظير (٢٧٧٨) ظنّ الاستصحاب على القول به ، فإنّه لم يسمع مورد يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له ، فيكشف عن أنّ إفادته للظنّ أو اعتبار ظنّه النوعيّ مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه ، فافهم.

______________________________________________________

٢٧٧٦. يعني : من حيث السند ، كما يرشد إليه قوله : «نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهرا أيضا ...».

٢٧٧٧. يمكن منع المعارضة بناء على ما هو المفروض من اعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ النوعي ، لأنّ دليل اعتبار هذا الظنّ في الخاصّ حاكم عليه في العامّ ، بتقريب ما أسلفناه على تقدير اعتبارها من باب التعبّد المطلق.

وبالجملة ، إنّ الظهورين في أنفسهما وإن كانا متعارضين ، إلّا أنّهما بضميمة دليل اعتبارهما يصير ظهور الخاصّ حاكما على ظهور العامّ. ومع قطع النظر عن دليل اعتبارهما فالتعارض بينهما ثابت ، وإن قلنا باعتبارهما من باب التعبّد المطلق ، فلا وجه لتخصيص المعارضة بصورة كون اعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ النوعي.

٢٧٧٨. أي : ما ذكره قبل قوله : «نعم لو فرض ...».

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «يفرض» ، نفرض.

ثمّ إنّ التعارض على ما عرفت (٢٧٧٩)

______________________________________________________

٢٧٧٩. هذا إشارة إلى أحد الأمرين اللذين أشرنا سابقا إلى خروجهما من الحدّ. وتوضيح المقام أنّه قال في الضوابط : «والمراد بالدليلين في هذا المبحث أعمّ من الأمارتين ، فيشمل الدليل والأمارة». وقال في المنية المراد بالدليل هنا ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، بحيث يندرج فيه الأمارات». ويشكل ذلك بما صرّح به المصنّف رحمه‌الله من عدم إمكان وقوع التعارض بين القطعيّات ، فلا جدوى لتعميم الدليل من القطعيّ الذي اصطلحوا عليه الدليل ، كما يظهر من الكلام المحكيّ عن المنية ، ومن الظني الذي اصطلحوا عليه الأمارة ، كما يظهر من العضدي وغيره من أرباب الظنّ ، بل هو غير صحيح ، فالأولى تخصيصه بالأمارات الظنيّة. ثمّ إنّه لا إشكال فيما أشار إليه من خروج تعارض القطعيّين والظنّيين ـ بالظنّ الشخصي والقطعي ـ مع الظنّي مطلقا ـ نوعيّا كان أو شخصيّا ـ من محلّ الكلام.

وتوضيح المقام : أنّ اعتبار الدليل لا يخلو : إمّا أن يكون باعتبار إفادته القطع ، أو الظنّ شخصا ، أو نوعا مطلقا ، أو مقيّدا بعدم الظنّ بخلافه. ووجه الحصر في الأربعة أنّه ليس في الأدلّة ما نجزم باعتباره من باب التعبّد ، لأنّ الاصول العمليّة وإن كان قد يعبّر عنها بالأدلّة التعبّدية ، إلّا أنّه يحتمل فيها أيضا كون اعتبارها لأجل احتمال مطابقة مؤدّاها للواقع ، لا من باب التعبّد المحض ورفع اليد عن الواقع بالمرّة ، كما قرّرناه في أوائل الكتاب فيما علّقناه على حجّية القطع. وبضرب الأربعة في الأربعة ترتقي صورة التعارض إلى ستّ عشرة صورة : تعارض القطعي على مثله ، ومع الثلاثة الباقية ، وتعارض الظنّي شخصا مع مثله ، ومع الثلاثة الباقية ، وتعارض الظنّي نوعا مطلقا كذلك ، ومقيّدا كذلك. والمتكرّرة منها ستّ ، وهي تعارض الظنّي شخصا مع القطعي من المرتبة الثانية ، وتعارض الظنّي نوعا مطلقا مع الظنّي شخصا من المرتبة الثالثة ، وتعارض الظنّي نوعا مقيّدا مع الظنّي نوعا مطلقا ، ومع الظنّي شخصا ، ومع القطعي من المرتبة الرابعة. فتبقى

.................................................................................................

______________________________________________________

عشر صور ، أربع منها تعارض المتجانسين ، أعني : تعارض القطعيّين ، والظنيّين ، شخصا ونوعا ، مطلقا ومقيّدا. وستّ منها : تعارض المتخالفين ، أعني : تعارض القطعي مع الثلاثة الباقية ، وتعارض الظنّي شخصا معه نوعا مطلقا ومقيّدا ، وتعارض الظنّي نوعا مطلقا مع النوعيّ المقيّد. فهذه عشر صور ، وستّ منها ليست بمحلّ تعارض ، وهي تعارض القطعي مع مثله ، ومع الظنّي شخصا أو نوعا مطلقا أو مقيّدا ، وتعارض الشخصي مع مثله ، ومع النوعي المقيّد.

وأمّا عدم إمكان تعارض القطعيّين فواضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ المدار في الدليل القطعي على صفة القطع ، وحصوله من كلا المتعارضين محال ، ومع حصوله من أحدهما خرج الآخر من صفة الحجّية ، لانتفاء مناط اعتباره ، فيخرج الدليلان من مورد التعارض ، لأنّه فرع إفادة كلّ منهما القطع ، لصيرورة الدليل القطعي مع قطع النظر عن إفادته القطع لغوا محضا.

نعم ، لو فرض اندراج القطعي مع قطع النظر عن إفادته للقطع في عنوان آخر يعارض سائر الأدلّة بهذا العنوان ، مثل أنّ الخبر المتواتر إنّما يعتبر من حيث إفادته للقطع وإذا قطع النظر عن إفادته لذلك اندرج تحت عنوان خبر الواحد ، فيعتبر بهذا العنوان ، إلّا أنّه خلاف الفرض في المقام.

وممّا ذكرناه يظهر الوجه في عدم إمكان تعارض الظنّيين شخصا ، لأنّ الظنّي شخصا كالقطعي في كون مناط اعتباره صفة الظنّ ، وإن كان بينهما فرق من جهة كون القطعي طريقا منجعلا والظنّي مجعولا ، بل الظنّي المعتبر بدليل الانسداد أيضا من قبيل الطريق المنجعل على ما قرّرناه في محلّه.

ومن هنا يظهر أنّه على مذهب المحقّق القمّي قدس‌سره من كون اعتبار الأدلّة سندا ودلالة بدليل الانسداد ، يلزم إهمال ما قرّروه في باب التعارض من أحكام التعادل والترجيح ، إذ مقتضى دليل الانسداد اعتبار الأدلّة من باب إفادتها صفة الظنّ

.................................................................................................

______________________________________________________

الشخصي التي قد عرفت عدم إمكان تعارض الأدلّة معها ، والحال أنّ ملاحظة المرجّحات وإعمال قواعد الترجيح في الجملة إجماعيّ ، فيكون القول بدليل الانسداد مطلقا مخالفا للإجماع.

وممّا ذكرناه يظهر الوجه أيضا في عدم إمكان تعارض القطعي مع الظنّي شخصا أيضا ، لعدم إمكان اجتماعهما كالقطعيّين والظنّيين ، بل هنا أولى. وأمّا عدم إمكان تعارض القطعيّ مع الظنّي نوعا مطلقا فلعدم الاعتداد بالظنّي مع القطع بخلافه ، وكذا مع الظنّي نوعا مقيّدا. مضافا إلى ما ستعرفه من عدم إمكان تعارض الظنّي شخصا مع الظنّي نوعا مقيّدا ، فهنا أولى. وأمّا عدم تعارض الظنّي شخصا معه نوعا مقيّدا فلانتفاء موضوع المقيّد بانتفاء قيده. فتنحصر صور إمكان تعارض الدليلين في الصور الأربع الباقية ، وهي صور تعارض الظنّيين نوعا مطلقا ومقيّدا ، والظنّ الشخصي مع الظن النوعي مطلقا ، والظنّ النوعي مطلقا مع الظن النوعي المقيّد (*).

ومن تحرير المقام تعرف مواقع النظر فيما ذكره في الضوابط ، قال : «إنّهم قالوا : إنّ التعارض لا يكون إلّا بين الظنّيين ، وأمّا القطعيّان أو المختلفان فلا يمكن حصول التعارض بينهما». ثمّ أورد عليه بأنّ المراد من القطعي والظنّي إن كان القطعيّة والظنّية في الصدور ، فلا ريب في جواز التعارض في كلّ الصور الثلاث ، أي : القطعيّين والظنّيين والمختلفين. وإن كان القطعيّة والظنّية في اللبّ والدلالة ، فإن كان المراد قطعيّة الدليلين أو ظنيّتهما نوعا ، بمعنى أنّه لو لا أحدهما لأفاد الآخر القطع أو الظنّ ، وإن لم يكن بعد ملاحظة التعارض قطع ولا ظنّ ، فلا ريب في جواز التعارض بهذا المعنى بين الكلّ أيضا. وإن كان المراد قطعيّة الدليلين أو ظنّيتهما شخصا ـ أي : فعلا ـ فلا ريب في عدم جواز التعارض حينئذ في الكلّ. ففي الفرضين الأوّلين لا وجه لقولهم بعدم الإمكان في القطعيّين وفي المختلفين ، و

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «بعدم حصول الظنّ الفعلي على خلافه. منه».

.................................................................................................

______________________________________________________

في الفرض الأخير لا معنى لقولهم بالإمكان في الظنّيين. وإن كان المراد في القطعيّين والمختلفين الشخصي ، وفي الظنّيين أحد الفرضين الأوّلين ، فهو تفكيك خال عن الوجه. لكنّ الظاهر منهم الأخير ، لزعمهم أنّ ما سوى الشخصي لا يمكن في القطع ، لأنّ العلّة في القطع بعد حصولها في دليل لا يمكن التخلّف فيه بالتعارض».

إلى أن قال : «ثمّ اعلم أنّهم قالوا بجواز الظنّيين ، ولا يجوز تعارض ما عداهما. ولا ريب أنّ التعارض له فردان ، أحدهما التعارض والآخر الترجيح ، فإن كان مرادهم من جواز تعارض الظنّيين جوازه بكلا قسميه ، ومن عدم جواز القطعيّين ولا المختلفين عدم جوازه كذلك ، ففيه : أنّ التعارض على وجه الترجيح يمكن في المختلفين ، فإنّ القطع يرجّح على الظنّي عند التعارض» إلى آخر ما ذكره.

قوله : «إن كان القطعيّة والظنّية في الصدور» فيه : أنّ قطعيّة الصدور مع ظنّية الدلالة كما هو الفرض لا يجعل الدليل قطعيّا ، لأنّ المراد بالدليل القطعي في مصطلح القوم ما يفيد القطع بالمدلول الواقعي لا ما كان صدوره قطعيّا.

وقوله : «فإن كان المراد قطعيّة الدليلين أو ظنّيتهما نوعا» فيه : منع وجود دليل معتبر من باب القطع النوعي ، بمعنى اعتبار إفادته للقطع مع قطع النظر عن وجود معارضه ، فحمل كلماتهم عليه فاسد جدّا.

قوله : «تفكيك خال عن الوجه» فيه : أنّ التفكيك لا بدّ من التزامه في المقام ، لما عرفت من عدم وجود دليل معتبر من باب القطع النوعي ، فلا بدّ أن يكون مرادهم من القطعيّين والمختلفين قطعيّة الدليل فعلا لا نوعا. وأمّا كون مرادهم من الظنّين كون ظنّيتهما نوعا لا فعلا ، فلعدم وجود دليل عندهم يكون معتبرا من باب الظنّ الشخصي ، لكون اعتبار الأدلّة عندهم معتبرا من باب الظنّ النوعي دون الشخصي. نعم ، قد حدث القول بالظنون المطلقة الذي مقتضاه اعتبارها من باب الظنّ الشخصي في زمان الوحيد البهبهاني ، كما هو غير خفيّ على الخبير المطّلع

من تعريفه لا يكون في الأدلّة القطعيّة ؛ لأنّ حجّيتها إنّما هي من حيث صفة القطع ، والقطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غير ممكن.

ومنه يعلم عدم وقوع التعارض بين دليلين يكون حجّيتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلي ؛ لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال ، فإذا تعارض سببان للظنّ الفعلي ، فإن بقي الظن في أحدهما فهو المعتبر ، وإلّا تساقطا.

وقولهم : " إنّ التعارض لا يكون إلّا في الظنّين" ، يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ. وإنّما أطلقوا القول في ذلك ؛ لأنّ أغلب الأمارات بل جميعها عند جلّ العلماء بل ما عدا جمع ممّن قارب عصرنا (١) ، معتبرة من هذه الحيثيّة ، لا لإفادة الظنّ الفعلي بحيث يناط الاعتبار به. ومثل هذا في القطعيّات غير موجود ؛ إذ ليس هنا ما يكون اعتباره من باب إفادة نوعه القطع ؛ لأنّ هذا يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل حينئذ في الأدلّة الغير القطعيّة ؛ لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع فهي في المقام منتفية ، فيدخل في الأدلّة الغير القطعية ، أنّ المراد من الدليل هو ما يكون اعتباره بجعل الشارع واعتباره.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ؛ لأنّ المتعارضين إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وإمّا أن لا يكون ، بل يكونان متعادلين متكافئين.

______________________________________________________

على طريقتهم في الفقه والاصول ، فلا بدّ أن يكون مرادهم بالظنّيين هو النوعيّين خاصّة.

قوله : «إنّ التعارض على وجه الترجيح يمكن في المختلفين» فيه : أنّه إن أراد بترجّح القطعي على الظنّي ترجّحه عليه مع فرض حصول القطع من القطعي والظنّ من الظنّي ولكنّ القطع مرجّح على الظنّ ، ففيه : أنّ التعارض فرع تمانع الدليلين ، وقد عرفت عدم إمكان حصول الظنّ الشخصي على خلاف القطع ، وعدم وجود المقتضي للتعارض في الظنّ النوعي مطلقا ولا مقيّدا في مقابل القطع. وإن أراد بترجّحه عليه مجرّد تقدّمه عليه ولو لأجل عدم وجود المقتضي للتعارض في الظنّي للقطعي ، ففيه : أنّ هذا ليس ترجيحا مصطلحا في هذا الباب ولا لغة أيضا كما لا يخفى.

وقبل الشروع في بيان حكمهما لا بدّ من الكلام في القضيّة المشهورة (٢٧٨٠) ، وهي أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح (٢٧٨١). والمراد بالطرح على الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم وفي معقد إجماع بعض آخر ، أعمّ من طرح أحدهما لمرجّح في الآخر ، فيكون الجمع مع التعادل أولى من التخيير ، ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح.

______________________________________________________

وقد يستند في إثبات جواز تعارض القطعيّين إلى أنّه يمكن أن يكون مدلول أحد الدليلين حكما واقعيّا والآخر ظاهريّا ، كالأحكام المجعولة في مقام التقيّة. وفيه ما لا يخفى ، لعدم تحقّق التعارض على هذا الفرض ، لاختلاف موضوع الدليلين حينئذ ، وهو واضح.

٢٧٨٠. هذه القضيّة مشهورة بين الفقهاء والاصوليّين ، لا سيّما المتقدّمون منهم ، وقد نسبها المحقّق القمّي رحمه‌الله إلى العلماء من دون نقل خلاف فيها ، مؤذنا بدعوى الاتّفاق عليها. قال : قالوا : إنّ العمل بهما من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكلّية. وأرسل القول بأولويّة الجمع من دون تعرّض للخلاف أيضا العلّامة في التهذيب ، والسيّد عميد الدين في المنية ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد ، بحيث يشعر بكونها من المسلّمات فيما بينهم ، بل قد ادّعى الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي عليه الإجماع ، كما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله.

٢٧٨١. المراد بالأولويّة معنى اللزوم والتعيّن ، كما في قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) لا معنى التفضيل ، ولذا قال في التهذيب : وإن أمكن العمل بكلّ واحد منهما من وجه دون وجه تعيّن. وبالجمع هو الجمع بحسب الدلالة بعد الأخذ بسندهما ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وحكمهم بأولويّة الجمع أعمّ ممّا كان الجمع محتاجا إلى التصرّف في ظاهر كلّ واحد منهما ، أو أحدهما غير المعيّن ، أو أحدهما المعيّن. وبعبارة اخرى : أنّه أعمّ ممّا كان محتاجا إلى شاهدين في الجمع كما في المتباينين ، أو إلى شاهد واحد كالعامّين

قال الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي على ما حكي عنه : إنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك اوّلا البحث عن معناهما وكيفية دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات ، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ؛ فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء. فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه ، فارجع إلى العمل بهذا الحديث ـ وأشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة (٢) ـ انتهى.

واستدلّ عليه تارة (٢٧٨٢):

______________________________________________________

من وجه ، أو لم يحتج إليه أصلا كالعامّ والخاصّ مطلقا. وحاصل المقصود : أنّ الجمع في هذه الموارد أولى من الطرح بالمعنى الذي أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. فهنا مقامات ثلاثة يشملها إطلاق كلماتهم في بيان القاعدة ، منها ما هو مقطوع بكونه من مواردها ، ومنها ما هو مقطوع بعدم كونه منها ، ومنها ما هو مشكوك الحال. وسنشير إلى تحقيق الحال في ذلك.

٢٧٨٢. قال في تمهيد القواعد في مقام التعليل لأولويّة الجمع : «لأنّ الأصل في كلّ واحد منهما هو الإعمال ، فيجمع بينهما بما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح».

وأنت خبير بما فيه ، إذ بعد تسليم كون مقتضى الأصل في كلّ واحد من الدليلين هو الإعمال ـ الذي مقتضاه الجمع بينهما بما أمكن ـ لا معنى لتعليل الجمع بعده باستحالة الترجيح من غير مرجّح. فالأولى أن يقتصر على الفقرة الاولى من كلامه ، أعني : قوله : «لأنّ الأصل في كلّ واحد من الدليلين هو الإعمال» لأنّه حيث لا يمكن العمل بهما بمدلولهما المطابقي يعمل بهما بحسب الإمكان ، وهو يحصل بالجمع بينهما بما أمكن ، لأنّه مقتضى الأصل المذكور. ولذا قال المحقّق القمّي رحمه‌الله بعد نقل كلامه : «ولم أتحقّق معنى قوله : لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، إذ المفروض عدم ملاحظة المرجّح ، وإلّا فقد يوجد المرجّح لأحدهما».

بأنّ الأصل في الدليلين الإعمال ، فيجب الجمع بينهما بما أمكن ؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح. واخرى :

______________________________________________________

ثمّ قال : «وتوجيهه أن يقال : إنّ مراده إذا أمكن العمل بكلّ منهما ولو كان بإرجاع التوجيه إلى كليهما ، فمع ذلك لو عمل بأحدهما وترك الآخر فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، إذ المفروض أنّ موضوع الحكمين متغاير في الدليلين ، فلا معنى لملاحظة المرجّح بينهما ، لأنّ كلّ واحد من الدليلين حينئذ دليل على حكم شيء آخر ، فضعف أحدهما بالنسبة إلى الآخر لا يصير منشأ لترك مدلوله. وذلك كما لو فرضنا أنّ واحدة من المسائل الفقهيّة ثبتت بنصّ الكتاب ، واخرى مباينة لها بخبر واحد ، فبعد ملاحظة القرائن المخرجة للفظ عن الظاهر يصير موضوع الدليلين مختلفا ، فالعمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، إذ كلّ منهما قام دليل على طبقه ، وتكليف المكلّف في كلّ مسألة العمل بمقتضى ما يدلّ عليه دليلها ، فالعمل بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح» انتهى.

وأنت خبير بما فيه ، إذ ظاهر كلامه بمقتضى التعليل بقوله : «إذ المفروض أنّ موضوع ...» ، حمل كلام الشهيد على بيان أنّه بعد الجمع بين الدليلين بحمل أحدهما على بيان حكم موضوع والآخر على بيان حكم موضوع آخر ، لو أخذ بأحدهما وترك العمل بالآخر لزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو كما ترى غير مجد في دفع الإشكال الذي أشرنا إليه ، إذ الإشكال كما عرفت وارد على هذا التقدير ، كما هو واضح.

ويمكن توجيهه بأخذ كلامه إشارة إلى ما ذكره العلّامة في النهاية في مقام تعليل أولويّة الجمع ، قال : «فإن أمكن العمل بكلّ منهما من وجه دون وجه كان أولى من العمل بأحدهما وإبطال الآخر بالكلّية ، لأنّ دلالة اللفظ على جزء المفهوم تابعة للدلالة على مفهومه التي هي الدلالة الأصليّة ، فإذا عمل بكلّ منهما من وجه دون آخر فقد تركنا العمل بالدلالة التبعيّة ، وإذا عملنا بأحدهما دون الثاني فقد

.................................................................................................

______________________________________________________

تركنا (*) بالدلالة الأصليّة ، والأوّل أولى. فالعمل بكلّ منهما من وجه دون وجه أولى من العمل بأحدهما من كلّ وجه دون الثاني» انتهى.

وحاصل ما ذكره الشهيد على وجه ينطبق على ما ذكره العلّامة : أنّه مع تعارض الدليلين إمّا أن يجب العمل بكلّ منهما بمدلولهما المطابقة ، وهو غير ممكن بالفرض ، أو يجب طرحهما معا ، وهو خلاف الإجماع ، وخلاف ما دلّ على اعتبار الأمارتين المتعارضتين ، أو يؤخذ بأحدهما المعيّن دون الآخر ، وهو ترجيح بلا مرجّح ، وبعد ثبوت عدم إمكان العمل بهما معا بمدلولهما المطابقة ، وكذا طرحهما رأسا أو أحدهما المعيّن ، تتساقط دلالتهما المطابقة ، لأجل التعارض وعدم إمكان الترجيح ، فيتعيّن الأخذ بدلالتهما التبعيّة ، إذ الأصل في كلّ من الدليلين الإعمال بحسب الإمكان ، فلا يجوز طرحهما بالكلّية كما أشرنا إليه.

وقد ظهر بما قدّمناه أنّ ما علّلوا به أولويّة الجمع وجهان ، كما أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله ، وأنّ أوّلهما راجع إلى الثاني. وأمّا الجواب عنه فبأنّ الدلالة التضمّنية والالتزاميّة تابعتان للمطابقة ، ولذا تسمّى أصليّة وهما تبعيّة ، فحيثما انتفت الأصليّة تتبعها التبعيّة لا محالة في الانتفاء ، لفرض كون دلالة اللفظ على الجزء واللازم بتبعيّة دلالته على الكلّ والملزوم.

نعم ، يتمّ الأخذ ببعض المدلول دون بعض إذا كانت دلالة اللفظ على البعض مأخوذة بالاستقلال والأصالة دون التبعيّة للكلّ ، كالعمومات بناء على كون دلالتها على أفرادها بالأصالة والدلالة التامّة لا بالتبع ، فتأمّل. ولعلّه لوضوح ما ذكرناه لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله لبيان ضعف الوجه الثاني. وما أورده على الأوّل مبنيّ على ظاهر كلام الشهيد لا على إرجاعه إلى الثاني كما فعلناه.

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، وفي العبارة سقط كثير ، والظاهر أنّ الصحيح هكذا : وإذا عملن بأحدهما من كلّ وجه دون الثاني فقد تركنا العمل بالدلالة الأصليّة. ولم يتيسّر لنا مراجعة مخطوط نهاية الاصول لتطبيق العبارة عليها.

بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعيّة ، وهو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال دلالة أصلية. ولا يخفى أنّ العمل بهذه القضيّة على ظاهرها يوجب سدّ باب الترجيح والهرج في الفقه ، كما لا يخفى. ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من الإجماع والنصّ.

أمّا عدم الدليل عليه (٢٧٨٣) ؛

______________________________________________________

٢٧٨٣. توضيح المقام أنّا قد أشرنا قبل الحاشية السابقة أنّ هنا ثلاثة مقامات يشملها إطلاق كلماتهم في بيان قاعدة أولويّة الجمع ، بعضها مقطوع بعدم كونه من موارد القاعدة ، وهو ما كان بين ظاهر الدليلين تباين كلّي بحيث يحتاج الجمع بينهما إلى شاهدين ، وبعض آخر مقطوع بكونه منها ، وهو ما كان بين الدليلين فيه عموم وخصوص مطلق وما في حكمه ، وبعبارة اخرى : ما كان الدليلان فيه من قبيل النصّ والظاهر أو الظاهر والأظهر ، بحيث لا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد سوى العرف ، وثالث مشكوك فيه ، وهو ما كان بين الدليلين فيه عموم من وجه ، وما في حكمه ممّا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد. فأراد المصنّف رحمه‌الله بيان هذه المقامات ، إلّا أنّه قدّم الكلام في الأوّل ، للقطع بعدم كونه من موارد القاعدة. واستدلّ عليه أوّلا بعدم الدليل على الجمع فيه. وثانيا : بالإجماع. وثالثا : بالنصّ. ومقصودنا في المقام إنّما هو توضيح الكلام في بيان عدم الدليل ، وستقف على تتمّة الكلام في الدليلين الأخيرين ، وكذا في المقامين الأخيرين.

ولا بدّ هنا من بيان أمر ، وهو أنّهم قد اختلفوا في بعض صغريات هذا المقام ، لأنّه قد يمثّل له بمثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء. وربّما يتراءى من جماعة ـ كصاحب مطالع الأنوار والنراقي وغيرهما ـ كونه من قبيل النصّ والظاهر ، حيث جمعوا بين الفقرتين بحمل الأمر على مطلق الجواز والنهي على الكراهة ، بتقريب : أنّ كلّ واحد منهما نصّ في شيء وظاهر في شيء آخر ، فيصرف ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر ، لكون النصّ قرينة عليه. وذلك لأنّ الأمر نصّ في الجواز

.................................................................................................

______________________________________________________

المطلق ، لغاية بعد استعماله في مقام التحديد ونحوه ، إذ الغالب الشائع استعماله في الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة ، وظاهر في الرجحان المانع من النقيض. والنهي نصّ في المرجوحيّة المطلقة المجامعة للحرمة والكراهة ، وظاهر في المرجوحيّة المانعة من النقيض. ولا تمانع بينهما من جهتي النصوصيّة ، إذ التمانع والتزاحم إنّما هو بين جهة نصوصيّة أحدهما وظهور الآخر وبالعكس ، فتكون جهة نصوصيّة كلّ منهما قرينة على رفع اليد عن جهة ظهور الآخر ، فيبقى الجواز المطلق المستفاد من الأمر والمرجوحيّة المطلقة المستفادة من النهي ، فيحكم بكراهة الفعل لكونها مجمعا للعنوانين. وعليك بإعمال هذه القاعدة في كلّ مورد اجتمع فيه الأمر والنهي ، ولا تقتصر على المثال المذكور. ولعلّه لذلك عدل المصنّف رحمه‌الله أيضا إلى مثال العذرة.

وأقول في تحقيق المقام : إنّه إن لوحظ التعارض بين قولنا : أكرم العلماء وقولنا : ولا تكرم العلماء بحسب مجموع دلالتهما المطابقة من حيث هي ، فلا نصوصيّة في مدلول كلّ من الأمر والنهي ، لكون الأوّل ظاهرا في وجوب الفعل ، والثاني ظاهرا في حرمته ، والتعارض بينهما على وجه التباين ، لكون أحدهما نافيا لما أثبته الآخر. وإن لوحظ التعارض بينهما بحسب بعض مدلولهما ، كتعارض جنس الوجوب مع فصل الحرمة ، وجنس الحرمة مع فصل الوجوب ، كما هو مبنى الاستدلال ، ففيه : أنّ التعارض بين الدليلين إنّما يلاحظ بين تمام مدلولهما ، وإن كان التعارض ناشئا من بعض مدلولهما ، وقد عرفت ظهور الأمر والنهي في تمام الجنس والفصل للوجوب والحرمة ، فلا نصوصيّة حينئذ كما عرفت. مع أنّ الأمر نصّ في الجواز الذي في ضمن الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة لا في الجواز المطلق وبعبارة اخرى : أنّ الأمر نصّ في الجواز القائم بالمنع من الترك منعا لازما أو راجحا أو مساويا لجواز الترك ، لا الجواز المطلق ، وكذلك النهي نصّ في المرجوحيّة التي هي في ضمن الحرمة أو الكراهة ، لا في المرجوحيّة المطلقة ، لكون المراد باللفظ أمرا

.................................................................................................

______________________________________________________

واحدا لا متعدّدا.

هذا ، ولكنّه مناقشة في المثال ، مع أنّ المثال لا ينحصر فيما ذكر. وإن شئت مثّل بمثل قوله عليه‌السلام : «لا بأس ببيع العذرة» وقوله عليه‌السلام : «ثمن العذرة سحت» كما مثّل به المصنّف رحمه‌الله.

نعم ، يتمّ ما ذكروه فيما لو كان الأمر والنهي قطعيّين ، كما إذا كانا من الكتاب ، أو متواترين أو ملفّقين منهما ، لأنّ القطع بصدورهما عن الشارع قرينة عرفيّة على صرف كلّ منهما عن ظاهره ، وهو يحصل بحمل الأمر على مطلق الجواز ، والنهي على مطلق المرجوحيّة ، لأنّه بعد القطع بصدورهما لا يمكن طرح أحدهما ، فلا بدّ من التصرّف في ظاهرهما والجمع بينهما بحسب الدلالة ، ولا إشكال بل لا خلاف فيه ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك. فيكون مثال الأمر والنهي خارجا من صورة التباين ، وداخلا في جملة موارد قاعدة الجمع بحسب نظر أهل العرف ، بخلاف ما لو كانا ظنّيين على ما عرفت. ولعلّ من جمع بينهما بحسب الدلالة جعلهما كالقطعيّين ، لأجل ما دلّ على اعتبارهما من الأدلّة ، فيكون اعتبار سندهما في نظر أهل العرف قرينة على التصرّف في ظاهرهما كالقطعيّين وستقف على الكلام في ذلك.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا دليل على جواز الجمع بما أمكن بين المتعارضات من الأخبار على وجه التباين فضلا عن وجوبه. وذلك لأنّ هنا قواعد متعدّدة متلقّاة من الشارع إنشاء أو إمضاء لطريقة العرف والعادة ، إحداها : وجوب العمل بأخبار الآحاد على الوجه المقرّر في محلّه ، بمعنى وجوب تصديق المخبرين فيما أخبروا به ، والبناء على صدوره عن الشارع. الثانية : وجوب العمل بظواهرها وتنزيل مقتضاها بمنزلة الواقع ، بإلغاء احتمال مخالفة مؤدّياتها للواقع. الثالثة : وجوب البناء على صدورها لبيان الواقع لا للتقيّة أو مصلحة اخرى.

فإذا تعارض ظاهر خبرين على وجه التباين ، فمقتضى إعمال هذه القواعد

.................................................................................................

______________________________________________________

إجرائها في كلّ واحد من المتعارضين ، بأن يصدّقا من حيث الصدور ، ومن حيث وجه الصدور ، ومن حيث الدلالة. ولكن تصديقهما من هذه الحيثيّات جميعا موجب للتعارض والتمانع بينهما ، فلا بدّ في رفع التعارض بينهما من رفع اليد عن مقتضى إحدى هذه القواعد في أحد المتعارضين أو كليهما ، بأن يؤخذ بأحدهما سندا ويطرح الآخر كذلك ، وحينئذ يخرج المطروح من مورد القاعدتين الأخيرتين أيضا ، لتوقّف إعمال مقتضاهما على اعتبار موردهما ، أو يؤوّل ظاهرهما بما يرفع التنافي بينهما ، إذ الكلام في تعارض المتباينين اللذين لا يجتمعان إلّا بصرف كلّ منهما عن ظاهره ، فلا يكفي التأويل في أحدهما ، أو يحمل أحدهما على التقيّة.

والشكّ في جريان إحدى هذه القواعد ليس مسبّبا عن الشكّ في جريان الاخرى حتّى يقدّم الشكّ السببى على الشكّ المسبّب منهما ، بل الشكّ في جريان كلّ واحدة منها مسبّب عن ثالث ، وهو العلم الإجمالي بانتفاء مقتضي إحداها في مورد التعارض. فحينئذ لا وجه لتقديم التصرّف في ظاهر المتعارضين على رفع اليد عن سند أحدهما المخيّر أو المعيّن مع وجود مرجّح ، أو حمل أحدهما على التقيّة ، لأنّا إن سلّمنا عدم الدليل على تقديم الثّاني لا دليل على تقديم الأوّل أيضا. وذلك لأنّه لمّا لم يمكن إعمال كلّ منهما بحسب السند والدلالة ، لتمانعهما وتزاحمهما ، ولا طرح كلّ منهما لأجل ما دلّ على اعتبارهما سندا ودلالة ، فما هو ممكن إمّا هو الأخذ بأحدهما وطرح الآخر بالكلّية كما هو المشهور ، وإمّا هو الأخذ بسندهما وطرح ظاهرهما ، كما هو مقتضى قاعدة الجمع ، والثاني ليس بأولى من الأوّل ، لأنّ التعبّد بسند أحدهما يقينيّ ، للزومه على صورتي الإمكان ، وكذا طرح ظاهر أحدهما ، وهو ظاهر الآخر غير المتيقّن التعبّد بسنده ، ففي كلّ من صورتي الإمكان لا بدّ من الأخذ بسند أحدهما وطرح ظاهر الآخر ولو بواسطة طرح سنده. ففي ترجيح إحدى الصورتين وتعيينها لا بدّ من ارتكاب خلاف أصل ، إمّا في الاولى فهو ارتكاب طرح سند أحدهما ، وهو مخالف لما دلّ على اعتباره سندا ، وإمّا

فلأنّ ما ذكر ـ من أنّ الأصل في الدليلين الإعمال ـ مسلّم ، لكنّ المفروض عدم إمكانه في المقام ؛ فإنّ العمل بقوله عليه‌السلام : " ثمن العذرة سحت" ، وقوله عليه‌السلام : " لا بأس ببيع العذرة" على ظاهرهما غير ممكن ، وإلّا لم يكونا متعارضين. وإخراجهما عن ظاهرهما ـ بحمل الأوّل على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني على عذرة مأكول اللحم ـ ليس عملا بهما ؛ إذ كما يجب مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجّية ، كذلك يجب التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهر الكلام

______________________________________________________

في الثانية فهو ارتكاب التأويل في ظاهر ما هو متيقّن التعبّد بصدوره ، ولا أولويّة لهذه الصورة.

بل ربّما يتخيّل أولويّة الاولى ، نظرا إلى أنّ في الجمع بينهما بتأويل كلّ منهما مخالفة أصلين ، لمخالفته لما دلّ على اعتبار ظاهر كلّ منهما ، بخلاف الاولى. ولكنّه فاسد ، لأنّ مخالفة التأويل للأصل إنّما هو فرع اعتبار السند ، والفرض في المقام ثبوت اعتبار سند أحد المتعارضين خاصّة ، وهو أحدهما المخيّر أو المعيّن إن كان هنا مرجّح ، فمع عدم ثبوت سند الآخر لا يكون طرح ظاهره مخالفا للأصل ، بل لا يكون له ظاهر حينئذ حتّى يكون طرحه مخالفا للأصل. هذا ، ولكن ستقف على تتمّة الكلام في المقام بما يمكن معه المناقشة ـ بل المنع ـ فيما قدّمناه ، فانتظره.

ثمّ إنّ ما قدّمناه من كون أحد المتعارضين متيقّن الثبوت بحسب السند ، لا ينافي ما سيجيء من المصنّف رحمه‌الله من أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين المعتبرتين من باب الطريقيّة هو التساقط وخروج كلّ منهما من الحجّية ، لأنّ هذا مبنيّ على اعتبار الأخبار لأجل آية النبأ ونحوها ، وما ذكرناه مبنيّ على اعتبارها لأجل أخبار التراجيح والتخيير ، لأنّ مقتضاها اعتبار أحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا ، وعدم إلغائهما رأسا وفرضهما كالعدم ، وهو واضح. وإليه أشار المصنّف رحمه‌الله أيضا بقوله : «ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك مرجّح ، والمخيّر إذا لم يكن ، ثابت على تقدير الجمع وعدمه».

المفروض وجوب التعبّد بصدوره إذا لم يكن هناك قرينة صارفة ، ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك مرجّح والمخيّر إذا لم يكن ، ثابت على تقدير الجمع وعدمه ، فالتعبّد بظاهره واجب ، كما أنّ التعبّد بصدور الآخر أيضا واجب.

فيدور الأمر بين عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق على التعبّد به ، ولا أولويّة للثاني. بل قد يتخيّل العكس فيه من حيث أنّ في الجمع ترك التعبّد بظاهرين ، وفي طرح أحدهما ترك التعبّد بسند واحد.

لكنّه فاسد من حيث أنّ ترك التعبّد بظاهر ما لم يثبت التعبّد بصدوره ولم يحرز كونه صادرا عن المتكلّم ـ وهو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ـ ليس مخالفا للأصل ، بل التعبّد غير معقول ؛ إذ لا ظاهر حتّى يتعبّد به ، فليس مخالفا للأصل وتركا للتعبّد بما يجب التعبّد به.

وممّا ذكرنا يظهر فساد توهّم (٢٧٨٤):

______________________________________________________

٢٧٨٤. هذا شروع في بيان فساد جملة من الاعتراضات التي أوردوها على منع الأولويّة الذي أشار إليه ، وأوضحناه في الحاشية السابقة. وحاصلها : مخالفة ذلك لعمل الأصحاب ، بل وإجماعهم في جملة من الموارد ، منها تعارض ظاهرين قطعيّي الصدور ، لاتّفاقهم على الجمع بينهما بارتكاب التأويل فيهما. وعليه يقاس ما نحن فيه من تعارض ظاهرين ظنّيي الصدور ، بجامع كون الظنّ بالصدور كالقطع به بدليل اعتباره ، لأنّ مقتضى دليل اعتباره تنزيله بمنزلة الواقع ، وأن لا يرتّب عليه ما كان يترتّب عليه على تقدير القطع بصدورهما ، فكما أنّ القطع بصدورهما قرينة عرفيّة على ارتكاب التأويل فيهما ، كذلك القطع باعتبارهما شرعا.

وحاصل ما ذكره في فساد المقايسة : أنّ دليل اعتبار الظاهرين لا يزاحم القطع بصدورهما ، إذ مع القطع بصدورهما لا مناص من تأويلهما ، لأنّ القطع به ملازم للقطع بإرادة خلاف الظاهر منهما لا محالة ، بخلاف ظنّيي الصدور ، لأنّ دليل اعتبار ظاهرهما صالح لمعارضة دليل اعتبار سندهما ، لإمكان رفع اليد عن أحد الدليلين.

.................................................................................................

______________________________________________________

فحينئذ يدور الأمر بين صور أربع ، صورتان منها ممتنعتان ، وهما طرح الظاهرين مطلقا ، وطرحهما سندا خاصّة ، إذ الأوّل مخالف لأخبار الترجيح والتخيير ، لصراحتها في وجوب الأخذ بأحدهما المرجّح أو المخيّر ، والثاني غير معقول ، لوضوح كون الأخذ بالظاهرين فرع اعتبار سندهما. وصورتان ممكنتان ، وهما :

الأخذ بسندهما وارتكاب التأويل في ظاهرهما ، والأخذ بأحدهما سندا ودلالة وطرح الآخر كذلك ، فيدور الأمر بينهما. بل قد عرفت في الحاشية السابقة أنّ الدوران في الحقيقة بين ظاهر أحدهما ، وهو ظاهر متيقّن الأخذ بسنده ، وسند الآخر وهو ما لم يتعيّن الأخذ بسنده ، فيدور الأمر بين مخالفة أصلين ، أعني : مخالفة دليل اعتبار ظاهر الأوّل ، ومخالفة دليل اعتبار سند الثاني ، وقد تقدّم توضيحه في الحاشية السابقة. ولا ترجيح للاولى ، لعدم كون الشكّ فيها مسبّبا عن الشكّ في الثانية حتّى يكون دليل اعتبار السند حاكما على دليل اعتبار الظاهر ، لكون الشكّ فيهما مسبّبا عن ثالث ، وهو العلم الإجمالي بعدم اعتبار أحد الأصلين في المقام ، فيتعارضان ، فلا يبقى مجال لقاعدة أولويّة الجمع من طرح أحدهما ، بخلاف قطعيّي الصدور على ما عرفت.

واعترض عليه بمنع عدم الترجيح ، إذ لا ملازمة بين القطع بصدورهما وإرادة خلاف ظاهرهما ، لأنّ الملازم لها نفس صدورهما في الواقع ، وعدم انفكاك القطع به عنها إنّما هو لأجل كون القطع به طريقا إلى ما هو ملزوم لها وكاشفا عن ثبوته في الواقع ، فمع انكشاف ثبوت الملزوم في الواقع يترتّب عليه ثبوت لازمه ، ولا ريب أنّه لا فرق في الكاشف بين كونه عقليّا كالقطع ، أو شرعيّا كأدلّة اعتبار السند. ومن هنا يظهر كون اعتبار السند حاكما على دليل اعتبار الظاهر.

نعم ، لو كان تأويلهما من آثار القطع بصدورهما لا يلزم من ترتّبه عليه ترتّبه على القطع الشرعيّ أيضا ، لعدم الملازمة ، بخلاف ما لو كان من آثار المقطوع به ، إذ لا بدّ من ترتّبه حينئذ أيضا على ما هو بمنزلة القطع كما في سائر التنزيلات

.................................................................................................

______________________________________________________

الشرعيّة ، نظير ارتكاب التأويل في الظاهر القطعيّ الصدور بسبب دليل اعتبار النصّ ظنّي الصدور ، كعموم الكتاب في مقابل خصوص الخبر ، كما أشار إليه في دفع الاعتراض الثاني ، لأنّ التعارض كما أنّه هنا بين ظاهر القطعيّ وسند النصّ الظنّي ، كذلك التعارض فيما نحن فيه بين ظاهر متيقّن الأخذ بسنده وسند الآخر على ما أشرنا إليه ، فكما أنّ دليل اعتبار سند النصّ هنا حاكم على دليل اعتبار ظاهر القطعيّ ، فليفرض فيما نحن فيه أيضا كذلك. ومن هنا يظهر ضعف ما وقع به المقايسة الثانية.

وممّا يؤكّد ما ذكرناه اعترافه عند بيان حكومة الأدلّة على الاصول اللفظيّة بكون النصّ الظنّي السند واردا أو حاكما على ظهور العامّ القطعيّ السند ، إذ مقتضاه كون الشكّ في جواز تأويل كلّ واحد من الظاهرين مسبّبا عن الشكّ في اعتبار سند الآخر ، لوضوح عدم الفرق بين الظواهر وكذا أسناد الأدلّة ، ويلزمه سقوط كلّ من الظاهرين المتعارضين بمزاحمة مقابله ، فيتعيّن حملهما على ما يجتمعان عليه ، لا الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رأسا.

ومن هنا يظهر أنّ مقتضى الأصل والقاعدة في المتعارضين مطلقا ـ سواء كان تعارضهما بالتباين ، أو العموم والخصوص مطلقا ، أو من وجه ـ هو الجمع لا الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رأسا. فالأولى في المقام هو التمسّك بذيل الدليل المخرج من النصّ والإجماع ، لا التمسّك بعدم الدليل كما صنعه المصنّف رحمه‌الله.

ويمكن دفع الاعتراض ، ولكنّه موقوف على بيان أقسام المتعارضين ، فنقول : إنّهما إمّا قطعيّان ، أو ظنّيان ، أو مختلفان. وعلى التقادير : إمّا أن يكون تعارضهما بالتباين ، أو العموم والخصوص من وجه ، أو مطلقا. فهذه أقسام تسعة.

ثمّ لا يخفى أنّ تعارضهما ليس باعتبار سندهما مع قطع النظر عن مدلولهما ، ولا باعتبار مدلولهما مع قطع النظر عن سندهما ، بل باعتبار مدلولهما بملاحظة اعتبار سندهما.

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ إن كان المتعارضان قطعيّين ، فالقطع بصدورهما مستلزم للقطع بتأويل كلّ منهما إن كان تعارضهما على وجه التباين ، أو تأويل أحدهما لا بعينه إن كان على وجه العموم والخصوص من وجه ، وتأويل أحدهما المعيّن إن كان على وجه العموم والخصوص مطلقا.

وإن كانا ظنّيين ، فإن كان تعارضهما على وجه التباين ، فشمول دليل اعتبار السند لهما يزاحمه شمول دليل اعتبار الظواهر لهما ، ولا أولويّة للأوّل ، بأن يجب الأخذ بسند غير المتيقّن الأخذ بسنده ، وطرح ظهور ما يجب الأخذ بسنده. وما تقدّم من كون تأويلهما من آثار صدورهما ، فإذا دلّ الدليل الشرعيّ على صدورهما تترتّب عليهما آثار صدورهما ، ففيه : أنّ تأويلهما ليس من الآثار غير الشرعيّة أيضا ، بل من مقارناته الاتّفاقية ، وحكم الشارع بتصديق المخبر بهما لا يثبت ما يقارنه اتّفاقا ، لا من جهة أنّ اعتبار الأدلّة الاجتهاديّة سندا أو دلالة لا يثبت سوى اللوازم الشرعيّة حتّى يمنع ، بل من جهة سكوت دليل اعتبار المتعارضين عن إثبات مثل هذه المقارنة ، لأنّ دليل اعتبارهما إمّا آيتا النبأ والنفر ونحوهما من الأدلّة المستدلّ بها على اعتبار أخبار الآحاد ، وهذه الأدلّة وإن قلنا بورودها في مقام إثبات اعتبار أخبار الآحاد على النحو الجاري بين الناس من قبولهم لخبر الواحد مع ما يتبعه من لوازم المخبر به ، إلّا أنّه لم يظهر جريان العادة في قبول خبر الواحد على نحو يشمل المقام ، كيف لا وهم يتخيّرون في مثله ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء» فكيف يجعل دليل اعتبار سندهما دليلا على تأويلهما.

وأمّا أخبار علاج المتعارضين ، من حيث دلالتها على وجوب الأخذ بأحدهما المرجّح أو المخيّر ، فهي أولى بعدم الدلالة كما لا يخفى. وأمّا مقايسة ما نحن فيه على النصّ ظنّي السند والعامّ قطعيّ الصدور فستعرف ضعفها.

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان على وجه العموم والخصوص من وجه فهو أيضا كسابقه ، إذ لا أولويّة لدليل اعتبار سندهما بالنسبة إلى دليل اعتبار ظهورهما ، بأن يجب الأخذ بسند غير المتيقّن الأخذ بسنده ، وطرح ظهور ما يجب الأخذ بسنده ، لما عرفت من عدم صلاحيّة دليل اعتبار سندهما دليلا على ارتكاب التأويل في أحدهما. ومن هنا تقع الحيرة والتردّد في كونه أيضا موردا لقاعدة الجمع أو الترجيح والتخيير. نعم ، اندراج هذا تحت قاعدة الجمع أسهل من المتباينين ، لأنّهما وإن اشتركا في عدم الدليل على أولويّة الجمع ، إلّا أنّ تحقّق الإجماع على وجوب الترجيح بالمرجّحات السنديّة في الأوّل ، وكذا شمول أخبار الترجيح والتخيير له ، محلّ إشكال كما ستقف عليه ، بخلاف الثاني.

وإن كان على وجه العموم والخصوص مطلقا ، فإن كان الخاصّ نصّا فدليل اعتبار سنده حاكم على ظهور العام إن كان العامّ معتبرا من باب التعبّد المطلق أو الظنّ النوعي كذلك ، لكون الشكّ في تخصيصه ناشئا من الشكّ في اعتبار الخاصّ ، ووارد عليه إن كان العامّ معتبرا من باب التعبّد المقيّد بعدم ورود دليل معتبر على خلافه ، أو من باب الظنّ النوعي كذلك. وإن كان ظاهرا فدليل اعتبار الخاصّ سندا ودلالة يعارض دليل اعتبار العامّ ، إلّا أنّ الخاصّ يقدّم عليه لأجل قوّة ظهوره ، فتقديمه عليه من باب تقديم أقوى المتعارضين بحكم العقل ، كما أوضحناه عند بيان حكومة الأدلّة على الاصول اللفظيّة مع تأمّل فيه ، كما قدّمناه هناك.

وإن كانا مختلفين ، فإن كان تعارضهما على وجه التباين فهو كالظنّيين ، إلّا أنّه يتعيّن هنا إمّا الجمع أو طرح ظنّي السند خاصّة. وليس هنا للترجيح بالمرجّحات السنديّة والتخيير سبيل ، إذ كلّ ما فرض في الظنّي من المرجّحات لا يزيد على القطع بالسند. وكذا إن كان على وجه العموم والخصوص من وجه ، لأنّه أيضا كالظنّيين ، إلّا أنّه يتعيّن هنا أيضا إمّا الجمع والحكم بإجمالهما في مادّة التعارض ، أو طرح الظنّي خاصّة.

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان على وجه العموم والخصوص مطلقا ، فإن كان الخاصّ قطعيّا سندا ، فحينئذ إن كان مع ذلك نصّا أيضا فهو وارد على أصالة العموم. وإن كان ظنّيا فتقديمه على العامّ من باب تقديم أقوى المتعارضين على صاحبه إن كان اعتبار ظاهر العامّ من باب التعبّد مطلقا أو الظنّ النوعي كذلك ، ووارد عليه إن كان اعتبار ظاهره من باب التعبّد المقيّد أو الظنّ النوعي كذلك على ما عرفت. وإن كان العامّ قطعيّا فالخاصّ وارد أو حاكم عليه إن كان نصّا ، ووارد عليه أو راجح بالنسبة إليه ـ من باب رجحان أحد المتعارضين ـ إن كان ظنّيا كما يظهر ممّا تقدّم.

ومن هنا يظهر أنّ تقديم النصّ الظنّي الصدور على العامّ قطعيّ الصدور من باب الحكومة أو الورود. ولا تصحّ مقايسة ما نحن فيه عليه ، لأنّ الأمر فيما نحن فيه أيضا وإن دار بين طرح ظاهر متيقّن الأخذ به وطرح سند مقابله ، إلّا أنّ وجه الفرق وبطلان المقايسة أنّ النصّ الظنّي إذا لوحظ مع العامّ قطعيّ الصدور لا تبقى شبهة في تخصيص العامّ ورفع اليد عن عمومه.

نعم ، يبقى الإشكال من أجل عدم القطع بصدور الخاصّ ، فإذا فرض كونه كالقطعيّ بدليل اعتباره ترتفع الشبهة عن تخصيص العامّ به. ولا تصحّ صورة العكس ، بأن يطرح الخاصّ بالمرّة بسبب أصالة الحقيقة في العامّ ، لعدم كون الشكّ في اعتبار الخاصّ مسبّبا عن الشكّ في جريان أصالة الحقيقة في العامّ ، بل من حيث ملاحظته في نفسه مع قطع النظر عن أدلّة اعتبار العامّ. ومجرّد إمكان فرض صورة العكس ، بأن أجريت أصالة الحقيقة في العامّ ، وخصّصت بسببها أدلّة اعتبار الخاصّ ، لا يقدح في قضيّة الحكومة ، لإمكان فرض مثله في حكومة الأدلّة على الاصول أيضا ، لأنّه إذا شكّ في حكم بعض أفراد العامّ بسبب فتوى فقيه أو ورود خبر ضعيف فيه ، يمكن أن يخصّص عموم العامّ بأصالة البراءة ، لعدم كون عموم العامّ مزيلا للشبهة عن هذا الفرد حقيقة. نعم ، العامّ بدليل اعتباره مزيل لهذه الشبهة

أنّه إذا عملنا بدليل حجّية الأمارة فيهما وقلنا بأنّ الخبرين معتبران سندا ، فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا إشكال ولا خلاف في أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ـ كآيتين أو متواترين ـ وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما ، فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم عليه‌السلام قرينة صارفة لتأويل كلّ من الظاهرين.

وتوضيح الفرق وفساد القياس : أنّ وجوب التعبّد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبّد بالسند. وبعبارة اخرى ، العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند والظاهر ـ بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما ـ غير ممكن ، والممكن من هذه الامور الأربعة اثنان لا غير : إمّا الأخذ بالسندين ، وإمّا الأخذ بظاهر وسند من أحدهما ، فالسند الواحد منهما متيقّن الأخذ به.

وطرح أحد الظاهرين ـ وهو ظاهر الآخر الغير المتيقّن الأخذ بسنده ـ ليس مخالفا للأصل ؛ لأنّ المخالف للأصل ارتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ، فيدور الأمر بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في غير المتيقّن التعبّد ، وإمّا مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، وأحدهما ليس حاكما على الآخر ؛ لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ، فيتعارضان.

ومنه يظهر فساد قياس ذلك بالنصّ الظنّيّ السند مع الظاهر ، حيث يجب (*) (٢٧٨٥) الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لا سند النصّ. توضيحه : أنّ سند الظاهر لا يزاحم

______________________________________________________

بحسب حكم الشرع ، فيكون حاكما على أصالة البراءة. هذا بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ الشكّ في اعتبار ظاهر متيقّن الأخذ بسنده من المتعارضين ليس مسبّبا عن اعتبار سند مقابله ، بل عن العلم الإجمالي بعدم اعتبار أحدهما ، وهو واضح.

٢٧٨٥. سواء كان سند الظاهر قطعيّا أم ظنّيا ، كعمومات الكتاب وأخبار الآحاد مع النصّ الخبري. ويظهر توضيح ما يتعلّق بالمقام من الحاشية السابقة.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «يجب» ، «يوجب».

دلالته ـ بديهة ـ ولا سند النصّ ولا دلالته ، أمّا دلالته فواضح ؛ إذ لا يبقي مع طرح السند مراعاة للظاهر. وأمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده ، وهما حاكمان على ظهوره ؛ لأنّ من آثار التعبّد به رفع اليد عن ذلك الظهور ؛ لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشك في التعبّد بالنصّ.

وأضعف ممّا ذكر (٢٧٨٦) توهّم قياس ذلك بما إذا كان خبر بلا معارض ، لكن ظاهره مخالف للإجماع ، فإنّه يحكم بمقتضى اعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله ، لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس ؛ إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين أمكننا العمل بظاهر الآخر ، ولا مرجّح لعكس ذلك ، بل الظاهر هو الطرح (٢٧٨٧) ؛ لأنّ المرجع (*) والمحكّم في الإمكان الذي قيّد به وجوب العمل بالخبرين

______________________________________________________

٢٧٨٦. هذا هو الاعتراض الثالث. ووجه الأضعفيّة : أنّه إذا كان النصّ الظنّي السند حاكما على الظاهر في المقايسة السابقة ، فحكومة الإجماع في هذه المقايسة ـ بل وروده على ظهور الخبر المخالف ـ له أولى. وهذا هو المراد بعدم تحقّق الدوران هنا ، إذ لا يمكن فرض الدوران هنا بين الخبر سندا أو دلالة وبين الإجماع ، لكونه قطعيّا مطلقا ، ولا بين سند الخبر ودلالته ، إذ لا معنى لطرح سنده والأخذ بظاهره ، كما هو قضيّة الدوران. فقوله : «لكن لا دوران هناك ...» إشارة إلى وجه أضعفيّة المقايسة وفسادها.

٢٧٨٧. هذا شروع في بيان مخالفة القضيّة المشهورة ـ أعني : أولويّة الجمع من الطرح ـ للنصّ ـ وهو أخبار علاج المتعارضين ـ وإجماع العلماء ، حيث ادّعى آنفا مخالفتها لهما.

أمّا الأوّل فهو كما ذكره ، إذ لو وجب الجمع بين المتعارضين بما أمكن عقلا لزم حمل أخبار العلاج على الموارد النادرة بل غير الواقعة ، إذ لا يكاد يوجد مورد

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «المرجع» ، المرجّح.

.................................................................................................

______________________________________________________

من الأخبار المتعارضة المرويّة عن أئمّتنا المعصومين عليهم‌السلام لا يمكن الجمع بينها بإخراج محمل صحيح لها.

وبالجملة ، إنّ المتعارضين بالعموم والخصوص مطلقا ليس من موارد الترجيح أصلا لا عقلا ولا عرفا. أمّا الأوّل فلإمكان حمل العامّ على الخاصّ. وأمّا الثاني فلعدم انفهام التنافي بينهما عرفا. وإذا لم يكن الخبران المتعارضان بظاهرهما على وجه التباين موردين للترجيح ، لم يكن المتعارضان بالعموم من وجه موردا له بطريق أولى ، فتبقى أخبار الترجيح بلا مورد.

فإن قلت : كيف تنكر جواز الجمع بما أمكن وقد ورد في بعض الأخبار تفسير بعض آخر منها بما لا يحتمله اللفظ إلّا من باب مجرّد الاحتمال؟ مثل ما ورد عن بعضهم عليهم‌السلام لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : «كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل (*) ، فقال عليه‌السلام : هذا يظنّ أنّه من أهل الإدراك! فقيل له عليه‌السلام : ما أردت بذلك؟ وما هذه الآيات؟ فقال عليه‌السلام : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات». وما ورد من أنّ الوتر واجب ، فلمّا فرغ السائل واستقرّ فقال عليه‌السلام : «إنّما عنيت وجوبها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله». إلى غير ذلك ممّا سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله من الأخبار.

قلت : لا إشكال في عدم الاعتماد على أمثال هذه التفاسير من دون نصّ وبيان من الشارع ، سيّما في غير مقام التعارض كما هو ظاهر الأخبار المذكورة ، لأنّها أسرار خفيّة لا نهتدي إليها بعقولنا القاصرة. ولم يثبت الدليل على كوننا مكلّفين بإبداء أمثال هذه الاحتمالات البعيدة عن مقتضيات الأخبار ، إن لم يثبت

__________________

(*) هذه الرواية نقلها المحشّي قدس‌سره باختصار مع اختلاف في الألفاظ ، وفي الوسائل (٤ : ٧٥٠ ب «١٣» من أبواب القراءة في الصلاة ح ٣) بعد قوله عليه‌السلام : ثمانون آية هكذا : «فخرج الرجل ، فقال عليه‌السلام : يا أبا هارون هل رأيت شيخا أعجب من هذا الذي يزعم أهل العراق أنّه عاقلهم ، يا أبا هارون إنّ المحمد سبع آيات ، وقل هو الله أحد ثلاث آيات ، فهذه عشر آيات ، والزوال ثمان ركعات ، فهذه ثمانون آية».

هو العرف ، ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : " أكرم العلماء" و" لا تكرم العلماء" نعم ، لو فرض علمهم بصدور كليهما حملوا أمر الآمر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف.

ولأجل ما ذكرنا وقع من جماعة من أجلاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ، مع ما هو مركوز في ذهن كلّ أحد من أنّ كلّ دليل شرعيّ يجب العمل به مهما أمكن ؛ فلو لم يفهموا عدم الإمكان في المتعارضين لم يبق وجه للتحيّر الموجب للسؤال. مع أنّه لم يقع الجواب في شىء من تلك الأخبار العلاجيّة بوجوب الجمع بتأويلهما معا. وحمل مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيدا تقييد بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة. وهذا دليل آخر على عدم كلّية هذه القاعدة.

هذا كلّه ، مضافا إلى مخالفتها للإجماع ؛ فإنّ علماء الإسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ، ثم اختيار أحدهما وطرح الآخر من دون تأويلهما معا لأجل الجمع.

وأمّا ما تقدّم من عوالي اللآلي ، فليس نصّا ، بل ولا ظاهرا في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على التخيير والترجيح ؛ فإنّ الظاهر من الإمكان في قوله : " فإن أمكنك التوفيق بينهما" ، هو الإمكان العرفي في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف حمل العام والمطلق على الخاص والمقيّد. ويؤيّده قوله أخيرا : " فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث" ؛ فإنّ مورد عدم التمكّن ولو بعيدا نادر جدّا. وبالجملة : فلا يظنّ بصاحب العوالي ولا بمن هو دونه أن يقتصر في الترجيح على موارد لا يمكن تأويل كليهما ، فضلا عن دعواه الإجماع على ذلك.

والتحقيق الذي عليه أهله : أنّ الجمع بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما على أقسام ثلاثة : أحدها : ما يكون متوقّفا على تأويلهما معا. والثاني : ما يتوقّف على تأويل أحدهما المعيّن. والثالث : ما يتوقّف على تأويل أحدهما لا بعينه.

أمّا الأوّل ، فهو الذي تقدّم أنّه مخالف للدليل والنصّ والإجماع (٢٧٨٨). وأمّا الثاني ، فهو تعارض النصّ والظاهر (٢٧٨٩) الذي تقدّم أنّه ليس بتعارض في الحقيقة.

______________________________________________________

الدليل على خلافه ، وإلّا فمن التزم به في أبواب الفقه فليأت بفقه جديد مخالف لطريقة صاحب الشرع.

وأمّا الثاني فهو أيضا كما ذكره ، لأنّ من تتّبع الفقه وسيرة تبعتها وجد طريقتهم مستقرّة على استعمال المرجّحات في متعارضات الأخبار على وجه التباين بظاهرها ، والحكم بالتخيير مع عدم وجود المرجّح.

وأمّا ما أسلفناه سابقا من إطلاق العلّامة والسيّد عميد الدين والشهيد الثاني قضيّة أولويّة الجمع بحيث يشمل المتعارضين بظاهرهما على وجه التباين ، فلا ينافي ما ذكرناه ، لما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في كلام ابن أبي جمهور من حمل الإمكان في كلامه على الإمكان العرفي دون العقلي ، إذ لولاه لزم حمل أخبار الترجيح على الموارد النادرة بل غير الموجودة ، وهو لا يناسب هذا الاهتمام الوارد في تلك الأخبار ، فهو لا يناسب مثلهم بل من دونهم.

٢٧٨٨. إذ يلزم على تقدير الجمع حمل أخبار العلاج على الموارد النادرة بل غير الواقعة ، وهو مخالف لإجماعهم على استعمال المرجّحات كما تقدّم.

٢٧٨٩. لا خلاف حتّى من الأخباريّين في حمل الظاهر على النصّ والظاهر على الأظهر من دون ملاحظة مرجّحات السند ، والحكم بالتخيير مع عدمها. ويدلّ عليه بعد الإجماع عدم انفهام التنافي بينهما عرفا ، فلا يكونان موردين لأخبار الترجيح والتخيير.

ومنه يظهر ضعف ما يظهر من صاحب الرياض من تقديم بعض العمومات على الخاصّ المخالف له ، لمخالفته للعامّة ، وموافقة الخاصّ لهم ، لأنّه حيث حكم بكون زيادة الركعة مبطلة للصلاة مطلقا ، نظرا إلى العمومات المقتضية له ، مثل الصحيح : «إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها ، واستقبل الصلاة

وأمّا الثالث ، فمن أمثلته : العامّ والخاصّ من وجه ، حيث يحصل الجمع بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره. ومثل قوله : " اغتسل يوم الجمعة" ، بناء على أنّ ظاهر الصيغة الوجوب. وقوله : " ينبغي غسل الجمعة" ، بناء على ظهور

______________________________________________________

استقبالا». وحكاه عن المشهور ، قال : «خلافا للإسكافي ، فلا إعادة في الرابعة إن جلس بعدها بقدر التشهّد ، واختاره الفاضلان في المعتبر والتحرير والمختلف للصحيحين». ثمّ أجاب عنهما بعد كلام له في البين بحملهما على التقيّة ، قال : «كما صرّح به جماعة حاكين القول بمضمونهما عن أبي حنيفة ، المشهور رأيه في جميع الأزمنة ، وعليه أكثر العامّة» انتهى.

وأنت خبير بأنّ الصحيحين خاصّان بالنسبة إلى العمومات المذكورة ، فلا وجه لملاحظة المرجّحات بينهما. فالأولى في وجه تقديم العمومات عليهما أن يقال بأنّ إعراض المشهور عن العمل بالخبر ـ ولو كان صحيح السند ـ يسقطه عن مرتبة الاعتبار ، وقد عرفت عدم عملهم بهما ، فلا يبقى مقتض للعمل حتّى يجمع بينهما وبين العمومات.

فإن قلت : قد صرّح جماعة من الأصحاب أنّ العامّ قد يقدّم على الخاصّ ، فلا بدّ أن يكون ذلك بعد اعتبار سندهما لأجل بعض المرجّحات ، فكيف تنكر ذلك؟

قلت : إنّما نسلّم تقديم العامّ على الخاصّ في مقامين :

أحدهما : أن يبلغ حكم العامّ في الوضوح والاشتهار إلى أن يقرب من ضروريّات المذهب وإن لم يصر ضروريّا ، فلا يجوز تخصيص مثل هذا العامّ بخبر أو خبرين ، إلّا إذا اكتسى المخصّص بسبب القرائن الخارجة من القوّة مرتبة يصلح لتخصيصه.

وثانيهما : أن يكون الخاصّ موهونا ببعض الامور الخارجة ، مثل إعراض المشهور ونحوه ، فلا يصلح للتخصيص. ولا دليل على تقديم العمومات في غير هذين المقامين ، وإن اقترنت ببعض مرجّحات السند أيضا.

هذه المادّة في الاستحباب ، فإنّ الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما. وحينئذ ، فإن كان لأحد الظاهرين مزيّة وقوّة (٢٧٩٠) على الآخر ـ بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ، نحو رأيت أسدا يرمي ، أو اتّصلا في كلامين لمتكلّم واحد ، تعيّن العمل (٢٧٩١) بالأظهر وصرف الظاهر إلى ما لا يخالفه ـ كان حكم هذا حكم القسم الثاني في أنّه إذا تعبّدنا بصدور الأظهر يصير قرينة صارفة للظاهر من دون عكس.

نعم ، الفرق بينه وبين القسم الثاني أنّ التعبّد بصدور النص لا يمكن إلّا بكونه صارفا عن الظاهر ، ولا معنى له غير ذلك ؛ ولذا ذكرنا دوران الأمر فيه بين طرح دلالة الظاهر وطرح سند النص ، وفيما نحن فيه يمكن التعبّد بصدور الأظهر وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الأظهر ؛ لأنّ كلا من الظهورين مستند إلى أصالة الحقيقة ، إلّا أنّ العرف يرجّحون أحد الظهورين على الآخر ، فالتعارض موجود والترجيح بالعرف (٢٧٩٢) بخلاف النص والظاهر.

وأمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّة على الآخر ، فالظاهر أنّ الدليل المتقدّم في الجمع وهو ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور غير جار هنا ؛ إذ لو جمع بينهما وحكم باعتبار سندهما وبأنّ أحدهما لا بعينه مؤوّل لم يترتّب على ذلك أزيد من الأخذ بظاهر أحدهما ، إمّا من باب عروض (٢٧٩٣)

______________________________________________________

٢٧٩٠. يعني : بحسب الدلالة ، لأنّ الجمع العرفي مقدّم على الترجيح بمرجّحات السند.

٢٧٩١. جواب «لو» وقوله «كان» جزاء «إن» الشرطيّة.

٢٧٩٢. قال في الحاشية : «بعد إحراز الترجيح العرفي للأظهر يصير كالنصّ ، ويعامل معه معاملة الحاكم ، لأنّه يمكن أن يصير قرينة للظاهر ، ولا يصلح أن يكون الظاهر قرينة له ، بل لو اريد التصرف فيه احتاج إلى قرينة من الخارج ، فالأصل عدمها ، فافهم» انتهى.

٢٧٩٣. سيجيء تحقيق أنّا إن قلنا باعتبار الظواهر من باب الطريقيّة فمقتضى الأصل تساقط المتعارضين منها ، لخروج الطريق من كونه طريقا بمزاحمة

.................................................................................................

______________________________________________________

مثله ، فيرجع في موردهما إلى الأصل الموافق لأحدهما إن كان أحدهما موافقا له وإلّا فالتخيير. وإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة فمقتضى الأصل العقلي هو الأخذ بأحدهما تخييرا. وسيجيء أنّ أقواهما هو الأوّل ، لكون اعتبار أصالة الحقيقة من باب الطريقيّة دون السببيّة والموضوعيّة.

وكيف كان ، فمآل الوجهين إلى العمل بمقتضى أحد المتعارضين ، وكذا مقتضى التخيير الشرعي مع فقد المرجّح ، بل وكذا الأخذ بالراجح مع وجود المرجّح ، لأنّ مرجع الجميع إلى الأخذ بأحد المتعارضين لا بهما معا ، فيسقط القول بأولويّة الجمع من الطرح حينئذ ، نظرا إلى كونه عملا بالدليلين ، لما عرفت من مساواتهما في مقام العمل.

نعم ، يثمر القول بأولويّة الطرح من الجمع هنا في إعمال المرجّحات مع وجودها ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. لكن في دعوى انحصار الثمرة فيما ذكره نظر ، لأنّه على التخيير الشرعيّ يجوز تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمخيّر ، بخلاف ما لو قلنا بالتساقط والرجوع إلى الأصل الموافق.

وبالجملة ، إنّ القول بكون المتعارضين بالعموم من وجه موردا لقاعدة الجمع أو موردا لأخبار الترجيح والتخيير ، كما يثمر في صورة وجود المرجّح على ما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، كذلك يثمر في صورة فقده أيضا على ما ذكرناه.

وتحقيق المقام على ما تقتضيه الحال عاجلا : أنّ في كون المتعارضين بالعموم من وجه موردا لقاعدة الجمع أو لأخبار الترجيح والتخيير وجهان بل قولان. وذكر العامّ والخاصّ من وجه من باب المثال وذكر أظهر الأفراد وأغلبها ، وإلّا فالعبارة الأشمل أن يقال : كلّ خبرين كان لكلّ منهما جهة ظهور وأظهريّة بحيث يتعارضان في جهة الأظهريّة.

وكيف كان ، فالقولان ينشآن من حصول التحيّر في كيفيّة العمل بهما عرفا ، فيدخل في موضوع أخبار الترجيح والتخيير ، ومن كون منشأ التحيّر هنا إجمال

الإجمال لهما بتساقط أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ؛ لأجل التعارض ، فيعمل بالأصل الموافق لأحدهما ، وإمّا من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة ، على أضعف الوجهين في حكم تعارض الأحوال إذا تكافأت. وعلى كلّ تقدير يجب طرح أحدهما.

______________________________________________________

الدلالتين ، للعلم إجمالا بكون أحدهما مخصّصا بالآخر ، فيخرج من موضوع أخبار الترجيح ، لأنّ الترجيح فرع ظهور كلّ من المتعارضين في معنى مناف للآخر ولو مع ملاحظة تعارضهما.

ويؤيّده وجهان : أحدهما : تعيّن الأخذ بسندهما في محلّ الافتراق ، إذ لو كانا موردين لأخبار الترجيح لزم التبعيض في السند ، وهو بعيد وإن كان ممكنا عقلا ، لجواز أن يتعبّدنا الشارع بسند خبر بالنسبة إلى بعض مدلوله دون بعض ، بل قد ارتكبه بعضهم ، نظرا إلى أنّ الشهرة ـ مثلا ـ الجابرة لبعض مدلول الخبر الضعيف تكشف عن حقيّة هذا البعض ، وعدم وقوع خلل فيه من جهة الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير عمدا أو سهوا من الراوي ، بخلاف البعض الآخر. ولكن التزامه بعيد ، بل غير تامّ بالنسبة إلى بعض المرجّحات ، ككون الراوي أعدل ونحوه ، فتدبّر. وثانيهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ولكن يوهنه ...».

ثمّ إنّه إذا فرض حصول الشكّ في كون التحيّر من جهة تعارض الدلالتين وإجمالهما أو من جهة تعارض نفس الخبرين ، فمقتضى القاعدة عدم إعمال المرجّحات أيضا ، لاختصاص أخبار الترجيح بمورد تعارض نفس الخبرين ، وهو غير محرز في المقام بالفرض. اللهمّ إلّا أن يقال ـ كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله ـ : إنّ مورد أخبار الترجيح كلّ خبرين وقع التحيّر في كيفيّة العمل بهما لأجل تمانعهما وتزاحمهما ، سواء كانت الحيرة ناشئة من إجمال دلالتهما الناشئ من تعارضهما أم من تعارض نفس الخبرين. فكلّ خبرين متعارضين في بادئ النظر يعرضان على العرف ، فإن حصل بينهما بحسب فهم العرف نوع جمع والتيام ـ كالعامّين مطلقا فهو مورد لقاعدة الجمع ، وإن لم يحصل ذلك ـ كالعامّين من وجه والمتباينين ـ فهو مورد لأخبار الترجيح.

نعم ، يظهر الثمرة في إعمال المرجّحات السنديّة في هذا القسم ؛ إذ على العمل بقاعدة" الجمع" يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما ، كمقطوعي الصدور ، بخلاف ما إذا أدرجناه فيما لا يمكن الجمع ، فإنّه يرجع فيه إلى المرجّحات ، وقد عرفت : أنّ هذا هو الأقوى ، وأنّه لا محصّل للعمل بهما على أن يكونا مجملين ويرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما.

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه : أنّ الظاهر من العرف دخول هذا القسم في الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات. لكن يوهنه أنّ اللازم حينئذ بعد فقد المرجّحات التخيير بينهما ، كما هو صريح تلك الأخبار ، مع أنّ الظاهر من سيرة العلماء عدا ما سيجيء من الشيخ رحمه‌الله في العدّة والاستبصار في مقام الاستنباط ، التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما. إلّا أن يقال : إنّ هذا من باب الترجيح بالأصل ، فيعملون بمطابق الأصل منهما ، لا بالأصل المطابق لأحدهما ، ومع مخالفتهما للأصل فاللازم التخيير على كلّ تقدير (٢٧٩٤) ، غاية الأمر أنّ التخيير شرعيّ إن قلنا بدخولهما في عموم الأخبار ، وعقليّ علي القول به في مخالفي الأصل إن لم نقل.

وقد يفصّل بين ما إذا كان لكلّ من الظاهرين مورد سليم عن المعارض كالعامّين من وجه ؛ حيث إنّ مادّة الافتراق في كلّ منهما سليمة عن المعارض ، وبين غيره ، كقوله : " اغتسل للجمعة" و" ينبغي غسل الجمعة" ، فيرجّح الجمع على الطرح في الأوّل ؛ لوجوب العمل بكلّ منهما في الجملة ، فيستبعد الطرح في مادّة الاجتماع بخلاف الثاني. وسيجيء تتمّة الكلام إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

٢٧٩٤. أي : على تقدير اندراج ما نحن فيه في الأخبار العلاجيّة ، وعلى تقدير القول بأولويّة الجمع. أمّا على الثاني فواضح. وأمّا على الأوّل ، فإنّه مع عدم وجود المرجّحات ـ التي منها الأصل المطابق لأحدهما بالفرض ـ يتعيّن التخيير الشرعيّ لا محالة.

بقي في المقام أنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله فرّع في تمهيده على قضيّة (٢٧٩٥) أولويّة الجمع ، الحكم بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما ، أو لا يد لأحدهما ، وأقاما بيّنة (٣) ، انتهى المحكيّ عنه. ولو خصّ المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله (٤) (٢٧٩٦) ، وإن كان ذلك أيضا لا يخلو عن مناقشة يظهر بالتأمّل. وكيف كان ، فالأولى التمثيل بها وبما أشبهها ، مثل حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح.

______________________________________________________

٢٧٩٥. ذكر أيضا من فروع ذلك ما لو أوصى بعين لزيد ثمّ أوصى بها لعمرو ، فقيل : يشرك بينهما ، لاحتمال إرادته ذلك ، عملا بالقاعدة. وفيه : أنّ مثله يعدّ عدولا عن الوصيّة الأولى ، فلا وجه للجمع بينهما ، ولذا قال الشهيد أيضا : الأصحّ كون ذلك رجوعا.

٢٧٩٦. توضيحه : أنّ المحقّق القمي قد أورد على ما ذكره الشهيد «بإمكان استناد التنصيف إلى ترجيح بيّنة الداخل فيعطى كلّ منهما ما في يده ، أو بيّنة الخارج فيعطى كلّ منهما ما في يد الآخر ، إذ دخول اليد وخروجها أعمّ من الحقيقي والاعتباري كما حقّق في محلّه» انتهى.

وتوضيح ما ذكره أنّ اليد الخالية من معارضة يد اخرى وإن كانت ظاهرة في استيعاب ذلك الشيء الذي ثبتت عليه ، وفي أنّه بتمامه ملك لذي اليد ، إلّا أنّها عند المعارضة مع الاخرى ـ كما إذا ثبتت يد كلّ من زيد وعمرو لدار مثلا ـ لا يبقى ليد كلّ منهما ظهور في استيعاب الجميع ، بل يدهما معا حينئذ بمنزلة يد واحدة عند العرف في استيعاب الجميع ، ولذا لو غصبا معا دارا لثالث ، وأثبتا يديهما عليها دفعة واحدة ، حكم بضمان كلّ منهما لنصف الدار لا تمامها ، خلافا لمن حكم بالكلّ للكلّ استنادا إلى استقلال يد كلّ منهما عليها. وحيث ثبت كون يدهما بمنزلة يد واحدة كانت يد كلّ منهما ثابتة على النصف لا محالة ، وكانت بيّنة كلّ منهما بيّنة داخل بالنسبة إلى النصف الذي في يده وبيّنة خارج بالنسبة إلى

.................................................................................................

______________________________________________________

النصف الآخر ، وإن كان كلّ من الخروج والدخول حينئذ اعتباريّا. فحينئذ إن رجّحنا الأخبار الدالّة على تقديم بيّنة الداخل يعطى كلّ منهما ما في يده من النصف ، وإن رجّحنا بيّنة الخارج يعطى كلّ منهما ما في يد الآخر ، فالحكم بالتنصيف حينئذ مبنيّ على ذلك لا على قضيّة الجمع بين البيّنتين.

وأورد عليه المصنف رحمه‌الله بأنّ هذا الإشكال إنّما يرد على تقدير ثبوت يد كلّ منهما على العين المتنازع فيها ، لا على تقدير عدم ثبوت يد عليها أصلا.

وأمّا وجه المناقشة في صورة عدم اليد على العين المتنازع فيها ، فإنّ دعوى مدّعي الملكيّة عند عدم وجود معارض لها من أمارات الملكيّة ، ولذا لو وجد شيء وادّعاه شخص يعطى ذلك من دون بيّنة. وأمّا مع معارضة دعواه مع دعوى شخص آخر ، فالحكم بالعين لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيشرك بينهما بالسويّة لرفع التحكّم ، وبقاء احتمال كون العين لهذا المدّعي أو ذاك ، ومجرّد الاحتمال من أمارات الملك في مثل المقام. وكأنّه إجماعيّ فيما بينهم ، وله نظير في الشرع ، مثل ما ورد فيما لو كان لأحد درهم وللآخر درهمان ، فتلف أحد الدراهم عند الودعيّ ، من الحكم بأنّ لصاحب الدرهمين درهما ونصفا وللآخر نصفا ، ولأجل ما ذكرنا حكموا بكون التشريك في أمثال المقام مصالحة قهريّة.

وقد ظهر لك ممّا قرّرناه أنّ الحكم بالتشريك في محلّ الكلام إنّما هو لدعوى المتداعيين ، واحتمال كون العين المتنازع فيها لأحدهما بعد سقوط البيّنتين لأجل التعارض ، لا لأجل الجمع بينهما. ومع التسليم فالجمع على النحو المعتبر في تعارض البيّنات غير جار في تعارض أدلّة الأحكام ، كما يظهر من كلام المصنّف رحمه‌الله. وسنشير إلى توضيحه ، فلا وجه لجعل الجمع على الوجه الأوّل من فروع الجمع على الوجه الثاني. ويحتمل أيضا أن يكون وجه المناقشة ما سيشير إليه من كون الأصل في تعارض البيّنات هي القرعة لا الحكم بالتنصيف ، فتأمّل.

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ الشهيد الثاني بعد أن ذكر الفرعين المتقدّمين ـ اللذين نقل أحدهما المصنّف رحمه‌الله ونقلنا الآخر قبل الحاشية السابقة ـ لأولويّة الجمع فيما كان التعارض على وجه التباين ، قال : «ولو كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه طلب الترجيح بينهما ، لأنّه ليس تقديم خصوص أحدهما على عموم الآخر بأولى من العكس». وذكر من جملة فروعه تفضيل فعل النافلة في البيت على المسجد الحرام ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلّا المسجد الحرام» يقتضي تفضيل فعلها فيه على البيت ، لعموم قوله «فيما عداه» وقوله عليه‌السلام : «أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» يقتضي تفضيل فعلها فيه على المسجد الحرام ومسجد المدينة.

ثمّ قال : «ويترجّح الثاني ـ يعني : تفضيل فعل النافلة في البيت ـ بأنّ حكمة اختيار البيت على المسجد هو البعد عن الرياء المؤدّي إلى إحباط الأجر بالكلّية ، وهو حاصل مع المسجدين وأمّا حكمة المسجدين. فهي الشرف المقتضي لزيادة الفضيلة على ما عداهما ، مع اشتراك الكلّ في الصحّة وحصول الثواب ، ومحصّل الصحّة أولى من محصّل الزيادة».

ويمكن ردّ هذا إلى الأوّل ، يعني : صورة التعارض التي يجمع فيها بين الدليلين مهما أمكن ، فيعمل بكلّ منهما من وجه ، بأن يحمل عموم فضيلة المسجد على الفريضة ، وعموم فضيلة البيت على النافلة ، لأنّ النافلة أقرب إلى مظنّة الرياء من الفريضة. وهذا هو الأصحّ ، وفيه مع ذلك إعمال الدليلين ، وهو أولى من طرح أحدهما.

وأقول : كأنّ نظره في الحكم بكون النسبة بين الروايتين العموم من وجه إلى عموم الرواية الأولى من حيث إثبات الأفضليّة لمطلق الصلاة ـ سواء كانت فريضة أم نافلة ـ في مسجد المدينة بالنسبة إلى سائر الأمكنة ما عدا مسجد الحرام ، وعموم الثانية من حيث إثبات أفضليّة النافلة في البيت بالنسبة إلى سائر الأمكنة حتّى

.................................................................................................

______________________________________________________

مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمادّة الاجتماع هي النافلة ، حيث إنّ الرواية الأولى تقتضي أفضليّتها في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والرواية الثانية تقتضي أفضليّتها في البيت. ومادّة الافتراق من جانب الأولى أفضليّة الفريضة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من سائر المساجد والأمكنة ما عدا مسجد الحرام ، ومن جانب الثانية أفضليّة النافلة في البيت بالنسبة إلى سائر الأمكنة والمساجد ما عدا المسجدين الأعظمين ، فإنّها لا تعارضها الرواية الاولى في هذه المادّة.

هذا ، ولكن يرد عليه أوّلا أنّ حكمة الحكم لا تصلح للترجيح بين المتعارضين ، لعدم اشتراط الاطّراد فيها كما يشترط ذلك في العلّة.

وثانيا : أنّ الجمع بينهما بحمل الرواية الاولى على أفضليّة الفريضة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والثانية على أفضليّة النافلة في البيت ، كما ذكره ضعيف جدّا ، إذ الجمع بين المتعارضين لا بدّ أن يكون في محلّ التعارض دون غيره ، وقد عرفت عدم معارضة الرواية الثانية للاولى في إثبات أفضليّة الفريضة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتخصيص الرواية الثانية بأفضليّة النافلة في البيت عين الترجيح بها على صاحبها في محلّ التعارض ، وليس ذلك من الجمع في شيء.

ثمّ إنّ المحقّق القمّي بعد أن استشكل في كون حكمة الحكم سببا لترجيح أحد العامّين على الآخر في مقام الجمع ، بأن كانت الحكمة في أفضليّة النافلة في البيت سببا لتخصيص العامّ الآخر ، قال : «إلّا أنّ عمل الأصحاب والشهرة بينهم صار قرينة مرجّحة لهذا الحمل ، وإن وردت روايات معتبرة في استحباب النافلة في المسجد أيضا ، وعمل بها الشهيد الثاني في بعض تأليفاته» انتهى.

وأنت خبير بأنّ الجمع بين العامّين بتخصيص أحدهما المعيّن بالآخر بأمر خارجي لا بدّ أن يكون لأجل أظهريّة أحد العامّين من الآخر بسبب ما اقترنه من الأمر الخارجي ، ولا ريب أنّ عمل الأصحاب لا يوجب أظهريّة أحدهما ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ حتّى يجمع بينهما بالتخصيص ، بل يوجب قوّة في السند ، فيرجّح

وكيف كان ، فالكلام في مستند أولويّة الجمع (٢٧٩٧) بهذا النحو ، أعني العمل بكلّ من الدليلين في بعض مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين ؛ لأنّ الدليل الواحد لا يتبعّض في الصدق والكذب. ومثل هذا غير جار في أدلّة الأحكام الشرعيّة.

______________________________________________________

المعمول به منهما في محلّ التعارض ، وهذا ليس من الجمع في شيء كما هو واضح.

٢٧٩٧. قوله «فالكلام» مبتدأ ، و «في مستند» خبره. وحاصله : أنّ كيفيّة الجمع في تعارض البيّنات غير جارية في متعارضات أدلّة الأحكام ، لأنّ الجمع في الثانية بتأويل ظاهر المتعارضين ، وهذا غير جار في تعارض البيّنتين ، لنصوصيّة شهادة البيّنة لأجل تصريحها بالمراد ، فلا يتأتّى التأويل في كلامهما. فالجمع فيها منحصر في تصديقها في بعض مدلول كلامها ، وهذا أيضا غير جار في تعارض أدلّة الأحكام ، لأنّ مضمون خبر العادل ـ أعني : صدور هذا القول الخاصّ عن الإمام عليه‌السلام ـ غير قابل للتبعيض ، نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة والنسب مثلا.

نعم ربّما يتاتى التبعيض من حيث التصديق والتكذيب بحسب ترتيب الآثار لانّ مقتضى تصديق العادل هو ترتيب الحكم المخبر به فى جميع افراد موضوعة فيما اذا كان ذا افراد مثل ما لو ورد اكرم العلماء واهن العلماء فيوخذ بقول احدهما في وجوب اكرام بعض العلماء والآخر في وجوب اهانة بعض آخر ، إلّا أنّ هذا النحو من الجمع غير صحيح في تعارض أدلّة الأحكام ، لاستلزامه المخالفة القطعيّة مقدّمة للعلم بالإطاعة ، وهو قبيح عقلا في باب الإطاعة والمعصية ، لأنّ الحقّ فيه لواحد وهو الله تعالى ، وهو لا يرضى بذلك ، بخلاف تعارض البيّنات ، لأنّ الحقّ فيه لمتعدّد ، وفي الجمع المذكور جمع بين الحقّين. وهذا محصّل ما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وتحقيق المقام في تعارض البيّنات : أنّا إن قلنا باعتبار البيّنة من باب الطريقيّة والمرآتيّة إلى الواقع ، فعند تعارضها لا بدّ من التوقّف والرجوع إلى مقتضى الاصول في مورد التعارض مطلقا ، لخروجهما من وصف الطريقيّة لأجل التمانع والتزاحم ، نظير تعارض الأخبار على القول باعتبارها من باب الطريقيّة ، على ما سيوضحه المصنّف رحمه‌الله.

والتحقيق : أنّ العمل بالدليلين بمعنى الحركة والسكون على طبق مدلولهما ، غير ممكن مطلقا (٢٧٩٨) ، فلا بدّ على القول بعموم القضية المشهورة من العمل

______________________________________________________

وإن قلنا باعتبارها من باب التعبّد والسببيّة المحضة ، بأن كان اعتبار شهادة العدل لأجل مراعاة حال العادل ، بأن لا يكذب في شهادته مع قطع النظر عن كشفها عن الواقع ونظرها إليه ، فحينئذ يجب الجمع بالتبعيض في مدلول شهادتهما ، لأنّ العمل على طبق شهادة البيّنتين ممتنع بالفرض ، ولا مرجّح لإحداهما بحكم الفرض ، مع أنّ اعتبار المرجّحات في تعارض البيّنات ثابت في موارد خاصّة على خلاف الأصل ، وقد عرفت أيضا عدم إمكان الجمع بينهما بصرف التأويل إلى ظاهر كلماتهما ، ولا دليل على التخيير في حقوق الناس عقلا ولا نقلا ، فتعيّن الجمع بينهما بالتبعيض بين مدلول كلامهما. وحيث كان اعتبار البيّنة من باب الطريقيّة يتعيّن في مورد تعارضها الرجوع إلى القرعة ، لأنّها لكلّ أمر مشكل ، ولعلّه لذا اختار المصنّف رحمه‌الله ذلك في آخر كلامه.

هذا كلّه بالنظر إلى الأصل والقاعدة. وأمّا بالنظر إلى خصوصيّات الموارد ففيه تفصيل ، فمنها ما لا يمكن التشريك فيه ، ولا يمكن الجمع بينهما أصلا ، كتعارض البيّنات في الأنساب ، وفي وقوع عقد النكاح ، وما يضاهيهما ممّا لا يحتمل فيه التشريك ، فلا بدّ حينئذ من التوقّف والرجوع إلى الاصول حتّى على القول باعتبارها من باب الموضوعيّة أيضا ، ولم يعملوا فيها بالقرعة.

ومنها ما يمكن فيه التشريك والتعارض ، وحينئذ إن وقع في خصوص الأملاك ـ كما هو محلّ الكلام في المقام ـ يحكم بالتشريك في المتنازع فيه ، وكأنّه إجماعيّ. وإن وقع في مثل التقويمات ، بأن قامت بيّنة بأنّ قيمة هذا الشيء عشرة ، وقامت اخرى بأنّها خمسة ، فيتأتّى فيه الاحتمالان ، من الحكم بالتشريك ، بأن يصدّق كلّ منهما في نصف القيمة ، ومن الحكم بالقرعة.

٢٧٩٨. سواء كان ذلك في الموضوعات التي هي موارد البيّنة ، أو الأحكام الكلّية التي هي موارد الأدلّة الشرعيّة.

على وجه يكون فيه جمع بينهما من جهة وإن كان طرحا من جهة اخرى ، في مقابل طرح أحدهما رأسا. والجمع في أدلّة الأحكام عندهم ، بالعمل بهما من حيث الحكم بصدقهما وإن كان فيه طرح لهما من حيث ظاهرهما.

وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يمكن ذلك ؛ لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ، فهي بمنزلة النصّين المتعارضين ، انحصر وجه الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق ، بأن يصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخبر به. فمن أخبر بأنّ هذه الدار كلّها لزيد نصدّقه في نصف الدار. وكذا من شهد بأنّ قيمة هذا الشيء صحيحا كذا ومعيبا كذا نصدّقه في أنّ قيمة كلّ نصف منه (٢٧٩٩) منضمّا إلى نصفه الآخر (٢٨٠٠) نصف القيمة. وهذا النحو غير ممكن في الأخبار ؛ لأنّ مضمون خبر العادل أعني صدور هذا القول الخاص من الإمام عليه‌السلام ، غير قابل للتبعيض ، بل هو نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة أو النسب.

نعم قد يتصوّر التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل إذا كان كلّ من الدليلين عامّا ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله في بعضها وبقول الآخر في بعضها ، فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم فيما إذا ورد : " أكرم العلماء" ، وورد أيضا : " أهن العلماء" ، سواء كانا نصّين بحيث لا يمكن التجوّز في أحدهما ، أو ظاهرين فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوّز وعلى طريق التبعيض ، إلّا أنّ المخالفة القطعيّة (٢٨٠١) في

______________________________________________________

٢٧٩٩. يعني : من الشيء صحيحا ومعيبا.

٢٨٠٠. يعني : في حال اتّصاله بالنصف الآخر. وكذا تصدّق البيّنة الاخرى في النصف الآخر من الصحيح والمعيب. فإذا قال إحداهما بأنّ قيمته صحيحا عشرة ومعيبا ثمانية ، وقالت الاخرى بأنّ قيمته صحيحا اثنا عشر ومعيبا عشرة ، فإذا صدّقنا كلّا منهما في نصف القيمة صحيحا ومعيبا ، تكون قيمته صحيحا أحد عشر ومعيبا تسعة ، وما به التفاوت بين القيمتين صحيحا ومعيبا هو الأرش.

٢٨٠١. المراد بالمخالفة القطعيّة هنا أعمّ من حصول القطع بمخالفة الواقع ومن حصوله بمخالفة ظاهر الدليل المتعبّد به شرعا ، فتدبّر.

الأحكام الشرعيّة لا ترتكب في واقعة واحدة ؛ لأنّ الحقّ فيها للشارع ولا يرضى بالمعصية القطعيّة مقدّمة للعلم بالإطاعة ، فيجب اختيار أحدهما وطرح الآخر ، بخلاف حقوق الناس ، فإنّ الحق فيها لمتعدّد ، فالعمل بالبعض في كلّ منهما جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ، فهو أولى من الإهمال الكلّي لأحدهما وتفويض تعيين ذلك إلى اختيار الحاكم ودواعيه النفسانية الغير المنضبطة في الموارد. ولأجل هذا يعدّ الجمع بهذا النحو مصالحة بين الخصمين عند العرف ، وقد وقع التعبّد به في بعض النصوص أيضا. فظهر ممّا ذكرنا أنّ الجمع في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل كليهما لا أولويّة له أصلا على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ، بل الأمر بالعكس.

وأمّا الجمع بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولويّة فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجّية البيّنة ؛ لأنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما في تمام مضمونه ، فلا فرق في مخالفتها (*) بين الأخذ لا بكلّ منهما بل بأحدهما ، أو بكلّ منهما لا في تمام مضمونه بل في بعضه ، إلّا أنّ ما ذكرناه من الاعتبار لعلّه يكون مرجّحا للثاني على الأوّل.

ويؤيده : ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني المعمول بها فيمن أودعه رجل درهمين وآخر درهما ، فامتزجا بغير تفريط وتلف أحدها. هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها هي القرعة. نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعا بعد تساقط البيّنتين.

وكذا الكلام في عموم موارد القرعة أو اختصاصها بما لا يكون هناك أصل عملي ـ كأصالة الطهارة ـ مع إحدى البيّنتين. وللكلام مورد آخر (٢٨٠٢).

______________________________________________________

٢٨٠٢. قد تقدّم بعض الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب عند بيان ما يتعلّق بتعارضها مع الاستصحاب ، فراجع.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مخالفتها» ، مخالفتهما.

فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع على الترجيح ولا على التخيير ، فلا بدّ من الكلام في المقامين اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول : إنّ المتعارضين ، إمّا أن لا يكون مع أحدهما مرجّح فيكونان متكافئين متعادلين ، وإمّا أن يكون مع أحدهما مرجّح.

المقام الأوّل في المتكافئين (٢٨٠٣) والكلام فيه اوّلا : في أنّ الأصل في المتكافئين التساقط وفرضهما كأن لم يكونا (٢٨٠٤) أو لا؟ ثمّ اللازم بعد عدم التساقط : الاحتياط (٢٨٠٥) أو التخيير (٢٨٠٦)

______________________________________________________

٢٨٠٣. لا خلاف ولا إشكال في جواز تكافؤ الأمارتين الشرعيّتين. والحقّ وقوعه أيضا في الشرعيّات ، لشهادة العيان بذلك ، لأنّا وإن سلّمنا عدم وقوعه في أخبارنا الموجودة في كتبنا المدوّنة ، إلّا أنّه ربّما يقع التكافؤ بين فتوى مجتهدين مع تساويهما من جميع الجهات ، وكذا بين البيّنات ، فإنكار المنكر ـ كما عزي إلى العامّة ـ مكابرة للوجدان ومخالفة للعيان ، وما استند إليه ضعيف جدّا ، ولا يزاحم ما يشاهد بالعيان ، فلا جدوى للتعرّض لما فيه.

٢٨٠٤. هذا مذهب فقهاء العامّة كما في النهاية ، بل ربّما عزي إلى العلّامة فيها ، وفيه نظر.

٢٨٠٥. يعني : في مقام العمل مع إمكانه ، وإلّا فالتخيير ، وهو مذهب الأخباريّين.

٢٨٠٦. هذا هو المشهور. ثمّ التخيير يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون شرعيّا ، بأن كان كلّ من الخبرين معتبرا شرعا مخيّرا بينهما في نظر الشارع ، نظير التخيير في خصال الكفّارة.

وثانيهما : أن يكون عقليّا بأن كان أحد الخبرين حقّا في الواقع والآخر باطلا ، واشتبه الحقّ بالباطل في نظر المجتهد ، ولم يمكن التمييز والترجيح ، فيحكم العقل حينئذ بالتخيير بينهما من باب الإلجاء والاضطرار.

.................................................................................................

______________________________________________________

والفرق بين الوجهين أنّ العقل في الثاني إنّما يحكم بالتخيير مع عدم موافقة شيء من الخبرين للأصل ، وإلّا فيرجّح الجانب الموافق للأصل ، سواء قلنا بكون الأصل مرجّحا أم مرجعا على ما سيأتي ، بخلاف الأوّل ، لأنّ التخيير الشرعيّ مقدّم على الأصل ، لثبوته بحكم الشارع ، فيكون حاكما على الأصل ، بخلاف التخيير العقلي ، إذ الأصل حاكم على حكم العقل كما هو واضح.

فإن قلت : كيف يرجع إلى الأصل ولا مجرى له في مورد الأدلّة الاجتهاديّة ، وافقته أو خالفته؟ لورودها أو حكومتها عليه ، إذ ما هو حقّ في الواقع من الخبرين المفروض حقيّة أحدهما وبطلان الآخر رافع لموضوع الأصل ، سواء كان موافقا له أم مخالفا له ، لأنّ الكلام على فرض عدم تساقطهما.

قلت : إنّ الدليل إنّما يحكم على الأصل مع تلبّسه بلباس البيانيّة فعلا. وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الأصل إنّما يرتفع بالدليل الاجتهادي حقيقة أو حكما إذا كان الدليل مبيّنا لحكم المشكوك فيه بحيث يجب الأخذ بمقتضاه ، والخبران المتعارضان لأجل تمانعهما وتزاحمهما قد خرج كلّ منهما من وصف البيانيّة الفعليّة ، فلا يصلح شيء منهما لرفع موضوع الأصل.

فإن قلت : سلّمنا لكنّ العمل بهذا الأصل مخالف للواقع يقينا ، لأنّ المجعول في الواقع مدلول أحد الخبرين ، لفرض كون أحدهما حقّا في الواقع فمقتضاه هو الحكم الواقعي ولو بتنزيل الشارع ، ومقتضى الأصل يخالف مقتضى كلا الخبرين ، لأنّ مقتضى كلّ منهما إذا لوحظ في نفسه هو الحكم الواقعي ولو بتنزيل الشارع ، من دون مدخليّة للعلم والجهل في موضوع حكمهما ، بخلاف الأصل ، لأنّ مقتضاه ثبوت الحكم في الموضوع المشتبه من حيث كونه مشتبها ، فما كان هو الحقّ من الخبرين يخالف مقتضاه مقتضى الأصل.

قلت : إنّ العلم الإجمالي إنّما يمنع جريان الاصول مع استلزامه للمخالفة العمليّة لا مطلقا ، ومقتضى الأصل ليس بمخالف لمؤدّى كلا الخبرين في مقام العمل ،

أو التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق (٢٨٠٧) لأحدهما دون المخالف لهما ؛ لأنّه معنى تساقطهما (٢٨٠٨)؟

فنقول وبالله المستعان : قد يقال ، بل قيل : إنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّية أحدهما ؛ لأنّ دليل الحجّية مختصّ (٢٨٠٩) بغير صورة التعارض : أمّا إذا كان إجماعا ؛ فلاختصاصه بغير المتعارضين ، وليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم (*).

______________________________________________________

لفرض موافقته لأحدهما. وكيف كان ، فالحقّ في المقام هو المذهب المشهور مع الالتزام بكون التخيير شرعيّا ، وسيظهر وجهه.

٢٨٠٧. لا أعرف قائلا بهذا الوجه.

٢٨٠٨. لأنّه بعد فرض عدم تساقط الخبرين يكون مقتضاهما نفي الأصل الثالث من البراءة أو الاشتغال بحسب الموارد ، لأنّ تساقطهما إنّما هو في مورد التعارض ، ولا تعارض بينهما بالنسبة إلى نفي الثالث ، فمع مخالفتهما للأصل يتخيّر في العمل بهما.

٢٨٠٩. هذا الوجه محكيّ عن صاحب المفاتيح سيّد مشايخ المصنّف رحمه‌الله الأستاد قدس‌سرهما وقد يحتجّ له أيضا بأنّه لو وجب العمل بكلا الدليلين لأدّى ذلك إلى اجتماع النقيضين ، لفرض تناقض مؤدّاهما ، وإن وجب العمل بأحدهما دون الآخر فهو ترجيح بلا مرجّح ، لفرض استجماع كلّ منهما لشرائط الحجّية ، وإن لم يجب العمل بشيء منهما فهو معنى التساقط المطلوب في المقام.

وفيه : أنّ الحصر غير حاصر ، لجواز العمل بأحدهما لا بعينه بحكم الشارع. نعم ، يتمّ الحصر فيما لو تعارضت الأمارتان في الأحكام الوضعيّة ، أو كان التخيير عقليّا لا شرعيّا.

أمّا الأوّل ، فإنّ الأحكام الوضعيّة إمّا امور واقعيّة أو امور مجعولة من قبل الشارع ، وقد رتّب عليها آثارا على حسب تحقّقها في الخارج من دون مدخليّة

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : ليكون مدّعي الاختصاص محتاجا إلى المخصّص والمقيّد.

وأمّا إذا كان لفظا (٢٨١٠) ؛ فلعدم إمكان إرادة المتعارضين من عموم ذلك اللفظ ؛ لأنّه يدلّ على وجوب العمل عينا بكلّ خبر مثلا ، ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكلّ من المتعارضين ممتنع ، والعمل بكلّ منهما تخييرا لا دليل عليه ؛ إذ

______________________________________________________

لاختيار المكلّف في ذلك ، بأن تخيّر المكلّف في الحكم بتنجّس الماء القليل بالملاقاة وعدمه إذا فرض تعارض الدليلين فيه ، أو تخيّر في الحكم بصحّة عقد وفساده كذلك ، أو في الحكم بكون الإتلاف سببا للضمان وعدمه ، وهكذا.

وأمّا الثاني ، فإنّ التخيير العقلي إنّما هو فيما علم بحقيّة أحد الدليلين وبطلان الآخر كما تقدّم سابقا ، وهو مستلزم للقول بالترجيح بلا مرجّح ، لأنّ الكلام في المقام في تعادل الدليلين ، بمعنى تساويهما في استجماعهما لجميع شرائط الحجّية وفي جميع جهات الترجيح. وحينئذ إن اريد بحجّية أحدهما كون مدلول أحدهما مطابقا للحكم الواقعي دون الآخر ، ففيه : مع كونه تحكّما أنّه خلاف الفرض ، لاحتمال مخالفة كلّ منهما للواقع ، إذ الفرض عدم العلم بانحصار الواقع في مدلولهما. وإن اريد بها اعتبار أحدهما بحسب جعل الشارع ، ففيه : أنّ الفرض تساويهما في شمول أدلّة اعتبارهما ، فالقول بحجّية أحدهما المعيّن في الواقع ترجيح بلا مرجّح.

فظهر ممّا ذكرناه صحّة ما قدّمناه من عدم صحّة الحصر إلّا فيما كان تعارض الدليلين في حكم وضعي ، أو كان المراد بالتخيير هو التخيير العقلي دون الشرعيّ. ولكنّهما خلاف الفرض. أمّا الأوّل فلعدم انحصار مورد التعارض فيه ، سيّما على المختار من كون الأحكام الوضعيّة منتزعة من الأحكام الطلبيّة لا مجعولة. وأمّا الثاني فإنّ المراد بالتخيير هنا هو الشرعيّ دون العقلي كما سيجيء.

٢٨١٠. قد يستند في منع شمول الأدلّة اللفظيّة للمتعارضين إلى دعوى انصرافها إلى غير صورة التعارض. ويعضده وقوع السؤال عن حكم المتعارضين في أخبار العلاج ، إذ لو كانت الأدلّة شاملة لصورة التعارض لم يحتج إلى السؤال عنها ، لاستقلال العقل حينئذ بالتخيير.

لا يجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد. وأمّا العمل بأحدهما الكلّي (٢٨١١) عينا فليس من أفراد العام ؛ لأنّ أفراده هي المشخّصات الخارجيّة ، وليس الواحد على البدل فردا آخر ، بل هو عنوان منتزع منها غير محكوم بحكم نفس المشخّصات بعد الحكم بوجوب العمل بها عينا.

هذا ، لكن ما ذكره من الفرق (٢٨١٢) بين الإجماع والدليل اللفظي لا محصّل ولا ثمرة له فيما نحن فيه ؛ لأنّ المفروض قيام الإجماع على أنّ كلا منهما واجب العمل لو لا المانع الشرعي ـ وهو وجوب العمل بالآخر ـ ؛ إذ لا نعني بالمتعارضين إلّا ما كان كذلك ، وأمّا ما كان وجود أحدهما مانعا عن وجوب العمل بالآخر فهو خارج عن موضوع التعارض ؛ لأنّ الأمارة الممنوعة لا وجوب للعمل بها ،

______________________________________________________

وفيه منع الانصراف ، لأنّ آية النبأ مثلا إنّما تثبت اعتبار خبر العدل من حيث هو مع قطع النظر عن وجود المعارض له. وأمّا الاعتضاد بما ذكر ، ففيه : أنّ السؤال في أخبار العلاج عن كيفيّة العمل بالمتعارضين لا عن أصل اعتبارهما ، وهي متأخّرة عن أصل اعتبارهما ، إذ لا معنى للعلاج قبل إثبات اعتبارهما ، فهذه الأخبار شاهد على نقيض مطلوبه لا له.

٢٨١١. فيكون التخيير بين أفراد هذا الكلّي ـ أعني : المفهوم المنتزع منها ـ عقليّا لا شرعيّا.

٢٨١٢. حيث ادّعى المستدلّ كون عدم شمول الإجماع للخبرين المتعارضين من حيث كون الإجماع لبيّا ، فالمتيقّن منه غير صورة التعارض ، فيكون خروجها من تحت الإجماع من باب التخصّص. وكون عدم شمول الأدلّة اللفظيّة لهما من حيث قيام الدليل على عدم إرادتهما منها ، وهو عدم إمكان إرادتهما منها ، لاستلزامه استعمال اللفظ في معنيين ، وهو غير جائز كما هو المشهور ، أو محتاج إلى قرينة قويّة ، لكونه على تقدير تسليم صحّته من أخسّ مراتب الاستعمال ، فيكون خروجهما من تحتها من باب التخصيص.

.................................................................................................

______________________________________________________

أشار إلى فساد الفرق ، لأنّه إن اريد عدم شمول الإجماع للخبرين المتعارضين من أجل وجود الخلاف في المسألة ، حيث ذهب بعضهم إلى تساقط المتعارضين ، ففيه : منع وجود المخالف من أصحابنا كما ادّعاه جماعة ، وإن فرض وجود مخالف نادر فهو غير قادح في تحقّق الإجماع. نعم ، نسبه العلّامة في النهاية إلى بعض فقهاء العامّة.

وإن اريد أنّ نفس تعارض الدليلين من حيث مدلولهما مانع من تحقّق الإجماع ، ففيه : أنّه إن اريد به إثبات ذلك كلّيا ، بأن كان تمانع الدليلين أو الأمارتين في كلّ باب مانعا من كون المتمانعين إجماعيّين ، ففيه : أنّه وإن كان كذلك في الجملة إلّا أنّه غير مجد في المقام ، لأنّ التعارض قد يوجب زوال مناط اعتبار أحد المتعارضين أو كليهما ، كتعارض أصالتي الحقيقة في مثل العامّ والخاصّ ، وسائر الحقائق مع قرائنها اللفظيّة ، أو الظواهر المتعارضة على وجه التباين الكلّي ، لأنّ أصالة الحقيقة وإن كانت في نفسها إجماعيّة ، إلّا أنّها معارضتها بأقوى منها أو بمساويها يزول مناط اعتبارها ـ وهو الظهور النوعي ـ عن غير الأقوى في الأوّل ، وعن كلا المتساويين في الثاني كما تقدّم في أوّل الباب ، فمع زوال مناط اعتبارها لا يبقى مجال لدعوى الإجماع على اعتبارها. فما يظهر من بعض المتأخّرين من أنّه لو لم يكن الإجماع على تقديم ظهور الخاصّ أو ظهور القرينة اللفظيّة حكمنا بالتخيير ، خال من الوجه ، فتأمّل. وقد لا يكون كذلك ، كتعارض النصّين من أخبار الآحاد ، لأنّ تعارضهما بحسب الدلالة لا ينافي كون اعتبار سندهما إجماعيّا بالذات ، بحيث لو لا المعارضة بينهما تعيّن العمل بكلّ منهما كما فيما نحن فيه ، لأنّ الكلام هنا بعد الفراغ من اعتبار دلالة المتعارضين وفرضهما كالنصين إن لم يكونا كذلك.

وإن اريد به إثبات كون التعارض في خصوص المقام مانعا من تحقّق الإجماع فقد عرفت ضعفه. وإن اريد أنّ عدم إمكان الجمع بينهما في مقام العمل مانع من تحقّق الإجماع ، ففيه : أنّه فرع تسليم شمول الإجماع لهما ، إذ لو لا اعتبارهما لم يبق مقتض

والأمارة المانعة إن كانت واجبة العمل تعيّن العمل بها لسلامتها عن معارضة الاخرى ، فهي بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ، وتلك لا تمنع وجوب العمل بهذه ، لا بوجودها (٢٨١٣) ولا بوجوبها (٢٨١٤) ، فافهم. والغرض من هذا التطويل حسم مادّة الشبهة التي توهّمها بعضهم : من أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات التي ليس لها عموم لفظيّ هو حجّيتها مع الخلوّ عن المعارض.

وحيث اتّضح عدم الفرق في المقام بين كون أدلّة الأمارات من العمومات أو من قبيل الإجماع ، فنقول : إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة (٢٨١٥) وعدم تساقطهما ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ؛ لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة ، وإنّما هو حكم عقلي يحكم به العقل بعد ملاحظة وجوب كلّ منهما فى حدّ نفسه بحيث لو أمكن الجمع بينهما وجب كلاهما ، لبقاء المصلحة فى كلّ منهما ، غاية الأمر أنّه يفوته إحدى المصلحتين ويدرك الأخرى.

ولكن ، لمّا كان امتثال التكليف بالعمل بكلّ منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة مشروطا بالقدرة ، والمفروض أنّ كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعيّن فعله ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه و

______________________________________________________

للتعارض في مقام العمل ، لأنّه ناش من وجوب العمل بكلّ منهما ، إذ لو لا وجوب العمل بهما بمقتضى أدلّة اعتبارهما لم يبق مقتض للتمانع والتزاحم في مقام العمل.

وإلى هذا أو سابقه أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : «إذ لا نعني بالمتعارضين إلّا ما كان كذلك ...» ، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو في تعارض خبرين كانت مزاحمة كلّ منهما للآخر بمرتبة مزاحمة الآخر له ، لا ما كان أحدهما حاكما على الآخر كالأصل والدليل ، لخروج ذلك من موضوع التعارض كما تقدّم في صدر المبحث.

٢٨١٣. حتّى يكون حاكما أو واردا.

٢٨١٤. حتّى يكون معارضا.

٢٨١٥. أعمّ من أن يكون على وجه التخيير أو التوقّف والرجوع إلى الأصل الموافق.

لا يعاقب عليه ، فوجوب الأخذ بأحدهما (٢٨١٦) نتيجة أدلّة وجوب الامتثال والعمل بكلّ منهما ، بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة.

وهذا ممّا يحكم به بديهة العقل ، كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلّا تعيين الآخر عليه كذلك. والسرّ في ذلك : أنّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل ، لم يكن وجوب كلّ واحد منهما ثابتا بمجرّد الإمكان ، ولزم كون وجوب كلّ منهما مشروطا بعدم انضمامه مع الآخر ، وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كلّ منهما في مقام الامتثال بأزيد من الإمكان ، سواء كان وجوب كلّ منهما بأمرين ، أو كان بأمر واحد يشمل الواجبين. وليس التخيير في القسم الأوّل لاستعمال الأمر في التخيير ـ كما توهّم ـ بل من جهة ما عرفت.

والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشىء واحد استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر بشرط عدم المانع العقلي والشرعي ، وإذا أمر بشيئين واتّفق امتناع إيجادهما في الخارج استقلّ بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه ؛ لأنّها ممكنة ، فيقبح تركها.

______________________________________________________

٢٨١٦. يعني : أنّ مقتضى الأدلّة وإن كان وجوب العمل بكلّ واحد من الدليلين عينا ، إلّا أنّ الأخذ بأحدهما تخييرا إنّما هو بضميمة مقدّمة خارجة عقليّة لا بنفس أدلّة اعتبارهما ، وهي كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا مشروطا بإمكانه ، ومع عدم تحقّق الشرط لأجل تمانع مدلولهما يتعيّن العمل بهما تخييرا ببداهة حكم العقل ، لأنّه إذا فرض كون امتثال التكاليف مشروطا بحكم العقل بعدم وجود مانع عقلا أو شرعا ، فحيث وجد المانع هنا من جهة التعارض يحكم بوجوب الامتثال بحسب الإمكان ، وهو العمل بأحدهما تخييرا ، لأنّه القدر الممكن ، لأنّ في إلغائهما إهمالا لأدلّة اعتبارهما ، كما في كلّ واجبين متزاحمين ، كصلاة العصر مع صلاة الكسوف مع ضيق الوقت على نحو ما قرّره المصنّف رحمه‌الله.

فإن قلت : إنّه إذا فرض كون مقتضى الأدلّة وجوب العمل بكلّ منهما عينا ، وكان وجوب العمل بهما كذلك مشروطا بالإمكان ، فمع انتفاء الشرط ينتفي المشروط ،

لكن ، هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة ، بأن يكون قيام الخبر على وجوب فعل واقعا ، سببا شرعيّا لوجوبه ظاهرا على المكلّف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لإعمال الآخر ، كما في كلّ واجبين متزاحمين.

أمّا لو جعلناه من باب الطريقيّة ـ كما هو ظاهر أدلّة حجّية الأخبار بل غيرها من الأمارات ـ بمعنى أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ؛ لغلبة إيصاله إلى الواقع ، فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ؛ للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معا ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعا ، فلا يكونان طريقين إلى الواقع ولو فرض محالا إمكان العمل بهما ، كما يعلم إرادته لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع. مثلا لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر غالب الإيصال إلى الواقع ، فأمر بالعمل به في جميع الموارد ؛ لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره ، فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجّية لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما ، بحيث لو أمكن الجمع بينهما أراد الشارع إدراك المصلحتين ، بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّد بعدم معارضته بمثله.

______________________________________________________

وهو وجوب العمل بكلّ منهما عينا ، والفرض أنّه لا دلالة للفظ على وجوب آخر ، فلا يبقى مقتض للعمل بشيء منهما بعد تعذّر العمل بكلّ منهما عينا.

قلت : إنّ مقتضى الأدلّة وجوب العمل بكلّ منهما عينا مطلقا ، فالعقل كما يدلّ على تقيّد ذلك بحال الاختيار وتمكّن المكلّف من العمل بكلّ منهما عينا ، كذلك يدلّ على مطلوبيّة أحدهما مع عدم التمكّن من ذلك. وبعبارة اخرى : إنّ الأدلّة إنّما تدلّ على مطلوبيّتهما مطلقا ، والعقل يقيّدها بحسب تمكّن المكلّف مطلقا لا بخصوص تمكّنه من العمل بهما معا ، فإن أمكن العمل بهما معا وإلّا فأحدهما هو القدر الممكن. نعم ، لو كان التمكّن شرطا شرعيّا ، بأن وجب العمل بكلّ منهما عينا بشرط التمكّن منه كذلك ، أمكن أن يقال : إنّ ظاهر الشرط بحسب دليله هو سقوط التكليف من رأس مع عدم التمكّن من العمل بهما عينا.

ومن هنا ، يتّجه الحكم (٢٨١٧)

______________________________________________________

٢٨١٧. إذ بعد تساقط الطريقين لا يعقل الحكم بالتخيير بينهما ، لأنّه فرع اعتبارهما في نفسهما ، وانحصار المانع من العمل بهما معا في تمانعهما وتزاحمهما كما يظهر ممّا تقدّم ، فلا يصحّ التمسّك حينئذ بإطلاق أدلّة اعتبارهما في إثبات التخيير كما كان على القول بالسببية. فالعمدة في المقام معرفة كون اعتبار أخبار الآحاد عند العلماء رضوان الله عليهم من باب السببيّة أو الطريقيّة.

ويشهد بالأوّل وجوه :

أحدها : ذهاب الأكثر أو المشهور إلى الإجزاء في الأوامر الظاهريّة ، إذ لو كان اعتبارها من باب المرآتيّة المحضة لا يعقل الحكم بالإجزاء مع انكشاف خلافها ، فلا بدّ أن يكون الوجه فيه قولهم باعتبارها من باب السببيّة ، بمعنى تضمّنها مصلحة اخرى سوى مصلحة الطريقيّة يتدارك بها مصلحة الواقع على تقدير تخلّفها عنها ، كما حقّقناه في مبحث الإجزاء.

وثانيها : أنّ ظاهر القائلين بالظنون الخاصّة ـ كما هو ظاهر الفقهاء اعتبارها مطلقا حتّى مع التمكّن من العلم ، كما هو المصرّح به في كلمات بعضهم ، فلو لم يكن اعتبار الأخبار لأجل تضمّنها لمصلحة اخرى سوى مصلحة الطريقيّة ، قبح من الشارع الرخصة في العمل بها مع التمكّن من الوصول إلى الواقع على سبيل العلم ، لاستلزامه تفويت مصلحة الواقع على المكلّف على تقدير تخلّف الدليل الظنّي عنه ، وهو قبيح على الشارع الحكيم.

وثالثها : التمسّك بإطلاق أدلّة اعتبارها لإثبات اعتبار المتعارضين منها من حيث هو ، إذ لا يتمّ ذلك إلّا على القول بالسببيّة كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ولكن لا يحضرني في كلماتهم الآن من تمسّك بالإطلاقات هنا ، فليلاحظ.

ويشهد بالثاني أيضا وجهان : أحدهما : التعليل في آية النبأ ، ووجه الدلالة واضح. وثانيهما : أخبار الترجيح وعلاج المتعارضين ، لأنّ الترجيح بالأعدليّة و

.................................................................................................

______________________________________________________

الأوثقيّة ونحوهما لا يقصد به إلّا كون خبر الأعدل والأوثق أقرب إلى الواقع من خبر العادل والموثوق به.

هذا كلّه بالنظر إلى طريقتهم ، والأخذ بمجامع كلماتهم. وأمّا على ما هو التحقيق في مبحث الأخبار ـ وفاقا للمصنّف رحمه‌الله الأستاذ (أعلى الله في الخلد مقامه) من كون الحجّة منها ما كان موثوقا بالصدور من دون خصوصيّة لخبر العدل أو غيره من المذاهب ، فنقول : إنّ مقتضى القول باعتبار الأخبار من باب الوثوق بالصدور وإن كان اعتبارها من باب المرآتيّة ، إلّا أنّ ذلك لا ينافي أن يعتبر الشارع في الوثوق جهتي الكشف والسببيّة معا ، بأن كانت فيها ـ مضافا إلى مصلحة الطريقيّة ـ مصلحة اخرى يتدارك بها مصلحة الواقع على تقدير تخلّفها عنه ، كما هو مقتضى الجمع بين اعتبارها مطلقا حتّى مع التمكّن من العلم ، وبين التعليل في آية النبأ والأخبار العلاجيّة كما أشرنا إليه. ومن هنا يصحّ لنا التمسّك بإطلاق أدلّة اعتبارها من باب الوثوق بالصدور لإثبات التخيير بين متعارضاتها.

ولا يرد عليه : أنّ مقتضى هذا القول هو القول باعتبارها من باب المرآتيّة ، ومقتضاه التساقط دون التخيير كما تقدّم. ومع التسليم فأخبار التخيير في صورة تعادل الخبرين المتعارضين تثبت هنا أصلا ثانويّا ، غاية الأمر أن يكون هذا ثابتا على خلاف الأصل والقاعدة ، فيكون مقتضى الأصل الأوّلي العقلي هو التساقط ، ومقتضى الأصل الثانوي الشرعيّ هو التخيير ، ولا غائلة فيه كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره العزيز.

تجديد مقال وتوضيح حال : اعلم أنّ صريح كلام المصنّف رحمه‌الله ابتناء الكلام في الخبرين المتعارضين المتعادلين ـ من حيث الحكم بالتخيير ، أو بالتساقط والرجوع إلى الأصل الموافق بحسب الأصل والقاعدة ، مع قطع النظر عن الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة ـ على الكلام في الواجبين المتزاحمين أو الطريقين المتمانعين ، مع عدم أهميّة أحد الأوّلين ، وعدم قوّة أحد الأخيرين ، وأنّ الكلام

.................................................................................................

______________________________________________________

فيهما جزئيّ من جزئيّات الكلام في حكم الأخيرين. فالأولى صرف الكلام تارة إلى بيان أنّ ما نحن فيه من أيّ القبيلين ، واخرى إلى بيان حكم الواجبين المتزاحمين مع عدم أهميّة أحدهما ، وثالثة إلى بيان حكم الطريقين المتدافعين مع عدم قوّة إحداهما. وقد عرفت الكلام في الأوّل.

وأمّا الثاني ، فاعلم أنّ مقتضى الأصل في امتثال كلّ واجبين متزاحمين ـ سواء كانا مندرجين تحت عنوان واحد ومستفادين من دليل واحد ، كأنقذ الغريقين أو أطفئ الحريقين ، أم كان كلّ واحد منهما مندرجا تحت عنوان ومستفادا من دليل ، كأنقذ وأطفئ ـ هو التخيير في الإتيان بأيّ منهما أراد مع مساواتهما ، وعدم أهميّة أحدهما في نظر الشارع بحيث يستحقّ العقاب على مخالفة كلّ منهما ، كما في كلّ واجب تخييري ، لأنّ ظاهر دليل اعتبارهما وإن كان وجوب العمل بكلّ منهما عينا ، إلّا أنّ ذلك غير مراد يقينا وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا لم يكونا متعارضين.

وفرض تعارضهما دليل على عدم خروجهما أيضا من تحت عموم دليل اعتبارهما ، وإلّا لم يكونا متعارضين ، إذ التعارض فرع اعتبارهما في أنفسهما.

فإن قلت : نمنع كونهما متعارضين ، لاحتمال كونهما متساقطين ، لعدم المقتضي لاعتبارهما ، لاحتمال كونهما غير مرادين من دليل اعتبارهما.

قلت : هذا خلاف الإجماع ، لإجماعهم ـ كما تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله ـ على انحصار المانع من العمل بهما في تمانعهما وتزاحمهما ، فلو لم يكن دليل اعتبارهما شاملا لهما كان عدم العمل بهما لعدم المقتضي لا لوجود المانع. وكذا الحكم بالتخيير ليس لأجل استعمال دليل اعتبارهما فيه ، وإلّا لزم استعماله في الوجوب العيني بالنسبة إلى غير محلّ التعارض ، وفي الوجوب التخييري بالنسبة إليه ، وهو غير جائز عند المحقّقين. وعلى تقدير تسليم جوازه فهو من أخسّ مراتب الاستعمال ، بحيث تحتاج إرادته إلى قرينة. وأمّا وجوب العمل بأحدهما الكلّي عينا

.................................................................................................

______________________________________________________

في محلّ التعارض كي يسري التخيير إلى فرديه عقلا ، فقد تقدّم بطلانه أيضا في كلام المصنّف رحمه‌الله.

وبالجملة ، إنّ دليل اعتبار الواجبين في محلّ التعارض إمّا أن يراد به العمل بكلّ منهما عينا ، أو لا يراد به شيء منهما أصلا ، أو يراد به العمل على وجه التخيير شرعا أو عقلا. والكلّ باطل على ما عرفت. وبطلان الكلّ أيضا باطل ، لأنّ بطلان عدم إرادتهما منه أصلا ، وكذا بطلان إرادتهما منه ، يكشف عن كونهما مرادين منه من وجه وغير مرادين من وجه آخر. فنقول حينئذ : إنّهما مشمولان لدليل اعتبارهما بالذات كما هو مقتضى إطلاقه ، إلّا أنّ العقل منع من إطلاق تنجّز التكليف بالعمل بكلّ منهما عينا ، لأنّ وجوب امتثال جميع التكاليف مشروط بالتمكّن ، إلّا أنّ عدم التمكّن لا يمنع شمول الخطاب لمورده ، إذ غايته عدم تنجّز التكليف به لا عدم شموله له ، إذ فرق واضح بين شرائط المكلّف به وشرائط التكليف ووجوب امتثاله ، إذ انتفاء الأوّل يستلزم انتفاء المكلّف به بل وحسنه أيضا ، وانتفاء الثاني إنّما يستلزم انتفاء نفس التكليف وحسنه لا حسن المكلّف به ، فبإطلاق المأمور به يستكشف عن وجود المصلحة في المأمور به مطلقا حتّى في مورد التعارض ، بأن كان كلّ من المتعارضين مشتملا على مصلحة تامّة بحيث يجب الإتيان بكلّ منهما عينا لو فرض محالا إمكان ذلك ، فمع عدم إمكانه يجب العمل بهما تخييرا ، لأنّه نتيجة وجود المصلحة فيهما بحيث تقتضي تحتّم العمل بكلّ منهما وعدم إمكان العمل بهما معا.

فإن قلت : إنّ المصلحة المزاحمة بمثلها لا يكون منشأ لحكم.

قلت : إنّ تزاحم المصلحتين إنّما يمنع من تعيّن مقتضي خصوص كلّ منهما ، ولذا لو أنّه اضطرّ إلى ارتكاب أحد فردي الكذب ، فكما أنّ الاضطرار لا يوجب جواز ارتكاب كلّ منهما ، كذلك تزاحم الواجبين لا يوجب جواز ترك كلّ منهما ، لأنّ الضرورات إنّما تقدّر بقدرها. نعم ، لو كانت المصلحة في أحدهما أهمّ كانت

.................................................................................................

______________________________________________________

أهميّتها مانعة من تأثير الاخرى ولو في الوجوب التخييري.

وممّا قرّرناه يظهر الفرق بين مصلحة الوجوب التخييري هنا وبينها في غيره ، لأنّ المصلحة هنا مقتضية بالذات لوجوب كلّ منهما عينا ، وفي غيره لا تقتضي إلّا وجوبهما تخييرا ، ولذا لا ترتفع المصلحة هنا بالإتيان بأحدهما عن الآخر ، بخلافها في غيره.

وأمّا الثالث ، فاعلم أنّ الشارع إذا نصب طريقا ، ولم يلاحظ في نصبها سوى مصلحة غلبة إيصالها إلى الواقع ، فإذا قامت في مورد من دون علم بموافقتها للواقع ولا بمخالفتها له ، فلا إشكال في وجوب متابعتها حينئذ. وإذا تعارضت مع مثلها في مورد مع استجماع كلّ من المتعارضين لشرائط الحجّية ، فلا يجوز العمل بكلّ منهما عينا ولا تخييرا. أمّا الأوّل فلفرض تمانعهما. وأمّا الثاني فلعدم وجود المقتضي للعمل ، لأنّ العلم إجمالا بمخالفة إحدى الطريقين للواقع يوجب خروج الاخرى ، أيضا من وصف الطريقيّة ، لما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من كون مصلحة الطريقيّة في كلّ منهما بخصوصها مقيّدة بعدم معارضتها بمثلها ، فمع المعارضة تخرج كلّ واحدة منهما من وصف الطريقيّة.

والسرّ في ذلك : أنّا قد علمنا بعدم إرادة الشارع سلوك طريق مخالفة للواقع ، لأنّ إرادته ذلك منافية لغرضه من نصب الطريق ، لأنّ نصبها كما عرفت إنّما هو لمجرّد التوصّل بها إلى الواقع ، فمع العلم بمخالفتها له لا يعقل الأمر بسلوكها في التوصّل بها إلى الواقع ، فمع اشتباهها بما هو غير معلوم المخالفة للواقع ، مع فرض استجماع كلّ منهما لشرائط الحجّية ، واندراجهما في عنوان دليل حجّيتهما ، مثل كون كلّ منهما خبر عدل ضابط مثلا ، لا يعلم اتّصاف شيء منهما بصفة الطريقيّة. ومجرّد اتّصاف إحداهما بها في الواقع غير مجد في المقام ، إذ لا بدّ في تلبّس الطريق بلباس الطريقيّة أن يكون كذلك عند المكلّف ، لأنّه المأمور بسلوكها والمتوصّل بها إلى الواقع ، فمع اشتباه الطريق بغيرها فبأيّ منهما أخذ لا يعلم كونها طريقا ، فلا يحصل

.................................................................................................

______________________________________________________

له العلم بمناط العمل.

وهذا هو الفارق بين الطريقين المتدافعين والواجبين المتزاحمين ، لأنّ المقتضي للعمل في كلّ من الواجبين ـ على ما عرفت تحقيقه ـ موجود ، بخلاف ما نحن فيه. ومن هنا لا يصحّ إجراء الدليل المتقدّم في الواجبين المتزاحمين هنا ، لأنّه بعد تقييد دليل اعتبار الطريقين بإمكان العمل بكلّ منهما ، لا يبقى مقتض للعمل بهما ولو تخييرا في صورة التعارض على ما عرفت ، بخلاف الواجبين المتزاحمين على ما تقدّم.

نعم ، منع وجود المقتضي فيما نحن فيه إنّما هو بالنسبة إلى جواز العمل بخصوص مدلول كلّ منهما ولو تخييرا ، وهو لا ينافي دعوى بقاء المقتضي لنفي احتمال ثالث. فإذا دلّت إحداهما على الوجوب والاخرى على الحرمة ، فتساقطهما في إثبات أحدهما لا ينافي نفيهما احتمال غيرهما ، أعني : احتمال الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة ، لأنّ مقتضى نصب الطريق هو كونها مثبتة لمدلولها ، فإذا دلّت على وجوب فعل في الواقع فهي تدلّ بالالتزام على انتفاء غيره من الأحكام الأربعة. فإذا عارضته طريق اخرى دالّة على حرمته فهما إنّما تتعارضان في إثبات الوجوب والحرمة لا في نفي غيرهما أيضا ، ولذا اختار المصنّف رحمه‌الله أنّ مقتضى القاعدة على القول باعتبار الأخبار من باب الطريقيّة هو التساقط والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما دون المخالف لهما ، بل يحكم بالتخيير حينئذ من باب العقل.

فإن قلت : إن الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقة ، فمع انتفاء المتبوع ينتفي تابعة أيضا لا محالة ، فأين الدلالة الالتزاميّة؟

قلت : نعم ، ولكن مجموع الطريقين المتعارضين بمنزلة طريق واحد في إثبات مدلول إحداهما إجمالا ، وثبوت ذلك مستلزم لنفي غيره. ونظير ما نحن فيه ما لو اشتبه الخبر المعتبر بغيره ، كاشتباه الصحيح بالضعيف ، وإن كان بينهما فرق من جهة أنّ النافي للثالث هنا هو الخبر المعلوم العنوان ، وهو الخبر الصحيح وإن اشتبه

حينئذ بالتوقّف ، لا بمعنى أنّ أحدهما المعيّن واقعا طريق ولا نعلمه بعينه ، كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ، بل بمعنى أنّ شيئا منهما ليس طريقا في مؤدّاه بخصوصه. ومقتضاه : الرجوع إلى الاصول العمليّة إن لم نرجّح (*) بالأصل الخبر المطابق له ، وإن قلنا بأنّه مرجّح خرج عن مورد الكلام ، أعني التكافؤ ، فلا بدّ من فرض الكلام فيما لم يكن هناك أصل مع أحدهما ، فيتساقطان من حيث جواز العمل بكلّ

______________________________________________________

عينا في الظاهر ، وفيما نحن فيه هو المردّد بين المشتبهين من دون أن يكون معلوما لنا ولو إجمالا بعنوان اعتباره ، لفرض اجتماع شرائط الاعتبار في كلّ منهما.

ويمكن الفرق بينهما بوجه آخر يستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله ، وهو أنّ الطريقين فيما نحن فيه لأجل تعارضهما تتساقطان ، فلا ينهض شيء منهما لإثبات مؤدّاه على نحو ما تقدّم ، بخلاف الصحيح المشتبه بالضعيف ، لأنّ الصحيح معتبر في إثبات مؤدّاه في الواقع وإن اشتبه في نظرنا.

فإن قلت : إنّك قد اعترفت بأنّ الخبر المعتبر من باب الطريقيّة لا بدّ أن يكون طريقا في نظر المكلّف دون الواقع.

قلت : إنّ اشتباه الصحيح بغيره لا يوجب خروجه من وصف الطريقيّة وكونه معتبرا في إثبات مؤدّاه ، غاية الأمر أنّ اشتباه شخصه وعدم معرفته بعينه يمنع ترتيب مقتضاه عليه بالخصوص. وتظهر ثمرة اعتباره في نفي الاحتمال الثالث على ما عرفت ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ الطريقين من حيث اجتماعهما لجميع شرائط الحجّية ، وعدم تميّز ما هو طريق منهما ولو بعنوان إجمالي ، مع تمانعهما في المؤدّى ، لا يتّصف شيء منهما بوصف الطريقيّة بالنسبة إلى إثبات خصوص مؤدّاه.

والإنصاف أنّ المقام بعد لم يصف عن شوب الإشكال ، إذ يمكن أن يقال بكون ما نحن فيه من قبيل اشتباه الصحيح بغيره ، إذ الطريقان المتعارضتان وإن احتملت مخالفة كلّ منهما للواقع ، إذ الفرض عدم العلم بانحصار الواقع فيهما ، إلّا

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «نرجّح» ، يرجّح.

منهما ؛ لعدم كونهما طريقين ، كما أنّ التخيير مرجعه إلى التساقط من حيث وجوب العمل (٢٨١٨).

هذا ما تقتضيه القاعدة في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ، إلّا أنّ الأخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح (*). وحينئذ فهل يحكم بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط (٢٨١٩) أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما ، كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ، وكذا بين

______________________________________________________

أنّ ما علم إجمالا هي مخالفة إحداهما لأجل تمانعهما للواقع ، وأمّا الاخرى فلا. ولا ريب أنّه كما يعتبر في اعتبار الخبر عدالة الراوي وضبطه مثلا ، كذا يشترط فيه عدم العلم بمخالفة مؤدّاه للواقع ، وإلّا خرج من كونه طريقا إلى الواقع ، فحينئذ يكون أحد المتعارضين فاقدا لبعض شرائط اعتباره ، وغاية الأمر اشتباه الواجد للشرط بالفاقد له في نظرنا ، نظير اشتباه الصحيح بغيره ، فإن كان ذلك موجبا لخروج كلّ منهما من وصف الطريقيّة فليكن كذلك في المقامين ، فتأمّل.

٢٨١٨. يعني : بكلّ منهما عينا لا بواحد غير معيّن.

٢٨١٩. مراده العمل بأحدهما المطابق للاحتياط إن كان أحدهما مطابقا له وإلّا فلا يتخيّر. وكذا المراد بالقول الثالث هو العمل بالاحتياط مع إمكانه وإلّا فالتخيير ، كما إذا دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الحرمة.

نعم ، ربّما يورد عليه أنّ هذه الوجوه أو الأقوال إنّما هي مفروضة بعد فرض عدم تساقط الخبرين ، بمعنى اعتبارهما في نفي الاحتمال الثالث ، ومع ذلك كيف يحكم بوجوب العمل بالاحتياط المخالف لهما معا؟

وفيه : أنّ المراد بمخالفته لهما مخالفته لخصوص كلّ منهما ، بمعنى عدم تأتّي تمام الاحتياط بالعمل بخصوص كلّ منهما ، وإن كان خصوص كلّ منهما موافقا للاحتياط في الجملة ، كما يظهر من تمثيله بالظهر والجمعة والقصر والإتمام.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : فلذا لم نحكم بالتساقط.

القصر والإتمام؟ وجوه : المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين ، الأوّل ؛ للأخبار المستفيضة (٢٨٢٠) بل المتواترة الدالّة عليه.

ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية المحكيّة عن عوالي اللآلي الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة. وهي ضعيفة جدّا ، وقد طعن في ذلك التأليف (٢٨٢١) وفي مؤلّفه ، المحدّث البحراني قدس‌سره في مقدّمات الحدائق (٥).

______________________________________________________

٢٨٢٠. منها صحيحة عليّ بن مهزيار قال : «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فيروي بعضهم أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم أن لا تصلّيها إلّا على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقّع عليه‌السلام : موسّع عليك بأيّة عملت».

ومنها ما رواه في الوسائل ، فإنّه قال أحمد بن علي الطبرسي في الاحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبد الله بن الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام يسأله عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، فهل يجب عليه أن يكبّر؟ إلى أن قال في الجواب : «إنّ في ذلك حديثين ، أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثمّ جلس فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» إلى غير ذلك من الأخبار الصريحة في المقام. وسنشير إلى الجواب عن معارضتها بأخبار التوقّف والاحتياط.

٢٨٢١. قاله في المقدّمة السادسة من مقدّمات كتابه في مقام ترجيح المقبولة على المرفوعة ، قال : «مع ما هي ـ يعني : المرفوعة ـ عليه من الرفع والإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور» انتهى.

وأمّا أخبار التوقّف (٢٨٢٢) الدالة على الوجه الثالث ـ من حيث إنّ التوقّف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل كما فيما لا نصّ فيه ـ فهي محمولة على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، كما يظهر من بعضها ، فيظهر منها : أنّ المراد ترك العمل وإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام عليه‌السلام ، لا العمل بها بالاحتياط.

______________________________________________________

٢٨٢٢. هذا إشارة إلى دليل الوجه الثالث ، وتقريب الاستدلال به ، وإلى الجواب عنه. أمّا التقريب فيه فبأنّ الأمر بالتوقّف وإن كان ظاهرا في التوقّف عن الفتوى إلّا أنّه يستلزم الاحتياط في العمل. ووجه الاستلزام ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في الشبهة البدويّة التحريميّة من أنّ ظاهر التوقّف المطلق السكون وعدم المضيّ ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصّل قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». فلا يرد على الاستدلال «أنّ التوقّف في الحكم الواقعي مسلّم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقّف في العمل لا معنى له» انتهى. وهذه الأخبار لأجل كثرتها قد أغنتنا عن ملاحظة سندها ، وصارت بذلك راجحة على أخبار التخيير.

وأمّا الجواب ، فبأنّ أخبار التوقّف والاحتياط منها ما هو وارد في الشبهات البدويّة ، وقد تقدّمت مع جوابها في مسألة البراءة. ومنها ما هو وارد في تعارض الأخبار. والجواب عنها بعد حمل مطلقها على مقيّدها ـ بظهور اختصاصها بزمان التمكّن من الرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، مثل قوله عليه‌السلام في المقبولة : «فأرجه حتّى تلقى إمامك» ونحن لا نتحاشى عنه ، لأنّا إنّما نقول بالتخيير في أمثال زماننا الذي لا يمكن الرجوع فيه إلى خدمته. ومع تسليم المعارضة وعدم إمكان الجمع بين الأخبار نقول : إنّ الترجيح لأخبار التخيير ، لاعتضادها بعمل المشهور ، بل في محكيّ المعالم : «لا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب ، وعليه أكثر أهل الخلاف» انتهى. ومثله عن نقد الرجال. ونسبه بعض الأفاضل إلى المجتهدين. وفي بعض شروح

ثمّ إنّ حكم الشارع في تلك الأخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين لا يدلّ على كون حجّية الأخبار من باب السببيّة بتوهّم أنّه لو لا ذلك لأوجب التوقّف ؛ لقوّة احتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريّا عمليّا (٢٨٢٣) في مورد التوقّف ، لا حكما واقعيّا ناشئا من تزاحم الواجبين ، بل الأخبار المشتملة (٢٨٢٤) على الترجيحات وتعليلاتها أصدق شاهد على ما استظهرناه من كون حجّية الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح. ومراد من جعلها من باب السببيّة (*) عدم إناطتها بالظنّ الشخصي ، كما يظهر من صاحب المعالم رحمه‌الله في تقرير دليل الانسداد.

ثمّ المحكيّ عن جماعة بل قيل إنّه ممّا لا خلاف فيه : أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّرا في عمل نفسه. وإن وقع للمفتي لأجل الإفتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي ، فيتخيّر في العمل كالمفتي. ووجه الأوّل واضح.

وأمّا وجه الثاني ، فلأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ، إلّا أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص

______________________________________________________

التهذيب : هو مذهب الجمهور. وفي استبصار الشيخ : «إذا ورد الخبران المتعارضان ، وليس بين الطائفة إجماع على صحّة أحد الخبرين ولا على إبطال الآخر ، فكأنّه إجماع على صحّة الخبرين ، وإذا كان إجماعا على صحّتهما كان العمل بهما جائزا سائغا» انتهى. ومثله عن العدّة. وأنت خبير بأنّ هذه الكلمات الظاهرة في دعوى الإجماع ، مع تسليم عدم كونها حجّة مستقلّة في المقام كما يظهر من بعضهم ، فلا أقلّ من كونها مرجّحة لأخبار التخيير.

٢٨٢٣. ثابتا على خلاف الأصل ، لما تقدّم من أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الخبرين المعتبرين من باب الطريقيّة هو التوقّف ، بمعنى الحكم بتساقطهما والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما.

٢٨٢٤. مضافا إلى أدلّة اعتبار الأخبار.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «السببيّة» ، الأسباب.

مقتضياتها ودفع موانعها ، فإذا أثبت ذلك المجتهد ، وأثبت جواز العمل لكلّ من الخبرين المتكافئين ، المشترك بين المقلّد والمجتهد ، تخيّر المقلّد كالمجتهد (٢٨٢٥) ، ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم عليه دليل ، فهو تشريع.

ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي ، فيفتي بما اختار (٢٨٢٦) ؛ لأنّه حكم للمتحيّر ، وهو المجتهد (٢٨٢٧). ولا يقاس هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء

______________________________________________________

٢٨٢٥. لا يخفى أنّ أخبار التخيير إنّما يدلّ على التخيير في العمل بالخبرين المتعارضين والالتزام بمؤدّى أحدهما في الجملة ، ساكتا عن كون هذا ابتدائيّا أو استمراريّا. وهذا التخيير لا دخل له بالتخيير في مقام العمل ، لعدم الملازمة ، إذ قد يثبت التخيير في مقام الالتزام دون العمل ، كما لو كان التخيير ابتدائيّا ، إذ بعد الالتزام بأحدهما يتعيّن عليه حينئذ ما التزمه. فإن أراد بتحيّر المقلّد تحيّره بهذا المعنى فلا ريب أنّه لا حظّ للمقلّد في الالتزام بمؤدّيات الطرق لا تعيينا ولا تخييرا ، لأنّه وظيفة المجتهد ، ووظيفة المقلّد هو الالتزام بما يفتي له مجتهده بعد الالتزام بمؤدّيات الطرق. وإن أراد به تحيّره في مقام العمل ، يرد عليه أنّه يحتمل أن يتعيّن عليه ما يختار المجتهد لنفسه ، فلا رافع لهذا الاحتمال إلّا عدم الدليل على هذا التعيّن ، فيكون إيجابه عليه تشريعا ، بل أصالة البراءة تقتضي خلافه ، بناء على كون المقام من مواردها دون أصالة الاشتغال. وممّا ذكرناه يظهر أنّ الاولى في المقام هو التمسّك بالوجه الثاني.

٢٨٢٦. يلزمه أن لا يجوز له الإفتاء قبل اختيار أحد الحكمين لعمل نفسه ، فيرد عليه : أنّه قد لا يكون لعمل المجتهد حظّ في الحكمين ، كما في الأحكام المختصّة بالنساء إذا تعارض خبران في بعض أحكامهنّ. اللهمّ إلّا أن يريد باختيار المجتهد اختياره لأحد الحكمين له أو لمقلّديه. ويرد حينئذ أيضا : أنّ إلزام المجتهد بعدم الإفتاء قبل اختياره بهذا المعنى تكليف زائد عليه ، ولا دليل عليه ، بل الأصل ينفيه ، فتأمّل.

٢٨٢٧. ربّما يمنع ذلك ، لأنّ المقلّد أيضا بعد عرض الخبرين المتعادلين له و

الحكم الشرعي ، مع أنّ حكمه ـ وهو البناء على الحالة السابقة ـ مشترك بينه وبين المقلّد ؛ لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك ، والتحيّر هنا في الطريق إلى الحكم ، فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به.

فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ؛ لأنّه أخبر وأعرف به ، مع تساويهما عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده ، فلا عبرة بنظر المقلّد (٢٨٢٨). وكذا لو فرضنا تكافؤ قولي اللغويين في معنى لفظ الرواية ، فالعبرة بتخيّر المجتهد ، لا تخيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على الآخر. والمسألة محتاجة إلى التأمّل ، وإن كان وجه المشهور أقوى (٢٨٢٩).

هذا حكم المفتي. وأمّا الحاكم والقاضي ، فالظاهر كما عن جماعة : أنّه يتخيّر أحدهما فيقضي به ؛ لأنّ القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخيّر ، ولما عن بعض من أنّ تخيّر المتخاصمين لا يرتفع معه الخصومة. ولو حكم على طبق إحدى الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكم على طبق الاخرى في واقعة اخرى؟ المحكيّ عن العلّامة رحمه‌الله وغيره : الجواز ، بل حكي نسبته إلى المحققين ؛ لما عن النهاية : من أنّه

______________________________________________________

إفهامه لمؤدّاهما وتعارضهما وتعادلهما يتحيّر في العمل بهما ، غاية الأمر أنّه عاجز عن القيام بجميع جهات العمل بهما ، والمجتهد متحيّر من حيث تعارضهما وتعادلهما. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المتبادر من أخبار التخيير أنّ المأخوذ في موضوعه هو تحيّر من يتمكّن من العمل بهما لو لا معارضتهما ، لا مطلق المتحيّر والجاهل بالحكم.

٢٨٢٨. لا يخفى أنّ جواز تقليد المجتهد الذي انكشف خطائه عند مقلّده في بعض مقدّمات اجتهاده على سبيل القطع في غاية الإشكال ، بل الظاهر تعيّن تقليد غيره من المجتهدين الذين لم يكونوا كذلك.

٢٨٢٩. يظهر وجهه ممّا قدّمناه.

ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ، ولا يستبعد وقوعه ـ كما لو تغيّر اجتهاده ـ إلّا أن يدلّ دليل شرعيّ خارج على عدم جوازه ، كما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢٨٣٠) قال لأبي بكر : " لا تقض في الشيء الواحد بحكمين مختلفين".

أقول : يشكل الجواز ؛ لعدم الدليل عليه (٢٨٣١) ؛

______________________________________________________

٢٨٣٠. يحتمل أن يريد به النهي عن القضاء في القضيّة الشخصيّة بحكمين مختلفين ، فلا يكون لهذه الرواية مدخل فيما نحن فيه.

٢٨٣١. ممّا ذكره يظهر الكلام في غير مقام الحكومة والقضاء أيضا ، إذ الخلاف في كون التخيير استمراريّا أو ابتدائيّا آت في مقام الإفتاء أيضا. وتوضيحه : أنّه قد يستدلّ على الأوّل بوجوه :

أحدها : إطلاق الأخبار الدالّة على ثبوت التخيير ، لأنّها بإطلاقها تشمل صورة الأخذ بأحدهما أيضا.

وثانيها : حكم العقل به ، إذ مناط حكمه بالتخيير ابتداء وقبل الأخذ بأحد المتعارضين إنّما هو تحيّره في مقام العمل لأجل تكافؤ الدليلين المتعارضين ، وهذا المناط موجود بعد الأخذ بأحدهما أيضا ، إذ مجرّد الأخذ أحدهما لا يصيّره حقّا وراجحا على الآخر ، فالعقل كما يحكم بالتخيير قبل الأخذ بأحدهما كذلك بعده ، لبقاء مناط حكمه بعده أيضا بالفرض.

وثالثها : استصحاب حكم التخيير.

وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى ضعف جميع هذه الوجوه.

أمّا الأوّل فبمنع الإطلاق ، لأنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وبعبارة اخرى : أنّها واردة لبيان أصل شرعيّة التخيير للمتحيّر ، فلا دلالة فيها على كونه ابتدائيّا أو استمراريّا. نعم ، الأوّل هو المتيقّن منها.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثاني فبسكوت العقل عن حكم التخيير بعد الأخذ بأحد الدليلين ، لأنّ حكمه بذلك قبل الأخذ بأحدهما لأجل تحيّره وعدم الدليل على الترجيح لأحدهما ، وبعد الأخذ بأحدهما في واقعة لا يحكم بالتخيير في واقعة اخرى ، لاحتمال تعيّن ما أخذه في الواقعة الاولى في هذه الواقعة ، كما يدّعيه القائل بكون التخيير بدويّا ، فمع تأتّي هذا الاحتمال يسقط عن الحكومة التي كان عليها قبل الأخذ بأحدهما ، لانتفاء هذا الاحتمال في أوّل الأمر.

والسر فيه : أنّ الجاهل بطريق إلى مقصده إنّما يكون متحيّرا إذا كان قاصدا للتوصّل به إلى مقصوده ، ولا ريب أنّ مقصود المكلّف في موارد إجمال التكاليف هو التخلّص عن تبعة استحقاق العقاب عليها ، وهذا كما يحصل بتحصيل نفس الواقع كذلك مع تحصيل ما رضي الشارع به عن الواقع. والعقل عند تعارض دليلين متعادلين بعد ثبوت عدم جواز طرحهما معا ، يكشف بعدم إمكان الجمع بينهما وعدم جواز طرحهما عن رضا المعصوم عليه‌السلام بسلوك إحدى الطريقين. وأمّا بعد الأخذ بإحداهما في واقعة ، فلمّا كان إبراء الأمارة المأخوذة بالنسبة إلى سائر الوقائع يقينا وغيرها مشكوكا فيه ، فالعقل لا يعدل عن القطعيّ إلى المشكوك فيه.

وهذا إن قلنا باعتبار الأخبار من باب الطريقيّة. وإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة وتزاحم الواجبين كان الأقوى استمرار التخيير ، لأنّ الوجه في حكم العقل بالتخيير في أوّل الأمر إنّما هو وجود مصلحة المأمور به في العمل بكلّ منهما ، وعدم رجحان إحدى المصلحتين على الاخرى ، وهذا المناط لا يختلف بالأخذ بأحدهما وعدمه.

هذا ، ويمكن منع الفرق بين القول بالطريقيّة والسببيّة ، بدعوى كون مقتضى القاعدة على الأوّل أيضا استمرار التخيير ، وذلك لأنّ الحكم بالتخيير العقلي ابتداء وقيل الأخذ بأحد الدليلين ـ بناء على القول بالطريقيّة ـ مبنيّ على عدم الإغماض عمّا حقّقه المصنّف رحمه‌الله سابقا ، من كون مقتضى القاعدة حينئذ هو التساقط و

لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وأمّا العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما فهو ساكت من هذه الجهة أيضا ، والأصل عدم حجّية الآخر له بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله.

______________________________________________________

الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، وأمّا مع الإغماض عنه ، بدعوى صحّة تزاحم الطريقين ، وعدم خروجهما بذلك من وصف الطريقيّة ، وتسليم حكم العقل بالتخيير حينئذ مع عدم رجحان أحد الدليلين على الآخر ، فلا ريب أنّ مناط هذا الحكم العقلي ـ وهو تزاحم الطريقين ، وعدم رجحان إحداهما على الاخرى ـ باق بعد الأخذ بإحداهما أيضا ، إذ مجرّد الأخذ بإحداهما لا يوجب قوّة في طريقيّة المأخوذ منهما عند العقل حتّى ترجّح بذلك على صاحبها ، ويسقط العقل عن الحكم بالتخيير في الوقائع المتأخّرة. ولعلّه إلى هذا أشار المصنّف رحمه‌الله بالتأمّل.

وأمّا الثالث فبمنع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ، لأنّ التحيّر الذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير إن كان باقيا بعد الأخذ بأحد المتعارضين ، فالعقل يستقلّ بحكمه على نحو ما كان مستقلّا به قبله ، وإن لم يكن باقيا فلا معنى لاستصحاب الحكم بالتخيير ، لارتفاع موضوعه. مضافا إلى أنّ التخيير إنّما كان ثابتا للمتحيّر الذي كان عالما بعدم تعيّن أحد الدليلين عليه ، ولم يعلم بقاء هذا الموضوع إلى زمان الأخذ بأحدهما ، لاحتمال تعيّن المأخوذ عليه بعد الأخذ به. وإلى هذا أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : «لأنّ الثابت سابقا ...».

وإذا عرفت بطلان أدلّة القول باستمرار التخيير ثبت القول بكون التخيير بدويّا ، لأنّه المتيقّن ، مضافا إلى قاعدة الاشتغال فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من احتمال تعيّن المأخوذ بعد الأخذ به.

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : إنّا نمنع كون المقام من موارد قاعدة الاشتغال ، لأنّ أصالة البراءة عن التكليف الزائد تنفي احتمال تعيّن المأخوذ ، لكونه تكليفا زائدا.

قلت : مع التسليم إنّ هذا إنّما يتمّ فيما دار الأمر بين التعيين والتخيير في نفس المكلّف به دون طريقه ، والتردّد هنا في طريقه ، لأنّ مرجع الشبهة إلى الشكّ في كيفيّة امتثال المتعارضين بعد الأخذ بأحدهما وأنّها على وجه التعيين أو التخيير ، وقد قرّر في محلّه أنّ مرجع الشبهة إذا كان إلى الشكّ في بعض شرائط كيفيّة الامتثال فالمتعيّن في مثله الاشتغال دون البراءة ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في أواخر مسألة البراءة.

ولكن ربّما يدفعه ما قدّمناه فيما أوردناه على الدليل الثاني للقول الأوّل ، من كون مقتضى القاعدة بعد ثبوت التخيير في الجملة هو الحكم باستمراره ، سواء قلنا باعتبار الأخبار من باب الطريقيّة أم السببيّة.

وقد يستدلّ على المقام أيضا باستصحاب الحكم المختار ، لأنّه بعد الالتزام بمقتضى أحد الدليلين والعمل به يتعلّق به ما تضمّنه من التكليف ، والأصل بقائه في الوقائع الأخر أيضا.

وفيه : ما عرفت من عدم الإجمال في حكم العقل أصلا. مضافا إلى حكومة استصحاب التخيير عليه ، لأنّ الشكّ في بقاء الحكم المختار مسبّب عن الشكّ في بقاء التخيير.

وبلزوم الهرج والمرج المنافي لنظم العالم ، إذ على القول باستمرار التخيير يكون الحكم تابعا لاختيار المكلّف ، لأنّه إنّما يختار في كلّ واقعة ما يوافق غرضه في تلك الواقعة.

وفيه : منع لزوم الهرج ، لندرة مورد تعارض فيه دليلان متكافئان بحيث لا يترجّح أحدهما على الآخر من وجه أصلا. وما يوجد من ذلك فاللازم منه ليس بأكثر ممّا يلزم من إيكال الشارع أمر الزوجة إلى زوجها ، فيتزوّج بها مرّة ويفارقها اخرى ، أو نحو ذلك ممّا يشابهه.

نعم ، لو كان الحكم بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين كان الأقوى استمراره ؛ لأنّ المقتضي له في السابق موجود بعينه ، بخلاف التخيير الظاهريّ في تعارض الطريقين ، فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ، بخلاف التخيير الواقعي ، فتأمّل.

واستصحاب التخيير غير جار ؛ لأنّ الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخيّر ، فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضوعه الأوّل. وبعض المعاصرين رحمه‌الله استجود هنا كلام العلّامة رحمه‌الله ؛ مع أنّه منع من العدول عن أمارة إلى اخرى وعن مجتهد إلى آخر ، فتدبّر.

______________________________________________________

وتحقيق المقام بعد ما عرفت من ضعف أدلّة القولين : أنّا إن قلنا باعتبار الأخبار من باب السببيّة فلا مناص من القول باستمرار التخيير على ما عرفت. وإن قلنا باعتبارها من باب الطريقيّة فمقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، إلّا أنّ الأخبار قد دلّت على ثبوت التخيير في مرحلة الظاهر ، وقد عرفت قصور هذه الأخبار من إفادة استمرار التخيير ، فالمتّجه على هذا القول هو كون التخيير بدويّا لا استمراريّا.

تنبيه : إنّه على المختار من كون التخيير بدويّا ، وأنّه بعد الأخذ بأحدهما يتعيّن عليه المأخوذ ، فهل الملزم هو مجرّد الأخذ والالتزام بمؤدّى أحد المتعارضين ولو قبل وقت العمل به ، بأن يأخذ به ليعمل به في وقته ، أو الالتزام به في زمان الابتلاء به ، أو هو مع العمل به؟ وجوه ثالثها أوجهها ، نظير اختلافهم في الملزم في مسألة التقليد. ويرشد إلى الأوّل الجمود على ظاهر الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «بأيّهما أخذت وسعك». وإلى الثاني أنّ الأمر بالأخذ والالتزام إنّما هو من باب المقدّمة للعمل والتوصّل به إليه ، ولا يتعلّق الأمر بالمقدّمة قبل وجوب ذيها ، لكونه عبثا وسفها ، فالأمر بالأخذ لا بدّ أن يكون في زمان وجوب العمل لا قبله. وإلى الثالث أنّ الأخذ بمؤدّى الدليل ولو في وقت وجوب العمل إنّما هو من باب المقدّمة للعمل ، ولا مطلوبيّة له في ذاته ، فالمطلوب بالأمر بأخذ في الحقيقة هو العمل ،

ثمّ إنّ حكم التعادل (٢٨٣٢)

______________________________________________________

فلا بدّ أن يكون المراد بقوله عليه‌السلام : «بأيّهما أخذت وسعك» هو التوسعة في العمل بأيّهما أراد لا في مجرّد الالتزام. ولعلّ هذا هو الأقوى في المقام.

٢٨٣٢. توضيح المقام : أنّه كما قد تتعارض الأمارات الشرعيّة بعضها مع بعض ، فربّما يوجد هنا مرجّح لأحدهما ، فيرجّح الراجح منهما على الآخر ، وقد يتعادلان فيثبت التخيير ، كذلك مع تعارض أقوال أهل اللغة قد يوجد مرجّح لأحدها وقد لا يوجد.

ولكنّهم قد ذكروا هنا أنّه إن كان بين المتعارضين منها من النسب تباين كلّي ، كما إذا قال أحدهما : إنّ العين بمعنى الذهب ، وقال الآخر : بمعنى الفضّة ، أو عموم من وجه ، كما إذا قال أحدهما : الغناء هو الصوت المطرب ، والآخر : إنّه الصوت مع الترجيع ، يحكم بالاشتراك اللفظي حينئذ. وإن كان بينهما عموم وخصوص مطلقا يؤخذ بقول من ادّعى العموم. والوجه في المقامين كون المثبت مقدّما على النافي ، إذ المثبت ربّما يطّلع على ما لم يطّلع عليه النافي ، إذ مرجع تعارضهما إلى دعوى المثبت اطّلاعه على كون اللفظ موضوعا لهذا المعنى ، ودعوى النافي عدم اطّلاعه عليه ، فلا تعارض بينهما حقيقة. فحيث ادّعى كلّ منهما ما يباين الآخر أو يعمّه من وجه فيؤخذ بكلّ منهما ، لتصادقهما على الثاني في مادّة الاجتماع ، وأمّا في مادّة الافتراق فهما فيها كمدّعي المباين للآخر.

وأمّا إذا كان بينهما عموم مطلقا ، فإنّ مرجع دعوى مدّعي العموم أيضا إلى دعوى اطّلاعه على بعض الموارد التي لم يطّلع عليها الآخر ، فلا يتحقّق التنافي أيضا. وهذا هو الأصل في تعارض اللغات على ما ذكروه. وأوّل من تصدّى لذلك هو العلّامة الطباطبائي في شرحه على الوافية.

وأمّا لو قام بعض القرائن الموهنة للاشتراك اللفظي (*) أو حمله على العموم في الصورة الثالثة ، كما لو ادّعى أحدهما وضع اللفظ في لغة طائفة من العرب ، وادّعى

__________________

(*) في بعض النسخ : في الصورتان الأوليين.

.................................................................................................

______________________________________________________

الآخر وضعه لما يباينه في هذه اللغة ، مع كونهما من أهل الخبرة والتّتبع ، بحيث يبعد عدم اطّلاع أحدهما على ما لم يطّلع عليه الآخر ، فيتوقّف ويرجع إلى مقتضى الاصول كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

ومن هنا يظهر أنّ تعارض أقوال أهل اللغة يفارق في الحكم تعارض الأمارات المنصوصة في أمرين : أحدهما : عدم حمل العامّ على الخاصّ إذا كانا مطلقين ، والآخر : الحكم بالتوقّف عند التعارض ، لأنّ كلّا منهما مخالف لحكم متعارضات الأخبار ، على ما هو التحقيق من حمل العامّ على الخاصّ منها ، والحكم بالتخيير في المتعارضين المتكافئين منها.

والوجه في ذلك واضح ممّا قرّرناه ، لأنّ الحكم بالاشتراك اللفظي في الصورتين الأوليين من تعارض أقوال أهل اللغة إنّما هو لعدم التعارض في الحقيقة على ما عرفت ، والتعارض فيها إنّما يأتي بسبب القرائن الخارجة على ما أشرنا إليه. وكذلك الأخذ بالعموم في الثالثة لأجل ما عرفت من رجوع قول مدّعي العموم إلى دعوى الاطّلاع على ما لم يطّلع عليه الآخر ، بخلاف متعارضات الأخبار ، لأنّ الخبرين المتعارضين بالتباين أو العموم والخصوص من وجه أو مطلقا صادران عن متكلّم واحد أو متكلّمين في حكم متكلّم واحد ، مع اتّحاد التكليف ، ولا ريب في تحقّق التعارض حينئذ على الأوّلين ، وصيرورة الخاصّ قرينة عرفيّة على إرادة الخاصّ من العامّ في الثالث ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ الفرض فيه صدور كلّ من العامّ والخاصّ عن متكلّم من دون التفات منه حين استعماله إلى متكلّم آخر.

فإن قلت : إنّ المستعملين من أهل اللسان كلّهم بمنزلة متكلّم ومستعمل واحد ، لأنّ مرجع الاستعمالات جميعهم إلى استعمال مستعمل واحد ، وهو واضع الألفاظ ، أعني : يعرب بن قحطان على ما قيل ، لأنّ الجميع تابع له في الاستعمال.

قلت : هذا إنّما يتمّ لو كان استناد علماء اللغة في ضبط معاني الألفاظ وتدوينها إلى مجرّد النقل والرواية عن الواضع ، وليس كذلك ، لأنّ استنادهم و

في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ـ كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال ـ هو وجوب التوقّف ؛ لأنّ الظاهر اعتبارها من حيث الطريقية إلى الواقع ـ لا السببية المحضة ـ وإن لم يكن منوطا بالظنّ الفعلي ، وقد عرفت أنّ اللازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقّف والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام. إلّا أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات كما هو المشهور وسيجيء ، لم يتحقّق التعادل بين الأمارتين إلّا بعد عدم موافقة شىء منهما للأصل ، والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الثالث ؛ لأنّه طرح للأمارتين ، فالأصل الذي يرجع إليه هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ، كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى" الغناء" أو" الصعيد" أو" الجذع" من الشاة في الأضحية ، فإنّه يرجع إلى الأصل في المسألة الفرعيّة.

______________________________________________________

اعتمادهم في ضبط معاني الألفاظ إلى التتبّع والاجتهاد في موارد استعمالات أهل اللسان ، وهم ليسوا بمأمونين عن الخطأ في اجتهادهم من جهة استعمال علائم الحقيقة والمجاز. فمن ادّعى كون اللفظ موضوعا لمعنى خاصّ ، من جهة ملاحظة استعماله فيه أو تبادره منه عند أهل اللسان أو نحو ذلك ، فربّما يكون ذلك منه ناشئا عن غفلته عن استعمالهم له في فرد آخر أيضا اطّلع عليه صاحبه دونه ، أو كون التبادر ناشئا من قرينة خارجة مختفية عليه ، أو نحو ذلك.

وبالجملة ، إنّه مع كون استنادهم في ضبط معاني الألفاظ إلى اجتهادهم وتتبّعهم للموارد الجزئيّة من استعمالات أهل اللسان ، لا يبقى مقتض لحمل العموم في كلام بعض على الخاصّ في كلام بعض آخر.

وأمّا الحكم بالتوقّف في مورد تحقّق التعارض فلأنّ اعتبار قول أهل اللغة من باب الطريقيّة ، بمعنى أنّ اعتباره إمّا من باب الظنّ الشخصي أو النوعي المقيّد بعدم قيام ظنّ آخر بخلافه ، فإذا تعارض قولا أهل اللغة ، فعلى الأوّل إمّا أن يبقى مع أحدهما ظنّ فعلي بمقتضاه أو لا. فعلى الأوّل يجب الأخذ بما حصل الظنّ منه وطرح الآخر ، لانتفاء مناط اعتباره. وعلى الثاني يجب التوقّف والرجوع إلى مقتضى الاصول ، لانتفاء مناط اعتبار كلّ منهما. وكذلك على الوجه الثاني ، لفرض

بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدّمة للترجيح (٢٨٣٣) ، وهو : أنّ الرجوع إلى التخيير غير جائز إلّا بعد الفحص التامّ عن المرجّحات ؛ لأنّ مأخذ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدم إمكان الجمع في العمل لا يوجب إلّا طرح البعض ، فهو لا يستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلّا بعد عدم مزيّة في أحدهما اعتبرها الشارع في العمل ، والحكم بعدمها لا يمكن إلّا بعد القطع بالعدم أو الظنّ المعتبر أو إجراء أصالة العدم التي لا تعتبر فيما له دخل في الأحكام الشرعيّة الكلّية إلّا بعد الفحص التام ، مع أنّ أصالة العدم لا تجدي (٢٨٣٤) في استقلال العقل بالتخيير ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

تقيّد اعتبار كلّ منهما بعدم الآخر ، بل وكذلك إن قلنا باعتباره من باب الظنّ النوعي المطلق ، لخروج كلّ من القولين ـ لأجل التعارض ـ من وصف إفادته للظنّ ، نظير تعارض الأخبار على هذا القول ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله سابقا.

وأمّا على القول بالتخيير في تعارض الأخبار ، فإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة فلا دخل له فيما نحن فيه. وإن قلنا باعتبارها من باب الطريقيّة ، فهو من جهة التعبّد بأخبار التخيير لا من باب القاعدة والأصل.

٢٨٣٣. أمّا كونه خاتمة له فواضح ، لتضمّنه بيان كون مورد ثبوت التخيير هو صورة الفحص عن المرجّح وعدم وجدانه. ولكن كان عليه أن يبيّن مقدار الفحص أيضا ، ولعلّه قد اكتفي عنه بما ذكره في مسألة البراءة.

وأمّا كونه مقدّمة للترجيح فغير ظاهر الوجه ، لأنّ وجوب الفحص مبنيّ على وجوب الترجيح ، فالبحث عن وجوب الفحص عنه متأخّر عن البحث عن وجوب الترجيح لا مقدّم عليه. ولعلّه قد نظر إلى تقدّم نفس الفحص على الترجيح ، وإن تأخّر وجوبه عن وجوبه.

٢٨٣٤. لأنّها أصل قد ثبت التعبّد بمقتضاه شرعا في مورد الشكّ ، والعقل إنّما يستقلّ بحكم في مورد بعد إحراز جميع ما له دخل في حكمه وجودا وعدما على سبيل القطع أو الظنّ المعتبر ، وأصالة العدم لا ترفع الشكّ ، فلا يستقلّ معه العقل بالحكم بالتخيير.

وإن كان مأخذه الأخبار ، فالمتراءى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات وإن كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداء ، إلّا أنّه يكفي في تقييدها دلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ، المتوقّف على الفحص عنها ، المتمّمة فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينها. هذا ، مضافا إلى لزوم الهرج والمرج ، نظير ما يلزم من العمل بالاصول العمليّة واللفظية قبل الفحص.

هذا ، مضافا إلى الإجماع القطعي بل الضرورة من كلّ من يرى وجوب العمل بالراجح من الأمارتين ؛ فإنّ الخلاف وإن وقع من جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه لعدم اعتبار الظنّ في أحد الطرفين ، إلّا أنّ من أوجب العمل بالراجح أوجب الفحص عنه ، ولم يجعله واجبا مشروطا بالاطّلاع عليه. وحينئذ ، فيجب على المجتهد الفحص التام عن وجود المرجّح لإحدى الأمارتين.

______________________________________________________

وفيه نظر ، إذ لم يظهر فرق في ذلك بين الاصول التعبّدية والطرق غير العلميّة وإن أفادت الظنّ ، لأنّ حكم العقل بالتخيير في مورد الظنّ بعدم المزيّة لأحد المتعارضين إن كان لأجل إدراكه لعدم المزيّة في الواقع ، فلا ريب أنّ الظنّ لا يثبت ذلك ، لبقاء احتمال الخلاف معه. نعم ، لو اعتبر حكم العقل ظنّا لأجل كون بعض مقدّماته ظنّيا صحّ ذلك ، إلّا أنّه لا دليل على اعتباره حينئذ. وإن كان لأجل تعبّد الشارع بعدم احتمال الخلاف في مورد الظنّ حتّى يكون حكمه بالتخيير ظاهريّا ، فلا شكّ أنّ أصالة العدم أيضا كذلك ، لأنّ مقتضى اعتبارها شرعا عدم الاعتناء باحتمال خلاف مقتضاها.

وبالجملة ، إنّ الظنّ والشكّ متّحدان في الحكم ، فإن لم يقم على اعتبار الظنّ دليل شرعا فهو بمنزلة الشكّ في عدم جواز ترتيب أثر عليه ، وإلّا فهو والشكّ الذي رتّب الشارع عليه آثار المشكوك فيه بمنزلة العلم في الظاهر ، وإن فارقا العلم من بعض الجهات ، فتدبّر.

المصادر

______________________________________________________

(١) الفوائد الحائرية : ص ١١٧ ـ ١٢٥ ؛ القوانين ج ١ : ص ٤٤٠ ، ج ٢ : ص ١٠٢.

(٢) عوالي اللآلي ج ٤ : ص ١٣٦.

(٣) تمهيد القواعد : ص ٢٨٤.

(٤) القوانين ج ٢ : ص ٢٧٩.

(٥) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ٩٩.

المقام الثاني في التراجيح

الترجيح : تقديم إحدى الأمارتين على الاخرى في العمل ؛ لمزيّة لها عليها بوجه من الوجوه. وفيه مقامات (٢٨٣٥):

______________________________________________________

٢٨٣٥. لا يذهب عليك أنّ هنا مقامات خامسا كان للمصنّف رحمه‌الله أن يشير إليه أيضا ، وإن كان أكثر ما سنذكره مستفادا من تضاعيف كلماته ، إلّا أن ذكره في عنوان أدخل في معرفة وجوه التراجيح ومجاريها.

فنقول : إنّ الترجيح لا بدّ أن يكون لأسباب ، ولا بدّ في معرفة مجاريها من معرفة أقسام الأدلّة ، فليعلم أنّ الدّليلين المتعارضين إمّا لبّيان ، كالإجماعين المنقولين والشّهرتين كذلك ونحوهما ، أو لفظيّان كتعارض الخبرين ، أو مختلفان كالملفّق من اللبّي واللفظي.

وجميع أسباب الترجيح أيضا لا يخلو من أقسام أربعة ، لأنّها إمّا أن ترجع إلى جهة الصدور ، وهي الامور التي لها دخل في قوّة السند ، ككون أحدهما عالي السند أو كثير الرواة ، أو كون الرواية مسندة لا مرسلة ومتّصلة لا مقطوعة ، وكذا الامور التي ترجع إلى صفات الراوي ، ككونه أوثق أو أورع أو أفقه أو فطنا أو نحو ذلك.

وإمّا أن ترجع إلى وجه الصدور ، كورود الرواية في مقام التقيّة. وأمّا ورودها لمصالح أخر ـ كما حكي عن صاحب الحدائق ، وربّما يومي إليه بعض عبارات المصنّف رحمه‌الله أيضا ـ فليس في أخبارنا ما يطمئنّ بكونه من هذا الباب إن

.................................................................................................

______________________________________________________

لم يحصل الإجماع على خلافه.

ثمّ التقيّة تارة تكون في العمل ، كصلاة الإمام عليه‌السلام خلف المخالف وتوضّئه على طريقتهم عند الخوف منهم. وهذه ليست من أسباب الترجيح ، بمعنى كون الخبر المتضمّن لذلك مرجوحا بالنسبة إلى ما لم يكن كذلك ، إذ التكليف الذي تضمّنه الفعل الواقع في مقام التقيّة تكليف واقعي أوّلي ، بمعنى كون التكليف الواقعي للمكلّف عند الخوف من الكلاب الممطورة هو وجوب التوضّى مثلا على طريقتهم ، وليس حكما ظاهريّا كما توهّمه المحقّق القمّي رحمه‌الله. وقد بسطنا بعض الكلام في ذلك في تعليقنا على القوانين ، فراجع إليها. فإذا أورد خبر متضمّن لتوضّؤ الإمام عليه‌السلام على طريقتهم عند الخوف منهم ، وآخر متضمّن للتوضّى على مذهب الطائفة الناجية المحقّة ، لا يتحقّق التعارض بينهما أصلا.

واخرى في القول ، وهي على وجوه :

أحدها : أن لا يقصد الإمام عليه‌السلام بكلامه الصادر عنه في مقام التقيّة شيئا لا معناه الظاهري ولا غيره ، بل كان مقصوده مجرّد دفع الخوف عن نفسه بهذا الكلام.

وثانيها : أن يقصد بكلامه خلاف ظاهره من دون نصب قرينة عليه ، بأن كان لكلامه ظاهر وأراد خلافه دفعا للتقيّة ، ولذا قد يحمل على خلافه ، نظرا إلى اندفاع التقيّة بذلك ، فيكون خلافه مقصودا. وببالي أنّه يظهر ذلك من بعض كلمات المصنّف رحمه‌الله.

وفي إطلاقه نظر ، إذ على تقدير إرادة خلاف الظاهر فالتقيّة قرينة صارفة لا معيّنة ، فإذا كان خلاف ظاهره محتملا لوجهين لا يتعيّن المراد بذلك. اللهمّ إلّا أن يكون أحدهما أقرب المجازين ، فتدبّر.

وثالثها : أن يورد الكلام على وجه الإجمال حيثما تندفع التقيّة بذلك ، بأن كان الكلام ذا وجهين فصاعدا من دون ظهور له في أحدهما ، فأراد أحدهما من دون نصب قرينة عليه ، مثل ما سئل بعض العلماء عن عليّ عليه‌السلام وأبي بكر أيّهما

.................................................................................................

______________________________________________________

خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : من بنته في بيته ، ومنه قول عقيل : أمرني معاوية أن ألعن عليّا ألا فالعنوه.

وإمّا أن ترجع إلى جهة الدلالة ، ككون دلالة أحدهما بالعموم والآخر بالخصوص ، أو بالإطلاق والتقييد ، أو أحدهما بالمنطوق والآخر بالمفهوم.

وإمّا أن ترجع إلى جهة المضمون ، بأن كان مضمون أحدهما أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ، لأجل الموافقة للشهرة ونحوها. وجميع المرجّحات المذكورة في الباب لا يخرج من أحد الأقسام الأربعة المذكورة. وربّما يزاد عليها قسم خامس ، وهي مرجّحات المتن ، وقد أدرجناه في الأقسام المذكورة تقليلا للأقسام.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الدليلين المتعارضين لا يخلوان : إمّا أن يكونا لفظيّين ، أو لبّيين ، أو مختلفين. وأمّا معرفة تأتّي وجوه التراجيح كلّا أو بعضا في أقسام الأدلّة المتعارضة فتتوقّف على توضيح للمقام ، فنقول : إنّ الدليل اللفظي إمّا هو الكتاب أو السنّة النبويّة أو الإماميّة ، أعني : الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

وأمّا الكتاب فلا تتأتّى فيه مرجّحات السند ، لقطعيّة سنده. اللهمّ إلّا أن يفرض بالنسبة إلى اختلاف القراءات ، كقراءة يطهرن بالتخفيف والتضعيف. وكذا مرجّحات وجه الصدور ، لعدم تأتّي احتمال التقيّة في كلامه سبحانه. وأمّا مرجّحات الدلالة أو المضمون فهي جارية فيه ، كتعارض منطوق آية مع مفهوم اخرى ، أو ظاهري آيتين مع موافقة أحدهما للشهرة.

وأمّا السنّة النبويّة فيجري فيها جميع المرجّحات ما عدا مرجّحات وجه الصدور ، لعدم تقيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان الأحكام ، لعدم خوفه من أحد في عصره في إبلاغها. وأمّا السنّة الإماميّة فيجري فيها المرجّحات بأقسامها ، وهو واضح.

وأمّا الدليل اللبّي ، وهو فعل الإمام عليه‌السلام ، وتقريره ، والإجماع محصّلا ومنقولا على ما ستعرفه ، أو الشهرة أو ما يضاهيها ، فلا تجري فيه مرجّحات الدلالة مطلقا ، لفرض عدم كونه من قبيل اللفظ حتّى تصلح دلالته للقوّة والضعف.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا باقي المرجّحات ، فأمّا الفعل والتقرير فتجري فيهما المرجّحات الصدوريّة. وأمّا وجه الصدور فتجري في الثاني دون الأوّل ، لما عرفت من خروج التقيّة في العمل من موضوع البحث ، بخلاف التقيّة في تقرير شخص على عمله ، لجواز أن يأتي شخص في حضور إمام عليه‌السلام بفعل وقرّره عليه‌السلام على هذا الفعل خوفا منه أو من غيره. والتقيّة في التقرير كالتقيّة في القول في الاندراج في عنوان البحث ، كما يظهر ممّا قدمناه. وأمّا مرجّحات المضمون فتجري في كلّ منهما ، كموافقة كلّ منهما للكتاب أو الشهرة مثلا.

وأمّا الإجماع ، فليعلم أنّه لا يمكن فرض التعارض بين الإجماعين المحصّلين على طريقة المتأخّرين من الحدس ، لكشفه عن رضا المعصوم عليه‌السلام على سبيل القطع ، ولا يمكن رضاه بالمتنافيين. وأمّا على طريقة القدماء فيمكن فرض التعارض بينهما ، لكون اعتبار الإجماع عندهم باعتبار دخول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوال المجمعين ، ويمكن صدور أحد قولي الإمام عليه‌السلام عن تقيّة ، وعليه يمكن فرض انعقاد الإجماع على طرفي النقيض بالنسبة إلى شخص واحد.

وإذا تحقّق هذا فاعلم أنّ مرجّحات الصدور غير جارية في الإجماع مطلقا ، سواء كان محصّلا أم منقولا. أمّا المحصّل فواضح. وأمّا المنقول فلكون علمائنا رضوان الله عليهم مأمونين عن احتمال الكذب في حقّهم ، لعلمنا بصدقهم في كلّ باب. نعم ، ليسوا بمأمونين عن احتمال الخطأ والاشتباه ، فإذا ادّعى أحدهم الإجماع في مسألة فاحتمال كذبه في دعواه منتف وإن احتمل خطائه في تحصيل الإجماع ، ولذا لا نعتمد على كثير من الإجماعات ، كإجماعات القدماء ، لكثرة ما ظهر من خطائهم في دعواها بحيث لا يطمأنّ بها.

وأمّا مرجّحات وجه الصدور فقد عرفت الحال فيها بالنسبة إلى الإجماعات المحصّلة. وأمّا المنقولة فلا مسرح لها فيها ، لعدم خوف علمائنا في تحرير المسائل كي يدّعوا الإجماع على خلاف معتقدهم. وأمّا مرجّحات المضمون فتجري في

الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الداخليّة أو الخارجيّة الموجودة فيه. الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة. الثالث : في وجوب الاقتصار عليها أو التعدّي إلى غيرها. الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجيّة.

أمّا المقام الأوّل فالمشهور فيه وجوب الترجيح (١). وحكي عن جماعة منهم الباقلاني (٢٨٣٦) والجبّائيان ، عدم الاعتبار بالمزيّة وجريان حكم التعادل.

ويدلّ على المشهور مضافا إلى الإجماع المحقّق والسيرة القطعيّة والمحكيّة عن الخلف والسلف وتواتر الأخبار بذلك : أنّ حكم المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معا ، إمّا التخيير لو كانت الحجّية من باب الموضوعيّة والسببيّة ، وإمّا التوقّف لو كانت الحجّية من باب الطريقية ، ومرجع التوقّف أيضا إلى التخيير (٢٨٣٧) إذا لم نجعل الأصل من المرجّحات أو فرضنا الكلام في

______________________________________________________

المنقول مطلقا ، وفي المحصّل على طريقة القدماء دون المتأخّرين ، لما عرفت من عدم إمكان فرض التعارض على طريقتهم ، بخلافه على طريقة القدماء ، لكون الإجماع على طريقتهم كالنصّ القطعيّ الصدور. والله العالم والهادي إلى الصواب.

٢٨٣٦. ومنهم السيّد الصدر الشارح للوافية ، حيث ذهب إلى استحباب الترجيح ، كما سيأتي في كلام المصنّف رحمه‌الله. وسنشير إلى ما يتعلّق بكلامه. وعليه فالأقوال في المسألة ثلاثة : وجوب الترجيح ، واستحبابه ، وعدم شيء منهما.

٢٨٣٧. حاصله : أنّا إن لم نجعل الأصل من المرجّحات ، فمرجع التوقّف إلى التخيير إمّا بالنقل أو العقل. أمّا الأوّل فواضح ، لأنّ الأخبار بإطلاقها تدلّ على ثبوت التخيير في المتكافئين مطلقا ، سواء كان أحدهما مطابقا بالأصل أم لا. وأمّا الثاني فهو مبنيّ على جواز تزاحم الطريقين وعدم تساقطهما عند التعارض ، نظير تزاحم السببين ، إذ على تقدير التساقط لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الموافق لا محالة. ولكن شيء من الوجهين لا يجدي في نفي وجوب الترجيح عند وجود المرجّح كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، وإن جعلنا الأصل من المرجّحات ، فلا بدّ من فرض الكلام في صورة مخالفة كلّ من الخبرين للأصل ، إذ لا مناص من القول بالتخيير حينئذ عقلا.

مخالفي الأصل ؛ إذ على تقدير الترجيح بالأصل يخرج صورة مطابقة أحدهما للأصل عن مورد التعادل. فالحكم بالتخيير ، على تقدير فقده (٢٨٣٨) أو كونه مرجعا ، بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا (٢٨٣٩) التخيير ، لا الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما. والتخيير إمّا بالنقل وإمّا بالعقل ، أمّا النقل فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ، وبه يقيّد ما اطلق فيه التخيير ، وأمّا العقل فلا يدلّ على التخيير بعد احتمال اعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها.

ولا يندفع هذا الاحتمال بإطلاق أدلّة العمل بالأخبار ؛ لأنّها في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، لكن صورة التعارض ليست من صور إمكان العمل بكلّ منهما ، وإلّا لتعيّن العمل بكليهما. والعقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان عدم جواز طرح كليهما (*) ، لا التخيير بينهما ، وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فإن استقلّ بعدم المرجّح حكم بالتخيير ؛ لأنّه نتيجة عدم إمكان الجمع وعدم جواز الطرح وعدم وجود المرجّح لأحدهما ، وإن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة توقّف عن التخيير ، فيكون العمل بالراجح معلوم الجواز والعمل بالمرجوح مشكوكا.

______________________________________________________

وممّا ذكرناه قد ظهر أنّه لا بدّ أن يقيّد قوله : «إذا لم نجعل الأصل من المرجّحات» بعدم جواز الرجوع إلى الأصل الموافق أيضا ، كما أشار إليه بقوله الآتي : «بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا ...» ، لأنّه في حكم الترجيح في وجوب العمل بأحدهما المعيّن ، فلا يجتمع مع القول بالتخيير ، كيف لا وهو والقول بالتساقط والرجوع إلى الأصل المطابق قولان مختلفان في المسألة ، كما تقدّم في عنوان المسألة.

٢٨٣٨. أي : فقد الأصل الموافق.

٢٨٣٩. أي : سواء كان الأصل الموجود موافقا لأحدهما أم مخالفا لهما.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : مع إمكان الأخذ بأحدهما.

فإن قلت : اوّلا : إنّ كون الشيء مرجّحا ـ مثل كون الشيء دليلا ـ يحتاج إلى دليل ؛ لأنّ التعبّد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع كان الأصل عدمه ، بل العمل به مع الشكّ يكون تشريعا ، كالتعبّد بما لم يعلم حجّيته. وثانيا : إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيين وأحدهما على البدل ، فالأصل براءة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين.

قلت : أمّا كون الترجيح كالحجّية أمرا يجب ورود التعبّد به من الشارع مسلّم ، إلّا أنّ الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من الشارع من دون استناد الالتزام إلى إلزام الشارع ، احتياط لا يجري فيه ما تقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ، فراجع. نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع احتمال الحرمة أو العكس.

وأمّا إدراج المسألة في مسألة دوران المكلّف به بين أحدهما المعيّن وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه لا ينفع بعد ما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة. والأولى منع اندراجها (٢٨٤٠) في تلك المسألة ؛ لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشك في جواز العمل بالمرجوح ، ولا ريب أنّ مقتضى القاعدة المنع عمّا لم يعلم جواز العمل به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجّية ابتداء ، بل تشمل ما إذا شكّ في الحجّية الفعليّة مع إحراز الحجّية الشأنيّة ، فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه ، إلّا أنّ حجّيته فعلا مع معارضة الراجح ـ بمعنى جواز العمل به فعلا ـ غير معلوم ، فالأخذ به والفتوى بمؤدّاه تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة.

______________________________________________________

٢٨٤٠. حاصله : أنّ النزاع في كون المرجع فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير هي أصالة البراءة أو الاحتياط ، إنّما هو فيما كانت الشبهة ناشئة من الشكّ في بعض شرائط المأمور به ، كما لو دار الأمر بين وجوب عتق مطلق الرقبة وخصوص المؤمنة ، فلا يشمل ما كانت الشبهة فيه ناشئة من الشكّ في بعض شرائط الامتثال كما فيما نحن فيه ، وإلّا فالمتعيّن فيه الرجوع إلى قاعدة الاحتياط ، كما تقدّم في أواخر مسألة البراءة.

هذا ، والتحقيق : أنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين في الجملة مستفاد من حكم الشارع به بدليل الإجماع والأخبار العلاجية ، كان اللازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ؛ لما عرفت : من أنّ الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلا ، ولا ينفع وجوب العمل به عينا في نفسه مع قطع النظر عن المعارض ، فهو كأمارة لم يثبت حجّيتها أصلا.

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار : فإن قلنا بما اخترناه : من أنّ الأصل التوقّف ـ بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية والكشف الغالبي عن الواقع ـ فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ؛ لأنّ كلّا منهما جامع لشرائط الطريقيّة ، والتمانع يحصل بمجرد ذلك ، فيجب الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم تخالف كلا المتعارضين ، فرفع اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه بمجرّد مزيّة لم يعلم اعتبارها ، لا وجه له ؛ لأنّ المعارض المخالف بمجرّده ليس طريقا فعليّا ؛ لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ، والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في دفع المعارض.

وتوهّم : استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو الراجح. مدفوع بأنّ ذلك إنّما هو فيما كان بنفسه (٢٨٤١) طريقا كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ. وأمّا الطرق المعتبرة شرعا من حيث إفادة نوعها الظنّ وليس اعتبارها منوطا بالظنّ ، فالمتعارضان المفيدان منها بالنوع للظنّ في نظر الشارع سواء.

______________________________________________________

٢٨٤١. يعني : بحكم العقل وإن لحقه إمضاء الشارع ، لا بجعل الشارع ، كالظنّ المطلق عند انسداد باب العلم.

ثمّ إنّ دعوى عدم جواز الترجيح بالمزيّة الموجودة في أحد الخبرين إذا قلنا باعتبارهما من باب الظنّ النوعي لا يخلو من إشكال ، لأنّ عدم إناطة اعتبارهما بإفادة الظنّ الفعلي لا ينافى الترجيح بالمزيّة المذكورة المفيدة للظنّ نوعا أو شخصا ، لأنّ

وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجّية الشأنيّة ، كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ عن الحجّية إذا كان معارضها أقوى. وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض ما لم ينط اعتباره بإفادة الظنّ أو بعدم الظنّ على الخلاف لا دليل عليه.

وإن قلنا بالتخيير بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعية ، فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك ، ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعا. ومجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح دون العكس ؛ لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب (٢٨٤٢) ، والمفروض وجوده في المرجوح. وليس في هذا الحكم (٢٨٤٣) العقليّ إهمال وإجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح.

وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته ، وهذا الكلام مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين (٢٨٤٤). نعم ، لو كان الوجوب في أحدها آكد والمطلوبية فيه أشدّ ، استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره ،

______________________________________________________

المفروض كون اعتبار المتعارضين في أنفسها من حيث إفادة نوعهما للظنّ وغلبة إيصالهما إلى الواقع ، فإذا تعاضد أحدهما بظنّ نوعي آخر أو ظنّ فعلي تقوّت جهة كشفه عن الواقع التي هي مناط اعتباره ، فلا يعارضه الطريق الآخر في حكم العقل ، ولا ينافيه تساقطهما عند العقل لأجل المعارضة لو لا المزيّة المزبورة. والمقام بعد محتاج إلى التأمّل.

٢٨٤٢. من دون مدخليّة للمزيّة في المانعيّة.

٢٨٤٣. بخلاف ما لو استفيد وجوب العمل بأحد المتعارضين من حكم الشارع كما تقدّم.

٢٨٤٤. قد تقدّم شطر من الكلام في ذلك.

وكون وجوب الأهمّ مزاحما لوجوب غيره من دون عكس. وكذا لو احتمل الأهميّة في أحدهما دون الآخر. وما نحن فيه ليس كذلك قطعا ؛ فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره.

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة ؛ بناء على أنّ الظاهر من أدلّتها وأدلّة حكم تعارضها كونها من باب الطريقيّة ، ولازمه التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما أو أحدهما المطابق للأصل ، إلّا أنّ الدليل الشرعي دلّ على وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقّن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين.

أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات فالمتيقّن هو جواز العمل بالراجح ، وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت ، فلا يجوز الالتزام به ، فصار الأصل وجوب العمل بالراجح ، وهو أصل ثانوي ، بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحا الترجيح به ، إلّا أن يرد عليه (٢٨٤٥) إطلاقات التخيير ؛ بناء على وجوب الاقتصار في تقييدها على ما علم كونه مرجّحا.

وقد يستدلّ على وجوب الترجيح (٢) : بأنّه لو لا ذلك لاختلّ نظم الاجتهاد بل نظام الفقه ؛ من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ والمطلق والمقيّد وغيرهما من الظاهر والنصّ المتعارضين.

وفيه : أنّ الظاهر (٢٨٤٦) خروج مثل هذه المعارضات عن محلّ النزاع ؛ فإنّ

______________________________________________________

٢٨٤٥. سيجيء في المقام الثالث دعوى المصنّف رحمه‌الله أنّ المتبادر من أخبار التخيير هي صورة تكافؤ الخبرين من جميع الوجوه ، وعدم مزيّة أحدهما على الآخر أصلا.

٢٨٤٦. لا ريب في صحّة الاستدلال لو لا استشهاده لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ والمطلق والمقيّد ، إذ لا شكّ في لزوم تأسيس فقه جديد لو لا البناء على الترجيح في متعارضات الأخبار.

الظاهر لا يعدّ معارضا للنصّ ، إمّا لأنّ العمل به لأصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النصّ ، وإمّا لأنّ ذلك (٢٨٤٧) لا يعدّ تعارضا في العرف. ومحلّ النزاع في غير ذلك.

وكيف كان ، فقد ظهر ضعف القول المزبور وضعف دليله المذكور وهو عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظن.

وأضعف من ذلك ما حكي عن النهاية من احتجاجه : بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل ؛ لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين.

وأجاب عنه في محكيّ النهاية والمنية : بمنع بطلان التالي ، وأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين. سلّمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع ، انتهى. ومرجع الأخير إلى أنّه لو لا الإجماع (٢٨٤٨) حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضا.

ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقا ؛ فإنّا لو بنينا على أنّ حجّية البيّنة من باب الطريقيّة ، فاللازم مع التعارض التوقّف والرجوع إلى ما يقتضيه الاصول في ذلك المورد من التحالف أو القرعة أو غير ذلك.

ولو بني على حجّيتها من باب السببيّة والموضوعية ، فقد ذكرنا أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ؛ لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما دلّ على كون البيّنة سببا للحكم على طبقها ، وتمانعهما مستند إلى مجرّد سببية كلّ منهما ، كما هو المفروض ، فجعل أحدهما مانعا دون الآخر لا يحتمله العقل.

ثمّ إنّه يظهر من السيّد الصدر (٢٨٤٩)

______________________________________________________

٢٨٤٧. هذا بناء على اعتبار الظواهر من باب الظهور العرفي من دون ملاحظة أصالة عدم القرينة.

٢٨٤٨. المعبّر عنه في كلام النهاية والمنية بمذهب أكثر الصحابة.

٢٨٤٩. أقول : لا بأس بنقل ملخّص كلامه أوّلا ، ثمّ الإشارة إلى المواقع التي اختلط عليه الأمر فيها ، قال : «إنّ المشهور ـ بل المجمع عليه ـ عند الاصوليّين هو

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب استعلام التراجيح ووجوب العمل بالراجح ، فيرد على قولهم إشكالات على تلك الأحاديث. منها :

أنّ الراوي سأل مرّة وأجاب عليه‌السلام بأنّ اللازم العمل بما هو أصحّ سندا ، ففرض الراوي التساوي فيه ، فأجاب بترجيح المشهور على النادر. فيشكل الأمر بأنّ الراوي إن فرض التساوي في الوجوه الأخر غير السند ، ثمّ فرض التساوي فيه أيضا ، فالجواب هو التوقّف أو التخيير ليس إلّا. وإن لم يفرض التساوي فالعمل بما هو حكم الله تعالى في الواقع ، لأنّ الأوثقيّة لا تفيد إلّا قوّة الظنّ بصدور الخبر عن المعصوم عليه‌السلام ، وربّما كان خبر الثقة قطعيّ المضمون فضلا عن قوّة الظنّ به ، كأن يروي الأوثق ما هو مخالف لجميع أقوال الأمّة ، ويروي الثقة ما هو المعلوم من مذهب الشيعة.

وأيضا بعد فرض التساوي في السند فقط ليس اللازم العمل بما يخالف العامّة كما يدلّ عليه حديث زرارة ، لأنّ المخالفة لا تقتضي قوّة الظنّ بكون مضمون المخالف واقعيّا ، كما إذا كان الموافق موافقا لنصّ الكتاب ومحكمه ، لأنّ صدور الأخبار التي ليست واقعيّة ليس منحصرا في التقيّة عن العامّة ، بل لعلّه كان تقيّة من بعض سلاطين الوقت الذي لا يبالي بالدين مطلقا ، كبعض بني أميّة وبني العبّاس ، أما ترى أنّ الوليد لعنه الله استخفّ بالقرآن ، والمتوكّل لعنه الله صرّح بعداوة سيّدة النساء صلوات الله عليها ، مع أنّ هذين ليسا مذهبا لأحد من العامّة.

ومنها : أنّ العرض على كتاب الله تعالى إن كان على المحكم الذي صار مضمونه ضروريّا في الدين أو المذهب ، فلا ثمرة لعرض الحديث عليه إن كان المقصود تحصيل العلم أو الظنّ بحقيته ليعمل به ، لأنّ مثل هذا الحكم مستغن عن الدليل. وإن كان على الظاهر الذي اختلف في ظهوره ولم يعلم من طريق الأئمّة عليهم‌السلام حاله والمقصود منه ، فلا يحصل من موافقته لمثل هذا الظاهر قوّة الظنّ ، إذ ربّما كانت دعوى الظهور من قائله غير مستندة إلى حجّة شرعيّة ، وكان ما

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس بظاهر عنده هو المقصود ، فيكون الحديث المخالف لهذا الظاهر هو المطابق للواقع.

ومنها : الاكتفاء في البعض بالبعض.

ومنها : مخالفة الترتيب ، ففي البعض قدّمت الشهرة ، وفي الآخر قدّم السند ، وغير ذلك ممّا يظهر بالتأمّل فيها.

والجواب عن الكلّ هو ما أشرنا إليه من أنّ الأصل التوقّف في الفتوى والتخيير في العمل ، إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الفضل والأولى. والمعصوم عليه‌السلام علّم بعض المرجّحات مع فرض التساوي في الباقي ، فكأنّه عليه‌السلام قال : السند مرجّح مع فرض التساوي في غيره ، والمخالفة للعامّة مرجّحة مع فرض التساوي في غيرها ، والموافقة للكتاب مرجّحة مع فرض التساوي في غيرها ، وهكذا.

وأمّا الاكتفاء بالبعض فغير مناف للاستحباب. وأمّا التعرّض لبعض خاصّ فلعلّه كان للاهتمام به ، مثلا إذا كان الغالب في جماعة الكذب المخالف للقرآن والسنة فالمناسب لمعرفة حال حديثهم من جهة الصدق والكذب تعليم قاعدة الموافقة والمخالفة ، وأكثر المكلّفين وإن كانوا عالمين بالأحكام الضروريّة المستنبطة من الكتاب والسنّة ، ولكن لما سمعوا أنّ للقرآن بطونا فربّما توهّموا أنّ الحديث المخالف لمحكماته ربّما كان موافقا لبواطن القرآن ، وأنّه يجوز نسخ الباطن بحكم الظاهر ، وإن علم هذا عند الأئمّة عليهم‌السلام ، فلهذا وأمثاله قال الإمام عليه‌السلام : «إنّ الحديث المخالف للمحكم زخرف وكذب ، وإنّ باطن القرآن لا يناقض محكماته» انتهى كلامه.

وأنت خبير بضعف هذه الإشكالات.

أمّا الأوّل فإنّ من الواضحات أنّ مورد الترجيح إنّما هو ما لم يعلم صدق مضمون أحد الخبرين وبطلان الآخر في الواقع ، وإلّا لم يقع التحيّر للسائل ، ولم

.................................................................................................

______________________________________________________

يحتج إلى إعمال المرجحات. وحينئذ نختار الشقّ الثاني من الترديد ، ونمنع ورود النقض الذي أورده.

وأمّا ما ذكره من قوله : «وأيضا بعد فرض التساوي ...» ، فيرد عليه : أنّ موافق العامّة إذا كان موافقا لنصّ الكتاب أو محكمه ، والمخالف لهم موافقا لميل سلطان الجور ، فهو من موارد تعارض المرجّحات ، لأنّ الموافق لهم وللكتاب مرجوح من حيث موافقته لهم ، وراجح من حيث الموافقة للكتاب ، والمخالف لهم الموافق لميل سلطان الجور راجح من حيث المخالفة ومرجوح من حيث الموافقة ، والموافقة لميل حكّامهم وقضاتهم والمخالفة لهم من جملة المرجّحات أيضا على ما نصّ عليه في المقبولة. وصورة تعارض المرجّحات خارج مورد الأخبار ، لأنّ مقصود الإمام عليه‌السلام بيان ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الموجودة فيه ، ولا مزيّة مع التعارض. وقد استظهر المصنّف رحمه‌الله في المقام الثالث من عدم تعرّض السائل لصورة التعارض ، كون مقصود الإمام عليه‌السلام هو الترجيح بكلّ مزية في أحدهما مفقودة في الآخر ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثّاني فيرد عليه : أنّ المراد بموافقة الكتاب أعمّ من الموافقة لنصّه وظاهره.

وما أورده على الموافقة لنصّه من عدم ترتّب ثمرة على العرض على الكتاب حينئذ ، إن كان المقصود منه تحصيل الظنّ بحقّية الموافق له ، لاستغناء هذا الحكم عن الدليل ، فمقدوح بأنّه إنّما يرد لو كان المقصود هو الموافقة لنصّه خاصّة دون الأعمّ ، سيّما مع قلّة نصوص الكتاب بحيث لا يحتمل الخلاف. وما أورده على الموافقة لظاهره من عدم حصول الظنّ به بحقيّة الموافق له ، فهو مخالف للوجدان ، إذ مجرّد احتمال إرادة خلاف الظاهر لا يقدح في رجحان إرادة ما هو الظاهر منه. وكذا كون دعوى الظهور غير مستندة إلى مستند شرعيّ غير صادم فيه ، إذ غاية الأمر أن يشتبه عليه الظاهر بغيره ، وهو غير قادح في حصول الظنّ ، بل هو معذور في اعتقاده إن كان أهلا للاجتهاد ، وإلّا فهو خارج من محلّ الكلام.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثالث فيرد عليه : أنّه إنّما يتمّ على تقدير وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، لا على المختار من التعدّي إلى كلّ مزيّة موجودة في أحدهما دون الآخر ، لأنّه إذا كان المقصود بيان الترجيح بكلّ مزيّة كان التعرّض لبيان بعض المرجّحات من باب المثال من دون مدخليّة للخصوصيّة في الترجيح.

نعم ، على القول بوجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة لا بدّ من التعرّض لجميعها ، لئلّا يلزم الإغراء والإخلال ببيان الواجب. مع أنّ عدم التعرّض للجميع لعلّه لعدم الحاجة إليه ، إذ لعلّ الإمام عليه‌السلام كان عالما بتساوي الخبرين المسئول عنهما فيما عدا المرجّحات التي تعرّض لبيانها.

وممّا ذكرناه يظهر ضعف الرابع أيضا إذ الموافقة في الترتيب إنّما يلزم على القول بوجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، وأمّا على القول بجواز الترجيح بكلّ مزيّة فلا. وسيجيء توضيح الكلام في بيان التعدّي عن المرجّحات المنصوصة في المقام الثالث.

وأمّا ما دفع به الإشكالات على تقدير حمل الأمر بالترجيح على الاستحباب. فأمّا ما دفع به الأوّل فيرد عليه : أنّه إن تمّ يدفع به الإشكال على تقدير وجوب الترجيح أيضا كما هو واضح.

وأمّا ما دفع به الثالث من قوله : «وأمّا الاكتفاء بالبعض فغير مناف للاستحباب» ـ ولعلّ مقصوده بعدم المنافاة جواز المسامحة في المستحبّات والمكروهات ، ولعلّه من هنا لم يتعرّض لدفع إشكال مخالفة الترتيب ـ فيرد عليه على أنّ ما دلّ على جواز المسامحة فيها من الأخبار المستفيضة إنّما هي في الثبوت عن الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث يتسامح في أدلّتها سندا ودلالة على التفصيل المقرّر في محلّه ، لا في بيان الأئمّة عليهم‌السلام ، وإلّا لزم مخالفة اللطف ، لأنّ اللطف كما يقتضي وجوب بيان الواجبات والمحرّمات كذلك المستحبّات والمكروهات. وأمّا ما صحّح به جواز الترجيح بموافقة الكتاب ، فهو إن تمّ يتمّ على القول بوجوب الترجيح أيضا كما لا يخفى.

ـ الشارح للوافية ـ الرجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير أو التوقّف والاحتياط وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، حيث قال ـ بعد إيراد إشكالات على العمل بظاهر الأخبار ـ : " إنّ الجواب عن الكلّ ما أشرنا إليه : من أنّ الأصل التوقّف في الفتوى والتخيير في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الأفضل والأولى".

ولا يخفى بعده عن مدلول أخبار الترجيح. وكيف يحمل الأمر بالأخذ بما يخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ، خصوصا مع التعليل ب" أنّ الرشد في خلافهم" ، و" أنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يسمعونه منه". وكذا الأمر بطرح الشاذّ النادر ، وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين. مع أنّ في سياق تلك المرجّحات موافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، ولا يمكن حمله على الاستحباب ، فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك ، فتأمّل (٢٨٥٠). وكيف كان ، فلا شكّ أنّ التفصيّ عن الإشكالات الداعية له إلى ذلك ، أهون من هذا الحمل (*).

ثمّ لو سلّمنا دوران الأمر بين تقييد أخبار التخيير وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فلو لم يكن الأوّل أقوى وجب التوقّف ، فيجب العمل بالترجيح ؛ لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّدا بين التخيير والتعيين وجب التزام ما احتمل تعيينه.

المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين ، وهي أخبار : الأوّل : ما رواه المشايخ الثلاثة (٢٨٥١) بإسنادهم عن عمر بن حنظلة : " قال : سألت

______________________________________________________

٢٨٥٠. لعلّه أشار به إلى أنّ التفكيك إنّما لا يصار إليه مع عدم الدليل ، والدليل هنا قائم عليه ، وهو ما أشار إليه من وجوه الإشكال.

٢٨٥١. قد وصفها في البحار بالصحّة ، وفي الوافية بالموثّقية. وليس في السند من يوجب القدح فيه إلّا رجلان ، أحدهما : داود بن حصين ، وقد وثّقه

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : لما عرفت من عدم جواز الحمل علي الاستحباب.

أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا ، يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وإن كان حقّه ثابتا ؛ لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (٣). قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا قد ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله.

______________________________________________________

النجاشي ، قال : كوفيّ ثقة ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن عليه‌السلام. ونقل الوحيد البهبهاني في فوائده المتعلّقة بعلم الرجال عن المحقّق الشيخ محمّد بن الشيخ حسن صاحب المعالم أنّه قال : «إنّه إذا قال النجاشي : ثقة ، ولم يتعرّض لفساد المذهب فظاهره أنّه عدل إمامي ، لأنّ ديدنه التعرّض للفساد ، فعدمه ظاهر في عدم ظفره ، وهو ظاهر في عدمه ، لبعد وجوده مع عدم ظفره ، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته ، وعليه جماعة من المحقّقين» انتهى. وقال الشيخ في رجاله في أصحاب الكاظم عليه‌السلام : إنّه واقفيّ. فمن وصف الرواية بالصحة نظر إلى توثيق النجاشي ، بناء على كون توثيقه تعديلا ولا يعارضه قول الشيخ بكونه واقفيّا ، لكونه أثبت وأضبط كما قيل. ومن وصفها بالتوثيق نظر إلى الجمع بين الوقف والثقة ، أو إلى عدم ثبوت كون مراد النجاشي من التوثيق هو التعديل ، أو إلى تقدّم الجرح على التعديل وثانيهما : عمر بن حنظلة. ولم يذكره أصحاب الرجال بمدح ولا ذمّ ، إلّا الشهيد الثاني في شرح بداية الدراية حيث قال : «إنّ عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب عليه بجرح ولا تعديل ، ولكن حقّقت توثيقه من محلّ آخر» انتهى. وقال ولده المحقّق الشيخ حسن فيه ما هو غير خفيّ على من راجع كتب الرجال. وكيف كان ،

قلت : فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما. ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟

قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قال : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين ، قد رواهما الثّقات عنكم؟

قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة. قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد. فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقهم الخبران جميعا. قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا. قال : إذا كان كذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات".

وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الإشكال (٢٨٥٢)

______________________________________________________

فلا تأمّل في قبول الرواية ، لقبول الأصحاب لها ، وهو كاف في الباب إن شاء الله تعالى ، مضافا إلى رواية المشايخ الثلاثة لها في كتبهم.

٢٨٥٢. لا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله يرجع إلى وجوه ثلاثة :

أحدها : أنّ مورد الرواية هو التحكيم لأجل فصل الخصومة ، فلا يناسبها أوّلا : تعدّد الحكمين. وثانيا : غفلة كلّ عن المعارض الواضح المستند حكمه. وثالثا :

.................................................................................................

______________________________________________________

اجتهاد المتحاكمين في ترجيح مستند أحدهما على الآخر. ورابعا : جواز حكم أحدهما بعد حكم الآخر ، لبعد فرض وقوع حكمهما دفعة.

ويرد على ما عدا الثاني : أنّه إنّما يتمّ على تقدير كون المراد بالحاكم في مورد الرواية هو المنصوب عموما أو خصوصا من قبل الإمام عليه‌السلام. وأمّا لو كان المراد به قاضي التحكيم فلا دليل على بطلان ما ذكر من اللوازم.

ومنه يندفع إشكال آخر هنا ، وهو أنّ اختيار الحاكم إنّما هو بيد المدّعي ، فله أن يختار من أراد من الحكّام ، وإن كان مفضولا بالنسبة إلى من اختاره المنكر ، فالأولى حينئذ الجواب بتفويض الأمر إلى المدّعي لا إليهما وتحرّيهما في إعمال المرجّحات. ووجه الاندفاع واضح. مضافا إلى احتمال اختصاص مورد الرواية بصورة التداعي ، فتدبّر.

وأمّا الثاني فهو مجرّد استبعاد لا يقدح في العمل بالظواهر. مع أنّه لا استبعاد فيه ، حيث لم تكن الأخبار مجتمعة في زمان صدور الأخبار عند كلّ أحد. مضافا إلى احتمال إعراض كلّ منهما عن مستند حكم الآخر ، لأجل اطّلاع كلّ منهما على قدح في مستند حكم الآخر لم يطّلع عليه الآخر ، مثل وروده تقيّة أو نحوها ، لا لأجل الغفلة عنه رأسا.

ويدفع الجميع أيضا أنّه يحتمل أن يكون المراد بالحكمين هو الحاكم على سبيل نقل الرواية في خصوص الواقعة ليعمل بمضمونها المتخاصمان ، لا الحاكم بالمعنى المصطلح عليه.

ويؤيّده أنّ المتعارف في ذلك الزمان أنّ كلّ من كان يفتي بشيء كان على سبيل نقل الرواية ، وكان غرض المستفتي أيضا استعلام ما عند المسئول من الحديث في الواقعة المجهولة المسئول عنها.

ويؤيّده أيضا قوله : «كلاهما اختلفا في حديثكم» لأنّ ظاهره كون الرجوع إليهما من حيث نقل الرواية والحديث ، وجعل الفاصل ذلك لا رأي الحكمين.

.................................................................................................

______________________________________________________

ويؤيّده أيضا كون الشبهة في مورد الرواية حكميّة لا موضوعيّة. ويحتمل أن يكون التحرّي والاجتهاد في مستند الحكمين قبل تحقّق الحكم الاصطلاحي منهما ، بأن كان المراد الرجوع إلى المرجّحات عند اختلافهما في مستند الحكم عند مذاكرة الحكم الكلّي قبل صدور الحكم الاصطلاحي منهما ، كما يستحبّ للحاكم الشرعيّ إحضار جماعة عند المرافعة ليأمن به من الخطأ في الحكم ، فتأمّل.

وثانيها : اشتمال الرواية على تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة ، وهو مخالف للسيرة المستمرّة قديما وحديثا فيما بينهم.

والجواب عنه : ما أشار إليه بقوله : «إلّا أن يمنع ذلك». وتوضيحه : أنّ السيرة المذكورة إنّما تسلّم إذا كان المراد بالشهرة هي الشهرة بحسب الفتوى دون الرواية ، لخروج الخبر غير المشهور حينئذ من الحجّية كما لا يخف ، بخلاف ما لو كان المراد بها الشهرة بحسب الرواية ، إذ نمنع حينئذ تحقّق الإجماع على تقديم المشهور على ما اشتمل على صفات الراوي من المتعارضين.

وممّا يدلّ على كون المراد بها في مورد الرواية هي الشهرة بحسب الرواية دون الفتوى ، أنّ الفتوى المصطلح عليها لم تكن معروفة بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، لأنّ إفتاء أصحابهم كان على سبيل نقل الخبر بالمعنى ، وكان عمل المستفتين أيضا بأقوالهم لأجل حصول الوثوق بما ينقلونه عن أئمّتهم لا لأجل التعبّد بما ترجّح في نظرهم من الأدلّة والظنون الاجتهاديّة. مع أنّ الراوي فرض كون الخبرين مشهورين بعد تساويهما في صفات الراوي ، ومن المعلوم عدم إمكان تحقّق الشهرة بحسب الفتوى على طرفي المسألة في زمان واحد وفي واقعة واحدة ، وحينئذ فلا غرو في تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة ، والسرّ فيه يظهر ممّا أوضحه المصنّف رحمه‌الله من العلّة.

نعم ، يبقى في المقام أنّ الرواية مطلقة تقتضي تقديم الترجيح بالصفات مطلقا ، حتّى فيما لو كان بين رواة الخبر المشهور من هو أفقه من المتفرّد بالشاذ ، والعلّة

.................................................................................................

______________________________________________________

المذكورة حينئذ لا تقتضي ترجيح الخبر الشاذّ الجامع للصفات على مثل هذا الخبر. مع أنّه قد يكون من عدا المتفرّد بالشاذّ من طبقات رواته مفضولا بالنسبة إلى رواة المشهور وإن كان هو أفقه منهم ، ولا تتأتّى فيه العلّة أيضا. اللهمّ إلّا أن تنزّل الرواية على غير هاتين الصورتين.

هذا غاية توضيح المقام. وهو بعد لا يخلو من نظر ، لأنّ عدم تقديم الشاذّ على المشهور في الصورتين المفروضتين ليس لأجل قصور في الترجيح بالصفات ، بل لأجل اشتمال المشهور على مزيّة اخرى سوى الشهرة ، ولا ريب أنّ دلالة الرواية على تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة إنّما هي مع ملاحظة الشهرة من حيث هي ، لا مع اشتمال ذيها على مزيّة موجودة في معارضه أيضا ، فتنزيل الرواية على غير الصورتين المفروضتين حينئذ متعيّن.

وثالثها : أنّ ظاهر الرواية هو الترجيح بمجموع الصفات لا بكلّ واحدة منها ، وهو خلاف ما أطبقت عليه كلمة الأصحاب.

والجواب عنه ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من استظهار كون المراد بيان جواز الترجيح بكلّ منها لا بمجموعها ، ولذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض أو تعارض بعض الصفات مع بعض.

وأنت خبير بأنّ عدم سؤال الراوي من صورة وجود بعض الصفات كما يحتمل أن يكون لأجل فهمه جواز الترجيح بكل منهما ، كذلك يحتمل أن يكون ذلك لأجل فهمه لعدم جواز الترجيح ببعضها. ويؤيّد الثاني كون المذكور في الرواية هو الترجيح بالمجموع ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله. ومن هنا يظهر الوجه في عدم السؤال عن صورة التعارض ، إذ بعد فرض كون المراد هو الترجيح بالمجموع خاصّة لا يبقى محلّ السؤال عن صورة التعارض ، لعدم إمكان اجتماع الصفات في كلّ من المتعارضين.

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو كان جواز الترجيح بكلّ واحد منها مفروغا منه احتيج إلى السؤال عن صورة تعارض بعضها مع بعض ، إذ ليس فليس. فالأولى الاستناد في إثبات كون المراد جواز الترجيح بكلّ واحد منها إلى فهم الأصحاب ، أو بمنع ظهور الرواية في الترجيح بمجموع الصفات ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه العطف بالواو هو الاشتراك في الحكم لا الاجتماع في الوجود ، لأنّك إذا قلت : جاءني زيد وعمرو ، فغاية ما يستفاد منه ثبوت المجيء لكلّ واحد منهما ولو في زمانين لا في زمان واحد. ويقال فيما نحن فيه أيضا : إنّ غاية ما يدلّ عليه العطف بالواو ثبوت حكم الترجيح لكلّ واحدة من الصفات لا لمجموعها من حيث الاجتماع ، فتدبّر.

وبقي في المقام أمر لا بدّ أن ينبّه عليه ، وهو أنّ قوله عليه‌السلام : «وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وإن كان حقّه ثابتا» يشمل الدين والعين ، والواقعة التي كانت الشبهة فيه حكميّة ، كما إذا اشترى أحدهما من الآخر شيئا بعقد فارسي ، واعتقد المشتري صحّته والبائع فساده ، أو موضوعيّة ، وهي واضحة. ونفي بعض أواخر المتأخّرين الخلاف عنه في الدين ، وادّعى الشهرة عليه في العين ، مصرّحا بعدم الفرق بين قضاة العامّة وغير الجامع لشرائط الاجتهاد من الشيعة ، فيحرم ما يؤخذ بحكمهم مطلقا. وعن الكفاية : أنّه يستفاد من الخبرين عدم جواز أخذ شيء بحكمهم وإن كان له حقّا وهو في الدين ظاهر ، وفي العين لا يخلو عن إشكال ، لكن مقتضى الخبرين التعميم.

وقال في الجواهر : «وكأنّه فرّق بين الدين أو العين ، باحتياج الأوّل إلى تراض في التشخيص ، والفرض جبر المديون بحكمهم ، بخلاف العين. وفيه : أنّ الجبر وإن كان إثما فيه لكن لا ينافي تشخيص الدين بعد فرض كونه حقّا ، على أنّ في صدر أحد الخبرين المنازعة في دين أو ميراث ، فلا بدّ من حمل الخبر على الأعمّ من ذلك ، لكن على معنى أنّ أصل ثبوت الاستحقاق للدين أو العين قد كان بحكمهم الباطل ، لا أنّهما ثابتان بالحكم الحقّ وأخذهما قد كانا بحكم الطاغوت ، مع احتمال التزام

بل الإشكالات ـ من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة ، فلا يناسبها التعدّد ، ولا غفلة كلّ من الحكمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ، ولا اجتهاد المترافعين وتحرّيهما في ترجيح مستند أحد الحكمين على الآخر ، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر مع بعد فرض وقوعهما دفعة ، مع أنّ الظاهر حينئذ تساقطهما والحاجة إلى حكم ثالث ـ ظاهرة بل صريحة في وجوب الترجيح بهذه المرجّحات بين الأخبار المتعارضة ، فإنّ تلك الإشكالات لا تدفع هذا الظهور بل الصراحة.

نعم يرد عليه بعض الإشكالات في ترتّب المرجّحات ؛ فإنّ ظاهر الرواية تقديم الترجيح من حيث صفات الراوي على الترجيح بالشهرة والشذوذ ، مع أنّ عمل العلماء قديما وحديثا على العكس على ما يدلّ عليه المرفوعة الآتية ، فإنّهم لا ينظرون عند تعارض المشهور والشاذّ إلى صفات الراوي أصلا.

اللهمّ إلّا أن يمنع ذلك (٢٨٥٣) ؛ فإنّ الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ، لم يبعد ترجيح روايته وإن انفرد بها على الرواية المشهورة بين الرواة ؛ لكشف اختياره إيّاها مع فقهه (*) وورعه عن اطّلاعه على قدح في الرواية المشهورة ، مثل صدورها تقيّة أو تأويل لم يطّلع عليه غيره ؛ لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الامور وجهات الصدور. نعم ، مجرّد أصدقيّة الراوي وأورعيّته لا يوجب ذلك ، ما لم ينضمّ إليهما الأفقهيّة.

______________________________________________________

الحرمة فيهما أيضا في ذلك ، لكن على معنى حرمة التصرّف وإن كانا مملوكين ، فيكونان بحكم السحت في الإثم ولو باعتبار المقدّمة ، فتأمّل جيّدا ، والله العالم» انتهى.

وأقول : يمكن القول بالحرمة فيما كان الأخذ بعنوان الإطاعة والانقياد لهم كما هو المنساق من الأخبار ، دون ما لو كان بعنوان إنفاذ الحقّ ، كما يجوز له الاستعانة بالظالم في أخذ حقّه ، أو كان بقصد التقاصّ ، والله العالم.

٢٨٥٣. أي : إطلاق القول بكون عمل العلماء على تقديم الخبر المشهور.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «فقهه» ، فهمه.

هذا ، ولكنّ الرواية مطلقة ، فتشمل الخبر المشهور روايته بين الأصحاب حتّى بين من هو أفقه من هذا المتفرّد برواية الشاذّ ، وإن كان هو أفقه من صاحبه المرضيّ بحكومته. مع أنّ أفقهية الحاكم بإحدى الروايتين لا تستلزم أفقهية جميع رواتها ، فقد يكون من عداه مفضولا بالنسبة إلى رواة الاخرى ، إلّا أن ينزّل الرواية على غير هاتين الصورتين.

وبالجملة : فهذا الإشكال أيضا لا يقدح في ظهور الرواية بل صراحتها في وجوب الترجيح بصفات الراوي وبالشهرة من حيث الرواية وبموافقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة العامة. نعم ، المذكور في الرواية الترجيح باجتماع صفات الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع. لكنّ الظاهر إرادة بيان جواز الترجيح بكلّ منها ؛ ولذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض ، أو تعارض الصفات بعضها مع بعض ، بل ذكر في السؤال أنّهما معا عدلان مرضيّان لا يفضل أحدهما على صاحبه ، فقد فهم أنّ الترجيح بمطلق التفاضل. وكذا يوجّه الجمع بين موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامة ، مع كفاية واحدة منها إجماعا.

الثاني : ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي عن العلّامة مرفوعا إلى زرارة : " قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم. فقال : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان. فقال : انظر ما وافق منهما العامّة ، فاتركه وخذ بما خالف ؛ فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت : فإنّهما معا موافقان للاحتياط (٢٨٥٤) أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما ، فتأخذ به وتدع الآخر" (٤).

______________________________________________________

٢٨٥٤. لعلّ المراد بموافقتهما له هو الموافقة في الجملة ولو من جهة ، وإلّا

الثالث : ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في حديث طويل ، قال فيه : " فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما كان في السنّة موجودا منهيا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة (٢٨٥٥) ثمّ كان الخبر خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما (٢٨٥٦) جميعا ، وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا" (٥).

الرابع : ما عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه" (٦).

______________________________________________________

فالموافقة من جميع الجهات غير ممكنة. نعم ، مخالفتهما له ممكنة ، كما لو ورد خبر على استحباب فعل ، وآخر على كراهته ، ووجد قول بالوجوب أو الحرمة.

٢٨٥٥. لعلّ المراد بنهي الإعافة ما وقع فيه الزجر عن ارتكاب المنهيّ عنه ببيان بعض خواصّه ، وبنهي الكراهة ما ورد النهي فيه مطلقا من دون تعرّض لخواصّه وآثاره. وفي القاموس : عاف الطعام والشراب ـ وقد يقال في غيرهما ـ كرهه فلم يشربه ، وعفت الطير أعيفها إعافة أي : زجرتها. وكيف كان ، فالمراد بهما هو النهي غير الإلزامي.

٢٨٥٦. أي : الموافق والمخالف.

الخامس : ما بسنده أيضا عن الحسين بن السرّي : قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم" (٧).

السادس : ما بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث : " قلت له ـ يعني العبد الصالح عليه‌السلام ـ (٢٨٥٧) : يروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شيء ويروى عنه أيضا خلاف ذلك ، فبأيّهما نأخذ؟ قال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه" (٨).

السابع : ما بسنده أيضا عن محمّد بن عبد الله : " قال : قلت للرضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه" (٩).

الثامن : ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران : " قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا. قال : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل. قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما. قال : خذ بما فيه خلاف العامّة" (١٠).

التاسع : ما عن الكافي بسنده عن المعلّى بن خنيس : " قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ قال : خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ (٢٨٥٨) ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله. قال : ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم" (١١).

______________________________________________________

٢٨٥٧. أي : الكاظم عليه‌السلام ، وقد يعبّر عنه بالحبر والعالم وأبي الحسن وأبي إبراهيم.

٢٨٥٨. الضمير المجرور عائد إلى الحديث الآخر لأقربيّته ، مضافا إلى دلالة الحديث العاشر والحادي عشر عليه. والمراد بالحيّ هو إمام العصر. وحاصله : أنّه إذا بلغ حديث من أوّل الأئمّة الماضين وآخر من آخرهم ، يجب الأخذ بما جاء من آخرهم حتّى يبلغ من صاحب العصر ما يخالفه ، فيجب الأخذ به وترك المأخوذ.

العاشر : ما عنه بسنده إلى الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : " قال : أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ؟ قال : قلت : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك الله" (١٢).

الحادي عشر : ما عنه بسنده الصحيح ـ ظاهرا ـ عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : " قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا عمرو ، أرأيتك لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه ، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر. قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى الله إلّا أن يعبد سرّا (٢٨٥٩) ، أمّا والله ، لئن فعلتم ذلك ، إنّه لخير لي ولكم ، أبى الله لنا في دينه إلّا التقيّة" (١٣).

الثاني عشر : ما عنه بسنده الموثّق عن محمّد بن مسلم : " قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يتّهمون بالكذب ، فيجئ منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ (٢٨٦٠) كما ينسخ القرآن" (١٤).

الثالث عشر : ما بسنده الحسن عن أبي حيّون مولى الرضا عليه‌السلام عنه : " إنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها ، فتضلّوا" (١٥).

الرابع عشر : ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد : " قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا (٢٨٦١) ، إنّ الكلمة

______________________________________________________

٢٨٥٩. الظاهر أنّ المراد تنظير الإفتاء بالحقّ سرّا ـ لأجل الخوف من إظهاره من المخالفين ـ بحسن العبادة سرّا ، كما يدلّ عليه آخر كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله. فيكون ما أفتى به أوّلا واردا في مقام التقيّة ، وما أفتى به أخيرا على خلافه لبيان الواقع.

٢٨٦٠. دلّ على وجوب الأخذ بالأحدث.

٢٨٦١. حاصل المراد : أنّ الكلام قابل لأن يراد به معاني مختلفة ، بعضها من ظاهره ، وبعضها من تأويله على اختلاف الموارد ، فلو شاء إنسان صرف كلامه كيف شاء وأراد ، لجواز إرادة الحقيقة أو المعاني المجازيّة ولا يكذب. وأنتم أفقه

لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب" (١٦). وفي هاتين الروايتين الأخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة. هذا ما وقفنا عليه من الأخبار الدالّة على التراجيح.

إذا عرفت ما تلوناه عليك (*) ، فلا يخفى عليك أنّ ظواهرها متعارضة ، فلا بدّ من (**) علاج ذلك. والكلام في ذلك يقع في مواضع : الأوّل : في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة ومرفوعة زرارة ؛ حيث إنّ الاولى صريحة في تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة ، والثانية بالعكس. وهي وإن كانت ضعيفة (٢٨٦٢) السند إلّا أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح ؛ فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ. والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سميّت مقبولة ، إلّا أنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية ؛ حيث لم يوجد مرويّة في شيء من جوامع الأخبار المعروفة ، ولم يحكها إلّا ابن أبي جمهور عن العلّامة مرفوعة إلى زرارة. إلّا أن يقال : إنّ المرفوعة تدلّ على تقديم المشهور رواية على

______________________________________________________

الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، يعني : أنّه إذا ورد عليكم خبران متنافيان في بادي النظر ، فلا ينبغي أن تبادروا إلى طرح أحدهما ، بل لا بدّ أن يتأمّل في دلالتهما وما اكتنفها من القرائن العرفيّة أو الخارجة ، فربما يظهر أنّ تنافيهما إنّما كان في بادي النظر ويرتفع بعد التأمّل ، كالنصّ والظاهر أو الأظهر والظاهر. وفيه حثّ على الجمع بين الخبرين مهما أمكن بحسب العرف والقرائن الخارجة.

٢٨٦٢. حاصله : أنّ لكلّ من المرفوعة والمقبولة جهة قوّة وضعف. أمّا الاولى فإنّها وإن ضعفت لرفعها ، وطعن من ليس من شأنه الطعن في الأخبار ـ كصاحب الحدائق ـ في ابن أبي جمهور وكتابه الغوالى ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : من الأخبار.

(**) فى بعض النسخ زيادة : التكلّم في.

غيره ، وهي هنا المقبولة. ولا دليل على الترجيح بالشهرة العمليّة ، مع أنّا نمنع أنّ عمل (٢٨٦٣) المشهور على تقديم الخبر المشهور رواية على غيره إذا كان الغير أصحّ منه من حيث صفات الراوي ، خصوصا صفة الأفقهيّة.

ويمكن أن يقال : إنّ السؤال لما كان عن الحكمين كان الترجيح فيهما من حيث الصفات ، فقال عليه‌السلام : " الحكم ما حكم به أعدلهما ..." مع أنّ السائل ذكر : " أنّهما اختلفا (٢٨٦٤) في حديثكم" ؛ ومن هنا اتّفق الفقهاء على عدم الترجيح بين الحكّام إلّا بالفقاهة والورع ، فالمقبولة نظير رواية داود بن الحصين الواردة في اختلاف الحكمين من دون تعرّض الراوي ، لكون منشأ اختلافهما الاختلاف في الروايات ، حيث قال عليه‌السلام : " ينظر إلى أفقههما وأعلمهما وأورعهما فينفذ حكمه" ، وحينئذ فيكون الصفات من مرجّحات الحكمين.

______________________________________________________

غير موضع من الكتاب ، إلّا أنّ ضعفها منجبر بموافقتها سيرة العلماء رضوان الله عليهم في باب الترجيح.

وأمّا الثانية فإنّها وإن كانت موهونة بإعراض الأصحاب عنها من حيث تقديم الترجيح بصفات الراوي فيها على الترجيح بالشهرة ، إلّا أنّ وهنها منجبر بتلقّي الأصحاب لها بالقبول حتّى سمّيت مقبولة ، بل السند أيضا إمّا صحيح أو موثّق كما تقدّم ، فإذن لا ترجيح لشيء منهما على الآخر حتّى يؤخذ به ويطرح الآخر.

٢٨٦٣. بذلك تخرج المقبولة من المخالفة لعمل الأصحاب.

٢٨٦٤. يعني : أنّ جواب الإمام عليه‌السلام عن السؤال عن اختلاف الحكمين ـ مع أنّ السائل ذكر أنّهما اختلفا في حديثكم ـ بالرجوع إلى الصفات التي هي من المرجّحات بين الحكّام ، يرشد إلى إعراض الإمام عليه‌السلام عن الجواب عن حيثيّة اختلافهما في مستند حكمهما. نعم ، لمّا فرض الراوي تساويهما فيها أرجعه الإمام عليه‌السلام إلى ملاحظة مرجّحات مستندهما ، فأوّل مرجّحات الرواية في المقبولة هي الشهرة ، فتوافق المقبولة حينئذ.

نعم ، لما فرض الراوي تساويهما ، أرجعه الإمام عليه‌السلام إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما وأمره بالاجتهاد والعمل في الواقعة على طبق الراجح من الخبرين مع إلغاء حكومة الحكمين كليهما ، فأوّل المرجّحات الخبريّة هي الشهرة بين الأصحاب فينطبق على المرفوعة.

نعم قد يورد على هذا الوجه : أنّ اللازم على قواعد الفقهاء الرجوع مع تساوي الحاكمين إلى اختيار المدّعي. ويمكن التفصّي عنه : بمنع جريان هذا الحكم في قاضي التحكيم. وكيف كان فهذا التوجيه غير بعيد.

الثاني : أنّ الحديث الثامن وهي رواية الاحتجاج عن سماعة ، يدلّ على وجوب التوقّف اوّلا ، ثمّ مع عدم إمكانه يرجع إلى الترجيح بموافقة العامّة ومخالفتهم ، وأخبار التوقّف (٢٨٦٥) ـ على ما عرفت وستعرف ـ محمولة على صورة التمكّن من العلم ، فتدلّ الرواية على أنّ الترجيح بمخالفة العامّة بل غيرها من المرجّحات إنّما يرجع إليها بعد العجز عن تحصيل العلم في الواقعة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، كما ذهب إليه بعض.

وهذا خلاف ظاهر الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ابتداء بقول مطلق ، بل بعضها صريح في ذلك حتّى مع التمكّن من العلم ، كالمقبولة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ثمّ بالإرجاء حتّى يلقى الإمام عليه‌السلام ، فيكون وجوب الرجوع إلى الإمام بعد فقد المرجّحات. والظاهر لزوم طرحها ؛ لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها ، فيبقى إطلاقات الترجيح سليمة.

الثالث : أنّ مقتضى القاعدة تقييد إطلاق ما اقتصر فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة ، إلّا أنّه قد يستبعد ذلك ؛ لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة ، فلا بدّ من جعل المقبولة كاشفة عن قرينة متّصلة فهم منها الإمام عليه‌السلام : أنّ مراد الراوي تساوي الروايتين من سائر الجهات ، كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك.

______________________________________________________

٢٨٦٥. الواردة في الشبهات الحكميّة ، فتحمل رواية الاحتجاج أيضا على صورة التمكّن من العلم ، بل هي صريحة فيها.

الرابع : أنّ الحديث الثاني عشر الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ، على تقدير شموله للروايات الإماميّة ـ بناء على القول بكشفهم عليهم‌السلام عن الناسخ الذي أودعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندهم ـ هل هو مقدّم على باقي الترجيحات أو مؤخّر؟ وجهان : من أنّ النسخ من جهات التصرّف في الظاهر ؛ لأنّه من تخصيص الأزمان ؛ ولذا ذكروه في تعارض الأحوال ، وقد مرّ وسيجيء تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيحات الأخر.

ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته في غاية القلّة ، فلا يعتنى به في مقام الجمع ، ولا يحكم به العرف ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الأخر ، كما إذا امتنع الجمع. وسيجيء بعض الكلام في ذلك.

الخامس : أنّ الروايتين الأخيرتين ظاهرتان في وجوب الجمع بين الأقوال الصادرة عن الأئمّة صلوات الله عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم. والمراد بالمتشابه ـ بقرينة قوله : " ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا" ـ هو الظاهر الذي اريد منه خلافه ؛ إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل ، ولا معنى للنهي عن اتّباع المجمل ، فالمراد إرجاع الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر.

وهذا المعنى لما كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ، فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك في الكلمات المحكيّة عنهم بإسناد الثقات التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور ، فالمراد أنّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ولو كان الآخر أرجح منه ، إذا أمكن ردّ المتشابه منهما إلى المحكم ، وأنّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ولم يبادر إلى طرحها لمعارضتها بما هو أرجح منها.

والغرض من الروايتين الحثّ على الاجتهاد واستفراغ الوسع في معاني الروايات وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه.

المقام الثالث : في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة. فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد (٢٨٦٦) من مجموع الأخبار ـ بعد الفراغ عن تقديم الجمع

______________________________________________________

٢٨٦٦. لم يذكر الترجيح بالأحدثيّة ، مع كونها من المرجّحات المنصوصة ، لإعراض الأصحاب عن الترجيح بها.

المقبول على الطرح ، وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما ـ : هو أنّ الترجيح اوّلا بالشهرة والشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة والأوثقيّة ، ثمّ بمخالفة العامّة ، ثمّ بمخالفة ميل الحكّام. وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فهو من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعيّ الصدور ، ولا إشكال في وجوب الأخذ به وكذا الترجيح بموافقة الأصل.

ولأجل ما ذكر لم يذكر (٢٨٦٧) ثقة الإسلام رضوان الله عليه في مقام الترجيح في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ، فقال : اعلم يا أخي أرشدك الله ، أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه من العلماء عليهم‌السلام برأيه ، إلّا على ما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : " اعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله عزوجل فردّوه" ، وقوله عليه‌السلام : " دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم" ، وقوله عليه‌السلام : " خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه". ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : " بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم" (١٧) ، انتهى.

ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة والأوثقيّة ؛ لأنّ الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس ، غير محتاج إلى التوقيف. وحكي عن بعض الأخباريين أنّ وجه إهمال هذا المرجّح كون أخبار كتابه كلّها صحيحة (٢٨٦٨).

______________________________________________________

٢٨٦٧. أي : لأجل ما ذكرنا من أنّ المستفاد من مجموع الأخبار هو الترجيح بالمرجّحات المنصوصة من الشهرة وما بعدها.

٢٨٦٨. إن أراد بالصحّة الصحّة بالمعنى المصطلح عند القدماء فلا وجه لإهمال المرجّح المذكور. وإن أراد بها كون أخبار الكافي قطعيّة الصدور ، كما هو المناسب لطريقة الأخباريّ ، فلا وجه حينئذ للترجيح بالشهرة. اللهمّ إلّا أن يريد الأوّل وادّعى تساوي رواة أخبار الكافي في العدالة ، وفيه ما لا يخفى.

وقوله : " ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه" ، إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها أو كونها مجمعا عليها قليل ، والتعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل. وقوله : " لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ..." ، أمّا أوسعيّة التخيير فواضح ، وأمّا وجه كونه أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقّف والاحتياط في العمل ، فلا يبعد أن يكون من جهة أنّ في ذلك ترك العمل بالظنون التي لم يثبت الترجيح بها ، والإفتاء بكون مضمونها هو حكم الله لا غير ، وتقييد إطلاقات التخيير والتوسعة من دون نصّ مقيّد ، ولذا طعن غير واحد من الأخباريين على رؤساء المذهب مثل المحقّق والعلّامة بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر.

قال المحدّث البحراني قدس‌سره في هذا المقام من مقدّمات الحدائق : إنّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصول ، والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات (١٨) ، انتهى.

أقول : قد عرفت أنّ الأصل ـ بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين ـ هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع ؛ لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ.

نعم ، لو كان المرجع بعد التكافؤ هو التوقّف والاحتياط ، كان الأصل عدم الترجيح إلّا بما علم كونه مرجّحا ، لكن عرفت أنّ المختار (٢٨٦٩) مع التكافؤ هو

______________________________________________________

٢٨٦٩. حاصله : أنّك قد عرفت في المقام الأوّل أنّ المختار في المتكافئين هو التخيير الثابت بالأخبار ، وقد تقدّم أيضا في المقام الثاني أنّ القدر المتيقّن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين وعدم اشتمال أحدهما على مزيّة أصلا ، فيكون الأصل في صورة اشتمال أحدهما على مزيّة غير منصوصة هو الترجيح بها ، نظرا إلى الدليل الذي ذكره في المقام الثاني ، وهنا أيضا بقوله «لأنّ وجوب العمل بالمرجوح ...».

التخيير ، فالأصل هو العمل بالراجح. إلّا أن يقال : إنّ إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ، فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة من أحد أمرين : إمّا أن يستنبط من النصوص ـ ولو بمعونة الفتاوى ـ وجوب العمل بكلّ مزيّة توجب أقربيّة ذيها إلى الواقع ، وإمّا أن يستظهر من إطلاقات التخيير (٢٨٧٠) الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه.

______________________________________________________

وأمّا على القول في المتكافئين بالتوقّف والرجوع إلى الاحتياط إمّا مطلقا أو الاحتياط المطابق لأحدهما ، فقد تقدّم في المقام الأوّل أيضا أنّه للأخبار الدالّة عليه ، ولا شكّ أنّ المتيقّن من تلك الأخبار هو التوقّف والاحتياط وعدم الترجيح بغير المرجّحات المنصوصة. ومن هنا يظهر وجه جعل أصالة عدم الترجيح بالمزايا من لوازم القول بالاحتياط في المتكافئين ، وأصالة الترجيح بها من لوازم القول بالتخيير فيهما.

٢٨٧٠. لا أرى وجها لهذا الاستظهار ، لأنّ الوجه فيه إن كان ظهور الأسئلة ، نظرا إلى أنّ قول السائل : يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا كيف نصنع؟ [ظاهر](*) في اختصاص مورد السؤال بصورة التحيّر ، ولا تحيّر مع وجود المزايا ، يرد عليه : أنّ مجرّد وجود المزيّة في أحد الخبرين لا يرفع التحيّر ، لأنّ الرافع له هو العلم باعتبار الشارع لها لا مجرّد وجودها ، ولذا وقع السؤال عن المتعارضين في مورد أخبار الترجيح مع ظهوره في صورة التحيّر ، وأرجعه الإمام عليه‌السلام إلى ملاحظة المرجّحات. مع أنّ اختصاص مورد أخبار التخيير بصورة عدم المزيّة أصلا لا يجدي في إثبات اعتبار المزيّة مطلقا ، لأنّ ثبوت التخيير حينئذ أعمّ من المدّعى. وإن كان قرينة اخرى مستفادة من الأخبار فهي مفقودة كما لا يخفى.

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أثبتناه ليستقيم المعنى ، إذ بدونه تبقى «أنّ» بلا خبر.

والحقّ : أنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل ، كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني ؛ ولذا ذهب جمهور المجتهدين (٢٨٧١)

______________________________________________________

٢٨٧١. وهو المختار. ويمكن أن يستدلّ عليه بوجوه :

أحدها : أنّ ظاهر من اقتصر على المرجّحات المنصوصة كالأخباريّين هو اعتبارها من باب التعبّد المحض ، لا من باب إفادتها لأقربيّة ذيها إلى الواقع من الآخر كما ستعرفه ، وهو خلاف ظاهر أخبار الترجيح كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، فالاقتصار على المرجّحات المنصوصة لأخبار الترجيح مخالف لظاهرها ، فالقول به مستلزم لعدمه ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو محال.

الثاني : دليل الانسداد ، وهو يقرّر بوجهين :

أحدهما : أنّ أخبار الترجيح قد اشتملت على الترجيح بأعدليّة راوي أحد الخبرين بعد اشتراك راويهما في صفة العدالة ، ولا شكّ أنّ المراد بالعدالة هي العدالة الواقعيّة الثابتة بالعلم الوجداني أو الشرعيّ كالبيّنة ، وإثباتها في أمثال زماننا غير ممكن ، لانحصار طريق إثباتها في أمثال زماننا في الرجوع إلى كتب الرجال كالنجاشي والكشّي وأمثالهما ، والظاهر أنّ تعديلهم للرواة إنّما هو بالظنون والاجتهاد لا بالعلم الوجداني ، لعدم إدراكهم لأغلبهم يقينا ، وفقدان الأمارات المفيدة لذلك ، ولا بالعلم الشرعيّ كالحاصل بالبيّنة ، لكون تعديل من سبقهم أيضا مستندا إلى الظنون والاجتهاد ، وهذا أمر لا خفاء فيه. مع أنّ شهادة مثل الشيخ تصير شهادة فرع بالنسبة إلينا ، ولا اعتبار بها شرعا. سلّمنا ولكن تعديلهم إنّما هو بلفظ التوثيق ، وهو غير مفيد للتعديل. اللهمّ إلّا أن يدّعى كون ذلك تعديلا في اصطلاحهم ، كما ادّعاه المحقّق الشيخ محمّد في كلام النجاشي. وهو أيضا لا يخلو من تأمّل وإشكال ، مع أنّه لا يثبت الكلّية المدّعاة. مضافا إلى أنّ الترجيح إنّما هو بالأعدليّة لا بمجرّد العدالة ، وطريق معرفة أعدليّة أحد الراويين إنّما هو بذكر فضائل في حقّه دون آخر ، وأنت خبير بأنّ ذكر فضيلة في رجل دون آخر لا يدلّ

.................................................................................................

______________________________________________________

على انتفائها في الآخر ، ولعلّها لم تصل إليهم ، وعدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود ، وغايته حصول الظنّ بذلك ، ولا دليل على اعتباره بالخصوص في المقام. ومن هنا يظهر الكلام في الأصدقيّة والأورعيّة.

فإن قلت : إنّ غاية ما ذكرت هو جواز إعمال الظنّ في تشخيص ما جعله الشارع مرجّحا ، لأنّه بعد انسداد باب العلم بموارد تحقّق المرجّحات يقوم الظنّ مقامه ، لكن ذلك لا يوجب جواز الترجيح بكلّ مزيّة موجودة في أحدهما مفقودة في الآخر.

قلت هذا بعينه دليل من قال بالظنّ الطريقي بعد انسداد باب العلم بالأحكام ، وما هو الجواب هناك هو الجواب هنا حذوا بحذو ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام هنا.

وثانيهما : ـ وهو ما سلكه بعض المتأخّرين على ما حكي عنه ـ أنّه مع تعارض الخبرين مع رجحان أحدهما وعدم إمكان العمل بهما معا ، لا يخلو : إمّا أن يلقى الخبران ويرجع إلى مقتضى الاصول ، أو يؤخذ بالراجح منهما ، أو بالمرجوح ، أو يتخيّر بينهما. أمّا الأوّل ففيه : أنّ العلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار المتعارضة ـ بل أغلبها ـ مع تكليفنا بالعمل بمقتضاها مانع من العمل بمقتضى الاصول. وأمّا الثاني فهو المطلوب. وأمّا الثالث فهو يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح. وأمّا الرابع فهو يستلزم التسوية بين الراجح والمرجوح ، وهو كسابقه قبيح على الشارع.

فإن قلت : إنّ هذا الدليل لو تمّ لجرى في نفس الأحكام الكلّية أيضا ، وهو ينافي القول بالظنون الخاصّة فيها ، ولذا استبعد المحقّق القمّي رحمه‌الله اعتبار الظنون المطلقة في باب التراجيح دون الأحكام الكلّية.

قلت : إنّ دليل الانسداد إنّما يثبت اعتبار الظنون المطلقة على حسب ما حصل العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة ، فإن حصل العلم الإجمالي بالتكاليف في الواقع مطلقا يدلّ على اعتبار مطلق الظنّ بها من أيّ سبب حصل ، وإن حصل العلم بها بشرط تأدية طرق مخصوصة وهي مجهولة عندنا ، يدلّ على اعتبار الظنّ

.................................................................................................

______________________________________________________

بالحكم الواقعي الحاصل من الطريق التي حصل الظنّ باعتبارها عند الشارع ، وأنّها هي الطريق المجعولة في الواقع كخبر الواحد ، فإذا انحصرت أطراف العلم الإجمالي في الأخبار المتعارضة لا يتعدّى في إعمال الظنّ منها إلى غيرها.

هذا ، ويشكل الدليل المذكور بمنع العلم الإجمالي هنا ، لانحلاله في المقام إلى علم تفصيلي وجهل بسيط ، لأنّ أغلب الأخبار المتعارضة يعالج تعارضها بحسب الدلالة بحمل أحدهما على الآخر بالتقييد أو التخصيص أو نحوهما. وقد تقدّم كون الجمع بحسب الدلالة إجماعيّا ، وجملة منها يندفع تعارضها بشاهد خارجي من الأخبار يشهد بالجمع بين المتعارضين منها ، وطائفة اخرى يرجّح الراجح منها بالمرجّحات المنصوصة التي اتّفقت كلمة الأصحاب على اعتبارها مع فرض حصول الظنّ منها ، وما خرج من تحت الوجوه المذكورة من المتعارضات ليس إلّا أقلّ قليل منها ، ولا ريب في عدم حصول العلم الإجمالي بصدور مثل ذلك عن أهل العصمة عليهم‌السلام فلا يجري دليل الانسداد فيها ، لأنّ من جملة مقدّماته تحقّق العلم الإجمالي المنتفي في المقام.

الثالث : أنّ اعتبار الأخبار إنّما هو من باب الكشف والطريقيّة دون السببيّة والموضوعيّة ، كما يشهد به التعليل في آية النبأ ، واعتبار المرجّحات المنصوصة وغيرها من القرائن ، فمع تعارض الخبرين ورجحان أحدهما يستقلّ العقل بتقديم الراجح وما هو الأقرب منهما أو الواقع. وبعبارة اخرى : أنّ الحكمة في اعتبار الأخبار هي كشفها عن الواقع ولو نوعا ، والعقل يحكم بتقديم ما تكون حكمة الجعل والاعتبار فيه أقوى عند التعارض وعدم إمكان العمل بهما.

الرابع : أصالة الاشتغال ، لأنّه مع رجحان أحد المتعارضين يدور الأمر بين التعيين والتخيير ، والمتعيّن في مثله هو وجوب الأخذ بمحتمل التعيين إذا كان الشكّ في الطريق ، كما تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله.

.................................................................................................

______________________________________________________

الخامس : استقرار طريقة العقلاء بالأخذ بما هو أقلّ خطرا من الطريقين إذا دار الأمر بينهما ، وكذا في المقام ، لكون الأخبار طريقا إلى الواقع ، فيتعيّن الأخذ بما هو الراجح من المتعارضين منها.

السادس : ما استظهره المصنّف قدس‌سره من الأخبار.

ثمّ إنّه بعد ثبوت اعتبار مطلق المرجحات بالأدلّة المذكورة ليس في مقابلها الأمران ، أحدهما : الأدلّة الدالة على اعتبار الأخبار ، لأنّ مقتضى شمولها لكلا المتعارضين هو التخيير عند عدم إمكان العمل بهما معا بمقتضى حكم العقل. وثانيهما : إطلاق أخبار التخيير في متعارضات الأخبار ، لأنّ المرجّحات التي لم يثبت اعتبارها بالخصوص لا تصلح لتقييدها.

أمّا الأوّل فيرد عليه : أنّ العقل إنّما يحكم بالتخيير مع عدم رجحان أحدهما ، وقد عرفت حكم العقل بتقديم الراجح منهما.

وأمّا الثاني فيرد عليه أوّلا : أنّ أخبار التخيير غير شاملة لصورة رجحان أحد الخبرين المتعارضين ، لانصرافها إلى صورة تحيّر المكلّف في مقام العمل وعدم رجحان أحدهما على الآخر أصلا ، كما استظهره المصنّف رحمه‌الله ، لكن قد تقدّم في الحاشية السابقة ما يدفعه.

وثانيا : أنّ فيما اخترناه جمعا بين الأخبار ، ولو اقتصرنا على المرجّحات المنصوصة لا تجتمع الأخبار بعضها مع بعض ، وذلك لأنّه على ما اخترناه من اعتبار مطلق المرجّحات وتقديم ذي المزيّة مطلقا ، يمكن حمل أخبار الترجيح على بيان إمضاء ما استقرّ عليه بناء العقلاء من تقديم ذي المزيّة من الخبرين المتعارضين في امور معاشهم ، وحمل أخبار التخيير على صورة التحيّر المحض. هذا بخلاف ما لو اقتصرنا على المرجّحات المنصوصة ، وحملنا أخبارها على بيان الجعل والإنشاء من الشارع ، وذلك لأنّ أخبار الترجيح كلّها صدرت عن الباقر ومن بعده من الأئمّة عليهم‌السلام دون من قبلهم ، فحينئذ لا يخلو : إمّا أن يقال إنّ المكلّفين الذين كانوا قبل

إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة (١٩) ، بل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة.

وكيف كان ، فما يمكن استفادة هذا المطلب منه فقرات من الروايات : منها : الترجيح بالأصدقيّة (٢٨٧٢) في المقبولة وبالأوثقيّة في المرفوعة ؛ فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين من حيث إنّه أقرب من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ، وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة تحتملان اعتبار الأقربية الحاصلة من السبب الخاص.

______________________________________________________

الباقر عليه‌السلام كانوا مكلّفين بالتخيير في متعارضات الأخبار وإلغاء الترجيح بالكليّة ، أو كانوا غير محتاجين إلى إعمال المرجّحات ، لعدم تعارض الأخبار إلى زمان صدور هذه الأخبار ، أو يقال بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والأوّل يستلزم تغيّر أحكام الله تعالى باختلاف الأشخاص والأزمان. والثاني بعيد جدّا ، بل معلوم الفساد يقينا. والثالث بديهيّ البطلان عند ذوي العقول. وأمّا لو حملنا أخبار الترجيح على إمضاء طريقة العقلاء ، فيمكن أن يقال : إنّهم كانوا عاملين بذي المزيّة مطلقا ، ومقدّمين له على صاحبه ، لكونهم من جملة العقلاء.

وثالثا : أنّ إجماع الفقهاء المعتنين بالفقه منعقد على تقديم الترجيح بكلّ ذي مزيّة على التخيير ابتداء ، كما هو واضح لمن تتبّع كلماتهم ، فلا يعبأ بخلاف الأخباريّين ومن يحذو حذوهم ، ولا أقلّ من تحقّق الشهرة في ذلك. وأخبار التخيير كلّها كما قيل ضعيفة ، فلا جابر لها ، سيّما مع تحقّق الشهرة على خلافها.

٢٨٧٢. هذا بناء على كون الصفات في المقبولة من مرجّحات الرواية دون الحكمين ، وإلّا خرج الترجيح بمثل الأصدقيّة من محلّ الكلام. ودعوى أنّ الاستدلال بالأصدقيّة والأوثقيّة على جواز الترجيح بكلّ مزية توجب قوّة الظنّ بصدور ذي المزيّة ، إنّما يتمّ لو كانت هاتان الصفتان ملازمتين لأقربيّة الخبر إلى

وحينئذ ، فنقول : إذا كان أحد الراويين أضبط من الآخر أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى أو شبه ذلك ، فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر ، ونتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها ؛ لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيّته لم تعتبر في الراوي إلّا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ، فإذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق.

ويؤيّد ما ذكرنا أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها (٢٨٧٣) وتخالفها في الراويين (*) ، وإنّما سأل عن حكم صورة

______________________________________________________

الصدور ، وليس كذلك ، لأنّ غايتهما أكثريّة تحرّز صاحبهما عن تعمّد الكذب بالنسبة إلى الفاقد لهما ، لا أقربيّة خبره إلى الصدور مطلقا ، لاحتمال الخطأ والنسيان بل كثرتهما ، مدفوعة بأنّ احتمال الخطأ والنسيان مندفع بالأصل المجمع عليه ، ومنع اشتراكه بين الخبرين ، وكثرتهما مفروضة العدم ، وإلّا سقط الخبر عن درجة الاعتبار.

٢٨٧٣. هذا دليل على فهم السائل لعدم اعتبار اجتماع الصفات ، وقوله : «وتخالفها» دليل على فهمه لجواز الترجيح بكلّ مزيّة. أمّا الأوّل فواضح ، إذ لو لم يفهم ما ذكرناه احتيج إلى السؤال عن صورة وجود بعضها ، إذ بيان حكم صورة الاجتماع لا يغني عن بيان حكم وجود البعض. نعم ، عدم السؤال عنه لا يدلّ على جواز الترجيح بكلّ مزيّة ، لاحتمال كون عدم السؤال عنه لفهمه لجواز الترجيح بكلّ واحدة من الصفات تعبّدا. وأمّا الثاني فإنّ فهمه لجواز الترجيح بكلّ واحدة منها لا يغني عن بيان حكم تخالفها.

فإن قلت : إنّ حكم صورة التخالف غير محتاج إلى البيان ، لأنّ الخبرين إن وجدت في أحدهما إحدى الصفات دون الاخرى ، فقد فرضنا فهم السائل لحكمه

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «الروايتين» ، الروايتين.

تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها ، حتّى قال : " لا يفضل أحدهما على صاحبه" ، يعني : بمزيّة من المزايا أصلا ، فلولا فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيهما رأسا ، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات ، فافهم.

ومنها : تعليله عليه‌السلام الأخذ بالمشهور بقوله : " فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه". توضيح ذلك : أنّ معنى كون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكلّ (٢٨٧٤) ، كما يدلّ عليه فرض السائل كليهما مشهورين ، والمراد بالشاذّ ما لا يعرفه إلّا القليل ، ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى ليس قطعيّ المتن والدلالة من جميع الجهات (٢٨٧٥) حتّى يصير ممّا لا ريب فيه ، وإلّا لم يمكن فرضهما مشهورين ، ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ، ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما

______________________________________________________

بترك السؤال عن صورة وجود بعضها. وإن وجدت في كلّ واحد منهما ما وجدت في الآخر ، بأن كان راوي كلّ من الخبرين أصدق وأوثق فهو داخل في صورة التساوي التي وقع السؤال عنها. وإن وجدت في كلّ واحد منهما صفة مغايرة للصفة الموجودة في الآخر ، بأن كان راوي أحدهما أوثق والآخر أعدل ، فقد ظهر حكمه من الترتيب المذكور في الرواية ، فيقدّم ما هو المتقدّم ذكرا فيها.

قلت : إنّ استفادة حكم صورة الاختلاف من الترتيب إنّما تتمّ لو اتّفقت المقبولة والمرفوعة ـ بل وغيرهما من الروايات ـ في الترتيب ، وليس كذلك ، بل اختلافها يكشف عن سقوط حكم الترتيب ، وحينئذ فالمختلفان إن أفاد أحدهما ظنّا أقوى من الآخر يقدّم عليه ، وإلّا فيدخلان في صورة التساوي.

فإن قلت : إنّ غاية الأمر أن يفهم السائل ما ذكرت ، وفهمه ليس بحجّة لنا.

قلت : تثبت حجّيته بتقرير الإمام عليه‌السلام وعدم إنكاره عليه. وقد تقدّم في المقام الثاني عند شرح ما يتعلّق بالمقبولة ما ينفعك هنا ، فراجع.

٢٨٧٤. لا معمولا بها عندهم.

٢٨٧٥. في بعض النسخ : ليس قطعيّا من جميع الجهات ، ومؤدّاهما واحد.

إلى المرجّحات الأخر ، فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ ، ومعناه أنّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه ، فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذّ بأنّ في الشاذّ احتمالا لا يوجد في المشهور ، ومقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع.

ومنها : تعليلهم عليهم‌السلام لتقديم الخبر المخالف للعامّة ب : " أنّ الحقّ والرشد في خلافهم" ، و" أنّ ما وافقهم فيه التقيّة" ؛ فإنّ هذه كلّها قضايا غالبية لا دائمية ، فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

بل الإنصاف أنّ مقتضى هذا التعليل كسابقه وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وإن لم يكن عليه أمارة المطابقة ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : " ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حقّ (٢٨٧٦) ، وإن لم يشبههما فهو باطل" ؛ فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين إلّا ما ذكرنا من إرادة الأبعديّة عن الباطل والأقربية إليه.

ومنها : قوله عليه‌السلام : " دع ما يريبك (٢٨٧٧) إلى ما لا يريبك" ، دلّ على أنّه إذا دار

______________________________________________________

٢٨٧٦. بأن كان الحكم المذكور في أحد الخبرين موافقا ومتفرّعا على القواعد المذكورة في الكتاب والسنة ، وكان الآخر موافقا لقواعد العامّة ، وسيصرّح بهذا المعنى عند بيان الترجيح بوجه الصدور ، أعني : مخالفة العامّة والموافقة للقواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ، أو لقواعد العامّة وإن لم تكن أمارة موافقة مضمون الخبر بالخصوص للواقع ، ومخالفته له نظير الشهرة في الفتوى ، إلّا أنّ مضمون الخبر حينئذ يكون أبعد من الباطل أو الحقّ. نعم ، لو كان المراد بمشابهة الكتاب والسنّة هي المشابهة في الأسلوب والفصاحة والبلاغة أمكن جعل ذلك أمارة صدق الخبر ، فتدبّر.

٢٨٧٧. لا يخفى أنّ هذه الرواية الشريفة من جملة أخبار الاحتياط في الشبهات البدويّة ، وقد تقدّم في مسألة البراءة عدم دلالتها إلّا على الأمر الإرشادي غير المفيد للوجوب المولوي المقصود في المقام.

الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى. وحينئذ فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا باللفظ والآخر بالمعنى وجب الأخذ بالأوّل ؛ لأنّ احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفيّ فيه ، وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط ، إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال الغير المنفيّ في طرف المرجوح.

المقام الرابع في بيان المرجّحات. وهي على قسمين : أحدهما : ما يكون داخليّا ، وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسها (٢٨٧٨) بل متقوّمة بما فيه. وثانيهما : ما يكون خارجيّا ، بأن يكون أمرا مستقلا بنفسه ولو لم يكن هناك خبر ، سواء كان معتبرا كالأصل والكتاب أو غير معتبر في نفسه كالشهرة ونحوها.

ثمّ المستقلّ إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع كالكتاب والأصل بناء على إفادته الظنّ ، أو غير مؤثّر ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب والأصل بناء على كونه من باب التعبّد الظاهري. وجعل المستقلّ المعتبر مطلقا ، خصوصا (٢٨٧٩) ما لا يؤثّر في الخبر ـ من المرجّحات لا يخلو عن مسامحة.

______________________________________________________

٢٨٧٨. بمعنى عدم استقلاله في نفسه على تقدير اعتباره في الدلالة على حكم ، كصفات الراوي مثل الأعدليّة والأوثقيّة والأضبطيّة ونحوها ، وصفات السند مثل كونه عاليا أو متّصلا أو نحوهما ، أو صفات متن الرواية مثل الأفصحيّة ونحوها. وبالمقابلة يظهر معنى المرجّح الخارجي ، وهي كلّ مزيّة تدلّ بذاته على تقدير اعتبارها على حكم من الأحكام ، مثل الشهرة والكتاب والسنّة والأصل ونحوها.

فإن قلت : إنّ المرجّح هي موافقة الخبر لشيء منها ، وصفة الموافقة لا تثبت حكما.

قلت : المرجّح هو نفس الامور المذكورة من حيث موافقة الخبر لأحدها ، والمدّعى دلالة ذات هذه الامور كما لا يخفى.

٢٨٧٩. يعني : في اصطلاح العلماء ، لا في جعل الشارع ووضعه وحكمه بالأخذ بموافقه ، إذ لا شكّ في وقوعه شرعا وعدم المسامحة في حكمه ، ولا في تسميته مرجّحا بحسب الشرع ، إذ ليس من التسمية في الأخبار عين ولا أثر.

أمّا الداخليّ ، فهو على أقسام ؛ لأنّه : إمّا أن يكون راجعا إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور وأبعد عن الكذب ، سواء كان راجعا إلى سنده كصفات الراوي أو إلى متنه كالأفصحيّة. وهذا لا يكون إلّا في أخبار الآحاد. وإمّا أن يكون راجعا إلى وجه الصدور ، ككون أحدهما مخالفا للعامّة أو لعمل سلطان الجور أو قاضي الجور ، بناء على احتمال كون (٢٨٨٠) مثل هذا الخبر صادرا لأجل التقيّة.

وإمّا أن يكون راجعا إلى مضمونه ، كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ؛ إذ يحتمل الاشتباه في التعبير ، فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع ، وكمخالفة العامّة بناء على أنّ الوجه في الترجيح بها ما في أكثر الروايات : من" أنّ خلافهم أقرب إلى الحقّ" ، وكالترجيح بشهرة الرواية (٢٨٨١) ونحوها.

وهذه الأنواع الثلاثة كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة ، فإنّ الأقوى دلالة مقدّم على ما كان أصحّ سندا وموافقا للكتاب ومشهور الرواية بين الأصحاب ؛ لأنّ صفات الرواية لا تزيده على المتواتر ، وموافقة الكتاب لا تجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه تخصيص الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد.

______________________________________________________

وأمّا وجه المسامحة ، فإنّ المرجّح الخارجي المعتبر مستقلّ بإثبات الحكم ، سواء رجح به أحد الخبرين أم لا. والمتبادر من المرجّح في كلمات العلماء ما كان محدثا لمزيّة ورجحان في الخبر الموافق له ، من دون أن يكون هو مستقلّا بإفادة الحكم. ومنه يظهر أنّ المسامحة في جعل المعتبر الذي لا يؤثّر في الخبر أشدّ وآكد ، لفرض عدم موافقته للخبر في المرتبة ، لكون اعتبار الخبر من باب الكشف والطريقيّة ، واعتبار الأصل مثلا من باب التعبّد ، ولذا لا يؤثّر في رجحانه.

٢٨٨٠. احترز به عن كون مخالفة العامّة من المرجّحات المضمونيّة.

٢٨٨١. كونها من المرجّحات المضمونيّة إنّما هو مبنيّ على ما سيجيء في بيان المرجّحات الخارجة من كشفها عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى على طبق الرواية وإن لم يكن استناد المفتين إليها ، وإلّا فهي من المرجّحات الصدوريّة.

فكلّما رجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الأخر. والسرّ في ذلك ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مصبّ الترجيح بها هو ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفيّ يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقية ، بل في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد.

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة ، وصيرورتهما كالكلام الواحد ـ على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين ـ فيدخل في قوله عليه‌السلام : " أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ..." إلى آخر الرواية المتقدّمة ، وقوله عليه‌السلام : " إنّ في كلامنا محكما ومتشابها فردّوا متشابهها إلى محكمها" ، ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما (٢٨٨٢) ، تحيّر السائل فيهما ، ولم يظهر المراد منهما إلّا ببيان آخر لأحدهما أو لكليهما. نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض وتعيين الأظهر ، وهذا خارج عمّا نحن فيه.

وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين ، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع. نعم قد يظهر من عبارة الشيخ قدس‌سره في الاستبصار خلاف ذلك ، بل يظهر منه أنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر فضلا عن الظاهر والأظهر ؛ فإنّه قدس‌سره بعد ما ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه ، قال : وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين ، فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين. وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا. وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وكانا عاريين عن جميع القرائن التي ذكرناها ينظر :

______________________________________________________

٢٨٨٢. لعلّ وجه الترقّي أنّ العامّ والخاصّ المطلقين إذا لم يفرض اقترانهما ربّما يفهم التنافي بينهما ، لكن بعد فرض اقترانهما يظهر كون الخاصّ قرينة عرفيّة على ما هو المراد من العامّ.

فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل ، كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر ؛ لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا.

وإن كان الخبران يمكن العمل بكلّ منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل ، وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه ـ صريحا أو تلويحا ، لفظا أو دليلا ـ وكان الآخر عاريا عن ذلك ، كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار. وإذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر وكانا متحاذيين ، كان العامل مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٢٠) ، انتهى موضع الحاجة.

وقال في العدّة : وأمّا الأخبار إذا تعارضت وتقابلت ، فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح يكون بأشياء ، منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها والآخر مخالفا لهما ؛ فإنّه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما ، وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافقه وترك ما يخالفهم.

فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما : فإن كان إحدى الروايتين راويها عدلا (٢٨٨٣) وجب العمل بها وترك العمل بما لم يروه العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب. فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواة وعمل به وترك العمل بقليل الرواة. فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقهم. وإن كان الخبران موافقين للعامّة أو مخالفين لهم نظر في حالهما : فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه وضرب

______________________________________________________

٢٨٨٣. الأولى أن يقال : أعدل كما هو مقتضى أخبار الترجيح ، لأنّ الترجيح فرع استجماع الخبرين لشرائط الحجّية ، والعدالة شرط في العمل بهما عند الشيخ بالمعنى المعتبر في هذا الباب. ولعلّ في حمل المصدر إشارة إلى أعدليّة رواة أحدهما ، حيث إنّ حمله يفيد مبالغة.

من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر الآخر ، وجب العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر ؛ لأنّ الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما ، وليس هنا قرينة تدلّ على صحّة أحدهما ، ولا ما يرجّح أحدهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ، ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب اطّراح العمل بالآخر. وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما وتنافيهما أو أمكن حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه ، كان الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٢١) ، انتهى. وهذا كلّه كما ترى يشمل حتّى تعارض العام والخاص مع الاتّفاق فيه على الأخذ بالنصّ.

وقد صرّح في العدّة في باب بناء العام على الخاص بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارض العامّين دون العام والخاص ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلا. واستدلّ على العمل بالخاص بما حاصله : أنّ العمل بالخاص ليس طرحا للعام ، بل حمل له على ما يمكن أن يريده الحكيم ، وأنّ العمل بالترجيح والتخيير فرع التعارض الذي لا يجري فيه الجمع. وهو مناقض صريح لما ذكره هنا من أنّ الجمع من جهة عدم ما يرجّح أحدهما على الآخر.

وقد يظهر ما في العدّة من كلام بعض المحدّثين ، حيث أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة لمعارضة خبر الرخصة ، زاعما أنّه طريق جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، بل ظاهرها تعيّن الرجوع إلى المرجّحات المقرّرة.

وربّما يلوح هذا أيضا من كلام المحقّق القمي في باب بناء العام على الخاص ، فإنّه بعد ما حكم بوجوب البناء ، قال : وقد يستشكل : بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامة أو موافق للكتاب ونحو ذلك ، وهذا يقتضي تقديم العام لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامة أو نحو ذلك. وفيه : أنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاص من حيث العموم والخصوص ، لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العام من جهة مرجّح خارجي ، وهو خارج عن المتنازع (٢٢) ، انتهى.

والتحقيق : أنّ هذا كلّه خلاف ما يقتضيه الدليل ؛ لأنّ الأصل في الخبرين الصدق والحكم بصدورهما فيفرضان كالمتواترين ، ولا مانع عن فرض صدورهما (٢٨٨٤) حتّى يحصل التعارض ؛ ولهذا لا يطرح الخبر الواحد الخاص بمعارضة العام المتواتر.

وإن شئت قلت : إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر (٢٨٨٥) إلى التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ودليل حجيّة النص ، ومن المعلوم ارتفاع الأصل بالدليل.

______________________________________________________

٢٨٨٤. حاصله : أنّ تعارض الخبرين إنّما هو بتمانع مدلولهما على وجه لا يمكن فرض صدورهما عن الإمام عليه‌السلام ، لاستلزامه التنافي ، ولذا احتيج إلى الترجيح في المتباينين ، وحيث لا تنافي بين العامّ والخاصّ عرفا على الوجه المذكور لا يكونان موردين للترجيح.

٢٨٨٥. توضيح المقام : أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهرين بحيث لا يمكن الجمع بينهما إلّا بصرفهما عن ظاهرهما ، فالصور المتصوّرة هنا أربع : الاولى : الأخذ بسندهما ، وطرح ظاهرهما. الثانية : الأخذ بسند أحدهما مع ظاهره. وطرح الآخر رأسا. الثالثة : الأخذ بسند أحدهما مع ظاهر الآخر. الرابعة : الأخذ بظاهرهما ، وطرح سندهما.

ولا سبيل إلى الأخيرتين ، لامتناعهما جدّا ، فيدور الأمر بين الأوليين. وحينئذ لا بدّ من الجمع ، أو الترجيح إن كان أحدهما موافقا لأحد المرجّحات ، وإلّا فالتخيير. وحينئذ فالأخذ بسند الراجح أو المختار وطرح ظاهر الآخر متعيّنان ، لثبوتهما على كلّ تقدير. وحينئذ يدور الأمر بين الأخذ بسند ما تعيّن طرح ظاهره ، وبين طرح ظاهر ما تعيّن الأخذ بسنده ، كما تقدّم توضيح ذلك عند بيان قاعدة الجمع.

وأمّا إذا كان الخبران من قبيل النصّ والظاهر ، فيدور الأمر بين الأخذ بسندهما مع دلالة النصّ وطرح ظهور الظاهر ، وبين الأخذ بسند أحدهما الراجح أو المخيّر مع دلالته وطرح الآخر كذلك. وحيث فرضنا الكلام فيما كان الظاهر

وكذا الكلام في الظاهر والأظهر ؛ فإنّ دليل حجّية الأظهر يجعله قرينة صارفة عن إرادة الظاهر ، ولا يمكن طرحه لأجل أصالة الظهور ، ولا طرح ظهوره لظهور الظاهر ، فتعيّن العمل به وتأويل الظاهر به. وقد تقدّم في إبطال الجمع بين الدليلين ما يوضح ذلك. نعم ، يبقى الإشكال في الظاهرين اللذين يمكن التصرّف في كلّ واحد منهما بما يرفع منافاته لظاهر الآخر ، فيدور الأمر بين الترجيح من حيث (٢٨٨٦) السند وطرح المرجوح ، وبين الحكم بصدورهما وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما.

فعلى ما ذكرنا ـ من أنّ دليل حجّية المعارض لا يجوز طرحه لأجل أصالة الظهور في صاحبه ، بل الأمر بالعكس ؛ لأنّ الأصل لا يزاحم الدليل ـ يجب الحكم في المقام بالإجمال ؛ لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما مع العلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، فيتساقط الظهوران من الطرفين ، فيصيران مجملين بالنسبة إلى مورد

______________________________________________________

راجحا أو مأخوذا ومختارا على تقدير عدم رجحانه ، لأنّ الكلام في جواز تقديم الظاهر على النصّ دون العكس ، يدور الأمر حينئذ بين ظهور الظاهر وسند النصّ ، وحيث كان النصّ على تقدير القطع بسنده واردا على ظهور الظاهر ، فعلى التقدير ظنّيته كان دليل اعتباره حاكما عليه.

وإن كانا من قبيل الظاهر والأظهر ، كالعامّ والخاصّ المطلقين مع عدم نصوصيّة الخاصّ ، فهما كسابقهما ، إلّا أنّه مع دوران الأمر هنا بين الظاهر وسند الأظهر لا يكون دليل اعتبار سند الأظهر حاكما على أصالة الحقيقة في الظاهر ، بل كان تقديمه عليه من باب تقديم أقوى الدليلين على الآخر ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله ، لكون الأظهر من حيث قوّة دلالته أقوى من صاحبه.

وإن كانا من قبيل العامّين من وجه ، فحيث كان دليل اعتبار كلّ منهما صالحا للحكومة على ظهور الآخر يتعارضان ، وحينئذ إمّا يتساقطان ويرجع إلى مقتضى الاصول ، أو يلتمس الترجيح بالمرجّحات السنديّة على الوجهين في المسألة ، على ما أوضحه المصنّف قدس‌سره.

٢٨٨٦. يعني : في مورد التعارض خاصّة.

التعارض ، فهما كظاهري مقطوعي الصدور أو ككلام واحد تصادم فيه ظاهران.

ويشكل بصدق التعارض بينهما عرفا ودخولهما في الأخبار العلاجيّة ؛ إذ تخصيصها بخصوص المتعارضين اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلّا بإخراج كليهما عن ظاهرهما خلاف الظاهر ، مع أنّه لا محصّل للحكم بصدور الخبرين والتعبّد بكليهما ؛ لأجل أن يكون كلّ منهما سببا لإجمال الآخر ، ويتوقّف في العمل بهما فيرجع إلى الأصل ؛ إذ لا يترتّب حينئذ ثمرة على الأمر بالعمل بهما. نعم ، كلاهما دليل واحد (٢٨٨٧) على نفي الثالث ، كما في المتباينين.

وهذا هو المتعيّن ؛ ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السنديّة في مثل ذلك ، إلّا أنّ اللازم من ذلك وجوب التخيير بينهما عند فقد المرجّحات ، كما هو ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمتين ، كما أنّ اللازم على الأوّل التوقّف من أوّل الأمر والرجوع إلى الأصل إن لم يكن مخالفا لهما ، وإلّا فالتخيير من جهة العقل ، بناء على القول به في دوران الأمر بين احتمالين مخالفين للأصل ، كالوجوب والحرمة.

______________________________________________________

٢٨٨٧. لا يخفى أنّ هذه الثمرة تكفي في الأمر بالتعبّد بهما ، وإن كانت عاقبة الأمر الحكم بإجمالهما والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، بل يمكن منع لزوم ترتّب الثمرة على جعل اعتبار الخبرين المتعارضين ، لأنّ ذلك إنّما يلزم على تقدير اعتبارهما بالخصوص ، لا على تقدير اعتبارهما بعموم أدلّة اعتبارهما. ونظير ما نحن فيه جميع القواعد والاصول التي قد يتعارض مؤدّى بعضها في بعض الموارد كالشبهة المحصورة وغيرها ، لأنّ تعارض استصحابي الطهارة فيها لا يمنع شمول أدلّة الاستصحاب لكلّ من المشتبهين من حيث أنفسهما ، وغاية الأمر أن يكون تعارضهما موجبا للتساقط لا مانعا من أصل اعتبارهما ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته.

نعم ، قد يظهر منه في بعض آخر من كلماته عدم شمول أدلّة اعتبار الاصول لموارد العلم الإجمالي ، لكن لا لأجل عدم ترتّب ثمرة عليه ، بل من أجل عدم إمكان شمول أدلّتها لكلّ من المتعارضين ، ولا لأحدهما بعينه ولا لا بعينه ، كما قرّره في تعارض الاستصحابين ، فراجع.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّه قد يفصّل في المسألة بين ما إذا كان لكلّ من المتعارضين (٢٨٨٨) مورد سليم عن التعارض ، كما في العامين من وجه ؛ حيث إنّ الرجوع إلى المرجّحات السنديّة فيهما على الإطلاق يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ولا وجه له ، والاقتصار في الترجيح بها على (*) خصوص مادّة الاجتماع التي هي محلّ المعارضة وطرح المرجوح بالنسبة إليها مع العمل به في مادّة الافتراق ، بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجيّة ، وبين ما إذا لم يكن لهما مورد سليم ، مثل قوله : " اغتسل للجمعة" الظاهر في الوجوب ، وقوله : " ينبغي غسل الجمعة" الظاهر في الاستحباب ، فيطرح الخبر المرجوح رأسا لأجل بعض المرجّحات.

لكنّ الاستبعاد المذكور في الأخبار العلاجيّة إنّما هو من جهة أنّ بناء العرف في العمل بأخبارهم من حيث الظنّ بالصدور ، فلا يمكن التبعيض في صدور العامّين من وجه من حيث مادّتي الافتراق والاجتماع ، كما أشرنا سابقا إلى أنّ الخبرين المتعارضين من هذا القبيل.

وأمّا إذا تعبّدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط ، فلا مانع من تعبّده ببعض مضمون الخبر دون بعض. وكيف كان فترك التفصيل أوجه منه ، وهو أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات.

وأمّا ما ذكرنا في وجهه من عدم جواز طرح دليل حجّية أحد الخبرين لأصالة الظهور في الآخر ، فهو إنّما يحسن إذا كان ذلك الخبر بنفسه (٢٨٩٠) قرينة على

______________________________________________________

٢٨٨٨. يعني «** و***» : بالعموم من وجه.

٢٨٨٩. يعني «** و***» : من قبيل التبعيض في السند. وحاصل ما ذكره في المقام : أنّ الأخبار المتعارضة العرفيّة المعتبرة عندهم من باب الظنّ ، كما لا يمكن التبعيض فيها بحسب الصدور ، كذلك الأخبار المتعارضة في الشرعيّات المعتبرة من باب الظنّ شرعا.

٢٨٩٠. وهذا إنّما يتمّ فيما كان ذلك الخبر نصّا أو أظهر بالنسبة إلى الآخر ،

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «علي» : في.

(** و***) هاتان التعليقتان على عبارة زائدة وردت في بعض النسخ ، وهي : «كما أشرنا سابقا إلى أنّ الخبرين المتعارضين من هذا القبيل». انظر فرائد الاصول (طبعة مجمع الفكر الاسلامي) ج ٤ : ص ٨٨ الهامش رقم (٣).

إرادة خلاف الظاهر في الآخر ، وأمّا إذا كان محتاجا إلى دليل ثالث يوجب صرف أحدهما ، فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يعدّ غير ممكن ، فلا بدّ من طرح أحدهما معيّنا للترجيح ، أو غير معيّن للتخيير. ولا يقاس حالهما على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ، كما أشرنا إلى دفع ذلك عند الكلام في أولويّة (*) الجمع على الطرح ، والمسألة محلّ إشكال.

وقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة ؛ إذ الظاهر لا يعارض النص حتّى يرجّح النصّ عليه. نعم ، النصّ الظنّي السند يعارض دليل سنده لدليل حجّية الظهور ، لكنّه حاكم على دليل اعتبار الظاهر ، فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر ؛ نظرا إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، غاية الأمر ترجيح الأظهر.

ولا فرق في الظاهر والنصّ بين العام والخاص المطلقين إذا فرض عدم احتمال في الخاصّ (٢٨٩١) يبقى معه ظهور العام وإلّا دخل في تعارض الظاهرين أو تعارض

______________________________________________________

إذ على الأوّل يكون دليل اعتباره حاكما على ظهور الآخر ، وعلى الثاني يكون تقديم الأظهر عليه من باب تقديم أقوى الدليلين ، كما عرفت توضيحه عند شرح قوله : «وإن شئت قلت إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر ...».

٢٨٩١. مثل احتمال الأمر في قوله : أعتق رقبة مؤمنة بعد قوله : أعتق رقبة ، لبيان أفضل الأفراد ، لبقاء الأمر بالمطلق حينئذ على ظهوره من إفادة الوجوب. وحينئذ إن كان هذا الاحتمال مساويا لاحتمال إرادة الاستحباب من الأمر بالمطلق كانا من قبيل الظاهرين ، وإن كان مرجوحا بالنسبة إليه كانا من قبيل الظاهر والأظهر ، وإن فرض عدم تحقّق هذا الاحتمال فيه ولو لأجل دليل خارجي كانا من قبيل النصّ والظاهر.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «أولويّة» ، أدلّة تقديم.

الظاهر والأظهر ـ وبين ما يكون التوجيه فيه (٢٨٩٢) قريبا وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا ، مثل صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ؛ لأنّ العبرة بوجود احتمال في أحد الدليلين لا يحتمل ذلك في الآخر وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا في الغاية ؛ لأنّ مقتضى الجمع بين العامّ والخاصّ بعينه موجود فيه.

وقد يظهر خلاف ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر من بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلاليّة ، مثل حمل الخاصّ المطلق (٢٨٩٣) على التقيّة لموافقته لمذهب العامّة : منها : ما يظهر من الشيخ رحمه‌الله في مسألة" من زاد في صلاته ركعة" ، حيث حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهّد على التقيّة ، وعمل على عمومات إبطال الزيادة ، وتبعه بعض متأخّري المتأخّرين. لكنّ الشيخ رحمه‌الله كأنّه بنى على ما تقدّم عن العدّة والاستبصار من ملاحظة المرجّحات قبل حمل أحد الخبرين على الآخر أو على استفادة التقيّة من قرائن أخر غير موافقة مذهب العامّة. ومنها : ما تقدّم عن بعض المحدّثين ، من مؤاخذة حمل الأمر والنهي على الاستحباب والكراهة.

وقد يظهر من بعض الفرق بين العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ الصريح في الاستحباب وما يتلوهما في قرب التوجيه وبين غيرهما ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا ، حيث إنّه (*) ـ بعد نفي الإشكال عن الجمع بين العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ (**) في الاستحباب ـ استشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ دليل على أنّ القبلة أو مسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما ، وقال : " إنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستند إلى النصّ المذكور ، وأمّا الحكم باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ، لأنّ تأويل كلامهم

______________________________________________________

٢٨٩٢. يعني بينما ورد فيه خبران احتمل أحدهما توجيها لا يحتمله الآخر ، سواء كان التوجيه فيه قريبا أم بعيدا.

٢٨٩٣. أي : لا من وجه.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «إنّه» : قال.

(**) فى بعض النسخ : بدل «النصّ» : الصريح.

لم يثبت حجّيته إلّا إذا فهم من الخارج إرادته ، والفتوى والعمل به محتاج إلى مستند شرعي ، ومجرّد أولويّة الجمع غير صالح".

أقول ـ بعد ما ذكرنا من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ والخاصّ وشبهه بعينه جار فيما نحن فيه ، وليس الوجه في الجمع شيوع التخصيص ، بل المدار على احتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر ، مع أنّ حمل ظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضا شايع على ما اعترف به سابقا. وليت شعري ما الذي أراد بقوله : تأويل كلامهم لم يثبت حجّيته إلّا إذا فهم من الخارج إرادته؟

فإن بنى على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء وعدم البناء على أنّه كلامهم عليهم‌السلام ، فأين كلامهم حتّى يمنع من تأويله إلّا بدليل؟! وهل هو إلّا طرح السند لأجل الفرار عن تأويله؟! وهو غير معقول (٢٨٩٤). وإن بنى على عدم طرحه وعلى التعبّد بصدوره ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضا قريب من الأوّل ؛ إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ، بل لا معنى لوجوب التعبّد به ؛ إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه.

وبالجملة : إنّ الخبر الظنّيّ إذا دار الأمر بين طرح سنده وحمله وتأويله ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ المتعيّن تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل ، ولا معنى لطرحه أو الحكم بصدوره تقيّة فرارا عن تأويله. وسيجيء زيادة توضيح ذلك إن شاء الله.

فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر (٢٨٩٥). والأظهريّة قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من

______________________________________________________

٢٨٩٤. يعني : لم يظهر له وجه معقول لا أنّه ممتنع ، لأنّ الممتنع هو التأويل مع طرح السند ، لا طرح السند لئلّا يلزم التأويل على تقدير الأخذ به. ثمّ إنّ وجه عدم المعقوليّة هو تعيّن الأخذ بالسند وتأويل الدلالة على ما حقّق به المقام.

٢٨٩٥. لما تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله من كون تقديم النصّ على الظاهر من باب الحكومة دون الترجيح.

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ ما ذكره من اختلاف رجحان أحد الخبرين على الآخر مشخّصا وصنفا ونوعا ممّا لا إشكال فيه. وكذا لا إشكال في ترتّبها متنازلا ، فيقدّم الراجح شخصا على الراجح نوعا أو صنفا ، وكذا الراجح صنفا على الراجح نوعا ، لكون الأوّل أقوى من الثاني ، وهو من الثالث. وحيث لم يندرج الأوّل تحت قاعدة وضابطة جعلوا الكلام في باب تعارض الأحوال في الأخيرين ، ولا بدّ مع رجحان أحد الدليلين من ارتكاب خلاف الأصل في الآخر ، بارتكاب التأويل فيه وصرفه عن ظاهره. وحصروا الامور المخالفة للأصل في خمسة : النسخ ، والإضمار ، والتخصيص ، والتقييد ، والتجوّز. وربّما يضاف إليها امور أخر إلّا أنها لا تخرج منها ، وما عدا الأخير وإن كان من أقسامه في وجه ، إلّا أنّهم أفردوا البحث عن كلّ واحد منه وخصّوه بالذكر ، لمزيد امتيازه من بين سائر المجازات.

ثمّ إنّه ربّما يدور الأمر بين المتجانسين منها ، بأن دار الأمر بين ارتكاب النسخ في هذا الدليل وذاك الدليل ، وهكذا. وربّما يدور الأمر بين المتخالفين منها ، بأن دار الأمر بين ارتكاب النسخ في هذا الدليل وبين ارتكاب أحد الأربعة الباقية في ذاك الدليل. وحينئذ يكون التعارض والدوران تارة وحدانيّا ، بأن دار الأمر بين ارتكاب أحدها في أحد الدليلين وواحد من الأربعة الباقية في الآخر ، واخرى ثنائيّا ، وثالثة ثلاثيّا ، ورابعة رباعيّا ، وخامسة خماسيّا ، وسادسة مختلفا. ويعبّر الاصوليّون عن هذا التعارض والدوران بتعارض الأحوال.

وأورد المصنّف رحمه‌الله من صور الاختلاف الوحداني مسائل ، ثمّ نبّه على تعارض المتجانسين ، ويظهر الكلام في الباقي ممّا حقّق به المقام. والمشهور ـ كما هو الأقوى ـ كون احتمال النسخ أخسّ من جميع الامور المذكورة ، والإضمار بالنسبة إلى ما عداه ، لقلّة الأوّل بالنسبة إلى الجميع ، والإضمار بالنسبة إليه. فحيث يدور الأمر بين الأوّل وأحد الأربعة الباقية ، أو بين الثاني وواحد ممّا عداه ، يقدّم ما عداهما عليهما ، لغلبته ورجحانه بالنسبة إليهما. وستقف على تتمّة الكلام فيهما وفي الباقي.

جهة القرائن الشخصيّة ، وهذا لا يدخل تحت ضابطة ، وقد تكون بملاحظة نوع المتعارضين ، كأن يكون أحدهما ظاهرا في العموم والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان ، فيقع الكلام في ترجيح المفهوم على العموم. وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ (٢٨٩٦) والتخصيص والتقييد (٢٨٩٧) ، وقد تكون باعتبار الصنف ، كترجيح أحد العامّين (٢٨٩٨) أو المطلقين على الآخر لبعد التخصيص أو التقييد فيه.

ولنشر إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل : منها : لا إشكال في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع في استمراره باستمرار الشريعة على ظهور العام في العموم الأفراديّ ، ويعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص أولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العام أو في الخاص (٢٨٩٩). والمعروف تعليل ذلك بشيوع التخصيص وندرة النسخ.

وقد وقع الخلاف في بعض الصور ، وتمام ذلك في بحث العامّ والخاص من مباحث الألفاظ. وكيف كان ، فلا إشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم

______________________________________________________

٢٨٩٦. بأن ورد الخاصّ بعد العامّ وجهل تاريخهما ، فاحتمل ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ أو قبله ، فيدور الأمر حينئذ بين كون الخاصّ ناسخا ومخصّصا. واحترز ببعض الأفراد عن صورة العلم بالتاريخ ، وبكون الخاصّ واردا قبل حضور وقت العمل بالعامّ أو بعده ، لعدم الدوران حينئذ.

٢٨٩٧. مثل قوله : صلّ ولا تغصب.

٢٨٩٨. مثل العامّ المعلّل والوارد في مقام الامتنان ، وكذا العامّ الذي كان أقلّ فردا من الآخر كما سيجيء.

٢٨٩٩. لأنّه مع ورود الخاصّ بعد العامّ مع الجهل بوروده بعد حضور وقت العمل بالعامّ أو قبله ، يدور الأمر بين كون العامّ منسوخا أو مخصّصا بالفتح. ومع ورود الخاصّ قبله مع الجهل بورود العامّ قبل حضور وقت العمل به أو بعده ، يدور الأمر بين كون الخاصّ منسوخا وكونه مخصّصا للعامّ.

ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ، فالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام يتعيّن فيه النسخ ، وأمّا ارتكاب كون (٢٩٠٠) الخاصّ كاشفا عن قرينة كانت مع العامّ واختفت فهو خلاف الأصل. والكلام في علاج المتعارضين من دون التزام وجود شيء زائد عليهما.

نعم ، لو كان هناك دليل على امتناع النسخ وجب المصير إلى التخصيص مع التزام اختفاء القرينة حين العمل أو جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين واقعا (٢٩٠١) مع مخاطبتهم بالظاهر الموجبة لعملهم بظهوره ، وبعبارة اخرى : تكليفهم ظاهرا هو العمل بالعموم. ومن هنا يقع الإشكال في تخصيص العمومات المتقدّمة في كلام النبيّ أو الوصيّ أو بعض الأئمّة عليهم‌السلام بالمخصّصات الواردة بعد ذلك بمدّة عن باقي الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّه لا بدّ أن يرتكب فيها النسخ أو كشف الخاصّ عن قرينة مع العامّ مختفية أو كون المخاطبين بالعامّ تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا.

أمّا النسخ ـ فبعد توجيه وقوعه بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بإرادة كشف ما بيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للوصيّ عليه‌السلام عن غاية الحكم الأول وابتداء الحكم الثاني ـ مدفوع : بأنّ غلبة هذا النحو (*) من التخصيصات يأبى عن حملها على ذلك ، مع أنّ الحمل على النسخ يوجب طرح ظهور كلا الخبرين في كون مضمونهما حكما مستمرّا من أوّل الشريعة إلى آخرها ، إلّا أن يفرض المتقدّم ظاهرا في الاستمرار ، والمتأخّر غير ظاهر بالنسبة إلى ما قبل صدوره ، فحينئذ يوجب طرح ظهور المتقدّم لا المتأخّر ، كما لا يخفى. وهذا لم (**) يحصل في كثير من الموارد بل أكثرها.

______________________________________________________

٢٩٠٠. دفع لتوهّم عدم تعيّن الخاصّ للنسخ في الفرض المذكور.

٢٩٠١. يعني : المخاطبين بالعامّ. وقوله «واقعا» متعلّق بالإرادة.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : وهو كون المخاطبين بالعامّ تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا.

(**) فى بعض النسخ : بدل «لم» ، لا.

وأمّا اختفاء المخصّصات ، فيبعّده بل يحيله عادة عموم البلوى بها من حيث العلم والعمل ، مع إمكان دعوى العلم بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها ، بل المعلوم جهلهم بها.

فالأوجه هو الاحتمال الثالث ، فكما أنّ رفع (٢٩٠٢) مقتضى البراءة العقليّة ببيان التكليف كان على التدريج ـ كما يظهر من الأخبار والآثار ـ مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز أن يكون الحكم الظاهريّ للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرّمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات ، وإن كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك.

ودعوى : الفرق (٢٩٠٣) بين إخفاء التكليف الفعليّ وإبقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك بمقتضى البراءة العقليّة وبين إنشاء الرخصة له في فعل الحرام وترك الواجب ، ممنوعة. غاية الأمر أنّ الأوّل من قبيل عدم البيان ، والثاني من قبيل بيان العدم ، ولا قبح فيه بعد فرض المصلحة ، مع أنّ بيان العدم قد يدّعى وجوده

______________________________________________________

٢٩٠٢. هذا زيادة تقريب للوجه الثالث بالمقايسة ، ورفع استبعاد عنه.

٢٩٠٣. بلزوم القبح على الشارع على الثاني دون الأوّل. وتوضيح الفرق : أنّ تقرير المكلّفين على مقتضى عقولهم من البراءة والتخيير مع ثبوت التكليف في الواقع ، وكذا إنشاء الحكم عموما أو إطلاقا مع ثبوت التخصيص أو التقييد في الواقع ، وإن استلزم كلّ منهما تفويت الواقع عليهم ، إلّا أنّه لا قبح في الأوّل ، لأنّ التفويت فيه ليس بمستند إلى الشارع بل إلى اختيار المكلّف ، لفرض إمكان الاحتياط واحتمال ثبوت التكليف في الواقع ، فمجرّد تقرير الشارع وسكوته عن بيان الواقع لا قبح فيه أصلا ، بخلاف الثاني ، لأنّ إنشاء الحكم عموما أو إطلاقا بيان لنفس الواقع ، فيزعم منه المكلّف عدم التخصيص والتقييد في الواقع ، فيقدم على الامتثال زاعما للعموم أو الإطلاق ، فيكون تفويت الواقع حينئذ مستندا إلى الشارع لا محالة.

في الكلّ ، بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة الغدير في حجّة الوداع : " معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه" ، بل يجوز أن يكون مضمون العموم والإطلاق هو الحكم الإلزاميّ وإخفاء القرينة المتضمّنة (٢٩٠٤) لنفي الإلزام ، فيكون التكليف حينئذ لمصلحة فيه لا في المكلّف به.

فالحاصل أنّ المستفاد من التتبّع في الأخبار والظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرينة ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل الوصيّ عليه‌السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه واطلق في كتاب الله ، وأودعه علم ذلك وغيره. وكذلك الوصيّ بالنسبة إلى من بعده من الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه.

فإن قلت : اللازم من ذلك (٢٩٠٥) عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص

______________________________________________________

وأمّا توضيح المنع بعد اشتراك المقيس مع المقيس عليه في إمكان الاحتياط ، واحتمال ثبوت التكليف في الواقع على خلاف مقتضى البراءة أو العموم والإطلاق ، واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

٢٩٠٤. فلا يلزم ما تقدّم من الترخيص في فعل الحرام أو ترك الواجب.

٢٩٠٥. توضيح السؤال : أنّ إثبات تكليفنا بالعموم بواسطة أصالة عدم المخصّص إنّما يتمّ على وجهين :

أحدهما : أن يكون الخطاب عامّا للمعدومين أيضا ، إذ بعد إثبات عدم ورود المخصّص من الشارع يثبت تكليفنا بالعموم لا محالة ، لقبح الخطاب بما له ظاهر مع إرادة خلافه.

وثانيهما : بعد تسليم اختصاص الخطاب بالمشافهين أن نقول بالملازمة بين عدم ورود التخصيص من الشارع وإرادة العموم في الواقع ، لأنّه بعد إثبات عدم المخصّص بأصالة عدمه يثبت تكليف المشافهين بالعموم في الواقع ، ويثبت في حقّنا أيضا بدليل الاشتراك في التكليف. وأمّا إذا قلنا باختصاص الخطاب ، وكذا بعدم

في العمومات ـ بناء على اختصاص الخطاب بالمشافهين أو فرض الخطاب في غير الكتاب ـ إذ لا يلزم من عدم المخصّص لها في الواقع إرادة العموم ؛ لأنّ المفروض حينئذ جواز تأخير المخصّص عن وقت العمل بالخطاب.

قلت : المستند في إثبات أصالة الحقيقة بأصالة عدم القرينة قبح الخطاب بالظاهر المجرّد وإرادة خلافه ، بضميمة أنّ الأصل الذي استقرّ عليه طريقة التخاطب هو أنّ المتكلم لا يلقي الكلام إلّا لأجل إرادة تفهيم معناه الحقيقيّ أو المجازيّ ، فإذا لم ينصب قرينة على إرادة تفهيم المجاز تعيّن إرادة الحقيقة فعلا ، وحينئذ فإن اطّلعنا على التخصيص المتأخّر كان هذا كاشفا عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل لنكتة ، وأمّا إذا لم نطّلع عليه ونفيناه بالأصل فاللازم الحكم بإرادة تفهيم الظاهر فعلا من المخاطبين ، فيشترك الغائبون معهم.

ومنها : تعارض الإطلاق والعموم ، فيتعارض تقييد المطلق وتخصيص العامّ. ولا إشكال في ترجيح التقييد على ما حقّقه سلطان العلماء (٢٩٠٦)

______________________________________________________

الملازمة المذكورة كما هو الفرض في المقام ، فغاية ما يثبت بأصالة عدم المخصّص هو تكليف المشافهين بالعموم في الظاهر ، وإن كان المراد به الخصوص في الواقع. ولا دليل على الاشتراك في التكليف في الأحكام الظاهريّة ، لعدم الإجماع عليه كما قرّر في محلّه.

وحاصل الجواب : أنّ مبنى أصالة الحقيقة في الظواهر هو قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، مع فرض كون إلقاء الكلام للإفهام. وحينئذ نقول : إنّ مقتضى أصالة الحقيقة كون تكليف المشافهين في الواقع بالعموم ، غاية الأمر أنّه إذا ورد مخصّص للعامّ بعد حضور وقت العمل به كشف ذلك عن مخالفة المتكلّم لهذه القاعدة لمصلحة راعاها ، وأنّ تكليف المشافهين إنّما كان بالعموم ظاهرا دون الواقع. وأمّا إذا لم يظهر المخصّص ، كما هو الفرض في موارد التمسّك بأصالة عدمه ، فمقتضى أصالة الحقيقة هو تعلّق تكليف المشافهين في الواقع بالعموم ، فيثبت ذلك في حقّنا أيضا بدليل الاشتراك في التكليف.

٢٩٠٦. توضيح المقام يتوقّف على بيان أقسام المطلقات ، فنقول : إنّها على

.................................................................................................

______________________________________________________

ثلاثة أقسام :

أحدها : الإطلاق بحسب الأحوال ، أعني : الإطلاق الحاصل بحسب أحوال التكليف الناشئ من عدم البيان ، لأنّ عدم تقييد الأمر بالعتق في قولنا : أعتق رقبة بزمان أو مكان أو حالة يورث له الإطلاق بحسب هذه الأحوال ، لأجل عدم بيان القيد. وهذا الإطلاق خارج من مدلول اللفظ ، وإنّما هو ناش من عدم بيان القيد. ولا شكّ أنّ التقييد في مثل هذا الإطلاق لا يوجب تجوّزا في اللفظ ، لفرض خروجه من مدلوله كما عرفت ، ولذا لا ترى المنافرة والتمانع بينهما أصلا عرفا ولو في بادي النظر ، بخلاف قرائن المجاز ، لأنّ التمانع بينهما حاصل ، إلّا أنّ تقديم ظهور القرينة على ظهور الحقيقة لأجل قوّته ورجحانه بالنسبة إليه ، ولذا سمّيت قرائن صارفة ، لا من باب البيان كما فيما نحن فيه. ولعلّ المشهور أيضا لا يقولون بالمجازيّة هنا ، وإن نسب القول بالتجوّز على وجه الإطلاق إليهم بحيث يشمل المقام أيضا. ومن هنا يظهر أنّه إذا دار الأمر بين التخصيص وتقييد مثل هذا الإطلاق فهو من قبيل دوران الأمر بين الأصل والدليل ، لأنّ العمل بالثاني من باب عدم البيان ، وعموم العامّ بيان له بلا إشكال ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

والثاني : الإطلاق بحسب الفرد المنتشر المعبّر عنه بالحصّة الشائعة ، كما عرّفه بها جماعة مثل : أعتق رقبة ، بناء على كون التنوين للتنكير. ومحصّل نزاعهم واحتجاجاتهم في حصول التجوّز بالتقييد في هذا القسم ، هو أنّ من يقول بالتجوّز يدّعي أنّ مدلول «رقبة» في المثال بحسب الوضع هو الفرد المنتشر بوصف التعرية عن جميع القيود حتّى القيود الثابتة من الخارج ، كما إذا ثبت بالإجماع كون المكلّف به في المثال هو المؤمنة. وهذا لازم ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره ، فإنّه وإن لم يصرّح بوصف التعرية على نحو ما ذكرناه ، بل ادّعى كون وضعه للفرد المنتشر لا بوصف التعرية ولا بوصف عدمها ، بل له في حال التعرية ، نظرا إلى كون الوضع وحدانيّا ، إلّا أنّ ما ذكرناه لازم ما ادّعاه من كون تقييد المطلقات مورثا للتجوّز

.................................................................................................

______________________________________________________

مطلقا حتّى بالقيود الثابتة من الخارج ، إذ لا وجه له سوى أخذ وصف التعرية في الموضوع له ، فيكون استعماله في غير حال التعرية مجازا لا محالة ، لانتفاء جزء الموضوع له حينئذ.

وأمّا من يقول بالحقيقة فيدّعي كون مدلول «رقبة» هو الفرد المنتشر مطلقا ، بمعنى عدم تقيّده بوصف التعرية ، لا بمعنى تقيّده بوصف عدم التعرية حتّى يلزم التجوّز عند استعماله في نفس الفرد المنتشر من دون قيد ، بل بمعنى وضعه لمعنى يجتمع مع الإطلاق والتقييد ، من دون أن يكون شيء منهما مأخوذا في الموضوع له ، وهي الطبيعة المهملة كما يراه سلطان العلماء رحمه‌الله. وحيثما تطلق المطلقات مطلقة أو مقيّدة بشيء فالمراد بها هذه الطبيعة المهملة التي وضعت لها. والقيد حيثما ثبت إنّما يراد من الخارج لا بنفسها. وهذا هو المختار ، للتبادر ، لأنّا لا نفهم من المطلقات إلّا هذا المعنى.

نعم ، إن اريد القيد من لفظ المطلق كان مجازا ، والظاهر أنّ سلطان العلماء أيضا لا ينكر ذلك. والإطلاقات العرفيّة منزّلة على غير هذه الصورة ، وهي صورة إرادة المطلق في ضمن المقيّد بالحمل المتعارف ، بأن ثبت القيد من الخارج ، لا أن يكون مرادا من لفظ المطلق مع الطبيعة. وعلى هذا القول يكون الحكم بالإطلاق لأجل عدم البيان لا لأجل ظهوره في الإطلاق ، وحيث كان ظهور العامّ في العموم صالحا للبيانيّة يقدّم التقييد على التخصيص عند دوران الأمر بينهما.

الثالث : الإطلاق بحسب الطبيعة المعرّاة مطلقا حتّى عن قيد الفرد المنتشر ، أعني : الطبيعة المطلقة. والكلام فيه من حيث كون التقييد مورثا للتجوّز وعدمه كسابقه. ويدلّ على عدم التجوّز هنا ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّا لا نفهم فرقا بين قولنا : أعتق رقبة مؤمنة بناء كون التنوين للتمكّن ، وقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فكما أنّ الثاني حقيقة كذلك الأوّل. وإلى أنّ التقييد لو كان موجبا للتجوّز يلزم التجوّز في جميع مطلقات الكتاب والسنّة ، بل استعمالها في

من كونه حقيقة ؛ لأنّ الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان ، والعامّ بيان ، فعدم البيان للتقييد جزء من مقتضي الإطلاق ، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العامّ للعموم ، فإذا دفعنا المانع عن العموم بالأصل ، والمفروض وجود المقتضي له ، ثبت بيان التقييد وارتفع المقتضي للإطلاق ، فالمطلق دليل تعليقي والعامّ دليل تنجيزي ، والعمل بالتعليقيّ موقوف على طرح التنجيزي ؛ لتوقّف موضوعه على عدمه ، فلو كان طرح التنجيزيّ متوقّفا على العمل بالتعليقيّ ومسبّبا عنه لزم الدور ، بل هو يتوقّف على حجّة اخرى راجحة عليه. فالمطلق دليل تعليقيّ والعام دليل تنجيزي.

______________________________________________________

معانيها الحقيقيّة والمجازيّة ، بل استعمالها في ألف مجاز ، لتعاود القيود عليها بحسب اختلاف أحوال المكلّفين ، لأنّ قوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ) مثلا قد اريد منه الأمر بطبيعة الصلاة بالنسبة إلى من خلا من مرض وسفر وحالة اضطرار ونحوها ، وأمّا بالنسبة إلى المريض والمسافر والمضطرّ فقد قيّد بقيود شتّى ، وهكذا غيره من الإطلاقات ، ولا أقلّ من تقيّدها بالأفراد الممكنة من الطبيعة.

وربّما يفصّل في القيود بين المتّصلة والمنفصلة بالتزام التجوّز في الثاني دون الأوّل ، بدعوى كون المطلقات المقيّدة بالقيود المتّصلة موضوعة بحسب الهيئة للمقيّدات ، بخلاف المقيّدة بالقيود المنفصلة ، لبقائها على وضعها الأفرادي ، فيكون تقييدها بها مورثا للتجوّز فيها ، كما عرفته في حجّة القول الأوّل. وضعفه يظهر ممّا تقدّم.

وإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ إثبات ورود المطلقات في مقام بيان الإطلاق في جميع الأقسام المتقدّمة إنّما هو بمعونة عدم بيان القيد ، أعني : دليل الحكمة ، فعدم بيانه جزء من مقتضى الإطلاق ، بخلاف عموم العامّ ، لكونه بحسب الوضع ، فهو بنفسه مقتض للعموم ، والتخصيص مانع منه ، فهو بضميمة أصالة عدم المخصّص صالح للبيانيّة ، فيقيّد بإطلاق المطلق ، ولا يمكن العكس ، وكيف لا وهو مستلزم للدور كما قرّره المصنّف قدس‌سره وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ في إرادة الإطلاق مسبّب عن الشكّ في إرادة العموم ، فلو انعكس الأمر ايضا لزم الدور ، فلا بدّ أن يكون الشكّ في إرادة العموم مسبّبا عن أمر خارجي.

وأمّا على القول بكونه مجازا (٢٩٠٧) ،

______________________________________________________

٢٩٠٧. هذا القول محكيّ عن المشهور ولا إشكال في تحقّق الأغلبيّة ، لأنّهم وإن ادّعوا أنّه ما من عامّ إلّا وقد خصّ إلّا أنّه وارد على سبيل المبالغة ، لكثرة العمومات العرفيّة ، كما تقول : ما لقيت اليوم أحدا ، وما أكلت شيئا ، وما قرأت اليوم كتابا ونحو ذلك ، بخلاف المطلقات ، لندرة سلامتها عن التقييد ، بل لا يكاد يوجد لها مصداق في الخارج ، لأنّ منها ما هو واقع في حيّز الأخبار ، مثل : جاءني رجل أو رأيت رجلا أو نحوهما ، ولا ريب أنّها قد قيّدت بالوجود الخارجي ، لأنّ الأخبار في الغالب إنّما هو عن المعنيّات الخارجيّة ، ومنها ما هو واقع في حيّز الطلب ، ولا أقلّ من تقيده بالأفراد المقدورة. وبالجملة ، إنّ وجود خطاب سالم عن التقييد طلبا ومطلوبا من حيث الزمان والمكان والإمكان ونحوها في غاية القلّة ونهاية العزّة.

ويمكن الاستدلال أيضا على رجحان التقييد على القول المذكور بوجهين آخرين :

أحدهما : الفهم العرفي ، لأنّه مع دوران الأمر بين التقييد والتخصيص يجعل عموم العام بحسب العرف قرينة على التقييد ، وهذا واضح لمن تتبّع الأمثلة العرفيّة ، كما تقول : أهن جميع الفسّاق وأكرم العالم ، فإنّه يفهم منه وجوب إكرام العالم العادل.

وثانيهما : القرب الاعتباري بناء على جواز الترجيح به كما يراه بعضهم ، لأنّ المقيّد أقرب إلى المعنى الحقيقي من قرب الخاصّ إلى العامّ ، ولذا يحمل المطلق على المقيّد بالحمل المتعارف فيقال : زيد إنسان ، ولا يصحّ حمل العامّ على الخاصّ ، فلا يقال : زيد العالم العلماء. ولعلّ المصنّف رحمه‌الله لم يتعرّض للأوّل نظرا إلى كون مبنى الفهم العرفي على ما ذكره من الغلبة ، وللثاني لعدم الاعتداد بالقرب العرفي.

فالمعروف في وجه تقديم التقييد كونه أغلب من التخصيص. وفيه تأمّل (٢٩٠٨). نعم ، إذا استفيد العموم الشموليّ من دليل الحكمة كانت الإفادة غير مستندة إلى الوضع ، كمذهب السلطان في العموم البدليّ. وممّا ذكرنا يظهر حال التقييد مع سائر المجازات.

ومنها : تعارض العموم مع غير الإطلاق من الظواهر. والظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبته وشيوعه (٢٩٠٩). وقد يتأمّل في بعضها ، مثل ظهور الصيغة في الوجوب ؛ فإنّ استعمالها في الاستحباب شايع أيضا ، بل قيل بكونه مجازا مشهورا ، ولم يقل ذلك في العامّ المخصّص ، فتأمّل.

ومنها : تعارض ظهور بعض ذوات المفهوم من الجمل مع بعض. والظاهر تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ، والشرطيّة على الوصفيّة.

ومنها : تعارض ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات ، فيدور الأمر بين النسخ وارتكاب خلاف ظاهر آخر. والمعروف ترجيح الكلّ على النسخ ، لغلبتها بالنسبة إليه.

______________________________________________________

٢٩٠٨. قال المصنّف رحمه‌الله في الحاشية : «وجه التأمّل أنّ الكلام في التقييد المنفصل ، ولا نسلّم كونه أكثر. نعم ، دلالة ألفاظ العموم أقوى من دلالة المطلق لو قلنا إنّها بالوضع» انتهى.

٢٩٠٩. يحتمل أن يريد بغلبة التخصيص وجوها :

أحدها : أن يكون التخصيص أغلب بحسب وجوده الخارجي من مطلق المجازات الواقعة في الاستعمالات. وهذه الدعوى تكاد تشبه المكابرة ، لوضوح أغلبيّة سائر المجازات.

وثانيها : ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره من كون التخصيص أغلب من سائر المجازات الحاصلة في اللفظ العامّ. وهذه الدعوى أيضا غير مجدية في المقام ، لأنّ الكلام هنا في ترجيح التخصيص على سائر المجازات ، إذا دار الأمر بين تخصيص العامّ في كلام وارتكاب خلاف الظاهر في كلام آخر.

وقد يستدلّ على ذلك (٢٩١٠) بقولهم عليهم‌السلام : " حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة" (٢٣). وفيه : أنّ الظاهر سوقه لبيان استمرار أحكام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نوعا من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيامة في مقابل نسخها بدين آخر ، لا بيان استمرار أحكامه الشخصيّة إلّا ما خرج بالدليل ، فالمراد أنّ حلاله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيامة ، لا أنّ الحلال من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال من قبله إلى يوم القيامة ، ليكون المراد استمرار حليّته.

______________________________________________________

وثالثها : وهو الحقّ أن يقال إنّ نوع العمومات إذا قيست إلى سائر أنواع الخطابات بخصوصها ، مثل الخطاب المشتمل على الأمر أو النهي أو نحو ذلك ، فالتخصيص بحسب نوعه أغلب من سائر المجازات الحاصلة في سائر أنواع الخطابات ، لأنّ استعمال هذه الخطابات في معانيها الحقيقة غير عزيز ، بل كثير في المحاورات العرفيّة ، بخلاف الخطابات المشتملة على ألفاظ العموم ، لغلبة ورود التخصيص عليها. نعم ، ربّما يمنع غلبة التخصيص بالنسبة إلى حمل صيغة الأمر على الاستحباب ، كيف لا وقد قيل بكونها مجازا مشهورا فيه ، ولم يقل ذلك أحد في العامّ. ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى معارضة ذلك بما اشتهر من أنّه ما من عامّ إلّا وقد خصّ.

٢٩١٠. تقريب الاستدلال : أنّ الحلال والحرام في الحديث الشريف إمّا كناية عن مطلق الأحكام الشرعيّة ، وإمّا أنّه قد خصّها بالذكر لأهمّيتهما من بين سائر الأحكام ، وعلى كلّ تقدير فالمراد استمرار مطلق أحكام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فهذا الحديث الشريف يعطي قاعدة كلّية ، وهي استمرار كلّ حكم من الأحكام الشرعيّة إلى الأبد ، فيجعل هذه القاعدة مرجعا عند الشكّ في تحقّق النسخ ، لوضوح أنّه لا بدّ في تخصيصها من الاقتصار على ما علم نسخه شرعا.

فنقول فيما نحن فيه : إذا دار الأمر بين نسخ دليل وارتكاب خلاف الظاهر في دليل آخر ، فعموم الحديث الشريف حاكم على صرف التأويل إلى الدليل الآخر ، مع أنّ الأمر هنا دائر بين ارتكاب خلاف ظاهرين وارتكاب خلاف ظاهر

وأضعف من ذلك التمسّك باستصحاب عدم النسخ في المقام ؛ لأنّ الكلام في قوّة أحد الظاهرين (٢٩١١) وضعف الآخر ، فلا وجه لملاحظة الاصول العمليّة في هذا المقام ، مع أنّا إذا فرضنا عامّا متقدّما وخاصّا متأخّرا ، فالشكّ في تكليف المتقدّمين بالعام وعدم تكليفهم ، فاستصحاب الحكم السابق لا معنى له ، فيبقى ظهور الكلام في عدم النسخ معارضا بظهوره في العموم. نعم ، لا يجري في مثل العامّ المتأخّر عن الخاصّ. ثمّ إنّ هذا التعارض (٢٩١٢) إنّما هو مع عدم ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، وإلّا تعيّن التخصيص.

______________________________________________________

واحد ، لأنّه على تقدير النسخ يلزم تخصيص هذا الحديث الشريف ، وصرف الدليل الظاهر في الاستمرار عن ظهوره ، بخلافه على تقدير ارتكاب خلاف الظاهر في الدليل الآخر ، ولا ريب أنّ الثاني أولى وأرجح ، لوجوب المحافظة على الظواهر بحسب الإمكان.

٢٩١١. مضافا إلى عدم صلاحيّة الاصول للترجيح في المقام ، إمّا لأنّ اعتبار الاصول من باب التعبّد ، فلا تصلح لترجيح أحد الظهورين ، لاختلاف مرتبتهما. اللهمّ إلّا أن يمنع ذلك في خصوص أصالة عدم النسخ ، نظرا إلى استقرار بناء العقلاء عليها. وإمّا لحكومة الظاهر المقابل لها عليها ، ولذا لا يقاوم شيء من الاصول ـ سواء قلنا باعتبارها من باب التعبّد أو الظنّ ـ شيئا من الأدلّة الظنّية.

٢٩١٢. يعني : التعارض بين ظهور الكلام في استمرار الحكم وبين ظهوره في شمول الحكم لجميع الأفراد. وحاصله : أنّه إذا ورد عامّ فله ظهور من جهتين : إحداهما : ظهوره في استمرار الحكم إلى الأبد ، والاخرى : ظهوره في شمول الحكم لجميع أفراده ، ولا تعارض بين هذين الظهورين في أنفسهما. وإذا ورد بعده خاصّ مخالف له في الحكم ، مردّد بين كونه مخصّصا للعامّ وناسخا لحكم بعض أفراده ، فحينئذ يقع التعارض بين الظهورين المذكورين بواسطة ورود هذا الخاص المردّد بين الأمرين.

ولكن هذا التعارض المشار إليه بقوله «ثمّ إنّ هذا التعارض ...» إنّما هو مع عدم

ومنها : ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازيّ ؛ وعبّروا عنه بتقديم (٢٩١٣) الحقيقة على المجاز ، ورجّحوها عليه. فإن أرادوا أنّه إذا دار الأمر بين طرح الوضع اللفظيّ بإرادة المعنى المجازيّ وبين طرح مقتضى القرينة في

______________________________________________________

ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في زمان صدور العامّ ، وإلّا انتفى احتمال نسخ بعض أفراد العامّ بالخاصّ المذكور. ووجهه واضح ، لأنّ الشكّ في كون الخاصّ ناسخا مسبّب عن الشكّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، إذ مع العلم به يحصل القطع بكونه مخصّصا لا ناسخا وإذا فرض ظهوره في ثبوت حكمه ابتداء بالظهور المعتبر تعيّن كونه مخصّصا. وبعبارة اخرى أنّ ظهوره في ثبوت حكمه ابتداء حاكم على ظهور العامّ في الشمول لجميع أفراده ، فلا يصحّ جعل ظهور العامّ في الشمول والعموم دليلا على كون الخاصّ ناسخا. مع أنّ فيه ارتكاب خلاف ظاهرين ، أحدهما : ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، والآخر : ظهور العامّ في استمرار حكمه إلى الأبد. وفي التخصيص ارتكاب خلاف ظاهر واحد ، وهو ظهور العامّ في العموم الأفرادي ، وهذا أسهل ، فارتكابه أرجح وأولى ، وحينئذ يتعيّن التخصيص.

ولكنّ التعارض المذكور الذي فرض ارتفاعه بظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، إنّما يتأتّى فيما تقدّم العامّ وتأخّر الخاصّ ، ولا يجري في الخاصّ المتقدّم على العامّ المردّد بين كونه مخصّصا للعامّ وكون العامّ ناسخا له ، لأنّ التعارض حينئذ بين ظهور كلامين ، وهو ظهور الخاصّ في استمرار حكمه المقتضي لكونه مخصّصا للعامّ ، وظهور العام في الشمول لجميع الأفراد المقتضي لكونه ناسخا للخاصّ ، وهذا التعارض غير التعارض السابق ، لما عرفت من كون التعارض بين الظهورين في الصورة الاولى بواسطة أمر ثالث بالذات ، بخلافه هنا.

٢٩١٣. لعلّه لكون الاهتمام بشأن الحقائق الوضعيّة أولى من الاهتمام بشأن المجازات ، لما ثلمتها ثلمة المجازيّة والخروج من الحقيقة الوضعيّة ، فتكون مراعاة حال الحقائق أولى وأرجح.

الظهور المجازيّ بإرادة المعنى الحقيقيّ ، فلا أعرف له وجها ؛ لأنّ ظهور اللفظ في المعنى المجازيّ إن كان مستندا إلى قرينة لفظيّة (٢٩١٤) فظهوره مستند إلى الوضع ، وإن استند إلى حال أو قرينة منفصلة قطعيّة (٢٩١٥) فلا يقصر عن الوضع ، وإن كان ظنّا معتبرا (٢٩١٦) فينبغي تقديمه على الظهور اللفظيّ المعارض ، كما يقدم على ظهور اللفظ المقرون به ، إلّا أن يفرض ظهوره ضعيفا يقوى عليه (*) ظهور الدليل المعارض ، فيدور الأمر بين ظاهرين أحدهما أقوى من الآخر ، وإن أرادوا به معنى آخر فلا بدّ من التأمّل فيه.

هذا بعض الكلام في تعارض النوعين المختلفين من الظهور. وأمّا الصنفان المختلفان من نوع واحد (٢٩١٧) ،

______________________________________________________

ويرد عليه : أنّهم إن أرادوا ذلك مع تساوي الظهورين يرد عليه ما أورده المصنّف رحمه‌الله. وإن أرادوا ذلك مع رجحان ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي ، فهو وإن كان متّجها إلّا أنّه لا اطّراد له. وإن أرادو ذلك فيما دار الأمر بين ارتكاب التأويل في ظاهر حقيقتين وبين ارتكابه في ظاهر حقيقة واحدة ، كما إذا قيل : رأيت أسدا ، وقيل أيضا : رأيت أسدا يرمي ، فهو مع عدم اطّراده إنّما يتّجه فيما لو قلنا باعتبار الظواهر من باب الظنّ دون التعبّد العقلائي ، لأنّ غاية الأمر حينئذ تعارض تعبّدين مع تعبّدي واحد ، ولا دليل على الترجيح بتعدّد التعبّديات ، نظير تعارض الأصلين مع تعدّد أحدهما ، كما تقدّم في مسألة الاستصحاب.

٢٩١٤. متّصلة كانت أم منفصلة.

٢٩١٥. كالإجماع والعقل.

٢٩١٦. أي : مستند الظهور ، كالشهرة والإجماع المنقول بناء على اعتبارهما ، فيقدّم الظهور المستند إليهما على ظهور الحقيقة ، كما يقدّم الظهور الناشئ من القرينة اللفظيّة المقترنة باللفظ ، لكون كلّ منهما مستندا إلى ظنّ معتبر.

٢٩١٧. بأن دار الأمر بين ارتكاب النسخ في هذا الدليل أو ذاك الدليل ، أو

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : بخلاف.

.................................................................................................

______________________________________________________

ارتكاب الإضمار في هذا أو ذاك ، وهكذا التجوّز والتخصيص والتقييد. والظاهر أنّه لا ميزان كلّيا بين أفراد النسخ والإضمار والتجوّز ، بحيث يكون هو المعيار بين أفراد الامور المذكورة حتّى يمتاز رجحان بعض أفرادها على بعض ، فحينئذ تتبع المقامات الشخصيّة ، فإن ظهرت قرينة خارجة توجب رجحان ارتكاب النسخ مثلا في هذا الدليل دون ذلك فهو وإلّا يتوقّف.

نعم ، قد ثبت رجحان صنفين من أصناف الامور المذكورة ، فيقدّمان على معارضهما من سنخهما ما لم تظهر قرينة خارجة تورث رجحان معارضهما عليهما.

أحدهما : المجاز الراجح الذي مرتبته دون مرتبة المجاز المشهور ، فيقدّم على المجاز المرجوح كما مثّل له المصنّف رحمه‌الله.

وثانيهما : بعض أصناف التخصيص وإن كان مطلقه من المجازات الراجحة ، فيقدّم بعض أصنافه على بعض. وذلك قد يكون لقوّة عموم أحد العامّين على الآخر إمّا بنفسه ، أو بمعونة الخارج ، وقد يكون لقرب أحد التخصيصين وبعد الآخر.

أمّا الأوّل فكتقديم الجمع المحلّى والمشتمل على لفظ «كلّ» و «متى» ونحوهما من ألفاظ العموم على المفرد المعرّف. وقد يمثّل لذلك أيضا بما كان أحد العامّين غير مخصّص أصلا ، بأن دار الأمر بين تخصيص عامّ لم تصل إليه يد التخصيص وآخر مخصّص سابقا بمخصّص خارجي ، لأنّ ما لم تصل إليه يد التخصيص أقوى شمولا لأفراده ممّا وصلت إليه يد التخصيص ، لوهن ظهوره بهتك حماه بالامور الأجانبة ، فتكون قوّة ظهور الأوّل قرينة لصرف التخصيص في محلّ التعارض إلى الثاني.

وفيه نظر ، لمنع ضعف ظهور العامّ المخصّص فيما بقي بالنسبة إلى العامّ غير المخصّص ، بل ربّما ينعكس الأمر ، لندرة وجود العامّ غير المخصّص حتّى قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، وهو وارد على سبيل الحقيقة بالنسبة إلى العمومات الواردة

.................................................................................................

______________________________________________________

في بيان الأحكام الشرعيّة. فحيث يدور الأمر بين تخصيص عامّ لم يخصّص قطّ وتخصيص عامّ مخصّص قبل بمخصّص خارجي ، فالظنّ حاصل بكون التخصيص للأوّل دون الثاني.

وأمّا الثاني فمثل ورود أحد العامّين في مقام بيان الضابط ، فإنّه أقوى من غيره كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. ومنه ما لو كان أحد العامّين مسبوقا بسؤال أو سبب ، بأن كان واردا في جواب السؤال عن حكمه أو بعض أفراده ، أو كان واردا عند وقوع حادثة ، كما في الآيات التي علم شأن نزولها ، فإنّه أقوى ممّا لم يكن كذلك ، فإذا تعارضا في محلّ السؤال أو السبب فيقدّم المقرون بأحدهما.

نعم ، لو تعارض دليلان أحدهما مفهوما والآخر منطوقا ، ودار الأمر بين تخصيص الأوّل موردا ، وتخصيص الثاني بإخراج بعض أفراده منه مع دخول المورد في منطوق الأوّل ، فلا ضير حينئذ بتخصيص المفهوم وإن كان بتخصيص المورد ، إذ يكفي في نصوصيّة العامّ في مورده عمومه له بحسب المنطوق كما في آية النبأ لورودها في إخبار وليد بن عتبة عن ارتداد بني المصطلق ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إليهم متصدّقا ، فلمّا قرب إلى ديارهم ركبوا مستقبلين ، فحسبهم مقاتليه فرجع وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهم ارتدّوا ، فنزلت الآية. فهي بمعونة موردها تدلّ مفهوما ومنطوقا على قبول شهادة العدل الواحد في الموضوعات ، وعدم قبول شهادة الفاسق فيها. لكنّها بمفهومها معارضة مع ما دلّ على اعتبار العدد في الشهادة ، فيخصّص به وإن كان التخصيص بحسب المورد وهي وإن كانت خارجة ممّا نحن فيه ، لكون التعارض بينهما بالعموم والخصوص مطلقا ، إلّا أنّا أوردناه في المقام تقريبا لما ذكرناه.

وأمّا الثالث فمثل ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من كون أحد العامّين أكثر أفرادا دون الآخر ، أو ما دار الأمر فيه بين قلّة الخارج وكثرته. ولعلّ في عدول المصنّف رحمه‌الله عن هذه العبارة إلى قوله : «لكثير من الأفراد بخلاف الآخر» إشارة إلى

.................................................................................................

______________________________________________________

منع كون مطلق القلّة والكثرة من المرجّحات في المقام ، بحيث يكون العامّ الذي يكون الخارج منه أقلّ على تقدير تخصيصه أظهر عرفا في الشمول لأفراده من الآخر. نعم ، لو كان الخارج على تخصيص أحدهما أكثر من الباقي ، أو كان أفرادا كثيرة بحيث يقرب من الأوّل ، كان إبقائه على العموم أظهر من الآخر. وحيث كان تخصيص الأكثر غلطا ، لاستهجانه عرفا ، خصّ المصنّف رحمه‌الله المثال بما كان الخارج أفرادا كثيرة. نعم ، لو قلنا بجوازه دخل فيما نحن فيه.

ثمّ إنّ هنا قسما رابعا لا يندرج في شيء من الأقسام الثلاثة ، وهو ما دار الأمر فيه بين قلّة التخصيص وكثرته ، بأن استلزم تخصيص أحدهما تخصيصا آخر أيضا ، بخلاف تخصيص الآخر ، لأنّ الاقتصار على المتيقّن ونفي الزائد المشكوك فيه بالأصل يرجّح تخصيص الثاني على الأوّل ، ولا يندرج في شيء ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ، من كون ترجيح أحد العامّين فيه لأجل أظهريّته بنفسه ، أو بمعونة الخارج ، أو لبعد التخصيص فيه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هنا وجوها من الترجيح بحسب الدلالة لا يختصّ بترجيح تخصيص أحد العامّين على الآخر ، بل بعضها يختصّ بالمتخالفين ، وبعضها يعمّهما والمتجانسين ، منها : ما تعارض فيه دليلان أحدهما منطوقا والآخر مفهوما ، لأنّ صرف التأويل إلى المفهوم أرجح وأولى ، لأنّ المنطوق أقوى دلالة من المفهوم.

هكذا قرّروه. وفي إطلاقه نظر ، لأنّ تعارض الدليلين مفهوما ومنطوقا تارة يكون بالمفهوم المخالفة ، واخرى بالمفهوم الموافقة.

أمّا الأوّل فلا إشكال في تقديم المنطوق عليه ، لأظهريّته بالنسبة إليه ، سيّما إذا قلنا بثبوت المفهوم عقلا أو بمقتضى الأصل ، كما يحتجّ له بأنّه لو لا اعتبار المفاهيم لعرى التقييد بالشرط أو الغاية أو نحوهما عن الفائدة. وكذا ما يقال في إثبات مفهوم الشرط من أنّ مقتضى الشرطيّة كون الشرط سببا لجزائه ثبوتا وانتفاء ، لأصالة عدم قيام سبب آخر مقامه عند انتفائه ، لأنّ معارضة مثل هذا الدليل مع

.................................................................................................

______________________________________________________

منطوق دليل آخر من قبيل تعارض الأصل مع الدليل ، فتعيّن صرف التأويل حينئذ إلى المفهوم لا محالة.

وأمّا الثاني ففي ترجيح المنطوق عليه إشكال ، لمنع أظهريّته بالنسبة إليه ، لأنّ قوّة دلالة قوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) على حرمة قول الأفّ بالنسبة إلى دلالته على حرمة الضرب ممنوعة جدّا ، فلا وجه لصرف التأويل إلى مثل هذا المفهوم في موارد التعارض إن لم يكن العكس أرجح وأولى. بل يمكن منع إمكان التأويل في مثل هذا المفهوم مع بقاء منطوقه على حاله ، لثبوته عقلا ، والأحكام العقليّة لا تقبل التخصيص والتأويل. فمع القول بحرمة قول أفّ لا يمكن القول بجواز الضرب مطلقا أو في بعض الموارد ، مضافا إلى استهجانه عرفا.

نعم ، لو كان ثبوت الحكم في طرف المفهوم بسبب رجحان في الجملة بحيث لا يلحق بالمتساويين عقلا ، ولم يكن في رفع اليد عنه استهجان عرفي ، أمكن رفع اليد عنه مع بقاء المنطوق على حاله ، مثل ما ورد من كون الوقاع بالمعتدّة سببا للتحريم المؤبّد ، حيث تعدّوا عنها إلى ذات البعل بالأولويّة ، وعن اعتبار الظنّ في عدد الركعات إلى اعتباره في سائر الأجزاء والشرائط ، فتأمّل ومنها : كون أحد المتعارضين مؤكّدا ب «انّ» المؤكّدة أو القسم أو غيرهما ، وخلوّ الآخر منه ، فيصرف التأويل إلى الخالي منه ، لأنّ الكلام المؤكّد أقوى ظهورا من غيره ، فيصرف التأويل إلى غيره.

ومنها : ورود أحدهما في مقام الامتنان دون الآخر ، فيرجّح الأوّل عليه ، مثل ترجيح عموم قوله تعالى (*) : (ماءً طَهُوراً) على ما يعارضه من العمومات ، لكونه أقوى ظهورا ممّا لم يكن كذلك.

__________________

(*) هذا غفلة من المحشّي قدس‌سره ، فالآية المشار إليها هي الآية ٤٨ من سورة الفرقان ، وهي هكذا : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً). ولعلّ مراده «قوله عليه‌السلام» وقد سها قلمه الشريف ، ويكون إشارة إلى

فالمجاز الراجح الشائع مقدّم على غيره ؛ ولذا يحمل الأسد في" أسد يرمي" على الرجل الشجاع دون الرجل الأبخر ، ويحمل الأمر المصروف عن الوجوب على الاستحباب دون الإباحة.

وأمّا تقديم بعض أفراد التخصيص (٢٩١٨) على بعض : فقد يكون بقوّة عموم أحد العامّين على الآخر ، إمّا بنفسه كتقديم الجمع المحلّى باللّام على المفرد المعرّف ونحو ذلك ، وإمّا بملاحظة المقام ، فإنّ العامّ المسوق لبيان الضابط أقوى من غيره ، ونحو ذلك. (*) وقد يكون لقرب أحد التخصيصين وبعد الآخر ، كما يقال : إنّ الأقلّ

______________________________________________________

ومنها : ورود أحدهما في مقام البيان دون الآخر ، بأن كان عمومه مستفادا من وروده في مقام البيان ، مثل العموم المستفاد من ترك الاستفصال ، لأنّ ورود حكم عن الإمام عليه‌السلام في واقعة مع ترك الاستفصال عن وجوهها المحتمل وقوعها على أحدها يفيد العموم لجميعها ، فيقدّم على سائر العمومات اللفظيّة المتعارضة له.

وفيه نظر ، لمنع الأظهريّة إن لم يكن العكس أولى ، لأنّ مرجع العموم المستفاد من ترك الاستفسار إلى العموم المستفاد من عدم بيان القيد ، وسائر العمومات اللفظيّة يعدّ بيانا بالنسبة إليه ، فتكون أولى بالترجيح ، نظير تعارض التخصيص والتقييد على المتقدّم.

واعلم أنّ العلماء رضوان الله عليهم قد ذكروا في وجوه الترجيح بحسب الدلالة ما يزيد على ثلاثين وجها على ما قيل ، إلّا أنّ مرجع الجميع إلى تقديم أظهر الدليلين بحسب النوع أو الصنف على الآخر ، فلا بدّ أن يلاحظ الدليلان بحسبهما.

٢٩١٨. مع كون نوع التخصيص راجحا وشايعا.

__________________

الحديث المذكور في الوسائل (١ / ١٠١ ب «١» من أبواب الماء المطلق ح ١) قال عليه‌السلام : «خلق الله الماء طهورا ...».

(*) فى بعض النسخ زيادة : تخصيص.

أفرادا مقدّم على غيره ، فإنّ العرف يقدّم عموم" يجوز أكل كلّ رمّان" على عموم النهي عن أكل كلّ حامض ؛ لأنّه أقلّ أفرادا ، فيكون أشبه بالنصّ. وكما إذا كان التخصيص في أحدهما تخصيصا لكثير من الأفراد بخلاف الآخر.

بقي في المقام شيء : وهو أنّ ما ذكرنا من حكم التعارض من أنّ النصّ يحكّم (٢٩١٩) على الظاهر والأظهر على الظاهر ، لا إشكال في تحصيله في المتعارضين ، وأمّا إذا كان التعارض بين أزيد من دليلين ، فقد يصعب تحصيل ذلك ؛ إذ قد يختلف حال التعارض بين اثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث. مثلا : قد يكون النسبة بين الاثنين العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة إلى العموم المطلق أو بالعكس أو إلى التباين.

وقد وقع التوهّم في بعض المقامات ، فنقول توضيحا لذلك (٢٩٢٠):

______________________________________________________

٢٩١٩. أي : يصير حاكما عليه. وفي دعوى كون تقديم الأظهر على الظاهر من باب الحكومة منافاة لما تقدّم في كلامه من كونه من باب ترجيح الدلالة دون الحكومة.

٢٩٢٠. اعلم أنّ ملخّص ما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا إلى آخر المسألة هو إرجاع جميع أقسام التعارض بين أزيد من دليلين إلى قسمين :

أحدهما : ما كان تعارض الأدلّة بنسبة واحدة ، إمّا بالعموم والخصوص من وجه ، بأن كان الجميع بهذه النسبة ، وإمّا بالعموم والخصوص مطلقا ، بأن كان أحدها عامّا والآخران خاصّين بالنسبة إليه ، كما يظهر ممّا مثّل به للمقام ، وحكمه حكم المتعارضين كذلك على نحو ما أوضحه.

والثاني : ما كانت النسبة فيه بين المتعارضات مختلفة ، وحكمه أنّه مع رجحان أحدها يقدّم الراجح ، ثمّ تلاحظ النسبة بينه وبين الباقي على ما أوضحه في آخر كلامه ، إلّا أنّه لم يتعرّض لصورة عدم رجحان شيء منها. والأولى في تعداد موارد أقسام المسألة أن يلاحظ نفس تعارض الأدلّة دون نسبتها ، لكونه أكثر استمدادا للمبتدي وانتفاعا للمنتهي في الاطّلاع على موارد المسألة ، كما ستقف عليه.

.................................................................................................

______________________________________________________

فنقول مستعينا بالله ، وبيده أزمّة التوفيق والاهتداء : إنّه إذا وقع التعارض بين أزيد من دليلين كالثلاثة فصاعدا ، إمّا أن يكون التعارض من جانب واحد ، بأن تعارض دليلان مع ثالث مع عدم تعارضهما في أنفسهما ، كقولك : أكرم العلماء ولا تكرم هذا العالم ولا تكرم ذاك العالم ، وإمّا أن يكون من جانبين أو أزيد بحسب اختلاف الأدلّة ، كقولك : أكرم العلماء ولا تكرم النحويّين ويكره إكرام الاصوليّين ، إذا فرضت النسبة بين الأخيرين عموما من وجه ، بأن كان بعض النحاة اصوليّا أيضا. ويندرج في هذا القسم أقسام بحسب اختلاف مراتب الأدلّة.

أمّا القسم الأوّل فهو على أقسام ، لأنّه لا يخلو : إمّا أن يكون أحد الأدلّة ظاهرا والباقيان نصّين أو أظهرين بالنسبة إليه ، أو يكون أحدها نصّا بالنسبة إلى أحد الباقيين وظاهرا بالنسبة إلى الآخر ، أو لا تكون نصوصيّة ولا أظهريّة في البين أصلا. وعلى التقادير : إمّا أن يكون بعض الأدلّة متّصلا بالآخر ، كالشرط والصفة أو نحوهما ، أو يكون الجميع منفصلات ومستقلّات بأنفسها ، أو يكون بعضها مردّدا بينهما كالاستثناء ، لاختلافهم في كونه من المخصّصات المتّصلة أو المنفصلة كما ستعرفه. لكن صورة الاتّصال خارجة من محلّ الكلام ، لأنّه مع تعارض أدلّة ثلاثة مع كون أحدها شرطا أو صفة بالنسبة إلى أحد الباقيين لا يعدّ المتصل بالنسبة إلى ما اتّصل به دليلا على حدة ، بل هما يعدّان دليلا واحدا معارضا للثالث ، فبعد تقييده بما اتّصل به من الشرط أو الصفة أو نحوهما من المقيّدات المتّصلة والعمل بمقتضاهما تفرض النسبة بين مقتضاهما والباقي ، فالتعارض حينئذ يقع بين دليلين دون الثلاثة ، فيخرج من محلّ الكلام ، فينحصر البحث حينئذ في الأدلّة المنفصلة وما يتردّد بين كونه متّصلا ومنفصلا ، فيقع البحث حينئذ في هذا القسم في صور :

إحداها : تعارض الأدلّة المنفصلة مع كون التعارض من جانب واحد ، وكون أحد الأدلّة ظاهرا والباقيين نصّين بالنسبة إليه. والمراد بالنصوصيّة في هذه الصور أعمّ منها ومن الأظهريّة ، كتعارض عامّ مع خاصّين. والحكم في موارد هذه

.................................................................................................

______________________________________________________

الصورة مختلف ، ففي بعضها يتخيّر في ملاحظة النسبة بين الأدلّة المتعارضة بين ملاحظتها دفعة ومرتّبة ، وفي بعض آخر تتعيّن ملاحظتها دفعة واحدة ، وفي ثالث تتعيّن ملاحظتها مرتّبة.

أمّا الأوّل : فهو كلّ مورد يكون بين الخاصّين المعارضين مع العامّ على ما عرفت تباين ، بشرط أن لا يلزم من تخصيص العامّ بهما بقاء العامّ بلا مورد أو تخصيص الأكثر ، كقولك : أكرم العلماء ولا تكرم النحويّين ولا تكرم الاصوليّين ، إذا فرض التباين بين النحويّ والاصولي. وحينئذ يجوز أن تلاحظ النسبة بين العلماء وبين النحوي والاصولي ، فيخصّص بهما دفعة واحدة ، ويجوز أن تلاحظ النسبة بين العلماء والنحوي فيخصّص به أوّلا ، ثمّ تلاحظ النسبة بين العامّ المخصّص بالنحوي وبين الاصولي فيخصّص به ثانيا. فجواز الأمرين إنّما هو لأجل عدم اختلاف الحكم بهما. وكذا فيما لو كان بين الخاصّين عموم وخصوص مطلقا ، كما إذا فرض في المثال المذكور كون كلّ اصوليّ نحويّا من دون عكس ، فيجوز حينئذ تخصيص العامّ بهما دفعة واحدة ومرتّبا ، لكن يشترط في صورة الترتّب تخصيص العامّ أوّلا بالمطلق منهما ثمّ بالخاصّ. وأمّا صورة العكس فلا يجوز التخيير فيها بين الدفعة وتخصيص العامّ أوّلا بالخاصّ ثمّ بالمطلق.

وأمّا الثاني فهو كلّ مورد يكون بين الخاصّين عموم وخصوص من وجه ، مثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الاصوليّين ولا تكرم النحويّين ، لأنّ النسبة بين العلماء وبين الاصوليّين والنحويّين عموم وخصوص مطلقا ، وبين الأخيرين عموم من وجه ، وبعد إخراجهما من عموم العلماء يجب إكرام غير الاصوليّين والنحويّين من العلماء ، بخلاف ما لوحظت النسبة مرتّبة ، بأن خصّص العلماء أوّلا بالاصوليّين ثمّ بالنحويّين ، لانقلاب النسبة بعد إخراج الاصوليّين إلى العموم من وجه ، لأنّ مادّة الاجتماع هو العام النحوي غير الاصولي ، ومادّة الافتراق من جانب

.................................................................................................

______________________________________________________

الأوّل هو الفقيه غير النحوي ، ومن جانب الثاني هو النحويّ الاصولي ، فلا يمكن تخصيص العلماء بالنحويّين ثانيا ، لفرض صيرورة النسبة حينئذ عموما من وجه ، فيجب حينئذ إمّا الرجوع في مادّة التعارض إلى المرجّحات ، أو الحكم فيها بالتعارض والرجوع إلى مقتضى الاصول ، وحيث لا مرجّح لتخصيص العامّ أوّلا بأحد الخاصّين ، لفرض تساوي مرتبتهما بالنسبة إليه ، يجب تخصيصه بهما دفعة لئلّا يلزم الترجيح بلا مرجّح.

ومثله الكلام فيما كان بين الخاصّين عموم وخصوص مطلقا ، فيخصّص بهما العامّ دفعة ، ولا يجوز تخصيص العامّ أوّلا بالخاصّ منهما ثمّ بمطلقهما ، لانقلاب النسبة حينئذ إلى العموم والخصوص من وجه ، مثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الاصوليين ولا تكرم النحويّين ، إذا فرض كون كلّ اصوليّ نحويّا من دون عكس ، لأنّه إذا خصّص العلماء بالاصوليّين أوّلا يكون المراد بالعلماء غير الاصوليّين منهم ، والنسبة بينه وبين النحويّين عموم من وجه ، فمادّة الاجتماع هو الفقيه النحوي ، ومادّة الافتراق من جانب الأوّل هو الفقيه غير النحوي ، ومن جانب الثاني هو النحويّ الاصولي ، فلا بدّ حينئذ من التخصيص دفعة كما عرفت. نعم ، لو خصّص العام أوّلا بالمطلق منهما ثمّ بالخاصّ لا تتفاوت الحال حينئذ بين الدفعة والترتيب ، فيتخيّر بينهما على ما أسلفناه.

وبالجملة ، إنّ تعيّن الدفعة في هذا الفرض إنّما هو بالنسبة إلى تخصيص العام أوّلا بالخاصّ منهما ، وإلّا فلو خصّص بالمطلق منهما أوّلا ثبت التخيير بين الدفعة والترتيب على ما عرفت.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين كون أحد الخاصّين من قبيل الدليل اللفظي أو العقلي أو الإجماع ، لاتّحاد المناط في الجميع في جميع ما ذكرناه ، خلافا لما توهّمه الفاضل النراقي ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، وسنشير إلى توضيحه.

وأمّا الثالث فهو كلّ مورد يكون لملاحظة الترتيب فيه ثمرة ومرجّح ، مثل

.................................................................................................

______________________________________________________

قولنا : أكرم العلماء ولا يجب إكرام العلماء ولا تكرم الاصوليّين ، فإذا لوحظ تعارض جميعها وعولج تعارضها دفعة واحدة يجب تخصيص العامّ في الدليلين الأوّلين بالاصوليّين ، لكونه خاصّا ، وحمل الأمر في الأوّل منهما على الاستحباب ، لكون النفي في الثاني نصّا بالنسبة إلى ظهور الأمر في الوجوب ، فيكون المحصّل حينئذ استحباب إكرام من عدا الاصوليّين من العلماء ، بخلاف ما لو لوحظ الترتيب ، بأن يخصّص العامّ الأوّل بالاصوليّين أوّلا ، ثمّ نلاحظ النسبة بين هذا العامّ المخصّص وبين قولنا : لا يجب إكرام العلماء ، لانقلاب النسبة حينئذ إلى العموم والخصوص مطلقا ، فيجب تخصيص قولنا : لا يجب إكرام العلماء بقولنا : أكرم العلماء غير الاصوليّين ، فيختصّ عدم الوجوب حينئذ بالاصوليّين. ويكون المحصّل حينئذ وجوب إكرام من عدا الاصوليّين من العلماء ، ولا يجب إكرام الاصوليّين ، بل يحرم إكرامهم ، لظاهر النهي في قولنا : لا تكرم الاصوليّين ، لعدم المنافاة بين عدم الوجوب وثبوت الحرمة. وإنّما قلنا في تفسير الترتيب هنا بأن يخصّص العامّ الأوّل بالاصوليّين أوّلا ، إذ لو لوحظ التعارض بين العامّين أوّلا ، ويحمل الأمر في قولنا : أكرم العلماء ، على الاستحباب لأجل نصوصيّة النفي في العامّ الآخر ، ثمّ يخصّص بالاصوليين ، لا تبقى ثمرة لملاحظة الترتيب ، لكون المحصّل بعد ملاحظة التعارض دفعة أو ترتيبا بهذا المعنى هو استحباب إكرام من عدا الاصوليّين ، فيتخيّر بينهما حينئذ ، بخلاف الترتيب بالمعنى المتقدّم.

وأمّا وجود المرجّح للترتيب على الدفعة ، فإنّه في صورة علاج التعارض دفعة واحدة يلزم تخصيص العلماء بالاصوليّين وحمل الأمر على الاستحباب ، وفي صورة الترتيب يلزم تخصيص العلماء بالاصوليّين في قولنا : أكرم العلماء ، وتخصيص العلماء أيضا في قولنا : لا يجب إكرام العلماء بهذا العامّ المخصّص. والتخصيص الأوّل لازم على التقديرين ، فيدور الأمر حينئذ بين حمل الأمر على الاستحباب ، وتخصيص العلماء في قولنا : لا يجب إكرام العلماء ، والتخصيص أولى من سائر المجازات.

.................................................................................................

______________________________________________________

وفذلكة المقامات الثلاثة المتقدّمة بحيث تكون ضابطة في المقام : أنّه مع تعارض الأدلّة المنفصلة ، مع كون التعارض من جانب واحد ، وكون بعضها نصّا ، أنّ النسبة بين الأدلّة المتعارضة إن كانت نسبة واحدة عند علاج تعارضها دفعة واحدة أو مرتّبا ، ولم تنقلب إلى نسبة اخرى عند علاجها مرتّبا ، يثبت فيه التخيير. وإن انقلبت إلى نسبة اخرى عند علاجها مرتّبا ، بأن كانت نسبتها عند علاجها دفعة واحدة عموما وخصوصا مطلقا ، وانقلبت إلى نسبة اخرى عند علاجها مرتّبا ، فحينئذ إن كان للترتيب مرجّح فهو وإلّا تعيّنت الدفعة.

الثانية : تعارض الأدلّة من جانب واحد ، مع كون أحد الأدلّة ظاهرا والباقيين نصّين بالنسبة إليه ، وكون بعضها مردّدا بين كونه من المخصّصات المنفصلة أو المتّصلة كالاستثناء ، مثل قولنا : أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم ، ولا تكرم النحويّين.

وتحقيق المقام يبتنى على تحقيق الكلام في كون الاستثناء من المخصّصات المتّصلة أو المنفصلة؟ ونقل كلماتهم المومية إلى الخلاف في ذلك ، فنقول : إنّهم قد حكموا بعدم الضمان في العارية ، واستثنوا منه صورة اشتراط الضمان ، وصورة إعارة الذهب والفضّة ، ولكنّهم اختلفوا في أنّ الضمان هل يعمّ المسكوك من الجنسين وغيره كالحليّ المصوغة ، أو يختصّ بإعارة المسكوك ، أعني : الدرهم والدينار؟ وذهب المشهور إلى الثاني ، ومنهم فخر المحقّقين والسبزواري وصاحب الرياض ، وجماعة إلى الأوّل ، ومنهم المحقّق والشهيد الثانيان.

واختلافهم هذا ينشأ من اختلاف مشاربهم في فهم الأخبار ، لأنّ هنا أصنافا خمسة من الأخبار ، ففي بعضها نفي الضمان مطلقا ، مثل الصحيح : «ليس على المستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن». وفي آخر استثنى صورة الاشتراط ، وفي ثالث استثنى الذّهب والفضّة ، مثل الخبر في العارية : «ليس على مستعير ضمان إلّا ما كان من ذهب أو فضّة ، فإنّهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا». وفي رابع استثنى الدنانير ، مثل الصحيح : «لا يضمن العارية إلّا أن يكون

.................................................................................................

______________________________________________________

اشترط فيها ضمانا ، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا». وفي خامس استثنى الدراهم مثل الحسن كالصحيح : «ليس على صاحب العارية ضمان ، إلّا أن يشترط صاحبها ، إلّا الدراهم فإنّها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط».

قال فخر المحقّقين ما حاصله : إنّ خبر الذهب والفضّة يخصّص بخبر الدرهم والدينار ، لكونه أخصّ بالنسبة إليه ، وبعد تخصيصه به يخصّص عموم نفي ضمان العارية بهذا العام المخصّص.

وأورد عليه المحقّق الثاني بما حاصله : إنّ التخصيص فرع التنافي ، ولا تنافي بين ضمان عارية الذهب والفضّة وضمان عارية الدرهم والدينار ، لإمكان اجتماعهما ، فلا موجب للتخصيص ، فيبقى عموم الذهب والفضّة بحاله ، فيكون كلّ من خبر الذهب والفضّة مخصّصا لعموم نفي الضمان.

وذكر الشهيد الثاني ما حاصله : منع التنافي كما ذكره المحقّق الثاني. وقد نقل المصنّف رحمه‌الله عبارته بطولها.

وقال في الرياض تبعا للسبزواري : إنّ النسبة بين روايتي الدرهم والدينار بعد جعلهما كرواية واحدة ، وبين ما استثنى الذهب والفضّة هو العموم والخصوص من وجه.

وتوضيحه على ما نقله بعض مشايخنا عن صاحب الرياض ، مع ملاحظة ما ذكره في بعض حواشيه على كتابه في تلك المسألة : أنّ روايتي الذهب والفضّة والدرهم والدينار قد اشتملتا على نفي الضمان عن العارية ، وعلى إثباته في الذهب والفضّة كما في الاولى ، وفي الدرهم والدينار كما في الثانية ، ولا تعارض بينهما في نفي الضمان عن غير الذهب والفضّة كالثوب ونحوه ، ولا في إثباتهما له في الدرهم والدينار ، وإنّما التعارض بين المستثنى منه في خبر الدرهم والدينار والمستثنى في خبر الذهب والفضّة ، لأنّ مقتضى الأوّل نفي الضمان عن الحليّ المصوغة ، ومقتضى الثاني إثباته لها. وإلى ذلك أشار المصنّف رحمه‌الله بعقدي السلب والإيجاب. فيتعارضان فيها بالعموم من وجه. فمادّة الافتراق من الأوّل هو الثوب و

.................................................................................................

______________________________________________________

نحوه ، لأنّ إثبات الضمان في الذهب والفضّة ساكت عنه ، ومن الثاني إثبات الضمان في الدرهم والدينار ، لأنّ نفي الضمان عن ما عدا الدرهم والدينار ساكت عن إثباته فيهما ، لأنّ الكلام في فرض التعارض بين المستثنى منه من جانب والمستثنى من جانب آخر ، لا بين مجموع ما تضمّنته الروايتان. ومادّة الاجتماع هي الحليّ المصوغة على ما عرفت. فيرجع فيها بعد التعارض والتساقط إلى مقتضى الاصول ، من أصالة عدم الضمان كما هو مقتضى عمومات نفي الضمان في العارية من غير تقييد.

وأقول : إنّ ظاهر كلام المحقّق الثاني كون الاستثناء من المخصّصات المنفصلة ، فكأنّه قال : لا ضمان في العارية ، ثمّ قال : في عارية الذهب والفضّة ضمان ، وقال أيضا : في عارية الدرهم والدينار ضمان. ولذا قال : لا منافاة بين استثناء الذهب والفضّة من عموم نفي الضمان ، وبين استثناء الدرهم والدينار منه أيضا ، إذ لو كان الاستثناء من المخصّصات المتّصلة تحقّقت المنافاة بين استثنائهما ، لأنّ مقتضى استثناء الأوّلين ثبوت الضمان في الحليّ المصوغة ، ومقتضى استثناء الأخيرين نفيه عنها كما تقدّم. وقد تفطّن الشهيد الثاني بتنافيهما ، فأجاب عنه بما هو مذكور في كلامه.

وظاهر الفخر وغيره كونه من المخصّصات المتّصلة ، حيث قد فهموا التنافي بين الاستثناءين ، فخصّصوا عموم الذهب والفضّة أو إطلاقهما بخصوص الدرهم والدينار ، ثمّ خصّصوا عموم نفي الضمان بهما ، وإلّا فلا يتحقّق التنافي بين الاستثناءين حتّى يوجب الجمع بينهما بتخصيص أحدهما بالآخر كما زعمه المحقّق الثاني.

والتحقيق وفاقا للمصنّف رحمه‌الله كونه من المخصّصات المتّصلة ، لأنّا لا نفهم فرقا بين قولنا : لا تكرم العلماء إن فسقوا أو الفاسقين منهم ، وبين قولنا : أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم ، ولذا يفيد الحصر ، ولو كان من المخصّصات المنفصلة لم يفد ذلك علي نحو ما زعمه المحقّق الثاني على ما عرفت.

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن هنا يصحّ أن يقال : إنّ النسبة بين قوله : ليس في العارية ضمان إلّا الدرهم والدينار ، وبين ما دلّ على ضمان الذهب والفضّة ، هو العموم والخصوص من وجه على نحو ما قرّرناه في تقرير ما اختاره صاحب الرياض. ولكن في حكمه في مادّة التعارض بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول نظر كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ الرجوع إلى الاصول فرع فقدان المرجّحات الدلاليّة ، لتأخّره عنها ، والترجيح بحسب الدلالة هنا موجود ، لأنّ رفع التعارض بين رواية الذهب والفضّة ورواية الدرهم والدينار وإن أمكن بأحد وجوه :

أحدها : رفع اليد عن مقتضى الحصر المستفاد من أداة الاستثناء في رواية الدرهم والدينار ، بأن كان المقصود كون الدرهم والدينار من الأفراد المستثناة لا حصر الأفراد المستثناة فيهما ، فلا تنافي رواية الدرهم والدينار ثبوت الضمان في الحليّ المصوغة بمقتضى رواية الذهب والفضّة ، لفرض كونهما من جملة أفرادهما حينئذ.

وثانيها : تقييد إطلاق الذهب والفضّة في الرواية بالدرهم والدينار المذكورين في الاخرى ، فيكون مقتضى الروايتين نفي الضمان في الحليّ المصوغة كما اختاره الفخر.

وثالثها : حمل الدرهم والدينار على إرادة جنس الذهب والفضّة من باب إطلاق الفرد وإرادة جنسه ، فيكون مقتضى الروايتين ثبوت الضمان في الحليّ المصوغة ، كما اختاره المحقّق والشهيد الثانيين.

إلّا أنّ الأوّل بعيد جدّا ، لندرة وجوده ، إذ لم نعثر على مورد يرفع اليد فيه عن مقتضى الحصر المستفاد من أداة الاستثناء ، فيدور الأمر بين تقييد المطلق وحمل المقيّد على المطلق ، ولا ريب أنّ الأوّل أولى ، لغلبة وجوده بالنسبة إلى الثاني ، فيتعيّن. مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون دلالة نفي الضمان عمّا عدا الدرهم والدينار بالعموم ، ودلالة ما دلّ على ثبوته في الذهب والفضّة بالإطلاق ،

.................................................................................................

______________________________________________________

والتقييد أولى من التخصيص.

ومن هنا تظهر قوّة ما اختاره فخر المحقّقين ، ولعلّ حكمه بتقييد الذهب والفضّة بالدرهم والدينار ناظر إلى ما قدّمناه ، فتدبّر. وكذا يظهر وجه النظر فيما أطاله الشهيد الثاني ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثالثة : تعارض الأدلّة المنفصلة من جانب واحد ، مع عدم نصوصيّته في البين أصلا ، بأن تعارض دليلان مع ثالث ، ولم يكن بين نفس الدليلين تعارض أصلا ، وكانا بالنسبة إلى الثالث من قبيل الظاهرين دون الأظهرين. وهو على أقسام ، لأنّ تعارض كلّ من الظاهرين مع الثالث إمّا أن يكون من قبيل التباين ، كقولنا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء واقتل العلماء. وإمّا أن يكون من قبيل تعارض العموم والخصوص من وجه ، مثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الشعراء ولا تكرم الظرفاء ، إذا فرض كون بعض الشعراء والظرفاء من العلماء ، وبعض العلماء غير شاعر ولا ظريف. وإمّا أن يكون تعارض أحدهما مع الثالث من قبيل تعارض التباين ، وتعارض الآخر من قبيل تعارض العموم والخصوص من وجه ، مثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ولا تكرم الشعراء.

أمّا الأوّل فتلاحظ فيه المرجّحات السنديّة ، لفرض انتفاء المرجّحات الدلاليّة بعد فرض انتفاء النصوصيّة والأظهريّة في البين. فحينئذ إن ترجّح الثالث ـ أعني : قولنا أكرم العلماء ـ على معارضيه يطرحان. وإن ترجّح على أحدهما خاصّة يطرح المرجوح ويتخيّر بين الأخيرين. وإن ترجّح المعارضان يطرح الثالث ويعمل بمقتضاهما ، لفرض انتفاء التعارض بينهما. وإن ترجّح أحد المعارضين بالنسبة إلى الثالث دون الآخر يطرح الثالث أيضا ، لأنّه مع ترجّح أحد المعارضين على الثالث وطرحه يفرض المطروح كغير الصادر عن المعصوم عليه‌السلام ، وبعد فرضه كذلك لا يصلح لمعارضة الآخر أيضا. كذا أفيد.

وفيه نظر ، لأنّ طرحه لأجل مرجوحيّته من حيث السند بالنسبة إلى أحد

.................................................................................................

______________________________________________________

المعارضين لا يوجب طرحه بالنسبة إلى الآخر مع فرض مساواته له في السند ، إذ لا غائلة في أن يتعبّدنا الشارع باعتباره بالنسبة إلى أحدهما دون الآخر ، سيّما إذا كان أقوى سندا بالنسبة إلى الأوّل ، فحينئذ لا بدّ من ترجيحه عليه أو يتخيّر بينهما. ولكنّه يشكل بما لو اختاره المكلّف ترجيحا أو تخييرا ، لعدم إمكان الجمع حينئذ بينه وبين ما ترجّح عليه ، لفرض المعارضة بينهما. وإن قلنا بالتخيير بينهما عقلا أو شرعا ، فهو ينافي وجود المرجّح فيما ترجّح عليه. وكيف كان ، فمع عدم الترجيح في البين رأسا يتخيّر بين العمل الثالث ومعارضيه.

وأمّا الثاني فإمّا يحكم في مادّة الاجتماع بالتعارض والتساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول ، أو باستعمال المرجّحات على الوجه المتقدّم في سابقه ، على الوجهين في المتعارضين بالعموم من وجه.

وأمّا الثالث فهو كسابقه إن قلنا بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة في المتعارضين بالعموم من وجه. وإن قلنا فيهما بالتساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول في مادّة الاجتماع ، فإن ترجّح أحد المعارضين الذي يعارض الثالث بالتباين ، يطرح الثالث ويعمل بمعارضيه جميعا كما تقدّم. وإن ترجّح الثالث عليه يطرح معارضه المذكور ، ويحكم في مادّة الاجتماع بينه وبين معارضه الآخر بالإجمال والتساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول.

ويقع الإشكال فيما لو انتفى المرجّح بين الثالث وما يعارضه بالتباين ، إذ لا بدّ حينئذ من الحكم بالتخيير بينهما. وحينئذ إن اختار المكلّف العمل بالمعارض يعمل بالمعارض الآخر أيضا ، لفرض انتفاء التعارض بينهما. وإن اختار العمل بالثالث ، فهل يحكم بالإجمال في مادّة الاجتماع بينه وبين المعارض الآخر ، والرجوع إلى مقتضى الاصول فيها ، كما في صورة وجود المرجّح في الثالث ، أو يعمل بالمعارض في مادّة الاجتماع؟ وجهان ، من كون التخيير كالترجيح ، لتعيّن المختار بعد الاختيار على المكلّف ، فيكون اختياره لأحدهما بمنزلة وجود مرجّح

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه ، فكما يحكم مع وجود المرجّح بالإجمال والرجوع إلى الاصول في مادّة الاجتماع ، كذلك مع عدمه وثبوت التخيير. ومن أنّ التخيير المستفاد من الأخبار من جملة الاصول التعبّدية ، وغاية ما يستفاد منها تخيّر المكلّف في أصل العمل بأحد المعارضين ، بمعنى ثبوت التخيير من حيث هو مع قطع النظر عن وجود الموانع في موارده ، فهي لا تمنع من عدم جواز العمل بالمختار مع وجود مانع خارجي ، لأنّ اختياره لا يدفع موانعه. ووجود المعارض مانع من العمل به ، فيعمل بمعارضه في مادّة الاجتماع ، كما أنّ أصالة الإباحة في الأشياء لا تنافي وجوبها أو حرمتها بالعرض بدليل خارجيّ.

وقياسه على صورة وجود المرجّح قياس مع الفارق ، لأنّه مع ترجيح أحد المتعارضين لوجود مرجّح فيه يكون ذو الترجيح كالسالم من المعارض ، فيعارض مع معارضه الآخر الذي يعارضه بالعموم من وجه ، بخلاف ما لو ثبت العمل به لأجل التخيير ، لأنّ غاية ما تثبته أخباره هو أصل جواز التخيير الذي لا ينافيه عدم الجواز بدليل خارجي. والمقام محلّ إشكال ، وإن اختار بعض مشايخنا الثاني.

الرابعة : تعارض الأدلّة المنفصلة من جانب واحد ، مع نصوصيّة أحدها بالنسبة إلى بعض ، وظهور الآخر بالنسبة إليه ، بأن تعارض دليلان مع ثالث ، وكان أحدهما نصّا بالنسبة إلى الثالث ، والآخر ظاهرا بالنسبة إليه. وهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون تعارض ما هو الظاهر بالنسبة إلى الثالث على وجه العموم والخصوص من وجه ، كقولنا : أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم ولا تكرم الفسّاق ، فتعارض دليل فسّاقهم مع دليل العلماء على وجه النصوصيّة ، لكونه أخصّ منه ، وتعارض دليل فسّاقهم مع دليل العلماء من قبيل تعارض الظاهرين ، لكونهما من قبيل العامّين من وجه. ويجب تخصيص دليل العلماء أوّلا بدليل فسّاقهم ، لكونه أخصّ منه ، لا بدليل الفسّاق ، لما عرفت من كون النسبة بينهما عموما من وجه. وحينئذ إن قلنا في المتعارضين بالعموم من وجه بالتساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول في

.................................................................................................

______________________________________________________

مادّة الاجتماع تتأتّى هنا أقسام :

أحدها : أن يكون الخاصّ مخرجا لمادّة الاجتماع بين عموم العلماء والمعارض الآخر كما في المثال المتقدّم ، لكون العالم الفاسق مادّة اجتماع لهما ، وبعد إخراجه من عموم العلماء يرتفع التعارض بينه وبين دليل الفسّاق ، لاندراج مادّة الاجتماع حينئذ تحت الثاني.

وثانيها : أن يكون الخاصّ مخرجا لمادّة الافتراق من تحت دليل العلماء ، كما إذا أبدل قولنا : لا تكرم فسّاقهم في المثال بقولنا : لا تكرم عدولهم ، وبعد إخراجه من تحت عموم العلماء تصير النسبة بينه وبين دليل الفسّاق عموما وخصوصا مطلقا ، فيخصّص به ، فيجب حينئذ إكرام فسّاق العلماء.

وثالثها : أن يكون الخاصّ مخرجا لبعض أفراد مادّة الافتراق وبعض أفراد مادّة الاجتماع ، كما إذا بدّل الخاصّ بقولنا : لا تكرم الاصوليّين ، لأنّ الاصوليّ العادل من أفراد مادّة الافتراق من جانب العلماء ، والاصوليّ الفاسق من أفراد مادّة الاجتماع بينه وبين دليل الفسّاق ، وبعد إخراجهم من عموم دليل العلماء يبقى التعارض بينه وبين دليل الفسّاق أيضا على وجه العموم والخصوص من وجه ، فيجب الرجوع في مادّة الاجتماع إلى الاصول.

وإن قلنا فيهما بملاحظة المرجّحات السنديّة يجب تخصيص عموم العلماء أوّلا بالخاصّ ، لكونه جمعا عرفا ، لما مر غير مرّة من عدم تحقّق المعارضة بين دليلين كانت النسبة بينهما عموما مطلقا ، وبعد تخصيصه ففي القسم الأوّل يرتفع التعارض بينه وبين دليل الفسّاق ، فلا يبقى مجال لملاحظة الترجيح. وفي القسم الثاني تصير النسبة بين عموم العلماء ودليل الفسّاق عموما وخصوصا مطلقا ، فيجب تخصيص دليل الفسّاق به ، فلا يبقى حينئذ أيضا مجال لملاحظة الترجيح بحسب السند ، لكون الجمع بحسب الدلالة مقدّما عليه. وفي القسم الثالث يجب ترجيح عموم العلماء أو عموم الفسّاق إن كان أحدهما مشتملا على بعض وجوهه وإلّا فالتخيير ، لما

.................................................................................................

______________________________________________________

عرفت من بقاء المعارضة بينهما بالعموم من وجه بعد إخراج الاصوليّين من تحت عموم العلماء.

وثانيهما : أن يكون تعارض ما هو الظاهر بالنسبة إلى الثالث على وجه التباين ، كقولنا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم ، ويجب أن يخصّص عموم العلماء أوّلا بدليل فسّاقهم ، ثمّ تلاحظ النسبة بينه وبين دليل حرمة إكرام العلماء ، لما عرفت من كونه جمعا عرفيّا. مع أنّ معارضة عموم وجوب إكرام العلماء مع معارضه المباين فرع إحراز ظهور في العموم ، ومع احتمال وجود مخصّص له لا يبقى له ظهور إلّا بعد الفحص عنه ، ففرض معارضتهما لا يعقل إلّا بعد تخصيصه بدليل فسّاقهم ، وبعد تخصيصه به تكون النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا ، فيخصّص عموم حرمة إكرام العلماء بعموم وجوب إكرامهم بعد تخصيصه بدليل فسّاقهم ، فيثبت وجوب إكرام عدولهم.

وأمّا القسم الثاني ، أعني : ما كان التعارض فيه من جهة جميع الأدلّة ، بأن تعارض دليلان مع ثالث مع وجود التعارض بينهما أيضا ، فهو على أقسام ، لأنّه مع تعارض الأدلّة كذلك إمّا أن يكون الدليلان المعارضان مع الثالث من قبيل النصّين بالنسبة إليه ، أو الظاهرين ، أو يكون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا بالنسبة إليه. وعلى التقادير : إمّا أن يكون الدليلان المعارضان من قبيل الظاهرين بالنسبة إلى أنفسهما ، أو من قبيل النصّ والظاهر. فالأقسام ستّة ، والكلام فيها في صور ثلاث :

إحداها : أن يكون الدليلان المعارضان مع الثالث من قبيل النصّين. وقد عرفت أنّهما أيضا قد يكونان من قبيل الظاهرين ، وقد يكونان من قبيل النصّ والظاهر.

أمّا الأوّل فمثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم النحويّين ويستحب إكرام الاصوليّين ، إذا فرضت النسبة بين الأخيرين عموما من وجه ، بأن كان بعض النحويّين اصوليّا. فيجب تخصيص عموم العلماء بكلّ من الخاصّين ، ويحكم

.................................................................................................

______________________________________________________

بالتعارض والإجمال في مادّة التعارض منهما ، أو يلتمس الترجيح إن كان وإلّا فالتخيير.

وأمّا الثاني فمثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم ويستحب إكرام فسّاق الفقهاء. ويجب أن يخصّص عموم العلماء بكلّ من الخاصّين ، ثمّ يخصّص دليل حرمة إكرام فسّاقهم بدليل استحباب فسّاق الفقهاء ، فيستحبّ إكرام العالم الفقيه الفاسق.

الثانية : أن يكون الدليلان المعارضان للثالث من قبيل الظاهرين بالنسبة إليه. وهو على أقسام ، لأنّ النسبة بين كلّ منهما والثالث إمّا هو التباين ، أو العموم والخصوص من وجه ، أو بالاختلاف ، بأن كانت نسبة أحدهما بالتباين ، والآخر بالعموم من وجه. وقد عرفت أيضا أنّ المعارضين بالنسبة إلى أنفسهما إمّا أن يكونا من قبيل الظاهرين ، أو النصّ والظاهر.

أمّا الأوّل فمثل قولنا : يجب إكرام العلماء ويستحبّ إكرام العلماء ويكره إكرام العلماء ، لأنّ النسبة بين الجميع هو التباين ، فيلتمس الترجيح بينها إن اشتمل بعضها على بعض وجوهه وإلّا فالتخيير.

وأمّا الثاني فمثل قولنا : لا تكرم العلماء وأكرم العلماء ويستحبّ إكرام العلماء ، لأنّ نسبة الأخيرين إلى الأوّل بالتباين ، وهما من قبيل النصّ والظاهر ، لأنّ الأمر ظاهر في الوجوب ومحتمل للاستحباب ، بخلاف لفظ الاستحباب. وحينئذ تجب ملاحظة الترجيح بين الأوّل والأخيرين ، فإن ترجّح الأخيران يطرح الأوّل ، ويحمل ظاهرهما على النصّ منهما. وإن ترجّح الأوّل على الأخيرين جميعا فيطرحان ويؤخذ به. وإن ترجّح على أحدهما دون الآخر يطرح المرجوح ، ويتخيّر بين المتساويين.

وأمّا الثالث فمثل قولنا : يجب إكرام العلماء ويكره إكرام الفسّاق ويستحب إكرام الشعراء ، لأنّ نسبة الأخيرين إلى الأوّل وكذا نسبتهما في أنفسهما

.................................................................................................

______________________________________________________

بالعموم من وجه. وحينئذ إن قلنا بشمول أخبار الترجيح لمثله فهو في حكم القسم الأوّل ، وإلّا يحكم بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول في مادّة اجتماع الجميع ، وهو العالم الفاسق الشاعر ، وكذا في مادّة اجتماع اثنين منها ، كالعالم الفاسق غير الشاعر ، والفاسق الشاعر غير العالم ، والعالم الشاعر العادل. وهذا كلّه إذا لم يكن بعضها أقوى دلالة من الآخر ، وإلّا فقد تنقلب النسبة ويحدث الترجيح ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله فيما اختلف النسبة بين المتعارضات من مثال : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ويستحبّ إكرام الشعراء. والوجه فيه واضح ممّا ذكره.

وأمّا الرابع فمثل قولنا : لا تكرم العلماء وأكرم الفسّاق ويستحبّ إكرام الشعراء ، لأنّ نسبة الأخيرين إلى الأوّل بالعموم من وجه ، وهما من قبيل النصّ والظاهر كما تقدّم. وحينئذ إمّا يحكم بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول في مادّة اجتماع الجميع ، أعني : العالم الفاسق الشاعر ، وكذا في مادّة اجتماع الأوّل وأحد الأخيرين ، وأمّا في مادّة اجتماع الأخيرين فيحمل الظاهر منهما على النصّ ، فيستحبّ إكرام الفاسق الشاعر غير العالم. وإمّا يرجع إلى المرجّحات ، فإن ترجّح الأوّل تدخل مادّة الاجتماع بين الجميع فيه ، ويحمل الظاهر من الأخيرين على النصّ منهما في مادّة اجتماعهما ، فيحرم إكرام العالم الفاسق الشاعر ، ويستحبّ إكرام الفاسق الشاعر غير العالم. وكذا إن ترجّح أحد الأخيرين تدخل مادّة اجتماع الجميع فيه ، ويحمل الظاهر من الأخيرين على النصّ منهما في مادّة اجتماعهما.

وأمّا الخامس فمثل قولنا : يجب إكرام العلماء ويستحبّ إكرام العلماء ويكره إكرام الشعراء ، لأنّ نسبة الثاني إلى الأوّل بالتباين ، ونسبة الثالث إليه بالعموم من وجه ، والأخيران في أنفسهما من قبيل الظاهرين.

فإن قلنا بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول في المتعارضين بالعموم من وجه ، تلاحظ النسبة بين الأوّل والثاني ، فإن ترجّح الثاني يطرح الأوّل ، ويحكم

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإجمال في مادّة الاجتماع بين الأخيرين ، لكون نسبتهما بالعموم من وجه. وكذا إن ترجّح الأوّل يطرح الثاني ، ويحكم بالإجمال والعمل بمقتضى الاصول في مادّة اجتماع الأوّل والثالث.

وإن قلنا بالترجيح في مثلهما ، فإن ترجّح الأوّل على الأخيرين يطرح الثاني مطلقا ، والثالث في مادّة اجتماعه مع الأوّل. وإن ترجّحا عليه يكون هو المطروح ، ثمّ تلاحظ النسبة بينهما ويعمل بمقتضى الترجيح وإلّا فالتخيير. وإن ترجّح الأوّل على الثاني يطرح المرجوح ، ثمّ تلاحظ النسبة بين الأوّل والثالث ، ويعمل بمقتضى المرجّحات فيهما وإلّا فالتخيير. وإن ترجّح الثاني عليه يكون هو المطروح ، ويعمل بمقتضى المرجّحات بين الأخيرين وإلّا فالتخيير. وكذا إن ترجّح أحد الأخيرين على الآخر يطرح المرجوح ، ويعمل بمقتضى المرجّحات بين الراجح منهما والأوّل وإلّا فالتخيير. وإن انتفى الترجيح في البين رأسا يتخيّر بين الجميع.

وأمّا السادس فمثل قولنا : لا تكرم العلماء وأكرم العلماء ويستحبّ إكرام الشعراء ، لأنّ نسبة الثاني إلى الأوّل بالتباين ، ونسبة الثالث إليه بالعموم من وجه ، والأخيران من قبيل النصّ والظاهر كما تقدّم. وحينئذ إن قلنا بالترجيح في المتعارضين بالعموم من وجه يلاحظ الترجيح بين الأوّل والأخيرين ، فإن ترجّح الأوّل يطرح الأخيران. وإن ترجّحا عليه يكون هو المطروح ، ويحمل ظاهرهما على النصّ منهما. وإن ترجح الأوّل على أحد الآخرين يتخيّر بين الباقيين. وإن قلنا فيهما بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول ، فحينئذ يلاحظ الترجيح بين الأوّلين ، فإن ترجّح الثاني يطرح الأوّل ، ويحمل ظاهر الأخيرين على النصّ منهما. وإن ترجّح الأوّل يطرح الثاني ، ويحكم بالإجمال في مادّة الاجتماع بين الأوّل والثالث.

الثالثة : أن يكون الدليلان المعارضان مع الثالث أحدهما بالنسبة إليه من قبيل الظاهر والآخر من قبيل النصّ. وقد عرفت أنّ الدليلين في أنفسهما إمّا أن يكونا

.................................................................................................

______________________________________________________

من قبيل الظاهرين ، أو الظاهر والنصّ. فهنا قسمان :

أحدهما : قولنا يجب إكرام العلماء ويستحبّ إكرام الشعراء ويكره إكرام الاصوليّين ، لأنّ نسبة الثاني إلى الأوّل بالعموم من وجه ، ونسبة الثالث إليه بالعموم والخصوص مطلقا ، ونسبة الأخيرين في أنفسهما بالعموم من وجه. وحينئذ يخصّص عموم دليل العلماء أوّلا بالخاصّ من الأخيرين ، لعدم جواز تخصيصه بالآخر ، لما عرفته من كون نسبة الآخر إليه بالعموم من وجه. وبعد تخصيصه به تلاحظ النسبة بين من عدا الاصوليّين من العلماء وبين الشعراء ، وحيث كانت نسبتهما بالعموم من وجه ، وكذا بين الأخيرين ، يحكم في مادّة الاجتماع في المقامين ـ وهو العالم الشاعر غير الاصولي ، والشاعر الاصولي ـ بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول ، أو بالترجيح إن اشتمل أحدهما على بعض وجوهه ، وإلّا فالتخيير.

وثانيهما : قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الشعراء ويباح إكرام الاصوليّين من الشعراء ، لأنّ نسبة الثاني إلى الأوّل بالعموم من وجه ، ونسبة الثالث إليه هو العموم والخصوص مطلقا ، ونسبة الأخيرين أيضا في أنفسهما بالعموم والخصوص مطلقا. وحينئذ يخصّص عموم العلماء أوّلا بالخاصّ من الأخيرين ، ثمّ تلاحظ النسبة بين الباقي من العلماء وبين الشعراء ، أو يخصّص عموم الشعراء أوّلا بدليل الاصوليّين من الشعراء ، ثمّ تلاحظ النسبة بين ما بقي من الشعراء وبين العلماء ، لعدم انقلاب النسبة على التقديرين ، لكون النسبة بين العامّ المخصّص والعامّ الآخر على التقديرين عموما من وجه ، ويحكم في مادّة الاجتماع بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول ، أو بالترجيح إن وجد بعض وجوهه وإلّا فالتخيير. ثمّ إنّ حكمنا بالرجوع إلى مقتضى الاصول في موارد التعارض بالعموم من وجه بناء على عدم شمول أخبار الترجيح له ، إنّما هو فيما كانت مادّة الاجتماع من مجاري الاصول ، ولا يحكم بالتخيير العقلي كما في المثال الأخير ، لأنّ مادّة الاجتماع فيه هو العالم الشاعر

إنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة إن كانت نسبة واحدة فحكمها حكم المتعارضين ، فإن كانت النسبة العموم من وجه وجب الرجوع إلى المرجّحات ، مثل قوله : " يجب إكرام العلماء" و" يحرم إكرام الفسّاق" و" يستحبّ إكرام الشعراء" فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع. وإن كانت النسبة عموما مطلقا ، فإن لم يلزم محذور من تخصيص العامّ بهما خصّص بهما ، مثل المثال الآتي. وإن لزم محذور ، مثل قوله : " يجب إكرام العلماء" و" يحرم إكرام فسّاق العلماء" و" يكره إكرام عدول العلماء" فإنّ اللازم من تخصيص العام بهما بقاؤه بلا مورد ، فحكم ذلك كالمتباينين ، لأنّ مجموع الخاصين مباين للعامّ.

______________________________________________________

غير الاصولي ، وقد دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة ، وكلاهما مخالف للأصل.

لا يقال : إنّ التخيير العقلي إنّما هو بعد القطع بصدور المتعارضين ، كما في متعارضات الكتاب ، والكلام في المقام في متعارضات الأخبار ، وهي ظنّية غالبا.

لأنّا نقول : إنّا نمنع ذلك ، لأنّ الظنّ المعتبر كالقطع.

والتحقيق منع عدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة في المثال ، بناء على ما هو التحقيق من كون المانع من التمسّك بالاصول هي المخالفة القطعيّة العمليّة ، واللازم من طرح احتمال الوجوب والحرمة والتمسّك بمقتضى أصالة البراءة هي المخالفة الالتزاميّة دون العمليّة ، لأنّ المكلّف لا يخلو من الفعل الموافق لاحتمال الوجوب والترك الموافق لاحتمال الحرمة.

ثمّ إنّ فذلكة جميع ما قدّمناه في الأقسام المتقدّمة ـ سواء كان التعارض من جانب أو أكثر ـ أنّه مع تعارض دليلين أو أكثر يلاحظ أوّلا تعارض النص والظاهر أو الظاهر والأظهر ، فيحمل الظاهر على النصّ أو الأظهر ، ثمّ تعارض المتباينين ، ثمّ تعارض ما كان على وجه العموم والخصوص من وجه ، بناء على الحكم بالإجمال في مادّة التعارض والرجوع إلى مقتضى الاصول ، وإلّا كان المتعارضان بالعموم من وجه كالمتباينين.

وقد توهّم بعض (٢٩٢١) من عاصرناه (٢٤) ، فلاحظ العامّ بعد تخصيصه ببعض الأفراد بإجماع ونحوه مع الخاصّ المطلق الآخر ، فإذا ورد" أكرم العلماء" ، ودلّ من الخارج دليل على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وورد أيضا" لا تكرم النحويّين" كانت النسبة على هذا بينه وبين العامّ بعد إخراج الفسّاق عموما من وجه. ولا أظنّ يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيّين ؛ إذ لا وجه لسبق ملاحظة العامّ مع أحدهما على ملاحظته مع العامّ الآخر.

وإنّما يتوهّم ذلك في العامّ المخصّص بالإجماع أو العقل ؛ لزعم أنّ المخصّص المذكور (٢٩٢٢) يكون كالمتّصل ، فكأنّ العامّ استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج ، والتعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين ، لا بين ما وضع له اللفظ وإن علم عدم استعماله فيه ، فكأنّ المراد بالعلماء في المثال المذكور عدولهم ، والنسبة بينه وبين النحويّين عموم من وجه.

______________________________________________________

وبالجملة ، لا بدّ من ملاحظة هذا الترتيب إن اشتمل المقام على وجوه التعارض أو بعضها ، كما يظهر تفصيله ممّا أسلفناه من الأقسام ، ولعلّك بعد الخبرة بما قدّمناه تقدر على استنباط أحكام سائر الأقسام التي لا تحتويها الأقسام المتقدّمة. والله الهادي إلى صوب الصواب ، وإليه المرجع والمآب.

٢٩٢١. المتوهّم هو الفاضل النراقي.

٢٩٢٢. بناء على كشف كلّ من العقل والإجماع عن وجود قرينة متّصلة حين ورود العامّ. أمّا الإجماع فواضح. وأمّا العقل فللملازمة بين هو بين الشرع. وسيشير المصنّف رحمه‌الله إلى أنّ العامّ المخصّص بمتّصل إنّما تلاحظ النسبة بينه وبين سائر معارضاته بعد تخصيصه بما اتّصل به لا قبله.

وأنت خبير بأنّ العقل أو الإجماع إنّما يكشف عن وجود قرينة في الجملة لا عن وجود المتّصلة منها ، كيف لا ولا إشكال في جواز فصل القرائن عن الكلام ، بل وفي تأخيرها إلى ما قبل مضيّ وقت الحاجة ، بل عن وقتها أيضا إذا وجدت مصلحة تقتضي تكليف المخاطبين بظاهر العموم ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله عند

ويندفع : بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري الدليلين ، وظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد. وكيف كان ، فلا بدّ من إحرازه حين التعارض وقبل علاجه ؛ إذ العلاج راجع إلى دفع المانع ، لا إلى إحراز المقتضي. والعامّ المذكور ـ بعد ملاحظة تخصيصه بذلك الدليل العقليّ ـ إن لوحظ بالنسبة إلى وضعه للعموم مع قطع النظر عن تخصيصه بذلك الدليل ، فالدليل المذكور والمخصّص اللفظيّ سواء في المانعيّة عن ظهوره في العموم ، فيرفع اليد عن الموضوع له بهما ، وإن لوحظ بالنسبة إلى المراد منه بعد التخصيص بذلك الدليل ، فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما خرج بذلك الدليل إلّا بعد إثبات كونه تمام الباقي (*) ، وهو غير معلوم ، إلّا بعد نفي احتمال مخصّص آخر ولو بأصالة عدمه ، وإلّا فهو مجمل مردّد بين تمام الباقي وبعضه ؛ لأنّ الدليل المذكور قرينة صارفة عن العموم لا معيّنة لتمام الباقي. وأصالة عدم المخصّص الآخر في المقام غير جارية مع وجود المخصّص اللفظي ، فلا ظهور له في تمام الباقي حتّى يكون النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي عموما من وجه.

وبعبارة أوضح : تعارض" العلماء" بعد إخراج" فسّاقهم" مع" النحويّين" ، إن كان قبل علاج دليل" النحويين" ورفع مانعيّته ، فلا ظهور له حتّى يلاحظ النسبة بين ظاهرين ؛ لأنّ ظهوره يتوقّف على علاجه ورفع تخصيصه ب" لا تكرم النحويّين" ، وإن كان بعد علاجه ودفعه فلا دافع له ، بل هو كالدليل الخارجيّ المذكور دافع عن مقتضى وضع العموم.

نعم ، لو كان المخصّص متصلا بالعامّ من قبيل : الصفة والشرط وبدل البعض ـ كما في" أكرم العلماء العدول أو إن كانوا عدولا أو عدولهم" ـ صحّت ملاحظة النسبة (٢٩٢٣) بين هذا التركيب الظاهر في تمام الباقي وبين

______________________________________________________

تصحيح تخصيص العمومات الواردة في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعض الأئمّة الماضين عليهم‌السلام بالمخصّصات الواردة في الأزمنة المتأخّرة عن الأئمّة المتأخّرين عنهم.

٢٩٢٣. بل قد أشرنا فيما تقدّم إلى خروج هذا القسم من محلّ النزاع ، فراجع.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «الباقى» ، المراد.

المخصّص اللفظيّ المذكور وإن قلنا بكون العام المخصّص بالمتّصل مجازا ، إلّا أنّه يصير حينئذ من قبيل" أسد يرمى" ، فلو ورد مخصّص منفصل آخر كان مانعا لهذا الظهور. وهذا بخلاف العامّ المخصّص بالمنفصل ، فإنّه لا يحكم بمجرّد وجدان مخصّص منفصل بظهوره في تمام الباقي إلّا بعد إحراز عدم مخصّص آخر.

فالعامّ المخصّص بالمنفصل لا ظهور له في المراد منه ، بل هو قبل إحراز جميع المخصّصات مجمل مردّد بين تمام الباقي وبعضه ، وبعده يتعيّن إرادة الباقي بعد جميع ما ورد عليه من التخصيص.

أمّا المخصّص بالمتّصل ، فلمّا كان ظهوره مستندا إلى وضع الكلام التركيبيّ على القول بكونه حقيقة أو وضع لفظ القرينة بناء على كون لفظ العامّ مجازا ، صحّ اتّصاف الكلام بالظهور ، لاحتمال إرادة خلاف ما وضع له التركيب أو لفظ القرينة. والظاهر أنّ التخصيص بالاستثناء (٢٩٢٤) من قبيل المتّصل ؛ لأنّ مجموع الكلام ظاهر في تمام الباقي ، ولذا يفيد الحصر. فإذا قال : " لا تكرم العلماء إلّا العدول" ، ثمّ قال : " أكرم النحويّين" فالنسبة عموم من وجه ؛ لأنّ إخراج غير العادل (٢٩٢٥) من النحويين مخالف لظاهر الكلام الأوّل.

______________________________________________________

٢٩٢٤. قد أشرنا فيما تقدّم إلى ما يومي إلى كونه متّصلا أو منفصلا من كلماتهم ، وأنّ الحقّ ـ وفاقا للمصنّف رحمه‌الله ـ هو الأوّل ، فراجع.

٢٩٢٥. الذي هو مادّة الاجتماع ومحلّ التعارض ، لأنّ الكلام الأوّل قد دلّ على وجوب إكرام العلماء العدول ، وعلى عدم وجوب إكرام غير العادل من العلماء ، والثاني قد دلّ على وجوب إكرام النحويّين ، ولا تعارض بينهما في إكرام عدول النحويّين ، لتوافقهما في الدلالة على وجوبه ، وكذا في إكرام غير النحويّ من العلماء ، وهو واضح. والتعارض بينهما إنّما وقع في إكرام النحويّ غير العادل ، لدلالة الأوّل على عدم وجوبه ، والثاني على وجوبه. وحاصل ما ذكره في المقام : أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، لأنّ إخراج غير العادل النحويّ من الكلام الأوّل مخالف لظاهره ، فلو كانت النسبة بين عموم العلماء ودليل النحويّين عموما و

ومن هنا يصحّ أن يقال : إنّ النسبة بين قوله : " ليس في العارية ضمان إلّا الدينار والدرهم" ، وبين ما دلّ على" ضمان الذهب والفضّة" عموم من وجه (٢٩٢٦) ـ كما قوّاه غير واحد من متأخّري المتأخّرين (٢٥) ـ فيرجح الأوّل ، لأنّ دلالته بالعموم ودلالة الثاني بالإطلاق ، أو يرجع إلى عمومات نفي الضمان. خلافا لما ذكره بعضهم (٢٦) : من أنّ تخصيص العموم بالدرهم والدينار لا ينافي تخصيصه أيضا بمطلق الذهب والفضّة.

وذكره صاحب المسالك ، وأطال الكلام في توضيح ذلك ، فقال ما لفظه : لا خلاف في ضمانهما ـ يعني الدراهم والدنانير ـ عندنا ، وإنّما الخلاف في غيرهما من الذهب والفضّة كالحليّ المصوغة ، فإنّ مقتضى الخبر الأوّل (٢٩٢٧) ونحوه دخولهما ، ومقتضى تخصيص الثاني بالدراهم والدنانير خروجهما. فمن الأصحاب من نظر إلى أنّ الذهب والفضّة مخصّصان من عدم الضمان مطلقا ، ولا منافاة بينهما وبين الدراهم والدنانير ، لأنّهما بعض أفرادهما ، ويستثنى الجميع ، ويثبت الضمان في مطلق الجنسين. ومنهم من التفت إلى أنّ الذهب والفضّة مطلقان أو عامّان بحسب إفادة الجنس المعرّف العموم وعدمه ، والدراهم والدنانير مقيّدان أو مخصّصان ، فيجمع بين النصوص بحمل المطلق على المقيّد أو العامّ على الخاصّ.

والتحقيق في ذلك أن نقول : إنّ هنا نصوصا على ثلاثة أضرب : أحدها عامّ في عدم الضمان من غير تقييد ، كصحيحة الحلبيّ عن الصادق عليه‌السلام : " ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن" (٢٧) ، وقريب منها صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام. وثانيها : بحكمها إلّا أنّه استثنى مطلق الذهب والفضّة. و

______________________________________________________

خصوصا مطلقا ، كما هو اللازم لكون الاستثناء من المخصّصات المنفصلة ، لم يكن إخراج أفراد الخاصّ مخالفا لظاهر العامّ ، لكون الخاصّ قرينة عرفيّة للمراد من العامّ.

٢٩٢٦. على ما سيجيء بيانه بعد نقل كلام صاحب المسالك.

٢٩٢٧. الذي استثني فيه الذهب والفضّة من عدم الضمان ، فإنّ مقتضاه دخول الحليّ المصوغة في الضمان.

ثالثها : بحكمها (٢٩٢٨) إلّا أنّه استثنى الدنانير أو الدراهم. وحينئذ فلا بدّ من الجمع ، فإخراج الدراهم والدنانير لازم ؛ لخروجهما على الوجهين الأخيرين (٢٩٢٩) ، فإذا خرجا من العموم بقي العموم فيما عداهما بحاله ، وقد عارضه التخصيص بمطلق الجنسين ، فلا بدّ من الجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ.

فإن قيل : لمّا كان الدراهم والدنانير أخصّ من الذهب والفضّة وجب تخصيصهما بهما عملا بالقاعدة ، فلا تبقى المعارضة إلّا بين العامّ الأوّل والخاصّ الأخير. قلنا : لا شكّ أنّ كلّا منهما مخصّص لذلك العامّ ؛ لأنّ كلّا منهما مستثنى ، وليس هنا إلّا أنّ أحد المخصّصين أعم من الآخر مطلقا ، وذلك غير مانع ، فيخصّ العامّ الأوّل (٢٩٣٠) بكلّ منهما أو يقيّد مطلقه ، لا أن أحدهما يخصّص بالآخر ؛ لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضّة في لفظ والدراهم والدنانير في لفظ ، حتّى يوجب الجمع بينهما بالتخصيص أو التقييد.

وأيضا : فإنّ العمل بالخبرين الأخصّين (٢٩٣١) لا يمكن ؛ لأنّ أحدهما لم يخصّ إلّا الدنانير وأبقى الباقي على حكم عدم الضمان صريحا ، والآخر لم يستثن إلّا الدراهم وأبقى الباقي على حكم عدم الضمان كذلك ، فدلالتهما قاصرة ، والعمل بظاهر كلّ منهما لم يقل به أحد ، بخلاف الخبر المخصّص بالذهب والفضّة.

______________________________________________________

٢٩٢٨. لا يخفى أنّ استثناء الدنانير إنّما هو في خبر والدراهم في آخر ، إلّا أنّ الشهيد الثاني نزّلهما منزلة خبر واحد ، كما سيشير إليه.

٢٩٢٩. يعني : على الوجهين المذكورين في الخبرين الأخيرين من استثناء مطلق الجنسين ، واستثناء خصوص الفردين ، أعني : الدرهم والدينار.

٢٩٣٠. العموم بالنظر إلى الفقرة الاولى من صحيحة الحلبي ، والإطلاق بالنظر إلى الفقرة الثانية منها.

٢٩٣١. يعني : خبر الدرهم والدينار. وحاصله : أنّ العمل بالخبرين الأخصّين ، وتخصيص خبر الذهب والفضّة بهما ، ثمّ تخصيص خبر عدم الضمان مطلقا به بعد تخصيصه بهما ، غير ممكن ، لأنّ استثناء الدرهم قد وقع في خبر ، واستثناء الدينار في

فإن قيل : التخصيص (٢٩٣٢) إنّما جعلناه بهما معا ، لا بكلّ واحد منهما ، فلا يضرّ عدم دلالة أحدهما على الحكم المطلوب منه. قلنا : هذا أيضا (٢٩٣٣) لا يمنع قصور كلّ واحد من الدلالة ؛ لأنّ كلّ واحد مع قطع النظر عن صاحبه قاصر ، وقد وقعا في وقتين في حالتين مختلفتين ، فظهر أنّ إرادة الحصر من كلّ منهما غير مقصود ، وإنّما المستثنى فيهما من جملة الأفراد المستثناة. وعلى تقدير الجمع بينهما بجعل المستثنى مجموع ما استفيد منهما لا يخرجان عن القصور في الدلالة على المطلوب ؛ إذ لا يعلم منهما إلّا أنّ الاستثناء ليس مقصورا على ما ذكر في كلّ واحد.

______________________________________________________

آخر ، وظاهر الاستثناء الأوّل بقاء الدينار على حكم عدم الضمان قضاء للحصر ، وبالعكس في الاستثناء الثاني ، فهما لمعارضتهما بظاهرهما لا يصلحان لتخصيص خبر الذهب والفضّة ، والعمل بظاهرهما لم يقل به أحد ، بل غير ممكن كما عرفت. هذا بخلاف ما لو لم نعمل بالخبرين الأخصّين ، لأنّه على القول بثبوت الضمان في مطلق الجنسين يكفي فيه الاقتصار في تخصيص عدم الضمان مطلقا على العمل بخبر الذهب والفضّة ، فيخصّص به خاصّة ، ولا يعمل بخبر الدرهم والدينار ، لنهوض الأوّل لإثبات الضمان فيهما أيضا ، مع أنّ ثبوته فيهما إجماعيّ.

٢٩٣٢. حاصله : أنّ ما ذكرت إنّما يرد لو عمل بكلّ من خبري الدرهم والدينار مستقلّا ، بخلاف ما لو عملنا بهما بعد تنزيلهما منزلة خبر واحد استثني فيه الدرهم والدينار ، إذ لا قصور في الدلالة حينئذ.

٢٩٣٣. حاصله : منع عدم القصور ، لأنّ استثناء كلّ من الدرهم والدينار وقع في خبر مستقلّ مباين للآخر ، وظاهر كلّ منهما إفادة الحصر ، وغاية ما يستفاد منهما بعد تنزيلهما بمنزلة واحد عدم إرادة الحصر في ظاهر كلّ منهما ، فيرجع محصّلهما ـ بعد عدم إرادة ما يفيدان بظاهرهما من الحصر ـ إلى كون كلّ من الدرهم والدينار من جملة الأفراد المستثناة ، لا انحصار الاستثناء فيهما.

فإن قيل : إخراج الدراهم (٢٩٣٤) والدنانير خاصّة ينافي إخراج جملة الذهب والفضّة ، فلا بدّ من الجمع بينهما بحمل الذهب والفضّة على الدراهم والدنانير ، كما يجب الجمع بين عدم الضمان لمطلق العارية والضمان لهذين النوعين ؛ لتحقّق المنافاة. قلنا : نمنع تحقق المنافاة بين الأمرين ؛ فإنّ استثناء الدراهم والدنانير اقتضى بقاء العموم في حكم عدم الضمان فيما عداهما ، وقد عارضه الاستثناء الآخر ، فوجب تخصيصه به أيضا ، فلا وجه لتخصيص أحد المخصّصين بالآخر.

وأيضا : فإنّ حمل العامّ على الخاصّ استعمال مجازيّ ، وإبقائه على عمومه حقيقة ، ولا يجوز العدول إلى المجاز مع إمكان الاستعمال على وجه الحقيقة ، وهو هنا ممكن (٢٩٣٥) في عموم الذهب والفضّة فيتعيّن. وإنّما صرنا إلى التخصيص في الأوّل (٢٩٣٦) لتعيّنه على كلّ تقدير.

فإن قيل : إذا كان التخصيص يوجب المجاز وجب تقليله ما أمكن ؛ لأنّ كل فرد يخرج يوجب زيادة المجاز في الاستعمال ، حيث كان حقّه أن يطلق على جميع الأفراد ، وحينئذ فنقول : قد تعارض هنا مجازان ، أحدهما في تخصيص الذهب والفضّة بالدنانير والدراهم ، والثاني في زيادة تخصيص العامّ الأوّل بمطلق الذهب والفضّة على تقدير عدم تخصيصهما بالدنانير والدراهم ، فترجيح أحد المجازين على الآخر ترجيح من غير مرجّح ، بل يمكن ترجيح تخصيص الذهب والفضّة ؛ لأنّ فيه مراعاة قوانين التعارض

______________________________________________________

٢٩٣٤. لا يقال : إنّه لا وقع لهذا السؤال بعد منع ظهور روايتي الدرهم والدينار في إرادة تمام الباقي ، لأنّ المنافاة المذكورة إنّما تتوهّم على تقدير هذا الظهور لا مع عدمه. لأنّا نقول : إنّ المنافاة تارة تنشأ من إرادة حصر الضمان فيهما ، واخرى من تخصيصهما بالذكر ، وإن فرض عدم اقترانهما بأداة الحصر ، ولمّا دفع المنافاة الاولى قبل السؤال سأل عن الثانية هنا.

٢٩٣٥. بتخصيص عموم عدم ضمان العارية مطلقا بكلّ من خبري الذهب والفضّة والدرهم والدينار ، لبقاء خبر الذهب والفضّة حينئذ على عمومه.

٢٩٣٦. يعني : عموم عدم ضمان العارية مطلقا.

بينه وبين ما هو أخصّ منه. قلنا : لا نسلّم التعارض بين الأمرين ؛ لأنّ استعمال العامّ الأوّل على وجه المجاز حاصل على كلّ تقدير إجماعا ، وزيادة التجوّز في الاستعمال لا يعارض به أصل التجوّز في المعنى الآخر ، فإنّ إبقاء الذهب والفضّة على عمومهما استعمال حقيقيّ ، فكيف يكافيه مجرّد تقليل التجوّز مع ثبوت أصله؟! وبذلك يظهر بطلان الترجيح بغير مرجّح ؛ لأنّ المرجّح حاصل في جانب الحقيقة. هذا ما يقتضيه الحال من الكلام على هذين الوجهين (٢٩٣٧) ، وبقي فيه مواضع تحتاج إلى تنقيح (٢٨) ، انتهى.

أقول : الذي يقتضيه النظر أنّ النسبة بين روايتي الدراهم والدنانير بعد جعلهما كرواية واحدة ، وبين ما دلّ على استثناء الذهب والفضّة من قبيل العموم من وجه ؛ لأنّ التعارض بين العقد السلبيّ (٢٩٣٨) من الاوّلى والعقد الإيجابيّ من الثانية ، إلّا أنّ الأوّل عامّ والثاني مطلق ، والتقييد أولى من التخصيص.

______________________________________________________

٢٩٣٧. المذكورين في عنوان كلامه.

٢٩٣٨. قد أسلفنا فيما تقدّم أنّ التعارض بين روايتي الدرهم والدينار بعد تنزيلهما منزلة رواية واحدة ورواية الذهب والفضّة ، إنّما هو بين المستثنى منه في الاولى والمستثنى في الثانية ، حيث إنّ الأوّل اقتضى عدم ضمان الحليّ المصوغة ، والثاني ضمانها ، فلا تعارض بين العقد الإيجابي في الاولى والسلبي في الثانية ، لأنّ العقد الإيجابي في الاولى قد اقتضى ثبوت الضمان في الدرهم والدينار ، وهو لا ينافي عدم ضمان ما عدا الذهب والفضّة كما هو مقتضى العقد السلبي في الثانية ، لسكوته عنه. وكذا العقد السلبي في الثانية اقتضى عدم ضمان ما عدا الذهب والفضّة مطلقا ، وهو لا ينافي ثبوت الضمان في الدرهم والدينار كما هو مقتضى العقد الإيجابي في الاولى. ومن هنا تظهر مادّة الاجتماع ومادّتى الافتراق بين الروايتين ، لأنّ مادّة الاجتماع هي الحليّ المصوغة ، ومادّة الافتراق من جانب المستثنى منه في الاولى ـ وهو الثوب ونحوه ـ وجانب المستثنى في الثانية هو الدرهم والدينار. وقد أسلفنا فيما قدّمناه زيادة توضيح للمقام ، فراجع ولاحظ.

وبعبارة اخرى : يدور الأمر بين رفع اليد عن ظاهر الحصر في الدرهم والدينار ورفع اليد عن إطلاق الذهب والفضّة ، وتقييدهما أولى ، إلّا أن يقال : إنّ الحصر (٢٩٣٩) في كلّ من روايتي الدرهم والدينار موهون من حيث اختصاصهما بأحدهما ، فيجب إخراج الآخر من عمومه ، فإنّ ذلك يوجب الوهن في الحصر وإن لم يكن الأمر كذلك في مطلق العامّ. ويؤيّد ذلك أنّ تقييد الذهب والفضّة بالنقدين مع غلبة استعارة المصوغ بعيد جدّا. وممّا ذكرنا يظهر النظر في مواضع (٢٩٤٠) ممّا ذكره صاحب المسالك في تحرير وجهي المسألة.

وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة ، فإن كان فيها ما يقدّم (٢٩٤١) على بعض آخر منها ، إمّا لأجل الدلالة كما في النصّ والظاهر أو الظاهر والأظهر ، وإمّا لأجل مرجّح آخر ، قدّم ما حقّه التقديم ، ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المعارضات.

______________________________________________________

٢٩٣٩. لعلّ في الإتيان بلفظ «إلّا» إشعارا بضعف هذا القول ، كما هو المتداول في سائر الموارد. ووجه الضعف : أنّ غاية ما يستفاد من منافات حصر الضمان في الدرهم في رواية وحصره في الدينار في اخرى ، هو عدم كون الحصر في كلّ منهما حقيقيّا ، بل إضافيّا بالنسبة إلى ما عدا المذكور في الاخرى ، فلا قصور في إفادتهما للعموم بالنسبة إلى ما عداهما بعد تنزيلهما بمنزلة رواية واحدة ، لأجل ما عرفت من عدم إرادة الحصر الحقيقي منهما.

٢٩٤٠. لأنّ جميع ما ذكره من الأسئلة والأجوبة تبتني على كون الاستثناء من المخصّصات المنفصلة ، وإلّا فلا وقع لشيء منها ، إذ على تقدير كونه من المخصّصات المتّصلة لا بدّ أن يعمل في المقام بما قرّره المصنّف قدس‌سره اللطيف.

٢٩٤١. حاصل الكلام على وجه يكون ضابطا في المقام أن يقال : إنّه إذا تعارضت الأدلّة بنسب مختلفة فلا بدّ أن تلاحظ المرجّحات الدلاليّة ، فإن كان فيها نصّ وظاهر أو أظهر وظاهر يحمل الظاهر على النصّ أو الأظهر ، لأنّه جمع عرفيّ مقدّم على مرجّحات السند ، ثمّ تلاحظ النسبة بينها ، لأنّه قد ينقلب النسبة ويحدث الترجيح بحسب الدلالة من جهة اخرى ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. وإن لم يحدث الرجحان ، أو

فقد تنقلب النسبة وقد يحدث الترجيح ، كما إذا ورد : " أكرم العلماء" و" لا تكرم فسّاقهم" و" يستحبّ إكرام العدول" فإنّه إذا خصّ العلماء (٢٩٤٢) بعدولهم يصير أخصّ مطلقا من العدول ، فيخصّص العدول بغير علمائهم ، والسرّ في ذلك واضح ؛ إذ لو لا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ (٢٩٤٣) أو طرح الظاهر المنافي له رأسا ، وكلاهما باطل.

______________________________________________________

لم يكن بينها ابتداء رجحان بحسب الدلالة ، فإن وجد فيها ما كان تعارضهما بالعموم من وجه ، وقلنا في مثله بالإجمال والرجوع إلى مقتضى الاصول ، يعمل بمقتضاه. وإن قلنا فيه بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة فهو كالمتباينين ، ثمّ تلاحظ مرجّحات السند.

ولا بدّ أن يلاحظ هذا الترتيب في المتعارضات بنسب مختلفة. أمّا تقديم الترجيح بحسب الدلالة فلما عرفت من كونه جمعا عرفيّا. وأمّا ملاحظة التعارض بالعموم من وجه بعده على القول المتقدّم ، فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله آنفا من أنّ الترجيح بحسب السند من قبيل رفع المانع لا إحراز المقتضي ، فلا بدّ في الترجيح بحسب السند من إحراز ظهور المتعارضين في مدلولهما ، والفرض في المتعارضين بالعموم من وجه إجمالهما في مادّة الاجتماع. فإذا جمع بين النصّ والظاهر أو الأظهر والظاهر ، وحكم بإجمال ما هو غير ظاهر منها ، يلتمس الترجيح بحسب السند بين ما بقي ظاهرا في مدلوله منها ، ومع فقد الترجيح يحكم بالتخيير.

ومن هذا البيان يظهر ما في عبارة المصنّف من القصور ، لأنّ الظاهر أنّ المراد بقوله : «وإمّا لأجل مرجّح آخر» هو المرجّح بحسب السند ، لأنّه بعد ملاحظة المرجّح بحسب السند لا يبقى محلّ لملاحظة النسبة في الباقي ، لما عرفت من أنّ الترجيح بحسب السّند آخر المراتب المتقدّمة. اللهمّ إلّا أن يريد بمرجّح الدلالة ما كانت نسبته بالعموم والخصوص مطلقا ، وبالمرجّح الآخر ما عداه ، مثل كون أحد العامّين أقلّ أفرادا من الآخر ونحوه ، وإن كان هذا أيضا من مرجّح الدلالة.

٢٩٤٢. بإخراج الفسّاق منهم.

٢٩٤٣. لأنّ قولنا : أكرم العلماء دليل عارضه دليلان ، أحدهما : على وجه

وقد لا تنقلب النسبة فيحدث الترجيح في المتعارضات (٢٩٤٤) بنسبة واحدة ، كما لو ورد : " أكرم العلماء" و" لا تكرم الفسّاق" و" يستحبّ إكرام الشعراء" ، فإذا فرضنا أنّ الفسّاق أكثر (٢٩٤٥) فردا من العلماء خصّ بغير العلماء ، فيخرج العالم

______________________________________________________

العموم والخصوص مطلقا ، وهو قولنا : لا تكرم فسّاقهم ، والآخر : على وجه العموم والخصوص من وجه ، وهو قولنا : يستحبّ إكرام العدول. وحينئذ تجب ملاحظة الترتيب ، بمعنى تخصيص العلماء أوّلا بفسّاقهم ، لكونه أخصّ منه مطلقا ، ثمّ تخصيص العدول بالعلماء ، لصيرورته أخصّ منه بعد إخراج الفسّاق منهم ، إذ لو لا ملاحظة الترتيب ، بأن يخصّص العلماء أوّلا بالعدول ، بأن تخرج مادّة الاجتماع التي هو العالم العادل من تحت عموم العلماء ويدخل تحت عموم العدول ، فحينئذ إمّا أن يخصّص العلماء بفسّاقهم أيضا ، فيلزم طرح دليل العلماء ، لبقائه بلا مورد حينئذ ، وإمّا أن لا يخصّص به ، فيلزم إلغاء دليل فسّاقهم الذي هو نصّ بالنسبة إلى دليل العلماء ، وكلّ من اللازمين باطل ، فكذا ملزومهما.

٢٩٤٤. الترجيح الحاصل من ملاحظة الترتيب في المثال المتقدّم إنّما كان في بعض المتعارضات ، وهنا بين الجميع ، وهو هنا كون العامّ بعد تخصيصه أقلّ أفرادا من الآخر ، وهو من جملة مرجّحات الدلالة كما تقدّم سابقا.

٢٩٤٥. لا يخفى أنّ مادّة الاجتماع بين الأوّل والثاني ـ أعني : العالم الفاسق غير الشاعر ـ داخلة تحت الأوّل فيجب إكرامه ، ومادّة الاجتماع بين الثاني والثالث ـ أعني : الفاسق الشاعر غير العالم ـ داخلة تحت الثاني فيحرم إكرامه ، ومادّة الاجتماع بين الأوّل والثالث ـ أعني : العالم الشاعر غير الفاسق ـ داخلة تحت الثالث فيستحبّ إكرامه. وأمّا مادّة اجتماع الجميع فداخلة تحت الثالث أيضا ، كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ، وسنشير إليه.

الفاسق (٢٩٤٦) عن الحرمة ، ويبقى الفرد الشاعر من العلماء الفسّاق (*) مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

ثمّ إذا فرض أنّ الفسّاق بعد إخراج العلماء أقلّ فردا من الشعراء خصّ الشعراء به ، فالفاسق الشاعر غير مستحبّ الإكرام. فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفسّاق أقلّ موردا من العلماء خصّ دليل العلماء بدليله ، فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع (٢٩٤٧) بين الكلّ ـ أعني العالم الشاعر الفاسق ـ مستحبّ الإكرام. وقس على ما ذكرنا صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض.

______________________________________________________

٢٩٤٦. كلمة «من» (**) للتبعيض ، والضمير المجرور عائد إلى العلماء باعتبار العموم.

٢٩٤٧. فإن قلت : إنّه بعد تخصيص عموم الشعراء بدليل الفسّاق لا يبقى تحت عموم الشعراء إلّا العدول منهم ، وبعد تخصيص عموم العلماء بهذا العامّ المخصّص ـ بإخراج عدول الشعراء منهم ـ لا يثبت إلّا استحباب إكرام العالم الشاعر العادل دون الفاسق.

قلت : إنّه بعد تخصيص الفسّاق بالعلماء يبقى تحت عموم الأوّل من عدا العلماء من الفساق ، وبعد تخصيص عموم الشعراء بعموم الفسّاق المستثنى منه العلماء يبقى تحته صنفان ، أحدهما : الشاعر العادل غير العالم ، والآخر : العالم الفاسق ، إذ لم يخرج من عموم الشعراء إلّا الفسّاق غير العالم ، فيبقى العالم الفاسق تحته مندرجا ، وبعد تخصيص عموم العلماء لعموم الشعراء المستثنى منه الفاسق غير العالم ، يبقى العالم الفاسق الشاعر تحت عموم الشعراء مندرجا.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : «منه».

(**) هذه التعليقة مبتنية على وجود كلمة «منه» بعد الفسّاق ، كما في بعض نسخ الفرائد ، وللاستزادة انظر فرائد الاصول (طبعة مجمع الفكر الاسلامي) ٤ : ١١٢ الهامش رقم (٥) ، كما استفدنا كثيرا منه.

والغرض من إطالة الكلام في ذلك التنبيه على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض ؛ لأنّا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزلّات ، والله مقيل العثرات.

وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة على غيرها ، فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الأخر ، فنقول ومن الله التوفيق للاهتداء : قد عرفت أنّ الترجيح : إمّا من حيث الصدور ؛ بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ، بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره وصدور غيره لحكمنا بصدوره. ومورد هذا المرجّح قد يكون في السند كأعدليّة الراوي ، وقد يكون في المتن ككونه أفصح (*).

وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور ، فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي ، وقد يكون لبيان خلافه ؛ لتقيّة أو غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع ، فيكون أحدهما بحسب المرجّح أقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع. وإمّا أن يكون من حيث المضمون ، بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع.

وأمّا تقسيم الأصوليّين المرجّحات (٢٩٤٨) إلى السنديّة والمتنيّة ، فهو باعتبار

______________________________________________________

٢٩٤٨. حاصله : أنّ ما ذكروه من تقسيم المرجّحات إنّما هو باعتبار مورد المرجّح والمحلّ الذي يوجد فيه ، وما ذكره المصنّف رحمه‌الله إنّما هو باعتبار مورد الرجحان ، أعني : ما يتّصف بصفة الرجحان ، وهما متغايران مفهوما ومصداقا. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ كلّ ما يكون موردا للمرجّح لا يلزم أن يكون موردا للرجحان أيضا ، كالفصاحة والأفصحيّة ، لأنّ موردهما المتن ، ومورد الرجحان الحاصل بهما الصدور ، وكذا النقل باللفظ والمعنى ، لأنّ موردهما المتن ، ومورد الرجحان الحاصل بهما إنّما هو المضمون. وإنّما عدل عن تقسيمهم إلى ما ذكره لعدم حصره لجميع الأقسام ، لأنّ من جملة المرجّحات موافقة الشهرة بحسب

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : أو كونه منقولا باللفظ.

مورد المرجّح ، لا باعتبار مورد الرجحان ، ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة مثل : الفصيح والأفصح والنقل باللفظ والمعنى ، بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم وأشباه ذلك. ونحن نذكر إن شاء الله تعالى نبذا من القسمين ؛ لأنّ استيفاء الجميع تطويل لا حاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه‌السلام لبيان الحكم الواقعيّ.

______________________________________________________

الفتوى ، وكذا موافقة الكتاب والسنّة والأصل ونحوها ، وليس محلّ شيء من هذه المرجّحات متن الرواية ولا سندها.

ثمّ إنّ عدّ المفهوم والمنطوق والعموم والخصوص من المرجّحات في المقام ليس بشيء ، لما مرّ غير مرّة من خروج الكلام المشتمل على شيء من مرجّحات الدلالة من صورة التعارض ، لدخول التأويل في أحد الخبرين ـ بقرينة رجحان الآخر ـ في الجمع العرفي ، فلا يبقى معه تحيّر في فهم المراد حتّى يدخل في مورد أخبار الترجيح.

المصادر

(١) مفاتيح الاصول : ص ٦٨٦.

(٢) مفاتيح الاصول : ص ٦٨٧.

(٣) النساء (٤) : ٦٠.

(٤) عوالي اللآلي ج ٤ : ص ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩.

(٥) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١.

(٦) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٤ و ٨٥ ، الباب من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

(٧) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٠.

(٨) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣١.

(٩) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤.

(١٠) الاحتجاج ج ٢ : ص ١٠٩.

(١١) الوسائل ج ١٨ : ص ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفت القاضي ، الحديث ٨.

(١٢) الكافي ج ١ : ص ٦٧ ، الحديث ٨.

(١٣) الوسائل ج ١٨ : ص ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧.

(١٤) الكافي ج ١ : ص ٦٤ ، الحديث ٢.

(١٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ج ١ : ص ٢٩٠.

(١٦) الوسائل ج ١٨ : ص ٢٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(١٧) الكافي ج ١ : ص ٨.

(١٨) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ٩٠.

(١٩) معارج الاصول ص ١٥٤ ـ ١٥٥ ، الفصول الغرويّة : ص ٤٤٢ ، القوانين ج ٢ :

ص ٢٩٣.

(٢٠) الاستبصار ج ١ : ص ٤.

(٢١) عدّة الاصول ج ١ : ص ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢٢) القوانين ج ١ : ص ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٢٣) الكافي ج ١ : ص ٥٨ ، الحديث ١٩.

(٢٤) عوائد الأيّام : ص ٣٤٩ ـ ٣٥٣.

(٢٥) كفاية الأحكام : ص ١٣٥.

(٢٦) جامع المقاصد ج ٦ : ص ٧٨ ـ ٨٠.

(٢٧) الوسائل ج ١٣ : ص ٢٣٧ ، الباب ١ من أحكام العارية ، الحديث ٦.

(٢٨) مسالك الإفهام ج ٥ : ص ١٥٥ ـ ١٥٨.

أمّا الترجيح بالسند (٢٩٤٩) ،

______________________________________________________

٢٩٤٩. لا يذهب عليك أنّ مورد الترجيح بالسند هو أخبار الآحاد إماميّة كانت أم نبويّة ، لعدم جريانه في الكتاب والسنّة المتواترة ، بخلاف مرجّحات وجه الصدور ، لجريانها في المتواترات أيضا ما عدا الكتاب والسنّة النبويّة. أمّا الكتاب فواضح. وأمّا السنّة فلعدم ثبوت خوف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصره من أحد.

وفي المقام إشكال وارد على القول باعتبار الأخبار من باب الظنون المطلقة كما يراه جماعة ، وكذا على مختار المصنّف رحمه‌الله ، بل المشهور بين القدماء قدّس الله أسرارهم ، من قولهم باعتبارها من باب الوثوق بالصدور. وذلك لأنّه مع تعارض الخبرين لا يمكن حصول الظنّ الفعلي بالواقع من كلّ منهما ، لفرض تعارضهما وتناقضهما ، وحينئذ إمّا أن لا يحصل الظنّ كذلك من شيء منهما ، وإمّا أن يحصل من أحدهما دون الآخر. فعلى الأوّل يخرج كلّ منهما من الحجّية ، لانتفاء مناط الاعتبار في كلّ منهما. وعلى الثاني يكون المفيد للظنّ سليما من المعارض ، لخروج الآخر ـ لأجل عدم إفادته للظنّ ـ من مرتبة الحجيّة ، فلا يبقى مورد للترجيح على هذا القول. وأمّا على القول الثاني ، فإنّه مع رجحان أحد الخبرين لأجل اشتماله على بعض وجوه الترجيح لا يبقى الوثوق بصدور الآخر ، فيخرج من درجة الاعتبار ، فيكون ذو الترجيح سالما من المعارض.

وقد يذبّ عنه على القولين ، بأنّ القائلين بهما قد يقولون في بعض الموارد باعتبار الأخبار من باب الظنّ النوعي ، كما إذا زال الظنّ عنها لأجل معارضة

فبأمور : منها : كون أحد الراويين عدلا (٢٩٥٠) والآخر غير عدل مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزا عن الكذب. ومنها : كونه أعدل. وتعرف الأعدليّة إمّا بالنص عليها وإمّا بذكر فضائل فيه لم تذكر في الآخر. ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ، ويدخل في ذلك كونه أضبط.

______________________________________________________

القياس ونحوه ممّا قام الدليل على عدم اعتباره ، لأنّهم وإن صرّحوا في كتبهم بكون اعتبارها من باب إفادة الظنّ الفعلي بالواقع ، إلّا أنّهم لا يطرحون الخبر في مقابل القياس ، كما يظهر من التتبّع في أبواب الفقه ، بل هو المصرّح به في كلمات بعضهم في الاصول أيضا ، حيث قيّد اعتبارها من باب الظنّ الفعلي بعدم زواله بمثل القياس ونحوه ، وإلّا فلا تطرح في مقابل مثل القياس. ويقال فيما نحن فيه أيضا : إنّه مع تعارض الخبرين وعدم إفادة أحدهما للظنّ الفعلي ، لأجل اقترانه ببعض الأسباب التي قام الدليل على عدم اعتباره ، لا يخرج هذا الخبر غير المفيد للظنّ من الحجّية ، فتصحّ ملاحظة الترجيح حينئذ.

وفيه : مع عدم اطّراده أنّه إنّما يتمّ إذا قلنا باعتبار الظنّ من باب الشرع دون العقل ، كما هو مبنى القول باعتبار الظنون المطلقة ، لأنّ مناط حكم العقل هو صفة الظنّ الفعلي ، فلا يجري فيما لم يفد الظنّ كذلك ، سواء كان عدم الإفادة لأجل المعارضة بالقياس ونحوه أو غيرها. ومنه يظهر الكلام فيما قلنا باعتباره من باب إفادة الوثوق أيضا.

هذا ، ولكنّ الكلام في ذلك يرجع إلى الإشكال في كيفيّة استثناء القياس من عموم دليل اعتبار الظنّ المطلق ، إذ الإشكال كما يرد على العمل بالظنّ القياسي ، كذلك يرد على رفع اليد عن دليل لأجل زوال الظنّ الحاصل منه بمعارضة القياس ، لأنّ ضرورة المذهب كما قضت ببطلان القياس من حيث كونه حجّة في الشرع ، كذلك قد قضت ببطلانه من حيث كونه موهنا أو مرجّحا كما قرّر في محلّه.

٢٩٥٠. مع مساواته مع صاحبه في مرتبة التحرّز عن الكذب ، فتكون صفة العدالة مزيّة مفقودة في خبر غير العادل.

وفي حكم الترجيح بهذه الامور أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أوضح من الآخر وأقرب إلى الواقع من جهة تعدّد المزكّي أو رجحان أحد المزكيين على الآخر. ويلحق بذلك التباس اسم المزكّى (٢٩٥١) بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به.

ومنها : علوّ الإسناد ؛ لأنّه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ. وقد يعارض في بعض الموارد بندرة ذلك ، واستبعاد الإسناد لتباعد أزمنة الرواة ، فيكون مظنّة الإرسال والحوالة على نظر المجتهد. ومنها : أن يرسل أحد الراويين فيحذف الواسطة ويسند الآخر روايته ؛ فإنّ المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسل له معارضا بجرح جارح ، وهذا الاحتمال منفيّ في الآخر.

وهذا إذا كان المرسل ممّن تقبل مراسيله ، وإلّا فلا يعارض المسند (٢٩٥٢) رأسا. وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند (١) ، ولم يعلم وجهه.

ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا وراوي الاخرى واحدا ، أو يكون رواة إحداهما أكثر ؛ فإنّ المتعدّد يرجّح على الواحد والأكثر على الأقلّ ، كما هو واضح. وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح قياسا على الشهادة والفتوى. ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا ، وهو ضعيف.

ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد

______________________________________________________

لا يقال : إنّه مع المساواة في ذلك لا دليل على الترجيح بصفة العدالة ، بناء على كون مناط الترجيح هو الأقربيّة إلى الحقّ. نعم ، يتمّ ذلك على القول بالتعبّد في باب الترجيح ، مع أنّه لا دليل على الترجيح حينئذ بصفة العدالة ، لأنّ المنصوص هي الأعدليّة دون العدالة.

لأنّا نقول : إنّه مع مساواتهما في مرتبة التحرّز مع قطع النظر عن عدالتهما يتقوّى ذلك في خبر العدل بملاحظة عدالته.

٢٩٥١. بصيغة الفاعل أو المفعول.

٢٩٥٢. لخروجه من الحجّية حينئذ.

الراويين (٢٩٥٣) أعلى من طريق تحمّل الآخر ، كأن يكون أحدهما بقراءته على

______________________________________________________

٢٩٥٣. اعلم أنّ طرق تحمّل الرواية سبعة : أوّلها : السماع من لفظ الشيخ. وثانيها : القراءة على الشيخ ، وتسمّى العرض ، لأنّ القاري يعرض على الشيخ. وثالثها : الإجازة. ورابعها : المناولة ، بأن يعطيه ـ تمليكا ، أو عارية للنسخ ـ أصله ، ويقول له : هذا سماعي من فلان فاروه عنّي. وخامسها : الكتابة ، بأن يكتب الشيخ مرويّاته لغائب أو حاضر بخطّه ، أو يأذن لثقة يعرف خطّه يكتبها له. وسادسها : الإعلام ، بأن يعلم الشيخ الطالب أنّ هذا الكتاب أو هذا الحديث روايته أو سماعه من فلان ، مقتصرا عليه من غير أن يقول : اروه عنّي أو أذنت لك في روايته ونحوه. وسابعها : الوجادة.

وقال الشهيد في شرح الدراية : «وهو ـ أي : السماع من الشيخ ـ أرفع الطرق الواقعة في التحمّل عند جمهور المحدّثين ، لأنّ الشيخ أعرف بوجوه ضبط الحديث وتأديته. ولأنّه خليفة رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسفيره إلى أمّته ، والأخذ منه كالأخذ منه. ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر الناس أوّلا وأسمعهم ما جاء به ، والتقرير على ما جرى بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى. ولأنّ السامع أربط جأشا وأوعى قلبا ، وشغل القلب وتوزّع الفكر إلى القاري أسرع. وفي صحيحة عبد الله بن سنان قال : «قلت لأبي ـ عبد الله عليه‌السلام : يجيئني القوم فيسمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوى ، قال : فاقرأ عليهم من أوّله حديثا ، ومن وسطه حديثا ، ومن آخره حديثا». فعدوله عليه‌السلام إلى قراءة هذه الأحاديث مع العجز يدلّ على أولويّته على قراءة الراوي وإلّا لأمر بها».

وساق الكلام إلى أن قال : «وقيل : هو ـ أي : العرض ـ كتحديثه ـ أي : تحديث الشيخ بلفظه ـ سواء. وهو المنقول عن علماء الحجاز والكوفة ، لتحقّق القراءة في الحالين مع سماع الآخر ، وقيام سماع الشيخ مقام قراءته في مراعاة الضبط ، وورد به حديث عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «قراءتك على العالم وقراءة العالم عليك سواء». وقيل : العرض أعلى من السماع من لفظ الشيخ. وما وقفت لهؤلاء على دليل مقنع ، إلّا ملاحظة الأدب مع الشيخ في عدم تكليفه للقراءة

الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه ، وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل.

هذه نبذة من المرجّحات السنديّة التي توجب القوّة من حيث الصدور ، وعرفت أنّ معنى القوّة كون أحدهما أقرب إلى الواقع من حيث اشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر ، بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان احتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح وأقوى من مطابقة الآخر ، وإلّا فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح (*) ؛ من جهة احتمال صدق كلا الخبرين ، فإنّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما ، وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما بناء على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما لعدم الشاهد ، فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر.

والغرض من إطالة الكلام هنا أنّ بعضهم (٢) تخيّل أنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر من حيث السند أو المتن ، بعضها يفيد الظنّ القويّ ، وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ، وبعضها لا يفيد الظنّ أصلا ، فحكم بحجّية الأوّلين واستشكل في الثالث من حيث إنّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ، ومن إطلاق أدلّة التخيير ، وقوّى ذلك بناء على أنّه لا دليل على الترجيح بالامور التعبّديّة في مقابل إطلاقات التخيير.

وأنت خبير بأنّ جميع المرجّحات المذكورة مفيدة للظن الشأني بالمعنى الذي ذكرنا ، وهو أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ، وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجّحات المذكورة ما يوجب الظنّ بكذب الآخر (**) ، ولو فرض أنّ شيئا منها كان في نفسه موجبا للظنّ بكذب الخبر كان مسقطا للخبر عن درجة الحجّية ومخرجا للمسألة عن التعارض ، فيعدّ ذلك الشيء موهنا لا مرجّحا ؛ إذ فرق واضح عند التأمّل بين ما يوجب في نفسه مرجوحيّة الخبر وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع.

______________________________________________________

التي هي بصورة أن يكون تلميذا لا شيخا انتهى.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : «لكنّه».

(**) فى بعض النسخ بدل «الآخر» ، أحد الخبرين.

وأمّا ما يرجع إلى المتن فهي امور : منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ؛ لأنّ الركيك أبعد من كلام المعصوم عليه‌السلام ، إلّا أن يكون منقولا بالمعنى. ومنها : الأفصحيّة ، ذكره جماعة (٣) خلافا لآخرين (٤). وفيه تأمّل ؛ لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام (*) الإمام ، ولا الأفصح أقرب إليه في مقام بيان الأحكام الشرعيّة.

ومنها : اضطراب (٢٩٥٤) المتن كما في بعض روايات عمّار (**). ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر.

وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن ـ بعد أن عدّ هذه منها ـ بأنّ مرجع ذلك إلى الظنّ بالدلالة ، وهو ممّا لم يختلف فيه علماء الإسلام ، وليس مبنيّا على حجّية مطلق الظنّ المختلف فيه.

ثمّ ذكر في مرجّحات المتن النقل باللفظ والفصاحة والركاكة والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه والجزم بالسماع من المعصوم عليه‌السلام على غيره ، وكثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم والخصوص والعموم ونحو ذلك.

وأنت خبير بأنّ مرجع الترجيح (٢٩٥٥) بالفصاحة والنقل باللفظ إلى

______________________________________________________

٢٩٥٤. هو ما اختلف رواة الحديث أو راويه فيه متنا أو سندا ، فروى مرّة على وجه واخرى على وجه آخر مخالف له ، بأن يرويه الراوي تارة عن أبيه عن جدّه مثلا ، وتارة عن جدّه بلا واسطة ، وثالثة عن ثالث غيرهما ، أو يروي لفظ الحديث تارة على وجه ، وأخرى على وجه آخر يخالفه ، كخبر اعتبار الدم عند اشتباهه بالقرحة لخروجه من الجانب الأيمن فيكون حيضا أو بالعكس ، فرواه في الكافي بالأوّل ، وفي التهذيب في كثير من النسخ ، وفي بعضها بالثاني ، واختلف الفتوى بذلك حتّى من فقيه واحد.

٢٩٥٥. الوجه في تخصيص الترجيح بالفصاحة بالذكر ـ مع أنّ مرجع الترجيح بكلّ من النقل باللفظ والفصاحة والمسموع من الشيخ والجزم بالسماع

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : المعصوم.

(**) فى بعض النسخ زيادة : ومنها كون أحدهما منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعني ، إذ يحتمل في المنقول بالمعنى أن يكون المسموع من الإمام عليه‌السلام لفظا مغايرا لهذا اللفظ المنقول إليه.

رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور ، وليس راجعا إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الإسلام.

وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه ، وقد عدّها من مرجّحات المتن جماعة كصاحب الزبدة (٥) وغيره. والأولى ما عرفت من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر والأظهر والظاهر ، ولا تعارض بينهما ، ولا ترجيح في الحقيقة ، بل هي من موارد الجمع المقبول ، فراجع.

وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور : بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي من تقيّة أو نحوها من المصالح. وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلّا أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ، وهي مطابقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف ، فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم عليهم‌السلام احتمالا غير موجود في الخبر الآخر.

قال في العدّة : إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقه (٦) ، انتهى. وقال المحقّق في المعارج (٢٩٥٦) ـ بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ ـ : والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام ، وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد. ولا يخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره. فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلّا

______________________________________________________

ليس إلى الظنّ بالدلالة ، لكون الأوّل من مرجّحات المضمون ، والبواقي من مرجّحات الصدور لا الدلالة ـ أنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو في مرجّحات الصدور التي موردها متن الحديث ، ومجمع القيدين من الامور المذكورة ليس إلّا الفصاحة ، لأنّ النقل باللفظ وإن كان من المرجّحات المتنيّة ، إلّا أنّ الكلام فيه سيجيء عند الكلام في مرجّحات المضمون. وما عدا الفصاحة من البواقي وإن كان من مرجّحات الصدور ، إلّا أنّ الكلام فيها قد ظهر ممّا سبق من مرجّحات السند.

٢٩٥٦. ظاهر كلامه طرح الترجيح بمخالفة العامّة ، ولازمه الحكم بالتخيير في مواردها من باب التسليم إن لم يوجد أحد وجوه المرجّحات الأخر. وسيشير

الفتوى ، والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ، فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلّا الفتوى ؛ لأنّه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام ، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه‌السلام وإن كنّا لا نعلم ذلك.

فإن قال : إنّ ذلك يسدّ باب العمل بالحديث. قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا ، فلا يلزم سدّ باب العمل (٧). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

أقول : توضيح المرام في هذا المقام أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه (٢٩٥٧):

______________________________________________________

المصنّف رحمه‌الله إلى ضعف كلامه ، وسنشير أيضا إلى زيادة تزييف له.

٢٩٥٧. لا يخفى أنّ مخالفة العامّة على الوجه الأوّل يكون مرجّحا تعبّديا لوجه الصدور ، مندرجة في المرجّحات الداخليّة ، نظير الترجيح بالأصل من المرجّحات الخارجيّة. وعلى الثاني يكون من المرجّحات المضمونيّة. وعلى الثالث يكون من المرجّحات الخارجة ، لأنّ المخالفة حينئذ دليل مستقلّ ، نظير أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة في ترجيح دليل الحرمة على الوجوب. وعلى الرابع يكون من مرجّحات وجه الصدور ، بمعنى كون الموافقة لهم كاشفة عن صدور الخبر الموافق تقيّة لا من باب محض التعبّد ، كما في الوجه الأوّل.

ثمّ إنّه يفترق الوجه الأوّل عن الثاني والثالث أيضا باختصاصه بموارد تعارض الخبرين ، وجريانهما فيما لم يكن هناك خبر أصلا. وبهذا الوجه يفترقان عن الرابع أيضا ، لاختصاصه بموارد تعارض الخبرين.

ويفترق الأوّل عن الثاني بوجهين آخرين :

الأوّل : مجرّد التعبّد ، كما هو ظاهر كثير من أخباره ، ويظهر من المحقّق استظهاره من الشيخ قدس‌سرهما. الثاني : كون الرشد في خلافهم ، كما صرّح به في غير واحد من الأخبار المتقدّمة ورواية عليّ بن أسباط : " قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر ، لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك. فقال : ائت فقيه البلد واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه".

وأصرح من ذلك كلّه خبر أبي إسحاق الأرجائيّ : " قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري. فقال : إنّ عليّا صلوات الله عليه لم يكن يدين الله بشيء إلّا خالف عليه العامّة إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه صلوات الله عليه عن الشيء الذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا على الناس" (٨).

الثالث : حسن مجرّد المخالفة لهم ، فمرجع هذا المرجّح ليس الأقربيّة إلى الواقع ، بل هو نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب ، ودليل الحكم الأسهل على غيره. ويشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات مثل قوله عليه‌السلام في مرسلة داود بن الحصين : " إنّ من وافقنا خالف عدوّنا ، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منّا ولا نحن منه" (٩). ورواية الحسين بن خالد : " شيعتنا : المسلّمون لأمرنا ، الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منّا" (١٠) فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : " خالفوهم ما استطعتم".

______________________________________________________

أحدهما : أنّ الموافقة والمخالفة على الأوّل دليل على ورود الموافق تقيّة والمخالف لبيان الواقع ، وعلى الثاني أنّ الموافقة أمارة لبطلان مضمون الخبر في الواقع ، والمخالفة لحقّيته كذلك.

وثانيهما : أنّ الموافقة والمخالفة على الأوّل دليلان على ورود الموافق تقيّة ، والمخالف لبيان الواقع مطلقا ، سواء كان الاحتمال في المسألة عند الخاصّة منحصرا في اثنين أم كان أزيد ، بأن كانت المسألة عندهم ذات قولين أو أقوال ، وكانت العامّة متّفقين على أحد القولين أو الأقوال ، وكان أحد الخبرين موافقا لهم والآخر

الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة. ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية : " ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه" (١١) ، بناء على أنّ المحكيّ عنه عليه‌السلام مع عدالة الحاكي كالمسموع منه ، وأنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وأنّ القضيّة غالبيّة ؛ لكذب الدائميّة.

أمّا الوجه الأوّل ـ فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين (٢٩٥٨) المبنيّ اعتبارهما على الكشف النوعيّ ـ ينافيه (*) التعليل المذكور في الأخبار المستفيضة المتقدّمة.

ومنه يظهر ضعف الوجه الثالث ، مضافا إلى صريح رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : " ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه ، ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم ؛ فإنّهم ليسوا من الحنفيّة على شيء" (١٢) فقد فرّع الأمر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع ، لا مجرّد حسن المخالفة.

______________________________________________________

مخالفا لهم. وأمّا على الثاني فمع انحصار الاحتمال في المسألة في اثنين تكون المخالفة أمارة لحقيّة مضمون الخبر في الواقع ، والموافقة أمارة لبطلانه كذلك. وأمّا مع تكثّر الاحتمال فالموافقة وإن كانت أمارة لبطلان مضمون الموافق في الواقع ، إلّا أنّ المخالفة لا تكون أمارة لحقيّة مضمون الخبر المخالف ، لأنّ الفرض حينئذ أنّ الحقّ إنّما هو بين الاحتمالات المخالفة لهم ، لا انحصاره في مضمون المخالف الذي يوافق أحد الاحتمالات المذكورة نعم ، يكون المخالف حينئذ أبعد من الباطل بالنسبة إلى الموافق ، لا أن تكون المخالفة أمارة الرشد والحقيّة. وبهذا الوجه يفترق الأوّل عن الرابع أيضا.

٢٩٥٨. لأنّ المناسب لترجيح أحد الخبرين المعتبرين من باب الطريقيّة كون المرجّح ممّا يقوّي ذا المزيّة في جهة اعتباره ، بأن يقوّي جهة كشفه عن الواقع ، بحيث يكون مورده معه أقرب إلى الواقع وأبعد من الباطل من معارضه الخالي منه ، لا جعل الامور التعبّدية من مرجّحاته ، أو جعل ما هو كاشف عن الواقع بنفسه منها ، لكن

__________________

(*) فى بعض النسخ : «ينافي».

فتعيّن الوجه الثاني ؛ لكثرة ما يدلّ عليه من الأخبار ، أو الوجه الرابع ؛ للخبر المذكور وذهاب المشهور ، إلّا أنّه يشكل الوجه الثاني بأنّ التعليل المذكور في الأخبار بظاهره غير مستقيم ؛ لأنّ خلافهم ليس حكما واحدا (٢٩٥٩) حتّى يكون هو الحقّ ، وكون الحقّ والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لا ينفع في الكشف عن الحقّ. نعم ، ينفع في الأبعديّة عن الباطل لو علم أو احتمل غلبة الباطل على أحكامهم وكون الحقّ فيها نادرا ، ولكنّه خلاف الوجدان.

ورواية أبي بصير المتقدّمة وإن تأكّد مضمونها

______________________________________________________

مع قطع النظر عن جهة كشفه عنه ، لاختلاف المرجّح مع صاحبه حينئذ في المرتبة.

٢٩٥٩. حاصله : أنّ التعليل المذكور إنّما يتمّ لو كان الاحتمال في المسألة منحصرا في اثنين ، أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّ الرشد فيما خالفهم. وأمّا لو كانت المسألة ذات احتمالات أحدها موافق للعامّة فلا يستقيم التعليل حينئذ ، لأنّ الحقّ حينئذ في أحد الوجوه المخالفة لهم ، وهذا لا يكفي في الكشف عن حقّية أحد الوجوه تعيينا. نعم ، المخالفة إنّما تنفع في أبعديّة الوجوه المخالفة لهم عن الباطل ، إن علمت أو احتملت غلبة الباطل على أحكامهم.

فإن قلت : إنّ التعليل الوارد في الأخبار إنّما هو كون الرشد في خلافهم ، وكلمة «في» للظرفيّة ، لا كون الرشد هو نفس ما يخالفهم. والإشكال إنّما يرد على الثاني دون الأوّل ، لأنّ غاية ما يفيده التعليل على الأوّل أنّ الرشد متحقّق في خلافهم ، ولازمه مع انحصار الاحتمال المخالف لهم في واحد كون الرشد هو ذلك الاحتمال ، وفي صورة تعدّده كونه في جملة تلك الاحتمالات المخالفة لهم ، بمعنى عدم كونه هو الاحتمال الموافق لهم ، فيكون الترجيح حينئذ بمجرّد أبعديّة المخالف عن الباطل وإن لم يتعيّن الحقّ فيه.

قلت : إنّ السائل كأنّه غفل عن ظاهر الأخبار الواردة في المضمار ، لأنّ ظاهرها الأمر بالأخذ بالمخالف للعمل لأجل كون المخالفة أمارة الرّشد ، لا لأجل مجرّد الأبعديّة عن الباطل ، سيّما رواية علي بن أسباط ، لأنّ قوله عليه‌السلام : «فخذ بخلافه ،

بالحلف ، لكن لا بدّ من توجيهها ، فيرجع الأمر إلى التعبّد بعلّة الحكم (٢٩٦٠) ، وهو أبعد من التعبّد بنفس الحكم.

والوجه الرابع : بأنّ دلالة الخبر المذكور عليه لا يخلو عن خفاء ؛ لاحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرّعا على قواعدهم الباطلة ، مثل تجويز الخطأ على المعصومين من الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ـ عمدا أو سهوا ـ والجبر والتفويض ونحو ذلك. وقد اطلق الشباهة على هذا المعنى في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنّة ، حيث قال : " فإن أشبههما فهو حقّ ، وإن لم يشبههما فهو باطل". وهذا الحمل أولى من حمل القضيّة على الغلبة لا الدوام بعد تسليم الغلبة.

ويمكن دفع الإشكال في الوجه الثاني عن التعليل في الأخبار ، بوروده على الغالب من انحصار الفتوى في المسألة في الوجهين ؛ لأنّ الغالب أنّ الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامّة مختلفين (٢٩٦١) ، ومع اتّفاقهم لا يكون في المسألة وجوه متعدّدة.

ويمكن أيضا الالتزام بما ذكرنا سابقا من غلبة الباطل في أقوالهم ، على ما صرّح به في رواية الأرجائيّ المتقدّمة. وأصرح منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله : " خالفت جعفرا في كلّ ما يقول ، إلّا أنّي لا أدري أنّه يغمض عينيه في الركوع والسجود أو يفتحهما". وحينئذ فيكون خلافهم أبعد من الباطل.

______________________________________________________

فإنّ الحقّ فيه» كالصريح في كون المأخوذ أمرا متعيّنا وأنّه الحقّ ، لا أنّه من محتملاته.

٢٩٦٠. لما أشار إليه من عدم استقامة ظاهر العلّة ، فلا بدّ أن يكون الأخذ بها تعبّدا محضا ، وهو أبعد من التعبّد بالترجيح بالمخالفة ، وقد تقدّم وجه بعده أيضا.

٢٩٦١. فلا تتحقّق الموافقة والمخالفة. والحاصل : أنّ هنا صورا : إحداها : أن تكون المسألة عند الشيعة ذات وجهين ، أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم. الثانية : أن تكون عند الشيعة ذات وجوه ، وكذا عند العامّة ، بأن اختلفوا فيها كالشيعة على أقوال. الثالثة : أن تكون عند الشيعة ذات وجوه ، ولكنّ العامّة اتّفقوا على وجه واحد منها. والاولى أغلب بالنسبة إلى الثالثة. وعلى الثانية لا تتحقّق

ويمكن توجيه الوجه الرابع : بعدم انحصار (٢٩٦٢) دليله في الرواية المذكورة ، بل الوجه فيه هو ما تقرّر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى من حصول الترجيح بكلّ مزيّة في أحد الخبرين يوجب كونه أقلّ أو أبعد احتمالا لمخالفة الواقع من الخبر الآخر ، ومعلوم أنّ الخبر المخالف لا يحتمل فيه التقيّة ، كما يحتمل في الموافق ، على ما تقدّم من المحقّق قدس‌سره. فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقيّة ليس كون الموافقة أمارة على صدور الخبر تقيّة ، بل المراد أنّ الخبرين لمّا اشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلاف الواقع ـ عدا احتمال الصدور تقيّة المختصّ بالخبر الموافق ـ تعيّن العمل بالمخالف وانحصر محمل الخبر الموافق المطروح في التقيّة.

______________________________________________________

الموافقة والمخالفة. فالأخبار لا تشمل ما عدا الاولى بناء على حملها على الغالب ، لندرة الثالثة ، وعدم تحقّق الموافقة والمخالفة على الثانية.

٢٩٦٢. لا يذهب عليك أنّه بعد توجيهه بما ذكره ، وبعد تسليم عدم مساعدة الرواية المذكورة عليه ، لا تكون مخالفة العامّة على هذا التوجيه من المرجّحات المنصوصة ، وإنّما تكون منها على الوجه الثاني ، لما أشار إليه من دلالة معظم الأخبار عليه ، فلا يمكن أن يستدلّ بها على جواز الترجيح بها على الوجه الرابع. نعم ، يمكن أن يستدلّ عليه بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من جواز الترجيح بكلّ مزيّة. ومستنده على ما يستفاد من كلامه وجهان : أحدهما : ظاهر العلماء في باب التراجيح. وثانيهما : استفادته من النصوص.

ويمكن أن يقال في تقريب الأوّل : إنّ الإجماع كما انعقد على اعتبار مطلق الظنّ المتعلّق بالسند في باب الترجيح ، كذلك انعقد على اعتبار مطلقه في وجه الصدور ، حتّى إنّ بعضهم تعدّى في المقام إلى الظنّ المستفاد من القياس ، فكيف ظنّك بسائر الظنون التي لم يقم دليل على عدم اعتباره بالخصوص.

ويمكن أن يستدلّ عليه بوجهين آخرين : أحدهما : بناء العقلاء ، لاستمرار طريقتهم في باب التعارض على ترجيح ما هو أرجح صدورا لبيان الواقع. والآخر :

وأمّا ما أورده المحقّق (٢٩٦٣):

______________________________________________________

منع شمول أدلّة اعتبار خبر الواحد للخبر المحتمل للتقيّة ، بمعنى أنّه مع الظنّ أو الوثوق بصدور الخبر تقيّة لا يطمأنّ بشمول الأدلّة لمثله. نعم ، انعقد إجماعهم على اعتبار مثل هذا الخبر في غير مقام التعارض.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى هذه الأدلّة عدم الفرق في الترجيح بين كون التقيّة من العامّة أو غيرهم ، بأن صدر الخبر خوفا وتقيّة من غيرهم ، وإن كان من بعض فرق الشيعة ، كما أنّه لا فرق على الوجه الثاني بين وجود أمارة التقيّة في المقام ـ بأن كانت هنا أمارة تورث الظنّ بصدور الخبر الموافق للتقيّة ـ وعدمه ، بل وإن حصل الظنّ أيضا بعدم الخوف والتقيّة عند صدور الخبر الموافق ، لأنّ مناط الترجيح على هذا الوجه كون مخالفة الخبر لهم من أمارات الرشد وحقّيته من حيث إنّه مخالف لهم ، فلا يتفاوت الأمر حينئذ بين الأمرين.

وتحقيق المقام : أنّك حيث قد عرفت أنّ ما يستفاد من كلمات الأصحاب هو الوجه الرابع ، وما يستفاد من معظم الأخبار هو الوجه الثاني ، فما يمكن دعوى القطع بكونه من المرجّحات المنصوصة من مخالفة العامّة ما كان مجمعا للوجهين ، بأن كانت المخالفة من أمارات الرشد ، والموافقة من أمارات صدور الخبر تقية ، دون الفاقد لأحد الوجهين ، لأنّ التعليل وإن اقتضى كون الترجيح لأجل كون المخالفة من أمارات الرشد ، إلّا أنّه لا يطمأنّ بهذا التعليل بعد مخالفته لظاهر الأصحاب ، سيّما مع شمول بعض هذه الأخبار المعلّلة لغير صورة التعارض أيضا ، وكذا لا يطمأن بما هو ظاهر الأصحاب بعد مخالفته لظاهر معظم الأخبار ، فالقدر المتيقّن ما كان مجمعا لهما على ما عرفت.

٢٩٦٣. لا يخفى أنّ المحقّق قدس‌سره قد أورد دليلين للترجيح بمخالفة العامّة ، وزيّف كلّا منهما.

من معارضة احتمال التقيّة باحتمال الفتوى على التأويل. ففيه : أنّ الكلام فيما إذا اشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرّقة في السند والمتن والدلالة ، فاحتمال الفتوى على التأويل مشترك. كيف ، ولو فرض اختصاص الخبر المخالف باحتمال التأويل وعدم تطرّقه في الخبر الموافق ، كان اللازم ارتكاب التأويل في الخبر المخالف ؛ لما عرفت من أنّ النصّ والظاهر لا يرجع فيهما إلى المرجّحات.

وأمّا ما أجاب به صاحب المعالم عن الإيراد بأنّ احتمال التقيّة في كلامهم أقرب وأغلب. ففيه ـ مع إشعاره بتسليم ما ذكره المحقّق من معارضة احتمال التقيّة في الموافق باحتمال التأويل ، مع ما عرفت من خروج ذلك عن محلّ الكلام ـ : منع أغلبية التقيّة في الأخبار من التأويل.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف مختص بالمتباينين ، وأمّا فيما كان من قبيل العامين من وجه ـ بأن كان لكلّ واحد منهما ظاهر يمكن الجمع بينهما بصرفه عن ظاهره دون الآخر ـ فيدور الأمر بين حمل الموافق منهما على التقيّة ، والحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الآخر. مثلا إذا ورد الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وورد : " كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله" ، فدار الأمر بين حمل الثاني على التقيّة وبين الحكم بتخصيص أحدهما لا بعينه ، فلا وجه لترجيح التقية لكونها في كلام الأئمّة عليهم‌السلام أغلب من التخصيص.

فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامة ـ بناء على ما تقدّم من جريان هذا المرجّح وشبهه في هذا القسم من المتعارضين ـ : هو ما تقدّم (١٣) من وجوب الترجيح بكلّ مزيّة في أحد المتعارضين ، وهذا موجود فيما نحن فيه ؛ لأنّ احتمال مخالفة الظاهر قائم في كلّ منهما ، والمخالفة للعامّة مختصّ بمزيّة مفقودة في الآخر ، وهو عدم احتمال الصدور تقيّة (*).

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ الترجيح بالمخالفة من أحد وجهين ـ على ما يظهر من الأخبار ـ أحدهما : كونه أبعد من الباطل وأقرب إلى الواقع ، فيكون مخالفة الجمهور نظير موافقة المشهور من المرجّحات المضمونيّة ، على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «تقيّة» لاجل التقيّة.

والثاني : من جهة كون المخالف ذا مزيّة ؛ لعدم (*) احتمال التقيّة. ويدلّ عليه ما دلّ على الترجيح بشهرة الرواية معلّلا بأنّه لا ريب فيه بالتقريب المتقدّم (٢٩٦٤) سابقا. ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين تظهر لك فيما يأتي (٢٩٦٥) إن شاء الله تعالى.

بقي في هذا المقام امور : الأوّل : أنّ الخبر الصادر تقيّة يحتمل أن يراد به ظاهره فيكون

______________________________________________________

أحدهما : أنّ الأبعد لا يحتمل إلّا الفتوى ، والموافق للعامّة يحتمل التقيّة. وزيّفه بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله هنا مع جوابه.

والآخر : المرويّ عن الصادق عليه‌السلام. وأورد عليه أوّلا : بأنّه إثبات مسألة علميّة بخبر واحد. وثانيا : بطعن الفضلاء من الشيعة فيه.

ويدفع الأوّل ما تقرّر في محلّه من عدم الفرق في أدلّة اعتبار أخبار الآحاد بين الفروع والاصول العمليّة. والثاني أنّ الأخبار الدالّة على الترجيح بمخالفة العامّة وإن سلّمنا عدم بلوغها حدّ التواتر ، إلّا أنّها كثيرة جدّا. والأخبار وإن ضعف سندها إلّا أنّها تكتسي ثوب الحجّية بسبب التكاثر والتعاضد والاجتماع ، بل ربّما يصير أعلى من الصحيح الأعلى ، فلا يقدح في اعتبارها طعن جماعة من فضلاء الشيعة في سند بعضها. مع أنّ بعضها معتبر بالخصوص ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، لتلقّي الأصحاب لها بالقبول حتّى سميّت مقبولة ، بل وصفها في البحار بالصحّة ، والشهيد الثاني بالموثقيّة ، بل هي مستندهم في باب القضاء. فهي بنفسها كافية في الباب إن شاء الله تعالى ، سيّما عند المحقّق حيث لم يلاحظ سند أخبار الآحاد في العمل بها ، بل جعل المدار فيها في المعتبر على قبول الأصحاب وعدم قبولهم.

٢٩٦٤. من كون المراد من نفي الريب في الرواية المشهورة نفيه بالإضافة إلى ما في الرواية الشاذّة من الريب ، لا نفيه مطلقا.

٢٩٦٥. عند بيان القسم الثاني من المرجّحات الخارجيّة.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «لعدم» ، أبعديّة.

من الكذب المجوز لمصلحة ، ويحتمل أن يراد منه تأويل (٢٩٦٦) مختف على المخاطب فيكون من قبيل التورية ، وهذا أليق بالإمام عليه‌السلام ، بل هو اللائق له إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية.

الثاني : أنّ بعض المحدّثين كصاحب الحدائق وإن لم يشترط في التقيّة موافقة الخبر (٢٩٦٧)

______________________________________________________

٢٩٦٦. لا يخفى أنّ التقيّة على هذا تكون قرينة صارفة لا معيّنة. وحينئذ إن انحصر التأويل في شيء تعيّن ، وإن تعدّد تصير الرواية مجملة مع عدم أظهريّة أحد التأويلين ، وإلّا تعيّن الأظهر منهما ، نظير وجوب حمل اللفظ على أقرب مجازاته عند تعذّر الحقيقة ، فتدبّر.

٢٩٦٧. فيجوز على هذا القول الحمل على التقيّة وإن لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة ، بأن كان الخبر واردا لبيان خلاف الواقع لمصلحة سوى مصلحة التقيّة ، مثل مجرّد تكثير المذهب في الشيعة كي لا يعرفوا فيؤخذ رقابهم.

قال في المقدّمة الاولى من مقدّمات الحدائق في جملة كلام له : «فصاروا صلوات الله عليهم محافظة على أنفسهم وشيعتهم يخالفون بين الأحكام ، وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام ، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعدّدة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين ، كما هو واضح لمن تتبّع قصصهم وأخبارهم ، وتحدّي سيرهم وآثارهم.

وحيث إنّ من أصحابنا رضوان الله عليهم خصّوا الحمل على التقيّة بوجود قائل من العامّة ، وهو خلاف ما أدّى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم صلوات الله عليهم ، رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالّة على ذلك ، لئلّا يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليل ، وينسبنا إلى الضلال والتضليل. فمن ذلك ما رواه في الكافي في الموثّق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاء رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف

.................................................................................................

______________________________________________________

ما أجابني ، ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي. فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله رجلان من العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال : يا زرارة إنّ هذا خير لنا وأبقي لكم ، ولو اجتمعتم على أمر لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم». قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين. قال : فأجابني بمثل جواب أبيه.

فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجّب زرارة ، ولو كان الاختلاف إنّما وقع لموافقة العامّة لكفى جواب واحد بما هم عليه ، ولما تعجّب زرارة عن ذلك ، لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بما يوافق العامّة تقيّة. ولعلّ السّر في ذلك أنّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين ، كلّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر ، سخف مذهبهم في نظر العامّة ، وكذّبوهم في نقلهم ، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدّين ، وهانوا في نظرهم ، بخلاف ما لو اتّفقت كلمتهم ، وتعاضدت مقالتهم ، فإنّهم يصدّقونهم ، ويشتدّ بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة. وإلى ذلك ينظر قوله عليه‌السلام : «ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ...». ثمّ أورد شطرا من الأخبار الأخر المتضمّنة لكونهم موقعين للخلاف بينهم لئلّا يعرفوا فيؤخذ رقابهم.

وأورد عليه الوحيد البهبهاني في فوائده الجديدة بوجوه :

أحدها : أنّ الحكم إذا لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة يكون رشدا وصوابا ، لما ورد في الأخبار أنّ الرشد في خلافهم وفيما لم يذهبوا إليه ، فكيف يكون هذا تقيّة؟ لأنّ المراد بالرشد والصواب ما كان في الواقع رشدا وصوابا لا من جهة التقيّة ورفع الضرر ، وإلّا فجميع ما ذهب إليه العامّة يصير رشدا وصوابا. وأيضا

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا كان رشدا فلم حكمت بأنّه تقيّة مخالف (*) لمذهب الشيعة؟

والثاني : أنّه غير خفيّ على من له أدنى اطّلاع وتأمّل أنّ العامّة بأدنى شيء كانوا يتّهمون الشيعة بالرفض ، وأذيّتهم للشيعة إنّما كانت بالتهمة غالبا ، وكان الأئمّة عليهم‌السلام يبالغون في احترازهم عن أسباب التهمة ، وهذه كانت طريقتهم المستمرّة في الأعصار والأمصار ، فكيف يكون الحال إذا رأوهم يفعلون فعلا لا يوافق مذهبا من مذاهبهم ، ولا يقول به أحد منهم. بل غير خفيّ أنّ العامّة ما كانوا مطّلعين على مذهب الشيعة في ذلك الزمان من الخارج إلّا نادرا ، فكانوا كلّما يرون مخالفا لمذهبهم يعتقدون أنّه مذهب الشيعة ويبادرون بالأذيّة ، وما كانوا يصبرون إلى أن يروا ما يخالف ذلك منه أو من غيره من الشيعة ، مع أنّ روايته من الغير غير نافع. فتكثير المذهب بين الشيعة ـ سيّما مع عدم موافقته لمذهب أحد منهم ـ مخالف للحكمة ، وموجب لزيادة الإيذاء منهم لهم كما هو واضح.

والثالث : أنّ الحقّ عندنا واحد والباقي باطل ، فما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال ، فأيّ داع إلى مخالفة الواقع وارتكاب الحرام الذي هو أعظم لأجل التقيّة التي هي أخفّ وأسهل على المعنى الذي اعتبره؟

والرابع : أنّ التقيّة اعتبرت لأجل ترجيح الخبر الذي هو الحقّ على الذي ليس بحقّ ورشد ، على ما يظهر من الأخبار وما عليه الفقهاء في الأعصار والأمصار ، وهذا الفاضل المتوهّم أيضا اعتبر ما ادّعاه من التقيّة التي توهّمها لأجل الترجيح ، وبنى عليه المسألة الفقهيّة ، فإذا لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة فبأيّ نحو يعرف أنّ هذا الخبر وارد على التقيّة دون ذلك ، حتّى يعتبر في مقام الترجيح ويقال : إنّ معارضه حقّ ومذهب للشيعة؟» انتهى.

__________________

(*) في الطبعة الحجريّة هكذا : فخالفت ، ربّما تقرأ أيضا : مخالفة ، ولعلّ الشكّ من الكاتب فكتبها بالتاء الطويلة مع النقطتين ، ولم يتيسّر لنا مراجعة الفوائد الجديدة لتطبيقها عليها.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأراد المصنّف رحمه‌الله بتوضيح مراد المحدّث البحراني دفع ما أورده الوحيد البهبهاني بالوجوه المتقدّمة. وتوضيح المقام : أنّ مراد المحدّث المذكور بعدم اشتراطه في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة هو بيان منشأ اختلاف أكثر الأخبار المأثورة عن أئمّتنا المعصومين عليهم‌السلام ، مع فرض قطعيّة سندها كما يراه جماعة من الأخباريّين ، إذ ربّما يستبعد ذلك مع هذا الاختلاف الذي لا يكاد يجتمع ، فأراد دفع هذا الاستبعاد بأنّ الاختلاف فيها إنّما جاء من جهة التقيّة لا من جهة دسّ الأخبار المكذوبة فيها ، لتهذيبها وتنقيحها منها في الأزمنة المتأخّرة ، وأنّ التقيّة لا تنحصر فيما كان هنا قول من العامّة موافق للخبر ، لأنّ الخبر كما أنّه قد يصدر عنهم عليهم‌السلام خوفا من العامّة المتوقّف دفع ضررهم على موافقتهم ، كذلك قد يصدر لأجل إلقاء الخلاف بين الشيعة وتكثير مذهبهم وإن لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة ، لئلّا يعرفوا فيؤخذ رقابهم.

وبالجملة ، إنّ الأئمّة عليهم‌السلام كما كانوا يتّقون عن هؤلاء الكلاب أحيانا بإظهار الموافقة ، كذلك كانوا يتّقون عنهم أحيانا بإلقاء الخلاف بين شيعتهم وإن لم يوجد لهم موافق منهم. وبهذا اعترض على المشهور في اعتبارهم وجود قول من العامّة في الحمل على التقيّة. ومقصوده بعدم اشتراط قول منهم في الحمل عليها ليس في مقام الترجيح ، لعدم تعقّل حمل أحد الخبرين بالخصوص على التقيّة مع فرض مخالفتهما للعامّة ، وعدم ما يدلّ على ورود أحدهما بالخصوص لبيان خلاف الواقع. بل مقصوده أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ربّما كانوا يجيبون في المسائل بما هو خلاف الواقع وإن لم يكن على وفق مذهب أحد من العامّة ، لما يراه من المصلحة في ذلك ، وأنّ هذا هو منشأ اختلاف الأخبار ، لا دسّ الأخبار المكذوبة فيها ، لتنزّهها عنها في الأزمنة المتأخّرة ، لا أنّه في مقام الترجيح يحمل أحد المتعارضين على التقيّة مع مخالفتهما لمذاهبهم.

لمذهب العامّة ؛ لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه ، سليمة عمّا هو صريح في خلاف ما ادّعاه ، إلّا أنّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لا يكون إلّا مع موافقة أحدهما ؛ إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة إذا كانا مخالفين لهم. فمراد المحدّث المذكور ليس الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح ـ كما أورده عليه بعض الأساطين (١٤) في جملة المطاعن على ما ذهب إليه من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ـ بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدمة الاولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار عن الأخبار المكذوبة لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة المتأخّرة ، بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة ، صحّ لقائل أن يقول : فما بال هذه الأخبار المتعارضة التي لا تكاد تجتمع؟! فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ معظم الاختلاف من جهة اختلاف كلمات الأئمة عليهم‌السلام مع المخاطبين ، وأنّ الاختلاف إنّما هو منهم عليهم‌السلام ، واستشهد على ذلك بأخبار زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة ، كذلك تحصل بمجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة ؛ كيلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم (١٥).

______________________________________________________

ومن هنا يندفع الإيرادات المتقدّمة ، لابتنائها على كون مراد المحدّث المذكور من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة هو الحمل في مقام الترجيح ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك.

وأمّا توضيح اندفاعها. فأمّا الأوّل : فإنّه إنّما يرد لو كان مقصود المحدّث المذكور من الحمل على التقيّة هو الحمل عليها في مقام طرحه ، لأنّه حينئذ يرد عليه أنّه لا وجه لطرحه مع مخالفته لمذهب العامّة ، لكون الحكم المخالف لهم رشدا وحقّا في الواقع كما هو مقتضى الأخبار ، وليس كذلك ، لما عرفت من كون مقصوده بيان منشأ اختلاف الأخبار مع فرض تنقيحها وتهذيبها عن الأخبار المكذوبة المدسوسة ، بأنّه كان قد تصدر الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام لبيان خلاف الواقع لما يراه من المصلحة ، وإن كانت مخالفة لمذهب جميع العامّة ، ثمّ بعد ارتفاع المصلحة كانوا يبيّنون نفس الحكم الواقعي ، ومن هذا جاء الاختلاف بينها كما عرفت ، وهذا

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يستلزم الحمل على التقيّة بالمعنى المذكور في مقام الترجيح أيضا ، بأن يحمل أحد الخبرين المتعارضين المخالفين للعامّة على التقيّة ، حتّى يرد عليه الإشكال. بل الظاهر أنّ المحدّث المذكور في مقام الترجيح ـ مع مخالفة الخبرين للعامّة ـ يستعمل سائر المرجّحات. والأخبار الدالّة على كون مخالف العامّة رشدا وصوابا ، مع فرض ورودها في مقام تعارض الأخبار وترجيحها ، لا تنفي صدور الخبر عن الإمام عليه‌السلام لبيان خلاف الواقع ، لمصلحة يراها مع مخالفته للعامّة.

وأمّا الثاني فإنّ اتّهام العامّة للشيعة وإيذائهم لهم بسبب ذلك لا ينفي وجود مصلحة أحيانا تقتضي بيان خلاف الواقع مع مخالفته للعامّة.

وأمّا الثالث فإنّ الداعي هو وجود المصلحة بالفرض كما تقدّم.

وأمّا الرابع فوجه ضعفه يظهر من وجه ضعف الأوّل.

فالتحقيق أنّه لا وجه لإنكار إمكان وجود مصلحة تقتضي بيان خلاف الواقع مع عدم الموافقة لمذهب أحد من العامّة ، على نحو ما ذكره المحدّث المذكور ، إلّا أنّ الكلام في تحقّق مثل هذه المصلحة ، سيّما في تصحيح جلّ الأخبار المتعارضة. وما استشهده لذلك من الأخبار المتقدّمة خالية من الدلالة عليه ، إذ اختلاف أجوبة الإمام عليه‌السلام في مجلس واحد كما تضمّنته رواية زرارة ـ لا يقضي بذلك ، لانتشار مذاهب العامّة في ذلك الزمان ، ولعلّ أجوبة الإمام عليه‌السلام مع اختلافها كانت موافقة لمذاهبهم المختلفة المنتشرة ، واحتمال ذلك كاف في عدم ثبوت ما رامه المحدّث المذكور من تلك الأخبار.

وبالجملة ، إنّ القدر الثابت من وجود المصلحة المقتضية لبيان خلاف الواقع ليس إلّا مصلحة التقيّة المقتضية لصدور الخبر عن الإمام عليه‌السلام على وفق مذهبهم دفعا للخوف والضرر ، وأمّا وجود مصلحة اخرى سواها وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه لم يدلّ دليل على وقوعها على ما عرفت. وإلى هذا أشار المصنّف رحمه‌الله في صدر هذه المسألة بقوله : «إلّا أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ...» إلى آخر ما ذكره.

وهذا الكلام ضعيف ، لأنّ الغالب اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء ، وأمّا الاندفاع بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم ، فهو وإن أمكن حصوله أحيانا لكنّه نادر جدّا ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المتخالفة ، مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة : " ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه".

فالذي يقتضيه النظر ـ على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريّين ، أو الظنّ بصدور جميعها إلّا قليلا في غاية القلّة ، كما يقتضيه الإنصاف ممّن اطّلع على كيفية تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب ـ هو أن يقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار إمّا بقرائن متّصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار أو نقلها بالمعنى ، أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة (*) معلومة للمخاطبين أو مقاليّة اختفت بالانطماس ، وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام من تقيّة ـ على ما اخترناه من أنّ التقيّة على وجه التورية ـ أو غير التقيّة من المصالح الأخر. وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ قدس‌سره في الاستبصار من إظهار إمكان الجمع بين متعارضات الأخبار ، بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد.

وربّما يظهر من الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ ، تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه‌السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام إن لم (**) يظهر فيه قرينة عليها :

فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم ، لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : " كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : ثمانون. ولم يعد السائل ، فقال عليه‌السلام : هذا يظن أنّه من أهل الإدراك. فقيل له عليه‌السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيد على

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «حاليّة» : خارجيّة.

(**) فى بعض النسخ : بدل «إن لم» : إلّا أن.

عشر آيات (٢٩٦٨) ، ونافلة الزوال ثمان ركعات" (١٦).

ومنها : ما روي من : " أنّ الوتر واجب" ، فلمّا فرغ السائل واستفسر (*) قال عليه‌السلام : " إنّما عنيت وجوبها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله".

ومنها : تفسير قولهم عليهم‌السلام : " لا يعيد الصلاة فقيه" بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع. ومثله تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم‌السلام : " لا تطوّع في وقت الفريضة" بزمان قول المؤذّن : " قد قامت الصلاة" ، إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

ويؤيّد ما ذكرنا ـ من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ـ ما ورد مستفيضا : من عدم جواز ردّ الخبر وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتّى إذا قال للنهار : إنّه ليل ، ولليل : إنّه نهار ، معلّلا ذلك بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له فينكره فيكفر من حيث لا يشعر ، فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة تقيّة (٢٩٦٩) ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه‌السلام مفسدة ، فضلا عن كفر الرادّ.

الثالث : أنّ التقيّة قد تكون من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامة في الأخبار. واخرى من حيث أخبارهم التي رووها ، وهو المصرّح به في بعض الأخبار ، لكنّ الظاهر أنّ ذلك محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى. وثالثة : من حيث عملهم ، ويشير إليه قوله عليه‌السلام في المقبولة المتقدّمة : " ما هم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم". ورابعة : بكونه أشبه بقواعدهم واصول دينهم وفروعه ، كما يدلّ عليه الخبر المتقدّم.

______________________________________________________

٢٩٦٨. بإسقاط البسملة عن السورتين ، وإلّا فهما اثنتا عشرة آية. ولعلّ سبب الإسقاط كون المخاطب من العامّة ، ولعلّ في تعريض الإمام عليه‌السلام إيماء إلى ذلك ، وإلّا فالتعريض منه لبعض مواليه لا يناسبه.

٢٩٦٩. بالمعنى الأوّل من معنييها الذين تقدّما في الأمر الأوّل.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «واستفسر» : واستقرّ.

وعرفت سابقا قوّة احتمال إرادة التفرّع على قواعدهم الفاسدة ، ويخرج الخبر حينئذ عن الحجّية ولو مع عدم المعارض ، كما يدلّ عليه عموم الموصول.

الرابع : أنّ ظاهر الأخبار (٢٩٧٠) كون المرجّح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور أو معظمهم على وجه يصدق الاستغراق العرفيّ. فلو وافق بعضهم بلا مخالفة (*) الباقين ، فالترجيح به مستند إلى الكلّية المستفادة من الأخبار من الترجيح بكلّ مزيّة.

______________________________________________________

٢٩٧٠. لا يخفى أنّ في المسألة وجوها : أحدها : اعتبار موافقة الجميع أو معظمهم الذي يصدق معه الاستغراق العرفي. الثاني : كفاية موافقة قول بعضهم الذي حكّامهم وقضاتهم إليه أميل. الثالث : كفاية موافقة البعض مطلقا. الرابع : كفاية موافقة القول المشهور بينهم بحيث تكون مخالفته مظنّة للضرر والخوف.

وظاهر الأخبار الآمرة بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما يوافقهم هو الأوّل. وظاهر بعضها الآمر بسؤال حكّامهم والعمل بخلافه ـ كما هو ظاهر المقبولة ـ هو الثاني. وظاهر المرفوعة ـ بالتقريب الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا في المقبولة ـ هو الثالث.

والتحقيق ابتناء (**) المسألة على الوجه الثاني والرابع من الوجوه الأربعة التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله في الترجيح بالمخالفة ، إذ على الثاني يعتبر موافقة الجميع أو ما يصدق معه الاستغراق العرفي ، لأنّ مقتضى التعليل بكون الرشد في خلافهم كون الرشد في مخالفة جميعهم أو معظمهم. وعلى الرابع يكفي موافقة البعض ومخالفته التي يظنّ معها صدور الموافق تقيّة منه. وحينئذ لا بدّ من ملاحظة فتاوي العامّة في زمان صدور الرواية ، وأنّ قضاتهم وحكّامهم إلى أيّ فتوى كانوا أميل؟ وأيّ فتوى كانت مشهورة فيما بينهم؟ ويحصل الاطّلاع على ذلك من كتبهم وتواريخهم ، وحينئذ تكثر الحاجة إلى مراجعتها والتتبّع فيها.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مخالفة» ، معارضة.

(**) في هامش الطبعة الحجريّة : «لظهور أكثر الأخبار في الثاني ، وذهاب المشهور إلى الرابع. منه».

وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة : " قلت : يا سيّدي ، هما معا موافقان للعامّة" : أنّ المراد ب" ما وافق العامّة" أو" خالفهم" في المرجّح السابق يعم ما وافق البعض أو خالفه. ويرده : أنّ ظهور الفقرة الاولى في اعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة في كفاية موافقة البعض ، فيحمل على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح في شيء منهما وتساويهما من هذه الجهة ، لا صورة وجود هذا المرجّح في كليهما وتكافئهما من هذه الجهة. وكيف كان ، فلو كان كلّ واحد موافقا لبعضهم مخالفا لآخرين منهم ، وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر ملاحظة التقيّة منه.

وربّما يستفاد ذلك من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ، ويعلم ذلك بمراجعة أهل النقل والتأريخ ، فقد حكي عن تواريخهم : أنّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتاوى أبي حنيفة وسفيان الثوري ورجل آخر ، وأهل مكّة على فتاوى ابن جريح ، وأهل المدينة على فتاوى مالك (٢٩٧١) ورجل آخر ، وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة ، وأهل الشام على فتاوى الأوزاعيّ والوليد ، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك الزهريّ ، وكان فيهم أهل الفتوى من غير هؤلاء كسعيد بن المسيّب وعكرمة وربيعة الرأي ومحمّد بن شهاب الزهريّ ، إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة ، كما حكي. وقد يستفاد ذلك من الأمارات الخاصّة ، مثل :

______________________________________________________

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما يتأتّى على القول بالمرجّحات المنصوصة بالخصوص. وأمّا على ما هو التحقيق من اعتبار مطلق الظنّ في باب الترجيح ، والاعتماد على كلّ مزيّة في أحد الخبرين مفقودة في الآخر ، فيجوز الترجيح بمطلق الموافقة والمخالفة ، بأن تساوى الخبران من جميع الوجوه ، إلّا احتمال التقيّة في أحدهما دون الآخر ، على أيّ وجه فرض حصول التقيّة في الموافق منهما.

٢٩٧١. في شرحي الوافية للسيّد الصدر والفاضل الكاظمي : زيادة «ورجل آخر» بعد مالك. وكذا لفظ عثمان بدل عمّان. وزيادة «وسعيد الربيع» من فقهائهم بعد ذكر سوادة. وزيادة مرو بعد خراسان. وزيادة وسفيان بن عيينة

قول الصادق عليه‌السلام حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصية : " أمّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع ردّه". وقد يستفاد من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم ؛ ولذا انيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم.

الخامس : قد عرفت أنّ الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور ، وكذا لا يزاحمه هذا الرجحان (٢٩٧٢) أي : الرجحان من حيث جهة الصدور. فإذا كان الخبر الأقوى دلالة موافقا للعامّة قدّم على الأضعف المخالف ؛ لما عرفت من أنّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول الذي هو مقدّم على الطرح.

______________________________________________________

بعد ربيعة الرأي. وقالا بعد ذكر محمّد بن شهاب الزهري : «وكلّ واحد من هؤلاء إمام قوم برأسه ، ليس تابعا لغيره. وكانت المذاهب الأربعة كغيرها إلى أن مال هارون الرشيد إلى الحنفيّة ، وغيره إلى غيرها ، ولكن لم يترك المذاهب الأخر إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب ، فحصروها في الأربعة في سنة خمس وستّين وستّمائة كما قيل ، فصارت أشهر من غيرها بتوسّط السلاطين والأمراء ، واشتهر البعض الآخر بتوسّط ما ذكر ، ولكونه أقرب إلى الصواب من غيره كمذهب الشافعي» انتهى.

٢٩٧٢. توضيح المقام : أنّه لا إشكال في أنّ الأصل بمقتضى أدلّة اعتبار الأخبار هو التعبّد بصدور كلّ من الخبرين المتعارضين ، وإنّما احتجنا إلى الترجيح بواسطة تنافي مدلولهما وعدم إمكان الجمع بينهما ، فحيثما أمكن الجمع بينهما على وجه مقبول عند أهل اللسان لا يبقى مجال للترجيح ، لا من حيث الصدور ولا من حيث جهة الصدور. وحيثما ما لا يمكن الجمع المقبول ، والتجأنا إلى طرح أحدهما لأجل وجود مرجّح في الآخر ، فإن كان هذا المرجّح سالما من معارضة مرجّح آخر في الطرف الآخر فهو ، وإلّا فالترجيح من حيث الصدور مقدّم على الترجيح من حيث جهة الصدور ، لتفرّعها على نفس الصدور ، فلا معنى لملاحظة جهة الصدور قبل ملاحظة نفس الصدور ، فإذا أمكن التعبّد بصدور أحدهما وطرح الآخر لأجل وجود مرجّح في المأخوذ وفقده في المطروح ، لا يبقى محلّ لملاحظة جهة الصدور.

أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامّة ، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامّة ، بناء على تعليل الترجيح (٢٩٧٣) بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ؛ لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو تعبّدا كما في الخبرين ، بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك التعبّد بصدور الآخر ، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور.

فإن قلت : إنّ الأصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقيّة ، كما يقتضى ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ، فيكون هذا المرجّح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور. قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ، لأنّه إلغاء لأحدهما في الحقيقة ؛ ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقيّة على تقدير الصدور لم تشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل.

______________________________________________________

وبعبارة أوضح : أنّ الحمل على التقيّة ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو شرعا كما في الخبرين ، مع فرض عدم إمكان التعبّد بأحدهما معيّنا وطرح الآخر كذلك ، بأن دار الأمر بينهما في الأخذ والطرح ، لأجل تنافي مدلولهما وعدم إمكان الجمع بينهما. أمّا الأوّل فلما عرفت من كون جهة الصدور متفرّعة على نفس الصدور. وأمّا الثاني فإنّه مع إمكان التعبّد بأحدهما معيّنا وطرح الآخر كذلك ، لو حمل أحدهما على التقيّة لزم ملاحظة جهة الصدور قبل نفس الصدور ، وقد عرفت فسادها ، فمع إمكان التعبّد بأحدهما تعيّن الأخذ به وطرح الآخر.

٢٩٧٣. يعني : بناء على الوجه الرابع من الوجوه الأربعة المتقدّمة. وأمّا بناء على الوجه الثاني منها فسيشير هنا إلى أنّ الترجيح بمخالفة العامّة حينئذ من قبيل الترجيح من حيث المضمون ، وسيجيء بيان حاله مع غيره.

نعم ، لو علم بصدور الخبرين لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه ، وأمّا إذا لم يعلم بصدورهما ـ كما فيما نحن فيه من المتعارضين ، فيجب الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة ، فإن أمكن ترجيح أحدهما وتعيينه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن ، وإن قصرت اليد عن هذا الترجيح كان عدم احتمال التقيّة في أحدهما مرجّحا (٢٩٧٤). فمورد هذا المرجّح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إمّا علما كما في المتواترين أو تعبّدا كما في المتكافئين من الآحاد. وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه ؛ لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور.

والفرق بين هذا الترجيح والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ، أنّ التعبّد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما وبتأويل الآخر بقرينة ذلك الظاهر ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ، بخلاف التعبّد بصدورهما ثمّ حمل أحدهما على التقيّة الذي هو في معنى إلغائه وترك التعبّد به.

هذا كلّه على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة. أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحقّ وأبعد من الباطل ـ كما يدلّ عليه جملة من الأخبار ـ فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها.

أمّا المرجّحات الخارجية (٢٩٧٥) فقد أشرنا إلى أنّها على قسمين : الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه. والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع.

______________________________________________________

٢٩٧٤. يعني : كان مرجّحا لأصل التعبّد بأحدهما لا للأخذ بأحدهما بعد التعبّد بصدورهما ، لأنّ مرجع الحمل على التقيّة إلى رفع اليد عن الموافق للعامّة رأسا.

٢٩٧٥. لا يذهب عليك أنّ المصنّف رحمه‌الله قد قسّم المرجّحات في عنوان المقام الرابع إلى خارجيّ وداخلي. وقسّم الداخليّ إلى أقسام ثلاثة ، أعني : الترجيح من حيث الصدور ، ووجه الصدور ، والمضمون. ثمّ ذكر الترجيح بحسب الدلالة في

فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين إمّا من حيث الرواية ، بأن اشتهر روايته بين الرواة ، بناء على كشفها (٢٩٧٦) عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى (٢٩٧٧) به ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه.

ومنه كون الراوي له أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات أو في بعضها ، بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به. ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناء على ظاهر الأخبار (٢٩٧٨) المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها. ومنه كلّ أمارة مستقلّة

______________________________________________________

البين ، لمناسبة تقدّمه على الترجيح بحسب السند. ثمّ بيّن الترجيح من حيث الصدور ، ثمّ من حيث وجه الصدور. وبقي الكلام في الترجيح من حيث المضمون من المرجّحات الداخلة ، وكذا في الترجيح بالمرجّحات الخارجة. وتعرّض هنا لبيان الأخيرة ، وجعله مقاما ثالثا ، نظرا إلى كون الكلام فيها مقاما ثالثا بالنسبة إلى ما ذكره قبلها من الترجيح بالصدور وبوجه الصدور ، وإن لم يذكر هذا اللفظ في عنوان الكلام فيهما. وسكت عن الترجيح بالمرجّحات المضمونيّة الداخلة استغناء عنه بما ذكره هنا ، لكون الترجيح بالمرجحات الخارجة مطلقا من حيث المضمون.

ثمّ المراد بالمرجّحات الخارجة امور خارجة من نفس الخبرين ، موجبة لأقربيّة مضمون أحدهما إلى الواقع دون الآخر ، من دون مدخليّة لها في قوّة دليليّة أحدهما بالنسبة إلى الآخر ، كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما إذا وافقت أحدهما دون الآخر ، بخلاف الترجيح من حيث السند ، فإنّها تحصل بامور تقوّي جهة دليليّة أحدهما كما تقدّم سابقا.

٢٩٧٦. إذ لولاه لكانت الشهرة بحسب الرواية من المرجّحات الداخلة دون الخارجة ، ولذا قيّد الترجيح بالأفقهيّة أيضا بقوله : «بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به».

٢٩٧٧. معطوف على قوله : «إمّا من حيث».

٢٩٧٨. يعني : بناء على الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدّمة. وأمّا على الوجه الرابع منها فمخالفة العامّة من المرجّحات الداخلة كما سيشير إليه.

غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل ، لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس (٢٩٧٩).

ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو (٢٩٨٠) من المرجّح ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع (*) إلى المرجّح الداخليّ ؛ فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّيّة فلازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر ، إمّا من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب. وقد عرفت أنّ المزيّة

______________________________________________________

٢٩٧٩. سيشير إلى حكم القياس ونحوه. وبالجملة ، إنّ الكلام هنا في مقامات ، لأنّ الأمر الخارجي إمّا معتبر أو غير معتبر. وعلى الثاني : إمّا أن يكون عدم اعتباره لأجل عدم الدليل على اعتباره ، أو لأجل الدليل على عدم اعتباره. وأشار إلى حكم الأوّلين هنا ، وإلى الثالث فيما يأتي من كلامه.

٢٩٨٠. ربّما يقال بعدم الدليل على جواز الترجيح بالامور الخارجة ، إذ كما أنّ كون الشيء دليلا وحجّة يحتاج إلى قيام دليل عليه ، كذلك كونه مرجّحا. ولا يمكن قياسها على المرجّحات السنديّة. ولا يلزم من القول بها القول بهذه أيضا ، لأنّ تلك المرجّحات ـ كما أشرنا إليه ـ توجب القوّة في دليليّة أحد الخبرين ، فيمكن الاستدلال على اعتبارها بنفس الأدلّة الدالّة على اعتبار الأخبار ، لأنّ الدليل إذا دلّ على اعتبار أمارة ، فمقتضاه عند تعارض الأمارتين تقديم الأمارة التي يكون شمول هذا الدليل له أقوى. هذا بخلاف هذه المرجّحات ، فإنّها لا توجب القوّة في سند ذيها ، ولا تورث قوّة في دليليّة صاحبها ، بل ما يترتّب عليها كون مضمون أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع من الآخر ، وهذا أمر خارج من وصف الدليليّة في الأخبار الّتي أنيط اعتبارها بمصادفة المخبر في إخباره للواقع ، ولا تورث قوّة في سندها ، فلا يمكن الاستناد في إثبات اعتبار هذه المرجّحات إلى أدلّة اعتبارها.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : من المرجّح.

الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر كقلّة الوسائط ، ومخالفة العامّة بناء على الوجه السابق (٢٩٨١). وقد توجب بعد الاحتمال الموجود

______________________________________________________

هذا ، والذي يقتضيه الاعتبار والتدبّر في الأخبار الواردة في المضمار ـ بل وغيرها من الأدلّة التي أقيمت على الترجيح بالمرجّحات السنديّة ـ هو القول بجواز الترجيح في المقام أيضا ، لأنّ ما استدلّ به على اعتبار المرجّحات السنديّة وجوه :

أحدها : أخبار الترجيح بالتقريب الذي أشار إليه هنا وأوضحه سابقا ، حيث استنهض بفقرات منها لجواز الترجيح بكلّ مزيّة موجودة في أحد الخبرين مفقودة في الآخر. مضافا إلى إمكان دعوى اندراج ما نحن فيه في المرجّحات الداخليّة ، فيدلّ على اعتباره ما دلّ على اعتبارها. وثانيها : بناء العقلاء المتحقّق في المقام أيضا.

وثالثها : قاعدة الاشتغال. وهي جارية في المقام أيضا ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّ الكلام في اعتبار هذا الترجيح إنّما هو بعد الفراغ من اعتبار نفس المتعارضين ، إذ لو لا الترجيح لا يجوز الرجوع إلى مقتضى الاصول ، بل يثبت التخيير بينهما ، وحينئذ يدور الأمر بين التخيير وتعيين الراجح ، والثاني أوفق بالاحتياط.

ورابعها : الإجماع. وقد حكاه صاحب المفاتيح. ويمكن تحصيله في المقام أيضا بالتقريب الذي أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه.

وخامسها : دليل الانسداد. وقد تقدّم سابقا أنّ تقريره بوجهين ، ولا يتمّ الاستدلال على أحد تقريريه ويمكن إجرائه على تقريره الآخر في المقام أيضا ، بأن يقال : إنّه مع تعارض الخبرين وعدم إمكان الجمع بينهما ، مع فرض كون الحكمة في جعل الأخبار هو الوصول إلى الواقع ، وكونها كاشفة عنه ، أنّ العقل يحكم بتقديم ما كانت جهة الكاشفيّة والقرب فيه أقوى ولو بمعونة الامور الخارجة ، مثل الشهرة كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه ، مع أمره بالتأمّل فيه ، وسنشير إلى وجهه.

٢٩٨١. أعني : الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدّمة.

في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر كالأعدليّة (٢٩٨٢) والأوثقيّة (*). والمرجّح الخارجيّ من هذا القبيل ، غاية الأمر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر ، بل ذو المزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار.

ومن هنا ، يمكن أن يستدلّ على المطلب بالإجماع المدّعى في كلام جماعة (١٧) على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على عدم شموله للمقام ؛ من حيث إنّ الظاهر من أقواهما أقواهما في نفسه ومن حيث هو ، لا مجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجيّة. فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظنّ خلل في المرجوح (٢٩٨٣) مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى احتمالا (**) من حيث نفسه.

فإن قلت : إنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الإجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل ، وأمّا الحاصلة من الأمارة الخارجيّة التي دلّ الدليل على عدم العبرة بها من حيث دخولها (٢٩٨٤) فيما لا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح ، ولا فرق بينها وبين القياس في عدم العبرة بها في مقام الترجيح كمقام الحجيّة.

هذا ، مع أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن خلل في المرجوح ؛ لأنّ الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما في جميع ما له دخل في الطريقيّة ، ومجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا (***) في ذلك ؛ لأنّ الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع.

______________________________________________________

٢٩٨٢. لأنّ احتمال الكذب في كلّ من خبري العدل والأعدل موجود ، إلّا أنّه في الثاني أبعد من الأوّل.

٢٩٨٣. بما في صدوره أو جهة صدوره.

٢٩٨٤. لا من حيث قيام دليل على عدم اعتبارها ، لخروجها من محلّ الكلام حينئذ.

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «الأوثقيّة» : الأفقهيّة.

(**) فى بعض النسخ بدل «احتمالا» : إجمالا.

(***) فى بعض النسخ زيادة : في الواقع.

قلت : أمّا النصّ ، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه‌السلام : " لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه" وقوله عليه‌السلام : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" لما نحن فيه ، بل قوله عليه‌السلام : " فإنّ الرشد فيما خالفهم" ، وكذا التعليل في رواية الأرجائيّ : " لم امرتم بالأخذ بخلاف ما عليه العامّة" وارد في المرجّح الخارجيّ (٢٩٨٥) ؛ لأنّ مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور.

وأمّا معقد الإجماعات ، فالظاهر أنّ المراد منه : الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولا ، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربية إلى الواقع ، مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس ، ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأنّ الظنّ في الخبر الموافق له أقوى ، وعلى الترجيح بمخالفة الأصل بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان ، واستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة : " بأنّ الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب" ، وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم. مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع فيما كان حجّيتهما من حيث الطريقيّة ، فتأمّل (٢٩٨٦).

______________________________________________________

٢٩٨٥. هذا مناف لعدّه مخالفة العامّة من المرجّحات المضمونيّة الداخلة عند تقسيم المرجّحات في أوّل المقام الرابع ، فراجع. ولعلّ ما ذكره هنا أظهر.

لا يقال : إنّ المرجّح هي مخالفة الخبر للعامّة ، وصفة المخالفة ليست من الامور المستقلّة بنفسها.

لأنّا نقول : إنّ هذا الكلام جار في سائر المرجّحات الخارجة ، كموافقة الكتاب والسنّة والشهرة والأصل ، فالمعتبر في عدّ المرجّح خارجيّا كون ذات المرجّح كذلك مع قطع النظر عن صفة الموافقة والمخالفة.

٢٩٨٦. يحتمل الأمر بالتأمّل وجهين :

أحدهما : ما تقدّم سابقا من أنّ الأصل في تعارض ما هو معتبر من باب الطريقيّة هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول ، لا الترجيح بما لم يثبت مرجّحيته وثانيهما :

بقي في المقام أمران : أحدهما : أنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص كالقياس ، هل هي من المرجّحات أم لا؟ ظاهر المعظم العدم ، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلاليّة في الفقه.

وحكي المحقّق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحا ، حيث قال : وذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر. ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة. لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل ، لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ؛ وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون

______________________________________________________

أنّ العقل على تقدير تسليم استقلاله بتقديم أقوى الدليلين إنّما هو فيما كانت القوّة في نفس الدليليّة ، لا في أمر خارج من صفة الدليليّة ، واعتبار الأخبار وإن كان من باب الطريقيّة ، إلّا أنّ اعتبار سندها إنّما هو من حيث الطريقيّة إلى الصدور ، واعتبار دلالتها إنّما هو من حيث الطريقيّة إلى مراد المتكلّم ، والمرجّحات الخارجة لا تقوّي شيئا من الحيثيّتين. أمّا الاولى فواضحة ، وإلّا كانت من المرجّحات السنديّة دون المضمونيّة. وأمّا الثانية فإنّه لو تقوّت بها دلالة أحد الخبرين صارا من قبيل الظاهر والأظهر ، فخرجا من مورد التعارض ، لوجوب حمل الظاهر على الأظهر منهما حينئذ كما مرّ غير مرّة. فالتعارض والرجوع إلى المرجّحات إنّما هو فيما تساوت دلالتهما ، وغاية ما يفيده المرجّح الخارجي كون مضمون أحدهما أقرب إلى الواقع من الآخر ، من دون إيراث قوّة في دلالته ، ومجرّد أقربيّة مضمون أحدهما إلى الواقع خارج من جهة الدليليّة كما عرفت.

العمل به ، لا بذلك القياس. وفيه نظر (١٨) ، انتهى. ومال إلى ذلك بعض سادة (٢٩٨٧) مشايخنا المعاصرين.

والحقّ خلافه ، لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض والرجوع معه إلى الاصول. وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض وجعله كالمعدوم حتّى يرجع إلى الأصل ، وبين رفعه لجواز العمل بالخبر المكافى لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتّى يتعيّن العمل بالخبر الآخر؟!

ثمّ إنّ الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقا ؛ ولذا استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ، ولم نجد منهم موضعا يرجّحونه به ، ولو لا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاصول ليرجّح به في الفروع.

الثاني : في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة (٢٩٨٨) إلى المرجّحات السابقة. فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات.

______________________________________________________

٢٩٨٧. لعلّ المراد به صاحب المناهل ، لأنّه سيّد مشايخ المصنّف رحمه‌الله. وحكاه بعض مشايخنا عن شريف العلماء أيضا. ويمكن الاستدلال عليه أيضا بقاعدة الاشتغال ، لدوران الأمر في المقام بين التعيين والتخيير.

٢٩٨٨. اعلم أنّ محصّل الكلام فيما ذكره هنا وفيما تقدّم هو تقديم الترجيح من حيث الدلالة على سائر المرجّحات ، سواء كان من حيث الصدور أو وجه الصدور أو المضمون ، وتقديم الترجيح من حيث الصدور على الترجيح من حيث وجه الصدور ، وتقديم الترجيح من حيث المضمون على الترجيح من حيث الصدور ، وأمّا على الترجيح من حيث وجه الصدور فبطريق أولى. والوجه في الكلّ واضح ممّا ذكره هنا وسابقا.

وهذا كلّه بناء على ما يستفاد من الأخبار وكلمة الأصحاب من جواز الترجيح بكلّ مزيّة ، سواء كانت منصوصة أم لا. وأمّا بناء على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة تعبّدا من دون اعتبار إفادتها للظنّ بالواقع فعلا ، فلا فائدة

نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجيّ إلى حيث يوهن الأرجح دلالة ، فهو يسقطه عن الحجّية ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين ؛ ومن هنا قد يقدّم العامّ المشهور أو (*) المعتضد بالامور الخارجيّة الأخر على الخاصّ.

وأمّا الترجيح من حيث السند ، فظاهر مقبولة ابن حنظلة تقديمه على المرجّح الخارجيّ (٢٩٨٩) ، لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛ لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ، فإنّ الأعدل أقرب إلى الصدق من غيره ، بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الأعدل وكذب العادل ، فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة. وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناء على أنّ الوجه فيه (٢٩٩٠) هو نفي احتمال التقيّة.

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما كان مستقلا بالاعتبار ولو خلا المورد عن الخبرين ، فقد أشرنا إلى أنّه على قسمين : الأوّل : ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين. والثاني : ما لا يكون كذلك.

فمن القسم الأوّل : الكتاب والسنّة ، والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار. واستدلّ في المعارج على ذلك بوجهين : أحدهما : أنّ الكتاب دليل مستقلّ ، فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر. ثانيهما : أنّ الخبر المنافي لا يعمل به (٢٩٩١)

______________________________________________________

لإطالة الكلام في ذلك بعد ما اخترناه من جواز الترجيح بكلّ مزيّة.

٢٩٨٩. حيث قدّم فيها الأعدليّة على الأفقهيّة وعلى الشهرة.

٢٩٩٠. لأنّه بناء على الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدّمة تكون مخالفة العامّة من المرجّحات الخارجة أيضا ، وحيث تعارض مع مرجّح خارجيّ آخر يكون المدار على ما ترجّح في نظر المجتهد.

٢٩٩١. لإطلاق الأخبار المتواترة على طرح ما خالف كتاب الله وأنّه زخرف.

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «أو» : و.

لو انفرد عن المعارض ، فما ظنّك به معه (١٩)؟! انتهى. وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي ، سواء قلنا بحجّيته مع معارضته لظاهر (٢٩٩٢) الكتاب أم قلنا بعدم حجّيته ، فلا يتوهّم التنافي بين دليليه.

ثمّ إنّ توضيح الأمر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب و (*) السنّة المطابق لأحد المتعارضين. فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث : الاولى : أن يكون على وجه لو خلّى الخبر المخالف له عن معارضة المطابق له كان مقدّما عليه ؛ لكونه نصّا بالنسبة إليه ؛ لكونه اخصّ منه أو غير ذلك (٢٩٩٣) ـ بناء على تخصيص الكتاب بخبر الواحد ـ فالمانع عن التخصيص حينئذ ابتلاؤه (**) بمعارضة مثله ، كما إذا تعارض" أكرم زيدا العالم" و" لا تكرم زيدا العالم" ، وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب إكرام العلماء.

ومقتضى القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ اوّلا جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر المخالف للكتاب على المطابق له ، فإن وجد شيء منها رجّح المخالف به وخصّص به الكتاب ؛ لأنّ المفروض انحصار المانع عن تخصيصه به في ابتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب ؛ لأنّه مع الكتاب من قبيل النصّ والظاهر ، وقد عرفت أنّ العمل بالنصّ ليس من باب الترجيح ، بل من باب العمل بالدليل والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة ، حتّى لو قلنا بكونها (٢٩٩٤) من باب الظهور النوعيّ. فإذا عولجت المزاحمة

______________________________________________________

٢٩٩٢. كما هو مقتضى دليله الأوّل. وقوله : «أم قلنا ...» هو مقتضى دليله الثاني.

٢٩٩٣. بأن كان بين ظاهر الكتاب والخبر المخالف له عموم من وجه ، وكان الخبر المخالف له أظهر منه دلالة ، إمّا لكونه أقلّ أفرادا منه ، أو كان حكمه معلّلا ، أو نحو ذلك.

٢٩٩٤. قد تقدّم تفصيله في أوّل المسألة عند بيان معنى الحكومة.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

(**) فى بعض النسخ بدل «ابتلاؤه» : ابتلاء الخاص.

بالترجيح صار المخالف كالسليم عن المعارض ، فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر السليم.

ولو لم يكن هناك مرجّح : فإن حكمنا في الخبرين المتكافئين بالتخيير ـ إمّا لأنّه الأصل (٢٩٩٥) في المتعارضين وإمّا لورود الأخبار بالتخيير ـ كان اللازم التخيير ، وأنّ له أن يأخذ بالمطابق وأن يأخذ بالمخالف ، فيخصّص به عموم الكتاب (٢٩٩٦) ؛

______________________________________________________

٢٩٩٥. كما إذا قلنا باعتبار الظواهر من باب السببيّة دون الطريقيّة.

٢٩٩٦. لا يذهب عليك أنّه إن قلنا بالتخيير لأجل أنّه الأصل في تعارض الخبرين ، فلا ريب أنّ المختار حينئذ يصير حجّة شرعيّة يجوز تخصيص الكتاب به إن كان المختار هو المخالف له. لكنّه خلاف التحقيق ، لما تقدّم من أنّ الأصل في تعارض الخبرين هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول.

وإن قلنا به من باب الشرع لأجل أخبار التخيير ، ففي جواز تخصيص الكتاب بالمختار وجهان مبنيّان على التدبّر في تلك الأخبار ، وأنّ مقتضاها كون التخيير كالترجيح ، بحيث يكون المختار حجّة شرعيّة تجري عليه جميع آثار الخبر السالم من المعارض التي منها تخصيص الكتاب به ، ولعلّه ظاهر الأخبار ، أو أنّ مقتضاها إثبات أصل التخيير ، بأن كان مفادها جواز العمل بمضمون أحدهما في الجملة ، من دون دلالة على تنزيل مؤدّاهما منزلة الواقع ، ليكون حجّة شرعيّة كي تجري عليه أحكامه؟ ولا ريب أنّ ثبوت التخيير بهذا المعنى لا ينافي ثبوت التعيين بالعرض بدليل خارجي ، نظير عدم منافاة الإباحة الأصليّة للوجوب أو الحرمة العرضيّة بدليل خارجي.

وحينئذ نقول : إنّ عموم الكتاب دليل اجتهاديّ حاكم على أصالة التخيير ، فلا يجوز معه اختيار الخبر المخالف له. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مخالفة أحد الخبرين لعمومات الكتاب لو كانت مانعة من التخيير لم يبق لأخبار التخيير مورد إلّا نادرا ، لأنّ مرجع مخالفته لها إلى مخالفة ظاهرة لأصالة الحقيقة التي هي بمثابة الاصول العمليّة ،

لما سيجيء من أنّ موافقة أحد الخبرين للأصل (٢٩٩٧) لا يوجب رفع التخيير. وإن قلنا بالتساقط أو التوقّف ، كان المرجع هو ظاهر الكتاب. فتلخّص أنّ الترجيح بظاهر الكتاب لا يتحقّق بمقتضى القاعدة في شيء من فروض هذه الصورة.

الثانية : أن يكون على وجه لو خلّى الخبر المخالف له عن معارضه لكان مطروحا ؛ لمخالفته الكتاب ، كما إذا تباين مضمونهما كلّيّة. كما لو كان ظاهر الكتاب

______________________________________________________

فلو كانت تلك المخالفة مانعة من التخيير كانت المخالفة للاصول العمليّة أيضا مانعة منه ، وقلّما يوجد مورد لا يكون أحد الخبرين موافقا للأصل ، إذ الأغلب موافقته له ، إذ موارد دوران الأمر بين المحذورين كالوجوب والحرمة ـ حتّى لا يجوز الرجوع إلى الأصل المخالف لهما ـ قليل جدّا. مع أنّه إنّما يتمّ على تقدير حرمة المخالفة الالتزاميّة ، وهي ممنوعة كما تقدّم في أوّل الكتاب. ومع التسليم فلا حاجة في مثله إلى التمسّك بأخبار التخيير ، للاستغناء عنها باستقلال العقل به في مثله.

نعم ، يمكن أن يفرّق بين الأصلين بأنّ أصالة الحقيقة في الظواهر معتبرة من باب الظنّ النوعي ، فهي حاكمة على أصالة التخيير ، فتكون مرجّحة للخبر الموافق لها ، بخلاف الاصول العمليّة ، لاعتبارها من باب التعبّد في مقام الظاهر ، فتكون في مرتبة أصالة التخيير.

لا يقال : إنّ المعتبر في باب التراجيح هو الترجيح بالظنون الشخصيّة دون النوعيّة ، لأنّها في حكم التعبّد في عدم جواز الترجيح بها ، فلا تبقى أخبار التخيير حينئذ بلا مورد. نعم ، لو قلنا باعتبار الظواهر من باب الظنون الشخصيّة صحّ الترجيح بعموم الكتاب ، إلّا أنّه ضعيف ، والقائل به نادر.

لأنّا نقول : إنّا نمنع ـ لما صرّح به المصنّف رحمه‌الله عند بيان المرجّحات السنديّة ـ من كون المدار في باب التراجيح على الظنون النوعيّة دون الفعليّة ، فراجع.

٢٩٩٧. سواء كان لفظيّا أم عمليّا.

في المثال المتقدّم وجوب إكرام زيد العالم. واللازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجّية رأسا ؛ لتواتر الأخبار (٢٩٩٨) ببطلان الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، والمتيقّن من المخالفة (٢٩٩٩) هذا الفرد ، فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين ، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضا ؛ لأنّ المراد به (٣٠٠٠) تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه ، لا لما يسقط الآخر عن الحجّية. وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الأخبار المتعارضة.

الثالثة : أن يكون على وجه لو خلّى المخالف له عن المعارض لخالف الكتاب ، لكن لا على وجه التباين الكلّي ، بل يمكن الجمع بينهما (٣٠٠١) بصرف أحدهما عن ظاهره. وحينئذ ، فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة عن الحجّية كان حكمها حكم الصورة الثانية ، وإلّا كان الكتاب (٣٠٠٢) مع الخبر المطابق بمنزلة دليل واحد عارض الخبر المخالف ، والترجيح حينئذ بالتعاضد وقطعيّة سند الكتاب.

______________________________________________________

٢٩٩٨. في بعضها أنّه زخرف ، وفي آخر أنّه باطل. وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما خالف كتاب الله فليس من حديثي ، أو لم أقله». وقال عليه‌السلام : «لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن حدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة» إلى غير ذلك من الأخبار.

٢٩٩٩. قد تقدّم عند الاستدلال على عدم حجّية أخبار الآحاد بما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب ، ما يندفع به ما يتوهّم من اختصاص ما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب ـ على ما ذكره هنا ـ بصورة معدومة.

٣٠٠٠. وهو فرع حجّية الخبرين في أنفسهما.

٣٠٠١. بأن كان بينهما عموم من وجه. ولم يعبّر بهذا اللفظ ليدخل فيه ما في حكمه ، مثل قوله : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة.

٣٠٠٢. ممّا يشهد بعدم شمول الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للكتاب لصورة المعارضة بالعموم من وجه ، أنّه على تقدير الشمول لا بدّ أن لا يفرّق فيه بين صورتي التعارض وعدمه ، بأن يقال بوجوب الطرح مطلقا حتّى في صورة

فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الأخيرة. لكن هذا الترجيح مقدّم على الترجيح بالسند ؛ لأنّ أعدليّة الراوي في الخبر المخالف لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للخبر الآخر. وعلى الترجيح بمخالفة العامّة (٣٠٠٣) ؛ لأنّ التقيّة غير متصوّرة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامّة ، وعلى المرجّحات الخارجيّة ؛ لأنّ

______________________________________________________

سلامة الخبر المخالف من معارضة مثله ، وهو خلاف طريقة الفقهاء ، كما هو واضح لمن تتبّع أبواب الفقه.

٣٠٠٣. لا يذهب عليك أنّ في تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامّة وجوها :

أحدها : تقديم الترجيح بالمخالفة لوجوه :

أحدها : غلبة صدور الأخبار تقيّة ، إذ لعلّ معظم اختلاف الأخبار نشأ من ذلك ، فيحمل الموافق للعامّة على التقيّة وإن كان موافقا للكتاب ، إلحاقا للمشكوك بالغالب.

وثانيها : أنّ الأخبار في تقديم الترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة مختلفة ، والترجيح للثانية ، لكونها معلّلة بكون الرشد في خلافهم.

وثالثها : أنّ المراد بموافقة الكتاب ليس موافقة الخبر لألفاظه ، لامتناعه ، بل المراد موافقته لما هو المراد من الكتاب في الواقع ، وقد دلّت الأخبار على كون ما يخالف العامّة رشدا وصوابا وحقّا في الواقع ، فيكون موافقهم باطلا لا محالة. فلا بدّ أن يكون المراد بالكتاب في الواقع هو ما تضمّنه المخالف له ظاهرا ، إذا بعد قيام الدليل علي حقّية مضمونه في نفس الأمر كان هو مرادا بالكتاب لا محالة دون ما يوافقه ظاهرا ، فلا بدّ من حمل الموافق علي التقيّة لا محالة.

فان قلت : إنّ المراد بموافقة الكتاب لو كان الموافقة للمراد الواقعي تلغو الأخبار الدالّة علب طرح مخالف الكتاب ، لعدم إمكان العلم بالمراد الواقعي من الكتاب غالبا.

الأمارة المستقلّة (٣٠٠٤) المطابقة للخبر الغير المعتبرة لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار ، ولو فرضنا الأمارة المذكورة مسقطة لدلالة الخبر والكتاب المخالفين لها عن الحجّية ـ لأجل القول بتقييد اعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظنّ الشخصيّ على خلافها ـ خرج المورد عن فرض التعارض.

ولعلّ ما ذكرناه هو الداعي للشيخ قدس‌سره في تقديم الترجيح بهذا المرجّح على جميع ما سواه من المرجّحات ، وذكر الترجيح بها بعد فقد هذا المرجّح.

إذا عرفت ما ذكرنا ، علمت توجّه الإشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجيّة على تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب كمقبولة ابن حنظلة ، بل وفي غيرها ممّا

______________________________________________________

قلت : إنّ أصالة الحقيقة طريق إلى تعيين المرادات الواقعيّة ، إلّا أنّ العمل بها إنّما هو مع عدم تعيّن المراد الواقعي بدليل آخر ، وقد عرفت أنّ مخالفة العامّة من جملة ذلك ، ولأجل ما ذكرناه قد تفسّر الآيات في الأخبار بما هو خلاف ظاهرها.

الثاني : تقديم الترجيح بموافقة الكتاب كما هو ظاهر العلماء قدس‌سرهم ، وهو الأقوى ، لما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وحاصله : أنّ الترجيح بمخالفة العامّة فرع إمكان حمل الموافق لهم على التقيّة ، وهو ممتنع في المقام ، لأنّ التقيّة في الكتاب الموافق للخبر الموافق لهم غير متصوّرة ، فكيف يحمل عليها؟ وكون المخالفة من أمارات الرشد إنّما يتمّ على تقدير كون المخالفة من مرجّحات المضمون ، وهو خلاف ظاهر العلماء ، لأنّ ظاهرهم كونها من مرجّحات وجه الصدور ، بل هو خلاف مفروض كلام المصنّف رحمه‌الله ، وإن تأيّد بمعظم أخبار الباب.

الثالث : التخيير في الترجيح بينهما ، لفرض تعارضهما ، وعدم ثبوت تقديم الترجيح بإحداهما. وقد عرفت ضعفه.

٣٠٠٤. فإن قلت : إنّ عدم مقاومة الأمارة غير المعتبرة لظاهر الكتاب لا يستلزم تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بسائر المرجّحات الخارجيّة ، لأنّ الترجيح بموافقة الكتاب إنّما هو لكون مضمون الخبر الموافق له أقرب مطابقة

اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ؛ من حيث إنّ الصورة الثالثة (٣٠٠٥) قليلة الوجود في الأخبار المتعارضة ، والصورة الثانية أقلّ وجودا بل معدومة ، فلا يتوهّم حمل تلك الأخبار عليها وإن لم تكن من باب ترجيح أحد المتعارضين ؛ لسقوط المخالف عن الحجّية مع قطع النظر عن التعارض.

ويمكن التزام دخول الصورة الاولى في الأخبار التي اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب ، فلا يقلّ موردها ، وما ذكر ـ من ملاحظة الترجيح بين الخبرين المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ـ ممنوع. بل نقول : إنّ ظاهر تلك الأخبار (٣٠٠٦) ولو بقرينة لزوم قلّة المورد بل عدمه ، وبقرينة بعض الروايات الدالّة على ردّ بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب مع كونه ظاهرا في نفيهما ـ أنّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه الخبر الآخر وإن كان لو انفرد رفع اليد به عن ظاهر الكتاب.

______________________________________________________

للواقع من الآخر ، لكون موافقة الكتاب من المرجّحات المضمونيّة ، وربّما كان سائر الامور الخارجيّة أقوى ظنّا من ظاهر الكتاب. وكون ظاهره معتبرا شرعا دون ما يعارضه من الامور الخارجيّة ، إنّما يثمر في حجّيتهما في أنفسهما ، وإثبات الأحكام الشرعيّة بهما ، لا في مقام الترجيح غير المبتني على اعتبار المرجّح في نفسه شرعا.

قلت : إنّ الخبر المخالف للكتاب وإن تأيّد مضمونه بأيّ ظنّ فرض من الظنون غير المعتبرة ، إلّا أنّه لا يبلغ مرتبة الموافق للكتاب ، لأنّ الحاصل من الكتاب وإن فرض كونه من أضعف الظنون ، إلّا أنّه بعد فرض اعتباره شرعا كان كالقطع ، وبعد ملاحظة القطع بسنده واعتبار ظاهره كان الموافق له أقرب إلى الواقع شرعا من المخالف له لا محالة.

٣٠٠٥. هذا بيان للإشكال الثاني الوارد على ما أطلق فيه الترجيح بموافقة الكتاب.

٣٠٠٦. التي أطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب.

وأمّا الإشكال المختصّ بالمقبولة من حيث تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ، فيندفع بما أشرنا إليه سابقا من أنّ الترجيح بصفات الراوي فيها من حيث كونه حاكما ، وأوّل المرجّحات الخبريّة فيها هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاخرى ، ولا بعد في تقديمها على موافقة الكتاب (٣٠٠٧).

ثمّ إنّ الدليل المستقلّ المعاضد لأحد الخبرين حكمه حكم الكتاب والسنّة في الصورة الاولى. وأمّا في الصورتين الأخيرتين ، فالخبر المخالف له يعارض مجموع الخبر الآخر والدليل المطابق له ، والترجيح هنا بالتعاضد لا غير.

______________________________________________________

٣٠٠٧. لأنّ الخبر الموافق للمشهور إن كان موافقا للشهرة بحسب الفتوى ، يسقط الخبر المخالف لها عن درجة الاعتبار. وإن كان موافقا للشهرة بحسب الرواية ، فإن كانت الشهرة حينئذ بالغة حدّ الإجماع ، بأن كان جميع الروات أو إلّا الشاذّ منهم راوين لأحد الخبرين دون الآخر ، يخرج الآخر حينئذ من الحجّية أيضا ، لأنّ إجماعهم على نقل خبر يكشف عن كونه معمولا به عندهم ، وإلّا فلا داعي إلى إجماعهم على نقله من دون شهرة العمل به. وعلى التقديرين يقدّم الترجيح بموافقة الشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب ، وإن كان ذلك بمعنى خروج الموافق له من درجة الحجّية لأجل مخالفته للشهرة. نعم ، العلم بشهرة الرواية على ما عرفت متعذّر في أمثال زماننا ، لانتهاء الأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة المعتبرة إلى المشايخ الثلاثة غالبا.

وإن كانت الشهرة غير بالغة إلى حدّ الإجماع ، بأن كان أحد الخبرين معروفا بين جماعة من الروات قلّوا أو كثروا ، وكان الآخر مختصّا براوي واحد ، فحينئذ وإن أمكن أن يقال : إنّ غاية ما تفيده رواية الجماعة حصول قوّة في سندها ، وهي لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للرواية الاخرى ، فيقدّم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بموافقة الشهرة ، إلّا أنّ المراد بالشهرة في المقبولة ـ على ما حقّقه المصنّف رحمه‌الله في مسألة حجّية الشهرة ـ اشتهار الخبر بين الروات بحيث يعرفه كلّ أحد ، لا المعنى المذكور.

وأمّا القسم الثاني وهو ما لا يكون معاضدا لأحد الخبرين ، فهي عدّة امور : منها : الأصل ، بناء على كون مضمونه حكم الله الظاهريّ ؛ إذ لو بني على إفادته الظنّ بحكم الله الواقعيّ كان من القسم الأوّل. ولا فرق في ذلك بين الاصول الثلاثة ، أعني أصالة البراءة ، والاحتياط ، والاستصحاب.

لكن يشكل الترجيح بها من حيث إنّ مورد الاصول ما إذا فقد الدليل (٣٠٠٨) الاجتهاديّ المطابق أو المخالف ، فلا مورد لها إلّا بعد فرض تساقط المتعارضين لأجل التكافؤ ، والمفروض أنّ الأخبار (٣٠٠٩) المستفيضة دلّت على التخيير مع فقد المرجّح ، فلا مورد للأصل في تعارض الخبرين رأسا ، فلا بدّ من التزام عدم الترجيح بها ، وأنّ الفقهاء إنّما رجّحوا بأصالة البراءة والاستصحاب في الكتب

______________________________________________________

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله مع ذلك كلّه لم يجزم بتقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب. ولعلّ الوجه فيه أنّ ظاهر المقبولة هو الترجيح بموافقة شهرة الرواية من حيث هي ، مع قطع النظر عن كشفها عن شهرة الفتوى بمضمون الخبر المشهور ، بل مع فرض عدمه كما يدلّ عليه فرض كلّ من الخبرين مشهورين ، وحينئذ فغاية ما تدلّ عليه الشهرة هي قوّة الظنّ بصدور الخبر المشهور ، وهي لا تقاوم القطع بسند الكتاب.

ثمّ إنّ الإشكال المذكور إنّما يرد لو كان الترتيب بين المرجّحات المذكورة في المقبولة أو غيرها معتبرا في مقام الترجيح ، كما هو الظاهر على القول بالاقتصار على المرجّحات المنصوصة. وأمّا على المختار ـ وفاقا للمصنّف رحمه‌الله ، كما تقدّم سابقا ـ من كون المقصود منها الترجيح بكلّ مزيّة في أحد الخبرين مفقودة في الآخر ، من دون ملاحظة ترتيب ولا عدد خاصّ في المرجّحات ، فلا وقع لهذا الإشكال من أصله.

٣٠٠٨. فلا يكون الأصل مرجّحا.

٣٠٠٩. فلا يكون الأصل مرجعا أيضا.

الاستدلاليّة ؛ من حيث بنائهم على حصول الظنّ النوعيّ بمطابقة الأصل. وأمّا الاحتياط ، فلم يعلم منهم الاعتماد عليه ، لا في مقام الاستناد ولا في مقام الترجيح (*).

وقد يتوهّم (٢٠) : أنّ ما دلّ على ترجيح التخيير مع تكافؤ الخبرين معارض بما دلّ على الاصول الثلاثة ، فإنّ مورد الاستصحاب عدم اليقين بخلاف الحالة السابقة ، وهو حاصل مع تكافؤ الخبرين.

ويندفع : بأنّ ما دلّ على التخيير حاكم على الأصل ؛ فإنّ مؤدّاه جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة والالتزام بارتفاعها ، فكما أنّ ما دلّ على تعيين (**) العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض حاكم على دليل الاستصحاب ، كذلك يكون الدليل الدالّ على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافئ لمعارضه حاكما عليه من غير فرق أصلا.

مع أنّه لو فرض التعارض المتوهّم كان أخبار التخيير أولى بالترجيح وإن كانت النسبة عموما من وجه ؛ لأنّها أقلّ موردا ، فيتعيّن تخصيص أدلّة الاصول ، مع أنّ التخصيص في أخبار التخيير يوجب إخراج كثير من مواردها بل أكثرها ، بخلاف تخصيص أدلّة الاصول. مع أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الاصول مثل مكاتبة عبد الله بن محمّد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل ، ومكاتبة الحميريّ المرويّة في الاحتجاج الواردة في التكبير في كلّ انتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة.

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما ذكره (٣٠١٠) بعض من عاصرناه في تقديم الموافق للأصل على المخالف ، من أنّ العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دلّ على حجّية

______________________________________________________

٣٠١٠. أمّا ظهور فساد الأوّل فلما تقدّم من حكومة ما دلّ على اعتبار الخبر المخالف على عموم ما دلّ على اعتبار الاصول ، فلا تعارض بينهما ، فعلى كلّ تقدير ليس هنا إلّا تخصيص واحد.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «الترجيح» ، إلّا في مقام الاستناد ، لا في مقام الترجيح.

(**) فى بعض النسخ : بدل «تعيين» ، تعيّن.

المخالف ، والعمل بالمخالف مستلزم للتخصيص فيما دلّ على حجّية الموافق وتخصيص آخر فيما دلّ على حجّية الاصول ، وأنّ الخبر الموافق يفيد ظنّا بالحكم الواقعيّ ، والعمل بالأصل يفيد الظنّ بالحكم الظاهريّ ، فيتقوّى به الخبر الموافق ، وأنّ الخبرين يتعارضان ويتساقطان ، فيبقى الأصل سليما عن المعارض (٢١).

بقي هنا شيء وهو أنّهم اختلفوا في تقديم المقرّر (٣٠١١)

______________________________________________________

وأمّا الثاني ، فإنّه مع فرض كون الخبر الموافق مفيدا للظنّ بالحكم الواقعي ، والأصل للظنّ بالحكم الظاهري ، لا يكون مضمون الخبر مؤيّدا بالأصل ، لاختلاف مرتبتهما ، فلا يترجّح به. ولذا جعل الاصول من المرجّحات الّتي لا تكون مؤيّدة لمضمون الخبر الموافق ، وجعل الكلام فيها على تقدير كون مضمونها هو الحكم الظاهري دون الواقعي.

وأمّا الثالث ، فإنّه مع تساقط الخبرين لا يكون الأصل مرجّحا بل مرجعا ، مع أنّك قد عرفت ما في كونه مرجعا أيضا. مضافا إلى استفاضة الأخبار بالتخيير كما تقدّم.

٣٠١١. لعلّ ذكر هذا بعد بيان حكم الترجيح بالأصل وعدمه من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ ، لكون المراد بالأصل هنا ما كان عقليّا لا شرعيّا كما سيصرّح به. والوجه في تخصيصه بالذكر كونه محلّ نزاع برأسه. ويحتمل كون المراد بالأصل هنا أعمّ من الاصول العمليّة واللفظيّة ، لكنّ المتيقّن من كلماتهم هي الاولى. وسمّي الموافق مقرّرا لتقريره الأصل على مقتضاه ، والمخالف بالناقل لنقله الحكم عن مقتضى الأصل.

وقد حكي بعض مشايخنا هنا أقوالا ستّة : أحدها : تقديم المقرّر ، وهو عزيز القائل. وثانيها : تقديم الناقل ، وهو المشهور. وثالثها : التوقّف. ورابعها : التفصيل بينما كان الخبران نبويّين وكانا معلومي التاريخ فيقدّم المتأخّر مطلقا ، سواء كان ناقلا أم مقرّرا ، وبينما كانا مجهولي التاريخ أو كانا صادرين عن أحد

.................................................................................................

______________________________________________________

الأئمّة عليهم‌السلام علم تاريخهما أو لا ، فقيل بالتوقّف ، وقيل بتقديم الناقل ، وقيل بالعكس.

والتحقيق عدم الترجيح في المقام لا بموافقة الأصل ولا بمخالفته ، سواء قلنا باعتبار الاصول من باب التعبّد كما هو الحقّ ، أم من باب الظنّ.

أمّا على الأوّل فأوّلا : للأصل ، لأنّ الترجيح كأصل الحجّية يحتاج إثباته إلى دليل ، وعدمه كاف في إثبات عدم جواز الترجيح بالاصول ، لما ستعرف من ضعف أدلّة المثبتين.

وثانيا : أنّ الاصول غير جارية في مقابل الأدلّة ، سواء وافقتها أم خالفتها ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله آنفا.

وثالثا : أنّ مرتبة الاصول مع الأدلّة مختلفة ، لاعتبار الاولى من باب التعبّد ، والثانية من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، فلا يصحّ الترجيح بها.

وأمّا على الثاني ، فإنّ المراد بالاصول هنا هي الاستصحاب والبراءة والاحتياط. والأخير غير مفيد للظنّ ، لأنّ مقتضاه حصول العلم بحصول الواقع في ضمن المأتيّ به ، لا الظنّ بكونه نفس الواقع بالخصوص كما هو المعتبر في باب الترجيح.

وأمّا الثاني فهو إن قيس إلى الواقع فلا يفيد ظنّا ، إلّا أن تكون الواقعة كثيرة الابتلاء للمكلّف ، لأنّه مع عدم الوجدان حينئذ يحصل الظنّ بالعدم في الواقع ، لكنّه لا يفيد المدّعى كلّيا. وإن قيس إلى الظاهر فهو يفيد القطع دون الظنّ ، مع أنّه لا يصلح للترجيح كما عرفت.

وأمّا الأوّل فإن لوحظت إفادته للظنّ بالواقع ولو نوعا فلا دليل على اعتباره بهذا الاعتبار. وإن لوحظ اعتباره شرعا من باب التعبّد فلا يصلح للترجيح.

واحتجّ القائل بتقديم المقرّر بأنّ التأسيس أولى من التأكيد ، وحمل كلام الشارع على الأتمّ فائدة أولى وأتمّ. وتوجيهه : أنّه مع الحكم بتقديم المقرّر لا بدّ أن يفرض ورود الناقل قبله ، فيقع كلّ منهما في موضع الحاجة. أمّا الناقل فلوروده على خلاف الأصل. وأمّا المقرّر فلوروده على خلاف ما يستفاد من الناقل ، لكونه

.................................................................................................

______________________________________________________

رافعا لما يستفاد منه ، بخلاف ما لو قدّم الناقل ، لاستلزامه ورود المقرّر قبله على وفق الأصل ، وهو تأكيد ، والتأسيس أولى منه كما عرفت.

وفيه أوّلا : أنّه يستلزم كون المقرّر ناسخا للناقل ، فلا يجري الدليل في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، لانسداد باب النسخ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وثانيا : منع أولويّة التأسيس ، لعدم بلوغ هذه القاعدة إلى مرتبة الحجّية ، لعدم إفادتها الظنّ كي يصلح للترجيح.

وثالثا : أنّ ما ذكر من الدليل جمع بين الخبرين لا ترجيح لأحدهما ، لاستلزامه إعمال كلا الخبرين ، أمّا الناقل فإلى زمان صدور المقرّر ، وأمّا هو فبعد صدوره ، والكلام في المقام في الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رأسا لأجل الموافقة للأصل أو المخالفة له.

ورابعا : منع جريان الدليل فيما كان الخبران واردين في مقام الجواب عن سؤال الراوي ، لكون الخبر حينئذ مفيدا ومؤسّسا ، سواء وافق الأصل أو خالفه ، وإلّا لما احتاج إلى السؤال ، واقتنع بمقتضى الأصل.

وخامسا : منع كون ورود الخبر على وفق الأصل تأكيدا ، لأنّه إنّما يتمّ مع الالتفات إلى حكم العقل ، وأمّا مع عدم الالتفات إليه ـ كما هو الغالب في عوام الناس ـ فلا ، لكون الخبر حينئذ مفيدا ومؤسّسا بالنسبة إليه لا محالة.

واحتجّ القائل بتقديم الناقل بوجوه :

أحدها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله من الغلبة.

وفيه : منع الغلبة على وجه يفيد الظنّ بكون الصادر مخالفا للأصل ، لأنّ بيان الشارع للمباحات والمستحبّات والمكروهات كثير أيضا.

وثانيها : ما ذكره في المعالم من أنّ التأسيس أولى من التأكيد ، حيث يستفاد من الناقل ما لا يستفاد إلّا منه ، بخلاف المقرّر ، فإنّه يستفاد من العقل ما يستفاد منه.

ـ وهو الموافق للأصل ـ على الناقل وهو الخبر المخالف له. والأكثر من الأصوليّين ـ منهم العلّامة قدس‌سره وغيره ـ على تقديم الناقل ، بل حكي هذا القول عن جمهور الاصوليّين ، معلّلين ذلك : بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغنى عنه بحكم العقل ، مع أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلاليّة الفرعيّة الترجيح بالاعتضاد بالأصل ، لكن لا يحضرني الآن مورد لما نحن فيه ـ أعني المتعارضين الموافق أحدهما للأصل ، فلا بدّ من التتبّع.

ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمّنا للإباحة والآخر مفيدا للحظر ، فإنّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح (٢٢) ، بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدم الخلاف فيه. وذكروا في وجهه ما لا يبلغ حدّ الوجوب ككونه متيقّنا في العمل ؛ استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : " ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال".

وفيه : أنّه لو تمّ هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الإباحة ؛ لأنّ وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح ؛ فإنّه من مرجّحات أحد الاحتمالين ، مع أنّ المشهور تقديم الإباحة على الحظر.

فالمتّجه ما ذكره الشيخ قدس‌سره في العدّة من ابتناء المسألة على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة أو الحظر أو التوقّف ، حيث قال : وأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يتضمّن الحظر والآخر الإباحة ، والأخذ بما يقتضي الحظر أو الإباحة ، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف ؛ لأنّ الحظر والإباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع ، ولا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا التوقّف فيهما جميعا ، أو يكون الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٢٣) ، انتهى.

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الأخذ بما فيه (*) الاحتياط من الخبرين ، وإرجاع ما ذكروه من الدليل إلى ذلك ، فالاحتياط وإن لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ، إلّا أنّه يجب الترجيح به عند تعارض الخبرين (**).

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «بما فيه الاحتياط» : بما وافق الاحتياط.

(**) فى بعض النسخ : بدل «تعارض الخبرين» : التعارض.

وما ذكره الشيخ قدس‌سره إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ، لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بالأحوط من الخبرين ، مع أنّ ما ذكره من استفادة الحظر أو الإباحة من الشرع لا ينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع على أصالة الإباحة ، مثل قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي" ، أو على أصالة الحظر مثل قوله : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ، مع أنّ مقتضى التوقّف على ما اختاره لمّا كان وجوب الكفّ عن الفعل ـ على ما صرّح به هو وغيره ـ كان اللازم بناء على التوقّف العمل بما يقتضيه الحظر. ولو ادّعي ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقّف من الحظر جرى مثله على القول بأصالة الحظر.

ثمّ إنّه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقديم المقرّر على الناقل ـ وإن حكي عن الأكثر تقديم الناقل ـ وبين عدم ظهور الخلاف في تقديم الحاظر على المبيح. ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاولى بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه (٣٠١٢) ؛ ولذا رجّح بعضهم الوجوب على الإباحة والندب لأجل الاحتياط.

______________________________________________________

وفيه : مع ما عرفت من منع الأولويّة ، أنّ قاعدة التأسيس إنّما تفيد تقديم المقرّر دون الناقل ، إذ تقديم المقرّر يستلزم تقديم الناقل عليه ، فيكون الناقل واردا على خلاف الأصل ، والمقرّر على خلاف ما يستفاد من الناقل ، فيقع كلّ في موضع الحاجة ، بخلاف ما لو قيل بترجيح الناقل ، لأنّه يستلزم ورود المقرّر على وفق الأصل ، وهو تأكيد على ما عرفت في تقرير حجّة القائل بتقديم المقرّر.

وثالثها : ما ذكره في المعالم أيضا من أنّ العمل بالناقل يقتضي تقليل النسخ ، لأنّه يزيل حكم العقل فقط ، بخلاف المقرّر ، فإنّه يوجب تكثيره ، لإزالته حكم الناقل بعد إزالة الناقل حكم العقل.

وفيه : مع ما في كون رفع حكم العقل نسخا ، أنّه لا يتمّ في أخبار الأئمة عليهم‌السلام ، لعدم النسخ فيها ، فيختصّ بأخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ إنّ أدلّة سائر الأقوال ضعيفة جدّا ، فلا حاجة إلى ذكرها بعد ما قرّرناه وحرّرناه.

٣٠١٢. أي : بين الوجوب وغير الحرمة ، فلا يشمل مورد دوران الأمر بين

لكن فيه ـ مع جريان بعض أدلّة تقديم الحظر فيها ـ إطلاق كلامهم فيها وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم ؛ ولذا اختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين (٢٤) تقديم الإباحة على الحظر ؛ لرجوعه إلى تقديم المقرّر على الناقل الذي اختاره في تلك المسألة.

هذا ، مع أنّ الاتّفاق على تقديم الحظر غير ثابت وإن ادّعاه بعضهم. والتحقيق هو ذهاب الأكثر ، وقد ذهبوا إلى تقديم الناقل أيضا في المسألة الاولى ، بل حكي عن بعضهم تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل.

ومن جملة هذه المرجّحات : تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما. واستدلّوا عليه بما ذكرناه مفصّلا في مسائل أصالة البراءة عند تعارض احتمالي الوجوب والتحريم.

والحقّ هنا : التخيير وإن لم نقل به في الاحتمالين ؛ لأنّ المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار على وجه لا يرتاب فيه هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ، خصوصا مع عدم التمكّن من الرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، الذي يحمل عليه أخبار التوقّف والإرجاء ، بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام أيضا بعد الترجيح بموافقة الأصل لم يبق لها مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير عليه ، كما لا يخفى على المتأمّل الدقيق.

فالمعتمد وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران من حيث القوّة ولم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيّته إلى الواقع ، ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاث الأخيرة الراجعة إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين مع قطع النظر عن كونه مدلولا له ؛ لحكومة أخبار التخيير على جميعها ، وإن قلنا بها في تكافؤ الاحتمالين. نعم ، يجب الرجوع إليها في تعارض غير الخبرين (٣٠١٣)

______________________________________________________

الوجوب والحرمة ، لدخوله في الأمثلة الآتية دون مسألة المقرّر والناقل.

٣٠١٣. اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار هنا إلى تعارض غير الخبرين من الأدلّة

.................................................................................................

______________________________________________________

الظنّية عموما ، وإلى تعارض الإجماعين المنقولين خصوصا ، وكذا إلى تعارض الإجماع المنقول مع خبر الواحد ، فلا بدّ في تحقيق المقام من إيراد الكلام في مقامات.

المقام الأوّل : في بيان تعارض ما عدا الخبر الواحد والإجماع من الأدلّة الظنّية ، كالشهرة ونحوها بناء على القول باعتبارها. فإن قلنا باعتبارها من باب الظنون الخاصّة ، فالحقّ عند تعارضها هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول ، لأنّه الأصل عند تعارض ما هو معتبر من باب الطريقيّة كما تقدّم سابقا. اللهمّ إلّا أن يثبت الإجماع على إجراء أحكام تعارض الخبرين فيها. وإن قلنا باعتبارها من باب الظنون المطلقة ، فلا سبيل إلى فرض التعارض بينها حينئذ ، لأنّ المتعارضين منها إن لم يفد شيء منهما للظنّ لأجل التعارض يسقطان عن درجة الاعتبار ، وإلّا كانت الحجّة ما أفاد الظنّ منهما دون الآخر.

المقام الثاني : في بيان تعارض الإجماعات. والكلام فيه تارة في إمكانه ، واخرى في حكمه.

أمّا الأوّل فالأولى إيراد الكلام فيه على حسب اختلافهم في طريق إثبات الإجماع ، فنقول : أمّا على طريقة القدماء فيمكن فرض تحقّق إجماعين متعارضين في واقعة واحدة وفي زمان واحد ، لأنّ الإجماع عندهم عبارة عن اتّفاق جماعة يدخل قول الإمام عليه‌السلام في جملة أقوالهم ، ويمكن اتّفاق فريق على حكم وفريق آخر على نقيضه ، ويدخل قول الإمام عليه‌السلام في أقوال كلّ من الفريقين ، لكن في أحدهما من باب الرضا بما اتّفقوا عليه ، وفي الآخر من باب التقيّة أو غيرها من المصالح ، لعدم اشتراطهم في دخول قوله في جملة أقوالهم كونه من باب الرضا.

وهذا مع اختلاف الزمانين واضح. وأمّا مع اتّحاده فيمكن فرضه في زمان الحضور ، بأن يدخل قول أحد الحسنين عليهما‌السلام في أقوال أحد الفريقين ، وقول الآخر ، في أقوال الآخر ، لأنّه وإن لم يجز وجود إمامين في زمان واحد ، إلّا أنّ الأئمّة عليهم‌السلام معصومون قبل إمامتهم ، فيكفي دخول أحدهم ولو قبل إمامته في انعقاد الإجماع ،

.................................................................................................

______________________________________________________

فيكون تعارض الإجماعين كتعارض الآيتين أو الخبرين القطعيّين. وربّما يكون أحدهما عامّا والآخر خاصّا ، وربّما تباينا كلّيا.

وأمّا على طريقة الشيخ ، فلا يمكن تعارض الإجماعين على طريقته ، لأنّ الإجماع عنده مبنيّ على طريقة اللطف وإظهار الحقّ ، ومع تعارضهما يكون الحقّ بينهما مختفيا.

وأمّا على طريقة المتأخّرين المبنيّة على الحدس ، فلا بدّ حينئذ من تشخيص مرادهم ، لأنّهم إن أرادوا حصول الحدس من تتبّع الفتاوي برضا المعصوم عليه‌السلام ، فلا يعقل انعقاد الإجماع على طرفي المسألة ، لعدم إمكان رضاه بطرفي النقيض في الحكم. وإن أرادوا حصول الحدس بقول المعصوم عليه‌السلام على طبق فتاوي العلماء ، فيمكن تحقّقهما وتعارضهما ، كتعارض الخبرين القطعيّين. وإن أرادوا حصول الحدس بوجود دليل ظنّي قد وصل إلى العلماء على طبق فتاواهم ، فإمكان التعارض أوضح.

وإن أرادوا حصول الحدس بوجود أصل من عموم كتاب أو سنّة ، فإمكان تعارضه أيضا أوضح ، فيكون الإجماع حينئذ بمنزلة عامّ يجوز تخصيصه بدليل آخر ، أو إجماع آخر إن كان خاصّا.

وأمّا الثاني ، فاعلم أنّه حيث تعارض إجماعان ، فإن أمكن الجمع بينهما بحسب الدلالة فهو ، وإلّا فالحقّ عدم جريان شيء من المرجّحات فيهما ، لا من حيث الصدور ولا من حيث وجه الصدور ولا من حيث المضمون ، لأنّ الترجيح كالحجّية على خلاف الأصل فيقتصر على مورد ثبوته ، وهو الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام على طريق الحسّ دون الحدس ، لأنّها المتيقّنة من أخبار الترجيح ، وكذا من أخبار التخيير ، فلا يشمل المقام شيء من أخبارهما ، وإن كان الإخبار عن الإجماع إخبارا عن المعصوم عليه‌السلام ، إذ لا عموم فيها ، لأنّ التعليل الوارد في أخبار الترجيح بمثل قولهم : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» أو ما يقرب منه لا يشمل المقام ،

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّ المتيقّن منه عمومه على حسب مورده ، وهو الإخبار عن حسّ ، ولذا لا يتعدّى من تعارض الخبرين إلى تعارض الاحتمالين ، بأن تعارض احتمالان أحدهما مشهور أو مخالف للعامّة ، مع جريان عموم التعليل المذكور ـ وكذا قوله عليه‌السلام : «فإنّ الرشد في خلافهم» ـ فيه أيضا. ومنه يظهر ضعف ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من التعدية إلى تعارض الإجماعين ، بل إلى تعارض كلّ ظنّيين كان اعتبارهما من باب الظنون الخاصّة.

نعم ، لو قلنا بكون اعتبار المرجّحات ثمّ التخيير من باب الأصل ، إمّا لأجل بناء العقلاء على ذلك في أخبارهم العرفيّة ، وإمّا لأجل أنّ المستفاد من الأخبار ـ بتنقيح المناط ـ كون المدار في الترجيح على تعارض دليلين مطلقا من دون مدخليّة المورد ، مؤيّدا بعموم التعليل ، أمكن إعمال المرجّحات في المتعارضين من الإجماعات المنقولة أيضا.

نعم ، لا بدّ أن يستثنى من ذلك الترجيح بوجه الصدور ، لانتفاء الخوف والتقيّة في دعوى الإجماع في الكتب الاستدلاليّة. وكذا الترجيح بالأعدليّة والأورعيّة ، لعلمنا بصدق المدّعين للإجماع من أرباب التصانيف من العلماء. فلا بدّ أن يلاحظ سائر المرجّحات الداخلة ، مثل كون أحد المدّعيين أضبط من الآخر ، أو أقلّ خطأ في حدسه ، أو كون مدّعي أحدهما أكثر عددا من الآخر ، أو نحو ذلك. أو الخارجة ، مثل كون أحد الإجماعين موافقا للشهرة دون الآخر ، أو لعمل الناس ، أو كان أحد المدّعيين مدّعيا لإجماع أهل العلم والآخر لإجماع الإماميّة خاصّة ، إذ لا شكّ أنّ الأوّل أقوى. اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ كثرة وقوع البدع والضلال بين العامّة يوهن الأوّل ، فيكون الثاني أقوى ، فتأمّل. ومثل دعوى إجماع كلّ من الاصوليّين والأخباريّين ، ودعوى إجماع الاصوليّين خاصّة. وربّما يقال بكون دخول الأخباريّين في المجمعين موهنا له ، لكثرة خطائهم في المسائل العلميّة. ومثل عدم وجود خلاف في زمان دعوى أحدهما ووجوده في زمان دعوى الآخر ، أو

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم حدوث الخلاف بعد دعوى أحدهما وحدوثه بعد الآخر. ومثل كون أحد المدّعيّين من حذقة الفنّ دون الآخر. ومثل دعوى أحدهما انحصار القول في المسألة في قولين ، ودعوى الآخر انحصاره في الثلاثة مثلا فيما يدّعي فيه الإجماع المركّب ، والثاني أقوى ، لكون المثبت مقدّما على النافي في أمثال المقام.

وبالجملة ، لا بدّ من ملاحظة أمثال ما ذكر في ترجيح أحد الإجماعين المتعارضين ، فتكثر الحاجة إلى ضبط أمثال ما ذكرناه ، لعظم نفعها في الفروع.

المقام الثالث : في تعارض الإجماع المنقول مع خبر الواحد. وقد حكي عن الشهيد الثاني تقديم الإجماع ، لكونه عالي السند ، بخلاف الخبر. والحقّ تقديم الخبر عليه.

وعلّله في محكيّ الإشارات بكون خبر الواحد أقوى اعتبارا من الإجماع المنقول ، لكون اعتبار الأوّل متيقّنا ، بخلاف الثاني ، لأنّ اعتباره مظنون مستند إلى ظواهر الأدلّة مثل آية النبأ ونحوها ، وأدلّة خبر الواحد لا تنحصر فيها. ولأنّ كلّ من قال باعتبار الثاني قال باعتبار الأوّل أيضا من دون عكس ، فيكون اعتباره متيقّنا بالنسبة إليه.

وفيه نظر ، لأنّ الكلام في الترجيحات إنّما هو بعد الفراغ من اعتبار المتعارضين ، واعتبار كلّ دليل وحجّيته لا بدّ أن ينتهي إلى العلم دون الظنّ. وآية النبأ على تقدير شمولها للإجماع المنقول وإن كانت ظنّية بحسب الدلالة ، إلّا أنّها قطعيّة بحسب الاعتبار. مع أنّ الثابت من الأدلّة في ترجيح أحد المتعارضين على الآخر كونه أقرب إلى الواقع من حيث الصدور أو وجه الصدور أو من حيث المضمون ، وأمّا القرب إلى الواقع من حيث الاعتبار فلم يثبت الترجيح به من الأدلّة ، كما يظهر ممّا قدّمناه في إثبات وجوه الترجيح ، ولذا حصرها العلماء في هذه الثلاثة مع إضافة قوّة الدلالة ، ولم يتعرّض أحد منهم لاعتبار الترجيح من حيث قوّة الاعتبار ، وكيف لا ولو صحّ ذلك انفتح باب آخر للترجيح ، لاختلاف

.................................................................................................

______________________________________________________

مراتب اعتبار الأدلّة قوّة وضعفا ، وهو خلاف طريقتهم في الفقه.

والأولى أن يقال : إنّ الإجماع وإن كان عالي السند إلّا أنّ اعتباره مبنيّ على الحدس عن موافقة رضا المعصوم عليه‌السلام لفتاوى المجمعين ، والحدس ممّا يكثر الخطأ فيه ، بخلاف الخبر ، فإنّه مبنيّ على الحسّ من سماع الخبر من المعصوم عليه‌السلام أو من الوسائط إلى أن ينتهي إليه. والإجماعات المدّعاة في كتب المتأخّرين مبنيّة على الحدس ، بل وفي كتب القدماء أيضا ، لأنّها أيضا مبنيّة على الحدس عن دخول قول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوالهم. نعم ، لو فرض تحقّق الإجماع في زمان حضور المعصوم عليه‌السلام أمكن كون دعواه مبنيّة على الحسّ ، ولكنّي لم أطّلع على مثله في الإجماعات المدّعاة في كتب العلماء قديما وحديثا.

ثمّ إنّ الكلام هنا وفي المقام الثاني مبنيّ على القول باعتبار الإجماع المنقول من باب الظنون الخاصّة ، وإلّا فعلى القول باعتباره من باب الظنون المطلقة لا سبيل إلى فرض التعارض بينه وبين غيره من سنخه أو غيره ، كما عرفته في المقام الأوّل.

ثمّ إنّه ليس في الأدلّة الظنّية ما يمكن القول باعتباره من باب الظنون الخاصّة سوى خبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة. أمّا الأوّلان فواضحان. وأمّا الثالث فقد قيل باعتباره من باب الظنون الخاصّة ، لأجل التعليل في قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ، واترك الشاذّ النادر ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه». لكنّه ضعيف جدّا كما قرّرناه في محلّه. وأمّا مثل الغلبة والاستقراء والعادة فلم يظهر قول باعتبارها من باب الظنون الخاصّة من أحد ، وعلى تقديره تظهر الحال فيها أيضا ممّا قدّمناه في المقام الأوّل.

المقام الرابع : في تعارض القطعيّات. والكلام فيها تارة في الكتاب والسنّة النبويّة ، واخرى في الأخبار الإماميّة.

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا الأوّل ، فاعلم أنّه مع تعارض خبرين نبويّين قطعيّين لا تأتي فيهما المرجّحات السنديّة بعد فرض قطعيّتهما ، ولا مرجّحات وجه الصدور ، لانتفاء التقيّة في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا المرجّحات المضمونيّة ، لعدم الدليل على اعتبارها في القطعيّات ، لاختصاص أدلّتها بالأخبار الظنّية ، لأنّ عمدة أدلّتها أخبار الترجيح المختصّة بها ، مضافا إلى الإجماع عليه ظاهرا ، ولذا لم يلاحظها أحد في تعارض الآيتين أيضا. فينحصر الترجيح في الكتاب والسنّة في الدلالة ، فإن أمكن الترجيح بها وإلّا تعيّن التخيير بين المتعارضين منهما من باب العقل دون الشرع ، لاختصاص أخباره بالأخبار الظّنية.

ثمّ إنّ هذا إنّما هو فيما قطع النظر عن كون الآيتين أو الخبرين النبويّين معلومي الصدور ، وإلّا يحكم بكون المتأخّر منهما ناسخا للمتقدّم إن كان واردا بعد حضور وقت العمل به ، وإلّا فلا يحكم بالنسخ مطلقا حتّى مع الشكّ في تحقّق هذا الشرط ، لقلّة وجود النسخ ، والظنّ يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

وأمّا الثاني ، فاعلم أنّه لا سبيل إلى احتمال النسخ هنا ، لانتفائه في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام. لكن ليعلم أنّ التعارض بين الخبرين كما تقدّم سابقا إمّا بالعموم والخصوص مطلقا ، أو من وجه ، أو بالتباين مطلقا ، وإن كان تباينهما لأجل نصوصيّتهما في الشمول لمحلّ التعارض فيما كانت النسبة بينهما عموما مطلقا ، بأن كان العامّ في الشمول لمحلّ التعارض غير قاصر عن الخاصّ.

فعلى الأوّل يحمل العامّ على الخاصّ. وكذا على الثاني إن كان أحد العامّين أظهر من الآخر ، بأن كان أقلّ أفرادا منه أو نحو ذلك. وإن تساويا في الظهور ، فإن قلنا بإجمالهما في مادّة الاجتماع والرجوع إلى مقتضى الاصول فهو ، وإلّا فهما في حكم المتباينين ، وحكمهما أنّه مع موافقة أحدهما للعامّة يحمل على التقيّة ويعمل بالمخالف ، وإلّا يحكم بالتخيير بينهما عقلا لا شرعا ، لما عرفت من اختصاص أخباره بالظنّيات. ولا يجوز الرجوع إلى الاصول حينئذ ، لعدم جريانها مع وجود

.................................................................................................

______________________________________________________

الأدلّة لا موافقا ولا مخالفا ، ولا إلى المرجّحات السنديّة ، لفرض قطعيّتهما ، ولا إلى المرجّحات المضمونيّة ، لما عرفت من عدم تأتّيها في القطعيّات ، فينحصر الأمر في المقام في ملاحظة وجه الصدور ثمّ التخيير عقلا لا شرعا.

المقام الخامس : في تعارض الأدلّة العقليّة. فاعلم أنّ حكم العقل إمّا تنجيزيّ أو تعليقي. وعلى الأوّل إمّا أن يكون قطعيّا أو ظنيّا. وعلى هذين : إمّا أن تكون الاستفادة والمستفاد أصليّين ، كحسن الإحسان وقبح العدوان ، لأنّ كلّا من حكم العقل والمحكوم به ـ أعني : استحباب الإحسان وحرمة العدوان ـ أصليّ. وإمّا أن يكونا تبعيّين كوجوب المقدّمة ، لأنّ كلّا من حكم العقل به ونفس الوجوب بتبعيّة وجوب ذيها ، ولأجل التوصّل إلى الإتيان به. ومثله الحكم بحرمة فعل بواسطة حرمة ضدّه.

وإمّا أن تكون الاستفادة تبعيّة والمستفاد أصليّا ، مثل النظر إلى الأجنبيّة في المرآة ، لأنّ الحكم بالحرمة ـ على القول بها ـ إنّما هو بتبعيّة حكم الشارع بحرمة أصل النظر ، لكنّ المحكوم به ـ أعني : الحرمة ـ أمر مستقلّ أصليّ. ومثل استفادة أقلّ الحمل من الآيتين ، لأنّه مستفاد من بيان تعب الأمّ في الحمل والفصال في قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ومن بيان أكثر مدّة الفصال في قوله سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) لكن كون أقلّ الحمل ستّة أشهر أمر مستقلّ أصلي. ومثل الأولويّة الظنّية ، لأنّ حكم الفرع مستفاد بواسطة حكم الأصل وإن كان حكم الفرع أصليّا.

وأمّا صورة العكس ، أعني : كون الاستفادة أصليّة والمستفاد تبعيّا ، فلم يوجد لها مثال في العقليات. نعم ، له مثال في الشرعيّات ، كما إذا حكم الشارع بوجوب مقدّمة من مقدّمات الواجب ، كتحصيل الماء للوضوء مثلا إذا أمر الشارع به ، لأنّ استفادة الحكم من خطاب الشرع أصليّة ، وليست بتبعيّة شيء آخر ، لكنّ الحكم ـ أعني : الوجوب ـ تبعيّ ، لأنّ وجوب المقدّمة لأجل وجوب ذيها.

.................................................................................................

______________________________________________________

فأمّا إذا كان حكم العقل قطعيّا ، سواء كانت الاستفادة والمستفاد أصليّين أم تبعيّين أم بالاختلاف ، فلا يجوز معارضته مع سنخه ولا غيره ، بل كلّ دليل يخالفه يكون مطروحا. فأمّا عدم معارضته مع سنخه فلعدم تعقّل حكم العقل منجّزا بطرفي النقيض. وأمّا مع غيره ، فإنّه على تقدير جواز التعارض ، لا بدّ أن تجري عليه أحكام التعارض ، من جواز تخصيص أحدهما بالآخر إذا كان خاصّا أو الحكم بالإجمال في مادّة التعارض في وجه إذا كان بينهما عموم من وجه ، وملاحظة الترجيح مع تباينهما ، وشيء منها لا يجري في الأحكام العقليّة القطعيّة المنجّزة ، لأنّ الحكم العقلي نصّ في مورده ، سواء كان عامّا أو خاصّا فلا يسري إليه احتمال التخصيص أو الإجمال أو الترجيح.

نعم ، إذا كانت استفادة العقل تبعيّة ترتفع هذه الاستفادة بارتفاع المستفاد منه ، كما إذا قام الدليل على عدم وجوب ذي المقدّمة ، فيسقط العقل حينئذ عن الحكم بوجوب المقدّمة ، لكنّه ليس من باب التعارض ، لارتفاع موضوع حكمه حينئذ.

وممّا ذكرناه يظهر الكلام فيما كان حكم العقل ظنّيا أيضا ، لأنّه وإن فرض كونه ظنّيا إلّا أنّ شموله لمورده على وجه النصوصيّة دون الظهور ، فلا يتأتّى فيه الترجيح أيضا كما هو واضح.

وأمّا إذا كان حكمه تعليقيّا ، مثل حكمه بالبراءة عن التكليف عند عدم البيان الشرعيّ ، فلا يجوز معارضته مع غيره من الأدلّة ، لأنّ حكمه معلّق على عدم البيان بالفرض ، والدليل الشرعيّ بيان له ، فيرتفع موضوع حكمه حينئذ ، وهذا ليس من باب الترجيح أيضا.

المقام السادس : في بيان تعارض الاصول. فاعلم أنّه لا يجوز تعارضها مع سنخها على القول باعتبارها من باب التعبّد ، وقد تقدّم الكلام فيه مشبعا في

.................................................................................................

______________________________________________________

مبحث الاستصحاب. وأمّا على القول باعتبارها من باب الظنّ النوعي ، فيصحّ معارضتها حينئذ. ولعلّه على هذا يبتنى ملاحظتهم التعارض بينها والترجيح بالمرجّحات الداخلة ، كالكثرة من جانب دون آخر ، حتّى قد أفرط بعضهم فرجّح الاصول الظنّية بالاعتضاد بالاصول التعبّدية. وفيه ما لا يخفى. وكذا الخارجة ، مثل موافقة الشهرة ، حتّى أفرط بعضهم فرجّح بموافقة القياس. وقد تقدّم ضعفه أيضا سابقا. وأمّا تعارضها مع غيرها من الأدلّة الاجتهاديّة كخبر الواحد ونحوه فلا ، سواء قلنا باعتبارها من باب التعبّد أو الظنّ ، لحكومتها عليها. أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني ، فإنّ الاصول إنّما تفيد الظنّ في مورد الشكّ ، والأدلّة رافعة للشكّ المأخوذ في موضوعها.

وقد فصّل بعضهم بأنّا إن قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار فخبر الواحد مقدّم عليه ، وإن قلنا باعتباره لا من باب الأخبار بل من باب التعبّد أو الظنّ ففي تقديم الخبر عليه نظر. وهو كما ترى ، لما عرفت من حكومة الأدلّة على الاصول مطلقا.

هذا كلّه في تعارض الاصول الجارية في نفس الأحكام الكلّية. وأمّا تعارضها مع سنخها في الموضوعات الخارجة ـ كتعارض الاستصحابين ـ فهو كما تقدّم. وأمّا تعارض الأصل والظاهر ، فربّما يقدّم الأصل ، وربّما يعكس ، نظرا إلى عموم حجّية ظنّ المجتهد ، فالأصل تقديم الظاهر حتّى يقوم دليل على تقديم الأصل كما يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله. وفيه : أنّ ظنّ المجتهد من حيث هو ليس موضوعا في الكتاب والسنّة حتّى يؤخذ بعمومه أو إطلاقه ، بل الدليل على اعتباره هو الإجماع على اعتباره في الجملة ، وإن اختلفوا في أنّ المعتبر ظنونه الخاصّة أو مطلق ظنونه ، لكن معقد هذا الإجماع إنّما هو الظنّ المتعلّق بالأحكام الكلّية دون موضوعاتها ، فلا دليل على اعتباره فيها على الإطلاق. وحينئذ نقول : إنّه مع تعارض الأصل والظاهر ، فإن قام الدليل على اعتبار الظاهر يقدّم عليه بلا إشكال ، وإلّا يقدّم الأصل عليه كذلك.

من الأدلّة الظنيّة إذا قلنا بحجّيتها من حيث الطريقيّة المستلزمة للتوقّف عند التعارض ، لكن ليس هذا من الترجيح في شيء.

نعم ، لو قيل بالتخيير في تعارضها من باب تنقيح المناط كان حكمها حكم الخبرين. لكن فيه تأمّل ، كما في إجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار ، وإن كان الظاهر من بعضهم (٢٥) عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين من الترجيح فيها بأقسام المرجّحات مستظهرا عدم الخلاف في ذلك. فإن ثبت الإجماع على ذلك أو أجرينا ذلك في الإجماع المنقول من حيث إنّه خبر فيشمله حكمه فهو ، وإلّا ففيه تأمّل.

لكنّ التكلّم في ذلك قليل الفائدة ؛ لأنّ الطرق الظنيّة غير الخبر ليس فيها ما يصحّ للفقيه دعوى حجّيته من حيث إنّه ظنّ مخصوص ، سوى الإجماع المنقول بخبر الواحد ، فإن قيل بحجّيتها فإنّما هي من باب مطلق الظنّ ، ولا ريب أنّ المرجع (*) في تعارض الأمارات المعتبرة على هذا الوجه إلى تساقط المتعارضين إن ارتفع الظنّ من كليهما أو سقوط أحدهما عن الحجّية وبقاء الآخر بلا معارض إن ارتفع الظنّ عنه.

وأمّا الإجماع المنقول ، فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور أو النصوصيّة جار فيه لا محالة وأمّا الترجيح من حيث الصدور أو جهة الصدور ، فالظاهر أنّه كذلك ـ وإن قلنا بخروجه عن الخبر عرفا ، فلا يشمله أخبار علاج تعارض الأخبار وإن شمله لفظ" النبأ" في آية النبأ ـ لعموم التعليل المستفاد من قوله عليه‌السلام : " فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه" وقوله عليه‌السلام : " لأنّ الرشد في خلافهم" ؛ فإنّ خصوص المورد لا يخصّصه.

______________________________________________________

نعم ، ربّما يقدّم الظاهر عليه في بعض الموارد التي ثبت بناء العرف والعادة فيها على التقديم ، كما إذا تخلّى الزوج مع زوجته برهة من الزمان ، ثمّ ادّعت الزوجة الدخول وأنكره الزوج ، فيقدّم قولها وإن كان مخالفا للأصل. ولعلّ السرّ فيه قوّة ظهور الظاهر في أمثال المقام بحسب قرائن المقام ، حتّى إنّه ينزّل منزلة العلم.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «المرجع» : الوجه.

ومن هنا يصحّ إجراء جميع التراجيح المقرّرة في الخبرين في الإجماعين المنقولين ، بل غيرهما من الأمارات التي يفرض حجّيتها من باب الظنّ الخاصّ.

وممّا ذكرنا يظهر حال الخبر (*) مع الإجماع المنقول أو غيره من الظنون الخاصّة لو وجد.

والحمد لله على ما تيسّر لنا من تحرير ما استفدناه بالفهم القاصر من الأخبار وكلمات علمائنا الأبرار في باب التراجيح. رجّح الله ما نرجو التوفيق له من الحسنات على ما مضى من السيّئات ، بجاه محمّد وآله السادة السادات ، عليهم أفضل الصلوات وأكمل التحيّات ، وعلى أعدائهم أشدّ اللعنات (**) وأسوأ العقوبات ، آمين آمين آمين ، يا ربّ العالمين.

______________________________________________________

وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في باب التراجيح ، رجّح الله حسناتنا في ميزان المحاسبة على ما فارقناه من سيّئاتنا ، ولقّانا حجّتنا عند السؤال عمّا اغترفناه من خطيئاتنا ، وأثبت ما كتبناه في هذه الأوراق في صحائف حسناتنا ، وأقامنا بها في مزالّ أقدامنا ، بحقّ محمّد نبيّنا وعترته أئمّتنا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق في دار السلطنة تبريز في الليلة الثالثة من شهر جمادى الثانية ، من شهور سنة خمس وتسعين بعد ألف ومأتين قد مضين من الهجرة المصطفويّة على هاجرها آلاف سلام وتحيّة ، بيد مصنّفه قليل البضاعة كثير الإضاعة موسى بن جعفر بن أحمد التبريزي ، أعطى الله صحائف حسناتهم بيمناهم يوم عقباهم بحقّ محمّد وآله الأطهار. سنة ١٢٩٥.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «حال الخبر» : الحال.

(**) فى بعض النسخ بدل «اللعنات» : العتاب.

المصادر

(١) عدّة الاصول ، ج ١ : ص ١٥٤.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٩٨.

(٣) القوانين ، ج ٢ : ص ٢٨٥ ؛ المفاتيح :

ص ٦٩٩.

(٤) مبادي الوصول ، ص ٢٣٦.

(٥) زبدة الاصول ، ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٦) عدّة الاصول ، ج ١ : ص ١٤٧.

(٧) المعارج ، ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٨) الوسائل ، ١٨ : ٨٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٤.

(٩) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

(١٠) الوسائل ، ج ١٨ : ص ٨٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(١١) الوسائل ، ج ١٥ : ص ٤٩٢ ، الباب ٣ من أبواب الخلع ، الحديث ٧.

(١٢) الوسائل ، ج ١٨ : ص ٨٥ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٢.

(١٣) المعالم ، ص ٢٥٦.

(١٤) الفوائد الحائريّة ، ص ٣٥٥.

(١٥) الحدائق الناضرة ، ج ١ : ص ٥ ـ ٨.

(١٦) الوسائل ، ج ٤ : ص ٧٥ ، الباب ١٣ من أبواب القراءة ، الحديث ٣.

(١٧) مبادي الوصول ، ص ٢٣٢ ؛ مفاتيح الاصول ، ص ٦٨٦.

(١٨) المعارج الاصول ، ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

(١٩) المعارج الاصول ، ص ١٥٤.

(٢٠) مفاتيح الاصول ، ص ٧٠٨.

(٢١) مفاتيح الاصول ، ص ٧٠٧.

(٢٢) مفاتيح الاصول ، ص ٧٠٨.

(٢٣) عدّة الاصول ، ج ١ : ص ١٥٢.

(٢٤) مفاتيح الاصول ، ص ٧٠٩.

(٢٥) مفاتيح الاصول ، ص ٧١٩.

فهرس الموضوعات

في قاعدة الفراغ والتجاوز......................................................... ٩

المصادر...................................................................... ٧١

في اصالة الصحّة في فعل الغير................................................... ٧٣

في تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول....................................... ١٥٩

في تعارض الاستصحابين...................................................... ١٧١

المصادر..................................................................... ٢٠٠

في التعادل والتراجيح.......................................................... ٢٠٣

في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح...................................... ٢٢٧

في المتكافئين................................................................. ٢٥٩

المصادر..................................................................... ٢٩١

المقام الثاني : في التراجيح...................................................... ٢٩٣

في الأخبار العلاجية.......................................................... ٣٠٩

في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة................................. ٣٢٣

في بيان المرجّحات............................................................ ٣٣٥

في المرجّحات الداخلية........................................................ ٣٣٧

في المرجّحات الدلالية......................................................... ٣٤٧

المصادر..................................................................... ٤٠١

في المرجّحات السندية......................................................... ٤٠٣

في المرجّحات المتنية........................................................... ٤٠٨

في الترجيح بمخالفة العامّة..................................................... ٤١١

في المرجّحات الخارجية........................................................ ٤٣٣

في الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة.............................................. ٤٣٩

في الترجيح بموافقة الأصل...................................................... ٤٤٩

المصادر..................................................................... ٤٦٧

فهرس العناوين............................................................... ٤٦٨

فهرس مصادر التحقيق........................................................ ٤٦٩

مصادر التحقيق

١. القرآن الكريم.

٢. الاحتجاج ، احمد بن على الطبرسى ، نشر المرتضى ، قم.

٣. إكمال الدين ، الشيخ الصدوق ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

٤. أمالي الطوسي ، الشيخ الطوسى ، دار الثقافة ، ١٤١٤ ه‍.

٥. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد ، محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي الملقب ب" فخر المحققين" ، مؤسسة مطبوعات إسماعيليان ، قم ، ١٣٨٧ ه‍.

٦. بحار الأنوار ، محمد باقر بن محمد تقي المجلسي ، المكتبة الإسلامية ، طهران.

٧. تحرير الأحكام ، العلامة الحلّي ، (الطبعة الحجرية) مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم.

٨. تحف العقول ، الحسن بن على بن الحسين بن شعبة الحرانى ، مؤسسة النشر الاسلامى ، قم.

٩. تذكرة الفقهاء ، العلامة الحلّي ، (الطبعة الحجرية) ، المكتبة المرتضوية ، قم ؛ (الطبعة الحديثة) ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، ١٤١٤ ه‍.

١٠. تهذيب الأحكام في شرح المقنعة ، الشيخ الطوسي ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، ١٣٦٥ ش.

١١. تهذيب الوصول ، العلامة الحلّي ، الطبعة الحجرية ، ١٣٠٨ ق.

١٢. ثواب الأعمال ، الشيخ الصدوق ، منشورات الشريف الرضي ، ١٣٦٨ ش.

١٣. جامع المقاصد في شرح القواعد ، علي بن الحسين الكركي المعروف ب" المحقق الثاني" ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، ١٤٠٨ ه‍.

١٤. الجوامع الفقهية ، لجمع من الفقهاء ، (الطبعة الحجرية) مكتبة آية الله المرعشي ، ١٤٠٤ ه‍.

١٥. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ، محمد حسن النجفي ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، ١٣٦٥ ه‍ ش.

١٦. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ، الشيخ يوسف البحراني ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

١٧. الخصال [ـ كتاب الخصال] ، الشيخ الصدوق ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤٠٣ ه‍.

١٨. الدروس الشرعية في فقه الإمامية ، الشهيد الأول ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤١٤ ه‍.

١٩. الذريعة إلى اصول الشريعة ، السيد المرتضى ، جامعة طهران ، ١٣٦٣ ش.

٢٠. ذكرى الشيعة ، الشهيد الأول ، الطبعة الحجرية ؛ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، ١٤١٩ ق

٢١. الرسائل الاصولية ، الوحيد البهبهاني ، مؤسسة الوحيد البهبهاني ، ١٤١٦ ق.

٢٢. رسائل الشريف المرتضى ، السيد المرتضى ، دار القرآن الكريم ، قم ، ١٤٠٥ ق.

٢٣. الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، الشهيد الثاني ، مكتبة الداوري ، قم ، ١٤١٠ ه‍.

٢٤. رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل ، السيد علي الطباطبائي ، (الطبعة الحجرية) مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، (الطبعة الحديثة) مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة الاولى ، ١٤١٢.

٢٥. شرح مختصر الاصول ، عضد الدين الإيجي ، اسلامبول ، ١٣١٠ ق.

٢٦. صحاح اللغة ، اسماعيل بن حماد الجوهري ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ١٤٠٧ ه‍.

٢٧. ضوابط الاصول ، السيد ابراهيم القزويني ، تقريرات دروس شريف العلماء ، الطبعة الحجرية ، ١٢٧٥ ق.

٢٨. عدّة الاصول ، الشيخ الطوسي ، مطبعة ستاره ، قم ، ١٤١٧ ق.

٢٩. عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام ، أحمد بن محمد مهدي النراقي ، مكتب الإعلام الإسلامي ، ١٤١٧ ق.

٣٠. عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية ، ابن أبي جمهور الأحسائي ، مطبعة سيد الشهداء عليه‌السلام ، قم ، ١٤٠٣ ه‍.

٣١. الفصول الغروية ، الشيخ محمد حسين الأصفهاني ، الطبعة الحجرية ، دار إحياء العلوم الإسلامية.

٣٢. الفوائد الحائرية ، الوحيد البهبهاني ، مجمع الفكر الإسلامي ، ١٤١٥ ق.

٣٣. الفوائد المدنية ، محدث الأسترآبادي ، الطبعة الحجرية ، دار النشر لأهل البيت عليهم‌السلام ، ١٤٠٥ ق.

٣٤. القاموس المحيط ، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ، دار المعرفة ، بيروت.

٣٥. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام ، العلامة الحلّي ، (الطبعة الحجرية) الشريف الرضي ، قم ؛ (الطبعة الحديثة) ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤١٣ ق.

٣٦. الكافي ، الثقة الإسلام الكليني ، دار الكتب الإسلامية ، ١٣٨٨ ه‍.

٣٧. كنز العمال ، علاء الدين علي المتقي الهندي ، مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٩ ه‍.

٣٨. كنز الفوائد ، محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي ، دار الأضواء ، بيروت ، ١٤٠٥ ه‍.

٣٩. اللمعة الدمشقية ، الشهيد الأول ، دار الناصر ، قم ، ١٤٠٦ ه‍.

٤٠. المبسوط في فقه الإمامية ، الشيخ الطوسي ، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

٤١. مجمع البحرين ، فخر الدين الطريحي ، المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية ، ١٣٦٥ ش.

٤٢. مجمع البيان في تفسير القرآن ، الفضل بن الحسن الطبرسي ، مكتبة آية الله المرعشي ، قم ، ١٤٠٣ ق.

٤٣. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان ، أحمد بن محمد المقدس الأردبيلي ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤٠٢ ه‍.

٤٤. مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام ، الشهيد الثاني ، مؤسسة المعارف الإسلامية ، قم ، ١٤١٤ ه‍.

٤٥. مستدرك الوسائل ، الميرزا حسين النوري الطبرسي ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، ١٤٠٧ ه‍.

٤٦. المستصفى ، الغزالي ، منشورات الشريف الرضي ، قم ، ١٣٦٤ ش.

٤٧. معارج الاصول ، المحقق الحلّي ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، ١٤٠٣ ق.

٤٨. معالم الدين في الاصول ، الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤٠٦ ق.

٤٩. المعتبر في شرح المختصر ، المحقق الحلّي ، مؤسسة سيد الشهداء عليه‌السلام ، قم ، ١٣٦٤ ش.

٥٠. المغني ، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ، عالم الكتب ، بيروت.

٥١. مفاتيح الاصول ، السيد المجاهد ، الطبعة الحجرية ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث.

٥٢. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ، محمد جواد الحسيني العاملي ، (الطبعة الحجرية) ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم.

٥٣. مقابس الأنوار ، أسد الله التستري ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، الطبعة الحجرية ، قم.

٥٤. مناهج الأحكام والاصول ، الفاضل النراقي ، الطبعة الحجرية ، طهران.

٥٥. المناهل ، السيد محمد الطباطبائي ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم.

٥٦. نهاية الإحكام في معرفة الحلال والحرام ، العلامة الحلّي ، مؤسسة اسماعيليان ، ١٤١٠ ه‍.

٥٧. النهاية في غريب الحديث والأثر ، المبارك ابن الجزري المعروف ب «ابن الأثير» ، المكتبة العلمية ، بيروت.

٥٨. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى ، الشيخ الطوسي ، انتشارات قدس محمدي ، قم.

٥٩. النهاية ونكتها ، الشيخ الطوسي والمحقق الحلّي ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤١٢ ق.

٦٠. نهاية المرام ، السيد محمد العاملي ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤١٣ ق.

٦١. نهج الحق وكشف الصدق ، العلامة الحلّي ، مؤسسة دار الهجرة ، قم ، ١٤١٧ ق.

٦٢. الوافي ، محمد محسن الفيض الكاشاني ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام العامة في اصفهان ، ١٤٠٦ ه‍.

٦٣. الوافية في اصول الفقه ، الفاضل التوني ، مجمع الفكر الإسلامى ، ١٤١٢ ه‍.

٦٤. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، محمد بن الحسن الحر العاملي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ١٣٩١ ه‍ ؛ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم.

٦٥. الوسيلة إلى نيل الفضيلة ، محمد بن علي الطوسي المعروف ب" ابن حمزة" ، مكتبة آية الله المرعشي ، قم ، ١٤٠٨ ه‍.

٦٦. هداية المسترشدين ، الشيخ محمد تقي الأصفهاني ، الطبعة الحجرية ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث.

فرائد الأصول - ٦

المؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
الصفحات: 472
ISBN: 978-964-8536-63-8
  • في قاعدة الفراغ والتجاوز 9
  • المصادر 71
  • في اصالة الصحّة في فعل الغير 73
  • في تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول 159
  • في تعارض الاستصحابين 171
  • المصادر 200
  • في التعادل والتراجيح 203
  • في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح 227
  • في المتكافئين 259
  • المصادر 291
  • المقام الثاني : في التراجيح 293
  • في الأخبار العلاجية 309
  • في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة 323
  • في بيان المرجّحات 335
  • في المرجّحات الداخلية 337
  • في المرجّحات الدلالية 347
  • المصادر 401
  • في المرجّحات السندية 403
  • في المرجّحات المتنية 408
  • في الترجيح بمخالفة العامّة 411
  • في المرجّحات الخارجية 433
  • في الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة 439
  • في الترجيح بموافقة الأصل 449
  • المصادر 467
  • فهرس العناوين 468
  • فهرس مصادر التحقيق 469