

الشبهة الغير
المحصورة
المقام الثاني : في الشبهة الغير
المحصورة والمعروف فيها (١٥٦٠) عدم وجوب الاجتناب. ويدلّ عليه وجوه : الأوّل :
الإجماع الظاهر المصرّح به في الروض
وعن جامع المقاصد
، وادّعاه صريحا (١٥٦١) المحقّق البهبهاني في فوائده وزاد عليه نفي الريب فيه ،
وأنّ مدار المسلمين في الأعصار والأمصار عليه ، وتبعه في دعوى الإجماع غير واحد
ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة ،
______________________________________________________
١٥٦٠. الكلام هنا كالمحصورة تارة يقع في وجوب الموافقة القطعيّة
، واخرى في جواز المخالفة القطعيّة. وأشار إلى الأوّل هنا ، وإلى الثاني في
التنبيهات.
١٥٦١. ادّعاه في الفائدة الرابعة والعشرين من فوائده العتيقة ،
قال : «مع أنّ عدم وجوب الاجتناب من غير المحصور مجمع عليه بين الكلّ ، ولا ريب
فيه ، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان على ذلك ، وقد حقّقناه في موضع آخر»
انتهى. وعن حاشيته على المدارك دعوى الضرورة عليه ، قال : «مضافا إلى الإجماع ، بل
وضروري الدين في غير المحصور ، وطريقة المسلمين في الأعصار والأمصار» انتهى. وهو
كذلك في الجملة كما نقله المصنّف رحمهالله عن بعضهم ، إذ لا ريب في عدم وجوب الاجتناب فيما علم فيه
نجاسة شيء من أثوابه أو ثوب من أثواب رجال العالم ، وكذا فيما علم فيه نجاسة إنائه
أو حرمة شيء من أمواله أو نجاسة أحد أواني العالم أو حرمة شيء من أموالهم ، وهكذا.
وبالجملة فنقل
الإجماع مستفيض ، وهو كاف في المسألة (١٥٦٢).
الثاني : ما استدلّ به جماعة من لزوم
المشقّة في الاجتناب ولعلّ المراد به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد
المكلّفين ، فيشمله عموم قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، بناء على أنّ
المراد أنّ ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب فهو مرتفع عن جميع المكلّفين حتّى
من لا حرج بالنسبة إليه. وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر (١٥٦٣) ، إلّا أنّه
يتعيّن الحمل عليه بمعونة ما ورد من إناطة الأحكام الشرعيّة الكلّية وجودا وعدما
بالعسر واليسر الغالبين.
______________________________________________________
١٥٦٢. لما سيشير إليه من كون المسألة فرعيّة ، ولا إشكال فيه ،
لأنّا إن سلّمنا كون أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة اصوليّة ، فلا ريب في
كونها في الشبهات الموضوعيّة فرعيّة. وقد أشار إلى نظير ذلك في مسألة الاستصحاب ،
وقد حقّقنا الكلام في ذلك في محلّ آخر.
١٥٦٣. لأنّ ظاهر نفي العسر وتوجيه الخطاب في الآيات إلى كلّ واحد
من المكلّفين كون المنفي هو العسر الشخصي دون النوعي ، فيدور الحكم مدار تحقّق
العسر فعلا في حقّ كلّ مكلّف. وأمّا ما دلّ من إناطة الأحكام بالعسر واليسر
الغالبين فمنها قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) إذ لا ريب أنّ استلزام الصوم في السفر للعسر غالبي بالنسبة
إلى الحالات والأشخاص.
ومنها صحيحة
الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء.
فقال : لا بأس ما جعل عليكم في الدين من حرج». ومنها صحيحة أبي بصير ، عن أبي بصير
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الجنب يجعل الركوة أو التور فيدخل إصبعه
فيه. قال : إن كان يده قذرة فليهرقه ، و
وفي هذا الاستدلال نظر (١٥٦٤) ، لأنّ
أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات
______________________________________________________
إن كان لم يصبها
قذر فليغتسل منه ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). ومنها موثّقة أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام إنّا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر إلى جانب القرية
، فيكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبيّ ، وتبول فيه الدابّة وتروث. فقال : إن عرض
في قلبك شيء فافعل هكذا ، يعني : افرج الماء بيدك ثمّ توضّأ ، فإنّ الدين ليس
بمضيّق ، فإنّ الله عزوجل يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). إلى غير ذلك من الأخبار.
ويؤيّدها ـ مضافا
إلى قوله صلىاللهعليهوآله : «بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحة» ـ إنّ الحكمة في رفع
العسر والحرج عن هذه الأمّة هو تسهيل الأمر عليهم في أمر معاشهم ومعادهم ، ولا ريب
أنّ تحديد ما يرتفع به العسر ويندفع به الحرج وموارد لزومهما ، والاقتصار في ما
يتعلّق بالمعاش والمعاد على ذلك يوجب العسر والمشقّة على العباد ، فاللطف الواجب
عليه تعالى الباعث لرفع المشاقّ عنهم كما قرّر في محلّ آخر ، أو الأدلّة السمعيّة
من الآيات والأخبار الدالّة على ارتفاعها ، مقتضية لكون المدار في رفعها على
الغالب وإلّا لزم نقض الغرض ، فتأمّل. وإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تحرير هذه
القاعدة وإثباتها ، وبيان مقدار مقتضاها وكيفيّة اقتضائها ، وحال معارضتها مع سائر
الأدلّة ، خارجة من محلّ الكلام ، والاهتمام بالأهمّ هو الأهمّ.
١٥٦٤. توضيح النظر أنّ ظاهر أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات
وأكثر الروايات هو اعتبار العسر الشخصي الملحوظ بالنسبة إلى آحاد المكلّفين ،
فتكون النسبة بينها وبين المدّعى عموما من وجه ، إذ ربّ مورد من موارد العسر لا
دخل له في الشبهة غير المحصورة ، وربّ مورد من موارد الشبهة غير المحصورة لا يلزم
من الاحتياط فيه عسر على بعض المكلّفين ولو بالنسبة إلى بعض حالاته.
وأمّا إذا لوحظت
هذه الأدلّة مع ما دلّ على دوران الأحكام مدار السهولة
.................................................................................................
______________________________________________________
على الأغلب ،
فالمنساق منها بيان كيفيّة جعل الأحكام الكلّية الواقعيّة الأوّلية أو الثانويّة ،
بمعنى أنّ الشارع حين جعل الأحكام الواقعيّة لموضوعاتها الواقعيّة قد لاحظ عدم
لزوم عسر على أغلب المكلّفين في امتثالها. وشمول هذه الأخبار للشبهة غير المحصورة
إنّما يتمّ إذا فرض كون عنوان الشبهة غير المحصورة موضوعا بحسب الواقع لوجوب
الاجتناب ، فحينئذ يلاحظ في ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع عدم لزوم عسر على الأغلب
في أغلب مواردها. وليس كذلك ، بل هي عنوان في كلمات العلماء لموضوعات متعدّدة قد
اشتبه كلّ واحد منها بين امور غير محصورة. فجعل الشبهة غير المحصورة عنوانا في
كلماتهم لهذه الموضوعات ، إنّما هو لأجل كونه جامعا لشتات جزئيّات هذه الموضوعات
ليتوصّل به إلى البحث عن هذه الموضوعات المشتبهة على الجملة ، لا لأجل كون هذه
العنوان موضوعا بحسب الواقع لوجوب الاجتناب ، بل الموضوع لهذا الحكم هي الموضوعات
المشتبهة المذكورة. ولا شكّ أنّه لا يلزم في امتثال هذه الأحكام المتعلّقة
بالموضوعات المذكورة في الواقع عسر وحرج على الأغلب ، وإلّا لزم ذلك فيما لو فرض
فيه العلم التفصيلي أيضا بهذه الموضوعات ، ولا يلتزم به أحد. وكذلك فيما لوحظ كلّ
واحد من هذه الموضوعات بنفسه باعتبار اشتباهه بين امور غير محصورة ، كالخمر
المشتبه كذلك والنجس المشتبه كذلك ونحوهما ، بمعنى لزومه في كلّ واقعة واقعة منها
، وليس كذلك.
وبالجملة ، إنّه
لا مقتضي لعدم وجوب الاحتياط فيما لا يلزم منه فيه عسر أصلا. وإليه يشير قوله : «وإن
الاجتناب في صورة اشتباهه ..». نعم ، لو فرض لزوم العسر على الأغلب في بعض هذه
الوقائع يلتزم بارتفاع التكليف فيه عن الجميع في خصوص الواقعة اللازم فيها ذلك
بمقتضى الأخبار المذكورة ، لكن لا يلزم منه الالتزام بارتفاع التكليف في غيرها
أيضا. وإليه يشير قوله : «نعم ، لو لزم الحرج من جريان ...» وأمّا لزوم العسر من
انضمام الوقائع المذكورة على الأغلب ، بمعنى
.................................................................................................
______________________________________________________
لزوم العسر من
اجتناب جميع موارد الشبهة غير المحصورة ، فقد عرفت أنّ شمول الأخبار المذكورة لذلك
إنّما هو فرع كون عنوان الشبهة غير المحصورة موضوعا في الواقع لوجوب الاجتناب ،
وقد عرفت أنّه ليس كذلك.
هذا غاية توضيح ما
ذكره المصنّف رحمهالله. وربّما يمنع شمول الأخبار المذكورة لصورة لزوم العسر في
بعض الوقائع أيضا إذا لوحظت كلّ واحدة منها في نفسها على ما عرفت ، لأنّ ظاهر هذه
الأخبار نفي العسر عن الأحكام الواقعيّة الأوليّة ، لا نفي العسر اللازم من اشتباه
موضوع الحكم الواقعي بين امور غير محصورة أيضا ، كما في المقام.
وفيه : أنّه إن
تمّ ما ذكر لزم أن لا تجري هذه القاعدة في الأحكام الظاهريّة الثانويّة وإن كان
العسر اللازم فيها شخصيّا أيضا ، لكون جميع الآيات والأخبار الواردة في الباب على
نسق واحد ، ولا يلتزم به ذو مسكة.
نعم ، يمكن أن
يقال : إنّ المقصود من إجراء أصالة البراءة في مواردها هو مجرّد رفع المنع من
الترك في الشبهات الوجوبيّة ومن الفعل في الشبهات التحريميّة. وبعبارة اخرى : أنّ
مقتضاها مجرّد عدم العقاب على الترك أو الفعل كما هو مختار المصنّف رحمهالله ، لا نفي الأحكام الواقعيّة في موارد احتمالها مجرّدا أو
مع شوبه بالعلم الإجمالي ، كما هو مقتضى قاعدة نفي العسر في موارد لزومه ، وحينئذ
يختلف الدليل والمدّعى ، ولذا جعلت أصالة البراءة من الأدلّة الفقاهتيّة وقاعدة
العسر من الأدلّة الاجتهاديّة.
وفيه : أنّ هذه
القاعدة لم تذكر في المقام دليلا على جريان أصالة البراءة ، بل دليلا على عدم وجوب
الاحتياط فيه مع قطع النظر عن كون مقتضاها عدم الوجوب في الواقع أو الظاهر.
وقد أورد المحقّق
القمي رحمهالله على الدليل المذكور بما لخصّه في الفصول ، قائلا : «وأمّا
ما أورده بعض المعاصرين بأنّ العسر والحرج قد لا يتحقّقان في غير المحصور ،
والروايات لا تدلّ
إلّا على أنّ ما كان فيه ضيق على مكلّف فهو مرتفع عنه ، وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا
على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السهولة ، فليس فيه امتنان على أحد ، بل فيه
تفويت مصلحة التكليف من غير تداركها بالتسهيل.
وأمّا ما ورد من دوران الأحكام مدار
السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ؛ لأنّ الشبهة الغير المحصورة ليست
واقعة واحدة حكم فيها بحكم حتّى يدّعى أنّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر
على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان لموضوعات متعدّدة
لأحكام متعدّدة ، والمقتضي
______________________________________________________
كما إذا لم يكن
هنا ما يوجب استعمال البعض ، وقد يتحقّقان في المحصور أيضا ، كما إذا اضطرّ إلى
استعمال البعض منه ، مع أنّهما يقتضيان رفع الإثم دون غيره كالنجاسة ، ولهذا لو
اضطرّ إلى أكل الميتة لم يرتفع عنه حكم النجاسة» انتهى.
وأقول : إنّ ما
أورده أوّلا من عدم اطّراد القاعدة في جميع موارد الشبهة غير المحصورة يظهر الكلام
فيه ممّا ذكره المصنّف رحمهالله ، وما علّقناه على توضيح كلامه. وما أورده ثانيا من كون
مقتضى العسر والحرج مجرّد رفع الإثم دون غيره من الأحكام ، يرد عليه ـ مضافا إلى
أنّ المقصود في المقام منع وجوب الاحتياط ، ويكفي فيه مجرّد عدم الإثم في الارتكاب
لإثبات الطهارة والحلّية ـ ما عرفته من منع ذلك ، كيف لا وتقدّم قاعدة العسر على
سائر العمومات المثبتة للتكاليف أقوى من تقدّم الأدلّة الخاصّة عليها ، لكون
تقدّمها عليها من باب الحكومة ، وتقدّم الخاصّ عليها من باب المعارضة وقوّة
الدلالة.
وعلى كلّ تقدير
فلا إشكال فيما ذكرناه ، ولذا احتجّ بها بعض الأصحاب على طهارة الحديد في مقابل
الأخبار الدالّة على نجاسته. واعتذار المحقّق المذكور عنه بأنّه تأسيس للحكم ودفع
لا رفع لحكم ثابت ، وبينهما فرق واضح ، غير واضح كما اعترف به في الفصول. نعم ،
هنا كلام آخر في جواز التمسّك بمثل هذه القواعد التي كثر ورود التخصيص عليها من
دون جابر ، ولا دخل له فيما ذكره ، والله العالم.
للاحتياط في كلّ
موضوع هو نفس الدليل الخاصّ التحريمي الموجود في ذلك الموضوع ، والمفروض أنّ ثبوت
التحريم لذلك الموضوع مسلّم ، ولا يرد منه حرج على الأغلب ، وأنّ الاجتناب في صورة
اشتباهه أيضا في غاية اليسر ؛ فأيّ مدخل للأخبار الواردة في أنّ الحكم الشرعيّ
يتبع الأغلب في اليسر والعسر. وكأنّ المستدلّ بذلك جعل الشبهة الغير المحصورة
واقعة واحدة مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لو لا العسر ، لكن لما تعسّر
الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كلّية.
وفيه : أنّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من
الشبهة ليس إلّا دليل حرمة ذلك الموضوع. نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان
المحرّم الواقعي في خصوص مشتبهاته الغير المحصورة على أغلب المكلّفين في أغلب
الأوقات ـ كأن يدّعى أنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن النجس الواقعي مع اشتباهه في
أمور غير محصورة ، يوجب الحرج الغالبي ـ أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص
النجاسة المشتبهة. لكن لا يتوهّم من ذلك : اطّراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر
المشتبه بين مايعات غير محصورة والمرأة المحرّمة المشتبهة في ناحية مخصوصة إلى غير
ذلك من المحرّمات. ولعلّ كثيرا ممّن تمسّك في هذا المقام بلزوم المشقّة أراد
المورد الخاصّ ، كما ذكروا ذلك في الطهارة والنجاسة.
هذا كلّه ، مع أنّ لزوم الحرج (١٥٦٥) في
الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة التي يقتضي الدليل المتقدّم وجوب الاحتياط فيها
، ممنوع. ووجهه أنّ كثيرا من الشبهات الغير المحصورة لا يكون جميع المحتملات فيها
مورد ابتلاء المكلّف ، ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة وإن كانت محصورة كما
أوضحناه سابقا ، وبعد إخراج هذا عن محلّ الكلام فالإنصاف منع غلبة التعسّر في
الاجتناب.
______________________________________________________
١٥٦٥. إن أراد خروج هذه الموارد من الشبهة غير المحصورة من محلّ
النزاع ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فهو ينافي استدلاله الآتي على عدم وجوب الاجتناب
بعدم تحقّق الابتلاء بجميع أطراف الشبهة في كثير من مواردها. وإن أراد دخولها
الثالث : الأخبار الدالّة على حلّية كلّ
ما لم يعلم حرمته ؛ فإنّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة إلّا أنّ مقتضى الجمع
بينها وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب بقول مطلق هو حمل أخبار الرخصة على غير
المحصور وحمل أخبار المنع على المحصور.
وفيه أوّلا : أنّ المستند في وجوب
(١٥٦٦) الاجتناب في المحصور هو اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك بضميمة حكم
العقل ، وقد تقدّم بما لا مزيد عليه أنّ أخبار حلّ الشبهة لا تشمل صورة العلم
الإجمالي بالحرام. وثانيا : لو سلّمنا شمولها لصورة العلم الإجمالي حتّى تشمل
الشبهة الغير المحصورة ، لكنّها تشمل المحصورة أيضا ، وأخبار وجوب الاجتناب مختصّة
بغير الشبهة الابتدائيّة إجماعا (١٥٦٧) ، فهي على عمومها للشبهة الغير المحصورة
ايضا أخصّ مطلقا من أخبار الرخصة.
______________________________________________________
فيها ، وكون عدم
الوجوب فيها مستندا إلى عدم الابتلاء ، فهو تحكّم بحت ، إذ لا منافاة في استناد
عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور إلى أمرين : أحدهما : عدم تحقّق الابتلاء في
كثير من موارده ، والآخر : لزوم العسر الغالبي في موارده ، فإنّه إذا فرض هنا امور
غير محصورة يلزم من الاحتياط فيها العسر على الأغلب ، وكان بعضها خارجا من محلّ
الابتلاء ، ثمّ حصل العلم الإجمالي بحرمة بعضها ، فعدم تأثير العلم حينئذ في تنجّز
التكليف بالواقع كما يمكن أن يستند إلى خروج بعض أطراف العلم الإجمالي من محلّ
الابتلاء ، كذلك يمكن أن يستند إلى لزوم العسر الغالبي.
١٥٦٦. يعني : أنّ العمدة في ذلك ، وإلّا فقد تمسّك المصنّف رحمهالله بالأخبار أيضا. ويحتمل أن يكون الوجه في تخصيص المستند
بالعقل رجوع مؤدّاها إليه ، وهو وجوب الاحتياط من باب المقدّمة وعلى تقدير كون
المستند فيه الأخبار يتمّ الجواب أيضا ، كما هو واضح. وعلى كلّ تقدير ، فمحصّل
الجواب أنّ المستند في وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة هو العقل ، وهو مشترك
بينها وبين غير المحصورة ، وأخبار الحلّ لا تشتمل شيئا منهما.
١٥٦٧. لا تضرّ هنا مخالفة الأخباريّين في مسألة البراءة إن قلنا
بقدح مخالفتهم
والحاصل : أنّ أخبار الحلّ (١٥٦٨) نصّ
في الشبهة الابتدائيّة وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة ، وكلا الطرفين
ظاهران في الشبهة الغير المحصورة ، فإخراجها عن أحدهما وإدخالها في الآخر ليس جمعا
بل ترجيحا بلا مرجّح ، إلّا أن
______________________________________________________
في الإجماع ،
لاختصاص خلافهم بالشبهات الحكميّة التحريميّة ، لإجماعهم على أصالة البراءة في
الشبهات الحكميّة الوجوبيّة ممّن عدا الأمين الأسترآبادي ، وفي الشبهات الموضوعيّة
مطلقا.
فإن قلت : إنّ أخبار
وجوب الاجتناب ـ مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» ونحوه ـ عامّة
لجميع الشبهات ، وقد عارضها دليلان ، أحدهما : الإجماع ، والآخر : أخبار الحلّ ،
فلا وجه لتخصيصها أوّلا بالإجماع ، ثمّ ملاحظة النسبة بينها وبين أخبار الحلّ.
قلت : نعم ، لكنّه
إنّما يتمّ فيما تعارضت الأدلّة بأزيد من دليلين ، ولم يكن أحدها أخصّ من الباقي ،
وإلّا فلا بدّ من التخصيص أوّلا بالخاصّ ، ثمّ ملاحظة النسبة بين الباقي وإن
انقلبت إلى نسبة اخرى بعده ، كما سيجيء في خاتمة الكتاب.
١٥٦٨. ربّما يتوهّم أنّ الأولى أن يقال : مضافا بدل قوله :
الحاصل ، نظرا إلى أنّ ما ذكره ليس حاصلا لما قبله ، لأنّ مقتضى كون النسبة بين
الأخبار هو العموم والخصوص مطلقا تخصيص العامّ بالخاصّ ، لا فرض قدر متيقّن لكلّ
من الطرفين ، واعتبار تعارضهما في مادّة ، ثمّ نفي أولويّة إدخالها تحت أحدهما
بالخصوص ، لكون ذلك وظيفة تعارض العامّ والخاصّ من وجه لا مطلقا.
ويمكن دفع هذا
التوهّم بأنّ العامّ والخاصّ مطلقا إذا كان لكلّ منهما فرد متيقّن الدخول تحته ،
وتعارضا في فرد آخر على وجه كان ظهور كلّ منهما فيه بمرتبة واحدة ، يجري عليه حكم
تعارض العامّ والخاصّ من وجه ، وما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن قلت : إنّما
نمنع كون النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا ، لأنّه إذا
يقال (١٥٦٩) إنّ أكثر
أفراد الشبهة الابتدائيّة ترجع بالأخرة إلى الشبهة الغير المحصورة ؛ لأنّا نعلم
إجمالا غالبا بوجود النجس والحرام في الوقائع المجهولة الغير المحصورة ، فلو اخرجت
هذه الشبهة عن أخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلّا النادر ، وهو لا يناسب
مساق هذه الأخبار ، فتدبّر.
______________________________________________________
فرض وجود فرد
متيقّن لكلّ منهما ، وتعارضا في فرد ثالث ، كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا من
وجه لا مطلقا.
قلت : إنّ هذا
إنّما يتمّ فيما لم يشتمل شيء منهما على ما هو المتيقّن من الآخر ، وما نحن فيه
ليس كذلك ، لأنّ أخبار المنع وإن لم تشتمل على الشبهات البدويّة ، للإجماع الذي
ادّعاه ، إلّا أنّ أخبار الحلّ تشتمل بإطلاقها على الشبهات المحصورة وإن لم تكن
نصّا فيها ، فتكون النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا ، لاشتمال أخبار الحلّ على
جميع موارد أخبار المنع.
وهذا غاية توضيح
المقام. وهو بعد لا يخلو من نظر بل منع ، لأنّ أخبار الحلّ شاملة للشبهات البدويّة
بالنصوصيّة بقرينة الإجماع المذكور ، وللمحصورة وغير المحصورة بالعموم ، وأخبار المنع
شاملة للمحصورة بالنصوصيّة ، لكونها متيقّنة منها ، ولغير المحصورة بالعموم ،
فتعارضهما في غير المحصورة إنّما هو بالعموم. ومجرّد اشتمال كلّ منهما على قدر
متيقّن لا يوجب وهنا في دلالة الخاصّ حتّى يتساوى ظهورهما في الشمول لمادّة
التعارض. نعم ، يتمّ ذلك لو لم يشمل شيء منهما ما هو المتيقّن من الآخر ، لكنّ
النسبة حينئذ تكون عموما من وجه لا مطلقا ، وهو خلاف الفرض ، كما عرفت توضيحه.
١٥٦٩. حاصله : دعوى أظهريّة أخبار الحلّ في الشمول للشبهة غير
المحصورة من أخبار وجوب الاجتناب ، بقرينة الاستهجان العرفيّ الحاصل من قلّة
الأفراد الباقية تحت الاولى على تقدير إخراج أفراد الشبهة غير المحصورة من تحتها
وإدخالها تحت الثانية.
الرابع : بعض الأخبار الدالّة على أنّ
مجرّد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه
حراما ، مثل ما في محاسن البرقي عن أبي الجارود ، قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام
عن الجبن ، فقلت : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : أمن أجل مكان واحد
يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض؟! فما علمت فيه ميتة فلا تأكله ، وما لم
تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسّمن والجبن ،
والله ما أظنّ كلّهم يسمّون ، هذه البربر وهذه السودان ...» .
فإنّ قوله : «أمن أجل مكان واحد ...»
ظاهر في أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن محتملاته ، وكذا قوله عليهالسلام
: «والله ما أظنّ كلّهم يسمّون» ، فإنّ الظاهر منه (١٥٧٠) إرادة العلم بعدم تسمية
جماعة حين الذبح ، كالبربر والسودان ،
______________________________________________________
وأنت خبير بأنّ
هذه الدعوى لا تخلو من مصادمة للعيان ومخالفة لصريح الوجدان ، لكثرة وجود الشبهات
المجرّدة عن العلم الإجمالي في الخارج ، بحيث لا يبقى مجال لدعوى الاستهجان
المذكور بعد ملاحظة كثرتها. وإن شئت فلاحظ بدنك وثوبك ودارك وسائر ما يتعلّق بك
وغيرها ، لأنّك كثيرا ما تشكّ في نجاستها وحليّتها من دون أن يحصل لك علم إجمالي
بنجاسة بعضها أو كونه مغصوبا. ومجرّد علم إجمالي بوجود نجس أو مغصوب في العالم
وضمّ ذلك إليه غير مجد في دخول ذلك في أطرافه كما هو واضح. ومع التسليم فلا ريب في
خروج بعض أطراف الشبهة غير المحصورة المفروضة من محلّ الابتلاء ، كما اعترف به
المصنّف رحمهالله في ما مضى ويأتي ، واعترف أيضا بعدم وجوب الاحتياط في
مثلها. ومع التسليم فلا ريب في اندراج الشبهات البدويّة الحكميّة تحت الاولى ، وهي
بمجرّدها كافية في منع الاستهجان المذكور. اللهمّ إلّا أن يريد بأخبار الحلّ ما هو
ظاهر الاختصاص بالشبهات الموضوعيّة ، وهو كما ترى.
١٥٧٠. بقرينة السياق.
إلّا أن يدّعى (١٥٧١)
أنّ المراد أنّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من
الأماكن ، ولا كلام في ذلك ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون
من ذلك المكان ، فلا دخل له بالمدّعى.
وأمّا قوله : «ما أظنّ كلّهم يسمّون» ،
فالمراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّية ، بل يكفي أخذها من سوق المسلمين ؛
بناء على أنّ السوق أمارة شرعيّة لحلّ الجبن المأخوذ (١٥٧٢) منه ولو من يد مجهول
الإسلام ، إلّا أن يقال إنّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الإجمالي بوجود
الحرام ، فلا مسوّغ للارتكاب إلّا كون الشبهة غير محصورة ، فتأمّل (١٥٧٣).
الخامس : أصالة البراءة (١٥٧٤) بناء على
أنّ المانع من إجرائها ليس إلّا العلم
______________________________________________________
١٥٧١. لعلّ هذا المعنى أظهر ، كما يشهد به لفظ الجميع المضاف إلى
ما في الأرض ، وقوله : «فما علمت فيه ميتة» الظاهر في اعتبار العلم تفصيلا أو
إجمالا في وجوب الاجتناب ، حيث لم يقل : فما علمت أنّه ميتة ، كما هو واضح.
١٥٧٢. أي : وإن حصل العلم الإجمالي بوجود الحرام في السوق.
١٥٧٣. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى منع عدم اعتبار السوق مع
العلم الإجمالي بخلافه ، لأنّ غلبة وجود العلم الإجمالي بوجود الحرام والنجس في
سوق المسلمين شاهد لشمول الإجماع والأخبار لصورة العلم الإجمالي بالخلاف.
١٥٧٤. حاصل هذا الوجه : أنّ المانع من جريان أصالة البراءة في
أطراف الشبهة المحصورة أو غير المحصورة هو العلم الإجمالي بوجود الحرام فيها ،
بحكم العقل بوجوب الاجتناب عن الجميع من باب المقدّمة العلميّة. ولا ريب أنّ
اعتبار العلم مطلقا إنّما هو لأجل حكم العقل وبناء العقلاء عليه ، فإذا فرض عدم
اعتناء العقلاء به عند اتّساع دائرة الشبهة بحيث تعدّ غير محصورة كان وجوده كالعدم
، ويرتفع المانع من جريانها. ولعلّ هذا هو المراد من المحكيّ عن الدرر النجفيّة
بعد بيان الفرق بين المحصور وغيره وبيان حكم المحصور ، قال : «أمّا غير المحصور
فإنّه لا يعلم وجود الحرام ثمّة ، ولا يقطع بحصوله ، فلا يتعلّق التكليف الشرعيّ
باجتنابه ، و
الإجمالي بوجود
الحرام ، لكنّه إنّما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدّمة العلميّة ، التي
لا تجب إلّا لأجل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات
، وهذا لا يجري في المحتملات الغير المحصورة ؛ ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم
الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات ، ألا ترى الفرق الواضح بين العلم
بوجود السمّ في أحد إناءين أو واحد من ألفي إناء؟ وكذلك بين قذف أحد الشخصين لا
بعينه وبين قذف واحد من أهل بلد ، فإنّ الشخصين كليهما يتأثّران بالأوّل ولا
يتأثّر أحد من أهل البلد بالثاني. وكذا الحال : لو أخبر شخص بموت الشخص المردّد
بين ولده وشخص آخر وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من أهل بلده ؛ فإنّه لا
يضطرب خاطره في الثاني أصلا. وإن شئت قلت : إنّ ارتكاب المحتمل في الشبهة الغير
المحصورة لا يكون عند العقلاء إلّا كارتكاب الشبهة الغير المقرونة بالعلم
الإجمالي.
وكأنّ ما ذكره الإمام عليهالسلام
في الرواية المتقدّمة من قوله : «أمن أجل مكان واحد ...» ـ بناء على الاستدلال به ـ
إشارة إلى هذا المعنى ؛ حيث إنّه جعل كون حرمة الجبن في مكان واحد منشأ لحرمة جميع
محتملاته الغير المحصورة من المنكرات المعلومة عند العقلاء التي لا ينبغي للمخاطب
أن يقبلها ، كما يشهد بذلك كلمة الاستفهام الإنكاري ، لكن عرفت أنّ فيه احتمالا
آخر يتمّ معه الاستفهام الانكاري أيضا.
وحاصل هذا الوجه أنّ العقل إذا لم
يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات ، فليس هنا ما يوجب على
المكلّف الاجتناب عن كلّ محتمل ، فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان ؛ فعلم من
ذلك أنّ الآمر اكتفى في المحرّم المعلوم
______________________________________________________
وجوده في الواقع ونفس
الأمر لا يصير مناطا للأحكام الشرعيّة ، وإنّما جعلت منوطة بنظر المكلّف وعلمه ،
كما لا يخفى على من أحاط خبرا بالقواعد الشرعيّة والضوابط المرعيّة» انتهى ، وإلّا
فتوجّه المنع إليه واضح ، لأنّ ظاهر العلماء اعتبار العلم الإجمالي في غير المحصور
أيضا ، كما ستقف عليه عند بيان الفرق بينه وبين
إجمالا بين المحتملات
بعدم العلم التفصيلي بإتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم إتيانه ، فتأمّل (١٥٧٥).
السادس : أنّ الغالب عدم (١٥٧٦) ابتلاء
المكلّف إلّا ببعض معيّن من محتملات الشبهة الغير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن
محلّ ابتلائه ، وقد تقدّم عدم وجوب الاجتناب في مثله مع حصر الشبهة فضلا عن غير
المحصورة. هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ به على حكم الشبهة الغير المحصورة ، وقد
عرفت أنّ أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ، لكنّ المجموع منها لعلّه يفيد القطع أو
الظنّ بعدم وجوب الاحتياط في الجملة. والمسألة فرعيّة (١٥٧٧) يكتفى فيها بالظنّ.
______________________________________________________
المحصور ، فلا
تغفل.
١٥٧٥. لعلّه أشار بالأمر بالتأمّل إلى أنّ مقتضى هذا الوجه جواز
المخالفة القطعيّة بارتكاب الجميع ، كما صرّح به في التنبيه الأوّل ، وهو مناف
للعلم إجمالا بكون أحد أطراف الشبهة حراما أو نجسا في الواقع ، ولذا اختار هناك
عدم جواز ارتكاب الجميع مع العزم عليه أو مطلقا. ويحتمل أن يكون إشارة إلى الفرق
بين الضرر الدنيويّ والاخروي. وفيه تأمّل.
ويحتمل أن يكون
إشارة إلى منع الفرق في الأمثلة بين المحصور وغيره بما ذكره ، لأنّه لو أخبر شخص
بموت أحد مردّد بين ولده وشخص آخر وبموت المردد بين ولده وبين كلّ واحد من أهل
بلده ، نمنع عدم اضطراب باله في الثاني إذا احتمل كون المخبر عنه ولده احتمالا
عقلائيّا ، غاية الأمر أن يختلفا في شدّة الاضطراب وقلّته ، وذلك بمجرّده لا يوجب
فرقا مجديا في المقام. اللهمّ إلّا أن تبلغ قلّة الاضطراب في الثاني حدّا لا يعتنى
به عند العقلاء.
١٥٧٦. هذا الدليل كما ترى أخصّ من المدّعى ، اللهمّ إلّا أن
يتمسّك بعدم القول بالفصل.
١٥٧٧. ظاهره عدم اعتبار الظنّ إن فرضت المسألة اصوليّة ، وهو
خلاف
إلّا أنّ الكلام يقع في موارد : الأوّل
: أنّه
هل يجوز ارتكاب (١٥٧٨) جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث يلزم العلم التفصيلي ،
أم يجب إبقاء مقدار الحرام؟ ظاهر إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأوّل ، لكن
يحتمل أن يكون مرادهم عدم وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا
فيها بوجوب الاجتناب ، وهذا غير بعيد عن مساق كلامهم. فحينئذ لا يعمّ معقد إجماعهم
لحكم ارتكاب الكلّ ، إلّا أنّ الأخبار لو عمّت المقام دلّت على الجواز. وأمّا
الوجه الخامس ،
______________________________________________________
مذهبه. ولو قال :
سيّما وأنّ المسألة فرعيّة يكتفى فيها بالظنّ اتّفاقا ، كان أولى.
١٥٧٨. تحقيق هذا المطلب يتوقّف على ملاحظة الأدلّة المتقدّمة على
تقدير تماميّتها. أمّا الأوّل فإنّ إطلاقهم القول بجواز الارتكاب هنا وإن كان
يحتمل أن يكون في مقابل حكمهم بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ـ كما ذكره
المصنّف رحمهالله ، ويؤيّده عدم وجدان مصرّح بجواز المخالفة القطعيّة هنا ـ إلّا
أنّ تعرّضهم لنقل الخلاف في جواز المخالفة القطعيّة في المحصورة ، وعدم تعرّضهم
للخلاف هنا مع إطلاقهم القول بجواز الارتكاب ، ربّما يرشد إلى كون الجواز هنا من
المسلّمات عندهم ، لأنّه ربّ مسألة وإن لم يتعرّضوا لها إلّا أنّه تظهر فتواهم
فيها من قرائن أحوالهم ، فلو كان هنا مخالف لتعرّضوا لنقله أيضا لا محالة.
وبالجملة ، إنّهم
قد تعرّضوا للفرق بين المحصور وغير المحصور ، وكذا لحكم المحصور من حيث وجوب
الموافقة القطعيّة ، وكذلك لحكم غير المحصور من حيث الموافقة القطعيّة. وأمّا من
حيث جواز المخالفة القطعيّة فلم يقع تصريح منهم بذلك نفيا وإثباتا ، فيحتمل فيه
الأمران ، إلّا أنّ ما ذكرنا فيه أقرب ممّا ذكره المصنّف رحمهالله.
نعم ، يحتمل على
ما ذكرناه أيضا أن يكون عدم تعرّضهم لجواز ارتكاب جميع أطراف الشبهة غير المحصورة
لأجل ندرة وقوع ارتكاب جميعها ، لا لأجل ما قدّمناه.
وأمّا الثاني فإن
كان المدار في العسر على الشخصي منه فهو لا يدلّ على جواز
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
المخالفة القطعيّة
، لجواز الاكتفاء فيه حينئذ بما يندفع به العسر ، فلا دليل على جواز ارتكاب غيره.
وإن كان المدار فيه على النوعيّ منه ، كما هو مقتضى الآية والروايات على ما تقدّم
، فلا ريب في اقتضائه للجواز ، إلّا أنّه قد تقدّم عدم تماميّة هذا الدليل في جميع
موارد المدّعى.
وأمّا الثالث فلا
ريب أنّ مقتضى أخبار الحلّ جواز ارتكاب الجميع. وقد صرّح المصنّف رحمهالله في الشبهة المحصورة بأنّ مقتضاها إمّا جواز المخالفة
القطعيّة أو الموافقة القطعيّة ، إلّا أنّه قد تقدّم عدم تماميّة هذا الدليل أيضا.
وأمّا الرابع
فظاهره قوله : «أمن أجل مكان واحد ...» هو عدم جواز الارتكاب. نعم ، قوله : «فما
علمت أنّ فيه ميتة» قرينة لإرادة جواز ارتكاب الجميع. لكن قد تقدّم ضعف دلالة
الرواية.
وأمّا الخامس فهو
واضح الدلالة على الجواز. ولكن قد تأمّل المصنّف رحمهالله في تماميّته كما تقدّم.
وأمّا السادس فهو
أيضا مقتض للجواز ، إلّا أنّه قد تقدّم كونه أخصّ من المدّعى.
فهذه الأدلّة ـ على
تقدير تماميّة أصلها ـ وإن اتّفقت في الدلالة على جواز المخالفة القطعيّة ، ولذا
اختارها بعض سادة مشايخنا ، إلّا أنّها غير ناهضة لإثبات ذلك ، إمّا لقصور في
أصلها كما في ما عدا الأوّل ، أو في الدلالة على المدّعى هنا كما في الأوّل.
فمقتضى العلم الإجمالي بوجود الحرام بين المشتبهات ـ كما حقّقه المصنّف رحمهالله ـ هو عدم جواز
المخالفة القطعيّة ، وإن لم يكن عازما عليها من أوّل الأمر ، ومعه بطريق أولى.
ثمّ إنّ القول
بعدم وجوب الاحتياط في غير المحصور أو جواز المخالفة القطعيّة فيه ، لا بدّ من
تخصيصه بما إذا لم يكن الحرام المعلوم إجمالا أهمّ في نظر الشارع ومتميّزا عن سائر
المحرّمات امتيازا تامّا ، وإلّا فالظاهر وجوب الاحتياط في مثله ، و
فالظاهر دلالته على
جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك (١٥٧٩) من أوّل الأمر ، وأمّا معه
فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام فيستحقّ العقاب.
فالأقوى في المسألة : عدم جواز الارتكاب
إذا قصد ذلك من أوّل الأمر ؛ فإنّ قصده قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحقّ العقاب
بمصادفة الحرام.
والتحقيق (١٥٨٠) عدم جواز ارتكاب الكلّ
؛ لاستلزامه طرح الدليل الواقعي الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعي
كالخمر في قوله : «اجتنب عن الخمر» ؛ لأنّ هذا التكليف لا يسقط من المكلّف مع علمه
بوجود الخمر بين المشتبهات ، غاية ما ثبت في غير المحصور : الاكتفاء في امتثاله
بترك بعض المحتملات ، فيكون البعض المتروك بدلا ظاهريّا عن الحرام الواقعي ؛ وإلّا
فإخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله : «اجتنب عن كلّ خمر» ،
اعتراف بعدم حرمته واقعا وهو معلوم البطلان.
هذا إذا قصد الجميع (١٥٨١) من أوّل
الأمر لأنفسها. ولو قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدّمة له ،
فالظاهر استحقاق العقاب للحرمة من
______________________________________________________
إن كانت الشبهة
غير محصورة ، بل لا إشكال فيه في بعض الموارد ، كما إذا اشتبه إمام مفترض الطاعة
بين غير محصور من الكفّار مهدوري الدم ، فلا يجوز الجهاد معهم ، ولا قتل واحد منهم
يحتمل كونه ذلك الإمام. ويدلّ عليه بناء العقلاء وصريح الوجدان ، ولم أر من تنبّه
لذلك ، فلا تغفل.
١٥٧٩. أي : على ارتكاب الكلّ.
١٥٨٠. يعني : أنّ التحقيق أنّ عدم الجواز ليس لأجل صدق المعصية
كما ذكر ، بل لأجل استلزامه طرح ... إلى آخر ما ذكره. ومقتضى هذا التحقيق عدم جواز
ارتكاب الجميع مع عدم العزم عليه أيضا من أوّل الأمر.
١٥٨١. أي : قصد من أوّل الأمر ارتكاب كلّ واحد بنفسه ، لا لأجل
المقدّمة والتوصّل إلى الحرام الواقعي ، وإلّا فالظاهر استحقاق العقاب إلى آخر ما
ذكره.
أوّل الارتكاب بناء
على حرمة التجرّي. فصور ارتكاب (١٥٨٢) الكلّ ثلاث ، عرفت كلّها.
الثاني : اختلف عبارات الأصحاب (١٥٨٣)
في بيان ضابط المحصور وغيره ، فعن الشهيد والمحقّق الثانيين
والميسيّ وصاحب المدارك : أنّ المرجع فيه إلى العرف ، فهو فما كان غير محصور في
العادة ، بمعنى أنّه يعسر عدّه ، لا ما امتنع عدّه ؛ لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد
قابل للعدّ والحصر. وفيه ـ مضافا إلى أنّه إنّما يتّجه إذا كان الاعتماد (١٥٨٤) في
عدم وجوب الاجتناب على الإجماع المنقول على جواز
______________________________________________________
١٥٨٢. إحداها : ارتكاب الجميع من دون عزم عليه من أوّل الأمر.
الثانية : ارتكابه مع العزم عليه من أوّل الأمر. الثالثة : ارتكابه بقصد التوصّل
به إلى الحرام الواقعي ، بأن جعل ارتكاب الكلّ مقدّمة لارتكابه. وإلى الاولى أشار
بقوله : «لكن مع عدم العزم على ذلك». وإلى الثانية بقوله : «وأمّا معه فالظاهر».
وإلى الثالثة بقوله : «ولو قصد نفس الحرام».
١٥٨٣. لا ريب أنّ اختلافهم في ضابط المحصور وغيره ليس بحسب
مفهومهما اللغوي ، لتبيّنه لغة ، حتّى إنّه قد يقال : إنّه لا مصداق لغير المحصور
في الخارج بحسب الحقيقة اللغويّة ، إذ كلّ موجود محصور لا محالة. وإنّما الخلاف في
بيان المراد منهما في كلمات العلماء ، فحملهما جماعة على ظاهر ما يتفاهم منهما
عرفا. وفسّرهما بعض آخر بلازم معناهما. وعلى كلّ تقدير ، فالشبهة إنّما هي في
مفهومهما ـ يعني : في المعنى المراد منهما ـ لا في مصداقهما بعد تبيّن مفهومهما. نعم
، قد يظهر خلاف ذلك من بعض كلماتهم ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
١٥٨٤. فيه إشارة إلى دفع ما أورد على الجماعة من أنّ جعل المرجع
في المحصور وغير المحصور هو العرف إنّما يتمّ إذا وقع هذان اللفظان في الكتاب أو
السّنة ، وليس كذلك ، لأنّهما إنّما وقعا في كلمات القوم. والكشف عن مفهومهما عرفا
لا يستلزم كون هذا المفهوم العرفي موضوعا للحكم الشرعيّ ، وغايته أن يعتبر
.................................................................................................
______________________________________________________
ذلك في مقام نسبة
الفتوى إليهم ، لا في مقام تعيين موضوع الحكم الشرعيّ.
ووجه الدفع :
أنّهما وإن لم يقعا موضوعين في الكتاب والسنّة لحكم شرعيّ ، إلّا أنّهما وقعا في
معاقد إجماعاتهم المستفيضة ، أو أنّ تحصيل الإجماع إنّما هو من عبارات من عبّر
بهذين اللفظين ، وذلك كاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم بهما. ومن هنا قد صرّح
غير واحد بكون الإجماعات المنقولة ـ على القول باعتبارها ـ في حكم الأخبار ، تلاحظ
في أسنادها الصحّة والضعف والإرسال والإضمار ونحوها ، وفي دلالتها العموم والخصوص
والإطلاق والتقييد والتعارض وعلاجه وغيرها من أحكام الدلالة ، فيعامل معها معاملة
الأخبار ، لكشفها عن صدور معقدها عن المعصوم عليهالسلام. فنقل الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة غير
المحصورة بمنزلة رواية العدل ذلك عن المعصوم عليهالسلام. فهو يكشف عن وقوع هذا اللفظ في كلامه موضوعا لهذا الحكم. فكما
أنّ في الأخبار مع عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة تقدّم الحقيقة العرفيّة على اللغويّة
مع العلم بوجودها في عصر الإمام عليهالسلام ، بل ومع الشكّ فيه ، قضيّة لتشابه الأزمان وغلبة توافق
العرفين ، وإن كانت أصالة تأخّر الحادث قاضية بخلافه ، كذلك في ما نحن فيه. فكلّ
مورد علم صدق عنوان غير المحصور أو عنوان المحصور عرفا ، وإلّا فالفقيه يستعمل
ظنّه ، فإن حصل الظنّ بشيء منهما ، وإلّا يرجع إلى مقتضى الاصول ، كما نقله
المصنّف رحمهالله عن فوائد الشرائع. فلا يرد حينئذ ما يتوهّم من عدم اعتبار
ظنّ الفقيه في الموضوعات ، لأنّه إنّما لا يعتبر في الموضوعات الصرفة دون
المستنبطة ، وما نحن فيه من قبيل الثاني دون الأوّل.
هذا غاية توجيه ما
وجّه به المصنّف رحمهالله كلمات الجماعة. والظاهر أنّ مراده بدعوى كشف الإجماع عن
إناطة الحكم في كلام المعصوم عليهالسلام بالعبارة التي وقع التعبير بها عن معقده هو كشفه عن إناطة
الحكم في كلامه بها أو بما يرادفها ، لأنّ تعبير مدّعي الإجماع بلفظ غير المحصور
مثلا إنّما هو لأجل التعبير عن مراده ، لا
الارتكاب في غير
المحصور أو على تحصيل الإجماع من اتّفاق من عبّر بهذه العبارة الكاشف عن إناطة
الحكم في كلام المعصوم عليهالسلام
بها ـ : أنّ تعسّر العدّ غير متحقّق فيما مثّلوا به لغير المحصور كالألف مثلا ؛
فإنّ عدّ الألف لا يعدّ عسرا.
وربّما قيّد المحقّق الثاني عسر العدّ
بزمان قصير ، قال في فوائد الشرائع ـ كما عن حاشية الإرشاد ـ بعد أن ذكر أنّ غير
المحصور من الحقائق العرفيّة :
إنّ طريق ضبطه أن يقال : لا ريب أنّه
إذا اخذ مرتبة عليا من مراتب العدد كألف مثلا ، قطع بأنّه ممّا لا يحصر ولا يعدّ
عادة ؛ لعسر ذلك في الزمان القصير ، فيجعل طرفا ، ويؤخذ مرتبة اخرى دنيا جدّا
كالثلاثة نقطع بأنّها محصورة ؛ لسهولة عدّها في الزمان اليسير ، وما بينهما من
الوسائط كلّما جرى مجرى الطرف الأوّل الحق به وكذا ما جرى مجرى الطرف الثاني الحق
به ، وما يعرض فيه الشكّ يعرض على القوانين والنظائر ويراجع فيه القلب ، فإن غلب
على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين فذاك ، وإلّا عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم
الناقل. وبهذا ينضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة والنكاح وغيرهما.
أقول : وللنظر فيما ذكره قدسسره
مجال. أمّا أوّلا : فلأنّ جعل الألف (١٥٨٥) من غير المحصور مناف لما علّلوا عدم
وجوب الاجتناب به من لزوم العسر في الاجتناب ؛
______________________________________________________
لأجل وقوعه في
كلام الإمام عليهالسلام. ويؤيّده عدم ورود لفظ المحصور وغير المحصور في الكتاب
والسنّة ، فلا يرد حينئذ منع كشفه عن إناطة الحكم في كلامه بخصوص عبارة معقد
الإجماع.
١٥٨٥. يرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّ النسبة بين ما ذكره
المحقّق الثاني من الضابط ـ أعني : عسر العدّ في زمان قصير ، كالألف على ما مثّلوا
به ـ وعنوان غير المحصور عموم مطلقا ، إذ ربّ ألف من الأشياء يعسر عدّه في زمان
قصير ولا يعدّ غير محصور عرفا ، كالأوقية من الحنطة كما ذكره المصنّف رحمهالله ، وربّ ألف منها بعسر عدّه كذلك ويصدق عليه عنوان غير
المحصور ، كألف دار في البلد.
فإنّا إذا فرضنا بيتا
عشرين ذراعا في عشرين ذراعا ، وعلم بنجاسة جزء يسير منه يصحّ السجود عليه نسبته
إلى البيت نسبة الواحد إلى الألف ، فأيّ عسر في الاجتناب عن هذا البيت والصلاة في
بيت آخر؟ وأيّ فرق بين هذا الفرض وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه أو ذراعين ممّا
يوجب حصر الشبهة؟ فإنّ سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالا قليلا
أو كثيرا. وكذا لو فرضنا أوقية من الطعام تبلغ ألف حبّة بل أزيد يعلم بنجاسة أو
غصبيّة حبّة منها ، فإنّ جعل هذا من غير المحصور ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسّر
الاجتناب.
وأمّا ثانيا (١٥٨٦) : فلأنّ ظنّ الفقيه
بكون العدد المعيّن جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر أو مجرى غيره ، لا دليل
عليه.
______________________________________________________
١٥٨٦. هذا مبنيّ على كون مراد المحقّق الثاني بإعمال الظنّ في
الموارد المشتبهة إعماله لتشخيص الموضوعات الصرفة ، لأنّها هي التي لا يعتبر فيها
ظنّ الفقيه ، وإلّا فنقل الإجماع مستفيض على اعتبار ظنّه في الموضوعات المستنبطة. فنقول
في تقريب ما أورده : إنّ ظاهره حيث جعل ضابط غير المحصور ما يعسر عدّه في زمان
قصير ، ومع ذلك قد فرض في فوائد الشرائع له مصاديق مبيّنة الاندراج تحته ، وموارد
مبيّنة الخروج من تحتها ، ومصاديق مشتبهة ، هو كون موارد الاشتباه من قبيل اشتباه
المصاديق الخارجة ، وإلّا فلا ريب في كون ضابط عسر العدّ في زمان قصير مبيّنا بحسب
المفهوم.
ويحتمل أن يكون
مراده منع اعتبار ظنّ الفقيه مع كون الشبهة في المفهوم ، بناء على ما تقدّم منه
عند بيان اعتبار الظنّ في اللغات وعدمه من اختياره عدم الاعتداد به ، وإن عدل عنه
في الدورة الأخيرة من مباحثته التي لم تتمّ له ، وأدركه هادم اللذات قبل وصول
البحث إلى هنا. وتقريب الإيراد حينئذ وفرض الشبهة في مفهوم الضابط واضح لمن أعطاه
الله حظّا من الفطانة.
وأمّا ثالثا : فلعدم استقامة الرجوع في
مورد الشكّ إلى الاستصحاب حتّى يعلم الناقل ؛ لأنّه إن اريد استصحاب الحلّ والجواز
كما هو الظاهر من كلامه ، ففيه : أنّ الوجه المقتضي (١٥٨٧)
______________________________________________________
١٥٨٧. يرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّ الاستصحاب قد يقتضي
الحرمة أو النجاسة في بعض الموارد ، كما إذا كان هنا أشياء يشكّ في عدّها غير محصورة
وعلمت نجاسة جميعها أو حرمتها ، ثمّ علم إجمالا بعروض الطهارة أو الحلّية لها إلّا
النادر منها.
ثمّ إنّا نزيد على
ما ذكره المصنّف رحمهالله ببيان محتملات كلام المحقّق الثاني ، فنقول : إنّه إن أراد
بالاستصحاب أصالة الإباحة الثابتة للأشياء في نفسها وقبل العلم الإجمالي الحاصل
بحرمة بعضها ، يرد عليه : أنّ الإباحة الأصليّة لا تنافي الحرمة العارضة ، لأجل
المقدّمة العلميّة للاجتناب عن الحرام المعلوم إجمالا ، كيف لو تمّ ذلك جرى في
المحصور أيضا.
وإن أراد به أصالة
إباحة الأشياء المشكوك في كونها محصورة ، أو غير محصورة بمعنى استصحاب إباحتها مع
وصف هذا الشكّ ، يرد عليه : أنّه لم يعلم إباحتها بهذا الوصف في زمان حتّى يستصحب.
وإن أراد أصالة
براءة الذمّة عن وجوب الاجتناب عن هذا الموضوع المشكوك كونه من المحصور أو غيره ،
يرد عليه : أنّ مقتضى القاعدة حينئذ وجوب الاجتناب عنه. وتوضيح المقام : أنّه مع
اشتباه المحصور بغير المحصور ، إمّا من جهة الاختلاف في تفسير ضابط غير المحصور ،
وعدم الاطمئنان بشيء من تفاسيرهما ، وإمّا من جهة اختيار بعضها ووقوع الاشتباه في
بعض مصاديقه ، ففي كون المرجع فيه أصالة البراءة حتّى يلحق بغير المحصور ، أو
الاشتغال حتّى يلحق بالمحصور ، وجوه :
أحدها : كون
المرجع فيه استصحاب البراءة ، كما نقله المصنّف رحمهالله عن فوائد
.................................................................................................
______________________________________________________
الشرائع. والوجه
فيه : أنّ من المشتبهات ما هو واجب الاجتناب يقينا ، كالأفراد الواضحة للمحصور ،
ومنها ما هو غير واجب الاجتناب كذلك ، كالأفراد الواضحة لغير المحصور ، وما هو
مردّد بينهما ، ولا علم لنا بوجود المقتضي للاجتناب عنه ، لأنّ المقتضي له هو كونه
من المحصور ، ولم يعلم ذلك فيه.
وثانيها : كون
المرجع فيه أصالة الاشتغال ، على نحو ما قرّره المصنّف رحمهالله من وجود المقتضي وعدم العلم بالمانع.
وثالثها : التفصيل
بين القول بجواز المخالفة القطعيّة في غير المحصور ـ كما اختاره بعض سادة مشايخنا ـ
فلا يجب فيه الاحتياط ، وبين القول بعدم جوازها ـ كما اختاره المصنّف رحمهالله فيجب. والوجه فيه : أنّ الأوّل مبنيّ على عدم كون العلم
الإجمالي في غير المحصور مقتضيا لوجوب الاحتياط ، كما قرّره المصنّف رحمهالله في الدليل الخامس لأصل المسألة ، ومع الشكّ في كون المورد
من قبيل المحصور وغير المحصور لا يبقى لنا العلم بوجود المقتضي لوجوب الاجتناب ،
فيعمل فيه بأصالة البراءة ، لعدم المانع منه حينئذ. والثاني مبنيّ على تسليم وجود
المقتضي في غير المحصور ، وإبداء المانع من إجماع أو لزوم عسر ونحوهما ، ومع الشكّ
في وجود المانع يعمل المقتضي عمله.
فإن قلت : إنّ
الأمر في المقام على القول بعدم جواز المخالفة القطعيّة في غير المحصور دائر بين
الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، لأنّ المورد في الواقع إن كان من قبيل المحصور يجب
الاجتناب عن جميع أطرافه ، وإن كان من قبيل غير المحصور يجب الاجتناب عن مقدار
الحرام خاصّة ، ومع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر يجب الأخذ بالمتيقّن ونفي
الزائد بالأصل.
قلت : نعم ،
ولكنّه إنّما يتمّ في ما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر في نفس الأحكام دون طرق
امتثالها وإطاعتها ، والاحتياط في موارده من قبيل كيفيّة الامتثال للحكم المعلوم
إجمالا إذ لا مطلوبيّة له في نفسه مع قطع النظر عن التوصّل
لوجوب الاجتناب في
المحصور ـ وهو وجوب المقدّمة العلميّة بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردّد بين
المشتبهات ـ قائم بعينه في غير المحصور ، والمانع غير معلوم ، فلا وجه للرجوع إلى
الاستصحاب إلّا أن يكون نظره إلى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلّة عدم وجوب
الاجتناب : من أنّ المقتضي لوجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة ـ وهو حكم
العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ـ غير موجود ، وحينئذ فمرجع الشكّ في كون الشبهة
محصورة أو غيرها إلى الشكّ في وجود المقتضي للاجتناب ، ومعه يرجع إلى أصالة
الجواز.
لكنّك عرفت التأمّل في ذلك الدليل ،
فالأقوى وجوب الرجوع مع الشكّ إلى أصالة الاحتياط ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع.
وكيف كان : فما ذكروه من إحالة غير المحصورة وتميّزه إلى العرف لا يوجب إلّا زيادة
التحيّر في موارد الشكّ.
______________________________________________________
به إلى امتثال
الحكم المحتمل أو المعلوم إجمالا.
والوجه فيه : أنّ
العقل إنّما يستقلّ بقبح التكليف بلا بيان في ما وجب البيان على الشارع ، كما في نفس
الأحكام الواقعيّة ، بخلاف طرق امتثالها ، لكون كيفيّة امتثالها موكولة إلى طريقة
العقلاء في امتثال أحكام الموالي ، فمع الشكّ في بعض شرائط الامتثال لا يمكن دفع
احتماله بأصالة البراءة ، بل العقل مستقل حينئذ بوجوب الاحتياط تحصيلا للبراءة عن
التكليف المعلوم تفصيلا أو إجمالا ، ولذا قلنا بكون مقتضى الأصل وجوب تقليد
المجتهد الحيّ الأعلم ، وعدم جواز تقليد الميّت وغير الأعلم. بل الأمر كما وصفناه
من وجوب الاحتياط في موارد الشكّ على القول بجواز المخالفة القطعيّة أيضا ، لوجود
المقتضي وعدم المانع. أمّا الأوّل فلفرض العلم الإجمالي بوجود الحرام بين
المشتبهات. وأمّا الثاني فلفرض الشكّ في كون المورد من قبيل غير المحصور حتّى يكون
المقتضي مقارنا لوجود المانع ، والأصل عدمه. وما تقدّم من منع وجود المقتضي في غير
المحصور على هذا القول ضعيف ، يظهر وجهه ممّا عرفت.
وقال كاشف اللثام (١٥٨٨) في مسألة
المكان المشتبه بالنجس : لعلّ الضابط أنّ ما يؤدّي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا
فهو غير محصور ، كما أنّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدّي إلى
الترك غالبا
، انتهى. واستصوبه في مفتاح الكرامة. وفيه : ما لا يخفى من عدم الضبط.
ويمكن أن يقال (١٥٨٩) بملاحظة ما ذكرنا
في الوجه الخامس : إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث
لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ؛ ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده
عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كبيرة يعلم بوجود زيد فيها ،
لم يكن ملوما وإن صادف زيدا؟
______________________________________________________
١٥٨٨. يقرب منه ما حكي عن بعضهم من جعل الضابط لزوم العسر في
الاجتناب وعدمه ، فما يلزم من اجتنابه عسر فهو غير محصور ، وما [لا] يلزم فيه ذلك فهو محصور. وأورد عليه بكون الضابط غير حاصر
، إذ ربّ مورد من موارد غير المحصور لا يلزم من الاجتناب فيه عسر ، كما إذا اشتبه
إناء في أواني بلد يمكن للمكلّف التحرّز عنها من دون عسر ولو بالسكنى في مكان آخر.
وربّما يجعل
المرجع فيه العرف من دون اعتبار عسر عدّه مطلقا أو في زمان قصير. وهو حسن إن كان
عنوان المحصور وغير المحصور واردين في الكتاب والسّنة. وقد تقدّم الكلام فيه.
١٥٨٩. لا يذهب عليك أنّ مقتضى هذا الوجه جواز المخالفة القطعيّة
، وهو غير مرضيّ عند المصنّف رحمهالله ، وقد تقدّم تصريحه بالتأمّل فيه. مع أنّ هذا الضابط أيضا
لا يزيد إلّا التحيّر في موارد الشكّ ، لأنّه كثيرا ما يشكّ في بلوغ أطراف الشبهة
إلى حيث لا يعتنى بالعلم الإجمالي فيها عند العقلاء وعدمه ، كما صرّح به في
الإحالة إلى العرف وضبطه بعسر العدّ بزمان قصير.
__________________
وقد ذكرنا أنّ المعلوم بالإجمال قد
يؤثّر مع قلّة الاحتمال ما لا يؤثّر مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما قلناه في
سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ، و
مردّد بين أهل بلدة. ونحوه ما إذا علم (١٥٩٠) إجمالا بوجود بعض القرائن الصارفة
المختفية لبعض ظواهر الكتاب والسنّة أو حصول النقل في بعض الألفاظ إلى غير ذلك من
الموارد التي لا يعتنى فيها بالعلوم الإجماليّة المترتّب عليها الآثار المتعلّقة
بالمعاش والمعاد في كلّ مقام.
وليعلم أنّ العبرة في المحتملات كثرة
وقلّة بالوقائع التي تقع (١٥٩١) موردا
______________________________________________________
١٥٩٠. عليه يكون وجوب الفحص في العمل بالظواهر إمّا لأجل كون
الشبهة فيها من قبيل الكثير في الكثير أو من قبيل المحصور. وعلى تقدير كونها من
قبيل غير المحصور يمكن الفرق بينها وبين غيرها من موارد غير المحصور ، بأنّ اعتبار
الظواهر من باب الظهور النوعي ، وهذا الظهور يسقط بالعلم الإجمالي بوجود صارف عن
بعضها مختف عنّا وإن كانت الشبهة غير محصورة ، بخلاف الأواني الغير المحصورة التي
علم بنجاسة بعضها ، لأنّ المانع من إجراء أصالة الطهارة فيها هو العلم الإجمالي
بنجاسة بعضها ، ومع عدم الاعتداد به لأجل اتّساع دائرة الشبهة يرتفع المانع من
إجراء الأصل. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي الذي لا يعتنى به عند
العقلاء لا يصدم في الظهورات العرفيّة أيضا مطلقا. ولعلّه في بعض الموارد لا يخلو
من تأمّل إلّا أن يبلغ اتّساع دائرة العلم الإجمالي إلى حيث يعدّ وجوده فيه
كالعدم.
وبالجملة ، إنّ
مدار الظواهر على الظهور النوعي عرفا ، فإن بقي هذا الظهور مع العلم الإجمالي
المذكور فهو ، وإلّا فلا اعتداد بمثله ، سواء كان العلم الإجمالي في مورده معتنى
به عند العقلاء أم لا.
١٥٩١. غير خفيّ أنّ مراد من جعل ضابط غير المحصور عسر العدّ
مطلقا أو
__________________
للحكم بوجوب الاجتناب
مع العلم التفصيلي بالحرام ، فإذا علم بحبّة أرز محرّمة أو نجسة في ألف حبّة ،
والمفروض أنّ تناول ألف حبّة من الأرز في العادة بعشر لقمات ، فالحرام مردّد بين
عشرة محتملات ، لا ألف محتمل ؛ لأنّ كلّ لقمة يكون فيها الحبّة حرام أخذها ؛
لاشتمالها على مال الغير أو مضغها ؛ لكونه مضغا للنجس ، فكأنّه علم إجمالا بحرمة
واحدة من عشر لقمات. نعم ، لو اتّفق تناول الحبوب في مقام يكون تناول كلّ حبّة
واقعة مستقلّة كان له حكم غير المحصور.
وهذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر في
ضابط المحصور وغيره ، ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوق بشيء منها. فالأولى : الرجوع في
موارد الشكّ إلى حكم العقلاء بوجوب مراعاة العلم الإجمالي الموجود في ذلك المورد ؛
فإنّ قوله : «اجتنب عن الخمر» لا فرق في دلالته على تنجّز التكليف بالاجتناب عن
الخمر بين الخمر المعلوم المردّد بين امور محصورة وبين الموجود المردّد بين امور
غير محصورة ، غاية الأمر قيام الدليل في غير المحصورة على اكتفاء الشارع عن الحرام
الواقعي ببعض محتملاته ، كما تقدّم سابقا.
فإذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير
محصورة ، شكّ في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي في
الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض ، فيجب ترك جميع المحتملات ؛ لعدم الأمن من
الوقوع في العقاب بارتكاب البعض.
الثالث : إذا كان المردّد بين الامور
الغير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الامور
المحصورة ، كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة شاة ، فإنّ نسبة
مجموع المحرّمات إلى المشتبهات كنسبة الواحد إلى الثلاثة ، فالظاهر أنّه ملحق
(١٥٩٢) بالشبهة المحصورة لأنّ الأمر
______________________________________________________
في زمان قصير هو
عدّ هذه الوقائع المحتملة ، وحينئذ لا يرد عليه ما تقدّم من المصنّف رحمهالله من النقض بأوقية من طعام تبلغ ألف حبّة ، فتدبّر.
١٥٩٢. يعني : حكما ، وإن كان ملحقا بغير المحصور موضوعا. ولا
يخفى أنّ دعوى لحوقه موضوعا بالمحصور أو غيره فرع وجود ضابط في التمييز بينهما ، و
متعلّق (١٥٩٣)
بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، ومحتملات هذا الحرام المتباينة ثلاثة ،
فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة ، وأمّا ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات فهي
احتمالات لا تنفكّ عن الاشتمال على الحرام.
الرابع : انّا ذكرنا في المطلب الأوّل
المتكفّل لبيان حكم أقسام الشكّ في الحرام مع العلم بالحرمة : أنّ مسائله أربع :
الأولى منها الشبهة الموضوعيّة.
______________________________________________________
قد زيّف المصنّف رحمهالله الضوابط المذكورة لتمييزهما. ومع تسليمهما فهي مختلفة ،
لأنّه على ما ذكره المحقّق الثاني من الرجوع فيه إلى العرف ، ففي لحوقه بالمحصور
وغيره وجهان ، من فرض عدم حصر آحاد المشتبهات ، ومن أنّ المدار في المحصور وغير
المحصور قلّة وكثرة على نسبة مجموع المحرّمات إلى المشتبهات دون آحادها ، ونسبة
خمسمائة إلى ألف وخمسمائة كنسبة الواحد إلى الثلاثة ، فيكون من قبيل المحصور ،
لأنّ الأمر بالاجتناب إنّما تعلّق بمجموع المحرّمات ، فيعتبر نسبة المجموع إلى
المشتبهات. وأمّا على ما نقله عن كاشف اللثام فهو لاحق بغير المحصور ، وهو واضح.
وأمّا على ما احتمله المصنّف رحمهالله فهو لاحق بالمحصور ، لفرض اعتبار العلم الإجمالي في مورده.
١٥٩٣. توضيحه : أنّ مدار الفرق بين المحصور وغير المحصور من حيث
قلّة المحتملات وكثرتها على كون جريان الأصل في أحدها معارضا بجريانه في غيره
وعدمه ، فإذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة كان الحرام مجموع
الخمسمائة ، ومحتملاته المتباينة التي يحتمل كون واحد منها حراما والباقي مباحا
ثلاثة ، لعدم إمكان فرضها أربعة فصاعدا ، لأنّه إذا فرض حرمة الواحد من الأربعة أو
الزائد عليها فالباقي أيضا لا ينفكّ عن الحرام الواقعي ، وحينئذ لا يمكن فرض
التعارض بين المحتملات في جريان أصالة البراءة ، كما هو المناط في وجوب الاحتياط
في الشبهة المحصورة. وممّا ذكرناه يظهر توضيح المراد بقوله : «وأمّا ما عدا هذه
الثلاثة ...».
وأمّا الثلاث الأخر وهي ما إذا اشتبه
الحرام بغير الواجب ؛ لاشتباه الحكم من جهة عدم النصّ أو إجمال النصّ أو تعارض
النصّين ، فحكمها يظهر ممّا ذكرنا (١٥٩٤) في الشبهة المحصورة .
لكن أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ، كما إذا تردّد الغناء
(١٥٩٥) المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه (١٥٩٦) ، فإنّ مادّتي الافتراق من
هذا القسم. ومثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث (١٥٩٧)
______________________________________________________
١٥٩٤. في إطلاقه نظر من وجهين ، أحدهما : أنّ من الشبهات
الحكميّة أيضا قد تفرض غير محصورة ، اللهمّ إلّا أن يكون نظره إلى عدم وجوده في
الخارج. وثانيهما : أنّ مختار المصنّف رحمهالله في تعارض النصّين هو التخيير دون الاحتياط. اللهمّ إلّا أن
يكون نظره إلى مقتضى القاعدة مع قطع النظر عن دليل وارد أو حاكم عليها من الأخبار
أو غيرها.
١٥٩٥. كما إذا فسّر الغناء تارة بالصوت المطرب ، واخرى بالصوت مع
الترجيع ، فمجمع القيدين خارج ممّا نحن فيه ، للعلم بحرمته يقينا ، ومادّتا
الافتراق من قبيل ما علم إجمالا بحرمة أحد العنوانين كما في ما نحن فيه.
١٥٩٦. إنّما خصّ المثال بالعموم من وجه لخروج العموم والخصوص
مطلقا من محلّ الكلام ، لانحلال العلم الإجمالي فيه على علم تفصيلي وشكّ بدوي ،
كما سيصرّح به.
١٥٩٧. في رواية حفص بن غياث عن أبي جعفر عليهالسلام : «الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة». وفي الرياض : المشهور
أنّ المراد بالثالث هو الأذان الثاني بعد أذان آخر واقع في الوقت قبل ظهر الجمعة ،
سواء كان بين يدي الخطيب أم على المنارة أم غيرها. وعلّل كونه بدعة بأنّه لم يفعل
في عهد النبيّ صلىاللهعليهوآله ولا في عهد الأوّلين ، إنّما أحدثه عثمان أو معاوية على
اختلاف النقلة ، فيكون بدعة وإحداثا في الدين ما ليس منه. قيل : سمّي ثالثا لأنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله شرع للصلاة أذانا وإقامة ، فالأذان الثاني
__________________
يوم الجمعة واختلف في
تعيينه. ومثل قوله صلىاللهعليهوآله
: «من جدّد قبرا (١٥٩٨) أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام» ، حيث قرئ : «جدّد»
بالجيم والحاء المهملة والخاء المعجمة ، وقرى «جدث» بالجيم والثاء المثلّثة.
______________________________________________________
بالنسبة إليهما
يكون ثالثا. وفي محكيّ المعتبر احتمل كون المراد به أذان العصر ، ولذا قيل بالمنع
عنه. وسمّي ثالثا إمّا لما ذكرناه ، وإمّا بالنظر إلى كونه ثالثا بالنسبة إلى أذان
الصبح والظهر ، بناء على كون أوّل اليوم من أوّل الفجر الثاني دون طلوع الشمس.
١٥٩٨. الخبر مرويّ عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، واختلف في لفظه ومعناه. قيل : هو جدّد بالجيم لا غير ،
كما عن محمّد بن الحسن الصفار. وحكي عنه عدم تجديد القبر وتطيين جميعه بعد مرور
الأيّام عليه وبعد ما طيّن عليه في الأوّل. وعن سعد بن عبد الله : حدّد بالحاء غير
المعجمة ، بمعنى سنّم قبرا. وعن أحمد بن عبد الله البرقي : جدث ، وفسّر بالقبر.
وفي الفقيه بعد
نقل الخلاف : «والذي أذهب إليه أنّه جدّد بالجيم ، ومعناه أنّه نبش قبرا ، لأنّه
من نبش قبرا فقد جدّده وأحوج إلى تجديده ، وقد جعله جدثا محفورا» انتهى.
وفي التهذيب في
معنى قول البرقي : يمكن أن يكون المعنىّ بهذه الرواية ـ يعني : رواية الجدث ـ أن
يجعل القبر دفعة اخرى قبرا لإنسان آخر ، لأنّ الجدث هو القبر ، فيجوز أن يكون
الفعل مأخوذا منه. ثمّ حكى عن محمّد بن محمّد النعمان أنّه كان يقول : إنّ الخبر
بالخاء والدالين ، وذلك مأخوذ من قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ) والخدّ هو الشقّ ، يقال : خددت الأرض خدّا أي : شققته.
وعلى هذه الرواية يكون النهي يتناول شقّ القبر إمّا ليدفن فيه ، أو على جهة النبش
على ما ذهب إليه محمّد بن علىّ. وقال : «وكلّ ما نقلناه من الروايات محتمل ، و
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
الله أعلم بالمراد
والذي صدر عنه الخبر» انتهى.
وفي الرياض بناء
على رواية جدّد بالجيم : «ويحتمل قتل المؤمن ظلما ، فإنّه سبب لتجديد القبر. وفي
الفقيه بعد ما تقدّم قال : «أقول : إنّ التجديد على المعنى الذي ذهب إليه محمّد بن
الحسن الصفّار. والتحديد بالحاء غير المعجمة الذي ذهب إليه سعد بن معاذ. والذي
قاله البرقي من أنّه جدث داخل في معنى الحديث ، وأنّ من خالف الإمام في التجديد
والتسنّم والنبش واستحلّ شيئا من ذلك فقد خرج من الإسلام. والذي أقول في قوله : «من
مثّل مثالا» يعني به : من أبدع بدعة ودعا إليها ووضع دينا فقد خرج» انتهى. وظاهره
إرادة الجميع من لفظ الحديث ، وهو كما ترى.
وعن الشهيد في
الدروس : «ويكره تجديده بالجيم والحاء والخاء ، فإنّ الاختلاف ليس في كلام الإمام عليهالسلام ، وما ذكره الإمام أحد تلك الألفاظ لا الجميع» انتهى.
ويحتمل ذلك منه لأجل التسامح في أدلّة الكراهة.
ومن أمثلة المقام
أيضا ما ورد في الخبر من أنّه لا تعرّب بعد الهجرة. واختلف في تفسير التعرّب ،
فقيل : هو العود إلى دار الكفر بعد الإسلام وإن لم يرتدّ. وقيل : هو الارتداد بعد
الإسلام. وأورد عليه بما ورد في بعض الأخبار من كونه من الكبائر. وقيل : هو رفع اليد
عن الاشتغال بتحصيل الأحكام الشرعيّة والاشتغال بغيرها.
المصادر
(١) روض الجنان :
ص ٢٢٤.
(٢) جامع المقاصد
ج ٢ : ص ٦٦٦.
(٣) البقرة (٢) :
١٨٥.
(٤) الحج (٢٢) :
٧٨.
(٥) المحاسن ج ٢ :
ص ٢٩٦ ، الحديث ١٩٧٦.
(٦) روض الجنان :
ص ٢٢٤.
(٧) كشف اللثام ج
٣ : ص ٣٤٩.
المطلب الثاني : في اشتباه الواجب بغير
الحرام وهو على قسمين ؛ لأنّ الواجب إمّا مردّد بين أمرين متنافيين
، كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظهر والجمعة في يوم الجمعة ، وبين القصر
والإتمام في بعض المسائل. وإمّا مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا تردّدت الصلاة
الواجبة بين ذات السورة وفاقدتها ؛ للشكّ في كون السورة جزءا. وليس المثالان
الاوّلان من الأقلّ والأكثر ، كما لا يخفى.
واعلم أنّا لم نذكر (١٥٩٩) في الشبهة
التحريميّة من الشكّ في المكلّف به صور
______________________________________________________
١٥٩٩. لا يذهب عليك أنّ المراد بالأقلّ والأكثر في هذا المطلب ـ أعني
: اشتباه الواجب بغير الحرام من مطالب الشكّ في المكلّف به ـ هو الأقلّ والأكثر
الارتباطيّان خاصّة ، مثل الشكّ في الأجزاء والشرائط من العبادات. وأمّا
الاستقلاليّان ، كقضاء الفوائت المردّدة بين الأقلّ والأكثر ، والدين المردّد
بينهما ، فداخلان في الشكّ في التكليف ، لانحلال العلم الإجمالي حينئذ على علم
تفصيلي ، وهو العلم بوجوب الأقلّ ، وشكّ بدويّ ، وهو الشكّ في وجوب الزائد على
الأقلّ ، ولذا أدرج المصنّف رحمهالله هذا القسم في مسائل الشكّ في التكليف. وكذلك المراد
بالأقلّ والأكثر في قوله : «لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به
صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ....» هو الارتباطيّان دون الاستقلاليّين ،
بدليل قوله : «لأنّ الأكثر معلوم الحرمة ...» لأنّ العلم بحرمة الأكثر إنّما هو في
__________________
دوران الأمر بين
الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة
إلى الشكّ في أصل التكليف ؛ لأنّ الأكثر معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأقلّ.
أمّا القسم الأوّل : فالكلام فيه يقع في
أربعة مسائل على ما ذكرنا في أوّل الباب ؛ لأنّه إمّا أن يشتبه الواجب بغير الحرام
من جهة عدم النصّ المعتبر أو إجماله أو تعارض النصّين أو من جهة اشتباه الموضوع.
أمّا الاولى ، فالكلام فيها إمّا في
جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم بإجماع أو ضرورة حرمتها ، كما في المثالين
السابقين ، فإنّ ترك الصلاة فيهما رأسا مخالف للإجماع بل الضرورة وإمّا في وجوب
الموافقة القطعيّة.
______________________________________________________
الارتباطي دون
الاستقلالي ، بل الأمر في الاستقلالي بالعكس ، لأنّ الأقلّ فيه معلوم الحرمة دون
الزائد عليه.
وبالجملة ، إنّ
كلّا من الارتباطي والاستقلالي المذكورين داخل في الشكّ في التكليف ، إلّا أنّ المراد
في المقام هو الأوّل بقرينة التعليل. ومثال الارتباطي نقش صورة الحيوان ذي الروح ،
لأنّ المتيقّن حرمة نقش تمام الصورة ، والشكّ في حرمة الناقص. ومثال الاستقلالي
حرمة قراءة العزائم للحائض ، لأنّ المتيقّن حرمة قراءة نفس آية السجدة دون الزائد
عليها.
ومن طريق ما
ذكرناه يظهر أنّ الأولى للمصنّف رحمهالله أن يصرّح بخروج كلّ من الارتباطيّين والاستقلاليّين من
الشبهة التحريميّة ، ويعلّله بما يشملهما معا. ثمّ إنّه سيشير إلى أقسام الأقلّ
والأكثر الارتباطيّين عند بيان حكم القسم الثاني من القسمين اللذين ذكرهما.
والمراد بالارتباطي ـ كما مرّ في غير موضع ـ ما لم يكن الأقلّ مجزيا عن التكليف
ولو بقدره على تقدير وجوب الأكثر في الواقع ، بخلاف الاستقلالي كما يظهر من
الأمثلة.
__________________
أمّا الأوّل : فالظاهر حرمة المخالفة
القطعيّة ؛ لأنّها معصية (١٦٠٠) عند العقلاء ، فإنّهم لا يفرّقون بين الخطاب
المعلوم تفصيلا أو إجمالا في حرمة مخالفته وفي عدّها معصية.
______________________________________________________
١٦٠٠. بل تدلّ عليه الأدلّة الأربعة. أمّا الكتاب فمثل قوله
تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) لأنّ العصيان كما يصدق مع مخالفة الخطاب التفصيلي ، كذلك
مع مخالفة الخطاب المعلوم إجمالا. وهو واضح لمن تتّبع طريقة العرف. ومنه يظهر وجه
دلالة ما دلّ على ذلك من السنّة.
وأمّا الإجماع
فلعدم المخالف سوى ما حكاه المصنّف رحمهالله عن المحقّق الخونساري والقمّي رحمهماالله ، وهو حجّة عليهما ، لسبقه عليهما ، فلا تقدح مخالفتهما في
المقام ، مضافا إلى عدم قدح خروج معلوم النسب. مع أنّ ما جوّزاه من جواز الرجوع
إلى أصالة البراءة ينافي ما منعاه من عدم جواز خرق الإجماع المركّب ، لأنّ المستند
فيه أيضا هو عدم جواز طرح قول الإمام عليهالسلام المعلوم إجمالا ، بل هو من جزئيّات ما نحن فيه ، لأنّ مرجع
الكلام فيه إلى جواز مخالفة قول الإمام عليهالسلام المعلوم إجمالا وعدمه. وما نقله الشيخ في مسألة الإجماع
المركّب عن بعضهم من جواز الرجوع إلى مقتضى الأصول لم تظهر مخالفته لما ذكرناه ،
لاحتمال إرادة القائل صورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، لا الواجب وغير
الحرام كما في ما نحن فيه. مضافا إلى جهالة القائل ، ولعلّه ممّن لا تقدح مخالفته
في الإجماع.
فإن قلت : إنّ
مستندهم في عدم جواز خرق الإجماع المركّب هو الإجماع ، وهو مفقود في المقام.
قلت : مع تسليم
عدم الإجماع هنا إنّ الإجماع ليس دليلا تعبّديّا ، بل لأجل كشفه عن قول الإمام عليهالسلام ، وهذا المناط موجود في ما نحن فيه ، فالتنافي بين القول
بجواز الرجوع إلى أصالة البراءة هنا وعدم جواز خرق الإجماع المركّب واضح جليّ. نعم
، لا يرد هذا على قول صاحب الفصول بجواز الخرق مع فرض ثبوت
ويظهر من المحقّق الخوانساري دوران حرمة
المخالفة مدار الإجماع وأنّ الحرمة في مثل الظهر والجمعة من جهته ، ويظهر من
الفاضل القميّ رحمهالله
الميل إليه ، والأقوى ما عرفت.
وأمّا الثاني (١٦٠١):
______________________________________________________
شطري إجماع
المركّب بالأصل ، وعدم جوازه مع ثبوت أحدهما بدليل اجتهادي ، ولكن قد تبيّن فساده
في محلّه.
وأمّا العقل
فتقريبه واضح بعد صدق المعصية وقبحها عند العقل والعقلاء. فدعوى اشتراط تنجّز
التكليف بالعلم التفصيلي واضحة الفساد ، فإذن الأقوى ما قوّاه المصنّف قدسسره.
١٦٠١. اعلم أنّ هنا أمرين ، وقبل الأخذ بالمطلوب لا بدّ من
بيانهما ، أحدهما : أنّه يظهر من المحقّق القمّي رحمهالله كون النزاع في المقام ـ في وجوب الاحتياط أو التخيير في
الأخذ بأحد المشتبهين ـ صغرويّا ، وأنّ مرجعه إلى أنّ التكليف هل هو ثابت بالواقع
من حيث هو حتّى يجب الاحتياط ، أو بعدم جواز ترك مجموع الأمرين ، حتّى يكون العقاب
مرتّبا على تركهما معا ، لا على ترك أحدهما إن كان هو الواجب في الواقع ، فيثبت
التخيير بينهما لا محالة؟ وعلى تقدير ثبوت أحد الأمرين لا نزاع في الخصم فيه ،
وإنّما النزاع في إثباته ، وكلّ على شاكلته.
أقول : يمكن
تقريره معنويّا أيضا ، بأن كان النزاع ـ على تقدير ثبوت التكليف بالواقع ـ في
اقتناع الشارع في امتثال الواقع بالإطاعة الاحتماليّة ، لأدلّة البراءة بعد الفراغ
عن عدم جواز المخالفة القطعيّة ، أو أنّه يجب الاحتياط استصحابا للشغل اليقيني بعد
الإتيان بأحدهما ، وهو الظاهر من المحقّق الخونساري في ما يأتي من كلامه في عبارة
المصنّف رحمهالله ، لأنّ ظاهره هناك كفاية الإطاعة الظنّية وإن لم يكن الظنّ
معتبرا بالخصوص مع ثبوت التكليف بالواقع.
وثانيهما : أنّ
مقتضى الأصل على تقدير تقرير النزاع صغرويّا هو القول
ففيه قولان ، أقواهما
الوجوب ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع. أمّا الأوّل ؛ فلأنّ (١٦٠٢).
______________________________________________________
بالتخيير ، لأنّ
القدر المتيقّن من التكليف هو عدم العقاب إلّا على ترك مجموع الأمرين ، مع أنّ
الأصل عدم اشتغال الذمّة بالواقع من حيث هو. وعلى تقريره معنويّا وجوب الاحتياط ،
لقاعدة الاشتغال بعد عدم ثبوت كون أحد المشتبهين بدلا عن الواقع.
نعم ، المتعيّن
على ما يظهر من المحقّق الخونساري من كفاية الإطاعة الظنّية هو جواز الاقتناع
بالإطاعة الظنّية ، لفرض انقلاب أصالة حرمة العمل بالظنّ عنده ـ بل عند كلّ من عمل
بالاصول من باب الظنّ على ما هو ظاهرهم ـ إلى أصالة جواز العمل به.
وبالجملة ، إنّه
تلزم على الأوّل إقامة الدليل على وجوب الاحتياط ، وعلى الثاني إقامته على كفاية
الإطاعة الاحتماليّة أو الظنّية ، وعلى الثالث إقامته على لزوم الإطاعة القطعيّة ،
وهو واضح.
١٦٠٢. حاصله : كون ثبوت الخطاب العامّ مع عدم المانع من تنجّز
مقتضاه ـ كما ستعرفه ـ علّة تامّة لاستقلال العقل بوجوب الاحتياط. ويؤيّده ـ بل
يدلّ عليه ـ بناء العقلاء ، إذ لا ريب في كون طريقتهم في امتثال أوامر الموالي
مرجعا في معرفة امتثال الأحكام الشرعيّة ، لكون كيفيّة امتثالها موكولة إلى طريقة
العقلاء في إطاعة أوامرهم العرفيّة ، والاحتياط أيضا من جملة كيفيّته كما نبّهنا
عليه غير مرّة.
وبالجملة ، إنّ
العلم الإجمالي عندهم كالتفصيلي في تنجّز التكليف به. نعم ، بينهما فرق من جهة
اخرى ، وهي أنّه يصحّ مع العلم الإجمالي أن يجعل الشارع أحد المشتبهين بدلا عن
الواقع ، بأن يقنع في امتثال الواقع بالإطاعة الاحتماليّة التي هي المرتبة الوسطى
بين الإطاعة القطعيّة والمخالفة القطعيّة ، فيكون الواقع حينئذ مراعى في الجملة لا
مطروحا بالكلّية ولا ملحوظا بالجملة ، بخلاف العلم التفصيلي ، إذ لا مسرح لقضيّة
البدليّة فيه أصلا ، لوضوح التناقض بين مطلوبيّة الواقع تعيينا كما
.................................................................................................
______________________________________________________
هو مقتضى العلم
التفصيلي ، وجعل شيء آخر بدلا عنه مخيرا بينهما. نعم ، إثبات البدليّة في صورة
العلم الإجمالي يحتاج إلى دليل. ومجرّد احتمالها لا يمنع من حكم العقل بوجوب
الاحتياط ، فلا يرد حينئذ أنّه مع احتمال البدليّة كيف تدّعي استقلال العقل وبناء
العقلاء على وجوب الاحتياط في المقام؟
وإن شئت زيادة
توضيح لذلك نقول : إنّ ما ادّعاه الخصم من جواز التخيير في الأخذ بأحد المشتبهين ،
إمّا أن يكون مبنيّا على منع المقتضي لوجوب الاحتياط ، أو على إبداء المانع منه.
أمّا الأوّل فبأن
يدّعى كون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة ، أو منصرفة إليها مطلقا ، أو في حيّز
الأوامر والنواهي ، مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ). وعلى جميع التقادير ينحصر المأمور به والمنهيّ عنه في
الأفعال المعلومة ، فلا يكون الجاهل مكلّفا بالواقع حتّى يجب الاحتياط.
وأمّا الثاني فبأن
يمنع ـ بعد تسليم وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة من دون مدخليّة للعلم والجهل فيه
، وتسليم عدم الانصراف مطلقا ـ من تنجّز التكليف مع الجهل بالمكلّف به ، إمّا عقلا
، وذلك أيضا إمّا لأجل عدم تمكّن المكلّف من امتثال الواقع مع الجهل به ، وإمّا
لقبح توجيه الخطاب إلى الجاهل ، وإمّا لكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الواجب
والحرام ، لفرض عدم وجوب أحد المشتبهين في الواقع ، فيكون الإتيان تشريعا محرّما ،
وإمّا لفقد شرط من شروط المأمور به ، وهو الجزم بالنّية في العبادة ، ولذا أوجب
الحلّي الصلاة عريانا لمن اشتبه ثوبه الطاهر بالنجس ، أو شرعا لأدلّة البراءة.
ويردّ على الأوّل
امور :
أحدها : لزوم
تقييد جميع إطلاقات الكتاب والسنّة بالعالمين ، وهو خلاف الأصل.
الثاني : لزوم
التصويب الباطل ، لاختلاف الأحكام حينئذ باختلاف آراء المجتهدين واعتقاداتهم ،
لعدم وجود حكم واقعي حينئذ ولو شأنا في حقّ الجاهل مع تقيّد
وجوب الأمر المردّد
ثابت في الواقع ، والأمر به على وجه يعمّ العالم والجاهل صادر عن الشارع واصل إلى
من علم به تفصيلا ؛ إذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها وإلّا لزم
الدور كما ذكره العلّامة رحمهالله
في التحرير ، لأنّ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فكيف يتوقّف الوجوب عليه؟
وأمّا المانع ؛ فلأنّ المتصوّر منه ليس إلّا الجهل التفصيلي بالواجب ، وهو غير
مانع عقلا ولا نقلا.
أمّا العقل ؛ فلأنّ حكمه بالعذر إن كان
من جهة عجز الجاهل عن الإتيان
______________________________________________________
موضوعه بالعلم.
الثالث : لزوم
الدور ، كما نقله المصنّف رحمهالله عن الفاضل.
الرابع : لزوم
جواز المخالفة القطعيّة ، لفرض عدم وجود حكم واقعي في حقّ الجاهل ، والمفروض
الفراغ من بطلانه ، فلا وجه للقول بالتخيير حينئذ كما هو محلّ الكلام.
ويرد على الثاني ،
أمّا على دعوى عدم التمكّن من الامتثال فإنّها ممّا يكذّبه إمكان الاحتياط ، بل
حسنه عقلا وشرعا ، كيف لا ولو صرّح الشارع بأنّي إذا أمرتكم بشيء واشتبه عليكم هذا
الشيء وتردّد بين أمرين أوجبت عليكم أن تحصّلوا مرادي ولو بالاحتياط ، لا تلزم
عليه غائلة أصلا. مضافا إلى ما نقله المصنّف رحمهالله من اعتراف الخصم بجواز تكليف الجاهل في الجملة. وأمّا على
دعوى قبح الخطاب ، فإنّها أضعف من سابقها ، كما أوضحه المصنّف رحمهالله.
وأمّا على دعوى
دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، فلعدم تأتّي احتمال التشريع مع إتيان الفعل
بعنوان الاحتياط إلّا على الوجه الذي سيشير المصنّف رحمهالله إليه وإلى دفعه.
وأمّا على دعوى
عدم تحقّق الجزم بالنيّة ، فلمنع وجوبه فيما لا يتمكّن المكلّف من معرفة المكلّف
به تعيينا. مضافا إلى إمكانه في المقام بقصد الوجوب الظاهري بكلّ من المشتبهين ،
لكن يشير المصنّف رحمهالله إلى ضعف هذا الوجه. وسيجيء تحقيق ما يتعلّق بالمقام. وأمّا
عدم المنع شرعا فلما أوضحه المصنّف رحمهالله كما لا يخفى.
بالواقع ـ حتّى يرجع
الجهل إلى فقد شرط (١٦٠٣) من شروط وجود المأمور به ـ فلا استقلال للعقل بذلك ، كما
يشهد به جواز التكليف بالمجمل في الجملة (١٦٠٤) ، كما اعترف به غير واحد ممّن قال
بالبراءة فيما نحن فيه ، كما سيأتي.
وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه
التكليف إليه فهو أشدّ منعا ؛ وإلّا لجاز إهمال المعلوم إجمالا رأسا بالمخالفة
القطعيّة ؛ فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة. ولقبح (١٦٠٥) عقاب الجاهل
المقصّر على ترك الواجبات الواقعيّة (١٦٠٦) وفعل المحرّمات ، كما هو المشهور.
ودعوى أنّ مرادهم (١٦٠٧) تكليف الجاهل
في حال الجهل برفع الجهل والإتيان بالواقع ، نظير تكليف الجنب بالصلاة حال الجنابة
، لا التكليف بإتيانه مع وصف الجهل ؛ فلا تنافي بين كون الجهل مانعا (١٦٠٨) وبين
التكليف في حاله (١٦٠٩) ، وإنّما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ؛ لأنّ
المفروض فيما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم. مدفوعة برجوعها حينئذ إلى ما تقدّم من
دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة ، وقد تقدّم بطلانها
(١٦١٠).
______________________________________________________
١٦٠٣. بأن كان عدم الجهل من شرائط وجود المأمور به ، كما سيصرّح
به.
١٦٠٤. بأن لم يكن الخطاب مجملا من رأس.
١٦٠٥. على صيغة الماضي عطفا على قوله «لجاز».
١٦٠٦. بل في اصول العقائد أيضا.
١٦٠٧. أي : مراد المشهور بتكليف الجاهل وعدم قبح عقابه.
١٦٠٨. كما فيما نحن فيه. وعدم الأمر بإزالة الجهل فيما نحن فيه
إنّما هو لعدم إمكانه كما هو الفرض.
١٦٠٩. كما في الجاهل المقصّر.
١٦١٠. من عدم استقلال العقل بالعذر حينئذ.
__________________
وأمّا النقل ، فليس فيه ما يدلّ على
العذر ؛ لأنّ أدلّة البراءة غير جارية في المقام ؛ لاستلزام إجرائها (١٦١١) جواز
المخالفة القطعيّة ، والكلام بعد فرض حرمتها ، بل في بعض الأخبار ما يدلّ على وجوب
الاحتياط ، مثل صحيحة عبد الرحمن (١٦١٢) المتقدّمة في جزاء الصيد : «إذا أصبتم مثل
هذا ولم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» وغيرها.
______________________________________________________
١٦١١. قد أوضحه في الشبهة المحصورة. وسيشير إليه أيضا في الجواب
عمّا أورده على نفسه.
١٦١٢. تقريب الاستدلال بها : أنّ موردها وإن كان مباينا لمحلّ
النزاع ، لأنّ ما نحن فيه من قبيل المتباينين ، وموردها من قبيل الأقلّ والأكثر
الاستقلاليّين ، بناء على ما هو ظاهر الفقهاء من كون الكفّارات من قبيل الديون في
كون كلّ مقدار مجزيا عن التكليف المتعلّق به ، إلّا أنّه يمكن إثبات المطلوب بها
من وجوه :
أحدها : الإجماع
المركّب ، إذ لا مفصّل بين المتباينين والأقلّ والأكثر ، لأنّ كلّ من قال بوجوب
الاحتياط في الثاني قال به في الأوّل أيضا.
وثانيها : طريق
الأولويّة ، وهو واضح.
وثالثها : أنّ
قوله عليهالسلام : «بمثل هذا» يعطي وجوب الاحتياط في جميع موارد العلم
الإجمالي كما هو قضيّة المماثلة.
هذا ويرد على
الأوّلين : أنّ الإجماع والأولويّة إنّما يتمّان لو قلنا بوجوب الاحتياط في الأقلّ
والأكثر الاستقلاليّين ، وهو خلاف مختار المصنّف رحمهالله ، كما تقدّم في أقسام الشكّ في التكليف. وعلى الثالث : مع
تسليم كون المراد بالمماثلة هي المماثلة في مطلق العلم الإجمالي ، وقد تقدّم
الكلام فيه عند الكلام على أدلّة الاحتياط في الشبهة البدويّة التحريميّة ، أنّ
المفروض في مورد الرواية تمكّن المكلّف من تحصيل العلم التفصيلي بالتكليف ، ولا
إشكال في وجوب الاحتياط في مثله ، ولو مع كون الشبهة فيه بدويّة فضلا عن غيرها ،
فكيف يتسرّى الحكم إلى موارد
فإن قلت : إنّ تجويز (١٦١٣) الشارع لترك
أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر يكشف عن عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب
الإطاعة
، كما أنّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم
التفصيلي علّة تامّة لوجوب الإطاعة ، وحينئذ فلا ملازمة بين العلم الإجمالي ووجوب
الإطاعة ، فيحتاج إثبات الوجوب إلى دليل آخر غير العلم الإجمالي ، وحيث كان مفقودا
فأصل البراءة يقتضي عدم وجوب الجمع وقبح العقاب على تركه ؛ لعدم البيان. نعم ، لما
______________________________________________________
عدم التمكّن كما
هو الفرض؟
ثمّ إنّه يمكن أن
يستدلّ على المختار أيضا باستصحاب الشغل ، وعدم الخروج من عهدة التكليف بالإتيان
بأحد المشتبهين. وسيأتي الكلام فيه عند شرح ما يتعلّق بكلام المصنّف رحمهالله. وكذا بالإجماع على الاشتراك في التكليف ، إذ لا ريب في
كون المشافهين مكلّفين في مثال الظهر والجمعة مثلا بخصوص إحداها ، ولا يحصل العلم
للغائبين بالخروج من عهدة هذا التكليف ـ الذي طرأ عليه الاشتباه في الأزمنة
المتأخّرة ـ إلّا بالاحتياط. وفيه : أنّ الاشتراك في التكليف إنّما هو مع العلم
باتّحاد الصنف ، ولعلّ العلم التفصيلي بالمكلّف به له مدخل في اتّحاد صنف الحاضر
والغائب ، والفرض فقده في محلّ الفرض.
١٦١٣. هذا أحد الوجوه التي يمكن أن يستدلّ بها على القول
بالتخيير. وثانيها : أصالة البراءة ، كما سيشير إليه ، وسيأتي الكلام في تقريبها
وتزييفها. وثالثها : استلزام القول بوجوب الاحتياط للتشريع المحرّم ، وسيشير إليه
أيضا.
والمراد بتجويز
الشارع تجويزه في بعض الموارد الخاصّة التي ثبت فيها التخيير عقلا ، كما في موارد
دوران الأمر بين المحذورين ، أو شرعا كما في موارد تعارض النصّين ، إذ لا ريب في
شمول الأخبار الواردة في تعارضهما لصورة العلم الإجمالي أيضا.
وحاصل هذا السؤال
أنّ العلم الإجمالي لو كان علّة تامّة لتنجّز التكليف
__________________
كان ترك الكلّ معصية
عند العقلاء حكم بحرمتها (١٦١٤) ، ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب
الموافقة القطعيّة.
قلت : العلم الإجمالي كالتفصيلي علّة
تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم ، إلّا أنّ المعلوم إجمالا يصلح لأن يجعل أحد
محتمليه بدلا عنه في الظاهر ، فكلّ مورد حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين للواقع ـ
إمّا تعيينا كحكمه بالأخذ بالاحتمال المطابق للحالة السابقة ، وإمّا تخييرا كما في
موارد التخيير بين الاحتمالين ـ فهو من باب الاكتفاء (١٦١٥) عن الواقع بذلك
المحتمل ، لا الترخيص لترك الواقع بلا بدل في الجملة ؛ فإنّ الواقع إذا علم به
وعلم إرادة المولى بشيء وصدور الخطاب عنه إلى العبيد وإن لم يصل إليهم ، لم يكن
بدّ عن موافقته إمّا حقيقة بالاحتياط وإمّا حكما بفعل ما جعله الشارع بدلا عنه ،
وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في الشبهة المحصورة.
وممّا ذكرنا يظهر (١٦١٦) عدم جواز
التمسّك في المقام بأدلّة البراءة ، مثل رواية
______________________________________________________
بالواقع ، كما هو
مقتضى فرض وجود المقتضي لوجوب الاحتياط وعدم المانع منه عقلا وشرعا ، لم يقع خلافه
في الشرع ، إذ الوقوع دليل إمّا على عدم المقتضي أو على وجود المانع.
١٦١٤. أي : تحريم ترك الكلّ. وتأنيث الضمير باعتبار التأويل
بالمخالفة القطعيّة.
١٦١٥. الفرق بين جعل أحد المشتبهين بدلا عن الواقع ، واقتناع
الشارع في مقام الامتثال بالإتيان بنفس الواقع أو بدله ، وبين الرخصة في مخالفة
الواقع في الجملة لأجل مصلحة في المقامين ، واضح. وصريح المصنّف رحمهالله تعيّن حمل ما دلّ على التخيير في بعض موارد العلم الإجمالي
على الأوّل. وهو مبنيّ على قبح الرخصة المذكورة مع العلم إجمالا بمطلوبيّة الواقع
تعيينا ، بخلاف جعل البدل للواقع ، لأنّه ليس رخصة في المخالفة ، بل مرجعه إلى
مطلوبيّة الواقع أو ما يقوم مقامه.
١٦١٦. هذا بناء على الاستناد في أصالة البراءة إلى الأخبار.
وأمّا بناء على الاستناد فيها إلى العقل فقد يقال في تقريبها : إنّه إذا حصل العلم
بالوجوب وشكّ
.................................................................................................
______________________________________________________
في الواجب كما في
محلّ الفرض ، فالعقاب المرتّب على مخالفة التكليف الثابت هنا في الجملة لا يخلو :
إمّا أن يكون مرتّبا على مخالفة كلّ من المشتبهين صادف الواقع أم لا ، أو على
الأمر الدائر بينهما ، أو على مخالفة الواقع المتعيّن عند الشارع المجهول عندنا.
والأوّل لا يقول
به القائل بوجوب الاحتياط أيضا ، لأنّه إنّما يقول ـ على تقدير ترك الاحتياط ـ بترتّب
العقاب عليه على تقدير مصادفة المتروك للواقع ، لوضوح عدم مطلوبيّة الاحتياط إلّا
لأجل التوصّل به إلى الواقع ، فالعقاب عند القائل بوجوب الاحتياط إنّما هو على ترك
الواقع دونه. وقد حقّق المصنّف رحمهالله ذلك في مسائل الشكّ في التكليف.
والثاني ليس
عنوانا يتعلّق به التكليف ويعاقب على مخالفته. والثالث قبيح عقلا ، إذ لا أثر
للعلم الإجمالي هنا ، لأنّه إنّما يؤثّر مع العلم بعنوان التكليف ووقوع الشبهة في
بعض مصاديقه المردّد بين الأمرين كما في الشبهة المحصورة ، وإلّا فالعقاب على
مخالفة الواقع فيما نحن فيه مستلزم للعقاب على التكليف المجهول ، وهو قبيح عقلا.
فالقدر المسلّم من التكليف المرتّب على مخالفته العقاب هنا هو عدم جواز ترك مجموع
الأمرين ، لا كلّ واحد منهما.
وتوهّم عدم وجود
القائل بالبراءة هنا سوى ما حكاه المصنّف رحمهالله عن المحقّق الخوانساري والقمّي رحمهالله ضعيف جدّا ، لأنّا لم نجد مصرّحا بوجوب الاحتياط هنا فضلا
عن أن يكون مشهورا بين الأصحاب ، بل ظاهر إطلاقهم القول بالبراءة في غير موضع هو
القول بالبراءة هنا أيضا. فلاحظ كلام السيّد في مبحث حجيّة أخبار الآحاد حيث أورد
على نفسه قائلا ـ على ما حكاه عنه في المعالم ـ : إذا سددتم طريق العمل بالأخبار
فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟ وأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم
بالضرورة من مذاهب أئمّتنا فيه بالأخبار المتواترة ، وما لم يتحقّق ذلك فيه ـ ولعلّه
الأقلّ ـ يعوّل فيه على إجماع الإماميّة. ثمّ ذكر كلاما
.................................................................................................
______________________________________________________
طويلا في حكم ما
وقع فيه الخلاف بينهم ، وحاصله : أنّه إن أمكن تحصيل العلم بأحد الأقوال من طرق ما
ذكرناه تعيّن العمل به ، وإلّا كنّا مخيّرين بين الأقوال المختلفة ، لفقد دليل
التعيين.
ويقرب منه كلام
الشيخ في مبحث اختلاف الأمّة على القولين فصاعدا ، حيث نقل فيه قولا بطرح القولين
والرجوع إلى مقتضى الأصل ، واختار هو القول بالتخيير ، لأنّه أيضا يشمل ما نحن
فيه. ولعلّ المتتبّع يجد غير ما ذكرناه أيضا ، بل ما ورد من الأخبار الدالّة على
التخيير فيما تعارض فيه نصّان يشمل المقام أيضا.
وهذا غاية ما يمكن
أن يقال في المقام. وهو بعد ما يخلو من نظر بل منع ، لأنّا نقول بترتّب العقاب على
مخالفة الواقع المعيّن عند الله المجهول عندنا ، ولا قبح فيه أصلا بعد استقلال
العقل بعدم الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في صحّة تنجّز التكليف بكلّ منهما
، كما قرّره المصنّف رحمهالله في المقصد الأوّل من مقاصد الكتاب. ودعوى الفرق بين الشبهة
المحصورة وما نحن فيه ممّا لا يصغى إليه ، إذ مجرّد العلم بعنوان الحكم في الاولى
لا يوجب الفرق بعد العلم بوجوب أحد الأمرين فيما نحن فيه أيضا ، بحيث يقطع بعدم
رضا الشارع بمخالفته أصلا ، كيف لا والمناط في حكم العقل بوجوب الاحتياط في الاولى
ليس إلّا تحصيل العلم بامتثال المراد الواقعي للشارع مع العلم بنوع التكليف ، وهو
حاصل فيما نحن فيه أيضا. ومجرّد العلم بعنوان الحكم في الاولى لا يصلح فارقا عند
العقل.
وأمّا ما تقدّم من
استفادة القول بالتخيير من إطلاق كلام السيّد والشيخ ، ففيه : أنّ هذه العناوين
المستحدثة في كتب أواخر أصحابنا مطويّة في كتب المتقدّمين عليهم ، ولعلّهم غير
ملتفتين إلى هذه العناوين وإلّا تعرضوا لها في كتبهم أيضا. ولعل السيّد والشيخ بعد
عرض عنوان هذه المسألة ومضاهيها عليهما لا ينكران القول بوجوب الاحتياط فيهما ،
لما ركز في العقول من اعتبار العلم الإجمالي كالتفصيلي. وبالجملة ، إنّ التمسّك
بذيل مثل هذا الإطلاق غير مجد في
الحجب والتوسعة
ونحوهما ؛ لأنّ العمل بها (١٦١٧) في كلّ من الموردين بخصوصه يوجب
______________________________________________________
المقام ، لعدم
الاطمئنان به كما لا يخفى. وأمّا إطلاق أخبار التخيير فيما تعارض فيه نصّان ، ففيه
: أنّا لا نمنع من القول بالتخيير فيما ثبت بالدليل ، وإنّما الكلام فيما خلا منه
، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله في الجواب عمّا أورده على نفسه. هذا كلّه مع أنّ مقتضى منع
ترتّب العقاب على ترك كلّ واحد من المشتبهين ، ولا على العنوان المردّد ، ولا على
نفس الواقع هو جواز المخالفة القطعيّة ، والفرض في المقام الفراغ من بطلانه ، ولا
معنى حينئذ لترتّب العقاب على ترك مجموع الأمرين ، لعدم خلوّه من أحد الامور
المذكورة عند التأمّل.
١٦١٧. حاصله : أنّ هنا ثلاثة أفراد تشمل الأخبار المذكورة واحدا
منها بمفهومها وفردين بمنطوقهما. الأوّل هو الفرد المعلوم إجمالا ، والآخران
الأمران اللذان اشتبه الواجب بينهما. ففي مثل الظهر والجمعة قد علمنا بوجوب واحدة
منهما في نفس الأمر ، ومقتضى قوله عليهالسلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» و «ما حجب الله علمه عن
العباد فهو موضوع عنهم» هو عدم وضع هذا الفرد عنّا ، وكوننا مأخوذين به وملزمين
عليه ، وعدم التوسعة علينا فيه. ومقتضى منطوقهما كون وجوب خصوص الظهر والجمعة
موضوعا عنّا ، ونحن في سعة منه ، وهما غير واجبتين علينا. لكن دلالة المفهوم على
عدم كون الفرد المعلوم وجوبه إجمالا موضوعا عنّا دليل علمي ، بضميمة حكم العقل
بوجوب المقدّمة العلميّة على وجوب الإتيان بكلّ من الخصوصيّتين. فالعلم بوجوب كلّ
واحدة منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنّا ، إلّا أنّ العلم بوجوب كلّ واحدة من باب
المقدّمة ليس محجوبا عنّا ، ولا منافاة بينهما ، كما لا منافاة بين عدم الوجوب
النفسي واقعا والوجوب الغيري كذلك في سائر المقامات. وممّا ذكرناه قد تبيّن أنّ
أخبار البراءة في المقام حجّة لنا لا علينا.
هذا غاية توضيح
كلامه. وهو بعد لا يخلو من نظر ، لأنّ استفادة فرد ثالث
.................................................................................................
______________________________________________________
من هذه الأخبار لا
يخلو من منع ، لأنّ غاية ما يستفاد من قوله عليهالسلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» كون العلم بالحكم الواقعي
غاية للحكم بالإباحة الظاهريّة لمجهول الحكم ، فما يفيده الخبر بمفهومه هو بيان
غاية الحكم المذكور فيه ، بمعنى نفيه عن الموضوع المذكور في منطوقه عند زوال وصف
الجهالة عنه ، كما هو ضابط أخذ المفهوم المخالف. فالفرد المنفي عنه الحكم في طرف
المفهوم هو عين الفرد الذي ترتّب عليه الحكم في طرف المنطوق ، غاية الأمر أن يكون
ترتّب حكم المنطوق عليه عند وصف الجهالة ، وحكم المفهوم عند زوالها ، فالموضوع
واحد وإن اختلف حكمه بحسب اختلاف حالاته.
وإن شئت تطبيقه
على مثال الظهر والجمعة نقول : إنّهما غير واجبتين مع ملاحظة كون كلّ واحدة منهما
مجهولة الحكم بالخصوص إلى أن يحصل العلم بوجوب إحداهما المعيّنة في الواقع ، وبعد
العلم به يرتفع عنهما الحكم الظاهري الثابت لهما بوصف الجهل. فليست هنا أفراد
ثلاثة حتّى يكون أحدهما موردا لحكم المفهوم ، والآخران لحكم المنطوق ، كيف لا
والمعلوم الإجمالي لا يخرج من المشتبهين ، لأنّه أحدهما في الواقع. هكذا قرّر
المقام بعض مشايخنا.
وفيه نظر ، لمنع
كون مقصود المصنّف رحمهالله إثبات وجود فرد ثالث مغاير للمشتبهين بالذات يكون موردا
لحكم المفهوم ، لوضوح أنّ مقصوده دعوى كون العلم المأخوذ غاية للحكم المذكور في
هذه الأخبار أعمّ من التفصيلي والإجمالي ، ومقتضاه وقوع التعارض بين المنطوق والمفهوم
، لأنّ مقتضى الأوّل إباحة كلّ من المشتبهين إذا لوحظ بنفسه ، ومقتضى الثاني وجوب
كلّ منهما من باب المقدّمة العلميّة لامتثال الواجب المعلوم إجمالا ، بل لا منافاة
بينهما في الحقيقة ، لعدم تنافي إباحة الشيء من حيث كونه مجهول الحكم ووجوبه من
باب المقدّمة العلميّة ، فليس في كلامه من حكاية تثليث الأفراد عين ولا أثر. ومع
التسليم فلا بدّ أن يكون مراده فرض المشتبهين بوصف اشتباههما فردين ، والواحد
المعيّن في الواقع
طرحها بالنسبة إلى
أحدهما المعيّن عند الله المعلوم وجوبه ؛ فإنّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من
القصر والإتمام ممّا لم يحجب الله علمه عنّا فليس موضوعا عنّا ولسنا في سعة منه ،
فلا بدّ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شىء
إجمالا ، وإمّا من الحكم بأنّ شمولها للواحد المعيّن المعلوم وجوبه ودلالتها
بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد وكونه محمولا عليهم ومأخوذين به وملزمين
عليه ، دليل علمي ـ بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة ـ على وجوب الإتيان
بكلّ من الخصوصيّتين ، فالعلم بوجوب كلّ منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنّا ، إلّا
أنّ العلم بوجوبه من باب المقدّمة ليس محجوبا عنّا ، ولا منافاة بين عدم وجوب
الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة ، كما لا تنافي بين عدم الوجوب
النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك.
واعلم : أنّ المحقّق القميّ رحمهالله
بعد ما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل إلى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة
والقصر والإتمام ، قال : إنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ؛ فإنّ التكليف بالمجمل
المحتمل لأفراد متعدّدة ـ بإرادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ـ مستلزم
لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتّفق أهل العدل على استحالته ، وكلّ ما يدّعى
كونه من هذا القبيل فيمكن منعه ؛ إذ غاية ما يسلّم في القصر والإتمام والظهر
والجمعة وأمثالها أنّ الإجماع وقع على أنّ من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما
يستحقّ العقاب ، لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشارع المبهم عندنا بأن ترك
فعلهما مجتمعين ، يستحقّ العقاب.
______________________________________________________
باعتبار كونه معلوما
بالإجمال فردا ثالثا ، فيكون اختلافها بالاعتبار لا بالذات ، وهذا الاختلاف
الاعتباري لا يضرّ في اشتراط اتّحاد موضوع حكم المنطوق والمفهوم كما لا يخفى.
نعم ، ربّما أورد
على المصنّف رحمهالله أنّ ظاهر قوله : «ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا
لذاته ، ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة» إلى آخر ما ذكره كون الشيء المجهول الحكم
مباحا بالذات وواجبا من باب المقدّمة العلميّة في محلّ الفرض ،
ونظير ذلك مطلق (١٦١٨) التكليف بالأحكام
الشرعيّة ، سيّما في أمثال زماننا على مذهب أهل الحقّ من التخطئة ، فإنّ التحقيق
أنّ الذي ثبت علينا بالدليل هو تحصيل ما يمكننا تحصيله من الأدلّة الظنّية ، لا
تحصيل الحكم النفس الأمري في كلّ واقعة ؛ ولذا لم نقل بوجوب الاحتياط وترك العمل
بالظنّ الاجتهادي من أوّل الأمر.
نعم ، لو فرض حصول الإجماع أو ورود
النصّ على وجوب شىء معيّن عند الله تعالى
______________________________________________________
ومقتضاه فرض وجود
شأني للحكم الظاهري كالواقعي ، وليس كذلك ، لكون وجودات الأحكام الظاهريّة في
الواقع تابعة لوجوداتها الفعليّة ، بمعنى عدم وجود لها في الواقع إلّا في مقام في
فعليّتها وتنجّزها.
وأنت خبير بأنّه
يمكن أن يريد بعدم منافاة وجود الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه مقدّمة عدم وجوبه لو لم
يكن مقدّمة لواجب ، لا اجتماع الإباحة الظاهريّة والوجوب الظاهري في مورد ،
فتدبّر. ويمكن القول بجواز اجتماعهما في المقام ، بناء على القول بكون الأحكام
الظاهريّة مجعولة ، لتغاير موضوع الإباحة والوجوب في مورد اجتماعهما كما لا يخفى.
١٦١٨. حاصله : أنّ قبح التكليف المجهول من دون بيان كما ألجأنا
إلى عدم تسليم ثبوت التكليف بنفس الأمر فيما نحن فيه ، كذلك السبب والباعث
لاكتفائنا بالظنّ في امتثال مطلق الأحكام ، وعدم تسليمنا لثبوت التكليف بنفس
الواقع على ما هو عليه ، المقتضي لوجوب تحصيل القطع بالواقع في مقام الامتثال ، هو
ذلك ، سيّما في أمثال زماننا الذي كثر فيه الاشتباه في الأحكام الواقعيّة
ومتعلّقاتها. وهذا على المذهب الحقّ لأهل الحقّ من التخطئة ، إمّا لعدم تأتّي
القول بقبح الخطاب بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة في الأحكام الواقعيّة على
القول بالتصويب كما هو واضح ، وإمّا لأنّ أهل التصويب كلّهم أو جلّهم من الأشاعرة
النافين لإدراك العقل حسن الأشياء وقبحها ، ولا وجه للاستناد إلى قبح الخطاب
بالمجمل على مذهبهم في نفي تعلّق التكليف بالواقع على ما هو عليه ، فلا يرد حينئذ
مردّد عندنا بين امور
من دون اشتراطه بالعلم به ـ المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعيين في الطاعة ـ لتمّ
ذلك ، ولكن لا يحسن حينئذ قوله ـ يعني المحقّق الخوانساري ـ : فلا يبعد حينئذ
القول بوجوب الاحتياط ، بل لا بدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب. ولكن ، من أين
هذا الفرض؟ وأنّى يمكن إثباته؟
انتهى كلامه ، رفع مقامه.
وما ذكره قدّس الله سرّه قد وافق فيه
بعض كلمات ذلك المحقّق التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار ، حيث قال بعد كلام
له : والحاصل : إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شىء معيّن معلوم عندنا أو ثبوت حكم
إلى غاية معيّنة معلومة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ
بوجود ذلك الشيء المعلوم حتّى يتحقّق الامتثال.
إلى أن قال : وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع
على وجوب شىء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين أمور ، ويعلم أنّ ذلك التكليف
غير مشروط بشىء من العلم بذلك الشيء مثلا ، أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في
الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ويعلم ايضا عدم اشتراطه بالعلم ، وجب الحكم بوجوب
تلك الأشياء المردّد فيها في نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء. ولا
يكفي الإتيان بواحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شىء واحد من الأشياء في
ارتفاع الحكم المعيّن. إلى أن قال : وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل ورد نصّ مثلا على
أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونصّ آخر على أنّ هذا الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض
الامّة إلى وجوب شىء ، وبعض آخر إلى وجوب شىء آخر دونه ، وظهر بالنصّ والإجماع في
الصورتين أنّ ترك ذينك الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب
الإتيان بهما حتّى يتحقّق الامتثال ، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء
اشتركا في أمر أو تباينا بالكلّية. وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة
، انتهى كلامه ، رفع مقامه.
______________________________________________________
استدراك قوله : «على
مذهب أهل الحقّ ...» ، بتقريب أن يقال : إنّه لا دخل للقول بالتخطئة والتصويب في
نفي تعلّق التكليف بالواقع على ما هو عليه وعدمه ، ولا يترتّب على ذلك أثر بالنسبة
إلى قبح تأخير البيان ، بل المناسب لنفي التكليف
وأنت خبير بما في هذه الكلمات من النظر.
أمّا ما ذكره الفاضل القميّ رحمهالله
من حديث التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا دخل له في المقام ؛ إذ
لا إجمال في الخطاب (١٦١٩) أصلا ، وإنّما طرأ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد
ذلك الخطاب المبيّن بين أمرين ، وإزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب اختفاء
الأحكام غير واجبة على الحكيم تعالى حتّى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة ، بل يجب عند
هذا الاختفاء الرجوع إلى ما قرّره الشارع كلّية في الوقائع المختفية ، وإلّا فما
يقتضيه العقل من البراءة والاحتياط.
ونحن ندّعي أنّ العقل حاكم ـ بعد العلم
بالوجوب والشكّ في الواجب ، وعدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين
المعيّن أو المخيّر والاكتفاء به
______________________________________________________
بالواقع وكفاية
الظنّ في مقام الامتثال هو القول بالتخطئة ، لابتنائه على نفي الأحكام الواقعيّة ،
وكون ما ظنّه المجتهد هو حكم الله الواقعي.
هذا غاية توضيح المقام.
وهو بعد لا يخلو من نظر ، لأنّ اختلاف القائلين بالتخطئة والتصويب إنّما هو في
الموارد الخالية من النصّ ، لاتّفاق الفريقين على القول بالتخطئة في موارده ،
فإطلاق القول بها أو بالتصويب أجنبيّ عن قضيّة تعلّق التكليف بالواقع ، وقاعدة قبح
تأخير البيان ، بل على مذهبنا قد ورد النصّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام في جميع الوقائع حتّى أرش الخدش ، كما ورد في أخبارنا التي
ادّعي تواترها.
١٦١٩. يعني : بالنسبة إلى المشافهين بهذا الخطاب ، إذ الإجمال
إنّما طرأ بالنسبة إلينا لأجل بعض الامور الخارجة ، ولا يجب على الإمام عليهالسلام إزالة هذا الإجمال ، إذ اللازم حينئذ هو الرجوع إلى
القواعد المقرّرة من جهتهم في موارد الشبهة ، ومع فقدها إلى الأصول. والحاصل : أنّ
القبيح هو الخطاب بما كان مجملا بالذات ، لا بما طرأ عليه الإجمال بعد الخطاب وفهم
المراد منه بالنسبة إلى من شارك من خوطب به في مؤدّاه.
من الواقع ـ بوجوب
الاحتياط حذرا من ترك الواجب الواقعي ، وأين ذلك من مسألة التكليف بالمجمل وتأخير
البيان عن وقت الحاجة؟ مع أنّ التكليف بالمجمل (١٦٢٠) وتأخير البيان عن وقت العمل
لا دليل على قبحه إذا تمكّن المكلّف من الإطاعة ولو بالاحتياط.
وأمّا ما ذكره تبعا للمحقّق المذكور :
من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليل على وجوب شىء معيّن في الواقع غير مشروط
بالعلم به. ففيه : أنّه إذا كان (١٦٢١) التكليف بالشيء قابلا لأن يقع مشروطا
بالعلم ولأن يقع منجّزا غير
______________________________________________________
١٦٢٠. حاصله : منع قبح الخطاب بالمجمل مطلقا وإن كان إجماله
ذاتيّا أيضا. وتوضيحه : أنّ التكليف بالمجمل يتصوّر على وجوه :
أحدها : أن يتعلّق
التكليف بالواقع من دون علم المكلّف به ولا تمكّنه من الوصول إليه ولو بالاحتياط ،
مثل أن يقول : ائتني بشيء ، وأراد به شيئا معيّنا في الواقع.
وثانيها : أن
يتعلّق التكليف بالواقع ، وكان المكلّف متمكّنا من تحصيل العلم به بالاحتياط لا
على وجه التفصيل ، بأن قال : أكرم بعض هذه الجماعة من العلماء ، وأراد واحدا
معيّنا من العشرة ، ولكن كان الغرض من الخطاب هو الإطاعة التفصيليّة دون
الإجماليّة.
وثالثها : كسابقه
إلّا في عدم تعلّق الغرض بالإتيان بالواقع بالإطاعة التفصيليّة ، بأن كان المقصود
من الخطاب الإتيان بالواقع ولو بالاحتياط.
والمسلّم من قبح
الخطاب بالمجمل من دون بيان عند الحاجة هو القسمان الأوّلان ، وإلّا فلا ريب في
صحّة الخطاب على الوجه الأخير ، كما حكي التصريح به عن جماعة من أواخر المتأخّرين
منهم الوحيد البهبهاني قدسسره.
١٦٢١. ظنّي أنّ ما ذكره المحقّق القمّي رحمهالله من فرض وقوع التكليف منجّزا غير مشروط بالعلم إنّما هو على
سبيل الفرض ومع قطع النظر عن قبح الخطاب
مشروط بالعلم بالشيء
، كان ذلك اعترافا (١٦٢٢) بعدم قبح التكليف بالشيء المعيّن المجهول ، فلا يكون
العلم شرطا عقليّا ، وأمّا اشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول (١٦٢٣) بالنسبة
إلى الخطاب الواقعي ، فإنّ الخطاب الواقعي في يوم الجمعة ـ سواء فرض قوله : «صلّ
الظهر» أم فرض قوله : «صلّ الجمعة» ـ لا يعقل أن يشترط بالعلم بهذا الحكم
التفصيلي.
نعم بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق يصحّ
أن يرد خطاب مطلق ، كقوله : «اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولا ، وائت بما فيه
ولو كان غير معلوم» ، كما يصحّ أن يرد خطاب مشروط وأنّه لا يجب عليك ما اختفى عليك
من التكليف في يوم الجمعة وأنّ وجوب امتثاله عليك مشروط بعلمك به تفصيلا.
ومرجع الأوّل إلى الأمر بالاحتياط ،
ومرجع الثاني إلى البراءة عن الكلّ إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا المستلزم لجواز
المخالفة القطعيّة ، وإلى نفي ما علم إجمالا بوجوبه. وإن أفاد نفي وجوب القطع
بإتيانه وكفاية إتيان بعض ما يحتمله ، فمرجعه إلى جعل البدل للواقع والبراءة عن
إتيان الواقع على ما هو عليه. لكنّ دليل البراءة
______________________________________________________
بالمجمل ، كما
يومي إليه قوله : «نعم لو فرض» وقوله : «من أين هذا الفرض وأنّى يمكن إثباته».
ومقصوده أنّه لو فرض وجود هذا الأمر المحال كان الاحتياط واجبا ، وأنّى يمكن
إثباته؟ ثمّ إنّ المفروض ثبوت وجوب الشيء لا حصول الإجماع أو ورود النصّ عليه ،
فكأنّه قال : إذا فرض ثبوت هذا الوجوب بدليل من إجماع أو نصّ كان الاحتياط واجبا ،
وإن كان هذا الوجوب لأجل استلزامه المحال محالا. فلا يرد حينئذ أنّه إذا كان
الوجوب المذكور محالا ، لأجل استلزامه تأخير البيان عن الحاجة ، لا يمكن قيام دليل
شرعيّ عليه ، إذ القبيح لا يصير حسنا بقيام دليل شرعيّ عليه ، بل قيام الإجماع ـ الذي
هو من الأدلّة القطعيّة ـ عليه محال. والفرق بينه وبين ما أورده المصنّف رحمهالله واضح ، إلّا أنّ شيئا منهما غير وارد بعد ما عرفت.
١٦٢٢. يعني : اعترافا بعد إنكاره أوّلا.
١٦٢٣. لاستلزامه الدور.
على الوجه الأوّل
ينافي العلم الإجمالي المعتبر بنفس أدلّة البراءة المغيّاة بالعلم ، وعلى الوجه
الثاني غير موجود ، فيلزم من هذين الأمرين ـ أعني وجوب مراعاة العلم الإجمالي وعدم
وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالا ـ حكم العقل بوجوب الاحتياط
؛ إذ لا ثالث لذينك الأمرين ، فلا حاجة إلى أمر الشارع بالاحتياط ، ووجوب الإتيان
بالواقع غير مشروط بالعلم التفصيلي به ، مضافا إلى ورود الأمر بالاحتياط في كثير
من الموارد.
وأمّا ما ذكره من استلزام ذلك (١٦٢٤)
الفرض ـ أعني تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به ـ لإسقاط قصد
التعيين (١٦٢٥) في الطاعة ، ففيه أنّ سقوط قصد التعيين إنّما حصل بمجرّد التردّد
والإجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه بالبراءة أو الاحتياط ، وليس لازما لتنجّز
التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم.
فإن قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم
التمكّن ، فبأيّهما ينوي الوجوب والقربة؟ قلت : له في ذلك طريقان (١٦٢٦):
______________________________________________________
١٦٢٤. ظاهر المحقّق القمّي رحمهالله كون سقوط قصد التعيين محذورا مانعا من تعلّق التكليف
بالواقع ، نظرا إلى اشتراط صحّة العبادة به ، فمع تعلّق التكليف بالواقع ينتفي شرط
صحّتها.
ويرد عليه أوّلا :
عدم اختصاص محلّ الكلام بالتعبّديّات ، ولا ريب في عدم اشتراط قصد التعيين في
التوصّليّات.
وثانيا : منع
اشتراطه ، ولذا قلنا بصحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.
وثالثا : منع
اشتراطه فيما لا يمكن فيه تعيين الواقع ، إذ لم يقل به أحد فيما أعلم.
ورابعا : أنّ سقوط
قصد التعيين إنّما حصل بمجرّد التردّد والإجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه
بالاحتياط أو البراءة ، كما أوضحه المصنّف رحمهالله.
١٦٢٥. يعني : تعيين المأمور به الواقعي ، وإلّا فالتعيين في
الظاهر ممكن على القول بالبراءة ، بل على القول بالاحتياط أيضا على أحد وجهي قصد
التقرّب.
١٦٢٦. الأوّل مبنيّ على كون الأمر بالاحتياط في نظائر المقام
شرعيّا ، إذ
.................................................................................................
______________________________________________________
يصحّ حينئذ أن
يقصد التقرّب بكلّ من المشتبهين ، لصيرورتهما مأمورا بهما بعد تعلّق الأمر الشرعيّ
بهما. والثاني مبنيّ على كون الأمر به إرشاديّا عقليّا كما هو الأظهر ، ولذا أورد
المصنّف رحمهالله على الأوّل بما أورده من الوجهين.
والوجه فيه : أنّ
نفس الاحتياط طريق إطاعة لما هو واجب في نفس الأمر ، ولا يمكن تعلّق الأمر الشرعيّ
بما هو طريق الإطاعة والامتثال ، وإلّا لا فتقر هذا الأمر أيضا إلى أمر شرعيّ آخر
، فيدور أو يتسلسل. ومن هنا حمل الأمر في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) على الإرشاد الذي لا يترتّب عليه أثر سوى ما يترتّب على
نفس الواقع. فمرجع الأمر بالاحتياط هو الإرشاد إلى ما فيه من مصلحة المكلّف ، وهي
الائتمان بإتيان المشتبهين من خطر مخالفة الواقع ، وهذا الأمر بمجرّده لا يصلح أن
يقصد به التقرّب ، لأنّ حصول التقرّب بالعبادة إنّما هو باعتبار حسنها الذي هو
منشأ الأمر بها ، ولا حسن في المقدّمة العلميّة إلّا مجرّد التوصّل بها إلى الواقع
، وهو بمجرّده لا يحصل به التقرّب ، كما صرّح به المصنّف رحمهالله وبما فيه من الدقّة ، ولذا ضعّفنا ما جعلوه ثمرة لوجوب
المقدّمة من صحّة قصد الطاعة بالمقدّمة فيما يعتبر فيه ذلك ، كما فيما نحن فيه من
مثال الظهر والجمعة والقصر والإتمام. ووجه الضعف واضح.
وممّا ذكرناه يظهر
أيضا أنّ قصد الوجه المعتبر في العبادة لا يصحّ في المقام بقصد الوجوب العارض
للمشتبهين من باب المقدّمة ، لأنّ المراد بالوجه المقصود هو الوجوب العارض للعبادة
التي هي المقرّبة إلى الله ، والمشتبهان مع قطع النظر عن الواقع لا مطلوبيّة لهما
، وليسا مقرّبين إلى الله سبحانه ، ولذا حكم المصنّف رحمهالله بأنّ المقصود في المقام إحراز الوجه الواقعي.
ثمّ إنّ الثمرة
بين الطريقين تظهر فيما لو أتى بالظهر مثلا أوّلا من دون قصد الإتيان بالجمعة
بعدها لتحصيل الواجب الواقعي ، بل ومع قصد عدمه ، فتصحّ الظهر حينئذ على الطريقة
الاولى دون الثانية ، لفرض تعلّق الوجوب الشرعيّ على كلّ
أحدهما : أن ينوي
بكلّ منهما الوجوب والقربة ؛ لكونه بحكم العقل مأمورا بالإتيان بكلّ منهما.
وثانيهما : أنّ ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّبا إلى الله تعالى ،
فيفعل كلّا منهما ، لتحصيل الواجب الواقعي ، وتحصيله لوجوبه والتقرّب به إلى الله
تعالى ، فيقصد
أنّي اصلّي الظهر لأجل تحقّق الفريضة الواقعيّة به أو بالجمعة التي أفعل بعدها أو
فعلت قبلها قربة إلى الله ، وملخّص ذلك : أنّي اصلّي الظهر احتياطا قربة إلى الله.
وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد.
ولا يردّ عليه : أنّ المعتبر في العبادة
قصد التقرّب والتعبّد بها بالخصوص ، ولا ريب أنّ كلّا من الصلاتين عبادة ، فلا
معنى لكون الداعي في كلّ منهما التقرّب المردّد بين تحقّقه به أو بصاحبه ؛ لأنّ القصد
المذكور إنّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة دون المقدميّة.
وأمّا الوجه الأوّل ، فيردّ عليه : أنّ
المقصود إحراز الوجه الواقعي وهو الوجوب الثابت في أحدهما المعيّن ، ولا يلزم من
نيّة الوجوب المقدّمي قصده. وأيضا فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما ولو بملاحظة
وجوبه الظاهري ؛ لأنّ هذا الوجوب مقدمي ومرجعه إلى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمّة
، ودفع احتمال ترتّب ضرر العقاب بترك بعض منهما ، وهذا الوجوب إرشادي لا تقرّب فيه
أصلا ، نظير أوامر الإطاعة ؛ فإنّ امتثالها لا يوجب تقرّبا ، وإنّما المقرّب نفس
الإطاعة ، والمقرّب هنا أيضا نفس الإطاعة الواقعيّة المردّدة بين الفعلين ، فافهم
؛ فإنّه لا يخلو عن دقّة.
______________________________________________________
واحدة منهما ،
فيصحّ الإتيان بكلّ واحدة منهما ولو مع القصد إلى عدم الإتيان بالاخرى ، بخلافه
على الثانية ، إذ وجوب كلّ واحدة منهما حينئذ من باب المقدّمة ، فلا يصحّ قصد
التقرّب بالواجب الواقعي حينئذ مع عدم القصد عند الإتيان بأحد المشتبهين إلى عدم
الإتيان بالآخر ، وهو واضح.
ثمّ إنّ ما ذكره
المصنّف رحمهالله هنا من عدم صحّة قصد التقرّب بكلّ واحد من
__________________
وممّا ذكرنا يندفع توهّم : أنّ الجمع
بين المحتملين مستلزم لإتيان غير الواجب على جهة العبادة ؛ لأنّ قصد القربة
المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ـ ليقطع بإحرازه في
الواجب الواقعي ـ ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة
مقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب (١٦٢٧) الواقعي فيكون محرّما ،
فالاحتياط غير ممكن في العبادات ، وإنّما يمكن في غيرها من جهة أنّ الإتيان
بالمحتملين لا يعتبر فيهما قصد التعيين والتقرّب ، لعدم اعتباره في الواجب الواقعي
المردّد ، فيأتي بكلّ منهما لاحتمال وجوبه.
ووجه اندفاع هذا التوهّم مضافا إلى أنّ
غاية (١٦٢٨) ما يلزم من ذلك عدم
______________________________________________________
المشتبهين من حيث
كونهما مقدّمة للواقع وإن كان متّجها في بادئ النظر ، إلّا أنّه قد حقّق في مسألة
دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ـ من مسائل الشكّ في التكليف ـ مع كون الشبهة
ناشئة من فقدان النصّ ، صحّة قصد التقرّب بالفعل المحتاط به لأجل حسن الاحتياط ،
فراجع.
١٦٢٧. فيه نظر ، لأنّ الظاهر تحقّق التشريع بكلّ من المشتبهين ،
لأنّ التشريع هو إدخال ما لم يثبت في كونه من الدين في الدين ، لا خصوص ما علم
أنّه ليس منه فيه ، لقبح الأوّل أيضا عقلا بل شرعا أيضا ، كما اعترف به المصنّف رحمهالله عند تأسيس الأصل في العمل بالظنّ ، وحيث لم يثبت كون خصوص
كلّ واحد من المشتبهين من الدين ، يكون الإتيان بخصوص كلّ واحد منهما بقصد كونه من
الدين تشريعا.
١٦٢٨. يردّ عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّ محذور التشريع مشترك
بين القول بوجوب الاحتياط والتخيير ، لأنّ القائل بالثاني يدّعي أنّ الواجب عدم
المخالفة القطعيّة للواقع وكفاية الموافقة الاحتماليّة فيه ، وهو يحصل بالإتيان
بأحد المشتبهين ، فيكون القول بالتخيير من شعب القول بالاحتياط ، لكونه قولا
بالاحتياط في الجملة ، لفرض كون الإتيان بأحدهما لأجل تحصيل الواقع في الجملة ، لا
لأجل وجوبه بالخصوص شرعا ، فيكون الإتيان به بقصد كونه من الدين تشريعا. ولكن هذا
التمكّن من تمام
(١٦٢٩) الاحتياط في العبادات حتّى من حيث مراعاة قصد التقرّب المعتبر في الواجب
الواقعي ـ من جهة استلزامه للتشريع المحرّم ـ ، فيدور الأمر بين الاقتصار على أحد
المحتملين وبين الإتيان بهما مهملا لقصد التقرّب في الكلّ فرارا عن التشريع ، ولا
شكّ أنّ الثاني أولى ؛ لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الإمكان ، فإذا لم يمكن
الموافقة بمراعاة جميع ما يعتبر في الواقعي في كلّ من المحتملين ، اكتفي بتحقّق
ذات الواجب في ضمنهما : أنّ اعتبار قصد (١٦٣٠) التقرّب والتعبّد في العبادة
الواجبة واقعا لا يقتضي قصده في كلّ منهما ، كيف وهو غير ممكن! وإنّما يقتضي بوجوب
قصد التقرّب والتعبّد في الواجب المردّد بينهما بأن يقصد في كلّ منهما : أنّي
أفعله ليتحقّق به أو بصاحبه التعبّد بإتيان الواجب الواقعي.
وهذا الكلام بعينه جار في قصد الوجه
المعتبر في الواجب ؛ فإنّه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصّة في خصوص كلّ منهما ، بأن
يقصد أنّي اصلّي الظهر لوجوبه ، ثمّ يقصد أنّي اصلّي الجمعة لوجوبها ، بل يقصد أنّي
اصلّي الظهر لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي اصلّيها بعد ذلك
أو صلّيتها قبل ذلك.
______________________________________________________
مبنيّ على ما
عرفته في الحاشية السابقة من تحقّق التشريع فيما لم يثبت كونه من الدين مطلقا ،
وحينئذ يمكن دعوى كون القول بالاحتياط أولى من القول بالتخيير ، لحصول الواقع
بالأوّل بالفرض ، والشكّ في حصوله بالثاني.
١٦٢٩. حاصله : دوران الأمر في المقام بين فوات وصف من أوصاف
الذات يقينا وبين احتمال فوات الذات ، وأنّ الأوّل أولى من الثاني. وهو لا يخلو من
تأمّل ، لأنّ نيّة التقرّب لا تقاس على سائر شرائط العبادة ، لأنّ قوامها بها ،
وهي روحها ، وهي بدونها كالعدم ، لأنّ مطلوبيّتها إنّما هي بعنوان حصول التقرّب
والامتثال بها ، بل ذلك هي الغاية المقصودة منها. ويمكن دعوى معارضة فوات مثل هذا
الوصف لفوات الذات فيما كان الأوّل قطعيّا والثاني محتملا كما هو الفرض.
١٦٣٠. حاصله : منع اعتبار قصد التقرّب بخصوص المأتيّ به تفصيلا ،
وأنّ ذلك على تقدير تسليمه إنّما هو فيما أمكن تحصيل العلم التفصيلي بالواقع فيه ،
والحاصل : أنّ نيّة الفعل هو قصده على
الصفة التي هو عليها التي باعتبارها صار واجبا ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك في كلّ من
المحتملين ، وإذا لاحظنا ذلك فيه وجدنا الصفة التي هو عليها ـ الموجبة للحكم
بوجوبه ـ هو احتمال تحقّق الواجب المتعبّد به والمتقرّب به إلى الله تعالى في ضمنه
، فيقصد هذا المعنى ، والزائد على هذا المعنى غير موجود فيه ، فلا معنى لقصد
التقرّب في كلّ منهما بخصوصه ، حتّى يردّ : أنّ التقرّب والتعبّد بما لم يتعبّد به
الشارع تشريع محرّم.
نعم هذا الإيراد متوجّه على ظاهر من
اعتبر في كلّ من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص ، لكنّه مبنيّ أيضا
على لزوم ذلك من الأمر الظاهري بإتيان كلّ منهما عبادة ، فيكون كلّ منهما عبادة
واجبة في مرحلة الظاهر ، كما إذا شكّ في الوقت أنّه صلّى الظهر أم لا ، فإنّه يجب
عليه فعلها ، فينوي الوجوب والقربة وإن احتمل كونها في الواقع لغوا غير مشروع ،
فلا يرد عليه إيراد التشريع ؛ إذ التشريع إنّما يلزم لو قصد بكلّ منهما أنّه
الواجب واقعا المتعبّد به في نفس الأمر. ولكنّك عرفت أنّ مقتضى النظر الدقيق خلاف
هذا البناء ، وأنّ الأمر المقدّمي ـ خصوصا الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا
يكون الأمر بها إلّا إرشاديّا ـ لا يوجب موافقته التقرّب ولا يصير منشأ لصيرورة
الشيء من العبادات إذا لم يكن في نفسه منها.
وقد تقدّم في مسألة (١٦٣١) «التسامح في
أدلّة السنن» ما يوضح حال الأمر بالاحتياط ، كما أنّه قد استوفينا في بحث «مقدّمة
الواجب» حال الأمر المقدّمي ، وعدم
______________________________________________________
كيف وهو غير مسلّم
فيه أيضا ، ولذا قلنا بجواز الاحتياط فيما أمكن فيه العلم التفصيلي ومرجع ما ذكره
هنا في كيفيّة قصد التقرّب أو الوجه إلى الطريقة الثانية من الطريقين اللتين
ذكرهما.
١٦٣١. الظاهر أنّ مقصوده الإشارة إلى ما حقّقه في سائر مصنّفاته.
نعم ، قد ذكر شطرا من الكلام في أدلّة التسامح في بعض مسائل الشكّ في التكليف ،
إلّا أنّا قد أشرنا عند شرح قوله : «له في ذلك طريقان ....» إلى أنّ ما ذكره هناك
ينافي ما بنى عليه تحقيق الكلام هنا. ثمّ إنّ تحقيق الكلام في كون الوضوء والغسل
حسنين
صيرورة المقدّمة
بسببه عبادة ، وذكرنا ورود الإشكال من هذه الجهة على كون التيمّم من العبادات على
تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ؛ فإنّه لا منشأ حينئذ لكونه منها إلّا
الأمر المقدّمي به من الشارع.
فإن قلت : يمكن إثبات (١٦٣٢) الوجوب
الشرعيّ المصحّح لنيّة الوجه والقربة
______________________________________________________
بالذات دون
التيمّم موكول إلى الفقه.
وأمّا صحّة
التقرّب بالأمر الغيري وعدمها ، وكذا صحّة ترتّب الثواب على موافقته والعقاب على
مخالفته وعدمها ، فقد استوفينا الكلام في ذلك في مبحث المقدّمة ، وذكرنا هناك أنّ
ظاهر الفقهاء كون قصد التقرّب في الوضوء والغسل لأجل الأمر الغيري المتعلّق بهما ،
وذكرنا أيضا الإشكال فيه في صيرورة التيمّم بمجرّد الأمر الغيري به عبادة ، كما
أشار إليه المصنّف رحمهالله أيضا هنا ، فمن أراد أن يصدع الحقّ فعليه بمراجعته.
١٦٣٢. هذا من جملة الأدلّة التي استدلّوا بها على المختار ، كما
أشرنا إليه في بعض الحواشي السابقة. وقد قرّر التمسّك به بوجهين :
أحدهما : ما هو
ظاهر المصنّف رحمهالله من أنّه إذا علم بالوجوب وتردّد الواجب بين أمرين فالأصل
بقاء الشغل ، وعدم الخروج من عهدة التكليف بالإتيان بأحدهما ، فيثبت وجوب الأوّل
منهما بالإجماع ، إذ الفرض هنا حرمة المخالفة القطعيّة ، ووجوب الآخر بالأصل.
ويرد على التمسّك
بالإجماع ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمهالله ـ أنّ هذا الإجماع
ليس بحجّة ، لكون المسألة عقليّة ، لأنّ مستند المجمعين هو العقل كما أوضحه
المصنّف رحمهالله ، لا ورود دليل تعبّدي على ذلك ، ولا اعتداد بالإجماع في
المسائل العقليّة ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله في المقصد الأوّل عند بيان أدلّة القول بحرمة التجرّي ،
وأوضحناه هناك. والفرق بينه وبين ما أورده المصنّف رحمهالله هو عدم
.................................................................................................
______________________________________________________
الاعتداد بالإجماع
فيما علم بمستند الجمعين ، وبضعفه ومبني على ما ذكرنا عدم الاعتداد به في المسائل العقليّة
مع قطع النظر عن مستندهم. وعلى كلّ تقدير لا يمكن إثبات الوجوب الشرعيّ به.
ثمّ إنّ ظاهر
المصنّف رحمهالله تسليم كون هذا الإجماع اصطلاحيّا ، إلّا أنّه ادّعى عدم
إمكان الاستكشاف به عن خطاب شرعيّ بعد العلم بمستند المجمعين ، وضعف دلالته على
الوجوب الشرعيّ الذي هو المدّعى. ويمكن أن يقال بعد تسليم صحّة الاستكشاف به عن
خطاب شرعيّ : إنّ هذا الخطاب لا يزيد على خطابات وجوب الاحتياط ، فكما أنّها
إرشاديّة لا يثبت بها الوجوب الشرعيّ ، كذلك المستفاد من الإجماع. ومرجع ما ذكرناه
مع ما ذكره المصنّف رحمهالله إلى منع حجيّة هذا الإجماع أوّلا ، ومنع الاستكشاف به عن
خطاب شرعيّ ثانيا ، ومنع استفادة الوجوب الشرعيّ من الخطاب الشرعيّ المستفاد منه
ثالثا.
وأمّا التمسّك
بالاستصحاب فيرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمهالله ـ أنّه إنّما يتمّ
لو سلّم الخصم ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه ، والمحقّق القمّي رحمهالله ينكر ذلك ، ويدّعي أنّ القدر المتيقّن من تعلّق التكليف
بالواقع هو حرمة ترك كلّ من الأمرين لا أحدهما لو صادف الواقع ، كما هو صريح ما
نقله عنه المصنّف رحمهالله ، ولذا استظهرنا منه في بعض الحواشي السابقة كون النزاع في
المقام صغرويّا.
نعم ، لا يرد هذا
الإيراد على ما هو ظاهر المصنّف رحمهالله هنا ، من التمسّك بالاستصحاب لإثبات كيفيّة النيّة بعد
الفراغ من أصل وجوب الاحتياط. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ هذا الدليل إقناعي لا
إلزامي ، لأنّ مقتضى الخطاب الشرعيّ ثبوت التكليف بنفس الواقع ، بناء على ما هو
الحقّ من وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة لا
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
المعلومات
بالتفصيل ، كيف لا ومقتضى وضعها للمعاني المعلومة جواز المخالفة القطعيّة ،
والمفروض هنا الفراغ من بطلانه. وعدم تسليم المحقّق المذكور ثبوت التكليف كذلك لا
يضرّ بعد تبيّن خلافه.
وثانيهما : أنّه
إذا علم بالواقع تفصيلا بالسماع من الإمام عليهالسلام أو غيره ، ثمّ عرض الاشتباه بالنسيان مثلا ، وتردّد الواجب
بين أمرين ، فالأصل بقاء الشغل ، وعدم الخروج من عهدة التكليف الثابت بالواقع
بالإتيان بأحدهما. وإذا ثبت وجوب الاحتياط في مثل هذه الصورة ، ثبت في غيرها ممّا
اشتبه فيه الواجب من أوّل الأمر ـ كما في أمثال زماننا ـ بعدم القول بالفصل. ولا
يرد عليه ما أوردناه على التقرير الأوّل من عدم تسليم الخصم ثبوت التكليف بالواقع.
نعم ، يرد عليه
أوّلا : إمكان التفصيل في المقام ، لعدم العلم بإجماعهم على عدم الفصل ، لعدم
عنوان المسألة بالقيود المأخوذة في موضوعها في كلمات كثير من العلماء.
وثانيا : إمكان
قلب الإجماع على مذاق المحقّق القمي رحمهالله ، على ما تقدّم من منعه من ثبوت التكليف بالواقع فيما لم
تكن الشبهة مسبوقة بالعلم التفصيلي ، وأنّ المتيقّن منه هو وجوب عدم ترك كلّ واحد
من المشتبهين ، لا وجوب الإتيان بنفس الواقع على ما هو عليه كي يجب الاحتياط.
فنقول فيما لم يكن العلم الإجمالي فيه مسبوقا بالعلم التفصيلي : إنّ مقتضى استصحاب
عدم التكليف الثابت في حال الصغر أو الجنون عدم ثبوت التكليف إلّا بحرمة ترك كلا
الأمرين لا وجوب كليهما ، وإذا ثبت التخيير هنا بحكم الاستصحاب ، ثبت فيما كان
مسبوقا بالعلم الإجمالي بعدم القول بالفصل ، فتأمّل.
فإن قلت : إنّ
غاية الأمر هنا تعارض الاستصحابين ، والاستصحاب الوجودي مقدّم على العدمي ، كما هو
المصرّح به في كلماتهم.
قلت : لا دليل على
الترجيح بذلك ، ولم أر مصرّحا به من الفقهاء المعتنين بالفقه ، سوى ما حكاه بعض
مشايخنا عن صاحب المناهل. ولا دليل عليه ، لشمول أدلّة
في المحتملين ؛ لأنّ
الأوّل منهما واجب بالإجماع ولو فرارا عن المخالفة القطعيّة ، والثاني واجب بحكم
الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعيّ الظاهري ؛ فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال
وعدم الإتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه. قلت : أمّا المحتمل المأتيّ به أوّلا
فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ، وإنّما وجب لاحتمال تحقّق الواجب
به الموجب للفرار عن المخالفة أو للقطع بالموافقة إذا أتي معه بالمحتمل الآخر ،
وعلى أيّ تقدير فمرجعه إلى الأمر بإحراز الواقع ولو احتمالا.
وأمّا المحتمل الثاني فهو أيضا ليس إلّا
بحكم العقل من باب المقدّمة ، وما ذكر من الاستصحاب ، فيه ـ بعد منع جريان
الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل (١٦٣٣) من أوّل الأمر بوجوب الجميع و
بعد الإتيان بأحدهما يكون حكم العقل
______________________________________________________
الاستصحاب لكلّ
منهما على نهج واحد ، فلا مرجّح لإدراج أحدهما تحتها دون الآخر. مع أنّه يمكن
ترجيح الاستصحاب العدمي هنا على الوجودي بالتعدد ، وقد صرّح والده صاحب الرياض
بالترجيح به في مبحث الحيض.
١٦٣٣. حاصل هذا الوجه : أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما لم يكن
الشكّ في بقاء الحكم السابق علّة تامّة لثبوته في حال الشكّ ، وإلّا كان ثبوت
الحكم في مورد الشكّ يقينيّا ، فلا يبقى شكّ في الحالة الثانية في الظاهر حتّى
يستصحب فيه الحكم السابق ، ولذا لا يجري استصحاب الاشتغال في مورد قاعدته ، لكون
الشكّ في ارتفاع الحكم بعد العلم إجمالا أو تفصيلا بثبوته علّة تامّة لحكم العقل
بوجوب تحصيل اليقين بالفراغ. وما نحن فيه من جزئيّات هذه الكلّية ، لأنّه إذا علم
بوجوب شيء في الواقع وتردّد عندنا بين أمرين ، فالشكّ في الخروج من عهدة التكليف
بعد الإتيان بأحدهما علّة تامّة لحكم العقل بتحصيل العلم بالفراغ بالإتيان بالآخر
، وإلّا لم يكن حاكما بوجوب الإتيان بالجميع من أوّل الأمر ، فلا مجرى حينئذ
لاستصحاب الشغل لإثبات وجوب الآخر.
__________________
باقيا قطعا ؛ وإلّا
لم يكن حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض ـ أنّ مقتضى الاستصحاب (١٦٣٤) وجوب
البناء على بقاء الاشتغال حتّى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوب تحصيل اليقين
بارتفاعه فلا يدلّ عليه الاستصحاب ، وإنّما يدلّ عليه العقل المستقلّ بوجوب القطع
بتفريغ الذمّة عند اشتغالها ، وهذا معنى الاحتياط ، فمرجع الأمر إليه.
وأمّا استصحاب وجوب ما وجب سابقا في
الواقع أو استصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي ، فشيء منهما لا يثبت (١٦٣٥) وجوب
المحتمل الثاني حتّى يكون وجوبه شرعيّا إلّا على تقدير القول بالاصول المثبتة ،
وهي منفيّة كما قرّر في محلّه.
ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين
استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ؛ فإنّ الاستصحاب بنفسه
مقتض هناك لوجوب الإتيان بالظهر الواجب في الشرع على الوجه الموظّف ، من قصد
الوجوب والقربة وغيرهما. ثمّ إنّ بقيّة الكلام في ما يتعلّق بفروع هذه المسألة
تأتي في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية : ما إذا اشتبه الواجب
في الشريعة بغيره من جهة إجمال النصّ بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل كقوله
: «ائتني بعين» وقوله تعالى : (حافِظُوا
______________________________________________________
ومن هنا يظهر أنّ
الأظهر عدم جريان الاستصحاب أيضا فيما لو شكّ في فعل الظهر قبل خروج الوقت ، وإن
كان ظاهر المصنّف رحمهالله تسليم جريانه. اللهمّ إلّا أن يقال بكونه مبنيّا على مذاق
المشهور في أمثال المقام.
١٦٣٤. الأظهر عدم جريان
هذا الاستصحاب ، لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه ، لما سيجيء في محلّه من عدم جريانه
فيما لم يترتّب فيه أثر شرعيّ على المستصحب ، ولا أثر لاشتغال الذمّة هنا سوى وجوب
تحصيل اليقين بارتفاعه ، والفرض أنّه من آثاره العقليّة دون الشرعيّة.
١٦٣٥. لأنّ استلزام بقاء وجوب ما وجب سابقا ، أو عدم الإتيان
بالواجب الواقعي لوجوب المشتبه الآخر ، وكونه هو الواجب الواقعي عقلي ، والاصول لا
تثبت اللوازم العقليّة.
عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ، بناء على تردّد
الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الروايات (١٦٣٦) وغيرها كما في بعض آخر.
والظاهر أنّ الخلاف هنا بعينه الخلاف في
المسألة الأولى والمختار فيها هو المختار هناك ، بل هنا أولى ؛ لأنّ الخطاب هنا
تفصيلا متوجّه إلى المكلّفين ، فتأمّل (١٦٣٧).
وخروج الجاهل لا دليل عليه ؛ لعدم قبح
تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على استعلامه من دليل منفصل ،
فمجرّد الجهل لا يقبّح توجيه الخطاب.
ودعوى : قبح توجيهه إلى العاجز عن
استعلامه تفصيلا القادر على الاحتياط فيه بإتيان المحتملات ، أيضا ممنوعة ؛ لعدم
القبح فيه أصلا.
وما تقدّم من البعض ـ من منع التكليف بالمجمل
؛ لاتّفاق العدليّة على استحالة تأخير البيان ـ قد عرفت منع قبحه (١٦٣٨) أوّلا ،
وكون الكلام فيما عرض له الإجمال ثانيا.
ثمّ إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا
عليه هو الفاضل القميّ قدسسره
والمحقّق الخوانساري في ظاهر بعض كلماته ، لكنه قدسسره
وافق المختار في ظاهر بعضها الآخر ، قال
______________________________________________________
١٦٣٦. رواه في المجمع عن عليّ عليهالسلام قال : «إنّها الجمعة يوم الجمعة ، والظهر سائر الأيّام».
وعن التهذيب والكافي عن الباقر عليهالسلام في الصلاة الوسطى قال عليهالسلام : «هي صلاة الظهر ، وهي أوّل صلاة صلّاها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهي وسط النهار ، ووسط صلاتين بالنهار : صلاة الغداة
وصلاة العصر». قال عليهالسلام : «وفي بعض القراءات : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وصلاة العصر» الحديث.
١٦٣٧. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى منع الأولويّة ، لعدم أثر
لوجود هذا الخطاب المجمل عند العقل ، لأنّ اعتبار وجود الخطاب المبيّن عنده إنّما
هو لأجل كونه طريقا إلى الواقع ، فإذا علم بوجود أحد الحكمين في الواقع لا يفرّق
فيه عند العقل بين كون سبب هذا العلم الإجمالي هو الإجماع ، كما في مسألة فقدان
النصّ ، أو الخطاب المجمل كما في هذه المسألة.
١٦٣٨. يعني : فيما تمكّن المكلّف من الإطاعة ولو بالاحتياط.
في مسألة التوضّؤ
بالماء المشتبه بالنجس ـ بعد كلام له في منع التكليف في العبادات إلّا بما ثبت من
أجزائها وشرائطها ـ ما لفظه : نعم ، لو حصل يقين بالتكليف بأمر ولم يظهر معنى ذلك
الأمر ، بل يكون متردّدا بين امور ، فلا يبعد القول بوجوب تلك الأمور جميعا حتّى
يحصل اليقين بالبراءة
انتهى. ولكنّ التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهور (١٦٣٩) كلامه في الموافقة ؛ لأنّ
الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين بما هو
مبيّن ، وأمّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين بل ولا الظنّ بتكليفنا بذلك
الخطاب ، فمن كلّف به ، لا إجمال فيه عنده ، ومن عرض له الإجمال لا دليل على
تكليفه بالواقع المردّد ، لأنّ اشتراك غير المخاطبين معهم فيما لم يتمكّنوا من
العلم به عين الدعوى.
______________________________________________________
١٦٣٩. لأنّ مفروض كلامه هو الحكم بوجوب الاحتياط فيما كان
الإجمال في خطاب الشارع ذاتيّا لا عرضيّا لبعض الامور الخارجة ، فهو إنّما يقول
بوجوب الاحتياط في الأوّل ، وما ذكره المصنّف رحمهالله من وجوب الاحتياط فيه إنّما هو الثاني ، ولعلّه يقول
بالتخيير فيه ، كما أشار المصنّف رحمهالله إلى وجهه.
فإن قلت : إنّ ما
ذكره من الوجه غير وجيه ، لأنّ المحقّق الخوانساري يسلّم وجوب الاحتياط فيما كان
الخطاب مجملا بالنسبة إلى المخاطبين ، ولا بدّ له أن يسلّم ذلك أيضا فيما عرض
الإجمال للغائبين لبعض الامور الخارجة ، لأنّ الأحكام إنّما تختلف باختلاف
موضوعاتها. فإذا فرض كون إجمال الخطاب سببا لوجوب الاحتياط في حقّ المشافهين ، فلا
بدّ أن يكون سببا له في حقّ الغائبين أيضا ، وإن فرض كون الخطاب المفروض إجماله
للغائبين مبيّنا للمشافهين ، لأنّ المناط في اشتراكهم في التكليف هو تحقّق موضوع
ثبت له حكم للمشافهين عند الغائبين ، وإن لم يتحقّق هذا الموضوع للمشافهين أصلا ،
كما إذا ثبت وجوب القصر للمسافر في حقّ المشافهين ، فمتى اتّصف أحد من الغائبين
بعنوان هذا الموضوع وجب عليه القصر ، وإن لم تتّفق مسافرة أحد من المشافهين.
فالتحقيق أنّ (١٦٤٠) هنا مسألتين :
______________________________________________________
قلت : نعم ، إلّا
أنّ الاشتراك في التكليف إنّما هو مع العلم باتّحاد الصنف ، ولعلّ كون إجمال
الخطاب سببا لوجوب الاحتياط إنّما هو فيما كان المكلّف مخاطبا بهذا الخطاب.
فإن قلت : لو بنيت
على هذا انهدمت قاعدة الاشتراك ، لوجود هذا الاحتمال في جميع الموارد.
قلت : عدم مدخليّة
توجيه الخطاب في اختلاف الصنف إنّما هو فيما علم عدم المدخليّة فيه كما هو الغالب
، وإلّا فمع احتمالها نمنع انعقاد الإجماع على الاشتراك.
١٦٤٠. هذا بيان لميزان الفرق بين موضوع مسألتي إجمال النصّ
وفقدانه ، بتخصيص موضوع الاولى بما كان مجملا بالنسبة إلى المخاطب ، وتخصيص موضوع
الثانية بما لم يرد فيه نصّ أصلا ، أو ورد خطاب مجمل بالعرض إذا قلنا بعدم شمول
الخطاب للغائبين ، لأنّ عروض الإجمال يجعل الخطاب في حكم فقد النصّ ، لعدم العلم
حينئذ بالخطاب المبين الصادر عن الشارع ، ولا العلم بالخطاب المجمل المتوجّه
إلينا. فإذا قال الشارع : (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وقامت قرينة على إرادة خصوص الظهر أو الجمعة ، فهو في قوّة
قوله : صلّ الظهر ، أو قال : صلّ الجمعة. فإذا فقدت القرينة فمرجع الشكّ إلى أنّ
الصادر عن الشارع هو قوله : صلّ الظهر أو صلّ الجمعة. وليس هذا من قبيل تعارض
النصّين أيضا ، لعدم العلم بصدور كلا الخطابين عن الشارع ولو بطريق شرعيّ كما هو
المعتبر فيه ، بل المعلوم إجمالا صدور أحدهما وعدم صدور الآخر ، فهو داخل في موضوع
فقدان النصّ مع العلم بنوع التكليف.
وعلى التحقيق
المذكور لا يكون المحقّق الخوانساري مخالفا في هذه المسألة ، فتختصّ مخالفته
بالمسألة السابقة ، أعني : فقدان النصّ ، بخلاف المحقّق القمّي رحمهالله
إحداهما : أنّه إذا
خوطب شخص بمجمل هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟ الثانية : أنّه إذا علم تكليف
الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلا وفهموه من خطاب هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر
الغائبين ، فهل يجب علينا تحصيل القطع بالاحتياط بإتيان ذلك الأمر أم لا؟ والمحقّق
حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني.
فظهر من ذلك أنّ مسألة إجمال النصّ
إنّما يغاير المسألة السابقة ـ أعني عدم النصّ ـ فيما فرض خطاب مجمل متوجّه إلى
المكلّف ، إمّا لكونه حاضرا عند صدور الخطاب وإمّا للقول باشتراك الغائبين مع
الحاضرين في الخطاب. أمّا إذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الإجمال بالنسبة إلى
الغائبين ، فالمسألة من قبيل عدم النصّ لا إجمال النصّ ، إلّا أنّك عرفت أنّ
المختار فيهما وجوب الاحتياط ، فافهم.
المسألة الثالثة : ما إذا اشتبه الواجب
بغيره لتكافؤ النصّين كما في بعض مسائل القصر والإتمام. والمشهور فيه التخيير
(١٦٤١) ؛ لأخبار التخيير السليمة عن المعارض حتّى ما دلّ على الأخذ بما فيه
الاحتياط ؛ لأنّ المفروض عدم موافقة (١٦٤٢) شىء منهما للاحتياط. إلّا أن يستظهر من
تلك الأدلّة : مطلوبيّة الاحتياط عند تصادم الأدلّة ، لكن قد عرفت فيما تقدّم أنّ
أخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ودلالة لأخبار التخيير.
______________________________________________________
لمخالفته في كلتا
المسألتين.
١٦٤١. المقصود من التعرّض لهذه المسألة إنّما هو بيان كونها من
موارد الاحتياط أو التخيير الذي هو في معنى البراءة. وهذا وجه المناسبة لذكرها في
مسائل الشكّ في التكليف والمكلّف به ، لأنّ الغرض منه استيفاء جميع موارد البراءة
والاحتياط. وأمّا سائر الوجوه أو الأقوال في تعارض النصّين ، من التساقط أو الوقف
والاحتياط في مقام العمل أو غير ذلك ، فبيانها موكول إلى مبحث التعادل والترجيح ،
كما نبّه عليه المصنّف رحمهالله في المسألة الثالثة من مطالب الشكّ في التكليف. فلا يرد
حينئذ ما يتوهّم من أولويّة ذكرها في مبحث التعادل والترجيح ، وكذا تعرّضه أيضا
لسائر الوجوه أو الأقوال في المقام.
١٦٤٢. لأنّ المفروض تعارض النصّين على وجه التباين الكلّي بحيث
لا يمكن
المسألة الرابعة : ما إذا اشتبه الواجب
بغيره من جهة اشتباه الموضوع كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء
المطلق. والأقوى هنا أيضا (١٦٤٣) وجوب الاحتياط كما في الشبهة المحصورة ، لعين ما
مرّ فيها : من تعلّق الخطاب بالفائتة واقعا مثلا وإن لم يعلم تفصيلا ، ومقتضاه
ترتّب العقاب على تركها ولو مع الجهل ، وقضيّة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل
وجوب المقدّمة العلميّة والاحتياط بفعل جميع المحتملات.
______________________________________________________
الجمع بينهما.
١٦٤٣. بل هنا أولى ، لعدم تأتّي بعض أدلّتهم على القول بالتخيير
في الشبهة الحكميّة هنا ، لأنّ منها منع انعقاد الإجماع على الاشتراك في التكليف
هنا ، وذلك لأنّا قد أسلفنا في بعض الحواشي السابقة أنّهم قد تمسّكوا للقول بوجوب
الاحتياط بقاعدة الاشتراك في التكليف ، نظرا إلى أنّه مع تردّد الواجب بين أمرين
لا ريب في كون الحاضرين مكلّفين بهذا التكليف المعلوم إجمالا ، فلا بدّ للغائبين
حينئذ من الاحتياط ، ليحصل اليقين بالفراغ ممّا ثبت بقاعدة الاشتراك. وأجيب عنه ـ على
القول بالتخيير ـ بمنع ثبوت الاشتراك إلّا فيما ثبت العلم به تفصيلا.
وأنت خبير بأنّه
على تقدير تسليمه في الشبهة الحكمية لا يتأتّى هنا ، لفرض العلم بالتكليف تفصيلا
وإن وقع الاشتباه في مصداق متعلّقه.
ومنها : دعوى قبح
الخطاب بالمجمل ، كما تمسّك به المحقّق القمّي رحمهالله ، لأنّه مع تسليم تأتّي هذه الدعوى في الشبهة الحكميّة فلا
مسرح لها في المقام ، لفرض تبيّن الخطاب ، وعدم وجوب إزالة الشبهة عن المصاديق
الخارجة على الشارع ، وهو واضح.
هذا ويؤيّد
المختار ـ بل يدلّ عليه ـ بناء العقلاء الذين هم المرجع في معرفة كيفيّة امتثال
الأحكام الشرعيّة ، إذ لا ريب في عدم تفرقتهم في إيجاب تحصيل القطع بالفراغ من
التكليف المبيّن بين تبيّن مصاديقه واشتباهه ، كما هو واضح لمن لاحظ
وقد خالف في ذلك الفاضل القميّ رحمهالله
فمنع وجوب الزائد على واحدة من المحتملات مستندا في ظاهر كلامه (١٦٤٤) إلى ما زعمه
جامعا لجميع صور الشكّ في المكلّف به :
______________________________________________________
الأمثلة العرفيّة
وتتبّع مواردها. فالعلم التفصيلي بالخطاب كما أنّه مقتض عندهم للموافقة القطعيّة
عند تبيّن مصاديقه ، كذلك مع اشتباه بعض مصاديقه وتردّده بين أمرين أو امور.
١٦٤٤. يمكن أن يستدلّ عليه بوجهين آخرين ، يمكن استفادتهما أيضا
من التأمّل في أطراف كلام المحقّق القمّي رحمهالله.
أحدهما : منع
المقتضي لوجوب الاحتياط ، لأنّه في مثل الفائتة المردّدة بين الظهر والجمعة أو
الماء المردّد بين المطلق والمضاف وغيرهما ، إمّا هو الإجماع أو الأدلّة اللفظيّة.
ويرد على الأوّل : أنّ القدر المتيقّن منه حرمة المخالفة القطعيّة ، بأن ترك
القضاء أو الوضوء رأسا ، لا وجوب الموافقة القطعيّة بالإتيان بكلا الأمرين. وعلى
الثاني : أنّه إنّما يتمّ على القول بوضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة. وفيه منع ،
لإمكان دعوى وضعها للمعلومات الذهنيّة ، كما هو مذهب جماعة. ومع التسليم فهي
منصرفة مطلقا أو في خبر الأوامر إليها.
وأنت خبير بأنّ
الأوّل إنّما يتمّ إن كان المستند في المقام هو الإجماع ، وليس كذلك ، بل هو مع
بناء العقلاء وغيره كما عرفت. وأمّا الثاني فضعفه ظاهر ، لأنّ الحقّ كون الألفاظ
موضوعة للمعاني الواقعيّة دون المعلومة. ودعوى الانصراف إليها ضعيفة ، لعدم المنشأ
له في المقام. مع أنّه لو تمّ أفاد جواز المخالفة القطعيّة ، والفرض هنا الفراغ من
بطلانه.
وثانيهما : أنّ
مقتضى الجمع بين الإجماع على حرمة المخالفة القطعيّة وأدلّة البراءة المقتضية لها
هو القول بالتخيير في المقام.
وفيه : أنّه إنّما
يتمّ إن كانت أدلّة البراءة شاملة لصور العلم الإجمالي ، و
من قبح التكليف
بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة. وأنت خبير (١٦٤٥) بأنّ الاشتباه في الموضوع
ليس من التكليف بالمجمل في شىء ؛ لأنّ المكلّف به مفهوم معيّن طرأ الاشتباه في
مصداقه لبعض العوارض الخارجيّة كالنسيان ونحوه ، والخطاب الصادر لقضاء الفائتة
عامّ في المعلومة تفصيلا والمجهولة ، ولا مخصّص له بالمعلومة لا من العقل ولا من
النقل ، فيجب قضائها ، ويعاقب على تركها مع الجهل كما يعاقب مع العلم.
ويؤيّد ما ذكرنا ما ورد من وجوب (١٦٤٦)
قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضة معلّلا ذلك ببراءة الذمّة على كلّ تقدير ،
فإنّ ظاهر التعليل يفيد عموم
______________________________________________________
ليست كذلك ،
لأنّها إن شملت كلا المشتبهين فهو ينافي العلم الإجمالي المدلول على اعتباره
بالاعتبار ومفهوم أدلّة البراءة ، كما أوضحه المصنّف رحمهالله في المقام الثاني في مقامي المسألة الاولى. وإن شملت
أحدهما المعيّن فهو ترجيح بلا مرجّح. وإن شملت أحدهما لا بعينه فهو مستلزم
لاستعمالها في معنى التخيير في موارد العلم الإجمالي ، وفي الإباحة التعيينيّة في
موارد الشبهات البدويّة ، وهو غير جائز.
١٦٤٥. يرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أمّا أوّلا : فإنّه مع
تسليم كون الخطاب بمشتبه المصداق من قبيل الخطاب بالمجمل ، أنّه إنّما يتمّ إن
قلنا بشمول الخطاب للمعدومين ، وهو ممنوع بتسليم الخصم.
ويدفعه : أنّا
ننقل الكلام إلى المشافهين ، إذ لا ريب في عروض الاشتباه للمصاديق ولو في بعض
الموارد عندهم أيضا ، فإذا ثبت التخيير لهم مع اشتباه مصداق المكلّف به ولو في بعض
الموارد ، ثبت لنا أيضا بقاعدة الاشتراك في التكليف. اللهمّ إلّا أن يمنع حصول
العلم بذلك في حقّ المشافهين.
وأمّا ثانيا : أنّ
التكليف مع اشتباه مصداق المكلّف به لو كان قبيحا لما وقع شرعا ، كما في اشتباه
القبلة واشتباه الثوب الطاهر بالنجس ، لما ورد من وجوب الاحتياط فيهما.
١٦٤٦. هو المرويّ عن المحاسن عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه سئل عن رجل أنّه
مراعاة ذلك في كلّ
مقام اشتبه عليه الواجب ؛ ولذا تعدّى المشهور عن مورد النصّ ـ وهو تردّد الفائتة
بين رباعيّة وثلاثية وثنائية ـ إلى الفريضة الفائتة من المسافر المردّدة بين
ثنائيّة وثلاثيّة ، فاكتفوا فيها بصلاتين.
وينبغي التنبيه على امور : الأوّل :
أنّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ممّا كان
الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب كالقبلة واللباس وما يصحّ السجود عليه
وشبهها ، بناء على دعوى سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ؛ ولذا أسقط الحلّي وجوب
الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحكم بالصلاة عاريا ، بل النزاع فيما كان
(١٦٤٧) من هذا
______________________________________________________
نسي صلاة من
الصلوات الخمس لا يدري أيّها هي ، قال عليهالسلام : «يصلّي ثلاثة وأربعة وركعتين ، فإن كانت الظهر والعصر
والعشاء كان قد صلّى ، وإن كانت المغرب والغداة فقد صلّى». إنّما جعلها مؤيّدة لا
دليلا لعدم صراحتها في عليّة اليقين بالتكليف لوجوب تحصيل اليقين بالفراغ ، إذ لو
كان كذلك لوجب الأمر بالإتيان بخمس صلوات ، لعدم حصول اليقين بالفراغ بالثلاث ،
فلا بدّ أن يكون التعليل بحصول الفراغ بالثلاث تعبّديّا ، بمعنى اقتناع الشارع عن
الواقع بما يناسبه ، لأنّ الفائتة إن كانت هي الظهر مثلا فقد قنع الشارع عنها
بالإتيان بأربع ركعات مع التخيير فيها بين الجهر والإخفات. ولا ريب في عدم حصول
اليقين بالفراغ من الواقع بمثلها ببطلان الظهر أداء وقضاء مع الجهر فيها ، فلا بدّ
أن يكون الحكم بمثلها تعبّديّا. وحينئذ إن سلّمنا جواز التعدّي لأجل هذه العلّة
إلى الفائتة عن المسافر المردّدة بين الثنائيّة والثلاثيّة ، فلا ريب في عدم جواز
التعدّي إلى غيرها ، كما إذا تردّد الفائت بين الحجّ والصوم أو غيرهما.
١٦٤٧. توضيح المقام : أنّه مع اشتباه مصداق المكلّف به بغيره قد
يتردّد الأمر بين ذاتهما ، كتردّد الفائتة بين الظهر والعصر ، وقد يتردّد الأمر
بينهما باعتبار الاشتباه والتردّد في بعض شرائط المكلّف به مع العلم بمصداقه
تفصيلا ، من غير
.................................................................................................
______________________________________________________
جهة ما وقع فيه
التردّد من بعض شرائطه ، كما مثّل به المصنّف رحمهالله. وكلا القسمين داخلان في موضوع النزاع في المسألة الرابعة.
وإذا قرّر النزاع في ثانيهما على نحو ما قرّره في تلك المسألة ، فلا بدّ أن يقال
في مورد اشتباه القبلة أو اللباس مثلا : هل يجب الاحتياط بالصلاة إلى الجهات
الأربع وفي الثوب الطاهر والنجس ، أو يتخيّر في الصلاة إلى الجهات وفي أحد الثوبين؟
إلّا أنّ المصنّف رحمهالله قد ادّعى أنّ ما كان من قبيل الثاني ينبغي أن يقرّر النزاع
في أصل ثبوت الشرطيّة وعدمه ، معلّلا ذلك بأنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن
يقول بسقوط الشروط عند الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط.
ولعلّ الوجه فيه
أنّ مرجع القول بالتخيير عند اشتباه بعض الشروط إلى نفي الشرطيّة ، لعدم ترتّب أثر
على أحدهما بالخصوص ، بخلاف ما لو جهل أصل المكلّف به ، كالفائتة المردّدة بين الظهر
والعصر ، لأنّ أثر القول بالتخيير فيه هو عدم جواز المخالفة القطعيّة.
وأنت خبير بعدم
صلوح ذلك للفرق ، لأنّ أثر القول بالتخيير عند اشتباه بعض الشروط أيضا قد يظهر في
عدم جواز المخالفة القطعيّة فيها ، كما إذا تردّدت القبلة بين جهتين أو اشتبه
الثوب النجس بالطاهر ، فلا يجوز الصلاة إلى غيرهما من الجهات وفي غيرهما من
الثياب. نعم ، قد لا يمكن تحصيل القطع بمخالفة الشرط الذي اشتبه مصداقه إلّا
بمخالفة مشروطه ، كما فيما لو تردّدت القبلة بين الجهات الأربع ، إلّا أنّ ذلك
بمجرّده لا يصلح للفرق مطلقا.
لا يقال : إنّه لا
دليل على القول بالتخيير هنا إلّا الوجهان اللذان أشار إليهما المصنّف رحمهالله ، وهما يقتضيان سقوط الشرطيّة لا التخيير بين المشتبهين.
لأنّا نقول : إنّ
ما نقله عن المحقّق القمّي رحمهالله من الدليل على القول بالتخيير فيما اشتبه مصداق الواجب ،
يقتضيه فيما اشتبه مصداق الشرط أيضا كما لا يخفى.
فالاولى في
التعليل أن يقال : إنّ للقائل بوجوب الاحتياط فيما اشتبه مصداق
القبيل ينبغي أن يكون
على هذا الوجه ؛ فإنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند
الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها إلى القبلة
بدلا عن القبلة الواقعيّة.
ثمّ الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول :
إمّا انصراف أدلّته إلى صورة العلم به تفصيلا ، كما في بعض الشروط نظير اشتراط
الترتيب بين الفوائت. وإمّا دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط
آخر ، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب وندب المندوب حين فعله
، وهذا يتحقّق مع القول بسقوط الشرط المجهول. وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلّي.
وكلا الوجهين ضعيفان : أمّا الأوّل :
فلأنّ مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي للفعل بهذا الشرط ؛ وإلّا لم يكن من
الشكّ في المكلّف به ؛ للعلم حينئذ بعدم وجوب الصلاة إلى القبلة الواقعيّة
المجهولة بالنسبة إلى الجاهل. وأمّا الثاني : فلأنّ ما دلّ على وجوب مقارنة العمل
بقصد وجهه والجزم مع النيّة إنّما يدلّ عليه مع التمكّن ، ومعنى التمكّن القدرة
على الإتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجهه ـ من الوجوب والندب ـ حين الفعل ،
أمّا مع العجز عن ذلك فهو المتعيّن للسقوط دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن
الجزم بالنيّة.
______________________________________________________
الواجب أن يمنع
أصل الشرطيّة هنا ، فلا معنى لدعوى وجوب الاحتياط حينئذ ، فلا بدّ أن يقرّر النزاع
في أصل الشرطيّة. ولكنّ الإنصاف أنّ الاولى مع ذلك أن يقرّر النزاع تارة في أصل
الشرطيّة ، للوجهين اللذين ذكرهما ، واخرى في ثبوت التخيير ، لما نقله عن المحقّق
القمّي رحمهالله ، فتدبّر.
ثمّ لا يخفى أنّ
ما ذكره المصنّف رحمهالله في المقام جار بعينه في الشبهة الحكميّة ممّا علم فيه
الوجوب وتردّد الواجب بين أمرين. والقسمان السابقان آتيان فيها أيضا. والأوّل
كتردّد الواجب بين الظهر والجمعة ، والثاني كتردّد شرط الصلاة بين أمرين مع العلم
بأصل الثبوت في الجملة. وهنا أيضا يمكن منع الشرطيّة ، لأنّ ما ذكره المصنّف رحمهالله لذلك من الوجهين وإن لم يتأتّ أوّلهما هنا ، إلّا أنّ
ثانيهما جار
والسرّ في تعيّنه
للسقوط هو أنّه إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ، وليس اشتراطه في
مرتبة (١٦٤٨) سائر الشرائط بل متأخّر عنه ، فإذا قيّد اعتباره بحال التمكّن سقط
حال العجز ، يعني العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به.
الثاني : أنّ النيّة في كلّ من الصلوات
المتعدّدة على الوجه المتقدّم (١٦٤٩) في
______________________________________________________
فيه كما هو واضح.
ولعلّ المصنّف رحمهالله قد اكتفى عن التنبيه على تعميم عنوان البحث لما يشمل
الشبهة الحكميّة أيضا بما نبّه عليه في آخر المسألة الاولى ، فتدبّر.
١٦٤٨. لأنّ شرائط العبادة على قسمين ، قسم سابق على الأمر بها ،
وهو شرائط المأمور به كالقبلة والستر ونحوهما في الصلاة ، وقسم مسبوق بالأمر
ومترتّب عليه ، وهو شرائط امتثال الأمر ، كنيّة التقرّب بالمأمور به والجزم فيها
وقصد الوجه ، لأنّ هذه الامور متفرّعة على ورود الأمر ، فلو كان مأخوذا في المأمور
به لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّ الأمر بشيء مسبوق بتصوّر هذا الشيء مع ما
يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، فلو كانت الامور المذكورة معتبرة في نفس المأمور
به لزم ما ذكرناه من المحذور.
وممّا ذكرناه قد
ظهر الوجه فيما ذكره المصنّف رحمهالله من عدم كون الامور المذكورة في مرتبة سائر الشرائط. وأمّا
الوجه في كون اعتبار الجزم بالنيّة وقصد الوجه في حال التمكّن من معرفة المأمور به
مع شرائطه تفصيلا ، لأنّ مبنى اعتبارهما هو بناء العقلاء في أوامرهم العرفيّة ، لا
دليل شرعيّ تعبّدي في ذلك ، ولم يثبت بنائهم على أزيد ممّا ذكرناه.
ثمّ إنّ ما حقّق
المصنّف رحمهالله به المقام مبنيّ على اعتبار الجزم بالنيّة وقصد الوجه ،
وإلّا فعلى المختار ـ وفاقا للمصنّف رحمهالله في غير المقام ـ من عدم اعتبارهما في تحقّق الامتثال ،
ولذا قلنا بجواز سلوك طريق الاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد ، فالأمر أوضح.
١٦٤٩. هذا مبنيّ على كون الأمر بالاحتياط إرشاديّا لا شرعيّا.
وقد تقدّم
.................................................................................................
______________________________________________________
توضيحه في المسألة
الاولى من مسائل هذا المطلب عند شرح ما يتعلّق بالطريقين الذين ذكرهما المصنّف رحمهالله لكيفيّة قصد القربة بالمشتبهين. وما ذكره هنا بقوله : «ويترتّب
على هذا ...» بيان للثمرة للطريقين ، وقد أوضحناها هناك.
فإن قلت : إنّ
غاية ما ذكرت هناك صحّة قصد التقرّب بكلّ من المشتبهين إن كان الأمر بهما شرعيّا ،
وبالواقع المعلوم إجمالا ـ كما ذكره المصنّف رحمهالله هنا وهناك ـ إن كان الأمر بهما إرشاديّا ، وهذا ينافي
الملازمة الكلّية من أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، لكون حكم العقل هنا ـ
بل في كلّ مورد ، كما صرّح به سلطان العلماء في بعض حواشي المعالم ـ إرشاديّا إلى
ما في الفعل أو الترك من مصلحة المكلّف ، فغاية ما يحكم به أنّ في فعل هذا أو تركه
مصلحة المكلّف ، لا الأمر بأحدهما على طريق المولويّة. فإذا فرض حكم الشرع على طبق
حكم العقل ، فلا بدّ أن يكون حكم الشرع أيضا إرشاديّا. وإذا قلنا بصحّة قصد
التقرّب بكلّ من المشتبهين إذا ثبت وجوبهما شرعا ، فلا بدّ أن نقول بذلك إذا ثبت
وجوبهما عقلا أيضا.
قلت : نعم ، إلّا
أنّ الملازمة المذكورة إنّما هي فيما أمكن ورود حكم شرعيّ فيه ، لوضوح عدم تأتّيها
فيما لم يكن كذلك ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ لا ريب أنّ الاحتياط طريق
إطاعة للحكم المعلوم إجمالا غير قابل لجعل الشارع ، لأنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي
طريق اضطراري عقلي منجّز للتكليف بالواقع ، وعلّة تامّة عند العقل لوجوب الاحتياط
في الظاهر ما لم يثبت جعل الشارع أحد المحتملين بدلا عن الواقع ، كيف لا ولو كان
قابلا لورود أمر شرعيّ عليه لاحتاج وجوب إطاعة هذا الأمر أيضا إلى أمر آخر ، وهكذا
فيتسلسل. ومن هنا حمل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) على الإرشاد. ومع فرض عدم قابليّته لورود أمر شرعيّ عليه ،
بمعنى عدم قابليّته للاتّصاف بالوجوب الشرعيّ من حيث كونه احتياطا لو فرض إيجاب
الشارع لكلا المحتملين ، فلا بدّ أن يكون ذلك من
مسألة الظهر والجمعة
، وحاصله : أنّه ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطا لإحراز الواجب الواقعي المردّد
بينها وبين صاحبها تقرّبا إلى الله ، على أن يكون القرب علّة للإحراز الذي جعل
غاية للفعل.
ويترتّب على هذا أنّه لا بدّ من أن يكون
حين فعل أحدهما عازما على فعل الآخر ؛ إذ النيّة المذكورة لا تتحقّق بدون ذلك ؛
فإنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لامتثال الواجب الواقعي على كلّ
تقدير ، نعم هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقا ، وهذا
غير كاف في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها. نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة ـ كغسل
الجنابة إن احتمل الجنابة ـ اكتفى فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقّق الأمر به.
لكن ليس هنا تقدير آخر
______________________________________________________
باب الإرشاد
لإمضاء حكم العقل ، أو من باب التعبّد مع قطع النظر عن كونه طريقا إلى امتثال
الواقع. وتعيّن قصد التقرّب بالواقع المعلوم مرتّب على الأوّل ، وبكلّ من
المشتبهين على الثاني. ولا يلزم من كون وجوب الاحتياط عقلا إرشاديّا كونه شرعا
كذلك.
ثمّ إنّه من
التأمّل فيما ذكرناه يظهر فساد ما أورده المحقّق القمّي رحمهالله على الفاضل التوني في دعواه عدم ترتّب ثمرة على النزاع في
مسألة الحسن والقبح ، زاعما لورود الأمر الشرعيّ في كلّ مورد ادّعي فيه استقلال
العقل بالحسن أو القبح ، لأنّه قد أورد عليه باستقلال العقل بحجيّة الظنّ في أمثال
زماننا ممّا انسدّ فيه باب العلم ، مع عدم ورود أمر شرعيّ على جواز العمل به. قال
: وأيّ ثمرة أعظم من هذا. وهذا كما ترى إنّما يتمّ ثمرة للنزاع لو كانت حجّية
الظنّ في زمن الانسداد قابلة لورود أمر شرعيّ عليها ، وليس كذلك ، لأنّ الظنّ في
صورة الانسداد كالقطع طريق اضطراري لامتثال الأحكام الواقعيّة غير قابل لجعل
الشارع. وممّا ينبّه على ما ذكرناه من اختصاص مورد الملازمة بما ذكرناه أنّ
الأشاعرة مع نفيهم لها قالوا بحجيّة الظنّ في صورة الانسداد ، فهو يكشف عن خروجها
من مورد الملازمة.
يراد منه التعبّد على
ذلك التقدير ، فغاية ما يمكن قصده هنا هو التعبّد على طريق الاحتمال ، بخلاف ما
نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ؛ فإنّه لا بدّ فيه من الجزم
بالتعبّد.
الثالث : أنّ الظاهر أنّ وجوب كلّ من
المحتملات عقلي لا شرعي (١٦٥٠) ؛ لأنّ الحاكم بوجوبه ليس إلّا العقل من باب وجوب
دفع العقاب المحتمل على تقدير ترك أحد المحتملين ، حتّى أنّه لو قلنا بدلالة أخبار
الاحتياط أو الخبر المتقدّم في الفائتة على وجوب ذلك كان وجوبه من باب الإرشاد.
وقد تقدّم الكلام في ذلك في فروع الاحتياط في الشكّ في التكليف.
وأمّا إثبات وجوب التكرار شرعا فيما نحن
فيه بالاستصحاب وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا ، فقد تقدّم في المسألة الاولى
عدم دلالة الاستصحاب على ذلك إلّا بناء على أنّ المستصحب يترتّب عليه الامور
الاتّفاقية المقارنة معه ، وقد تقدّم إجمالا ضعفه وسيأتي تفصيلا.
______________________________________________________
١٦٥٠. عليه يبتني ما ذكره في التنبيه السابق واللاحق. وما ذكره
متّجه. والقول بالوجوب الشرعيّ يبتني على وجوه قد أشار المصنّف رحمهالله إلى أكثرها هنا :
أحدها : الأخبار
الآمرة بالاحتياط ، لظهورها في الوجوب النفسي. وفيه ـ مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمهالله ـ أنّه ليس في
الأخبار الآمرة بالاحتياط كما قيل خبر مودوع في الكتب الأربعة سوى صحيحة عبد
الرحمن بن الحجّاج ، وقد تقدّم في المسألة الاولى من مسائل هذا المطلب ـ وكذا في
الشبهة التحريميّة البدويّة ـ عدم دلالتها على المدّعى ، خصوصا هنا من وجوه.
وثانيها : الخبر
المتقدّم في الفائتة. وفيه ـ مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمهالله ـ أنّه قد تقدّم
في المسألة الرابعة الإشكال في صحّة التمسّك بالعلّة المنصوصة فيه.
وثالثها :
الاستصحاب المضعّف بما أشار إليه هنا وما قدّمناه في المسألة الاولى.
ورابعها : العقل ،
لأنّ ترك بعض محتملات الواجب الواقعي المعلوم إجمالا يدلّ على عدم مبالاة المكلّف
بامتثال الأحكام الواقعيّة ، لاحتمال كون المتروك هو
.................................................................................................
______________________________________________________
الواجب في الواقع
، وهو قبيح ، فيثبت وجوب الإتيان بالجميع عقلا.
ويوضحه ما نقله
المصنّف رحمهالله في صدر الكتاب من الدليل العقلي على حرمة التجرّي ، ومرجعه
إلى إناطة الأحكام الشرعيّة بالامور غير الاختياريّة لولاها ، كما هو واضح لمن
راجعه ، لأنّ مورده وإن غاير ما نحن فيه ، في كون المطلوب هناك حرمة التجرّي
بارتكاب ما قطع بحرمته أو بترك ما قطع بوجوبه مع مخالفة قطعه للواقع ، وهنا حرمته
بترك ما احتمل كونه هو الواجب في الواقع ، إلّا أنّه يمكن إجراء الدليل المذكور
هنا أيضا ، بأن يقال : إذا اشتبهت القبلة على شخصين وصلّى أحدهما إلى الجهة التي
صلّى الآخر إلى خلافها ، مع تركهما باقي الجهات كلّا أو بعضا ، فإمّا أن يستحقّا
العقاب ، أو لا يستحقّه أحدهما ، أو يستحقّه من صادف فعله الواقع دون الآخر ، أو
بالعكس. ولا سبيل إلى الثاني والثالث. وأمّا الرابع فهو مستلزم لإناطة العقاب
وعدمه بالامور غير الاختياريّة ، وهي هنا المطابقة وعدمها ، إذ الفرض تساويهما
فيما سواهما ، فيتعيّن الأوّل ، فيثبت حينئذ ترتّب العقاب على مجرّد ترك بعض
محتملات الواجب الواقعي صادف الواقع أم لا ، وهو لا يتمّ إلّا على تقدير كون وجوب
المشتبهات شرعيّا ، لما قرّره المصنّف رحمهالله من عدم ترتّبه عليها بالخصوص على تقدير كون وجوبها عقليّا.
وضعفه يظهر ممّا أسلفه المصنّف رحمهالله في صدر الكتاب.
ويؤيّده ـ بل يدلّ
عليه ـ أنّه لا ريب في كون المشتبهات مقدّمات علميّة للواقع ، والعبد إنّما يذمّ
عند العقلاء على ترك نفس الواجب الواقعي دون مقدّماته ، ولذا ترى أنّه لو نوى
أشخاص معصية ، ولكن منع بعضهم منها مانع قبل إيجاد شيء من مقدّماتها ، وآخر بعد
إيجاد جملة منها ، وثالثا بعد إيجاد تمامها ، فلا ريب في توجّه الذمّ إليهم بمرتبة
واحدة ، فهو يكشف عن كون الذمّ على ما هم عليه من خبث السريرة من دون مدخليّة
للمقدّمات في ذلك ، وإلّا كان توجّه الذمّ إليهم مختلفا في الشدّة والضعف. اللهمّ
أن يمنع عدم استحقاق العقاب ، لأنّ غاية
وعلى ما ذكرنا فلو (١٦٥١) ترك المصلّي
المتحيّر في القبلة أو الناسي لفائتة جميع المحتملات لم يستحقّ إلّا عقابا واحدا ،
وكذا لو ترك أحد المحتملات واتّفق مصادفته للواجب الواقعي ، ولو لم يصادف لم
يستحقّ عقابا من جهة مخالفة الأمر به ، نعم قد يقال باستحقاقه العقاب من جهة
التجرّي. وتمام الكلام فيه قد تقدّم.
______________________________________________________
ما ثبت من الأخبار
ـ مثل قوله عليهالسلام : «نيّة السوء لا تكتب» ونحوه ـ هو العفو عنها ، لا عدم
الاستحقاق أصلا. ومع التسليم يمكن أن يقال : إنّ القدر المتيقّن منها هو العفو
عنها مع عدم إيجاد بعض مقدّمات الحرام لا معه ، والفرض فيما نحن فيه إيجاد المكلّف
بعض مقدّمات الحرام الذي هو ترك الواجب الواقعي. مع أنّ لنا أن نمنع من ثبوت العفو
مطلقا ، ولذا حكي عن الحلّي وصاحب المدارك الإجماع على قبح إرادة القبيح ، فالقدر
المتيقّن ما لو نوى المعصية ثمّ رجع وتاب عنها ، لا مع الاستمرار على نيّتها. ولذا
قد ورد في الأخبار تعليل خلود الكفّار في النار بعزمهم على الكفر ما داموا أحياء ،
وبه يجمع بينه وبين ما دلّ على العفو مطلقا.
ولكنّك خبير بأنّ
المناط في استحقاق العقاب عند العقل هو ارتكاب نفس الحرام أو ترك نفس الواجب من
دون مدخليّة للمقدّمات في ذلك أصلا ، بل قد قرّرنا في مبحث المقدّمة عدم تعقّل
ترتّب العقاب على مخالفة الواجبات الغيريّة أو مدخليّتها في ذلك. وقولنا : «مع أنّ
لنا أن نمنع» فيه أنّ استحقاق العقاب مع استمرار النيّة غير مضرّ فيما نحن فيه ،
بعد فرض عدم مدخليّة إيجاد بعض المقدّمات فيه ، لأن المقصود في المقام عدم استحقاق
العقاب بترك الصلاة إلى بعض الجهات ، وإن فرض استحقاقه لأجل استمراره على العزم بترك
بعض محتملات الواجب ، والفرق بينهما واضح ، لعدم استلزام الثاني حرمة ترك بعض
المحتملات من حيث هو كما هو المدّعى.
١٦٥١. قد ذكرنا تحقيق هذا المطلب في مبحث المقدّمة ، وبيّنّا
هناك عدم تعقّل ترتّب العقاب على الواجبات الغيريّة ، سواء كانت سواء كانت تبعيّة
أو أصليّة. نعم ، قد
الرابع : لو انكشف مطابقة ما أتى به
(١٦٥٢) للواقع قبل فعل الباقي أجزأ عنه ؛ لأنّه صلّى الصلاة الواقعيّة قاصدا
للتقرّب بها إلى الله تعالى وإن لم يعلم حين الفعل أنّ المقرّب هو هذا الفعل ؛ إذ
لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل ناشئا عن تكرار الفعل أو ناشئا عن انكشاف الحال.
______________________________________________________
ذكرنا هناك ـ وسيجيء
أيضا عند بيان شروط العمل بأصالة البراءة ـ أنّ عقاب ذي المقدّمة مع ترك مقدّمته
المفضي إلى ترك ذيها إنّما يترتّب عند تركها. وعليه ترتّب صحّة تكليف الكفّار مع
غفلة كثير منهم عن دين الإسلام إلّا في بعض الأحيان ، كما سيجيء في محلّه إن شاء
الله تعالى.
١٦٥٢. يترتّب عليه أنّه لو شكّ في حكم بعض أجزاء الصلاة أو
شرائطها بعد الدخول فيها ، ولم يعلم بحكم هذا الشكّ ، ودار أمره بين أمرين ، كما
إذا شكّ في وجوب الجهر أو الإخفات أو نحو ذلك ، فحينئذ إن بنى حين الشكّ على أحد
الأمرين ، وعمل به مع العزم على السؤال عن حكم الواقعة بعد الفراغ والإتيان
بالمحتمل الآخر على تقدير عدم صحّة ما بنى عليه أوّلا ، صحّت صلاته إذا انكشف صحّة
ما بنى عليه أوّلا ، إمّا بسؤال المجتهد أو غيره. والوجه فيه ما ذكره المصنّف رحمهالله بقوله : «لأنّه صلّى الصلاة الواقعيّة» إلى آخر ما ذكره.
وهذا مع قصور الجاهل واضح. وأمّا مع التقصير والالتفات فربّما يشكل بعدم تأتّي قصد
القربة منه ، فلا يصحّ له الدخول في الصلاة مع الشكّ في بعض أجزائها أو شرائطها
على الوجه المذكور.
وبالجملة ، إنّ
المسائل التي يندر ابتلاء المكلّف بها لا يجب على المكلّف ـ لأجل ندرة وقوعها ـ تعلّمها
قبل الدخول في العبادة ، وحينئذ فلا إشكال في صحّة قصد التقرّب منه حين الشروع
فيها ولو مع الجهل والالتفات. وأمّا ما يجب تعلّمها قبل الشروع فيها لأجل كثرة
الابتلاء بها ، فربّما يشكل قصد التقرّب منه حين الشروع فيها مع الالتفات. نعم ،
لو فرضت الغفلة والذهول حين الشروع
الخامس : لو فرض محتملات الواجب غير
محصورة لم يسقط الامتثال (١٦٥٣) في الواجب المردّد باعتبار شرطه كالصلاة إلى
القبلة المجهولة وشبهها قطعا ؛ إذ غاية الأمر سقوط الشرط ، فلا وجه لترك المشروط
رأسا. وأمّا في غيره ممّا كان نفس الواجب مردّدا ، فالظاهر أيضا عدم سقوطه ولو
قلنا بجواز ارتكاب الكلّ في الشبهة الغير المحصورة ؛ لأنّ فعل الحرام لا يعلم هناك
(١٦٥٤) به إلّا بعد الارتكاب ، بخلاف ترك الكلّ هنا ، فإنّه يعلم به مخالفة الواجب
الواقعي حين المخالفة.
وهل يجوز الاقتصار (١٦٥٥) على واحد ـ إذ
به يندفع محذور المخالفة ـ أم
______________________________________________________
فيها وعرض الشكّ
بعده ، وبنى على السؤال بعد الفراغ منها على ما عرفت في الجاهل القاصر ، أمكن
القول بالصحّة حينئذ كما لا يخفى.
١٦٥٣. لأنّ مقتضى الشرطيّة وإن كان سقوط المشروط مع سقوط الشرط ،
إلّا أنّ قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»
حاكمة عليه ، بناء على تأتّيها في المركّبات العقليّة.
١٦٥٤. حاصله : أنّا لو قلنا بعدم كون العلم الإجمالي منجّزا
للتكليف بالواقع في الشبهة غير المحصورة في نظر العقلاء ، فإنّما هو من جهة عدم
حصول العلم بارتكاب الحرام حين الارتكاب مع عدم حصر الشبهة ، لأنّه إنّما يعلم به
بعد ارتكاب الجميع تدريجا ، فحين ارتكاب كلّ بعض من المشتبهات يحتمل كون الحرام هو
الباقي أو المأتيّ به. وهذا الوجه غير جار فيما كانت الشبهة وجوبيّة ، للقطع بترك
الواجب الواقعي في آن ترك جميع المحتملات.
١٦٥٥. لا يذهب عليك أنّ عنوان الكلام في المقام وإن اختصّ بغير
المحصور ، إلّا أنّه يشاركه المحصور أيضا في الحكم إذا قلنا بعدم وجوب الموافقة
القطعيّة فيه أيضا ، فلا بدّ من تعميم النزاع في المقام لهما. ولا بدّ قبل الأخذ
في المطلوب من بيان أمر ، وهو أنّ الخلاف في وجوب الميسور من المشتبهات وعدمه
إنّما هو فيما لم يبق مقتض لوجوب الاحتياط في المشتبهات الميسورة ، بعد عدم وجوب
الاحتياط
.................................................................................................
______________________________________________________
بترك جميع أطراف
الشبهة ، وإلّا فلو فرض وجود العلم الإجمالي فيما تيسّر من المشتبهات أيضا مع قطع النظر
عمّا تعسّر منها ، وجب الاحتياط بالإتيان بما تيسّر منها بلا إشكال ، كما أنّ
مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم هو وجوب الاحتياط بالإتيان بجميع المحتملات ،
سواء كانت مظنونة أم مشكوكة أم موهومة ، إلّا أنّ تعسّر هذا الاحتياط قد أحوجنا
إلى الاقتصار فيه على سلسلة المظنونات ، لكونها أولى من غيرها. وليس لأحد أن
يتوهّم وجود الخلاف فيه من حيث وجوب استيعاب جميع المظنونات وعدمه بعد عدم وجوب
الاحتياط الكلّي ، لأنّ العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات واقعيّة في سلسلة
المظنونات والمشكوكات والموهومات ، كما أوجب علينا الاحتياط في الجميع ، كذلك
العلم الإجمالي بها في سلسلة المظنونات ـ مع قطع النظر عن غيرها ـ أوجب علينا
الاحتياط الكلّي في سلسلتها ، بعد عدم وجوبه مطلقا لأجل العسر أو غيره ، بخلاف ما
نحن فيه على ما عرفت.
ثمّ إنّ عدم وجوب
الموافقة القطعيّة إمّا أن يكون بسبب من المكلّف بالفتح ، من تعذّر الإحاطة بجميع
المحتملات أو تعسّرها ، أو من قبل المكلّف بالكسر لأجل دليل تعبّدي على ذلك. وعلى
الأوّل إمّا أن يكون ما تعذّر أو تعسّر من المحتملات معيّنا أو غير معيّن ، كما
إذا تعذّرت أو تعسّرت الصلاة ـ لمرض أو غيره ـ إلى بعض جهات القبلة عند اشتباهها
معيّنا أو غير معيّن. وعلى الثاني أيضا لا بدّ أن يفرض الكلام فيما لم يقم دليل
على إرادة مرتبة معيّنة من المحتملات بعد عدم إرادة الجميع ، وإلّا فلا إشكال في
وجوب الإتيان بما قام عليه الدليل.
فمحلّ الكلام فيه
ما قام الدليل فيه على عدم وجوب الاحتياط الكلّي من دون دلالة على وجوب مرتبة
معيّنة منه ، بل احتمل عدم وجوب شيء منها إلّا فيما قام الدليل على حرمة المخالفة
القطعيّة أو وجوب بعضها أقلّ أو أكثر ، كما في مثال اشتباه القبلة ، بأن يقال إنّ
الإجماع قد انعقد على عدم وجوب ما زادت على أربع صلوات إلى الجهات الأربع ، لا
بمعنى وجوب الأربع خاصّة ، بل بمعنى عدم
.................................................................................................
______________________________________________________
وجوب الزائد عليها
، وأمّا هي فلم يدلّ دليل على وجوبها بالخصوص ، بل يحتمل كون الواجب بعد عدم وجوب
الزائد عليها هي الواحدة أو الصلاة إلى جهتين أو ثلاث جهات. نعم ، في رواية خراش
دلالة على وجوب الأربع إلى الأربع ، إلّا أنّها لضعفها لا تصلح مستندا في المقام.
نعم ، قد انعقد الإجماع على وجوب أصل الصلاة ، وأمّا وجوب تحصيل شرطها ـ وهي
القبلة في ضمن أربع صلوات ـ أو الاقتصار بما دونها فلا ، وحينئذ يمكن القول بوجوب
واحدة خروجا من مخالفة الإجماع المذكور.
وعلى كلّ تقدير
فقد عرفت أنّ الأقسام في المقام ثلاثة. أمّا القسم الأوّل فمقتضى القاعدة وجوب
الاحتياط فيه ، بأن يجب الإتيان بجميع ما تيسّر من المحتملات ، بل مقتضاها جواز
المخالفة القطعيّة ، لاحتمال كون الواجب هو ما تعذّر أو تعسّر ، فيرجع الشكّ في
الباقي إلى الشكّ في التكليف ، فيجوز ترك الجميع ، إلّا أن يدّعى بناء العقلاء على
حرمة المخالفة القطعيّة فيه كما هو ظاهر المصنّف رحمهالله ، حيث فرض الكلام بعد الفراغ منها ، أو انعقد الإجماع
عليها في بعض الموارد ، فيجب حينئذ إبقاء مقدار الحرام لكي لا يحصل القطع بالمخالفة.
ولكن صريح المحقّق في الشرائع في مسألة القبلة ـ بل المشهور كما ادّعاه المصنّف رحمهالله وغيره ـ هو وجوب الاحتياط على حسب ما أمكن. ولعلّ الوجه
فيه بناء العقلاء عليه. ولعلّ السرّ فيه توهّم وجود المقتضي وعدم المانع. أمّا
الأوّل فلفرض تحقّق العلم الإجمالي بوجود واجب مردّد بين امور. وأمّا الثاني فإنّ
تعذّر البعض الذي يحتمل كونه هو الواجب لا يستلزم إهمال الواقع بالمرّة ، لكونه
مرعيّا عند العقل والعقلاء بحسب الإمكان. وبالجملة ، إنّ بنائهم ثابت على مراعاة
العلم الإجمالي بحسب الإمكان وإن اختفى علينا السرّ فيه.
وأمّا ما ذكرت من
رجوع الشكّ في الباقي مع عدم وجوب الاحتياط الكلّي إلى الشكّ في التكليف ، ففيه :
أنّ مبنى البراءة والاشتغال إنّما هو على بناء العقلاء ،
.................................................................................................
______________________________________________________
وبعد استقرار
بنائهم على الاحتياط بحسب الإمكان في المقام فلا جدوى لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ
في التكليف دون المكلّف به.
ومن هنا يظهر وجه
الفرق بين ما نحن فيه ممّا كانت الشبهة وجوبيّة وبين الشبهة المحصورة ، حيث قد
عرفت أنّ المشهور هنا ـ بل ظاهر الفقهاء ـ هو وجوب الاحتياط بحسب الإمكان مطلقا.
وقد فصّل في الشبهة المحصورة بين ما كان تعذّر بعض أطراف الشبهة سابقا على العلم
الإجمالي وبين ما كان لا حقا به ، بالقول بعدم وجوب الاحتياط في الأوّل دون
الثاني. وقد تقدّم اختيار المصنّف رحمهالله له في التنبيه الخامس من تنبيهات الشبهة المحصورة. وقد
يفرّق بينهما بكون أمر الوجوب عندهم أهمّ من الحرمة. وقد تقدّم وجه التفصيل المذكور
في الشبهة المحصورة هناك ، وبتذكّر ما ذكره هناك وذكرناه هنا تقدر على استفادة ما
أهملنا ذكره هنا ، فتدبّر. وستعرف زيادة توضيح لذلك في القسم الثالث.
وممّا ذكرناه يظهر
الكلام في القسم الثاني أيضا. وظاهر المصنّف رحمهالله تحقّق بناء العقلاء على الاحتياط بحسب الإمكان هنا دون
سابقه ، ولذا تمسّك بأصالة البراءة في الأوّل دون الثاني. ولعلّ السرّ فيه أنّ
الرخصة في البعض غير المعيّن يفهم منها عرفا جعل الباقي بدلا من المكلّف به
الواقعي ، وفي البعض المعيّن يفهم رفع اليد عن الواقع ، ومع الشكّ يرجع إلى أصالة
البراءة. فالفارق إمّا هو العرف مطلقا أو بضميمة الأصل. والعمدة في أمثال المقام
ثبوت بناء العقلاء على وجه يكشف عن ثبوت ما بنوا عليه في الواقع أو عن تقرير
المعصوم عليهالسلام، كما هو مناط اعتباره ، فافهم.
وأمّا القسم
الثالث فيمكن القول فيه بعدم وجوب الاحتياط بالإتيان بجميع ما عدا المرخّص فيه ،
بل بجواز المخالفة القطعيّة ، إلّا أن يدّعى بناء العقلاء مطلقا أو الإجماع في بعض
الموارد على عدم جوازها كما تقدّم ، لأنّ رخصة الشارع في ترك بعض المقدّمات
العلميّة لا يجتمع مع إرادته للواقع من المكلّف ، فهو دليل عدم مطلوبيّة
.................................................................................................
______________________________________________________
الواقع على ما هو
عليه. ولا يتأتّى هنا التفصيل المتقدّم في القسم الثاني بين الرخصة في البعض
المعيّن وغيره ، لأنّ رخصة الشارع ابتداء في ترك بعض المقدّمات العلميّة ـ معيّنا
كان أو غير معيّن ـ دليل عرفا على عدم إرادته للواقع ، بخلاف ما لو كانت الرخصة
بسبب من المكلّف بالفتح على ما عرفت. وأمّا احتمال وجوب الاحتياط بالإتيان بمرتبة معيّنة من المحتملات ،
كالصلاة إلى أربع جهات أو أقلّ منها ، فالأصل ينفيه كما عرفته في القسم الأوّل ،
غاية الأمر حرمة المخالفة القطعيّة في المثال المتقدّم للإجماع ، فيقتصر فيه على
الإتيان بصلاة واحدة خروجا من مخالفة الإجماع ، ولا دليل على ما زاد عليه.
فإن قلت : إذا دخل
الوقت وتمكّن المكلّف من الصلاة إلى القبلة مع معرفتها تفصيلا ، ثمّ اشتبهت عليه
القبلة وعجز عن الصلاة إلى بعض جهاتها معيّنة أو غير معيّنة لمرض أو غيره ، فمقتضى
استصحاب الشغل أو بقاء الأمر الأوّل المنجّز في حال التمكّن هو وجوب الاحتياط
الكلّي ، وما دلّ على عدم وجوب ذلك لا ينفي وجوب ما أمكن من المحتملات ، فيجب
الاحتياط بما لم ينعقد الإجماع على خلافه ، كالصلوات الأربع في المثال المتقدّم ،
استصحابا لما ثبت أوّلا إلى أن يثبت الرافع ، وهو في المثال المتقدّم هي الصلاة
إلى أربع جهات دون الأقلّ منها ، وإذا ثبت وجوب الاحتياط هنا ثبت فيما هو اشتبه
الواجب فيه من أوّل الأمر بالإجماع المركّب.
لا يقال : يمكن
قلب الإجماع ، لأنّه إذا ثبت عدم وجوب الاحتياط فيما اشتبه الواجب فيه من أوّل
الأمر ، ثبت في غيره أيضا بالإجماع المركّب.
لأنّا نقول :
ضميمة الإجماع في الصورة الاولى ـ وهي الاستصحاب ـ أقوى من ضميمته في الثانية ،
وهي أصالة البراءة.
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
قلت : إنّ هذه الاستصحابات
غير معتبرة على القول الحقّ وإن كان خلاف ظاهر المشهور ، لتغيّر موضوعها ، لأنّ
ثبوت التكليف في الحالة الاولى إنّما هو في حال العلم والتمكّن من الإطاعة
التفصيليّة ، وفي الحالة اللاحقة إنّما هو في حال الجهل وعدم التمكّن.
نعم ، يمكن إثبات
وجوب الاحتياط في هذا القسم أيضا بوجهين آخرين :
أحدهما : قاعدة
الاشتغال ، لا استصحابه حتّى يمنع بما تقدّم ، بتقريب أن يقال : إذا ثبت وجوب
إطاعة الواقع في حال العلم والتمكّن من الإطاعة التفصيليّة ، ثبت وجوب تحصيل القطع
بالواقع في حال الجهل أيضا ، لأنّ الشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، غاية
الأمر أنّ الإجماع على عدم وجوب الاحتياط الكلّي أحوجنا إلى الاقتصار في مقام
الامتثال على الإتيان بما لم ينعقد الإجماع على خلافه ، لعدم حصول اليقين بالبراءة
إلّا بذلك ، ويتمّ المطلوب بضميمة الإجماع كما تقدّم.
وثانيهما :
استفادة ذلك من مجموع الخطابات الشرعيّة ، بعد ما قرّر في محلّ آخر من كون العلم
الإجمالي كالتفصيلي طريقا اضطراريّا غير قابل لجعل الشارع والتصرّف فيه إلّا برفع
اليد عن الواقع.
نعم ، قد يفرّق
بينهما بصلوح العلم الإجمالي لجعل بعض أطرافه بدلا من الواقع ، بخلاف العلم التفصيلي
، كما نبّه عليه المصنّف رحمهالله غير مرّة. فنقول : إنّ مقتضى إطلاق ما ورد من الكتاب
والسنّة في وجوب الصلاة واشتراطها بالقبلة هو وجوبها على المكلّفين حتّى مع اشتباه
القبلة ، ومقتضاه وجوب الاحتياط الكلّي ، إلّا أنّه بعد ضمّه إلى الإجماع على عدم
وجوب الاحتياط الكلّي يفيد بدلالة الإشارة على كون بعض أطراف الشبهة بدلا من
الواقع ، لأنّ مطلوبيّة الواقع ـ كما هو مقتضى إطلاق الخطابات ـ وعدم وجوب
الاحتياط الكلّي لا يجتمعان إلّا بذلك ، لأنّ البدل في المثال المتقدّم مثلا إمّا
هي الصلاة إلى أربع جهات ، للإجماع على عدم وجوب الزائد عليها ، أو صلاة واحدة
مخيّرا في الإتيان بها إلى أيّ جهة أراد ، فيرجع
يجب الإتيان بما
تيسّر من المحتملات؟ وجهان : من أنّ التكليف بإتيان الواقع ساقط ، فلا مقتضي
لإيجاب مقدّماته العلميّة ، وإنّما وجب الإتيان بواحد فرارا من المخالفة القطعيّة.
ومن أنّ اللازم بعد الالتزام بحرمة مخالفة الواقع مراعاته مهما أمكن ؛ وعليه بناء
العقلاء في أوامرهم العرفيّة.
والاكتفاء بالواحد التخييري عن الواقع
إنّما يكون مع نصّ الشارع عليه. وأمّا مع عدمه وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة الواقع
، فيجب مراعاته حتّى
يقطع بعدم العقاب ؛ إمّا لحصول الواجب وإمّا لسقوطه بعدم تيسّر الفعل وهذا لا يحصل
إلّا بعد الإتيان بما تيسّر ، وهذا هو الأقوى.
وهذا الحكم مطّرد في كلّ مورد وجد
المانع من الإتيان ببعض غير معيّن من المحتملات. ولو طرأ المانع من بعض معيّن منها
، ففي الوجوب ـ كما هو المشهور ـ إشكال من عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ،
والأصل البراءة.
السادس : هل يشترط في تحصيل العلم
الإجمالي بالبراءة بالجمع بين المشتبهين ، عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي
بإزالة الشبهة و
اختياره ما يعلم به (١٦٥٦)
______________________________________________________
الشكّ في جعل
البدليّة حينئذ إلى التعيين والتخيير ، والمرجع فيه هو الاحتياط ، وإن قلنا بأصالة
البراءة عند دوران الأمر بينهما في نفس الأحكام الأوليّة. وتمسّك المصنّف رحمهالله بها في القسم الأوّل ضعيف كما لا يخفى ، لأنّ دوران الأمر
بينهما هنا إنّما هو في طريق امتثال ما علم إجمالا ، والمرجع عند الشكّ في بعض
شرائط كيفيّة الامتثال هو الاحتياط ، وإن قلنا بأصالة البراءة عند الشكّ في
الأجزاء والشرائط ، كما قرّرناه في محلّ آخر وفاقا للمصنّف رحمهالله. وتوهّم سقوط شرطيّة القبلة عند اشتباهها ضعيف ، كما نبّه
عليه المصنّف رحمهالله في التنبيه الأوّل تقريبا وتزييفا ، فراجع.
١٦٥٦. كاختيار ثوب طاهر آخر غير الثوبين المشتبهين. وتحقيق هذا
المقام
__________________
البراءة تفصيلا ، أم
يجوز الاكتفاء به وإن تمكّن من ذلك ، فيجوز لمن قدر على تحصيل العلم بالقبلة أو
تعيين الواجب الواقعي من القصر والإتمام أو الظهر والجمعة ، الامتثال بالجمع بين
المشتبهات؟ وجهان ، بل قولان : ظاهر الأكثر الأوّل ؛ لوجوب اقتران الفعل المأمور
به عندهم بوجه الأمر. وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرّض لشروط البراءة والاحتياط
إن شاء الله.
ويتفرّع على ذلك أنّه لو قدر على العلم
التفصيلي من بعض الجهات وعجز عنه من جهة اخرى ، فالواجب مراعاة العلم التفصيلي من
تلك الجهة ، فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر المتيقّن وعجز عن تعيين القبلة ،
تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات ؛ لتمكّنه من العلم التفصيلي
بالمأمور به من حيث طهارة الثوب وإن لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيلي على
الإطلاق.
السابع : لو كان الواجب المشتبه أمرين
مترتّبين شرعا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والإتمام أو بين الجهات الأربع
، فهل يعتبر في صحّة الدخول في محتملات الواجب اللاحق الفراغ اليقيني من الأوّل
بإتيان جميع محتملاته ، كما صرّح به في الموجز وشرحه والمسالك
والروض والمقاصد العليّة ، أم يكفي فيه فعل بعض محتملات الأوّل بحيث يقطع بحصول
الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين ـ كما عن نهاية الإحكام والمدارك ـ فيأتي
بظهر وعصر قصرا ، ثمّ بهما تماما؟
قولان ، متفرّعان على القول المتقدّم في
الأمر السادس ـ من وجوب مراعاة العلم التفصيلي مع الإمكان ـ مبنيّان على أنّه هل
يجب (١٦٥٧) مراعاة ذلك من
______________________________________________________
قد تقدّم عند بيان
فروع العلم الإجمالي ، وسيأتي أيضا عند التعرض لشروط البراءة والاحتياط كما نبّه
عليه.
١٦٥٧. توضيحه : أنّ اعتبار العلم التفصيلي وتقديمه على العلم
الإجمالي يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
اعتباره لأجل مراعاة نفس الواجب ، بمعنى كون تقديمه على العلم الإجمالي لأجل تقليل
التردّد في نيّة نفس الواجب ، وتقليل محتملاته في
.................................................................................................
______________________________________________________
الخارج. فإذا صلّى
في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات يقع التردّد في انطباق المأتيّ به للواجب
الواقعي من جهتين : إحداهما : من جهة القبلة ، والاخرى : من جهة الثوب الطاهر ،
فإذا تمكّن من إزالة هذا التردّد مطلقا أو في الجملة وجبت. وهذا إذا كان إهمال
العلم التفصيلي موجبا لزيادة التردّد في الواجب على ما عرفت. وأمّا إذا لم يوجب
ذلك فلا يجب تحصيله وتقديمه على العلم الإجمالي ، لانتفاء مناط تقديمه عليه ، وذلك
كالظهر والعصر المردّدتين بين القصر والإتمام ، فإنّ في كيفيّة امتثالهما وجوها :
أحدها : أن يشرع
في محتملات العصر بعد الفراغ من محتملات الظهر ، بأن يصلّي الظهر قصرا وإتماما ،
ثمّ العصر كذلك.
وثانيها : أن
يصلّيهما قصرا ، ثمّ يصلّيهما إتماما.
وثالثها : أن
يصلّي الظهر قصرا ثمّ العصر إتماما ، وبالعكس.
أمّا الأوّل فإذا
شرع في أحد محتملات العصر ، كما إذا أتى بها قصرا ، فالشكّ في انطباق المأتيّ به
للواقع إنّما هو من جهة الشكّ في كون المأمور به في الواقع هو القصر أو الإتمام ،
لا من جهة اشتماله على شرطه الواقعي ، وهو الترتّب على الظهر الواقعيّة ، للقطع
بحصوله حينئذ.
وأمّا الثاني فإذا
صلّى العصر قصرا بعد الظهر كذلك ، فالشكّ في انطباق المأتيّ به للواقع وإن وقع من
وجهين ، أحدهما : من جهة حصول الشرط ، وهو الترتّب على الظهر الواقعيّة ، لأنّ
المكلّف به في الواقع إن كان هو الإتمام لم تكن العصر المأتيّ بها قصرا مشتملة على
هذا الشرط ، والآخر : من جهة احتمال كون المكلّف به في الواقع هو الإتمام دون
القصر ، إلّا أنّه لا أثر للشكّ من الجهة الأولى ، لعدم كونه موجبا لزيادة التردّد
في الواجب الواقعي زائدا على التردّد الحاصل من الجهة الثانية ، لأنّ العصر
المقصورة إن كانت مأمورا بها في الواقع فقد وجدت شرطها ، وهو الترتّب على الظهر
الواقعيّة ، وإن لم تكن مأمورا بها فالبطلان حينئذ
جهة نفس الواجب؟ فلا
يجب إلّا إذا أوجب إهماله تردّدا في أصل الواجب ، كتكرار الصلاة في الثوبين
المشتبهين إلى أربع جهات ، فإنّه يوجب تردّدا في الواجب زائدا على التردّد الحاصل
من جهة اشتباه القبلة ، فكما يجب رفع التردّد مع الإمكان كذلك يجب تقليله.
أمّا إذا لم يوجب إهماله تردّدا زائدا
في الواجب فلا يجب ، كما فيما نحن فيه ؛ فإنّ الإتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر
المقصورة لا يوجب تردّدا زائدا على التردّد الحاصل من جهة القصر والإتمام ؛ لأنّ العصر
المقصورة إن كانت مطابقة للواقع كانت واجدة لشرطها وهو الترتّب على الظهر ، وإن
كانت مخالفة للواقع لم ينفع وقوعها مترتّبة على الظهر الواقعيّة ؛ لأنّ الترتّب
إنّما هو بين الواجبين واقعا.
______________________________________________________
مستند إلى ذلك لا
إلى فقد الشرط ، لفرض عدم إجدائه على تقدير عدم كونها مأمورا بها ، لأنّ العصر
المقصورة إذا وقعت بعد الظهر التامّة الواقعيّة لم يعتدّ بهذا الترتّب ، لأنّ
الترتّب إنّما يعتبر بين الواجبين واقعا ، لا بين الواجب واقعا والواجب ظاهرا من
باب المقدّمة. فالتردّد في انطباقها على الواقع إنّما هو من جهة الشكّ في كون المكلّف
به هو القصر أو الإتمام ، لا من جهة وجدان الشرط وعدمه ، لما عرفت من عدم إجداء
وجدانه له على تقدير عدم كونها مأمورا بها. فلا بدّ من القول بجواز الإتيان بالظهر
والعصر مقصورتين ثمّ إتيانهما تامّتين ، على القول بوجوب تقديم الإطاعة التفصيليّة
على الإجماليّة مهما أمكن.
وقد يقال أيضا في
وجهه : إنّ المقصود من اشتراط ترتّب العصر على الظهر إن كان ترتّب العصر الواقعيّة
على الظهر الواقعيّة فهو حاصل بالفرض. وإن كان ترتّب العصر الظاهريّة ـ أعني : ما
ثبت وجوبه من باب المقدّمة العلميّة ـ على الظهر الظاهريّة فهو أيضا حاصل. وإن كان
ترتّب العصر الظاهريّة على الظهر الواقعيّة فهو ممنوع ، لأنّ ظاهر الأدلّة هو
اعتبار الترتّب بين الواجبين واقعا ، كما صرّح به المصنّف رحمهالله.
فإن قلت : إنّه قد
ادّعى بعضهم الإجماع على تقدّم الإطاعة التفصيليّة على الإجماليّة ، والعلم بحصول
الترتّب تفصيلا لا يحصل إلّا بالإتيان بجميع محتملات الظهر أوّلا.
ومن ذلك (١٦٥٨) يظهر عدم جواز التمسّك
بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر وعدم فعل الواجب الواقعي ؛ وذلك لأنّ المترتّب (١٦٥٩)
على بقاء الاشتغال وعدم فعل الواجب عدم جواز الإتيان بالعصر الواقعي ، وهو مسلّم ؛
ولذا لا يجوز الإتيان حينئذ بجميع محتملات العصر ، وهذا المحتمل غير معلوم أنّه
العصر الواقعي ، والمصحّح للإتيان به هو المصحّح لإتيان محتمل الظهر المشترك معه
في الشكّ وجريان الأصلين فيه ، أو أنّ الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس
الخصوصيّة
______________________________________________________
قلت : إنّ مورد
الإجماع ـ كما تقدّم في صدر الكتاب ـ إنّما هو فيما كانت الإطاعة الإجماليّة موجبة
لتكرار العمل ، وهو هنا غير حاصل بالفرض. وأنت خبير بأنّ الشرط على القول بتقدّم
الإطاعة التفصيليّة على الإجماليّة هو ترتّب العصر الواقعيّة على الظهر الواقعيّة
، مع العلم بالترتّب حين العمل لا بعد الفراغ منه ، وهو لا يحصل إلّا بالدخول في
محتملات العصر بعد الفراغ من محتملات الظهر.
وأمّا الثالث فلا
ريب في عدم كفايته في المقام.
وثانيهما : أن
يكون اعتباره لأجل مراعاة نفس الخصوصيّة المشكوكة في العبادة ، بمعنى أن يتوقّف
حصول الامتثال على العلم التفصيلي بخصوصيّات العبادة التي يمكن تحصيل العلم بها ،
سواء كانت الخصوصيّة المشكوكة مع عدم العلم بها موجبة للتردّد في أصل الواجب أم لا
، كما عرفت تفصيل القول فيه ، وعرفت أيضا أنّ الخصوصيّة المشكوكة فيما نحن فيه من
جهتين : إحداهما : من جهة الشكّ في حصول الترتّب ، والاخرى : من جهة القصر
والإتمام ، فإن تمكّن من إزالة الشكّ عن الخصوصيّتين أو إحداهما اعتبر ذلك في حصول
الامتثال.
١٦٥٨. يعني : من اعتبار الترتّب بين الواجبين واقعا.
١٦٥٩. لأنّ الأثر الشرعيّ المرتّب على بقاء الشغل أو بقاء الأمر
الأوّل هو عدم جواز الإتيان بالعصر الواقعيّة دون الظاهريّة ، لأنّ عدم جواز
الإتيان بها إنّما هو من الآثار العقليّة لبقاء الأمر الأوّل دون الشرعيّة ، وهو
واضح ، والمصحّح
المشكوكة في العبادة
وإن لم يوجب إهماله تردّدا في الواجب ، فيجب على المكلّف العلم التفصيلي عند الإتيان
بكون ما يأتي به هو نفس الواجب الواقعي؟.
فإذا تعذّر ذلك من بعض الجهات لم يعذر
في إهماله من الجهة المتمكّنة ، فالواجب على العاجز عن تعيين كون الصلاة قصرا أو
تماما : العلم التفصيلي بكون المأتيّ به مترتّبا على الظهر ، ولا يكفي العلم
بترتّبه على تقدير صحّته.
هذا كلّه مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر
دفعة واحدة في الوقت المشترك ، أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط في الوقت المختصّ
ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال (١٦٦٠) بعدم الجواز نظرا إلى الشك في تحقّق
الأمر بالعصر ، فكيف يقدّم على محتملاتها التي لا تجب إلّا مقدّمة لها؟ بل الأصل
عدم الأمر ، فلا يشرع الدخول في مقدّمات الفعل.
______________________________________________________
للإتيان بها هو
الاحتياط الذي لا تمنع الاصول من العمل به في مواردها.
١٦٦٠. لا يذهب عليك أنّ الشكّ في تحقّق الأمر بالعصر بعد الإتيان
بأحد محتملات الظهر يتوقّف على تسليم مقدّمتين :
إحداهما : أن نقول
: إنّ الوقت المختصّ بالظهر هو ما وسع من أوّل الوقت لفعل الظهر مع ما عليه
المكلّف ، من بطوء اللسان وسرعته وبطوء الحركة في القيام والقعود وسرعتها ونحو
ذلك. مضافا إلى ما تتوقّف عليه من مقدّماتها الوجوديّة إن لم تكن حاصلة في أوّل
الوقت ، دون المقدّمات العلميّة ، وإلّا كان الوقت المختصّ للظهر فيما اشتبه
الواجب بين القصر والإتمام ما تسع ستّ ركعات ، مع ما تتوقّف عليه من المقدّمات
الوجوديّة إن لم تكن حاصلة قبله. فإذا أتى بأحد محتملي الظهر من القصر أو الإتمام
يحصل القطع بعدم الأمر بالعصر بعده ، لفرض بقاء الوقت المختصّ بالظهر بعد.
والأظهر اختصاص
الوقت المختصّ بما ذكرناه أوّلا ، ولذا لو أتى بأحد محتملي الظهر ، ثمّ غفل عن
محتملها الآخر وأتى بأحد محتملي العصر ، وانكشف مطابقتهما للواقع أجزأ ذلك عن
التكليف المعلوم إجمالا بلا إشكال. ولو كان المختصّ بها متّسعا لما يسعها
ومقدّماتها الوجوديّة والعلميّة ، فلا بدّ أن لا تجزي
ويمكن أن يقال : إنّ أصالة عدم الأمر
إنّما تقتضي عدم (١٦٦١) مشروعيّة الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله على
تقدير عدم الأمر (١٦٦٢) واقعا ، كما إذا صلّى العصر إلى غير الجهة التي صلّى الظهر
، أمّا ما لا يحتمله إلّا على تقدير وجود الأمر ، فلا يقتضي الأصل المنع عنه ، كما
لا يخفى.
______________________________________________________
العصر في هذا
الفرض عن الواقع ، لوقوعها في الوقت المختصّ بالظهر بالفرض.
الثانية : أن يكون
المأتيّ به من محتملي الظهر هو القصر دون الإتمام ، وإلّا حصل القطع بتحقّق الأمر
بالعصر المأتيّ بها بعد الظهر التامّة.
١٦٦١. لا يخفى أنّ نسبة عدم مشروعيّة الدخول فيما ذكره إلى الأصل
لا يخلو من مسامحة ، إذ عدم مشروعيّة الدخول حينئذ لأجل العلم ببطلان المأتيّ به
من محتملات العصر تفصيلا ، لبطلانه حينئذ إمّا من جهة عدم الأمر بالظهر ، وإمّا من
جهة عدم حصول الترتّب ، لكنّ الظاهر أنّ المقصود بيان عدم تماميّة ما ذكره الخصم
من عدم مشروعيّة الدخول إلّا فيما ذكره ، والمقصود أنّ مقتضى الأصل لا يتمّ إلّا
في هذه الصورة ، وإن كان عدم المشروعيّة مستندا إلى العلم دون الأصل.
١٦٦٢. متعلّق بقوله : «تحتمله». يعني : أنّ أصالة عدم الأمر
بالعصر إنّما تقتضي عدم مشروعيّة الدخول في العصر الواقعيّة ومحتملاتها التي كان
احتمالها لها على تقدير عدم الأمر بها واقعا ، لأنّه إذا صلّى العصر إلى غير الجهة
التي صلّى الظهر إليها ، فكون العصر المأتيّ بها على خلاف جهتها محتملة لأن تكون
مأمورا بها في الواقع ، إنّما هو على تقدير عدم الأمر بالعصر المأتيّ بها على خلاف
جهة الظهر ، لأنّها إن كانت عصرا واقعيّة فهي غير مأمور بها ، لعدم ترتّبها على
الظهر الواقعيّة ، وكذلك فيما لو صلّى الظهر مقصورة والعصر تماما ، أو بالعكس.
وأمّا لو صلّاهما إلى جهة واحدة أو تامّتين أو مقصورتين ، فأصالة عدم الأمر بالعصر
لا تقتضي عدم مشروعيّة الدخول في بعض محتملاتها ، لأنّ الإتيان به حينئذ إنّما هو
لأجل احتمال الأمر بها ، والاصول لا تمنع العمل بالاحتياط في مواردها.
المصادر
(١) القوانين ج ٢
: ص ٣٧.
(٢) مشارق الشموس
في شرح الدروس : ص ٧٧.
(٣) البقرة (٢) :
٢٣٨.
(٤) مشارق الشموس
في شرح الدروس : ص ٢٨٢.
(٥) مسالك الإفهام
ج ١ : ص ١٥٨.
دوران الأمر بين
الاقلّ والأكثر
الثاني : فيما إذا دار الأمر في الواجب
بين الأقلّ والأكثر (١٦٦٣) ومرجعه إلى الشكّ في جزئيّة شىء للمأمور به وعدمها ،
وهو على قسمين ؛ لأنّ الجزء المشكوك : إمّا جزء خارجي أو جزء ذهني (١٦٦٤) وهو
القيد ، وهو على قسمين : لأنّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به في
الوجود الخارجي ، فمرجع اعتبار ذلك (١٦٦٥) القيد إلى إيجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء
الذي يصير منشأ للطهارة المقيّد بها الصلاة.
______________________________________________________
١٦٦٣. يعني : الارتباطيّين منهما ، لما أسلفناه في الحواشي
السابقة من خروج الاستقلاليّين منهما من مسائل الشكّ في المكلّف به.
١٦٦٤. مرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في الشرطيّة. وتسميته جزءا إنّما
هي باعتبار دخول التقييد في المقيّد ، وإن كان نفس القيد خارجا منه.
١٦٦٥. لا يذهب عليك أنّ الكلام في هذا القسم إنّما هو فيما لو
كان الشكّ في شرطيّة القيد المنتزع وبيان الأصل في ذلك ، وأمّا لو كان الشكّ في
جزئيّة شيء للأمر الخارج المنتزع منه أو شرطيّته بعد تسليم أصل الشرطيّة ، كما إذا
شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للوضوء أو الغسل أو التيمّم ، فالظاهر خروجه من محلّ
الكلام ، إذ لا ملازمة بين القول بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط والقول
بها فيما ذكرناه ، لأنّه عند الشكّ في جزئيّة السورة للصلاة أو شرطيّة شيء لها
يمكن أن يقال بعدم الجزئيّة أو الشرطيّة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بالتقريب
الذي سيأتي في محلّه. ولا يتأتّى ذلك فيما ذكرناه ، لأنّ نفي جزئيّة المشكوك فيه
أو شرطيّته
وإمّا خصوصيّة متّحدة في الوجود مع
المأمور به ، كما إذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصّة ، ومن ذلك
دوران الأمر (١٦٦٦) بين إحدى الخصال وبين واحدة معيّنة منها.
والكلام في كلّ من القسمين في أربع
مسائل : أمّا مسائل القسم الأوّل ، وهو الشكّ في الجزء الخارجي : فالاولى منها
(١٦٦٧) أن يكون ذلك مع عدم النصّ المعتبر في المسألة فيكون ناشئا من ذهاب جماعة
إلى جزئيّة الأمر الفلاني ، كالاستعاذة قبل
______________________________________________________
من الوضوء مثلا
للقاعدة المزبورة لا يقضي بحصول ما علم كونه شرطا للصلاة ، ووقوعها متلبّسة بشرطها
الذي علم اشتراطها به وهي الطهارة ، إلّا على القول بالاصول المثبتة الّتي لا نقول
بها ، بل الأصل عدم حصول شرط الصلاة وبقاء الشغل بالواقع. فعلم من ذلك أنّ
الطهارات الثلاث عند الشكّ في بعض أجزائها أو شرائطها مورد لقاعدة الاشتغال ، وإن
قلنا بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط في المشروط بها.
١٦٦٦. إشارة إلى اندراج كلّ من دوران الأمر بين التعيين والتخيير
العقلي والشرعيّ في محلّ البحث.
١٦٦٧. اعلم أنّا قد أسلفنا فيما علّقناه على القسم الأوّل ـ أعني
: ما دار الواجب فيه بين المتباينين ـ أنّ ظاهر المحقّق القمّي كون النزاع هناك
صغرويّا ، وظاهر المحقّق الخوانساري كونه كبرويّا. ويمكن تقرير النزاع هنا أيضا
تارة على وجه يرجع إلى اللفظ ، واخرى إلى المعنى.
أمّا الأوّل فبأن
يدّعي القائل بالبراءة عدم ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه ، لأنّ غاية ما
نسلّمه هو ثبوت التكليف على ما تمكن لنا معرفته من جهة الأدلّة ، وأمّا ما زاد على
ذلك فهو منفي بالأصل ، وحينئذ لا يبقى مقتض لوجوب الاحتياط. أمّا من جهة العقل
فلعدم ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه. وأمّا من جهة الشرع ، فإمّا لحكومة
أخبار البراءة على أخبار الاحتياط ، أو لضعف الثانية.
القراءة في الركعة
الاولى مثلا على ما ذهب إليه بعض فقهائنا (١٦٦٨).
وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرّح
بعض متأخّري المتأخّرين بوجوبه
، وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيّد والشيخ ، لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما
، بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه .
وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم
وجوب الاحتياط ، والظاهر أنّه المشهور (١٦٦٩) بين العامّة والخاصة المتقدّمين منهم
والمتأخّرين ، كما
______________________________________________________
ويدّعي القائل
بالاحتياط ثبوت التكليف بالواقع ، نظرا إلى كون العلم الإجمالي كالتفصيلي منجّزا
للتكليف بالواقع. ولا مسرح لأخبار البراءة هنا ، إمّا لأنّ مقتضاها مجرّد نفي
العقاب على مخالفة الواقع ، لا نفي الحكم الواقعي كما قرّر في محلّ آخر ، ووجوب
الأجزاء والشرائط غيري ، وقد قرّر في مبحث المقدّمة عدم ترتّب الثواب والعقاب على
الواجبات الغيريّة. وإمّا لدعوى انصرافها إلى الواجبات النفسيّة ، فلا تشمل
المقام.
وأمّا الثاني فبأن
كان ثبوت التكليف بالواقع مسلّما بين الفريقين ، إلّا أنّ القائل بالبراءة إمّا أن
يمنع من اقتضاء الشغل اليقيني البراءة اليقينيّة ، ويدّعي كفاية الإطاعة
الاحتماليّة الحاصلة بالإتيان بالأقلّ. وإمّا أن يدّعي ـ لأجل أخبار البراءة ـ جعل
الشارع الإطاعة الاحتماليّة بدلا عن الإطاعة القطعيّة. وأمّا القائل بالاحتياط
فأمره أوضح. وعلى التقرير الأوّل يكون القول بالبراءة موافقا للأصل ، إذ على
القائل بالاحتياط أن يثبت تعلّق التكليف بالواقع ، وبالعكس على التقرير الثاني.
١٦٦٨. هو المفيد الثاني ولد شيخ الطائفة قدسسرهما.
١٦٦٩. عزاه إلى المشهور أيضا المحقّق القمّي رحمهالله في مبحث كون ألفاظ العبادات أسامي للصحيح أو للأعمّ منه ،
قال : «وكيف كان ، فالمتّبع هو الدليل ، لا ينبغي التوحّش مع الانفراد إذا وافقنا
الدليل ، كيف وجلّ الأصحاب إن لم نقل كلّهم متّفقون على عدم الفرق ، فمن يعمل
بالأصل ـ يعني : أصالة البراءة ـ
.................................................................................................
______________________________________________________
لا يفرّق بين
العبادات وغيرها» انتهى.
وصرّح بالاتّفاق
عليه قبله ، قال : «فاعلم أنّ الظاهر أنّه لا إشكال في جواز إجراء أصل العدم في
ماهيّة العبادات كنفس الأحكام والمعاملات ، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه ، كما يظهر
من كلمات الأوائل والأواخر ، ولم نقف على تصريح بخلافه في كلام الفقهاء» انتهى.
وحكى الفاضل الأصبهاني في حاشية المعالم عن بعضهم نسبة القول بالألفاظ إلى المشهور
أيضا.
ولعلّ منشأ الشبهة
في النسبة إمّا عدم عنوان هذه المسألة في كلماتهم الاصوليّة ، لأنّه إنّما أحدث
البحث عنها جماعة من المتأخّرين ، ولذا قد اختلفت مذاهبهم فيها ، واختلفت النسبة
إليهم ، وإمّا لأنّهم قد تمسّكوا بالبراءة في كثير من موارد هذه المسألة في أبواب
الفقه ، فمن ادّعى شهرة القول بالبراءة نظر إلى ظاهر كلماتهم في الفقه ، ومن ادّعى
شهرة القول بالاحتياط نظر إلى القاعدة ، لكون الشغل اليقيني بالواقع مقتضيا عندهم
للبراءة اليقينيّة ، فزعم منه كون القول بالاحتياط مذهبا لهم في المقام. ويحتمل أن
يريدوا بالبراءة في موارد التمسّك بها إطلاق الأدلّة على القول بالأعمّ في ألفاظ
العبادات ، بأن تسامحوا في التعبير بها عنه ، لموافقتهما في المؤدّى.
ومن هنا سرت
الشبهة إلى صاحب الرياض ، فزعم كون القول بالبراءة ملازما للقول بوضع ألفاظ
العبادات أسامي للأعمّ ، قال في صلاة الجمعة عند بيان اشتراطها بوجود سلطان عادل :
«ليس هنا إلّا الجمعة بهذا الشرط وباقي الشروط الآتية ، ونفيه بأصالة البراءة
إنّما يتّجه على القول بكونها أسامي للأعمّ من الصحيحة والفاسدة ، وأمّا على القول
بأنّها أسامي للصحيحة خاصّة كما هو الأقرب فلا» انتهى.
وظنّي أنّ هذه
الشبهة إنّما نشأت ممّا ذكره الوحيد البهبهاني ثمرة للقولين في ألفاظ العبادات ،
من جواز التمسّك بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء و
يظهر من تتبّع كتب
القوم كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقّق الثاني ومن تأخّر عنهم ،
بل الإنصاف أنّه لم أعثر (١٦٧٠) في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري على من
يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ،
كالسيّد والشيخ والشهيد قدسسره.
وكيف كان : فالمختار جريان أصل البراءة.
______________________________________________________
الشرائط على القول
بالأعمّ ، وعدمه على القول بالصحيح.
والحقّ عدم دلالة
ما ذكره على الملازمة بين القول بالصحيح والرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، وأنّ
التمسّك بأصالة البراءة على القول بالأعمّ غلط فاحش.
أمّا الأوّل فإنّ
المقصود من ذكر هذه الثمرة بيان جواز التمسّك بالبراءة على القول بالأعمّ ، نظرا
إلى إطلاق الأدلّة على هذا القول بالصحيح ، فحيث كان لازمه القول بإجمال الأدلّة
الذي يلزمه الرجوع في مواردها إلى مقتضى الاصول ، وكان المرجع عنده عند الشكّ في
الأجزاء والشرائط هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، أطلق القول بالرجوع إلى قاعدة
الاحتياط على القول بالصحيح ، لا أنّ هذا لازم للقول بالصحيح ، فهو أعمّ من القول
بالاحتياط.
وأمّا الثاني
فلعدم جريان الاصول العمليّة ـ سواء كانت هي أصالة البراءة أو الاشتغال ـ مع وجود
دليل اجتهادي في مواردها ، طابقته أو خالفته في المؤدّى. فعلى القول بكون ألفاظ
العبادات أسامي للأعمّ يكون إطلاق أدلّة العبادات حاكما أو واردا عليها. وأمّا على
القول بالصحيح ـ كما هو الصحيح ـ فيمكن القول بالبراءة ، كما هو المختار على ما
ستعرفه ، ويمكن القول بوجوب الاحتياط ، كما حكاه المصنّف رحمهالله عن السبزواري. وكيف كان ، فالذي يقضي به المتتبّع في فتاوى
الفقهاء هو اشتهار القول بالبراءة في المقام ، كما صرّح به المصنّف رحمهالله.
١٦٧٠. أمّا ما ذكره في المعارج من نسبة القول بالاحتياط إلى
جماعة ، والبراءة إلى آخرين ، والتفصيل بالقول بالأوّل فيما ثبت اشتغال الذمّة فيه
بالتكليف
لنا على ذلك : حكم العقل وما ورد من
النقل. أمّا العقل : فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه
إلّا عدّة أجزاء ، ويشكّ في أنّه هو هذا أو له جزء آخر وهو الشيء الفلاني ، ثمّ
بذل جهده في طلب الدليل على جزئيّة ذلك الأمر فلم يقتدر ، فأتى بما علم وترك
المشكوك خصوصا مع اعتراف المولى بأنّي ما نصبت لك عليه دلالة ، فإنّ القائل (١٦٧١)
بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرّق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو
نصب واختفى ، غاية الأمر أنّ ترك النصب من الآمر قبيح ، وهذا لا يرفع التكليف
بالاحتياط عن المكلّف.
فإن قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب
الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطبّاء أو الموالي ؛ فإنّ الطبيب إذا
أمر المريض بتركيب معجون فشكّ في جزئيّة شىء له مع العلم بأنّه غير ضارّ له ،
فتركه المريض مع قدرته عليه ، استحقّ اللوم. وكذا المولى إذا أمر عبده بذلك.
______________________________________________________
وبالثاني في غيره
إلى ثالث ، قال : «ومثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الإناء فقد نجس ، واختلفوا هل
يطهر بغسلة واحدة أم لا بدّ من سبع؟ وفيها عدا الولوغ هل يطهر بغسلة أم لا بدّ من
الثلاث؟» فلم تظهر مخالفته لما ذكره المصنّف رحمهالله ، إذ لعلّه أراد بمن قال بالاحتياط الأخباريّين منهم.
وأمّا القول بالتفصيل فلعلّه لا يشمل محلّ الكلام ممّا كان الشكّ فيه في الجزئيّة
بقرينة ما مثل به له ، لكون الشكّ فيه في الشرطيّة ، إذ المأمور به فيه التطهير ،
وحصوله بالسبع أو الثلاث من شرائطه ، ولا ملازمة بين القول بالبراءة في الأجزاء
والقول بها في الشرائط ، لاختلاف الأدلّة في ذلك ، كما هو واضح للمتدبّر فيها. نعم
، صريح المصنّف رحمهالله نفي وجدان الخلاف ممّن تقدّم على السبزواري في كلا
المقامين. نعم ، ويمكن أن يقال بخروج المثال من محلّ النزاع ، من جهة أنّ الكلام
في جميع موارد أصل البراءة إنّما هو فيما لم يكن هناك أصل موضوعيّ حاكم عليه ،
واستصحاب النجاسة في المثال حاكم على أصالة عدم الشرطيّة.
١٦٧١. دفع لما يمكن أن يتوهّم من التزام قبح المؤاخذة على تقدير
عدم
قلت : أمّا أوامر الطبيب (١٦٧٢) ، فهي
إرشاديّة ليس المطلوب فيها إلّا إحراز الخاصيّة المترتّبة على ذات المأمور به ،
ولا نتكلّم فيها من حيث الإطاعة والمعصية ؛ ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة
خبريّة غير طلبيّة
كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب أو عقاب
، والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة المجهول وعدمه.
وأمّا أوامر الموالي الصادرة بقصد
الإطاعة ، فنلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطّلع
عليه المولى وقدر على رفع جهله ولو على بعض الوجوه الغير المتعارفة إلّا أنّه
اكتفى بالبيان المتعارف فاختفى على العبد لبعض العوارض. نعم ، قد يأمر المولى
بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا أتى بذلك المركّب بدون
ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث
كان هو المأمور به في الحقيقة أو علم
______________________________________________________
النصب ، وعدم
القبح في صورة الاختفاء ، فتصحّ دعوى وجوب الاحتياط في الثانية ، وجريان البراءة
في الاولى ولا يلزم من القول بالبراءة في الأولى الالتزام بها في الثانية أيضا.
وما نحن فيه من قبيل الثانية دون الاولى.
وحاصل الدفع دعوى
التسوية بين الصورتين على القول بالبراءة والاحتياط ، وإن كانت المؤاخذة في الاولى
على القول بالبراءة أقبح. ووجه التسوية على القول بالبراءة واضح. وأمّا على القول
بالاحتياط ، فإنّ غاية ما يتصوّر أن يكون فارقا بينهما هو قبح ترك النصب في الاولى
، ولكنّه لا يرفع التكليف بالاحتياط عن المكلّف على القول به ، فلا وجه للتفصيل
بينهما بالقول بالبراءة في الاولى والاحتياط في الثانية.
١٦٧٢. حاصله : بيان الفرق بين ما كان الغرض من الأمر إطاعة العبد
لمولاه ، وبين ما كان الغرض منه حصول شيء آخر ، وكان المأمور به مقدّمة لحصوله ،
بأن كان الأمر به إرشادا للمكلّف إلى تحصيل هذا الشيء ، بل كان هو المأمور به
__________________
أنّه الغرض من
المأمور به ، فإنّ تحصيل العلم بإتيان المأمور به لازم ، كما سيجيء في المسألة
الرابعة.
فإن قلت : إنّ الأوامر الشرعيّة كلّها
من هذا القبيل ؛ لابتنائها على مصالح في المأمور به ، فالمصلحة فيها إمّا من قبيل
العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض. وبتقرير آخر (١٦٧٣) المشهور بين العدليّة
أن الواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، فاللطف
إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ولا يحصل
إلّا بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.
______________________________________________________
في الحقيقة ،
بدعوى تقبيح العقلاء لمؤاخذة المولى لو عاقب العبد لأجل ترك الجزء المشكوك فيه في
المقام الأوّل. وحيث كان طريق الإطاعة والمعصية موكولة إلى طريقة العقلاء في
أوامرهم العرفيّة ، يثبت بذلك حصول الإطاعة بالإتيان بالأقلّ ، وإن كان المأمور به
عند المولى هو الأكثر ، بخلاف ما لو كان الغرض من المأمور به تحصيل شيء آخر بحيث
كان حصوله موقوفا على حصول جميع أجزاء المأمور به الواقعي ، لأنّ بنائهم على
الاحتياط عند الشكّ في بعض أجزائه وشرائطه ، إنّما هو من جهة كون نفي جزئيّة
المشكوك فيه أو شرطيّته منافيا للغرض المقصود من الأمر. وأوامر الطبيب من هذا
القبيل ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، ولذا قلنا بوجوب الاحتياط عند الشكّ في بعض
أجزاء الطهارات الثلاث أو شرائطها ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «فيرجع اعتبار ذلك
القيد إلى إيجاب ذلك الأمر الخارجي» فراجع.
١٦٧٣. هذا تقرير للسؤال على طرز آخر لا يبتني على قول الإماميّة
والمعتزلة بكون الأحكام الشرعيّة ناشئة من المصالح والمفاسد الكامنة. وقد سمعت من
بعض مشايخي في تقريره : أنّ شكر المنعم وإطاعته سبحانه وتعظيمه واجب بحكم العقل ،
والمحصّل لهذه العناوين هي الواجبات الشرعيّة ، فهي لطف فيها ، بمعنى كونها مقرّبة
للعبد إليها لأجل كونها مقدّمة لحصولها ، بل هذه العناوين قائمة بها ، فهي
قلت أوّلا : مسألة البراءة والاحتياط
غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره (١٦٧٤) ، فنحن نتكلّم فيها
على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن (١٦٧٥) والقبح
، أو مذهب بعض العدليّة
(١٦٧٦) المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به .
______________________________________________________
المأمور به في
الحقيقة ، والأفعال المحصّلة لها مقدّمة لها أو هي أغراض مقصودة منها.
وفيه نظر ، يظهر
وجهه بالتأمّل فيما حكي عن المحقّق الثاني في جامعه عند بيان نيّة وجه الوجوب
والندب في الوضوء ، قال : «المراد بوجه الوجوب والندب السبب الباعث على إيجاب
الواجب وندب المندوب ، فهو على ما قرّره جمهور العدليّين من الإماميّة والمعتزلة
أنّ السمعيّات ألطاف في العقليّات ، ومعناه : أنّ الواجب السمعي مقرّب من الواجب
العقلي ، أي : امتثاله باعث على امتثاله ، فإنّ من امتثل الواجبات السمعيّة كان
أقرب إلى امتثال الواجبات العقليّة من غيره. ولا معنى للطف إلّا ما يكون المكلّف
معه أقرب إلى الطاعة. وكذا الندب السمعي مقرّب من الندب العقلي ، أو مؤكّد لامتثال
الواجب العقلي ، فهو زيادة في اللطف ، والزيادة في الواجب لا يمتنع أن يكون ندبا.
ولا نعني أنّ اللطف في العقليّات منحصر في السمعيّات ، فإنّ النبوّة والإمامة
ووجود العلماء والوعد والوعيد بل جميع الآلام تصلح للإلطاف فيها ، وإنّما هي نوع
من الإلطاف» انتهى.
وعلى كلّ تقدير
فمبنى التقرير الأوّل على كون الغرض من الأوامر تحصيل المصالح الكامنة ، ومبنى
الثاني على كون الغرض منها كون العبد قريبا من امتثال الواجبات العقليّة.
١٦٧٤. الضمير عائد إلى الواجب.
١٦٧٥. وكذا لكون الواجبات السمعيّة ألطافا في الواجبات العقليّة.
١٦٧٦. إشارة إلى الخلاف بين القائلين بالحسن والقبح ، بأنّ أوامر
الشرع
__________________
وثانيا : إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس
لطفا ، ولذا لو اتي به (١٦٧٧) لا على وجه الامتثال لم يصح ولم يترتّب عليه لطف ولا
أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة ، بل اللطف إنّما هو في الإتيان به على وجه
الامتثال ، وحينئذ : فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة
وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ـ فإنّ من صرّح من العدليّة بكون العبادات
السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا
______________________________________________________
لا بدّ أن تنشأ من
حسن في المأمور به خاصّة كما هو المشهور بينهم ، ويدلّ عليه قول الأمير عليهالسلام في وصيته لابنه الحسن عليهالسلام : «يا حسن إنّ الله لا يأمر إلّا بالحسن» أو يجوز أن ينشأ
من حسن في نفس الأمر وإن خلا المأمور به منه بالكليّة ، كما في الأوامر
الابتلائيّة ، بل الأوامر الظاهرية أيضا على تقدير تخلّفها عن الواقع في وجه ، كما
حكي عن بعض أهل العدل ، وتبعه صاحب الفصول وغيره.
١٦٧٧. قد يقال بانتقاض هذا بالواجبات التوصّلية ، لوضوح عدم
اختصاص النزاع بالواجبات التعبّدية ، ولا ريب في عدم اعتبار قصد التقرّب وكذا
الوجه في الواجبات التوصليّة. اللهمّ إلّا أن يقال بخروجها من محلّ الكلام ، لأنّ
المصالح والأغراض فيها واضحة. فإذا شكّ في شرطيّة شيء منها ، كما إذا شكّ في حصول
الطهارة بالغسلة أو الغسلتين ، أو شرطيّة شيء في العقود أو الإيقاعات أو سائر
الأحكام ، فأصالة البراءة عن الشرطيّة لا تقضي بحصول آثارها في الخارج ، لعدم
دلالتها على كون المجرّد عن المشكوك فيه سببا مؤثّرا في الشرع ، إلّا على القول
بالاصول المثبتة. مع أنّ معنى أصالة البراءة كما ستعرفه هو مجرّد نفي العقاب ، ولا
مسرح له في الأحكام الوضعيّة.
لا يقال : فما
معنى أصالة عدم الشرطيّة في العبادات ، مع أنّها من الأحكام الوضعيّة؟
لأنّا نقول : إنّ
معناها عند الشكّ في شرطيّة شيء من العبادة هو عدم ترتّب العقاب من جهة هذا
المشكوك فيه ، ولو باعتبار كون تركه مفضيا إلى ترك نفس
في الواجبات العقليّة
، قد صرّح بوجوب (١٦٧٨) إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ـ وهذا متعذّر
فيما نحن فيه ؛ لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقلّ المتحقّق في
ضمنه ؛ ولذا صرّح بعضهم (١٦٧٩) كالعلّامة رحمهالله
ويظهر من
______________________________________________________
العبادة. وستقف
على تحقيقه إن شاء الله تعالى.
وإن اريد إجرائها
بالنسبة إلى الآثار التكليفيّة المترتّبة عليها ، من حرمة الأكل والشرب والتصرّف
ونحوها ، بأن يقال : إذا شكّ في حصول الطهارة بالغسلة الواحدة والنقل والانتقال
بالعقد الفارسي ، الأصل جواز شربه وأكله بعد غسل المشكوك فيه مرّة واحدة ، وجواز
تصرّف البائع في الثمن والمشتري في المثمن بعد وقوع العقد بالفارسيّة ، فضعفه غنّي
عن البيان.
نعم ، يبقى
الإشكال في المقام في مثل ما لو شكّ في وجوب نفقة الزوجة في بعض الموارد ، كاجرة
الطبيب وغيرها ، وكذا غير ذلك من الواجبات التوصّلية التي لا إشكال في جريان أصالة
البراءة فيه.
١٦٧٨. يظهر من هذا التصريح أنّ الواجب إنّما يصير لطفا مع
الاقتران بقصد وجهه لا مع عدمه. ويرد عليه أوّلا : أنّ معنى كون الواجبات السمعيّة
لطفا في العقليّة ـ كما عرفته من المحقّق الثاني عند شرح قوله : «وبتقرير آخر» ـ أنّ
العبد مع امتثاله للواجبات السمعيّة يكون قريبا من امتثال الواجبات العقليّة ، ولا
ريب أنّ هذا القرب أمر عادي مرتّب على امتثال الواجبات السمعيّة ، ولا أثر فيه
لاعتبار قصد الوجه فيها وعدمه ، مع فرض حصول الامتثال وسقوط التكليف بدونه.
وثانيا : أنّه لم
يظهر من أحد اعتبار قصد الوجه الواقعي مع عدم التمكّن منه ، وهو مع وضوحه قد صرّح
به في صدر الكتاب ، بل قد ادّعى هنا القطع بعدم اعتباره مع إمكانه أيضا.
١٦٧٩. أي : بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ، مع فرض تعذّره عند عدم
العلم بالواجب والمندوب.
آخر منهم : وجوب
تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبّات ليوقع كلا على وجهه.
وبالجملة : فحصول اللطف بالفعل المأتيّ
به من الجاهل فيما نحن فيه غير معلوم
، بل ظاهرهم عدمه ، فلم يبق عليه (١٦٨٠) إلّا التخلّص من تبعه مخالفة الأمر
الموجّه إليه ، فإنّ هذا واجب عقلي في مقام الإطاعة والمعصية ولا دخل له بمسألة
اللطف ، بل هو جار على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا ، وهذا
التخلّص يحصل بالإتيان بما يعلم أنّ مع تركه يستحقّ العقاب والمؤاخذة فيجب الإتيان
، وأمّا الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان.
فإن قلت : إنّ ما ذكر (١٦٨١) في وجوب
الاحتياط في المتباينين بعينه موجود هنا ، وهو أنّ المقتضي ـ وهو تعلّق الوجوب
الواقعي بالأمر الواقعي المردّد بين الأقلّ والأكثر ـ موجود ، والجهل التفصيلي به
لا يصلح مانعا لا عن المأمور به ولا عن توجّه الأمر كما تقدّم في المتباينين حرفا
بحرف.
قلت : نختار هنا أنّ الجهل مانع عقلي عن
توجّه التكليف بالمجهول إلى المكلّف ؛ لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر
المسبّب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان ، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك
الأقلّ من حيث هو من دون بيان ؛ إذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه العلم
التفصيلي بأنّه مطلوب للشارع
______________________________________________________
١٦٨٠. أي : لم يبق على المكلّف حين لا يعلم بحصول اللطف إلّا
هذا.
١٦٨١. يؤيّده أنّ مرجع الأقلّ والأكثر الارتباطيّين إلى
المتباينين عند التحقيق ، لأنّ اعتبار الأقلّ بشرط لا يباين الأكثر الذي يندرج فيه
الأقلّ ، فلا يبقى بينهما جامع متيقّن يؤخذ به ، وينفى وجوب الزائد بالأصل كما في
الاستقلاليّين.
وإن شئت قلت : إنّ
عدم إجزاء الأقلّ على تقدير وجوب الأكثر عن التكليف المعلوم إجمالا يجعل المقام
كالمتباينين ، لأنّ مجرّد اندراج الأقلّ تحت الأكثر مع عدم إجزائه عن شيء لا يصلح
فارقا بينهما في حكم العلم الإجمالي.
__________________
بالاستقلال أو في ضمن
الأكثر ، ومع هذا العلم لا يقبح المؤاخذة.
وما ذكر في المتباينين ـ سندا لمنع كون
الجهل مانعا من استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة وقبح خطاب الجاهل المقصّر ،
وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع ـ مع أنّه خلاف المشهور أو المتّفق عليه ، غير
جار فيما نحن فيه. أمّا الأوّل ، فلأنّ عدم (١٦٨٢) جواز المخالفة القطعيّة لكونها
مخالفة معلومة بالتفصيل ؛ فإنّ وجوب الأقلّ بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم
تفصيلا وإن لم يعلم أنّ العقاب لأجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه وهو
الأكثر ؛ فإنّ هذا العلم غير معتبر في إلزام العقل بوجوب الإتيان ؛ إذ مناط تحريك
العقل إلى فعل الواجبات وترك المحرّمات ، دفع العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه بين
علمه بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء أو لما هو مستند إليه.
______________________________________________________
١٦٨٢. حاصله : بيان الفرق بين ما نحن فيه وبين المتباينين ،
بدعوى عدم كون الجهل بالواقع تفصيلا مانعا من تنجّز التكليف بالواقع ، ومن توجّه
الخطاب الواقعي إلى الجاهل في المتباينين ، وتسليم المنع فيما نحن فيه.
أمّا الأوّل فإنّ
الجهل هناك لو كان مانعا من تنجّز الخطاب الواقعي لأدّى ذلك إلى جواز المخالفة
القطعيّة ، لأنّه مع عدم تنجّز الخطاب الواقعي ، إمّا أن يجوز ترك خصوص أحد
المشتبهين ، أو أحدهما المخيّر فيه ، أو كليهما. والأوّل ترجيح بلا مرجّح. والثاني
خارج من مفهوم الخطاب الواقعي. ولا دليل على تقييده في الظاهر. ومجرّد الجهل
التفصيلي لا يصير دليلا على إرادته لا من الخطاب الواقعي ، لاستلزامه استعمال
اللفظ الواحد في التعيين والتخيير باعتبار اختلاف الحالين ، وهو غير جائز. مع أنّه
مستلزم لثبوت التخيير الشرعيّ بين المشتبهين ، وهو خلاف الفرض. ولا من الخارج ، إذ
كما يحتمل ثبوت التخيير بينهما في حال الجهل ، كذلك يحتمل عدم وجوب شيء منهما ،
لأنّ الكلام هنا بعد فرض كون الجهل مانعا. والثالث مفروغ من بطلانه ، لمنافاته
للعلم الإجمالي الذي هو كالتفصيلي في الاعتبار ولو في الجملة.
.................................................................................................
______________________________________________________
وأمّا الثاني فإنّ
العلم الإجمالي فيه لما كان منحلّا إلى علم تفصيلي وهو العلم بمطلوبيّة الأقلّ ،
وشكّ بدوي وهو الشكّ في مطلوبيّة الأكثر ، فالجهل فيه يصلح للمنع من تنجّز التكليف
بالواقع ، فيؤخذ بالأقلّ ، لكونه متيقّنا ، وينفى وجوب الأكثر بالأصل ، لكون الشكّ
فيه بدويّا. فالجهل التفصيلي هنا مع كونه مانعا من تنجّز التكليف بالواقع غير
مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، لما عرفت من وجود المرجّح للأخذ بالأقلّ.
وقول المصنّف رحمهالله : «عدم جواز المخالفة القطعيّة ...» إشارة إلى أنّ كون
الجهل فيما نحن فيه مانعا من تنجّز التكليف بالواقع على ما عرفت لا يوجب جواز ترك
الأقلّ ، لفرض كونه مخالفة تفصيليّة.
لا يقال : إنّ
مطلوبيّة الأقلّ مردّدة بين المطلوبيّة النفسيّة والغيريّة ، لأنّ الواجب في
الواقع إن كان هو الأقلّ كان واجبا نفسيّا ، وإن كان هو الأكثر كان الأقلّ مطلوبا
في ضمنه من باب المقدّمة. والمحرّك للعقل إلى الامتثال هو العلم بترتّب العقاب أو
احتماله على المخالفة. والواجب في الواقع إن كان هو الأقلّ كان العقاب مترتّبا على
مخالفته ، وإن كان هو الأكثر كان مترتّبا على مخالفته دون الأقلّ ، فلا يكون
الأقلّ مطلوبا على وجه يترتّب العقاب على مخالفته على كلّ تقدير ، فلا يكون
متيقّنا في المقام. ومجرّد العلم بمطلوبيّته لنفسه أو لغيره غير مجد عند العقل كما
عرفت.
لأنّا نقول : إنّ
الأقلّ وإن لم يعلم كونه مطلوبا لنفسه أو غيره ، إلّا أنّ كون تركه سببا لترتّب
العقاب ـ إمّا لأجل نفسه ، أو لأجل كونه مفضيا إلى ترك الواجب وهو الأكثر ـ معلوم
بالتفصيل ، وهذا القدر كاف في إلزام العقل بعدم جواز تركه ، لأنّ العلم بجهة ترتّب
العقاب غير معتبر في إلزام العقل ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله. ومن هنا يظهر ضعف ما تقدّم في الحاشية السابقة من رجوع
الأقلّ والأكثر الارتباطيّين عند التحليل العقلي إلى المتباينين ، فتدبّر.
وأمّا عدم معذوريّة الجاهل المقصّر ،
فهو للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقلّ ، وهو العلم
الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، وأنّه لولاه (١٦٨٣) لزم إخلال
الشريعة ، لا العلم الإجمالي الموجود في المقام ؛ إذ الموجود في المقام علم تفصيلي
وهو وجوب الأقلّ ، بمعنى ترتّب العقاب على تركه وشكّ في أصل وجوب الزائد ولو
مقدّمة. وبالجملة : فالعلم الإجمالي فيما نحن فيه غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ؛
لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلا والآخر مشكوك الإلزام رأسا.
ودوران الإلزام في الأقلّ بين كونه
مقدّميّا أو نفسيّا لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل ؛ لما ذكرنا من أنّ العقل
يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالا أو تفصيلا إلزام المولى به على أيّ وجه كان ،
ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شكّ في إلزامه ، والمعلوم إلزامه تفصيلا هو الأقلّ
والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، والمعلوم إلزامه إجمالا هو الواجب النفسي
المردّد بين الأقلّ والأكثر ، ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك ،
كما في كلّ معلوم إجمالي كان كذلك ، كما لو علم إجمالا بكون أحد (١٦٨٤) من
الإناءين اللذين أحدهما المعيّن نجس خمرا ؛ فإنّه يحكم بحلّية الطاهر منهما ،
والعلم الإجمالي بالخمر لا يؤثّر في وجوب الاجتناب عنه.
______________________________________________________
ومن التأمّل فيما
ذكرناه يظهر توضيح الكلام في فساد مقايسة ما نحن فيه على الجاهل المقصّر ، لما
عرفت أنّ العلم الإجمالي فيما نحن فيه راجع إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، وفي الجاهل
المقصّر لا متيقّن في البين ، لدوران أمره بين امور متباينة. فعلم الجاهل المقصّر
إجمالا بوجود واجبات ومحرّمات واقعيّة ، نظير علم غير المقصّر بوجوب أحد المتباينين.
فكون الجهل التفصيلي بالواقع مانعا من تنجّز التكليف بالواقع فيما نحن فيه لا
يستلزم أن يكون مانعا في الجاهل المقصّر أيضا ، نظير ما عرفته في المتباينين.
١٦٨٣. أي : لو لا كون الجاهل المقصّر مكلّفا وغير معذور.
١٦٨٤. قد يقال بالفرق بين المثال وما نحن فيه ، إذ حرمة شرب
الخمر ليست
وممّا ذكرنا يظهر أنّه يمكن التمسّك في
عدم وجوب الأكثر بأصالة عدم وجوبه ؛ فإنّها سليمة في هذا المقام عن المعارضة
بأصالة عدم وجوب الأقلّ ؛ لأنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا فلا يجري فيه الأصل.
وتردّد وجوبه بين الوجوب النفسي والغيري مع العلم التفصيلي بورود الخطاب التفصيلي
(١٦٨٥) بوجوبه بقوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ) وقوله : (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) وقوله : (ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا) وغير ذلك من الخطابات
المتضمّنة للأمر بالأجزاء لا يوجب جريان أصالة عدم الوجوب أو أصالة البراءة.
لكنّ الإنصاف : أنّ التمسّك بأصالة عدم
وجوب الأكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل
______________________________________________________
من جهة نجاسته ،
ولذا يحرم وإن لم نقل بنجاسته. ويتفرّع عليه أنّه إن شرب الخمر المخلوط بالبول
استحقّ العقاب من جهتين ، من جهة شرب النجس ، ومن جهة شرب الخمر ، فإذا علم إجمالا
بكون أحد الإنائين ـ اللذين أحدهما المعيّن نجس ـ خمرا ، يتوجّه هنا خطابان ،
أحدهما : وجوب الاجتناب عن النجس ، والآخر وجوب الاجتناب عن الخمر. والأوّل قد علم
مصداقه تفصيلا والآخر إجمالا ، ومقتضى امتثال كلا الخطابين وجوب الاجتناب عن كلا
الإنائين ، بخلاف ما نحن فيه ، لاتّحاد الخطاب فيه ، فهو نظير ما لو علم إجمالا
بنجاسة أحد إناءين علم بكون أحدهما المعيّن منهما غصبا. فالمثال المطابق لما نحن
فيه ما لو علم إجمالا بتنجّس أحد الإنائين بالبول مع العلم بتنجّس أحدهما المعيّن
بغيره من النجاسات ، لوضوح عدم كون اجتماع عناوين من النجاسات في مورد موجبا
لتعدّد العقاب ، لأنّ حرمتها شرعا إنّما هي من جهة كونها نجسا ، لا بولا أو غائطا
أو نحوهما.
١٦٨٥. أنت خبير بأنّه لا أثر لوجود هذه الخطابات ، لوضوح كونها
غيريّا ، والعلم بوجوب أجزاء الأقلّ من باب المقدّمة حاصل بالفرض. ومجرّد كون وجوب
ما أصليّا غيريّا أو غيريّا تبعيّا لا أثر له في المقام. مع أنّ محلّ النزاع لا
يختصّ بمثل الصلاة التي ثبت وجوب أجزائها بالخطابات المفصّلة.
الفائدة (١٦٨٦) ؛
لأنّه إن قصد به نفي أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب بتركه ، فهو وإن كان غير
معارض بأصالة عدم وجوب الأقلّ كما ذكرنا إلّا أنّك قد عرفت فيما تقدّم في الشكّ في
التكليف المستقلّ : أنّ استصحاب عدم التكليف المستقلّ ـ وجوبا أو تحريما ـ لا ينفع
في دفع استحقاق العقاب على الترك أو الفعل ؛ لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس
______________________________________________________
نعم ، قد يقال :
إنّ مراده أنّ وجوب الأقلّ وإن تردّد بين كونه نفسيّا وغيريّا إلّا أنّ العلم
التفصيلي بوجوبه كذلك يمنع جريان أصالة عدم وجوبه ، فيبقى الأصل الجاري في الأكثر
سليما من المعارض. وذكر الخطاب اللفظي التفصيلي بوجوب الأقلّ من باب المثال ، وإلّا
فقد يثبت وجوب الأقلّ بالإجماع ، والمقصود ما أشرنا إليه.
١٦٨٦. حاصله : أنّ المقصود من إجراء استصحاب عدم وجوب الأكثر لا
يخلو : إمّا أن يراد به نفي أثر الوجوب ، أعني : استحقاق العقاب ، أو سائر الآثار
المرتّبة على الوجوب النفسي ، أو ما عدا العقاب من الآثار المرتّبة على مطلق
الوجوب الشامل للنفسي والغيري. والأوّل غير جار ، لكون عدم الاستحقاق مرتّبا على
الشكّ في الوجوب ، فلا يحتاج في نفيه إلى إحراز عدمه. والثاني معارض بالمثل.
لا يقال : إنّ
أصالة عدم الوجوب النفسي للأقلّ تعارضها أصالة عدم الوجوب الغيري له ، وبعد
تساقطهما ـ للتعارض ـ تبقى أصالة عدم وجوب الأكثر سليمة من المعارض.
لأنّا نقول : إنّ
أصالة عدم الوجوب الغيري للأقلّ لا تعارض أصالة عدم وجوب الأكثر ، لعدم منافاتها
لجواز نفيهما بإثبات الوجوب النفسي للأقلّ. والمعارضة إنّما هي بين أصالة عدم
الوجوب النفسي للأقلّ وبين الأصلين الآخرين ، وهي تعارض كلّا منهما ، فيتساقط كلّ
منها للتعارض ، لما سيجيء في محلّه من جواز معارضة أصل واحد لاصول كثيرة إذا كانت
في مرتبة ، ولم يكن الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الآخر ، وعدم جواز الترجيح بكثرة
الاصول وإن توهّمه بعض أواخر المتأخّرين.
من آثار عدم الوجوب
والحرمة الواقعيّين حتّى يحتاج إلى إحرازهما بالاستصحاب ، بل يكفي فيه عدم العلم
بهما ، فمجرّد الشكّ فيهما كاف في عدم استحقاق العقاب بحكم العقل القاطع. وقد
أشرنا إلى ذلك عند التمسّك في حرمة العمل بالظنّ بأصالة عدم حجيّته ، وقلنا إنّ
الشكّ في حجّيته كاف في التحريم ولا يحتاج إلى إحراز عدمها بالأصل.
وإن قصد به نفي الآثار المترتّبة على
الوجوب النفسي المستقلّ ؛ فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في
الأقلّ ، فلا تبقى لهذا الأصل فائدة إلّا في نفي ما عدا العقاب من الآثار المترتّبة
على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري.
ثمّ بما ذكرنا في منع جريان الدليل
العقلي المتقدّم في المتباينين فيما نحن فيه ، تقدر على منع سائر ما يتمسّك (١٦٨٧)
به لوجوب الاحتياط في هذا المقام ، مثل استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ ومثل
أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبراءة ومثل أدلّة اشتراك
الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية لاشتراكنا ـ معاشر الغائبين ـ مع
الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلا ومثل
______________________________________________________
والثالث قليل
الجدوى ، بل غير مفيد في المقام ، لأنّ المقصود نفي وجوب الأكثر ، وهو على إطلاقه
لا يثبت به ، بل الأوفق بالمقام هو الاحتمال الأوّل ، لأنّ المقصود من النزاع في
وجوب الاحتياط وعدمه في المقام هو بيان ترتّب العقاب على ترك الأكثر على تقدير
وجوبه في الواقع وعدمه ، لا إثبات سائر الآثار وعدمه ، ولذا ترى أنّ مرجع استدلال
المصنّف رحمهالله بالعقل والنقل على عدم وجوب الأكثر إلى عدم ترتّب العقاب
بفعل الأقلّ ، وإن كان الواجب في الواقع هو الأكثر ، لا نفي سائر الآثار ، لعدم
إفادة دليله أزيد من ذلك ، فتدبّر.
١٦٨٧. اعلم أنّه قد ظهر ممّا حقّقه في إثبات ما اختاره وجهان
آخران للقول بالاحتياط. أحدهما : بناء العقلاء في الأوامر العرفيّة وأوامر
الأطبّاء. والآخر : الدليل الجاري في المتباينين. ويظهر وجه ثالث أيضا عند تقرير
الاحتجاج بأخبار البراءة ، وهو أخبار الاحتياط. وسيشير إلى ضعف دلالتها.
وجوب دفع الضرر
(١٦٨٨) ـ وهو العقاب ـ المحتمل قطعا ، وبعبارة اخرى : وجوب المقدّمة العلميّة
للواجب ومثل أنّ قصد القربة غير ممكن (١٦٨٩) بالإتيان بالأقلّ ؛ لعدم العلم
بمطلوبيّته في ذاته ، فلا يجوز الاقتصار عليه في العبادات بل لا بدّ من الإتيان
بالجزء المشكوك.
فإنّ الأوّل مندفع ـ مضافا إلى منع
جريانه حتّى في مورد وجوب الاحتياط ، كما تقدّم في المتباينين (١٦٩٠) ـ بأنّ بقاء
وجوب الأمر المردّد (١٦٩١) بين الأقلّ والأكثر بالاستصحاب لا يجدي بعد فرض كون
وجود المتيقّن قبل الشكّ غير مجد في الاحتياط.
نعم ، لو قلنا بالأصل المثبت وأنّ
استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ يثبت كون الواجب هو الأكثر فيجب الإتيان به
، أمكن الاستدلال بالاستصحاب.
______________________________________________________
١٦٨٨. لا يذهب عليك أنّ مبنى قاعدة الاشتغال التي استقلّ بها
العقل هو وجوب دفع الضرر المحتمل ، وحينئذ فوجه مغايرة هذا الدليل للدليل الثاني
غير واضح. اللهمّ إلّا أن يكون الأوّل ناظرا إلى تقرير قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى
الوجوب النفسي الذي علم إجمالا تعلّقه إمّا بالأكثر أو بالأقلّ ، فلا بدّ من
الإتيان بما يتيقّن به البراءة ، وهو الأكثر. والثاني إلى تقريرها بالنسبة إلى
خصوص الجزء المشكوك فيه ، بأن يقال : إنّه بعد ثبوت التكليف بالواقع في الجملة لا
بدّ من الإتيان بالجزء المشكوك فيه أيضا من باب المقدّمة العلميّة ، فيختلف
الدليلان حينئذ بحسب التقرير والبيان وإن كان مآلهما واحدا.
١٦٨٩. بناء على ما حقّقه سابقا من عدم حصول القرب بقصد الوجوب
الغيري ، مع وضوح كون قصد التقرّب فرع كون العبادة مقرّبة.
١٦٩٠. من حكم العقل بوجوب الإتيان بالباقي من المتباينين بعد
الإتيان بأحدهما ، كما كان حاكما بوجوب الإتيان بالجميع ابتداء ، وهو جار في
المقام أيضا.
١٦٩١. مرجع ما ذكره إلى أنّه إن اريد باستصحاب الشغل إثبات عدم
ارتفاع وجوب الأمر المردّد بالإتيان بالأقلّ ، ليترتّب عليه وجوب الاحتياط
بالإتيان
لكن يمكن أن يقال : إنّا نفينا في
الزمان السابق (١٦٩٢) وجوب الأكثر ؛ لقبح المؤاخذة من دون بيان ، فتعيّن الاشتغال
بالأقلّ ، فهو منفي في الزمان السابق ، فكيف يثبت في الزمان اللاحق؟
وأمّا الثاني ، فهو حاصل الدليل
المتقدّم في المتباينين المتوهّم جريانه في المقام ، وقد عرفت الجواب
وأنّ الاشتغال اليقيني إنّما هو بالأقلّ وغيره مشكوك فيه.
وأمّا الثالث ، ففيه : أنّ مقتضى
الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج
______________________________________________________
بالأكثر ، ففيه :
أنّ وجوب الأمر المردّد قبل الإتيان بأحد المشتبهين كان يقينيّا ، فهو حينئذ إذا
لم يكن مقتضيا لوجوب الاحتياط فبعد الإتيان بأحدهما وحصول الشكّ فيه بطريق أولى ،
لأنّ غاية ما يقتضيه الاستصحاب هو بقاء الأمر المجمل الواقعي ، وعدم ارتفاعه
بالإتيان بالأقلّ ، وأمّا دلالته على وجوب امتثال هذا الأمر المجمل فلا ، بل هو
بمقتضى العقل المستقلّ بامتثال أحكام الشارع ، فإذا لم يجب الاحتياط مع القطع
بوجود هذا الأمر المجمل ، فمع الشكّ بطريق أولى.
وإن اريد به إثبات
وجوب الأكثر بالخصوص ، ففيه : أنّه لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة ، مع
ما فيه ، كما نبّه عليه المصنّف رحمهالله. أقول : ومع التسليم فهو معارض باستصحاب عدم جزئيّة الشيء
المشكوك فيه.
١٦٩٢. يمكن تقرير الاستصحاب في الزمان السابق أيضا بأن يقال :
قبل الإتيان بالأقلّ الأصل بقاء الأمر الواقعي بعد الإتيان به وعدم ارتفاعه به.
اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الشكّ في بقاء الأمر الواقعي بعد الإتيان بالأقلّ مسبّب
عن الشكّ في وجوب الأكثر ، فتكون أصالة البراءة النافية لوجوبه حاكما على
الاستصحاب المزبور ، وأنت خبير بأنّه لا حاجة حينئذ إلى اعتبار اختلاف زمانها.
اللهمّ إلّا أن يكون هذا مماشاة مع الخصم وتسليما لظاهر كلامه ، حيث اعتبر جريان
الأصل بعد الإتيان بالأقلّ.
__________________
واحد (١٦٩٣) مع
كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة ، ولا ريب أنّ وجوب الاحتياط على الجاهل من
الحاضرين فيما نحن فيه عين الدعوى.
وأمّا الرابع ، فلأنّ وجوب المقدّمة فرع
وجوب ذي المقدّمة ، وهو الأمر المتردّد بين الأقلّ والأكثر ، وقد تقدّم أنّ وجوب
المعلوم إجمالا مع كون أحد طرفيه متيقّن الإلزام من الشارع ولو بالإلزام المقدّمي
، غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ؛ لكون الطرف الغير المتيقّن و
______________________________________________________
١٦٩٣. لوضوح اشتراط جريان حكم الحاضرين على الغائبين باندراجهم
تحت الموضوع الذي اندرج فيه الحاضرون ، لعدم الدليل من الإجماع وغيره على الاشتراك
مع الاختلاف في الموضوع. ومرجعه إلى اشتراط اتّحادهما في الصنف. والقول بعدمه
مضعّف في محلّه.
وحاصل ما أورده
المصنّف رحمهالله يرجع إلى أنّ المستدلّ إن أراد أنّ الحاضرين كانوا مكلّفين
بشيء ، وكانوا عالمين به وهو إمّا الأكثر أو الأقلّ ، والغائبين مشاركون لهم في
التكليف ، فمع عدم علمهم بتكليف الحاضرين يجب عليهم الاحتياط ، تحصيلا لليقين بما
ثبت بقاعدة الاشتراك ، ففيه : أنّ علمهم بالمكلّف به تفصيلا وجهل الغائبين به يقطع
الاشتراك بينهم ، وقد تقدّم في مسألة المتباينين ما ينفعك هنا. وإن أراد أنّه إذا
حصل لهم العلم الإجمالي على نحو ما حصل لنا كانوا مكلّفين بالاحتياط ، فيثبت هذا
الحكم لنا أيضا بقاعدة الاشتراك ، فهو أوّل الدعوى. وأشار المصنّف رحمهالله إلى الأوّل بدعوى اشتراك الحاضر والغائب في العلم والجهل ،
وإلى الثاني بمنع وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين.
وأنت خبير بأنّ
الاولى على التقدير الثاني ـ على تقدير تسليم انعقاد الإجماع على الاشتراك مطلقا
حتّى في الأحكام الظاهريّة ـ هو منع كون المقام من موارد التمسّك بقاعدة الاشتراك
، إذ النزاع في كون المقام من موارد الاحتياط أو البراءة عقلي ، فإذا حكم العقل
بشيء منهما لا يختلف فيه الحاضر والغائب.
ويمكن أن يقال على
التقدير الأوّل أيضا : إنّ مورد جريان قاعدة الاشتراك إنّما
هو الأكثر فيما نحن
فيه موردا لقاعدة البراءة ، كما مثّلنا له بالخمر المردّد بين إناءين أحدهما
المعيّن نجس.
نعم ، لو ثبت أنّ ذلك ـ أعني تيقّن أحد
طرفي المعلوم بالاجمال تفصيلا وترتّب أثره عليه ـ لا يقدح في وجوب (١٦٩٤) العمل
بما يقتضيه من الاحتياط ، فيقال في المثال : إنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر
المردّد بين الإناءين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله
______________________________________________________
هو بعد العلم
بتكليف الحاضرين إمّا تفصيلا أو إجمالا ، مع تردّد الأمر بين المتباينين في وجه ،
كما أسلفناه في مسألة دوران الأمر بينهما. وأمّا مع مجرّد احتمال ثبوت تكليف عليهم
، وهو الأكثر هنا ، لفرض العلم تفصيلا بوجوب الأقلّ علينا وعليهم في الجملة ،
فأصالة البراءة تقتضي عدم الوجوب علينا بلا إشكال ، كيف لا ولو جرت القاعدة هنا
وجب الاحتياط في الشبهات البدويّة أيضا ، لأنّه إذا شكّ في حرمة شيء أو وجوبه مع
احتمال ثبوت الحكم لهم ، أمكن أن يقال بوجوب الاحتياط هنا أيضا على نحو ما ذكرته
فيما نحن فيه ، وهو خلاف الإجماع من القائلين بالبراءة في الشبهات البدويّة ، بل
مقتضى ما ذكره المصنّف رحمهالله من اشتراط جريان قاعدة الاشتراك باتّحاد الحاضرين مع
الغائبين في صفة العلم والجهل ، هو عدم جريان القاعدة فيما دار الأمر فيه بين
المتباينين أيضا ، فلا يبقى مقتض لوجوب الاحتياط فيه حينئذ ، إذ بعد اختصاص الخطاب
بالمشافهين وعدم ثبوت الاشتراك في التكليف ، فالمسلّم من الإجماع في المقام هو
حرمة المخالفة القطعيّة ، لا وجوب الموافقة كذلك ، كما ذهب إليه المحقّق القمّي
تبعا للخوانساري ، وهو خلاف ما اختاره المصنّف رحمهالله. فالاولى في المقام ما ذكرناه من تسليم جريان قاعدة
الاشتراك مع العلم بتكليف الحاضرين تفصيلا ، وكذا إجمالا مع دوران الأمر بين
المتباينين ، ومنعه في المقام ، لاستقلال العقل بالبراءة عن وجوب الأكثر كما عرفت.
١٦٩٤. بأن كان العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع بحيث يؤاخذ
به ويعاقب على تركه ، وإن كان تركه بترك الأكثر فيما نحن فيه إن كان هو المكلّف
بتناول أيّ الإناءين
اتّفق كونه خمرا ، فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فكذلك فيما نحن فيه. والدليل
العقلي على البراءة من هذه الجهة يحتاج إلى مزيد تأمّل. وأمّا الخامس ، فلأنّه
يكفي في قصد القربة (١٦٩٥) الإتيان بما علم من الشارع الإلزام به وأداء تركه إلى
استحقاق العقاب لأجل التخلّص عن العقاب ، فإنّ هذا المقدار كاف في نيّة القربة
المعتبرة في العبادات حتّى لو علم بأجزائها تفصيلا.
بقي الكلام في أنّه كيف يقصد القربة بإتيان
الأقلّ مع عدم العلم بكونه مقرّبا ، لتردّده بين الواجب النفسي المقرّب والمقدّمي
الغير المقرّب؟ فنقول : يكفي في قصد القربة قصد التخلّص من العقاب ، فإنّها إحدى
الغايات المذكورة في العبادات.
______________________________________________________
به في الواقع ،
فلا بدّ في المثال حينئذ من الالتزام بعقابين إن كان الخمر في الواقع هو الإناء
النجس.
١٦٩٥. توضيحه : أنّ لإطاعة أوامر الشارع مع اعتبار خلّوها من
الرياء مراتب مختلفة ، أعلاها الإتيان بالمأمور به بقصد كونه تعالى أهلا للعبادة ،
وأدناها الإتيان به بقصد تحصيل الثواب ، أو التخلّص من العقاب ، أو بقصدهما معا ، وبينهما
مراتب أخر كما ستعرفه. ولا ريب أنّ قصد التقرّب ليس عنوانا في الشرع حتّى يتبع
وروده فيه ، بل مدار اعتباره على صدق الامتثال عرفا ، لأنّ سند اعتباره عدم صدقه
في العبادات بدونه ، فإذا فرض حصوله على الوجه الثاني أيضا فلا يجب اعتبار أمر
زائد فيه.
وعن قواعد الشهيد
: أنّ للعبادة ثماني غايات : الاولى : الرياء ، ولا ريب أنّه مخلّ بالعبادة.
الثانية : قصد الثواب ، أو الخلاص من العقاب ، أو قصدهما معا. الثالثة : فعلها
شكرا لنعم الله. الرابعة : فعلها حياء من الله تعالى. الخامسة : فعلها حبّا لله. السادسة
: فعلها تعظيما لله. السابعة : فعلها موافقة لإرادة الله وطاعة لأمره. الثامنة :
فعلها لكونه أهلا للعبادة. ثمّ ادّعى الإجماع على صحّة الأخيرة. وأمّا غاية
__________________
وأمّا الدليل النقلي : فهو الأخبار
الدالّة على البراءة الواضحة سندا ودلالة ؛ ولذا عوّل عليها في المسألة من جعل
مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط
، بناء على وجوب مراعاة العلم الإجمالي وإن كان الإلزام في أحد طرفيه معلوما
بالتفصيل. وقد تقدّم أكثر تلك الأخبار في الشكّ في التكليف التحريمي والوجوبي.
منها : قوله عليهالسلام
: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» ، فإنّ وجوب الجزء المشكوك محجوب
علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ؛ فدلّ على أنّ الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على
الجاهل ، كما دلّ على أنّ الشيء المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في الظاهر على
الجاهل.
ويمكن تقريب الاستدلال بأنّ وجوب الأكثر
ممّا حجب علمه ، فهو موضوع. ولا يعارض بأنّ وجوب الأقلّ كذلك : لأنّ العلم بوجوبه
(١٦٩٦) المردّد بين النفسي والغيري غير محجوب ، فهو غير موضوع. وقوله صلىاللهعليهوآله
: «رفع عن امّتي ... ما لا يعلمون». فإنّ وجوب الجزء (١٦٩٧) المشكوك ممّا لم يعلم
، فهو مرفوع عن المكلّفين ، أو أنّ العقاب (١٦٩٨) والمؤاخذة المترتّبة على تعمّد
ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكلّ مرفوع عن الجاهل.
______________________________________________________
الثواب والعقاب
فقد نسب إلى الأصحاب القطع بكون العبادة فاسدة بقصدها. ويظهر ضعفه ممّا ذكرناه بعد
منع الإجماع على الفساد فيها ، كيف وهو أيضا لم يدّعه كما هو واضح. وتحقيق البحث
موكول إلى الفقه.
١٦٩٦. هذا مبنيّ على ما ستعرفه في الحاشية الآتية من عدم التعرّض
في أخبار البراءة لجهة العلم من حيث المطلوبيّة لنفسه أو غيره ، سواء كان مقتضاها
نفي الخطاب أو العقاب ، فهي إنّما تنفي وجوب ما لم تعلم مطلوبيّته للشارع مطلقا.
١٦٩٧. إن كان المرفوع الحكم التكليفي.
١٦٩٨. إن كان المرفوع المؤاخذة. ولعلّ هذا هو الأظهر في معنى
النبويّ ، بل وغيره من أخبار البراءة ، لوضوح عدم دلالتها على نفي الوجوب الواقعي
، إذ المنساق منها نفي العقاب من جهة المشكوك فيه خاصّة دون الوجوب الواقعي.
.................................................................................................
______________________________________________________
اللهمّ إلّا أن
يراد بالوجوب المنفي هذا المعنى ، لكنّه لا يتأتّى في كلام المصنّف رحمهالله.
فإن قلت : إنّ
وجوب الأجزاء غيري ، ولا عقاب على الواجبات الغيريّة ، كما قرّر في مبحث المقدّمة
، وأشار إليه المصنّف رحمهالله في تقرير الدليل العقلي.
قلت : نعم ، إلّا
أنّ مقتضى هذه الأخبار عدم ترتّب العقاب من جهة المشكوك فيه ، سواء كان لذاته أو
لغيره. إذ لا تعرّض في هذه الأخبار لجهة العقاب. وحيث كان ترك المشكوك فيه سببا
لترك الأكثر ، وسببا لترتّب عقاب الأكثر على تقدير وجوبه في الواقع ، فالأصل
ينفيه. مضافا إلى إمكان دعوى ترتّب العقاب على ترك الجزء من حيث خصوص نفسه ، كما
سيذكره.
فإن قلت : نعم ،
إلّا أنّ نفي وجوب المشكوك فيه بالمعنى المذكور لا يثبت كون الواجب هو الأقلّ حتّى
يقنع العقل به في مقام الامتثال ، إلّا على القول بالاصول المثبتة.
قلت : إنّ المحرّك
للعقل إلى امتثال الأحكام الشرعيّة ليس هو طلب الشارع من حيث هو ، بل المحرّك له
إليه هو القطع بالعقاب أو الخوف منه. وحيث فرض عدمه في ترك الأكثر لأجل الأخبار
فالعقل يقنع بالإتيان بالأقلّ ، إمّا للإجماع على وجوب الإتيان به ، أو لخوف
العقاب في تركه ، بل القطع به للعلم بترتّبه على تركه إمّا من جهة نفسه أو لغيره.
فإن قلت : إنّ
ترتّب العقاب على تركه من جهة كونه سببا لترك الأكثر منفي بالأخبار كما عرفته.
وأمّا من جهة نفسه فهو أيضا غير معلوم. فالأخبار تنفي العقاب من هذه الجهة أيضا ،
فمقتضاها حينئذ جواز المخالفة القطعيّة التي دلّت هذه الأخبار بمفهومها على عدم
جوازها ، لأنّ مقتضاه عدم وضع الأمر المعلوم المردّد بين الأقلّ والأكثر ، فهي كما
لا تجري في المتباينين لأجل هذه العلّة ـ كما صرّح به المصنّف رحمهالله هناك ـ كذلك لا تجري هنا أيضا.
قلت أوّلا : إنّ
عدم جريانها في المتباينين لما ذكر إنّما هو لأجل عدم المتيقّن منهما في البين ،
والأقلّ هنا متيقّن الوجوب بالإجماع كما عرفت.
.................................................................................................
______________________________________________________
وثانيا : أنّ
الأخبار إنّما تدلّ على عدم ترتّب العقاب على ترك الأكثر المسبّب عن ترك الجزء
المشكوك فيه ، دون الأجزاء المعلومة الاعتبار إمّا في الأكثر أو الأقلّ ، لأنّ
ترتّب العقاب على تركها معلوم إمّا من جهة نفسها أو غيرها ، فلا تشملها الأخبار لا
محالة. ويوضح جميع ما ذكرناه أنّ المولى إذا أمر عبده بمركّب ذي أجزاء ، وبيّن له
عدّة أجزاء منها ، وبقي للعبد شكّ في اعتبار جزء آخر فيه ، لكنّ المولى صرّح بعدم
مؤاخذته له بترك الجزء الذي شكّ في اعتباره فيه ، لا من جهة نفسه ولا من جهة غيره
، لا يشكّ العقلاء في وجوب الإتيان بما علم من الأجزاء ، وقبح مؤاخذته على ترك ما
شكّ فيه إن كان مراد المولى في الواقع هو الأكثر. وبالجملة ، إنّه لا حاجة في
تحقّق الامتثال في الظاهر على تعيين كون المكلّف به هو الأقلّ.
ومن هنا يسقط ما
ذكره صاحب الفصول بعد المنع من جريان الأصل هنا ، نظرا إلى كونه مثبتا كما عرفته
في بعض الأسئلة المذكورة. قال : «نعم ، لا يبعد دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب
على أصالة عدم زيادة المشكوك فيها في المقام ، لا باعتبار حجب العلم أو عدم العلم
بالتكليف بالمشكوك فيه ، ليتوجّه عليه عدم الحجب فيه بالنظر إلى الظاهر ، تحصيلا
ليقين البراءة كما في سائر الأحكام التكليفيّة الظاهريّة ، بل باعتبار دلالتها على
نفي الجزئيّة والشرطيّة ممّا شكّ في جزئيّته أو شرطيّته من حيث حجب العلم عنها
ظاهرا وواقعا ، إذ ليس في وجوبها من باب المقدّمة تحصيلا ليقين البراءة دلالة على
إتيان الجزئيّة أو الشرطيّة للواجب مطلقا. فإذا ثبت بعموم الروايات المذكورة سقوط
اعتبار الجزئيّة أو الشرطيّة في الظاهر حصل العلم بالبراءة بدونه في الظاهر ،
فيسقط اعتبار كونه مقدّمة. وهل هذا إلّا كسقوط اعتبار الجزئيّة ممّا عدا الأركان
في حقّ الناس ، وشرطيّة بعض الشرائط كطهارة البدن واللباس بالنسبة إلى الجاهل؟
وسيأتي لهذا مزيد توضيح إن شاء الله تعالى» انتهى.
إلى غير ذلك من أخبار البراءة الجارية
في الشبهة الوجوبيّة. وكان بعض مشايخنا قدّس الله نفسه يدّعي ظهورها في نفي الوجوب
النفسي المشكوك وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري.
ولا يخفى على المتأمّل عدم الفرق بين
الوجوبين في نفي ما يترتّب عليه من استحقاق العقاب ؛ لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ
لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي. نعم ، لو كان الظاهر من
الأخبار نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ، أمكن دعوى ظهورها
فيما ادّعي. مع إمكان أن يقال : إنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته ؛
لأنّ ترك الجزء عين (١٦٩٩) ترك الكلّ ، فافهم.
______________________________________________________
ووجه السقوط ما
عرفته من عدم الحاجة إلى تعيين المأمور به في الأقلّ بعد نفي المشكوك فيه. وسيجيء
زيادة توضيح لما ذكره وما ذكرناه في بعض الحواشي الآتية.
١٦٩٩. من هنا يمكن أن يقال : إنّ وجوب الأجزاء عين وجوب الكلّ ،
لما قرّرناه في محلّ آخر من كون التضمّن عين المطابقة ، وذلك لأنّ دلالة الكلّ على
أجزائه ملحوظة بوجهين :
أحدهما : دلالته
عليها في ضمن الدلالة على الكلّ ، فهي بهذا الاعتبار عين الدلالة على الكلّ ، لما
صرّح به المصنّف رحمهالله من كون الكلّ عين أجزائه ، غاية الأمر أنّ هذه الدلالة إذا
نسبت إلى الكلّ تسمّى بالمطابقة ، وإذا نسبت إلى الجزء تسمّى بالتضمّن ، فهما بهذا
اللحاظ متّحدتان ذاتا ومتغايرتان بالاعتبار والإضافة ، ولذا عدّ المشهور التضمّن
من الدلالات الصريحة.
وثانيهما : دلالته
عليه بملاحظة الجزء من حيث نفسه مع قطع النظر عن كونه جزءا من الكلّ ، فهي بهذا
الاعتبار من باب الالتزام دون التضمّن. وعليه يبتني استشكال المحقّق القمّي رحمهالله في عدّ التضمّن من الدلالات الصريحة. ولا ريب أنّ مطلوبيّة
الأجزاء إنّما هي بالاعتبار الأوّل. وتسمية وجوبها غيريّا إنّما هي بالاعتبار
الثاني ، فلا بدّ حينئذ أن يكون وجوب الأجزاء عين وجوب الكلّ ، كما أنّ العقاب
هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في
الروايات خصوص المؤاخذة ، وأمّا لو عمّمناه لمطلق (١٧٠٠) الآثار الشرعيّة
المترتّبة على الشيء المجهول ، كانت الدلالة أوضح ، لكن سيأتي ما في ذلك.
ثمّ إنّه لو فرضنا عدم تماميّة الدليل
العقلي المتقدّم ، بل كون العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الإجمالي
بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب حاكمة
على ذلك الدليل العقلي ؛ لأنّ الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان واجبا
في الواقع ، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب
المحتمل.
وقد توهّم بعض المعاصرين عكس ذلك وحكومة
أدلّة الاحتياط على هذه الأخبار ، فقال : لا نسلّم حجب العلم في المقام ؛ لوجود
الدليل في المقام وهي أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة. ثمّ قال :
لأنّ ما كان لنا إليه طريق في الظاهر لا يصدق في حقّه الحجب قطعا ؛ وإلّا لدلّت
هذه الرواية على عدم حجّية الأدلّة الظنّية ، كخبر الواحد وشهادة العدلين وغيرهما.
ثمّ قال : ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجيّة تلك الطرق ، تعيّن تخصيصها أيضا
بما دلّ على حجّية أصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ووجوب المقدّمة
العلميّة. ثمّ قال : و
______________________________________________________
عليها عين العقاب
عليه ، فتدبّر.
١٧٠٠. قد تقدّم تحقيق الكلام في ذلك في الشبهة التحريميّة
البدويّة ، فإذا قلنا بعموم حديث الرفع لمطلق الآثار فهو حينئذ كما يدلّ على نفي
العقاب ، كذلك يدلّ على عدم جزئيّة المشكوك فيه وشرطيّته ، وعلى عدم كون تركه سببا
لبطلان الأكثر ، وعلى عدم كون الخالي منه سببا لوجوب الإعادة والقضاء.
وأنت خبير بأنّ
هذا التعميم إنّما يجدي على القول بكون الأحكام الوضعيّة مجعولة ، وأمّا على ما اختار
المصنّف رحمهالله في مبحث الاستصحاب ـ وسيصرّح به هنا أيضا ـ من كونها
منتزعة من الأحكام الطلبيّة فلا ثمرة لهذا التعميم هنا ، لكون جزئيّة الجزء
وشرطيّة الشرط منتزعتين من الأمر بالمركّب ، وكذا سببيّة ترك الجزء
التحقيق : التمسّك
بهذه (١٧٠١) الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهي الجزئيّة والشرطيّة
، انتهى.
أقول : قد ذكرنا في المتباينين (١٧٠٢)
وفيما نحن فيه : أنّ استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلّا على القول
باعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل ، وأنّ العمدة في وجوب
الاحتياط هو حكم العقل بوجوب إحراز
______________________________________________________
للبطلان من
اعتباره في الكلّ في تعلّق الأمر به ، وكذا البطلان من عدم الموافقة للمأمور به ،
وكذا سببيّة الفاقد للجزء للإعادة والقضاء ، فهذه الامور إمّا منتزعة من الطلب
الشرعيّ ، ومرجع رفعها إلى رفعه أو رفع مؤاخذته ، وإمّا من أمر عقلي غير مرتفع
برفع الشارع ، كالبطلان المنتزع من عدم موافقة المأمور به ، ولذا أنكر كونه
كالصحّة من الأحكام الوضعيّة بعض من ادّعى كونها مجعولة للشارع.
١٧٠١. حاصله : حكومة قاعدة الاحتياط على أخبار البراءة بناء على
الاستدلال بها على نفى الحكم التكليفي ، نظرا إلى أنّ مقتضاها نفي وجوب الأكثر عند
الشكّ فيه ، ولا شكّ فيه ولو في الظاهر بمقتضى قاعدة الاحتياط ، فلا يصدق معها
الحجب حتّى تجري فيه أصالة البراءة. وأمّا بناء على الاستدلال بها على نفي الحكم
الوضعي ـ أعني : الجزئيّة والشرطيّة ـ فتكون هذه الأخبار حاكمة عليها ، لتبيّن المأمور
به بها وتعيين كونه هو الأقلّ ولو في الظاهر ، فلا يبقى في عدم وجوب الأكثر حينئذ
شكّ حتّى تجري فيه قاعدة الاحتياط ، كما سيشير إلى توضيحه.
١٧٠٢. حاصله : دعوى حكومة أخبار البراءة على قاعدة الاحتياط ،
سواء كان المستند فيها استصحاب الشغل أو العقل نعم ، لو كان المستند فيها الأخبار
كان لما ذكره صاحب الفصول وجه.
أمّا الأوّل فلكون
الأصل مثبتا ، لأنّ استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ لا يثبت وجوب الأكثر
إلّا على القول بترتّب الآثار العقليّة على المستصحب. ومع التسليم فأخبار البراءة
حاكمة عليه ، كما أوضحه المصنّف رحمهالله. وأقول : هذا مضافا
محتملات الواجب
الواقعي بعد إثبات تنجّز التكليف ، وأنّه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين
الجهل به وتردّده بين متباينين أو الأقلّ والأكثر. ولا ريب أنّ ذلك الحكم مبناه
وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلّف ، وحينئذ : فإذا أخبر الشارع ـ في
قوله «ما حجب الله ...» وقوله «رفع عن أمّتي ....» وغيرهما ـ بأنّ الله سبحانه لا
يعاقب على ترك ما لم يعلم جزئيّته ، فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك
وحصل الأمن منه ، فلا يجري فيه حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل. نظير ما إذا
أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصّة من الجهات لو فرض كونها
القبلة الواقعيّة ، فإنّه يخرج بذلك عن باب المقدّمة ؛ لأنّ المفروض أنّ تركها لا
يفضي إلى العقاب.
نعم ، لو كان مستند الاحتياط أخبار
الاحتياط ، كان لحكومة تلك الأخبار على أخبار البراءة وجه أشرنا إليه في الشبهة
التحريميّة من أقسام الشكّ في التكليف.
وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار على
استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت أيضا كما أشرنا إليه سابقا ؛
لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه ، كان
المستصحب ـ وهو الاشتغال المعلوم سابقا ـ غير متيقّن إلّا بالنسبة إلى الأقلّ وقد
ارتفع بإتيانه ، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة
الأكثر منفي
بحكم هذه الأخبار. وبالجملة : فما ذكره من حكومة أدلّة الاشتغال على هذه الأخبار
ضعيف جدّا ، نظرا إلى ما تقدّم.
______________________________________________________
إلى منع جريان
استصحاب الاشتغال في مورد جريان قاعدته ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله سابقا وفيما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأمّا الثاني فإنّ
قاعدة الاحتياط المستندة إلى العقل إن كان مقتضاها الدلالة على أنّ ما وجب في
الواقع هو الأكثر دون الأقلّ ، كان لما ذكره وجه ، وليس كذلك ، لأنّ مبناها على
حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ، فإذا فرضت
__________________
وأضعف من ذلك : أنّه رحمهالله
عدل ـ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلّة الاحتياط على هذه الأخبار ـ عن
الاستدلال بها لمذهب المشهور من حيث نفي الحكم التكليفي إلى التمسّك بها في نفي
الحكم الوضعي ، أعني جزئيّة الشيء المشكوك أو شرطيّته ، وزعم أنّ ماهيّة المأمور
به تبيّن ظاهرا كونها الأقلّ بضميمة نفي جزئيّة المشكوك ، ويحكم بذلك على أصالة
الاشتغال. قال في توضيح ذلك : إنّ مقتضى هذه الروايات : أنّ ماهيّات العبادات
عبارة عن الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ويرتفع منها
الإجمال والإبهام.
ثمّ أيّد هذا المعنى بل استدلّ عليه
بفهم العلماء منها ذلك ، حيث قال : إنّ من الاصول المعروفة عندهم ما يعبّر عنه ب «أصالة
العدم» ، و «عدم الدليل دليل العدم» ، ويستعملونه في نفي الحكم التكليفي والوضعي ،
ونحن قد تفحّصنا فلم نجد لهذا الأصل مستندا يمكن التمسّك به غير عموم هذه الأخبار
، فتعيّن تعميمها للحكم الوضعي ولو بمساعدة أفهامهم ، فيتناول الجزئيّة المبحوث
عنها في المقام
، انتهى.
______________________________________________________
دلالة أخبار
البراءة على عدم وجوب الأكثر وعدم ترتّب العقاب على تركه لا يبقى مجرى لقاعدة
الاحتياط ، كما لو صرّح الشارع بعدم ترتّب العقاب من جهة احتمال وجوب الأكثر.
وأمّا الثالث فإنّ
أخبار الاحتياط إن كان مقتضاها إثبات الوجوب الشرعيّ الظاهري ، فلما ذكره من
حكومتها على أخبار البراءة وجه ، وقد أوضحه المصنّف رحمهالله في الشبهة التحريميّة من مسائل الشكّ في التكليف ، لأنّ
مقتضى أخبار البراءة هي الإباحة الظاهريّة فيما لم يرد فيه بيان من الشارع خصوصا
ولا عموما ، أو نفي العقاب في مورد عدم ثبوت التكليف ولو ظاهرا. وأخبار الاحتياط
لعمومها بيان ، ومثبتة للوجوب الظاهري في مورد احتماله أو العلم به إجمالا. وإن
كان مقتضاه الإرشاد إلى دفع العقاب المحتمل لما فيه من مصلحة المكلّف ، كان مؤدّاه
موافقا لحكم العقل ، فتكون أخبار البراءة حينئذ حاكمة عليها. ومن هنا يظهر أنّ حكم
المصنّف رحمهالله بحكومة أخبار الاحتياط عليها مبنيّ على ظاهر كلام من تمسّك
أقول : أمّا ما ادّعاه من عموم تلك
الأخبار لنفي غير الحكم الالزامي التكليفي ، فلولا عدوله عنه (١٧٠٣) في باب
البراءة والاحتياط من الأدلّة العقليّة ، لذكرنا بعض ما فيه من منع العموم أوّلا ،
ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعولا شرعيّا غير الحكم التكليفي ـ وهو إيجاب المركّب
المشتمل على ذلك الجزء ـ ثانيا.
______________________________________________________
بها في أمثال
المقام لإثبات الوجوب الشرعيّ ، لا على ما اختاره من حملها على الإرشاد ، كما صرّح
به في الشبهة التحريميّة البدويّة.
١٧٠٣. ما نقله المصنّف رحمهالله عنه ذكره في مبحث الصحيح والأعمّ. والأولى نسبة عدوله عنه
إلى فصل عقده لبيان أصل العدم ، لأنّه وإن ذكر في أوّل فصل عقده لأصالة البراءة
أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، وأنّ الأوّل يعمّ نفي الحكم الوضعي والثانية
للموضوعات الجزئيّة ، ويشتركان في نفي الأحكام التكليفيّة ، إلّا أنّه قد صرّح
بعدوله عمّا اختاره في مبحث الصحيح والأعمّ في الفصل الأوّل ، وأطال الكلام في
الاستدلال عليه بوجوه لا بأس بنقل كلامه لتتّضح به حقيقة مرامه ، فإنّه قد استدلّ
على اعتبار أصالة العدم أوّلا بأخبار الاستصحاب ، إلّا أنّه صرّح بعدم إجدائه في
المقام ، نظرا إلى عدم كون تعيّن المأمور به في الأقلّ من الآثار الشرعيّة ، لعدم
اعتبار الشارع للأمر المشكوك فيه ، فلا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة.
وثانيا بأخبار البراءة من خبر الوضع والحجب وغيرهما.
ثمّ قال : دائرة
أصل العدم بحسب هذا الدليل ـ أعني : الأخبار ـ أوسع من دائرته بحسب الدليل السابق
، لجريانه بمقتضى هذا الدليل في مطلق أحكام الوضع حتّى الجزئيّة منها والشرطيّة
والمانعيّة ، لأنّ المفهوم من أخبار الباب رفع الحكم المجهول ، وإثبات ما يترتّب
عليه من الأحكام الشرعيّة وغيرها ممّا يترتّب عليه أحكام شرعيّة ، عملا بظاهر
الإطلاق السالم عمّا يقتضي صرفه هنا عنه ، إذ الوجه الذي قرّرناه في منع إطلاق
أخبار الاستصحاب غير متطرّق إلى إطلاق هذه الأخبار ، ولو لا ذلك لالتزمنا بالإطلاق
هناك أيضا. فاتّضح ممّا قرّرناه أنّ الأصل
.................................................................................................
______________________________________________________
المثبت بالمعنى
المذكور إن كان استصحابا لم يعتبر ، وإن كان أصل العدم بالاعتبار الذي ذكرنا كان
معتبرا.
أقول : إن أراد
باستصحاب عدم اعتبار الأمر المشكوك فيه استصحاب عدم وجوب الأكثر ، ففيه : ـ مع عدم
جريانه ، لكون الشكّ في وجوبه علّة تامّة لحكم العقل بعدم وجوبه ـ أنّه لا حاجة
معه إلى إحراز كون المكلّف به هو الأقلّ ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «ترك الجزء
عين ترك الكلّ».
ثمّ قال : هذا
تحقيق ما أدّى إليه نظري سابقا ، والذي أدّى إليه نظري لا حقا فساد هذا الوجه.
واستدلّ عليه بوجوه ، يرجع بعضها إلى منع شمول الأخبار المذكورة لأحكام الوضع
مطلقا ، وبعضها إلى منع شمولها لنفي الجزئيّة والشرطيّة وما يجري مجراهما.
أحدها : أنّ
الظاهر من أخبار الوضع والرفع وما في معناهما إنّما هو وضع المؤاخذة والعقوبة ورفعهما
، فيدلّ على رفع الوجوب والتحريم الفعليّين في حقّ الجاهل خاصّة دون غيرهما.
وحملهما على رفع نفس الحكم وتعميمه إلى حكم الوضع بعيد عن سياقها.
أقول : وأظهر من
حديث الرفع والوضع في عدم الشمول لحكم الوضع قوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».
وثانيها : إطباق
الأصحاب على عدم دوران أحكام الوضع ـ من الأحداث : «والطهارة والنجاسة والملكيّة».
والضمان والخيارات ونحوها ـ مدار العلم والبلوغ ، وعمومها للجاهل والصبيّ
والمجنون. ودعوى كون العموم ثابتا بالإجماع في الموارد الخاصّة ، فلا يصلح ذلك
ضابطة في المقام ، فاسدة جدّا.
وثالثها : أنّ
مرجع وضع جزئيّة الجزء وشرطيّة الشرط إلى وضع المركّب منه ومن غيره وإلى وضع
المقيّد به ، ولا يتغايران إلّا بالمفهوم. فمرجع أصالة عدم الجزئيّة والشرطيّة في
المشكوك فيهما إلى أصالة عدم وضع الكلّ والمشروط ، وهي
.................................................................................................
______________________________________________________
غير جارية في
المقام ، لأنّ أصالة عدم وضعهما بمرتبة أصالة عدم وضع الأقلّ والمطلق مع العلم
بوضع أحد الأمرين من الأكثر والأقلّ ، وكذا المقيّد والمطلق ، فيتعارضان
ويتساقطان. ويوضحه ما تقدّم من المصنّف رحمهالله من كون الكلّ عين أجزائه ، لأنّ مقتضاه كون وضعه أيضا عين
وضعها.
ورابعها : مع
تسليم مغايرتهما بغير المفهوم أيضا ، أنّ الجزئيّة والشرطيّة اعتباران عقليّان
منتزعان من وضع الكلّ والمقيّد ، وعدّهما من الحكم الشرعيّ مبنيّ على مراعاة هذا
الاعتبار ، فلا ينصرف الوضع والرفع في الأخبار إليهما. ومرجع هذا الوجه إلى منع
كون الجزئيّة والشرطيّة من الأحكام الوضعيّة المجعولة ، وعدّهما منها من باب
المسامحة.
وخامسها : مع
تسليم كون المنتزع عقلا من الوضعي وضعيّا ، أنّه لا ريب أنّ الجزئيّة كما تنتزع من
اعتبار الجزء في الكلّ والشرطيّة من اعتبار الشرط في المشروط ، كذلك عدم الجزئيّة
والشرطيّة يمكن انتزاعهما من عدم اعتبار شيء شطرا أو شرطا ، فلا بدّ أن يكون
عدمهما من أحكام الوضع أيضا ، فيتعارض أصالة عدم الوضعين حينئذ في مشكوك الجزئيّة
والشرطيّة ، للعلم بأحدهما إجمالا.
وهذا كلّه على
القول بكون الأحكام الوضعيّة مجعولة للشارع ، كما اختاره جماعة ومنهم صاحب الفصول.
وأمّا على القول بكونها منتزعة من الأحكام الطلبيّة ـ كما هو المشهور واختاره
المصنّف رحمهالله ـ فالأمر أوضح.
ثمّ إنّ مراد
المصنّف رحمهالله بمنع العموم في المقام يحتمل أن يكون هو الوجه الأوّل ،
ويحتمل أن يريد به منع اشتمال أخبار البراءة على أداة العموم على وجه تشمل نفي حكم
الوضع أيضا ، لأنّ ما يمكن أن يستدلّ به عليه مثل خبر الوضع والحجب لا عموم فيه ،
بناء على عدم وضع الموصول له ، فغايته الإطلاق غير المنصرف إليه ، وما فيه أداة
العموم ـ مثل قوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» غير شامل له أصلا ،
لصراحته في الشبهة التكليفيّة.
وأمّا ما استشهد به من فهم الأصحاب وما
ظهر له بالتصفّح ، ففيه : أنّ ما يظهر للمتصفّح في هذا المقام أنّ العلماء لم
يستندوا في الأصلين المذكورين (١٧٠٤) إلى هذه الأخبار. أمّا «أصل العدم» ، فهو
الجاري عندهم في غير الأحكام الشرعيّة أيضا من الأحكام اللفظيّة كأصالة عدم
القرينة وغيرها ، فكيف يستند فيه بالأخبار المتقدّمة؟
______________________________________________________
١٧٠٤. لا يخفى أنّ ظاهر كلام صاحب الفصول كون أصل العدم وعدم
الدليل أصلا واحدا يعبّر عنه تارة بهذا واخرى بذلك ، بل كلامه في الفصول كالصريح
في ذلك. وصريح المصنّف رحمهالله كونهما أصلين مختلفي السند ، وهو كذلك. فلاحظ نهاية
العلامة ، لأنّه قدسسره عقد مبحثا في الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود ،
وقال : وهذه الطريقة عوّل عليها بعض الفقهاء ، وتقريره : أنّ الحكم الشرعيّ لا بدّ
له من دليل ، وهو إمّا نصّ أو إجماع أو قياس ، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فلا
يكون الحكم ثابتا. ثمّ عقد مبحثا آخر في تقرير أدلّة يمكن التمسّك بها في الأحكام
الشرعيّة ، وقال : الحكم المطلوب إثباته إن كان عدميّا أمكن أن تذكر فيه عبارات.
ثمّ ذكر له ثمان عبارات مختلفة المبنى ، والجامع بين هذه العبارات أصالة العدم.
وفي الوافية بعد
أن ذكر أصالة النفي ـ أعني : أصالة البراءة ـ قال : اعلم أنّ هنا قسما من الأصل
كثيرا ما يستعمله الفقهاء ، وهو أصالة عدم الشيء ، وأصالة عدم تقدّم الحادث ، بل
هما قسمان. ثمّ ذكر بعد ذلك التمسّك بعدم الدليل وقال : فيقال : عدم الدليل على
كذا ، فيجب انتفائه. ثمّ اختار فيه التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره.
ثمّ إنّ المستند
لقاعدة عدم الدليل هو قضاء العادة بعد الفحص عن الدليل من مظانّه بوجوده لو كان
موجودا في الواقع ، كما صرّح به كلّ من تعرّض لها وأمّا أصالة العدم فلم أر من
صرّح بمستندها إلّا العلّامة ، لأنّه قد قرّرها بوجوه ، وأظهر لكلّ وجه وجها
ضعيفا. ويمكن أن يكون المستند فيها استصحاب العدم ، أو بناء
.................................................................................................
______________________________________________________
العقلاء على العدم
عند الشكّ في وجود شيء. ويؤيّده تمسّكهم بها في مباحث الألفاظ عند الشكّ في وجود
القرينة الصارفة أو حصول النقل أو الاشتراك ، لأنّ مبنى أصالة عدم هذه الامور أحد
الوجهين المذكورين. ثمّ إنّ الفرق بين مؤدّاهما أنّ مؤدّى الاولى نفي الحكم
الواقعي ، بخلاف الثانية.
قال في الوافية :
والظاهر أنّ الفقهاء يستدلّون بهذه الطريقة ، يعني : طريقة عدم الدليل على نفي
الحكم الواقعي. والظاهر أنّ مراده بنفي الحكم الواقعي نفيه على سبيل القطع. وحينئذ
يحتمل أن يراد بأصالة العدم نفي المشكوك فيه في الواقع ظنّا أو في الظاهر قطعا ،
والظاهر أنّ المراد هو الأوّل. ويحتمل أن يكون أصل العدم أعمّ ، لجريانه في
الأحكام والموضوعات الخارجة ، ولذا يتمسّك به كثيرا في مقام الشكّ في وجود القرينة
ونحوها ، بخلاف قاعدة عدم الدليل ، لعدم جريانها في الموضوعات الخارجة ، كما صرّح
به صاحب الفصول عند بيان الفرق بينها وبين أصالة البراءة كما ستعرفه.
ثمّ إنّ كلماتهم
في رجوع هذه القاعدة إلى أصالة البراءة أو كونها قاعدة مستقلّة مختلفة. قال الشهيد
في الذكرى : لا دليل على كذا فينتفي ، وكثيرا ما يستعمله الأصحاب ، وهو تامّ عند
التّتبع التامّ ، ومرجعه إلى أصل البراءة.
وفي الفصول : أنّ
النسبة بينهما عموم من وجه. وقد تقدّم ذلك عند شرح قول المصنّف رحمهالله : «فلولا عدوله عنه ...».
وفي الوافية :
والظاهر أنّ الفقهاء يستدلّون بهذه الطريقة ـ يعني : طريقة عدم الدليل ، ـ على نفى
الحكم الواقعي ، وبأصالة البراءة على عدم تعلّق التكليف ، وإن كان هنا حكم في نفس
الأمر.
واستدلّ الشيخ
بهذه القاعدة على عدم انتقاض التيمّم بوجدان الماء في أثناء الصلاة. وهو دليل على
مغايرتها لكلّ من أصالة البراءة والاستصحاب ، لعدم كون مثال التيمّم موردا لشيء
منهما ، لأنّ الشكّ فيه إنّما هو في الحكم الوضعي ، أعني :
.................................................................................................
______________________________________________________
انتقاض التيمم
بوجدان الماء ، فالمتعيّن حينئذ استصحاب بقاء التيمّم وعدم انتقاضه بوجدان الماء ،
إلّا أنّ الشيخ لا يقول بحجّيته ، فلا بدّ أن تكون هذه القاعدة عنده مغايرة لهما
في المورد.
ويؤيّده أيضا
تفصيل المحقّق فيها بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، بالقول باعتبارها في الأوّل دون
الثاني ، إذ لو كان مرجعها إلى أصالة البراءة أو استصحاب حال العقل لا يبقى وجه
لهذا التفصيل. وكلام المحقّق القمّي رحمهالله عند بيان معنى أصالة البراءة مختلّ النظام منهدم الأركان ،
ولو لا خوف الإطالة لنقلته هنا ، ونبّهت على بعض ما فيه.
وعلى كلّ تقدير
فالذي يقتضيه التحقيق أنّه إن قلنا برجوع قاعدة عدم الدليل إلى أصالة البراءة ـ كما
عرفته من الشهيد ـ أو إلى استصحاب حال العقل على حسب اختلاف الموارد ، وإلّا فلا
دليل على اعتبارها. وأمّا ما تقدّم من المحقّق فيها من التفصيل ففيه : أنّ هذه
القاعدة فيما يعمّ به البلوى إن أفادت القطع بعدم الدليل فالحجّة هو القطع دونها ،
وإلّا فلا دليل عليها وإن أفادت الظنّ بالواقع ، بناء على ما هو الحقّ من القول
بالظنون الخاصّة.
هذا كلّه في بيان
النسبة بينها وبين أصالة البراءة. وأمّا أصالة العدم فالظاهر كونها أعمّ موردا من
أصالة البراءة ، كما نبّه عليه المصنّف رحمهالله ، وإن تمّت هذه كانت دليلا على قاعدة عدم الدليل ، وهو
واضح. والتحقيق فيها أيضا فيما لم يقم إجماع على اعتبارها فيه ـ كما في أصالة عدم
النقل والاشتراك والقرينة ـ أنّهم إن أرادوا بالبناء على العدم بمقتضى هذا الأصل
التوقّف عن إثبات آثار الوجود عند الشكّ فيه فهو صحيح لا سترة عليه ، لأنّ عاقلا
لا يتوقّف في عدم جواز ترتيب آثار الوجود عند الشكّ فيه ، لأنّ المستفاد من طريق
العقل حينئذ هو التوقّف والعمل بسائر القواعد والاصول في ترتيب آثار الوجود أو
العدم. وإن أرادوا ترتيب آثار العدم عند الشكّ في الوجود ـ كما هو ظاهرهم ـ فلا
دليل عليه من العقل.
وبالجملة ، إنّ
هنا معنيين ، أحدهما بديهي غير مثمر ، والآخر نظري مثمر
وأمّا «عدم الدليل دليل العدم» ،
فالمستند فيه عندهم شيء آخر ، ذكره كلّ من تعرّض لهذه القاعدة كالشيخ وابن زهرة
والفاضلين والشهيد وغيرهم ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي.
وبالجملة ، فلم نعثر على من يستدلّ بهذه
الأخبار في هذين الأصلين : أمّا رواية الحجب ونظائرها فظاهر. وأمّا النبويّ
المتضمّن لرفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهوره في رفع
المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفي ـ كأخواته من رواية الحجب وغيرها ـ وهو
المحكيّ عن أكثر الاصوليّين وبين من يتعدّى عن ذلك إلى الأحكام الغير التكليفيّة ،
لكن في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم وعدم جريان الأصلين المذكورين بحيث
لو لا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم. ونظرهم في ذلك إلى : أنّ النبويّ ـ بناء
على عمومه لنفي الحكم الوضعي ـ حاكم على تلك الأدلّة المثبتة لذلك الحكم الوضعي.
ومع ما عرفت ، كيف يدّعي أنّ مستند الأصلين المذكورين المتّفق عليهما هو هذه
الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة؟
نعم ، يمكن التمسّك بها أيضا في مورد
جريان الأصلين المذكورين ؛ بناء على أنّ صدق (١٧٠٥) رفع أثر هذه الامور أعني الخطأ
والنسيان وأخواتهما كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الأثر تحقيقا ـ كما في موارد ثبوت
الدليل المثبت لذلك الأثر الشامل لصورة الخطأ والنسيان ـ كذلك يحصل بتوهّم ثبوت
المقتضي ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقّق ، لكنّ تصادق بعض موارد الأصلين
والرواية مع تباينهما الجزئي (١٧٠٦) لا يدلّ على الاستناد لهما بها ، بل يدلّ على
العدم.
______________________________________________________
لم يساعده دليل.
وحينئذ إن قلنا برجوع هذا الأصل إلى أصالة البراءة أو استصحاب العدم ، وإلّا فلا
دليل عليه.
١٧٠٥. قد أوضح تحقيق الكلام في ذلك في الشبهة التحريميّة من
مسائل الشكّ في التكليف.
١٧٠٦. لأنّ نسبة الاصلين إلى النبويّ على ما ذكره عموم من وجه ،
لجريان
ثمّ إنّ في الملازمة التي صرّح بها في
قوله : وإلّا لدلّت هذه الأخبار على نفي حجيّة الطرق الظنّية كخبر الواحد وغيره ،
منعا واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره (١٧٠٧) ، فافهم.
واعلم أنّ هنا اصولا ربّما يتمسّك بها
على المختار : منها : أصالة عدم وجوب الأكثر.
______________________________________________________
الأصلين في غير
الأحكام التكليفيّة والوضعيّة أيضا ، كأصالة عدم القرينة والنقل والاشتراك ، بخلاف
النبويّ ، وجريانه في موارد وجود الدليل على إثبات الآثار المرفوعة لولاه من أحكام
الوضع والتكليف ، بخلافهما ، وجريان كلّ منهما في موارد توهّم ثبوت الدليل عليه.
١٧٠٧. حاصل منع الملازمة يرجع إلى بيان الفارق بين مؤدّى قاعدة
الاشتغال وسائر الطرق الشرعيّة ، وأنّ حكومة أخبار البراءة على الاولى لا تستلزم
حكومتها على الثانية. أمّا حكومتها على الاولى فهي بتقريب ما ذكره آنفا.
وأمّا عدم حكومتها
على الثانية ، فإن مؤدّيات الطرق الظاهريّة من أخبار الآحاد وغيرها منزّلة بحكم
أدلّتها منزلة نفس الأحكام الواقعيّة ، من دون اعتبار ثبوت مؤدّياتها في مورد
الشكّ في الواقع. وبعبارة اخرى : أنّ اعتبارها إنّما هو من باب المرآتيّة والكشف
عن الواقع ، بتنزيل هذا الانكشاف الظنّي ولو نوعا بمنزلة الانكشاف القطعي بحكم
الشارع ، فكأنّه قال : كلّ ما أدّت إليه هذه الطرق افرضه نفس الواقع ، بإلغاء
احتمال تخلّفها عنه وترتيب آثار الواقع عليه. ولا ريب أنّ حكم العقل بالاحتياط في
موارده إنّما هو لتحصيل الائتمان عن العقاب المرتّب على مخالفة المأمور به الواقعي
، وهو يحصل فيما نحن فيه بالإتيان بالأكثر. وكذا دلالة أخبار البراءة على عدم
الوجوب في الظاهر إنّما هو عند الشكّ فيه. فحكومة هذه الأخبار على قاعدة الاحتياط
لأجل الائتمان بها عن ترتّب العقاب على ترك الأكثر ـ إن كان الواجب في الواقع هو
الأكثر ـ لا يستلزم حكومتها على أخبار
وقد عرفت سابقا حالها (١٧٠٨).
ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك
في جزئيّته. وحالها حال سابقها بل أردأ ؛ لأنّ الحادث المجعول
(١٧٠٩) هو وجوب المركّب المشتمل عليه ، فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ،
ووجوبه المقدّمي بمعنى اللابدّية لازم له غير حادث بحدوث مغاير كزوجيّة الأربعة ،
وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير ، لكن لا يترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه إلّا
على القول باعتبار الأصل المثبت ليثبت بذلك كون الماهيّة هي الأقلّ .
______________________________________________________
الآحاد ، بل الأمر
بالعكس ، لارتفاع الشكّ عن التكليف نفيا أو إثباتا في موارد الطرق الظاهريّة ،
ولذا نقول بحكومتها على الاصول العمليّة مطلقا ، سواء وافقتها أم خالفتها. وقد
أوضح المصنّف رحمهالله تحقيق الكلام في ذلك في أوّل هذا المقصد من مقاصد الكتاب.
ثمّ إنّه يمكن قلب
الملازمة على صاحب الفصول ، بأن يقال : إنّ ما كان لنا إليه طريق في الظاهر ـ كأخبار
البراءة فيما نحن فيه ـ لا يصدق عليه أنّه مجهول ، وأنّه ممّا احتمل في مخالفة
العقاب ، وإلّا لدلّت أدلّة الاشتغال على عدم حجّية الأدلّة الظنّية.
١٧٠٨. بقوله : «لكنّ الإنصاف أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر
لا ينفع في المقام ، بل هو قليل الفائدة ..». ومنه يظهر كون الوجه الثاني أردأ من
هذا الوجه ، لفرض عدم جريان الأصل على الوجه الثاني على جميع احتمالاته.
١٧٠٩. حاصله : أنّ لوجوب
الجزء معان ، أحدها : وجوبه في حال كونه جزءا من الكلّ. وثانيها : وجوبه المقدّمي
، بمعنى عدم البدّ منه في الإتيان بالكلّ. وثالثها : وجوبه الغيري العارض له ، مع
ملاحظته في نفسه وكونه مقدّمة للإتيان بالكلّ.
__________________
ومنها : أصالة عدم جزئيّة الشيء
المشكوك. وفيه : أنّ جزئيّة الشيء (١٧١٠) المشكوك ـ كالسورة ـ للمركّب الواقعي
وعدمها ، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.
وإن اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزء
المركّب المأمور به ، ليثبت بذلك خلوّ المركّب المأمور به منه ، ومرجعه إلى أصالة
عدم الأمر بما يكون هذا جزء منه ، ففيه : ما مرّ من
______________________________________________________
والأوّل عين وجوب
الكلّ ، لأنّ الوجوب في حال جزئيّة الجزء وكونه في ضمن الكلّ عارض لمجموع الأجزاء
، واعتبار كلّية الكلّ وجزئيّة الأجزاء لا يوجب التعدّد فيه ، نظير حركة السفينة
العارضة لها ولأهلها مع اتّحادها في الحقيقة ، فالوجوب واحد وإن اختلف بالاعتبار
وملاحظة الكلّ والأجزاء بلحاظين ، فمرجع نفي وجوب الجزء إلى نفي وجوب الكلّ ، وقد
عرفت الحال فيه في الوجه الأوّل.
والثاني لازم
لطبيعة المقدّمة ، فمرجع نفيه إلى نفي المقدّمية ـ أعني : الجزئيّة ـ فيما نحن فيه
، وستعرف الكلام فيه. مع أنّه لا يفيد تعيين المأمور به في الأقلّ إلّا على القول
بالاصول المثبتة.
والثالث وإن كان
مجعولا بجعل مغاير لوجوب الكلّ ، إلّا أنّ نفيه بالأصل مثبت.
١٧١٠. حاصله : أنّه إن أراد بأصالة عدم الجزئيّة أصالة عدم كون
المشكوك فيه من أجزاء المركّب التي هي فرع العلم بعدم اتّصافه بهذا الوصف ، أعني :
عدم كونه من أجزاء المركّب في الزمان السابق ، ففيه : أنّ الجزئيّة وكذا عدمها
بهذا المعنى ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.
لا يقال : إنّ
المشكوك فيه قبل الأمر بالمركّب لم يكن جزءا منه يقينا ، فيستصحب عدمه.
لأنّا نقول : إنّ
عدم كونه جزءا منه حينئذ إنّما هو لأجل عدم وجود المركّب ، فهو حينئذ كما لا يتّصف
بالجزئيّة كذلك بعدمها ، لأنّ كلّا منهما من الامور الإضافيّة الموقوف صدقها على
وجود المضاف إليه وهو الكلّ ، وهذا معنى
أنّه أصل مثبت. وإن
اريد : أصالة عدم دخل (١٧١١) هذا المشكوك في المركّب عند اختراعه له الذي هو عبارة
عن ملاحظة عدّة أجزاء غير مرتبطة في نفسها شيئا واحدا ، ومرجعها إلى أصالة عدم
ملاحظة هذا الشيء مع المركّب المأمور به شيئا واحدا ؛ فإنّ الماهيّات المركّبة لما
كان تركّبها جعليّا حاصلا بالاعتبار ـ وإلّا فهي أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها
ولا وحدة تجمعها إلّا باعتبار معتبر ـ توقّف جزئيّة شىء لها على ملاحظته معها
واعتبارها مع هذا الشيء أمرا واحدا.
______________________________________________________
عدم كون الجزئيّة
وعدمها من الامور المسبوقة بالعدم. وبالجملة ، إنّ صدق عدم كونه جزءا من المركّب
المأمور به موقوف على فرض وجود الكلّ خاليا من المشكوك فيه في زمان ثمّ يشكّ في
اعتباره فيه بعد ورود الأمر به ، وهو خلاف الفرض.
وإن أراد بأصالة
عدم الجزئيّة أصالة عدم الأمر بمركّب يكون المشكوك فيه جزءا منه ليثبت بها خلوّ
المركّب المأمور به منه ، لأنّا إذا علمنا إجمالا بتعلّق أمر الشارع إمّا بمركّب
مشتمل عليه وإمّا بمركّب خال منه ، فأصالة عدم الأوّل تثبت الثاني ، ففيها أنّها
مثبتة ، مع أنّها معارضة بالمثل.
وإن أراد بها
أصالة عدم ملاحظة الشارع للمشكوك فيه في المركّب المأمور به عند اختراعه ، على نحو
ما فصّله المصنّف رحمهالله ، ومرجعه إلى أصالة عدم الحكم الوضعي المنتزع من الأمر
بالمركّب ، فله وجه وإن كان ضعيفا ، كما أوضحه المصنّف رحمهالله.
والفرق بين هذا
الشقّ والشقّ الأوّل من الترديد أنّ المستصحب في الأوّل عدم جزئيّة المشكوك فيه من
المركّب الخارجي ، وفي الثاني عدم جزئيّة المشكوك فيه من المركّب الجعلي
الاعتباري. ومرجع نفي جزئيّته حينئذ إلى نفي الحكم الوضعي المنتزع من الأمر
بالمركّب الجعلي الاعتباري. ومن هذا البيان تظهر صحّة الإيراد على هذا الشقّ بما
أورده على الشقّ الأوّل ، لأنّ مجرّد كون المركّب في أحدهما خارجيّا وفي الآخر
اعتباريّا لا يصلح لدفع الإيراد عن هذا الشقّ.
١٧١١. جواب الشرط قوله : فله وجه.
فمعنى جزئيّة السورة للصلاة ملاحظة
السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيّات وكونها مجعولة ؛
فالجعل والاختراع فيها من حيث التصوّر والملاحظة ، لا من حيث الحكم حتّى يكون
الجزئيّة حكما شرعيّا وضعيّا في مقابل الحكم التكليفي ، كما اشتهر في ألسنة جماعة
إلّا أن يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى وتمام الكلام يأتي في باب الاستصحاب عند
ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة.
ثمّ إنّه إذا شكّ في الجزئيّة بالمعنى
المذكور فالأصل عدمها ، فإذا ثبت عدمها في الظاهر يترتّب عليه كون الماهيّة
المأمور بها هي الأقلّ ؛ لأنّ تعيين الماهيّة في الأقلّ (١٧١٢) يحتاج إلى جنس
وجودي وهي الأجزاء المعلومة ، وفصل عدمي هو عدم جزئيّة غيرها وعدم ملاحظته معها ،
والجنس موجود بالفرض والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ، فله وجه. إلّا أن
يقال : إنّ جزئيّة الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركّب منه ومن الباقي شيئا واحدا ،
كما أنّ عدم جزئيّته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ، فجزئيّة الشيء
وكلّية المركّب المشتمل عليه مجعول بجعل واحد ، فالشكّ في جزئيّة الشيء شكّ في
كلّية الأكثر ونفي جزئيّة الشيء نفي لكلّيته ، فإثبات كلّية الأقلّ بذلك إثبات
لأحد الضدّين بنفي الآخر ، وليس اولى من العكس.
______________________________________________________
١٧١٢. على أصالة عدم الجزئيّة بالمعنى الذي قرّره ، وعدم كونه من
الاصول المثبتة ، وذلك لأنّ تعيين الماهيّة في الأكثر أو الأقلّ يحتاج إلى إثبات
جنس ، وهو في الأكثر اشتماله على ما اشتمل عليه الأقلّ ، وفي الأقلّ اشتماله على
الأجزاء المعلومة ، وفصل وهو في الأكثر ، اشتماله على ما لم يشتمل عليه الأقل ،
وفي الأقلّ عدم اشتماله على ما فوقه ممّا اشتمل عليه الأكثر ، والجنس والفصل في
الأكثر وجوديّان ، وجنسه وإن كان متيقّنا إلّا أنّ فصله من حيث كونه وجوديّا لا
يمكن إثباته عند الشكّ فيه بأصالة العدم ، بخلاف الأقلّ ، فإنّ جنسه وإن كان وجوديّا
إلّا أنّه متيقّن بالفرض ، وفصله وإن فرض كونه مشكوكا إلّا أنّه من حيث كونه
عدميّا يمكن إثباته بالأصل. ومن هنا ظهر أنّ المقصود من أصالة عدم
ومنه يظهر : عدم جواز التمسّك بأصالة
عدم التفات الآمر حين تصوّر المركّب إلى هذا الجزء ، حتّى يكون بالملاحظة
شيئا واحدا مركّبا من ذلك ومن باقي الأجزاء ؛ لأنّ هذا أيضا لا يثبت أنّه اعتبر
التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء. هذا ، مع أنّ أصالة عدم الالتفات لا يجري
بالنسبة إلى الشارع المنزه عن الغفلة ، بل لا يجري مطلقا فيما دار أمر الجزء بين
كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبّا ، لحصول الالتفات فيه قطعا ، فتأمّل (١٧١٣).
المسألة الثانية : ما إذا كان الشكّ في
الجزئيّة ناشئا من إجمال الدليل كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردّد ـ
بأحد أسباب الإجمال ـ بين مركّبين يدخل أقلّهما (١٧١٤) جزءا تحت الأكثر بحيث يكون
الآتي بالأكثر آتيا بالأقلّ.
______________________________________________________
الجزئيّة في
المقام ليس إلّا إثبات مجراها ، لا شيء آخر حتّى يقال بكونها مثبتة ، فإذا ثبت فصل
الأقلّ بالأصل وكان جنسه متيقّنا ثبت تعيّن كون الماهيّة هو الأقلّ. وأنت خبير
بأنّ إثبات أحد جزئي الماهيّة بالأصل والآخر بالفرض لا يخرج الأصل من كونه مثبتا ،
ولذا لو تردّد الأمر بين الوجوب والاستحباب لا يمكن أن يقال إنّ مطلق الرجحان ثابت
بالفرض ، وإذا ثبت عدم المنع من الترك الذي هو فصل الاستحباب ثبت استحباب الفعل ،
كما سيجيء في محلّه.
١٧١٣. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان دعوى حصول الغفلة على
وجه خاصّ ، لاختلاف الالتفات في مقام الإيجاب والاستحباب ، لأنّ الالتفات إلى
الشيء على وجه يكون مقوّما لغيره بحيث ينتفي بانتفائه مغاير للالتفات إليه على وجه
لا يكون كذلك ، والالتفات على الوجه الثاني لا يستلزمه على الوجه الأوّل ، فتدبّر.
١٧١٤. احتراز عمّا لو اشتمل الأقلّ على جزء لا يشتمل عليه الأكثر
، بأن لا يعتبر فيه ذلك أو اعتبر عدمه. وكذا قوله : «بحيث يكون الآتي ...» احتراز
عمّا لو اعتبر الأقلّ بشرط لا كالقصر والإتمام ، لأنّ هذين القسمين داخلان في
المتباينين
__________________
والإجمال : قد يكون في المعنى العرفي
(١٧١٥) ، كأن وجب في الغسل غسل ظاهر البدن ، فيشكّ في أنّ الجزء الفلاني ـ كباطن
الاذن أو عكنة البطن (١٧١٦) ـ من الظاهر أو الباطن ، وقد يكون في المعنى الشرعيّ
كالأوامر المتعلّقة في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ، بناء على (١٧١٧) أنّ هذه
الألفاظ موضوعة للماهيّة الصحيحة يعني الجامعة لجميع الأجزاء الواقعيّة. والأقوى
هنا أيضا جريان أصالة البراءة لعين ما أسلفناه في سابقه من العقل والنقل.
وربّما يتخيّل جريان قاعدة الاشتغال هنا
وإن جرت أصالة البراءة في المسألة المتقدّمة ؛ لفقد الخطاب التفصيلي المتعلّق
بالأمر المجمل في تلك المسألة ووجوده هنا (١٧١٨) ، فيجب الاحتياط بالجمع بين
محتملات الواجب المجمل ، كما هو الشأن
______________________________________________________
دون الأقلّ
والأكثر. وربّما يتوهّم كون القيد الأوّل مغنيا عن الثاني ، لعدم دخول الأقلّ تحت
الأكثر عند اعتبار الأقلّ بشرط لا. وفيه : أنّ المراد بالدخول هو الدخول ولو في
الظاهر ، وبكون الآتي بالأكثر إتيانا بالأقلّ هو الإتيان في مقام الإطاعة
والامتثال.
١٧١٥. وكذا اللغوي. ولعلّ المراد بالعرف أعمّ منه ومن العرف
العامّ.
١٧١٦. قال الطريحي : «في الحديث : كأنّي انظر إلى أبي وفي عنقه
عكنة. هي بالضمّ فالسكون واحدة العكن كصرد ، طيّ في العنق. وأصلها الطيّ في البطن
من السمن. ويقال في الجمع أعكان أيضا. وتعكّن البطن صار ذا عكن».
١٧١٧. [أنّ هذه الألفاظ
على معانيها اللغويّة] واستعمال الشارع لها في المعاني اللغويّة ، لما قرّرناه في
محلّه من إمكان تأتّي النزاع في الصحيح والأعمّ ، والثمرة المرتّبة عليه من
الإجمال والبيان في استعمال الشارع أيضا ، وإن قلنا ببقائها على المعاني اللغويّة.
١٧١٨. كأنّ وجود الخطاب التفصيلي قاطع للعذر عند الله وعند
العقل. و
__________________
في كلّ خطاب تعلّق
بأمر مجمل ؛ ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح كما هو المشهور ، وجوب
الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البراءة فيها.
وفيه : أنّ وجوب الاحتياط في المجمل
المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوع ، لأنّ
______________________________________________________
لعلّ الوجه فيه
أنّ حكم العقل بالبراءة إنّما هو لقبح العقاب بلا بيان ، والفرض هنا وصول البيان
وإجمال متعلّق الخطاب لا يصلح للعذر بعد كشف الخطاب عن ثبوت متعلّقه في الواقع ،
وتمكّن المكلّف من امتثاله ولو بالاحتياط ، بخلافه في المسألة السابقة ، لفرض عدم
العلم هناك بوجود خطاب تفصيلي ، ومجرّد العلم بوجود أحد الخطابين في الواقع لا
يصلح قاطعا للعذر ، لصدق عدم البيان معه ، ولذا فرّعوا على القول بالصحيح ـ كما هو
المشهور ـ وجوب الاحتياط ، وعدم جواز التمسّك بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء
والشرائط. مع ما تقدّم في المسألة السابقة من أنّ المشهور عند الشكّ فيهما مع كون
الشبهة ناشئة من فقدان النصّ هي البراءة ، ووجه التوفيق بينهما هو ما ذكرناه من
وجود الخطاب التفصيلي هنا ، بخلافه هناك.
وتوضيح ما أجاب به
المصنّف رحمهالله أنّ مجرّد وجود الخطاب مع قطع النظر عن مدلوله لا يصلح
فارقا بين المسألتين بلا ريب. وأمّا مع ملاحظة مدلوله فلا ريب في حصول العلم
بمدلوله في المسألة السابقة أيضا ، لأنّ الفرض هناك حصول العلم بوجوب أحد الأمرين
، أعني : الأقلّ أو الأكثر. ولا شكّ أنّ قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) على القول بالصحيح لا يزيد على هذا العلم شيئا ، فيرجع
الفرق بين المسألتين إلى مجرّد وجود الخطاب اللفظي مع قطع النظر عن مدلوله وعدمه.
ومع عدم تأثيره في الفرق بين المسألتين لا بدّ أن يلاحظ العلم الإجمالي الحاصل
فيها ، وأنّه يصلح منشأ لوجوب الاحتياط أو لا ، وهو غير صالح لذلك كما قرّره
المصنّف رحمهالله.
المتيقّن من مدلول
هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدّمي ، فلا محيص عن
الإتيان به ؛ لأنّ تركه مستلزم للعقاب ، وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب
فيبقى مشكوكا ، فيجئ فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقلي.
والحاصل أنّ مناط وجوب الاحتياط (١٧١٩)
عدم جريان أدلّة البراءة في واحد معيّن من المحتملين ـ لمعارضته بجريانها في
المحتمل الآخر ـ حتّى يخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها ؛
لأجل تردّد الواجب المستحقّ على تركه العقاب بين أمرين لا معيّن لأحدهما ، من غير
فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلّق بالمجمل وبين وجود خطاب مردّد
بين خطابين. فإذا فقد المناط المذكور وأمكن البراءة في واحد معيّن ، لم يجب
الاحتياط من غير فرق بين الخطاب التفصيلي وغيره.
فإن قلت (١٧٢٠) : إذا كان متعلّق الخطاب
مجملا فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالإتيان بمراده
واستحقّ العقاب على تركه مع وصف كونه مجملا ، وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد
واحتمال الخروج عن استحقاق العقاب. قلت : التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من
اللفظ ومدلوله حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين
أمرين ، حتّى يجب الاحتياط فيه ولو كان المصداق مردّدا بين الأقلّ والأكثر نظرا
إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعيّن المطلوب من العبد ، كما سيجيء في المسألة
الرابعة. وإنّما هو
______________________________________________________
١٧١٩. ظاهره أنّ المناط فيه تعارض أصالة البراءة في طرفي العلم
الإجمالي وتساقطهما لذلك. ولكن مختار المصنّف رحمهالله ـ كما صرّح به في
المتباينين وغيره ـ أنّ المناط فيه عدم جريان أصالة البراءة في موارد العلم
الإجمالي من رأس ، وأنّ مقتضى أخبار البراءة فيها إمّا جواز المخالفة القطعيّة ،
وهو مناف للعلم الإجمالي ، أو وجوب الموافقة القطعيّة ، وهو المطلوب.
١٧٢٠. حاصل السؤال : منع ما تقدّم من عدم تأثير وجود الخطاب
التفصيلي في الفرق بين المسألتين ، أعني : مسألتي إجمال النصّ وفقدانه ، لأنّه مع
وجوده وإجمال
.................................................................................................
______________________________________________________
متعلّقه ـ كما هو
الفرض ـ يحصل القطع بتعلّق التكليف بتحصيل ما هو مراد من الخطاب ، إلّا أنّه لأجل
الاشتباه في متعلّق الخطاب ـ وهي الصلاة في قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ـ وقع الاشتباه في
مصداق مفهوم المراد وأنّه الأقلّ أو الأكثر ، والقطع بحصول الامتثال لا يحصل إلّا
مع القطع بالإتيان بما هو مراد من الخطاب في الواقع ، وهو لا يحصل فيما نحن فيه
إلّا بالإتيان بالأكثر. وهذا نظير ما لو ورد خطاب مبيّن مردّد مصداقه الخارجي بين
الأقلّ والأكثر ، كما سيجيء في المسألة الرابعة ، لأنّ مناط وجوب الاحتياط فيه
تعلّق الحكم في الخطاب بشيء مبيّن مطلوب لا يحصل القطع بالإتيان به بالإتيان ببعض
محتملاته ، وهو موجود فيما نحن فيه أيضا ، لتعلّق التكليف بتحصيل مراد الشارع من
الخطاب ، والقطع به لا يحصل بالإتيان بالأقلّ ، فيجب فيه الاحتياط أيضا لذلك ،
بخلاف مسألة فقدان النصّ ، إذ لا خطاب مفصّل فيه حتّى يجري فيه ما ذكرناه ، وغاية
الأمر أنّ العلم الإجمالي حاصل فيه بوجوب أحد الأمرين من الأكثر والأقلّ في
الواقع. وقبح التكليف بالمجهول بالجهل البسيط ينفى بتنجّز التكليف بالأكثر إن كان
هو الواجب في الواقع ، لانحلال العلم الإجمالي فيه إلى شكّ بدوي في الأكثر وعلم
تفصيلي في الأقلّ ، كما قرّره المصنّف رحمهالله.
وبالجملة ، إنّ
المكلّف به مع فقدان النصّ فيما نحن فيه مردّد بين أمرين ، أعني : الأكثر والأقلّ
، والعلم الإجمالي بوجوب أحدهما منحلّ إلى شكّ بدوي وعلم تفصيلي ، ومع إجمال النصّ
متعلّق بعنوان واقعي ، وهو تحصيل مراد الشارع من الخطاب الصادر عنه. ومصداق المراد
مردّد بين الأقلّ والأكثر. والقول بالبراءة في الأوّل لا يستلزمها في الثاني ،
نظير ما عرفته من الشبهة المصداقيّة.
وحاصل الجواب :
منع كون التكليف متعلّقا بمفهوم لفظ المراد من الخطاب حتّى يكون من قبيل التكليف
بالمفهوم المبيّن المشتبه المصداق ، لأنّ الألفاظ إنّما وضعت للمعاني الواقعيّة من
حيث هي لا من حيث كونها مرادة للشارع ، كيف لا
.................................................................................................
______________________________________________________
وهو غير معقول ،
لتأخّر القصد والإرادة عن مقام الوضع ، فلا يعقل أخذه فيه.
فمداليل الألفاظ
هي المعاني الواقعيّة من حيث هي ، والألفاظ كاشفة عنها. فقول الشارع : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، يفيد إرادة وجوب الصلاة الواقعيّة من المكلّفين ، لا
وجوب ما هو مراد للشارع بوصف كونه مرادا حتّى يقال بتردّد مصداق المراد ، فيجب فيه
الاحتياط وإن كان تردّده بين الأقلّ والأكثر. فالإرادة إنّما عرضت على ما تنجّز
التكليف به في الواقع ، لا أنّ المكلّف به هو المراد الواقعي. والفرق بين كون
المكلّف به الواقعي مرادا وكون المراد مكلّفا به واضح ، وما نحن فيه من قبيل
الأوّل دون الثاني ، والسؤال إنّما يتّجه على الثاني دون الأوّل.
وبالجملة ، إنّ
المكلّف به وما أراده الشارع من المكلّف هو نفس الواقع من حيث هو ، والألفاظ كاشفة
عنه. ولا ريب أنّه لا فرق في إثبات هذا المعنى بين كون الكاشف عنه هو الخطاب
اللفظي كما فيما نحن فيه ، أو الإجماع مثلا كما في مسألة فقدان النصّ ، فالقول
بالبراءة أو الاحتياط في إحداهما يستلزم القول به في الاخرى ، وهو واضح.
وممّا ذكرناه يظهر
منشأ التوهّم الذي نقله المصنّف رحمهالله واندفاعه. أمّا الأوّل فإنّه قد توهّم بعضهم عدم جواز
التمسّك بأصالة البراءة على القول بوضع أسامي العبادات على الماهيّات الصحيحة ، بل
وعلى القول باستعمالها فيها أيضا وإن قلنا ببقائها على المعاني اللغويّة ، لما
أشرنا إليه سابقا من تأتّي النزاع بحسب الاستعمال أيضا ، لأنّه إذا كان الموضوع له
أو المستعمل فيه هي الماهيّة الصحيحة ، يكون المكلّف به هي العبادة الصحيحة في
الواقع ، ومفهوم الخطاب من هذه الجهة مبيّن فإذا تردّدت العبادة المأمور بها بين
الأقلّ والأكثر لأجل الشكّ في بعض أجزائها أو شرائطها ، يقع الشكّ في مصداق هذا
المفهوم المبيّن ، وأنّه هو الأكثر أو الأقلّ ، فيجب الإتيان حينئذ بما يقطع بكونه
صحيحا في الواقع وهو الأكثر ، كما سيجيء في المسألة الرابعة.
متعلّق بمصداق المراد
والمدلول ؛ لأنّه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ، واتّصافه بمفهوم المراد
والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر لا
مصداقه.
ونظير هذا توهّم : أنّه إذا كان اللفظ
في العبادات موضوعا للصحيح ، والصحيح مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، فيجب فيه
الاحتياط. ويندفع : بأنّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق ، فافهم.
وأمّا ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين :
من الثمرة بين القول
بوضع ألفاظ العبادات للصحيح وبين وضعها للأعمّ ، فغرضه بيان الثمرة على مختاره من
وجوب الاحتياط في الشكّ في الجزئيّة ، لا أنّ كلّ من قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو
قائل بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البراءة في أجزاء العبادات ؛ كيف؟
والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيحة قد ملئوا طواميرهم من إجراء الأصل عند الشكّ في
الجزئيّة والشرطيّة بحيث لا يتوهّم من كلامهم أنّ مرادهم بالأصل غير أصالة
البراءة.
______________________________________________________
وأمّا الثاني فإنّ
المكلّف به ليس هو مفهوم الصحيحة ، بل مصداقه الخارجي. وما ذكرت إنّما يتمّ على
الأوّل دون الثاني ، لأنّ الموضوع له لفظ الصلاة هو الأجزاء الخارجة المردّدة بين
التسعة والعشرة مثلا ، لا مفهوم الصحيحة.
فإن قلت : كيف
يفرض وضع اللفظ لمصداق الصحيحة ، والصحّة متأخّرة عن الوضع والأمر والامتثال؟
لأنّها بمعنى موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ، فلا يعقل أخذها في مفهوم اللفظ ،
وإلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه.
قلت : تحقيق
الكلام في ذلك محرّر في مبحث الصحيح والأعمّ. ومحصّله : أنّ المقصود من الصحّة في
قولهم : أسامي العبادات موضوعة للصحيحة أو الأعمّ ، ليس هو المعنى المذكور ، لعدم
تعقّله كما عرفت ، بل المقصود منها هناك كون الماهيّة
__________________
والتحقيق : أنّ ما ذكروه ثمرة للقولين
من وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح وعدمه على القول بوضعها للأعمّ ،
محلّ نظر. أمّا الأوّل ، فلما عرفت من أنّ غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح
كون هذه الألفاظ مجملة ، وقد عرفت أنّ المختار والمشهور في المجمل المردّد بين
الأقلّ والأكثر عدم وجوب الاحتياط.
وأمّا الثاني (١٧٢١) ، فوجه النظر موقوف
على توضيح ما ذكروه من وجه ترتّب تلك الثمرة ، أعني عدم لزوم الاحتياط على القول
بوضع اللفظ للأعمّ ، وهو أنّه إذا قلنا بأنّ المعنى الموضوع له اللفظ هو الصحيح ،
كان كلّ جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق حقيقة معنى لفظ «الصلاة» ، فالشكّ في
جزئيّة شىء شكّ في صدق الصلاة ، فلا إطلاق للفظ «الصلاة» على هذا القول بالنسبة
إلى واجدة الأجزاء وفاقدة بعضها ؛ لأنّ الفاقدة ليست بصلاة ؛ فالشكّ في كون
المأتيّ به فاقدا أو واجدا شكّ في كونها صلاة أو ليست بها.
______________________________________________________
على النحو الذي
قرّرها الشارع عليه ، من الترتيب بين أجزائها واشتمالها على كيفيّاتها الحاصلة من
الشرائط ، وهذه الماهيّات إذا تعلّق الأمر بها وأتي بها على ترتيبها وكيفيّاتها
تتّصف بالصحّة بالمعنى المصطلح عليه.
١٧٢١. لا يذهب عليك أنّ الملازمة الثانية في كلام المصنّف رحمهالله هو عدم وجوب الاحتياط على القول بالأعمّ ، وهو أعمّ من أن
يكون ذلك لأجل أصالة البراءة عن المشكوك فيه من الأجزاء والشرائط ، أو لأجل إطلاق
أسامي العبادات على هذا القول. وقد حمله المصنّف رحمهالله على الثاني ، ولذا اقتصر في الإيراد على هذه الملازمة
بالمنع من جواز التمسّك بإطلاقات العبادات. ولعلّه مبنيّ على حمل أصالة البراءة في
كلام من جعل ثمرة القول بالأعمّ جواز التمسّك بها ـ كما حكي عن الوحيد البهبهاني ـ
على المسامحة ، بإرادة ما يوافقها وهو الإطلاق ، لغاية بعد إرادة ظاهرها ، لوضوح
توقّف جريان الاصول العمليّة في مورد على عدم دليل اجتهادي فيه ، لحكومته أو وروده
عليها ، وإطلاق الألفاظ أو عمومها معدود في الأدلّة
وأمّا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو
القدر المشترك بين الواجدة لجميع الأجزاء والفاقدة لبعضها ـ نظير «السرير» الموضوع
للأعمّ من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها الغير المقوّم لحقيقته بحيث لا يخلّ فقده
بصدق اسم «السرير» على الباقي ـ كان لفظ «الصلاة» من الألفاظ المطلقة الصادقة على
الصحيحة والفاسدة. فإذا أريد بقوله : «أقيموا الصلاة» فرد مشتمل على جزء زائد على
مسمّى الصلاة كالصلاة مع السورة ، كان ذلك تقييدا للمطلق ، وهكذا إذا اريد
المشتملة على جزء آخر كالقيام ، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق ، فإرادة الصلاة
الجامعة لجميع الأجزاء يحتاج إلى تقييدات بعدد الأجزاء الزائدة على ما يتوقّف
عليها صدق مسمّى الصلاة ، أمّا القدر الذي (١٧٢٢) يتوقّف عليه صدق «الصلاة» ، فهى
من مقوّمات معنى المطلق ، لا من القيود المقسّمة له.
وحينئذ : فإذا شكّ في جزئيّة شىء للصلاة
، فإن شكّ في كونه جزءا مقوّما لنفس المطلق فالشكّ فيه راجع إلى الشكّ في صدق اسم «الصلاة»
، ولا يجوز فيه إجراء البراءة ؛ لوجوب القطع بتحقّق مفهوم الصلاة كما أشرنا إليه
فيما سبق ، ولا إجراء أصالة إطلاق اللفظ وعدم تقييده ؛ لأنّه فرع صدق المطلق على
الخالي من ذلك المشكوك ، فحكم هذا المشكوك عند القائل بالأعمّ حكم جميع الأجزاء
عند القائل بالصحيح.
وأمّا إن علم أنّه ليس من مقوّمات حقيقة
الصلاة ، بل هو على تقدير اعتباره وكونه جزءا في الواقع ليس إلّا من الأجزاء التي
يقيّد معنى اللفظ بها ؛ لكون اللفظ موضوعا للأعمّ من واجده وفاقده ، فحينئذ فالشكّ
في اعتباره وجزئيّته راجع إلى الشكّ في تقييد إطلاق الصلاة في «أقيموا الصلاة»
بهذا الشيء ، بأن يراد منه مثلا أقيموا الصلاة المشتملة على جلسة الاستراحة. ومن
المعلوم أنّ الشكّ في التقييد
______________________________________________________
الاجتهاديّة ، وقد
أوضحه المصنّف رحمهالله في أوّل هذا المقصد من مقاصد الكتاب.
١٧٢٢. هذا القدر على ما زعمه المحقّق القمّي هو الأركان ، وعند
الفاضل الأصبهاني معظم الأجزاء.
يرجع فيه إلى أصالة
الإطلاق وعدم التقييد ، فيحكم بأنّ مطلوب الآمر غير مقيّد بوجود هذا المشكوك وبأنّ
الامتثال يحصل بدونه وأنّ هذا المشكوك غير معتبر في الامتثال ، وهذا معنى نفي
جزئيّته بمقتضى الإطلاق.
نعم ، هنا توهّم نظير ما ذكرناه سابقا
من الخلط بين المفهوم والمصداق ، وهو توهّم : أنّه إذا قام الإجماع بل الضرورة على
أنّ الشارع لا يأمر بالفاسدة ؛ لأنّ الفاسد ما خالف (١٧٢٣) المأمور به ، فكيف يكون
مأمورا به؟ فقد ثبت (١٧٢٤) تقييد الصلاة دفعة واحدة بكونها صحيحة جامعة لجميع
الأجزاء ، فكلّما شكّ في جزئيّة شىء
______________________________________________________
١٧٢٣. لا يخفى أنّ الفاسد بهذا المعنى لا يعقل أن يكون مأمورا به
، لأنّ الفساد بهذا المعنى مترتّب على مخالفة الأمر ، فهو متأخّر عنه ، فكيف يعقل
تعلّق الأمر به؟ وإلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه. وحينئذ لا معنى لدعوى الإجماع
والضرورة على عدم كون الفاسد مأمورا به ، لأنّ مقتضاه دعوى الإجماع والضرورة على
كون المأمور به صحيحا ، أعني : الصحّة بمعنى موافقة الأمر ، وهو غير معقول ، كما
يظهر بمقايسته على ما ذكرناه ونبّهنا عليه سابقا.
والاولى أن يدّعى
الإجماع على كون المأمور به محبوبا عند الشارع ، أو على كون المراد به هو الجامع
لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة عنده. وهذا أيضا مراد من ادّعى عدم كون الفاسد
مأمورا به ، بل ما ذكره من الجواب أيضا يبتني على ما ذكرناه ، لعدم تماميّته على
تقدير دعوى كون المراد بالمأمور به مصاديق الصحيح بمعنى موافق الأمر ، كما يظهر
بالتدبّر فيما قدّمناه.
١٧٢٤. يعني : ثبت تقييد الصلاة بقيد عامّ جامع لجميع القيود التي
لها مدخل في تحقّق المأمور به ، فتكون ألفاظ العبادات مجملة بالعرض نظير القول
بالصحيح ، إلّا أنّ الإجمال على الأوّل يكون عرضيّا كما عرفت ، وعلى هذا القول
ذاتيّا ، وهذا المقدار غير مجد ، إذ المأمور به على التقديرين هو عنوان الصحيحة ،
فمع الشكّ في بعض الأجزاء أو الشرائط تقع الشبهة في مصداق الصحيحة وأنّه هو الأكثر
أو الأقلّ.
.................................................................................................
______________________________________________________
ويظهر اندفاع هذا
التوهّم ممّا تقدّم في دفع التوهّم السابق في كلام المصنّف رحمهالله. وحاصله كما أشار إليه هنا : منع اقتضاء تقييد المراد
بالصحّة لكون المأمور به هو عنوان الصحيحة ، بل غايته كون المأمور به مصاديقها
الخارجة ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، فإذا قال الشارع : أقيموا
الصلاة ، وثبت كون المراد هي الصحيحة ، يعني : الجامعة للأجزاء والشرائط ، فمقتضى
هاتين القضيّتين كون المأمور به هي الصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط. فإذا شكّ في
اعتبار جزء أو شرط فيها ، فمع صدق عنوان الصلاة على الخالية من هذا المشكوك فيه ،
أعني : الأجزاء والشرائط الثابتة من الأدلّة كما هو مقتضى القول بالأعمّ ، ثبت
بمقتضى صدق الإطلاق بضميمة أصالة عدم قيد آخر كون الخالية منه صلاة صحيحة بالمعنى
المتقدّم.
فإن قلت : إنّه لا
ريب في عروض الإجمال للخطاب إذا قال الشارع : اريد منك صلاة صحيحة ، فيما لو فرض
الشكّ في بعض أجزائها أو شرائطها ، فما وجه الفرق بين ما ثبت التقييد في نفس
الكلام وبين ما ثبت من الخارج كما هو محلّ الكلام؟
قلت : الفارق هو
العرف ، لأنّه المرجع في مباحث الألفاظ. والنكتة فيه أنّه مع ثبوت القيد من الخارج
كان للمطلق إذا لوحظ في نفسه ظهور في الإطلاق ، فكلّما شكّ في عروض مانع من إطلاقه
يدفع بما عرفته من الظهور ، بخلاف ما لو ثبت القيد في الكلام ، لأنّه سقط المطلق
عن إطلاقه على حسب مقتضاه ، ولذلك مثال في الخارج ، لأنّ المولى إذا قال لعبده :
أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم من العلماء من كان عدوّا لي ، فإذا شكّ في كون
شخص عدوّا له يحرز عدم عداوته وكونه صديقا له بعموم الخطاب الأوّل ، بخلاف ما لو
قال : أكرم العلماء غير أعدائي ، إذ لا ريب في إجماله بالنسبة إلى من شكّ منهم في
كونه عدوّا للمولى.
كان راجعا إلى الشكّ
في تحقّق العنوان المقيّد (١٧٢٥) المأمور به ، فيجب الاحتياط ليقطع بتحقّق ذلك
العنوان على تقيّده ؛ لأنّه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو الصلاة ، فلا بدّ
من إتيان كلّ ما يحتمل دخله في تحقّقها كما أشرنا إليه ، كذلك يجب القطع بتحصيل
القيد المعلوم الذي قيّد
به العنوان ، كما لو قال : «أعتق مملوكا مؤمنا» فإنّه يجب القطع بحصول الإيمان ،
كالقطع
بكونه مملوكا.
ودفعه يظهر ممّا ذكرناه : من أنّ الصلاة
لم تقيّد بمفهوم «الصحيحة» وهو الجامع لجميع الأجزاء ، وإنّما قيّدت بما علم من
الأدلّة الخارجيّة اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة «الفاسدة» يراد به العلم بعدم
إرادة هذه المصاديق الفاقدة للامور التي دلّ الدليل على تقييد (١٧٢٦) الصلاة بها ،
لا أنّ مفهوم «الفاسدة» خرج عن المطلق وبقي مفهوم «الصحيحة» ، فكلّما شكّ في صدق «الصحيحة»
و «الفاسدة» وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم «الصحيحة». وهذه المغالطة جارية
في جميع المطلّقات (١٧٢٧) بأن يقال : إنّ المراد بالمأمور به في قوله : «اعتق رقبة»
ليس إلّا الجامع لشروط الصحّة ؛ لأنّ الفاقد للشرط
غير مراد قطعا ، فكلّما شكّ في شرطيّة شىء كان شكّا في تحقّق العنوان الجامع
للشرائط ، فيجب الاحتياط للقطع بإحرازه.
______________________________________________________
١٧٢٥. على صيغة المفعول. والمراد به عنوان الصلاة. والضمير في
قوله : «على تقييده» عائد إلى العنوان ، يعني : ليقطع بتحقّق عنوان الصلاة مع ما قيّد
به من وصف الصحّة.
١٧٢٦. فتبقى أصالة الإطلاق بالنسبة إلى غير هذه الامور التي دلّ
الدليل على اعتبارها على حالها ، فيعمل بها في نفي القيود المشكوكة.
١٧٢٧. بل العمومات أيضا ، مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وهذا جواب نقضي آخر لاستلزام المغالطة المذكورة عدم جواز
التمسّك بعمومات المعاملات و
__________________
وبالجملة : فاندفاع هذا التوهّم غير
خفيّ بأدنى التفات ، فلنرجع إلى المقصود ونقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على
القول بوضعها للأعمّ كغيرها من المطلقات كان لها حكمها ، ومن المعلوم أنّ المطلق
ليس يجوز دائما التمسّك بإطلاقه ، بل له شروط (١٧٢٨) ، كأن لا يكون واردا في مقام
حكم القضيّة المهملة بحيث لا يكون المقام مقام بيان ؛ ألا ترى : أنّه لو راجع
المريض الطبيب فقال له في غير وقت الحاجة : «لا بدّ لك من شرب الدواء أو المسهل» ،
فهل يجوز للمريض أن يأخذ بإطلاق الدواء والمسهل؟ وكذا لو قال المولى لعبده : «يجب
عليك المسافرة غدا».
وبالجملة ، فحيث لا يقبح من المتكلّم
ذكر اللفظ المجمل ـ لعدم كونه إلّا في مقام هذا المقدار من البيان ـ لا يجوز أن
يدفع القيود المحتملة للمطلق بالأصل ؛ لأنّ جريان الأصل لا يثبت الإطلاق وعدم
إرادة المقيّد إلّا بضميمة : أنّه إذا فرض ـ ولو بحكم الأصل ـ عدم ذكر القيد وجب
إرادة الأعمّ من المقيّد وإلّا قبح التكليف ؛ لعدم البيان ، فإذا فرض العلم بعدم
كونه في مقام البيان لم يقبح الإخلال بذكر القيد مع إرادته في الواقع.
______________________________________________________
مطلقاتها أيضا ،
وهو خلاف ما استقرّت عليه طريقة العلماء في أبواب المعاملات.
١٧٢٨. منها : عدم ورود المطلق في مقام الإهمال ، كما أوضحه
المصنّف رحمهالله. ومنها : عدم وروده في مقام بيان حكم آخر ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) فلا يجوز الاستدلال بإطلاقه على طهارة موضع إمساك الكلب
ممّا أخذه من الصيد ، نظرا إلى عدم تقييد جواز الأكل بغسله كما حكي عن الشيخ ،
لوروده في مقام بيان حكم جواز الأكل ، فهو ساكت عن حكم طهارة موضع العضّ ونجاسته.
ومنها : كون المطلق متواطئا ، بأن لا تكون له أفراد شائعة ينصرف إليها الإطلاق.
ومنها : عدم وهنه بورود تقييدات كثيرة توهن في إطلاقه ، كما في كثير من إطلاقات
القواعد الشرعيّة ، ولكن ستقف على ما فيه.
والذي يقتضيه التدبّر (١٧٢٩) في جميع
المطلّقات (١٧٣٠) الواردة في الكتاب في مقام الأمر بالعبادة (١٧٣١) : كونها في غير
مقام بيان كيفيّة العبادة ، فإنّ
______________________________________________________
١٧٢٩. ربّما يؤيّد ذلك كون كثير من قيود مطلّقات الكتاب أو
أكثرها مبيّنة في أخبار أئمّتنا المعصومين عليهمالسلام ، إذ لو كان المراد بها بيان الإطلاق لزم بيان قيودها في
زمان صدورها لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وفيه نظر ، لأنّ
لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة وارد على هذه الإطلاقات ، سواء قلنا بورودها في
مقام البيان الإجمالي أو التفصيلي ، إذ لا ريب أنّ المكلّفين في زمان صدور هذه
الخطابات كانوا مكلّفين بهذه العبادات ، وقد عرفت أنّ بيان قيودها إنّما وقع في
الأزمنة المتأخّرة ، فيلزم تأخير البيان عن وقت حاجتهم ، سواء قلنا بورودها في
مقام البيان الإجمالي أو التفصيلي. مع أنّ البيان الإجمالي غير معقول مع حاجتهم
إلى البيان.
نعم ، يمكن أن
يلتزم في دفع ذلك بأحد أمرين ، إمّا بأن يقال بورودها في مقام البيان ، ويقال بكون
الموجودين في زمان الصدور ومن بعدهم إلى زمان صدور مقيّداتها مكلّفين بالعمل
بإطلاقها ، والمتأخّرين منهم بما حدث من المقيّدات بعد صدورها. وإمّا بأن يقال
بورودها في مقام البيان الإجمالي ، وكان البيان التفصيلي واصلا إليهم بخطابات أخر
، وأنّ هذه الخطابات كاشفة عنه. وعلى الوجهين نبّه المصنّف رحمهالله في خاتمة الكتاب.
١٧٣٠. لا بدّ في تتميم المطلب من إضافة مطلقات السنّة إليها ،
بدعوى جريان ما ذكره أو غيره من موانع العمل بها فيها أيضا ، وهو على إطلاقه مشكل.
وما أورده المصنّف رحمهالله من الإشكال في العمل بإطلاق ألفاظ العبادات محكيّ عن شريف
العلماء.
١٧٣١. وجه الفرق بينها وبين أوامر المعاملات : أنّ المعاملات :
مع شرائطها غالبا امور عرفيّة ، والأمر الوارد فيها إمضاء لما هو المقرّر عند
العرف ، ولا مانع
قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) إنّما هو في مقام
بيان تأكيد (١٧٣٢) الأمر بالصلاة والمحافظة عليها ، نظير قوله : «من ترك الصلاة
فهو كذا وكذا» و «أنّ صلاة فريضة خير من عشرين أو ألف حجّة» ، نظير تأكيد الطبيب
على المريض في شرب الدواء ، إمّا قبل بيانه له حتّى يكون إشارة إلى ما يفصّله له
حين العمل ، وإمّا بعد البيان له حتّى يكون إشارة إلى المعهود المبيّن له في غير
هذا الخطاب. والأوامر الواردة بالعبادات فيه كالصلاة والصوم والحجّ كلّها على أحد
الوجهين ، والغالب
______________________________________________________
من ورودها في مقام
بيان الإطلاق ، بخلاف العبادات ، فإنّها بجميع أجزائها وشرائطها امور تعبّدية ،
فالمطلقات الواردة فيها لا تصلح للإطلاق إلّا بعد بيان ما يتحقّق به صدق الإطلاق ،
فالغالب فيها كون المطلق إشارة إلى ما فصّله سابقا أو يفصّله بعد.
١٧٣٢. يمكن أن يكون قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) واردا لبيان التشريع. وكيف كان ، تؤيّد ورود هذه الإطلاقات
في مقام التأكيد أو غيره من فوائد الكلام لا في مقام بيان الإطلاق امور ، منها :
ورود الأمر بالصلاة والصوم والزكاة ونحوها في غير موضع من الكتاب ، لأنّه ليس إلّا
للتأكيد.
ومنها : ورود
تقييدات كثيرة عليها ، سيّما في الأزمنة المتأخّرة عن زمان صدورها بزمان معتدّ به
، إذ لو كان المراد بها بيان الإطلاق لا بدّ من بيان قيودها من أوّل الأمر وإلّا
لزم الإغراء بالجهل. مضافا إلى عدم إمكان بيان جميع القيود في أوّل الأمر ، فتأمّل.
ومنها : ما روي عن
الباقر عليهالسلام : «أنّ عمّار بن ياسر أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله أجنبت الليلة ولم يكن معي ماء. فقال :
كيف صنعت؟ قال : طرحت ثيابي وقمت على الصعيد فتمعّكت فيه. فقال : هكذا يصنع الحمار
، إنّما قال الله عزوجل : (فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً) فضرب بيديه على الأرض ، ثمّ ضرب إحداهما على الاخرى ، ثمّ
مسح جبينه ، ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على الاخرى ، مسح
فيها الثاني. وقد ذكر
موانع أخر (١٧٣٣) لسقوط إطلاقات العبادات عن قابليّة التمسّك فيها بأصالة الإطلاق
وعدم التقييد ، لكنّها قابلة للدفع أو غير مطّردة في جميع المقامات ، وعمدة الموهن
لها ما ذكرناه.
______________________________________________________
باليسرى على
اليمنى واليمنى على اليسرى» لأنّ إطلاق الأمر بالتيمّم لو كان واردا في مقام بيان
الإطلاق لم يكن صلىاللهعليهوآله يمنعه ممّا يفهمه ، وإن كان مقرونا بالبيان لم يقع منه
غلط.
١٧٣٣. منها : ما تقدّم في كلام المصنّف رحمهالله من التوهّم الذي زيّفه ، فإنّ ما زيّفه به وإن لم يصحّح
جواز التمسّك بالإطلاق ، إلّا أنّ مقتضاه جواز التمسّك بأصالة البراءة التي هي في
حكم أصالة الإطلاق ، فتدبّر.
ومنها : ورود كثرة
التقييدات على إطلاقات العبادات ، إذ لا ريب أنّ كثرة التقييد والتخصيص يسقط
المطلق والعامّ عن درجة الاعتبار. وفيه : أنّ ذلك إنّما يجري في العمومات دون
المطلقات ، لجواز تقييدها إلى الواحد.
ومنها : أنّ
التمسّك بإطلاق الخطاب مشروط بكونه من قبيل المتواطئ دون المشكّك ، وما نحن فيه من
قبيل الثاني دون الأوّل ، لانصراف ألفاظ العبادات على القول بالأعمّ إلى الصحيحة.
وفيه أوّلا : أنّه
يظهر الجواب عنه من تزييف المصنّف رحمهالله قول من توهّم كون المراد بألفاظ العبادات على القول
بالأعمّ هي الصحيحة ، نظرا إلى عدم كون الفاسدة مأمورا بها.
وثانيا : أنّا
نمنع الانصراف المذكور ، لأنّ المتبادر منها على تقدير تسليمه إنّما هي المشتملة
على الأجزاء الواجبة والمندوبة ، وهو خارج من محلّ النزاع ، وغير معلوم تحقّقه في
زمان صدور الخطابات. فدعوى انفهام خصوص الصحيحة منها بمثابة دعوى انفهام خصوص
الفاسدة منها ، فليست هي بالنسبة إليهما من قبيل المشكّك.
.................................................................................................
______________________________________________________
ومنها : أنّ ألفاظ
العبادات على القول بالأعمّ وإن سلّم كونها من قبيل المبيّن بالذات ، إلّا أنّ
جملة من الأخبار الصادرة عن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام ألبستها ثوب الإجمال ، مثل النبويّ : «صلّوا كما رأيتموني
أصلّي». ومثل صحيحة حمّاد بن عيسى المتضمّنة لكيفيّة صلاة أبي عبد الله عليهالسلام ، وقوله عليهالسلام : «يا حمّاد هكذا صلّ». ومثل صحيحة زرارة المتضمّنة لحكاية
الباقر عليهالسلام وضوء رسول الله صلىاللهعليهوآله. وعن العلّامة في المنتهى والشهيد في الذكرى أنّه نقل عنه صلىاللهعليهوآله أنّه حين أكمل وضوئه قال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة
إلّا به». وعن شرح الأربعين لشيخنا البهائي في طيّ استدلال من قال من علمائنا
بوجوب الابتداء في غسل الوجه من الأعلى ـ وهم الأكثر ـ دعوى الاتّفاق على أنّه قال
بعد فراغه ذلك. ومثل قوله صلىاللهعليهوآله : «خذوا مناسككم عنّي». والمراد بالمناسك إمّا خصوص أفعال
الحجّ إن كان لفظها حقيقة شرعيّة فيه ، وإمّا مطلق العبادات إن لم يثبت ذلك ووجه
إفادتها للإجمال دلالتها على كون المراد بألفاظ العبادات معاني مخصوصة لا مطلق مسمّياتها
، فيصير القول بالأعمّ فيها في حكم القول بالصحيح ، في عدم جواز التمسّك بإطلاقها
في نفي القيود المشكوكة.
وفيه : أنّ هذه
الأخبار مجملات محتملة لإرادة ما لا ينافي مقتضى القول بالأعمّ ، لوضوح اعتبار
النصوصيّة أو الأظهريّة في القرائن اللفظيّة الصارفة للألفاظ عن معانيها الحقيقيّة
، وإلّا فمجرّد احتمال خلاف الظاهر غير كاف في رفع اليد عن أصالة الحقيقة.
فنقول : أمّا
النبويّ ففيه مع كونه ضعيفا ، واحتمال كون «صلّوا» على صيغة الماضي ، ورجوع ضمير
الجمع إلى الملائكة ، بأن كان إخبارا عن صلاة الملائكة معه ليلة المعراج ، كما نقل
عن تقرير صاحب الرياض ، أنّه إن اريد بالتشبيه المماثلة في جميع الخصوصيّات حتّى
في مثل زمانه ومكانه ولباسه ولونه ونحوها ، كان الخارج حينئذ أكثر من الداخل ، فلا
بدّ أن يكون المراد المماثلة في بعضها. وحينئذ
.................................................................................................
______________________________________________________
كما يحتمل أن يكون
المراد المماثلة في الاشتمال على الأجزاء الواجبة ، كذلك يحتمل أن يكون المراد
المماثلة في الاشتمال على ما يصدق معه الاسم ، من الأركان أو معظم الأجزاء على
الخلاف فيه. ومجرّد احتمال الأوّل الموجب لإجمال اللفظ لا يعيّنه ، ولا يوجب رفع
اليد عن الإطلاق المعتضد بأصالة الحقيقة. هذا بخلاف ما لو ورد : أكرم العلماء إلّا
بعضهم ، لأنّ إجمال المخصّص فيه مصادم لأصالة العموم ، بخلاف ما نحن فيه ، لعدم
العلم فيه بالمصادمة ، لما عرفت من احتماله لما يوافق القول بالأعمّ ، فيعمل فيه
بأصالة الحقيقة ما لم يثبت الصارف عنه.
ومن هنا تظهر
الحال في قوله عليهالسلام : «يا حمّاد هكذا صلّ» لأنّه إن اريد به الإشارة إلى جميع
ما أتى به من الأجزاء الواجبة والمندوبة ، فلا بدّ من حمله على إرادة مرتبة الكمال
، وهو لا يوجب الإجمال في مسمّى اللفظ الذي هو خصوص الأجزاء الواجبة في الجملة.
وإن اريد به الإشارة إلى بعضها فهو لا ينافي مقتضى القول بالأعمّ على ما عرفت.
وأمّا قوله عليهالسلام : «وهذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به» فلأنّ ما حكاه
الإمام عليهالسلام عن رسول الله لأجل اشتماله على بعض الأجزاء المندوبة مثل
الاغتراف باليمين ، لا يمكن جعل المشار إليه فيه جميع الخصوصيّات المذكورة فيه ،
سيّما مع ملاحظة كون وضوئه من قدح ، وحينئذ لا بدّ أن يراد به ما اشتمل على بعضها
، وهو لا ينافي مقتضى القول بالأعمّ كما تقدّم.
وأمّا قوله : «خذوا
عنّي مناسككم» فالمراد به الأمر بأخذ الامور الشرعيّة منه صلىاللهعليهوآله ، وعدم جواز الأخذ فيها بالهوى ومشتهيات النفس ، وهو لا
ينافي الأخذ بالمطلقات ، إذ لا ريب في أنّ الأخذ منه يعمّ الأخذ منه بلا واسطة كما
هو شأن الحاضرين عنده ، والأخذ منه معها كما هو شأن الغائبين عن ساحة الرسالة ،
لأنّ وظيفتهم الأخذ بالخطابات المنقولة عنه ، فالأخذ بالمطلقات أخذ منه.
فحينئذ : إذا شكّ في جزئيّة شىء لعبادة
، لم يكن هنا
ما يثبت به عدم الجزئيّة من أصالة عدم التقييد ، بل الحكم هنا هو الحكم على مذهب
القائل بالوضع للصحيح في رجوعه إلى وجوب الاحتياط أو إلى أصالة البراءة ، على
الخلاف في المسألة.
فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين
الصحيحي والأعمّي هو لزوم الإجمال على القول بالصحيح (١٧٣٤) ، وحكم المجمل
مبنيّ على الخلاف في وجوب
______________________________________________________
١٧٣٤. تترتّب على هذه الثمرة فروع :
الأوّل : ما لو
ثبت وجوب شيء وتردّد بين كونه نفسيّا وغيريّا ، بأن تردّد بين كونه واجبا في نفسه
أو شرطا لواجب نفسي آخر ، كغسل مسّ الميّت والجنابة ، بناء على تردّده بين كونه
واجبا نفسيّا أو شرطا في صحّة الصلاة. فعلى القول بالأعمّ يدفع وجوبه الشرطي
بإطلاق لفظ الصلاة ، بناء على عدم عروض الإجمال له ، وهو بضميمة ما دلّ على وجوبه
في الجملة يدلّ بدلالة الإشارة على كونه واجبا نفسيّا.
لا يقال : إنّ
إطلاق اللفظ ولو بالضميمة المذكورة لا يثبت الوجوب النفسي إلّا على القول بالاصول
المثبتة.
لأنّا نقول : إنّ
إثبات الأصل إنّما يقدح في الاصول العمليّة دون اللفظيّة كما هو مقرّر في محلّه ،
وأمّا على القول بالصحيح فلا إطلاق هنا كي يدفع به وجوبه الشرعيّ. وحينئذ إن قلنا
بوجوب الاحتياط عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ثبت وجوبه الشرطي بقاعدة الاحتياط ،
وينفى وجوبه النفسي بأصالة البراءة. وإن قلنا بالبراءة فقد حكى بعض مشايخنا عن بعض
مشايخه القول بالوجوب الشرطي حينئذ ، وإن قلنا بأصالة البراءة عند الشكّ في
الأجزاء والشرائط ، بتقريب أنّه بعد تعارض أصالة البراءة عن الوجوب الشرطي والنفسي
وتساقطهما يجب الرجوع إلى أصل
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
آخر ، وهو هنا ليس
إلّا قاعدة الاحتياط المتفرّعة على العلم الإجمالي بأحد الأمرين ، وهي مثبتة
للوجوب الشرطي من دون معارضة شيء.
وفي إطلاقه نظر ،
لأنّ عدم جواز العمل بالأصل في طرفي العلم الإجمالي إنّما هو فيما كان ذلك مستلزما
لطرح خطاب تفصيلي كما في الإنائين المشتبهين ، أو مجمل كما في الظهر والجمعة ،
والمعارضة المذكورة إنّما تتمّ لو دخل وقت الصلاة وتضيّق ، لأنّه مع تضيّق وقتها
حينئذ بالذات أو بالعرض كظنّ الموت ـ يمكن حينئذ فرض معارضة أصالة عدم الوجوب
النفسي والشرطي ، بل وكذلك إذا لم يتضيّق ، لأنّ الالتزام بعدم وجوبه بنفسه ولا من
حيث كونه شرطا في صحّة الصلاة مخالف لما علم إجمالا من توجّه الخطاب إليه بأحد
الأمرين. وأمّا إذا تضيّق وقت العمل بظنّ الموت مثلا قبل دخول وقت الصلاة ، فيمكن
نفي وجوبه النفسي حينئذ من دون لزوم مخالفة خطاب معلوم تفصيلا أو إجمالا ، لاحتمال
كونه واجبا لأجل الصلاة.
هذا كلّه فيما إذا
علم إجمالا بكون الغسل واجبا نفسيّا أو غيريّا. وأمّا إذا علم أحدهما وشكّ في
الآخر ، فإن علم كونه واجبا نفسيّا وشكّ في وجوبه الشرطي ، فعلى القول بالأعمّ
يدفع وجوبه الشرطي بإطلاق لفظ الصلاة ، فيثبت كونه واجبا نفسيّا خاصّة. وعلى القول
بالصحيح يبنى في نفي وجوبه الشرطي وعدمه على القول بالبراءة والاحتياط عند الشكّ
في الأجزاء والشرائط. وإن علم عكسه ينفى وجوبه النفسي بأصالة البراءة على القولين.
الثاني : ما لو
ثبتت شرطيّة شيء لشيء ، وتردّد بين كونه شرطا اختياريّا له أو مطلقا ، كالستر في
الصلاة. فعلى القول بالأعمّ ينفى احتمال شرطيّته في حال الاضطرار بإطلاق لفظ
المشروط ، لأنّ إطلاق الشرطيّة قيد زائد فيه ينفى بإطلاق لفظ العبادة المشروطة به
، فيجب الإتيان بالصلاة عريانا في حال الاضطرار. وأمّا على القول بالصحيح بينى على
أصالة البراءة والاشتغال عند الشكّ في الأجزاء والشرائط.
.................................................................................................
______________________________________________________
الثالث : ما لو
ثبتت شرطيّة شيء لشيء ، وتردّد بين كونه شرطا علميّا وشرطا واقعيّا. فعلى القول
بالأعمّ ينفى احتمال شرطيّته في حال الجهل بإطلاق لفظ العبادة المشروطة به. وعلى
القول بالصحيح يبنى على أنّ الأصل في الشرائط أن تكون واقعيّة أو علميّة ، كما
سيجيء في محلّه.
الرابع : ما لو
ثبتت شرطيّة شيء لشيء ، وتردّد بين كونه شرطا ركنيّا وغير ركني ، بمعنى بطلان
العبادة المشروطة به بالإخلال به عمدا وسهوا على الأوّل ، وعدم بطلانها بالإخلال
به سهوا على الثاني. فعلى القول بالأعمّ ينفى احتمال شرطيّته في حال السهو بإطلاق
لفظ المشروط به ، فلا يضرّ الإخلال به سهوا في صحّة العبادة. وعلى القول بالصحيح
يبنى على البراءة والاشتغال عند الشكّ في الأجزاء والشرائط. بل يتعيّن هنا العمل
بالاحتياط حتّى على القول بأصالة البراءة عند الشكّ فيهما ، لاختصاص مورد البراءة
بحالة الالتفات دون الغفلة والسهو كما هو واضح ، فيتعيّن حينئذ كونه شرطا ركنيّا
تفسد العبادة بالإخلال به ولو سهوا.
هذا كلّه في
الشرائط. وأمّا الأجزاء ، بأن تثبت جزئيّة شيء من مركّب ، وتردّد بين كونه جزءا
ركنيّا وغير ركني. فإن قلنا بتوقّف صدق الاسم على القول بالأعمّ على وجود جميع
الأركان ، كما زعمه المحقّق القمّي ، كان القول بالأعمّ حينئذ في حكم القول
بالصحيح في عدم جواز التمسّك بإطلاق اللفظ عند الشكّ في ركنيّة جزء وعدمها ، لفرض
عدم العلم بصدق اللفظ حينئذ. وإن قلنا بتوقّفه على وجود معظم الأجزاء وإن فقد بعض
الأركان ، كما يراه الفاضل الأصبهاني ، فحينئذ يمكن نفي احتمال الركنيّة بإطلاق
لفظ العبادة على القول بالأعمّ ، لفرض صدق اللفظ بدون المشكوك فيه ، ويبنى على
البراءة والاشتغال على القول بالصحيح.
الخامس : أنّ
النزاع في وجوب الاحتياط أو التخيير في المسألة الآتية إنّما يتأتّى على القول
بالصحيح دون الأعمّ في وجه ، كما سيشير إليه المصنّف رحمهالله.
الاحتياط أو جريان
أصالة البراءة ، وإمكان البيان (١٧٣٥) والحكم بعدم الجزئيّة ـ لأصالة عدم التقييد ـ
على القول بالأعمّ ، فافهم.
المسألة الثالثة : فيما إذا تعارض نصّان
متكافئان في جزئيّة شىء لشىء وعدمها كأن يدلّ أحدهما على جزئيّة السورة والآخر على
عدمها. ومقتضى إطلاق (١٧٣٦) أكثر الأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ : ثبوت
التخيير هنا. لكن ينبغي أن يحمل (١٧٣٧) هذا الحكم منهم على ما إذا لم يكن هناك
إطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده عدم جزئيّة هذا المشكوك ، كأن يكون هنا إطلاق معتبر
للأمر بالصلاة بقول مطلق ؛ وإلّا فالمرجع بعد التكافؤ (١٧٣٨) إلى هذا المطلق ؛
لسلامته عن المقيّد بعد ابتلاء ما يصلح لتقييده بمعارض مكافئ.
______________________________________________________
١٧٣٥. التعبير بالإمكان إشارة إلى عدم حصول البيان الفعلي
بمطلقات العبادات ، لما ادّعاه من عدم استجماعها لشرائط العمل بالإطلاق.
١٧٣٦. كذلك مقتضى إطلاق الأخبار أيضا.
١٧٣٧. إشارة إلى عدم تأتّي النزاع في وجوب الاحتياط والتخيير
فيما تعارض نصّان في جزئيّة شيء أو شرطيّته لعبادة على القول بالأعمّ ، بناء على
استجماع مطلقات ألفاظ العبادات لشرائط العمل بها ، وإلّا فالقول بالأعمّ حينئذ في
حكم القول بالصحيح كما تقدّم في المسألة السابقة.
ثمّ إنّه كان
للمصنّف رحمهالله أن يجزم باختصاص حكم المشهور بالتخيير بموارد فقد إطلاق
دليل يقتضي عدم الجزئيّة ، لما سيصرّح به من كون المطلق مرجّحا عندهم ، فلا تشمله
أخبار التخيير. ومنه يظهر أنّ الأولى تعليل اختصاص حكمهم بالتخيير بصورة عدم وجود
المطلق بما ذكرناه ، لا بما ذكره من كون المطلق مرجعا بعد تكافؤ التعيين
وتساقطهما. ومع ما ذكرناه لا يرد الإيراد الذي أورده على نفسه ، ولا يحتاج إلى
تجشّم الجواب بما ضعّفه أخيرا ، بدعوى حكومة أخبار التخيير على الإطلاق الموجود في
المقام.
١٧٣٨. هذا مبنيّ على عدم كون المطلق مرجّحا لأحد المتعارضين.
وسيشير
وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ؛
لأنّها ـ كأمثالها من مسائل هذا المقصد ـ مفروضة فيما إذا لم يكن هناك دليل
اجتهادي سليم عن المعارض متكفّلا لحكم المسألة حتّى تكون موردا للاصول العمليّة.
فإن قلت : فأيّ فرق بين وجود هذا المطلق
وعدمه؟ وما المانع من الحكم بالتخيير هنا ، كما لو لم يكن مطلق؟ فإنّ حكم
المتكافئين (١٧٣٩) إن كان هو التساقط ، حتّى أنّ المقيّد المبتلى بمثله بمنزلة العدم
فيبقى المطلق سالما ، كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق التي حكم فيها بالتخيير
هو التساقط والرجوع إلى الاصل المؤسّس فيما لا نصّ فيه : من البراءة أو الاحتياط
على الخلاف. وإن كان حكمهما التخيير ـ كما هو المشهور نصّا وفتوى ـ كان اللازم عند
تعارض المقيّد للمطلق الموجود بمثله ، الحكم بالتخيير هاهنا ، لا تعيين الرجوع إلى
المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد.
قلت : أمّا لو قلنا بأنّ المتعارضين مع
وجود المطلق غير متكافئين ، لأنّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجّح له فيؤخذ به
ويطرح الآخر ، فلا إشكال في الحكم وفي خروج مورده عن محلّ الكلام.
وإن قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق
مرجع ، لا مرجّح ـ نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد تعبّديا ، لا من باب الظهور
النوعي ـ فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين : دعوى ظهور
اختصاص (١٧٤٠) تلك الأخبار بصورة عدم
______________________________________________________
إلى كلّ من
الوجهين ـ أعني : كون المطلق مرجعا أو مرجّحا ـ في الجواب عن السؤال الذي أورده
على نفسه.
١٧٣٩. إنّما لم يذكر في حكم المتعارضين احتمال تقديم الموافق
للأصل أو المخالف له ، كما اشتهر من مسألة المقرّر والناقل ، لأنّه مع الترجيح
بالأصل الموافق أو المخالف يخرج المتعارضان من كونهما متكافئين ، كما هو موضوع
الكلام في المقام ، ولذا صرّح في الجواب أيضا بخروج فرض كون المطلق مرجّحا لأحدهما
من محلّ النزاع.
١٧٤٠. لا يذهب عليك أنّ دعوى عدم شمول أخبار التخيير لما نحن فيه
.................................................................................................
______________________________________________________
لا ينبغي القول
بالتخيير فيه ، لعدم انحصار دليله فيها ، لأنّ في اعتبار الظواهر وجوها أو أقوالا
، أحدها : اعتبارها من باب الظنّ الشخصي. الثاني : اعتبارها من باب الظنّ النوعي.
الثالث : اعتبارها من باب السببيّة والموضوعيّة ، أعني : التعبّد العقلائي.
والمتعيّن على
الأوّل مع تكافؤ المتعارضين سندا هو الأخذ بما أفاد الظنّ بالمراد منهما ولو
بالقرائن الخارجة ، وإلّا سقط كلّ منهما عن درجة الاعتبار.
وعلى الثاني هو
الحكم بخروج كلّ منهما من الطريقيّة لأجل المعارضة والتزاحم ، وحينئذ وجب الرجوع
إلى ما كان موجودا في موردهما من الاصول العمليّة. نعم ، إن كان الموجود فيه
إطلاقا أو عموما يتقوّى به ظهور ما كان من المتعارضين موافقا له خرج معارضه خاصّة
حينئذ من الحجّية. وبهذا الاعتبار يكون المطلق أو العامّ الموجود في موردهما
مرجّحا للموافق له ، ولذا اعتبر المصنّف رحمهالله في كون المطلق مرجعا كون اعتبار أصالة عدم التقييد من باب
التعبّد ، لأنّه مبنيّ على اعتبار المتعارضين من باب الظهور النوعي ، ومع اعتبار
المطلق من باب التعبّد تختلف مرتبته مع مرتبتهما ، فلا يصلح المطلق حينئذ للترجيح.
وعلى الثالث هو
الحكم بالتخيير ، كما هي قضيّة تزاحم السببين بحسب العقل ، كما سيجيء تحقيقه في
خاتمة الكتاب. ولا ريب أنّ ثبوت التخيير حينئذ ليس كثبوته فيما دار الأمر فيه بين
الاحتمالين ، كما في مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، لأنّ حكم العقل
بالتخيير هناك لأجل ثبوت التكليف بالواقع ، وعدم المناص من العمل ، مع عدم إمكان
الاحتياط فيه ، وعدم الدليل على تعيين أحدهما بالخصوص ، فإذا فرض وجود دليل عامّ
أو مطلق موافق لأحدهما يرتفع موضوع حكم العقل وهو التحيّر في مقام العمل ، بخلاف
ما نحن فيه ، لأنّ حكم العقل بالتخيير فيه إنّما هو لأجل تزاحم الحجّتين وعدم
المرجّح لإحداهما ، ولا ريب أنّ حكم العقل بالتخيير بينهما إنّما هو بوصف
حجّيّتهما ، فمع اختيار أحدهما بكون المختار حاكما على إطلاق المطلق أو عموم
العامّ.
وجود الدليل الشرعيّ
في تلك الواقعة ، وأنّها مسوّقة لبيان (١٧٤١) عدم جواز طرح قول الشارع في تلك
الواقعة والرجوع إلى الاصول العقليّة والنقليّة المقرّرة لحكم صورة فقدان قول
الشارع فيها ، والمفروض وجود قول الشارع هنا ولو بضميمة أصالة الإطلاق المتعبّد
بها عند الشكّ في المقيّد.
والفرق بين هذا الأصل وبين تلك الاصول
الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين : هو أنّ تلك الاصول عمليّة
فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعيّ فيها ،
وهذا الأصل مقرّر لإثبات كون الشيء وهو المطلق دليلا وحجّة عند فقد ما يدلّ على
عدم ذلك ، فالتخيير مع جريان هذا الأصل تخيير مع وجود الدليل الشرعيّ المعيّن لحكم
المسألة المتعارض فيها النصّان بخلاف التخيير مع جريان تلك الاصول ؛ فإنّه تخيير
بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في موردهما.
هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ أخبار
التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاصوليّة ، كما أنّها
حاكمة على تلك الاصول الجارية في المسألة الفرعيّة ؛ لأنّ مؤدّاها بيان حجّية أحد
المتعارضين كمؤدّى أدلّة حجّية الأخبار ، ومن المعلوم حكومتها على مثل هذا الأصل ،
فهي دالّة على مسألة اصوليّة ، وليس مضمونها حكما عمليّا صرفا. فلا فرق بين أن يرد
في مورد هذا الدليل المطلق : «اعمل بالخبر الفلاني المقيّد لهذا المطلق» وبين قوله
: «اعمل بأحد هذين المقيّد أحدهما له».
______________________________________________________
١٧٤١. حاصله : أنّ أخبار التخيير منساقة لبيان حكم المتحيّر عند
عدم الدليل الشرعيّ على حكم الواقعة ، ولا ريب في ارتفاع موضوع التحيّر مع وجود
الدليل المطلق على حكم الواقعة ، لكون المطلق بضميمة أصالة عدم التقييد دليلا على
حكم الواقعة ورافعا للتحيّر عن حكمها ، بخلاف ما لو لم يكن هنا دليل لفظي ووجب
الرجوع إلى الاصول العمليّة ، فإنّها غير صالحة لذلك ، لأنّها مجعولة لبيان حكم
المتحيّر والجاهل بحكم الواقعة في مقام العمل ، فلا تصلح لرفع التحيّر والجهل. ومن
هنا كانت أصالة عدم التقييد حاكمة على أخبار التخيير ، وهذه
فالظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام
بالرجوع إلى المطلق وعدم التخيير مبنيّ على ما هو المشهور فتوى ونصّا من ترجيح أحد
المتعارضين (١٧٤٢) بالمطلق أو العامّ الموجود في تلك المسألة ، كما يظهر من ملاحظة
النصوص والفتاوى. وسيأتي توضيح ما هو الحقّ من المسلكين (١٧٤٣) في باب التعادل
والتراجيح إن شاء الله تعالى.
______________________________________________________
الأخبار على
الاصول العمليّة ، كما أفاده المصنّف رحمهالله.
فإن قلت : إنّ هذه
الدعوى إنّما تتمّ إن كانت أصالة عدم التقييد معتبرة من باب الظنّ النوعي دون
التعبّد كما هو الفرض ، لوضوح عدم ارتفاع التحيّر بالامور التعبّدية ، كيف لا ولو
صلحت لذلك لصلحت الاصول العمليّة أيضا ، له لكون اعتبارها أيضا من باب التعبّد ،
كيف واعتبار المطلقات على المختار ـ وفاقا لسلطان العلماء ـ من باب دليل الحكمة
دون الظهور اللفظي كما عزي إلى المشهور ، وليس مقتضاه إلّا نفي القيد المشكوك فيه
في مورد الجهل والحيرة.
قلت : إنّ
للمطلقات ـ وإن قلنا باعتبارها من باب دليل الحكمة ـ مرتبة وسطى بين سائر الظواهر
والاصول العمليّة ، فهي محكومة على الاولى وحاكمة على الثانية ، لأنّ المطلقات من
حيث كون سائر الظواهر كاشفة عن المرادات منها فهي محكومة عليها ، ومن حيث إنّ
أصالة عدم التقييد وإن اعتبرت في مقام الشكّ ، ولكن اعتبارها لما كان مع قطع النظر
عنه كانت حاكمة على الاصول العمليّة.
١٧٤٢. لم يظهر وجه الفرق بين وجود المطلق والاصول العمليّة بناء
على ما هو ظاهر المشهور من اعتبارها من باب الظهور النوعي ، إذ بناء عليه يجب
الترجيح بها أيضا ، فلا يبقى مورد حينئذ لأخبار التخيير إلّا فيما كان كلّ من
المتعارضين مخالفا للأصل. وقول المصنّف رحمهالله بعدم كون الاصول مرجّحة ـ كما سيجيء في محلّه ـ إنّما هو
لأجل قوله باعتبارها من باب التعبّد.
١٧٤٣. من كون الاصول اللفظيّة مرجعا أو مرجّحا.
المسألة الرابعة : فيما إذا شكّ في
جزئيّة شىء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي كما إذا أمر بمفهوم مبيّن
مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر. ومنه ما إذا وجب صوم (١٧٤٤) شهر هلاليّ ـ وهو ما
بين الهلالين ـ فشكّ في أنّه ثلاثون أو ناقص. ومثل ما إذا أمر بالطهور لأجل الصلاة
، أعني الفعل
الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشكّ في جزئيّة شىء للوضوء أو الغسل الرافعين.
واللازم في المقام الاحتياط ؛ لأنّ
المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم
______________________________________________________
١٧٤٤. كما في شهر رمضان إذا شكّ في يوم من أوّله أو آخره. ولكن
هذا إنّما يكون مثالا للمقام ببيان مقدّمتين ، إحداهما : تعلّق الحكم بمجموع ما
بين الهلالين من الأيّام ، لا أن يكون كلّ يوم ممّا بينهما متعلّقا للحكم. الثانية
: أن لا يمكن إحراز المشكوك فيه وجودا وعدما بالاصول الوجوديّة والعدميّة ، بأن
يقال بعدم جريانها في الموضوعات التدريجيّة الخارجة. وكلتا المقدّمتين ممنوعتان.
أمّا الاولى فواضحة. وأمّا الثانية فلما سيجيء في محلّه من صحّة استصحاب الأزمان ،
بل ادّعى عليه بعضهم الضرورة ، فعند الشكّ في أوّل يوم من شهر رمضان يستصحب بقاء
شهر شعبان ، وفي آخره يستصحب بقاء شهر رمضان أو عدم دخول شهر شوّال. نعم ، يمكن
إحراز المقدّمة الاولى فيما لو نذر صوم شهر هلالي بحيث يكون صوم الأيّام الواقعة
بين الهلالين مرتبطة في نظره.
ويمكن أن يمثّل
للمقام بما لو نذر التنفّل بصلاة الليل ، ثمّ شكّ في كون المنذور أقلّ ما يجزي
فيها أو مع بعض ما يستحبّ فيها ، أو صار أجيرا لأداء صلوات معدودة ، ثمّ شكّ في
اشتراط بعض ما يستحبّ فيها في ضمن الصيغة وعدمه ، ونحو ذلك.
وأمّا مثال الأمر
بالطهور المفسّر في كلام المصنّف رحمهالله بالغسل بالفتح الرافع للحدث أو المبيح للصلاة كوضوء السلس
، فإنّ الخطاب المتضمّن لذلك مبيّن المفهوم ،
__________________
تفصيلا ، وإنّما
الشكّ في تحقّقه بالأقلّ ، فمقتضى أصالة عدم (١٧٤٥) تحقّقه وبقاء الاشتغال : عدم
الاكتفاء به ولزوم الإتيان بالأكثر.
ولا يجري هنا ما تقدّم من الدليل العقلي
والنقلي الدالّ على البراءة ؛ لأنّ البيان الذي لا بدّ منه في التكليف قد وصل من
الشارع ، فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلا ، فإذا شكّ في تحقّقه في
الخارج فالأصل عدمه. والعقل أيضا يحكم بوجوب القطع بإحراز ما علم وجوبه تفصيلا ،
أعني المفهوم المعيّن المبيّن المأمور به ؛ ألا ترى أنّه لو شكّ في وجود باقي
الأجزاء المعلومة ـ كأن لم يعلم أنّه أتى بها أم لا ـ كان مقتضى العقل والاستصحاب
وجوب الإتيان بها؟
______________________________________________________
ومصداقه الوضوء
والغسل الرافعين ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء منهما حصل الشكّ في كون الفاقد له
مصداقا له مع العلم إجمالا بكونه ـ أو الواجد له ـ مصداقا لهذا المفهوم المبيّن.
هذا ، ولقائل أن
يقول : إنّ الغسل الرافع أو المبيح وإن كان مبيّن المفهوم ، إلّا أنّ الشكّ في
مصداقه لأجل الشكّ في جزئيّة شيء له ـ كالوضوء المشكوك في بعض أجزائه ـ مرجعه إلى
الشبهة الحكميّة دون الموضوعيّة ، لأنّ ميزان التمييز بين الشبهتين ـ على ما صرّح
به المصنّف رحمهالله في غير المقام ـ كون المرجع في إزالة الشبهة هي الأدلّة
الشرعيّة على الأولى ، والأمارات المقرّرة لبيان حكم الموضوعات المشتبهة على
الثانية ، ولا ريب أنّه مع الشكّ في جزئيّة شيء للوضوء مثلا فالمرجع في إزالته هي
الأدلّة دون الأمارات. نعم ، لو كان الشكّ في الإتيان ببعض أجزاء الوضوء بعد العلم
باعتباره فيه كان من الشبهة في الموضوع الخارجي ، وإن وجب الاحتياط على التقديرين
، فتدبّر.
١٧٤٥. هذا مبنيّ على مذاق المشهور من الاعتداد بمثل هذه الاصول ،
وإلّا فهو غير مجد في المقام. أمّا أوّلا : فلعدم جريانه ، لما أشار إليه المصنّف رحمهالله في المسائل السابقة من كون العلم بثبوت التكليف ، ثمّ
الشكّ في الخروج من عهدته بالإتيان
والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة
الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبراءة هو أنّ نفس
التكليف فيها مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلّقه بالمشكوك ،
وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ؛ لأنّ مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ،
وهي قبيحة بحكم العقل ، فالعقل والنقل الدالّان على البراءة مبيّنان لمتعلّق
التكليف
من أوّل الأمر في مرحلة الظاهر.
وأمّا ما نحن فيه ، فمتعلّق التكليف فيه
مبيّن معيّن معلوم تفصيلا ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ، وإنّما الشكّ في تحقّقه
في الخارج بإتيان الأجزاء المعلومة ، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحقّقه في
الخارج ، بل الأصل عدم تحقّقه ، والعقل أيضا مستقلّ بوجوب الاحتياط مع الشكّ في
التحقّق.
______________________________________________________
بالأقلّ ، علّة
تامّة لحكم العقل بالاشتغال ووجوب الإتيان بالأكثر. وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ
المعتبر في الاستصحاب إذا كان علّة تامّة لحكم العقل بثبوت الحكم السابق في الظاهر
يرتفع الشكّ عنه ، فلا يبقى مجال لاستصحابه. ومن هنا لا يصحّ استصحاب الاشتغال في
جميع الموارد التي يصحّ التمسّك فيها بقاعدته ، وكذلك استصحاب البراءة في جميع
موارد قاعدتها.
وأمّا ثانيا :
فإنّ وجوب الإتيان بالأكثر أثر عقلي مرتّب على عدم تحقّق المأمور به وبقاء
الاشتغال ، فلا يثبت بالاصول إلّا على القول بالاصول المثبتة. فالاولى في تقرير
الدليل على المدّعى هو التمسّك بذيل قاعدة الاشتغال ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله بقوله : «والعقل أيضا يحكم بوجوب القطع ..».
ثمّ إنّ المخالف
في المقام لم يوجد إلّا ما حكي عن المحقّق الخوانساري وما يظهر من المحقّق القمّي رحمهالله ، وقد تقدّم في المتباينين ما يمكن استظهار مستندهما منه ،
ولكن ضعفه غير خفيّ على الأفهام المستقيمة ، فتدبّر.
__________________
وأمّا القسم الثاني ، وهو الشكّ في كون
الشيء قيدا للمأمور به : فقد عرفت أنّه على قسمين (١٧٤٦) ، لأنّ القيد قد يكون
منشؤه فعلا خارجيّا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجي كالطهارة الناشئة من الوضوء
، وقد يكون قيدا متّحدا معه في الوجود الخارجي. أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو
الكلام فيما تقدّم ، فلا نطيل بالإعادة. وأمّا الثاني : فالظاهر اتّحاد حكمهما.
وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل بالشك
في الجزئيّة دون الثاني ؛ نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة
على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ؛ فإنّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم
المؤاخذة عليه كان التكليف به ـ ولو مقدّمة ـ منفيّا بحكم العقل والنقل ، والمفروض
أنّ الشرط الشرعيّ إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ، فينتفي بانتفاء منشأ
انتزاعه في الظاهر. وأمّا ما كان متّحدا مع المقيّد في الوجود الخارجي كالإيمان في
الرقبة المؤمنة ، فليس ممّا يتعلّق به وجوب و
______________________________________________________
١٧٤٦. المستفاد من كلامه هنا وفيما يأتي أنّ الشروط على أقسام :
أحدها : ما كان
خصوصيّته منتزعة من أمر خارجي مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، كالطهارة
بالنسبة إلى الصلاة ، لكونها منتزعة من أفعال الوضوء والغسل.
وثانيها : ما كان
خصوصيّته متّحدة مع المأمور به من دون أن تكون منتزعة من أمر آخر مغاير للمأمور به
، كالإيمان في قولنا : أعتق رقبة مؤمنة. والشكّ في هذه الخصوصيّة تارة يتعلّق
باعتبارها في المأمور به وعدمه ، بأن يدور الأمر بين كون المأمور به هي الطبيعة من
دون أن تعتبر في تحصيلها خصوصيّة متّحدة معها في الوجود الخارجي ، فيثبت التخيير
بين أفرادها عقلا ، وبين كون الطبيعة بشرط خصوصيّة خاصّة ، كما عرفته من مثال عتق
الرقبة ، فيدور الأمر حينئذ بين التعيين والتخيير العقلي. واخرى يتعلّق باعتبار
خصوصيّة معيّنة في المأمور به وعدمه ، بأن تعلم مطلوبيّة الطبيعة مع الخصوصيّة في
الجملة ، ويشكّ في أنّ المطلوب هي الطبيعة مع الخصوصيّة المعيّنة ، أو مع إحدى
الخصوصيّات المعيّنات في الخارج ، كما يأتي من
.................................................................................................
______________________________________________________
مثال خصال
الكفّارة ، للعلم فيه بوجوب طبيعة الكفّارة ، والشكّ في أنّ مطلوبيّتها هل هي مع
خصوصيّة العتق المحصّلة لها ، أو مع واحدة من خصوصيّات الصوم والعتق والإطعام ،
وحينئذ يدور الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيّ.
وثالثها : ما كان
خصوصيّته متّحدة مع المأمور به كما في القسم الثاني ، إلّا أنّ الخصوصيّة هناك
ملحوظة في ذاتها وهنا ناشئة من تضادّ المأمور به لتكليف نفسي ، كحرمة لبس الحرير
للرجال ، لأنّ شرطيّة عدم كون اللباس حريرا في الصلاة ناشئة من عدم جواز اجتماع
الأمر والنهي في شيء واحد ولو مع تعدّد الجهة ، وهذا القسم خارج من محلّ النزاع
كما سيصرّح به.
وأمّا القسم
الأوّل فحكمه متّحد مع حكم الشكّ في الجزئيّة في جميع مسائله الأربع.
وأمّا القسم
الثاني فالنزاع فيه فرع القول بالبراءة في الأجزاء والشرائط التي من قبيل الأوّل ،
وإلّا فإن قلنا بوجوب الاحتياط فيهما فهو أولى بالوجوب هنا ، كما يظهر من تقريب
المصنّف رحمهالله للدليل واستشكاله فيه مع قوله بالبراءة هناك. وكذلك إن
قلنا به فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير العقلي ، فهو اولى بالقول به
فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير الشرعيّ. فكلّ من هذه الثلاثة من حيث
سهولة القول بوجوب الاحتياط أو البراءة فيها وصعوبته متدرّجة صعودا ونزولا.
ثمّ إنّ مبنى
القول بالبراءة أو الاحتياط في هذه الثلاثة هو الاختلاف في كون طرفي العلم
الإجمالي فيها من قبيل الأقلّ والأكثر أو المتباينين ، والإشكال في ذلك ناش من كون
الطبيعة عين أفرادها كما عزي إلى المحقّقين. وتوضيح ذلك أنّ الشرط في جميع ما
ذكرناه إمّا نفس خصوصيّة الفرد كما في قسمي القسم الثاني ، أو تقيّد إيقاع الطبيعة
بالتلبّس بما انتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به. ولا ريب أنّ هذا التقييد أيضا
بمنزلة خصوصيّة الفرد متّحد مع الطبيعة في الوجود الخارجي ، وإذا فرض كون الطبيعة
عين أفرادها في الخارج فلا تتّصف هذه الخصوصيّة بالوجوب
.................................................................................................
______________________________________________________
الغيري من باب
المقدّمة ، لما حقّقناه في مبحث المقدّمة من عدم كون الفرد مقدّمة للطبيعة ، لأنّ
المقدّمة مغايرة لذيها في الوجود ، والفرض اتّحاد الطبيعة مع الفرد في الخارج بل
كونها عينه.
نعم ، لما كانت
الخصوصيّة في القسم الأوّل حاصلة من تقيّد المأمور به بالأمر المنتزع من أمر خارجي
، فيكفي في نفي وجوبها نفي وجوب منشأ انتزاعها وإن كان غيريّا ، بخلاف الخصوصيّة
في القسم الثاني ، فإنّها لما لم تكن متّصفة بالوجوب ولو من باب المقدّمة ، ولم
تكن منتزعة من أمر خارجي كي يكتفى في نفي وجوبها بنفي وجوبه ، لا تكون موردا
لأصالة البراءة.
ومن هنا يظهر
الوجه فيما ادّعاه المصنّف رحمهالله من كون المطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ، في عدم قدر
مشترك متيقّن في البين حتّى يؤخذ به وينفى المشكوك فيه بالأصل ، لأنّ دعوى القدر
المشترك إنّما تتمّ مع مغايرة الطبيعة للخصوصيّة المشكوكة ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال
في مثال العتق : إنّ امتثال الأمر بالطبيعة على تقدير وجوبها في الواقع حاصل بعتق
كلّ من المؤمنة والكافرة ، فينفى احتمال وجوب الخصوصيّة ولو من باب المقدّمة
بالأصل ، بخلاف ما لو قلنا باتّحادها مع الخصوصيّة ، إذ الآتي بالكافرة حينئذ تارك
للمأمور به رأسا على تقدير كون الواجب في الواقع هي المؤمنة ، إذ الفرض أنّه ليس
في الواقع على تقدير وجوب عتق المؤمنة وجوبان ، أحدهما متعلّق بالطبيعة ولو في ضمن
الفرد ، والآخر بنفس الفرد ، حتّى تصحّ دعوى اندراج الأقلّ تحت الأكثر ، ويدّعى
أنّ وجوب الأقلّ معلوم وإن كان مردّدا بين النفسي والغيري ، ووجوب الأكثر مشكوك
فينفى بالأصل ، نظير ما تقدّم في الشكّ في الجزئيّة ، بل الموجود في الواقع على
تقدير وجوب عتق المؤمنة ليس إلّا وجوب واحد متعلّق بعتق المؤمنة ، فالآتي بالكافرة
حينئذ تارك للمأمور به رأسا لا محالة.
ومن طريق ما
بيّنّاه يظهر أنّ مراد المصنّف رحمهالله بكون ما نحن فيه من قبيل
.................................................................................................
______________________________________________________
المتباينين هو نفي
كونه من قبيل الأقلّ والأكثر بحيث يندرج الأقلّ تحت الأكثر ، حتّى يثمر في عدم جريان
حكمهما ـ وهي البراءة ـ فيه ، لا دعوى كونه من قبيل ما دار الأمر فيه بين أمرين
متباينين نظير الظهر والجمعة ، لوضوح دوران الأمر فيما نحن فيه بين وجوب خصوص فرد
معيّن ووجوب الطبيعة المقيّدة بإحدى الخصوصيّتين المتّحدة معها في الخارج ، وهذا
وإن لم يعدّ أمرين متباينين إلّا أنّه في حكمهما ، في كون أصالة البراءة عن وجوب
أحدهما معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الآخر ، بعد ما عرفت من عدم تحقّق قدر مشترك
بينهما.
وأمّا ما تنظّر به
المصنّف قدسسره فيما قدّمناه من أنّ مقتضى أدلّة البراءة من العقل والنقل
نفي الإلزام بما لا يعلم ورفع كلفته ، وأنّ المقيّد يشمل على كلفة زائدة وإلزام
زائد على ما في التكليف بالمطلق ، وإن كان المطلق عين وجود المقيّد في الوجودات
الخارجة.
فمنظور فيه ، أمّا
أوّلا : فإنّه إن أراد بنفي الإلزام الزائد نفي إلزام زائد على إلزام الطبيعة ،
بمعنى أن يتعلّق بالمقيّد على تقدير كونه هو المكلّف به في الواقع إلزامان ،
أحدهما بالطبيعة ، والآخر بالخصوصيّة ، ففيه : أنّك قد عرفت عدم قابليّة الخصوصيّة
لتعلّق إلزام مستقلّ بها. وإن أراد به نفي تعلّق إلزام الشارع بالمقيّد الذي يزيد
على الطبيعة في الوجود ليثبت به تعلّقه بالطبيعة ، ففيه : أنّه لا يتمّ إلّا على
القول بالاصول المثبتة ، فتأمّل.
وأمّا ثانيا :
فإنّ أصالة البراءة لو نهضت لنفي التكليف عمّا كانت فيه زيادة كلفة ، لنهضت دليلا
على اعتبار أصل مؤسّس في كتب القوم من الأخذ بالأخفّ عند دوران الأمر بينه وبين
الأثقل ، وإن كان بينهما تباين كلّي ، ولا يقول به المصنّف رحمهالله ، ولذلك لم يفصّل في المتباينين بذلك.
وأمّا ثالثا :
فإنّ مقتضى أدلّة البراءة مثل قوله عليهالسلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» نفي الضيق الحاصل من جهة
الحكم المجهول ، لا من جهة الكلفة الحاصلة في نفس
.................................................................................................
______________________________________________________
المكلّف به.
والفرق بينهما واضح ، لأنّ نفس إلزام المكلّف بشيء ـ سواء كان هذا الشيء في نفسه
خفيفا أم ثقيلا ـ لما كان ضيّقا على المكلّف رفعه الشارع عند الجهل به ، وهو لا
يستلزم نفي التكليف فيما كان الضيق حاصلا من جهة نفس المكلّف به. ومن هنا يظهر أنّ
تمسّك بعضهم بأصالة البراءة فيما لو توقّف الوضوء أو الغسل من الجنابة مثلا على
شراء الماء بأضعاف قيمته ليس في محلّه ، لأنّه من موارد قاعدة الضرر والعسر دون
البراءة ، كما يظهر ممّا قدّمناه.
وكيف كان ،
فالأولى في تقرير وجه النظر ما قرّره بعض مشايخنا من أنّ الطبيعة وإن كانت عين
أفرادها ، وأنّ الخصوصيّة من حيث هي غير قابلة لتعلّق حكم بها ، إلّا أنّه مع
دوران الأمر بين تعلّق التكليف بالطبيعة وتعلّقه بفرد خاصّ منها ، يعدّ العبد في
نظر أهل العرف مكلّفا بالطبيعة يقينا وبالخصوصيّة الخاصّة شكّا ، وإن لم يكن لذلك
أصل وحقيقة عند ذوي الأفهام الدقيقة ، إلّا أنّ المحكّم في أمثال المقام هو العرف
، فكان الأمر بالمقيّد عندهم أمر بمتعدّد ، أعني : الطبيعة وقيدها ، فكلّ منهما في
نظرهم محلّ للتكليف ومورد له ، ولذا تراهم يزعمون في الأوامر المتعلّقة بالطبائع
كون الطبيعة متّصفة بالوجوب العيني والأفراد بالوجوب التخييري العقلي ، وهذا ليس
إلّا مبنيّا على ما ذكرنا من مغايرة الطبيعة للخصوصيّة في نظرهم وإن اتّحدا عند
التحقيق.
فإذا فرض وجود
الطبيعة مع قطع النظر عن الخصوصيّات الخارجة ولو في نظرهم ، وحصل الشكّ في تعلّق
التكليف بها لا بشرط حصولها في ضمن فرد خاصّ أو بشرط حصولها كذلك ، ينحلّ العلم
الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فينفى وجوب المشكوك فيه بالأصل ، التفاتا إلى
ما يقتضيه نظر أهل العرف ، وإغماضا عمّا يقتضيه العقل الدقيق.
ولا بدّ من
الالتزام بذلك ، إذ لولاه لم تجر أصالة البراءة في القسم الأوّل أيضا ، أعني : ما
كان الشرط فيه منتزعا من أمر خارجي كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ،
.................................................................................................
______________________________________________________
لأنّ شرط الصلاة
ليس نفس الوضوء ولا الطهارة الحاصلة منه من حيث هي ، بل الشرط هو وقوع الصلاة في
حال طهارة المصلّي ، وهذه الخصوصيّة متّحدة مع طبيعة الصلاة في الوجود الخارجي ،
فلا تصلح لتعلّق تكليف بها مغايرا للتكليف بالطبيعة كما أسلفناه. ومجرّد وجود منشأ
انتزاع لها غير مجد في المقام ، كما أوضحه المصنّف رحمهالله. فجريان البراءة هنا أيضا لا يتمّ إلّا بالالتزام بما
قدّمناه من المسامحة العرفيّة ، لأنّ العرف هو المحكّم في باب الإطاعة والامتثال.
هذا كلّه فيما دار
الأمر فيه بين التعيين والتخيير العقلي. ومن طريق ما بيّنّاه يظهر أنّ الأمر فيما
دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير الشرعيّ أشكل ، لأنّ أحد طرفي العلم الإجمالي
هناك لما كان هي الطبيعة أمكن أن يقال بكونها متيقّنة والخصوصيّة مشكوكة ،
لتغايرهما ذهنا وإن اتّحدتا وجودا ، فينفى المشكوك فيه بالأصل ، بخلافه هنا ، لأنّ
الترديد والدوران فيه بين تعلّق التكليف بفرد خاصّ وتعلّقه بأفراد مخصوصة على سبيل
التخيير والبدليّة ، فجريان أصالة البراءة في الفرد الخاصّ المعيّن معارض بجريانها
في الواحد المخيّر فيه ، وليس هنا جامع متيقّن يؤخذ به ، وينفى وجوب المشكوك فيه
بالأصل.
وتوضيح ذلك أنّهم
قد اختلفوا في الواجب التخييري على أقوال ، والمتيقّن منها قولان للمعتزلة
والأشاعرة ، لأنّ المعتزلة قد ذهبوا إلى تعلّق الوجوب في الواجب التخييري بكلّ
واحد من فرديه بالاستقلال ، وأنّ الفرق بين وجوب الفردين تخييرا ووجوبهما عينا هو
سقوط التكليف بالإتيان بأحدهما على الأوّل دون الثاني. وذهب الأشاعرة إلى أنّ
الواجب هو الكلّي المنتزع من الفردين ، أعني : مفهوم أحدهما. ونحن قد ذكرنا في
مبحث الواجب التخييري في الفرق بينه وبين العيني كونهما مختلفين بحسب إنشاء الوجوب
، وأنّ إنشاء التخيير بمنزلة العدول عن إنشاء وجوب أحد الفردين المخيّر فيهما إلى
إنشاء وجوب الآخر ، فإذ أخبرنا الشارع بينهما فكأنّه قال : أوجبت عليك هذا بل ذاك
، وهو وإن لم يكن عدولا
.................................................................................................
______________________________________________________
في الحقيقة بحيث
يبقى المعدول عنه بلا حكم ، إلّا أنّه بمنزلة العدول في سقوط وجوب أحدهما بالإتيان
بالآخر ، بخلاف الوجوب العيني كما هو واضح.
فإذا دار الأمر
بين التعيين والتخيير الشرعيّ ، فعلى مذهب المعتزلة ـ بل المختار أيضا ـ لا بدّ من
الاحتياط بالإتيان بمحتمل التعيين ، لعدم وجود قدر مشترك جامع بين طرفي العلم
الإجمالي وجودا أو ذهنا حتّى يؤخذ به وينفى المشكوك فيه بالأصل أمّا على المختار
فواضح ، لما عرفت من اختلاف نفس الإنشاءين ، فنفي أحدهما بالأصل ليس بأولى من نفي
الآخر به. وأمّا على مذهب المعتزلة ، فإنّ وجوب أحد الفردين بالخصوص مباين لوجوب
كلّ منهما مخيّرا فيهما ، فنفي أحدهما أيضا ليس بأولى من نفي الآخر. وعلى
التقديرين لا يحصل القطع بالفراغ من التكليف الثابت إلّا بالإتيان بمحتمل التعيين
، فيجب الإتيان به قضيّة لحكم العقل. نعم ، على مذهب الأشاعرة يكون المقام من قبيل
دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي ، وقد عرفت الكلام فيه. وبالجملة ، إنّ
القول بالاحتياط في المقام على المختار أو على مذهب المعتزلة لا يخلو من قوّة.
نعم ، يمكن أن
يجري هنا أيضا ما تقدّم من المسامحة العرفيّة ، لأنّه مع دوران الأمر بين وجوب
إكرام خصوص زيد وبين وجوب إكرامه أو إكرام عمرو ، يعدّ العبد عرفا مكلّفا بإكرام
أحدهما يقينا وبإكرام خصوص زيد شكّا.
وقد ظهر من جميع
ما قدّمناه أنّ هنا مقامات أربعة : أحدها : الشكّ في الجزئيّة. الثاني : الشكّ في
الشرطيّة التي لها منشأ انتزاع. الثالث : الشكّ في شرطيّة ما كان متّحدا مع
المأمور به ، مع رجوعه إلى الشكّ في التعيين والتخيير العقلي. الرابع : الصورة
بحالها مع رجوع الشكّ إلى الشكّ في التعيين والتخيير الشرعيّ. وقد ظهر أيضا أنّ
الأقرب في الجميع هو القول بالبراءة ، وإن أمكن التفصيل بينها بالقول بالبراءة في
بعضها والاحتياط في الآخر.
ومن هنا يسقط
اعتراضان :
إلزام مغاير لوجوب
أصل الفعل ولو مقدّمة ، فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد.
والحاصل : أنّ أدلّة البراءة من العقل
والنقل إنّما تنفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتّب على
تركه مع إتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلا ؛ فإنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم
المشكوك في وجوبه معذور في ترك التسليم لجهله. وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم
يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتّى يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو
تارك للمأمور به رأسا. وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين لا الأقلّ
والأكثر.
وكأنّ هذا هو السرّ (١٧٤٧) فيما ذكره
بعض القائلين بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة كالمحقّق القمّي رحمهالله
في باب المطلق والمقيّد : من تأييد استدلال العلّامة رحمهالله
في النهاية على وجوب حمل المطلق على المقيّد بقاعدة «الاشتغال» وردّ ما اعترض عليه
بعدم العلم بالشغل حتّى يستدعي العلم بالبراءة ، بقوله :
______________________________________________________
أحدهما : أنّ صاحب
المدارك بعد أن احتاط في التكبير بغير العربيّة ، وفي تقديم لفظ «أكبر» على لفظ «الله»
أورد عليه الوحيد البهبهاني بأنّ الاحتياط هنا لا يجتمع مع قوله بالبراءة في سائر
المقامات من موارد الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة ، لأنّ مقتضاها عدم شرطيّة
العربيّة وتقديم لفظ الجلالة.
وثانيهما : ما
نقله المصنّف رحمهالله عن المحقّق القمّي رحمهالله من قوله بالاحتياط في باب المطلق والمقيّد ، وقوله
بالبراءة في مبحث البراءة والاشتغال. واعترض عليه صاحب الفصول ـ بل يظهر من
المصنّف رحمهالله أيضا ـ بالتنافي بينهما.
ووجه السقوط : عدم
استلزام القول بالبراءة في بعض المقامات القول بها في جميعها ، فتدبّر. نعم ، يرد
عليه ما أشار إليه المصنّف رحمهالله من عدم اجتماع قوله بالاحتياط في مبحث المطلق والمقيّد مع
قوله بالبراءة في المتباينين ، لأنّ غاية ما يقال في الأوّل هو رجوع دوران الأمر
بين التعيين والتخيير إلى المتباينين كما أسلفناه ، وهو لا يقول بالاحتياط فيهما.
١٧٤٧. لا يخفى أنّ ما ذكره مبنيّ على اتّحاد الكلّي مع الفرد ،
وعدم قابليّته
وفيه : أنّ المكلّف به حينئذ هو المردّد
بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا مكلّفون بأحدهما ؛ لاشتغال الذمّة
بالمجمل ، ولا يحصل البراءة إلّا بالمقيّد ـ إلى أن قال ـ : وليس هنا قدر مشترك
يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ؛ لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ
عن الفصل ، ولا تفارق لهما ، فليتأمّل
، انتهى.
هذا ، ولكنّ الإنصاف عدم خلوّ المذكور
عن النظر ؛ فإنّه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلّة البراءة من العقل
والنقل ؛ لأنّ المنفي فيها الإلزام بما لا يعلم ورفع كلفته ، ولا ريب أنّ التكليف
بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق وإن لم يزد
المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ، ولا فرق عند التأمّل
بين إتيان الرقبة الكافرة وإتيان الصلاة بدون الوضوء. مع أنّ ما ذكر ـ من تغاير
منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء واتّحادهما في الرقبة المؤمنة ـ كلام
ظاهري ؛ فإنّ الصلاة حال
الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا في مقابل الفرد الفاقد
للشرط.
وأمّا وجوب إيجاد الوضوء مقدّمة لتحصيل
ذلك المقيّد في الخارج ، فهو أمر يتّفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة ، ونظيره قد
يتّفق في الرقبة المؤمنة حيث إنّه قد يجب بعض المقدّمات لتحصيلها في الخارج ، بل
قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى
______________________________________________________
لتعلّق حكم آخر به
مغاير لحكم الفرد ، كما أوضحناه في الحاشية السابقة. وما ذكره المحقّق القمّي رحمهالله مبنيّ على كون الفصل علّة تامّة لوجود الطبيعة الموجودة في
ضمنه ، وإن كانت موجودة في ضمنه بوجود مغاير لوجوده ، نظرا إلى أنّ المتّصف
بالوجوب الغيري حينئذ هي الحصّة الموجودة من الطبيعة في ضمنه ، دون الحصص الأخر
الموجودة في ضمن أفراد أخر. فالمأمور بعتق المؤمنة حينئذ لا يكون ممتثلا للأمر
بالطبيعة بعتق الكافرة ، لما عرفت من عدم تعلّق الأمر بها في ضمنه وإن كان غيريّا.
وبالجملة ، إنّ الفرق بين ما ذكره المصنّف رحمهالله وما ذكره المحقّق القمّي رحمهالله واضح بأدنى تأمّل.
__________________
الإيمان مع التمكّن
إذا لم يوجد غيرها وانحصر الواجب في العتق. وبالجملة : فالأمر بالمشروط بشىء لا
يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي ، بل قد يتّفق وقد لا
يتّفق. وأمّا الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له ، فالفرق
بين الشروط فاسد جدّا. فالتحقيق : أنّ حكم الشرط بجميع أقسامه واحد ، سواء ألحقناه
بالجزء أم بالمتباينين.
وأمّا ما ذكره المحقّق القمّي رحمهالله
، فلا ينطبق على ما ذكره في باب البراءة والاحتياط من إجراء البراءة حتّى في
المتباينين ، فضلا عن غيره ، فراجع.
وممّا ذكرنا : يظهر الكلام فيما لو دار
الأمر بين التخيير والتعيين ، كما لو دار الواجب في كفّارة رمضان بين خصوص العتق
للقادر عليه وبين إحدى الخصال الثلاث ، فإنّ في إلحاق ذلك بالأقلّ والأكثر ـ فيكون
نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيّد أو المتباينين ـ وجهين بل قولين : من عدم
جريان أدلّة البراءة في المعيّن ؛ لأنّه معارض بجريانها في الواحد المخيّر ، وليس
بينهما قدر مشترك خارجي أو ذهني يعلم تفصيلا وجوبه فيشكّ في جزء زائد خارجي أو
ذهني. ومن أنّ الإلزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة على الإلزام بأحدهما في الجملة ،
وهو ضيق على المكلّف ، وحيث لم يعلم المكلّف بتلك الكلفة فهي موضوعة عن المكلّف
بحكم «ما حجب الله علمه عن العباد» ، وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه بحكم
«الناس في سعة ما لم يعلموا». وأمّا وجوب الواحد المردّد بين المعيّن والمخيّر فيه
فهو معلوم ، فليس موضوعا عنه ولا هو في سعة من جهته.
والمسألة في غاية الإشكال ؛ لعدم الجزم
باستقلال العقل بالبراءة عن التعيين بعد العلم الإجمالي وعدم كون المعيّن المشكوك
فيه أمرا خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ، بل هو
على تقديره عين المكلّف به ، والأخبار غير منصرفة إلى نفي التعيين ؛ لأنّه في معنى
نفي الواحد المعيّن ، فيعارض بنفي الواحد المخيّر ؛ فلعلّ الحكم بوجوب الاحتياط
وإلحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوّة ، بل الحكم في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو
عن إشكال ، لكنّ الأقوى فيه الإلحاق. فالمسائل الأربع في الشرط حكمها حكم مسائل
الجزء ، فراجع.
ثمّ إنّ مرجع الشكّ في المانعيّة (١٧٤٨)
إلى الشكّ في شرطيّة عدمه. وأمّا الشكّ في القاطعيّة ، بأنّ يعلم أنّ عدم الشيء لا
مدخل له في العبادة إلّا من جهة قطعه للهيئة الاتصاليّة المعتبرة في نظر الشارع ،
فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصاليّة وعدم خروج الأجزاء السابقة عن قابليّة
صيرورتها أجزاء فعليّة ، وسيتضح ذلك بعد ذلك إن شاء الله.
ثمّ إنّ الشكّ في
الشرطيّة (١٧٤٩) : قد ينشأ عن الشكّ في حكم تكليفي نفسي ، فيصير أصالة البراءة في
ذلك الحكم التكليفي حاكما على الأصل في الشرطيّة والجزئية ، فيخرج عن موضوع مسألة
الاحتياط والبراءة ، فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم من وجوب ذلك المشكوك (١٧٥٠) في
شرطيّته أو عدم وجوبه.
______________________________________________________
١٧٤٨. قد يتوهّم الفرق بين الشروط والموانع ، بإمكان القول
بالبراءة في الأولى دون الثانية. وسيجيء الكلام فيه في المسألة الثانية ، فانتظره.
١٧٤٩. قد ضرب على قول «الجزئيّة» في بعض النسخ المصحّحة. والوجه
فيه واضح ، لأنّ الأمر بشيء في مركّب إن كان نفسيّا فلا يدلّ على جزئيّته له ، وإن
كان غيريّا فلا يكون نفسيّا ، وإن كان نفسيّا وغيريّا فهو ممتنع ، لعدم إمكان
تصادق الوجوب النفسي والغيري في مورد. وقد حقّق ذلك في مبحث المقدّمة ، وأشار إليه
المصنّف رحمهالله في الجواب عمّا أورده على نفسه. وأمّا مثال تسبّب الشكّ في
الشرطيّة من الشكّ في حكم تكليفي نفسي ، فمثل الشكّ في إباحة المكان في الصلاة أو
لبس الذهب فيها عند من شكّ في جواز اجتماع الأمر والنهي ، أو قال به وشكّ في حكم
تقديم جانب الوجوب أو الحرمة.
١٧٥٠. هذا مجرّد فرض ، لكون الشكّ في حكم تكليفي نفسي موردا
لأصالة البراءة دون الاشتغال ، فتدبّر.
__________________
المصادر
(١) ذخيرة المعاد
: ص ٢٧٣.
(٢) عدّة الاصول ج
٢ : ص ٧٥٣.
(٣) الفصول
الغروية : ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨.
(٤) المدّثّر (٧٤)
: ٣.
(٥) البقرة (٢) :
٢٣٨.
(٦) المزّمّل (٧٣)
: ٢٠.
(٧) الحجّ (٢٢) :
٧٧.
(٨) الفصول
الغروية : ص ٣٥٧.
(٩) الفصول
الغروية : ص ٥١ ـ ٥٠.
(١٠) الفصول
الغروية : ص ٥١ ـ ٥٠.
(١١) القوانين
الاصول : ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦.
وينبغي التنبيه على امور متعلّقة بالجزء
والشرط : الأوّل : إذا ثبت جزئيّة شىء وشكّ في ركنيّته ، فهل الأصل كونه ركنا أو
عدم كونه كذلك أو مبنيّ على مسألة البراءة (١٧٥١) و
الاحتياط في الشكّ في الجزئيّة أو التبعيض بين أحكام الركن ، فيحكم ببعضها وينفى
بعضها الآخر؟ وجوه ، لا يعرف الحقّ منها إلّا بعد معرفة معنى
______________________________________________________
١٧٥١. ربّما يقال : إنّ هذا البناء إنّما يتمّ بالنسبة إلى زيادة
الجزء عمدا دون نقصه أو زيادته سهوا ، لعدم جريان أصالتي البراءة والاشتغال
بالنسبة إلى الجزء المغفول عنه من حيث الزيادة أو النقيصة ، لأخذ الشكّ في
موضوعهما ، فلا تجريان في صورة السهو والغفلة ، كما ستقف على توضيحه. وإن اريد
إجرائها بالنسبة إلى الإعادة بعد الفراغ من العمل الذي وقع فيه السهو ، مع
الالتفات إلى ما وقع فيه من السهو والشكّ في بطلانه به ، يرد عليه : أنّي لا أظنّ
أحدا يقول بالبراءة حينئذ ، لأنّ ثبوت التكليف بالأمر المجمل المحتمل بطلانه بما
وقع فيه من السهو يقتضي اليقين بالبراءة ، وهي لا تحصل إلّا بالإعادة ، فإن جرت
أصالة البراءة من أوّل الأمر وإلّا وجبت الإعادة تحصيلا لليقين بالبراءة.
فإن قلت : كيف
تنكر وجود قول بالبراءة في المقام والمحقّق القمّي رحمهالله يقول بالإجزاء فيما نحن فيه.
قلت : مع ما سيشير
إليه المصنّف رحمهالله من كون مقتضى القاعدة هو البطلان ، أنّ
__________________
الركن ، فنقول : إنّ
الركن في اللغة والعرف معروف
(١٧٥٢) ، وليس له في الأخبار ذكر حتّى يتعرّض لمعناه في زمان صدور تلك الأخبار ،
بل هو اصطلاح خاصّ للفقهاء. وقد اختلفوا في تعريفه (١٧٥٣) بين من قال بأنّه ما
تبطل العبادة بنقصه
______________________________________________________
القول بالإجزاء
هنا مبنيّ على صدق الامتثال بالمأتيّ به ، وأنّه لا امتثال عقيب الامتثال ، وهو
دليل عدم الأمر بالإعادة ، ومعه لا معنى للتمسّك بأصالة البراءة.
١٧٥٢. عن الصحاح والقاموس : ركن الشيء جانبه الأقوى ، وفي العرف
ما يكون به قوام الشيء. ولعلّه المراد أيضا بالجانب الأقوى ، وإن كان الأوّل
بظاهره أخصّ منه ، لعدم صدقه إلّا فيما كان له جانب وطرف. وفي المصباح : «ركن
الشيء جانبه ، فأركان الشيء أجزاء ماهيّته ، والشروط ما توقّف صحّة الأركان عليه»
انتهى. وظاهره كون الركن عبارة عن مطلق الجزء مقابل الشروط.
١٧٥٣. قد حكي هنا تعريفان آخران :
أحدهما : أنّ
الركن ما تقوّمت به الماهيّة ، وهو المطابق لمعناه العرفي. وعليه فغير الركن
بقرينة المقابلة ما لم تنتف الماهيّة بانتفائه. وفيه : أنّ الشارع إذا اعتبر
التركيب بين أجزاء وجعلها شيئا واحدا ، فمقتضى التركيب بينها واعتبار كونها أجزاء
من الكلّ انتفاء الكلّ بانتفاء كلّ واحد منها وإلّا لم يكن جزءا. اللهمّ إلّا أن
يكون المراد بتقوّم الماهيّة تقوّمها في صدق الاسم ، بأن كان الاسم موضوعا للجامع
لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، مع إناطة صدق الاسم بوجود جملة مخصوصة منها ، وهي
المسمّاة بالركن كما ذكره المحقّق القمّي في ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعمّ.
وهذا هو القول
الثاني في الركن ، وهو ما كان مدار صدق اسم المركّب على وجوده. وهو ضعيف أيضا ،
لأنّ النسبة بين صدق الاسم ووجود الأركان في مثل الصلاة عموم من وجه ، لعدم صدقها
بمجرّد وجود الأركان مع الاكتفاء
عمدا وسهوا
، وبين من عطف على النقص زيادته. والأوّل أوفق (١٧٥٤) بالمعنى اللغوي والعرفي ،
وحينئذ فكلّ جزء ثبت في الشرع بطلان العبادة بالاختلال في طرف النقيصة أو فيه وفي
طرف الزيادة ، فهو ركن.
فالمهمّ بيان حكم الإخلال بالجزء في طرف
النقيصة أو الزيادة ، وأنّه إذا ثبت جزئيّته فهل الأصل يقتضي بطلان المركّب بنقصه
سهوا كما يبطل بنقصه عمدا وإلّا لم يكن جزءا؟
______________________________________________________
فيها بمسمّياتها ،
وصدقها مع انتفاء بعض الأركان مع استجماع المأتيّ به لسائر الأجزاء والشرائط.
والكلام في ذلك محرّر في محلّه. مع أنّ محلّ الكلام في المقام لا يختصّ بما كان له
اسم مخصوص من الشارع ، بل أعمّ منه وممّا لم يثبت له اسم مخصوص ، بأن ورد أمر من
الشارع بمركّب ذي أجزاء ، وشكّ في ركنيّة بعض أجزائه ، ولم يثبت من الشارع لهذا
المركّب اسم مخصوص. وعلى تقدير الثبوت أعمّ ممّا كان الاسم مبيّن المفهوم كما على
القول بالأعمّ ، بأن يعلم وضع ألفاظ العبادات للأعمّ ، وشكّ في ركنيّة بعض أجزائها
، أو مجمل المفهوم من رأس كما على القول بالصحيح.
وبالجملة ، إنّ
الكلام في المقام إنّما هو فيما ثبتت جزئيّة شيء وشكّ في ركنيّته أعمّ من المقامات
الثلاث ، لوضوح عدم اختصاص البحث في المقام ـ بل في مطلق الشكّ ـ في الجزئيّة أو
الشرطيّة بالقول بالأعمّ أو الصحيح أو وجود اسم للمركّب وعدمه.
ثمّ إنّ الركن قد
يطلق في غير باب الصلاة على معنى يغاير ما يطلق عليه فيها. قال المحقّق في حجّ
الشرائع : «الوقوف بعرفات ركن من تركه عامدا فلا حجّ له ، وإن تركه ناسيا تداركه
ما دام وقته باقيا ، ولو فاته الوقوف بها اجتزأ بالوقوف بالمشعر» انتهى ، لأنّ
ظاهره الإطلاق على ما تبطل العبادة بالإخلال به عمدا ، وإن لم تبطل بالإخلال به
نسيانا ، فتدبّر.
١٧٥٤. فتكون مناسبة النقل فيه أتمّ وأوضح.
فهنا مسائل ثلاث (١٧٥٥) : بطلان العبادة
بتركه سهوا ، وبطلانها بزيادته عمدا ، وبطلانها بزيادته سهوا.
أمّا الاولى ، فالأقوى فيها (١٧٥٦)
أصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا إلّا أن يقوم دليل عامّ أو خاصّ على الصحّة ،
لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ، فإذا انتفى انتفى المركّب
، فلم يكن المأتيّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده.
______________________________________________________
١٧٥٥. لم يتعرّض للنقص العمدي ، لما أشار إليه بقوله : «وإلّا لم
يكن جزءا». ثمّ إنّ الكلام في كلّ من المسائل الثلاث يقع تارة بحسب الاصول
العمليّة ، واخرى بحسب الاصول اللفظيّة. وسيشير في طيّ كلامه إلى كلّ من المقامين.
١٧٥٦. مرجع البحث هنا إلى أنّ ما ثبتت جزئيّته في حال الالتفات
فهل الأصل يقتضي كونه جزءا مطلقا حتّى بالنسبة إلى حال النسيان والغفلة عنه ،
ليترتّب عليه بطلان الصلاة ووجوب الإعادة في صورة النسيان والغفلة عنه ، أو الأصل
يقتضي اختصاص جزئيّته بحال الالتفات.
ثمّ إنّ الكلام
إنّما هو فيما لو ثبتت الجزئيّة بدليل لبّي كالإجماع أو لفظي مجمل ، وإلّا فلو
ثبتت بمثل قوله : السورة جزء من الصلاة فمقتضى إطلاقه كونه جزءا مطلقا حتّى في
صورة النسيان.
ثمّ إنّه يمكن
تقرير الدليل على المدّعى بعد منع جريان أصالة البراءة في المقام بوجوه. أمّا منع جريانها
فإنّ مقتضاها كما أشرنا إليه في غير موضع هو مجرّد نفي العقاب ، وترتّب العقاب على
المنسيّ فرع توجّه خطاب إلى الناسي ، ولا خطاب عليه ولو بالنسبة إلى خصوص المنسيّ
في ضمن الخطاب بالكلّ ، وهو واضح ، لقبح خطاب الناسي ، ولا بالنسبة إلى الكلّ ،
لفرض النسيان عن بعض أجزائه.
فإن قلت : إنّه مع
نسيان المشكوك فيه يمكن إجراء البراءة بالنسبة إلى الإعادة في الوقت والقضاء في
خارجه ، وهو كاف في المقام.
.................................................................................................
______________________________________________________
قلت : وجوب
الإعادة والقضاء وعدمه فرع كون المشكوك فيه جزءا مطلقا حتّى بالنسبة إلى حال
النسيان وعدمه ، وبعد إثبات الجزئيّة مطلقا كما ستعرفه لا معنى لإجراء البراءة
بالنسبة إليهما.
وأمّا وجوه الدليل
على المدّعى :
فأحدها :
الاستصحاب ، لأنّه إذا دخل وقت الصلاة وهو ملتفت إلى جميع أجزائها وشرائطها فلا
ريب في توجّه الخطاب بالكلّ إليه حينئذ ، فإذا صلّى ونسي المشكوك فيه ثمّ التفت
إليه يمكن استصحاب بقاء الأمر الأوّل ، وهو يقتضي وجوب الإعادة في الوقت والقضاء
في خارجه إن قلنا بكونه تابعا للأداء ، بل يمكن إثبات جزئيّة المشكوك فيه به في
حال النسيان إن قلنا بالاصول المثبتة ، وهو واضح.
وثانيهما : ما
ادّعاه بعض مشايخنا من الإجماع على ركنيّة ما شكّ في ركنيّته.
وثالثها : بناء
العقلاء على الركنيّة في أمثال المقام.
ورابعها : دليل
العقل. وهذا هو العمدة في المقام عند المصنّف رحمهالله ، ولذا اقتصر عليه في مقام الاستدلال ، فنقول في توضيحه :
إنّه لا يخلو : إمّا أن يراد بعدم جزئيّة المشكوك فيه في حال النسيان عدم توجّه
خطاب فعلي بالنسبة إليه ولو في ضمن الخطاب بالكلّ في حال النسيان ، مع الالتزام
بوجود خطاب واقعي فيه منجّز مع الالتفات إليه. وإمّا أن يراد به عدم تعلّق تكليف
بالمنسيّ أصلا ، لا ظاهرا ولا واقعا ولا فعلا وشأنا ، كالبهائم بالنسبة إلى التكاليف
الشرعيّة. وإمّا أن يراد كون الناسي مكلّفا بما عدا الجزء المنسيّ من الأجزاء
والشرائط ، بأن كان ما عداه بدلا عن المجموع المركّب المشتمل على المنسي.
والأوّل عين ما
ادّعيناه ، لأنّ مرادنا بجزئيّة المنسي مطلقا حتّى بالنسبة إلى حال النسيان ليس
توجّه تكليف به إلى الناسي في حال النسيان كما هو واضح.
ويرد على الثاني
أنّ الخصم أيضا لا يلتزم به ، إذ لا مجال لإنكار جزئيّة المنسيّ
.................................................................................................
______________________________________________________
بحسب الواقع ، إذ
لا ريب أنّه كنفس الصلاة ، فكما أنّ التكليف بها في الواقع لا يرتفع بالنسيان أو
النوم أو نحوهما ، كذلك التكليف بأجزائها ، غاية الأمر أن يكون النسيان مانعا من
تنجّز التكليف به لا سببا لارتفاعه في الواقع.
وعلى الثالث أنّه
غير معقول كما أشار إليه المصنّف رحمهالله ، لأنّ الناسي غافل عن نسيانه ، وإنّما يأتي بما يأتي به
بقصد أنّه المكلّف به الواقعي ، فكيف يكلّف بالباقي؟ كيف لا ولو كان ملتفتا إلى
نسيانه لم يكن ناسيا. فالأولى هو الالتزام بسقوط التكليف عن الناسي بالمركّب
الواقعي ، لفرض نسيانه عن بعض أجزائه ، وعدم تكليفه بالباقي ، لعدم تعقّله كما
عرفت. ولا فرق في بطلان كون الباقي بدلا من المركّب الواقعي بين دعوى كونه بدلا
واقعيّا عنه أو بدلا ظاهريّا منه معتبرا في مقام النسيان ، كما يظهر وجهه ممّا
قدّمناه.
نعم ، لو قام دليل
آخر على اقتناع الشارع بالمأتيّ به عن امتثال الواقع ، وإن لم يكن مأمورا به في
الواقع ولا في الظاهر ، من باب إقامة أمر أجنبيّ مقام الواقعي وجعله بدلا منه ،
فلا كلام لنا فيه ، لأنّ الكلام هنا مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجة ، مع أنّه لا
دليل عليه أيضا كما ستعرفه. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ما ذكرنا إنّما يتأتى
بالنسبة إلى الأجزاء دون الشرائط ، لأنّ التكليف بالباقي عند نسيان بعض أجزاء
المركّب إنّما لا يصحّ لكون التكليف مشروطا بالالتفات ، والفرض أنّ الناسي إنّما
يأتي بالباقي بقصد التمام. وهذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأجزاء دون الشروط ، لعدم
اعتبار الالتفات إلى كون المأتيّ به جامعا للشروط المعتبرة فيه في حصول الامتثال
به ، ولذا لو غفل عن كونه متوضّأ فصلّى ثمّ التفت إليه صحّت صلاته ، بخلاف ما لو
صلّى راكعا وساجدا فيها من دون قصد إليهما ، لأجل غفلته عن كون الركوع والسجود
جزءين من الصلاة ، فلا بأس حينئذ أن يجعل الشارع بعض الشروط شرطا في حال الالتفات
دون النسيان.
أمّا عموم جزئيّته لحال الغفلة ؛ فلأنّ
الغفلة لا توجب تغيير المأمور به ؛ فإنّ المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن
السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجّه إليه قبل الغفلة ، ولم يحدث بالنسبة
إليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ؛ لأنّه غافل عن غفلته ، فالصلاة المأتيّ بها
من غير سورة غير مأمور بها بأمر أصلا (١٧٥٧). غاية الأمر عدم توجّه الأمر
بالصلاة مع السورة إليه ؛ لاستحالة تكليف الغافل ، فالتكليف ساقط عنه ما دام
الغفلة ، نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام عنها ، فإذا التفت إليها والوقت باق
وجب عليه الاتيان بها بمقتضى الأمر الأوّل.
فإن قلت : عموم جزئيّة الجزء لحال النسيان
يتمّ فيما لو ثبت (١٧٥٨) الجزئيّة بمثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» دون
ما لو قام الإجماع مثلا على جزئيّة شىء في الجملة واحتمل اختصاصها بحال الذكر ،
كما انكشف ذلك بالدليل في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحّة الصلاة المنسيّ فيها
بعض الأجزاء على وجه يظهر من الدليل كون صلاته تامّة ، مثل قوله عليهالسلام
: «تمّت صلاته ، ولا يعيد» ، وحينئذ فمرجع الشكّ إلى الشكّ في الجزئيّة حال
النسيان ، فيرجع فيها إلى البراءة أو الاحتياط على الخلاف. وكذا لو كان الدالّ على
الجزئيّة حكما تكليفيّا مختصّا بحال الذكر وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا ، فإنّه
يقتصر في تقييده على مقدار قابليّة دليل التقييد أعني حال الذكر ؛ إذ لا تكليف حال
الغفلة ، فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي نظير الشرط المنتزع منه في اختصاصه
بحال الذكر كلبس الحرير ونحوه.
قلت : إن اريد بعدم جزئيّة ما ثبت
جزئيّته في الجملة في حقّ الناسي إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه ، فهو
غير قابل لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى
______________________________________________________
١٧٥٧. لا بالأمر الأوّل ولا بأمر آخر.
١٧٥٨. لأنّ إطلاق الخطاب الوضعي يقتضي الجزئيّة مطلقا حتّى في
صورة النسيان ، بخلاف ما لو ثبتت الجزئيّة بالإجماع أو بخطاب تكليفي ، لأنّ الأوّل
حيث كان لبيّا يقتصر فيه على المتيقّن ، وهو كون المشكوك فيه جزءا في حال الالتفات
__________________
المغفول عنه إيجابا
وإسقاطا. وإن اريد به إمضاء الخالي عن ذلك (١٧٥٩) الجزء من الناسي بدلا عن العبادة
الواقعيّة ، فهو حسن ؛ لأنّه حكم في حقّه بعد زوال غفلته ، لكن عدم الجزئيّة بهذا
المعنى عند الشكّ ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البراءة والاحتياط ؛
لأنّ هذا المعنى حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البراءة بل الأصل فيه العدم
بالاتّفاق. وهذا معنى ما اخترناه من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا بمعنى عدم
كونها مأمورا بها ولا مسقطا عنه.
وممّا ذكرنا ظهر أنّه ليس هذه المسألة
من مسألة اقتضاء الأمر للإجزاء في شىء ؛ لأنّ تلك المسألة مفروضة فيما إذا كان المأتيّ
به مأمورا به بأمر شرعيّ ، كالصلاة مع التيمّم أو بالطهارة المظنونة ، وليس في
المقام أمر بما أتى به الناسي أصلا.
وقد يتوهّم : أنّ في المقام أمرا عقليّا
؛ لاستقلال العقل بأنّ الواجب في حقّ الناسي هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في
إتيان المأمور به بالأمر العقلي. وهو فاسد (١٧٦٠) جدّا ، لأنّ العقل ينفي تكليفه
بالمنسي ولا يثبت له تكليفا بما عداه من الأجزاء ، وإنّما يأتي بها بداعي الأمر
بالعبادة الواقعيّة غفلة عن عدم كونه إيّاها ؛ كيف والتكليف عقليّا كان أو شرعيّا
يحتاج إلى الالتفات ، وهذا الشخص غير ملتفت إلى أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلّف بما
عداه.
______________________________________________________
خاصّة. والثاني من
حيث اختصاص التكاليف بحال الالتفات لا يشمل صورة النسيان.
١٧٥٩. وإن لم يكن مأمورا به أصلا ومشمولا للأمر من رأس. ولا
منافاة بينه وبين رضا الشارع به بدلا من الواقع لمصلحة راعاها فيه.
١٧٦٠. حاصله : أنّ غاية ما يدلّ عليه العقل هو العذر في ترك تمام
المركّب المنسيّ بعض أجزائه ، لا الأمر بالإتيان بالباقي. ويدلّ عليه أيضا أنّ
الباقي لو كان مأمورا به فلا بدّ أن يكون مأمورا به بأمر ظاهري ، ولا بدّ في
امتثال الأمر الظاهري من الإتيان بالمأمور به بعنوان كون الواقع مجهولا ، لأخذ
الجهل بالواقع في موضوعه ، ولا أقلّ من اعتبار عدم الإتيان به بعنوان كونه مأمورا
به في الواقع ، والمفروض أنّ الناسي إنّما يأتي بالباقي بعنوان كون المأتيّ به
مأمورا به في الواقع. ومع التسليم نمنع كون الأمر الظاهري مفيدا للإجزاء كما قرّر
في محلّه.
ونظير هذا التوهّم توهّم أنّ ما يأتي به
الجاهل المركّب باعتقاد أنّه المأمور به ، من باب إتيان المأمور به بالأمر العقلي.
وفساده يظهر ممّا ذكرنا بعينه.
وأمّا ما ذكره من أنّ دليل الجزء قد
يكون من قبيل التكليف ، وهو ـ لاختصاصه بغير الغافل ـ لا يقيّد
الأمر بالكلّ إلّا بقدر مورده ، وهو غير الغافل ، فإطلاق الأمر بالكلّ المقتضي
لعدم جزئيّة هذا الجزء له بالنسبة إلى الغافل بحاله ، ففيه : أنّ التكليف المذكور
إن كان تكليفا نفسيّا ، فلا يدلّ على كون متعلّقه جزءا للمأمور به حتّى يقيّد به
الأمر بالكلّ ، وإن كان تكليفا غيريّا فهو كاشف عن كون متعلّقه جزءا ؛ لأنّ الأمر
الغيري إنّما يتعلّق بالمقدّمة ، وانتفائه بالنسبة إلى الغافل لا يدلّ على نفي
جزئيّته في حقّه ؛ لأنّ الجزئيّة غير مسبّبة (١٧٦١) عنه بل هو مسبّب عنها.
______________________________________________________
١٧٦١. هذا واضح ، لأنّ وجوب الفعل للغير والأمر به لذلك يكشف عن
أخذ هذا الفعل في الغير شطرا أو شرطا قبل تعلّق الأمر الغيري به ، فلا ينوط أخذه
في الغير على أحد الوجهين على وجود الأمر ، فإذا انتفى الأمر لأجل النسيان تبقى
الجزئيّة أو الشرطيّة بحالها.
لا يقال : إنّ
انتفاء الأمر وإن لم يستلزم انتفاء الجزئيّة أو الشرطيّة ، إلّا أنّه لا يثبت
حينئذ بقاء أحد الأمرين أيضا ، لاحتمال اختصاص جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته بحال
الالتفات.
لأنّا نقول : إنّ
الجواب عن هذا قد ظهر ممّا أجاب به المصنّف رحمهالله عمّا أورده على نفسه ، لما حقّقه هناك من عدم تعقّل كون
الباقي في حال النسيان مأمورا به بالأمر بالمركّب ولا بأمر آخر ، إلّا على وجه
الإمضاء والرضا بالبدليّة الذي لا دليل عليه.
وهذا الجواب وإن
كان آتيا في كلّ ما ثبتت الجزئيّة فيه بالإجماع أو بخطاب تكليفي ، إلّا أنّ
المصنّف رحمهالله أشار هنا بقوله : «وأمّا ما ذكره من أنّ دلالة ...» إلى
__________________
ومن ذلك يعلم الفرق (١٧٦٢) بين ما نحن
فيه وبين ما ثبت اشتراطه من
______________________________________________________
جواب آخر عمّا
ثبتت الجزئيّة بخطاب تكليفي ، فهو رحمهالله إمّا قد أجاب أوّلا بجواب مشترك بين ما ثبتت الجزئيّة
بالإجماع أو بخطاب تكليفي. ثمّ أجاب عمّا تثبت الجزئيّة بخطاب تكليفي بعدم استلزام
انتفاء الأمر لانتفاء الجزئيّة حال النسيان. نعم ، إنّ وجه عدم التعقّل إنّما
يتأتّى في الأجزاء دون الشروط ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «أمّا الاولى فالأقوى
فيها ...».
ثمّ إنّ جميع ما
قدّمناه إنّما هو فيما كان الأمر بالجزء والشرط إلزاميّا غيريّا. وإن كان إرشاديّا
فدلالته على جزئيّة متعلّقه أو شرطيّته في الواقع من دون مدخليّة الالتفات وعدمها
واضحة ، فتدبّر.
١٧٦٢. وتحقيق المقام هو الفرق بين ما ثبتت الشرطيّة لأجل القول
بعدم اجتماع الأمر والنهي فيما تعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر ، واجتمعا في
مورد مع تعدّد الجهة ، وبين ما ثبتت الشرطيّة لأجل القول بدلالة النهي على الفساد
في العبادات ، فيما تعلّق الأمر بعنوان كلّي والنهي ببعض أفراده ، أو دلّ الدليل
بأمر غيري على أخذ شيء في المأمور به شطرا أو شرطا ، بكون مقتضى الأوّل هو القول
بالشرطيّة حين الالتفات ، ومقتضى الثاني هو القول بالشرطيّة في الواقع. وذلك لأنّه
لا ريب في اختصاص الأحكام التكليفيّة بحال الالتفات ، فإذا قلنا باشتراط إباحة
المكان في الصلاة لأجل القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، فلا بدّ من تخصيص
الشرطيّة بحال الالتفات إلى النهي دون الغفلة عنه ، ومرجعه إلى تقييد إطلاق وجوب
الصلاة بحال الالتفات إلى النهي ، بخلاف ما لو ورد الأمر بالصلاة ، والنهي عن
إيقاعها في مكان مغصوب ، لكونه من قبيل المطلق والمقيّد ، وحكمهما كون المقيّد
مقيّدا لموضوع المطلق ، فلا يرتفع التقييد بارتفاع النهي ، لأنّه إذا فرض كون
النهي غيريّا وكاشفا عن أخذ عدم الخصوصيّة الملحوظة في المنهيّ عنه في موضوع
الدليل المطلق ، فهو يستلزم كون متعلّق الأمر في المطلق هي الطبيعة
الحكم التكليفي
(١٧٦٣) كلبس الحرير ؛ فإنّ الشرطيّة مسبّبة عن التكليف ـ عكس ما نحن فيه ـ ،
فينتفي بانتفائه. والحاصل أنّ الأمر الغيري بشيء لكونه جزءا وإن انتفى في حقّ
الغافل عنه من حيث انتفاء الأمر بالكلّ في حقّه ، إلّا أنّ الجزئيّة لا تنتفي
بذلك.
وقد يتخيّل : أنّ أصالة العدم على الوجه
(١٧٦٤) المتقدّم وإن اقتضت ما ذكر ، إلّا أنّ استصحاب الصحّة حاكم عليها. وفيه :
ما سيجيء في المسألة الآتية : من فساد التمسّك به في هذه المقامات ، وكذا التمسّك
بغيره ممّا سيذكر هناك.
فإن قلت : إنّ الأصل الأوّلي وإن كان ما
ذكرت إلّا أنّ هنا أصلا ثانويّا يقتضي إمضاء ما يفعله الناسي خاليا عن الجزء
والشرط المنسيّ عنه وهو قوله صلىاللهعليهوآله
: «رفع (١٧٦٥) عن امّتي تسعة : الخطأ والنسيان ...»
، بناء على أنّ المقدّر ليس (١٧٦٦) خصوص المؤاخذة ، بل جميع الآثار الشرعيّة
المترتّبة على الشيء المنسي لو لا النسيان ؛ فإنّه لو ترك السورة لا للنسيان
يترتّب حكم الشارع عليه بالفساد ووجوب الإعادة ، وهذا مرفوع مع ترك السورة نسيانا.
وإن شئت قلت : إنّ جزئيّة السورة مرتفعة حال النسيان.
______________________________________________________
المقيّدة في
الواقع. ونحوه الكلام فيما دلّ الدليل بالأمر الغيري على أخذ شيء في شيء شطرا أو
شرطا ، إذ لا بدّ حينئذ أن يكون المرتفع بسبب نسيان الشرط هو الأمر المتعلّق به
دون شرطيّته.
١٧٦٣. يعني : النفسي منه.
١٧٦٤. يعني : أصالة عدم إمضاء الشارع ، واكتفائه بما أتى به
الناسي في إثبات عموم الجزئيّة.
١٧٦٥. قد استدلّ به الشيخ في محكيّ المبسوط على عدم وجوب الإعادة
على من نسي نجاسة ثوبه أو بدنه.
١٧٦٦. إمّا لتبادر العموم من نفس الرواية ، أو بضميمة رواية
المحاسن المتقدّمة في الشبهة البدويّة التحريميّة ، لأنّ استدلال الإمام فيها
بالنبويّ على عدم
قلت بعد تسليم إرادة (١٧٦٧) رفع جميع
الآثار : إنّ جزئيّة السورة (١٧٦٨) ليست من الأحكام المجعولة لها شرعا ، بل هي
ككلّية الكلّ ، وإنّما المجعول الشرعيّ وجوب الكلّ ، والوجوب مرتفع حال النسيان
بحكم الرواية ، ووجوب الإعادة بعد التذكّر مترتّب على الأمر الأوّل ، لا على ترك
السورة.
______________________________________________________
لزوم الحلف
المستكره عليه يدلّ على عدم اختصاصه بالأحكام الطلبيّة ، وكونه أعمّ منها ومن
الوضعيّة.
١٧٦٧. فإن قلت : كيف تدّعي أنّ المقدّر هو خصوص المؤاخذة ،
والنبويّ وارد في مقام بيان الامتنان على هذه الأمّة ، وليس في رفع مؤاخذة الامور
التسعة منّة عليهم ، لكونها مرفوعة بحكم العقل عن سائر الأمم أيضا؟
قلت : مع منع قبح
المؤاخذة على جميع الامور التسعة ، لعلّ المقصود رفع مؤاخذة الجميع باعتبار
المجموع ، إنّه يحتمل أن يكون المرفوع عنهم هو وجوب المحافظة على الوقوع فيها ،
بأن يتذكّر محفوظه مرارا لئلّا ينساه ، ويحافظ على مقدّمات سائر الامور التسعة
لئلّا يقع فيه. ولعلّ هذه المحافظة كانت واجبة على سائر الأمم ، وكانوا مؤاخذين
بتركها ، فرفع وجوبها عن هذه الأمّة امتنانا عليهم. وهذا وإن كان خلاف الظاهر ،
إلّا أنّ الحمل على إرادة العموم أبعد منه.
وأمّا رواية
المحاسن المتقدّمة في الحاشية السابقة ، فمع اختصاصها بالثلاثة من التسعة ، مخالفة
لمذاهب الإماميّة ، فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك باطل عندنا مع
الاختيار أيضا ، وظاهر الرواية بطلانه من جهة الإكراه لا من حيث هو. وقد تقدّم شطر
من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الشبهة البدويّة التحريميّة.
١٧٦٨. توضيحه : أنّ الشارع إذا أمر بامور متعدّدة مرتّبة مرتبطة
في دخول كلّ واحد منها في المراد ، بأن كان المطلوب الإتيان بالمجموع من حيث هو لا
كلّ واحد بنفسه ، فالعقل يأخذ هذه الامور ويلاحظها تارة من حيث الإتيان بها على
نحو ما أمر به الشارع فيصفها بالصحّة ، واخرى من حيث الإخلال ببعضها فيصفها
ودعوى : أنّ ترك السورة (١٧٦٩) سبب لترك
الكلّ الذي هو سبب وجود الأمر الأوّل ؛ لأنّ عدم الرافع من أسباب البقاء ، وهو من
المجعولات القابلة للارتفاع في الزمان الثاني ، فمعنى رفع النسيان رفع ما يترتّب
عليه وهو ترك الجزء ، ومعنى رفعه رفع ما يترتّب عليه وهو ترك الكلّ ، ومعنى رفعه
رفع ما يترتّب عليه وهو وجود الأمر في الزمان الثاني. مدفوعة : بما تقدّم في بيان
معنى الرواية في الشبهة التحريميّة في الشكّ في أصل التكليف من أنّ المرفوع في
الرواية الآثار الشرعية الثابتة لو لا
______________________________________________________
بالفساد ، وثالثة
من حيث أمر الشارع بها مرتّبة ، وكون دخول كلّ واحد في المراد موقوفا على دخول
الآخر ، فيصف كلّ واحد منها بالجزئيّة والمجموع بالكلّية.
فهذه الامور
اعتباريّة عقليّة منتزعة ممّا ذكرناه ، وليست بمجعولة للشارع ، حتّى لو قلنا بكون
الأحكام الوضعيّة مجعولة لا نسلّم كون هذه أيضا مجعولة ، ولذا ترى أنّ العضدي مع
قوله بكون الوضعيّة مجعولة ادّعى كون الصحّة والفساد من الامور الاعتباريّة
العقليّة. فالحكم بارتفاع الأمر المنسيّ لأجل النسيان ، الظاهر في كون المرتفع
أمرا شرعيّا أو من الآثار الشرعيّة المرتّبة عليه ، لا يشمل ارتفاع الامور
المذكورة. وكما أنّ النبويّ لا يدلّ على ارتفاع الآثار العقليّة ، كذلك لا يدلّ
على ارتفاع الآثار الشرعيّة المرتّبة على موضوع العمد ، لأنّ ارتفاعها في صورة
النسيان إنّما هو لأجل ارتفاع موضوعها لا لأجل حكم الشارع به ، كما نبّه عليه
المصنّف رحمهالله في الشبهة التحريميّة.
وعلى القول
بدلالته على ارتفاع الجزئيّة فيما نحن فيه ، فهل هو يدلّ على ارتفاع الجزئيّة فيما
زاد أو نقص في أجزاء المركّب اضطرارا ، كما إذا انحنى إلى حدّ الركوع اضطرارا ، أو
ترك إحدى السجدتين لازدحام الناس مثلا ، وكذا فيما ترك الجزء لأجل نسيان الجزئيّة
لا لنفس الجزء؟ فيه وجهان ، من عموم اللفظ ، ومن عدم ظهور التزام الأصحاب به.
١٧٦٩. حاصله : أنّ النبويّ مع تسليم ظهوره في نفي الآثار
الشرعيّة خاصّة
النسيان ، لا الآثار
الغير الشرعية ولا ما يترتّب على هذه الآثار من الآثار الشرعيّة. فالآثار المرفوعة
في هذه الرواية نظير الآثار الثابتة للمستصحب (١٧٧٠) بحكم أخبار الاستصحاب في
أنّها هي خصوص الشرعيّة المجعولة للشارع دون الآثار العقليّة والعاديّة ودون ما
يترتّب عليها من الآثار الشرعيّة.
______________________________________________________
يشمل نفي الآثار
الشرعيّة التي تترتّب على المنسيّ بلا واسطة أو معها ولو بوسائط ، وهو كاف في
إثبات المدّعى.
١٧٧٠. لا يخفى أنّ المراد بالآثار المرفوعة هنا والآثار الثابتة
للمستصحب وإن كان هو الآثار الشرعيّة الثابتة لموضوعاتها بلا واسطة أمر عادي أو
عقلي ، إلّا أنّ طريق إثبات ذلك في المقامين مختلف ، لأنّ حمل النبويّ على إرادة
رفع الآثار المذكورة إنّما هو من جهة أنّ حمله على ظاهره مستلزم للكذب ، لفرض عدم
ارتفاع الامور التسعة عن هذه الأمّة ، فلا بدّ أن يكون المراد رفع آثارها ، لكن لا
مطلقا بل الشرعيّة منها خاصّة ، لأنّ المراد بها لو كان ما يشمل العاديّة
والعقليّة لزم الكذب أيضا ، لفرض عدم ارتفاع هذه الآثار أيضا ، فلا بدّ أن يكون
المراد بها الشرعيّة خاصّة ، لكن لا مطلقا بل ما كان من الآثار الشرعيّة مرتّبا
على موضوعاتها بلا واسطة أمر عادي أو عقلي لو لا الامور التسعة المذكورة ، لأنّك
بعد ما عرفت من عدم شمول النبويّ للآثار العقليّة والعاديّة ، فلا يعقل شموله
للآثار الشرعيّة المرتّبة على موضوعاتها بواسطة أحد الأمرين ، لاستحالة قيام العرض
بلا محلّ ، ففرض شموله للآثار الشرعيّة المذكورة فرع شموله لموضوعاتها.
وأمّا وجه تخصيص
الآثار الثابتة للمستصحب بالآثار الشرعيّة الثابتة له بلا واسطة أمر عقلي أو عادي
، فإنّ المراد بأخبار عدم جواز نقض اليقين بالشكّ بعد فرض انتقاض اليقين بالشكّ
بالضرورة ، هو جعل المتيقّن في زمان الشكّ ، فإن كان المتيقّن حكما شرعا فهو
المجعول في زمان الشكّ. وإن كان من الموضوعات الخارجة فلا بدّ أن يكون المراد
بجعلها جعل آثارها الشرعيّة ، لعدم قابليّة نفس
نعم ، لو صرّح الشارع بأنّ حكم نسيان
الجزء الفلاني مرفوع أو أنّ نسيانه كعدم نسيانه أو أنّه لا حكم لنسيان السورة مثلا
، وجب حمله تصحيحا (١٧٧١) للكلام على رفع الإعادة وإن لم يكن أثرا شرعيّا ، فافهم.
وزعم بعض المعاصرين (١٧٧٢)
______________________________________________________
الموضوعات الخارجة
ولا آثارها العقليّة والعاديّة لجعل الشارع ، ولا آثارها الشرعيّة المرتّبة عليها
بواسطة أحد الأمرين ، لما عرفت من استحالة قيام العرض بلا محلّ ، ففرض شمولها لهذه
الآثار فرع شمولها للآثار العاديّة والعقليّة أيضا ، وهو خلاف الفرض. نعم ، لو
قلنا باعتبار الاستصحاب من باب العقل لا يفرّق بين آثار المستصحب حينئذ كما سيجيء
في محلّه.
١٧٧١. فيه نظر ، لمنع تعيّن حمله على رفع الإعادة التي هي من
الآثار العقليّة ، لأنّه إن اريد به حمله على رفعها مع فرض بقاء الأمر الأوّل فهو
غير معقول. وإن اريد به حمله على رفعها مع فرض ارتفاع الأمر الأوّل ، نمنع تعيّن
حمله حينئذ على إرادة رفع وجوب الإعادة الذي هو من الآثار العقليّة ، لأنّ ارتفاع
وجوبها حينئذ مستند إلى ارتفاع الأمر الأوّل لا إلى رفع الشارع ، بل المتعيّن
حينئذ حمله على إرادة رفع الأمر الأوّل ، لأنّ بقائه إذا كان شرعيّا ـ كما صرّح به
المصنّف رحمهالله كان رفعه أيضا شرعيّا ، وإن كان بواسطة أمر عقلي وهو ترك
الكلّ.
١٧٧٢. هو صاحب الفصول ، قال في مبحث البراءة والاشتغال : «إنّ
المستفاد من أدلّة البراءة إنّما هو مجرّد نفي الحكم لا إثبات لوازمه العاديّة ،
ككون الماهيّة المجعولة معرّاة عن اعتبار ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، فلا يصلح دليلا
على نفي الجزئيّة والشرطيّة ليتعيّن به الماهيّة المخترعة ، كما هو الثمرة في
الاستدلال بالأصل». إلى أن قال : «نعم ، لا يبعد دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب
على أصالة عدم الزيادة المشكوك فيها في المقام ، لا باعتبار حجب العلم أو عدم
العلم بالتكليف المشكوك فيه ، ليتوجّه عليه دعوى عدم الحجب فيه بالنظر إلى الظاهر
،
الفرق بينهما
(١٧٧٣) حيث حكم في مسألة البراءة والاشتغال في الشكّ في الجزئيّة : بأنّ أصالة عدم
الجزئيّة لا يثبت بها ما يترتّب عليه من كون المأمور به هو الأقلّ ؛ لأنّه لازم
غير شرعيّ. أمّا رفع الجزئيّة الثابتة بالنبويّ فيثبت به كون المأمور به هو
الأقلّ. وذكر في وجه الفرق ما لا يصلح له من أراده راجعه فيما ذكره في أصالة
العدم. وكيف كان ، فالقاعدة الثانويّة في النسيان غير ثابتة.
نعم يمكن دعوى القاعدة الثانويّة في
خصوص الصلاة من جهة (١٧٧٤) قوله عليهالسلام
:
______________________________________________________
تحصيلا ليقين
البراءة كما في سائر الأحكام التكليفيّة الظاهريّة ، بل باعتبار دلالتها على نفي
الجزئيّة والشرطيّة ممّا شكّ في جزئيّته أو شرطيّته من حيث حجب العلم عنها ظاهرا
وواقعا ، إذ ليس في وجوبها من باب المقدّمة تحصيلا ليقين البراءة دلالة على إثبات
الجزئيّة أو الشرطيّة للواجب مطلقا. فإذا ثبت بعموم الروايات المذكورة سقوط اعتبار
جزئيّته أو شرطيّته في الظاهر حصل العلم بالبراءة بدونه في الظاهر ، فيسقط اعتبار
كونه مقدّمة ، وهل هذا إلّا كسقوط اعتبار جزئيّة ما عدا الأركان في حقّ الناسي ،
وشرطيّة بعض الشرائط ـ كطهارة البدن واللباس ـ بالنسبة إلى الجاهل؟» انتهى.
وقد نقلنا ما ذكره
في فصل عقده لبيان أصالة العدم في المسألة الاولى من مسائل الشكّ في الجزئيّة عند
شرح قول المصنّف رحمهالله «فلولا عدوله عنه
في باب البراءة والاحتياط من الأدلّة العقليّة» إلى آخر ما ذكره. وهو رحمهالله في ذلك الفصل وإن لم يكن في صدد بيان الفرق بين مقتضى
الاستصحاب والنبويّ ، بل في مقام بيان الفرق بين القول باعتبار أصالة العدم لأجل
الاستصحاب ، وبين القول باعتبارها من باب أخبار البراءة ، إلّا أنّ ما نسبه إليه
المصنّف رحمهالله يندرج فيه ، وهو رحمهالله قد عدل هناك عمّا نسبه إليه المصنّف رحمهالله هنا ، فراجع ولاحظ.
١٧٧٣. يعني : بين الاستصحاب والنبويّ.
١٧٧٤. هنا بحث ، لأنّه إن أراد بتأسيس الأصل بالأخبار المذكورة
في خصوص
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
الصلاة إثبات كون
ما عدا الجزء المنسيّ هو المأمور به فقد اعترف بعدم تعقّله. وإن أراد به إثبات كون
المأتيّ به بدلا من المأمور به في الواقع وإن لم يتعلّق به أمر أصلا ، كما هو
مقتضى ما حقّقه في المقام ، فهو مخالف لظاهر قوله عليهالسلام : «لا تعاد» و «قد أتممت» ونحوهما في الأخبار المذكورة ،
لظهوره في كون المأتيّ به مأمورا به بالخصوص ، مع أنّ الأمر بما عدا المنسيّ لو لم
يكن معقولا لم يقع نظيره في الشرع ، وقد وقع ، كما لو توضّأ بقصد الندب لأجل اعتقاده
بعدم دخول وقت الصلاة الواجبة ، ثمّ انكشف خلافه ووقوع الوضوء فيه ، لأنّ اعتقاد
كون المأتيّ به هو تمام المأمور به الواقعي فيما نحن فيه لو كان مانعا من تعلّق
الأمر به ، كان اعتقاد استحباب الوضوء مانعا من تعلّق الأمر الإلزامي به أيضا ، مع
عدم خدشة أحد في صحّته أصلا. مضافا إلى أنّ ما عدا المنسيّ لو لم يكن مأمورا به ،
ومع ذلك كان مسقطا عن الواقع ، ولو مع انكشاف الخلاف قبل خروج الوقت ، لزم منه
تقويت مصلحة الواقع عن المكلّف من دون تداركها بشيء ، وهو خلاف اللطف ، ومناف
للغرض المقصود من التكليف.
ويؤيّده أيضا حكم
الشارع بالإعادة عند نسيان بعض الأجزاء دون بعض ، إذ لو لم يكن المأتيّ به مأمورا
به في صورة عدم وجوب الإعادة لم يكن لهذا التفصيل وجه ، فهذا كلّه يكشف عن كفاية
مجرّد مطابقة المأتيّ به للواقع في صحّة العبادة ، وعدم كون الالتفات إلى كون
المأتيّ به هو المأمور به شرطا في صحّة تعلّق الأمر به ، كما هو مبنى عدم
المعقوليّة فيما نحن فيه.
والجواب عنه أنّ
اشتراط الالتفات في تنجّز التكليف عقلي لا يمكن دفعه بظواهر الأخبار على تقدير
تسليم ظهورها في المدّعى. ومسألة الوضوء إن تمّت إجماعا نقول فيها بنظير ما قلناه
فيما نحن فيه ، من كون المأتيّ به بدلا من الواقع لا مأمورا به كذلك. وأمّا لزوم
خلاف اللطف فهو واضح الاندفاع ، لاحتمال تضمّن المأتيّ به مصلحة متداركة وإن لم
يكن مأمورا به فعلا ، لانتفاء شرط تنجّز
«لا تعاد الصلاة
(١٧٧٥) إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»
، وقوله عليهالسلام
في مرسلة سفيان : «يسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة ونقيصة» وقوله عليهالسلام
في من نسي الفاتحة : «أليس قد أتممت الركوع والسجود» ، وغيره.
ثمّ إنّ الكلام في الشرط (١٧٧٦) كالكلام
في الجزء في الأصل الأوّلي والثانوي المزيّف والمقبول ، وهو غاية المسئول.
______________________________________________________
التكليف فيه. ومن
هنا يظهر ضعف التأييد المذكور أيضا ، لاحتمال سقوط الإعادة في بعض الموارد لأجل
تضمّن المأتيّ به المصلحة المتداركة كما لا يخفى.
١٧٧٥. هذا وارد لبيان حكم النقيصة نسيانا ، فلا يشمل الزيادة
مطلقا والنقيصة عمدا. أمّا الأوّل فلعدم تعقّل الزيادة في أكثر الامور المذكورة
فيه ، ووحدة السياق تقضي باشتراك الجميع في جهة الاقتضاء للإعادة. وأمّا الثاني
فإنّ النقص العمدي لو لم يكن مبطلا لم يكن الجزء جزءا وكذا الشرط شرطا. وسيجيء
استيفاء الكلام فيما يتعلّق بهذه الرواية.
١٧٧٦. قد اشتهر في الكتب الفقهيّة تقسيم الشرط إلى واقعي وعلمي
وذكري. وقد يطلق الأوّل في مقابل الأخيرين ، وقد يطلق في مقابل أحدهما. والمراد
بالأوّل أن يكون الشرط بحيث يبطل المشروط بالإخلال به مطلقا ، سواء كان مع العلم
والتذكّر أم مع الجهل والغفلة ، كالطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة. وبالثاني
ما لا يبطل المشروط بالإخلال به عن جهل ، كالطهارة من الخبث في الجملة بالنسبة إلى
الصلاة. وبالثالث ما لا يبطل المشروط بالإخلال به عن غفلة ، كإباحة المكان بالنسبة
إلى الصلاة ، بناء على صحّة الصلاة في المكان المغصوب مع الغفلة عن كونه مغصوبا.
وتحقيق المقام
يقتضي بيان صور المسألة ، وهي أربع :
إحداها : أن يكون
كلّ من دليل المشروط والشرط مطلقين شاملين لصور العلم بالشرط والجهل به والتذكّر
له والغفلة عنه ، بأن قال الشارع : (أَقِمِ الصَّلاةَ) ،
.................................................................................................
______________________________________________________
بناء على كون
ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ، وقال : لا صلاة إلّا بطهور لأنّ إطلاق دليل الشرط
يقتضي كونه شرطا مطلقا ، ولا يعارضه إطلاق دليل المشروط حتّى يقال بأنّ المتيقّن
منه تقييد إطلاقه بالنسبة إلى حالتي العلم والتذكر خاصّة ، لحكومة إطلاق دليل
الشرط على إطلاق دليل المشروط.
الثانية : أن يكون
إطلاق الدليل في جانب الشرط دون المشروط. فهي أولى من سابقتها في كون الشرط فيها
واقعيّا ، لسلامة إطلاق دليله من معارضة إطلاق دليل المشروط.
الثالثة : عكس
سابقتها ، بأن كان إطلاق الدليل في جانب المشروط ، بأن كان الشرط ثابتا بدليل لبّي
أو وقع في سياق الأمر ، بأن قال : تستّر في الصلاة ، لعدم شمول الأمر لغير حال
العلم والتذكّر ، لعدم تعلّقه إلّا بالمقدور ، والشرط المجهول والمغفول عنه غير
مقدور للمكلّف ، فهو لا يثبت الشرطية إلّا في حال العلم والتذكّر ، فيبقى إطلاق
دليل المشروط بالنسبة إلى حالتي الجهل والغفلة على حاله.
هكذا قيل. وفي
إطلاقه نظر ، لأنّه إنّما يتمّ فيما كانت الشرطيّة ناشئة من امتناع اجتماع الأمر
والنهي ، لا من اقتضاء الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه أو من ورود الأمر باعتبار شيء
، في شيء ، بناء على استظهار كون الوجوب في مثله غيريّا ، كما يوضحه ما أشار إليه
المصنّف رحمهالله في أصل المسألة ، وأوضحناه عند شرح قوله : «ومن ذلك يعلم
الفرق ...».
وكيف كان ، فمقتضى
القاعدة فيما نحن فيه في الجملة ـ بل ظاهر الفقهاء مطلقا كما قيل ـ هو الأخذ
بإطلاق دليل المشروط ، والحكم بعدم تقيده بما ثبت من الشرطيّة إلّا بالنسبة إلى
حال العلم والتذكّر ، لأنّه المتيقّن ممّا ثبت بدليل الشرطيّة ، فيحكم بصحّة
المشروط بدون الشرط مع الجهل به أو الغفلة عنه.
الرابعة : إلّا
يكون شيء من دليل المشروط والشرط إطلاق ، بأن ثبت كلّ منهما بدليل لبّي أو لفظي
مجمل. وهي كسابقتها ، لأنّ المتيقّن من تقييد المراد الواقعي
المسألة الثانية : في زيادة الجزء عمدا
(١٧٧٧) وإنّما يتحقّق في الجزء الذي لم يعتبر فيه اشتراط عدم الزيادة ، فلو اخذ
بشرطه فالزيادة عليه موجب لاختلاله من
______________________________________________________
من دليل المشروط
بدليل الشرط هو تقيّده بالنسبة إلى حالتي العلم والتذكر خاصّة.
هذا ما تقتضيه القواعد
الشرعيّة في بادئ النظر. والذي يقتضيه التأمّل الصحيح خلافه ، وكون ما ثبتت
شرطيّته في الجملة شرطا واقعيّا مطلقا. أمّا في الصورتين الأوّليين فلما تقدّم.
وأمّا في الصورتين الأخيرتين لأنّ الجهل بالشرط والغفلة عنه لا يتحقّقان إلّا مع
ثبوت الشرطيّة في حال الجهل والغفلة أيضا ، إذ مع عدم ثبوتها في الحالين لا يتحقّق
جهله وغفلة أصلا. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ متعلّق الجهل والغفلة ما هو شرط في
حال العلم والتذكّر. مع أنّا نقول : إنّ الجاهل أو الغافل إنّما يأتي بالفعل
المجهول شرطه أو المغفول عن شرطه باعتقاد كون المأتيّ به هو المأمور به الثابت في
حال العلم والتذكّر. وحينئذ إن تعلّق الأمر بالمأتيّ به الفاقد للشرط لزم تعلّقه
بما هو غير مقصود للمأمور وغير ملتفت إليه أصلا ، نظير ما ذكره المصنّف رحمهالله في الجزء المنسيّ ، كما هو مقتضى إحالته الكلام في الشرط
إلى ما ذكره في الجزء. ولكنّا قد ذكرنا هناك الفرق بينهما ، فراجع ولاحظ. ومع
تسليم عدم الفرق بينهما في الأصل الأوّلي ، لا فرق أيضا بينهما في الأصل الثانوي
الثابت في خصوص الصلاة بعموم قوله عليهالسلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» وغيره من الأخبار ، فلا
يحكم بفسادها مع فقد الشرط المجهول أو المغفول عنه إلّا فيما ثبت بالدليل ،
فتدبّر.
١٧٧٧. اعلم أنّ هنا امورا لا بدّ أن ينبّه عليها :
الأوّل : ما أشار
إليه المصنّف رحمهالله من اختصاص محلّ النزاع في الزيادة العمديّة بزيادة الجزء
الذي لم يثبت اعتباره بشرط عدم الزيادة ولا لا بشرط ، مع كون الزيادة بقصد
الجزئيّة لا بدونه ، لعدم الإشكال في البطلان على الأوّل وفي عدمه على الأخيرين.
وسنشير إلى توضيح الكلام في اعتبار قصد الجزئيّة عند بيان ما
حيث النقيصة ؛ لأنّ
فاقد الشرط كالمتروك ، كما أنّه لو اخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدّد فلا
إشكال في عدم الفساد.
ويشترط في صدق الزيادة قصد كونه من
الأجزاء ، أمّا زيادة صورة الجزء لا بقصدها ـ كما لو سجد للعزيمة في الصلاة ـ لم
تعدّ زيادة في الجزء. نعم
، ورد في بعض الأخبار : «أنّها زيادة في المكتوبة» ، وسيأتي الكلام في معنى
الزيادة في الصلاة.
ثمّ الزيادة العمديّة تتصوّر على وجوه :
أحدها : أن يزيد جزءا من أجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا مستقلا (١٧٧٨) ، كما
لو اعتقد شرعا أو
______________________________________________________
يتعلّق بالمستفيضة
الدالّة على بطلان الصلاة بالزيادة فيها.
الثاني : أنّ مرجع
النزاع في إبطال الزيادة العمديّة للعبادة إلى النزاع في إبطال مشكوك المانعيّة ،
لكونه جزئيّا من جزئيّات هذا النزاع ، لأنّ مرجعه إلى النزاع في كون الزيادة
العمديّة مانعة من صحّة العبادة وعدمه. فالأولى أن يقرّر النزاع في مطلق ما يشكّ
في مانعيّته ، سواء كان على تقدير منعه من الموانع أو القواطع. وسيشير المصنّف رحمهالله إلى جهة الفرق بينهما ، وسنشير أيضا في تنبيهات هذه
المسألة إلى أقسام الشكّ في المانع ، فانتظره.
الثالث : أنّ
المراد من الإبطال حيثما قلنا بإبطال مشكوك المانعيّة للعبادة ليس على حقيقته ،
لأنّ معناه إحداث البطلان في الشيء وجعل وجوده كعدمه بعد وقوعه صحيحا ، وموانع
الصلاة ليست كذلك ، لأنّها إمّا مانعة من انعقادها صحيحة إن وقعت في ابتدائها ،
وقاطعة لها إن وقعت في أثنائها. نعم ، إطلاق المبطل على مثل الشرك على وجه الحقيقة
، لإحباطه جميع الأعمال الماضية كالعجب على قول ، كما سيشير إليه المصنّف رحمهالله في معنى قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ).
١٧٧٨. سواء كان المزيد من سنخ المزيد عليه كما مثّل به المصنّف رحمهالله ، أم لا كما إذا اعتقد كون الواجب في الصلاة هو الركوع
وتغميض العين بعده.
__________________
تشريعا (١٧٧٩) أنّ
الواجب في كلّ ركعة ركوعان ، كالسجود. الثاني : أن يقصد كون مجموع الزائد والمزيد
عليه جزءا واحدا ، كما لو اعتقد أنّ الواجب في الركوع الجنس الصادق على الواحد
والمتعدّد.
الثالث : أن يأتي بالزائد بدلا عن
المزيد عليه بعد رفع اليد عنه إمّا اقتراحا (١٧٨٠) ، كما لو قرأ سورة ثمّ بدا له
في الأثناء أو بعد الفراغ وقرأ سورة اخرى لغرض دينيّ كالفضيلة أو دنيويّ
كالاستعجال. وإمّا لإيقاع الأوّل على وجه فاسد بفقد بعض الشروط ، كأن يأتي ببعض
الأجزاء رياء أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها ، ثمّ يبدو له في إعادته على وجه
صحيح.
أمّا الزيادة على الوجه الأوّل : فلا
إشكال في فساد (١٧٨١) العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة أو في الأثناء ؛
لأنّ ما أتى به وقصد الامتثال به ـ وهو المجموع المشتمل على الزيادة ـ غير مأمور
به ، وما امر به وهو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثال به. وأمّا الأخيران :
فمقتضى الأصل عدم بطلان العبادة فيهما ؛ لأنّ مرجع ذلك
______________________________________________________
١٧٧٩. كاعتقاد العوام بصحّة عباداته الفاسدة التي أخذها من أبويه
ومن شابههما ممّن لا يعتبر قوله شرعا.
١٧٨٠. في القاموس : الاقتراح ارتجال الكلام واستنباط الشيء من
غير سماع.
١٧٨١. لم يعلم وجه الفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني ، حيث نفى
الإشكال عن فساد العمل هنا ، وجعله محلّ شبهة وموردا للأصل في الثاني ، مع اشتراك
علّة الفساد فيهما من عدم كون المقصود مأمورا به وعدم كون المأمور به مقصودا. نعم
، يمكن التمسّك بالأصل بالنسبة إلى الثالث ، لتعلّق القصد فيه بجعل أحد الأمرين ـ أعني
: البدل والمبدل منه ـ جزءا لا بكلّ منهما ولا بمجموعهما ، وغاية ما يوجب قصد
البدليّة هو الشكّ في فساد العمل لا القطع به.
فإن قلت : لا بدّ
من الجزم بالفساد فيه أيضا ، لكون الإتيان بمشكوك المانعيّة في العبادة تشريعا
محرّما ومفسدا لها ، لعدم اختصاص مورد التشريع بموارد الإتيان
الشكّ (١٧٨٢) إلى
الشكّ في مانعيّة الزيادة ، ومرجعها إلى الشكّ في شرطيّة عدمها ، وقد تقدّم أنّ
مقتضى الأصل فيه البراءة.
وقد يستدلّ على البطلان : بأنّ الزيادة
تغيير لهيئة العبادة الموظّفة فتكون مبطلة. وقد احتجّ به في المعتبر على بطلان
الصلاة بالزيادة .
وفيه نظر ؛ لأنّه إن اريد تغيير الهيئة المعتبرة في الصلاة ، فالصغرى ممنوعة ؛
لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة أوّل الدعوى ، فإذا شكّ فيه فالأصل
البراءة عنه. وإن اريد أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة فالكبرى
ممنوعة ؛ لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلا.
ونظير الاستدلال بهذا للبطلان في الضعف
: الاستدلال للصحّة باستصحابها ، بناء على أنّ العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة
، والأصل بقائها وعدم عروض
______________________________________________________
بمقطوع الفساد
بقصد الشرعيّة ، وهو واضح.
قلت : نعم إنّ
التشريع إنّما يتحقّق في موارد فقد الدليل على صحّة العمل ولو في الظاهر ، والأصل
من جملة الأدلّة ، فتدبّر.
١٧٨٢. إن شئت أجريت أصالة البراءة في نفس الزيادة العمديّة من
دون دعوى رجوع الشكّ فيها إلى الشكّ في الشرطيّة ، بأن تقول : الأصل عدم ترتّب
العقاب على هذه الزيادة.
فإن قلت : إنّ عدم
ترتّبه عليها لا يستلزم عدم ترتّبه على نفس العبادة المتروكة لأجل حصول هذه
الزيادة فيها.
قلت : إنّ المقصود
من عدم ترتّب العقاب على الزيادة المذكورة عدم كونها منشأ للعقاب بنفسها ولا
بواسطة ترك العبادة التي زيد بعض أجزائها ، وأدلّة البراءة ـ من خبر الحجب
والتوسعة ونحوهما ـ تنفي كون مجهول الحكم منشأ للعقاب مطلقا ، كما تقدّم في الشكّ
في الجزئيّة والشرطيّة. واستدلّ عليه أيضا ببناء العقلاء على عدم المانعيّة عند
الشكّ في كون شيء مانعا من حصول الإطاعة في أوامرهم العرفيّة. ولعلّ الوجه فيه أنّ
المشكوك فيه لو كان مانعا لبيّنه المولى ، نظير ما لو شكّ في جزئيّة شيء أو
شرطيّته في إطاعتهم العرفيّة.
البطلان لها.
وفيه : أنّ المستصحب إن كان صحّة مجموع
الصلاة فلم يتحقّق بعد. وإن كان صحّة الأجزاء السابقة منها فهي غير مجدية ؛ لأنّ
صحّة تلك الأجزاء إمّا عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلّق بها ، وإمّا ترتّب الأثر
عليها. والمراد بالأثر المترتّب عليها حصول المركّب بها منضمّة مع باقي الأجزاء
والشرائط ؛ إذ ليس أثر الجزء المنوط به صحّته إلّا حصول الكلّ به منضمّا إلى تمام
غيره ممّا يعتبر في الكلّ. ولا يخفى أنّ الصحّة بكلا المعنيين باقية للأجزاء
السابقة ؛ لأنّها بعد وقوعها مطابقة للأمر بها لا تنقلب عمّا وقعت عليه ، وهي بعد
على وجه لو انضمّ إليها تمام ما يعتبر في الكلّ حصل الكلّ ، فعدم حصول الكلّ لعدم
انضمام تمام ما يعتبر في الكلّ إلى تلك الأجزاء لا يخلّ بصحّتها.
ألا ترى أنّ صحّة الخلّ من حيث كونه
جزءا للسكنجبين لا يراد بها إلّا كونه على صفة لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في
تحقّق السكنجبين لحصل الكلّ ، فلو لم ينضمّ إليه تمام ما يعتبر فلم يحصل لذلك
الكلّ ، لم يقدح (١٧٨٣) ذلك في اتّصاف الخلّ بالصحّة في مرتبة جزئيّته.
فإذا كان عدم حصول الكلّ يقينا لعدم
حصول تمام ما يعتبر في الكلّ غير قادح في صحّة الجزء ، فكيف إذا شكّ في حصول الكلّ
من جهة الشكّ في انضمام تمام ما يعتبر ، كما فيما نحن فيه؟ فإنّ الشكّ في صحّة
الصلاة بعد تحقّق الزيادة المذكورة من جهة الشكّ في انضمام تمام ما يعتبر إلى
الأجزاء ؛ لعدم كون (١٧٨٤) عدم الزيادة شرطا ، وعدم انضمامه (١٧٨٥) ؛ لكون عدم
الزيادة أحد الشرائط المعتبرة ولم يتحقّق ، فلا يتحقّق الكلّ. ومن المعلوم أنّ هذا
الشك لا ينافي القطع بصحّة الأجزاء السابقة ، فاستصحاب صحّة تلك الأجزاء غير محتاج
إليه ؛ لأنّا نقطع
______________________________________________________
١٧٨٣. جواب الشرط.
١٧٨٤. تعليل للانضمام.
١٧٨٥. معطوف على قوله : «وانضمام تمام».
ببقاء صحّتها ، لكنّه
لا يجدي في صحّة الصلاة بمعنى استجماعها لما عداها من الأجزاء والشرائط الباقية.
فإن قلت : فعلى ما ذكرت فلا يعرض البطلان
للأجزاء السابقة أبدا ، بل هي باقية على الصحّة بالمعنى المذكور إلى أبد الدهر وإن
وقع بعدها ما وقع من الموانع ، مع أنّ من الشائع في النصوص والفتاوى إطلاق المبطل
والناقض على مثل الحدث وغيره من قواطع الصلاة. قلت : نعم ، ولا ضير في التزام ذلك
، ومعنى بطلانها عدم الاعتداد بها في حصول الكلّ ؛ لعدم التمكّن من ضمّ تمام
الباقي إليها ، فيجب استئناف الصلاة امتثالا للأمر.
نعم ، إنّ حكم الشارع على بعض الأشياء
بكونه قاطعا للصلاة (١٧٨٦) أو ناقضا يكشف عن أنّ لأجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة
اتّصاليّة ترتفع ببعض الأشياء دون بعض ؛ فإنّ الحدث يقطع ذلك الاتّصال والتجشّؤ لا
يقطعه ، والقطع يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين ، وهما فيما نحن فيه الأجزاء
السابقة والأجزاء التي تلحقها بعد تخلّل ذلك القاطع ، فكلّ من السابق واللاحق يسقط
عن قابليّة ضمّه إلى الآخر وضمّ الآخر إليه.
ومن المعلوم أنّ الأجزاء السابقة كانت
قابلة للضمّ إليها وصيرورتها أجزاء فعليّة للمركّب ، والأصل بقاء تلك القابليّة
وتلك الهيئة الاتّصاليّة بينها وبين ما يلحقها ، فيصحّ الاستصحاب في كلّ ما شكّ في
قاطعيّة الموجود. ولكن هذا مختصّ بما إذا شكّ في القاطعيّة ، وليس مطلق الشكّ في
مانعيّة الشيء ـ كالزيادة فيما نحن
______________________________________________________
١٧٨٦. أنت خبير بأنّ إطلاق القاطع والناقض على ما يشمل المانع ـ سيّما
في المركّبات التي يكون المطلوب فيها الإتيان بالمركّب من حيث مجموعه ـ شايع ، كيف
لا وقد منعنا في محلّه دلالة قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» على اختصاص حرمة النقض بما كان
الشكّ فيه في المانع دون المقتضي فضلا عمّا نحن فيه ، وحينئذ يشكل التمييز بين
الناقض والمانع بالتعبيرات المذكورة ، فلا يبقى محلّ لاستصحاب الهيئة الاتّصالية.
فيه ـ شكّا في
القاطعيّة.
وحاصل الفرق بينهما : أنّ عدم الشيء في
جميع آنات الصلاة قد يكون بنفسه من جملة الشروط ، فإذا وجد آناً ما فقد انتفى
الشرط على وجه لا يمكن تداركه ، فلا يتحقّق المركّب من هذه الجهة ، وهذا لا يجدي
فيه القطع بصحّة الأجزاء السابقة فضلا عن استصحابها.
وقد يكون اعتباره من حيث كون وجوده
قاطعا ورافعا للهيئة الاتّصاليّة والارتباطيّة في نظر الشارع بين الأجزاء ، فإذا
شكّ في رافعيّة شىء لها حكم ببقاء تلك الهيئة واستمرارها وعدم انفصال الأجزاء
السابقة عمّا يلحقها من سائر الأجزاء.
وربّما يردّ استصحاب الصحّة بأنّه : إن
اريد صحّة الأجزاء المأتيّ بها بعد طروّ المانع الاحتمالي فغير مجد ؛ لأنّ البراءة
إنّما تتحقّق بفعل الكلّ دون البعض. وإن اريد إثبات عدم مانعيّة الطارئ أو صحّة
بقيّة الأجزاء فساقط ؛ لعدم التعويل على الاصول المثبتة
، انتهى.
وفيه نظر يظهر ممّا ذكرنا ، وحاصله :
أنّ الشكّ إن كان في مانعيّة شىء وشرطيّة عدمه للصلاة ، فصحّة الأجزاء السابقة لا
تستلزم عدمها ظاهرا ولا واقعا ، حتّى يكون الاستصحاب بالنسبة إليها من الاصول
المثبتة.
وإن كان في قاطعيّة الشيء ورفعه
للاتّصال والاستمرار الموجود للعبادة في نظر الشارع ، فاستصحاب بقاء الاتّصال كاف
، إذ لا يقصد في المقام سوى بقاء تلك الهيئة الاتّصاليّة ، والشكّ إنّما هو فيه لا
في ثبوت شرط أو مانع آخر حتّى يقصد بالاستصحاب دفعه ، ولا في صحّة بقيّة الأجزاء
من غير جهة زوال الهيئة الاتّصالية بينها وبين الأجزاء السابقة ، والمفروض إحراز
عدم زوالها بالاستصحاب.
هذا ، ولكن يمكن الخدشة فيما اخترناه من
الاستصحاب بأنّ المراد بالاتّصال والهيئة الاتّصالية إن كان ما بين الأجزاء
السابقة بعضها مع بعض ، فهو باق لا ينفع. وإن كان ما بينها وبين ما لحقها من
الأجزاء الآتية ، فالشكّ في وجودها لا بقائها. وأمّا أصالة بقاء الأجزاء السابقة
على قابليّة إلحاق الباقي بها ، فلا يبعد كونها من الاصول المثبتة (١٧٨٧).
______________________________________________________
١٧٨٧. ستعرف وجهه.
اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ استصحاب
الهيئة الاتصاليّة من الاستصحابات العرفيّة الغير المبنيّة على التدقيق ، نظير
استصحاب الكرّية في الماء المسبوق بالكرّية. ويقال في بقاء الأجزاء السابقة (١٧٨٨)
على قابليّة الاتّصال : إنّه لما كان المقصود الأصلي من القطع وعدمه هو لزوم
استئناف الأجزاء السابقة وعدمه وكان الحكم بقابليّتها
______________________________________________________
١٧٨٨. هذا تصحيح لجريان الاستصحاب وإخراج له من كونه مثبتا ،
وذلك لأنّك قد عرفت ممّا ذكره عدم صحّة استصحاب الاتّصال الحاصل بين الأجزاء
السابقة ، للقطع ببقاء هذا الاتّصال بينها بعد طروّ ما يشكّ في مانعيّته أيضا. وكذا
استصحاب الاتّصال الحاصل بين الأجزاء السابقة واللاحقة ، للعلم بعدم وجوده قبل
وجود ما يشكّ في مانعيّته ، فينتفي موضوع الاستصحاب ، فلا مجرى له على التقديرين.
وأمّا استصحاب
بقاء الأجزاء السابقة على قابليّة إلحاق اللاحقة بها ، فهذا الأصل وإن كان جاريا
إلّا أنّه مثبت ، لأنّ المقصود منه عدم وجوب استئناف الأجزاء السابقة بعد طروّ ما
يشكّ في مانعيّته ، وهو لا يترتّب على المستصحب المذكور إلّا بواسطة عدم مانعيّة
المشكوك فيه ، إلّا أن يقال بكون الواسطة خفيّة في نظر أهل العرف ، لأنّ الحكم
المذكور ـ أعني : عدم وجوب الاستئناف ـ مرتّب في نظرهم على صحّة الأجزاء السابقة ،
بمعنى بقائها على قابليّة إلحاق الباقية بها من دون التفات إلى كون عدم مانعيّة
المشكوك فيه واسطة في الترتّب ، وبهذا يخرج الأصل من كونه مثبتا.
ومنه يظهر الفرق
بين ما نحن فيه وبين استصحاب الكريّة في الماء المسبوق بها بعد أخذ مقدار منه يشكّ
معه في بقائه عليها ، لأنّ المسامحة في المثال إنّما هي في بقاء الموضوع السابق ،
حيث يقولون بعد أخذ مقدار منه يشكّ معه في بقائه على الكريّة : إنّ هذا الماء كان
كرّا ، والمسامحة فيما نحن فيه إنّما هي في إلغاء الواسطة بتوهّم ترتّب الحكم ـ أعني
: عدم وجوب الاستئناف ـ على صحة الأجزاء السابقة ، فلا تغفل.
لإلحاق الباقي بها في
قوّة الحكم بعدم وجوب استئنافها ، خرج من الاصول المثبتة التي ذكر في محلّه عدم
الاعتداد بها في الإثبات ، فافهم.
وبما ذكرنا يظهر سرّ ما أشرنا إليه في
المسألة السابقة من عدم الجدوى في استصحاب الصحّة لإثبات صحّة العبادة المنسيّ
فيها بعض الأجزاء عند الشكّ في جزئيّة المنسيّ حال النسيان.
وقد يتمسّك لإثبات صحّة العبادة عند
الشكّ في طروّ المانع بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) ، فإنّ حرمة الإبطال
إيجاب للمضيّ فيها ، وهو مستلزم لصحّتها ولو بالإجماع المركّب (١٧٨٩) ، أو عدم
القول بالتفكيك بينهما في غير الصوم والحجّ. وقد استدلّ بهذه الآية غير واحد تبعا
للشيخ قدسسره.
وهو لا يخلو عن نظر يتوقّف على بيان ما
يحتمله الآية الشريفة من المعاني ، فنقول : إنّ حقيقة الإبطال ـ بمقتضى وضع باب
الإفعال ـ إحداث البطلان في العمل الصحيح وجعله باطلا نظير قولك : أقمت (١٧٩٠)
زيدا أو أجلسته أو أغنيته.
______________________________________________________
ويمكن أن يقال :
إنّ عدم وجوب الاستئناف من الآثار العقليّة المرتّبة على صحّة الأجزاء السابقة ،
بمعنى بقائها على قابليّة الاتّصال ، مثل كون وجوبه من الآثار العقليّة المرتّبة
على عدم صحّتها بالمعنى المذكور ، فالأصل المذكور على تقدير كون الواسطة خفيّة لا
يخرج من كونه مثبتا.
١٧٨٩. الفرد الأظهر هو الاكتفاء بالدلالة الالتزاميّة اللفظيّة ،
لأنّ حرمة إبطال الأعمال مستلزمة لصحّتها في نظر أهل الشرع. وفي الترديد الذي هو
من قبيل منع الخلوّ إشارة إلى كون المقام من موارد اجتماع الإجماع المركّب وعدم
الفصل. والمناط في الأوّل هو عدم جواز إحداث قول ثالث ولو في موضوع واحد. وفي
الثاني عدم جواز الفصل بين حكم موضوعين فصاعدا ، وإن اتّحد القول فيهما. وفيما نحن
فيه كلّ من قال بحرمة الإبطال قال بالصحّة أيضا.
١٧٩٠. لأنّ الأوّل كما أنّه إنّما يصدق إذا كان زيد جالسا وفي
الثاني إذا
والآية بهذا المعنى راجعة إلى النهي عن
جعل العمل لغوا لا يترتّب عليه أثر كالمعدوم بعد أن لم يكن كذلك ، فالإبطال هنا
نظير الإبطال في قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا
صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) بناء على أنّ النهي
عن تعقيبها بهما ؛ بشهادة قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ
ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً ...) .
الثاني : أن يراد به إيجاد العمل على
وجه باطل ، من قبيل قوله : «ضيّق (١٧٩١) فم الركيّة» ، يعني أحدثه ضيّقا ، لا أحدث
فيه الضيق بعد السعة. والآية بهذا المعنى نهي عن إتيان الأعمال مقارنة للوجوه
المانعة عن صحّتها أو فاقدة للامور المقتضية للصحّة. والنهي على هذين الوجهين
ظاهره الإرشاد ؛ إذ لا يترتّب على إحداث البطلان في العمل أو إيجاده باطلا عدا فوت
مصلحة العمل الصحيح.
الثالث : أن يراد من إبطال العمل قطعه
ورفع اليد عنه ، كقطع الصلاة والصوم والحجّ. وقد اشتهر التمسّك لحرمة قطع العمل بها.
ويمكن إرجاع هذا إلى المعنى الأوّل (١٧٩٢) بأن يراد من الأعمال ما يعمّ الجزء
المتقدّم من العمل ؛ لأنّه أيضا عمل لغة ، وقد وجد على وجه قابل لترتّب الأثر
وصيرورته جزءا فعليّا للمركّب ، فلا يجوز جعله باطلا (١٧٩٣) ساقطا عن قابليّة كونه
جزءا فعليّا ، فجعل
______________________________________________________
كان قائما ، كذلك
الإبطال فيما نحن فيه إنّما يصدق بإحداث البطلان بعد وقوع الفعل صحيحا.
١٧٩١. من قبيله أيضا قولهم : المجمل والمبيّن ، لأنّ المراد
بالأوّل ما لم تتّضح دلالته ، وبالثاني ما اتّضحت دلالته ، لا ما عرض له الإجمال
بعد وضوح دلالته ، ولا ما عرض له البيان بعد عدم وضوح دلالته.
١٧٩٢. هو خلاف ظاهر الآية ، لظهور العمل في مجموع الأجزاء إن كان
من قبيل المركّبات ، كما هو مورد الآية على المعنى الثالث.
١٧٩٣. فإن قلت : هذا مناف لما تقدّم منه من عدم قابليّة الأجزاء
السابقة
__________________
هذا المعنى مغايرا
للأوّل مبنيّ على كون المراد من العمل مجموع المركّب الذي وقع الإبطال في أثنائه.
وكيف كان فالمعنى الأوّل أظهر (١٧٩٤) ؛
لكونه المعنى الحقيقي ، ولموافقته لمعنى الإبطال في الآية الاخرى المتقدّمة
ومناسبته لما قبله من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) ؛ فإنّ تعقيب إطاعة
الله وإطاعة الرسول بالنهي عن الإبطال يناسب الإحباط (١٧٩٥) ، لا إتيان العمل على
الوجه الباطل ؛ لأنّها مخالفة لله وللرسول. هذا كلّه ، مع ظهور الآية في حرمة
إبطال الجميع ، فيناسب الإحباط بمثل الكفر ، لا إبطال شىء (١٧٩٦) من الأعمال الذي
هو المطلوب.
______________________________________________________
الواقعة على وجه
الصحّة لعروض البطلان لها.
قلت : إنّ المراد
بالصحّة في المقامين مختلف ، لأنّ المراد بها فيما تقدّم كون الأجزاء السابقة على
وجه لو انضمّ إليها باقي الأجزاء مع شروطها الشرعيّة حصل الكلّ ، وترتّب عليه حصول
الامتثال ، والمراد بها هنا كون الأجزاء السابقة على وجه كانت قابلة بالفعل
لانضمام سائر الأجزاء إليها. وهي بالمعنى الأوّل ثابتة للأجزاء السابقة ولو مع
القطع بعروض المانع في أثناء العمل ، وبالمعنى الثاني يحصل القطع بعدمها مع القطع
بعروض المانع في أثناء العمل.
١٧٩٤. قد يقال بعدم العلاقة المعتبرة بينه وبين المعنى الأخير.
وفيه نظر.
١٧٩٥. لأنّ تعقيب الإطاعة بحرمة الإبطال يناسب جعل الإطاعة
الواقعة على وجه الصحّة باطلة ، لا النهي عن إيجادها باطلة من أوّل الأمر. وأنت
خبير بأنّ ظاهر الآية هو النهي عن إبطال الأعمال لأجل عدم الإطاعة ، لا عن إبطالها
بعد وقوعها صحيحة بالإطاعة ، فالآية إنّما تناسب المعنى الثاني من معاني الإبطال
دون الأوّل منها.
١٧٩٦. وإن كان هو الجزء المتقدّم من العمل ليشمل ما نحن فيه.
ويشهد لما ذكرنا مضافا إلى ما ذكرنا ما
ورد من تفسير الآية بالمعنى الأوّل ، فعن الأمالي وثواب الأعمال عن الباقر عليهالسلام
، قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
: من قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : الحمد لله ،
غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : لا إله إلّا الله ، غرس الله له بها
شجرة في الجنّة. فقال له رجل من قريش : إنّ شجرتنا في الجنّة لكثير ، قال صلىاللهعليهوآله
: نعم ، ولكن إيّاكم أن ترسلوا إليها نارا فتحرقوها ؛ إنّ الله عزوجل
يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) .
هذا إن قلنا بالإحباط (١٧٩٧) مطلقا أو
بالنسبة إلى بعض
______________________________________________________
١٧٩٧. فيه إشعار بنوع تردّد له في القول بالإحباط ، وهو كما ترى
خلاف مذهب محقّقي المتكلّمين كما صرّح به الطريحي ، بل خلاف مذهب الإماميّة طرّا ،
كما حكي التصريح به عن اللاهيجي وغيره. والعجب من المحقّق القمّي قدسسره حيث صرّح بحقيقة هذا القول ، لأنّ اللازم له الجزم
ببطلانه.
ولا بأس بأن نشير
إلى بعض الكلام في ذلك فنقول : قد حكي عن الأشاعرة القول بنفي استحقاق الثواب والعقاب
بالأعمال الصالحة والطالحة ، وأنّ كلّا من الثواب والعقاب منوط بالمشيّة ، فإن شاء
الله عذّب المطيع وإن شاء أثاب العاصي.
وأنكره الباقون ،
فمنهم من قال بعدم استحقاق العقاب بالمعصية مع الإيمان ، وبعدم استحقاق الثواب مع
الكفر ، وهو المحكيّ عن المرجئة ومنهم من قال بعدم استحقاق الثواب بالأعمال
الصالحة. وهو المحكيّ عن أبي الحسين البلخي ، قال : لأنّ إيجاب هذه التكاليف وقع
شكرا للنعم التي أنعم الله بها ، فلا يستحقّ بها مكلّف ثوابا. وأبطله المحقّق
الطوسي بأنّ إيجاب المشقّة في شكر النعم قبيح عند العقلاء ، إذ يقبح عقلا أن ينعم
الإنسان على غيره نعمة ثمّ يكلّفه ويوجب عليه شكره على تلك النعمة من غير أن يصل
إليه ثواب ، والقبيح لا يصدر عن الله تعالى ، فتعيّن أن
.................................................................................................
______________________________________________________
يكون إيجاب
التكاليف لاستحقاق الثواب.
ومنهم من قال
باستحقاق الثواب بالعمل الصالح ، واستحقاق العقاب بالعمل الطالح. وهذه الفرقة قد
اختلفت بين من قال بالإحباط والتكفير. والمراد بالأوّل أن يسقط الثواب المتقدّم
بالمعصية المتأخّرة ، وبالثاني أن تكفّر الذنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة. وهذا
محكيّ عن جماعة من المعتزلة. ومن قال بأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم ، إن خيرا فخيرا
وإن شرّا فشرّا. وهو محكيّ في كلام جماعة عن المحقّقين ، بل الإماميّة قاطبة ، كما
حكي عن اللاهيجي في رسالته المسمّاة بسرمايه إيمان. وصرّح المحقّق الطوسي قدسسره ببطلان القول الأوّل من دون تأمّل.
واختلف القائلون
بالإحباط على قولين :
أحدهما : المحكيّ
عن أبي علي على اختلاف النقل عنه. قال القوشجي : «قال أبو علي : إنّ المتأخّر يسقط
المتقدّم ، ويبقى هو على حاله» انتهى. وظاهره أنّ المتأخّر بأيّ وجه كان يسقط
المتقدّم زائدا كان أم لا ، ويبقى هو بحاله. ونقل الآمدي والشيخ الطريحي : أنّ
الطاعات تحبط المعاصي إن كانت زائدة ، وتبقى بحالها ، والعكس. وأوضحه الطريحي بأنّ
أحد الاستحقاقين لو كان خمسة والآخر عشرة ، فإنّ الخمسة تسقط وتبقى العشرة بحالها.
قال : ويسمّى الإحباط. ونقل الإمام الرازي عنه أنّ بقدر الطارئة من المعاصي تحبط
السابقة من الطاعات من غير أن ينتقص منه شيء ، فإن بقي من الطاعات زائد على قدر
المعاصي أثيب وإلّا فلا.
وثانيهما : محكيّ
عن أبي هاشم ، وهو أن ينتفي الأقلّ بالأكثر ، وينتفي من الأكثر بالأقلّ ما ساواه ،
ويبقى الزائد مستحقّا ، وإن تساويا صارا كأن لم يكن. وهذا هو الموازنة.
قال الطريحي : «قد
أبطلهما ـ يعني : القولين ـ المحقّقون من المتكلّمين بأنّ ذلك موقوف على بيان وجود
الإضافات في الخارج ، كالأخوّة والبنوّة وعدمهما.
.................................................................................................
______________________________________________________
فقال المتكلّمون
بالعدم ، لأنّها لو كانت موجودة في الخارج ، مع أنّها عرض مفتقر إلى محلّ يكون لها
إضافة إلى ذلك المحلّ ، فنقول فيها كما قلنا في الأوّل. ويلزم في الأوّل التسلسل ،
وهو باطل. ويلزم منه بطلانها في الخارج ، لأنّ ما بني على الباطل باطل. وقول
الحكماء بوجودها لا يلزم منه الوجود الخارجي ، بل الذهني. وتحقيق البحث في محلّه»
انتهى.
واستدلّ المحقّق
الطوسي على بطلانهما أوّلا : باستلزام القول بالإحباط للظلم ، لأنّ من أطاع وأساء
وكان إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن ، ومن كان إحسانه أكثر كان بمنزلة من لم
يسئ ، وإن تساويا يكون كمن لم يصدر عنه أحدهما ، وليس كذلك عند العقلاء.
وثانيا : بقوله
تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ). والإيفاء بوعده واجب. وأقول : وقال سبحانه أيضا : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ). وقال تعالى : (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). وقال عزوجل : (أَنَّ اللهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ). وقال سبحانه : (إِنَّا لا نُضِيعُ
أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً). ومن السنّة قوله عليهالسلام : «الناس مجزيون بأعمالهم ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا».
فإن قلت : الآيات
معارضة بمثلها أو أكثر منها. قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). وقال سبحانه : (لا تُبْطِلُوا
صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى). وقال عزوجل وعلا : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ). وقال جلّ وعلا : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) على المعنى الذي استظهره المصنّف رحمهالله منه.
قلت : إنّه قد حمل
الآية الاولى على أنّ الحسنات تصير سببا لتوفيق الاحتباس عن السيّئات. والثانية
والثالثة على أنّ الإتيان ببعض الحسنات على بعض الوجوه الرديّة قد يوجب عدم استحقاق
الثواب عليه. والرابعة على ما تقدّم عند شرح
.................................................................................................
______________________________________________________
قول المصنّف رحمهالله : «يناسب الإحباط ...». مع أنّ الظنّي المنقول لا يعارض
العقلي المقطوع به ، فيصير من المشتبهات.
ثمّ إنّ الشيخ
الطريحي قد نقل عن بعض المحقّقين ما لا معدل عنه في تحقيق المقام به ، قال : «قال
بعض المحقّقين : استحقاق الثواب مشروط بالموافاة ، لقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) ولقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ...) وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ). فمن كان من أهل الموافاة ولم يلبس إيمانه بظلم كان ممّن
يستحقّ الثواب الدائم مطلقا. ومن كان من أهل الكفر ومات على ذلك استحقّ العقاب
الدائم مطلقا. ومن كان ممّن خلط عملا صالحا وآخر سيّئا ، فإن وافى بالتوبة استحقّ
الثواب مطلقا. وإن لم يواف بها ، فإمّا يستحقّ ثواب إيمانه أو لا. والثاني باطل ،
لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) فتعيّن الأوّل. فإمّا أن يثاب ثمّ يعاقب ، وهو باطل
بالإجماع ، لأنّ من يدخل الجنّة لا يخرج منها ، فحينئذ يلزم بطلان العقاب. أو
يعاقب ثمّ يثاب ، وهو المطلوب ، ولقوله عليهالسلام في حقّ هؤلاء : «يخرجون من النار كالحمم ـ أو كالفحم ـ فيراهم
أهل الجنّة فيقولون : هؤلاء الجهنّميون ، فيؤمر بهم فيغمسون في عين الحيوان ،
فيخرجون وأحدهم كالبدر ليلة تمامه».
وأقول : من هذا
البيان يظهر أيضا بطلان القولين المتقدّمين. وقال الطريحي أيضا : ولو قيل ببطلان
الإحباط والموازنة والقول بالتكفير من باب العفو والتفضّل لم يكن بعيدا ، وظواهر
الأدلّة تؤيّده ، وهو لا ينافي التحقيق المذكور. ثمّ إنّ للمعتزلة والخوارج قولا
بأنّ معصية واحدة تحبط جميع الطاعات ، حكاه في المواقف.
المعاصي (١٧٩٨). وإن
لم نقل به وطرحنا الخبر ـ لعدم اعتبار مثله في مثل المسألة ـ كان المراد في الآية
الإبطال بالكفر ؛ لأنّ الإحباط به اتّفاقي. وببالي أنّي وجدت (١٧٩٩) أو سمعت ورود
الرواية في تفسير الآية : (وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) بالشرك.
هذا كلّه ، مع أنّ إرادة المعنى الثالث
الذي يمكن الاستدلال به موجب لتخصيص الأكثر ؛ فإنّ ما يحرم قطعه من الأعمال
بالنسبة إلى ما لا يحرم (١٨٠٠) في غاية القلّة.
فإذا ثبت ترجيح المعنى الأوّل ، فإن كان
المراد بالأعمال ما يعمّ بعض العمل المتقدّم ، كان دليلا أيضا على حرمة القطع في
الأثناء ، إلّا أنّه لا ينفع فيما نحن فيه ؛ لأنّ المدّعى فيما نحن فيه هو انقطاع
العمل بسبب الزيادة الواقعة فيه ، كانقطاعه بالحدث الواقع فيه لا عن اختيار ، فرفع
اليد عنه بعد ذلك لا يعلم كونه قطعا له وإبطالا ، ولا معنى لقطع المنقطع وإبطال
الباطل.
وممّا ذكرنا يظهر ضعف الاستدلال على
الصحّة فيما نحن فيه باستصحاب حرمة القطع ؛ لمنع كون رفع اليد (١٨٠١) بعد وقوع
الزيادة قطعا ؛ لاحتمال حصول الانقطاع ، فلم يثبت في الآن اللاحق موضوع القطع حتّى
يحكم عليه بالحرمة.
______________________________________________________
١٧٩٨. قال الطريحي : وفي الدعاء : وأعوذ بك من الذنب المحبط
للأعمال ، وفسّر بالعجب.
١٧٩٩. عن العيون في باب ما جاء عن الرضا عليهالسلام من الأخبار المجموعة بإسناده قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اختاروا الجنّة على النار ، ولا تبطلوا أعمالكم ،
فتقذفوا في النار منكبيّن خالدين فيها أبدا». وظاهره كون بطلان الأعمال لأجل الشرك
، لأنّه السبب للخلود في النار. وفسّره أبو علي أيضا بالنفاق والشكّ.
١٨٠٠. كجميع الأفعال المباحة والمكروهة والمحرّمة ، وكذا
المستحبّة والواجبة ، إلّا مثل الصلاة والحجّ والصوم في الجملة.
١٨٠١. مرجع هذا الجواب والجواب عن استصحاب وجوب الإتمام إلى منع
العلم ببقاء موضوع المستصحب في زمان الشكّ في بقائه ، إذ كلّ من الإبطال
وأضعف منه استصحاب وجوب إتمام العمل
للشكّ في الزمان اللاحق في القدرة على إتمامه ، وفي أنّ مجرّد إلحاق باقي الأجزاء
إتمام له ، فلعلّ عدم الزيادة من الشروط والإتيان بما عداه من الأجزاء والشرائط
تحصيل لبعض الباقي ، لا لتمامه حتّى يصدق إتمام العمل. ألا ترى أنّه إذا شكّ بعد
الفراغ عن الحمد في وجوب السورة وعدمه ، لم يحكم على إلحاق ما عداها إلى الأجزاء
السابقة ، أنّه إتمام للعمل؟
وربّما يجاب (١٨٠٢) عن حرمة الإبطال
ووجوب الإتمام الثابتين بالأصل بأنّهما لا يدلّان على صحّة العمل ، فيجمع بينهما
وبين أصالة الاشتغال بوجوب إتمام
______________________________________________________
والإتمام اللذين
هما موضوع الحرمة والوجوب إنّما يصدقان مع العلم بصحّة العمل ، لا مع الشكّ في
بطلانه كما هو الفرض فيما فرض ما يشكّ في مانعيّته. مع أنّ إثبات عدم مانعيّة
العارض بالأصل المذكور من قبيل إثبات اللوازم العقليّة به ، ولا اعتداد به ، لكونه
حينئذ مثبتا.
ثمّ إنّ الوجه في
كون الاستصحاب الثاني أضعف من الأوّل أنّ وجوب الإتمام ليس تكليفا مستقلّا مغايرا
لحرمة القطع ، بل هو منتزع منها ، فلا يكون موردا للأصل. وعلى تقديره فهو تابع له.
وعلى تقدير كونه موردا له بنفسه قد عرفت ضعفه.
١٨٠٢. المجيب هو صاحب الرياض على ما حكي عنه. وحاصل ما ذكره هو
كون الصحّة من اللوازم العقليّة ، فلا تثبت بأصالتي حرمة الإبطال ووجوب الإتمام ،
فتأمّل . فيجمع بين هذين الأصلين وقاعدة الاشتغال ، بإتمام العمل
أوّلا وإعادته ثانيا ، لأنّ فيه جمعا بين الشكّ في التكليف ، وهو مورد الأصلين
الأوّلين ، والشكّ في المكلّف به ، وهو مورد القاعدة.
وحاصل ما ذكره
المصنّف رحمهالله أنّه إن قلنا بكون المقام من موارد قاعدة البراءة كما
اختاره ، أو استصحاب صحّة الأجزاء السابقة ، أو حرمة الإبطال ، أو وجوب
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
الإتمام ، كان
المتعيّن هو إتمام العمل وجوبا وإعادته استحبابا. وإن لم نقل بشيء من ذلك كان
الأمر بالعكس ، إذ يستحبّ حينئذ إتمامه ، لاحتمال حرمة القطع ووجوب إتمامه ، ولا
يجب ذلك ، لكونه شكّا في أصل التكليف ، وتجب إعادته ثانيا ، لقاعدة الاشتغال. بل
لا استحباب في الإتمام حينئذ بناء على مذهب المشهور من وجوب نيّة الوجه في العبادة
، لكون ذلك مفوّتا للجزم بها بالتقريب الذي ذكره. ومن هنا يظهر أنّ قوله بكون
مقتضى الاحتياط في المقام هو القطع والإعادة إنّما هو مبنيّ على مذهب المشهور ، لا
على مذهبه من عدم وجوب نيّة الوجه.
ثمّ إنّ ما ذكره
من أولويّة الاحتياط الثاني من الأوّل واضح ، لأنّا لو فرضنا الشكّ في وجوب نيّة
الوجه فهو شكّ في الشرطيّة ، والشكّ في حرمة الإبطال ووجوب الإتمام شكّ في أصل
التكليف النفسي ، ولا ريب أنّ القول بالبراءة في الثاني أسهل من الأوّل ، لكون
الثاني من قبيل الشكّ في المكلّف به ، بناء على ما عزي إلى المشهور من القول بوجوب
الاحتياط عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، وإن كان في صدق النسبة نظر. نعم ، الشكّ
في وجوب نيّة الوجه من قبيل الشكّ في شرائط امتثال الأمر دون المأمور به. والمختار
عند المصنّف رحمهالله هو وجوب الاحتياط في الأوّل ، وإن قلنا بأصالة البراءة في
الثاني.
تنبيهات :
الأوّل : أنّا قد
أشرنا سابقا إلى أنّ مرجع الشكّ في الزيادة العمديّة إلى الشكّ في المانعيّة ،
لكون البحث في الأوّل من جزئيّات البحث في الثاني. والشكّ في المانع على وجوه :
أحدها : الشكّ في
مانعيّة الشيء الموجود شرعا.
الثاني : الشكّ في
الموضوع المستنبط للمانع الذي علم مانعيّته ، كالشكّ في كيفيّة التكتّف في الصلاة
بأنّ وضع اليسرى على اليمنى من أفراده أيضا أم لا.
الثالث : الشكّ في
وجود المانع ، بأن يشكّ في وجود دم غير معفوّ عنه في ثوبه
.................................................................................................
______________________________________________________
أو بدنه ، سواء
كان الشكّ عاضا قبل العمل أم في أثنائه. وعلى الثاني أعمّ من أن يكون متعلّق الشكّ
هو عروض المانع قبل العمل أو في أثنائه.
الرابع : الشكّ في
كون الموضوع الخارجي من مصاديق المانع المعلوم المانعيّة وعدمه ، كالشكّ في كون الدم
الموجود من الدم المتخلّل في البدن بعد الذبح المحكوم بطهارته ، أو من الدم الجاري
من الحلقوم بالذبح مثلا.
والكلام في
الزيادة العمديّة كما هو محلّ الكلام من قبيل الأوّل ، وإن كان الحكم في الجميع هو
عدم المانعيّة. أمّا الأوّل فبالفرض. وأمّا الثاني فلكونه في حكم الأوّل ، لكون
مرجع الشكّ فيه إلى الشكّ البدوي في التكليف. وأمّا الأخيران فلأصالة عدم عروض
المانع.
فإن قلت : إنّ هذا
متّجه في الثالث دون الرابع ، لأنّ أصالة عدم كون الموجود من الدم النجس معارضة
بأصالة عدم كونه من الطاهر.
قلت : إنّ المقصود
من أصالة عدم كونه من النجس ليس إثبات كونه من الطاهر حتّى تعارض بالمثل ، لأنّ
إثبات كون الموجود من الطاهر ليس من شرائط الصلاة حتّى يلتجئ إلى إحرازه بالأصل
المعارض بالمعارض.
الثاني : أنّا إذا
قلنا بكون الزيادة العمديّة أو غيرها ممّا شكّ في مانعيّته من الموانع بحسب الاصول
والقواعد ، فإذا زاد هذا الشيء المحكوم بمانعيّته بحسب الاصول سهوا ، فهل يحكم
بمانعيّته أيضا أم لا؟ الحقّ هو الأوّل ، لأنّ ما دلّ على المانعيّة ـ كقاعدة
الاشتغال فيما نحن فيه ـ إنّما دلّ على مانعيّة ذات الموجود لا هو بوصف وقوعه عن
عمد.
الثالث : أنّ ما
تقدّم من الحكم بالبراءة عند الشكّ في المانعيّة ـ بل وفي الجزئيّة والشرطيّة أيضا
ـ إنّما هو فيما كان الشكّ في كون شيء وجودا أو عدما قيدا للمأمور به ، وإن كان
الشكّ في كون شيء كذلك قيدا لامتثال الأمر ، فالأصل عند المصنّف رحمهالله في مثله قاعدة الاشتغال ، كما سيشير إليه في أوّل خاتمة
هذا
العمل ثمّ إعادته ؛
للشكّ في أنّ التكليف هو إتمام هذا العمل أو عمل آخر مستأنف؟
وفيه نظر ، فإنّ البراءة اليقينيّة ـ على
تقدير العمل
باستصحاب وجوب التمام ـ يحصل بالتمام ؛ لأنّ هذا الوجوب يرجع إلى إيجاب امتثال
الأمر بكلّي الصلاة في ضمن هذا الفرد. وعلى تقدير عدم العمل به تحصل بالإعادة من
دون الإتمام.
واحتمال وجوبه وحرمة القطع مدفوع بالأصل
؛ لأنّ الشبهة في أصل التكليف الوجوبي أو التحريمي ، بل لا احتياط مستحبا في
الإتمام مراعاة لاحتمال وجوبه وحرمة القطع ؛ لأنّه موجب لإلغاء الاحتياط من جهة
اخرى ، وهي مراعاة نيّة الوجه التفصيلي في العبادة ؛ فإنّه لو قطع العمل المشكوك
فيه واستأنفه نوى الوجوب على وجه الجزم ، وإن أتمّه ثمّ أعاد فاتت منه نيّة الوجوب
فيما هو الواجب عليه ، ولا شكّ أنّ هذا الاحتياط على تقدير عدم وجوبه اولى من
الاحتياط المتقدّم ؛ لأنّه كان الشكّ فيه في أصل التكليف ، وهذا شكّ في المكلّف
به. والحاصل : أنّ الفقيه إذا كان متردّدا بين الإتمام والاستئناف ، فالأولى له
الحكم بالقطع ثمّ الأمر بالإعادة بنيّة الوجوب.
ثمّ إنّ ما ذكرناه من حكم الزيادة وأنّ
مقتضى أصل البراءة عدم مانعيّتها إنّما هو بالنظر إلى الأصل الأوّلي ، وإلّا فقد
يقتضي الدليل في خصوص بعض المركّبات
______________________________________________________
المقصد. وقد
أوضحناه مع الإشارة إلى ما ينبغي تحقيق المقام به في المقصد الأوّل ، فراجع.
الرابع : أنّا قد
أشرنا إلى أنّ البحث عن مانعيّة الزيادة العمديّة إنّما هو جزئي من البحث عن مطلق
ما يشكّ في مانعيّته. وربّما حكي عن جماعة منهم المحقّق في المعتبر التفصيل بينهما
، بالقول بقاعدة الاشتغال في الأوّل والبراءة في الثاني ، نظرا في الأوّل إلى
قاعدة التوقيفيّة في العبادة ، وكون الزيادة العمديّة تغييرا لهيئة العبادة
الموظّفة ، فتكون مبطلة. وفيه نظر قد أوضحه المصنّف رحمهالله فيما تقدّم بقوله : «وقد يستدلّ على البطلان بأنّ الزيادة
تغيير ...».
__________________
البطلان كما في
الصلاة ؛ حيث دلّت الأخبار (١٨٠٣) المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة فيها. مثل
قوله عليهالسلام
: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» .
وقوله عليهالسلام
: «إذا
______________________________________________________
١٨٠٣. لا يخفى أنّ بعض هذه الأخبار ظاهر في صورة الزيادة
السهويّة ، كما سنشير إليه هنا وفي بعض الحواشي الآتية ، فلا تشمل الزيادة
العمديّة كما هو محلّ الكلام. ثمّ إنّه لا ريب في اختلاف مؤدّى الأخبار المذكورة ،
لاختصاص بعضها بالصلاة ، وعموم بعض آخر لها وللطواف ، وجملة اخرى بعموم التعليل
لكلّ فريضة. وتقريب الاستدلال بهذه الأخبار يتوقّف على بيان أمرين :
الأوّل : أنّ
المراد بالزيادة فيها يحتمل وجوها :
أحدها : زيادة شيء
في شيء مطلقا ، سواء كان الزائد من سنخ المزيد عليه أم لا ، وسواء كان الإتيان به
بقصد الجزئيّة من ذلك الشيء أم لا ، فتشمل مثل التكتّف والتأمين ونحوهما في
الصلاة.
وثانيها : الصورة
بحالها لكن مع اعتبار كون الزائد من سنخ المزيد عليه ، فيشمل مثل الانحناء إلى حدّ
الركوع لرفع شيء من الأرض أو وضعه فيها أو قتل حيّة أو عقرب ، وكذا السجود للشكر
ونحوه. ويؤيّد هذا المعنى الخبر الناهي عن قراءة العزيمة في الصلاة ، لكون سجودها
زيادة في المكتوبة.
وثالثها : الزيادة
مع اعتبار قصد الجزئيّة مطلقا.
ورابعها : الصورة
بحالها لكن مع اعتبار عدم العدول عن المأتيّ به أوّلا. فلا تصدق الزيادة مع فرض
وقوع العدول عن المأتيّ به أوّلا ، إمّا في أثنائه أو بعد الفراغ منه. وترتّب عليه
ثمرات ، منها : أن يعدل عن سورة إلى اخرى لغرض ، مثل الاستعجال أو زيادة ثواب
المعدول إليها. ومنها : إعادة أذكار الركوع أو السجود أو بعض آيات الفاتحة أو
السورة ليأتي بها في المرّة الثانية مع محسّنات القراءة ، لأنّا إن قلنا باعتبار
عدم الإتيان بالزائد بقصد العدول عن المأتيّ به أوّلا في صدق الزيادة لم تبطل
الصلاة بمثل هذه الزيادات.
.................................................................................................
______________________________________________________
هذا ، ولكنّ
المتبادر من مثل قولنا : زاد فيه شيئا ، هو المعنى الثالث ، لعدم صدق الزيادة مع
عدم قصد الجزئيّة وإن كان الزائد من سنخ المزيد عليه. نعم ، ربّما ينافيه الخبر
الناهي عن قراءة العزيمة في الصلاة معلّلا بأنّ السجود زيادة في المكتوبة ، لوضوح
عدم كون سجود العزيمة بقصد الجزئيّة من الصلاة ، فهو ممّا يقرّب إرادة المعنى
الثاني من الزيادة الواردة في أخبار الباب ، لأنّ الأخبار المأثورة عن الأئمّة
الهدى عليهمالسلام يفسّر بعضها بعضا.
اللهمّ إلّا أن
يدفع هذا أوّلا : بمخالفة المعنى الثاني لظاهر الأصحاب ، لعدم إفتائهم ببطلان
الصلاة بمثل الانحناء لأخذ شيء من الأرض أو وضعه فيها أو لقتل حيّة أو نحو ذلك ،
لأنّ ذلك يوهن دلالة الخبر المذكور على المعنى الثاني ، لأنّ إعراض الأصحاب عن
رواية كما يوهن سندها كذلك ربّما يكشف عن وجود قرينة عندهم صارفة عن ظاهرها.
وثانيا : أنّ قوله
: «لأنّ السجود زيادة في المكتوبة» يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون
الظرف فيه لغوا متعلّقا بقوله «زيادة» وكأنّ التعليل حينئذ إشارة إلى كبرى كلّية
معهودة من الخارج ، وهو بطلان الصلاة بكلّ زيادة ، سواء كانت بقصد الجزئيّة أم لا
، فكأنّه قال : لا تقرأ العزيمة في الصلاة ، لأنّ سجودها زيادة في المكتوبة ، وكلّ
زيادة فيها مبطلة لها.
وثانيهما : أن
يكون الظرف فيه مستقرّا ، فكأنّه قال : لأنّ سجودها زيادة حاصلة في المكتوبة.
وكأنّ المقصود التعليل بأمر مجمل ، ولم يكن بيان تفصيله مرادا بهذا الخبر ، نظير
ما ورد في تعليل الأمر بالتيمّم من أنّ ربّ الماء ربّ التراب ، إذ لو كان هذا
واردا في مقام بيان علّة الحكم تفصيلا ، وكان المقصود منه بيان كون العلّة فيه ما
هو ظاهره لجاز التيمّم حينئذ بكلّ شيء ، لأنّ ربّ الماء ربّ كلّ شيء ، فلا بدّ أن
يكون المراد به الإشارة إلى علّة لا نفهم تفصيلها من هذا اللفظ. والخبر على المعنى
الأوّل وإن كان مؤيّدا للمعنى الثاني ، بل الأوّل من معاني الزيادة ، إلّا أنّه
.................................................................................................
______________________________________________________
على المعنى الثاني
يصير مجملا لا يفيد شيئا في المقام ، فلا يصادم حمل الأخبار المذكورة على ما
استظهرناه من لفظ الزيادة.
ولكنّ المعنى
الأوّل مخدوش من وجهين :
أحدهما : أنّ
الخبر على هذا المعنى يكون مخالفا للإجماع ، لأنّ مقتضاه حينئذ بطلان الصلاة بكلّ
زيادة ، سواء كان الزائد من سنخ المزيد عليه أم لا ، وسواء كان الإتيان بالزائد
بقصد الجزئيّة أم لا ، وقد عرفت أنّ الأصحاب لا يلتزمون بذلك. ودعوى أنّ ظاهره
الإطلاق ، فيبنى على خروج ما أخرجه الدليل ، بعيدة ، ولعلّه لا يلتزم به فقيه.
وثانيهما : أنّا
مع تسليم ظهوره في المعنى الأوّل ، لا نسلّم كون ظهوره بحيث يصير صارفا لسائر
الأخبار المتضمّنة للفظ الزيادة عن ظهورها. ولعلّه إلى هذا أشار المصنّف رحمهالله في الفقه بقوله : «حكم الشارع بأنّ السجود للعزيمة زيادة
لا يوجب التعدّي عن المصاديق العرفيّة للزيادة الواردة في سائر الأخبار ، نظير ذلك
ما ورد في بعض الروايات أنّ التكفير عمل ، وليس في الصلاة عمل» انتهى. ويحتمل أن
يكون إشارة إلى إجمال التعليل على ما عرفت. وحينئذ لا بدّ من اعتبار قصد جزئيّة
الزائد في الحكم بالبطلان بالزيادة.
الثاني : أنّه بعد
ثبوت دلالة الأخبار المذكورة على بطلان الصلاة بالزيادة بالمعنى المذكور ، فهل
النسبة بينها وبين ما ورد في الصحيح من قوله عليهالسلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور ، والوقت ،
والقبلة ، والركوع ، والسجود» عموم من وجه أو مطلقا أو تباين كلّي؟
وتفصيل الكلام فيه
يتوقّف على بيان ما تحتمله الصحيحة ، وهو وجوه :
أحدها : أن يكون
الحكم بعدم الإعادة عامّا لكلّ من صورتي الزيادة والنقيصة ، سواء وقعا عمدا أم
سهوا. وحينئذ تكون النسبة بينهما عموما مطلقا ، لاختصاص الأخبار المذكورة بصورة
الزيادة ، سواء كانت عمديّة أم سهويّة ،
.................................................................................................
______________________________________________________
فتخصّص الصحيحة
بها.
وثانيها : أن يكون
الحكم بعدم الإعادة مخصوصا بالنقيصة السهويّة. ولعلّ هذا هو أظهر محتملات الصحيحة.
أمّا عدم شمولها للنقيصة العمديّة فلأنّه لو لم تجب إعادة الصلاة مع نقص بعض
أجزائها عمدا ، ولم يقدح نقصه كذلك ، لم يكن جزءا. وأمّا عدم شمولها للزيادة
العمديّة والسهويّة فربّما يقال فيه : إنّ الإمام عليهالسلام قد فسّر المستثنى في الصحيحة ـ أعني قوله عليهالسلام : «إلّا من خمسة» ـ بالخمسة المذكورة فيه ، ومنها الطهارة والوقت
والقبلة ، ولا معنى للزيادة فيها أصلا ، فعدم قابليّة المستثنى لإرادتها منه يكشف
عن عدم شمول المستثنى منه أيضا لها.
وهو لا يخلو من
نظر ، إذ يمكن تقدير المستثنى منه ما يشمل الزيادة أيضا ، بأن يقال : إنّ الصحيحة
في تقدير أن يقال : لا تعاد الصلاة بما يقع فيها ممّا يوجب تغيير هيئتها ، إمّا من
جهة زيادة بعض الأجزاء ، أو إيجاد بعض الموانع ، أو نقص بعض الأجزاء أو الشروط ،
وتفرض الزيادة بالنسبة إلى المحلّ القابل لها ، فعدم قابليّة بعض المستثنيات
للزيادة لا يستلزم عدم العموم في المستثنى منه.
فالاولى أن يقال :
إنّ المستثنى منه غير مذكور ، فلا بدّ إمّا من تقدير لفظ يعمّ الزيادة العمديّة
والسهويّة والنقيصة السهويّة ، وإمّا من تقدير لفظ يختصّ بالنقيصة السهويّة ،
وأمّا تقدير لفظ يختصّ بالزيادة فلا ، لدخول صورة النقص في الصحيحة يقينا. ومن
المقرّر في محلّه أنّه مع حذف متعلّق الحكم لا بدّ من تقدير أظهر أفراده إن كان ،
وإلّا فالمتيقّن منها ، وإلّا فالعموم ، لعدم المرجّح بينها. ولا بدّ هنا أيضا من
تقدير النقيصة السهويّة ، لكون وجوب الإعادة بها يقينيّا ، مضافا إلى موافقته
للأصل ، لأصالة عدم وجوب الإعادة في غيرها. وعليه فالنسبة بين الصحيحة والأخبار
المتقدّمة هو التباين الكلّي ، لاختصاص الاولى بصورة النقص سهوا ، والثانية بصورة
الزيادة مطلقا ، فلا بدّ من إعمال كلّ منهما. نعم ، تشمل الصحيحة صورة الزيادة
السهويّة بالإجماع المركّب ، إذ كلّ من قال بعدم وجوب الإعادة مع النقص
.................................................................................................
______________________________________________________
سهوا قال به أيضا
مع الزيادة كذلك ، فتكون النسبة بينهما عموما من وجه.
وثالثها : أن يكون
الحكم بعدم الإعادة مخصوصا بصورتي الزيادة والنقيصة السهويّتين. والنسبة حينئذ بين
الصحيحة والأخبار المتقدّمة ، أمّا بالنسبة إلى ما دلّ على البطلان بالزيادة مطلقا
ـ سواء وقعت عمدا أم سهوا ، مثل قوله عليهالسلام : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» ـ عموم من وجه ،
فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي الزيادة السهويّة ، ولكنّ الترجيح مع الصحيحة ،
لحكومتها عليه ، بل وغيره من الأخبار المتقدّمة. وأمّا بالنسبة إلى ما دلّ على البطلان
بالزيادة السهوية ـ مثل قوله عليهالسلام : «وإذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته»
لظهوره في صورة وقوع الزيادة عن سهو ـ فعموم وخصوص مطلقا إن قلنا بكون الاستثناء
من المخصّصات المنفصلة كما قيل ، لكون خبر «إذا استيقن» حينئذ بمنزلة إحدى المستثنيات
في الصحيحة ، لأنّ هذا الخبر مع قوله : «إلّا من خمسة» بمنزلة خاصّين منفصلين
مخصّصين لعموم قوله : «لا تعاد الصلاة». وإن قلنا بكونه من المخصّصات المتصلة ـ كما
هو الأظهر ـ فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين خبر «إذا استيقن» وقوله عليهالسلام : «لا تعاد الصلاة» بعد تخصيصه بقوله «إلّا من خمسة» لكون
العامّ مع مخصّصاته المتّصلة بمنزلة عامّ واحد ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين
الباقي بعد تخصيصه بها والعمومات الأخر.
وربّما يقال : إنّ
النسبة بينهما حينئذ عموم وخصوص مطلقا ، ومادّة الافتراق من جانب الصحيحة هو النقصان
السهوي ، ومادّة الاجتماع هي الزيادة السهويّة ، فيحمل المطلق على المقيّد منهما.
وفيه نظر ، لأنّ
خبر «إذا استيقن» دالّ على وجوب الإعادة مع الزيادة السهويّة مطلقا ، سواء كان
الزائد من الامور الخمسة المذكورة في الصحيحة أم من
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
غيرها. والصحيحة
مفصّلة بينهما ، بإيجاب الإعادة بزيادة الخمسة المذكورة أو نقصها سهوا ، وعدم
وجوبها في غيرها ، فإذا زاد شيئا من الخمسة المذكورة فهما يتصادقان على زيادته ،
لدلالتهما على وجوب الإعادة حينئذ. وتفارق الصحيحة خبر «إذا استيقن» من حيث
دلالتها على عدم وجوب الإعادة مع نقص شيء ممّا عدا الامور الخمسة ، ووجوبها مع نقص
شيء منها ، لسكوت الخبر عن بيان حكم النقيصة. ويتعارضان في زيادة ما عدا الامور
الخمسة سهوا ، لدلالة الصحيحة على عدم وجوب الإعادة حينئذ ، ودلالة الخبر على
وجوبها. ومثلهما يعدّان من قبيل المتعارضين من وجه لا مطلقا ، إذ لا بدّ في
المتعارضين بالعموم مطلقا من كون الخاصّ بحيث لو عمل بالعامّ لغى الخاصّ من رأس ،
وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، إذ لو عمل بالصحيحة لا يلزم منه إلغاء الخبر
المذكور ، لبقاء دلالته على وجوب الإعادة مع زيادة الامور الخمسة ، إذ غاية ما
يلزم من العمل بعموم الصحيحة هو عدم وجوب الإعادة بكلّ زيادة ونقيصة سهويّة ما عدا
الامور الخمسة المذكورة فيها.
والخبر المذكور
إنّما يدلّ على وجوب الإعادة بزيادة الامور الخمسة وغيرها ، فإذا عمل بعموم الاولى
يلزم تخصيص هذا الخبر بغير الامور الخمسة المذكورة ويعمل به فيها ، ولا يلزم
إلغائه بالمرّة ، فلا بدّ حينئذ من إجراء حكم المتعارضين بالعموم من وجه عليهما ،
وهو الحكم بالإجمال في مادّة التعارض ، والتماس مرجّح داخلي أو خارجي.
ويمكن ترجيح
الصحيحة بوجهين :
أحدهما : أنّ قوله
عليهالسلام في مرسلة : «سفيان تسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة»
يقتضي ذلك ، وذلك لأنّ النسبة بينها وبين خبر «إذا استيقن» تباين كلّي ، لأنّ المرسلة
تدلّ على صحّة الصلاة مع كلّ زيادة ، والخبر المذكور يدلّ على بطلانها ووجوب
إعادتها بها.
.................................................................................................
______________________________________________________
فإن قلت : إنّ
المرسلة عامّة لكلّ زيادة ونقيصة ، والخبر المذكور خاصّ بالزيادة ، فيخصّص عمومها
به.
قلت : إنّ المرسلة
متضمّنة لعامّين ، أحدهما عموم الزيادة ، والآخر عموم النقيصة ، لا أنّها متضمّنة
لعامّ واحد شامل لكلّ من الزيادة والنقيصة ، فلا بدّ من ملاحظة نسبة كلّ من
العامّين بأنفسهما والخبر المذكور. ولا تعارض بينه وبين عموم النقيصة فيها كما هو
واضح. وأمّا بينه وبين عموم الزيادة فقد عرفت أنّ النسبة بينهما تباين كلّي. وأمّا
النسبة بين المرسلة والصحيحة فعموم وخصوص مطلقا ، لعموم الاولى من حيث الدلالة على
صحّة الصلاة مع كلّ زيادة ، وخصوصيّة الثانية من حيث الدلالة على الصحّة فيما عدا
الامور الخمسة ، فتخصّص بها المرسلة. فيرجع مؤدّاهما إلى عدم صحّة الصلاة بزيادة
الامور الخمسة ، فتكون المرسلة حينئذ أخصّ مطلقا من خبر «إذا استيقن» فيخصّص بها ،
فينحصر مؤدّاه حينئذ في بيان حكم بطلان الصلاة مع زيادة الامور الخمسة. اللهمّ
إلّا أن يناقش فيه أوّلا : بضعف المرسلة ، لإعراض الأصحاب عنها ، مع إرسالها في
نفسها. وثانيا : بورودها في مقام بيان وجوب سجدتي السهو لكلّ زيادة في الصلاة ، من
دون تعرّض لصحّتها وفسادها حينئذ ، فتأمّل.
وثانيهما : أنّك
قد عرفت أنّ أخبار الزيادة منها ما يدلّ بإطلاقه على البطلان بالزيادة العمديّة
والسهويّة ، ومنها ما هو مختصّ بالزيادة السهويّة.
أمّا الأوّل فقد
عرفت أنّ النسبة بينه وبين الصحيحة عموم من وجه ، وأنّها حاكمة عليه في مادّة
اجتماعهما.
وأمّا الثاني فهو
خبران ، أحدهما : خبر «إذا استيقن». والآخر : ما حكاه المصنّف رحمهالله عن تفسير العيّاشي فيمن أتمّ في السفر «أنّه يعيد» معلّلا
بأنّه زاد في فرض الله.
والأوّل لا يعارض
الصحيحة ، لاضطراب متنه ، لأنّ الموجود في بعض النسخ ـ كما نقله المصنّف رحمهالله ـ وفي بعض آخر
التصريح بزيادة الركعة. وعليه فلا
.................................................................................................
______________________________________________________
كلام فيه ، إذ
المقصود من الاستدلال بأخبار الزيادة في المقام تأسيس أصل في الزيادة السهويّة
الواقعة في الصلاة لتلاحظ النسبة بينه وبين الصحيحة ، لا إثبات بطلانها بزيادة
ركعة فيها.
وأمّا الثاني
فيحتمل قريبا أن يكون المراد بفرض الله تعالى فيه ما هو المصطلح في الأخبار من
إطلاقه على ما يستفاد وجوبه من الكتاب في مقابل ما يستفاد حكمه من السنّة المصطلحة
، كما في المرويّ في الاستبصار عن أحدهما عليهماالسلام ، قال : «إنّ الله عزوجل فرض الركوع والسجود والقراءة سنّة ، فمن ترك القراءة
متعمّدا أعاد الصلاة ، ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته ولا شيء عليه». وحينئذ يكون
المقصود من التعليل الإشارة إلى أنّ بطلان الصلاة حين الإتمام في السفر إنّما هو
من حيث استلزامه الزيادة فيما فرضه الله تعالى من الركوع والسجود ، وهو لا يحتمل
الزيادة والنقصان عمدا ولا سهوا ، لا من حيث استلزام مطلق الزيادة للبطلان.
وبالجملة ، إنّ من
أجزاء الصلاة المنصوصة في الكتاب هو الركوع والسجود كما في الخبر المتقدّم. والمراد
بالتعليل الوارد في المرويّ عن تفسير العيّاشي هو بيان الاهتمام بشأن ما فرضه الله
تعالى في كتابه ، وأنّ بطلان الصلاة بالإتمام في السفر إنّما هو لاستلزامه الزيادة
في فرض الله تعالى من حيث استلزامه تكرار الركوع والسجود ، لا لاستلزامه سائر
الزيادات أيضا ، مثل ذكر الركوع والسجود والتسبيحات ونحوها ، فلا يدلّ على بطلان
الصلاة بكلّ زيادة كما هو المطلوب في المقام ، حتّى لا تلاحظ النسبة بينه وبين
الصحيحة الدالّة على عدم البطلان إلّا بالخمسة المذكورة فيها.
وممّا يقرّب ما
ذكرناه ـ مضافا إلى ما عرفته من رواية الاستبصار ـ ما روي عن منصور بن حازم قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : إنّي صلّيت المكتوبة ، فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلّها.
قال : أليس أتممت الركوع والسجود؟ قلت :
استيقن أنّه زاد في
المكتوبة فليستقبل صلاته» .
وقوله عليهالسلام
فيما حكي عن تفسير العياشي فيمن أتمّ في السفر : «إنّه يعيده» ؛ قال : «لأنّه زاد
في فرض الله عزوجل»
دلّ ـ بعموم التعليل ـ على وجوب الإعادة لكلّ زيادة في فرض الله عزوجل
، وما ورد في النهي عن قراءة العزيمة في الصلاة من التعليل بقوله عليهالسلام
: «لأنّ السجود زيادة في المكتوبة» ، وما ورد في الطواف من : «أنّه مثل الصلاة
المفروضة في أنّ الزيادة فيه مبطلة له» .
ولبيان معنى الزيادة (١٨٠٤) وأنّ سجود
العزيمة (١٨٠٥) كيف يكون زيادة في المكتوبة ، مقام آخر. وإن كان ذكره هنا لا يخلو
عن مناسبة ، إلّا أنّ الاشتغال بالواجب ذكره بمقتضى وضع الرسالة أهمّ من ذكر ما
يناسب.
______________________________________________________
نعم. قال : فقد
تمّمت صلاتك إذا كنت ناسيا». وكذا المرويّ من تقسيم الصلاة على ثلاث حصص : الطهور
والركوع والسجود. والله أعلم.
١٨٠٤. قد أشار المصنّف رحمهالله إجمالا في أوّل هذه المسألة إلى معنى الزيادة المبحوث عنها
، وأنّ سجود العزيمة ليس منها ، وأحال بيانه إلى هنا ، وأنت ترى ما بيّنه هنا.
١٨٠٥. قد عرفت في الحاشية السابقة أنّ الزيادة المبطلة هي
الزيادة المأتيّ بها بقصد الجزئيّة لا مطلقها ، وأنّ سجود العزيمة ليس كذلك.
والمراد بكونه زيادة في المكتوبة ـ كما في الخبر الناهي عن قراءة العزيمة في
الصلاة ـ كون المكتوبة ظرفا للزيادة لا مزيدا عليها ، ولذا لا تبطل الصلاة به ، بل
لم يصرّح ببطلانها به قبل الفاضل من عدا الحلّي كما اعترف به في كشف اللثام ، وإن
أجمعوا على حرمة قراءتها فيها. ولا ظهور في الخبر الناهي المذكور أيضا في البطلان
، إذ غايته الدلالة على الحرمة خاصّة ، وحينئذ يشكل تمسّك المصنّف رحمهالله به للمقام. نعم ، قد وجّه القول بالبطلان في الجواهر بما
لا يخلو من نظر ، ولذا قد اختار هو أيضا القول بعدمه. والمقام لا يسعه الكلام في
ذلك ، فراجعه.
المسألة الثالثة : في ذكر الزيادة سهوا
التي تقدح عمدا وإلّا فما لا يقدح عمدا فسهوها أولى بعدم القدح. والكلام هنا كما
في النقص نسيانا ؛ لأنّ مرجعه إلى الإخلال بالشرط نسيانا ، وقد عرفت أنّ حكمه
البطلان (١٨٠٦) ووجوب الإعادة.
______________________________________________________
١٨٠٦. توضيحه أنّك قد عرفت أنّ محلّ الكلام في هذه المسألة إنّما
هو في زيادة الجزء الذي تبطل العبادة بزيادته عمدا ، ومرجعه إلى كون عدم زيادته
شرطا في صحّتها.
وإذا فرض كون عدم
زيادته في الجملة شرطا في صحّتها ، فإذا شكّ في كون زيادة مثل هذا الجزء سهوا
مبطلة للعبادة ـ كما هو موضوع هذه المسألة ـ يرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في كون صحّة
العبادة مشروطة بعدم زيادته سهوا ايضا. وقد تقدّم في آخر المسألة الاولى أنّه إذا
ثبتت شرطيّة شيء في الجملة للعبادة ، وشكّ في كون شرطيّته مطلقة شاملة لحال العمد
والسهو أو مختصّة بحال العمد ، أنّ مقتضى الأصل الأوّلي بطلان العبادة بزيادته
سهوا أيضا.
هذا كلّه بحسب
الاصول العمليّة. وأمّا بحسب الاصول اللفظيّة ، فقد تقدّم فيما علّقناه على
المسألة الثانية أنّ الأخبار الدالّة على بطلان الصلاة بالزيادة على قسمين ، قسم
منها يدلّ بإطلاقه على بطلانها بالزيادة السهويّة والعمديّة. وتقدّم أيضا أنّه
مخصّص بخبر «لا تعاد» بناء على اختصاصه بالزيادة السهويّة ، قضيّة لحمل المطلق على
المقيّد. وقسم منها مختصّ بالزيادة السهويّة ، مثل خبر «إذا استيقن». وقد تقدّم
أنّ النسبة بينه وبين خبر «لا تعاد» عموم من وجه ، وأنّ الترجيح في مادّة التعارض ـ
أعني : زيادة ما عدا الامور الخمسة المذكورة في خبر «لا تعاد» ـ له ، فلا دلالة
لشيء من القسمين على بطلان الصلاة بالزيادة السهويّة فيما عدا الامور الخمسة ،
فيجعل ذلك أصلا ثانويّا في المقام. اللهمّ إلّا أن يستظهر عدم شمول خبر «لا تعاد»
لصورة الزيادة مطلقا كما تقدّم هناك ، فيسلم القسمان حينئذ من المعارض ، ويكون
الأصل الثانوي حينئذ موافقا للأصل الأولي.
فثبت من جميع المسائل الثلاث : أنّ
الأصل في الجزء (١٨٠٧) أن يكون نقصه مخلا ومفسدا دون زيادته ، نعم ، لو دلّ دليل
على قدح زيادته عمدا كان مقتضى القاعدة البطلان بها سهوا ، إلّا أن يدلّ دليل على
خلافه مثل قوله عليهالسلام
: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة»
؛ بناء على شموله لمطلق الإخلال الشامل للزيادة ، وقوله عليهالسلام
في المرسلة : «تسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة تدخل عليك» .
______________________________________________________
ولكنّ المصنّف رحمهالله سيشير بقوله : «إلّا أن يدلّ دليل ...» إلى أنّ مقتضى
الأصل الثانوي هنا في خصوص الصلاة هي الصحّة ، وهو مبنيّ على أمرين ، أحدهما :
عموم خبر «لا تعاد» للزيادة السهويّة ، وقد عرفت ضعفه. وثانيهما : كون أخبار
الزيادة التي نقلها في المسألة الثانية ظاهرة في الزيادة العمديّة أو أعمّ منها
ومن الزيادة السهويّة ، وكون المرسلة التي سيذكرها ظاهرة في الزيادة السهويّة ، إذ
يرتفع التعارض بينهما على الأوّل ، ويخصّص الاولى بالثانية على الثاني.
وفيه نظر ، لأنّ
خبر «إذا استيقن» من أخبار الزيادة ظاهر في الزيادة السهويّة كما سيصرّح به ، بل
وكذلك خبر العيّاشي ، وحينئذ يقع التعارض بينهما والمرسلة ، فلا بدّ من إجراء حكم
التعارض عليهما.
١٨٠٧. يعني : الجزء الذي ثبتت جزئيّته وشكّ في ركنيّته. وحاصله :
أنّ الأصل في مثل هذا الجزء أن يكون نقصه عمدا وسهوا ـ كما تقدّم في المسألة
الاولى ـ مخلّا ومفسدا ، دون زيادته إذا كانت عن عمد كما تقدّم في المسألة
الثانية. وأمّا إذا كانت سهوا فهي بحسب الأصل الأوّلي مبطلة ، كما تقدّم في
المسألة الثالثة ، وأشار إليه هنا بقوله : «نعم ، لو دلّ دليل ...». وأنّ موضوع
الكلام في تلك المسألة زيادة الجزء الذي كانت زيادته عمدا مبطلة ، وبحسب الأصل
الثانوي عدم البطلان ، كما أشار إليه بقوله : «إلّا أن يدلّ دليل». ولكنّك قد عرفت
في الحاشية السابقة ما ينبغي تحقيق المقام به.
فتلخّص من جميع ما ذكرنا (١٨٠٨) أنّ
الأصل الأوّلي فيما ثبت جزئيّته : الركنيّة إن فسّر الركن بما يبطل الصلاة بنقصه.
وإن عطف على النقص الزيادة عمدا وسهوا ، فالأصل يقتضي التفصيل بين النقص والزيادة
عمدا وسهوا (١٨٠٩). لكنّ التفصيل بينهما غير موجود في الصلاة ؛ إذ كلّ ما يبطل
الصلاة بالإخلال به سهوا يبطل بزيادته عمدا وسهوا ، فأصالة البراءة الحاكمة بعدم
البأس بالزيادة معارضة ـ بضميمة عدم القول بالفصل ـ بأصالة الاشتغال الحاكمة
ببطلان العبادة بالنقص سهوا. فإن جوّزنا الفصل (١٨١٠) في الحكم الظاهري الذي
يقتضيه الاصول العمليّة فيما لا فصل فيه من حيث الحكم الواقعي ، فيعمل بكلّ واحد
من الأصلين وإلّا فاللازم ترجيح (١٨١١) قاعدة الاشتغال على البراءة ، كما لا يخفى.
______________________________________________________
١٨٠٨. هذا ملخّص لما ذكره في هذا الأمر الذي ذكر المسائل الثلاث
في ذيله ، وما تقدّم من قوله : «فقد ثبت من جميع المسائل» بيان لملخّص ما ذكره في
خصوص المسائل الثلاث.
١٨٠٩. يعني : بين الزيادة مطلقا والنقص سهوا. ولا بدّ في الزيادة
السهويّة من استثناء صورة وجود الدليل على قدحها في صورة العمد. اللهمّ إلّا أن
يقال بدخول ذلك في صورة النقص ، كما تقدّم من المصنّف رحمهالله في المسألة الثالثة.
١٨١٠. كما ثبت الفصل فيه فيما لا فصل في حكمه الواقعي في موارد
مخصوصة ، مثل إقرار أحد الزوجين بالزوجيّة مع إنكار الآخر ، وأحد الوارثين بالنسب
مع إنكار الآخر ، وهكذا.
١٨١١. لأنّ العقل بمجرّد عدم جريان أصالة البراءة ـ ولو لأجل
المعارضة ـ يحكم بوجوب الاحتياط ، إذ عدم جريان قاعدة الاحتياط حتّى في الشبهات
البدويّة إنّما هو لأجل استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فإذا فرض سقوط العقل
عن الاستقلال بهذه الحكومة ـ ولو لأجل التعارض ـ استقلّ في حكمه بوجوب الاحتياط
لدفع العقاب المحتمل. ومن هذا البيان يظهر أنّ العمل بقاعدة الاحتياط هنا ليس من
جهة ترجيحها على قاعدة البراءة ، لما عرفت من عدم جريانها
هذا كلّه مع قطع النظر عن القواعد
الحاكمة على الاصول ، وأمّا بملاحظتها : فمقتضى «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة»
والمرسلة المذكورة عدم قدح النقص (١٨١٢) سهوا والزيادة سهوا ، ومقتضى عموم أخبار
الزيادة المتقدّمة قدح الزيادة عمدا وسهوا ، وبينهما تعارض العموم من وجه في
الزيادة السهويّة بناء على اختصاص «لا تعاد» (١٨١٣) بالسهو.
______________________________________________________
هنا من رأس ،
فالعبادة لا تخلو من مسامحة.
١٨١٢. أمّا قوله : «لا تعاد» فلما سيصرّح به. وأمّا المرسلة
فلصراحتها في الاختصاص بصورة السهو.
١٨١٣. يعني : مطلقا ، سواء كان السهو من جهة الزيادة أم النقيصة
وأمّا إن قلنا باختصاصه بالنقيصة السهويّة ، كما أسلفناه في بعض الحواشي السابقة ،
فيرتفع التعارض حينئذ من البين ، وهو واضح.
ثمّ إنّ الوجه في
كون النسبة بين قوله «لا تعاد» وأخبار الزيادة عموما من وجه واضح ، لافتراق الأوّل
في النقيصة السهويّة ، والثاني في الزيادة العمديّة ، ويتعارضان في الزيادة
السهويّة ممّا لم يكن من الامور الخمسة المذكورة في خبر «لا تعاد». والوجه في
اختصاصه بصورة السهو واضح ، لأنّه لو شمل صورة العمد أيضا لزم انحصار أجزاء الصلاة
وشرائطها في الخمسة المذكورة فيه ، وهو مخالف لأدلّة سائر الأجزاء والشرائط ، بحيث
لا يمكن الالتزام بأنّ مقتضى «لا تعاد» الانحصار في الخمسة ، فيبنى على عمومه إلّا
ما أخرجه الدليل. مع أنّ قوله «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» صريح في عدم الانحصار
فيها ، لأنّ مقتضاه أنّ للصلاة أجزاء وشرائط غير الخمسة أيضا ، إلّا أنّه لا تجب إعادتها
إلّا من جهة الخمسة. ومن هنا يظهر وجه حكومته على أخبار الزيادة أيضا ، لأنّ
نسبتها إليه كنسبة أدلّة تشريع سائر الأجزاء والشرائط إليه ، كما أشار إليه
المصنّف رحمهالله.
وأمّا كون خبر «لا
تعاد» أعمّ من الزيادة والنقيصة السهويّتين ، فقد تقدّم
والظاهر حكومة قوله «لا تعاد» على أخبار
الزيادة ؛ لأنّها كأدلّة سائر ما يخلّ فعله أو تركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم
وترك الفاتحة ، وقوله «لا تعاد» يفيد أنّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز
الإخلال به إذا وقع سهوا ، لا يوجب الإعادة وإن كان من حقّه أن يوجبها. والحاصل :
أنّ هذه الصحيحة (١٨١٤) مسوقة لبيان عدم قدح الإخلال سهوا بما ثبت قدح الإخلال به
في الجملة.
ثمّ لو دلّ دليل (١٨١٥) على قدح الإخلال
بشىء سهوا (١٨١٦) ، كان أخصّ من الصحيحة إن اختصّت بالنسيان وعمّمت بالزيادة
والنقصان. والظاهر أنّ بعض (١٨١٧) أدلّة الزيادة مختصّة بالسهو مثل قوله : «إذا
استيقن أنّه زاد في المكتوبة استقبل الصلاة».
الأمر الثاني : إذا ثبت جزئيّة شىء أو
شرطيّته في الجملة ، فهل يقتضي الأصل جزئيّته وشرطيّته المطلقتين حتّى إذا تعذّرا
سقط التكليف بالكلّ أو المشروط ، أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكّن ، فلو تعذّرا
لم يسقط التكليف؟ وجهان بل قولان. للأوّل : أصالة البراءة من الفاقد وعدم ما يصلح
لإثبات التكليف به ، كما سنبيّن. ولا يعارضها استصحاب وجوب الباقي ؛ لأنّ وجوبه
كان مقدّمة لوجوب الكلّ ، فينتفي بانتفائه ، وثبوت الوجوب النفسي له مفروض الانتفاء.
______________________________________________________
فيما علّقناه على
المسألة الثانية ما ينبغي تحقيق المقام به.
١٨١٤. يعني : خبر لا تعاد.
١٨١٥. معطوف على قوله : «والظاهر حكومة ..».
١٨١٦. سواء كان السهو من جهة الزيادة أم النقيصة ، لأنّ الدليل
على أيّهما دلّ كان أخصّ من الصحيحة.
١٨١٧. فيكون حينئذ بين هذا البعض وبين الصحيحة عموم وخصوص مطلقا
، فتخصّص به الصحيحة. ويقع الإشكال حينئذ من وجهين : أحدهما : أنّ هذا البعض لو
كان ظاهر الاختصاص بالزيادة السهويّة ، فكيف استدلّ به على البطلان في الزيادة
العمديّة؟ وثانيهما : أنّه يعارض هذا البعض المرسلة المتقدّمة ، فمع
نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة (١٨١٨)
مثلا وقلنا بكونها اسما للأعمّ ، كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء الغير المقوّمة
فيها من قبيل التقييد ، فإذا لم يكن للمقيّد
______________________________________________________
فرض عدم المرجّح
لا بدّ من الرجوع إلى عموم الصحيحة كما هو واضح. والله أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع
والمآل.
١٨١٨. توضيح المقام : أنّه إذا ورد الأمر بمركّب ، وثبت كون شيء
جزءا أو شرطا له في الجملة ، وشكّ في كونه جزءا أو شرطا مطلقا أو في حال التمكّن
منه خاصّة ، فلا يخلو : إمّا أن يثبت كلّ من المركّب والمشكوك فيه بدليل لبيّ أو
ما في حكمه كما ستعرفه ، وإمّا بدليل لفظي مبيّن المفهوم ، بأن كان من المطلقات أو
العمومات ، وإمّا أحدهما بأحدهما والآخر بالآخر.
أمّا الأوّل ، بأن
ثبت كلّ منهما بالإجماع المركّب بمثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بناء على وضع ألفاظ العبادات للصحيح ، أو للأعمّ بناء على
عدم استجماعها لبعض شرائط التمسّك بالمطلقات كما اختاره المصنّف رحمهالله في بعض المباحث السابقة ، والمشكوك فيه بمثل قوله : اركع
واسجد أو تطهّر وتستّر ونحوهما ، لوضوح اختصاص التكاليف الشرعيّة بحال التمكّن ،
فالحقّ حينئذ هو التمسّك بأصالة البراءة عن وجوب الباقي عند تعذّر المشكوك فيه.
ودعوى أنّه إذا
دخل الوقت ومضى منه مقدار الصلاة مع التمكّن منها بجميع أجزائها وشرائطها ، ثمّ
عرض العجز عن بعض أجزائها أو شرائطها ممّا شكّ في كونه جزءا أو شرطا مطلقا أو في
حال التمكّن منه خاصّة ، فاستصحاب وجوب الباقي يقتضي اختصاص جزئيّة المشكوك فيه أو
شرطيّته بحال التمكّن ، فإذا ثبت ذلك في محلّ الفرض ثبت فيما عرض العجز عنه من
أوّل الوقت أو قبله بالإجماع المركّب.
لا يقال : يمكن
قلبه ، بتقريب أنّه إذا ثبتت جزئيّته المطلقة أو شرطيّته كذلك بأصالة البراءة فيما
عرض العجز من أوّل الوقت على ما عرفت ، ثبتت في غيره بالإجماع المركّب.
.................................................................................................
______________________________________________________
لأنّا نقول : إنّه
قد قرّر في محلّه أنّ ضميمة الإجماع المركّب في أحد شطريه إذا كانت أقوى كان
مقدّما على الدليل الموجود في الآخر ، ولا ريب أنّ الاستصحاب أقوى من أصالة
البراءة ، لحكومته عليها.
مضعّفة بما أشار إليه المصنّف رحمهالله ، وسنشير أيضا إلى ما في توجيه الاستصحاب المذكور بما ذكره
المصنّف رحمهالله دليلا على القول الثاني.
ثمّ إنّه يندرج في
عنوان هذا القسم أيضا ما لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكلّ والمشروط ، بأن
قال : صلّ قارئا للسورة أو متطهّرا ، وإن قلنا بكون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ،
لأنّ هذا القيد مقيّد للمطلوب ، والأمر متعلّق بالمقيّد بالفتح ، فلا إطلاق له
حتّى يتمسّك به في حال تعذّر القيد. نعم ، يتمّ هذا فيما ثبت القيد من الخارج كما
ستعرفه.
ومن هنا يظهر أنّ
الأولى أن يمثّل المصنّف رحمهالله لذلك بما ذكرناه لا بمثل قوله : «كما لو قلنا بكون الألفاظ
أسامي للصحيح» لأنّه إن أراد به ما لو وقع التصريح بالقيد المشكوك فيه في الكلام
المشتمل على الأمر بالكلّ والمشروط كما عرفته ممّا مثّلناه ، ففيه : أنّك قد عرفت
أنّه لا حاجة معه إلى اعتبار وضع ألفاظ العبادات للصحيح. وإن أراد به ما تجرّد عن
القيد المذكور ، مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ففيه : أنّه إن أراد ثبوت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكلّ
والمشروط ثبوته به بواسطة القول بقاعدة الاشتغال عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ،
لأنّه إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته ـ وإن كان الشكّ ناشئا من فتوى فقيه ـ فمقتضى
القول بقاعدة الاشتغال حينئذ هو وجوب الإتيان به في حال التمكّن منه تحصيلا لليقين
بالبراءة ، ولكن لا يلزم منه القول بجزئيّته في حال تعذّره أيضا ، لأنّ الشكّ في
وجوب الباقي بعد تعذّره بالوجوب النفسي شكّ في أصل التكليف ينفى بأصالة
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
البراءة ، ففيه ـ مع
أنّ مختار المصنّف رحمهالله على القول بالصحيح هو القول بالبراءة ـ أنّ ثبوت الجزء
والشرط حينئذ لم يكن بنفس الأمر بالكلّ والمشروط ، بل به بضميمة فتوى الفقيه
وقاعدة الاشتغال ، فتدبّر. وإن أراد ثبوتهما به على القول بالبراءة عند الشكّ في
الأجزاء والشرائط ، فلا محصّل له من رأس.
ويندرج في هذا
القسم أيضا ما لو ثبتت أجزاء المركّب بأوامر متعدّدة ، كما إذا قال : كبّر واقرأ
الفاتحة واركع واسجد وهكذا ، مع العلم بكون المجموع تكليفا واحدا ، لما أشار إليه
المصنّف رحمهالله بقوله : «فإنّ كلّا منها أمر غيري» إلى آخره. والوجه فيه
واضح ، لأنّ شيئا منها إن كان نفسيّا لم يعقل كونه جزءا من المركّب ، لوضوح عدم
مطلوبيّة الجزء من حيث جزئيّته لنفسه ، فإذا كان غيريّا ينتفي الغير بانتفائه.
وأمّا احتمال وجوب الباقي بعد انتفائه فهو منفي بأصالة البراءة.
ومن هنا يظهر ضعف
ما حكي عن عوائد الأيّام ، قال : «لو كان هناك خطابات متعدّدة بتعدّد الأجزاء ،
يمكن التمسّك في الأجزاء الباقية بما يدلّ عليه خطاباتها ، كما إذا قال : («يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، وقال في خطاب آخر : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) أيديكم ، وهكذا إلى آخر أجزاء الوضوء ، والوجه واضح»
انتهى.
وأمّا الثاني ،
بأن ورد قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بناء على القول بالأعمّ وجواز التمسّك بمطلقات العبادات ،
بأن كانت جامعة لشرائط العمل بالإطلاق ، وورد أيضا قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» وقوله : «لا صلاة إلّا
بطهور» ونحوهما ، فإنّ مقتضى إطلاق الأمر بالصلاة وإن كان وجوب الإتيان بها ولو مع
تعذّر الفاتحة والطهور ، إلّا أنّ مقتضى إطلاق جزئيّة الفاتحة وشرطيّة الطهور سقوط
الأمر بها حينئذ ، وهو حاكم على الإطلاق الأوّل ، فيكون قوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مقيّدا بالقدرة على الفاتحة والطهور ، فلا يشمل العاجز
عنهما.
إطلاق ـ بأن قام
الإجماع على جزئيّته في الجملة أو على وجوب المركّب من هذا الجزء في حقّ القادر
عليه ـ كان القدر المتيقّن منه ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر ، أمّا العاجز
فيبقى إطلاق الصلاة بالنسبة إليه سليما عن المقيّد ، ومثل ذلك الكلام في الشروط.
نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر
بالكلّ والمشروط ـ كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ـ لزم من انتفائهما
(١٨١٩) انتفاء الأمر ، ولا أمر
______________________________________________________
وأمّا الثالث ،
فإن كان الجزء أو الشرط ثابتا بدليل لفظي مطلق ، بخلاف الكلّ والمشروط كما يظهر
ممّا قدّمناه ، فهو في حكم القسم الثاني. وإن كان بالعكس يجب الإتيان بالباقي عملا
بإطلاق دليل الكلّ والمشروط ، فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في هذا الفرض ـ كما
أشار إليه المصنّف رحمهالله ـ بقوله : «فينحصر
الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأوّل» يعني : فيما كان المقيّد بالفتح مطلقا
دون المقيّد بالكسر. ولا غرو في استلزام ذلك لكون المطلق مطلقا بالنسبة إلى بعض
ومقيّدا بالنسبة إلى بعض آخر ، وذلك لأنّ هذا الإشكال الوارد في جميع المطلقات ـ كما
أشار إليه المصنّف رحمهالله إنّما هو على مذهب المشهور من ظهورها بحسب الوضع في
الإطلاق ، وكون تقييدها موجبا للتجوّز ، كما نسبه إليهم المحقّق القمّي. وأمّا على
مختار المصنّف رحمهالله وفاقا لسلطان العلماء ـ من كونها موضوعة للماهيّة المهملة
فلا ، لصدقها حينئذ على المجرّد عن القيد وعلى المقيد ، لأنّ دلالة القيد حينئذ في
قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) على الطبيعة والقيد من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول ، فلفظ
الرقبة يدلّ على مطلوبيّة الطبيعة ، ولفظ مؤمنة على مطلوبيّة الإيمان ، بحيث يكون انفهام
كلّ منهما مستندا إلى لفظه الدالّ عليه ، وإن كان المراد الواقعي من هذا الكلام هي
الطبيعة المقيّدة. وليطلب تحقيق المقام في ذلك من محلّ آخر.
١٨١٩. أي : الكلّ والمشروط.
آخر بالعارى عن
المفقود. وكذلك لو ثبت أجزاء المركّب من أوامر متعدّدة ؛ فإنّ كلّا منها أمر غيري
إذا ارتفع بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدّمة ، أعني الكلّ ، فينحصر الحكم بعدم
سقوط الباقي في الفرض الأوّل كما ذكرنا.
ولا يلزم من ذلك استعمال لفظ «المطلق»
في المعنيين ، أعني : المجرّد عن ذلك الجزء بالنسبة إلى العاجز والمشتمل على ذلك
الجزء بالنسبة إلى القادر ؛ لأنّ المطلق كما بيّن في موضعه موضوع للماهيّة المهملة
الصادقة على المجرّد عن القيد والمقيّد ؛ كيف؟ ولو كان كذلك كان كثير من المطلقات
مستعملا كذلك ؛ فإنّ الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلّفين الموجودين
أو مطلقا ، مع كونهم مختلفين في التمكّن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر ،
والصحّة والمرض ، وغير ذلك. وكذا غير الصلاة من الواجبات.
وللقول الثاني : استصحاب وجوب الباقي
إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة بناء على أنّ المستصحب (١٨٢٠) هو مطلق الوجوب ،
بمعنى لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ، أو الوجوب النفسي
المتعلّق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، بدعوى صدق
الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللاحق ولو مسامحة ؛ فإنّ أهل
العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : أنّ الصلاة كانت واجبة عليه
حال القدرة على السورة ، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها.
______________________________________________________
١٨٢٠. هذا تصحيح للتمسّك بالاستصحاب بوجهين ، مرجعهما إلى
المسامحة في أمر الاستصحاب ، إمّا في الحكم المستصحب أو موضوعه.
أحدهما : أنّ
المستصحب هو القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري ، وهو مطلق المطلوبيّة ، وهو
وإن لم يثبت وجود الفرد المحتمل المطلوب ـ أعني : الوجوب النفسي ـ إلّا على القول
بالاصول المثبتة ، إلّا أنّ أهل العرف لا يفرّقون بين مطلق المطلوبيّة والمطلوبيّة
النفسيّة ، ويزعمون ثبوت الثانية بثبوت الأوّل ، بزعم اتّحادهما وعدم التغاير
بينهما.
.................................................................................................
______________________________________________________
وثانيهما : أن
يدّعى أنّ المستصحب هو الوجوب النفسي لكن مع المسامحة في موضوعه ، بدعوى كون
موضوعه هو المعنى الأعمّ من الواجد للجزء المتعذّر والفاقد له ، فيقال بعد تعذّر
بعض الأجزاء : إنّ هذه الأجزاء الباقية كانت واجبة بالوجوب النفسي ، فالأصل بقائها
على ما كانت عليه ، لفرض كون الموضوع هو المعنى الأعمّ الذي لا يقدح في صدق بقائه
تعذّر بعض الأجزاء.
وهنا وجه الآخر
لاستصحاب الوجوب النفسي قد أشار إليه المصنّف رحمهالله مع الوجهين السابقين في الأمر الحادي عشر من تنبيهات مبحث
الاستصحاب ، وليطلب تحقيق المقام هناك.
وقد تمنع صحّة التسامح في أمر الاستصحاب من رأس ، لأنّ هذا مبنيّ
على القول باعتبار الاستصحاب لأجل دلالة الأخبار عليه ، ولا ريب أنّ المسامحة في
مباحث الألفاظ إنّما هو فيما رجعت المسامحة إلى دلالة اللفظ بحسب المادّة أو
الهيئة ، بأن كان لفظ الماء مثلا موضوعا بحسب اللغة للصافي منه ، وتسامح العرف في
إطلاقه على الكدر منه في الجملة ، وهكذا. ومرجعه إلى كون اللفظ بحسب العرف موضوعا
للأعمّ من الواجد لما يعتبر في تحقّق مدلوله اللغوي.
وأمّا لو تشخّص
مدلول اللفظ بحسب اللغة والعرف ، وتسامح العرف في بعض مصاديقه العرفيّة ، بأن ثبت
كون لفظ الصعيد مثلا موضوعا بحسب العرف واللغة للتراب الخالص مثلا ، فسامح العرف
في إطلاقه على الرماد مثلا ، فلا دليل على اعتبار هذه المسامحة. ومن راجع أبواب
الفقه وجد مداقّة العلماء في الأحكام أكثر من مداقّة الناس في الذهب والفضّة ، لكونها
عندهم أعزّ منهما. فراجع مسألة المسافة في القصر والإتمام والكيل والوزن في الزكاة
والخمس ، لإفتائهم بعدم جواز القصر فيما دون ثمانية فراسخ ولو بمقدار شبر ، وإن
كان أهل العرف يطلقون الفرسخ على ما كان أقلّ من مقداره المعيّن بخمسين ذراعا ،
وكذلك
__________________
ولو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب
لاختلّ جريانه في كثير من الاستصحابات ، مثل استصحاب كثرة الماء وقلّته ؛ فإنّ
الماء المعيّن الذي اخذ بعضه أو زيد عليه يقال : إنّه كان كثيرا أو قليلا ، والأصل
بقاء ما كان مع أنّ هذا الماء الموجود لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ؛ وإلّا لم
يعقل الشكّ فيه ، فليس الموضوع فيه إلّا
هذا الماء مسامحة في مدخليّة الجزء الناقص أو الزائد في المشار إليه ؛ ولذا يقال
في العرف : هذا الماء كان كذا ، وشكّ في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته
ونقيصته.
ويدلّ على المطلب ايضا : النبويّ (١٨٢١)
والعلويّان المرويّان في عوالي اللآلي ، فعن النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» .
وعن عليّ عليهالسلام
:
______________________________________________________
لا يتسامحون في
مسألتي الزكاة والخمس بحبّة حنطة أو شعير ، وإن تسامح أهل العرف في الوزن والكيل
بأزيد من ذلك. ونقول فيما نحن فيه أيضا : إذا دلّت الأخبار على عدم جواز نقض
اليقين بالشكّ ، وتبيّنت قيود هذا الكلام مفهوما عند العرف ، فما الدليل على
التسامح في مصاديقها الخارجة بما تقدّم؟
فإن قلت : استصحاب
الكرّية عند الشكّ فيها إجماعي كما ادّعاه صاحب الرياض ، مع أنّه لا يتمّ ـ كما
ذكره المصنّف رحمهالله إلّا بالمسامحة العرفيّة.
قلت : نعم ، إلّا
أنّ العلماء لعلّهم اعتمدوا فيه على بناء العقلاء ، وهو مبنيّ على الظنّ ولو نوعا.
ويؤيّده عدم تمسّك من تقدّم على والد شيخنا البهائي بالأخبار الواردة في هذا
الباب. وسيجيء تحقيق الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب.
هذا ، مع أنّه قد
يورد على الوجه الثاني ـ بعد تسليم المسامحة على الوجه الأوّل ـ بعدم اطّراده إذ
قد لا يصدق بقاء الكلّ بعد تعذّر بعض أجزائه ، كالأجزاء الركنيّة على ما زعمه
المحقّق القمّي رحمهالله. اللهمّ إلّا أن يكون الوجهان من قبيل مانعة الخلوّ ، لا
كون كلّ واحد منهما وجها مستقلّا مطّردا في جميع الموارد.
١٨٢١. المرويّ في دعائم الإسلام ، وهو أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله خطب فقال : «إنّ الله
__________________
«الميسور لا يسقط
بالمعسور» ، و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه». وضعف أسنادها (١٨٢٢) مجبور باشتهار
التمسّك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبّع.
______________________________________________________
كتب عليكم الحجّ.
فقام عكاشة ـ ويروى سراقة بن مالك ـ فقال : في كلّ عامّ يا رسول الله؟ فأعرض عنه
حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا. فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم
لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم أكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم. وإنّما هلك
من هلك قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه
ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».
١٨٢٢. لعدم وجودها في الكتب المعتبرة ، وإن اشتهر التمسّك بها في
كتب الاستدلال. ولا إشكال في كون ذلك جابرا لضعفها ، وإنّما الإشكال في تعيين كون
هذا الجبر بحسب السند أو المضمون ، بأن ثبتت بذلك مطابقة مضمونها للواقع ، وإن لم
تكن هذه الأخبار بهذه الألفاظ المخصوصة صادرة عن المعصوم عليهالسلام.
فنقول : قد اشتهر
التمسّك بهذه الأخبار بين المتأخّرين في موارد الفقه ، وأمّا القدماء فلم يظهر
منهم التمسّك بها. نعم ، ربّما يتمسّكون بقاعدة الميسور ، ولكن لم يظهر منهم كون
هذه القاعدة عندهم مأخوذة من الأخبار المذكورة ، ولعلّه كانت عندهم أخبار أخر
صحيحة الأسناد كانت عندهم مستندا لهذه القاعدة ولم تصل إلينا ، نظير تمسّكهم
بقاعدة الضرر. ومجرّد اشتهار التمسّك بها بين المتأخّرين لا يصلح لجبر سندها. نعم
، اشتهار التمسّك بالقاعدة المذكورة بين القدماء ـ سيّما مع ملاحظة اشتهار التمسّك
بالأخبار المذكورة بين المتأخّرين ، سيّما ممّن لا يجوّز العمل بالأخبار المزكّى
رواة سندها بعدل واحد ، ولا بالأخبار المنجبر سندها بالشهرة ، كالمقدّس الأردبيلي
وصاحب المدارك والشهيد الثاني قدسسره ـ يصلح جابرا لها
بحسب مضمونها ، بمعنى ثبوتها بحسب مضمونها وإن لم تثبت بحسب سندها. و
نعم ، قد يناقش في دلالتها (١٨٢٣):
______________________________________________________
تظهر الثمرة
بينهما في عدم جواز التعدّي إلى غير الموارد التي تمسّكوا بها فيها على الأوّل ،
بخلافه على الثاني ، لصيرورتها حينئذ كسائر الأخبار المعتبرة.
ثمّ إنّه على
تقدير انجبارها بحسب السند أو المضمون لا يجوز التعدّي عن الموارد التي تمسّكوا
بهذه الأخبار أو القاعدة فيها ، لأنّها ككثير من القواعد العامّة ـ مثل قاعدة
الضرر ولزوم الوفاء بالعقود والشروط ـ قد كثر تناول يد التخصيص إليها بحيث أوجب
وهنا في دلالتها ، فلا تصلح للتمسّك بها في موارد خلت من عمل العلماء من دون
انجبار وهن دلالتها به ، كما قرّر في محلّه ، وأشار إليه المصنّف رحمهالله أيضا في بعض كلماته.
١٨٢٣. تحقيق الكلام في الاستدلال بالأخبار المذكورة يتوقّف على
بيان أقسام الأمر ، وهي أربعة :
أحدها : أن يكون
هنا أوامر متعدّدة قد أفاد كلّ واحد منها وجوب شيء بنفسه من دون أن يكون هنا جامع
بين هذه الامور ملحوظ في تعلّق الأمر بها ، مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).
الثاني : أن
يتعلّق الأمر بامور تجمعها جهة واحدة ملحوظة في تعلّق الأمر بها ، وكان تعلّقه بها
بحيث كان كلّ واحد منها مناطا للحكم ومحلّا للنفي والإثبات ، كما في العموم
الاصولي. ومثاله من الشرعيّات الأمر بصوم شهر رمضان بناء على كون صوم كلّ يوم
محلّا للحكم.
الثالث : أن
يتعلّق الأمر بالمركّب الخارجي ، مثل الصلاة والصوم.
الرابع : أن
يتعلّق الأمر بالطبيعة المقيّدة بمثل الزمان والمكان أو الحال أو الإضافة أو نحوها
، مثل الأمر بغسل الميّت بماء السدر. وهو على قسمين :
أحدهما : أن يكون
القيد بحيث لو انتفى وتحقّقت الطبيعة مع قيد آخر كان بين القيدين تغاير كلّي ، كما
إذا ورد الأمر بتضحية شاة ، فعجز المأمور عن تحصيل
أمّا الأولى ،
فلاحتمال كون (١٨٢٤) «من» بمعنى الباء أو بيانيّا ، و «ما» مصدريّة زمانيّة.
______________________________________________________
الشاة وتمكّن من
تحصيل البقر أو الإبل مثلا ، فإنّ هذه الأفراد وإن اشتركت في صلاحيّة كونها أضحية
إلّا أنّ بينها اختلافا وتغايرا فاحشا ، بحيث لا تصلح لاستنابة أحدها مقام الآخر
في نظر أهل العرف.
وثانيهما : أن
يكون القيد الآخر بحيث يندرج تحت المتعذّر في نظرهم ، كما إذا أمر بالصلاة قائما
فتعذّر القيام وتمكّن منها مع انحناء يسير ، وكذلك الاستلقاء بالنسبة إلى الاضطجاع
، لعدّ الانحناء اليسير قسما من القيام ، وكذا الاستلقاء من الاضطجاع. ولا إشكال
في عدم شمول الأخبار المذكورة للقسم الأوّل من هذه الأخبار ، لغاية بعده.
فإن قلت : إنّ
المصنّف رحمهالله قد اعترف بشمول هذه الأخبار للقسم الثاني ، أعني : الأفراد
التي تجمعها جهة واحدة ، ولا ريب أنّ جميع الأوامر الشرعيّة تجمعها أيضا جهة واحدة
، وهي كونها مأمورا بها أو إطاعة ، وقد تعلّق الأمر بها بهذه الجهة ، مثل قوله
تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) و (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ونحوهما.
قلت : إنّ مرادنا
بالجهة الواحدة في القسم الثاني ما كان عنوانا ملحوظا في تعلّق الأوامر بالأفراد
الخاصّة ، وجهة كون الصلاة والصوم مثلا مأمورا بهما أو ممّا تحصل به الإطاعة ليست
عنوانا في تعلّق الأمر بخصوص كلّ منهما ، كيف وهذا العنوان متأخّر عن تعلّق الأمر
بهما فكيف يؤخذ في موضوعه؟ بل المناط في تعلّق الأمر بهما هو عنوانهما الخاصّ ،
وعنوان الأمر والإطاعة في قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) و (أَطِيعُوا اللهَ) إشارة إجماليّة إلى العناوين الخاصّة الملحوظة في تعلّق
الأوامر الخاصّة بموضوعاتها الخاصّة. وأمّا شمول الأخبار المذكورة لباقي الأقسام
كلّا أو بعضا ، فتحقيق الكلام فيه يحتاج إلى إفراد الكلام في كلّ واحد من الأخبار
المذكورة كما صنعه المصنّف رحمهالله ، وستقف على تحقيق ذلك عند شرح ما يتعلّق بكلام المصنّف رحمهالله.
١٨٢٤. غير خفي أنّ الأمر في النبويّ ظاهر في الوجوب ، وبذلك تخرج
منه
.................................................................................................
______________________________________________________
المستحبّات. وأمّا
كلمة «من» فالاستدلال بها مبنيّ على أخذها بمعنى التبعيض. وأمّا ما تحتمله بحسب
المقام فوجوه :
أحدها : ما عرفت
من معنى التبعيض. وعليه فكلمة «ما» إمّا موصولة أو موصوفة. والمجرور ب «من» إمّا
حال من كلمة «ما» مقدّم عليها ، وهي مفعول لقوله «فأتوا». وإمّا هي بدل من المجرور
، والمفعول محذوف ، أي : فأتوا ما تيسّر في حال كونه بعضا من المأمور به ، وهو ما
استطعتم.
الثاني : أن تكون
زائدة. وعليه فكلمة «ما» ظرفيّة زمانيّة مصدريّة ، أي : فأتوا ما دام استطاعتكم
وأما احتمال كونها بمعني الباء فلم يثبت ، لأنّ «أتى» بمعني فعل متعدّ بنفسه ، قال
في القاموس : أتى الأمر فعله. اللهمّ إلّا أن يؤخذ الإيتان بمعني المجيء ، قال
سبحانه : (أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) فيكون كناية عن فعل الأمر المستطاع.
الثالث : أن تكون
بيانيّة ، بأن كانت بيانا للفظ «ما». وهو إمّا موصولة أو موصوفة ، أي : ما استطعتم
هو الشيء المأمور به.
وأمّا دعوى كونها
ظرفيّة زمانيّة كما يظهر من المصنّف رحمهالله فلا محصّل لها. اللهمّ إلّا أن تكون كلمة «من» بيانا
للمأتي به المقدّر ، ونجعل كلمة «ما» ظرفيّة ، زمانية نظير ما حكي عن ابن هشام في
قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ) من دعوى كون «من» بيانا للمحلّى به. والرواية على ما عدا
المعنى الأوّل لا تدلّ على المطلوب كما هو واضح ومع تعارض الاحتمالات تسقط عن درجة
الاستدلال بها على المدّعى.
ثمّ إنّ محتملات
الرواية كثيرة ، لأنّ الشرط فيها يحتمل الإهمال والعموم. وعلى التقديرين : فلفظ
الأمر يحتمل الوجوب ، وما هو أعمّ منه ومن الاستحباب. وعلى التقادير : فلفظ «شيء»
يحتمل الأقسام الأربعة المتقدّمة في الحاشية السابقة. وعلى التقادير : فكلمة «من»
تحتمل المعاني الثلاثة المتقدّمة. وعلى التقادير : فكلمة
وفيه : أنّ كون «من» بمعنى الباء مطلقا
(١٨٢٥) وبيانيّة في خصوص المقام (١٨٢٦) مخالف للظاهر بعيد (١٨٢٧) ، كما لا يخفى
على العارف بأساليب الكلام.
والعجب معارضة هذا الظاهر (١٨٢٨) بلزوم
تقييد الشيء ـ بناء على المعنى المشهور (١٨٢٩) ـ بما كان له أجزاء حتّى يصحّ الأمر
بإتيان ما استطيع منه ، ثمّ تقييده بصورة تعذّر إتيان جميعه ، ثمّ ارتكاب التخصيص
فيه بإخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتّفاقا ، كما في كثير من المواضع ؛ إذ لا
يخفى أنّ التقييدين الأوّلين يستفادان من قوله (١٨٣٠) : «فأتوا منه ..» ، وظهوره
حاكم عليهما. نعم ، إخراج
______________________________________________________
«ما» تحتمل
الموصولة والموصوفة والظرفيّة الزمانيّة. وعلى التقادير : يحتمل أن يراد
بالاستطاعة معنى القدرة ، ومعنى المشيّة ، كما ذكروه عند الاستدلال بهذه الرواية
على دلالة الأمر على الوجوب. وترتقي الأقسام بعد ضرب بعضها في بعض على مائتين
وثمان وثمانين قسما.
١٨٢٥. مضافا إلى ما عرفت من أنّ مادّة الإتيان بمعنى الفعل
تتعدّى بنفسها لا بالباء ، إلّا بالتوجيه المتقدّم آنفا.
١٨٢٦. لأنّ أخذ كلمة «من» بيانيّة وكلمة «ما» ظرفيّة زمانيّة لا
محصّل له إلّا بالتوجيه المتقدّم في الحاشية السابقة.
١٨٢٧. لأنّ الظاهر بحسب المقام كونها للتبعيض.
١٨٢٨. هذا مضافا إلى كون التبعيض معنى مجازيّا لكلمة «من».
١٨٢٩. من كون كلمة «من» للتبعيض.
١٨٣٠. حاصله : أنّ ارتكاب خلاف الظاهر من حيث حمل كلمة «من» على
التبعيض ليس مخالفة مغايرة للمخالفة من حيث لزوم التقييدين ، بل هما تابعان لحملها
على معنى التبعيض. وإذا فرضنا ظهورها فيه بحسب العرف ـ ولو بمعونة خصوص المقام ـ لا
تلزم هنا مخالفة الظاهر أصلا.
وإن شئت قلت : إنّ
تعارض الأحوال في كلام وملاحظة المرجّحات النوعيّة
كثير من الموارد لازم
(١٨٣١) ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد.
والحاصل : أنّ المناقشة في ظهور الرواية
من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة.
وأمّا الثانية ، فلما قيل
(١٨٣٢) من أنّ معناه أنّ الحكم الثابت للميسور
______________________________________________________
فيه إنّما هو بعد
عدم ظهور شخص الكلام في معنى خاصّ بحسب العرف وإن كان معنى مجازيّا ، وإلّا فلا
بدّ من حمل الكلام عليه وإن اشتمل المعنى الآخر على أنواع من المرجّحات النوعيّة
كما قرّر في محلّه. فإذا فرض ظهور الرواية في معنى التبعيض بحسب العرف ، فلا بدّ
من الأخذ به وإن لزم منه ما لزم. مع أنّا إن حملناها على معنى التبعيض أفادت معنى
جديدا لا يستفاد من العقل ، وهو وجوب الإتيان بما تيسّر من أجزاء المركّب عند
تعذّر الكلّ. وعلى تقدير حملها على سائر المعاني لا يفيد سوى ما يستفاد من العقل ،
وهو وجوب امتثال أوامر الشارع ما دامت الاستطاعة باقية ، ومن المقرّر عندهم في باب
تعارض الأحوال كون أولويّة التأسيس من التأكيد من جملة المرجّحات.
١٨٣١. لأنّ المباحات والمستحبّات والواجبات التي لم تكن ذات
أجزاء وإن كانت خارجة من موضوع الرواية ، لاختصاصه بالواجب ذي الأجزاء ، إلّا أنّ
الخارج من حكمها أيضا كثير. وربّما يعدّ منه ما لو قدر على بعض الفاتحة أو السورة
، أو بعض ذكر الركوع أو السجود ، أو التشهّد أو السلام الواجب ، أو على غسل بعض من
الوجه أو اليدين ، أو بعض المسح في باب الوضوء ، أو قدر على ركعة من ركعتي الفجر
أو ثلاث ركعات من الظهرين والعشاء وركعتين من المغرب ، وهكذا ، لعدم التزام
الفقهاء بوجوب الإتيان بالمتيسّر في أمثال هذه الموارد.
١٨٣٢. التقريب في هذه المناقشة أن يقال : إنّ مقتضى الرواية بعد
مراعاة القواعد العربيّة في ألفاظها هو نفي الملازمة بين سقوط حكم موضوع بسبب
تعسّره وسقوط حكم موضوع آخر ميسور ، إذ لا معنى لسقوط نفس الفعل
.................................................................................................
______________________________________________________
الميسور ، وعدم
سقوطه إلّا باعتبار سقوط حكمه وعدمه بدلالة الاقتضاء. وهذا المعنى لا ينطبق على ما
نحن فيه من المركّبات التي تعذّر بعض أجزائها ، لأنّ سقوط الشيء يستلزم ثبوته
أوّلا ، والمقصود من إثبات وجوب باقي الأجزاء هو إثبات الوجوب النفسي له. فإذا
اريد تطبيق الرواية على ما نحن فيه فلا بدّ أن يقال : إنّ الأجزاء الباقية كانت
واجبة عند التمكّن من الكلّ ، فإذا سقط وجوب الكلّ لأجل تعذّره ، لا يسقط وجوب
الأجزاء الباقية الميسورة بسبب تعذّره.
وأنت خبير بأنّ
الأجزاء الباقية حين التمكّن من الكلّ كانت واجبة بالوجوب الغيري ، وقد ارتفع هذا
الوجوب بتعذّر الكلّ ، والمقصود بعد تعذّر الكلّ إثبات الوجوب النفسي لها ، وهو لم
يكن ثابتا أوّلا. هذا بخلاف ما لو حملناها على بيان حكم الواجبات النفسيّة
المستقلّة كما عرفت.
نعم ، حملها على
بيان حكم ما لا يجمعها رابطة ـ كالصلاة والصوم والحجّ مثلا ـ في غاية البعد ، إذ
لا يتوهّم أحد سقوط وجوب أحد هذه الواجبات بتعذّر الآخر حتّى يحتاج إلى البيان ،
فلا بدّ أن تحمل على بيان حكم الأفراد التي كان كلّ واحد منها واجبا بالوجوب
النفسي ، وكانت بينها رابطة توهم سقوط حكم الباقي عند تعذّر بعضها ، مثل قولنا :
أكرم العلماء ونحوه ممّا ثبت حكمه بالعموم الاصولي.
فإن قلت : إنّ
حملها على هذا المعنى يستلزم خلوّها أيضا من الفائدة ، لاستقلال العقل بعدم سقوط
حكم فرد بتعذّر فرد آخر فيما ثبت حكمها بالعموم الاصولي ، فلا بدّ من حملها على
المركّبات العقليّة أو الخارجيّة ، لأنّها هي التي ربّما يتوهّم سقوط حكم الباقي
بعد تعذّر الكلّ.
قلت : إنّ مجرّد
موافقة ظاهر كلام الشارع لحكم العقل وكونه مؤكّدا له لا يوجب صرفه عن ظاهره ،
وإلّا لوجب إخراج قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وأمثاله ممّا خرج مخرج حكم العقل من ظاهره ، وهو كما ترى.
و
لا يسقط بسبب سقوط
المعسور ، ولا كلام في ذلك ؛ لأنّ سقوط حكم شىء لا يوجب بنفسه سقوط الحكم الثابت
للآخر ، فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلّة التي يجمعها
دليل واحد ، كما في «أكرم العلماء».
وفيه أوّلا : أنّ عدم السقوط
(١٨٣٣) محمول على نفس الميسور لا على حكمه ،
______________________________________________________
ما تقدّم من عدم
حملها على بيان حكم الواجبات التي لا يجمعها رابطة أصلا ، إنّما هو لأجل كونها
حينئذ من قبيل بيان البديهيّات الأوّلية ، وهو بعيد في الغاية ، بخلاف حملها على
بيان حكم ما تجمع بين أفراده رابطة كما لا يخفى. فمقتضى القاعدة حمل كلام الشارع
على حقيقته الخاصّة أو العامّة إن لم تكن هنا قرينة على خلافها ، وإن كانت حقيقته
موافقة لحكم العقل ، وإلّا فيعمل بمقتضى القرائن اللفظيّة أو الحاليّة.
نعم ، ربّما يحمل
كلام الشارع على خلاف ظاهره إذا كان ظاهره بيان ما لم يكن بيانه من وظيفة الشارع ،
كما إذا دار الأمر في كلامه بين حمله على أمر عرفي ليس بيانه من شأنه ، وحمله على
بيان حكم شرعيّ ، وكان الأوّل موافقا لظاهر كلامه ، وكان اختصاص شأنه ببيان
الوظائف الشرعيّة دون الامور العرفيّة بنفسه قرينة لصرف كلامه عن ظاهره. وما نحن
فيه ليس كذلك ، لأنّ حمل كلامه مع ما يوافق حكم العقل لا ينافي شأن الشارع ، كيف
وفي أكثر موارد حكم العقل قد ورد فيه خطاب شرعيّ أيضا. مع أنّ منافاة بيان الامور
العرفيّة لوظيفة الشارع في حيّز المنع ، إذ المقام ربّما يقتضي بيانها أيضا ، كما
هو واضح.
١٨٣٣. حاصله : أنّ اللازم في كلام الشارع بل كلام كلّ متكلّم أن
يؤخذ بظاهر كلامه على ما تساعده حقائق ألفاظه مجرّدة عن القرائن ، وعلى ما تقتضيه
القرائن إن كانت مكتنفة بها. ومبنى المناقشة المتقدّمة حمل الرواية على بيان عدم
سقوط حكم موضوع ميسور بسبب سقوط حكم موضوع معسور ، وهو من
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
حيث احتياجه إلى
التقدير خلاف الظاهر ، لأنّ السقوط وعدمه في ظاهر الرواية محمولان على نفس المعسور
والميسور لا على حكمهما ، ولا حاجة إلى التقدير المذكور ، إذ بدونه يتمّ الاستدلال
بها على المقام ، وذلك لأنّه إذا ثبت وجوب فعل على المكلّف يمكن حينئذ دعوى ثبوت
هذا الفعل في ذمّته مع تمكّنه منه ولو بنوع من المسامحة العرفيّة ، والمقصود من
الرواية أنّ سقوط فعل ثابت في الذمّة بسبب تعذّره لا يصير سببا لسقوط الفعل
الميسور ، يعني : أنّ فعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء فلا يسقط أيضا
بسبب تعسّره.
ولا شكّ أنّ هذا
الكلام إنّما يقال فيما كان ارتباط وجوب فعل الميسور بالتمكّن من فعل المعسور
متحقّقا ثابتا كما فيما نحن فيه ، أو متوهّما كما فيما ذكره المورد من مثال العموم
الاصولي ، لارتباط وجوب الأجزاء الباقية فيما نحن فيه بوجوب الكلّ ، لانتفاء وجوب
المقدّمة بانتفاء وجوب ذيها. وحيث كان لمتوهّم أن يتوهّم سقوط فعل الباقي بتعسّر
الكلّ ، ومثله الكلام في المثال المذكور ، أراد الإمام عليهالسلام دفع هذا التوهّم ، بأنّ فعل الباقي الميسور إذا لم يسقط
عند التمكّن من الكلّ فلا يسقط عند تعذّر بعض أجزائه ، لا أنّ حكم الباقي عند
التمكّن من الكلّ إذا لم يسقط فلا يسقط عند تعسّر بعض أجزائه ، حتّى يقال : إنّ
حكم الباقي عند التمكّن من الكلّ كان هو الوجوب الغيري من باب المقدّمة ، وقد
ارتفع هذا الحكم بتعسّر الكلّ يقينا. والوجوب النفسي لم يكن ثابتا له عند التمكّن
من الكلّ حتّى لا يسقط بتعذّره ، كما كان هو مبنى المناقشة على ما تقدّم توضيحه.
وممّا ذكرناه
يندفع توهّم كون سقوط الفعل عبارة عن سقوط حكمه. نعم ، هما متلازمان ، فتأمّل في
المقام ، فإنّه لا يخلو من دقّة بل إشكال. نعم ، يمكن أن يقال في تقريب المقام :
إنّ المتّبع في مباحث الألفاظ هو الظهور العرفي ، واعتبار الحقيقة أو قرائن المجاز
إنّما هو لأجل مراعاة ذلك ، لعدم كون حمل الألفاظ على معانيها الحقيقيّة عند
التجرّد عن القرائن وعلى معانيها المجازيّة عند اكتنافها بها أمرا
فالمراد به عدم سقوط
الفعل الميسور بسبب سقوط المعسور يعني : أنّ الفعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم
تعسّر شىء فلا يسقط بسبب
تعسّره. وبعبارة اخرى : ما وجب عند التمكّن من شىء آخر فلا يسقط عند تعذّره. وهذا
الكلام إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء بالتمكّن من ذلك الشيء الآخر
محقّقا ثابتا من دليله كما في الأمر بالكلّ ، أو متوهّما كما في الأمر بما له عموم
أفرادي.
وثانيا : أنّ ما ذكر (١٨٣٤) من عدم سقوط
الحكم الثابت للميسور بسبب سقوط الحكم الثابت للمعسور ، كاف في إثبات المطلوب ،
بناء على ما ذكرنا في
______________________________________________________
تعبّديّا ورد به
الشرع ، بل قد أنكر بعضهم وجود المجاز من رأس. فالمتّبع ظهور الكلام في المعنى
المقصود بحسب العرف ، وإن استلزم ذلك ارتكاب نوع مجاز أو مسامحة ، كما في نسبة
السقوط إلى المعسور فيما نحن فيه. ولا ريب أنّا لو عرضنا قوله عليهالسلام : «الميسور لا
يسقط إلّا بالمعسور» على أهل العرف لا يفهمون منه إلّا عدم سقوط الباقي من أجزاء
المركّب بعد تعسّر الكلّ ، فلا ينظر بعد ذلك إلى استلزام هذا المعنى للمجازيّة في
بعض مفردات هذا الكلام أو المسامحة في النسبة ، فتدبّر.
١٨٣٤. حاصله ـ بعد تسليم كون المراد من الرواية نفي الملازمة بين
سقوط حكم موضوع معسور ، وسقوط حكم موضوع ميسور ـ أنّ هذا المعنى كاف في إثبات
المطلوب ، لأنّ أهل العرف لا يفرّقون بين الوجوب النفسي والغيري ، كما تقدّم في
توجيه الاستصحاب.
فنقول : إنّ
الأجزاء الباقية حين التمكّن من الكلّ وإن كانت واجبة بالوجوب الغيري مقدّمة لوجوب
الكلّ ، إلّا أنّ أهل العرف بعد تعسّر بعض أجزائه يقولون : إنّ هذه الأجزاء
الباقية كانت واجبة حين التمكّن من الكلّ ، ويزعمون بقاء هذا الوجوب بعد تعسّر بعض
أجزائه من دون التفات منهم إلى أنّ الموجود حين التمكّن من الكلّ هو الوجوب الغيري
، والمقصود بالإثبات بعد تعذّر بعض أجزائه
__________________
توجيه الاستصحاب من
أنّ أهل العرف يتسامحون فيعبّرون عن وجوب باقي الأجزاء بعد تعذّر غيرها من الأجزاء
ببقاء وجوبها ، وعن عدم وجوبها بارتفاع وجوبها وسقوطه ؛ لعدم مداقّتهم في كون
الوجوب الثابت سابقا غيريّا وهذا الوجوب الذي يتكلّم في ثبوته وعدمه نفسي فلا يصدق
على ثبوته البقاء ، ولا على عدمه السقوط والارتفاع. فكما يصدق هذه الرواية لو شكّ ـ
بعد ورود الأمر بإكرام العلماء بالاستغراق الأفرادي ـ في ثبوت حكم إكرام البعض
الممكن الإكرام وسقوطه بسقوط حكم إكرام من يتعذّر إكرامه ، كذلك يصدق لو شكّ بعد
الأمر بالمركّب في وجوب باقي الأجزاء بعد تعذّر بعضه ، كما لا يخفى.
______________________________________________________
هو الوجوب النفسي
، ولذا يعبّرون عن وجوب الباقي بعد تعسّر بعض أجزائه بالبقاء ، وعن عدمه بالسقوط
والارتفاع ، مع أنّ الأوّل عند الدقّة موقوف على كون الثابت في الزمان الثاني عين
الموجود في الزمان الأوّل ، والثاني على كون المرتفع في الزمان الثاني هو الموجود
في الزمان الأوّل ، وليس كذلك ، لأنّ الموجود في الزمان الأوّل هو الوجوب الغيري ،
وفي الزمان الثاني هو الوجوب النفسي ، وكذلك المرتفع في الزمان الثاني هو الوجوب
النفسي ، والموجود في الزمان الأوّل هو الوجوب الغيري.
وبعد هذه المسامحة
يندفع ما تقدّم في توضيح المناقشة المتقدّمة من أنّ صدق السقوط وعدمه فرع كون
الساقط هو الوجود أوّلا ، وهو غير صادق فيما نحن فيه ، لأنّ ما حكم بثبوته للأجزاء
الباقية بعد تعسّر الكلّ هو الوجوب النفسي ، وما كان ثابتا له حين التمكّن من
الكلّ هو الوجوب الغيري. ووجه الاندفاع واضح ممّا ذكرناه.
هذا كلّه فيما كان
المتسامح فيه هو الوجوب. وأمّا إذا كان موضوعه بأخذه أعمّ من الواجد لجميع الأجزاء
والفاقد لبعضها ، حتّى يكون الباقي بعد تعسّر الكلّ هو الوجوب النفسي للأجزاء
الباقية ، فالأمر أظهر ، كما يظهر ممّا ذكرناه هنا وما تقدّم في توجيه الاستصحاب.
وبمثل ذلك يقال في دفع دعوى : جريان
(١٨٣٥) الإيراد المذكور على تقدير تعلّق عدم السقوط بنفس الميسور لا بحكمه ، بأن
يقال : إنّ سقوط المقدّمة لما كان لازما
لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في الخبر لا بدّ أن يحمل على الأفعال المستقلّة
في الوجوب ؛ لدفع توهّم السقوط الناشئ عن إيجابها بخطاب واحد.
______________________________________________________
١٨٣٥. تقريب هذه الدعوى : أنّه كما لو حملت الرواية على ما ذكره
المورد من بيان نفي الملازمة بين سقوط حكم موضوع معسور وسقوط حكم موضوع ميسور ،
كان معناها لغوا وتوضيحا للواضحات ، حيث لا يتوهّم أحد الملازمة بينهما ، فلا بدّ
من حملها على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلّة التي يجمعها دليل واحد ، كما
هو مبنى الإيراد المذكور ، كذلك تلزم اللغويّة لو حملت على بيان عدم الملازمة بين
سقوط نفس الفعل المعسور وسقوط الفعل الميسور ، كما هو مبنى الجواب الأوّل ، إذ كما
أنّه لا يتوهّم أحد السقوط على ذلك المعنى ، كذلك لا يتوهّم أحد عدم السقوط على
هذا المعنى ، حيث كان سقوط فعل المقدّمة لازما لسقوط فعل ذيها بالضرورة ، فلا بدّ
أن تحمل الرواية على ما ذكر من دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلّة التي يجمعها
دليل واحد ، فلا يدلّ على المدّعى على هذا المعنى أيضا.
ووجه الدفع : أنّ
فعل المقدّمة وإن كان ساقطا عند سقوط ذيها ، إذ لا معنى لبقاء المقدّمة بوصف كونها
مقدّمة في الذمّة بعد سقوط ذيها ، إلّا أنّ أهل العرف يزعمون كون الباقي من
الأجزاء بعد تعسّر الكلّ هو الموجود عند التمكّن منه ، من دون التفات إلى أنّ
الموجود عند التمكّن من الكلّ هي هذه الأجزاء من حيث كونها مقدّمة له ، والثابت
بعد تعسّره هي هذه الأجزاء من حيث مطلوبيّتها في نفسها ، وحيث كان المقام مقام
توهّم سقوط هذه الأجزاء الميسورة بسبب سقوط الكلّ لأجل تعسّره ، فدفع الإمام عليهالسلام هذا التوهّم ببيان عدم الملازمة بينهما.
__________________
وأمّا في الثالثة ، فبما قيل
من أنّ جملة (١٨٣٦) «لا يترك» خبريّة لا تفيد إلّا الرجحان (١٨٣٧) ، مع أنّه لو
اريد منها الحرمة لزم مخالفة الظاهر فيها ، إمّا بحمل الجملة على مطلق المرجوحيّة
أو إخراج المندوبات ، ولا رجحان للتخصيص ، مع أنّه قد يمنع كون الجملة إنشاء ؛
لإمكان كونه إخبارا عن طريقة الناس وأنّهم لا يتركون الشيء بمجرّد عدم إدراك بعضه
، مع احتمال كون لفظ «الكلّ» للعموم الأفرادي ؛ لعدم ثبوت كونه حقيقة في الكلّ
المجموعي ، ولا مشتركا معنويّا بينه وبين الأفرادي ، فلعلّه مشترك لفظي أو حقيقة
خاصّة في الأفرادي ، فيدلّ على أنّ الحكم الثابت لموضوع عامّ بالعموم الأفرادي إذا
لم يمكن الإتيان به على وجه العموم ، لا يترك موافقته فيما أمكن من الأفراد.
ويرد على الأوّل : ظهور الجملة في
الانشاء (١٨٣٨) الإلزامي كما ثبت في محلّه ، مع أنّه إذا ثبت الرجحان في الواجبات
ثبت الوجوب ؛ لعدم القول بالفصل في المسألة الفرعيّة.
______________________________________________________
١٨٣٦. القائل هو الفاضل النراقي.
١٨٣٧. بناء على كون مطلق الرجحان أقرب المجازات في الجمل
المستعملة في معنى الإنشاء.
١٨٣٨. لعلّ الوجه فيه بعد التبادر أنّ الإنشاء الإلزامي أقرب إلى
معنى الجمل الأخباريّة من مطلق الرجحان ، لأنّ الغالب فيها الإخبار عن أمر واقع
محقّق أو سيتحقّق ، لأنّ احتمال الكذب فيها احتمال عقلي خارج من مقتضى الوضع كما
صرّحوا به ، ومن هنا قيل بكون الجملة الخبريّة المستعملة في إنشاء طلب الفعل أو
الترك أظهر في الدلالة عليه من صيغة الأمر أو النهي ، لأنّ مقتضى ظاهر الحال هو
الإتيان بصيغتهما ، ففي العدول عنه إلى التعبير بالجملة الخبريّة إيذان وإشعار
بأنّ ترك الفعل المحرّم أو الإتيان بالفعل الواجب كالواقع المحقّق ، كما هو ظاهر
عند من له دراية بدقائق المعاني ، فتدبّر.
وأمّا دوران الأمر بين تخصيص الموصول
والتجوّز في الجملة فممنوع (١٨٣٩) ، لأنّ المراد بالموصول في نفسه ليس هو العموم
قطعا ؛ لشموله للأفعال المباحة بل المحرّمة ، فكما يتعيّن حمله على الأفعال
الراجحة بقرينة قوله : «لا يترك» ، كذلك يتعيّن حمله على الواجبات بنفس هذه
القرينة الظاهرة في الوجوب.
وأمّا احتمال كونه إخبارا عن طريقة
الناس ، فمدفوع بلزوم الكذب (١٨٤٠) أو إخراج أكثر وقائعهم. وأمّا احتمال كون لفظ «الكلّ»
للعموم الأفرادي ،
______________________________________________________
١٨٣٩. يعني : جملة «لا يترك» ولا يذهب عليك أنّ الموصولات حيث لا
عهد من قبيل المطلقات على ما صرّح به جماعة دون العمومات ، فالأمر هنا دائر بين
التقييد والمجاز دون التخصيص والمجاز. وعلى تقدير تسليم عدم رجحان التخصيص على
سائر المجازات لا ريب في رجحان التقييد عليها. ومع التسليم فلا ريب أنّ عموم
الموصول تابع للمعهود من صلته ، فإن كان المعهود منها في خصوص المقام هو الواجبات
خاصّة يكون عمومه بالنسبة إليها خاصّة ، فيكون عدم شموله للمستحبّات والمباحات من
قبيل التخصّص دون التخصيص. ولا ريب أنّ المعهود من صلته هنا بقرينة قوله «لا يترك»
هو خصوص الواجبات.
ثمّ إنّ حاصل ما
ذكره المصنّف رحمهالله أنّ المرجّحات النوعيّة في باب تعارض الأحوال ـ كما قرّر
في محلّه ـ إنّما هي فيما خلا المقام عن القرائن الشخصيّة الموجبة لظهور الكلام في
خصوص أحد المعاني المجازيّة المحتملة. وقوله عليهالسلام «لا يترك كلّه»
قرينة لارتكاب التخصيص في عموم الموصولة ، لأنّ ظهوره في الحرمة أقوى من ظهورها في
العموم ، كيف لا وقد ارتكب التخصيص فيها لذلك بإخراج المباحات والمحرّمات ،
فالدوران هنا بين المجاز وارتكاب زيادة التخصيص لا في أصله.
١٨٤٠. كلّ من اللازمين باطل. مضافا إلى أنّ الأمر هنا دائر بين
حمل كلام الإمام عليهالسلام على بيان حكم شرعيّ وهي قاعدة الميسور ، وبيان أمر عرفي ،
وهو
فلا وجه له ؛ لأنّ
المراد بالموصول (١٨٤١) هو فعل المكلّف ، وكلّه عبارة عن مجموعه.
نعم ، لو قام قرينة على إرادة المتعدّد
من الموصول ـ بأن اريد أنّ الأفعال التي لا يدرك كلّها ، كإكرام زيد وإكرام عمرو
وإكرام بكر ، لا يترك كلّها ـ كان لما احتمله وجه ، لكنّ لفظ «الكلّ» حينئذ أيضا
مجموعي لا أفرادي ؛ إذ لو حمل على الأفرادي (١٨٤٢) كان المراد : «ما لا يدرك شيء
منها لا يترك شىء منها» ، ولا معنى له ، فما ارتكبه (١٨٤٣) في احتمال العموم
الأفرادي ممّا لا ينبغي له ولم ينفعه (١٨٤٤) في شيء. فثبت ممّا ذكرنا : أنّ مقتضى
الإنصاف تماميّة (١٨٤٥) الاستدلال بهذه الروايات ؛ ولذا شاع بين العلماء بل بين
جميع الناس الاستدلال بها في المطالب ، حتّى أنّه يعرفه العوامّ بل النسوان
والأطفال.
______________________________________________________
الإخبار عن عادة
الناس ، والأوّل أولى عند دوران الأمر بينهما ، لأنّه المناسب لمنصب الإمامة. ولا
ينافيه بيان الأئمّة عليهمالسلام للامور العرفيّة في بعض الأحيان كما لا يخفى. مع أنّه
ربّما يستكشف بإخباره عمّا جرى بين الناس رضاه به ، وهو كاف في المقام.
١٨٤١. حاصله : أنّ إفادة لفظ الكلّ للعموم الأفرادي أو المجموعي
تابع للموارد ، فإن كان مدخوله امورا متعدّدة ، مثل قوله : كلّ دابّة في الأرض ،
أفاد استغراق هذه الامور. وإن كان ذا أجزاء أفاد استغراق هذه الأجزاء ، مثل قوله :
أكلت الرغيف كلّه ، واشتريت العبد كلّه. ودعوى المجازيّة في الثاني كما ترى.
١٨٤٢. فيه ما لا يخفى ، لأنّه لو حمل لفظ «كلّ» على العموم
الأفرادي كان النفي في القضيّتين مفيدا لسلب العموم الصادق مع السالبة الجزئيّة ،
وما ذكره إنّما يتمّ لو كان مقتضاه عموم السلب ، فتدبّر.
١٨٤٣. بيان لما.
١٨٤٤. خبر لقوله : «فما ارتكبه».
١٨٤٥. فيثبت بهذه الروايات أصل ثانوي في الأجزاء إن قلنا بأنّ
مقتضى الأصل في المقام هو البراءة ، وإن قلنا بكون المقام من موارد الاستصحاب كان
ثمّ إنّ الرواية الاولى والثالثة وإن
كانتا ظاهرتين في الواجبات ، إلّا أنّه يعلم بجريانهما في المستحبّات بتنقيح
المناط (١٨٤٦) العرفي مع كفاية الرواية الثانية (١٨٤٧) في ذلك.
وأمّا الكلام في الشروط : فنقول إنّ
الأصل فيها ما مرّ في الأجزاء من أنّ دليل الشرط إذا لم يكن فيه إطلاق عامّ لصورة
التعذّر وكان لدليل المشروط إطلاق ، فاللازم الاقتصار في التقييد على صورة التمكّن
من الشرط. وأمّا القاعدة المستفادة (١٨٤٨) من الروايات المتقدّمة ، فالظاهر عدم
جريانها. أمّا الاولى والثالثة ، فاختصاصهما بالمركّب (١٨٤٩) الخارجي واضح. وأمّا
الثانية ، فلاختصاصها ـ كما عرفت سابقا ـ بالميسور الذي كان له مقتض للثبوت (١٨٥٠)
حتّى ينفى كون المعسور سببا لسقوطه ، ومن المعلوم أنّ العمل الفاقد للشرط ـ كالرقبة
الكافرة مثلا ـ لم يكن المقتضي للثبوت فيه موجودا حتّى لا يسقط بتعسّر الشرط وهو
الإيمان.
هذا ، ولكنّ الإنصاف جريانها في بعض
الشروط التي يحكم العرف ولو مسامحة باتّحاد المشروط الفاقد لها مع الواجد لها.
______________________________________________________
مؤدّاها موافقا
له.
١٨٤٦. ما ادّعاه بعضهم من الأولويّة غير واضح.
١٨٤٧. ربّما يتوهّم أنّ الثانية أيضا كالثالثة ، لأنّ قوله في
الثانية : «لا يسقط بالمعسور» نظير قوله في الثالثة : «لا يترك كلّه» في ظهوره في
الإنشاء الإلزامي. وفيه : أنّ قوله «لا يسقط» ظاهر في إنشاء بقاء ما كان على ما
كان ، فإن كان على وجه الوجوب فكذلك ، وإن كان على وجه الاستحباب فكذلك أيضا ،
بخلاف قوله «لا يترك كلّه» فتدبّر.
١٨٤٨. أمّا الاستصحاب فيما لم يكن للشرط ولا للمشروط إطلاق دليل
لفظي ، فسيشير إلى جريانه في بعض الشروط دون بعض.
١٨٤٩. لقضيّة «من» التبعيضيّة في الاولى ، والعموم المجموعي في
الثالثة.
١٨٥٠. المراد بمقتضى الثبوت كون الباقي من المركّب عند تعذّره
بحيث
ألا ترى : أنّ الصلاة المشروطة بالقبلة
أو الستر أو الطهارة إذا لم يكن فيها هذه الشروط ، كانت عند العرف هي التي فيها
هذه الشروط ، فإذا تعذّر أحد هذه صدق الميسور على الفاقد لها ، ولو لا هذه المسامحة
لم يجر الاستصحاب بالتقرير المتقدّم. نعم ، لو كان بين واجد الشرط وفاقده تغاير
كلي في العرف ـ نظير الرقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة أو الحيوان الناهق
بالنسبة إلى الناطق ، وكذا ماء غير الرمّان بالنسبة إلى ماء الرمّان ـ لم يجر
القاعدة المذكورة.
وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب
الرياض
(١٨٥١) حيث بنى وجوب
______________________________________________________
يقال : إنّ هذا
كان ثابتا في الذمّة عند التمكّن من المركّب ، حتّى يصدق عدم السقوط ولو بالمسامحة
العرفيّة ، من دون التفات إلى كون ثبوته أوّلا من باب المقدّمة في ضمن ثبوت
المركّب ، وكون ثبوته بعد تعذّره بالاستقلال ومطلوبيّته في نفسه ، كما أوضحناه عند
شرح قوله : «في دفع دعوى جريان الإيراد المذكور» إلى آخر ما ذكره. والمقتضي
بالمعنى المذكور غير ثابت في الشروط ، لأنّه إذا وجب عتق رقبة مؤمنة ثمّ تعذّر وصف
الإيمان ، لا يصدق حينئذ أنّ الكافرة كانت ثابتة حين التمكّن من المؤمنة ، حتّى
يقال بمقتضى الرواية إنّها لا تسقط بتعسّر المؤمنة.
نعم ، تتمّ دعوى
ثبوت المقتضي بالنسبة إلى بعض الشروط الذي يقال فيه عرفا : إنّ الفاقد هو عين
الواجد إلّا أنّه قد تعذّر بعض شروطه ، كالصلاة عند تعذّر الاستقبال أو الستر أو
الطهارة فيها ، بخلاف مثال المؤمنة والكافرة. ولو لا صدق ثبوت الباقي عند التمكّن
من المشروط مع شرطه وبقائه عند تعذّر شرطه ، لم يجز استصحاب حكمه بالتقريب الذي
ذكره المصنّف رحمهالله ، لاشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب. وممّا ذكرناه تخرّج
في المسألة وجوه ثلاثة : أحدها : كون الشروط في حكم الأجزاء. الثاني : عدمه مطلقا.
وهذان الوجهان مبنيّان على تأتّي المسامحة العرفيّة فيها مطلقا وعدمه كذلك. الثالث
: التفصيل بالتقريب الذي عرفته.
١٨٥١. قال في الرياض عند شرح قول المحقّق : «ولو تعذّر السدر
والكافور
غسل الميّت بالماء
القراح بدل ماء السدر ، على أن ليس الموجود في الرواية الأمر بالغسل بماء السدر
على وجه التقييد ، وإنّما الموجود : «وليكن في الماء شيء من السدر». توضيح ما فيه
: أنّه لا فرق بين العبارتين ؛ فإنّه إن جعلنا ماء السدر من القيد والمقيّد كان
قوله «وليكن فيه شيء من السدر» كذلك ، وإن كان من إضافة الشيء إلى بعض أجزائه كان
الحكم فيهما واحدا.
______________________________________________________
كفت المرّة
بالقراح ، عند المصنّف رحمهالله وجماعة ، لفقد المأمور به بفقد جزئه. وهو ـ بعد تسليمه
كذلك ـ إذا دلّت الأخبار على الأمر بالمركّب ، وليس كذلك ، لدلالة أكثرها ـ وفيها
الصحيح وغيره ـ على الأمر بتغسيله بماء وسدر ، فالمأمور به شيئان متمايزان وإن
امتزجا في الخارج. وليس الاعتماد في إيجاب الخليطين على ما دلّ على الأمر بتغسيله
بماء السدر خاصّة حتّى يرتفع الأمر بارتفاع المضاف إليه. وبعد تسليمه لا نسلّم
فوات الكلّ بفوات الجزء ، بعد قيام المعتبرة بإتيان الميسور وعدم سقوطه بالمعسور.
وضعفها بعمل الأصحاب طرّا مجبور. فالأقوى وجوب الثلاث بالقراح وفاقا لجماعة»
انتهى. وما نقله عنه المصنّف رحمهالله إنّما هو بالمعنى.
وأنت خبير بأنّ
قوله : «بعد تسليمه» ظاهر في عدم تسليم انتفاء الكلّ بفوات جزئه. وهو إن كان
مبنيّا على دعوى عدم ارتفاع الأمر بالكلّ بانتفاء جزئه ، فهو بيّن الفساد. وإن كان
مبنيّا على قاعدة الميسور يلغو حينئذ قوله : «وبعد تسليمه لا نسلّم».
وكيف كان ، نقول
في توضيح المقام : إنّه لا فرق بين مؤدّى العبارتين ، لأنّهما إن كانتا على نحو ما
عرفته من الرياض من الإضافة والعطف بالواو ، فإن أراد بالفرق بينهما أنّ العطف
دليل التغاير ، وهو يكشف عن كون كلّ من المعطوف والمعطوف عليه متعلّقا للأمر بنفسه
، بخلاف الإضافة ، لأنّها إنّما تفيد التقييد والتركيب دون الاستقلال.
ففيه أوّلا : منع
كون عطف أحد متعلّقي الأمر على الآخر دليلا على تعلّقه
.................................................................................................
______________________________________________________
بكلّ منهما بنفسه
من دون اعتبار انضمامه إلى الآخر ، لأنّ غايته الدلالة على تغاير نفس المتعاطفين
ساكتا عن كيفيّة تعلّق الحكم بهما ، وأنّه من حيث اعتبار اجتماعهما أو انفرادهما ،
بل المقامات في ذلك مختلفة ، ففي مثل قولنا : أكرم زيدا وعمرا وبكرا يفهم
الاستقلال ، وفي مثل أمر الطبيب المريض بشرب كذا وكذا يفهم اعتبار الاجتماع
والانضمام ، نظرا إلى عدم تأثير مفردات الأدوية غالبا في دفع الأمراض ، والظاهر
أنّ ما نحن فيه أيضا ممّا يفهم منه اعتبار الاجتماع والانضمام.
ومع تسليم حصول
الشكّ في كونه من أحد القبيلين ، وأنّ مقتضى الأصل في مثله كونه من قبيل الأوّل ،
نقول : إنّه غير معقول في خصوص ما نحن فيه ، إذ الكلام حينئذ يكون على تقدير أن
يقال : اغسل بماء واغسل بسدر ، ولا معنى له. اللهمّ إلّا أن يراد بالغسل بالسدر
خلطه بالماء ، وهو كما ترى مستلزم لاستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي. مع
أنّ الأمر بالخلط بمثابة قوله : وليكن فيه شيء من السدر ، وستعرف ما فيه.
وثانيا : أنّ
أخبار العطف معارضة مع أخبار الإضافة كما اعترف به ، ومقتضى الجمع بينهما هو حمل
الاولى على إرادة اعتبار الاجتماع والانضمام في تعلّق الطلب ، وكون العطف باعتبار
تغاير المعطوف والمعطوف عليه في أنفسهما.
وثالثا مع تسليم
كون ظاهر العطف كون كلّ منهما مأمورا به بنفسه أنّه لا بدّ من الخروج منه ، لوجود
الدليل على خلافه ، إذ لو كان كذلك فلا بدّ من إجزاء الأغسال الثلاثة بالماء
القراح مع التمكّن من السدر ، وإن كان عاصيا بترك إلقاء شيء منه في الماء ، ولوجب
إلقاء السدر على الميّت عند تعذّر الماء ، ولا يقول بشيء منهما أحد ، فمنه يظهر
أنّ المأمور به هو الغسل بماء خاصّ على وجه تكون الخصوصيّة شرطا فيه.
وإن أراد أنّ وجوب
الثلاث بالقراح لا من جهة محض الاستناد إلى أخبار
.................................................................................................
______________________________________________________
العطف ، وكونها
دليلا على مطلوبيّة المعطوف والمعطوف عليه بأنفسهما ، بخلاف أخبار الإضافة ، بل من
جهة ذلك مع ضميمة قاعدة الميسور ، فهذه الأخبار تدلّ على تعدّد المطلوب ، وتلك
القاعدة على بقاء أحدهما عند تعذّر الآخر ، ففيه : أنّه يمكن إثبات ذلك بالقاعدة
المذكورة مع الاستناد في المقام إلى أخبار الإضافة أيضا.
هذا كلّه بناء على
كون العبارتين على نحو ما عرفته من الرياض. وإن كانتا على نحو ما نقله المصنّف رحمهالله من قوله «ماء السدر» وقوله «وليكن في الماء شيء من السدر»
نقول : إنّ الأمر بإدخال شيء من السدر في الماء لا يخلو : إمّا أن يكون نفسيّا ،
أو غيريّا من باب المقدّمة ، أو إرشادا إلى كون المراد بالمغسول به ما كان فيه ذلك
لا مطلق الماء. والأوّل خلاف الإجماع كما عرفت والأخيران مفيدان لكون المطلوب هو
المفيد ، فيفيد ما أفادته الإضافة. هذا كلّه في اتّحاد مؤدّى العبارتين.
وإذا عرفت هذا
نقول في توضيح ما ذكره المصنّف رحمهالله : إنّك حيث عرفت اتّحاد مؤدّاهما ، فإضافة الماء إلى السدر
إن كانت بمعنى اللام حتّى تفيد التقييد والاختصاص ، بأنّ يكتفى في الإضافة بأدنى
مناسبة ، وهي كون المضاف ظرفا لما أضيف إليه. وإنّما لم نجعلها بمعنى «في» لأنّها
إنّما تصحّ حينئذ فيما كان المضاف إليه ظرفا للمضاف على عكس ما نحن فيه ، مثل :
مكر الليل ومسير يوم ونحوهما.
وكيف كان ، يرد
عليه حينئذ ـ مع ما عرفت من اتّحاد مؤدّى العبارتين ـ أنّه لا بدّ حينئذ من الرجوع
إلى ما ذكر في الشرط ، من الالتزام ببقاء حكم المقيّد مع تعذّر قيده على تقدير
وجود مقتضى الثبوت وبعدمه مع تقدير عدمه ، وقد تقدّم أنّ شمول الرواية الثانية ـ بل
وجريان الاستصحاب أيضا ـ مبنيّ على ذلك ، إلّا أنّ ما نحن فيه من قبيل ماء الرمّان
ونحوه ممّا لم يكن مقتضى الثبوت فيه موجودا كما ذكره المصنّف رحمهالله فلا يتمّ حينئذ الحكم بوجوب الغسل بالماء القراح بدلا من
السدر كما ذكره صاحب الرياض.
وإن كانت من قبيل
إضافة المركّب إلى أحد جزئيّة ، يأتي فيه ما تقدّم من
بقاء حكم المركّب
بعد تعذّر بعض أجزائه ، فيجب الإتيان حينئذ بالباقي. وهذا وإن وافق ما ذكره صاحب
الرياض من وجوب الغسل بالماء القراح بدلا من ماء السدر ، إلّا أنّه بنى ما ذكره
على كون الإضافة من قبيل التقييد. ولكنّك خبير بأنّ الأولى ترك هذا الشقّ من
الترديد ، لعدم صحّة إضافة المركّب إلى بعض أجزائه ، لعدم وجودها في المستعملات.
وكيف كان ، قد بقي
في كلامه احتمال آخر أشار إليه المصنّف رحمهالله بقوله : «ودعوى أنّه من قبيل المقيّد ...». وحاصله : أنّا
نسلّم أنّ مقتضى القاعدة انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط ، لأجل ما عرفت من عدم
وجود مقتضي الثبوت هنا ، إلّا أنا نقول : إنّ الحكم ببقاء المشروط هنا مبنيّ على
العمل بمقتضى إطلاق دليل المشروط ، لأنّ قوله عليهالسلام : «وليكن في الماء شيء من السدر» لأجل ظهور اختصاصه بحال
التمكّن يقتصر في تقييد إطلاق دليل المشروط به على القدر المتيقّن منه ، وهو حال
التمكّن ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله هنا وعند بيان حكم الأجزاء.
وحاصل ما أجاب به
: أنّ قوله : «وليكن في الماء شيء من السدر» ليس واردا لبيان التكليف النفسي ، بل
هو إرشاد إلى مطلوبيّة وجود السدر في الماء لأجل حصول الكلّ ، فالتكليف المتصوّر
فيه هو التكليف الغيري ، ولا ريب أنّه ناش من كون متعلّقه مأخوذا في الغير شطرا أو
شرطا ، كشرطيّة وجود السدر في المغسول به فيما نحن فيه ، فلا يعقل كون شرطيّته
تابعة لوجود الأمر الغيري المذكور حتّى يقال ببقاء حكم المشروط عند تعذّر الشرط.
وليس أيضا لتقيّد الغسل بكونه بماء السدر وجود خارجي حتّى يسقط عند تعذّره ، ويبقى
حكم المقيّد بقاعدة الميسور. فتقيّد الأمر الغيري المذكور بحال التمكّن ناش من
تقييد وجوب الغير به ، لا أنّ الأمر بالغير مطلق والأمر الغيري مقيّد به. وبعبارة
اخرى : أنّ سقوط الأمر الغيري في حال تعذّر الشرط ليس لأجل سقوط الشرطيّة ، بل
لأجل سقوط المشروط من جهة تعذّر شرطه الذي فرض كونه شرطا له مطلقا ، فسقوط الأمر
بالشرط تابع لسقوط
ودعوى : أنّه من
المقيّد ، لكن لما كان الأمر الوارد بالمقيّد مستقلا فيختصّ بحال التمكّن ويسقط
حال الضرورة ، وتبقى المطلقات (١٨٥٢) غير مقيّدة بالنسبة إلى الفاقد. مدفوعة :
بأنّ الأمر في هذا المقيّد للإرشاد وبيان الاشتراط ، فلا يسقط بالتعذّر ، وليس
مسوقا لبيان التكليف ؛ إذ التكليف المتصوّر هنا هو التكليف المقدّمي ؛ لأنّ جعل
السدر في الماء مقدّمة للغسل بماء السدر المفروض فيه عدم التركيب الخارجي ، لا جزء
خارجي له حتّى يسقط (١٨٥٣) عند التعذّر ، فتقييده بحال التمكّن ناش من تقييد وجوب
ذيها ، فلا معنى لإطلاق أحدهما وتقييد الآخر ، كما لا يخفى على المتأمّل.
ويمكن أن يستدلّ
على عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه برواية عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة ، فكيف أصنع
بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ،) امسح عليه» . فإنّ معرفة حكم المسألة (١٨٥٤) ـ أعني المسح على المرارة
من آية نفي الحرج ـ متوقّفة على كون تعسّر الشرط غير موجب لسقوط المشروط ، بأن
يكون المنفي ـ بسبب الحرج ـ مباشرة اليد الماسحة للرجل الممسوحة ، ولا ينتفي
بانتفائه أصل المسح المستفاد وجوبه من آية الوضوء ؛ إذ لو كان سقوط المعسور وهي
المباشرة موجبا لسقوط أصل المسح ، لم يمكن معرفة وجوب المسح على المرارة من مجرّد
نفي الحرج ؛ لأنّ نفي الحرج يدلّ على سقوط المسح في هذا الوضوء رأسا ، فيحتاج وجوب
المسح على المرارة إلى دليل خاصّ خارجي.
______________________________________________________
الأمر بالمشروط ،
فلا وجه لاعتبار إطلاق أحدهما وتقيّد الآخر.
١٨٥٢. أي : مطلقات الأمر بغسل الميّت ثلاث مرّات.
١٨٥٣. أي : الجزء المتعذّر ، ويبقى ما دلّ على اعتبار غيره على
إطلاقه.
١٨٥٤. لا يذهب عليك أنّ الخبر يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
مراد السائل السؤال عن وجوب أصل المسح ، بأن كان
فرعان (١٨٥٥) : الأوّل : لو دار الأمر
بين ترك الجزء وترك الشرط ، كما فيما إذا لم يتمكّن من الإتيان بزيارة عاشوراء
بجميع أجزائها في مجلس واحد ـ على القول باشتراط اتّحاد المجلس فيه ـ فالظاهر
تقديم ترك الشرط ، فيأتي بالأجزاء تامّة في غير المجلس
؛ لأنّ فوات الوصف (١٨٥٦) أولى من فوات الموصوف ، ويحتمل التخيير.
______________________________________________________
متردّدا فيه بعد
ما انقطع ظفره ، فأجاب الإمام عليهالسلام بأنّ هذا وأشباهه يعرف من كتاب الله تعالى. ولا ريب أنّ
معرفة وجوب المسح على المرارة حينئذ ـ كما أمر به الإمام عليهالسلام ـ من الكتاب
يتوقّف على معرفة المقدّمة المذكورة ، أعني : عدم كون تعسّر الشرط موجبا لسقوط
المشروط ، وبها يتمّ المطلوب.
وثانيهما : أن
يكون السائل عالما بعدم سقوط وجوب أصل المسح بانقطاع ظفره ، فسأل الإمام عليهالسلام عن كيفيّته. وحينئذ قوله : «يعرف هذا وأشباهه من الكتاب»
لا يدلّ على المدّعى من عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه ، إذ بعد العلم بعدم سقوط
أصل المسح لا يحتاج استفادة حكم المسألة من الكتاب إلى معرفة المقدّمة المذكورة من
عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه ، إذ بعد العلم بعدم سقوط أصل المسح في الجملة ،
يمكن أن يستفاد من الآية كون الساقط بسبب الجرح مباشرة اليد الماسحة للرجل
الممسوحة لا المسح من رأس ، لأنّه الموجب للحرج لا أصل المسح. وقوله : «كيف أصنع
بالوضوء؟» محتمل للوجهين. والاستدلال إنّما يتمّ على تقدير ظهور الرواية في
الأوّل.
١٨٥٥. متفرّعان على عدم سقوط الكلّ والمشروط بتعذّر جزئه وشرطه.
١٨٥٦. لعلّ الوجه فيه كون الوصف في مقام جعل الماهيّة متأخّرا
بحسب التصوّر عن الموصوف وتابعا له في الجعل. وأنت خبير بعدم صحّة الاستناد إلى
مثل هذه التعليلات العليلة في إثبات الأحكام الشرعيّة ونفيها. نعم ، لو ثبت كون
الجزء أدخل في مصلحة المأمور به من الشرط كان الشرط متعيّنا للسقوط ، لقضاء
__________________
الثاني : لو جعل الشارع للكلّ بدلا
اضطراريّا كالتيمّم ، ففي تقديمه على الناقص وجهان (١٨٥٧) : من أنّ مقتضى البدليّة
كونه بدلا عن التامّ فيقدّم على الناقص كالمبدل ، ومن أنّ الناقص
حال الاضطرار تامّ ؛ لانتفاء جزئيّة المفقود ، فيقدّم على البدل كالتامّ ؛ ويدلّ
عليه رواية عبد الأعلى المتقدّمة.
الأمر الثالث : لو دار الأمر بين
الشرطيّة والجزئيّة ، فليس في المقام أصل كلّي (١٨٥٨) يتعيّن به أحدهما ، فلا بدّ
من ملاحظة كلّ حكم يترتّب على أحدهما وأنّه موافق للأصل أو مخالف له.
______________________________________________________
الأهميّة به ، ولم
يثبت ، فالأولى هو الحكم بالتخيير. وفي حكم المسألة ما لو دار الأمر بين ترك شرط
أشبه بالجزء ، وبين ترك شرط آخر لم يكن كذلك ، كما لو دار في كفن الميّت بين القطن
المتنجّس والحرير. وعن الشهيد تقديم الأوّل ، لما ذكره المصنّف رحمهالله من كون فوات الوصف أولى من فوات الموصوف.
١٨٥٧. أقواهما ثانيهما ، لحكومة دليل الاجتزاء بالناقص ـ وكونه
تامّا في حال تعذّر الجزء أو الشرط ـ على دليل البدل الاضطراري. وأمّا البدل
الاختياري فلا إشكال في تقديمه على الناقص.
١٨٥٨. لأنّه مع العلم بالحدوث والشكّ في الحادث يتعارض الأصل من
الجانبين ، فإذا علم اعتبار شيء في عبادة ، وشكّ في كونه على وجه الشرطيّة أو
الجزئيّة ، فأصالة البراءة متعارضة من الجانبين ، ولكنّ المقرّر في محلّه أنّه إذا
ترتّب أثر زائد على أحد الحادثين في مثله يعمل فيه بمقتضى الاصول نفيا وإثباتا
فالنيّة في الصلاة مثلا قد اختلف في كونها جزءا منها أو شرطا لها ، فحينئذ لا يمكن
نفي جزئيّتها ولا شرطيّتها ولا الأثر المشترك بينهما ـ كوجوب الإتيان بها في
الصلاة ـ بالأصل. نعم ، لو كانت من الأجزاء اعتبر فيها ما يعتبر في غيرها من
الأجزاء ، من الطهارة والاستقبال والستر وإباحة المكان واللباس ونحوها ، بخلاف ما
لو كانت
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
من الشروط ،
فحينئذ تنفى شرطيّة هذه الامور فيها بالأصل ، وإن لم يثبت بذلك كونها من الشروط.
وإن شئت توضيح
المقام فلا بدّ من تحقيق الكلام في مقامات. أحدها : في بيان معنى الجزئيّة
والشرطيّة. وثانيها : في بيان ثمرة النزاع في تحديدهما. وثالثها : بيان ما يقتضيه
الأصل في ذلك.
أمّا الأوّل فعن
العلّامة في المنتهى في مسألة النيّة : «الشرط ما تقدّم على المشروط ، وتوقّفت
صحّته عليه». وقيل : الشرط ما كان مقارنا للمشروط ، مع توقّف صحّته عليه. واعتبر
آخر كلا الأمرين ، من التقدّم والمقارنة فيه. وقيل غير ذلك. والكلام فيما يتعلّق
بهذه الحدود مقرّر في محلّ آخر.
والأولى أن يقال :
إنّ الشرط ما يعتبر تلبّس المشروط به ، بأن لا يعتبر في عرض سائر الأجزاء ، بل
اعتبر فيه وقوع الأجزاء ، متلبّسة به. فالشرط حينئذ يكون من كيفيّات المشروط ،
كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، لأنّ الشارع قد اعتبرها متلبّسة بلباس الطهارة
ومتكيّفة بها ، وكذلك الستر والقبلة ونحوهما. والجزء ما لم يكن كذلك ، بل كان
داخلا في الماهيّة. والنقض بتأخّر الإجازة عن العقد الفضولي مع كونها شرطا في
صحّته ، وكذا غسل العشاءين عن صوم اليوم الماضي مع كونه شرطا في صحّته ، يمكن دفعه
بأنّ الشرط هو تعقّب العقد للإجازة دون نفسها من حيث هي. وبمثله يقال في الغسل
أيضا.
هذا ، ولكن أكثر
الشروط يمكن اعتباره بكلا الاعتبارين المأخوذين في مفهوم الشرطيّة والجزئيّة ، إذ
النيّة بمعنى الإخطار التي وقع الخلاف في جزئيّتها وشرطيّتها قابلة لأن تعتبر في
عرض سائر الأجزاء ، ولأن تجعل لباسا وكيفيّة لها. وإنّما قيّدناها بمعنى الإخطار
لعدم الخلاف في شرطيّتها على القول بالداعي. وكذلك الاستقرار في القيام والترتيب
والموالاة بين الأجزاء والطمأنينة بين السجدتين ، لإمكان أن يجعل القيام
والاستقرار فيه جزءين من الصلاة ، وأن يجعل الاستقرار
.................................................................................................
______________________________________________________
كيفيّة للقيام ،
وأن يجعل كلّ من الأجزاء والترتيب بينها والتوالي فيها جزءا منها كسائر الأجزاء ،
كما حكي عن الرسالة العمليّة لصاحب الجواهر ، وأن يجعل كلّ من الترتيب والتوالي
كيفيّة لها ، وكذلك يمكن أن تجعل الطمأنينة بين السجدتين جزءا لها ، وأن تجعل
كيفيّة لهما ، وهكذا.
وبالجملة ، إنّ
جلّ الشروط إن لم يكن كلّها قابل لذلك ، فالمائز بين الأجزاء والشروط هي ملاحظة
الأدلّة ، فإذا دلّ الدليل على اعتبار شيء في الصلاة مثلا ، فإن استفيد منه كونه
من كيفيّاتها فهو من الشروط ، وإن استفيد منه كونه من مقوّماتها الداخلة فهو من
الأجزاء. والأوّل كما إذا قال : انصب صلبك في الصلاة مستقرّا. والثاني كما إذا قال
: انصب صلبك في الصلاة واستقرّ فيها ، وهكذا.
نعم ، ربّما يقع
الإجمال في الدليل ، فيحصل الاشتباه في كون الواجب في الصلاة من أيّ القبيلين ،
مثل أن يقول : تجب الطمأنينة بين السجدتين في الصلاة أو تجب النيّة فيها ، وحينئذ
يجب الرجوع إلى مقتضى الاصول.
وأمّا الثاني فقيل
بعدم ترتّب ثمرة للخلاف في معنى الجزئيّة والشرطيّة ، وهو كما ترى ، لوجود ثمرات
هنا. وهي إمّا مرتّبة على ما شكّ في جزئيّته وشرطيّته ، مع اعتباره في أوّل
المركّب كالنيّة في الصلاة ، أو على الأعمّ منه وممّا اعتبر في أثنائه أو آخره.
أمّا الأوّل فإنّه
يترتّب على الخلاف في جزئيّة النيّة وشرطيّتها ثمرات. منها : تحقّق الدخول في
الصلاة بالنيّة على الأوّل دون الثاني ، فيحرم قطع الصلاة بالنيّة على الأوّل ،
لقوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) دون الثاني. ومنها : وجوب المقارنة بين النيّة وتكبيرة
الإحرام على الثاني دون الأوّل. ومنها : لزوم نيّة اخرى لها على الأوّل دون الثاني
، فتأمّل.
وأمّا الثاني
فإنّه إذا فرض الشكّ في كون الطمأنينة بين السجدتين جزءا أو شرطا تترتّب على
جزئيّتها وشرطيّتها ثمرات أيضا. منها : أنّه يعتبر فيها ما يعتبر في سائر الأجزاء
من الشرائط ـ من الاستقبال والستر وإباحة المكان ونحوها ـ على
.................................................................................................
______________________________________________________
الأوّل دون
الثاني. فلو استدبر فيها ثمّ استقبل قبل الدخول في جزء آخر ، أو كشف العورة أو صار
المكان غصبا ثمّ مباحا قبل الدخول في جزء آخر صحّت صلاته على الثاني دون الأوّل ،
لأنّ هذه الشروط معتبرة في الأجزاء دون الشرائط.
ومنها : أنّه لو
صار أجيرا على العمل الذي شكّ في جزئيّة بعض ما يعتبر فيه وشرطيّته ، وترك الأجير
المشكوك فيه نسيانا بناء على عدم بطلان العمل به حينئذ ، وقلنا بكون الاجرة موزّعة
على الأجزاء خاصّة ، فللمتروك قسط منها على الأوّل دون الثاني. نعم ، يمكن اختلاف
الاجرة زيادة ونقصانا باختلاف الفعل ـ بوجدان الشرط وفقده ـ كمالا وعدمه.
ومنها : أنّا لو
قلنا بجريان قاعدة الميسور في الأجزاء دون الشرائط ، فإذا تعذّر المشكوك فيه يجب
الإتيان بالباقي على تقدير جزئيّته دون شرطيّته.
ومنها : أنّه لو
نذر الإتيان بالفعل في وقت لا يسع جميع ما يعتبر فيه ، بل كان بقدر ما عدا المشكوك
فيه من الأجزاء المعلومة ، فعلى تقدير جزئيّته لا ينعقد النذر ، لتعلّقه بغير
المقدور ، بخلافه على تقدير شرطيّته ، فيجب الإتيان بالأجزاء المعلومة في الوقت
والمشكوك فيه في خارجه ، لعدم وجوب إيقاع الشرائط في الوقت ، لأنّ متعلّق النذر هو
نفس الأفعال المقيّدة بشروطها على أن يكون التقييد داخلا والقيد خارجا.
وأمّا الثالث فقيل
: إنّ مقتضى الأصل مع الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة هو عدم الجزئيّة. ولعلّه مبنيّ
على افتقار الجزئيّة إلى زيادة تصوّر ولحاظ مفقودة في الشرطيّة ، لاحتياجها إلى
تصوّر الجزء بنفسه أوّلا ، ثمّ اعتبار الترتيب والتركيب بينه وبين سائر الأجزاء ،
بخلاف الشرطيّة ، لعدم احتياجها إلّا إلى تصوّر الشرط وتقييد المأمور به ، والأصل
ينفي الاعتبار الزائد.
وفيه : أنّ
الجزئيّة أيضا لا تحتاج إلّا إلى تصوّر الأجزاء مرتّبة ثمّ الأمر بها ، والتركيب
أمر اعتباري منتزع من الأمر بالامور المرتّبة ، نظير انتزاع الجزئيّة من الأمر
بالمركّب. وبالجملة ، كلّا من الكلّية والجزئيّة ليس من الامور الشرعيّة حتّى ينفى
الأمر الرابع : لو دار الأمر بين كون
شىء شرطا أو مانعا ، أو بين كونه جزءا أو كونه زيادة مبطلة ، ففي التخيير هنا ؛
لأنّه من دوران الأمر في ذلك الشيء بين الوجوب والتحريم. أو وجوب الاحتياط بتكرار
العبادة وفعلها مرّة مع ذلك الشيء واخرى بدونه ، وجهان ، مثاله الجهر بالقراءة في
ظهر الجمعة حيث قيل بوجوبه وقيل بوجوب الإخفات وإبطال الجهر ، وكالجهر بالبسملة في
الركعتين الأخيرتين ، وكتدارك الحمد (١٨٥٩) عند الشكّ فيه بعد الدخول في السورة.
______________________________________________________
بالأصل عند الشكّ.
ومن هنا يظهر الوجه فيما ذكره المصنّف رحمهالله من عدم وجود أصل مطّرد في جميع موارد الشكّ في الجزئيّة
والشرطيّة ، بل إن ترتّب على إحداهما أثر زائد يعمل فيه بمقتضى الاصول نفيا
وإثباتا وإلّا فلا ، كما يظهر من ملاحظة الثمرات المتقدّمة.
نعم ، ربّما يمكن
تمييز الجزئيّة أو الشرطيّة بحسب تعبيرات الشارع في الأدلّة اللفظيّة كما أشرنا
إليه آنفا ، فإن قال الشارع : لا صلاة إلّا بطهور أو بستر أو باستقبال أو ما يؤدّي
هذا المعنى ، يستفاد منه كون هذه الامور خارجة من حقيقة الصلاة معتبرة في كيفيّتها
، وهو معنى الشرطيّة كما أسلفناه. وإن قال : تطهّر وتستّر واستقبل ، مثل قوله :
اركع واسجد في الصلاة ، استفيد منه كونها داخلة في الماهيّة. وأمّا كلّ مورد لم
يستفد منه أحد الأمرين ، إمّا بأن ثبت المشكوك فيه باللبّ ، أو دلّ الدليل اللفظي
على وجوبه من دون انفهام الجزئيّة أو الشرطيّة منه ، فيجب فيه الرجوع إلى مقتضى
الاصول بحسب خصوصيّات الموارد كما أسلفناه.
١٨٥٩. هذا مثال لدوران الأمر بين الجزئيّة والزيادة المبطلة.
والأوّلان لدوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة ، وهو واضح.
وتوضيح الكلام في
الأوّل أنّه قد ثبت عدم الاعتداد بالشكّ في الإتيان ببعض أجزاء الصلاة بعد الدخول
في بعض آخر ، كالشكّ في السورة بعد الدخول في الركوع أو فيه بعد الدخول في السجدة
، للمستفيضة منها قوله عليهالسلام : «إذا شككت
فقد يرجّح الأوّل : أمّا بناء على ما
اخترناه من أصالة البراءة مع الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، فلأنّ المانع من إجراء
البراءة عن اللزوم الغيري في كلّ من الفعل والترك ليس إلّا لزوم المخالفة القطعيّة
، وهي غير قادحة ؛ لأنّها لا يتعلّق بالعمل ؛ لأنّ واحدا من فعل ذلك الشيء وتركه
ضروري مع العبادة ، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة ، كما كان
يلزم في طرح المتباينين كالظهر والجمعة.
وبتقرير آخر : إذا أتى بالعبادة مع واحد
منهما قبح العقاب من جهة اعتبار الآخر في الواقع لو كان معتبرا ؛ لعدم الدليل عليه
وقبح المؤاخذة من دون بيان ، فالأجزاء المعلومة ممّا يعلم كون تركها منشأ للعقاب ،
وأمّا هذا المردّد بين الفعل والترك فلا يصحّ استناد العقاب إليه ؛ لعدم العلم به
، وتركهما جميعا غير ممكن حتّى يقال : إنّ العقاب على تركهما معا ثابت ، فلا وجه
لنفيه عن كلّ منهما.
______________________________________________________
في شيء ودخلت في
شيء آخر فليس شكّك بشيء». وأفتى به الأصحاب أيضا.
ولكن وقع الخلاف
في بعض الأجزاء الآخر ، كما إذا شكّ في كلمة من الفاتحة بعد الدخول في اخرى ، أو
في آية بعد الدخول في اخرى ، بل في الفاتحة بعد الدخول في السورة ، كما مثّل به المصنّف
رحمهالله. والمشهور عدم جريان قاعدة الشكّ بعد الفراغ فيه ، خلافا
لجماعة من المتأخّرين. وظنّي أنّ أوّل من فتح هذا الباب ، وعمّم القاعدة بالنسبة
إلى جميع أجزاء الصلاة بل بالنسبة إلى غيرها أيضا ، هو المولى المقدّس الأردبيلي.
وسيجيء تفصيل الكلام فيه في مبحث الاستصحاب. ومع الشكّ في جريانها في موارد الخلاف
يدور الأمر في تدارك المشكوك فيه بين كونه جزءا أو زيادة مبطلة ، لأنّه بناء على
اعتبار القاعدة كان زيادة مبطلة ، وعلى عدم اعتبارها كان جزءا من الصلاة ،
لاستصحاب عدم الإتيان به.
هذا كلّه إن قلنا
بكون مقتضى القاعدة هي العزيمة ، بأن يحرم التدارك في مواردها. وإن قلنا بكون
مقتضاها الرخصة في عدم وجوب التدارك كما يظهر من بعضهم ، تخرج موارد الشكّ من
كونها ثمرة للنزاع ، لفرض جواز التدارك حينئذ على تقدير اعتبار القاعدة أيضا.
وأمّا بناء على وجوب الاحتياط عند الشكّ
في الشرطيّة والجزئيّة ؛ فلأنّ وجوب الاحتياط فرع بقاء وجوب الشرط الواقعي المردّد
بين الفعل والترك ، وإيجابه مع الجهل مستلزم لإلغاء شرطيّة الجزم بالنيّة واقتران
الواجب الواقعي بنيّة الإطاعة به بالخصوص مع التمكّن (١٨٦٠) ، فيدور الأمر بين
مراعاة ذلك الشرط المردّد وبين مراعاة شرط الجزم بالنيّة.
وبالجملة : فعدم وجوب الاحتياط في
المقام لمنع اعتبار ذلك الأمر المردّد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في
المقام ـ نظير القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة ، لمنع شرطيّة
الاستقبال مع الجهل ـ لا لعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في المكلّف به. هذا ، وقد
يرجّح الثاني وإن قلنا بعدم وجوبه (١٨٦١) في الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ؛ لأنّ
مرجع الشكّ هنا إلى المتباينين ؛ لمنع جريان أدلّة (١٨٦٢) نفي الجزئيّة والشرطيّة
عند الشكّ في المقام من العقل والنقل.
وما ذكر من أنّ إيجاب الأمر الواقعي
المردّد بين الفعل والترك مستلزم لإلغاء الجزم بالنيّة مدفوع بالتزام ذلك ، ولا
ضير فيه ؛ ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين وإلى الجهات الأربع وتكرار
الوضوء بالماءين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما ، والجمع بين الوضوء
والتيمّم إذا فقد أحدهما (١٨٦٣) ، مع أنّ ما ذكرنا في نفي كلّ من الشرطيّة
والمانعيّة بالأصل إنّما يستقيم لو كان كلّ من الفعل والترك توصّليّا على تقدير
الاعتبار ، وإلّا فيلزم (١٨٦٤) من العمل بالأصلين
______________________________________________________
١٨٦٠. والفرض إمكان قصد الوجه والإطاعة التفصيليّة هنا بترك
الاحتياط والالتزام بالتخيير.
١٨٦١. الضمير عائد إلى الثاني المراد به الاحتياط.
١٨٦٢. لفرض العلم الإجمالي بشرطيّة واحد من الفعل والترك. وعدم
قدحه في العمل بأصالة البراءة إنّما هو فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر دون
المتباينين.
١٨٦٣. يعني : المطلق والمضاف المشتبه أحدهما بالآخر.
١٨٦٤. إذ لو كان كلاهما تعبّديّين يعتبر فيهما قصد القربة ، أو
أحدهما كذلك
مخالفة عمليّة ، كما
لا يخفى.
والتحقيق أنّه إن قلنا بعدم وجوب
الاحتياط في الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة وعدم حرمة المخالفة القطعيّة للواقع إذا
لم تكن عمليّة ، فالأقوى التخيير هنا (١٨٦٥) ، وإلّا تعيّن الجمع بتكرار العبادة ،
ووجهه يظهر ممّا ذكرنا.
______________________________________________________
لزمت من إعمال
الأصل في نفي وجوب كلّ منهما مخالفة عمليّة. وهو على الأوّل واضح ، لأنّ المكلّف
وإن لم يخل من الفعل والترك ، إلّا أنّه إذا أتى به أو تركه لا بقصد القربة تحقّقت
المخالفة. وأمّا على الثاني فإنّ الفعل إن كان على تقدير وجوبه تعبّديّا والترك
على تقدير وجوبه توصّليا ، فالمخالفة العمليّة إنّما تلزم إذا أتى بالفعل من دون
قصد القربة ، بخلاف ما لو تركه كذلك ، لاحتمال كون الترك حينئذ مطابقا للواقع ،
وبالعكس في صورة العكس. وإطلاق المصنّف رحمهالله للزوم المخالفة العمليّة على تقدير عدم كونهما توصّليّين
مبنيّ على كون تجويز العمل بالأصل في نفي وجوبهما مطلقا مؤدّيا إلى المخالفة
العمليّة ولو في الجملة ، لا أنّه مستلزم لذلك مطلقا.
١٨٦٥. لا تلزمه المخالفة العمليّة من حيث اعتبار قصد القربة في
العبادة ، لأنّ قصد ذلك إنّما يعتبر في أجزاء العبادة دون شرائطها ، فالأمر فيما
دار الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة واضح. اللهمّ إلّا أن يكون محتمل الشرطيّة ممّا
يعتبر فيه قصد القربة مع قطع النظر عن شرطيّته كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، ولكن
لا دخل لذلك فيما نحن فيه. وأمّا فيما دار الأمر فيه بين الجزئيّة والزيادة
المبطلة فكذلك أيضا ، لأنّ المخالفة العمليّة إنّما تلزم حينئذ لو أتى بالمشكوك
فيه من دون قصد القربة ، للعلم ببطلان العمل حينئذ تفصيلا ، إمّا من جهة ترك قصد
القربة إن كان المشكوك فيه جزءا في الواقع ، وإمّا من جهة الزيادة المبطلة إن لم
يكن جزءا في الواقع. لكن القول بالتخيير إنّما ينافي قصد الوجوب بالخصوص أو الحرمة
كذلك ، لا قصد القربة ، لاحتمال الجزئيّة ، فإذا أتى به بقصدها لا تلزم منه مخالفة
عمليّة ، و
.................................................................................................
______________________________________________________
هذا القدر كاف في
منع وجوب الاحتياط بتكرار العمل. وأمّا إذا ترك المشكوك فيه فلا يلزم حينئذ إلّا
مخالفة التزاميّة ، لعدم اعتبار قصد القربة في ترك الزيادة المبطلة ، لكون وجوبه
توصّليّا. والله أعلم.
اعلم أنّه قد بقي
في المقام امور قد أهملها المصنّف رحمهالله ، لا بأس بالإشارة إليها تتميما للمقام وتكميلا للمرام :
الأمر الأوّل :
أنّه إذا قلنا بالبراءة أو الاحتياط عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة ، فمقتضى
الأوّل ليس إلّا مجرّد نفي ترتّب العقاب على ترك المأمور به الواقعي على تقدير
جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته ، لا نفي الجزئيّة والشرطيّة في الواقع والظاهر ،
لأنّ هذا هو القدر المتيقّن من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وكذا المنساق من
أخبار البراءة ليس بأزيد من ذلك ، لأنّ مساقها بيان حكم العقل. ومقتضى الثاني أيضا
ليس إلّا مجرّد الإتيان بالمشكوك فيه تحصيلا لليقين بالبراءة عن الواقع ، لأنّ حكم
العقل والشرع به إرشادي ، والمصلحة فيه ليست إلّا ما ذكرناه ، لا إثبات الجزئيّة
أو الشرطيّة في الواقع أو الظاهر.
ويتفرّع على هذا
امور :
منها : حكومة سائر
الأدلّة المثبتة أو النافية للجزئيّة أو الشرطيّة على البراءة والاحتياط في المقام
، لأنّه إذا دلّ دليل ـ وإن كان هو الاستصحاب ـ على إحداهما فأصالة البراءة إنّما
تدلّ على عدم العقاب من جهة قبح التكليف بلا بيان ، والفرض وصول البيان حينئذ
بقيام الدليل وافقها أم خالفها.
وأمّا على القول
بالاحتياط فإنّك قد عرفت أنّ مقتضاه الإتيان بالمشكوك فيه من باب المقدّمة
العلميّة لتحصيل الواقع ، ومع قيام الدليل الموافق أو المخالف يحصل العلم التفصيلي
ولو شرعا بالواقع ، فلا مسرح حينئذ لقضيّة المقدّمة العلميّة التي هي فرع الجهل
بالواقع.
ومن هنا يظهر أنّه
إن ورد الأمر بمركّب ، وشكّ في كون شيء جزءا له أو
.................................................................................................
______________________________________________________
شرطا له ، وكان
متمكّنا من تحصيل المشكوك فيه ثمّ تعذّر عليه ذلك ، كما إذا كان مكلّفا بعتق
الرقبة ، وشكّ في اشتراط الإيمان فيها مع تمكّنه من تحصيلها ، ثمّ تعذّر عليه ذلك
وتمكّن من تحصيل الكافرة ، فعلى القول بالاحتياط عند الشكّ في الأجزاء والشرائط
يجب عليه الإتيان بفاقد المشكوك فيه كالكافرة في المثال ، لأنّ اقتضاء الاحتياط
الإتيان بالمشكوك فيه عند التمكّن منه لا يثبت كونه جزءا من المأمور به أو شرطا له
، حتّى يقتضي تعذّر الجزء أو الشرط تعذّر الكلّ أو المشروط ، لأنّ غاية ما تدلّ
عليه قاعدة الاشتغال وجوب الإتيان بالمشكوك فيه عند التمكّن منه من باب المقدّمة
العلميّة ، فإذا تعذّر عليه وجب عليه الإتيان بالباقي تحصيلا لليقين بالبراءة عن
التكليف بالمجمل ، بل استصحاب التكليف الثابت أوّلا يثبت ذلك إن قلنا باعتبار
الاصول المثبتة.
ومنها : أنّه لو
ضاق الوقت في الموقّت ، ودار الأمر بين ترك المشكوك الشرطيّة أو الجزئيّة وترك معلوم
الجزئيّة أو الشرطيّة ، فعلى القول بوجوب الاحتياط يتعيّن ترك المشكوك فيه ، لفرض
عدم دلالة قاعدة الاشتغال على جزئيّته أو شرطيّته حتّى يعارض تركه ترك غيره ، بل
غايتها الدلالة على وجوب الإتيان به ، لاحتمال جزئيّته أو شرطيّته في الواقع ، ولا
ريب أنّ ترك ما يحتملهما لا يعارض ترك ما علمت جزئيّته أو شرطيّته عند دوران الأمر
بينهما.
ومنها : أنّه لو
لم يتمكّن المريض من الإتيان بتمام المأمور به ، واضطرّ إلى ترك بعض أجزائه أو
شرائطه ، فالكلام فيه كسابقه.
ومنها : أنّه لو
نذر الإتيان بعبادة أو شرط عليه ذلك في ضمن عقد لازم ، ثمّ شكّ في جزئيّة شيء له
أو شرطيّته له ، لا يحصل الوفاء بالنذر والشرط إلّا بالإتيان بالمشكوك فيه ، وإن
قلنا بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، لما عرفت من أنّها لا تنفي
الجزئيّة والشرطيّة ، وأنّ غايتها نفي العقاب من جهة ترك المشكوك فيه ، والمفروض
أنّ المنذور والمشروط هي العبادة الواقعيّة ، فلا يحصل الوفاء بهما إلّا
.................................................................................................
______________________________________________________
بما ذكرناه.
ومنها : أنّهم قد
اشترطوا في لزوم وقف المسجد إيقاع صلاة فيه ، فعلى القول بالصحيح إذا صلّى أحد فيه
صلاة وترك فيها ما شكّ في كونه جزءا لها ، لا يلزم بها الوقف ، لما عرفت من عدم
دلالة أصالة البراءة على نفي الجزئيّة ، والفرض أنّ شرط لزومه إيقاع صلاة واقعيّة
أو ظاهريّة فيه. اللهمّ إلّا أن يريدوا بها ما كان مبرئا للذمّة ولو بإعمال الاصول
فيها ، لا ما كان صلاة في الواقع والظاهر.
الأمر الثاني :
أنّه إذا علم اعتبار شيء في عبادة أو غيرها ، وشكّ في كون اعتباره فيها ، من حيث
كون وجوده شرطا في صحّتها ، أو عدمه مانعا منها ، فأصالة عدم الشرطيّة تعارضها
أصالة عدم المانعيّة ، لما تقدّم من المصنّف رحمهالله من كون كلّ واحدة منهما موردا لأصالة البراءة. ولا يترتّب
عليه ثمرة مع فرض كون الشبهة حكميّة ، للقطع بصحّة العبادة مع الإتيان به
وببطلانها مع الإخلال به ، سواء كان وجوده شرطا في الواقع أم عدمه مانعا كذلك.
نعم ، تظهر الثمرة
فيما كانت الشبهة موضوعيّة ، وذلك لأنّه قد ثبت فيما كان لباس المصلّي من أجزاء
الحيوان أن يكون من مأكول اللحم ، فإذا تردّد الأمر بين كون ذلك شرطا وعدمه مانعا
، وصلّى في لباس مردّد بينهما بحسب الموضوع ، فعلى الشرطيّة يحكم ببطلانها ، لعدم
العلم بتحقّق شرطها ، بل الأصل عدم تحقّق العبادة المشروطة في الخارج. ولذا قال في
محكيّ المنتهى : «لو شكّ في كون الصوف أو الشعر أو الوبر من مأكول اللحم لم تجز
الصلاة ، لأنّها مشروطة بستر العورة بما يؤكل لحمه ، والشكّ في الشرط يقتضي الشكّ
في المشروط» انتهى. وعلى المانعيّة يحكم بصحّتها ، لأصالة عدم المانع. ولعلّه إليه
ينظر ما أورده على ما عرفته من المنتهى في محكيّ البيان والمدارك والذخيرة ، بأنّه
يمكن أن يقال : إنّ الشرط ستر العورة ، والنهي إنّما تعلّق بالصلاة في غير المأكول
، فلا يثبت إلّا مع العلم بكون الساتر كذلك. وأيّدوه بعموم أدلّة البراءة.
.................................................................................................
______________________________________________________
نعم ، لو كان عدم
المانع شرطا لم يجد الأصل المذكور في المقام ، إذ أصالة عدم المانع غير مجد في إحراز
الشرط. ولذا قد استشكل بعض من عاصرناه في الصلاة في الماهوت المصنوع في بلاد
الإفرنج في أمثال زماننا ، لما وصل إليه من مزجهم به الصوف من غير مأكول اللحم ،
لا يقال : الأصل عدم المزج. لأنّا نقول : إن اريد عدم المزج بهذا الثوب فهو غير
مسبوق بالعدم. وإن اريد عدم المزج مطلقا فهو إنّما يثبت عدم المزج في هذا الثوب
على القول بالاصول المثبتة.
فإن قلت : إن بنيت
على هذا لم تصحّ الصلاة في شيء من الأثواب وإن كان مصنوعا في بلاد الإسلام ،
لاحتمال سقوط شعر واحد من غير المأكول اللحم في الصوف أو القطن أو الكتّان المصنوع
منه ، ولا سبيل إلى سدّ هذا الاحتمال إلّا الأصل المذكور.
قلت : نعم ، إلّا
أن هذا احتمال لا يعتني به العقلاء ، والاطمئنان حاصل بالعدم في الغالب. مع أنّه
يمكن أن يقال : إذا كان العمل مبنيّا على نسج الثوب من أجزاء ما يؤكل لحمه ،
فمجرّد احتمال سقوط شعر أو شعرات من غير مأكول اللحم فيه ، أو احتمال مزجه فيه من
بعض الصانعين أو غيرهم ، غير مضرّ في المقام إن سلّم إضراره في غيره ، لاستمرار
السيرة عليه في جميع الأصقاع والأعصار. نعم ، يمكن أن يقال بمثله في الماهوت أيضا
، لشهادة التجّار بعدم بنائهم على المزج ، وهذه الشهادة وإن لم تفد في خصوص الثوب
الذي اريد إيقاع الصلاة فيه ما لم تتعلّق به ، إلّا أنّه يأتي فيه أيضا ما عرفته
من سيرة المسلمين ، سيّما الورعين من العلماء ، لأنّا ما سمعنا إلى الآن أحدا
يجتنب عن ثوب لأجل هذا الاحتمال مع قيامه في أغلب الموارد ، ولعلّ الاعتناء به يعدّ
من الوسواس.
الأمر الثالث :
أنه إذا دار الأمر بين كون شيء واجبا نفسيّا أو غيريّا ، فهل الأصل يقتضي الأوّل
أو الثاني؟ قولان.
اعلم أنّ هنا صورا
:
.................................................................................................
______________________________________________________
الاولى : أن يعلم
كونه نفسيّا ، وشكّ في كونه غيريّا أيضا ، كالإقرار بالأئمّة عليهمالسلام والإيمان بهم والإذعان بإمامتهم ، إذ لا ريب في وجوبه
النفسي ، فإذا حصلت الشبهة في اشتراط صحّة العبادات به كان ممّا نحن فيه.
الثانية : عكس
الاولى كغسل الجنابة ، إذ لا شكّ في وجوبه للصلاة ، وإنّما الشكّ في وجوبه لنفسه ،
وكذلك الوضوء بناء على ما قيل من أنّ المستفاد من الذكرى كونه واجبا نفسيّا ،
فينشأ منه احتمال وجوبه النفسي مع الاتّفاق على وجوبه للصلاة.
الثالثة : دوران
الأمر بينهما.
والأوليان خارجتان
ممّا نحن فيه ، لجريان أصالة البراءة عن الوجوب الغيري في الاولى والنفسي في
الثانية من دون معارضة شيء. وإنّما الإشكال في الثالثة بناء على المختار من جريان
أصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، إذ على القول بوجوب الاحتياط لا
بدّ من الإتيان بمحتمل الشرطيّة أو الجزئيّة في الصلاة مثلا تحصيلا لليقين
بالبراءة. وأمّا على المختار فربّما يقال بوجوب الاحتياط هنا ، نظرا إلى تعارض
أصالتي البراءة عن الوجوب النفسي والغيري ، وبعد تساقطهما للتعارض لا بدّ من
الإتيان بالمشكوك فيه ، تحصيلا لليقين بالبراءة عمّا ثبت التكليف به واحتمل
اشتراطه فيه.
والأقرب أن يفصّل
في المقام بنفي الآثار المرتّبة على خصوص الوجوب النفسي أو الغيري ، ويلتزم بوجوب
الاحتياط في الآثار المشتركة بينهما ، لما تقرّر في محلّه من نفي الأثر الزائد
المرتّب على مورد خصوص كلّ من المتعارضين. فإذا شكّ في كون غسل الجنابة واجبا
نفسيّا وكونه غيريّا ، وأجنب مع ظنّ الموت قبل دخول وقت الصلاة ، فعلى تقدير كونه
واجبا نفسيّا يتضيّق وقته ، بخلافه على تقدير كونه غيريّا ، بل لا وجوب له على هذا
التقدير قبل دخول وقت المشروط به ، وحينئذ ينفى وجوبه النفسي المحتمل بالأصل
السالم من المعارض. وإذا تضيّق وقت
.................................................................................................
______________________________________________________
الصلاة مع ظنّ
السلامة ينفى وجوبه الغيري المحتمل المضيّق بسبب تضيّق المشروط به بالأصل ، لأنّ التضيّق
في الأوّل من آثار الوجوب النفسي ، وفي الثاني من آثار الوجوب الغيري ، فينفى في
كلّ من المقامين بالأصل السالم من المعارض.
فإن قلت : إنّ
نفيه في المقامين مخالف للعلم الإجمالي بأحدهما ، وهو باطل كما في الشبهة
المحصورة.
قلت : قياسه على
الشبهة المحصورة قياس مع الفارق ، لأنّ العمل بالأصل في كلّ من المشتبهين فيها
مخالف لخطاب معلوم تفصيلا ، وهو قوله : اجتنب عن النجس مثلا ، بخلاف ما نحن فيه ،
لعدم العلم بخطاب تفصيلي فيه بالفرض. ومجرّد العلم بوجود خطاب في المقام في الجملة
مفيد إمّا للوجوب النفسي أو الغيري غير مجد ، لعدم العلم بتنجّزه عند العمل بكلّ
من الأصلين ، لأنّه حين نفي الوجوب النفسي المحتمل المضيّق بسبب ظنّ الموت لا يعلم
بتوجّه خطاب إليه ، لاحتمال كونه غيريّا ، وكذلك عند نفي الوجوب الغيري المضيّق ،
لاحتمال كونه نفسيّا لا يتوجّه خطابه إليه حين تضيّق وقت الصلاة. ومجرّد حصول
العلم الإجمالي له بمخالفة أحد الخطابين بالعمل بالأصل في هذه الواقعة أو سابقتها
لا يوجب بطلان العمل بالأصلين ، لأنّه إنّما يوجبه مع تنجّز التكليف بالواقع لا
مطلقا ، وقد عرفت خلافه.
وعلى ما ذكرناه
فإذا دخل وقت الصلاة وظنّ الموت ، وصلّى من دون غسل عملا بالأصل كما عرفت ، وانكشف
بطلان ظنّه بظنّ السلامة إلى آخر الوقت ، لا يجوز له نفي وجوبه بعد انكشاف بطلان
ظنّه ، لما عرفت من معارضة الأصلين حينئذ. نعم ، لا تجب إعادة الصلاة حينئذ ، لكون
الشكّ في صحّة المأتيّ بها شكّا بعد الفراغ ، فيجب فعل الغسل حينئذ من دون صلاة
تحصيلا لليقين بالبراءة.
نعم ، على ما ذهب
إليه صاحب الفصول من اشتراط اتّصاف المقدّمات بالوجوب الغيري بترتّب ذيها عليها
فعلا ، يمكن نفي وجوبه حينئذ أيضا ، لفرض عدم وجوب الإعادة في مفروض المقام ، فلا
يتّصف الغسل بالوجوب حينئذ من
.................................................................................................
______________________________________________________
جهتها ، فلا يبقى
إلّا مجرّد احتمال الوجوب النفسي المنفي بالأصل. وأمّا على المختار من عدم اشتراط
ذلك فيه فيتعارض الأصلان فيه على ما عرفت.
نعم ، يمكن أن
يقال على المختار أيضا : إنّ وجوب الاحتياط في موارده إنّما هو لأجل احتمال العقاب
في ترك الموافقة القطعيّة ، والفرض فيما نحن فيه عدم ترتّب عقاب على ترك الغسل من
جهة احتمال وجوبه الغيري ، لما قرّرناه في محلّه من عدم ترتّب العقاب على ترك
الواجبات الغيريّة من حيث هي ، والفرض في المقام عدم ترتّبه على ترك الغسل من حيث
كون تركه مفضيا إلى ترك الصلاة ، لما عرفت من عدم وجوب إعادتها في المقام ، فلا
يبقى منشأ لاحتمال العقاب إلّا مجرّد احتمال الوجوب النفسي المنفي بالأصل السالم
من المعارض.
هذا كلّه فيما
احتمل كونه واجبا نفسيّا أو غيريّا ، مع عدم وجود إطلاق دليل لفظي فيه ولا فيما
احتمل اشتراطه به. وأمّا مع وجوده في أحدهما أو فيهما فالأصل يقتضي كون المشكوك
فيه واجبا نفسيّا ، لا جزءا أو شرطا لغيره. أمّا فيما ورد دليل مطلق على وجوب شيء
، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بناء على كون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ، وثبت بالإجماع
مثلا وجوب شيء آخر مثل غسل الجنابة ، وشكّ في كونه جزءا أو شرطا لها ، فأصالة عدم
تقيّد إطلاق الدليل الأوّل تقتضي كون هذا الشيء واجبا نفسيّا. وأمّا في صورة العكس
، كما إذا ثبت وجوب الصلاة بالإجماع ، وورد قوله : اغتسل للجنابة ، فأصالة عدم
تقيّد إطلاق هذا الأمر بما اشترط وجوب الصلاة به ـ من الوقت أو غيره من شرائط
وجوبها ـ تقتضي كون الأمر بالغسل للوجوب النفسي.
نعم ، لو ثبت كون
الغسل مثلا واجبا نفسيّا ، وشكّ في كونه شرطا للصلاة ، فأصالة عدم تقيّد إطلاقه أو
ظهوره بحسب الإطلاق لا تنفي كونه واجبا غيريّا. أمّا الأوّل فإنّ غايته عدم اشتراط
وجوبه بتحقّق شرائط وجوب الصلاة ، والفرض ثبوته بدونه ، وصحّة الإتيان به مع عدم
تحقّق شرائط وجوبها ، لأنّ المفروض ثبوت
المطلب الثالث : في اشتباه الواجب
بالحرام بأن يعلم أنّ أحد الفعلين (١٨٦٦) واجب والآخر محرّم واشتبه أحدهما بالآخر.
وأمّا لو علم أنّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ، فهو خارج عن هذا
المطلب ؛ لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب
الثالث من مطالب الشكّ في التكليف.
______________________________________________________
كونه واجبا نفسيّا
، والشكّ في اشتراط صحّة الصلاة به. وأمّا الثاني فإنّ غايته ظهوره في كونه واجبا
نفسيّا ، والفرض ثبوته لا نفي كونه غيريّا أيضا. وأمّا فيما ورد فيه عليهما دليل
مطلق فالأمر فيه أوضح من سابقيه ، لجريان ما ذكرناه فيهما هنا أيضا. والله أعلم.
ولتحقيق المقام بأزيد من ذلك مجال قد قرّرناه في مبحث المقدّمة.
الأمر الرابع :
أنّه إذا ثبت كون شيء شرطا لآخر ، وتردّد بين كونه شرطا واقعيّا أو علميّا وذكريّا
، فقد تقدّم الكلام فيه في ذيل الكلام فيما ثبتت جزئيّة شيء وشكّ في كونه جزءا
ركنيّا وغيره ، فراجع.
١٨٦٦. كالظهر والجمعة بناء على وجوب إحداهما وحرمة الاخرى ذاتا
لا تشريعا. وحاصل ما ذكره : أنّ موضوع البحث هنا إنّما هو فيما تعدّد الموضوع ،
بأن كان هنا فعلان ، ودار الأمر بين وجوب أحدهما وحرمة الآخر ، سواء كانت الشبهة
ناشئة من فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو كانت الشبهة موضوعيّة ، لاتحاد
الدليل في الحكم بالتخيير في ذلك كلّه. وأمّا إذا اتّحد الموضوع ، بأن دار الأمر
في فعل بين كونه واجبا وحراما ، فهو خارج من هذا المطلب ، وداخل في مسائل الشكّ في
التكليف ، وقد أوضحه المصنّف رحمهالله في أوّل هذا المقصد.
ثمّ إنّ موضوع
الكلام في المقام كما عرفت إنّما هو في المتباينين ، لعدم صحّة فرضه فيما دار
الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر ، سواء كانا ارتباطيّين أم استقلاليّين ، مع كون
أحدهما واجبا والآخر حراما ، واشتبه أحدهما بالآخر حكما أو موضوعا ، إذ مع فرض
وجوب الأكثر عددا أو جزءا أو حرمته لا يعقل حرمة الأقلّ
والحكم فيما نحن فيه (١٨٦٧) : وجوب
الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيّرا في ذلك ؛ لأنّ الموافقة الاحتماليّة في كلا
التكليفين أولى من الموافقة القطعيّة في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر ؛
ومنشأ ذلك أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع ، والله
أعلم.
______________________________________________________
أو وجوبه. وإن فرض
ثبوت مثله في مورد فلا بدّ من حمله على كونهما من المتباينين بأخذ الأقلّ بشرط لا
، فتدبّر. ولذا أسقط الكلام فيه هنا ، وتعرّض له في المطلب الثاني.
١٨٦٧. اعلم أنّ في المقام وجوها أقواها ما اختاره المصنّف رحمهالله من التخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ابتداء. وأوسطها
القول بالتخيير بينهما ابتداء واستدامة. وأزيفها وجهان :
أحدهما : التخيير
بين فعلهما معا وتركهما كذلك ، بأن يفعلهما تحصيلا للقطع بالموافقة للوجوب الواقعي
، المعلوم إجمالا وإن لزم منه القطع بارتكاب الحرام الواقعي ، أو يتركهما تحصيلا
للقطع بموافقة الحرام الواقعي ، وإن لزم منه القطع بترك الواجب الواقعي.
وثانيهما : القول
بوجوب تركهما معا ، تغليبا لجانب الحرام كما ورد في الأخبار. مضافا إلى ما تقرّر
في العقول من كون دفع المضرّة أولى من جلب المنفعة.
وفيه : أنّ ترك
المصلحة الملزمة في الواجب أيضا مشتمل على المفسدة. هذا إن سلّمنا الأولويّة
المذكورة ، وإلّا فالأمر أوضح. مع أنّ الظاهر أنّ من قال بالأولويّة المذكورة
إنّما قال بها فيما كان كلّ واحدة من المفسدة والمصلحة محتملتين ، كما لو دار
الأمر في فعل واحد بين كونه واجبا وحراما ، لا معلومين كما فيما نحن فيه ، وإلّا
فلا أظنّ أحدا يقول بأولويّة دفع المفسدة هنا. ولكنّه كما ترى. ويرد على سابقه :
أنّ ما ورد في الأخبار ـ مع تسليم صحّة سنده ـ هو تغليب جانب الحرمة على الإباحة
دون الوجوب كما فيما نحن فيه.
.................................................................................................
______________________________________________________
ويدلّ على الوجه
الأوّل من الوجهين وسابقه : أنّه مقتضى دوران الأمر بين المحذورين ، وعدم إمكان
الموافقة القطعيّة. مضافا في سابقه إلى إطلاق أخبار التخيير في تعارض النصّين ،
لأنّها بإطلاقها تدلّ على المدّعى في بعض موارده بالمطابقة ، وفي الباقي بتنقيح المناط.
ويرد على الأوّل :
ما ذكره المصنّف رحمهالله من كون الموافقة الاحتماليّة في كلا الاحتمالين أولى من
الموافقة القطعيّة في أحدهما مع القطع بالمخالفة في الآخر.
فإن قلت : إنّ هذا
مسلّم على الوجه الأوّل من الوجهين ، لأنّ ترك كلّ من الفعلين معا أو فعلهما كذلك
مستلزم للمخالفة العمليّة للواقع في كلّ واحدة من الواقعتين ، بخلاف سابقه ، لأنّ
المخالفة فيه إنّما تلزم من ضمّ الواقعتين ، بأن أتى بأحد الفعلين وترك الآخر تارة
وعكس اخرى ، لا في خصوص كلّ واحدة منهما. ولا دليل على قبح هذه المخالفة ، بناء
على جواز المخالفة الالتزاميّة مطلقا ، سواء تعدّدت الواقعة أم اتّحدت ، بخلاف
المخالفة العمليّة اللازمة في خصوص كلّ واقعة. وحينئذ نقول : إنّ أولويّة الموافقة
والمخالفة الاحتماليّتين على القطعيّتين منهما إنّما تسلّم بالنسبة إلى الوجه
الأوّل من الوجهين على ما عرفت دون سابقة ؛ لأنّ عدم العلم فيه بالمخالفة مع
احتمال الموافقة والمخالفة إذا قلنا بكون التخيير فيه ابتدائيّا ، يعارضه العلم
بالموافقة فيه إذا قلنا بكون التخيير فيه استمراريّا حينئذ.
وبالجملة ، إنّ
مفسدة عدم العلم بالموافقة مع الموافقة والمخالفة الاحتماليّتين كما أنّها منجبرة
بمصلحة عدم العلم بالمخالفة ، كذلك مفسدة القطع بالمخالفة مع استمرار التخيير
منجبرة بالقطع بمصلحة الموافقة.
قلت : إنّ المحرّك
للعقل إلى امتثال الأحكام هو خوف المفسدة في مخالفتها لا تحصيل المنفعة في
موافقتها ، ولا ريب أنّ إيقاع العمل على وجه لا يقطع معه
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
بترتّب المفسدة
عليه أولى من إيقاعه على وجه يقطع فيه بذلك. ومن هنا يظهر وجه قوّة ما اخترناه.
اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الأولويّة المذكورة إنّما تتمّ إذا لم تكن المفسدة
المقطوع بها متداركة بالمصلحة الملزمة القطعيّة التي في تركها مفسدة موازنة
للمفسدة المقطوع بها ، إلّا أن يتمسّك ببناء العقلاء على تقديم الموافقة
الاحتماليّة على الموافقة القطعيّة في موارد دوران الأمر بين الموافقة والمخالفة
الاحتماليّتين والقطعيّتين.
ويرد على الثاني :
أنّ ما دلّ من الأخبار على التخيير فيما تعارض فيه نصّان أحدهما مبيح والآخر حاظر
غير شامل للمقام. وأمّا ما يشمله منها ـ كمرفوعة زرارة ـ فغايته إثبات التخيير
ابتداء لا استدامة ، كما نبّه عليه المصنّف رحمهالله في بعض المسائل السابقة ، مع الإشارة إلى منع صحّة استصحاب
التخيير في نظائر المقام ، فراجع.
ثمّ إنّه قد بقي
بعض الكلام في المقام متعلّقا بالشبهة الموضوعيّة ممّا دار الأمر فيه بين الواجب
والحرام ، كالإناءين المشتبهين ، إذ يجب التوضّؤ من الطاهر منهما ، ويحرم من النجس
، فمع اشتباههما يدور الأمر فيه بين الواجب والحرام ، بناء على حرمة استعمال النجس
ذاتا لا تشريعا ، لما أشار إليه المصنّف رحمهالله في غير موضع من عدم منافاة الحرمة التشريعيّة لإمكان
الاحتياط.
والتحقيق أنّا وإن
قلنا بجواز المخالفة القطعيّة في الشبهة المحصورة ، إلّا أنّه لا يجوز القول بها
هنا ، لأنّ الاحتياط هنا وإن لم يجب من جهة اشتباه الحرام بغيره ، كما لم يكن
واجبا عند اشتباهه بالمباح ، إلّا أنّه يجب القول به هنا من جهة اشتباه الواجب
بغيره ، كما كان واجبا عند اشتباهه بغير الحرام ، كما في صورة اشتباه القبلة ،
لأنّ من قال بجواز المخالفة القطعيّة في الشبهة المحصورة لم يقل بها في الشبهة
الوجوبيّة ، وإن لم يظهر وجه الفرق بينهما. وأمّا إن قلنا بوجوب الموافقة القطعيّة
فيها فلا بدّ من الحكم بالتخيير هنا كما أسلفناه.
.................................................................................................
______________________________________________________
هذا كلّه فيما دار
الأمر فيه في فعلين بين كون أحدهما واجبا والآخر حراما. وإن دار الأمر فيه في
أفعال بين كون أحدها واجبا والآخر حراما والثالث مباحا ، فإن قلنا بجواز المخالفة
القطعيّة في الشبهة المحصورة ، يجب الإتيان بالجميع هنا من باب المقدّمة لامتثال
الواجب المعلوم إجمالا.
وإن قلنا بوجوب
الموافقة القطعيّة فيها كما هو المختار ، ففي القول بالتخيير هنا ، بأن يلتزم
بوجوب أحدها وحرمة الآخر وإباحة الثالث ، أو تقديم جانب الحرمة في الجملة ، بأن
يجعل أحدها واجبا والآخران حرامين ، أحدهما أصالة والآخر مقدّمة له ، أو التخيير
في الثالث بين تركه مقدّمة للحرام والإتيان به مقدّمة للواجب ، وجوه آتية مع فرض
كون الشبهة حكميّة أيضا.
ولا مسرح للأوّل ،
لأنّ المباح إنّما يتّصف بالإباحة الفعليّة مع عدم عروض عنوان محرّم أو موجب في
الظاهر ، لوضوح عدم منافاة الإباحة الذاتيّة للوجوب أو الحرمة العرضيّة. ولا ريب
أنّه مع دوران الأمر بين الأحكام الثلاثة في المقام يحصل القطع بعروض طلب إلزامي ـ
وإن كان غيريّا ـ من باب المقدّمة للفعل المباح ، فهو إمّا واجب من باب المقدّمة
للواجب المعلوم إجمالا ، أو حرام كذلك ، ومع عدم العلم بخصوص العنوان العارض له ،
وعدم إمكان الاحتياط فيه ، يثبت التخيير في جعله مقدّمة لأحدهما بحكم العقل. ومن
هنا يظهر الوجه الثالث ، وكونه أقوى من الأوّل. وأمّا الثاني فهو مبنيّ على ترجيح
جانب الحرمة على الوجوب ، نظرا إلى أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة ، وقد عرفت
ما فيه ، فإذن الأقوى هو الأخير.
ثمّ إنّه يظهر
ممّا عرفت من اختصاص الكلام في المقام بما كانت الحرمة فيه ذاتيّة ، أنّ ما عزي
إلى الأصحاب من دعوى كون ما ورد من الأمر بإراقة الإنائين والتيمّم بعدها واردا
عندهم على طبق القاعدة ، نظرا إلى حرمة استعمال النجس ، وكون مقدّمة الحرام حراما
، فيجب إراقتهما من باب المقدّمة ، محلّ نظر ، لأنّ ذلك إن كان مبنيّا على حرمة
استعمال النجس من باب التشريع ، بأن كان استعماله في
.................................................................................................
______________________________________________________
الطهارة حراما كذلك
، ففيه ما عرفت من عدم منافاة الحرمة التشريعيّة للاحتياط ، فيجب التوضّؤ حينئذ من
كلّ منهما ، لاراقتهما والتيمّم بعدها. ولا ينافيه قصد القربة بكلّ منهما ، لصحّة
أن ينوي التقرّب بما هو صحيح واقع بالطاهر في الواقع ، بأن ينوي عند كلّ وضوء أنّي
أتوضّأ تقرّبا بهذا أو بما توضّأت أو أتوضّأ بعد إلى الله تعالى.
فإن قلت : إنّ
التوضّؤ بهما مستلزم لتنجّس البدن لا محالة ، فتبطل الصلاة حينئذ من هذه الجهة.
قلت : يمكن
التخلّص عنه بالصلاة بعد كلّ وضوء مع غسل أعضاء الوضوء من الإناء الثاني قبل
التوضّؤ منه ، للقطع بحصول وضوء صحيح وصلاة مع الطهارة الواقعيّة حينئذ لا محالة ،
كما حكي عن العلّامة في المنتهى. مع أنّه يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى تكرار
الصلاة حينئذ ، للقطع بورود نجاسة ومطهّر عليه ، والشكّ إنّما هو في المتأخّر
منهما ، ومع تعارض أصالتي التأخّر تبقى قاعدة الطهارة بلا معارض ، كما أشار إليه
العلّامة الطباطبائي في منظومته :
وإن تعاقبا على
رفع الحدث
|
|
لم يرتفع وليس
هكذا الخبث
|
فيحكم بصحّة
الصلاة الواقعة بعدهما.
نعم ، يرد عليه
أنّ القطع حينئذ حاصل بحصول تنجّس بدنه وورود المطهّر عليه ، وكذا القطع حاصل
بتأثير التنجّس ، لأنّه إن كان قبل ورود المطهّر فهو رافع للطهارة السابقة ، وإن
كان بعد ورود المطهّر فهو واضح ، بخلاف ورود المطهّر ، لعدم العلم بتأثيره ،
لاحتمال وروده قبل ورود النجس عليه ، وحينئذ تستصحب النجاسة اليقينيّة ، وهو حاكم
على قاعدة الطهارة ، ولا يعارضه استصحاب الطهارة الحاصلة قبل ورود المطهّر
والمنجّس ، للعلم بارتفاعه بورود المنجّس عليها.
وهذا الوجه وإن
حكي عن جماعة من المتأخّرين ، إلّا أنّه يمكن التخلّص عنه أيضا فيما كانت أعضاء
الوضوء متنجّسة أوّلا أو أريق من ماء الإنائين في ثالث ، و
.................................................................................................
______________________________________________________
تغمس أعضاء الوضوء
فيه ليحصل القطع بتنجّسها ، ثمّ تغسل من أحد الإنائين ويتوضّأ منه ، ثمّ تغسل من
الآخر ويتوضّأ منه أيضا ، إذ ينعكس الأمر حينئذ ، فيكون المقام من موارد استصحاب
الطهارة دون النجاسة ، للقطع بتأثير المطهّر في رفع النجس مطلقا ، سواء كان واردا
قبل المنجّس أو بعده ، بخلاف ورود المنجّس ، لاحتمال تعاقب المنجّسين.
وإن كان مبنيّا
على حرمة استعمال النجس ذاتا لا تشريعا ، ففيه : أنّك قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة
عند اشتباه الواجب بالحرام الذاتي هو القول بالتخيير لا تقديم جانب الحرمة.
وبالجملة ، إنّ موثّقة عمّار الواردة في إراقة الإنائين والتيمّم بعدها واردة على
خلاف القاعدة من وجهين ، وحينئذ إن عملنا بها كان الحكم ثابتا على خلاف مقتضى
القواعد ، وإلّا فلا بدّ من العمل بما قدّمناه. والله أعلم.
المصادر
(١) القاموس
المحيط ج ٤ : ص ٢٢٩.
(٢) المبسوط ج ١
: ص ١٠٠ ؛ التذكرة ج ٣ : ص ٩٩ ـ ١٠٠.
(٣) الوسائل ج
١١ : ص ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.
(٤) الوسائل ج ٤
: ص ٦٨٣ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.
(٥) المعتبر ج ٢
: ص ٣٧٩.
(٦) الفصول
الغرويّة : ص ٥٠.
(٧) البقرة (٢)
: ٢٦٤.
(٨) البقرة (٢)
: ٢٦٢.
(٩) سورة محمّد صلىاللهعليهوآله : ٣٣.
(١٠) ثواب
الأعمال : ١١.
(١١) الوسائل ج
٥ : ص ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.
(١٢) الوسائل ج
٥ : ص ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع فى الصلاة ، الحديث ١.
(١٣) الوسائل ج
٩ : ص ٤٣٨ ، الباب ٣٤ من أبواب الطواف ، الحديث ١١.
(١٤) الوسائل ج
٤ : ص ٦٨٣ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.
(١٥) الوسائل ج
٥ : ص ٣٤٦ ، الباب ٣٢ من أبواب الخلل الواقع فى الصلاة ، الحديث ٣.
|
|
(١٦) عوالى
اللآلى ج ٤ : ص ٥٨ ، الحديث ٢٠٦.
(١٧) عوائد
الأيّام : ٢٦٥.
(١٨) عوائد الأيّام
: ٢٦٥.
(١٩) رياض
المسائل ج ٢ : ص ١٥٤.
(٢٠) تهذيب
الأحكام : ج ١ ، ص ٣٦٣ ، الحديث ١٠٩٧.
|
خاتمة فيما يعتبر
في العمل بالأصل
خاتمة فيما يعتبر في العمل بالأصل
والكلام تارة في الاحتياط واخرى (١٨٦٨) في البراءة. أمّا الاحتياط فالظاهر أنّه لا
يعتبر (١٨٦٩) في العمل به أمر زائد على تحقّق موضوعه ، ويكفي في موضوعه إحراز
الواقع المشكوك فيه به
______________________________________________________
١٨٦٨. إنّما خصّ الكلام بالبراءة والاحتياط لكون أصالة التخيير
في مواردها قسما من أصالة البراءة. والاستصحاب إن كان مثبتا فهو في معنى الاحتياط
، وإن كان نافيا فهو في حكم البراءة من حيث جواز العمل به قبل الفحص وعدمه. هكذا
قيل. ولا يخلو من تأمّل ، لأنّ الفحص قد اشترط في الاستصحاب من حيث جواز العمل به
، وفي الاحتياط من حيث عدم تحقّق موضوعه بدونه ، كما سيشير إليه المصنّف رحمهالله ، ومقتضى إلحاق المثبت منه بالاحتياط كون الفحص شرطا في
تحقّق موضوعه أيضا ، لا في جواز العمل به. فالأولى أن يقال : إنّ عدم تعرّضه
لأصالة التخيير لما عرفت ، وللاستصحاب ، إمّا لعدم كونه مقصودا بالبحث في هذا
المقصد ، وإمّا لما سيشير إليه عند الفراغ من الكلام في وجوب الفحص في العمل
بأصالة البراءة من حكم سائر الاصول العمليّة.
١٨٦٩. مرجع ما ذكره إلى دعوى عدم اشتراط العمل بأصالة الاحتياط
بشيء أصلا سوى تحقّق موضوعه ، فوجوب الفحص فيه شرط لتحقّق موضوعه ، وفي أصالة
البراءة لجريانها وجواز العمل بها. وتوضيحه : أنّ الكلام في جواز العمل بالاحتياط
إمّا في التوصّليات أو التعبّديات. وعلى الثاني : إمّا مع إمكان الفحص أو
ولو كان على خلافه
دليل اجتهادي بالنسبة إليه ، فإنّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء لا يمنع من
الاحتياط فيه ؛ لعموم أدلّة رجحان الاحتياط (١٨٧٠) ، غاية الأمر عدم وجوب
الاحتياط. وهذا ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال.
إنّما الكلام يقع في بعض الموارد من جهة
تحقّق موضوع الاحتياط وإحراز الواقع ، كما في العبادات المتوقّفة صحّتها على نيّة
الوجه ، فإنّ المشهور أنّ الاحتياط فيها غير متحقّق إلّا بعد فحص المجتهد عن الطرق
الشرعيّة المثبتة
لوجه الفعل ، و
______________________________________________________
عدمه. وعلى تقدير
إمكانه : إمّا بعد الفحص أو قبله. وعلى الأخير : إمّا أن لا نقول باعتبار قصد
الوجه أو نقول به. وهو فيما عدا الأخير غير مشروط بشيء أصلا ، لعدم اعتبار قصد
الوجه في التوصّليات ولا في التعبّديات مع عدم إمكان الفحص معه أو بعده ، وهو
واضح. وأمّا الأخير فالفحص فيه شرط في تحقّق موضوعه لا في جواز العمل به.
١٨٧٠. لأنّ حسن الاحتياط في جميع موارده ناش من القطع بإحراز
الواقع به وعدمه بدونه ، ولا يرتفع موضوعه إلّا مع العلم بالواقع تفصيلا ، ولا ريب
أنّ الأدلّة الاجتهاديّة لا ترفع احتمال مخالفة العمل بمؤدّاها للواقع.
فإن قلت : نعم ،
إلّا أنّ أدلّة اعتبارها تفيد تنزيل مؤدّياتها منزلة الواقع وترتيب جميع آثار
الواقع عليها ، فكما لا يجوز الاحتياط مع العلم بالواقع تفصيلا ، كذلك مع قيام
الأدلّة الاجتهاديّة على حكم في مورد.
قلت : نعم ، إلّا
أنّ مقتضى أدلّة اعتبارها ترتيب الآثار الشرعيّة المرتّبة على الواقع على
مؤدّياتها ، وعدم جواز الاحتياط مع العلم بالواقع تفصيلا إنّما هو من الآثار
العقليّة المرتّبة على العلم بالواقع ، لما عرفت من ارتفاع موضوعه حينئذ. ومن هنا
يندفع ما قيل في عدم جواز إيقاع العقد على المطلّقة الرجعيّة ، من أنّه كما لا
يجوز العقد على المعقودة ، كذلك المطلّقة الرجعيّة ، لأنّها في حكمها ، فيثبت لها
__________________
عدم عثوره على طريق
منها ؛ لأنّ نيّة الوجه حينئذ ساقطة قطعا.
فإذا شكّ في وجوب غسل الجمعة واستحبابه
، أو في وجوب السورة واستحبابها ، فلا يصحّ له الاحتياط بإتيان الفعل قبل الفحص عن
الطرق الشرعيّة ؛ لأنّه لا يتمكّن من الفعل بنيّة الوجه ، والفعل بدونها غير مجد
بناء على اعتبار نيّة الوجه ؛ لفقد الشرط ، فلا يتحقّق قبل الفحص إحراز الواقع.
فإذا تفحّص : فإن عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه أو
استحبابه ، وإن لم يعثر عليه فله أن يعمل بالاحتياط ؛ لأنّ المفروض سقوط نيّة
الوجه لعدم تمكّنه منها ، وكذا لا يجوز للمقلّد الاحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده
، نعم يجوز له بعد الفحص. ومن هنا قد اشتهر بين أصحابنا : أنّ عبادة تارك طريقي
الاجتهاد والتقليد غير صحيحة وإن علم إجمالا بمطابقتها للواقع ، بل يجب أخذ أحكام
العبادات عن اجتهاد أو تقليد .
ثمّ إنّ هذه المسألة ـ أعني بطلان عبادة
تارك الطريقين ـ يقع الكلام فيها في مقامين ؛ لأنّ العامل التارك في عمله لطريقي
الاجتهاد والتقليد : إمّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط وإحراز الواقع ،
وإمّا أن لا يكون كذلك (١٨٧١).
والمتعلّق
بما نحن فيه هو الأوّل ، وأمّا الثاني فسيجيء الكلام فيه في شروط البراءة. فنقول :
إنّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط على قسمين ؛ لأنّ إحرازه للواقع :
تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا وغير ذلك من موارد
الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، واخرى يحتاج إلى التكرار كما في
______________________________________________________
جميع آثار
المعقودة ، لعموم المنزلة. ووجه الاندفاع : أنّ عدم جواز عقد المعقودة إنّما هو
لعدم تأثير العقد المتعقّب لعقد صحيح عقلا ، وعموم المنزلة لا يثبت هذا الأثر
العقلي.
١٨٧١. بأن كان بانيا على العمل بأحد المحتملات ، طابق الواقع أم
لا.
__________________
المتباينين كالجاهل
بوجوب القصر والإتمام في مسيرة
أربع فراسخ ، والجاهل بوجوب الظهر و
الجمعة عليه. أمّا الأوّل ، فالأقوى فيه الصحّة ، بناء على عدم اعتبار نيّة (١٨٧٢)
الوجه في العمل. والكلام في ذلك قد حرّرناه في الفقه في نيّة الوضوء.
نعم ، لو شكّ في اعتبارها ولم يقم دليل
معتبر من شرع أو عرف حاكم بتحقّق الإطاعة بدونها ، كان مقتضى الاحتياط اللازم
الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل ، حتّى على المختار من إجراء البراءة في الشكّ
في الشرطيّة ؛ لأنّ هذا الشرط ليس على حدّ سائر الشروط (١٨٧٣) المأخوذة في المأمور
به الواقعة في حيّز الأمر ، حتّى إذا شكّ في تعلّق الإلزام به من الشارع حكم العقل
بقبح المؤاخذة المسبّبة عن تركه والنقل بكونه مرفوعا عن المكلّف ، بل هو على تقدير
اعتباره شرط لتحقّق الإطاعة وسقوط المأمور به وخروج المكلّف عن العهدة ، ومن
المعلوم أنّ مع الشكّ في ذلك لا بدّ من الاحتياط وإتيان المأمور به على وجه يقطع
معه بالخروج عن العهدة.
وبالجملة : فحكم الشكّ في تحقّق الإطاعة
والخروج عن العهدة بدون الشيء غير حكم الشكّ في أنّ أمر المولى متعلّق بنفس الفعل
لا بشرط أو به بشرط كذا. والمختار في الثاني البراءة والمتعيّن في الأوّل
الاحتياط.
______________________________________________________
١٨٧٢. قد تقدّم شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام فيما علّقناه
على فروع حجيّة القطع ، فراجع.
١٨٧٣. قد قرّرنا الكلام في الفرق بين شرائط المأمور به وشرائط
امتثال الأمر عند الكلام في فروع حجيّة القطع ، وقد اخترنا هناك التفصيل في
المسألة ، فراجع.
وأمّا الوجه في
كون قصد الوجه من شرائط تحقّق الإطاعة دون المأمور به ، فإنّ اتّصاف المأمور به
بالوجوب أو الاستحباب المستفاد من الأمر فرع استجماعه للأجزاء والشرائط المعتبرة
فيه ، فاعتبار الأجزاء والشرائط فيه مقدّم على تعلّق
__________________
لكنّ الإنصاف : أنّ الشكّ في تحقّق
الإطاعة بدون نيّة الوجه غير متحقّق ؛ لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي
بالمأمور به بنيّة الوجه الثابت عليه في الواقع مطيعا وإن لم يعرفه (١٨٧٤) تفصيلا
، بل لا بأس بالإتيان به بقصد القربة (١٨٧٥) المشتركة بين الوجوب والندب من غير أن
يقصد الوجه الواقعي المعلوم للفعل إجمالا ، وتفصيل ذلك في الفقه. إلّا أنّ الأحوط
: عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط ؛ لشهرة القول بذلك (١٨٧٦)
بين الأصحاب ، ونقل غير واحد
اتّفاق المتكلّمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما
(١٨٧٧) ، ونقل السيّد الرضيّ قدسسره
إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها ، وتقرير أخيه الأجلّ
علم الهدى قدسسره
له على ذلك في
______________________________________________________
الأمر به ، وقصد
الوجه من الوجوب أو الاستحباب متأخّر عن تعلّق الأمر به كما هو واضح ، فلو كان قصد
الوجه من شرائط المأمور به لزم الدور الباطل ، لأنّ اتّصاف المأمور به بالوجوب أو
الاستحباب المستفاد من الأمر متوقّف على تقدّم اعتبار جميع الأجزاء والشرائط في
المأمور به ، والفرض أنّ هذا الشرط متأخّر في الوجود عن اتّصافه بهما ، فلو كان من
شرائط المأمور به لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو باطل.
١٨٧٤. يعني : الوجه ، بأن كان الفعل في نظره مردّدا بين الوجوب
والاستحباب.
١٨٧٥. يعني : القربة المطلقة وإن لم يقصد الوجه الواقعي.
١٨٧٦. أي : بوجوب قصد الوجه ، وقد حكيت دعوى الشهرة عليه عن مجلس
درس صاحب الرياض وشريف العلماء أستاذ المصنف قدسسره.
١٨٧٧. المراد بالإتيان بالفعل بوجهه هو الإتيان به بقصد أنّه
واجب أو مندوب ، وبوجه وجوبه وندبه الإتيان به بقصد كون وجوبه أو استحبابه لطفا ،
أو الإتيان به بقصد الشكر ، أو لأجل أمر الآمر ، أو المركّب من جميعها أو من
مسألة الجاهل بالقصر
، بل يمكن أن يجعل (١٨٧٨) هذان الاتّفاقان المحكيّان من أهل المعقول والمنقول
المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ، فضلا عن كونهما منشأ للشكّ الملزم
للاحتياط ، كما ذكرنا.
وأمّا الثاني وهو ما يتوقّف الاحتياط
فيه على تكرار العبادة ، فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين فيه إلى
الاحتياط بتكرار العبادة ، بناء على عدم اعتبار نيّة الوجه ، لكنّ الإنصاف عدم
العلم بكفاية هذا النحو من الإطاعة الإجمالية ، وقوّة احتمال اعتبار الإطاعة
التفصيليّة في العبادة ، بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو
الواجب عليه. ولذا يعدّ تكرار العبادة لإحراز الواقع مع التمكّن من العلم التفصيلي
به أجنبيّا عن سيرة المتشرّعة ، بل من أتى بصلوات غير محصورة لإحراز شروط صلاة
واحدة ـ بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدها
طاهر ، ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصحّ السجود عليه ، مائة صلاة ـ مع التمكّن
من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ، يعدّ في الشرع والعرف
لاعبا بأمر المولى.
والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا
يرجع إلى محصّل ، نعم ، لو كان ممّن لا يتمكّن (١٨٧٩) من العلم التفصيلي ، كان ذلك
منه محمودا مشكورا. وببالي : أنّ صاحب الحدائق قدسسره
يظهر منه دعوى الاتّفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي.
______________________________________________________
بعضها ، على
اختلاف الآراء على ما ذكره في الروضة.
١٨٧٨. يمكن منعه ، لأنّ مستند المجمعين هو عدم حصول الإطاعة من
دون قصد الوجه ، ومع القطع ببطلان مستندهم لا يمكن الاستكشاف به عن رضا المعصوم.
واحتمال وجود دليل تعبّدي عليه عندهم بعيد جدّا.
١٨٧٩. فرعان : الأوّل : أنّه لو لم يكن متمكّنا من العلم
التفصيلي عند اشتباه القبلة أو الثوبين المشتبهين أو نحوهما وأتى ببعض المحتملات ،
ثمّ تمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بالواقع ، فهل يجب عليه تحصيل العلم ، أو يجوز
له الاكتفاء بالإتيان
ولقد بالغ الحلّي في السرائر حتّى أسقط
اعتبار الشرط المجهول تفصيلا ولم يجوّز التكرار المحرز له ، فأوجب الصلاة عاريا
على من عنده ثوبان مشتبهان ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النصّ به لكن من
طريق الآحاد ؛ مستندا في ذلك إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه.
وكما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على
إحراز الواقع بالتكرار ، كذا لا يجوز بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فإن طابق
الواقع وإلّا أعاده.
ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم ، ثمّ
اتّفق له ما يوجب تردّده في الصحّة ووجوب الإتمام وفي البطلان ووجوب الاستئناف ،
ففي جواز الإتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والإعادة مع المخالفة وعدمه ، وجهان
(١٨٨٠) : من اشتراط العلم بالصحّة
______________________________________________________
بالمحتمل الباقي؟
وجهان ، من مطلوبيّة الإطاعة التفصيليّة بحسب الإمكان ، لأنّ المانع هو عدم
التمكّن وقد ارتفع ، ومن أنّ المانع من تكرار العمل هو بناء العقلاء أو الإجماع
المتوهّم ، وشيء منهما غير حاصل في المقام. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المانع ـ كما
يظهر من المصنّف رحمهالله ـ هو عدّ العبد في
العرف والشرع لاعبا بأمر مولاه ، ولا فرق فيه بين التمكّن عن الفحص في ابتداء
العمل وبين التمكّن منه بعد الإتيان ببعض المحتملات ، سيّما إذا كانت المحتملات
الباقية كثيرة. وقد تقدّم فيما علّقناه على صدر الكتاب ما ينفعك هنا.
الثاني : أنّه إذا
لم يتمكّن من العلم التفصيلي وأتى ببعض المحتملات وانكشفت قبل الإتيان بالباقي
مطابقة المأتيّ به للواقع ، فهل يجب الإتيان بالباقي للأصل أو لا؟ لأنّ وجوب
الإتيان بالمحتملات إنّما كان من باب المقدّمة ، فإذا ظهرت مطابقة بعضها للواقع
سقط وجوب المقدّمة. وهذا هو الأظهر.
١٨٨٠. ظاهر كلمات الأكثر الحاكمين ببطلان تارك طريقي الاجتهاد
والتقليد ربّما يشمل المقام ، ولكنّ الأظهر هو الوجه الأوّل ، كما يظهر ممّا ذكره
المصنّف رحمهالله. وتمكن استفادته من الأخبار أيضا ، لأنّ الرواة ربّما
سألوا الإمام عليهالسلام عن حكم ما وقع في أثناء العمل من الخلل وأجابهم بالصحّة ،
لأنّ مثل هذا الجواب
حين العمل كما ذكرنا
؛ ولذا لم يجوّز هذا من أوّل الأمر. وبعبارة اخرى : الجزم بالنيّة معتبر في
الاستدامة كالابتداء ، ومن أنّ المضيّ على العمل
متردّدا بانيا على استكشاف حاله بعد الفراغ ؛ محافظة على عدم إبطال العمل ـ المحتمل
حرمته واقعا على تقدير صحّته ـ ليس بأدون من الإطاعة التفصيليّة ، ولا يأباه العرف
ولا سيرة المتشرّعة. وبالجملة فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا
من السيرة العرفيّة والشرعيّة غير جار في المقام.
______________________________________________________
وإن كان واردا في
مقام حكم آخر ، وهو عدم مانعيّة ما وقع في أثناء العمل ، إلّا أنّ الاحتياط
والبناء على الفحص والسؤال بعد الفراغ لو كانا مفسدين للعبادة لوجب عليه التنبيه
عليه ، فعدم التعرّض للفساد من هذه الجهة يدلّ على عدمه.
تنبيه : اعلم أنّ
ما ذكره المصنّف رحمهالله من حكم الاحتياط فيما استلزم تكرار العمل وعدمه فيما كانت
العبادة من قبيل الأفعال واضح. وأمّا إن كانت من قبيل التروك كالصوم ، ففي جواز
ترك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط فيها وعدمه وجهان ، من اعتبار قصد
الوجه عند المشهور ، فيجب قصد الوجوب عند ترك ما يحرم فعله فيبطل بدونه ، ومن أنّ
المقصود من تحريم ما حرّم ارتكابه في الصوم حصول تركه في الخارج ، ولذا أفتوا
بصحّة صوم من جهل بتروك الصوم إذا قصد الاجتناب عمّا يعلم إجمالا بتحقّق ترك ما
يحرم ارتكابه فيه بتركه. وبالجملة ، أنّ الظاهر ثبوت الفرق عند المشهور بين
العبادات الفعليّة والتركيّة ، بكفاية قصد الوجه الواقعي الحاصل مع الاحتياط في
الثانية دون الاولى.
ثمّ إنّ جميع ما
تقدّم إنّما هو في العبادات. وأمّا المعاملات فلا إشكال في جواز الاحتياط فيها
حتّى عند المشهور ، وإن استلزم تكرار العمل أيضا ، لعدم اعتبار قصد الوجه ـ بل
القربة ـ فيها ، لكونها واجبات توصّلية ، والمقصود منها حصول وجودها في الخارج
بأيّ نحو اتّفقت ، فإذا وجدت ولو بين امور متعدّدة
__________________
ويمكن التفصيل بين كون الحادث الموجب
للتردّد في الصحّة ممّا وجب على المكلّف تعلّم حكمه قبل الدخول في الصلاة لعموم
البلوى ، كأحكام الخلل الشائع وقوعها وابتلاء المكلّف بها ، فلا يجوز لتارك
معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء المضيّ والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ ؛
لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره ، فهو في مقام الإطاعة كالداخل في العمل متردّدا.
وبين كونه ممّا لا يتّفق إلّا نادرا ؛ ولأجل ذلك لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول
للوثوق بعدم الابتلاء غالبا ، فيجوز هنا المضيّ في العمل على الوجه المذكور. هذا
بعض الكلام في الاحتياط.
وأمّا البراءة : فإن كان الشكّ الموجب
للرجوع إليها من جهة الشبهة في الموضوع ، فقد تقدّم أنّها (١٨٨١) غير مشروطة
بالفحص عن الدليل المزيل لها ، وإن كان من جهة الشبهة في الحكم الشرعيّ ، فالتحقيق
أنّه ليس لها إلّا شرط واحد وهو الفحص عن الأدلّة الشرعيّة.
والكلام يقع تارة في أصل الفحص واخرى في
مقداره. أمّا وجوب أصل الفحص ، وحاصله عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في التعلّم ،
فيدلّ عليه وجوه : الأوّل : الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل
استفراغ الوسع في الأدلّة. الثاني : الأدلّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، مثل
آيتي النفر للتفقّه وسؤال أهل الذكر والأخبار الدالّة (١٨٨٢) على وجوب تحصيل العلم
وتحصيل التفقّه والذمّ على ترك السؤال.
الثالث : ما دلّ على مؤاخذة (١٨٨٣)
الجهّال بفعل المعاصي المجهولة المستلزم
______________________________________________________
ترتّبت عليها
آثارها بلا إشكال.
١٨٨١. سيجيء تفصيل الكلام فيه.
١٨٨٢. في الكافي عن الصادق عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وفي الصحيح عن أبي عبد
الله عليهالسلام لحمران بن أعين في شيء سأله : «إنّما يهلك الناس لأنّهم لا
يسألون» إلى غير ذلك من الأخبار.
١٨٨٣. منه ما دلّ أيضا على وجوب الاحتياط حتّى يسألوا ويعلموا ،
مثل
لوجوب تحصيل العلم ؛
لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب : مثل قوله صلىاللهعليهوآله
فيمن غسّل مجدورا أصابته جنابة فكزّ فمات (١٨٨٤) : «قتلوه ، قتلهم الله ، إلّا
سألوا ، إلّا يمّموه». وقوله عليهالسلام
لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء : «ما كان أسوأ حالك لو متّ على هذه
الحالة» ، ثمّ أمره بالتوبة وغسلها
، وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ) من أنّه : «يقال
للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلّا عملت؟ وإن قال : لا ،
قيل له : هلّا تعلّمت حتّى تعمل؟» .
وما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ :) «نزلت فيمن اعتزل عن
أمير المؤمنين عليهالسلام
ولم يقاتل معه ، (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لم نعلم من الحقّ
، فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها) أي دين الله وكتابه
واسعا متّسعا ، فتنظروا فيه ، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحقّ .
الرابع : أنّ العقل لا يعذر الجاهل
القادر على الاستعلام في المقام الذي نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي
الرسالة من المولى وأتى بطومار يدّعي أنّ الناظر فيه يطّلع على صدق دعواه أو كذبها
، فتأمّل (١٨٨٥).
______________________________________________________
قوله في صحيحة عبد
الرحمن بن حجّاج : «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا
وتعلموا».
١٨٨٤. الكزاز داء يتولّد من شدّة البرد. وقيل : هو نفس البرد ،
ومنه حديث «من أمر بالغسل فكزّ فمات» ذكره الطريحي.
١٨٨٥. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى الفرق بين المثال وما نحن
فيه ، لأنّ المثال من قبيل دعوى النبوّة ، فإنّ من ادعى الرسالة من الله تعالى
ودعا الناس إلى النظر إلى معجزته ، فعدم جواز العمل بأصالة البراءة عن وجوب تصديقه
من دون فحص عن صدقه بالنظر في معجزته ، إنّما هو لاستلزامه لإفحام الأنبياء ، لا
لعدم جواز العمل بها قبل الفحص ، لأنّا لو قلنا بجواز العمل بها قبله في الأحكام
الفرعيّة
والنقل الدالّ على البراءة في الشبهة
الحكميّة معارض بما تقدّم من الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط حتّى يسأل عن
الواقعة ، كما في صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة ، وما دلّ على وجوب التوقّف بناء على
الجمع بينها وبين أدلّة البراءة بحملها على صورة التمكّن من إزالة الشبهة.
الخامس : حصول العلم (١٨٨٦) الإجمالي
لكلّ أحد ـ قبل الأخذ في استعلام المسائل ـ بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في
الشريعة ، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة ؛ لما تقدّم من أنّ مجراه الشكّ في
أصل التكليف لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.
______________________________________________________
لا يلزم منه القول
بها قبله في مسألة النظر إلى المعجزة ، لما ذكرناه من المحذور فيها.
١٨٨٦. هذا الدليل أخصّ من المدّعى ، لوضوح كونه أعمّ من صورة
وجود العلم الإجمالي وممّا ثبت جميع أحكام الفقه بالأدلّة القاطعة أو الظنون
الخاصّة إلّا موردا واحدا شكّ في حكمه ، إذ لا شكّ في عدم جواز العمل فيه أيضا
بأصالة البراءة قبل الفحص كما هو مقتضى الأدلّة السابقة.
نعم ، ربّما يظهر
من السيد الصدر فيما حكي عنه اختصاص مورد وجوب الفحص بصورة العلم الإجمالي بوجود
الدليل الناقل. قال : «الظاهر جواز العمل بهذا الأصل لكلّ مكلّف في كلّ زمان ،
إلّا أن يعلم أنّ الحكم ناقل عن الأصل ومقتضاه ، والذمّة مشغولة به ، ولكن لم يصل
إليه ، فحينئذ يجب الفحص والسؤال. وعلى تقدير تسليم وجوب الفحص على كلّ مكلّف عن
كلّ ما يمكن أن يصدر عنه في جميع عمره من الأفعال والتروك ، فنقول بجواز العمل
بالأصل في مجموع زمان الفحص إلى أن يظهر الناقل عنه. نعم ، التوقّف في بعض الأفعال
والتروك إلى تمام زمان الفحص ثمّ العمل بما ظهر من الفحص هو الأولى. ودعوى الإجماع
المعتبر في أمثال هذه المسائل حالها غير خفيّة» انتهى. وهو كما ترى مخالف للأدلّة
المتقدّمة.
فإن قلت
: هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في أوّل الأمر ولو بعد الفحص ؛ لأنّ
الفحص لا يوجب جريان البراءة مع العلم الإجمالي. قلت : المعلوم إجمالا وجود
التكاليف الواقعيّة في الوقائع التي يقدر (١٨٨٧) على الوصول إلى مداركها ، وإذا
تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم
إجمالا بوجود التكاليف فيها ، فيرجع فيها إلى البراءة.
______________________________________________________
١٨٨٧. لا بدّ حينئذ إمّا من دعوى كون الأخبار المندرسة ـ التي هي
أضعاف ما بأيدينا من الأخبار ـ واردة في القصص والحكايات والسنن والمكروهات ،
وإمّا من دعوى كونها مؤكّدة لما بأيدينا إن كانت متضمّنة للأحكام الإلزاميّة كلّا
أو بعضا ، وهما كما ترى. ومن هنا قد ادّعي كون دعوى الاختصاص الآتية مجازفة ،
فإنّها مبنيّة على ما ذكرناه.
فإن قلت : إنّ
دعوى اشتمال الأخبار المنطمسة على جملة من الأحكام الإلزاميّة سوى ما بأيدينا
اليوم أيضا مجازفة ؛ إذ لا سبيل لنا إلى هذا العلم.
قلت : نعم ، إلّا
أنّا ندّعي اندراج الأخبار المندرسة في أطراف العلم الإجمالي المدّعى ، لا كونها
موردا له بالاستقلال. والحاصل : أنّا لا ندّعي علمين إجماليّين ، أحدهما متعلّق
بالأخبار المندرسة ، والآخر بالأخبار التي بأيدينا ، بل ندّعي حصول العلم الإجمالي
بوجود أحكام إلزاميّة في مجموع ما صدر عن الأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، بحيث لا تختصّ أطرافه بما بأيدينا اليوم من الأخبار.
وأنت خبير بأنّ
هذا الوجه وإن كان متّجها ، إلّا أنّه ينافي ما ذكره في
__________________
ولكن هذا لا يخلو عن نظر ؛ لأنّ العلم
الإجمالي إنّما هو (١٨٨٨) بين جميع الوقائع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من
الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك ، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي
بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة ، مع أنّ هذا الدليل (١٨٨٩) إنّما
يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها ،
فتأمّل وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريّين على وجوب الاحتياط في الشبهة
التحريميّة بالعلم الإجمالي.
______________________________________________________
الجواب عن أحد
دليلي الأخباريّين على عدم جواز العمل بظواهر الكتاب ، وهو حصول العلم الإجمالي بورود
مخصّصات ومقيّدات وقرائن مجازيّة على عموماتها ومطلقاتها وسائر ظواهرها ، فراجع.
١٨٨٨. حاصله : منع ما ادّعاه في الجواب عمّا أورده على نفسه من
السؤال في تقريب الدليل المذكور ، وحينئذ يبقى السؤال واردا على الدليل المذكور.
١٨٨٩. حاصله : أنّه مع تسليم اختصاص أطراف العلم الإجمالي بما
بأيدينا اليوم من الأخبار ، نقول : إنّ الدليل المذكور لا يقتضي وجوب الفحص عن
جميع ما بأيدينا ، لأنّ غايته هو وجوب الفحص عن مقدار من التكاليف يحتمل انحصار
المعلوم إجمالا فيه ، ويرتفع العلم الإجمالي بالفحص عنه ، لأنّا لو فرضنا الأخبار
التي بأيدينا اليوم ألفا ، وفرضنا الوقائع التي علمنا إجمالا بوجود أحكامها في هذه
الأخبار مردّدة بين أربعين وخمسين واقعة ، وتفحّصناها ووجدنا أحكام أربعين واقعة
فيها ، لا يبقى حينئذ علم إجمالي بوجود أحكام باقي الوقائع الذي لم يتفحّص عن
أحكامه في هذه الأخبار. نظير ما لو علمنا بوجود شياه محرّمة في قطيع غنم ، لأنّا
إذا علمنا بحرمة خمسة أو عشرة معيّنة منها على وجه يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال
فيها يرتفع العلم الإجمالي عن الباقي ، وحينئذ لا يبقى مقتض لوجوب الفحص في العمل
بأصالة البراءة في الباقي. وإليه يرجع أيضا ما أوردناه في الحواشي السابقة من كون
الدليل أخصّ من المدّعى.
وكيف كان فالأولى ما ذكر في الوجه
الرابع من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص ، كما لا يعذر الجاهل
بالمكلّف به العالم به إجمالا. ومناط عدم المعذوريّة في المقامين هو عدم قبح
مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما يأمن معه من
ترتّب الضرر. ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدّعي
النبوّة وعدم معذوريّته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ، لا
إلى أنّه شكّ (١٨٩٠) في المكلّف به. هذا كلّه ، مع أنّ في الوجه الأوّل وهو
الإجماع القطعي كفاية. ثمّ إنّ في حكم أصل البراءة كلّ أصل عملي (١٨٩١) خالف
الاحتياط.
بقي الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع
ترك الفحص (١٨٩٢) والكلام فيه
______________________________________________________
وأشار المصنّف رحمهالله بالأمر بالتأمّل ـ وبالمراجعة إلى ما ذكره في الردّ على
استدلال الأخباريّين ـ إلى ما ذكره هناك أوّلا : من منع كون العلم الإجمالي بأحكام
جميع الوقائع موجبا للفحص في العمل بأصالة البراءة عن مدارك جميعها ، لعدم ثبوت
التكليف بالواقع على ما هو عليه ، بل به على حسب تأدية الطرق المتمكّن من الوصول
إليها ، لوضوح عدم وجوب الفحص عمّا لم يثبت التكليف به. وثانيا : من كون قيام
الأدلّة الاجتهاديّة على جملة من أطراف العلم الإجمالي موجبا لارتفاعه عمّا لم تقم
عليه. وأنت خبير بأنّا قد علّقنا على ردّ الاستدلال المذكور هناك ما يزيّف الأوّل
ويصحّح الثاني ، ويوضحه بما لا مزيد عليه.
١٨٩٠. لوضوح كون الشكّ فيه في التكليف ـ وهو وجوب النظر ـ دون
المكلّف به. والوجه في عدم جواز التمسّك فيه بأصالة البراءة مع كون الشكّ فيه في
التكليف ، ما أشرنا إليه ـ عند بيان وجه التأمّل الذي أمر به عند تقرير الدليل
الرابع على وجوب الفحص ـ من استلزامه لإفحام الأنبياء.
١٨٩١. جار في الشبهة الحكميّة ، كالاستصحاب في الجملة ، وقاعدة
الطهارة كذلك.
١٨٩٢. بناء على وجوبه.
إمّا في استحقاقه العقاب وإمّا في صحّة
العمل الذي اخذ فيه بالبراءة. أمّا العقاب : فالمشهور أنّه على مخالفة الواقع لو
اتّفقت ، فإذا شرب العصير العنبيّ من غير فحص عن حكمه ، فإن لم يتّفق كونه حراما
واقعا فلا عقاب ، ولو اتّفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلّم.
أمّا الأوّل (١٨٩٣) ؛ فلعدم المقتضي
للمؤاخذة ، عدا ما يتخيّل من ظهور أدلّة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب
النفسي. وهو مدفوع : بأنّ المستفاد من أدلّته بعد التأمّل إنّما هو وجوب الفحص
(١٨٩٤) لئلا يقع في مخالفة الواقع ، كما لا يخفى ، أو ما يتخيّل من قبح التجرّي ،
بناء على أنّ الإقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة كالإقدام على ما يعلم كونه كذلك ،
كما صرّح به جماعة منهم الشيخ في العدّة
وأبو المكارم في الغنية. لكنّا قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل (١٨٩٥).
______________________________________________________
١٨٩٣. أي : عدم العقاب إذا لم يتّفق كونه حراما.
١٨٩٤. فيكون الأمر به إرشاديّا ، والمصلحة فيه الوصول إلى
الأدلّة التي جعلها الشارع طرقا إلى الواقع ، والمقصود من جعلها أيضا ـ كما سيجيء ـ
هو الوصول إلى الواقع ومطابقة العمل له ، فمطلوبيّة الفحص وكذا العمل بالطرق إنّما
هي للغير ، ولا عقاب على الواجبات الغيريّة كما قرّر في محلّه. ويؤيّده أنّ
الأحكام الشرعيّة إنّما تعلّقت بالعناوين الواقعيّة ، مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ). ومقتضاه ـ على ما هو الحقّ من كون الألفاظ موضوعة للمعاني
الواقعيّة ـ كون العقاب مترتّبا على نفس الواقع دون مقدّماته ، فتأمّل. مضافا إلى
أنّ قوله عليهالسلام فيما تقدّم من الأخبار : «قتلوه قتلهم الله ، إلّا سألوه
ألا يمّموه» ـ وهكذا غيره ممّا تقدّم وما يأتي من رواية عمّار ـ ظاهر فيما ذكرناه
، من كون السؤال لأجل عدم الوقوع في مخالفة الواقع ، وكون العقاب مرتّبا على نفس
مخالفة الواقع مع التقصير في السؤال.
١٨٩٥. يعني : من حيث قبح التجرّي ، وكذا من حيث ترتّب العقاب
عليه وعدمه.
وأمّا الثاني (١٨٩٦) ؛ فلوجود المقتضي ،
وهو الخطاب الواقعي الدالّ على وجوب الشيء أو تحريمه ، ولا مانع منه عدا ما يتخيّل
: من جهل المكلّف به وهو غير قابل للمنع عقلا ولا شرعا.
أمّا العقل ، فلا يقبح مؤاخذة الجاهل
التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد
المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي ، وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه.
وأمّا النقل (١٨٩٧) ، فقد تقدّم (١٨٩٨)
عدم دلالته على ذلك ؛ فإنّ الظاهر منها ـ ولو بعد ملاحظة ما تقدّم من أدلّة
الاحتياط ـ الاختصاص بالعاجز (١٨٩٩). مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدّمة
في الوجه الثالث المؤيّدة بغيرها ، مثل رواية تيمّم عمّار المتضمّنة لتوبيخ النبيّ
صلىاللهعليهوآله
إيّاه بقوله : «أفلا صنعت كذا» .
وقد يستدلّ أيضا بالإجماع على مؤاخذة
الكفّار على الفروع مع أنّهم جاهلون بها. وفيه : أنّ معقد (١٩٠٠) الإجماع تساوي
الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاصول ومؤاخذتهم عليها بالشروط المقرّرة
للتكليف ، وهذا لا ينفي دعوى اشتراط العلم بالتكليف في حقّ المسلم والكافر.
وقد خالف فيما ذكرنا (١٩٠١) صاحب
المدارك
تبعا لشيخه المحقّق الأردبيلي
؛ حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلّم بقبح تكليف الغافل وفهم منه بعض
______________________________________________________
١٨٩٦. يعني : ترتّب العقاب على مخالفة الواقع.
١٨٩٧. من أخبار البراءة.
١٨٩٨. في الوجه الثالث.
١٨٩٩. يعني : اختصاص النقل من أخبار البراءة بالعاجز عن معرفة
الحكم بالفحص والسؤال.
١٩٠٠. فدعوى الإجماع على مؤاخذة الكفّار فرع دعواه على مؤاخذة
المسلمين مع ترك الفحص ، فنفي مؤاخذة الكفّار لأجل دعوى اشتراط العلم في تنجّز
التكليف لا ينافي دعوى الإجماع على المساواة.
١٩٠١. قال المقدّس الأردبيلي في شرح الإرشاد : «واعلم أيضا أنّ
سبب
.................................................................................................
______________________________________________________
بطلان الصلاة في
الدار المغصوبة مثلا هو النهي عن الصلاة فيها المستفاد من عدم جواز التصرّف في مال
الغير ، وأنّ النهي مفسد للعبادة ، فلا تبطل صلاة المضطرّ ولا الناسي ، بل ولا
الجاهل ، لعدم النهي حين الفعل ، ولأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون ، وإن كان في
الواقع مقصّرا ومعاقبا بالتقصير ، ولعلّ قول المصنّف رحمهالله : وإن جهل المراد به ، عدم علمه بالبطلان لا التحريم ، وإن
كان ظاهر كلامه غير ذلك ، وفهم من غير هذا المحلّ» انتهى كلامه رفع في الخلد
مقامه. وهو صريح في كون الجاهل المقصّر معاقبا من جهة ترك الفحص والسؤال.
وقال السيد السند
صاحب المدارك في شرح قول المحقّق. وإذا أخلّ المصلّي بإزالة النجاسة عن بدنه أو
ثوبه أعاد في الوقت وخارجه : «إذا أخلّ المصلّي بإزالة النجاسة التي تجب إزالتها
في الصلاة عن ثوبه وبدنه ، فإمّا أن يكون عالما بالنجاسة ذاكرا لها حالة الصلاة ،
أو ناسيا ، أو جاهلا. فهنا مسائل ثلاث. الأولى : أن يسبق علمه بالنجاسة ، ويصلّي
ذكرا لها ، ويجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه. قال في المعتبر : وهو
إجماع من جعل طهارة البدن والثوب شرطا. وإطلاق كلام الأصحاب يقتضي أنّه لا فرق في
العالم بالنجاسة بين أن يكون عالما بالحكم الشرعيّ أو جاهلا ، بل صرّح العلّامة
وغيره بأنّ جاهل الحكم عامد ، لأنّ العلم ليس شرط في التكليف. وهو مشكل ، لقبح
تكليف الغافل.
والحاصل : أنّهم
إن أرادوا بكون الجاهل كالعامد أنّه مثله في وجوب الإعادة في الوقت فهو حقّ ، لعدم
حصول الامتثال المقتضي لبقاء المكلّف تحت العهدة. وإن أرادوا أنّه كالعامد في وجوب
القضاء فهو على إطلاقه مشكل ، لأنّ القضاء فرض مستأنف ، فيتوقّف على الدليل ، فإن
ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلّا فلا. وإن أرادوا أنّه كالعامد في
استحقاق العقاب فمشكل ، لأنّ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تكليف بما لا يطاق. نعم
، هو مكلّف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل أو الشرع ، فيأثم بتركهما لا
بترك ذلك المجهول كما
.................................................................................................
______________________________________________________
هو واضح» انتهى
كلامه زيد إكرامه.
وقال في الذخيرة
بعد نقل ما عرفته من المدارك : «وبالجملة ، الظاهر أنّ التكليف متعلّق بمقدّمات
الفعل كالنظر والسعي والتعلّم ، وإلّا لزم تكليف الغافل أو التكليف بما لا يطاق ،
والعقاب يترتّب على ترك النظر ، لكن لا يبعد أن يكون متضمّنا لعقاب التارك مع
العلم. ولا يخفى أنّه يلزم على هذا أن لا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام ، وإنّما
يكونون مخاطبين بمقدّمات الأحكام ، وهذا خلاف ما قرّره الأصحاب. وتحقيق هذا المقام
من المشكلات ، والغرض الفقهي متعلّق بحال الإعادة والقضاء ، وهما ثابتان في
المسألة المذكورة بعموم الأخبار السابقة» انتهى كلامه وعلا في الخلد مكانه.
قوله : «وإلّا لزم
تكليف الغافل» يعني : أنّ التكليف بالفعل إن كان جائزا قبل خروج الوقت لزم تكليف
الغافل ، وإن كان بعده لزم التكليف بما لا يطاق. وفي قوله : «هذا خلاف ما قرّره
الأصحاب» اعتراف بكون العقاب عند المشهور مرتّبا على مخالفة الواقع دون مقدّماته.
ثمّ إنّ المستفاد
من كلام المصنّف رحمهالله في بيان مراد هذه الجماعة وجهان :
أحدهما : أن يكون
العقاب مرتّبا على ترك المقدّمة المفضي إلى ترك ذيها ، وهي الفحص والسؤال ، لا على
ترك ذيها. وظاهرهم حينئذ كون وجوبهما نفسيّا لا من باب المقدّمة ، كما فهمه
المحقّق الخونساري ، ولذا أورد على صاحب الذخيرة ـ فيما حكي عنه ـ بأنّ مقتضاه
الالتزام بترتّب الثواب عليها أيضا دون ذيها. وإلى هذا الوجه أشار المصنّف رحمهالله في آخر كلامه أيضا بقوله : «ومن هنا قد يلتجئ ...». وسيأتي
الكلام فيه.
وثانيهما : كون
العقاب مرتّبا على ترك ذي المقدّمة ، لكن حين ترك المقدّمة المفضي تركها إلى تركه
، مع ارتفاع خطابه أيضا حين تركها. وهذا الوجه محكي عن صاحب الذخيرة في رسالته
التي أفردها في مقدّمة الواجب. وعليه لا بدّ من
.................................................................................................
______________________________________________________
ارتكاب نوع مسامحة
في كلماتهم ، لأنّ قول الأردبيلي : «وإن كان معاقبا بالتقصير» وكذا قول صاحب
المدارك : «فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول» لا بدّ أن يحمل على إرادة تحقّق
العقاب حين ترك المقدّمة ، لا على ترتّبه على تركها. وكذلك قول صاحب الذخيرة : «إنّ
التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنظر والسعي» لا بدّ أن يحمل على إرادة بقاء
التكليف ما دامت المقدّمة غير متروكة ، وارتفاعه حين تركها المفضي إلى ترك ذيها ،
لا كون المقدّمة متعلّقا للطلب النفسي.
وهنا وجه ثالث ،
وهو ترتّب العقاب على ترك المقدّمة نفسيّا ، لا من جهة كون تركها المفضي إلى ترك
ذيها علّة تامّة لتركه ، مع الالتزام بارتفاع خطابه حين تركها. والأوّل بعيد عن
ظاهر كلماتهم ، لأنّ التعبير بلفظ المقدّمة ربّما يأبى عن إرادة الوجوب النفسي ،
لأنّ جهة الغير مأخوذة في مفهوم المقدّمة.
والمستفاد من
كلامه أيضا في بيان مراد المشهور وجوه :
أحدها : أن يكون
العقاب مرتّبا على ترك ذي المقدّمة المغفول عنه حين الغفلة عنه ، مع الالتزام
ببقاء خطابه حينئذ أيضا.
وثانيها : الصورة
بحالها إلّا في الالتزام بارتفاع خطابه حين ترك المقدّمة.
وثالثها : أنّ
يكون العقاب مرتّبا على ترك ذيها حين تركها ، مع الالتزام بارتفاع خطابه حين تركها
كما تقدّم. ثمّ استظهر كون مرادهم هو الوجه الأوّل بوجهين ، وسنشير إلى توضيحهما
وتوضيح ما يتعلّق بسائر كلمات المصنّف رحمهالله بعد الفراغ من أدلّة القولين.
فنقول : قد استدلّ
على المشهور بوجوه :
أحدها : أنّ مقتضى
الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة المتعلّقة بالعناوين الواقعيّة ـ مثل الصلاة
والصوم والزكاة والخمس ، وكذا في باب المعاملات مثل الخمر والنجس ونحوهما ـ كون
العقاب مرتّبا على مخالفة هذه العناوين ، لا على ترك مقدّماتها وإن كان مفضيا إلى
تركها.
.................................................................................................
______________________________________________________
وثانيها : أنّ
المكلّف إذا التفت إلى وجود واجبات ومحرّمات في الشرع مطلوب منه فعلها أو تركها في
آن من الآنات ، وعلم بذلك إجمالا ، وترك الفحص والسؤال عن تفاصيلها ، لا يعذر
بمجرّد غفلته عنها في وقت العمل ، لأنّ المسلّم من قبح تكليف الجاهل هو الجاهل
المحض ، لا الملتفت العالم بها إجمالا ولو عرضت له الغفلة بعده ، ولذا نفى
العلّامة فيما حكاه صاحب المدارك في عبارته المتقدّمة كون العلم شرطا في التكليف ،
لأنّ مراده لا بدّ أن يكون ما ذكرناه لا الجاهل المحض. وحاصله : نفي كون العلم
التفصيلي شرطا في التكليف.
وثالثها : إجماعهم
على تكليف الكفّار بالفروع ، وكونهم معاقبين بها مع جهلهم بها ، ولذا قد عرفت أنّ
صاحب الذخيرة مع ميله إلى كون التكليف متعلّقا بالمقدّمات ، قد استشكل فيه لأجل
هذا الإجماع المقتضي لتعلّق التكليف بنفس الأحكام المجهولة.
وأنت خبير بأنّ
الظاهر أنّ فتوى الأصحاب بكون الكفّار مكلّفين بالفروع إنّما هو في قبال فتوى أبي
حنيفة بكونهم مكلّفين بالاصول دون الفروع ، وحينئذ لا يمكن أن يستفاد من إطلاقهم
لكونهم مكلّفين بالفروع كون العقاب مرتّبا على مخالفة نفس الأحكام المجهولة حين
مخالفتها ، أو حين ترك مقدّماتها المفضي إلى تركها ، أو على نفس ترك المقدّمات ،
أو غير ذلك ممّا تقدّم ، فلا وجه حينئذ لاستشكال صاحب الذخيرة فيما جنح إليه أوّلا
لأجل هذا الإجماع.
ورابعها : قوله
تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ
الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ.) والتقريب فيه واضح ، لأنّ اعتذارهم عن كونهم معذّبين في
السقر بترك الصلاة والإطعام دليل واضح على كون العقاب مرتّبا على مخالفة نفس
الواجبات والمحرّمات دون مقدّماتها.
وخامسها : ما
تقدّم في الدليل الثالث من أدلّة وجوب الفحص عن الأخبار
.................................................................................................
______________________________________________________
الظاهرة في كون
وجوب الفحص والسؤال لمجرّد الوصول إلى الواقع ، وأنّ مدار الثواب والعقاب على نفس
إطاعة الواجبات والمحرّمات ومخالفتها لا على مقدّماتها. وهذه جملة أدلّتهم.
وأنت خبير بأنّ
مطلوبهم في المقام ـ أعني : صورة ترك المكلّف الفحص والسؤال ، مع إفضاء تركهما إلى
مخالفة الواقع من الواجبات والمحرّمات ـ مركّب من أمرين : أحدهما : بقاء خطاب
التكليف الواقعي إلى زمان تحقّق المخالفة ، والآخر : ترتّب العقاب حين تحقّق
المخالفة. والأدلّة المذكورة لا تثبت شيئا منهما ، لأنّ غايتها ترتّب العقاب على
مخالفة نفس التكاليف الواقعيّة لا على ترك مقدّماتها.
وأمّا دلالتها على
بقاء خطاباتها إلى زمان تحقّق المخالفة ، وكذا كون ترتّب العقاب حين تحقّقها فلا ،
لعدم منافاتها لترتّب العقاب. وكذا ارتفاع خطاباتها حين ترك مقدّماتها المفضي إلى
مخالفتها.
وإن أرادوا من ترتّب
العقاب على مخالفتها هذا المعنى ، كما أسلفناه عند بيان الوجوه المحتملة في
كلماتهم ، يرد عليه أوّلا : عدم دلالة الأدلّة المذكورة على خصوص هذا المعنى أيضا.
وثانيا : أنّه مناف لكلماتهم في الفروع من الوجهين اللذين أشار إليهما المصنّف قدسسره.
هذا ، وأمّا ما
ذهب إليه الجماعة فقد عرفت أنّ صاحب المدارك استدلّ عليه بقبح تكليف الجاهل بما هو
جاهل به ، وأنّه تكليف بما لا يطاق ، فلا بدّ أن يكون مكلّفا بالفحص والسؤال ،
ومعاقبا على تركهما ، لا على ترك الفعل المجهول الحكم.
وهو إن أراد بذلك
كون الفحص والسؤال واجبين بالوجوب النفسي كما هو ظاهرهم ، ففيه : منع قبح تكليف
الجاهل مطلقا ، لأنّ المسلّم منه تكليف الجاهل محضا ، لا مع الالتفات إلى الأحكام
الواقعيّة والعلم بها إجمالا وكونها مطلوبة منه وإن عرضت الغفلة بعده ، لأنّه مع
هذا الالتفات والعلم يصحّ من الشارع الحكيم تكليفه بما في الواقع من الأحكام وإن
لم يعرف تفصيلها ، ولا قبح فيه أصلا. و
.................................................................................................
______________________________________________________
حينئذ يجب عليه
بحكم العقل والنقل الفحص والسؤال عن مفصّلاتها ، فإذا ترك ذلك وعرضت له الغفلة
عنها بالكلّية ، وخالف الأحكام الواقعيّة بعضا أو كلّا ، لا يقبح من الشارع
مؤاخذته على هذه المخالفة.
وإن أراد أنّه مع
الالتفات يتنجّز التكليف بالواقع ، ويبقى هذا التكليف ما دام الالتفات باقيا ،
ويرتفع خطاب الواقع حين عروض الغفلة ، ويستحقّ العقاب لأجل ترك الفحص والسؤال وإن
لم يجبا بالوجوب النفسي ، لا لأجل مخالفة الواقع.
ففيه أوّلا : أنّه
مع الاعتراف بتنجّز التكليف بالواقع بالالتفات لا وجه لدعوى كون العقاب على ترك
الفحص ، إذ لا مانع من ترتّب العقاب على مخالفة الواقع حين ترك الفحص المفضي إلى
تركه ، نظرا إلى كونه مخالفة حكميّة للواقع كما ستعرفه ، بل لا معنى لما ذكر أصلا
كما لا يخفى.
وثانيا : أنّ
مقتضى ترتّب العقاب على ترك المقدّمة هو ترتب الثواب عليها أيضا لا على الواجبات
النفسيّة ، وهو خلاف المعهود من الشرع الأنور ، فيلزم حينئذ إهمال التكاليف
الواقعيّة ، وجعل المدار في الثواب والعقاب على مقدّماتها.
وثالثا : أنّه
خلاف ظاهر الأدلّة كتابا وسنّة ، كما تقدّم عند بيان أدلّة المشهور.
وإن أراد ترتّب
عقاب مخالفة الواقع حين ترك الفحص المفضي إلى مخالفته ، نظرا إلى كونه مخالفة
حكميّة للواقع ، فهذا الوجه وإن لم يخالف الأدلّة ، بل يعاضده الاعتبار ، لأنّه
نتيجة مقدّمات أربع ، الاولى : كون الفحص مطلوبا لأجل الوصول إلى الواقع ، وأنّه
لا عقاب ولا ثواب على الواجبات الغيريّة. الثانية : كون الالتفات والعلم إجمالا
بأنّ في الواقع واجبات ومحرّمات ـ مطلوب منه فعل الاولى وترك الثانية ـ منجّزين
للتكليف بالواقع. الثالثة : قبح خطاب الغافل. الرابعة : لغويّة ترقّب حصول زمان
المخالفة إذا ارتفع خطاب الواقع قبله بالغفلة ونحوها كما هو الفرض ، لصيرورة الفعل
مستحيل الوقوع لأجل ترك مقدّمته. إلّا أنّه لا يبقى حينئذ
.................................................................................................
______________________________________________________
مغايرة بين هذا
الوجه ومذهب المشهور ، لاحتمال إرادتهم ذلك أيضا كما تقدّم.
مع أنّ فيه إشكالا
من جهة اخرى ، وهو استلزامه لنفي كثير من الأحكام أو أكثرها من الفسّاق والكفّار ،
لكونها مشروطة بالعلم والقدرة أو زمان خاصّ أو حالة خاصّة ، وهكذا ، ولا ريب في
عدم تنجّز التكليف بالواجبات المشروطة قبل تحقّق شروط وجوبها ، فإذا حصلت الغفلة
عنها قبل تحقّقها أو حينه يرتفع التكليف عنها من رأس. أمّا قبل تحقّق شروط وجوبها
فواضح. وأمّا بعده فلفرض عروض الغفلة ، ولا ريب في غفلة الكفّار في أغلب أوقاتهم
عن إجماليّات أحكامنا ، وكذا الفسّاق من الفرقة الناجية في كثير من أوقاتهم ،
فيلزم ارتفاع هذه الأحكام عنهم.
اللهمّ إلّا أن
يتفصّى عن هذا الإشكال بالتزام تنجّز التكليف بجميع الأحكام الواقعيّة بالالتفات
إليها ، لكن كلّ بحسبه ، فالواجبات المطلقة على وجه الإطلاق ، والمشروطة على وجه
التعليق والاشتراط ، نظير ما لو قال الشارع : يجب عليك هذا الفعل عند تحقّق الشرط
الفلان. فمع توجّه الخطاب إليه فعلا بالإتيان بالواجب المشروط بعد تحقّق شرطه تجب
عليه بحكم العقل المحافظة على مقدّمات هذا الفعل ، فلا يعذر مع ترك بعض مقدّماته
المفضي إلى تركه ، نظير ما لو قال : أوجبت عليك الآن أن تزور الحسين عليهالسلام في القابل ، إذ تجب عليه حينئذ المحافظة على جميع ما
تتوقّف عليه الزيارة في القابل ، فيجب عليه الآن تحصيل ما لا يمكن تحصيله من
مقدّماتها في القابل.
ويدلّ عليه أيضا
بناء العقلاء ، لأنّ المولى إذا أمر عبده بخياطة ثوب في الغد ، وفرض عدم تمكّنه من
تحصيل الخيوط والإبرة في غد ، فإذا لم يحصّلهما اليوم ، واعتذر في غد بأنّ الخياطة
لم تكن واجبة عليّ قبل الغد حتّى يجب تحصيل مقدّماتها كذلك ، وتحصيلها اليوم أيضا
متعذّر ، لم يسمع منه ذلك واستحقّ اللوم والذمّ عندهم.
وقد سمّى صاحب
الفصول هذا القسم من الواجب واجبا معلّقا ، لأنّه قد قسّمه
.................................................................................................
______________________________________________________
إلى منجّز ومعلّق.
قال في مبحث المقدّمة : «وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ، ولا
يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة ، وليسمّ منجّزا ، وإلى ما يتعلّق
وجوبه به ، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، وليسمّ معلّقا كالحجّ ، فإنّ
وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ، ويتوقّف فعله على
مجيء وقته ، وهو غير مقدور له. والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ
التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل» انتهى.
وممّا ذكرناه تظهر
صحّة دعوى كون الكفّار معاقبين على الفروع بمجرّد التفاتهم واحتمالهم لحقّية دين
الإسلام ـ بل لحقّية دين آخر سوى دينه ـ في آن من الآنات وإن عرضت لهم الغفلة بعده
في تمام عمرهم ، إذ بمجرّد هذا الاحتمال يستقلّ العقل بوجوب الفحص عن سائر الأديان
، وبمجرّد ترك الفحص وعروض الغفلة بعده يترتّب عليه مؤاخذة جميع ما يترتّب عليه من
مخالفة أحكام الدين الحقّ.
هذا كلّه مع أنّه
يمكن منع غلبة الغفلة على الكفّار عن حقّية دين الإسلام كما تقدّم في تقرير
الإشكال ، لأنّهم لانغمارهم في المعاصي وكثرة متابعتهم لتسويلات الشيطان تعرض لهم
كثيرا حالة شبيهة بحال الغفلة لا يقبح معها التكليف ، لا أنّه تحصل لهم الغفلة
بالمرّة بحيث يقبح تكليفهم في هذه الحالة.
وتحقيق ما ينبغي
أن يقال في المقام : أنّه إذا ترك الفحص والسؤال ثمّ تعذّر عليه ذلك ، فإن كان
ملتفتا إلى الواقع ومتمكّنا من الاحتياط ، ولكنّه ترك الاحتياط وبنى في مقام العمل
على مقتضى البراءة ، يعاقب على مخالفة الواقع. وإن لم يكن متمكّنا منه مع التفاته
إلى الواقع ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، أو كان غافلا عن الواقع
بالمرّة ، يترتّب عليه عقاب مخالفة الواقع حين ترك الفحص المفضي إليها ، لقبح
تفويت الخطابات الواقعيّة من المكلّف باختياره. ومن هنا يظهر وجه النظر في إطلاق
قول المشهور والجماعة على جميع احتمالاتهما ، إذ على كلّ تقدير لا بدّ من التفصيل
بما عرفت.
المدقّقين أنّه قول
بالعقاب على ترك المقدّمة دون ذي المقدّمة. ويمكن توجيه كلامه : بإرادة استحقاق
عقاب ذي المقدّمة حين ترك المقدّمة ، فإنّ من شرب العصير العنبيّ غير ملتفت حين
الشرب إلى احتمال كونه حراما ، قبح توجّه النهي إليه في هذا الزمان ؛ لغفلته ،
وإنّما يعاقب على النهي الموجّه إليه قبل ذلك حين التفت إلى أنّ في الشريعة تكاليف
لا يمكن امتثالها إلّا بعد معرفتها ، فإذا ترك المعرفة عوقب عليه من حيث إفضائه
إلى مخالفة تلك التكاليف ، ففي زمان الارتكاب لا تكليف ؛ لانقطاع التكليف حين ترك
المقدّمة وهي المعرفة. ونظيره من ترك قطع المسافة في آخر أزمنة الإمكان ؛ حيث إنّه
يستحقّ أن يعاقب عليه لإفضائه إلى ترك أفعال الحجّ في أيّامها ، ولا يتوقّف
استحقاق عقابه على حضور أيّام الحجّ وأفعاله. وحينئذ فإن أراد المشهور توجّه النهي
إلى الغافل حين غفلته ، فلا ريب في قبحه.
وإن أرادوا استحقاق العقاب على المخالفة
وإن لم يتوجّه إليه نهي وقت المخالفة : فإن أرادوا أنّ الاستحقاق على المخالفة وقت
المخالفة لا قبلها ؛ لعدم تحقّق معصية ، ففيه أنّه لا وجه لترقّب حضور زمان
المخالفة ؛ لصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لأجل ترك المقدّمة مضافا إلى شهادة
العقلاء قاطبة بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيب زيدا ولا يقتله إلّا بعد مدّة
مديدة بمجرّد الرمي.
وإن أرادوا استحقاق العقاب في زمان ترك
المعرفة على ما يحصل بعد من المخالفة ، فهو حسن لا محيص عنه. هذا ، ولكن بعض
كلماتهم ظاهرة في الوجه الأول ، وهو توجّه النهي إلى الجاهل (١٩٠٢) حين عدم
التفاته ؛ فإنّهم يحكمون بفساد الصلاة في المغصوب جاهلا بالحكم ؛ لأنّ الجاهل
كالعامد وأنّ التحريم لا يتوقّف على العلم به
، ولو لا توجّه النهي إليه حين المخالفة لم يكن وجه لبطلان الصلاة ، بل كان كناسي
الغصبيّة.
______________________________________________________
١٩٠٢. حاصله : أنّ شرطيّة شيء في عبادة إذا نشأت من النهي ،
كإباحة المكان الناشئ شرطيّته من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، فمقتضى قضيّة عدم
توجّه النهي حين الجهل به هو انتفاء الشرطيّة أيضا ، والحكم بصحّة الصلاة حين
والاعتذار عن ذلك (١٩٠٣) بأنّه يكفي في
البطلان اجتماع الصلاة المأمور بها مع ما هو مبغوض في الواقع ومعاقب عليه ولو لم
يكن منهيّا عنه بالفعل.
______________________________________________________
الجهل به ،
والمشهور لا يحكمون بها ، فحكمهم بالفساد حينئذ دليل على بقاء النهي عندهم حين
الجهل ، كما يومي إليه قول العلّامة ـ على ما تقدّم في الحاشية السابقة ـ بأنّ
الجاهل كالعامد ، وأنّ التحريم لا يتوقّف على العلم به.
١٩٠٣. اعلم أنّ في كلماتهم عناوين ثلاثة :
أحدها : جواز
اجتماع الأمر والنهي وعدمه.
والآخر : من توسّط
دارا مغصوبة. وقد نقلوا فيه أقوالا ثلاثة. أحدها : أنّه منهي عن الخروج ، ومأمور
بالخروج ، إمّا مطلقا أو بقصد التخلّص من الغصب ، فهو عاص بالفعل والترك كليهما.
واشتهرت حكاية هذا القول عن أبي هاشم.
وعزاه المحقّق
القمّي إلى أكثر أفاضل المتأخّرين ، بل إلى ظاهر الفقهاء. وفيه نظر. وثانيها :
أنّه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلّص ، وعاص به. واختاره الفخر الرازي ،
وتبعه صاحب الفصول. وثالثها : أنّه مأمور بالخروج ، وليس منهيّا عنه ، ولا معصية
فيه. وهو المشهور.
والثالث : ما لو
نهى عنه الشارع أوّلا ثمّ ارتفع هذا النهي بسبب من المكلّف وفي جواز أمره به في
الزمان الثاني ـ أعني : زمان ارتفاع النهي ـ وعدمه إشكال ومثاله أنّ الجنب في نهار
شهر رمضان إذا كان على شاهق على ساحل البحر فهو منهي عن رمي نفسه عن الشاهق وعن
الارتماس في الماء ، وإذا عصى ورمى نفسه عنه إليه فلا ريب في ارتفاع النهي عنه حين
الهبوط والنزول ، إذا صار بحيث لا يتمكّن من حفظ نفسه عن السقوط. وفي صحّة نيّة
الغسل منه حينئذ ارتماسيّا ـ نظرا إلى ارتفاع النهي وعدمه ـ إشكال.
والفرق بين هذه
المسألة ومسألة من توسّط أرضا مغصوبة : كون المكلّف
.................................................................................................
______________________________________________________
هنا مسبوقا بالنهي
عن رمي نفسه وعن الغسل ارتماسا ، بخلافه في تلك المسألة ، لكونه فيها ـ على ما هو
المشهور ـ غير منهي عن الخروج سابقا ولا حقا كما قرّر في محلّه.
وهذه المسألة غير
معنونة في كلماتهم فقها واصولا. نعم ، قال صاحب الفصول في تحرير عنوان من توسّط
أرضا مغصوبة بعد نقل الأقوال : «والحقّ أنّه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلّص
، وليس منهيّا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنّه عاص به بالنظر إلى النهي السابق»
انتهى. ومع فرض النهي السابق تتّحد هذه المسألة مع ما ذكرناه.
ويظهر حكم ما نحن
فيه منهم في الفقه في مواضع. منها : حكمهم ببطلان عبادة الجاهل المقصّر كما هو
محلّ الكلام في المقام ، فإنّه بإطلاقه يشمل الغافل أيضا ، مع أنّهم قد قرّروا قبح
خطاب الغافل ، فلا بدّ أن يكون البطلان حينئذ مستندا إلى اجتماع الأمر مع
المبغوضيّة الواقعيّة ، لفرض عدم النهي الفعلي ، لأنّ تخصيص كلماتهم بغير الغافل
لا دليل عليه. ودعوى كون الفساد مستندا إلى اجتماع الأمر والنهي خلاف ما قرّروه ،
فلا بدّ أن يكون مستندا إلى اجتماع الأمر مع أثر النهي ، وهي المبغوضيّة.
ومنها : حكمهم
بكون الكفّار مكلّفين بالفروع كالاصول. وهو أيضا يشمل صورة الغفلة مع الالتفات
السابق ، لأنّ مقتضى تكليفهم بالفروع بطلان عبادتهم مع الجهل بالحكم ، مع قطع
النظر عن اشتراط صحّتها بالإسلام ، لوضوح عدم الفرق في ذلك بين الأحكام التكليفيّة
والوضعيّة ، وهو لا يتمّ إلّا مع عدم اجتماع الأمر مع المبغوضيّة الواقعيّة. ويظهر
الكلام فيه أيضا ممّا تقدّم.
ويمكن أن يحتجّ
للبطلان بوجوه :
أحدها : أنّ مناط
الحكم بالبطلان في موارد اجتماع الأمر والنهي ليس هو تضادّ نفس الإنشاءين ، لعدم
كون الإنشاء من الامور القارّة بالذات ، لكونه آنيّ الحصول والزوال ، فلا يتمانعان
مع تقدّم أحدهما ، بل المناط فيه تضادّ وصف المطلوبيّة
.................................................................................................
______________________________________________________
والمبغوضيّة
الحاصلتين من إنشاء الأمر والنهي في نظر أهل العرف ، فإنّه يقال بعد الأمر : إنّ
هذا الفعل مطلوب للمولى ، وبعد النهي : إنّه مبغوض له. وهو حاصل فيما نحن فيه أيضا
بالفرض ، لأنّه بعد ارتفاع النهي السابق لا تجتمع المبغوضيّة الباقية بعده مع
الأمر أو المطلوبيّة الحاصلة منه ، وإن كان المناط فيه عدم اجتماع إرادة الفعل
والترك الكاشف عنها الأمر والنهي وأنّها قابلة للبقاء والدوام ، فكذلك ما نحن فيه
، لفرض بقاء الكراهة فيه أيضا ، فهي لا تجتمع مع الأمر.
وثانيها : أنّه لو
لم نقل بالبطلان فيما نحن فيه ، نظرا إلى ارتفاع النهي السابق ، لعدم القدرة على
امتثاله ، فلا بدّ من القول بعدم دلالة النهي على الفساد في جميع موارده ، لأنّ
المقدور من الأفعال مقدّماتها دون أنفسها ، ولذا قيل : إنّ الفعل ما لم يجب لم
يوجد وما لم يمتنع لم ينعدم ، فهو قبل إيجاد مقدّماته ممتنع وبعده واجب ، والنهي
عن الفعل المقدور باعتبار مقدّماته لا يمكن بقائه إلى زمان نفس الفعل ، لما عرفت
من وجوبه بعد إيجاد مقدّماته ، فلا بدّ أن يكون الباقي بعده أثره وهي المبغوضيّة ،
فلا بدّ أن يكون الفساد مستندا إليه.
وثالثها : أنّهم
قد صرّحوا بعدم جواز النسخ قبل زمان العمل. والوجه فيه : أنّ الشارع إذا أمر بشيء
ثمّ نسخه قبل زمان العمل به ، لزم إمّا حصول البداء لله تعالى ، أو اجتماع
المطلوبيّة مع خلافها ، واللازمان كلاهما باطلان ، ولو لم يكن أثر النهي ـ أعني :
المبغوضيّة ـ مضادّا للأمر فيما نحن فيه لم يبق لعدم جواز النسخ قبل زمان العمل
وجه.
هذا ، وتحقيق
المقام أن يقال : إنّ ارتفاع النهي إن كان بسبب ارتفاع القدرة عن الفعل كما في
مثال رمي المكلّف نفسه من شاهق ، فالأقوى بطلان العبادة ، لأنّ الفعل الاضطراري
كما لا يصحّ أن يكون متعلّقا للنهي ، كذلك لا يصحّ أن يكون متعلّقا للأمر ، فلا
يصحّ أن يقصد الغسل في حال السقوط في المثال. وإن كان بسبب امتناع امتثال النهي مع
بقاء القدرة على الفعل بعد ارتفاع النهي ، فالأظهر
.................................................................................................
______________________________________________________
هو الحكم بالصحّة.
ولذا يحكم بصحّة عبادات المماطل في أداء الدين مع مطالبة المدين ، إذا سافر فرارا
عنه بحيث لا يقدر على أدائه في السفر ، لأنّ المماطلة وإن كانت منهيّا عنها مع
المطالبة وبقاء القدرة على الأداء ، إلّا أنّه مع ارتفاع النهي بسبب عدم القدرة
يحكم بصحّة عباداته مع بقاء أثر النهي. وكذا يحكم بصحّة زيارة من زار الحسين عليهالسلام ، أو اشتغل بعبادة اخرى في يوم عرفة في البلاد النائية ،
مع تركه حجّة الإسلام مع الاستطاعة ، وهكذا.
وبالجملة ، إنّ
الأمر بأداء الدين والحجّ على القول بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه ، وإن
دلّ على النهي عمّا يضادّهما من العبادات ، إلّا أنّه إذا تعذّر امتثال النهي لأجل
ارتفاع الأمر بتعذّر الأداء والإتيان بأفعال الحجّ يحكم بصحّة ما يضادّهما من
العبادات ، كما عرفت.
وإذا عرفت هذا
نقول : إنّ المصنّف رحمهالله قد صرّح أوّلا بكون حكم المشهور ببطلان عبادة الجاهل
المقصّر غير الملتفت مبنيّا على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، لأجل إطلاقهم
القول بأنّ الجاهل كالعامد ، ثمّ اعتذر عنه باستناد البطلان فيما حكموا به فيه إلى
عدم جواز اجتماع المبغوضيّة مع الأمر بعد ارتفاع النهي ، ثمّ صرّح أوّلا ببطلان
هذه الطريقة ، ثمّ ناقضها بتصريحهم بالصحّة في مسألة المتوسّط في أرض مغصوبة ، ثمّ
أجاب عن النقض ببيان الفارق بينهما ، وهو بقاء الاختيار فيما نحن فيه ، وعدم إمكان
امتثال النهي في مسألة التوسّط في أرض مغصوبة ، وقد عرفت وجه البطلان.
ولكنّك خبير بأنّ
الاعتذار غير عامّ ، والبطلان غير متّجه ، والنقض غير وارد ، والجواب غير صالح
للفرق.
أمّا الأوّل فلأنّ
حكم المشهور ببطلان عبادة الجاهل المقصّر يشمل ما لو عجز عن الفحص ، وكان ملتفتا
إلى الواقع ، ومتمكّنا من امتثاله بالاحتياط. ولا ريب أنّ البطلان فيه مستند إلى
عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، لا إلى ما ذكر في الاعتذار.
مدفوع ـ مضافا إلى عدم صحّته في نفسه ـ بأنّهم
صرّحوا بصحّة صلاة من توسّط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها ؛ لعدم النهي عنه وإن
كان آثما بالخروج
، إلّا أن يفرّق بين المتوسّط للأرض المغصوبة وبين الغافل بتحقّق المبغوضيّة في
الغافل وإمكان تعلّق الكراهة الواقعيّة بالفعل المغفول عن حرمته مع بقاء الحكم
الواقعي بالنسبة إليه ؛ لبقاء الاختيار فيه ، وعدم ترخيص الشارع للفعل في مرحلة
الظاهر بخلاف المتوسّط ؛ فإنّه يقبح منه تعلّق الكراهة الواقعيّة بالخروج كالطلب
الفعلي لتركه ؛ لعدم التمكّن من ترك الغصب.
______________________________________________________
اللهمّ إلّا أن
يلتزم باختلاف مستند البطلان بحسب الموارد ، بأن كان البطلان في بعضها مستندا إلى
عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، وفي بعض آخر إلى عدم جواز اجتماع المبغوضيّة مع
الأمر. ولكنّه خلاف ظاهر كلماتهم ، لإطلاقهم القول بأنّ الجاهل كالعامد ، وهو ظاهر
في اتّحاد مستند البطلان في جميع موارده.
وأمّا الثاني
فلأنّك قد عرفت أنّ بطلان الطريقة المذكورة إنّما هو لأجل الحكم بالصحّة في مسألتي
الدين والحجّ ، وهو غير وارد على الطريقة المذكورة ، لحكم المشهور فيهما بالبطلان
، وقد ادّعى العلّامة في القواعد والتذكرة شهرة القول به في مسألة الدين ، وإطلاقه
يشمل ما نحن فيه من عروض العجز عن الأداء بسفر ونحوه. ولا فرق بينها وبين مسألة
الحجّ ، وهو واضح. اللهمّ إلّا أن يقال في إبطال الطريقة المذكورة : إنّه إن اريد
بالمبغوضيّة المبغوضيّة الفعليّة التي يتعقّبها استحقاق العقاب ، فهي ممنوعة في
حال الغفلة ، إذ النهي الفعلي كما أنّه قبيح في حال الغفلة ، كذلك المبغوضيّة
المذكورة. وإن اريد بها المبغوضيّة الشأنيّة ، فهي غير منافية للأمر كما في الجاهل
بالموضوع.
وأمّا الثالث فلما
تقدّم من حكم المشهور بكون الخروج في مسألة من توسّط أرضا مغصوبة مأمورا به من دون
نهي ومعصية ، وهو صريح في عدم المبغوضيّة والإثم في الخروج أصلا ، فلا وجه لقوله :
«وإن كان آثما بالخروج».
وممّا ذكرنا من عدم الترخيص يظهر الفرق
بين جاهل الحكم وجاهل الموضوع (١٩٠٤) المحكوم بصحّة عبادته مع الغصب وإن فرض فيه
الحرمة الواقعيّة نعم ، يبقى الإشكال (١٩٠٥) في ناسي الحكم خصوصا المقصّر.
وللتأمّل في حكم عبادته مجال ، بل تأمّل بعضهم
في ناسي الموضوع ؛ لعدم الترخيص الشرعيّ من جهة الغفلة ، فافهم.
وممّا يؤيّد إرادة المشهور الوجه الأوّل
دون الأخير
______________________________________________________
وأمّا الرابع
فلأنّ مقتضى الجواب المذكور عدم الإثم في الخروج في مسألة المتوسّط أرضا مغصوبة ،
وهو لا يجامع ما نسبه إلى المشهور بقوله : «وإن كان آثما بالخروج».
١٩٠٤. فإنّ الترخيص للفعل ثابت من الشارع مع الجهل بالموضوع ،
لعدم وجوب الفحص عند الشبهة في الموضوعات الخارجة كما مرّ وسيأتي. هذا إذا كان
فساد العبادة متفرّعا على حكم تكليفي كالصلاة في الدار المغصوبة ، إذ مع الجهل
بالموضوع يرتفع النهي ، ويتبعه ارتفاع الشرطيّة. وأمّا إن كانت الشرطيّة ثابتة
بخطاب وضعي مفيد للشرطيّة الواقعيّة ، أو بدليل لبّي مردّد مدلوله بين كونه شرطا
واقعيّا أو ذكريّا ، فعلى الأوّل يحكم بفساد العبادة ، وعلى الثاني يبنى على كون
الأصل في الشروط أن يكون ذكريّا أو واقعيّا ، فيعمل بمقتضاه.
١٩٠٥. ينشأ من أنّ المتيقّن من حكم المشهور بالبطلان هي صورة
الجهل بالحكم دون نسيانه ، سيّما إذا لم ينشأ من تقصير ، ومن كون النسيان في حكم
الجهل ، سيّما إذا كان النسيان من تقصير. مضافا إلى أنّ النهي وإن سلّمنا ارتفاعه
بالنسيان ، إلّا أنّ المبغوضيّة باقية كما في صورة الجهل. هذا إن أراد الاستشكال
على مذاق المشهور ، وإلّا فعلى مذاق المصنّف رحمهالله لا بدّ من الحكم بالصحّة ، لارتفاع النهي بالنسيان ، وعدم
تأثير المبغوضيّة في البطلان ، كما صرّح به في الجهل بالحكم.
أنّه يلزم حينئذ عدم
العقاب (١٩٠٦) في التكاليف الموقّتة التي لا تتنجّز على المكلّف إلّا بعد دخول
أوقاتها ، فإذا فرض غفلة المكلّف عند الاستطاعة عن تكليف الحجّ ، والمفروض أن لا
تكليف قبلها ، فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا. أمّا حين الالتفات إلى امتثال
تكليف الحجّ فلعدم التكليف به ؛ لفقد الاستطاعة. وأمّا بعد الاستطاعة ؛ فلفقد
الالتفات وحصول الغفلة ، وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها.
ومن هنا قد يلتجئ إلى ما لا يأباه كلام
صاحب المدارك
ومن تبعه من أنّ العلم واجب نفسي والعقاب على تركه من حيث هو ، لا من حيث إفضائه
إلى المعصية ، أعني ترك الواجبات وفعل المحرّمات المجهولة تفصيلا.
______________________________________________________
والتحقيق أن يقال
: إنّ نسيان الحكم إمّا أن يكون من تقصير في المحافظة ، أو قصور فيها وعلى
التقديرين : إمّا أن يكون الحكم المنسيّ ممّا يبتلي به المكلّف غالبا أو لا.
والأقرب هو الحكم بالصحّة على جميع التقادير.
أمّا على تقدير
ندرة الابتلاء فواضح ، لعدم وجوب المحافظة حينئذ على عدم وقوع النسيان ، إذ كما لا
يجب تعلّم المسائل مع عدم غلبة الابتلاء ، كما صرّح به المصنّف رحمهالله عند بيان وجوب الفحص في العمل بأصالة البراءة ، كذلك
المحافظة على عدم وقوع النسيان بعد تعلّمه ، بل بطريق أولى ، وكذلك مع غلبة
الابتلاء إذا كان النسيان من قصور ، لوضوح عدم التكليف بالمحافظة حينئذ.
وأمّا مع التقصير
، فإن سلّمنا حصول العصيان حينئذ بسبب ترك المحافظة فلا ريب أنّ النهي يرتفع بسبب
النسيان ، فلا بدّ من الحكم بالصحّة. مع أنّ وجوب المحافظة على عدم وقوع النسيان
ممنوع ، لحديث رفع الخطأ والنسيان ، لإطلاقه بالنسبة إلى صورتي القصور والتقصير.
ومنه يظهر ضعف تأمّل بعضهم في ناسي الموضوع ، كالعلّامة في مبحث المكان من القواعد
، بل حكي عنه الحكم بالبطلان فيها في مبحث لباس المصلّي ، لارتفاع النهي بالنسيان
أوّلا ، وارتفاع حكم النسيان بالنبويّ ثانيا.
١٩٠٦. قد تقدّم توضيحه وما يدفعه عند شرح قوله : «وقد خالف فيما
وما دلّ بظاهره من الأدلّة المتقدّمة
على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدّمة محمول على بيان الحكمة في وجوبه ، وأنّ
الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلّف قابلا للتكليف بالواجبات والمحرّمات حتّى
لا يفوته منفعة التكليف بها ولا تناله مضرّة إهماله عنها ؛ فإنّه قد يكون الحكمة
(١٩٠٧) في وجوب الشيء لنفسه صيرورة المكلّف قابلا للخطاب ، بل الحكمة الظاهرة في
الإرشاد وتبليغ الأنبياء والحجج عليهمالسلام
ليست إلّا صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف ، لكنّ الإنصاف ظهور أدلّة وجوب
العلم في كونه واجبا غيريّا ، مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث
الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة.
______________________________________________________
ذكرنا ...». وما
دفعنا به الملازمة المذكورة هناك أشار المصنّف رحمهالله إليه هنا بقوله : «ويمكن أن يلتزم حينئذ ...» ، فراجع.
وستقف على تتمّة الكلام في ذلك.
١٩٠٧. قال صاحب الفصول في مبحث المقدّمة : «ثمّ اعلم أيضا أنّ
الواجب النفسي قد يكون وجوبه لفائدة التهيّؤ والاستعداد لواجب آخر مشروط بشرط غير
حاصل ، فيجوز أن يكون وجوبه من هذه الجهة مراعى بوجوب ذلك الواجب المشروط على
تقدير الإتيان بهذا الواجب ، والامتثال به مراعى بوقوعه ، فيجوز أن يترتّب على ترك
مثل هذا الواجب ما يترتّب على ترك الآخر ، إذا أدّى تركه إلى عدم تحقّق وجوبه ،
لاستناد فوات فوائده إليه. وينبغي أن يجعل من هذا الباب استحقاق المرتدّ الذي لا تقبل
توبته العقوبة على ما يفوته بالارتداد ، من الواجبات المشروطة بامور غير حاصلة حال
الارتداد لو قلنا بذلك. وأن يجعل منه وجوب تعلّم الصلاة وأحكامها قبل دخول وقتها ،
مع أنّ وجوبها مشروط بدخول وقتها لو قلنا بذلك. ويقرب هذا النوع من الواجب النفسي
إلى الواجب الغيري بالمعنى المتقدّم ، لمساواته إيّاه في جملة من الثمرات. وربّما
يظنّ أنّه منه ، وليس كما يظنّ ، إذ لا يعقل الوجوب الغيري عند عدم وجوب الغير ،
فكيف يكون من بابه؟ نعم ، لو فسّر الوجوب الغيري بمعنى آخر أعمّ من المعنى
المتقدّم جاز» انتهى.
.................................................................................................
______________________________________________________
وقول المصنّف رحمهالله : «ويمكن أن يلتزم حينئذ باستحقاق ...» الظاهر أنّ مراده
حمل كلام المشهور على الوجه الأخير من الوجوه المتقدّمة المحتملة في كلامهم ، من
الالتزام بترتّب عقاب الواجبات المشروطة حين ترك الفحص المفضي إلى تركها ، وإن كان
ترك الفحص قبل زمان تحقّق شرط وجوبها. وفي كلامه نوع مسامحة ، إذ لا بدّ حينئذ أن
يقول : عند ترك تعلّم ، بدل : على ترك التعلّم. اللهمّ إلّا أن يريد بترتّب العقاب
على ترك التعلّم ترتّبه عليه من حيث إفضائه إلى ترك التكاليف لا من حيث نفسه ،
نظير قوله في توجيه كلام الأردبيلي رحمهالله : «فإذا ترك المعرفة عوقب عليه من حيث إفضائه ..».
ثمّ إنّ الوجه
فيما ذكره هو قبح تفويت المكلّف للخطابات الواقعيّة بسوء اختياره ، وإن لم تكن
منجّزة حين تفويتها ، بشهادة بناء العقلاء ، كما ذكره من مثال الطومار.
وأنت خبير بإمكان
منعه ، إذ لو صحّ ذلك لوجب تحصيل شرائط الوجوب أيضا على فاقدها ، كالاستطاعة
والنصاب في الحجّ والزكاة ، لوضوح عدم الفرق بينها وبين شرائط تنجّزه ، كالعلم
والالتفات فيما نحن فيه ، إذ الباعث على بنائهم على تقبيح تفويت الواقع هو قبح
تفويت مصالح الواقع ، وهو مشترك الورود ، فكما يقبح ترك الفحص المؤدّي إلى عدم
تنجّز التكليف بالحجّ بعد حصول الاستطاعة ، لأجل عروض الغفلة عن وجوبه ، كذلك لو
ترك تحصيل الاستطاعة ممّن قدر عليه ، أو شربت المرأة دواء صارت به حائضا ، وهو
خلاف الإجماع. مع أنّ ثبوت بنائهم على وجه يكشف عن حقيّة ما بنوا عليه في الواقع
على سبيل القطع أو عن تقرير المعصوم عليهالسلام كذلك قابل للمنع. نعم ، لا تبعد دعوى قبح تفويت الشرط فيما
كان شرطا للفعل دون الوجوب ، كما في الواجب المعلّق على ما ذكره صاحب الفصول ،
وإلّا لزم لغويّة توجيه الخطاب قبل زمان الفعل ، فتأمّل.
ويمكن أن يلتزم حينئذ باستحقاق العقاب
على ترك تعلّم التكاليف ، الواجب مقدّمة ، وإن كانت مشروطة بشروط مفقودة حين
الالتفات إلى ما يعلمه إجمالا من الواجبات المطلقة والمشروطة ؛ لاستقرار بناء
العقلاء في مثال الطومار المتقدّم على عدم الفرق في المذمّة على ترك التكاليف
المسطورة فيه بين المطلقة والمشروطة ، فتأمّل. هذا خلاصة الكلام (١٩٠٨) بالنسبة
إلى عقاب الجاهل التارك للفحص العامل بما يطابق البراءة.
______________________________________________________
وأمّا ما ذكره من
مثال الطومار فيمكن أن يمنع كون الذمّ فيه لتفويت الواجبات المشروطة قبل زمان
تحقّق شرط وجوبها ، كما يظهر ممّا ذكرناه. ولعلّه إلى ما ذكرناه أشار المصنّف رحمهالله بالأمر بالتأمّل.
١٩٠٨. اعلم أنّه قد بقي الكلام في عقاب الجاهل القاصر ، ولم
يتعرّض له المصنّف رحمهالله ، ولعلّه لقلّة وجوده في الخارج. والكلام فيه أيضا في عمله
تارة من حيث العقاب ، واخرى من حيث الصحّة والفساد ، فالكلام فيه في مقامين.
أمّا المقام
الأوّل فاعلم أنّ القصور تارة ينشأ من عدم تحصيل المكلّف حظّا من العلم يتمكّن به
من استعلام الأحكام عن أدلّتها واخرى من جهة سنوح العوارض الخارجة ، وإن كان ذا
ملكة قدسيّة يقتدر بها على استعلامها إن لم تسنح هذه السوانح ، كالمرض أو الحبس
المانعين من الفحص ، أو عدم وجود كتب الأخبار والاستدلال عنده ، ونحو ذلك. أمّا
الأوّل فوظيفته التقليد بلا إشكال.
وأمّا الثاني فهل
يجوز له العمل على طبق البراءة ، لعموم أدلّتها بعد فرض عجزه عن الفحص ، أو يجب
عليه العمل بالاصول الجارية في الموارد الشخصيّة ، أو يجب عليه الاحتياط بالأخذ
بأوثق الاحتمالات ، لعلمه إجمالا بالأحكام الواقعيّة ، فيرجع شكّه إلى الشكّ في
المكلّف به دون التكليف ، أو يجب عليه تقليد مجتهد حيّ عالم بالأحكام ، لعموم
أدلّة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ، وإن كان متمكّنا من استعلام الأحكام لو لا
سنوح السوانح الخارجة؟ وجوه أوجهها الأخير.
.................................................................................................
______________________________________________________
وأمّا الأوّل فيرد
عليه أنّ المقتضي لجواز الرجوع إلى أصالة البراءة ليس مجرّد الجهل بالواقع ، بل هو
بعد الفحص وعدم وجدان الدليل الناقل. فمجرّد الجهل مع العجز عن الفحص لا يوجب
الرجوع إليها في حكم العقل ، لعدم صلوحه للعذر عنده ، مع أنّه قد يتردّد الأمر بين
المتباينين كالظهر والجمعة ، وهو ليس بمورد للبراءة. مضافا إلى ما ذكر في الوجه
الثالث من قضيّة العلم الإجمالي. نعم ، يدفعه عدم اختصاص محلّ الكلام بذلك ، لكونه
أعمّ منه وممّا ثبت جميع أبواب الفقه إلّا مسألة واحدة ، وقصرت يد المكلّف عن
الفحص فيها.
ويرد على ما عدا
الأخير من الوجوه المذكورة أيضا : أنّ العمل بالاصول ـ سواء كانت هي البراءة أو
الاحتياط أو غيرهما ـ إنّما هو فيما لم يقم دليل على تعيين أحد طرفي الشبهة ، ولذا
لا يجب الاحتياط في الشبهة المحصورة مع قيام البيّنة على نجاسة أحد طرفيها أو
طهارته. وقد عرفت وجود الأدلّة على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ، والمراد بوجوب
التقليد عليه وجوبه تخييرا بينه وبين العمل بالاحتياط ، لا وجوبه تعيينا ، إذ هذا
الجاهل لا يقصر عن سائر الجهّال الذين قلنا بجواز ترك طريقي الاجتهاد والتقليد لهم
، وجواز الأخذ بالاحتياط.
ومن هنا يسقط ما
سمعناه من بعض مشايخنا مذاكرة من التفصيل بين ما لو قلنا بوجوب التقليد للأدلّة
الخاصّة ، وبين ما لو قلنا بوجوبه من باب الاضطرار ، وعدم وجود طريق أقرب إلى
الواقع منه للعامّي ، كما قيل بجواز تقليد الأموات والمجتهد الفاسق مع عدم وجود
المجتهد العادل الحيّ ، نظرا إلى إمكان منع وجوب التقليد على الثاني في محلّ الفرض
، إذ الحاكم بجواز التقليد حينئذ هو العقل ، وهو حينئذ لا يحكم بوجوبه تعيينا. نعم
، ظاهر الفقهاء هو تقديم التقليد على الاحتياط ، كما يظهر من فتواهم بوجوب تقليد
الأموات والمجتهد الفاسق مع عدم وجود العادل الحيّ. ووجه الضعف واضح ممّا ذكرناه.
ووجه عدم تجويز المشهور للعمل بالاحتياط إن ثبت ، إنّما هو لأجل بطلان عمل تارك
طريقي الاجتهاد والتقليد عندهم.
.................................................................................................
______________________________________________________
هذا كلّه فيما
أمكن التقليد لمجتهد حيّ عادل. وإن تعذّر فهل يجوز العمل بأصالة البراءة في موارد
الشكّ في التكليف ، وبالاحتياط في موارد الشكّ في المكلّف به ، لعموم أدلّتها ، أو
يجب عليه الاحتياط مطلقا ، لوجود المقتضي وهو العلم الإجمالي بالأحكام الواقعيّة ،
وعدم المانع وهو أدلّة وجوب التقليد؟ وجهان.
وقد يفصّل في
المقام بأنّ القصور عن الفحص إن كان عن أغلب المسائل الفقهيّة ، بأن كان العمل
بأصالة البراءة في تلك المسائل موجبا لإلغاء أحكام كثيرة في الواقع ، وجب عليه
الاحتياط حينئذ ، لوجود المقتضي وعدم المانع كما عرفت. وإن كان في بعض الموارد
بحيث لا يحصل من ملاحظة اجتماع هذه الموارد علم إجمالي بالواقع مع قطع النظر عن
العلم الإجمالي الحاصل في الموارد الشخصيّة ، كما في مثال الظهر والجمعة والقصر
والإتمام ، جاز عليه العمل بالاصول الجارية في مواردها. أما العمل بأصالة الاحتياط
والاستصحاب في مواردهما فواضح. وأمّا البراءة فلوجود المقتضي بالفرض ، وهو الشكّ
في التكليف ، وعدم المانع ، لأنّ المانع إمّا هو العلم الإجمالي ، وهو مفروض
الانتفاء ، وإمّا وجوب دفع الضرر المحتمل ، وهو إن كان موجبا لوجوب الاحتياط وجب
ذلك بعد الفحص أيضا في موارد إمكانه ممّا كان الشكّ فيه في التكليف ، لوضوح عدم
اندفاع احتمال الضرر بالفحص ، إذ غايته حصول الظنّ بعدم الدليل ، وهو لا يرفع
احتماله ، مع أنّ قبح التكليف بلا بيان يدفع احتماله كما قرّرناه في محلّه.
وفيه ما تقدّم من
أنّ العقل إنّما يعذر الجاهل بعد الفحص وعدم وجدان الدليل لا مطلقا ، وإلّا لم يجب
الفحص من رأس. ومجرّد القصور عن الفحص لا يوجب حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان
كما هو واضح. فالأظهر وجوب الاحتياط مطلقا إن لم يستلزم العسر والحرج المنفيّين في
الشرع ، وإلّا وجب تقليد الأموات من باب حجّية مطلق الظنّ. ومن هنا يمكن تقديم قول
المشهور من الأموات على غيرهم إن كان هنا قول مشهور منهم ، وإلّا فمن كان أوثق في
وأمّا الكلام في الحكم الوضعي : وهي
صحّة العمل الصادر من الجاهل وفساده ، فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات (١٩٠٩)
واخرى في العبادات.
أمّا المعاملات : فالمشهور فيها أنّ
العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفته ، سواء
______________________________________________________
الفتوى ـ كالمحقّق
والشهيد وأمثالهما ـ على غيره.
وأمّا المقام
الثاني فإنّا إذا قلنا بوجوب الاحتياط أو التقليد على القاصر ، وأخذ في العمل
بخلاف الطريقين ، كما إذا صلّى بدون السورة من دون تقليد ، فالأقوى هو الحكم بفساد
عباداته مطلقا ، طابقت الواقع أم لا ، لعدم تأتّي قصد القربة من الشاكّ في صحّة
عمله. اللهمّ إلّا أن تفرض الغفلة عن احتمال فساد عمله. نعم ، ربّما يقال بتأتّي
ذلك من بعض المنغمرين في المعاصي من حكّام الجور وأمثالهم ، لأنّك إن نبّهتهم على
غصبيّة لباسهم أو مكانهم ، وأنّ ذلك موجب لفساد العبادة ، لا يصغون إليك ، ويقصدون
التقرّب مع ذلك في عباداتهم.
وبالجملة ، إنّ
مطابقة العمل للواقع إنّما تجدي في صحّة العبادة مع تحقّق قصد القربة لا مطلقا.
وأمّا المعاملات فالأقوى صحّتها مع انكشاف مطابقتها للواقع بعد تحقّق قصد الإنشاء
في العقود والإيقاعات منها ، لعدم اعتبار قصد القربة فيها ليسري الفساد إليها من
جهته. وأمّا في مثل الطهارة والنجاسة فالأمر أوضح. ويظهر الكلام في كفاية المطابقة
الاتّفاقيّة في الحكم بالصحّة ، وكذا المراد من الواقع الذي اعتبر مطابقة العمل له
، وكذلك في إمكان قصد الإنشاء من الجاهل ، ممّا ذكره المصنّف رحمهالله في الجاهل المقصّر ، فتدبّر.
هذا كلّه في
الجاهل القاصر عن الفحص المقصّر في العمل. وأمّا الجاهل الذي وظيفته التقليد من
أوّل الأمر ، فالكلام في صحّة عباداته ومعاملاته مع تركه لطريقي التقليد والاحتياط
فكما ذكرناه.
١٩٠٩. بالمعنى الأعمّ ، أعني : ما لا تحتاج صحّته إلى قصد
القربة.
وقعت عن أحد الطريقين
أعني الاجتهاد والتقليد أم لا عنهما ، فاتّفقت المطابقة
للواقع ؛ لأنّها من قبيل الأسباب لامور شرعيّة ، فالعلم والجهل لا مدخل له في
تأثيرها وترتّب المسبّبات عليها.
فمن عقد على امرأة عقدا لا يعرف تأثيره
في حلّية الوطء فانكشف بعد ذلك صحّته ، كفى في صحّته من حين وقوعه ، وكذا لو انكشف
فساده رتّب عليه حكم الفاسد من حين الوقوع. وكذا من ذبح ذبيحة بفري ودجيه ، فانكشف
كونه صحيحا أو فاسدا. ولو رتّب عليه أثرا قبل الانكشاف ، فحكمه في العقاب ما تقدّم
من كونه مراعى بمخالفة الواقع ، كما إذا وطأها ، فإنّ العقاب عليه مراعى. وأمّا
حكمه الوضعي ـ كما لو باع لحم تلك الذبيحة ـ فكما ذكرنا هنا من مراعاته حتى ينكشف
الحال.
ولا إشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أدلّة
(١٩١٠) سببيّة تلك المعاملات ، ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلّا من بعض مشايخنا
(١٩١١) المعاصرين قدسسره
حيث أطال الكلام هنا في تفصيل ذكره بعد مقدّمة (١٩١٢) هي : أنّ العقود والإيقاعات
بل كلّ ما جعله الشارع سببا ، لها حقائق واقعيّة هي ما قرّره الشارع أوّلا ،
وحقائق ظاهريّة هي ما يظنّه المجتهد أنّه ما وضعه الشارع ، وهي قد تطابق الواقعيّة
وقد تخالفها ، ولما
______________________________________________________
١٩١٠. يظهر تحقيق الكلام فيه ممّا سيذكره المصنّف رحمهالله من كون هذه الأسباب الشرعيّة كالامور الواقعيّة غير
المجعولة ، في عدم توقّف تأثيرها على قيام طريق علمي أو ظنّي عليها. وسنشير إلى
توضيحه إن شاء الله تعالى.
١٩١١. هو الفاضل النراقي في مناهجه.
١٩١٢. قد ذكر في تحقيق ما بنى عليه مقدّمتين ، إحداهما : ما ذكره
المصنّف رحمهالله والاخرى : أنّه لا شكّ في أنّه لا تكليف فوق العلم
والاعتقاد ، ويلزمه أن لو اعتقد أحد ترتّب أثر على شيء بحيث لم يحتمل خلافه ترتّب
عليه في حقّه.
__________________
لم يكن لنا سبيل في
المسائل الاجتهاديّة إلى الواقعيّة ، فالسبب والشرط والمانع في حقّنا هي الحقائق
الظاهريّة ، ومن البديهيّات التي انعقد عليها الإجماع بل الضرورة أنّ ترتّب الآثار
على الحقائق الظاهريّة يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ؛ فإنّ ملاقاة الماء القليل
للنجاسة سبب لتنجّسه عند واحد دون غيره ، وكذا قطع الحلقوم للتذكية والعقد الفارسي
للتمليك أو الزوجيّة.
وحاصل ما ذكره من التفصيل : أنّ غير
المجتهد والمقلّد على ثلاثة أقسام ؛ لأنّه إمّا غافل عن احتمال كون ما أتى به من المعاملة
مخالفا للواقع وإمّا أن يكون غير غافل ، بل يترك التقليد مسامحة. فالأوّل ، في حكم
المجتهد والمقلّد ؛ لأنّه يتعبّد باعتقاده ـ كتعبّد المجتهد باجتهاده والمقلّد
بتقليده ـ ما دام غافلا ، فإذا تنبّه فإن وافق اعتقاده قول من يقلّده فهو ، وإلّا
كان كالمجتهد المتبدّل رأيه ، وقد مرّ حكمه في باب رجوع المجتهد. وأمّا الثاني ،
وهو المتفطّن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع : فإمّا أن يكون ما صدر
عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي الصادر من الشارع ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل
كان حكم المعاملة ثابتا بالظنون الاجتهاديّة.
فالأوّل ، يترتّب عليه الأثر مع
الموافقة ولا يترتّب عليه مع المخالفة ؛ إذ المفروض أنّه ثبت من الشارع قطعا أنّ
المعاملة الفلانيّة سبب لكذا وليس معتقدا لخلافه حتّى يتعبّد بخلافه ، ولا دليل
على التقييد (١٩١٣) في مثله بعلم واعتقاد ، ولا يقدح كونه محتملا للخلاف أو ظانا
به ؛ لأنّه مأمور (١٩١٤) بالفحص والسؤال ، كما أنّ من اعتقد حلّية الخمر مع احتمال
الخلاف يحرم عليه الخمر وإن لم
______________________________________________________
فمن اعتقد حلّية
الزوجة بعقد باطل واقعا تحلّ عليه ما دام كذلك ، كما تحلّ الأجنبيّة باعتقاد أنّها
زوجته ، ومن اعتقد بطلان عقد صحيح يحرم عليه المعقودة به ما دام كذلك ، كما تحرم
الزوجة باعتقاد أنّها أجنبيّة.
١٩١٣. أي : تقييد الحكم بترتّب الأثر مع الموافقة ، بل يكفي فيه
مجرّد الموافقة الاتّفاقيّة.
١٩١٤. تعليل للمنفي.
يسأل (١٩١٥) ؛ لأنّه
مأمور بالسؤال.
وأمّا الثاني ، فالحقّ عدم ترتّب الأثر
في حقّه ما دام باقيا على عدم التقليد ، بل وجود المعاملة كعدمها ، سواء طابقت على
أحد الأقوال أم لا ؛ إذ المفروض عدم القطع بالوضع الواقعي من الشارع ، بل هو مظنون
للمجتهد ، فترتّب الأثر إنّما هو في حقّه.
ثمّ إن قلّد بعد صدور المعاملة المجتهد
القائل بالفساد ، فلا إشكال فيه. وإن قلّد من يقول بترتّب الأثر ، فالتحقيق فيه
التفصيل بما مرّ في نقض الفتوى بالمعنى الثالث ، فيقال إنّ ما لم يختصّ أثره
بمعيّن أو بمعيّنين كالطهارة والنجاسة والحلّية والحرمة وأمثالها ، يترتّب عليه
الأثر ، فإذا غسل ثوبه من البول مرّة بدون تقليد أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم
مثلا كذلك ، ثمّ قلّد من يقول بكفاية الأوّل في الطهارة والثاني في التذكية ،
ترتّب الأثر على فعله السابق ؛ إذ المغسول يصير طاهرا بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك
، وكذا المذبوح حلالا بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك ، ولا يشترط كونه مقلّدا حين
الغسل والذبح.
وأمّا ما يختصّ أثره بمعيّن أو معيّنين
، كالعقود والإيقاعات وأسباب شغل الذمّة وأمّا ما يختصّ أثره بمعيّن أو معيّنين ،
كالعقود والإيقاعات وأسباب شغل الذمّة وأمثالها ، فلا يترتّب عليه الأثر ؛ إذ آثار
هذه الامور لا بدّ وأن تتعلّق بالمعيّن ؛ إذ لا معنى لسببيّة عقد صادر عن رجل خاصّ
على امرأة خاصّة لحلّيتها على كلّ من يرى جواز هذا العقد ومقلّديه. وهذا الشخص حال
العقد لم يكن مقلّدا ، فلم يترتّب في حقّه الأثر كما تقدّم ، وأمّا بعده وإن دخل
في مقلّديه ، لكن لا يفيد لترتّب الأثر في حقّه ؛ إذ المظنون لمجتهده سببيّة هذا
العقد متّصلا بصدوره للأثر ولم يصر هذا سببا كذلك.
وأمّا السببيّة المنفصلة فلا دليل عليها
؛ إذ ليس هو مظنون المجتهد ولا دليل على كون الدخول في التقليد كإجازة المالك ،
والأصل في المعاملات الفساد. مع أنّ عدم ترتّب الأثر كان ثابتا قبل التقليد
فيستصحب ، انتهى كلامه ملخّصا. والمهمّ في المقام بيان ما ذكره في المقدّمة من أنّ
كلّ ما جعله الشارع من الأسباب لها حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة.
______________________________________________________
١٩١٥. وإن سأل وثبتت الحرمة بطريق أولى.
فنقول ـ بعد الإغماض عمّا هو التحقيق
(١٩١٦) عندنا تبعا للمحقّقين من أنّ التسبيبات الشرعيّة راجعة إلى تكاليف شرعيّة ـ
: إنّ الأحكام الوضعيّة على القول بتأصّلها هي الامور الواقعيّة المجعولة (١٩١٧)
للشارع ، نظير الامور الخارجيّة الغير المجعولة كحياة زيد وموت عمرو ، ولكنّ
الطريق إلى تلك المجعولات كغيرها قد يكون هو العلم وقد يكون هو الظنّ الاجتهادي أو
التقليد ، وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر وقد يحصل معه وقد يحصل
بعده. ولا فرق بينهما في أنّه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من
حين حصوله.
______________________________________________________
١٩١٦. سيحقّقه في مبحث الاستصحاب.
١٩١٧. توضيح المقام : أنّه غير خفي على ذوي الألباب أنّ سببيّة
الأسباب الخارجة ـ كتأثير الحرارة والبرودة في الحاسّة ونحوهما ـ تابعة على كيفيّة
وجوداتها التكوينيّة ، من حيث اقتضائها للتأثير مطلقا أو في حال دون اخرى ، على
حسب استجماعها لشرائط التأثير وعدم المانع منه وعدمهما. وإذا ثبتت سببيّة شيء لشيء
إمّا مطلقا أو في الجملة ، فكما أنّ تأثير هذا الشيء تابع على وجوده الواقع ، سواء
كان معلوما أم مظنونا أم مشكوكا فيه ، كذلك الأسباب الشرعيّة ، فإنّها وإن كانت
قابلة لجعلها سببا في حال دون اخرى ، كتأثير عقد النكاح في إحداث علاقة الزوجيّة
مع كون الصيغة عربيّة لا فارسيّة ، إلّا أنّه إذا ثبتت السببيّة مطلقا أو في
الجملة لا تختلف الحال في تأثيرها بين كون وجود السبب معلوما أو مظنونا أو مشكوكا
فيه ، فلا يشترط تأثيره بقيام طريق عقلي أو شرعيّ عليه وإن كان قابلا لذلك ، وذلك
لأنّ الطريق المثبت له إمّا هو الطريق العقلي ـ أعني : القطع مطلقا ، والظنّ عند
الانسداد الأغلبي بناء على اعتباره من باب الحكومة دون الكشف ـ أو الطريق الشرعيّ
المخصوص كالظنون الخاصّة.
أمّا الأوّل فواضح
، لعدم اعتبار شيء في حجيّة القطع ـ وكذا الظنّ عند الانسداد ـ سوى الكشف عن الواقع.
فلا يفرّق في اعتبار مؤدّاهما فيما تعلّقا بصحّة
.................................................................................................
______________________________________________________
بطلانه أوّلا
مقطوعا به أو مظنونا أو مشكوكا فيه ثمّ حصل القطع بصحّته ، وانكشف بطلان الاعتقاد
الأوّل ، فمقتضى الاعتقاد الثاني المعتبر من باب محض الكشف هو تأثير العقد من حين
وقوعه لا من حين حصولهما. ودعوى إمكان اشتراط تأثير العقد بحصول الاعتقاد المذكور
ضعيفة ، إذ المقطوع أو المظنون كون العقد مؤثّرا من حين وقوعه ، فكيف يتأخّر
تأثيره عنهما؟ وبعبارة اخرى : أنّ مقتضى تأخّر تأثيره عنهما اعتبارهما من باب
الموضوعيّة دون الكشف ، وهو خلاف المفروض.
وأمّا الثاني فإنّه
وإن أمكن أن يقال : إنّ المؤثّر من العقود مثلا ما قام طريق شرعيّ عليه ، بمعنى
تأثيره من حين قيام الطريق لا من حين وقوعه ، نظرا إلى عدم كون اعتبار الطرق
الشرعيّة من باب الطريقيّة المحضة كالقطع أو الظنّ المطلق على ما عرفت ، إلّا أنّ
ذلك خلاف ظاهر أدلّة اعتبارها ، لأنّ ظاهرها اعتبارها من باب الطريقيّة والكشف ،
وإن قلنا بتضمّنها لوجود مصلحة فيها متداركة لمصلحة الواقع على تقدير تخلّفها عنه
، ومقتضى اعتبارها من باب الكشف ثبوت مؤدّياتها في الخارج ، ولا ريب أنّ مؤدّى
الطريق صحّة العقد من حين وقوعه لا من حين قيام الطريق ، ولذا قلنا بعدم الإجزاء
في الأحكام الظاهريّة والعذريّة ، وكذا بوجوب تجديد المعاملات عند تجدّد رأي
المجتهد.
وإذا حقّقت ذلك
ظهر لك مواقع النظر في كلام المفصّل. منها قوله : «كالمجتهد المتبدّل رأيه» لأنّ
قياس العامي المعتقد بحكم في واقعة ـ لأجل سكونه إلى أبويه وأمثالهما ـ على
المجتهد واضح الفساد ، وإن كان يظهر مثله من المحقّق القمّي رحمهالله أيضا في غير موضع من كتابه ، لأنّ غاية ما يترتّب على
اعتقاد العوام عدم المؤاخذة على عمله ما دام اعتقاده باقيا ، لا تأثير اعتقاده في
صحّة عمله مع مخالفته للواقع ، لأنّ هذا هو القدر الثابت من حكم العقل بجواز عمله
باعتقاده. فالقول بالإجزاء في الأوامر الظاهريّة الشرعيّة لا يلازم القول به فيما
نحن فيه ، لعدم ثبوت
إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان العقد
الصادر من الجاهل سببا للزوجيّة ، فكلّ من حصل له إلى سببيّة هذا العقد طريق عقلي
أعني العلم أو جعلي بالظنّ الاجتهادي أو التقليد ، يترتّب في حقّه أحكام تلك
الزوجيّة من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما ؛ فإنّ أحكام زوجيّة هند لزيد ليست
مختصّة بهما ، فقد يتعلّق بثالث حكم
______________________________________________________
أمر شرعيّ
بالمأتيّ به ولو بحسب العقل حتّى يتأتّى فيه القول بالإجزاء. ونحوه الكلام في قطع
المجتهد بحكم في بعض الوقائع ، لكون القطع مطلقا طريقا عقليّا لا شرعيّا. وأوضحنا
الكلام فيما يتعلّق بالمقام في مبحث الإجزاء وغيره.
ومنها قوله : «إذ
المفروض عدم القطع ...» ، إذ قد عرفت عدم الفرق بين القطع والظنّ ، فراجع.
ومنها قوله : «وأمّا
ما يختصّ أثره ...» ، لأنّ دعوى الفرق بين العقود والإيقاعات وما ذكره من مثال
الطهارة والتذكية غير واضحة ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله بقوله : «فإنّ أحكام زوجيّة هند لزيد ...».
ومنها قوله : «فلم
يترتّب في حقّه الأثر ...» ، لأنّه إن أراد عدم ترتّبه عند الفاعل الجاهل بالواقع
فهو مسلّم ، إلّا أنّه غير مجد. وإن أراد عدم ترتّبه في الواقع المنكشف بالتقليد
بعد إيقاع العمل فممنوع ، لما عرفت من كون الطرق الشرعيّة كواشف عن صحّة العمل أو
بطلانه من حين وقوعه لا من حين قيام الطريق. ومن هنا يظهر فساد قوله : «ولم يصر
هذا سببا كذلك ...» ، إذ غاية الأمر عدم ثبوت السببية عنده قبل التقليد ، أمّا
بعده فهو يكشف عن ثبوتها من أوّل الأمر.
ومنها قوله : «والأصل
في المعاملات الفساد» لأنّ جميع ما ذكره في صورة اختصاص الأثر بمعيّن أو معيّنين
من قضيّة انفصال السببيّة وأصالة الفساد ، والاستصحاب جار في صورة عدم الاختصاص
أيضا ، كما هو واضح.
ومنها قوله «فيستصحب
...» ، لحكومة الأدلّة الاجتهاديّة على الاصول العمليّة ، وقد عرفت كون التقليد
كاشفا عن صحّة العقد من أوّل الأمر.
مترتّب على هذه
الزوجيّة كأحكام المصاهرة وتوريثها منه (١٩١٨) ، والإنفاق عليها (١٩١٩) من ماله
وحرمة العقد عليها حال حياته. ولا فرق بين حصول هذا الطريق حال العقد أو قبله أو
بعده.
ثمّ إنّه إذا اعتقد السببيّة وهو في
الواقع غير سبب ، فلا يترتّب عليه شيء في الواقع. نعم لا يكون مكلّفا (١٩٢٠)
بالواقع ما دام معتقدا ، فإذا زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه.
وبالجملة ، فحال الأسباب الشرعيّة حال
الامور الخارجيّة كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد
مضيّ مدّة من موته وبين قيام الطريق الشرعيّ في وجوب ترتيب آثار الموت من حينه ،
فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببيّة العقد لأثر بعد صدوره وبين الظنّ الاجتهادي
به بعد الصدور ؛ فإنّ مؤدّى الظنّ الاجتهادي الذي يكون حجّة له وحكما ظاهريّا في
حقّه هو كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجيّة بين زيد وهند ،
والمفروض أنّ دليل حجيّة هذا الظنّ لا يفيد سوى كونه طريقا إلى الواقع ، فأيّ فرق
بين صدور العقد ظانّا بكونه سببا وبين الظنّ به بعد صدوره؟ وإذا تأمّلت فيما ذكرنا
عرفت مواقع النظر (١٩٢١) في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها.
ومحصّل ما ذكرنا : أنّ الفعل الصادر من
الجاهل باق على حكمه الواقعي التكليفي والوضعي ، فإذا لحقه العلم أو الظنّ
الاجتهادي أو التقليد ، كان هذا الطريق كاشفا حقيقيّا أو جعليّا عن حاله حين
الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف
______________________________________________________
١٩١٨. أي : إعطاء الورثة أو الحاكم الإرث من ماله لها.
١٩١٩. أي : إنفاق الحاكم أو وليّ الصغير أو المجنون عليها من
ماله إذا كان مسافرا أو محبوسا أو مجنونا ، أو غير ذلك ممّا يتّفق له من الموانع
الشرعيّة أو العقليّة التي تمنع من مباشرة الإنفاق له عليها.
١٩٢٠. هذه ثمرة قيام الطريق العقلي أو الشرعيّ.
١٩٢١. كما عرفتها مستوفاة ممّا قدّمناه.
بل حقّقنا في مباحث
الاجتهاد والتقليد : أنّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد أيضا باق على حكمه
الواقعي ، فإذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان كاشفا عن حاله حين الصدور ، فيعمل
بمقتضى ما انكشف خلافا لجماعة
حيث تخيّلوا أنّ الفعل الصادر عن الاجتهاد أو التقليد إذا كان مبنيّا على الدوام
واستمرار الآثار ـ كالزوجيّة والملكيّة ـ لا يؤثّر فيه الاجتهاد اللاحق. وتمام
الكلام في محلّه (١٩٢٢).
وربما يتوهّم الفساد في معاملة الجاهل
من حيث الشكّ في ترتّب الأثر على ما يوقعه ، فلا يتأتّى منه قصد الإنشاء في العقود
والإيقاعات. وفيه : أنّ قصد الإنشاء إنّما يحصل بقصد تحقّق مضمون الصيغة ـ وهو
الانتقال في البيع والزوجيّة في النكاح ـ ، وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا فضلا
عن الشكّ فيه ؛ ألا ترى أنّ الناس يقصدون التمليك في القمار وبيع المغصوب وغيرهما
من البيوع الفاسدة.
وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في صحّة
معاملة الجاهل مع
انكشافها بعد العقد ، بين شكّه في الصحّة حين صدورها وبين قطعه بفسادها ، فافهم.
هذا كلّه حال المعاملات. وأمّا العبادات
فملخّص الكلام فيها : أنّه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما يقتضيه البراءة ،
كأن صلّى بدون السورة ، فإن كان حين العمل متزلزلا في صحّة عمله بانيا على
الاقتصار عليه في الامتثال ، فلا إشكال في الفساد وإن انكشف الصحّة بعد ذلك ، بلا
خلاف في ذلك ظاهرا ؛ لعدم تحقّق نيّة القربة ؛ لأنّ الشاكّ في كون المأتيّ به
موافقا للمأمور به كيف يتقرّب به؟
وما يرى من الحكم بالصحّة فيما شكّ في
صدور الأمر به على تقدير صدوره ، كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر
وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا من باب الاحتياط ، فلا يشبه ما نحن فيه ؛ لأنّ
الأمر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد امتثاله إلّا بهذا النحو ، فهو أقصى ما
يمكن هناك من الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فإنّ
امتثاله لا يكون
______________________________________________________
١٩٢٢. قد استوفينا الكلام في ذلك في مبحث الإجزاء بما لا مزيد
عليه.
__________________
إلّا بإتيان ما يعلم
مطابقته له وإتيان ما يحتمله ـ لاحتمال مطابقته له ـ لا يعدّ إطاعة عرفا. وبالجملة
: فقصد التقرّب شرط في صحّة العبادة إجماعا ـ نصّا وفتوى ـ وهو لا يتحقّق مع الشكّ
في كون العمل مقرّبا.
وأمّا قصد التقرّب في الموارد المذكورة
من الاحتياط ، فهو غير ممكن على وجه الجزم ، والجزم فيه غير معتبر إجماعا ؛ إذ
لولاه لم يتحقّق احتياط في كثير من الموارد مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا. وكيف
كان : فالعامل بما يقتضيه البراءة مع الشكّ حين العمل ، لا يصحّ عبادته وإن انكشف
مطابقته للواقع.
أمّا لو غفل عن ذلك أو سكن فيه إلى قول
من يسكن إليه ـ من أبويه وأمثالهما ـ فعمل باعتقاد التقرّب ، فهو خارج عن محلّ
كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص بما يقتضيه البراءة ؛ إذ مجرى
البراءة في الشاكّ دون الغافل ومعتقد الخلاف. وعلى أيّ حال فالأقوى صحّته إذا
انكشف مطابقته للواقع ؛ إذ لا يعتبر في العبادة إلّا إتيان المأمور به على قصد
التقرّب ، والمفروض حصوله.
والعلم بمطابقته للواقع أو الظنّ بها من
طريق معتبر شرعيّ غير معتبر في صحّة العبادة ؛ لعدم الدليل ؛ فإنّ أدلّة وجوب رجوع
المجتهد إلى الأدلّة ورجوع المقلّد إلى المجتهد إنّما هي لبيان الطرق الشرعيّة التي
لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع ، لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه
الطرق ، كما لا يخفى على من لاحظها. ثمّ إنّ مرآة مطابقة (١٩٢٣) العمل الصادر
للواقع : العلم بها أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلّد.
وتوهّم : أنّ ظنّ المجتهد أو
فتواه لا يؤثّر في الواقعة السابقة غلط ؛ لأنّ مؤدّى ظنّه نفس الحكم الشرعيّ
الثابت للأعمال الماضية والمستقبلة.
وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو
بعد الرجوع ؛ فإنّ فتوى المجتهد بعدم
______________________________________________________
١٩٢٣. لا يخفى أنّ الوجوه الأربعة المذكورة في الأمر الأوّل آتية
هنا أيضا.
__________________
وجوب السورة كالعلم
في أنّ أثرها قبل العمل عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل عدم وجوب إعادة
الصلاة الواقعة من غير سورة ، كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات.
ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل
الفحص بامور : الأوّل : هل
العبرة في باب المؤاخذة والعدم بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له
ومخالفته ، وهو الواقع الأوّلي الثابت في كلّ واقعة عند المخطّئة؟ فإذا فرضنا
العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه
بعد الفحص على الحلّية ، فيعاقب ، ولو عكس الأمر لم يعاقب؟ أو العبرة بالطريق
الشرعيّ المعثور عليه بعد الفحص ، فيعاقب في صورة العكس دون الأصل؟ أو يكفي مخالفة
أحدهما ، فيعاقب في الصورتين؟ أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما ، فلا عقاب
في الصورتين؟ وجوه :
من أنّ التكليف الأوّلي (١٩٢٤) إنّما هو
بالواقع ، وليس التكليف بالطرق
______________________________________________________
١٩٢٤. لأنّ المقصود الأوّلي من تكليف العباد امتثال الأحكام
الواقعيّة الأوّلية ، والطرق الشرعيّة إنّما اعتبرت لكونها غالبة الإيصال إليها لا
من حيث الموضوعيّة ، وموافقة هذه الطرق إنّما تجدي بالنسبة إلى من سلك بها ، لا
بالنسبة إلى من أهملها وسلك في امتثال الأحكام الشرعيّة سبيل هواه.
وهو كما ترى في
غاية من الضعف ، لأنّ الكلام في عمل الجاهل على طبق البراءة من دون فحص ، أعمّ
ممّا أمكن بعد الفحص في مورد العمل الوصول إلى الواقع على سبيل القطع وإلى طريق
شرعيّ معتبر ، وممّا لم يمكن فيه ذلك ، لأجل عدم وجود طريق قطعي وظنّي في الواقع ،
وممّا أمكن فيه أحدهما دون الآخر. وعلى الأوّل : أعمّ ممّا وافق الطريق للواقع
وممّا خالفه. وعلى جميع التقادير : أمكن فيه الاحتياط أم لا ، كما إذا دار الأمر
بين المحذورين ، كما لو دار الأمر بين
__________________
الظاهريّة إلّا على
من عثر عليها ، ومن أنّ الواقع إذا كان (١٩٢٥) في علم الله سبحانه غير ممكن الوصول
إليه ، وكان هنا طريق مجعول مؤدّاه بدلا عنه ، فالمكلّف
______________________________________________________
وجوب فعل وحرمته.
ولا ريب أيضا أنّه لا فرق في مؤدّيات الأدلّة الدالّة على وجوب العمل بمقتضى الطرق
الشرعيّة ، بين من كان طالبا للوصول إليها والعمل بمؤدّاها ، ومن أعرض عنها وأخذ
في عمله سبيل هوى نفسه. نعم ، لا يجب الأخذ بها تعيينا على من تمكّن من تحصيل
العلم بالواقع تفصيلا أو إجمالا بالاحتياط.
وحينئذ فدعوى عدم
ثبوت التكليف بالطرق الظاهريّة إلّا لمن عثر عليها واضحة الفساد ، لأنّه إن اريد
بنفي التكليف عمّن لم يعثر عليها نفيه عمّن لم يعثر عليها بعد الفحص فهو خارج ممّا
نحن فيه. وإن اريد نفيه عمّن لم يعثر عليها قبل الفحص فهو مناف لمقتضى أدلّتها كما
عرفت ، سيّما فيما لا يمكن تحصيل الواقع فيه تفصيلا ولا إجمالا بالاحتياط ، إمّا
لعدم كون الواقعة موردا له بالذات كما عرفت ، أو لعروض المانع منه مع فرض التمكّن
من الفحص ، ووجود الطريق الشرعيّ في الواقع بحيث يصل إليه بعد الفحص. نعم ، تسليم
ثبوت التكليف بها مع وجودها في الواقع ، وإمكان العثور عليها بعد الفحص ، ومنع
تأثير الموافقة الاتّفاقيّة لها حينئذ ، مع مخالفة العمل للواقع في إسقاط العقاب ،
كلام آخر سيوضحه المصنّف رحمهالله عند بيان ما قوّاه.
وممّا قدّمناه من
تعميم محلّ الكلام لما قدّمناه يظهر أنّ قوله في بيان الوجه الثاني : «أنّ الواقع
إذا كان في علم الله سبحانه ...» ، وكذا قوله في بيان الوجه الثالث : «فلأنّه كان
قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط» وكذلك قوله في بيان الوجه الرابع : «ومن عدم
التكليف بالواقع لعدم القدرة» أخصّ من المدّعى. مضافا إلى ضعف الوجوه المذكورة ،
كما يظهر بالتأمّل في بيان ما قوّاه.
١٩٢٥. لا يخفى أنّ الجاهل إذا عمل على طبق البراءة من دون فحص ،
فلا يخلو إمّا أن يكون المقام بحيث لا يمكن فيه الوصول بعد الفحص إلى الواقع ولا
به هو مؤدّى الطريق
دون الواقع على ما هو عليه ، فكيف يعاقب الله سبحانه على شرب العصير العنبي من
يعلم أنّه لن يعثر بعد الفحص على دليل حرمته؟ ومن أنّ كلّا من الواقع ومؤدّى
الطريق تكليف واقعي (١٩٢٦) ، أمّا إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ؛ فلأنّه كان
قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، وعلى إسقاطه عن نفسه بالرجوع إلى الطريق
الشرعيّ المفروض دلالته على نفي التكليف ، فإذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من
مؤاخذته. وأمّا إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعيّ ، فلأنّه قد ترك موافقة
خطاب مقدور على العلم به ؛ فإنّ أدلّة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد
يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة.
ومن عدم التكليف بالواقع (١٩٢٧) ؛ لعدم
القدرة ، وبالطريق الشرعيّ
______________________________________________________
إلى طريق مجعول ،
أو يمكن الوصول فيه إلى الواقع دون الطريق الشرعيّ ، سواء لم يكن هنا طريق أصلا أو
كان ولم يمكن الوصول إليه ، أو بالعكس. وعليه لا يخلو : إمّا أن يكون الطريق
مطابقا للواقع أو مخالفا له ، وإمّا يمكن الوصول إلى كلّ من الواقع والطريق. وعليه
أيضا : إمّا أن يكون الطريق مطابقا للواقع أم مخالفا له. وفي موارد التمكّن من
الوصول إلى الطريق المجعول : إمّا أن يكون الطريق متّحدا أو متعدّدا. وعلى الثاني
: إمّا أن تتوافق الطرق في المؤدّى ، أو تختلف فيه.
ومقتضى ما ذكره من
الوجه أن يكون المدار في باب المؤاخذة وعدمها في القسمين الأوّلين ، وفي القسم
الرابع مع اتّحاد الطريق وموافقته للواقع ، وكذا مع تعدّده مع اتّحاد المؤدّى
والموافقة للواقع ، على الواقع الأوّلي. وفي القسم الثالث مع اتّحاد الطريق ، وكذا
مع تعدّده واتّحاد المؤدّى ، على مؤدّى الطريق. ويشكل الأمر في هذا القسم فيما لو
تعدّد الطريق مع الاختلاف في المؤدّى ، وكذا في القسم الرابع مع مخالفة الطريق
للواقع مع اتّحاده وتعدّده ، لعدم استفادة حكمهما ممّا ذكره كما لا يخفى.
١٩٢٦. إمّا أوّلي أو ثانوي.
١٩٢٧. لا يخفى أنّ مقتضى هذا الوجه ارتفاع التكليف من رأس فيما
لا يمكن
لكونه ثابتا في حقّ
من اطّلع عليه من باب حرمة التجرّي (١٩٢٨) ، فالمكلّف به فعلا
المؤاخذ على مخالفته هو الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق ، فإذا لم
يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة. نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو
التحريم الواقعي مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ، فالموافقة له لازمة من باب
الانقياد وتركها تجرّ. وإذا لم يطّلع على ذلك ـ لتركه الفحص ـ فلا تجرّي أيضا.
وأمّا إذا كان وجوب واقعي وكان الطريق
الظاهري نافيا ؛ فلأنّ المفروض عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمّن
للتكليف متعذّر الوصول إليه ، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف.
والأقوى هو الأوّل ، ويظهر وجهه
بالتأمّل في الوجوه الأربعة. وحاصله : أنّ التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذّر
الوصول إليه تفصيلا ، إلّا أنّه لا مانع (١٩٢٩) من العقاب بعد كون المكلّف محتملا
له قادرا عليه غير مطّلع على طريق شرعيّ
______________________________________________________
تحصيل الواقع فيه
تفصيلا ، وإن أمكن تحصيله إجمالا بالاحتياط ، مع فرض عدم وجود طريق مجعول يمكن
الوصول إليه بالفحص ، وهو كما ترى.
١٩٢٨. متعلّق بقوله «ثابتا» يعني : ثبوت التكليف بالطرق إنّما هو
من باب كون حرمة مخالفته من باب حرمة التجرّي ، فلا يثبت على مخالفتها عقاب من حيث
هو ، لا قبل العثور عليها ولا بعده.
١٩٢٩. مرجعه إلى دعوى وجود المقتضي ، وهي مخالفة العمل للواقع ،
وعدم المانع ، وهو بتقريب ما ذكره.
فإن قلت : إنّه لا
إشكال في كون العمل بالطرق الظاهريّة مانعا من ترتّب العقاب على مخالفة الواقع لو
اتّفقت ، وهو لا بدّ أن يكون لوجود مصلحة في العمل بها ، وإلّا لزم تفويت مصلحة
الواقع على المكلّف من دون تداركها بشيء ، وهو قبيح. وإذا عمل المكلّف على طبق
البراءة من دون فحص ، وكان التكليف ثابتا في
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
الواقع ، وكان هنا
طريق شرعيّ أيضا ناف له لم يعثر عليه المكلّف ، فحينئذ يحتمل أن يكون الطريق
متضمّنا لمصلحة متداركة لمصلحة الواقع ، بحيث يسقط التكليف الواقعي مع موافقة
العمل له ولو من باب الاتّفاق ، من دون أن يكون العمل مستندا إليه.
لا يقال : إنّ
ظاهر أدلّة اعتبار الطرق الشرعيّة كون اعتبارها من باب الطريقيّة والكشف الغالبي
عن الواقعي دون الموضوعيّة ، والقدر المتيقّن من الالتزام بوجود المصلحة المتداركة
فيها إنّما هو في صورة استناد العمل إليها لا مطلقا.
لأنّا نقول : إنّا
لا ندّعي القطع بوجود المصلحة فيها مع الموافقة الاتّفاقيّة ، بل نقول إنّه محتمل.
ومجرّد عدم العلم بالمانع لا يكفي في إعمال المقتضي ، إذ لا بدّ فيه من القطع
بالعدم ، ودعوى القطع به هنا كما ترى.
لا يقال : إنّ
الأصل عدم هذه المصلحة.
لأنّا نقول : إنّه
لا اعتداد بهذا الأصل على مذاق المصنّف رحمهالله ، إذ المرتّب عليه كون العقاب مرتّبا على مخالفة الواقع ،
وهو أثر عقلي لا يثبت بالاصول. مع أنّ قوله : «قادرا عليه» ـ يعني : بالاحتياط ـ على
إطلاقه ممنوع ، إذ قد يدور الأمر بين وجوب فعل وحرمته ، وقد يتعذّر الاحتياط لمانع
خارجي ، كما إذا شكّ في وجوب السورة ، ولكن تعذّرت عليه قراءتها لمانع خارجي ،
فصلّى بدونها من دون فحص عن الأدلّة.
وممّا ذكرناه يظهر
ضعف قوله : «فإذا أخطأ لم يترتّب عليه شيء» لأنّه إن أراد القطع بعدم ترتّبه عليه
، فقد عرفت أنّه لا سبيل إليه. وإن أراد عدم العلم به ، فقد عرفت أنّه غير مجد في
المقام.
ومن هنا يظهر ضعف
مقايسة ما نحن فيه على وجوب الإعادة على تقدير تخلّف الطريق عن الواقع ، لأنّ عدم
وجوب الإعادة مبنيّ على القطع بوجود المصلحة في الطريق ، بحيث تكون متداركة لمصلحة
الواقع على تقدير تخلّفه عن الواقع ، سواء ظهرت مخالفته للواقع بعد العمل به أم لا
، إذ مع احتمال تقيّد مصلحته
ينفيه ، ولا واجدا
لدليل يؤمّن من العقاب عليه مع بقاء تردّده ، وهو العقل والنقل الدالّان على براءة
الذمّة بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه ، وإن احتمل التكليف وتردّد فيه.
وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في
الواقع ، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات الواقعيّة. ولو فرض هنا طريق ظاهري
مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ،
______________________________________________________
بعدم ظهور مخالفته
للواقع قبل خروج الوقت لا بدّ من الإعادة ، لبقاء الأمر الأوّل ، بخلاف ما نحن فيه
، إذ لا بدّ في دعوى ترتّب العقاب على مخالفة الواقع من القطع بعدم المصلحة في
الطريق الذي فرض اتّفاق موافقة العمل له ، ولا يكفي فيه عدم العلم به كما عرفت.
قلت : إنّ ظاهر
أدلّة اعتبار الطرق الظاهريّة ـ كما صرّح به المصنّف رحمهالله ـ كون اعتبارها من
باب الطريقيّة ، والالتزام بتضمّنها للمصلحة المتداركة مع تخلّفها عن الواقع
واستناد العمل إليها إنّما هو من باب الضرورة ، ودفع قبح تفويت مصلحة الواقع مع
التمكّن من الوصول إليها عن الشارع ، ولا ضرورة مع عدم استناد العمل إليها وإن
اتّفقت موافقته لها ، فيقتصر في الخروج من ظاهر الأدلّة على القدر الذي تدعو إليه
الضرورة.
وأمّا ما أوردته
على المقايسة المذكورة ، ففيه : أنّ المطلوب في المقام ـ أعني : إثبات كون المدار
في العقاب على مخالفة الواقع ـ وإن كان مبنيّا على إثبات خلوّ الطريق في صورة عدم
استناد العمل إليه من المصلحة ، وفي مقام إثبات وجوب الإعادة على احتمال تقيّد
مصلحة الطريق بعدم انكشاف الخلاف ، إلّا أنّ الاستشهاد للمدّعى بوجوب الإعادة مع
انكشاف تخلّف الطريق عن الواقع ، إنّما هو من حيث ابتناء كلّ من المدّعى في المقام
ووجوب الإعادة على اعتبار الطرق من باب الطريقيّة دون الموضوعيّة ، وإن اختلفت جهة
الكلام في المقامين بتقريب ما ذكر في السؤال. نعم ، ما أورد على إطلاق قوله : «قادرا
عليه» متّجه كما لا يخفى.
لم يعاقب عليه ؛ لأنّ
مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ، وإنّما هو مجعول
بعنوان كونه طريقا إليه ، فإذا أخطأ لم يترتّب عليه شيء ؛ ولذا لو أدّى عبادة بهذا
الطريق فتبيّن مخالفتها للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها.
نعم ، إذا عثر عليه (١٩٣٠) المكلّف لم
يجز مخالفته ؛ لأنّ المفروض عدم العلم بمخالفته للواقع ، فيكون معصية ظاهريّة من
حيث فرض كونه طريقا شرعيّا إلى الواقع ، فهو في الحقيقة نوع من التجرّي. وهذا
المعنى مفقود مع عدم الاطّلاع على هذا الطريق.
ووجوب رجوع العامّي إلى المفتي لأجل
إحراز الواجبات الواقعيّة ، فإذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ، وإن لم
يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ، ويترتّب عليه
آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم انكشاف الخلاف إلّا استحقاق العقاب على الترك ؛
فإنّه يثبت واقعا من باب التجرّي (١٩٣١).
ومن هنا يظهر أنّه لا يتعدّد العقاب مع
مصادفة الواقع من جهة تعدّد التكليف. نعم ، لو قلنا بأنّ مؤدّيات الطرق الشرعيّة
أحكام واقعيّة ثانويّة ، لزم من ذلك (١٩٣٢) انقلاب التكليف إلى مؤدّيات تلك الطرق
، وكان أوجه الاحتمالات حينئذ الثاني منها.
______________________________________________________
١٩٣٠. حاصله : دعوى حرمة مخالفة الطرق الشرعيّة من باب التجرّي
على تقدير العثور عليها ، وعدمها مع عدم العثور عليها وإن كانت موجودة في الواقع.
وفيه نظر ، لأنّ
الجاهل إذا ترك الاحتياط وعمل على طبق البراءة من دون فحص ، مع احتماله لوجود دليل
ناقل في الواقع ، فهو أيضا نوع من التجرّي ، وهو واضح ، ولذا يستقلّ العقل بوجوب
الاحتياط في صورة عدم الفحص عن الأدلّة.
١٩٣١. على القول بحرمته. وحاصله : أنّ استحقاق العقاب حينئذ
إنّما هو من باب التجرّي ، لا من باب حرمة مخالفة فتوى المفتي ولو مع فرض مخالفتها
للواقع.
١٩٣٢. في إطلاق الملازمة منع ، لأنّها إنّما تتّجه مع رجحان
مصلحة الطريق على مصلحة الواقع ، بحيث أغمض الشارع مع وجوده عن الواقع من رأس ،
بخلاف
الثاني : قد عرفت أنّ الجاهل العامل بما
يوافق البراءة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور ، لا من حيث العقاب
ولا من جهة سائر الآثار ، بمعنى أنّ شيئا من آثار الشيء المجهول ـ عقابا أو غيره
من الآثار المترتّبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ـ لا يرتفع عن الجاهل لأجل جهله.
وقد استثنى الأصحاب (١٩٣٣) من ذلك القصر
والإتمام والجهر والإخفات ،
______________________________________________________
ما لو تساوتا ، إذ
مقتضاه ثبوت التخيير بين العمل بالواقع والطريق ، وعلى هذا التقدير يتّجه الوجه
الرابع كما هو واضح. ثمّ إنّ تحقيق الكلام في كيفيّة جعل الطرق قد تقدّم في مباحث
الظنّ ، فراجع.
١٩٣٣. هذا هو المشهور ، بل حكي عليه الإجماع ، وورد به النصّ.
وقد استثنى جماعة الجاهل بمفطرات الصوم أيضا وإن كان مقصّرا ، لأنّهم قد اختلفوا
فيه على أقوال ، فعن الأكثر ـ بل المشهور ـ فساد الصوم بها ، ووجوب القضاء
والكفّارة عليه. وعن الشيخ في التهذيب وابن إدريس : أنّه إذا جامع أو أفطر جاهلا
بالتحريم لم يجب عليه شيء. وظاهرهما سقوطهما معا. واحتمله في محكيّ المنتهى وعن
المعتبر : الذي يقوى عندي فساد صومه ، ووجوب القضاء دون الكفّارة. وحكاه في
المدارك ـ مع اختياره ـ عن أكثر المتأخّرين.
وقيل بالتفصيل بين
الجاهل المقصّر في السؤال فيجب عليه القضاء والكفّارة ، وبين غير المقصّر فلا يجب
عليه الكفّارة خاصّة. حكاه في الجواهر عن بعض مشايخه ، لأنّ ظاهر من نفى القضاء ـ كما
عرفته من الشيخ والحلّي ـ هو الحكم بصحّة الصوم ، وظاهرهما الحكم بالمعذوريّة من
حيث الحكم الوضعي دون التكليفي. وحينئذ يأتي هنا أيضا الإشكال الذي ذكره المصنّف رحمهالله في استثناء مسألتي الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، ولم
أر من تعرّض للإشكال هنا.
نعم ، قد حكي عن
المنتهى تعليل عدم القضاء والكفّارة برفع القلم عن الجاهل وظاهره دعوى المعذوريّة
من حيث الحكم التكليفي أيضا ، وعليه لا يأتي فيه الإشكال
فحكموا بمعذوريّة
الجاهل (١٩٣٤) في هذين الموضعين. وظاهر كلامهم إرادتهم (١٩٣٥)
______________________________________________________
المذكور ، لابتنائه
كما ستعرفه على بقاء التكليف بالواقع ، وصحّة العمل المأتيّ به.
ومن هنا يظهر أيضا
عدم تأتّي الإشكال المذكور فيما أفتى به جماعة من حلّية أكل الربا مع الجهل بالحكم
مع التقصير ، لتصريحهم بالمعذوريّة بحسب الحكم التكليفي وفساد المعاملة. قال في
الدلائل : «اعلم أنّ المعاوضة الربويّة باطلة من أصلها في القدر الزائد والمساوي ،
عالما وجاهلا ، قاصرا ومقصّرا. لكنّ الدليل دلّ على أنّ الجاهل هنا لا إثم عليه
وإن كان مقصّرا ، وأنّه متى عرف وتاب حلّ له ما مضى من الربا ، وإن كان متميّزا
وصاحبه معروفا ، وإن لم يتب فكالعامد» انتهى.
١٩٣٤. المراد به الجاهل بالجهل المركّب ، لعدم تأتّي قصد القربة
من الجاهل بالجهل البسيط ، فتبطل عبادته من هذه الجهة لا محالة.
١٩٣٥. هذا ظاهر ما سأل عنه الرسّي والرضي السيد المرتضى رضي الله
عنهم ، على ما حكاه عنهم جماعة. قال الأوّل : ما الوجه فيما تفتي به الطائفة من
سقوط فرض القضاء عمّن صلّى من المقصّرين صلاة المتمّم بعد خروج الوقت ، إذا كان
جاهلا بالحكم في ذلك ، مع علمنا بأنّ الجهل بأعداد الركعات لا يصحّ معه العلم
بتفاصيل أحكامها ووجوهها ، إذ من البعيد أن يعلم بالتفصيل مع جهل الجملة التي هي
الأصل ، والإجماع على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، وما لا
يجزي من الصلاة يجب قضائه؟ ويقرب منه سؤال الثاني أيضا.
وأجاب المرتضى عنه
مقرّرا لهما على ما يستفاد من كلامهما من كون الحكم مفروغا منه ، تارة بأنّه يجوز تغيّر الحكم الشرعيّ بسبب الجهل ، وإن كان
__________________
العذر من حيث الحكم
الوضعي ، وهي الصحّة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة ، وهو الذي يقتضيه دليل
المعذوريّة في الموضعين أيضا. فحينئذ يقع الإشكال (١٩٣٦) في أنّه إذا لم يكن
معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الأحكام المجهولة للمكلّف المقصّر ، فيكون
تكليفه بالواقع وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا ، وما يأتي به ـ من الإتمام
المحكوم بكونه مسقطا ـ إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب؟ وإن كان مأمورا به
فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟
ودفع هذا الإشكال إمّا بمنع تعلّق
التكليف فعلا بالواقعي المتروك ، وإمّا بمنع تعلّقه بالمأتيّ به ، وإمّا بمنع
التنافي بينهما. فالأوّل ، إما بدعوى كون القصر (١٩٣٧) مثلا واجبا على المسافر
العالم ، وكذا الجهر والإخفات ، وإمّا بمعنى معذوريّته فيه ، بمعنى كون الجهل بهذه
المسألة كالجهل بالموضوع يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا
______________________________________________________
الجاهل غير معذور.
واخرى بما يقرب منه أيضا من أنّ الجهل وإن لم يعذر صاحبه وهو مذموم ، يجوز أن
يتغيّر معه الحكم الشرعيّ ، ويكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل. وقال في الجواهر
بعد نقله : وكأنّه يريد أنّ الجاهل هنا أيضا غير معذور بالنسبة للإثم وعدمه ، وإن
كان فعله صحيحا للدليل. وستعرف تتمّة كلامه.
١٩٣٦. توضيح الإشكال : أنّ مقتضى عدم معذوريّة المكلّف بحسب
الحكم الواقعي بقاء الأمر بالواقع ، ومقتضى كون المأتيّ به مسقطا عن الواقع كونه
صحيحا ، إذ لا معنى لإسقاط الباطل ، وصحّته فرع الأمر به ، لأنّه معنى الصحّة في
العبادات ، وحينئذ يلزم الأمر بضدّين في آن واحد ، وهو خلف. وحينئذ لا بدّ في دفع
الإشكال ـ كما ذكره المصنّف رحمهالله ـ إمّا من منع أحد
الأمرين ، أو دعوى عدم التضادّ بينهما. والوجوه المذكورة في مقام الجواب عن
الإشكال المذكور راجعة إلى أحدهما.
١٩٣٧. هذا الجواب قد تقدّم عن المرتضى في جواب ما أورده الرسّي
وأخوه الرضي رضي الله عنهم. وحاصله : تغيير الأحكام الواقعيّة بالعلم والجهل ، فالمسافر
العالم بالقصر حكمه القصر في الواقع ، والجاهل به حكمه الإتمام كذلك. وكذا في
مسألة الجهر والإخفات.
بخلاف الحكم الواقعي.
وهذا الجاهل وإن لم يتوجّه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري كما في الجاهل بالموضوع
، إلّا أنّه مستغنى
عنه (١٩٣٨) باعتقاده لوجوب هذا الشيء عليه في الواقع. وإمّا من جهة القول بعدم
تكليف الغافل بالواقع ، وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ، فلا يجب عليه القصر ؛
لغفلته عنه. نعم يعاقب على عدم إزالة الغفلة كما تقدّم استظهاره من صاحب المدارك
ومن تبعه.
______________________________________________________
وفيه أوّلا : أنّه
غير معقول ، إذ مقتضى فرض العلم أو الجهل بحكم كونهما مسبوقين به ، فكيف يكون مدار
وجوده عليهما؟
وثانيا : أنّه
مستلزم للتصويب الذي لا يقول به المصوّبة ، لما عرفت من استلزامه كون مدار الأحكام
الواقعيّة على الاعتقاد. وأمّا عدم قول المصوّبة بذلك ، فلأنّهم إنّما يقولون
بالتصويب في الموارد الخالية من النصّ ، كما في موارد القياس والمصالح المرسلة ،
وقد تقدّم دلالة النصّ والإجماع على حكم ما نحن فيه. اللهمّ إلّا أن يراد من
اختلاف الأحكام بالعلم والجهل تنجّز الحكم الواقعي بالعلم في حقّ العالم ، وحدوث
حكم ظاهري في حقّ الجاهل على حسب اعتقاده ، كحدوث الإباحة الظاهريّة في حقّ الجاهل
بالوجوب والحرمة مع بقاء الحكم الواقعي على حاله في الواقع. ولكن ينافيه ما تقدّم
عند شرح قوله : «وظاهر كلامهم إرادتهم ..» ، من كون ظاهرهم إرادة عدم المعذوريّة
بحسب الحكم الواقعي. ومن هنا قد حمل كلامهم في الجواهر على إرادة قضيّة الترتّب
الذي نقله المصنّف رحمهالله عن كاشف الغطاء قدسسره ، كما ستقف عليه.
١٩٣٨. لأنّه إن أراد الاستغناء ما دام اعتقاد الخلاف باقيا فله
وجه. وكذا إن انكشف الخلاف بعد خروج الوقت ، بناء على كون القضاء بأمر جديد. وأمّا
إن انكشف الخلاف في الوقت فلا وجه له ، إذ لا بدّ حينئذ من الإعادة ، لأنّ المسافر
إذا اعتقد أنّ تكليفه الإتمام وصلّى تامّة ثمّ انكشف خلافها قبل خروج الوقت ، لا
يكون
__________________
وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ،
إلّا أنّ الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة ؛ لقبح خطاب العاجز. وإن كان العجز بسوء
اختياره فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ، لكنّه ليس مأمورا به حتّى يجتمع مع
فرض وجود الأمر بالإتمام. لكن هذا كلّه (١٩٣٩) خلاف ظاهر المشهور ، حيث إنّ الظاهر
منهم ـ كما تقدّم ـ بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل ؛ ولذا
يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ؛ إذ لو لا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان.
والثاني ، منع تعلّق الأمر بالمأتيّ به
والتزام أنّ غير الواجب (١٩٤٠) مسقط عن الواجب ؛ فإنّ قيام ما اعتقد وجوبه مقام
الواجب الواقعي غير ممتنع. نعم ، قد يوجب إتيان (١٩٤١) غير الواجب فوات الواجب ،
فيحرم بناء على دلالة الأمر بالشيء
______________________________________________________
المأتيّ به مجزيا
وإن قلنا بالإجزاء في الأوامر الظاهريّة ، لعدم حدوث أمر ظاهري بسبب الاعتقاد
بالمأتيّ به ، لأنّ غايته المعذوريّة في عدم الإتيان بالواقع ما دام الاعتقاد
باقيا ، لا حدوث أمر من قبل الشارع بالمعتقد ، كما قرّرناه في مسألة الإجزاء ،
واعترف به المصنّف رحمهالله في بعض كلماته.
١٩٣٩. لأنّ مرجع هذه الأربعة إلى عدم تعلّق التكليف بالواقع في
حقّ الجاهل ، إمّا لكون التكليف الواقعي في حقّه ما اعتقده ، وإمّا لعدم تنجّز
التكليف الواقعي في حقّه ، أو لارتفاع خطابه وإن كان معاقبا على مخالفة الواقع.
١٩٤٠. بأن كان المأتيّ به أمرا أجنبيّا غير مأمور به ، وكان مع
ذلك مسقطا عن الواجب. وهذا الوجه قد اختاره بعض مشايخنا. وفيه ـ مضافا إلى ما
أورده عليه المصنّف رحمهالله ـ أنّه مناف لقاعدة
اللطف ، لأنّه إذا اعتقد المسافر كون التكليف في حقّه الإتمام ، وصلّى تامّة ثمّ
انكشف خلافه قبل خروج الوقت ، فمقتضى اللطف الباعث على بعث الأنبياء وإرسال الرسل
ونصب الأوصياء عليهم الصلاة والسلام وتكليف العباد بما كلّفوا به هو بقاء الأمر
الواقعي ، وكون الجاهل مكلّفا بامتثاله بعد زوال جهله.
١٩٤١. فعليه لا بدّ من دعوى كون الحرام مسقطا عن الواجب.
على النهي عن الضدّ ،
كما في آخر الوقت ؛ حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر.
ويردّ هذا الوجه أنّ الظاهر من الأدلّة
(١٩٤٢) كون المأتيّ به مأمورا به في حقّه ، مثل قوله عليهالسلام
في الجهر والإخفات : «تمّت صلاته» ونحو ذلك. وفي الموارد التي قام فيها غير الواجب
مقام الواجب نمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الأمر الواقعي
وثبوت الأمر بالبدل ، فتأمّل (١٩٤٣).
______________________________________________________
١٩٤٢. روى ابن بابويه في الصحيح عن زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي
جعفر عليهالسلام قالا : «قلنا : فمن صلّى في السفر أربعا يعيد أم لا؟ قال :
إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه
ولم يعلمها فلا إعادة عليه». وظاهر نفي الإعادة صحّة الصلاة المأتيّ بها وكونها
مطلوبة للشارع. وفي صحيحة زرارة الواردة فيمن جهر في موضع الإخفات أو عكس : «وإن
فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شيء عليه ، وقد تمّت صلاته».
١٩٤٣. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى منع تعلّق الأمر بالبدل في
كلّ مورد ، لأنّ الفعل الاضطراري قد يسقط عن الواجب ، بل فعل الغير أيضا قد يسقط
عنه ، كما صرّح به المحقّق القمّي رحمهالله ، كما إذا وجب غسل الثوب للصلاة فأطارته الريح إلى الماء
فانغسل بنفسه ، أو وجب عليه تحصيل الماء للوضوء أو الغسل ففاجأه من أتاه به.
ولكنّك خبير بأنّه
تمكن دعوى الكلّية التي ادّعاها المصنّف رحمهالله في الأبدال الشرعيّة ، وما ذكر إنّما هو من قبيل الأبدال
العقليّة ، لجواز حصول الغرض في الواجبات التوصّلية بالفعل الاضطراري أو فعل الغير
، بخلاف الواجبات التعبّدية.
ويحتمل أن يكون
الأمر بالتأمّل إشارة إلى أنّه إن اريد بالكلّية التي ذكرها الاستقراء التامّ
المفيد للقطع في مورد الشكّ فهو ممنوع. وإن اريد بها الاستقراء الناقص المفيد
للظنّ ، فهو ليس بحجّة. ويحتمل أن يكون أشار إلى انتقاض الكلّية بمثل السفر المسقط
لوجوب الصوم ، مع عدم الأمر به يقينا.
والثالث ، بما
ذكره كاشف الغطاء رحمهالله
(١٩٤٤) من أنّ التكليف بالإتمام مرتّب
______________________________________________________
١٩٤٤. على هذا الوجه حمل في الجواهر ما تقدّم من المرتضى رحمهالله ، قال بعد نقله : «وكأنّه يريد أنّ الجاهل هنا أيضا غير
معذور بالنسبة للإثم وعدمه ، وإن كان فعله صحيحا للدليل ، إذ لا بأس بترتيب الشارع
حكما على فعل أو ترك لمكلّف عاص به ، كما في مسألة الضدّ التي مبناها أنّ الشارع
أراد الصلاة من المكلّف وطلبها منه بعد عصيانه بترك الأمر المضيّق الذي هو إزالة
النجاسة مثلا. فهنا أيضا يأثم هذا الجاهل بترك التعلّم والتفقّه المأمور بهما
كتابا وسنّة ، إلّا أنّه لو صلّى بعد عصيانه في ذلك صحّت صلاته للدليل ، فتأمّل»
انتهى. وهو كما ترى بعيد عن كلام المرتضى في الغاية ، فتدبّر.
وكيف كان ، فحاصل
ما ذكره كاشف الغطاء أنّ الممتنع هو الأمر بضدّين مطلقا في آن واحد ، وأمّا إن كان
على وجه الترتّب فلا استحالة فيه ، بأن كان الأمر بأحدهما مرتّبا على تحقّق
العصيان بمخالفة الآخر. فنقول فيما نحن فيه : إنّ التكليف أوّلا بالذات إنّما هو
بالواقع ، وإذا عصى بمخالفته تحقّق الأمر بما اعتقده من وجوب الإتمام في السفر أو
الجهر في موضع الإخفات أو بالعكس. ونقول أيضا في مسألة الضدّ : إنّ التكليف أوّلا
وبالذات إنّما هو بإزالة النجاسة ، وإذا عصى بمخالفته تعلّق الأمر بالصلاة. وهكذا
يقال في جميع موارد الأمر بالضدّين ظاهرا.
وحاصل ما أورده
عليه المصنّف رحمهالله من عدم تعقّل ذلك : أنّه إذا فرض ترتّب الأمر بغير الأهمّ
على مخالفة الأمر بالأهمّ فلا شكّ أنّ مخالفته لا تتحقّق بمجرّد عزمه على المخالفة
، إذ إطاعة الأوامر ومخالفتها ليستا دائرتين مدار الإرادة والعزم ، فمخالفة الأمر
بالأهمّ في المضيّقين لا تتحقّق إلّا بالشروع في غير الأهمّ ، والفرض أنّ الشروع
فيه على وجه الإطاعة والامتثال ـ الذي هو فرع تحقّق الأمر به ـ لا يمكن إلّا بعد تحقّق
مخالفة الأمر بالأهمّ قبله ، لفرض عدم تعلّق الأمر بغير الأهمّ إلّا
__________________
على معصية الشارع
بترك القصر ، فقد كلّفه بالقصر والإتمام على تقدير معصيته في التكليف بالقصر. وسلك
هذا الطريق في مسألة الضدّ في تصحيح فعل غير الأهمّ من الواجبين المضيّقين ، إذا
ترك المكلّف الامتثال بالأهمّ. ويردّه : أنّا لا نعقل الترتّب في المقامين ،
وإنّما يعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقّق معصية الأوّل ، كمن عصى
بترك الصلاة مع الطهارة المائيّة ، فكلّف لضيق الوقت بالترابيّة.
الثالث : أنّ وجوب الفحص إنّما هو في
إجراء الأصل في الشبهة الحكميّة الناشئة من عدم النصّ أو إجمال بعض ألفاظه أو
تعارض النصوص.
أمّا إجراء الأصل في الشبهة الموضوعيّة
: فإن كانت الشبهة في التحريم ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص.
ويدلّ عليه إطلاق الأخبار مثل قوله عليهالسلام
: «كلّ شىء لك حلال حتّى تعلم» ، وقوله : «حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به
البيّنة» ، وقوله : «حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة» وغير ذلك ، السالم
عمّا يصلح لتقييده.
وإن كانت الشبهة
وجوبيّة ، فمقتضى أدلّة البراءة حتّى العقل (١٩٤٥) كبعض
______________________________________________________
بعد تحقّق مخالفته
، فليس هنا زمان تفرض فيه مخالفة الأمر بالأهمّ حتّى يتحقّق الأمر فيه بغير الأهمّ
، ليمكن الشروع فيه على وجه الإطاعة والامتثال.
ثمّ إنّ قضيّة
الترتّب لعلّه قد أخذها كاشف الغطاء من المحقّق الثاني ، وقد تبعه صاحب الفصول
وأخوه صاحب الهداية ، وذيل الكلام في ذلك وسيع قد أشبعناه في مبحث الضدّ ، وقد
طوينا الكشح عن إطالة الكلام فيها وما يرد عليها من وجوه الإشكال لخوف الإطالة.
١٩٤٥. لعلّ الوجه فيه : أنّ عدم حكم العقل بالبراءة قبل الفحص في
الشبهات الحكميّة ، إنّما هو من جهة كون العمل بها قبل الفحص عن دليل الواقعة ، مع
احتمال وجوده في الواقع وإمكان الوصول إليه بالفحص ، نوع تجرّ على مخالفة الشارع.
نعم ، بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه يحكم بعدم تنجّز التكليف بالواقع لو كان
لأجل قبح التكليف بلا بيان.
كلمات العلماء : عدم
وجوب الفحص أيضا ، وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده :
«أكرم العلماء أو المؤمنين» ، فإنّه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين ،
إلّا أنّه قد يتراءى : أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما
إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبّائها أو إضافتهم أو إعطاء كلّ واحد منهم
دينارا ، فإنّه قد يدّعى أنّ بنائهم على الفحص عن أولئك وعدم الاقتصار على المعلوم
ابتداء مع احتمال وجود غيرهم في البلد.
قال في المعالم في مقام الاستدلال على
وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق : إنّ وجوب التثبّت
فيها متعلّق بنفس الوصف ، لا بما تقدّم العلم به منه ، ومقتضى ذلك إرادة الفحص
والبحث عن حصوله وعدمه ؛ ألا ترى أنّ قول القائل : «أعط كلّ بالغ رشيد من هذه
الجماعة مثلا درهما» يقتضي إرادة السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين ، لا الاقتصار
على من سبق العلم باجتماعهما فيه
، انتهى.
وأيّد ذلك المحقّق القمّي قدسسره
في القوانين : ب «أنّ الواجبات المشروطة بوجود شىء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود
الشرط لا على العلم بوجوده ، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط. مثل : أنّ من شكّ
في كون ماله بمقدار استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : إنّي
لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ؛ ليعلم أنّه
واجد للاستطاعة أو فاقد لها. نعم ، لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه
في الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ» .
ثمّ ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدّم عنه.
وأمّا كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع
هذه المسألة : فقد أفتى جماعة منهم ـ كالشيخ
والفاضلين وغيرهم ـ بأنّه لو كان له فضّة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا
وشكّ في مقداره ، وجب التصفية ؛ ليحصل العلم بالمقدار أو الاحتياط بإخراج ما
يتيقّن معه البراءة.
نعم ، استشكل في التحرير في وجوب ذلك
، وصرّح غير واحد من هؤلاء مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب بأنّه لا يجب
التصفية. والفرق بين المسألتين
مفقود إلّا ما ربما
يتوهّم من أنّ العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب ، بخلاف ما لم يعلم به.
وفيه : أنّ العلم بالنصاب لا يوجب
الاحتياط مع القدر المتيقّن ودوران الأمر بين الأقلّ والأكثر مع كون الزائد على
تقدير وجوبه تكليفا مستقلّا ؛ ألا ترى أنّه لو علم بالدّين وشكّ في قدره ، لم يوجب
ذلك الاحتياط والفحص ، مع أنّه لو كان هذا المقدار يمنع (١٩٤٦) من إجراء البراءة
قبل الفحص لمنع منها بعده ؛ إذ العلم الإجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراءة ولو
بعد الفحص.
وقال في التحرير في باب نصاب الغلّات :
ولو شكّ في البلوغ ، ولا مكيال هنا ولا ميزان ، ولم يوجد ، سقط الوجوب دون
الاستحباب
، انتهى. وظاهره جريان الأصل مع تعذّر الفحص وتحصيل العلم.
وبالجملة : فما ذكروه من إيجاب تحصيل
العلم بالواقع مع التمكّن في بعض أفراد الاشتباه في الموضوع ، مشكل. وأشكل منه
فرقهم بين الموارد ، مع ما تقرّر عندهم من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين
الأقلّ والأكثر.
______________________________________________________
وهذا الوجه غير
جار في الشبهات الموضوعيّة ، بناء على ما حقّقه في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة
من عدم كون الخطابات الواقعيّة دليلا على الشبهات الخارجة في نظر أهل العرف ،
فوجود هذه الخطابات لا يمنع من العمل بأصالة البراءة في المصاديق الخارجة
المشتبهة. نعم ، لو كان العمل بها مستلزما للمخالفة الكثيرة كان هذا مانعا من
العمل بها ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله في ذيل كلامه ، لكونها في نفسها مع قطع النظر عن مخالفة
العلم الإجمالي قبيحة عند العقل. وهذا أيضا هو الوجه في عدم جواز العمل بأصالة
البراءة عند الانسداد الأغلبي كما تقدّم في محلّه.
١٩٤٦. يعني : أنّ العلم بالتكليف مع الشكّ في مقدار المكلّف به
وتردّد الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، إن كان مانعا من إجراء أصالة
البراءة قبل الفحص كان مانعا منه بعده أيضا ، إذ الفحص لا يزيل العلم الإجمالي
مطلقا ،
وأمّا ما ذكره صاحب المعالم رحمهالله
وتبعه عليه المحقّق القمّي رحمهالله
من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال ، من جهة اقتضاء تعلق
الأمر بالموضوع الواقعي
وجوب الفحص عن مصاديقه وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ، فلا يخفى ما فيه ، لأنّ
ردّ خبر مجهول الحال ليس مبنيّا على وجوب الفحص (١٩٤٧) عند الشكّ ؛ وإلّا لجاز
الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله ، كما لا يجب
الإعطاء (١٩٤٨) في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك (١٩٤٩) وعدم العلم
باجتماع الوصفين فيه.
بل وجه ردّه قبل الفحص وبعده : أنّ وجوب
التبيّن شرطي (١٩٥٠) ومرجعه إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه من دون اشتراط التبيّن
فيه بعدالة المخبر ، فإذا شكّ في عدالته شكّ في قبول خبره في نفسه ، والمرجع في
هذا الشكّ والمتعيّن فيه عدم القبول ؛ لأنّ عدم العلم بحجّية شىء كاف في عدم
حجّيته.
______________________________________________________
فمع عدم تبيّن
الحال بعد الفحص لا بدّ من العمل بالاحتياط دون البراءة ، لوجود المانع بالفرض.
١٩٤٧. مع التسليم لا يجب الفحص أيضا ، كما قدّمناه في بيان تقرير
دلالة العقل ، فراجع.
١٩٤٨. أي : والحال أنّه لا يجوز كما لا يجب ، فالمشبّه هو عدم
الجواز.
١٩٤٩. يعني : أنّ الفحص إن كان واجبا وجب الإعطاء في المثال بعد
الفحص والعجز عن العلم بالحال ، والمفروض أنّه غير واجب.
١٩٥٠. لا يذهب عليك أنّ الاستدلال بالآية على حجّية خبر العدل
تارة بمفهوم الوصف ، كما هو ظاهر قول صاحب المعالم فيما نقله عنه المصنّف رحمهالله هنا : «إنّ وجوب التثبّت فيها متعلّق بنفس الوصف ...».
واخرى بمفهوم الشرط.
وهي على الأوّل
ظاهرة في كون الفسق سببا لوجوب التبيّن. وعليه تكون
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
الآية منساقة
لبيان جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن ، وكون التبيّن شرطا في جواز العمل
بخبر الفاسق ، وكون الفسق سببا لاشتراط ذلك فيه.
وعلى الثاني تحتمل
وجهين :
أحدهما : أن تكون
العدالة شرطا كما ذكره المصنّف رحمهالله. وعليه تكون الآية منساقة لبيان جواز العمل بخبر الواحد
بشرط عدالته ، وكون التبيّن شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق.
الثاني : أن يكون
الفسق مانعا. وعليه تكون الآية واردة لبيان جواز العمل بكلّ خبر إلّا خبر الفاسق ،
وكون التبيّن شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق.
وعلى جميع
التقادير تكون الآية منساقة لبيان حجّية خبر العادل من دون تبيّن ، وكون التبيّن
شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق ، لا كونه واجبا نفسيّا ، كما حقّقه عند الاستدلال
بالآية على حجّية خبر الواحد. ومقتضاها على جميع هذه التقادير عدم جواز العمل بخبر
مجهول الحال لا قبل الفحص ولا بعده مع عدم تبيّن الحال ، للشكّ في حجّية خبره ،
وهو في حكم العلم بعدمها كما ستعرفه. فردّ خبره حينئذ من هذه الجهة ، لا من جهة ما
ذكره صاحب المعالم ، كما ستقف عليه.
نعم ، ربّما
يتوهّم على الوجه الأخير جواز العمل بخبره من دون فحص ، نظرا إلى كون الشكّ حينئذ
في المانع ، فينفى بالأصل. وفيه : أنّ هذا الأصل إنّما يجري فيما علم عدم وجود
المانع في زمان حتّى يستصحب ، لوضوح عدم إثبات عدم المانع المطلق لعدم المانع
الخاصّ ، والمفروض في المقام خلافه ، إذ لا إشكال مع العلم بعدمه في السابق.
ثمّ إنّ صاحب
المعالم لما استند في إثبات عدم جواز العمل بخبر مجهول الحال إلى كون المقام من
موارد قاعدة الاحتياط دون البراءة ، نقول في توضيح ما اعترض به عليه المصنّف رحمهالله تأكيدا لما قدّمناه : إنّ وجوب الاحتياط هنا ليس من جهة
أنّ تعليق حكم بوصف واقعي هو شرط في تحقّقه يوجب عدم جريان البراءة ، كيف لا
ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص :
أنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقّف كثيرا على الفحص بحيث لو
اهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار
الفحص ثمّ العمل بالبراءة ، كبعض الأمثلة المتقدّمة ؛ فإنّ إضافة جميع علماء البلد
أو أطبّائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلّا بالفحص ، فإذا حصّل العلم ببعض واقتصر على
ذلك ـ نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البراءة من غير تفحّص زائد على ما حصل به
المعلومين ـ عدّ مستحقّا للعقاب والملامة عند انكشاف ترك إضافة من تمكّن من تحصيل
العلم به بفحص زائد.
ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحجّ
المتقدّم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقّف غالبا على المحاسبة
، فلو بني الأمر على تركها ونفي وجوب الحجّ بأصالة البراءة ، لزم تأخير الحجّ عن
أوّل سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ، لكنّ الشأن في صدق (١٩٥١) هذه
الدعوى.
______________________________________________________
ولو صحّ هذا لجرى
في الشبهة التحريمية الموضوعيّة أيضا ، إذ مع تردّد مائع بين كونه خمرا أو خلّا
يمكن أن يقال : إنّ الحلّية مشروطة بكون هذا الشيء خلّا ، فلا بدّ من الاحتياط
حتّى يحصل القطع بالبراءة. بل من جهة أنّ الآية مسوقة لبيان شرطيّة العدالة في
حجّية خبر الواحد ، وكون التبيّن حينئذ شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق. ومرجعه
إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه من دون تبيّن بعدالة المخبر ، وعدم جواز العمل به
مع فسقه إلّا بشرط التبيّن عن حاله. وحينئذ فمع الشكّ في العدالة يحصل الشكّ في
الحجّية ، ومع الشكّ فيها فالعقل يستقلّ بعدمها ، كما يستقلّ به مع الشكّ فيها
ابتداء ، كما إذا شكّ في حجّية خبر الواحد مطلقا مع القطع بعدم اشتراط حجّيته بشيء
في الواقع على تقدير حجّيته كذلك ، فالشكّ في الحجّية ليس بمورد لأصالة البراءة
مطلقا ، وإن قلنا بها في سائر موارد الشبهة الموضوعيّة. وقد نبّه المصنّف رحمهالله على مثله عند الردّ على من تمسّك بأصالة الإباحة لإثبات
حجّية الظنّ.
١٩٥١. لأنّ الغالب حصول العلم بالموضوع وجودا أو عدما من دون فحص
وأمّا ما استند إليه المحقّق المتقدّم
من أنّ الواجبات المشروطة يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ، ففيه :
أنّه مسلّم ولا يجدي (١٩٥٢) ؛ لأنّ الشكّ في وجود الشرط يوجب الشكّ في وجوب
المشروط وثبوت التكليف ، والأصل عدمه. غاية الأمر الفرق بين اشتراط التكليف بوجود
الشيء واشتراطه بالعلم به ؛ إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية يقطع بانتفاء
التكليف
من دون حاجة إلى الأصل ، وفي الصورة الاولى يشكّ فيه ، فينفي بالأصل.
وأمّا الكلام في مقدار الفحص ، فملخّصه
: أنّ حدّ الفحص (١٩٥٣) هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلّة ويختلف
ذلك باختلاف الأعصار ؛ فإنّ في زماننا هذا إذا ظنّ المجتهد بعدم وجود دليل التكليف
في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث ـ التي يسهل تناولها على نوع
أهل العصر ـ على وجه صار مأيوسا ، كفى ذلك منه في إجراء البراءة.
______________________________________________________
واحتياج إليه ،
فلا تلزم المخالفة الكثيرة حينئذ بالعمل بأصالة البراءة في الموارد الباقية
المشكوك فيها.
١٩٥٢. لأنّ الأمر بالشيء إنّما يقتضي إيجاب ما لا يتمّ الواجب
إلّا به أعني : المقدّمات الوجوديّة للمأمور به ، والعلم بوجود شرط الوجوب ليس من
قبيلها ، ولذا يصحّ الحجّ من الجاهل بالاستطاعة. فتسليم توقّف وجوب الفعل على شرط
وجوبه دون العلم به مسلّم إلّا أنّه غير مجد في شيء ، لأنّ عدم توقّف الوجوب على
العلم بشرط الوجوب لا يستلزم تحصيل العلم بالوجوب على تقدير وجود الشرط في الواقع
، لما عرفت من عدم كونه من المقدّمات الوجوديّة للمأمور به. وغاية الأمر احتمال
تحقّق وجود الشرط ، فيحتمل وجوب الفعل لأجل ذلك ، لكنّه ينفى بالأصل كما أفاده
المصنف رحمهالله.
١٩٥٣. لا يخفى أنّ في مقدار الفحص وجوها :
__________________
أمّا عدم وجوب الزائد ؛ فللزوم الحرج
وتعطيل استعلام سائر التكاليف ؛ لأنّ انتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم
بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطّلاع على دليل التكليف في غيرها من
الوقائع ، فيجب فيها إمّا الاحتياط وهو يؤدّي إلى العسر ، وإمّا لزوم التقليد لمن
بذل جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيها ، وجوازه ممنوع ؛ لأنّ هذا المجتهد المتفحّص
ربما يخطّئ ذلك المجتهد في كثير من مقدّمات استنباطه للمسألة.
______________________________________________________
أحدها : وجوب
الانتهاء في الفحص إلى أن يحصل العلم بعدم الدليل الناقل.
وثانيها : وجوبه
إلى أن يحصل اليأس من وجدانه في الكتب المعتبرة التي بأيدينا اليوم. وهو اختيار
المصنّف رحمهالله.
وثالثها : جواز
الاكتفاء فيه بمطلق الظنّ بعدم الدليل الناقل.
وتنشأ من حرمة
العمل بما عدا العلم. ومن أنّه إن اريد من العلم بالعدم العلم بعدمه في الواقع فهو
متعذّر. وإن اريد العلم بعدمه في الكتب التي يمكن الوصول إليها فهو متعسّر وموجب
لتعطيل أكثر الأحكام ، فلا بدّ من التنزّل إلى اعتبار الظنّ ، ولكنّ الظنّ إذا
اختلفت مراتبه قوّة وضعفا فالعقل لا يجوّز العدول عن القوي إلى الضعيف ، كما قرّر
عند تقرير دليل الانسداد. ومن أنّه إذا اكتفي في إثبات أصل الأحكام بالظنّ ففي
الفحص عن أدلّتها بطريق أولى.
وفيه : أنّه إن
اريد هذا على القول بمطلق الظنّ يرد عليه : أنّه لا وجه لاشتراط الفحص إلى أن يحصل
الظنّ بالعدم على هذا القول ، لأنّه مع حصول الظنّ بالعدم يكون هذا الظنّ دليلا
على عدم الحكم ، فلا وجه معه للاستناد إلى أصالة البراءة. اللهمّ إلّا أن يريد
إفادة الفحص مع ضميمة أصالة البراءة للظنّ بالعدم ، فتأمّل.
وإن اريد على
القول بالظنون الخاصّة ، يرد عليه : أنّ هذه الظنون علوم شرعيّة ، ولا يلزم من
الاكتفاء بها الاكتفاء بمطلق الظنّ ، وقد عرفت الدليل على الاكتفاء بالظنّ الأقوى.
مضافا إلى إمكان دعوى بناء العقلاء عليه في خصوص
نعم ، لو كان جميع مقدّماته ممّا
يرتضيها هذا المجتهد وكان التفاوت بينهما أنّه اطّلع على ما لم يطّلع هذا ، أمكن
أن يكون قوله حجّة (١٩٥٤) في حقّه ، لكنّ اللازم حينئذ (١٩٥٥) أن يتفحّص في جميع
المسائل إلى حيث يحصل الظنّ بعدم وجود دليل التكليف ، ثمّ الرجوع إلى هذا المجتهد
، فإن كان مذهبه مطابقا للبراءة كان مؤيّدا لما ظنّه من عدم الدليل وإن كان مذهبه
مخالفا للبراءة كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف. فإن لم يحتمل في حقّه
الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة والعقليّة من الأخبار ، أخذ بقوله في وجود دليل
، وجعل فتواه كروايته.
ومن هذا القبيل ما حكاه غير واحد
من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن عليّ بن بابويه عند إعواز
النصوص. والتقييد بإعواز النصوص مبنيّ على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى
التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى. وإن احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس
والعقل ، لم يكن دليل على اعتباره في حقّه وتعيّن العمل بالبراءة.
______________________________________________________
المقام. اللهمّ
إلّا أن يدّعى كون اعتبار الظنّ الأقوى ـ أعني : الاطمئنان والوثوق بالعدم ـ موجبا
لتعطيل أكثر الأحكام ، نظير ما عرفته في اعتبار العلم ، وهو غير بعيد.
١٩٥٤. من باب الرواية دون التقليد المصطلح ، كما يظهر ممّا ذكره
في المقام.
١٩٥٥. لأنّ جواز التقليد بالمعنى المتقدّم في الحاشية السابقة
إنّما هو من باب الاضطرار ، والمتيقّن منه هي صورة حصول الظنّ بعدم الدليل بعد
الفحص. وأنت خبير بإمكان منع جواز التقليد بالمعنى المذكور على هذا التقدير أيضا ،
لأنّ اعتبار العلم بالعدم إن كان موجبا لتعطيل الأحكام التي كان الاحتياط فيها
موجبا للعسر كما هو الفرض ، كان ذلك كاشفا عن انسداد باب العلم في غالب الأحكام ،
وكان اللازم حينئذ الاقتصار في إثبات الأحكام والفحص عن أدلّتها على الظنّ لا
التقليد في الموارد المذكورة ، وذلك لأنّ المدار في انفتاح باب العلم ـ على ما
صرّح به المصنّف رحمهالله في مباحث الظنّ ـ إمكان تحصيل جملة من الأدلّة وافية بأغلب
تذنيب : ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة
شروطا (١٩٥٦) أخر : الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعيّ من جهة
اخرى ، مثل أن يقال في أحد الإناءين المشتبهين : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ،
فإنّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا أو
عدم تقدّم الكرية ـ حيث يعلم بحدوثها ـ على ملاقاة النجاسة ؛ فإنّ إعمال الاصول
يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء.
______________________________________________________
أبواب الفقه ،
بحيث لا يلزم من العمل بالاصول في الموارد الخالية منها محذور. ولا ريب أنّه إذا
فرض كون اعتبار العلم بعدم الدليل في العمل بأصالة البراءة موجبا لتعطيل أحكام
موارد كثيرة ، بحيث كان العمل بالاحتياط فيها موجبا للعسر ، كان العمل بالاصول في
تلك الموارد مستلزما للمخالفة الكثيرة ، وإلّا لم يلزم العسر من الاحتياط فيها ،
فلزوم العسر من العمل به فيها كاشف عن عدم ثبوت مقدار من الأدلّة واف بأغلب أبواب
الفقه.
فالأولى في تعليل
عدم وجوب تحصيل العلم بالعدم هو دعوى بناء العقلاء ـ بل استمرار سيرة العلماء ـ على
كفاية الاطمئنان ، وعدم وجوب تحصيل العلم. مع أنّ العمدة في عدم جواز العمل
بالبراءة قبل الفحص إمّا هو الإجماع ، أو الأخبار ، أو عدم معذوريّة المكلّف مع
مخالفة العمل للواقع إذا بنى على أصالة البراءة قبل الفحص. والمتيقّن من الأوّل
غير ما نحن فيه. والثاني غير منصرف إلى ما نحن فيه ، أعني : صورة الاطمئنان بعدم
الدليل. والثالث غير جار فيما نحن فيه.
١٩٥٦. لا يخفى أنّ جعل ما ذكره من شروط العمل بأصل البراءة مبنيّ
على عدم الفرق بينها واستصحاب العدم عندهم ، وإلّا فأصالة عدم بلوغ الماء كرّا
وأصالة عدم تقدّم الكرّية من قبيل الثاني دون الأوّل ، وهو واضح. ولكن صريح صاحب
الوافية عدم اختصاص ما ذكره من الشروط بأصالة البراءة ، لأنّه قال : «اعلم أنّ
لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة ، وأصالة العدم ، وبأصالة عدم تقدّم
أقول : توضيح الكلام (١٩٥٧) في هذا
المقام أنّ إيجاب العمل بالأصل لثبوت حكم آخر إمّا بإثبات الأصل المعمول به لموضوع
انيط به حكم شرعيّ ، كأن يثبت
______________________________________________________
الحادث ، شروطا»
إلى آخر ما ذكره. وما نقله المصنّف رحمهالله عنه قد تبع فيه المحقّق القمّي. وستقف عند شرح ما يتعلّق
بحكم المشهور بالطهارة فيما علمت الكرّية والملاقاة وشكّ في المتقدّم منهما على
عبارة صاحب الوافية ، فانتظرها.
١٩٥٧. إيضاح هذا التوضيح : أنّ مرجع ما ذكره صاحب الوافية إلى
اشتراط جواز العمل بأصالة البراءة بعدم معارضتها أصلا آخر من جهة اخرى ، لأنّه إذا
استلزم العمل بها لإثبات حكم شرعيّ من جهة اخرى ، فأصالة عدم هذا الحكم الشرعيّ
تعارضها ، وهو رحمهالله لم يفرّق بين الاصول الحاكمة والمحكوم عليها والاصول
المعارضة.
والضابط في المقام
: أنّ الأصلين المفروضين لا يخلوان : إمّا أن يكون الشكّ المأخوذ في كلّ منهما
مسبّبا عن سبب آخر ، كالشكّ في نجاسة ماء وفي غصبيّة أرض. وإمّا أن يكون مسبّبا عن
ثالث ، كما في مثال الظهر والجمعة والقصر والإتمام والإناءين المشتبهين ، لكون
الشكّ في كلّ من المشتبهين في هذه الأمثلة مسبّبا عن العلم الإجمالي. وإمّا أن
يكون الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الآخر ، كالشكّ في الثوب المغسول بماء مشكوك
النجاسة مع العلم بسبق طهارته. ومن هذا القبيل المثال الثاني من الأمثلة التي
ذكرها الفاضل التوني ، لكون الشكّ في النجاسة مسبّبا عن الشكّ في الكرّية. وكذا في
مثال الحجّ ، وكذلك الصلاة مع الشكّ في طهارة الماء ، وهكذا.
أمّا الأوّل فلا
إشكال فيه ، لعدم مجال توهّم التعارض فيه أصلا. وأمّا الثاني فهو مورد تعارض
الأصلين. وفي عدم جواز العمل بهما مسلكان ، وقد اختلفت فيهما كلمات المصنّف رحمهالله. أحدهما : عدم شمول أدلّة البراءة لصورة العلم الإجمالي من
رأس ، كما سلكه في الشبهة المحصورة. والآخر : تساقطهما لأجل التعارض الذي
.................................................................................................
______________________________________________________
هو فرع الجريان ،
وقد سلكه هنا وفي غير موضع من مباحث هذا المقصد. وهذان المسلكان إنّما هما فيما
كان العمل بالأصلين مستلزما لمخالفة العلم الإجمالي بحسب العمل وإن استلزمها بحسب
الالتزام ، فيعمل بكلّ منهما من دون اعتبار معارضة بينهما ، كما صرّح به في غير
موضع من الكتاب ، وجعله هنا أحد الوجهين فيما دار الأمر فيه بين وجوب فعل وحرمته ،
ومال إلى عدم الجواز في الجملة في فروع العلم الإجمالي.
وأمّا الثالث فهو
موضوع مسألة المزيل والمزال ، وقد اختلفت كلماتهم فيها ، فصريح المحقّق القمّي رحمهالله والمحكيّ عن جماعة ـ كالشيخ والمحقّق والعلّامة في بعض
أقواله ، كما نقله عنهم المصنّف رحمهالله في مبحث الاستصحاب ـ اعتبار التعارض بينهما. ومختار
المصنّف رحمهالله تقديم الأصل في الشكّ السببى عليه في الشكّ المسبّب ، وهو
المنصور. وحينئذ يقع الإشكال في أنّهم مع هذا الاختلاف والتشاجر في تلك المسألة قد
اتّفقوا في مسألة الحجّ على وجوبه بنفي الدين المشكوك فيه بأصالة البراءة ، ولم
يحكموا بالتعارض بينها وبين أصالة البراءة عن وجوب الحجّ. ويمكن التوفيق بينهما
بوجهين :
أحدهما : أن يكون
نزاعهم في مسألة المزيل والمزال مبنيّا على اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، إذ
يمكن أن يقال حينئذ : إنّ شمول الأخبار المذكورة بعمومها لأحد الاستصحابين ليس
بأولى من شمولها للآخر. وأمّا إن قلنا باعتباره من باب بناء العقلاء ، فلا خلاف
لهم في تقديم الأصل في الشكّ السببى عليه في الشكّ المسبّب ، لاستقرار بنائهم عليه
، وقد ادّعى المصنّف رحمهالله في مبحث الاستصحاب استمرار سيرة الناس عليه. ولا ريب أنّ
عمدة أدلّتهم على البراءة هو العقل وبناء العقلاء. وكذا استصحاب العدم ، لكون
اعتباره أيضا عندهم من باب بناء العقلاء. فلا مناص حينئذ من تقديم أصالة عدم وجوب
الدين على أصالة عدم
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
وجوب الحجّ.
ولكنّه ربّما يشكل بعدم تمسّك أحد من العلماء في اعتبار الاستصحاب مطلقا بالأخبار
إلى زمان والد شيخنا البهائي قدسسرهما ، على ما سيصرّح به المصنّف رحمهالله في محلّه.
وثانيهما : أنّ
اختلافهم في مسألة المزيل والمزال إنّما هو فيما إذا لم يكن الأصل في الشكّ السببى
من الاصول الموضوعيّة ، وإلّا يقدّم على الشكّ المسبّب بلا خلاف ، لدعوى الشيخ علي
في حاشية الروضة إجماعهم على تقديم الاصول الموضوعيّة على الحكميّة ، وأصالة عدم
الدين من الاصول الموضوعيّة بالنسبة إلى أصالة عدم وجوب الحجّ. فيختصّ نزاعهم في
مسألة المزيل والمزال بما كان الأصلان فيه من الاصول الحكميّة ـ كاستصحاب النجاسة
والطهارة أو عدمهما ـ إذا كان الشكّ في موضوع أحدهما مسبّبا عن الآخر.
والعجب من المحقّق
القمّي رحمهالله ، فإنّه مع تسليمه جريان أصالة عدم الدين في مثال الحجّ من
دون معارضتها أصالة عدم وجوب الحجّ ، ادّعى المعارضة في مثال الملاقي للنجاسة
المشكوكة الكرّية. قال : «إنّ التمسّك بأصالة عدم الكرّية صحيح ، ولا يوجب ذلك
الحكم بوجوب الاجتناب عمّا لاقاه ، لمعارضته باستصحاب طهارة الماء وطهارة ملاقيه»
انتهى. مع كون استصحاب عدم الكرّية أيضا من الاصول الموضوعيّة ، فلم يعلم وجه
الفرق بين المثالين.
ويشكل هذا الوجه
أيضا باختلاف كلماتهم في المقام ، فربّما يحكمون بتعارض أصالة عدم الحكم أصالة
بقاء الموضوع ، ولذا ترى أنّ الشيخ في مبسوطه ذهب إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم
يعلم خبره. واستحسنه في المعتبر مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء
بمعارضتها أصالة عدم الوجوب. وحكي عن العلّامة أيضا في بعض كتبه الحكم بطهارة
الماء القليل الذي وقع فيه الصيد ، مع عدم العلم باستناد موته إلى الرمي أو إلى
الوقوع في الماء ، مع أنّ أصالة عدم التذكية من الاصول الموضوعيّة بالنسبة إلى
أصالة طهارة الماء. فالإنصاف عدم ثبوت
.................................................................................................
______________________________________________________
الإجماع المذكور ،
وبقاء التنافي بين إجماعهم في مثال الحجّ واختلافهم في تلك المسألة. وهذا أيضا
ظاهر المصنّف رحمهالله في مبحث الاستصحاب ، لأنّه مع استدلاله على تقديم الأصل في
الشكّ السببى عليه في الشكّ المسبّب بالإجماع عليه في كثير من الموارد التي منها
مثال الحجّ ، قد نقل كلماتهم المنافية له التي قد عرفت شطرا منها.
ولنرجع إلى توضيح
ما ذكره المصنّف قدسسره فنقول : إنّ الشارع قد يرتّب حكما على موضوع ، ويجعل لهذا
الموضوع شرائط وموانع ، ويحصل الشكّ في تحقّق هذا الحكم لأجل الشكّ في بعض موانع
هذا الموضوع أو شرائطه ، كما في مثال الحجّ ، إذا حصل الشكّ في حصول الاستطاعة
لأجل الشكّ في اشتغال الذمّة بدين مانع من حصول الاستطاعة الشرعيّة. وكذا في مثال
الماء الملاقي للنجاسة إذا حصل الشكّ في نجاسته لأجل الشكّ في كرّيته. وقد يرتّب
حكما على موضوع ، ويتردّد حكم هذا الموضوع عندنا بين حكمين ، كما إذا تردّد الأمر
بين وجوب فعل وحرمته ، كالجهر ببسم الله في الصلوات الإخفاتيّة. وقد يتردّد الأمر
في موضع الحكم بين أمرين ، كما في الإناءين المشتبهين والقصر والإتمام والظهر
والجمعة.
وظاهر صاحب
الوافية بقرينة الأمثلة التي ذكرها فرض التعارض بين الأصلين في المقامين ، نظرا في
الأوّل إلى معارضة أصالة البراءة عن الدين أصالة عدم وجوب الحجّ ، وأصالة عدم
الكرّية أصالة عدم التنجّس. وفي الثاني إلى معارضة أصالة البراءة عن وجوب الفعل أو
عن حرمة أحد الإناءين أو عن وجوب القصر أو الظهر ، أصالة البراءة عن حرمة الفعل أو
الإناء الآخر أو وجوب الإتمام أو الظهر.
وهو في الثاني
متّجه ، لكون الشكّ المأخوذ في موضوع الأصلين فيه مسبّبا عن ثالث ، وهو العلم
الإجمالي ، وحكمه التعارض أو عدم جريان الأصلين من رأسهما كما أسلفناه. وفي الأوّل
ضعيف جدّا ، لكون الشكّ في وجوب الحجّ والتنجّس مسبّبا عن الشكّ في تعلّق الدين
بالذمّة وعن الشكّ في الكرّية ، لكون الشكّ في وجوب الحجّ وكذا في تنجّس الملاقي
مسبّبا عن الشكّ في تحقّق موضوعهما ،
بالأصل براءة ذمّة
الشخص الواجد لمقدار من المال واف بالحجّ من الدين ، فيصير بضميمة أصالة البراءة
مستطيعا ، فيجب عليه الحجّ ؛ فإنّ الدين مانع عن الاستطاعة ، فيدفع بالأصل ، ويحكم
بوجوب الحجّ بذلك المال. ومنه المثال الثاني ؛ فإنّ أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي
للنجاسة كرّا يوجب الحكم بقلّته التي انيط بها الانفعال. وإمّا لاستلزام نفي الحكم
به حكما (١٩٥٨) يستلزم ـ عقلا أو شرعا (١٩٥٩) أو عادة ولو في هذه القضيّة الشخصيّة
ـ ثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر ، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد
الإناءين.
فإن كان إيجابه للحكم على الوجه الأوّل
كالمثال الثاني ، فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل ؛ لجريان أدلّته من العقل
والنقل من غير مانع. ومجرّد إيجابه لموضوع حكم وجودي آخر لا يكون مانعا عن جريان
أدلّته ، كما لا يخفى على من تتبّع الأحكام الشرعيّة والعرفيّة.
______________________________________________________
وهي الاستطاعة في
الأوّل وقلّة الملاقي في الثاني ، فإذا ثبتا بأصالة البراءة عن الدين وأصالة عدم
الكرّية ترتّب عليهما حكمهما. ولا تعارضهما أصالة عدم الحكمين ، لما عرفت من أنّ
المتعيّن في مثله تقديم الأصل في الشكّ السببى عليه في الشكّ المسبّب ، فلا تغفل.
١٩٥٨. لا يخفى ما في العبارة من القصور ، لعدم شمولها لصورة
دوران الأمر بين حكمين في موضوع واحد كالوجوب والحرمة ، لأنّ نفي الوجوب لا يستلزم
حكما ملازما لحكم تكليفي آخر ، بل نفي الوجوب بنفسه ملازم لثبوت الحرمة في هذا
الموضوع ، بل في مثل الظهر والجمعة والقصر والإتمام أيضا كما لا يخفى.
نعم ، يتمّ ذلك في
الإناءين المشتبهين ، بناء على كون نفي حرمة أحدهما ملازما للإباحة الملازمة لحرمة
الإناء الآخر.
١٩٥٩. لا يقال : لا إشكال في إثبات اللوازم الشرعيّة بالاستصحاب
كما سيجيء في محلّه ، فإذا فرض أنّ الشارع رتّب وجوب الإنفاق على الزوجة على عدم
وجوب أداء الدين مثلا ، فلا ريب في أنّ استصحاب عدم وجوب أداء الدين
ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع
(١٩٦٠) ، فإذا انحصر الطهور (١٩٦١) في ماء مشكوك الإباحة ـ بحيث لو كان محرّم
الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد الطهورين ـ ، فلا مانع من إجراء أصالة الحلّ وإثبات
كونه واجدا للطهور ، فيجب عليه الصلاة. ومثاله العرفي ما إذا قال المولى لعبده :
إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا ، فإنّ العقلاء يوجبون عليه
الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شىء على نفسه من قبل المولى.
وإن كان على الوجه الثاني الراجع إلى
وجود العلم الإجمالي بثبوت حكم مردّد بين حكمين (١٩٦٢) : فإن اريد بإعمال الأصل في
نفي أحدهما إثبات الآخر ، ففيه : أنّ مفاد أدلّة أصل البراءة مجرّد نفي التكليف
دون إثباته وإن كان الإثبات لازما واقعيّا لذلك النفي ؛ فإنّ الأحكام الظاهريّة
إنّما تثبت بمقدار مدلول أدلّتها ، ولا يتعدّى إلى أزيد منه بمجرّد ثبوت الملازمة
الواقعيّة بينه وبين ما ثبت ، إلّا أن يكون
______________________________________________________
عند الشكّ فيه
يثبت وجوب الإنفاق ، والممنوع إنّما هو إثبات اللوازم العقليّة والعاديّة والملزومات
الشرعيّة دون لوازمها.
لأنّا نقول :
سيشير المصنّف رحمهالله إلى استثناء هذا المورد بقوله : «إلّا أن يكون الحكم
الظاهري ...» لأنّ أصالة عدم وجوب أداء الدين مثبت لموضوع الاستطاعة الذي ترتّب
عليه وجوب الإنفاق.
١٩٦٠. يعني : من ترتّب حكم الموضوع.
١٩٦١. هذا مثال آخر من الأمثلة الشرعيّة للوجه الأوّل. والفرق
بين الأمثلة الثلاثة المذكورة لهذا الوجه : أنّ هذا المثال من موارد جريان أصالة
الإباحة ، ومثال عدم بلوغ الماء كرّا من موارد استصحاب العدم ، ومثال الحجّ ـ كالمثال
العرفي ـ من موارد أصالة البراءة. والاصول الثلاثة مشتركة في إثبات موضوع أنيط به
حكم شرعيّ.
١٩٦٢. لا يخفى ما في هذه العبارة من القصور ، لعدم شمولها
اللإناءين المشتبهين ، لكونهما من قبيل دوران الأمر في حكم بين عروضه لأحد
موضوعين.
الحكم الظاهري الثابت
بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر ، كما ذكرنا في مثال براءة الذمّة عن الدين
والحجّ. وسيجيء توضيح ذلك في باب تعارض الاستصحابين.
وإن اريد بإعماله في أحدهما مجرّد نفيه
دون الإثبات ، فهو جار ، إلّا أنّه معارض بجريانه في الآخر ، فاللازم إمّا إجرائه
فيهما ، فيلزم طرح ذلك العلم الإجمالي لأجل العمل بالأصل ، وإمّا إهماله فيهما ،
فهو المطلوب ، وإمّا إعمال أحدهما بالخصوص ، فترجيح بلا مرجّح. نعم ، لو لم يكن
العلم الإجمالي في المقام ممّا يضرّ طرحه لزم العمل بهما ، كما تقدّم أنّه أحد
الوجهين فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم.
وكيف كان : فسقوط العمل بالأصل في
المقام لأجل المعارض ، ولا اختصاص لهذا الشرط بأصل البراءة بل يجري في غيره من
الاصول والأدلّة. ولعلّ مقصود (١٩٦٣) صاحب الوافية ذلك ، وقد عبّر هو قدسسره
عن هذا الشرط في باب الاستصحاب بعدم المعارض .
وأمّا أصالة عدم بلوغ (١٩٦٤) الماء
الملاقي للنجاسة كرّا ، فقد عرفت : أنّه لا مانع من استلزام جريانها الحكم بنجاسة
الملاقي ؛ فإنّه نظير أصالة البراءة من الدين المستلزم لوجوب الحجّ. وقد فرّق
بينهما المحقّق القمّي رحمهالله
، حيث اعترف : بأنّه لا مانع من إجراء البراءة في الدين وإن استلزم وجوب الحجّ ،
ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكريّة ؛ جمعا بينها وبين أصالة طهارة
الماء . ولم يعرف وجه فرق
بينهما أصلا.
______________________________________________________
نعم ، ينطبق ذلك
على ما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة. اللهمّ إلّا أن يريد بالحكمين في مثل
الإناءين المشتبهين حرمة شربهما المعلوم ثبوت أحدهما إجمالا. ولو قال : بثبوت حكم
مردّد بين حكمين ، أو ثبوت حكم مردّد بين موضوعين ، كان أولى.
١٩٦٣. قد تقدّم عند شرح عنوان هذا الشرط صراحة كلام صاحب الوافية
في عدم الاختصاص.
١٩٦٤. قد تقدّم ذلك ، لكنّه أعاد هنا تمهيدا لبيان ما يرد على
المحقق القمي رحمهالله.
ثمّ إنّ مورد الشكّ في البلوغ كرّا :
الماء المسبوق بعدم الكرّية ، وأمّا المسبوق بالكرّية فالشكّ في نقصانه من الكرّية
والأصل هنا بقائها. ولو لم يكن مسبوقا بحال : ففي الرجوع إلى طهارة الماء (١٩٦٥)
للشكّ في كون ملاقاته مؤثّرة في الانفعال ، فالشكّ في رافعيّتها للطهارة أو إلى
نجاسته ؛ لأنّ الملاقاة مقتضية للنجاسة ،
______________________________________________________
١٩٦٥. مبنى الوجه الأوّل على كون القلّة شرطا في الانفعال
بالملاقاة ، ومع الشكّ في كون الماء الموجود قليلا أو كثيرا يحصل الشكّ في كون
الملاقاة رافعة للطهارة ، وحينئذ يرجع إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها. والثاني
على كون الملاقاة سببا للانفعال ، والكثرة مانعة ، ومع الشكّ في الكثرة يحصل الشكّ
في وجود المانع ، وحينئذ يحكم بتأثير المقتضي ، لكون الشكّ في وجود المانع مع
إحراز المقتضي في حكم عدمه عند العقلاء ، وإن لم يكن عدمه موردا للاستصحاب.
وهو كما ترى ، إذ
الحكم بتأثير المقتضي موقوف على إحراز عدم المانع ودعوى بناء العقلاء على عدمه
حينئذ في حيّز المنع. والفرض عدم كونه موردا للأصل أيضا ، لأنّه إن اريد به
استصحاب عدم المانع في هذا الموجود الخارجي فهو غير مسبوق بالعدم بالفرض. وإن اريد
استصحاب عدم الكرّ في هذا المكان فهو لا يثبت عدم كرّية هذا الماء ، إلّا على
القول بالاصول المثبتة. ومن هنا يظهر أنّ الأظهر هو الحكم بالطهارة مطلقا ، سواء
قلنا بكون القلّة شرطا أو الكثرة مانعا.
وللمصنّف رحمهالله في كتاب الطهارة كلام لا يخلو إيراده من فائدة ، قال : «ظاهر
النصّ والفتوى كون الكرّية مانعة عن نجاسة الماء. أمّا النصّ فلأنّ المستفاد من
الصحيح المشهور : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» أنّ الكرّية علّة لعدم
التنجيس ، ولا نعني بالمانع إلّا ما يلزم من وجوده العدم.
وأمّا قوله صلىاللهعليهوآله : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر لونه»
وقوله عليهالسلام في صحيحة حريز «كلّما غلب الماء ريح الجيفة فتوضّأ واشرب»
ونحو ذلك ، فهي وإن كانت ظاهرة في كون القلّة شرطا في النجاسة ، بناء على أنّ
القليل
.................................................................................................
______________________________________________________
هو المخرج عن
عمومه ، فلا بدّ من إحرازها في الحكم ، فإذا شكّ في كون ماء خاصّ قليلا أو كثيرا
وجب الرجوع إلى تلك العمومات ، إلّا أنّه لما دلّت أخبار الكرّ ـ كما تقدّم ـ على
كون الكرّية مانعة ، ونفس الملاقاة سببا ، بل هذه الأخبار بنفسها دالّة على هذا
المعنى ، حيث إنّ الخارج منها هي القلّة ، وهي أمر عدمي باعتبار فصلها ، يرجع
الأمر بالآخرة إلى مانعيّة الكثرة التي هي مفاد أخبار الكثرة ، فكان اللازم تقييد
الماء في هذه الأخبار بالكثير ، وجعل الكثرة جزءا داخلا في موضوع الماء المحكوم
بعدم الانفعال. فتلك العمومات ليس من قبيل ما كان عنوان العامّ مقتضيا للحكم ،
وعنوان المخصّص مانعا.
هذا كلّه مضافا
إلى ما دلّ بعمومه على انفعال الماء ، خرج منه الكرّ مثل قوله عليهالسلام : «الماء الذي يدخله الدجاجة الواطئة للعذرة أنّه لا يجوز
التوضّؤ منه ، إلّا أن يكون كثيرا قدر كرّ من الماء» وقوله عليهالسلام فيما يشرب منه الكلب : «إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستسقى
منه» فإنّ ظاهرهما كون الملاقاة للنجاسة سببا لمنع الاستعمال ، والكرّية عاصمة.
ومن هنا يظهر أنّه
لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الانفعال عند الشكّ في الكرّية شطرا وشرطا ، وسيأتي
ضعف ما يحتمله بعضهم في هذا المقام ، سواء شكّ في مصداق الكرّ ، كما إذا شكّ في
كرّية ماء مشكوك المقدار غير مسبوق بالكرّية أم في مفهومه ، كما إذا اختلف في
مقدار الكرّ أو في اعتبار اجتماعه أو استواء سطوح أجزائه ، ولم يكن هناك إطلاق في
لفظ الكرّ ونحوه يرجع إليه. ووجه الرجوع إلى العموم في الأخيرين واضح ، لأنّ الشكّ
في التخصيص. وكذا الوجه في الرجوع إليه مع الشكّ في المصداق إذا كان الماء مسبوقا
بالقلّة ، لاستصحاب عدم الكرّية. ومثل هذا الاستصحاب وإن كان مخدوشا عند التدقيق ،
لعدم إحراز الموضوع فيه ، إلّا أنّ الظاهر عرفا من أدلّة الاستصحاب شموله له.
وأمّا إذا لم يكن
مسبوقا بالكرّية ، إمّا لفرض وجوده دفعة ، وإمّا للجهل بحالته
.................................................................................................
______________________________________________________
السابقة ، لترادف
حالتي الكرّية والقلّة عليه ، فقد يتأمّل في الرجوع فيه إلى العمومات ، بناء على
أنّ الشكّ في تحقّق ما علم خروجه ، كما في قولك : أكرم العلماء إلّا زيدا ، إذا
شكّ في كون عالم زيدا أو عمرا ، ولا يلزم من الحكم بخروجه مجازا ومخالفة ظاهر
محوجة إلى القرينة.
إلّا أنّ الأقوى
فيه الرجوع إلى العموم ، إمّا لأنّ أصالة الكرّية وإن لم تكن جارية لعدم تحقّقها
سابقا ، إلّا أنّ أصالة عدم وجود الكرّ في هذا المكان يكفي لإثبات عدم كرّية هذا
الموجود ، بناء على القول بالاصول المثبتة. وإمّا لأنّ الشكّ في تحقّق مصداق
المخصّص يوجب الشكّ في ثبوت حكم الخاصّ له ، والأصل عدم ثبوته له ، فإذا انتفى حكم
الخاصّ ولو بالأصل ثبت حكم العامّ ، إذ يكفي في ثبوت حكم العامّ عدم العلم بثبوت
حكم الخاصّ دون العكس ، فتأمّل. والفرق بين المثال وما نحن فيه : أنّ الأمر في
المثال دائر بين المتباينين ، وفيما نحن فيه بين الأقلّ والأكثر ، والمتيقّن خروج
المعلومات.
وإمّا لأنّ عنوان
المخصّص في المقام من قبيل المانع عن الحكم الذي اقتضاه عنوان العام ، فلا يجوز
رفع اليد عن المقتضي إلّا إذا علم بالمانع ، ومع الشكّ فالأصل عدم المانع ، وإن
كان ذات المانع ـ كالكرّية فيما نحن فيه ـ غير مسبوق بالعدم. والفرق بين ما نحن
فيه وبين المثال : أنّ عنوان المخصّص في المثال ليس من قبيل المانع ، بل هو مقسم ،
فكأنّ العامّ عند المتكلّم منقسم إلى قسمين ، كلّ منهما يقتضي حكما مغايرا لما
يقتضيه الآخر.
ولأجل بعض ما
ذكرنا أفتى جماعة ـ كالفاضلين والشهيد ـ بنجاسة الماء المشكوك في كرّيته ، نظرا
إلى أصالة عدم الكرّية الحاكمة على استصحاب طهارة الماء. ويمكن حمل كلامهم على
الغالب ، وهو البلوغ تدريجا ، فلا يشمل ما لم يكن مسبوقا بالقلّة. نعم ، احتمل في
موضع من المنتهى الرجوع إلى استصحاب الطهارة ، مستدلّا عليه بقاعدة اليقين والشكّ.
ولعلّه لاعتضاده بقاعدة الطهارة ، وإلّا
.................................................................................................
______________________________________________________
فقاعدة اليقين
جارية في الكرّية غالبا ، بل دائما كما عرفت.
وممّا ذكرنا يظهر
ما في كلام بعض أنّه إذا شكّ في شمول إطلاقات الكرّ وإطلاقات القليل لبعض الأفراد
، فالأصل يقضي بالطهارة وعدم تنجّسه بالملاقاة. نعم ، لا يرفع الخبث به ، بأن يوضع
فيه كما يوضع في الكرّ والجاري ، وإن كان لا يحكم عليه بالنجاسة بمثل ذلك ، بل
يحكم بالطهارة ، فيؤخذ منه ماء ويرفع به الخبث على نحو القليل ، ولا مانع من رفع
الحدث به ، لكونه ماء طاهرا. قال : والسرّ في ذلك أنّ احتمال الكرّية كافية في حفظ
طهارته وعدم تنجّسه ، ولكن لا يكفي ذلك في الأحكام المتعلّقة بالكرّ ، كالتطهّر به
من الأخباث بوضع المتنجّس في وسطه ونحو ذلك ، ثمّ جواز التطهير به على هذا النحو»
انتهى.
وظاهر كلامه
بقرينة ذكره في ذيل عنوان اعتبار تساوي السطوح في الكرّ أنّ مراده الشكّ في شرط
اعتصام الكرّ وانفعال القليل. وهو الوجه الثالث من وجوه الشكوك الثلاثة التي
ذكرناها ، وقد عرفت أنّه لا إشكال في وجوب الرجوع فيه إلى عموم الانفعال ، وكأنّه
تخيّل تبعا لصاحب الحدائق أنّ كلّا من القلّة والكثرة أمران وجوديّان ، لا بدّ من
الرجوع عند تردّد الماء بينهما إلى ما يقتضيه الأصل في أحكام القليل والكثير ،
إلّا أنّ صاحب الحدائق رجع إلى الاحتياط ، لكونه الأصل عنده فيما لا نصّ فيه.
وأنت خبير بأنّ
القليل مع أنّه أمر عدمي باعتبار فصله العدمي لم يترتّب في الأدلّة حكم عليه ،
وإنّما يترتّب على ما ليس بكرّ كما يستفاد من قوله عليهالسلام : «إلّا أن يكون كثيرا قدر كرّ» وقوله : «إذا كان الماء
قدر كرّ لم ينجّسه» الدالّ على كون السبب في عدم الانفعال الكرّية ، فمع الشكّ فيه
يحكم بعدم المسبّب ، لأصالة عدم السبب. ونظير ذلك ما زعمه بعضهم في التذكية والموت
من وجوب الرجوع إلى الاصول في الأحكام إذا شكّ فيهما.
وبالجملة ، فلا
ينبغي الإشكال في الحكم بالنجاسة مع الشكّ في الكرّية مطلقا.
.................................................................................................
______________________________________________________
نعم ، هذا الحكم
في الصورة الأخيرة لا يخلو عن إشكال ، وإن ذكرنا له وجوها» انتهى كلامه زيد في
الخلد إكرامه.
وأنت خبير بأنّ ما
ذكره من الوجوه الثلاثة في جواز الرجوع إلى عمومات الانفعال بالملاقاة ، مع كون
الشبهة في المصداق الذي لم تعلم حالته السابقة ، ضعيف جدّا. أمّا الأوّل فلضعف
القول بالاصول المثبتة. وأمّا الثاني فإنّ أصالة عدم حكم الخاص إنّما يجدي في
جريان حكم العامّ إذا كانت الشبهة في الخاصّ حكميّة لا مصداقيّة ، لأنّه إذا ورد
وجوب إكرام العلماء وشكّ في حرمة إكرام زيد العالم مثلا ، فأصالة عدم حرمته تقتضي
وجوب إكرامه عملا بعموم العامّ مع الشكّ في المخصّص ، بل أصالة عموم العامّ مزيلة
للشبهة عنه من دون حاجة في التمسّك بها إلى الأصل المذكور ، لأصالة عدم ورود مخصّص
عليه ، بخلاف ما لو ورد قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم ، وشكّ في شخص
في كونه زيدا العالم أو عمرا العالم ، إذ أصالة البراءة عن وجوب إكرامه لا تقضي
بظهور العامّ في الشمول له ، لتساويه في الاندراج تحت كلّ من العامّ والمخصّص ، بل
كلّ منهما مجمل بالنسبة إلى هذا المصداق المشتبه. وقوله : «المتيقّن خروج
المعلومات» يرد عليه أنّ الخارج هو الأفراد الواقعيّة دون المعلومة.
وأمّا الثالث
فلعدم ثبوت قاعدة إحراز المقتضي والشكّ في المانع ما لم يكن المانع مسبوقا بالعدم
، لعدم الدليل عليه كما أسلفناه ولكنّ الظاهر أنّ مقصوده بيان الفرق بين المخصّصات
، وذلك لأنّ المخصّص قد يكون مقسّما لأفراد العامّ إلى قسمين ، مثل أن تقول : أكرم
العلماء ولا تكرم الفساق منهم ، لأنّ مرجعه إلى وجوب إكرام العدول منهم ، وحرمة
إكرام الفساق منهم. وحينئذ إذا كان واحد منهم مجهول الحال من حيث العدالة والفسق ،
وتردّد بين دخوله تحت العامّ والخاصّ ، يكون كلّ من العامّ والخاصّ مجملا بالنسبة
إليه ، ولا يكون لشيء منهما ظهور في الشمول له. وقد يكون مثبتا للمانع من حكم
العامّ بالنسبة إلى بعض
والكرّية مانعة عنها
بمقتضى قوله عليهالسلام
: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»
ونحوه ممّا دلّ على سببيّة الكرّية لعدم الانفعال المستلزمة لكونها مانعة عنه ،
والشكّ في المانع في حكم العلم بعدمه ، وجهان.
وأمّا أصالة عدم تقدّم (١٩٦٦) الكرّية
على الملاقاة ، فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتّى يجري فيه الأصل.
نعم ، نفس الكرّية حادثة ، فإذا شكّ في تحقّقها حين الملاقاة حكم بأصالة عدمها.
وهذا معنى عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة. لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين
حدوث الكرّية ، وهو معنى عدم تقدّم الملاقاة على الكرّية ، فيتعارضان ، فلا وجه
لما ذكره من الأصل.
______________________________________________________
أفراده ، مثل ما
ورد من لعن بني أميّة قاطبة بعد ما ورد من إكرام المؤمن وعدم إهانته ، لكون
الإيمان مقتضيا لحسن الإكرام ، وعنوان كون المؤمن من بني اميّة مانعا منه ، فإذا
شكّ في كون مؤمن من بني اميّة ، فعموم العامّ يقتضي عدم كون هذا الموضوع المشتبه
من بني اميّة ، فيكون مبيّنا لحاله ومزيلا للشبهة عنه ، كما قرر في محلّه. وما نحن
فيه من هذا القبيل ، لفرض كون الكرّية مانعة ، والملاقاة مقتضية للنجاسة. ومراد
المصنّف رحمهالله بأصالة عدم المانع هو هذا المعنى ، لا البناء على عدمه مع
الشكّ فيه وإن لم يكن مسبوقا بالعدم ، حتّى يمنع قيام الدليل عليه. اللهمّ إلّا أن
يمنع الفرق بين المانع والمقسم في المخصّصات في نظر أهل العرف ، لعدم التفاتهم إلى
ذلك ، ولذا استشكل في الحكم بالنجاسة في آخر كلامه.
١٩٦٦. يعني في المثال الثالث من الأمثلة التي ذكرها صاحب
الوافية. وحاصل ما أورده عليه يرجع إلى وجهين :
أحدهما : عدم صحّة
استصحاب عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ، لعدم اليقين بذلك في السابق حتّى
يستصحب.
وثانيهما ـ مع
تسليم كون المراد بأصالة عدم التقدّم أصالة عدم حدوث الكرّية في زمان الملاقاة ـ :
أنّ الأصل معارض بمثله ، إذ الأصل أيضا عدم حدوث
وقد يفصّل (١٩٦٧) فيها بين ما كان تأريخ
واحد من الكرّية والملاقاة معلوما ، فإنّه يحكم بأصالة تأخّر المجهول بمعنى عدم
ثبوته في زمان يشكّ في ثبوته فيه ،
______________________________________________________
الملاقاة في زمان
الكرّية ، إذ الكلام في المقام إنّما هو فيما جهل تاريخ كلّ من الكرّية والملاقاة
، فلا وجه لجعل المقام موردا للأوّل. وظاهره ـ سيّما مع تخصيص الاعتراض على
المفصّل بحكمه بالطهارة مع التقارن في صورة جهل تاريخهما ـ هو الحكم بالنجاسة في
صورة العلم بتاريخ الملاقاة ، لأجل أصالة عدم الكرّية في زمان الملاقاة ،
وبالطهارة في صورة العكس ، لأجل أصالة عدم حدوث الملاقاة في زمان الكرّية. وفيه
نظر يظهر وجهه ممّا علّقناه على أمره بالتأمّل.
١٩٦٧. المفصّل صاحب الفصول. ويظهر أيضا من العلّامة الطباطبائي
في منظومته فيما علم بحدوث كلّ من الطهارة والحدث وشكّ في المتقدّم منهما. قال :
وإن يكن يعلم
كلّا منهما
|
|
مشتبها عليه ما
تقدّما
|
فهو على الأظهر
مثل المحدث
|
|
إلّا إذا عيّن
وقت الحدث
|
وحاصله : الحكم
بكونه محدثا مع الجهل بتاريخ كلّ منهما ، لتعارض أصالة عدم حدوث كلّ منهما في زمان
حدوث الآخر. وكذا مع العلم بتاريخ الطهارة ، لأصالة عدم حدوث الحدث في زمان
الطهارة.
نعم ، يحكم بكونه
متطهّرا مع العلم بتاريخ الحدث ، لأصالة عدم حدوثها في زمانه. ومن هنا تنحلّ عقدة
الإشكال عن معنى بيت آخر له رحمهالله في خلل الوضوء ، قبل البيتين المذكورين بفاصلة بيتين آخرين
، وهو قوله :
والشكّ في جفاف
مجموع الندى
|
|
يلغى إذا ما
الوقت في الفعل بدا
|
لأنّ حاصله أنّه
إذا شكّ في تحقّق جفاف مجموع الندى في العضو السابق على العضو الذي هو فيه وعدمه ،
يبطل وضوئه إذا لم يعلم وقت الفعل ووقت الجفاف ، للشكّ حين العمل في تحقّق شرطه
الذي هو الموالاة بين أفعال الوضوء.
فيلحقه حكمه من
الطهارة والنجاسة ، وقد يجهل التأريخان بالكلّية ، وقضيّة الأصل في ذلك التقارن ،
ومرجعه إلى نفي وقوع كلّ منهما في زمان يحتمل عدم وقوعه فيه ، هو يقتضي ورود
النجاسة على ما هو كرّ حال الملاقاة ، فلا ينجس به
، انتهى.
وفيه : أنّ تقارن ورود (١٩٦٨) النجاسة
والكرّية موجب لانفعال الماء ؛ لأنّ الكرّية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد
الكرّية على ما هو مقتضى قوله عليهالسلام
: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» ، فإنّ الضمير المنصوب راجع إلى الكرّ
المفروض كرّيته ، فإذا حصلت الكرّية حال الملاقاة كان المفروض للملاقاة غير كرّ ،
فهو نظير ما إذا حصلت الكرّية بنفس الملاقاة فيما إذا تمّم الماء النجس كرّا بطاهر
، والحكم فيه
______________________________________________________
وكذا إذا علم بوقت
الجفاف دون الفعل ، كما إذا شكّ في حال مسح الرجلين في أنّه في حال غسل اليد
اليسرى هل كانت يده اليمنى جافّة أم لا؟ مع علمه بحصول الجفاف حين طلوع الشمس مثلا
، إذ الأصل عدم حدوث غسل اليد اليسرى قبل زمان حصول الجفاف ، بل حين حدوثه أيضا ،
ومقتضاه الحكم بالبطلان ، لعدم حصول شرط الصحّة.
وأمّا إذا علم وقت
الفعل دون الجفاف ، كما إذا علم بحصول غسل اليد اليسرى عند طلوع الشمس ، وشكّ في
تقدّم الجفاف عليه وتأخّره عنه ، فحينئذ يلغى الشكّ ويحكم بالصحّة ، إذ الأصل عدم
حدوث الجفاف في زمان غسل اليد اليسرى وهذا المعنى محكيّ عن الناظم قدسسره. وقد استصعب جماعة من الأعلام فهم معناه ، وقد حكي أنّ
صاحب الجواهر بعد أن تأمّل فيه ليلة من الليالي صرّح بأنّه إمّا مجمل أو معمّى لا
يفهم منه معنى.
١٩٦٨. حكي الحكم بالتقارن عن الشهيد الثاني أيضا. ويرد عليه ـ مضافا
إلى ما ذكره ، ومضافا إلى أنّ التقارن من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم أيضا ،
يمكن استصحاب عدمها ـ أنّ إثبات التقارن باستصحاب عدم تقدّم كلّ من الحادثين على
الآخر لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة.
النجاسة ، إلّا أنّ
ظاهر المشهور فيما نحن فيه (١٩٦٩) الحكم بالطهارة ، بل ادّعى المرتضى قدسسره
عليه الإجماع ، حيث استدلّ بالإجماع على طهارة كرّ رئي فيه نجاسة لم يعلم تقدّم
وقوعها على الكرّية ، على كفاية تتميم (١٩٧٠) النجس كرّا في زوال نجاسته.
وردّه الفاضلان
وغيرهما بأنّ الحكم بالطهارة هنا لأجل الشكّ في ثبوت
التنجيس
؛ لأنّ الشكّ مرجعه (١٩٧١) إلى الشكّ في كون الملاقاة مؤثّرة ـ لوقوعها قبل
الكرّية ـ أو غير مؤثّرة ، لكنّه يشكل بناء على أنّ الملاقاة سبب
______________________________________________________
١٩٦٩. يمكن أن يستدلّ لهم بوجوه :
أحدها : أن يكون
الحكم تعبّديا ثابتا بالإجماع على خلاف القاعدة كما ادّعاه المرتضى. وفيه : أنّ
ظاهر المشهور ورود الحكم على وفق القاعدة.
وثانيها : أن يكون
الحكم مبنيّا على اعتبار الاصول المثبتة ، فبعد تعارض الأصلين يرجع إلى قاعدة
الطهارة.
وثالثها : أن تكون
القلّة شرطا في الانفعال ، وبعد تعارض الأصلين يحصل الشكّ في تحقّق شرط الانفعال
حين الملاقاة ، فيحكم بالطهارة لقاعدتها.
ورابعها : كون
الكرّية مانعة من الانفعال ، وبعد تعارض الأصلين يحصل الشكّ في تحقّق المانع حين
الملاقاة ، فيحكم بالطهارة لقاعدتها. وإليه أشار المصنّف رحمهالله فيما يأتي من كلامه بقوله : «إلّا أنّ الاكتفاء بوجود
السبب» إلى آخر ما ذكره. وستعرف الوجه في أمره بالتأمّل فيه ، وستقف على ما ينبغي
أن يقال في تحقيق المقام.
١٩٧٠. تقريب الاستدلال فيه هو اتّحاد الطريق والمناط في الموردين
، وهو حصول التقارن بين الكرّية والملاقاة.
١٩٧١. لأنّه نتيجة تعارض الأصلين.
__________________
للانفعال ، والكرّية
مانعة ، فإذا علم بوقوع السبب في زمان
لم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب.
إلّا أنّ الاكتفاء بوجود السبب من دون
إحراز عدم المانع ولو بالأصل محلّ تأمّل ، فتأمّل (١٩٧٢).
______________________________________________________
١٩٧٢. يظهر وجه التأمّل والإشكال فيه ممّا أسلفناه في ذيل ما
نقلناه عن المصنّف رحمهالله في كتاب الطهارة عند شرح قوله : «ففي الرجوع إلى طهارة
الماء للشكّ في كون ملاقاته مؤثّرة» إلى آخر ما ذكره ، فراجع.
ولكنّك خبير بأنّ
الأولى في الاعتراض على المشهور أن يقال : بأنّ الانفعال في قوله صلىاللهعليهوآله : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء» مرتّب على عدم
الكرّية دون القلّة ، وعدم الانفعال على حصول الكرّية ، فأصالة عدم حدوث الكرّية
إلى زمان حصول الملاقاة فيما علمت الكرّية والملاقاة وشكّ في المتقدّم منهما ،
تقتضي كون الملاقاة مؤثّرة في الانفعال. وأمّا أصالة عدم حدوث الملاقاة إلى زمان
حصول الكرّية فلا يترتّب عليها أثر ، لعدم ترتّب عدم الانفعال على عدم الملاقاة
إلى زمان حصول الكرّية ، بل على حصول الملاقاة في زمان الكرّية ، لأنّ هذا وإن كان
لازما عقليّا لعدم حدوث الملاقاة إلى زمان حصول الكرّية ، إلّا أنّ الأصل المذكور
لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة. وبالجملة ، إنّ الأصلين إذا لم يترتّب
على مقتضى أحدهما أثر شرعيّ لا يعارض ما ترتّب عليه ذلك ، كما قرّر في محلّه.
تنبيه : اعلم أنّ
المصنّف رحمهالله قد تبع المحقّق القمّي فيما نقله عن صاحب الوافية ،
والموجود فيها بعد بيان جملة من معاني الأصل هكذا : «اعلم أنّ هنا قسما من الأصل
كثيرا ما يستعمله الفقهاء ، وهو أصالة عدم الشيء ، وأصالة عدم تقدّم الحادث ، بل
هما قسمان. والتحقيق أنّ الاستدلال بالأصل ـ بمعنى النفي والعدم ـ إنّما يصحّ على
نفي الحكم الشرعيّ بمعنى عدم التكليف ، لا على إثبات الحكم
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
الشرعيّ ، ولهذا
لم يذكره الاصوليّون في الأدلّة الشرعيّة. وهذا يشترك فيه جميع أقسام الأصل
المذكورة ، مثلا إذا كان أصالة براءة الذمّة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة اخرى ،
فحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها».
ثمّ ساق الكلام في
ذكر جملة من أمثلة أصالة البراءة وأصالة العدم ممّا كان إجرائهما فيه مستلزما
لثبوت التكليف من جهة اخرى ، إلى أن قال : «وكذا في أصالة عدم تقدّم الحادث ،
فيصحّ أن يقال في ماء وجد فيه نجاسة بعد الاستعمال ، ولم يعلم هل وقعت النجاسة قبل
الاستعمال أو بعده؟ الأصل عدم تقدّم النجاسة ، فلا يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل
رؤية النجاسة. ولا يصحّ إذا كان شاغلا للذمّة ، كما إذا استعملنا ماء ثمّ ظهر أنّ
هذا الماء كان قبل ذلك نجسا ، ثمّ طهر بإلقاء كرّ عليه دفعة ، ولم يعلم أنّ
الاستعمال هل كان قبل تطهيره أو بعده؟ فلا يصحّ أن يقال : الأصل عدم تقدّم تطهيره
، فيجب إعادة غسل ما لاقى ذلك الماء في ذلك الاستعمال ، لأنّه إثبات حكم بلا دليل
، لأنّ حجّية الأصل في النفي باعتبار قبح تكليف الغافل ووجوب إعلام المكلّف
بالتكليف ، فلذا يحكم ببراءة الذمّة عند عدم الدليل ، فلو ثبت حكم شرعيّ بالأصل
يلزم إثبات حكم من غير دليل ، وهو باطل إجماعا» انتهى.
ثمّ إنّه بعد أن
أورد شطرا من الكلام في البين قال : «اعلم أنّ لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة
وبأصالة العدم وبأصالة عدم تقدّم الحادث شروطا ، أحدها : ما مرّ من عدم استلزامه
لثبوت حكم شرعيّ من جهة اخرى. وثانيها : أن لا يتضرّر بسبب التمسّك به مسلم ، وذكر
في بيانه ما يقرب ممّا نقله المصنّف رحمهالله. وثالثها : أن لا يكون الأمر المتمسّك فيه بالأصل جزء
عبادة مركّبة ، فلا يجوز التمسّك به لو وقع الاختلاف في الصلاة هل هي ركعتان أو
أكثر أو أقلّ في نفي الزائد؟ وعلى هذا القياس ، بل كلّ نصّ بيّن فيه أجزاء ذلك
المركّب كان دالا على عدم جزئيّة ما لم يذكر فيه ، فيكون نفي ذلك المختلف فيه
حينئذ منصوصا لا معلوما بالأصل ، كما
.................................................................................................
______________________________________________________
لا يخفى» انتهى.
وغير خفيّ أنّ ما
ذكره مثالا لأصالة عدم تقدّم الحادث غير منطبق على ما نقله عنه المصنّف رحمهالله مثالا لها ، وهو المثال الثالث من الأمثلة التي نقلها ،
لأنّ ما ذكره مفروض فيما كان المشكوك فيه تقدّم وقوع النجاسة على الاستعمال ، وكذا
تقدّم الاستعمال على التطهير ، وفيما نقله عنه المصنّف رحمهالله تقدّم الكرّية على ملاقاة النجاسة.
وأقول في تحقيق ما
ذكره من مثال الشكّ في تقدّم الكرّية على الاستعمال : إنّ واحدا منهما إمّا أن
يكون معلوم التاريخ ، بأن يعلم أنّ الماء النجس الملقى عليه الكرّ والمستعمل منه
كان إلقاء الكرّ عليه وقت طلوع الشمس ، ووقع الشكّ في تقدّم الاستعمال على زمان
إلقاء الكرّ عليه وتأخّره عنه ، أو علم زمان الاستعمال ووقع الشكّ في تقدّم إلقاء
الكرّ عليه وتأخّره عنه ، أو يجهل تاريخ كلّ منهما. وعلى التقادير : إمّا أن يكون
المغسول به نجسا أو طاهرا. ولا بدّ من الحكم بطهارة المغسول على بعض التقادير
الستّة ، وبنجاسته على بعض آخر.
وأمّا إذا كان
المغسول به نجسا ، وكان تاريخ الكرّية معلوما ، فقد يتوهّم أنّ اللازم حينئذ هو
الحكم بطهارة المغسول ، لأصالة عدم تقدّم الاستعمال على الكرّية ، ويلزمه حصول
الغسل بالكرّ.
وفيه ما لا يخفى ،
لعدم ترتّب طهارة الثوب المغسول به على الأصل المذكور ، فإنّ حصول الطهارة مرتّب
في الأدلّة على الغسل في الكرّ ، لا على عدم تقدّم الاستعمال على إلقاء الكرّ. نعم
، هو لازم عقلي له ، والأصل المذكور لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة ،
فلا بدّ حينئذ من استصحاب نجاسته.
وأمّا إذا علم
تاريخ الاستعمال ، فأصالة عدم تحقّق إلقاء الكرّ في زمان الاستعمال تقتضي بقاء
نجاسة الثوب ، وعدم ارتفاعها بالغسل بالماء المذكور. وإن شئت قلت : الأصل بقاء
نجاسته إلى زمان الاستعمال.
.................................................................................................
______________________________________________________
وأمّا إذا جهل
تاريخهما ، فإمّا أن يقال حينئذ بأنّ مقتضى إجراء الأصلين هو الحكم بمقارنة
الاستعمال لإلقاء الكرّ ، كما نقله المصنّف رحمهالله عن المفصّل فيما علم بحدوث الملاقاة والكرّية وشكّ في
المتقدّم منهما ، وحكي أيضا عن الشهيد الثاني كما أسلفناه ، أو لا يقال بذلك ، لما
أسلفناه هناك من كون المقارنة من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، فهي بنفسها
مورد للأصل ، والأصلان إنّما يثبتانها على القول بالاصول المثبتة.
وعلى الأوّل لا
بدّ من الحكم ببقاء نجاسة الثوب ، كما قرّره المصنّف رحمهالله فيما اعترض به على المفصّل. نعم ، على هذا القول لا بدّ من
فرض الكلام فيما نحن فيه فيما لم تكن المقارنة مقارنة لبقاء الثوب في الماء بعد
إلقاء الكرّ ، بأن يفرض إخراج الثوب حين حصول المقارنة ، وإلّا فلا بدّ من الحكم
بزوال نجاسته.
وعلى الثاني لا
بدّ من الحكم ببقاء النجاسة أيضا ، لأنّ مجهولي التاريخ لا يزيد على صورتي العلم
بالتاريخ ، لعدم خروجه منهما ، وقد عرفت أنّ مقتضاهما الحكم بالنجاسة.
وأمّا إذا كان
المغسول طاهرا ، فحينئذ إن كان تاريخ إلقاء الكرّ معلوما يحكم بطهارة الثوب ، لما
عرفت من عدم ترتّب أثر شرعيّ على أصالة عدم تقدّم الاستعمال على إلقاء الكرّ ، فيستصحب
طهارته.
وإن كان تاريخ
الاستعمال معلوما يحكم بتنجّسه ، لما عرفت من أنّ مقتضى أصالة عدم تقدّم إلقاء
الكرّ بمعنى عدم حدوثه في زمان احتمل فيه تنجّسه بالملاقاة. ولا تعارضها أصالة
بقاء طهارة الثوب ، لحكومتها عليها ، لأنّ مقتضى الاولى كون الثوب مغسولا بالماء
المتنجّس ، فيرتفع الشكّ في بقاء طهارته.
وفيه نظر ، لأنّ
الحكم بتنجّسه موقوف على إثبات نجاسة الماء في زمان الغسل بالدليل أو الأصل.
والأوّل مفروض العدم. والثاني لا يثبتها ، لأنّ غاية ما هنا هو استصحاب عدم إلقاء
الكرّ إلى زمان الاستعمال ، واستصحاب بقاء النجاسة
الثاني : أن لا يتضرّر بإعمالها مسلم ،
كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت
دابّته. فإنّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة «الإتلاف»
وعموم قوله صلىاللهعليهوآله
: «لا ضرر ولا ضرار» ؛ فإنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع ، وإلّا
فالضرر غير منفي ، فلا علم حينئذ ـ ولا ظنّ ـ بأنّ الواقعة غير منصوصة ، فلا
يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النصّ ، بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعيّ
بالضارّ ، ولكن لا يعلم أنّه مجرّد التعزير أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له
تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح .
ويرد عليه : أنّه إن كانت (١٩٧٣) قاعدة «نفي
الضرر» معتبرة في مورد الأصل ، كانت دليلا كسائر الأدلّة الاجتهاديّة الحاكمة على
البراءة ، وإلّا فلا معنى للتوقّف في الواقعة
______________________________________________________
إلى زمانه ، وشيء
منهما غير مفيد في المقام ، لأنّ استصحاب عدم إلقاء الكرّ إلى زمان الاستعمال لا
يثبت كون الماء الموجود حين الاستعمال غير كرّ إلّا بالملازمة العقليّة التي لا
يثبتها الأصل. مضافا ـ فيه وفي الثاني ـ إلى أنّ الموضوع في الزمان السابق هو
الماء القليل ، ولم يعلم بقائه إلى زمان الاستعمال ، فلا مجرى للأصل حينئذ ، لعدم
العلم ببقاء موضوعه حتّى يقال بحكومته على أصالة طهارة الثوب.
وإن جهل تاريخهما
، فلا بدّ من الحكم بطهارة الثوب حينئذ ، لأنّ أصالة عدم حدوث الاستعمال في زمان
إلقاء الكرّ لا يترتّب عليه أثر شرعيّ كما تقدّم ، فلا تعارض أصالة طهارة الثوب.
ولا تعارضها أيضا أصالة عدم حدوث إلقاء الكرّ في زمان الاستعمال ، كما عرفته فيما
كان الاستعمال معلوم التاريخ.
١٩٧٣. مضافا إلى عدم تمسّك أحد بقاعدة الضرر في إثبات الضمان ،
سوى ما يظهر من بعض كلمات صاحب الرياض. ويؤيّده حصرهم أسباب الضمان في اليد
والإتلاف والتسبيب.
ثمّ إنّ ما أورده
عليه المصنّف رحمهالله تبعا لغير واحد من أواخر المتأخّرين يرجع إلى وجوه :
وترك العمل بالبراءة.
ومجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة «الإتلاف»
أو «الضرر» لا يوجب رفع اليد عن الأصل. والمعلوم تعلّقه بالضارّ فيما نحن فيه هو
الإثم والتعزير إن كان متعمّدا ، وإلّا فلا يعلم وجوب شيء عليه ، فلا وجه لوجوب
تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.
وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره
في خصوص أدلّة الضرر. كما لا وجه لما ذكره (١٩٧٤) من تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم
يكن جزء عبادة ، بناء على أنّ المثبت لأجزاء العبادة هو النصّ. فإنّ النصّ قد يصير
مجملا ، وقد لا يكون نصّ في المسألة ، فإن قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم
بثبوت التكليف بالأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر فلا مانع منه ، وإلّا فلا مقتضي
له ، وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة.
______________________________________________________
أحدها : أنّ مجرّد
احتمال اندراج ما نحن فيه تحت قاعدة الضرر والإتلاف لا يوجب رفع اليد عن الأصل
المحكّم في المقام.
الثاني : أنّه على
تقدير القطع بالاندراج لا وجه لتخصيص الشرط بعدم التضرّر ، إذ كما يعتبر في العمل
بأصالة البراءة عدم كون موردها موردا للقاعدتين ، كذلك يعتبر أيضا عدم كونه موردا
لسائر القواعد.
الثالث : منع
دلالة قاعدة الضرر على الضمان ، بل الضارّ إن قصد بفعله الإضرار على الغير فهو آثم
قطعا ، وإلّا فلا إثم عليه أيضا. قال في الجواهر : «إنّ استفادة الضمان من القاعدة
المزبورة متوقّفة على الانجبار بفتوى الأصحاب ، إذ لا اقتضاء لها إلّا عدم
مشروعيّة ما فيه الضرر والضرار في الإسلام على معنى النهي عن إيجاده ، وهو إنّما
يقتضي حرمة ذلك ، لا الجبر بالضمان المتوقّف على إرادة انتفاء وجوده في الدين ،
المنزّل على إرادة جبر ما يحصل منه فيه بالغرامة ، لأنّه أقرب المجازاة إلى نفيه ،
بل يمكن دعوى إرادة ذلك حقيقة من النفي بلا تجوّز ، إلّا أنّ ذلك كلّه كما ترى لا
يصلح دليلا لذلك من دون انجبار بفتوى الأصحاب فضلا عن الفتوى بخلافه» انتهى.
١٩٧٤. هذا إشارة إلى الاعتراض على ثالث الشروط بما هو واضح.
المصادر :
(١) روض الجنان
: ص ٢٤٨ ؛ القوانين ج ٢ : ص ١٤٠ ـ ١٤٤.
(٢) مشارق
الشموس : ص ٩٠.
(٣) رسائل
الشريف المرتضى ج ٢ : ص ٣٨٣ ـ ٣٨٤.
(٤) الوسائل ج ٢
: ص ٩٥٧ ، الباب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، الحديث ١.
(٥) الأنعام (٦)
: ١٤٩.
(٦) أمالي
الطوسى : ص ٩ المجلس الأوّل.
(٧) النساء (٤)
: ٩٧.
(٨) تفسير
القمّى ج ١ : ص ١٤٩.
(٩) عدّة الاصول
ج ٢ : ص ٧٤٢ ـ ٧٤٣.
(١٠) الوسائل ج
٢ : ص ٩٧٧ ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، الحديث ٨.
(١١) مدارك
الأحكام ج ٢ : ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ؛ ج ٣ : ص ٢١٩.
(١٢) مجمع
الفائدة والبرهان ج ٢ :
ص ١١٠.
(١٣) المنتهى ج
٤ : ص ٢٣٠.
(١٤) مفتاح
الكرامة ج ٢ : ص ١٩٩.
(١٥) التذكرة ج
٢ : ص ٣٩٩.
(١٦) المدارك ج
٢ : ص ٣٤٥.
(١٧) القوانين ج
٢ : ص ٢٤٨.
(١٨) المعالم :
ص ٢٠١.
(١٩) القوانين ج
١ : ص ٤٦٠.
(٢٠) المبسوط ج
١ : ص ٢١٠.
|
|
(٢١) التحرير ج
١ : ص ٦٢.
(٢٢) التحرير ج
١ : ص ٦٣.
(٢٣) الذكرى ج ١
: ص ٥١.
(٢٤) الوافية :
ص ٢٠٩.
(٢٥) القوانين ج
٢ : ص ٤٦ ـ ٤٧.
(٢٦) الوسائل ج
١ : ص ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢.
(٢٧) الفصول
الغرويّة : ص ٣٥٤.
(٢٨) المعتبر ج
١ : ص ٥٢.
(٢٩) الوافية :
ص ١٩٣ ـ ١٩٤.
|
قاعدة لا ضرر ولا ضرار
وحيث جرى ذكر حديث «نفي الضرر والضرار»
ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة ، فنقول : قد ادّعى فخر الدين (١٩٧٥) في الايضاح
في باب الرهن تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، فلا نتعرّض من الأخبار
______________________________________________________
١٩٧٥. قد اعترف المصنّف رحمهالله في بعض رسائله المفردة لهذه القاعدة بعدم عثوره في الايضاح
بهذه الدعوى من الفخر ، ولكنّي وجدتها في أواخر باب الرهن في مسألة إقرار الراهن
بعتق العبد المرهون قبل الرهن ، قال : «وثالثها : العتق ، فنقول : يجب عليه فكّ
الرهن بأداء الدين ، فإذا تعذّر وبيع في الدين وجب افتكاكه ، فإن بذله للمشتري
بقيمته أو أقلّ وجب فكّه ، ولو بذله بالأزيد ولو بأضعاف قيمته فالأصحّ وجوب فكّه
عليه ، لوجوب تخليص الحرّ ، فإنّه لا عوض له إلّا التخليص ، ولا يمكن إلّا بالأزيد
من القيمة ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. واحتمال عدمه ـ لإمكان استلزامه
الضّرر ، بأن يحيط بمال الراهن ، والضرر منفي بالحديث المتواتر ـ ضعيف ، ولا وجه
له عندي» انتهى ، فتدبّر.
وقد جمع في أواخر
كتاب المعيشة من الكافي بابا لهذه القاعدة ، وكثرة الأخبار الواردة فيها أغنت عن
ملاحظة سندها ، وتمييز صحيحها عن ضعيفها ، وسليمها عن سقيمها ، فلا وجه لرميها بالضعف
في أخبارها كما صدر عن بعضهم. نعم ، لا بدّ حينئذ من إيراد الكلام في دلالتها ،
وفي مقدار مدلولها ، وفي ملاحظة معارضها ، إذ لا بدّ في تأسيس كلّ قاعدة من الكلام
فيه من جهات : من جهة الإثبات ، ومن جهة دلالة الدليل المثبت لها ، ومن جهة
معارضاتها.
الواردة (١٩٧٦) في
ذلك إلّا لما هو أصحّ ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ، وهي الرواية
______________________________________________________
١٩٧٦. من هذه الأخبار الواردة النبويّ المشهور بين العامّة
والخاصّة : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». وهو مرويّ في كتب الفقهاء ، وأرسلها في
التذكرة والذكرى ونهاية ابن الأثير عن النبيّ صلىاللهعليهوآله. وفي بعض الكتب مرويّ بدون لفظ «في الإسلام».
ومنها : ما نقله
المصنّف رحمهالله في كتاب المكاسب في مسألة حرمة الغشّ قال : «وفي رواية
العيون قال رسول الله صلىاللهعليهوآله بأسانيد منّا : ليس من المسلمين من غشّ مسلما أو ضرّه أو
ماكره». ومنها رواية طلحة بن زيد عن الصادق عليهالسلام : «أنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم». ومنها رواية عقبة
بن خالد عن الصادق عليهالسلام قال : «قضى رسول الله صلىاللهعليهوآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر
ولا ضرار».
ومنها : ما رواه
في التهذيب عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليهالسلام : «في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع ، فاشتراه رجل بعشرة
دراهم ، فجاء واشترك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضي أنّ البعير برئ فبلغ
ثمنه دنانير ، قال : لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ ، فإن قال : لا اريد إلّا الرأس
والجلد ، فليس له ذلك ، هذا الضرار ، وقد أعطي حقّه إذا أعطي الخمس».
ومنها : ما روي عن
محمّد بن الحسين قال : «كتبت إليه ـ يعني : أبا محمّد عليهالسلام ـ رجل كان له رحى
على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير
هذا النهر ويعطّل هذه الرحى ، أله ذلك؟ فوقّع : يتّق الله عزوجل ، ويعمل في ذلك المعروف ، ولا يضارّ لأخيه المؤمن».
ومنها : ما رواه
عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قضى رسول الله صلىاللهعليهوآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع البئر ،
وبين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال : لا ضرر ولا ضرار».
ومنها : الأخبار
المتضمّنة (١٩٧٧)
لقصّة سمرة بن جندب مع الأنصاري ، وهي ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام
: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق (١٩٧٨) ، وكان
______________________________________________________
المتضمّنة أنّ من
أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن. ومنها : الأخبار الواردة في العيون الضارّة
بعضها ببعض.
وقد يستدلّ على
المدّعى أيضا بالعقل والكتاب. والأوّل كما ترى. والثاني أيضا مثله. اللهمّ إلّا أن
يريد به ما دلّ منه على نفي العسر والحرج ، ولكن صدق الضرر عليهما مطلقا كما ترى.
١٩٧٧. ما نقله أوّلا رواه ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام. ويقرب منها ما رواه الحذّاء عنه عليهالسلام ، إلّا أنّه ليس فيها لفظ الضرر والضرار ، بل فيها أنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا ، اذهب يا فلان
فاقلعها واضرب بها وجهه». وما نقله ثانيا رواه ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام.
وهذه الروايات كما
ترى صريحة في ذمّ سمرة وعدم قبوله قول النبيّ صلىاللهعليهوآله. وعن روضة الكافي : أنّه ـ يعني سمرة بن جندب ـ ضرب ناقة
رسول الله صلىاللهعليهوآله على رأسها فشجّها ، فخرجت إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فشكت. وعن شرح ابن أبي الحديد على النهج : أنّ معاوية بذل
لسمرة بن جندب مائة ألف درهم على أن يروي أنّ هذه الآية نزلت في عليّ عليهالسلام : «من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ـ إلى قوله ـ لا
يحبّ الفساد». وأنّ هذه نزلت في ابن ملجم لعنه الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فلم يقبل ، فبذل مأتي ألف فلم يقبل ، فبذل ثلاثمائة ألف
فلم يقبل ، فبذل أربعمائة ألف فقبل ، وروى ذلك. وفيه : أنّ سمرة بن جندب عاش حتّى
حضر مقتل الحسين عليهالسلام ، وكان من شرطة ابن زياد ، وكان أيّام مسير الحسين عليهالسلام إلى العراق يحرّض الناس على الخروج إلى قتاله.
١٩٧٨. قال الطريحي : العذق كفلس النخلة بحملها. وأمّا العذق بالكسر
فالكباسة ، وهي عنقود التمر ، والجمع أعذاق كأحمال.
طريقه إليه في جوف
منزل رجل من الأنصار ، وكان يجئ ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري. فقال
الأنصاري : يا سمرة ، لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها ، فإذا دخلت
فاستأذن. فقال : لا أستأذن في طريقي إلى عذقي. فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
، فأتاه ، فقال له : إنّ فلانا قد شكاك وزعم أنّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ،
فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل. فقال : يا رسول الله ، أستأذن في طريقي إلى عذقي؟
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله
: خلّ عنه ولك عذق في مكان كذا. قال : لا. قال : فلك اثنان. فقال : لا اريد. فجعل صلىاللهعليهوآله
يزيد حتّى بلغ عشر أعذق. فقال : لا. فقال صلىاللهعليهوآله
: خلّ عنه ولك عشر أعذق في مكان كذا ، فأبى. فقال : خلّ عنه ولك بها عذق في
الجنّة. فقال : لا اريد. فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله
: إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. قال عليهالسلام
: ثمّ أمر بها رسول الله صلىاللهعليهوآله
فقلعت ، ثمّ رمي بها إليه. وقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله
: انطلق فاغرسها حيث شئت ...» .
وفي رواية اخرى موثّقة : «إنّ سمرة بن
جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ـ وفي
آخرها ـ : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار ...» .
وأمّا معنى اللفظين (١٩٧٩) : فقال في
الصحاح : الضرّ خلاف النفع ، وقد ضرّه و
______________________________________________________
ثمّ إنّ في المقام
بحثا ، وهو أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كيف أمر بقلع عذق سمرة استنادا إلى قاعدة الضرر واندراج
الواقعة فيها؟ لأنّ تردّد سمرة إلى عذقه كما أنّه كان ضررا على الأنصاري ، كذلك
قلع عذقه ضرر عليه ، فكيف قدّم أحد الضررين على الآخر مع تساويهما في الاندراج تحت
القاعدة؟
والجواب ـ مع عدم
قدح هذا الإشكال في الاستدلال ـ أنّ سمرة كان قاصدا للإضرار على الأنصاري ، ولم
يكن مقصوده مجرّد الانتفاع بعذقه وإن استلزم ضرر الأنصاري ، ولا ريب في حرمة
الإضرار مع قصده. ومن هنا يظهر شمول الرواية لصورة قصد الإضرار ، ولكن ليس المورد
مخصّصا لعموم اللفظ.
١٩٧٩. لا إشكال في معنى الضر ، وأنّه ضدّ النفع. والمستفاد ممّا
نقله عن
ضارّه بمعنى. والاسم
الضّرر. ثمّ قال : والضّرار المضارّة .
وعن النهاية الأثيريّة : في الحديث : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». الضرّ ضدّ
النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضرارا ، وأضرّ به يضرّه إضرارا ، فمعنى قوله : «لا ضرر»
لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه. والضّرار فعال من الضرّ ، أي لا يجازيه
على إضراره بإدخال الضرر عليه.
والضّرر فعل الواحد ، والضّرار فعل
الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضّرار الجزاء عليه. وقيل : الضرر ما تضرّ به
صاحبك وتنتفع أنت به. والضّرار أن تضرّه من غير أن تنتفع. وقيل : هما بمعنى.
والتكرار للتأكيد
، انتهى. وعن المصباح : «ضرّه يضرّه» من باب قتل : إذا فعل به مكروها وأضرّ به. يتعدّى
بنفسه (١٩٨٠) ثلاثيّا وبالباء رباعيّا. والاسم الضرر. وقد يطلق على نقص في
الأعيان. وضارّه مضارّة وضرارا بمعنى ضرّه ، انتهى. وفي القاموس : «الضرّ ضدّ
النفع ، وضارّه يضارّه وضرارا. ثمّ قال : والضرر سوء الحال. ثمّ قال : والضرار
الضيق» ، انتهى.
إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ المعنى
بعد تعذّر إرادة (١٩٨١) الحقيقة عدم
______________________________________________________
الصحاح أنّ المصدر
هو الضر ، واسم المصدر هو الضرر ، وأنّ المجرّد والمفاعلة منه بمعنى واحد. وقيل :
الضر بالفتح ضدّ النفع ، وبالضمّ الهزال وسوء الحال. وأمّا لفظ الضرار ففي مفهومه
إجمال كما يظهر ممّا نقله عن النهاية ، إلّا أنّه لا يضرّ بالاستدلال بالأخبار بعد
تبيّن مفهوم لفظ الضرر. وقيل : الضرر هو الاسم ، والضرار هو المصدر ، فيكون منهيّا
عن الفعل الذي هو المصدر ، وعن إيصال الضرر الذي هو الاسم. ويظهر من النهاية كون
الضرار مصدرا للمجرّد ، كما أنّه مصدر للمفاعلة.
١٩٨٠. مثل : كبّه وأكبّ به. وقد ذكر في آخر المصباح في فصل تعدية
الثلاثي اللازم أربعة عشر موضعا تعدّى فيها الثلاثي وقصر رباعيّه ، ولم يذكر مادّة
الضرر منها هناك.
١٩٨١. لوجود الحقيقة في الشرع والعادة بديهة ، وبعد تعذّر
إرادتها اختلفوا في المعنى المراد من اللفظ على وجوه :
.................................................................................................
______________________________________________________
أحدها : ما ذكره
المصنّف رحمهالله من أنّ المراد نفي الضرر المشروع ، بمعنى عدم جعل الشارع
حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيّا كان أو وضعيّا ، فكلّ حكم تكليفي أو وضعي يلزم
من جعله أو إمضائه شرعا ضرر على أحد ، من قبل الله تعالى أو من قبل العباد ، فهو
منفي شرعا ، وغير مجعول لله تعالى ، ولا ممضى عنده.
وهذا أظهر الوجوه
في معنى الرواية ، إذ لا يرد عليه سوى لزوم المجازيّة في الظرف ، أعني : قوله «في
الإسلام» إذ لا بدّ حينئذ من أخذ لفظ «في» بمعنى السببية ، لأنّ المراد بالإسلام
هو الأحكام الشرعيّة والضرر مرتّب عليها ومسبّب عنها ، لا مستقرّ فيها حتّى يتمّ
معنى الظرفيّة. ولكن لفظ «في الإسلام» لم يرد إلّا في بعض الروايات المتقدّمة. مع
أنّ هذا المحذور أهون من سائر المحاذير الواردة على سائر الوجوه ، لمساعدة فهم
العرف عليه.
وأمّا ما أورده
عليه المصنّف رحمهالله من منافاته للفقرة الثانية ، أعني : قوله «ولا ضرار» بمعنى
المجازاة أو فعل الاثنين ، فمع ورود هذا الإشكال على كلّ تقدير ، وعدم اختصاصه
بهذا الوجه ، أنّه إنّما يرد على تقدير أخذه بأحد المعنيين المذكورين وهو غير
متعيّن ، لاحتمال التأكيد فيه كما تقدّم. وبالجملة ، أنّا قد أشرنا إلى أنّ لفظ
الضرار في الرواية مجمل ، وأنّه غير مصادم للاستدلال بالفقرة الاولى ، أعني : قوله
«لا ضرر» لظهوره عرفا ولغة في ضدّ النفع.
وكيف كان ،
فالاستدلال بالرواية على هذا الوجه على إثبات حكم وضعي ، إنّما هو باعتبار كون نفي
الحكم الضرري مستلزما لحكم وضعي ، مثل نفي لزوم البيع مع الغبن ، لاستلزامه الخيار
للمشتري ، وجواز العقد بالنسبة إليه ، ونفي براءة ذمّة الضارّ عن تدارك ما أدخله
من الضرر المستلزم لضمانه ، وهكذا.
وثانيها : ما
احتمله المصنّف رحمهالله من أخذ النفي بمعنى النهي ، بأن كان إنشاء التحريم مرادا
من الجملة. وهذا المعنى محكيّ عن البدخشي. قال : «الضرر والضرار ممنوع منه شرعا ،
وتحقيق ذلك أنّ النفي هاهنا بمعنى النهي ، بقرينة أصل الضرر الواقع»
.................................................................................................
______________________________________________________
انتهى. ويؤيّده
قول النبيّ صلىاللهعليهوآله في قضيّة سمرة : «إنّك رجل مضارّ» حيث ذمّه على فعل الضرر.
وثالثها : أن يكون
النفي باقيا على ظاهره ، ويكون مدخوله مقيّدا بالإذن من الشارع ، والمعنى : لا ضرر
مأذونا فيه شرعا ، ولا ضرار كذلك في الإسلام ، فكلّ فعل يكون فيه ضرر على الغير
يكون غير مأذون فيه شرعا ، فيكون حراما. فيرجع هذا المعنى إلى سابقه.
ويردّ عليهما
أوّلا : أنّ حمل الجملة الخبريّة على معنى الإنشاء وكذا التقدير فيها خلاف الظاهر
، ولو بمعونة ملاحظة نظائرها مثل قوله : لا عسر ولا حرج في الدين ، مضافا إلى
أصالة عدمهما.
وثانيا : أنّ حمل
النفي على إرادة معنى التحريم لا يتمّ في رواية الشفعة المتقدّمة ، إذ ليس فيها
فعل يتعلّق به التحريم. مع أنّ الصادق عليهالسلام قد أثبت الشفعة فيها بقاعدة الضرر ، لأنّه إذا باع أحد
الشريكين حصّته من المال المشترك فيه ، فالفعل الذي يمكن تعلّق النهي به إمّا
إيقاع العقد أو إبقائه. والأوّل غير حرام بلا إشكال. والثاني لا يعقل تعلّق النهي
به ، لأنّ الإبقاء إنّما هو فعل الله تعالى دون المكلّف. مع أنّ حرمة الإبقاء لا
تستلزم ثبوت الشفعة ، لعدم المنافاة بين حرمة إبقائه وعدم ثبوت حقّ الشفعة للشفيع
، نظير عدم استلزام حرمة بيع الزاد والراحلة على المستطيع للفساد. وكذا لو باع
ثوبا واشترط في ضمن العقد أن يبيعه ثوبا آخر ، فإنّ بيع الثوب الآخر من الغير حرام
لأجل وجوب الوفاء بالشروط ، ولا تستلزم حرمته الفساد. والوجه في ذلك كلّه عدم
تعلّق النهي بذات المعاملة وأركانها ، لتعلّق النهي في الأوّل بتفويت الحجّ ، وفي
الثاني بعدم الوفاء بالشرط.
وثالثا : أنّ
العلماء قد استدلّوا خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل بهذه القاعدة في باب الخيارات ، من
خيار الغبن والعيب ونحوهما. ولا حرمة في البيع المغبون فيه ولا في بيع المعيب ،
كيف لا وقد يجهل المتبايعان بالغبن والعيب ، ولا معنى للتحريم حينئذ.
.................................................................................................
______________________________________________________
ورابعا : أنّ
متعلّق الحرمة هو أفعال العباد دون الأحكام ، مع أنّ العلماء ربّما يستدلّون على
الأعمّ منهما ، ولذا ترى أنّهم يقولون بعدم وجوب الوضوء فيما استلزم استعمال الماء
الضرر ، استنادا إلى هذه القاعدة ، وكذا بعدم وجوب الحجّ مع العلم أو الظنّ بالضرر
في الطريق ، ولا معنى لحرمة إيجاب الوضوء والحجّ على الله تعالى عن ذلك.
هذا ، ويمكن دفع
ما عدا الأوّل بحمل النهي على بيان الحرمة التشريعيّة دون الذاتيّة ، بأن يراد
بتحريم الضرر تحريم الالتزام بالحكم الذي يترتّب عليه الضرر ، لوضوح حرمة الالتزام
بالحكم المنفي شرعا. ولعلّه لأجل ذلك قد صرّح المصنّف رحمهالله برجوع المعنى الثاني إلى الأوّل ، لوضوح ثبوت الحرمة على
المعنى الأوّل أيضا ، لما عرفت من استقلال العقل بقبح الالتزام بالحكم المنفي شرعا
، غاية الأمر أنّ الحرمة على المعنى الأوّل تكون ثابتة بحسب العقل ، وعلى المعنى
الثاني مصرّحا بها في الرواية.
وخامسا : أنّ حمل
نفي الضرر على إرادة النهي عنه لا يناسبه تقييده بقوله «في الإسلام» إذ الإسلام
عبارة عن نفس أحكامه سبحانه ، فيصير المعنى حينئذ : يحرم فعل الضرر في الأحكام ،
ولا ريب في هجنته .
ورابعها : وهو ما
يستفاد ممّا نقله المصنّف رحمهالله عن الفاضل التوني ، أن يكون المراد نفي الضرر المجرّد عن
التدارك والجبران في الإسلام ، لا بدعوى حذف قيد الجبران ، بل بدعوى كون الضرر
المتدارك غير ضرر ادّعاء ، كدعوى دخول الشجاع في جنس الأسد على مذهب السكاكي ، فلا
حذف حتّى ينفى بالأصل ، إذ كما أنّ ما يحصل بإزائه نفع ـ كدفع مال بإزاء عوض مساو
له أو أزيد ـ لا يسمّى ضررا ، كذلك الضرر المقرون بحكم الشارع بلزوم تداركه منزّل
منزلة عدمه ، وإن لم يسلب عنه مفهوم الضرر حقيقة بمجرّد حكم الشارع بالتدارك.
فإتلاف المال بلا
تدارك ضرر صاحبه إن وجد في الخارج فهو منفي ، فلا بدّ أن
__________________
تشريع الضرر ، بمعنى
أنّ الشارع لم يشرّع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيّا كان أو وضعيّا ، فلزوم
البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر ، وكذلك لزوم البيع من
غير شفعة للشريك ، وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلّا بثمن كثير ، وكذلك
سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري ، وكذلك
حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقّف أخذ الحقّ عليه.
ومنه : براءة ذمّة الضارّ من تدارك ما
أدخله من الضرر ، إذ كما أنّ تشريع حكم يحدث معه الضرر منفي بالخبر ، كذلك تشريع
ما يبقى معه الضرر الحادث ، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه
يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث ، إلّا أنّه قد ينافي هذا قوله : «لا ضرار» ، بناء
على أنّ معنى الضرار المجازاة على الضرر. وكذا لو كان بمعنى المضارّة التي هي من
فعل الاثنين ؛ لأنّ فعل البادئ منهما (١٩٨٢) ضرر قد نفي بالفقرة الاولى ، فالضرار
المنفي بالفقرة الثانية إنّما يحصل
______________________________________________________
يكون مقرونا بحكم
الشارع بالضمان ، وكذلك تمليك المغبون ماله من غيره بإزاء ما دونه في القيمة من
دون جبرانه بالخيار ، وهكذا.
ويردّ عليه أوّلا
: أنّه مجاز فلا يصار إليه بلا دليل.
وثانيا : منع صحّة
التنزيل بمجرّد حكم الشارع بالتدارك ، إذ التنزيل إنّما يصحّ مع التدارك فعلا لا
بمجرّد الحكم به ، فتأمّل.
وثالثا : أنّ
الفقهاء ربّما يتمسّكون بقاعدة الضرر في نفي وجوب الوضوء مع الضرر في استعمال
الماء ، وفي نفي وجوب الحجّ مع العلم أو الظنّ بالضرر في الطريق ونحوهما ، مع عدم
تحقّق الجبران في أمثالهما على تقدير وقوع التكليف. وبالجملة ، إنّ الفقهاء لم
يفرّقوا في موارد القاعدة بين الضرر العائد إلى نفس المكلّف وغيره.
ورابعا : أنّ لفظ «في»
ظاهر في معنى الظرفيّة. وعلى هذا المعنى لا بدّ أن يجعل بمعنى السببيّة ، إذ
الإسلام عبارة عن نفس أحكام الشرع ، ولا معنى لنفي الضرر غير المتدارك في الإسلام
إلّا بجعل لفظ «في» بمعنى السببيّة كما لا يخفى.
١٩٨٢. أي : الأوّل منهما. وفي بعض النسخ «الثاني» بدل البادئ ،
والصحيح
بفعل الثاني ، وكأنّ
من فسّره بالجزاء على الضرر أخذه من هذا المعنى ، لا على أنّه معنى مستقلّ.
ويحتمل أن يراد من النفي : النهي عن
إضرار النفس أو الغير ، ابتداء أو مجازاة ، لكن لا بدّ من أن يراد بالنهي (١٩٨٣)
زائدا على التحريم الفساد وعدم المضيّ ؛ للاستدلال به في كثير من رواياته على
الحكم الوضعي دون محض التكليف ، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء في الشروط والعقود
، فكلّ إضرار بالنفس أو الغير محرّم غير ماض على من أضرّه. وهذا المعنى قريب من الأوّل
بل راجع إليه.
والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها
وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الأوّل.
______________________________________________________
هو الأوّل. وحاصله
: أنّه لو كان المراد بالرواية نفي حكم شرعيّ ينشأ منه ضرر على أحد لا يبقى معنى
للفقرة الثانية ، أعني : قوله «ولا ضرار» إذا أخذ بمعنى المجازاة أو فعل الاثنين.
أمّا على الأوّل ،
فإنّه إذا أضرّ أحد غيره فبراءة ذمّة الضارّ عن تدارك ما أدخل عليه من الضرر
منفيّة بالفقرة الاولى ، فلا بدّ من تداركه بالضمان. وهذا الحكم الوضعي أيضا منفي
بالفقرة الثانية ، لأنّ الضمان حكم وضعي يترتّب عليه ضرر على الضارّ أيضا بعنوان
المجازاة ، فهو منفي بها.
وأمّا على الثاني
، فإنّ شخصين إذا أضرّ كلّ منهما بالآخر فالبادئ منهما ضرر منفي بالفقرة الاولى ،
والضرار حينئذ إنّما يتحقّق بفعل الثاني لا بفعلهما. ولعلّ من فسّره بمعنى الجزاء
أخذه من معنى المضارّة بمعنى فعل الاثنين ، لا أنّه معنى مستقلّ بحياله.
١٩٨٣. فيه تعريض على صاحب الجواهر ، لأنّه ـ كما تقدّم سابقا ـ ادّعى
كون المراد بالنفي في الرواية معنى النهي وأنّه لا يدلّ على الفساد وعن المحقّق
القمّي رحمهالله أيضا منع الملازمة بينهما على تقدير كون المراد بالنفي معنى
النهي.
ثمّ إنّ هذه القاعدة حاكمة (١٩٨٤) على
جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، كأدلّة لزوم العقود
وسلطنة الناس على أموالهم ووجوب
______________________________________________________
١٩٨٤. اعلم أنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ الكلام في تأسيس كلّ
قاعدة يقع تارة من حيث بيان الدليل المثبت لها ، واخرى من حيث دلالتها ومقدارها ،
وثالثة من حيث المعارض وعدمه. وقد أشار المصنّف رحمهالله إلى الأوّلين ، وأراد أن يشير إلى الثالث هنا.
وليعلم أنّه ليس
في الكتاب والسنّة ما يعارض هذه القاعدة كلّية ، بأن يدلّ على عدم نفي الضرر في
الأحكام عموما. نعم ، قد يدلّ دليل خاصّ على ثبوت حكم خاصّ في مورد الضرر فيكون
هذا الدليل مخصّصا لعموم القاعدة. وقد تكون العمومات مثبتة للحكم على وجه العموم ،
فتشمل موارد الضرر أيضا فيقع التعارض بينها وبين هذه القاعدة بالعموم من وجه. وقد
اختلف كلماتهم في تقديم هذه القاعدة أو ملاحظة المرجّحات ، واختار المصنّف رحمهالله الأوّل بدعوى حكومة هذه القاعدة عليها.
وإن شئت زيادة
توضيح لذلك نقول : إنّك قد عرفت ممّا ذكرناه وذكره المصنّف رحمهالله أنّ هذه القاعدة ممّا استفاضت بها الأخبار ، بل ادّعى
الفخر تواترها ، وهي المناسبة للملّة السمحة السهلة إلّا أنّ الإشكال في أنّها من
قبيل الاصول فتعتبر حيث لا دليل على خلافها عموما وخصوصا ، حتّى يقال : إنّ الأصل
عدم هذا الحكم الضرري إلّا أن يثبت خلافه بدليل خاصّ أو عامّ ، ليكون جميع
العمومات مقدّما عليها ، أو هي من قبيل الأدلّة. وعليه فهل هي من قبيل الأدلّة
اللفظيّة أو العقليّة؟ وعلى الأوّل فهل هي فائقة على سائر العمومات أو في عرضها؟
حتّى يلتمس الترجيح عند معارضتها معها ، وجوه.
أمّا الأوّل فهو
لازم كلّ من قال بتدارك الضرر المرتّب على العمل بالحكم الشرعيّ بالمثوبة
الاخرويّة أو غيرها ، بمعنى عدم تحقق موضوع الضرر حينئذ ، كما
.................................................................................................
______________________________________________________
يظهر من صاحبي
العوائد والعناوين ، لأنّ أدلّة الأحكام إمّا مثبتة لنفس الحكم الضرري ، كأوامر
الزكاة والخمس والجهاد ، أو ما يشمل ذلك ، كالأمر بالوضوء الشامل لصورة استلزام
استعمال الماء للضرر. وعلى أيّ تقدير ، فالأمر يكشف عن وجود مصلحة في موارده فائقة
على الضرر الحاصل منه ، إذ الأوامر كالنواهي لا بدّ من أن تنشأ من وجود مصلحة في
متعلّقها ، سوى المثوبة الحاصلة من إطاعتها وامتثالها. فكلّ مورد ضرري يشمله
الدليل خصوصا أو عموما أو إطلاقا لا تشمله أدلّة نفي الضرر. فيختصّ مورد هذه
القاعدة ـ كموارد الاصول العمليّة ـ بموارد عدم وجود الدليل عليها.
ومن هنا يظهر فساد
فرض التعارض بين هذه القاعدة على هذا التقدير ـ أعني : تقدير تسليم تدارك الضرر
بالمثوبة الاخرويّة ـ وبين عمومات التكليف ، على ما عرفته من صاحبي العوائد
والعناوين.
وحاصل ما ذكره بعد
التصريح بعدم تحقّق موضوع الضرر فيما كان في مقابله نفع آجل أو عاجل : «أنّ كلّ ما
ورد في الشرع من الأحكام بعد وجود النفع الاخروي في الجميع ، بل النفع الدنيوي من
دفع بليّة وحفظ مال وزيادة نعمة ، كما هو مقتضى الآيات والأخبار في الزكاة والصدقة
ونظائرها ، لا يعدّ ضررا حقيقة ، وذلك واضح. بل ذلك في الحقيقة نفع ، لأنّ ما يصل
إلى المكلّف بذلك من الخير أضعاف ما أصابه من النقص ظاهرا. وما ورد من مثل القصاص
ونحوه فإنّما هو جبر لما وقع من الضرر. وكذلك الدية ونحوها على ما قرره الشارع
الحكيم. وكلّ ما فيه تحمّل المنقصة مقابل بمثوبة لا يخفى على من اعتقد بوعد الحقّ
، فلا ينتقض بورود ما هو ضرر في الشريعة. ولا يلزم من ذلك عدم إمكان معارضة دليل
بقاعدة الضرر ، نظرا إلى كشفه عن نفع دنيوي أو اخروي ، إذ الأصل عدم تحقّق ذلك ،
والفرض أنّ كونه ضررا في الظاهر مقطوع به ، ومقابلته بالنفع محتملة فيما لم يقم
دليل قويّ محكم دالّ على ثبوته. فإذا تعارض مثلا دليل دالّ على ثبوت
.................................................................................................
______________________________________________________
ضرر مع دليل نفيه
بالعموم من وجه ، لا يعلم من ذلك تخصيص أحد الدليلين بالآخر حتّى يعلم أنّه ليس من
الضرر ، فلا بدّ من دليل راجح مخصّص لذلك حتّى نعرف أنّه خارج من هذا الموضوع ، فتدبّر
جدّا.
وتوضيحه : أنّ
الدليل المثبت على قسمين : قسم دالّ على نفس الضرر كالزكاة والحجّ ونحوهما ، ولا
ريب أنّه بعد دلالة الدليل على ذلك نعرف أنّه ليس بضرر. وقسم ليس كذلك ، فإنّ دليل
وجوب الحجّ والتوضّؤ يشمل ما لو كان فيه ضرر بدني مثلا ، ولا يمكن أن يقال : إنّه
ليس بضرر ، إذ ما ثبت من الدليل العوض على الوضوء والحجّ ، لا على المضارّ الأخر
الموجودة في ضمنهما ، ووجود المقابل للطبيعة لا يرفع الضرر في اللواحق. وقس على
ذلك ما يرد عليك من نظائر ما دفعناه بقاعدة الضرر» انتهى محصّل ما ذكراه.
ووجه الفساد يظهر
ممّا أسلفناه ، لأنّ تسليم شمول أدلّة وجوب التوضّؤ والحجّ بعمومها لما فيه الضرر
البدني مثلا ، لا يجامع دفع ما يتدارك به الضرر الحاصل منهما بالأصل بإزاء الضرر
الحاصل منهما. ولا وجه لدعوى كون النفع العائد منهما محتملا ، إذ مع تسليم شمول
عموم الأدلّة لصورة الضرر ، فهو يكشف عن وجود مصلحة في الفعل يتدارك بها الضرر
الحاصل به ، سوى المثوبة الحاصلة بالإطاعة ، كيف لا ولو فرض أمر الشارع بخصوص من
يتضرّر باستعمال الماء بالتوضّؤ فلا ريب في عدم قبحه ، لكشف الأمر عن وجود مصلحة
فائقة على الضرر الحاصل منه. ولا شكّ في عدم الفرق بين الأمر بعموم ما يشمل مورد
الضرر ، وبخصوص الفعل المتضمّن له فيما ذكرناه.
وهنا وجه آخر لكون
هذه القاعدة من قبيل الاصول دون الأدلّة ، ذكره المحقّق القمّي رحمهالله ، قال فيما حكي عنه : «أنّه تعالى لا يرضى بإضرار بعض
عباده بعضا ، ولا يفعل ما يضرّ بعباده ، ويجوز لمن تضرّر دفع الضرر عن نفسه.
فالمراد بنفي الضرر نفي ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكاليف الثابتة
بالنسبة إلى
.................................................................................................
______________________________________________________
طاقة أوساط الناس
البريئين عن المرض والعذر الذي هو معيار مطلق التكاليف ، بل هي منتفية من الأصل
إلّا فيما ثبت وبقدر ما ثبت ، ولا يريد الله الضرر إلّا من جهة التكاليف الثابتة
بحسب أحوال متعارف الأوساط» انتهى.
وإذا كان المراد
بالضرر هو الزائد على الضرر الحاصل في طبائع التكاليف بالنسبة إلى أوساط الناس ،
فنفي الضرر حينئذ لا يعارض التكاليف الضرريّة غير الزائد ضررها على الضرر الحاصل
في طبائعها بالنسبة إلى الأوساط. نعم ، هو يعارض الدليل المثبت للتكليف الضرري
الزائد على ما في طبائعها بالنسبة إلى الأوساط ، فللقاعدة حينئذ جهة أصليّة وجهة
دليليّة. ولكن كلمات علمائنا الأخيار ـ بل إجماعهم وأخبار أئمّتنا الأطهار عليهمالسلام ـ تدفع كونها من
قبيل الأصل مطلقا أو في الجملة ، بحيث يتوقّف جريانها في مورد على عدم الدليل.
أمّا الأوّل فواضح.
وأمّا الثاني فلما
تقدّم من الأخبار مستندا للقاعدة ، لتضمّن جملة منها لتمسّك النبيّ صلىاللهعليهوآله وبعض خلفائه المعصومين عليهمالسلام بالقاعدة في مقابل الأدلّة المنافية لها ، كما في قصّة
سمرة حيث أمر بقلع العذق تمسّكا بالقاعدة ، مع مخالفتها لسلطنة المالك على التصرّف
في أمواله. وكذا قد أثبت الشفعة بها ، مع مخالفتها لعموم وجوب الوفاء بالعقود.
وحكم فيمن اشترى بعيرا مريضا وأشرك فيه رجلا بدرهمين في الرأس والجلد ، واتّفق أنّ
البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير ، بأنّ له خمس ما بلغ ، وأنّه إن قال : لا اريد إلّا
الرأس والجلد فليس له ذلك ، تمسّكا بالقاعدة ، مع مخالفتها لقاعدة الشركة.
وإذا ثبت عدم
كونها من قبيل الاصول ، ففي كونها من قبيل الأدلّة العقليّة أو اللفظيّة وجهان ،
بل قولان. واستدلّ على الأوّل في العناوين بما حاصله : أنّ العقل كما يقبّح إضرار
الناس بعضهم ببعض فيحرم لذلك ، كذلك يقبّح الإضرار من الله تعالى عن ذلك ، فيحرم
عليه أيضا ، بمعنى عدم جواز صدوره عنه سبحانه عقلا ، فإنّ
.................................................................................................
______________________________________________________
الضرر والضرار
مناف للطف والعدل على ما يفهم من معناهما ، ومثل ذلك غير مجوّز عقلا أيضا ، كما
أسلفناه في مسألة العسر والحرج.
وأقول : إنّ قبح
الإضرار من المكلّفين إنّما هو مع قصده ، وأمّا لا معه فلا نسلّم قبحه ، ولعلّ
المستدلّ أيضا لا ينكر ذلك. وموضوع البحث هنا أعمّ ممّا صدر عن عزم والتفات وغيره
، فالدليل لا يعمّ موارد المدّعى. وأمّا قبحه من الله تعالى فإنّما يتّجه على
تقدير إدراك العقل عدم تداركه بما هو أصلح للعبد. ولعلّ الأمر بالفعل الضرري لدفع
ضرر أشدّ منه بدني أو مالي أو غيرهما ، أو منفعة كذلك ، أو لمجرّد الابتلاء.
وبالجملة ، إنّ
أمر الشارع بفعل ضرري يكشف عن وجود مصلحة فيه فائقة على الضرر الحاصل منه ، لقبح
الإضرار من الحكيم على الإطلاق. وهذا ليس بمجرّد احتمال حتّى يدفع بالأصل كما
توهّم ، فتعيّن أن تكون القاعدة من الأدلّة النقليّة الثابتة بالأخبار المتقدّمة.
وهل هي في عرض سائر القواعد حتّى يلتمس الترجيح في موارد التعارض ، أو هي حاكمة
عليها؟ والأوّل يظهر من غير واحد من المتأخّرين ، قال المحقّق القمّي رحمهالله : «قاعدة لزوم البيع تعارض قاعدة الضرر ، وبينهما عموم من
وجه ، ويحكم بالخيار ترجيحا للثاني من جهة العقل والعمل وغيرهما ، ولو كانت من باب
الأصل لما عارضت الدليل» انتهى. ونقل المصنّف رحمهالله عن الفاضل النراقي. والثاني هو المختار وفاقا للمصنّف رحمهالله.
ويدلّ عليه وجوه :
أحدها : ما أشار
إليه المصنّف رحمهالله من قياس هذه القاعدة على نظائرها من سائر القواعد من قاعدة
العسر وغيرها ، فكما أنّ قاعدة العسر تقدّم على سائر أدلّة التكاليف من دون ملاحظة
الترجيح بينهما ، كذلك هذه القاعدة.
وثانيها : ما أشار
إليه المصنّف رحمهالله من ورود أخبار هذه القاعدة في مقام الامتنان على العباد ،
وهو إنّما يتحقّق فيما كانت العمومات والمطلقات مثبتة
.................................................................................................
______________________________________________________
للتكاليف مطلقا
حتّى في مورد الضرر ، ليكون رفعها بهذه الأخبار عن موارد الضرر منّة على العباد ،
ولا نعني بالحكومة سوى هذا المعنى. ولو لم تكن العمومات والمطلقات مقتضية لثبوت
مقتضياتها مطلقا حتّى في موارد الضرر ، لم يكن للامتنان معنى في المقام.
وثالثها : أنّ
معنى الحكومة ـ كما أشار إليه المصنّف رحمهالله ـ أن يكون أحد
الدليلين متعرّضا بمدلوله اللفظي للآخر ومبيّنا للمراد منه ، إمّا بالتعميم في
موضوعه ، أو التخصيص فيه.
أمّا الأوّل فمثل
ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين ، لحكومته على ما دلّ على أنّه
لا صلاة إلّا بطهور ، بالتعميم في موضوع الطهارة في الدليل المحكوم عليه ، لدلالته
على كون المراد بها فيه أعمّ من الطهارة الواقعيّة والثابتة بالاستصحاب أو البيّنة
، وذلك لأنّ دليل الاستصحاب ـ أعني : قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» متعرّض بمدلوله
اللفظي لبيان حال ما دلّ على أنّه لا صلاة إلّا بطهور مثلا ، وكذا دليل حجّية
البيّنة إذا قامت على طهارة ثوب المصلّي ، فإنّهما يبيّنان ويفسّران المراد
بالطهارة في قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» وأنّها أعمّ من الطهارة المعلومة
والطهارة المستصحبة وما قامت عليه البيّنة.
وأمّا الثاني
فكقاعدة الضرر أو العسر أو غيرهما ، لدلالتهما على كون المراد بمتعلّق التكليف في
سائر العمومات والمطلقات ما عدا موارد الضرر والعسر. فتعرّض الدليل الحاكم لبيان
المراد بالدليل المحكوم عليه تارة يكون بالتعميم في موضوع الدليل المحكوم عليه ،
واخرى بالتخصيص فيه.
وممّا ذكرناه قد
ظهر أنّ الأخبار الواردة في مقام بيان هذه القاعدة بالنسبة إلى أدلّة التكاليف من
قبيل ذلك ، لأنّ مقتضاها نفي الحكم الضرري من بين الأحكام ، فهي تنادي بأعلى صوتها
عدم تشريع حكم ضرري في جملة الأحكام التي تثبت بمقتضى أدلّتها ، فكلّ حكم في مورد
الضرر غير مجعول للشارع. فهذه الأخبار
الوضوء على واجد
الماء ، وحرمة الترافع إلى حكّام الجور وغير ذلك.
وما يظهر من غير واحد
من أخذ التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة ، ثمّ ترجيح هذه إمّا
بعمل الأصحاب وإمّا بالاصول ـ كالبراءة في مقام التكليف وغيرها في غيره ـ ، فهو
خلاف ما يقتضيه التدبّر في نظائرها من أدلّة «رفع الحرج» و «رفع الخطأ والنسيان» و
«نفي السهو على كثير السهو» و «نفي السبيل على المحسنين» و «نفي قدرة العبد على
شىء» ونحوها ، مع أنّ وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.
والمراد بالحكومة أن يكون أحد الدليلين
بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال دليل
______________________________________________________
مفسّرة ومبيّنة
بمداليلها اللفظيّة لحال سائر العمومات والمطلقات ، ومصرّحة بعدم شمولها لموارد
الضرر. فلا تعارض بينهما حتّى يلتجئ إلى ملاحظة الترجيح في موارد الاجتماع ، إذ لا
معنى للتعارض مع كون أحد الدليلين مفسّرا للمراد بالآخر ، إمّا بالتعميم أو
التخصيص فيه كما أشرنا إليه. نعم ، لو ورد دليل خاصّ على ثبوت حكم ضرري في مورد
خاصّ كان مخصّصا لهذه القاعدة ، لعدم كونها من القواعد التي لا تقبل التخصيص.
ورابعها : أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله وبعض خلفائه المعصومين عليهمالسلام قد استدلّا بهذه القاعدة في مقابل سائر العمومات والمطلقات
المثبتة للتكليف من دون ملاحظة الترجيح بينهما ، كما في قصّة سمرة ومسألة الشفعة
وغيرهما ممّا تقدّم ، ولو لا قضيّة الحكومة بينهما لا يبقى وجه لتقديمها عليه من
دون ملاحظة ترجيح بينهما.
وخامسها : سيرة
العلماء ، كما صرّح به المصنّف رحمهالله في بعض رسائله. قال في تقريبه : «عليه جرت سيرة الفقهاء في
مقام الاستدلال في مقامات لا يخفى ، منها استدلالهم على ثبوت خيار الغبن وبعض
خيارات أخر بقاعدة نفي الضرر ، مع وجود عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الدالّ
على لزوم العقد ، وعدم سلطنة المغبون على إخراج ملك الغابن بالخيار عن ملكه»
انتهى.
آخر من حيث إثبات حكم
لشىء أو نفيه عنه. فالأوّل مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو شهادة العدلين ،
فإنّه حاكم على ما دلّ على أنّه «لا صلاة إلّا بطهور» ؛ فإنّه يفيد بمدلوله اللفظي
أنّ ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل «لا صلاة إلّا بطهور» وغيرها ، ثابت
للمتطهّر بالاستصحاب أو بالبيّنة. والثاني مثل الأمثلة المذكورة.
وأمّا المتعارضان ، فليس في أحدهما
دلالة لفظيّة على حال الآخر من حيث العموم والخصوص ، وإنّما يفيد حكما منافيا لحكم
الآخر ، وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحقّقهما واقعا يحكم بإرادة خلاف الظاهر في
أحدهما المعيّن إن كان الآخر أقوى منه ، فهذا الآخر الأقوى قرينة عقليّة على
المراد من الآخر ، وليس في مدلوله اللفظيّ تعرّض لبيان المراد منه.
ومن هنا وجب ملاحظة الترجيح في القرينة
؛ لأنّ قرينيّته بحكم العقل بضميمة المرجّح. أمّا إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي
كاشفا عن حال الآخر ، فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجّح له ، بل هو متعيّن للقرينيّة
بمدلوله له. وسيأتي لذلك توضيح في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى.
ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا (١٩٨٥) من
حكومة الرواية وورودها في مقام الامتنان نظير أدلّة نفي الحرج والإكراه : أنّ
مصلحة الحكم الضرري المجعول بالأدلّة العامّة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر ، حتّى
يقال : إنّ الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرّر وإنّ الضرر المقابل بمنفعة
راجحة عليه ليس بمنفي ، بل ليس ضررا.
______________________________________________________
١٩٨٥. توضيحه : أنّ مقتضى حكومة قاعدة الضرر على عمومات التكاليف
أن لا تكون المصالح التي تنشأ منها الأحكام صالحة لتدارك ما يترتّب عليها من الضرر
في بعض مواردها ، وإلّا لم يكن لحكومة هذه القاعدة عليها وجه ، لأنّ الشارع إذا
أمر بالتوضّؤ على وجه الإطلاق الشامل لصورة التضرّر باستعمال الماء كان ذلك كاشفا
عن وجود مصلحة فيه حتّى في مورد الضرر ، وإلّا كان إطلاق
توضيح الفساد : أنّ هذه القاعدة تدلّ
على عدم جعل الأحكام الضرريّة واختصاص أدلّة الأحكام بغير موارد الضرر. نعم ، لو
لا الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهّم المذكور مجال. وقد يدفع : بأنّ العمومات
(١٩٨٦) الجاعلة للأحكام إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر
، وهذه المصلحة لا يتدارك بها الضرر الموجود في مورده ؛ فإنّ الأمر بالحجّ والصلاة
مثلا يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ، ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل
الضرر.
______________________________________________________
الأمر خاليا من
المصلحة ، إلّا أنّ حكومة هذه القاعدة على إطلاق الأمر بالتوضّؤ يكشف عن عدم وجود
المصلحة في مورد الضرر ، بمعنى عدم كون أصل مصلحة الحكم متداركة للضرر الحاصل من
استعمال الماء ، وإلّا لم يكن لوضع الحكم عن مورد الضرر معنى ، لارتفاع موضوع
الضرر حينئذ بتداركه بمصلحة مساوية له أو أقوى منه.
١٩٨٦. الدافع هو صاحبا العوائد والعناوين ، وقد تقدّم كلامهما
عند شرح ما يتعلّق ببيان حكومة هذه القاعدة على سائر العمومات. ونقول هنا أيضا
توضيحا لبيان مرادهما : إنّ غاية ما يلزم من الأمر على وجه العموم أو الإطلاق هو
حسن الطبيعة التي تعلّق بها أو بأفرادها الأمر ووجود مصلحة فيها ، فإذا فرض ترتّب
ضرر على العمل به في واقعة خاصّة ، فإطلاق الأمر أو عمومه إنّما يكشف عن وجود
مصلحة في نفس الطبيعة مع قطع النظر عن أفرادها وخصوصيّاتها ، وهذه المصلحة لم
تلاحظ في مقابل الضرر الحاصل من خصوصيّات الأفراد ، فلا تصلح لتداركه. فشمول الأمر
بإطلاقه أو عمومه لمثل هذا الفرد موقوف على وجود مصلحة فيه زائدة على مصلحة
الطبيعة حتّى يتدارك بها الضرر الحاصل به.
وهذه المصلحة إن
كانت ملحوظة في نظر الشارع في نفس الأمر في مقابل الضرر الحاصل منه صحّ تعلّق
الأمر به ، وحينئذ يخرج هذا الفرد من موضوع قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» كسائر الأفراد التي لا يترتّب عليها
ضرر أصلا ، لارتفاع الضرر فيه أيضا بالتدارك. وإن لم تكن ملحوظة كذلك ، بأن لم تكن
فيه
وهذا الدفع أشنع من أصل التوهّم ؛ لأنّه
إذا سلّم عموم الأمر بصورة الضرر كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا
المورد ، مع أنّه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الأجر المستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله
: «أفضل الأعمال أحمزها» ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول من : «أنّ الأجر
على قدر المشقّة» ، فالتحقيق في دفع التوهّم المذكور : ما ذكرناه من الحكومة
والورود في مقام الامتنان.
______________________________________________________
مصلحة زائدة على
مصلحة الطبيعة ، فقاعدة نفي الضرر تمنع شمول عموم الحكم له ، وتخصّصه بغير موارد
الضرر ، ولا علم لنا بوجود هذه المصلحة الزائدة في موارد الضرر حتّى يقال بتداركه
بها. ومع تكافؤ احتمالي وجودها وعدمها تتعارض هذه القاعدة مع عموم الأمر ، بل
أصالة عدم هذه المصلحة الزائدة تقضي بكون المورد من موارد القاعدة ، لا كونه
مشمولا لعموم الأمر.
فأمّا أشنعيّة هذا
الدفع من أصل التوهّم فاعلم : أنّ المصنّف رحمهالله قد أشار بقوله : «إن سلّم أوّلا» إلى منع شمول إطلاق الأمر
أو عمومه لموارد الضرر. وثانيا على تقدير التسليم إلى منع عدم انجبار الضرر
الموجود بمصلحة الحكم.
أمّا الأوّل فإنّ
مقتضى إطلاق نفي الضرر في الأحكام عدم وجود مصلحة متداركة في موارد الضرر ، وعدم
شمول إطلاق الأمر أو عمومه لها ، كما أسلفناه في الحاشية السابقة ، كيف لا ولو فرض
احتمال وجودها في مورد الضرر لم يبق مورد لهذه القاعدة ، لأنّها إنّما وردت في
مقابل سائر العمومات والمطلقات. فلو تعارض احتمال وجود المصلحة الزائدة واحتمال
عدمها في موارد الضرر ، لا تكون هذه القاعدة مستقلّة بنفي حكم في مورد إلّا بضميمة
الأصل ، إلّا في موارد أصالة البراءة التي أغنتنا عن التمسّك بالقاعدة فيها. ومن
لاحظ الأخبار الواردة في المقام على جهة الامتنان قطع بفساده.
وأمّا الثاني فإنّ
تسليم عموم الأمر أو إطلاقه لموارد الضرر يكشف عن وجود المصلحة الزائدة فيها لا
محالة ، وإلّا بقي شموله لها بلا مصلحة ، وهو قبيح.
ثمّ إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا
قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا ودلالة ، إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي
كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ، كما لا يخفى على
المتتبّع ، خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدّم ، بل لو بني على العمل
بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد. ومع ذلك ، فقد استقرّت سيرة الفريقين على
الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام وعدم رفع اليد عنها إلّا بمخصّص
قويّ في غاية الاعتبار ، بحيث يعلم منهم انحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة.
ولعلّ هذا كاف (١٩٨٧)
______________________________________________________
ومحصّل ما ذكرناه
هنا وفي الحاشية السابقة : أنّ القاعدة إن لم تكن حاكمة على عموم الأمر ، فعمومه
لموارد الضرر يكشف عن وجود المصلحة الزائدة فيها لا محالة ، فيقع التعارض بينه
وبين قاعدة نفي الضرر. وإن كانت حاكمة عليه ، فهو لا يتمّ إلّا بتسليم عدم جبر
المصلحة للضرر الموجود.
وممّا ذكرناه قد
ظهر أنّ خروج مثل الزكاة والخمس والجهاد من عموم قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» إنّما هو من باب التخصّص دون التخصيص
، إذ لا بدّ فيها من وجود مصلحة متداركة لا محالة ، بناء على عدم صدق الضرر مع
تداركه بمصلحة موازية أو أقوى منه. ولكنّه لا يخلو من نظر ، لأنّ تدارك الضرر
إنّما يصحّح التكليف بالتضرّر ، ولا يوجب خروجه من موضوع الضرر ، فلا بدّ أن يكون
خروج ما ذكرناه من باب التخصيص دون التخصّص.
١٩٨٧. يعني : عمل العلماء في جبر وهن دلالة العامّ على مورد
الشك. وربّما يقال بكفاية عدم إعراض الأصحاب عن العامّ في مورد التمسّك في جبر
وهنه. والأقرب هو الأوّل. والسرّ في كفايته أنّ وهن العموم بكثرة ورود التخصيص ،
إمّا من جهة أنّه مع ورود مخصّصات كثيرة على عامّ وعدم معرفة جميعها بأعيانها ،
يحصل العلم إجمالا بورود بعض المخصّصات عليه ، ومع الشك في مورد في بقائه تحت
العامّ أو خروجه ببعض المخصّصات التي لا نعرفها تفصيلا ، يعود العامّ مجملا لا
يجوز التمسّك به في مورد الشك.
في جبر الوهن المذكور
وإن كان في كفايته نظر (١٩٨٨) ؛ بناء على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم
قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك ، غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة
ذلك المعنى ، واستدلال العلماء لا يصلح معيّنا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي
لمقام الامتنان وضرب القاعدة.
______________________________________________________
وإمّا من جهة ضعف
ظهور العامّ في العموم والشمول بتوارد المخصّصات الكثيرة عليه ، وإن لم يكن هنا
علم إجمالي ، بل الظنّ قبل الفحص في مثل ما نحن فيه حاصل بخروج مورد الشكّ من تحت
العامّ ، إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.
ويدفع الأوّل أنّه
إنّما يتمّ في موارد العمل بالعامّ من دون ضميمة عمل العلماء لا معها ، لا بمعنى
ارتفاع العلم الإجمالي بعملهم حتّى يمنع ، بل بمعنى كشف عملهم عن خروج مورد عملهم
من أطراف العلم الإجمالي. وبعبارة أخرى : أنّ مورد الشكّ لمّا كان محتمل الدخول في
أطراف العلم الإجمالي ، فعملهم يكشف عن خروجه منها من أوّل الأمر.
ويدفع الثاني أنّ
غاية ما يقتضيه ورود المخصّصات الكثيرة على العامّ هو وجوب الفحص عن مخصّصاته في
مظانّها ، ومظانّها فيما نحن فيه هي الأخبار بضميمة عمل العلماء ، فبعد الفحص عنها
كذلك يرتفع محذور وهن العموم ، وذلك لأنّ العمل بالعمومات ـ سيّما الموهون منها
بكثرة التخصيص ـ وإن كان مشروطا بالفحص عن مخصّصاتها عن مظانّها إلى أن يحصل اليأس
من وجدانها ، إلّا أنّ مظانّ مخصّصات هذه القاعدة ليست مضبوطة معلومة حتّى يرجع في
الفحص عنها إليها ، لأنّ أكثر التخصيصات الواردة عليها معلوم بالإجماع دون النصّ ،
فلا بدّ في العمل بها من الرجوع إلى عمل الأصحاب الناقدين للآثار المرويّة عن
الأئمّة الأطهار عليهمالسلام ، إذ بعد الرجوع إليه يرتفع وهن العموم ، ويزول الظنّ
المذكور ، ويحصل للعامّ ظهور في الشمول ، وعدم خروج مورد الشكّ من العموم.
١٩٨٨. تقرير وجه النظر : أنّ كثرة التخصيص إن بلغت إلى مرتبة
الاستهجان ،
إلّا أن يقال ـ مضافا إلى منع أكثريّة
الخارج (١٩٨٩) وإن سلّمت كثرته ـ إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العامّ إنّما
خرجت بعنوان واحد جامع (١٩٩٠) لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل ، وقد تقرّر أنّ
تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ،
كما إذا قيل : «أكرم الناس» ودلّ دليل على اعتبار العدالة ، خصوصا إذا كان المخصّص
ممّا يعلم به المخاطب حال الخطاب.
______________________________________________________
فلا بدّ من حمل
قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» على معنى آخر لا يلزم منه ذلك ، كما
إذا حمل النفي على معنى النهي أو غير ذلك. وإن لم تبلغ إليها فلا يبقى فرق بين هذا
العامّ وسائر العمومات المخصّصة ، فلا وجه لتخصيص الوهن بالدلالة به.
مع أنّ ما ذكرناه
من الوجهين في الحاشية السابقة على تقدير تسليمهما إنّما يتمّ وجها في جبر وهن
الدلالة في موارد ثبوت عمل العلماء دون غيره. وظاهر المصنّف رحمهالله كفاية عملهم في الموارد الكثيرة في جبر وهنها مطلقا ، حتّى
في مورد لم يثبت عملهم بالعامّ فيه. وهو لا يخلو من نظر ، لأنّ صلاحيّة عملهم
للجبر إنّما هو من جهة كشفه عن عدم خروج محلّ الشكّ من عموم العامّ ، وعملهم إنّما
يكشف عن ذلك في مورد عملهم لا مطلقا.
١٩٨٩. يمكن أن يقال على تقدير تسليم أكثريّة الخارج : إنّ
المستهجن منها ما كان الباقي بعد تخصيص الأكثر قليلا لا يعتدّ به في جنب الخارج ،
كالواحد والاثنين بالنسبة إلى عشرين أو ثلاثين ، بخلاف ما لو كان الباقي كثيرا في
نفسه ومعتدّا به بحياله ، وإن كان الخارج أكثر منه ، كالعشرة بالنسبة إلى اثني عشر
، لمنع الاستهجان في الثاني ، فتأمّل.
١٩٩٠. فإن قلت : إنّ التخصيص النوعي خلاف الظاهر لا يصار إليه
إلّا بدليل ، لظهور العامّ في العموم الأفرادي ، والمخصّصات في كون خروج الخارج
بعنوانه الخاصّ لا بعنوان عامّ ، مع أنّه مع عدم معرفة عنوان المخصّص يحتمل دخول
ومن هنا ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من
العمومات مع خروج أكثر أفرادها كما في قوله عليهالسلام
: «المؤمنون عند شروطهم» (١٩٩١) وقوله تعالى : (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) (١٩٩٢) بناء على
إرادة العهود كما في الصحيح.
______________________________________________________
محلّ الشكّ في
عنوان المخصّص ، فيعود العامّ من قبيل المخصّص بالمجمل.
قلت : ليس مرادنا
بالتخصيص النوعي تخصيص نوع من الأفراد ، بل المراد تخصيص أفراد نوع واحد ، لكن لا
بلحاظ كلّي جامع بين الأفراد ، بل بلحاظ أشخاص الأفراد ، لكن من نوع واحد. ودعوى
عود محذور لزوم تخصيص الأكثر المستهجن ، مدفوعة بمنع استهجان هذا القسم من التخصيص
، لأنّا وإن قلنا باستهجان تخصيص الأكثر ، ولكنّه ليس على إطلاقه ، إذ لا بدّ من
استثناء بعض الموارد منه ، مثل الوقوع في مقام المزاح والهزل ، وما نحن فيه أيضا
من جملة موارد الاستثناء. ويشهد به تمسّك النبيّ صلىاللهعليهوآله بعموم «لا ضرر» في قصّة سمرة ، والصادق عليهالسلام في الشفعة ، فإن تمسّكهما بالعموم يكشف إمّا عن عدم ورود
تخصيص الأكثر عليه ، بأن كان التخصيص بحسب النوع ، وإمّا عن عدم استهجان تخصيص
الأكثر ، ولكن يبقى الإشكال حينئذ في كون العامّ من قبيل المخصّص بالمجمل.
١٩٩١. لأنّ الشرط لغة إمّا بمعنى الإلزام والالتزام بشيء مطلقا
كما في الصحاح ، وهو غير واجب إلّا بمثل النذر والعهد أو في ضمن العقد مع شرائطه
الخاصّة ، أو إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه كما في القاموس ، وقد خرج منه
ما خالف مقتضى العقد ، وما حلّل حراما أو حرّم حلالا ، وغير ذلك.
١٩٩٢. عن مجمع البيان : «أنّ العقد أوكد العهود ، فاختلف في هذه
العهود على أقوال : أحدها : أنّه عهود أهل الجاهليّة بينهم على النصرة والمؤازرة
والمظاهرة. وثانيها : أنّه عهود الله في حلاله وحرامه. وثالثها : العقود التي
يعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه ، كعقد الأيمان. ورابعها : أمر أهل
الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم بالعمل بالتوراة والإنجيل في تصديق نبيّنا صلىاللهعليهوآله وما جاء
ثمّ إنّه يشكل الأمر (١٩٩٣) من حيث إنّ
ظاهرهم في
الضرر المنفي الضرر النوعي لا الشخصي ، فحكموا بشرعيّة الخيار للمغبون نظرا إلى
ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وإن فرض عدم تضرّره في خصوص مقام ، كما إذا لم يوجد
راغب في المبيع وكان بقائه ضررا على البائع ؛ لكونه في معرض الإباق أو التلف أو
الغصب ، وكما إذا لم يترتّب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع ، بل كان له فيه نفع.
وبالجملة : فالضرر عندهم في بعض الأحكام
حكمة لا يعتبر اطّرادها ، وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادها ، مع أنّ ظاهر
الرواية اعتبار الضرر الشخصي ، إلّا أن
______________________________________________________
به من عند الله.
وأقواها القول الثاني ، كما رواه ابن عبّاس. وتدخل فيه جميع الأقوال الأخر» انتهى.
وفي الصحيح ـ كما صرّح به المصنّف رحمهالله ، وهو المرويّ عن القمّي عن الصادق عليهالسلام ـ تفسيرها
بالعهود.
١٩٩٣. وجه الإشكال : أنّ
ظاهر الروايات اعتبار الضرر الشخصي ، وظاهر العلماء حيث تمسّكوا بهذه القاعدة في
إثبات خيار الغبن والعيب والشفعة هو اعتبار الضرر النوعي ، بالتقريب الذي ذكره
المصنّف رحمهالله. ويدلّ عليه أيضا استدلال الإمام عليه بهذه القاعدة لإثبات
الشفعة مطلقا في بعض أخبار الباب ، كما تقدّم في بعض الحواشي المتقدّمة.
وربّما يقال : إنّ
الظاهر من الروايات اعتبار الضرر الشخصي ، فهو الأصل في كلّ مقام ، إلّا أن يدلّ
دليل خاصّ من خبر أو سيرة من العلماء في مورد خاصّ ـ كما عرفت ـ على اعتبار الضرر
النوعي ، لكون ذلك قرينة لإرادته في الموارد الخاصّة ، من قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» من باب الدعوى وتنزيل الضرر النوعي
منزلة الشخصي ، كما ارتكب مثله في قوله عليهالسلام : «لا عسر ولا حرج في الدين». وحاصله : اعتبار عموم المجاز
في قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» لعدم صحّة إرادة المعنى الحقيقي
والمجازي من لفظ واحد ، كما هو واضح.
__________________
يستظهر (١٩٩٤) منها
انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجبه دائما ، كما قد يدّعى
نظير ذلك في أدلّة نفي الحرج.
ولو قلنا بأنّ التسلّط على ملك الغير
بإخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا ، صار الأمر أشكل (١٩٩٥).
إلّا أن يقال : إنّ الضرر أوجب وقوع
العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار ، فتأمّل.
ثمّ إنّه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى
شخص واحد (١٩٩٦) أو شخصين ،
______________________________________________________
١٩٩٤. كما ترشد إليه رواية الشفعة ، كما عرفته في الحاشية
السابقة.
١٩٩٥. لكون نفي الضرر حينئذ مستعقبا لضرر آخر ، فتتعارض فيهما
القاعدة. وحاصل ما أجاب به المصنّف رحمهالله : أنّ الضرر الثاني ليس بضرر ، لترتّبه على تزلزل العقد
كما في سائر العقود الجائزة. ويحتمل أن يريد أنّ الضرر الثاني مرتّب على جريان
القاعدة في الضرر الأوّل ، فلا تشمله القاعدة ، لاستناد ثبوته إليها.
ولعلّ الأمر
بالتأمّل على الأوّل إشارة إلى أنّ الثاني إنّما لا يكون ضررا على تقدير عدم لزوم
العقد ابتداء ، مع قطع النظر عن الضرر الأوّل ، والفرض أنّ تزلزل العقد إنّما نشأ
من تقديم ضرر البائع والشفيع على ضرر صاحبه. وعلى الثاني إشارة إلى أنّ عدم شمول
القاعدة للضرر الثاني إنّما هو بالدلالة اللفظيّة ، وإلّا فلا ريب في شمولها له
بتنقيح المناط. نظير ما أجيب عمّا اعترض على ما أورد على المرتضى فيما ادّعاه من
الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، فإنّه أورد عليه باستلزامه عدم حجّية ما نقله
من الإجماع ، لكونه من جملة أخبار الآحاد ، واعترض عليه بأنّه لا يشمل نفسه ،
وأجيب عنه بأنّه وإن لم يشمل نفسه بالدلالة اللفظيّة إلّا أنّه يشمله بتنقيح
المناط.
١٩٩٦. قال المصنّف رحمهالله في رسالته المفردة في هذه القاعدة : «لو دار الأمر بين
حكمين ضرريّين ، بحيث يكون الحكم بعدم أحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر ،
.................................................................................................
______________________________________________________
فإن كان ذلك
بالنسبة إلى شخص واحد فلا إشكال في تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا أقلّ ممّا
يستلزمه الحكم الآخر ، لأنّ هذا هو مقتضى نفي الحكم الضرري عن العباد ، فإنّ من لا
يرضى بتضرّر عبده لا يختار له إلّا أقلّ الضررين عند عدم المناص عنهما» انتهى.
وأقول : إنّ
الضررين المتوجّه أحدهما إلى العبد على وجه الدوران لا يخلوان : إمّا أن يتساويا
بحسب المرتبة والاعتقاد ، بأن كانا ماليّين أو عرضيّين أو نفسيّين ، ويكونا
مظنونين أو مقطوعين. وإمّا أن يكون أحدهما راجحا بحسب المرتبة والاعتقاد ، والآخر
مرجوحا كذلك. وإمّا أن يكون أحدهما راجحا بحسب المرتبة ومساويا للآخر بحسب
الاعتقاد ، وإمّا بالعكس. وإمّا أن يكون لكلّ منهما جهة رجحان ، بأن كان أحدهما
راجحا بحسب المرتبة ، والآخر بحسب الاعتقاد. وهذه أقسام خمسة.
أمّا الأوّل منها
فلا إشكال في تخيّر المكلّف في أخذ أحدهما ودفع الآخر مع تساويهما في الكميّة.
وأمّا مع اختلافهما فيها فيدخلان في صورة رجحان أحدهما.
وأمّا الثاني
والثالث والرابع فيدفع الضرر الراجح فيها ، ويؤخذ بالمرجوح مع تساويهما في
الكميّة. وأمّا مع اختلافهما فيها ، بمعنى كون المرجوح أكثر مقدارا من الراجح ،
فهو يدخل في القسم الخامس ، أعني : صورة رجحان كلّ منهما من جهة. وليعلم أنّ هذا
القسم يختلف بحسب الأشخاص ، إذ ربّ شخص يتحمّل الضرر المالي وإن كان كثيرا دون
العرضي وإن كان قليلا ، والضرر العرضي المقطوع به أولى من المالي المظنون في
الجملة ، فلا بدّ من ملاحظة الأشخاص ودفع الراجح بحسب حالهم.
هذا كلّه فيما كان
الضرران دنيويّين. وإن كان أحدهما دنيويّا والآخر اخرويّا ، كما في الزكاة والخمس
والجهاد ، فلا يخلو : إمّا أن يقوم على الاخروي دليل قطعي أو ظنّي معتبر ، فيقدّم
على الدنيوي ، لأنّ الضرر الاخروي قليله أشدّ
فمع فقد المرجّح
(١٩٩٧) يرجع إلى الاصول والقواعد الأخر ، كما أنّه إذا اكره على الولاية من قبل
الجائر المستلزمة للإضرار على الناس ، فإنّه يرجع إلى قاعدة «نفي
______________________________________________________
بمراتب من المهالك
الدنيويّة فضلا عن سائر مضرّاته. وإمّا أن لا يقوم عليه دليل كذلك ، فيقدّم الضرر
الدنيوي حينئذ ، لكون أصالة البراءة حينئذ مؤمّنة عن الضرر الاخروي المشكوك أو
المظنون بظنّ غير معتبر.
١٩٩٧. قال المصنّف رحمهالله بعد ذكر ما قدّمناه في الحاشية السابقة : «وإن كان بالنسبة
إلى شخصين فيمكن أن يقال أيضا بترجيح الأقلّ ضررا ، إذا مقتضى نفي الضرر عن العباد
في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر ، لأنّ العباد
كلّهم متساوون في نظر الشارع ، بل بمنزلة عبد واحد ، فإلغاء الشارع أحد الشخصين في
الضرر بتشريع الحكم الضرري فيما نحن فيه ، نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته
، فكما يؤخذ فيه بالأقلّ كذلك فيما نحن فيه ، ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات
الآخر ، ومع عدمها فالقرعة. لكن مقتضى هذا ملاحظة ضرر الشخصين المختلفين باختلاف
الخصوصيّات الموجودة في كلّ منهما من حيث المقدار ومن حيث الشخص ، فقد يدور الأمر
بين ضرر درهم وضرر دينار ، مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر
الدينار بالنسبة إلى صاحبه ، وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر» انتهى.
وأقول : إنّ تحقيق
الكلام في المقام إنّ تعارض الضررين تارة مع وجود المرجّح لأحدهما ، واخرى مع
فقده.
أمّا الأوّل فلا
إشكال في تقديم الراجح منهما ، والمرجّح امور :
أحدها : الملكيّة.
وسيجيء أنّ تصرّف المالك إذا استلزم تضرّر جاره يقدّم ضرر المالك. نعم ، قد يقدّم
ضرر الجار ، كما إذا غرس شجرا في ملكه فوقعت أجذاعه على ملك الجار ، فتقطع حينئذ
أجذاع الشجر الواقع في ملك الغير ، لاستلزام إبقائها تصرّفا في ملك الغير ، فيدخل
الضرر حينئذ على المالك. وستقف على تحقيق الكلام في ذلك.
.................................................................................................
______________________________________________________
وثانيها : العرف
والعادة ، بأن كان أحد الضررين في نظرهم مقدّما على الآخر. قال في الروضة فيما لو
باع الاصول وأبقى الثمرة : «ويجوز لكلّ منهما أي : البائع والمشتري ـ السقي مراعاة
لملكه ـ إلّا أن يستضرّا معا فيمنعان. فلو تقابلا في الضرر والنفع رجّحنا مصلحة
المشتري ، لأنّ البائع هو الذي أدخل الضرر على نفسه ببيع الأصل وتسليط المشتري عليه ، الذي يلزمه جواز سقيه» انتهى.
ولعلّ مراده أنّ
البيع مستلزم عرفا لنقل جميع توابع المبيع والحقوق الثابتة للبائع إلى المشتري ،
ولا شكّ أنّ حقّ سقي الاصول كان إلى البائع قبل البيع ، فإذا باعها من دون
استثنائه في ضمن العقد فهو بمنزلة اشتراط الدخول في المبيع في نظر أهل العرف وإن
لم يصرّح به. وإن باع الاصول أوّلا من شخص ثمّ الثمرة من آخر قدّم الأوّل ،
لانتقال الحقّ إليه أوّلا. وإن باعهما منهما بعقد واحد ، بأن كانت الاصول لأحدهما
والثمرة للآخر ، ففي بطلان العقد لأجل تعارض الحقّين وعدم المرجّح ، وصحّته لأجل
تقديم الأقلّ ضررا ، وجهان.
وثالثها : التفريط
، فيقدّم ضرر غير المفرّط منهما. فإذا توقّف إخراج الدابّة من الدار على هدم الدار
أو ذبح الدابّة ، فإن كان دخولها فيها بتفريط من صاحب الدار ، بأن فتح الباب فدخلت
فيها ، يحكم بهدمها من دون ضمان أرش الهدم. وإن كان بتفريط من صاحب الدابّة ، يحكم
بهدمها مع ضمان صاحب الدابّة للأرش. ولم يحتمل أحد ذبح الدابّة مع كون التفريط من
صاحبها ، إلّا ما حكي عن الشهيد في الدروس والفاضل في التذكرة ، ولعلّ نظرهم في
ذلك إلى كون ذي الروح محترما في نظر الشارع. وأنت خبير بأنّه إن ثبت الإجماع على
الترجيح بالتفريط ، وإلّا فللنظر ـ بل للمنع ـ فيه مجال. وأمّا إذا دخلت الدابّة
في الدار من دون تفريط من صاحبيهما ، قدّم عند المشهور جانب من كان إخراج الدابّة
من الدار لمصلحته ، وهو صاحب الدابّة ، كما نقله المصنّف رحمهالله في آخر كلامه هنا.
__________________
الحرج» ، لأنّ إلزام
الشخص بتحمّل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج ، وقد ذكرنا توضيح ذلك (١٩٩٨) في مسألة
التولّي من قبل الجائر من كتاب المكاسب. ومثله : إذا كان
______________________________________________________
وأمّا الثاني
فيحكم فيه بتقديم أقلّ الضررين. وسيجيء الكلام فيه وفي صورة تساويهما عند شرح قوله
: «وأمّا في غير ذلك ...».
١٩٩٨. قال في المكاسب في مسألة التولّي من قبل الجائر في جملة
كلام له : «إنّما الإشكال في أنّ ما يرجع إلى الإضرار بالغير ، من نهب الأموال
وهتك الأعراض وغير ذلك من العظائم ، هل يباح كلّ ذلك بالإكراه ولو كان الضرر
المتوعّد فيه على ترك المكره عليه أقلّ بمراتب من الضرر المكره عليه؟ كما إذا خاف
على عرضه من كلمة خشنة لا يليق به ، فهل يباح بذلك أعراض الناس وأموالهم ولو بلغت
ما بلغت كثرة وعظمة ، أم لا بدّ من ملاحظة الضررين والترجيح بينهما؟ وجهان ، من
إطلاق أدلّة الإكراه ، وأنّ الضرورات تبيح المحظورات ، ومن أنّ المستفاد من أدلّة
الإكراه تشريعه لدفع الضرر ، ولا يجوز دفع الضرر بالإضرار بالغير ، ولو كان ضرر
الغير أدون فضلا عن أن يكون أعظم.
وإن شئت قلت : إنّ
حديث رفع الإكراه ورفع الإضرار مسوق للامتنان على جنس الأمّة ، ولا حسن في
الامتنان على بعضهم بترخيصه في الإضرار بالبعض الآخر ، فإذا توقّف دفع الضرر عن
نفسه بالإضرار بالغير لم يجز ، ووجب تحمّل الضرر.
هذا ، لكنّ الأقوى
الأوّل ، لعموم دليل نفي الإكراه لجميع المحرّمات حتّى الإضرار بالغير ما لم يبلغ
الدم ، وعموم نفي الحرج ، فإنّ إلزام الغير بتحمّل الضرر بترك ما أكره عليه حرج ،
وقوله : «إنّما جعلت التقيّة لتحقن بها الدماء ، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة» حيث دلّ
على أنّ حدّ التقيّة بلوغ الدم ، فتشرع لما عداه.
وأمّا ما ذكر من
استفادة كون نفي الإكراه لدفع الضرر فهو مسلّم ، بمعنى دفع توجه الضرر وحدوث
مقتضيه ، لا بمعنى دفع الضرر الموجّه بعد حصول مقتضيه. بيان ذلك : أنّه إذا توجّه
الضرر إلى شخص بمعنى حصول مقتضيه ، فدفعه
.................................................................................................
______________________________________________________
عنه بالإضرار
بغيره غير لازم ، بل غير جائز في الجملة. فإذا توجّه ضرر على المكلّف بإجباره على
مال ، وفرض أنّ نهب مال الغير دافع له ، فلا يجوز للمجبور نهب مال غيره لدفع الجبر
عن نفسه. وكذلك إذا أكره على نهب مال غيره ، فلا يجب تحمّل الضرر بترك النهب لدفع
الضرر الموجّه إلى الغير.
وتوهّم أنّه كما
يسوغ النهب في الثاني ، لكونه مكرها عليه فيرتفع حرمته ، كذلك يسوغ في الأوّل ،
لكونه مضطرّا إليه ، ألا ترى أنّه لو توقّف دفع الضرر على محرّم آخر غير الإضرار
بالغير ، كالإفطار في شهر رمضان أو ترك الصلاة أو غيرهما ، ساغ له ذلك المحرّم.
وبعبارة اخرى : الإضرار بالغير من المحرّمات ، فكما يرتفع حرمته بالإكراه كذلك
يرتفع بالإضرار ، لأنّ نسبة الرفع إلى ما أكرهوا عليه وما اضطرّوا إليه على حدّ
سواء.
مدفوع بالفرق بين
المثالين في الصغرى ، بعد اشتراكهما في الكبرى المتقدّمة ، وهي أنّ الضرر المتوجّه
إلى الشخص لا يجب دفعه بالإضرار بغيره ، بأنّ الضرر في الأوّل متوجّه إلى نفس
الشخص ، فدفعه عن نفسه بالإضرار بالغير غير جائز. وعموم دفع ما اضطرّوا إليه لا
يشمل الإضرار بالغير المضطرّ إليه ، لأنّه مسوق للامتنان على الأمّة ، فترخيص
بعضهم في الإضرار بالآخر لدفع الضرر عن نفسه إلى غيره مناف للامتنان ، بل يشبه
الترجيح بلا مرجّح ، فعموم ما اضطرّوا إليه في حديث الرفع مختصّ بغير الإضرار
بالغير من المحرّمات.
وأمّا الثاني
فالضرر فيه أوّلا وبالذات متوجّه إلى الغير بحسب إلزام المكره بالكسر وإرادته
الحتميّة ، والمكره بالفتح وإن كان مباشرا ، إلّا أنّه ضعيف لا ينسب إليه توجيه
الضرر إلى الغير ، حتّى يقال : إنّه أضرّ بالغير لئلّا يتضرّر نفسه. نعم ، لو
تحمّل الضرر ولم يضرّ بالغير فقد صرف الضرر عن الغير إلى نفسه عرفا ، لكنّ الشارع
لم يوجب هذا. والامتنان بهذا على بعض الأمّة لا قبح فيه ، كما أنّه لو أراد ثالث
الإضرار بالغير يجب على الغير تحمّل الضرر وصرفه عنه إلى نفسه.
تصرّف المالك (١٩٩٩)
في ملكه موجبا لتضرّر جاره وتركه موجبا لتضرّر نفسه ، فإنّه يرجع إلى عموم : «الناس
مسلّطون على أموالهم» ، ولو عدّ مطلق حجره عن التصرّف في ملكه ضررا ، لم يعتبر في
ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرّف فيه ، فيرجع إلى عموم التسلّط.
ويمكن الرجوع إلى قاعدة «نفي الحرج» ،
لأنّ منع المالك لدفع ضرر الغير حرج وضيق عليه ؛ إمّا لحكومته ابتداء على نفي
الضرر وإمّا لتعارضهما والرجوع إلى الأصل. ولعلّ هذا أو بعضه منشأ إطلاق جماعة
وتصريح آخرين
بجواز تصرّف المالك في ملكه وإن تضرّر الجار ، بأن يبني داره مدبغة أو حمّاما أو
بيت القصارة أو الحدادة ، بل حكي عن الشيخ
والحلبيّ وابن زهرة دعوى الوفاق عليه.
ولعلّه أيضا منشأ ما في التذكرة من
الفرق (٢٠٠٠) بين تصرّف الإنسان في
______________________________________________________
هذا كلّه مع أنّ
أدلّة الحرج كافية في الفرق بين المقامين ، فإنّه لا حرج في أن لا يرخّص الشارع
دفع الضرر عن أحد بالإضرار بغيره ، بخلاف ما لو ألزم الشارع الإضرار على نفسه لدفع
الضرر المتوجّه إلى الغير ، فإنّه حرج قطعا.» انتهى كلامه رفع في الخلد مكانه.
١٩٩٩. اعلم أنّ لهذا المثال خصوصيّة بالنسبة إلى سائر الموارد ،
لكون قاعدة السلطنة وقاعدة الحرج حاكمتين أو مرجعين هنا ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله. وسنشير إلى تحقيق في ذلك على وجه أوفى.
٢٠٠٠. الأقوى إلحاق المباحات والمشتركات ـ مثل الطرق والمدارس
والخانات المعدّة لنزول المتردّدين ، كما سنشير إليه في بعض الحواشي الآتية ـ بالأملاك
، في جواز التصرّف وعدم الضمان في الصور الثلاث من الصور الأربع الآتية في بعض
الحواشي الآتية ، كما حكي عن الشهيد أيضا.
أمّا جواز التصرّف
فللأدلّة الدالّة على جواز التصرّف فيها ، وعموم نفي الضرر وإن قلنا بحكومته عليها
، كعموم السلطنة كما سيجيء في بعض الحواشي
الشارع المباح بإخراج
روشن (٢٠٠١) أو جناح وبين تصرّفه في ملكه ، حيث اعتبر في الأوّل عدم تضرّر الجار
بخلاف الثاني ؛ فإنّ المنع عن التصرّف في المباح لا يعدّ ضررا (٢٠٠٢) بل فوات
انتفاع.
نعم ، ناقش في ذلك صاحب الكفاية ـ مع
الاعتراف بأنّه المعروف بين الأصحاب ـ بمعارضة عموم التسلّط بعموم نفي الضرر ، قال
في الكفاية : ويشكل جواز ذلك فيما إذا تضرّر الجار تضرّرا فاحشا ، كما إذا حفر في
ملكه بالوعة ففسد بها بئر الغير ، أو جعل حانوته في صفّ العطّارين حانوت حدّاد ،
أو جعل داره مدبغة أو مطبخة
، انتهى.
واعترض عليه تبعا للرياض بما حاصله :
أنّه لا معنى للتأمّل بعد إطباق الأصحاب عليه نقلا وتحصيلا ، والخبر المعمول عليه
بل المتواتر من أنّ «الناس مسلّطون على أموالهم» ، وأخبار الإضرار على ضعف بعضها
وعدم تكافؤها لتلك الأدلّة محمولة على ما إذا لم يكن غرض له إلّا الإضرار ، بل
فيها كخبر سمرة إيماء إلى ذلك. سلّمنا ، لكنّ التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه
، والترجيح للمشهور للأصل ، والإجماع
، انتهى.
______________________________________________________
الآتية ، إلّا
أنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ العمل بعموم نفي الضرر في مورد موقوف على ثبوت عمل
الأصحاب به في هذا المورد ، وهو غير ثابت في المقام.
وأمّا عدم الضمان
فلما سنشير إليه في بعض الحواشي الآتية من اختصاصه بما كان موجد سببه مذموما شرعا
أو عرفا ، وليس كذلك في المقام ، كما سنشير إليه.
٢٠٠١. عن المسالك : «الروشن والجناح يشتركان في إخراج خشب من
حائط المالك إلى الطريق بحيث لا يصل إلى الحائط المقابل ، ويبنى عليه. ولو وصل فهو
الساباط. وربّما يفرّق بينهما بأنّ الأجنحة ينضمّ إليها مع ما ذكر أن يوضع لها
أعمدة من الطريق» انتهى. وقال الطريحي : «الرواشن جمع روشن ، وهي أن تخرج أخشابا
إلى الدرب ، وتبني عليها ، وتجعل لها قوائم من السفل».
٢٠٠٢. فلا يعارض عموم نفي الضرر عموم السلطنة ، فضلا عن حكومته
عليه.
ثمّ فصّل المعترض بين أقسام التصرّف :
بأنّه إن قصد به الإضرار من دون أن يترتّب عليه جلب نفع أو دفع ضرر ، فلا ريب في
أنّه يمنع ، كما دلّ عليه خبر سمرة بن جندب ؛ حيث قال له النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «إنّك رجل مضارّ». وأمّا إذا ترتّب عليه نفع أو دفع ضرر وعلى جاره ضرر يسير ،
فإنّه جائز قطعا ، وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار.
وأمّا إذا كان ضرر الجار كثيرا يتحمّل
عادة ، فإنّه جائز على كراهيّة شديدة ، وعليه بنوا كراهيّة التولّي من قبل الجائر
لدفع ضرر يصيبه. وأمّا إذا كان ضرر الجار كثيرا لا يتحمّل عادة لنفع يصيبه ، فإنّه
لا يجوز له ذلك ، وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك. وعليه بنى جماعة ـ كالفاضل
في التحرير
والشهيد في اللمعة ـ الضمان إذا أجّج نارا بقدر حاجته مع ظنّه التعدّي إلى الغير.
وأمّا إذا كان ضرره كثيرا وضرر جاره كذلك ، فإنّه يجوز له دفع ضرره وإن تضرّر جاره
أو أخوه المسلم ، وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر ـ إلى أن قال ـ :
والحاصل : أنّ أخبار الإضرار فيما يعدّ
إضرارا معتدّا به عرفا والحال أنّه لا ضرر بذلك على المضرّ ؛ لأنّ الضرر لا يزال
(٢٠٠٣) بالضرر
، انتهى.
أقول : الأوفق بالقواعد تقديم المالك
(٢٠٠٤) ؛ لأنّ حجر المالك عن التصرّف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير ، فيرجع إلى
عموم قاعدة «السلطنة» و «نفي الحرج».
______________________________________________________
٢٠٠٣. يعني : أنّ مورد أخبار نفي الضرر هو ما ذكر من كون الضرر
على الغير بما يعتدّ به مع عدم الضرر على المضرّ في ترك الفعل ، بل لو فرض إطلاقها
لا بدّ من حملها على ذلك ، لأنّ الضرر المتوجّه إلى الغير لا ينبغي أن ينفى بتحمّل
الضرر على نفسه.
٢٠٠٤. تحقيق المقام يحتاج إلى بسط في الكلام ، لتنكشف به غواشي
الأوهام ، فنقول : إنّ الظاهر أنّ المشهور هنا تقديم جانب المالك ، وقد أورد
المصنّف رحمهالله في رسالته المفردة في هذه القاعدة شطرا من كلماتهم ، فلا
بأس بنقله ثمّ تعقيبه بما يقتضيه المقام.
.................................................................................................
______________________________________________________
قال في المبسوط في
باب إحياء الموات : «إن حفر رجل بئرا في داره ، وأراد جاره أن يحفر بالوعة أو بئر
كنيف بقرب هذا البئر ، لم يمنع منه وإن أدّى ذلك إلى تغيير ماء البئر ، أو كان
صاحب البئر يستقذر ماء بئره لقربه بالكنيف والبالوعة ، لأنّ له أن يتصرّف في ملكه
بلا خلاف».
وقال في السرائر
في باب حريم الحقوق : «وإنّ أراد الإنسان أن يحفر في ملكه أو داره ، وأراد جاره أن
يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر ، لم يمنع من ذلك بلا خلاف ، وإن نقص بذلك ماء
البئر الأولى ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم». وقال في مسألة أن لا حريم في
الأملاك : «إنّ كلّ واحد يتصرّف في ملكه على العادة كيف شاء ، ولا ضمان إن قضى إلى
تلف إلّا أن يتعدّى». ثمّ نقل قولين للشافعي قال : «وأظهرهما عنده الجواز ، وهو
المعتمد ، لأنّه مالك للتصرّف في ملكه ، وفي منعه من تعميم التصرّفات إضرار به».
إلى أن قال : «والأقوى أنّ لأرباب الأملاك أن يتصرّفوا في أملاكهم كيف شاءوا ، فلو
حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر الجار لم يمنع عنه ، ولا ضمان بسببه ،
ولكن يكون قد فعل مكروها» انتهى. وقريب منه ما في القواعد والتحرير.
وقال في الدروس في
إحياء الموات : «ولا حريم في الأملاك ، لتعارضها ، فلكلّ أحد أن يتصرّف في ملكه
بما جرت العادة به وإن تضرّر صاحبه ، ولا ضمان» انتهى.
وفي جامع المقاصد
: «أنّه لما كان الناس مسلّطين في أموالهم كان للإنسان الانتفاع بملكه كيف شاء ،
فإذا دعت الحاجة إلى إضرام نار أو إرسال ماء جاز فعله ، وإن غلب على ظنّه التعدّي
إلى الإضرار بالغير» انتهى موضع الحاجة.
وأقول : إنّ ظاهر
اقتصارهم في تقديم جانب المالك على التعليل بعموم السلطنة من دون تعرّض لشيء آخر ،
هو تقدّم قاعدة السلطنة على قاعدة الضرر ، بمعنى حكومتها عليها ، لا أن يكون ذلك
من جهة تقديم الأهمّ من الضررين بعد تعارضهما ، أو كون القاعدة الاولى مرجعا بعد
تعارضهما. وبالجملة ، إنّ القاعدتين
.................................................................................................
______________________________________________________
عندهم من قبيل
الحاكم والمحكوم عليه دون المتعارضين حتّى يلتمس الترجيح بينهما.
وكيف كان ، فتحقيق
المقام يتوقّف على بيان صور المسألة ، فنقول : إنّ تصرّف المالك في ملكه إمّا بحسب
المتعارف ومقتضى الحاجة ، من دون علم ولا ظنّ بتضرّر الجار به لكن اتّفق تضرّره به
، أو مع العلم أو الظنّ به. وعلى الثاني إمّا أن يكون تصرّفه لجلب منفعة ، بمعنى
أن لا يتوجّه إليه ضرر بترك التصرّف سوى ضرر ترك التصرّف في ملكه ، وإمّا أن يكون
لدفع مضرّة ، بأن يتوجّه إليه ضرر آخر سوى ضرر ترك التصرّف ، وإمّا أن يكون تصرّفه
لغوا لا يعتدّ به عند العقلاء. وهذه صور أربع.
وإنّما لم نشر في
هذه الصور إلى صورتي قصد الإضرار وعدمه ، لخروج صورة قصد الإضرار من محلّ الكلام
في تقديم عموم السلطنة أو عموم نفي الضرر في الصور المذكورة ، لما سنشير إليه من
اشتراط القول بجواز التصرّف ، فيها مطلقا أو في الجملة بعدم قصد الإضرار.
ومن هنا يظهر أنّ
اعتبار المصنّف رحمهالله لقصد الإضرار فيما استدركه بقوله «نعم» ليس على ما ينبغي ،
لأنّ عدم جواز التصرّف فيه من جهة قصد الإضرار ، لا من جهة تحكيم عموم نفي الضرر
على عموم السلطنة ، لثبوت عدم الجواز فيه وإن قلنا بتحكيم الثاني على الأوّل كما
ستعرفه ، كيف لا ولا فرق في الحكم بعدم الجواز بين الصور المذكورة على اعتبار قصد
الإضرار ، فلا اختصاص له بصورة عدم ترتّب جلب منفعة أو دفع مضرّة على تصرّف المالك
كما ستقف عليه. اللهمّ إلّا أن يكون اعتباره لقصد الإضرار تبعا للمفصّل ، لا لأجل
تخيّله لمدخليّة ذلك في الحكم بعدم الجواز في صورة عدم ترتّب جلب منفعة أو دفع
مضرّة على تصرّف المالك ، فالاعتراض إنّما هو على المفصّل لا على المصنّف رحمهالله.
وحاصل الاعتراض :
أنّ الحكم بعدم الجواز في هذه الصورة إن كان لأجل رواية سمرة ـ أو غيرها ممّا
سنشير إليه ـ كما هو ظاهر المفصّل ، فلا وجه حينئذ
.................................................................................................
______________________________________________________
لاعتبار عدم ترتّب
جلب منفعة أو دفع مضرّة على تصرّف المالك كما تقدّم. وإن كان لأجل تحكيم قاعدة
الضرر على قاعدة السلطنة كما ستقف عليه أيضا ، فلا وجه حينئذ لاعتبار قصد الإضرار
كما عرفت.
وكيف كان ،
فالكلام في الصور المذكورة تارة من حيث الحكم التكليفي ، بمعنى حرمة تصرّف المالك
وعدمها ، واخرى من حيث الحكم الوضعي ، أعني : ضمان المالك للضرر العائد من تصرّفه
إلى الجار ، وبيان الملازمة بين الحرمة والضمان وعدمها ، لإمكان القول بالحرمة من
دون ضمان أو بالجواز معه. فالكلام في بيان أحكام الصور المذكورة يقع في مقامين.
أمّا المقام
الأوّل ففي بيان أحكام الصور المزبورة تكليفا ، ونقول : إنّ ظاهر المصنّف رحمهالله هو الحكم بجواز التصرّف فيما عدا الصورة الأخيرة ، وبعدمه
فيها مطلقا ، لأنّ ما استدركه بقوله «نعم» وإن اختصّ بصورة قصد الإضرار ، إلّا أنّ
قوله : «لا يعدّ ضررا» يشمل صورة عدم قصد الإضرار أيضا.
وكيف كان ، نقول
في توضيح المقام : إنّك قد عرفت أنّ صور المسألة أربع :
أمّا الأولى فلا
إشكال كما لا خلاف في جواز التصرّف فيها ، لعموم السلطنة ، والفرض عدم علم ولا ظنّ
بتضرّر الجار.
وأمّا الثانية
فالظاهر أنّ حكم المشهور بالجواز إنّما هو في هذه الصورة ، ولذا صرّح المحقّق
الثاني ـ الذي هو لسان الفقهاء ـ فيما عرفت من كلامه بقوله : «وإن غلب على ظنّه
التعدي». ولعلّ الوجه فيه حكومة قاعدة السلطنة على قاعدة نفي الضرر. ولكنّ المصنّف
رحمهالله في رسالته المفردة في هذه القاعدة قد عكس الأمر ، فحكم
بحكومة الثانية على الاولى. وفيه نظر ، لأنّ الظاهر أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» إخبار عمّا جرت عليه طريقة
الناس في جميع الأعصار والأصقاع والملل والأديان ، وإمضاء لطريقتهم ، وليس واردا
في مقام إنشاء جواز تصرّف أرباب الأملاك فيها. وقد تقدّم في بعض الحواشي السابقة
.................................................................................................
______________________________________________________
ورود قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» في مقام نفي الأحكام
الضرريّة ، فإذا فرض كون جواز تصرّف أرباب الأملاك فيها ثابتا من باب إمضاء الشارع
لطريقة الناس ، فلا يشمله نفي الأحكام الضرريّة ، فيثبت جواز التصرّف وإن استلزم
تضرّر الجار.
فإن قلت : إنّ
قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» كما ينفي الأحكام الضرريّة ، كذلك ينفي
إمضاء الشارع لما فيه ضرر على العباد ، ولذا لو لم تكن أحكام الملل السابقة منسوخة
في شرعنا ، وكان بعضها متضمّنا للضرر على العباد ، ينفى بقاعدة نفي الضرر. مضافا
إلى استقرار سيرة الأصحاب على خلاف ما ذكرت ، لأنّهم قد استندوا في خيار العيب
والغبن ـ وكذا في إثبات الشفعة ـ إلى قاعدة الضرر مع مخالفتها لقاعدة السلطنة ،
لأنّ تسلّط ذي الخيار والشفيع على فسخ العقد ونزع المال من يد صاحبه مناف لعموم
السلطنة الثابتة بوقوع العقد صحيحا. وقد تقدّم سابقا في أخبار نفي الضرر استناد
الصادق عليهالسلام إلى القاعدة في إثبات الشفعة ، مع أنّ قصّة سمرة أيضا شاهد
صدق للمدّعى.
قلت : أمّا ما
ذكرته أوّلا ففيه : أنّك قد عرفت أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» وارد في مقام إمضاء طريقة
العقلاء ، وعموم قاعدة الضرر حينئذ وإن صلح لتخصيص عموم السلطنة ، إلّا أنّ عموم الثانية
من حيث نظره إلى إمضاء عموم تصرّفات ذوي الأموال ـ التي من جملة أفرادها المتداولة
تضرّر الجار بتصرّفهم ـ مبيّن للمراد بالاولى ، ومخصّص لها بغير موارد تصرّف ذوي
الأموال في أموالهم. وما يوضح ذلك أنّ قوله عليهالسلام : «الناس مسلّطون على أموالهم» وارد في مقام رفع الضرر عن
المالك بحجره عن التصرّف في ملكه ، لكون حجره عنه ضررا عليه ، فهو من حيث وروده في
مقام رفع الضرر عن المالك آب عن التخصيص.
وأمّا ما ذكرته
ثانيا من استقرار طريقة الأصحاب على تقديم قاعدة الضرر على قاعدة السلطنة في جملة
من الموارد ، ففيه : أنّ حكمهم بالخيار أو الشفعة لقاعدة
.................................................................................................
______________________________________________________
الضرر ليس لأجل
حكومتها على عموم السلطنة ، بل هي سليمة من معارضته هنا بالخصوص ، لأنّ الضرر
الحاصل في البيع المغبون فيه إنّما نشأ من لزوم العقد الذي هو سبب لسلطنة المشتري
في المبيع. وقاعدة نفي الضرر إنّما تحكم على وجوب الوفاء بالعقود ، فانتفاء سلطنة
المشتري حينئذ إنّما هو لأجل انتفاء سببها الذي هو لزوم العقد ، لا أنّ السلطنة
باقية ، وقاعدة الضرر حاكمة على عمومها. فالمعارضة والحكومة في الحقيقة إنّما هما
بين قاعدة الضرر وقاعدة وجوب الوفاء لا قاعدة السلطنة ، بل لا معارضة مع الحكومة.
ومنه يظهر الكلام في الشفعة أيضا.
وأمّا ما ذكرته
ثالثا من قصّة سمرة فالجواب عنه يظهر بعد بيان مقدّمة ، وهي أنّ عموم قاعدة
السلطنة إنّما هو بحسب أفراد التصرف ، لا بحسب كيفياته أيضا ، فهي تدلّ على جواز
جعل المال وجه مصالحة أو صداقا في النكاح ، وكذا على جواز بيعه أو هبته أو إتلافه
، وهكذا ، وأمّا دلالتها على جواز نقل المال بالعقد الفارسي أو المعاطاة ، فلا
عموم لها من هذه الجهة وبالجملة ، إنّها منساقة لبيان أنحاء التصرّفات ، لا لبيان
كيفيّاتها من حيث كيفيّة السبب الناقل وغيره ، ولذا قلنا بعدم جواز التمسّك بها في
مسألة المعاطاة لإثبات صحّتها. فإذا وقع التصرّف في المال على جهة الحرمة ، فقاعدة
السلطنة لا تعارض الدليل الدالّ على حرمة هذا التصرف ، وكذا إذا وقع على جهة
الإضرار بالغير ، فلا تعارض قاعدة نفي الضرر ، لما عرفت من سكوتها عن جهات التصرف
وكيفيّاته.
وإذا عرفت هذا
نقول : إنّ تصرّف سمرة في عذقه ومروره به كان على جهة الإضرار بالأنصاري ، لدخوله
عليه من دون استئذان منه واطّلاعه عليه وعلى أهله ، على حالة لا يحبّ أن يطّلع
عليه على هذه الحالة ، كما يظهر من الروايات الواردة في قصّته ، لأنّ تصرّفه بنفسه
كان مستلزما لتضرّر الأنصاري ، نظير تضرّر الجار بجعل الدار مدبغة أو مطبخة. فأمر
النبيّ صلىاللهعليهوآله بقلع العذق إنّما كان لأجل كون
.................................................................................................
______________________________________________________
تصرّف سمرة على
كيفيّة مستلزمة لتضرّر الأنصاري ، لا لأجل استلزام تصرّفه بنفسه لتضرّره ، حتّى
يقال إنّ تصرّفه كان ثابتا بعموم السلطنة ، فتقديم عموم نفي الضرر عليه يكشف عن
حكومته عليه.
هذا ، ومع تسليم
كون قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» واردا في مقام إنشاء جواز
التصرّف لا إمضاء طريقة الناس ، يمكن أن يقال : إنّه وارد في مقام رفع تضرّر
المالك بترك التصرّف في ملكه ، بناء على كون حجر المالك عن التصرف في ملكه ضررا
عليه ، فيكون هذا الخبر حينئذ أخصّ مطلقا من عموم قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فيخصّص به.
ولكن مع ذلك كلّه
يمكن أن يقال بحكومة قاعدة الضرر على عموم السلطنة ، كما هو واضح في غير ما نحن
فيه ، كما إذا أكل على التخمة ، إذ لا يمكن أن يقال بجواز الأكل حينئذ لعموم
السلطنة ، وليس هو إلّا لحكومة قاعدة الضرر عليه ، كذلك فيما نحن فيه أيضا فيما
فرض عدم كون ترك المالك للتصرّف ضررا عليه ، كما لو لم يتعلّق به غرض ، ولم يكن
محتاجا إليه ، ولم ينتفع بهذا التصرّف انتفاعا معتدّا به. فإذا فرض كون مثل هذا
التصرّف مستلزما للضرر على الجار حكم بعدم جوازه كما سيجيء ، وليس هذا أيضا إلّا
لحكومة قاعدة الضرر على عموم السلطنة. اللهمّ إلّا أن يقال ـ كما يظهر من المصنّف رحمهالله هنا ـ : إنّ منع المالك عن التصرّف في محلّ الفرض ضرر عليه
، فإذا استلزم تصرّفه ضرر الجار تعارض ضررهما ، فيرجع بعد تساقطهما إلى عموم
السلطنة ، وقيل : إلى عموم نفي الحرج ، لكون منع المالك من التصرف في ملكه ضيقا
عليه ، ولا أقلّ من الرجوع إلى أصالة الإباحة.
ومع التسليم نقول
: إنّه قد تقدّم في بعض الحواشي السابقة أنّ عموم نفي الضرر موهون بورود كثرة
التخصيص عليه ، فلا يجوز العمل به في مورد إلّا بعد انجبار وهنه بعمل العلماء فيه
، وقد تقدّم أنّ المشهور في المقام جواز تصرّف المالك
.................................................................................................
______________________________________________________
وإن تضرّر الجار
به. وأمّا عدم جواز الأكل على التخمة ، فهو لوجوب دفع الضرر المظنون عقلا لا
للحكومة المذكورة.
وأمّا الثالثة
فالأقوى فيها أيضا هو الجواز ، لعين ما تقدّم في الصورة الثانية ، بل هنا أولى ،
لأنّا وإن سلّمنا عدم كون منع المالك من التصرّف ـ إذا كان تصرّفه لمجرّد جلب
المنفعة ـ ضررا وضيقا عليه ، إلّا أنّ الفرض هنا كون ترك تصرّفه مستلزما لتضرّره
زائدا على الضرر الحاصل بمجرّد المنع منه. مضافا إلى أنّ تضرّره بترك التصرّف هنا
ربّما يبلغ حدّ الضرورة ، فيشمله ما دلّ على تحليل الحرام لمن اضطرّ إليه ، مثل
قوله عليهالسلام : «ما من شيء حرّمه الله إلّا وقد حلّله لمن اضطرّ إليه».
وأمّا الرابعة ـ أعني
: صورة عدم تعلّق غرض المالك في التصرّف بجلب منفعة أو دفع مضرّة ، بأن كان تصرّفه
لغوا محضا مع عدم قصد الإضرار ـ فيمكن أن يقال فيها بعدم جواز التصرّف ، لعموم نفي
الضرر ، وقد عرفت في الصورة الثانية حكومته على عموم السلطنة إمّا مطلقا أو في
خصوص هذه الصورة. ولا ريب في عدم صدق تضرّر المالك بترك التصرّف هنا ، حتّى يقال
بتعارض ضرره مع ضرر الجار ، والرجوع إلى عموم السلطنة والحرج أو أصالة الإباحة ،
كما تقدّم في الصورة الثانية.
وهذا أيضا مراد
المصنّف رحمهالله بمنع التعارض في هذه الصورة ، لأنّ مجرّد منعه لا يقتضي
تقديم جانب الجار إلّا بتحكيم عموم نفي الضرر على عموم السلطنة. اللهمّ إلّا أن
يكون المستند فيه رواية سمرة ، لأنّ ظاهرها عدم الجواز مع قصد الإضرار ، وإن قلنا
بتحكيم عموم السلطنة على عموم نفي الضرر. لكن يرد عليه أنّ ظاهرها وإن كان ذلك ،
إلّا أنّ إطلاقها ـ سيّما بملاحظة موردها ـ يشمل صورة ترتّب منفعة على تصرّف
المالك أيضا ، فلا وجه حينئذ لتخصيص الحكم بعدم الجواز بصورة عدم ترتّبها عليه.
.................................................................................................
______________________________________________________
وكيف كان ، يدلّ
على المدّعى أيضا ظاهر الإجماع ، لأنّ الفقهاء وإن لم يعنونوا الكلام في المقام بحسب
الحكم التكليفي ، لأنّهم إنّما تعرّضوا لحكمه الوضعي ، إلّا أنّه يمكن استظهاره من
إجماعهم على حكمه الوضعي ـ أعني : الضمان ـ بواسطة ما ستعرفه من الملازمة بين
الحكمين. ولعلّه من هنا قد ادّعى المحقّق القمّي ـ فيما حكي عنه في الفقه ـ الإجماع
على الحرمة هنا. وحاصل ما حكي عنه هو نفي الخلاف عن جواز تصرّف المالك ، وعدم
ضمانه فيما لم يكن تصرّفه زائدا على قدر الحاجة ، مع عدم العلم والظنّ بتضرّر
الجار به ، وكذا عن الحرمة والضمان فيما كان تصرّفه زائدا على قدر الحاجة ، مع
العلم أو الظنّ بتضرّر الجار به.
ويحتمل الحكم بالجواز
هنا أيضا بعد منع القطع بتحقّق الإجماع المذكور ، لما عرفت من ابتنائه على دعوى
الملازمة المذكورة لا على إفتائهم بالحرمة بخصوصها ، إمّا لدعوى حكومة قاعدة
السلطنة على قاعدة الضرر ، وإمّا لدعوى أخصيّة الاولى من الثانية كما تقدّم في
الصورة الثانية ، إلّا أنّ الأقوى هو عدم الجواز ، لظاهر الإجماع ، وما تقدّم في
الصورة الثانية من حكومة قاعدة الضرر على عموم السلطنة. ولكنّا حيثما قلنا بالجواز
مع تضرّر الجار به فهو مشروط بامور :
أحدها : أن لا
يكون تضرّر الجار بالنفس والعرض أو بمال لا يتحمّل به ويستأصل به. وهذا مستفاد من
الشرع ، لأنّ الشارع أمر بحفظ نفوس الناس وأعراضهم وأموالهم في الجملة ، ورفع عنهم
الأحكام الضرريّة والعسر والحرج منّة ، فكيف يرضى بإدخال هذا الضرر على الجار لأجل
مراعاة حال المالك ، وعدم منعه من التصرّف لأجل جلب منفعة أو دفع مضرّة يسيرة؟
وثانيها : أن لا
يكون تضرّر الجار بمباشرة من المالك ، بأن يصدق عليه كونه متلفا لشيء من أموال
الجار ، ويسند إليه الفعل حقيقة بحسب العرف ، كما إذا أرسل الماء الكثير إلى ملكه
دفعة واحدة ، فتعدّى إلى ملك الغير بحيث لم يقدر على
.................................................................................................
______________________________________________________
دفعه ، فخرب ملك
الغير به ، إذ لا ريب أنّ التخريب حينئذ إنّما يسند إلى المالك عرفا ، وإن كان هو
في الحقيقة موجدا للسبب لا مباشرا للفعل ، ومع صدق الإتلاف يحرم التصرّف ويضمن ما
أضرّ بالجار ، لأدلّة الإتلاف المصرّحة بالحكمين.
وثالثها : أن لا
يكون المالك قاصدا بتصرّفه إضرار الجار ، وإلّا حرم تصرّفه مطلقا ، سواء كان مع
قصده الإضرار قاصدا لجلب منفعة أو دفع مضرّة أم لا ، وسواء كان ضرر الجار كثيرا أم
يسيرا. وربّما يستدلّ عليه بقوله صلىاللهعليهوآله في قصّة سمرة : «إنّك رجل مضارّ». والأولى أن يستدلّ عليه
بقول النبيّ صلىاللهعليهوآله المرويّ عن دعائم الإسلام : «ليس لأحد أن يفتح كوّة في
جداره لينظر إلى شيء من داخل جاره ، فإن فتح للضياء فوقع يرى له منه لم يمنع من
ذلك» فإنّه بإطلاقه يدلّ على حرمة الإضرار مع القصد إليه ، ولو مع تضمّن جلب منفعة
أو دفع مضرّة أيضا ، بخلاف قصّة سمرة ، لعدم تعلّق غرضه إلّا بالإضرار بالأنصاري.
وأمّا المقام
الثاني فاعلم أنّك قد عرفت في المقام الأوّل أنّ الأقوى هو جواز التصرّف فيما عدا
الصورة الأخيرة من الصور الأربع. والأقوى فيما عداها أيضا عدم الضمان لوجوه :
أحدها : الإجماع
على عدم ضمان المالك على ضرر الجار إذا كان مأذونا في التصرّف. وما حكي عن الشهيد
من القول بالضمان في باب الغصب لعلّه مبنيّ على القول بعدم الجواز.
وثانيها : أنّ
الرخصة المطلقة من الشارع في فعل ـ بمعنى عدم حكمه فيه بالضمان ـ لا يتعقّبها
ضمان. ويستفاد من كلمات الأصحاب كون هذه الملازمة مسلّمة عندهم ومفروغا منها بينهم
، منها ما حكي عن المحقّق في نكت النهاية من ضمان الزوج دية الزوجة إذا دخل بها
عنفا فماتت بعده ، ثمّ قال : إنّه كان مأذونا فيه من قبل الشارع فلا يتعقّبه
الضمان. وأجاب بعدم ثبوت الإذن من الشارع في الدخول بها بهذا النحو. ودلالة كلامه
على المدّعى واضحة.
.................................................................................................
______________________________________________________
ومنها : إفتاء جمع
من الأصحاب بأنّ وليّ الدم إذا ضرب الجاني الذي أراد الاقتصاص منه وتركه ظانّا
بموته ، واتّفق أنّه لم يمت به وبرىء من الجناية ، فإن كان قد ضربه بما يسوغ
الاقتصاص به شرعا من الأسلحة وآلات الضرب يجوز له قتله ثانيا ، وليس للجاني أن
يقتصّ من الجاني بما جنى به بقصد القصاص واتّفق عدم موته به. وإن ضربه بغير
ما يسوغ الاقتصاص به شرعا ، بأن ضربه بالحجارة أو الخشب مثلا فللجاني المضروب أن
يقتصّ من وليّ الدم أوّلا بمثل ما جنى به أوّلا ، ثمّ يقتله وليّ الدم. وعلّل ذلك
بالإذن من الشارع في الاقتصاص بما سوّغ الشارع الاقتصاص به ، فلا يتعقّبه ضمان ،
بخلاف الثاني.
ومنها : ما عن
المفيد وسلّار والعلّامة والشهيدين والفاضل المقداد والمقدّس الأردبيلي قدسسرهم ، من أنّ رجلا لو أحدث في الطريق ما أباحه الله تعالى له
فوقع فيه غيره فتلف لا يضمن ، معلّلين بما تقدّم.
ومنها : ما في
الشرائع من أنّه لو حفر بئرا في الطريق المسلوك لمصلحة المسلمين ، بأن يشربوا من
مائه فيما لم يكن في قربه ماء ، فوقع فيه غيره فمات ، قيل : لا يضمن. وهو حسن ،
لأنّ الحفر كان سائغا فلا يتعقّبه الضمان ، وهو محسن ولا سبيل عليه.
ومنها : ما ذكره
غير واحد من أنّه لو أخرج أحد الشركاء ميزابه إلى الطريق المرفوع ، فإن أصابت
الغير به جناية ، فإن كان قد أخرجه بإذن من الشركاء لم يضمن وإلّا ضمن ، لأنّ
الإخراج إذا كان بإذنهم فهو مأذون فيه من قبل الشارع ، فلا يتعقّبه ضمان ، بخلاف
ما لو لم يكن بإذنهم.
والمستفاد من هذه
الكلمات التسالم على الملازمة المذكورة ، فتجعل هذه أصلا في كلّ مقام إلّا ما
أخرجه الدليل. فلا ينافيها ثبوت الضمان في بعض الموارد مع ثبوت الإذن فيه ،
كالطبيب والبيطار ومعلّم الأطفال ، لثبوت الضمان فيما
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
حدث بخطائهم مع
كونهم مأذونين من قبل الشارع ، بل علاج الأمراض وتعليم الأطفال واجبان كفاية. مع
أنّ لنا أن نقول بخروج هذه الموارد من محلّ الكلام ، لأنّ محلّ البحث ـ كما تقدّم
عند بيان شروط الحكم بجواز تصرّف المالك ـ إنّما هو ما لم يصدق فيه الإتلاف
والمباشرة عرفا ، وإلّا فأدلّة الإتلاف كافية في إثبات الضمان. ولا ريب في صدق
الإتلاف على ما يحدث بخطإ من ذكر ، لأنّ ذلك في المعلّم والبيطار واضح. وأمّا
الطبيب فالمسلّم من ضمانه إنّما هو في صورة مباشرة المعالج ، لا مع تعليم طريق
العلاج للمرضى وترتيب الأدوية وما يناسب المزاج من الأغذية من دون مباشرة أصلا ،
كما هو المتعارف بين الأطبّاء في أمثال هذا الزمان.
وثالثها : أنّا قد
استظهرنا فيما أسلفناه ورود قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» في مقام رفع الضرر والضيق
عن أرباب الأملاك بمنع التصرّف في أملاكهم ، ولا ريب أنّ ترتّب الضمان على
تصرّفاتهم ضيق وضرر عليهم ، فإثبات الضمان عليهم مناف للغرض.
ورابعها : أنّ
الظاهر من عموم السلطنة هي السلطنة التامّة ، وترتّب الضمان على تصرّفات المالك
نقص في سلطنته.
فإن قلت : إن تمّ
هذا فهو ينافي ما ثبت شرعا من أنّه إذا أعتق رجل شقصه من العبد المشترك فيه يقوّم
عليه شقص شريكه فيعتق من مال المعتق ، مع إذن الشارع في عتقه ، فهو يكشف عن جواز
تعقّب إذن الشارع للضمان.
قلت أوّلا : إنّ
هذا خارج من محلّ الكلام ، لأنّ عتق الرجل شقصه من العبد علّة تامّة شرعا لانعتاق
شقص شريكه ، فمع عتق شقصه يصدق عليه أنّه متلف لشقص شريكه ، وقد عرفت خروج مثله من
محلّ البحث.
وثانيا : إنّ
انعتاق شقص شريكه لما كان مرتّبا شرعا على عتق شقصه ، فعتقه لشقصه يعدّ عرفا
تصرّفا في الشقصين. ولعلّ حكم الشارع بالضمان هنا لأجل تصرّفه في شقص شريكه ، وهو
خارج من محلّ الكلام ، لأنّ محلّ النزاع إنّما هو
.................................................................................................
______________________________________________________
تصرّف المالك في
ملكه لا في ملك غيره.
وخامسها : عدم
الدليل على الضمان ، فالأصل ينفيه ، لأنّ أسبابه منحصرة في اليد والإتلاف
والتسبيبات ، والفرض في المقام عدم ثبوت يد المالك على ملك الجار ، وعدم صدق
الإتلاف أيضا كما تقدّم. وأمّا السببيّة ، فالمالك فيما نحن فيه وإن كان سببا
لتضرّر الجار ، إلّا أنّها غير معنونة في الأخبار حتّى يوجد بإطلاقها أو عمومها ،
لأنّ الموجود فيها عنوان الإتلاف ، فلا بدّ أن يقتصر في إثبات الضمان بالتسبيبات ـ
التي لا يصدق معها وصف الإتلاف ـ على المتيقّن من معاقد إجماعاتهم ومجامع كلماتهم.
والمحصّل من الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام ، والمتيقّن من ذلك هي الأسباب التي يكون موجدها مذموما
شرعا أو عرفا.
ولا بأس بإيراد
شطر من الأخبار النافية للضمان أو المثبتة له حتّى تظهر بها جليّة الحال. منها :
ما رواه عليّ بن إبراهيم مرسلا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «بهيمة الأنعام لا يغرم أهلها شيئا ما دامت مرسلة».
ومثلها رواية اخرى ، إلّا أنّه ليس فيها قوله «ما دامت مرسلة». ومنها ما رواه عليّ
بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : البئر جبار ، وجرح العجماء جبار ، والمعدن جبار». وفي
النهاية : الجبار الهدر ، والعجماء الدابّة ، ومنه الحديث «السائمة جبار» أي :
الدابّة المرسلة في رعيها.
وعن الوحيد
البهبهاني في حاشيته على الاستبصار : «قوله : البئر جبار ، حمل على البئر الذي
حفره في ملكه أو في أرض مباحة لمصلحة المسلمين. ويحتمل أن يريد به الأجير الذي
يحفر البئر ، فانهارت عليه فمات ، فدمه هدر». ثمّ نقل الإفتاء به عن العلّامة في
النهاية. قال : «قوله : والعجماء جبار ، المشهور بين الأصحاب أنّ الدوابّ التي
اعتيد إرسالها للرعي لا يضمن صاحبها جنايتها. وقوله : والمعدن جبار ، أي : إذا
انهار على من يعمل فيه ، أو إذا وقع رجل في الحفر التي حصلت بسبب إخراج المعدن»
انتهى.
.................................................................................................
______________________________________________________
ومنها : ما روي عن
زيد بن علي ، عن آبائه ، عن عليّ عليهالسلام أنّه «كان يضمّن الكلب إذا عقر نهارا ، ولا يضمّن إذا عقر
بالليل ، وإذا دخلت دار قوم بإذنهم فعقرك كلبهم فهم ضامنون ، وإن دخلت بغير إذنهم
فلا ضمان عليهم» ونحوها خبران آخران.
ومنها : ما روي عن
سعد بن ظريف الإسكاف ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «أتى رجل رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : إنّ ثور فلان قتل حماري. فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآله : ائت أبا بكر فاسأله ، فأتاه فسأله فقال : ليس على
البهائم قود. فرجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآله : ائت عمر فاسأله ، فأتاه فسأله فقال مثل ما قال أبو بكر.
فرجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فأخبره ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآله : ائت عليّا عليهالسلام فاسأله ، فأتاه فسأله ، فقال عليّ عليهالسلام : إن كان الثور الداخل على حمارك في منامه حتّى قتله
فصاحبه ضامن ، وإن كان الحمار هو الداخل على الثور في منامه فليس على صاحبه ضمان.
قال : فرجع إلى النّبيّ صلىاللهعليهوآله فأخبره ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : الحمد لله الذي جعل من أهل بيتي من يحكم بحكم الأنبياء عليهمالسلام». وقريب منها اخرى.
ومنها : ما روي عن
السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه «ضمّن القائد والسائق والراكب» فقال : «ما أصاب الرجل
فعلى السائق ، وما أصاب اليد فعلى الراكب والقائد». وبمعناها أخبار أخر معلّلا في
بعضها عدم ضمان الراكب إذا أصابت دابّته برجلها بأنّ رجلها خلفه إذا ركب ، وضمان
القائد إذا أصابت دابّته بيدها بأنّه يملك يدها.
ومنها : ما روي عن
هارون بن حمزة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن البقر والغنم والإبل يكون في الرعي فتفسد شيئا ، هل
عليها ضمان؟ فقال : إن أفسدت نهارا فليس عليها ضمان ، من أجل أنّ صاحبه يحفظه ،
وإن أفسدت ليلا فإنّه عليها ضمان». ونحوها خبران آخران في تفسير قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ
فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) وفي أحدهما : «لا يكون النفش إلّا
.................................................................................................
______________________________________________________
بالليل ، إنّ على
صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار ، وليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار ، إنّها
رعاها بالنهار ، فما أفسدت فليس عليها ، وعلى صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن
حرث الناس ، فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا» الحديث.
والمستفاد من هذه
الأخبار وغيرها هو ما ذكرناه من كون التسبيب سببا للضمان إذا كان موجد السبب
مذموما شرعا أو عرفا ، لا مطلقا كما هو مقتضى التعليلات الواردة فيها والفرض في
الصور الثلاث المتقدّمة هو جواز التصرّف من دون توجّه ذمّ شرعا أو عرفا إلى المالك
، فلا يتعقّبه ضمان بمجرّد إيجاد السبب. ومن هنا يظهر أنّ مقتضى التحقيق هو الحكم
بالضمان في الصورة الرابعة ، لفرض حرمة التصرف فيها ، فالمالك حينئذ مذموم في
إيجاد سبب تضرّر الجار. والله أعلم.
وبقي في المقام
أمران :
أحدهما : أنّ جميع
ما قدّمناه من جواز التصرّف والضمان وعدمهما في الصور الأربع إنّما كان فيما كان
التصرّف في الملك مستلزما لتضرّر الجار. وهل يلحق به المباحات والمشتركات؟ مثل
الطرق والمدارس والخان المعدّ لنزول المتردّدين ، بمعنى أنّا حيثما قلنا بجواز
التصرّف وعدم الضمان في الأملاك كما في الصور الثلاث المتقدّمة ، فهل يحكم بهما
هنا أيضا أو لا؟ وقد تقدّم الكلام فيه في بعض الحواشي السابقة.
وثانيهما : أنّا
حيثما قلنا بالضمان في التسبيبات الشرعيّة ، فإذا تغيّر عنوان السبب ففي بقاء
الضمان إشكال ، كما إذا حفر رجل بئرا في ملك غيره عدوانا ، فإنّه لو وقع فيه رجل
آخر أو دابّته يضمنه. وإذا اشترى هذا الملك أو انتقل إليه إرثا ، ففي بقاء الضمان
إذا وقع فيه غيره بعد الانتقال وجهان. وكذا إذا حفر بئرا في طريق المسلمين لمصلحته
، فهو ضامن لما يقع فيه. وإذا أدخل الطريق في ملكه ، بأن جعل لهم طريقا آخر من
ملكه عوض الطريق الأوّل ، بناء على جوازه ، ففي بقاء الضمان أيضا وجهان ، وإن قلنا
بعدم الضمان لو حفره في ملكه ابتداء ، من
نعم ، في الصورة الاولى التي يقصد
المالك مجرّد الإضرار من غير غرض في التصرّف يعتدّ به ، لا يعدّ فواته ضررا.
والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك
بترك التصرّف أشدّ من ضرر الغير أو أقلّ ؛ إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلّة الضرر كما
سيجيء (٢٠٠٥) وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر ؛ فإنّ تحمّل الغير (٢٠٠٦) على
الضرر ولو يسيرا لأجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا ، حرج وضيق ، ولذا اتّفقوا على
أنّه يجوز للمكره الإضرار
بما دون القتل لأجل دفع الضرر عن نفسه ولو كان أقلّ من ضرر الغير.
هذا كلّه في تعارض ضرر المالك وضرر
الغير ، وأمّا في غير ذلك فهل يرجع ابتداء إلى القواعد الآخر أو بعد الترجيح بقلّة
الضرر (٢٠٠٧)؟
______________________________________________________
استصحاب السببيّة
السابقة ، ومن تغيّر عنوان السبب ، وهو الأقوى. ولم أر من تعرّض لهذا الفرع.
٢٠٠٥. من نقل الاتّفاق على جواز إضرار المكره بالغير.
٢٠٠٦. يعني : المالك.
٢٠٠٧. لا يخفى أنّه بقي هنا حكم تساوي الضررين ، فنقول : إنّه إن
رضي أحد الشخصين بإدخال الضرر عليه مع ضمان صاحبه لما يدخل عليه من الضرر فهو ،
وإلّا فربّما يظهر من الشهيد في محكيّ دروسه تخيّر الحاكم في إدخال الضرر على أيّ
منهما أراد ، ولعلّه من باب السياسة الثابتة له ، ومع فقده فالقرعة ، لأنّها لكلّ
أمر مشكل. والأولى هو الرجوع إلى القرعة ولو مع وجود الحاكم ، لما عرفته من
العلّة.
وقد اضطربت كلمات
الأصحاب في المقام. قال في التذكرة : «لو غصب دينارا فوقع في محبرة الغير بفعل
الغاصب أو بغير فعله كسرت لردّه ، وعلى الغاصب ضمان المحبرة ، لأنّه السبب في
كسرها. وإن كان كسرها أكثر ضررا من
__________________
.................................................................................................
______________________________________________________
تبقية الواقع فيها
، ضمنه الغاصب ولم تكسر» انتهى. وظاهره أنّه تكسر المحبرة مع تساوي الضررين.
وقال في الدروس :
لو أدخل الدينار في محبرته ، وكانت قيمتها أكثر منه لم تكسر المحبرة ، وضمن صاحبها
الدينار مع عدم تفريط مالكه.
ثمّ اعلم أنّ
المصنّف رحمهالله قد أشار إلى جملة من الامور المتعلّقة بقاعدة الضرر ، وقد
فصّلنا الكلام فيها في الحواشي السابقة ، وبقي الكلام في جملة اخرى أهملها ، فلا
بدّ من التعرّض لها تتميما لفروعها وما يتعلّق بها.
الأمر الأوّل :
أنّ المدار في نفي الحكم الضرري صدق عنوان الضرر عليه عرفا ، لعدم ثبوت حقيقة
شرعيّة بل ولا متشرّعة فيه ، فمثل إدخال النقص بمثل حبّة حنطة أو قشر جوزة لا يصدق
عليه الضرر عرفا ، وإن كان ضررا في الواقع.
وبالجملة ، إنّ
ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأموال والبلاد والأزمان ، فربّ شيء يعدّ ضررا
بالنسبة إلى شخص دون آخر ، وفي بلد دون آخر ، وفي زمان دون أخر. ومثل منع شخص من
المنافع المحضة ـ كالانتفاع بالمباحات ـ لا يعدّ ضررا ، لأنّه ـ كما نقله المصنّف رحمهالله عن النهاية ـ إدخال النقص على الغير ، وهو غير صادق عليه ،
لأنّه منع من الانتفاع المحض ، لا إدخال نقص على الغير ، ولا إشكال فيه. وإنّما
الإشكال في إثبات حرمة هذا المنع إذا لم يدخل في عنوان آخر معلوم الحرمة ، كما إذا
منعه من الانتفاع بحبس ونحوه ، لدخوله في عنوان الإيذاء والظلم. وأمّا إذا أرسل
الماء إلى الأشجار المباحة ، فمنع الحطّابين من الانتفاع بها ونحو ذلك ممّا لا
يدخل تحت عنوان محرّم ، فالأظهر جوازه للأصل.
الأمر الثاني :
أنّه ربّما يستشكل في القاعدة بالأحكام الضرريّة الثابتة في الشرع ، كالزكاة
والخمس والجهاد ونحوها. وربّما يجاب بأنّ المراد بالضرر المنفي ما لم يحصل بإزائه
نفع ، وإلّا فما حصل بإزائه نفع دنيوي أو اخروي لا يسمّى ضررا ، فهو خارج من موضوع
عموم نفي الضرر.
.................................................................................................
______________________________________________________
وفيه نظر ، لأنّ
حصول النفع بإزاء الضرر يصحّح التكليف بالضرر ، لا أنّه يخرجه من موضوعه. والأولى أن
يقال : إنّ قاعدة نفي الضرر ليست من القواعد العقليّة غير القابلة للتخصيص ، فيجوز
تخصيصها بما ثبت بالدليل القاطع.
الأمر الثالث :
أنّ انتفاء الحكم الضرري لما كان لأجل الضرر ، فلا بدّ في الحكم بانتفائه من
الاقتصار على ما يندفع به الضرر ، فإذا ثبت الخيار للبائع في المبيع المغبون فيه
لدفع الضرر الحاصل له من لزوم العقد ، يقتصر في إثباته على الزمان الأوّل الذي
يمكن فسخ العقد فيه ، ولا يتعدّى إلى الزمان الثاني.
وتوضيح ذلك : أنّ
قاعدة نفي الضرر قد يثبت بها الضمان ، كما إذا أتلف مال الغير ، فإنّ إجراء أصالة
براءة ذمّة المتلف يوجب تضرّر المالك ، فيحكم بضمانه بناء على ما ذكره بعض أواخر
المتأخّرين كما تقدّم سابقا. ولنا فيه كلام يأتي إليه الإشارة. وقد يثبت بها
التضمين ، وقد يدور الأمر بين الضمان والتضمين ، كما إذا باع مال الغير فضولا أو
غصبه فباعه مع جهل المشتري به ، لأنّه إذا رجع المالك إلى المشتري بالعين ومنافعها
التي استوفاها منها ، ضمن البائع له بما رجع المالك به إليه.
والإشكال إنّما هو
في أنّه قبل رجوع المالك هل يحكم بضمان البائع للمشتري فعلا ، أو للمشتري تضمينه
بعد رجوع المالك إليه؟ ويثمر ذلك فيما لو كان للبائع من المال بقدر ما يحجّ به.
فعلى الأوّل لا تحصل له الاستطاعة الشرعيّة ، لاشتغال ذمّته بدفع ما ضمنه إلى
المضمون له ، بخلافه على الثاني. ولكن لا يخفى أنّ ضرر المشتري يندفع بالحكم بجواز
تضمين المشتري للبائع بعد رجوع المالك إليه ، كما أنّ في أرش العيب والتصدّق بالمال
الملتقط لا يحصل الضمان إلّا بعد مطالبة المشتري في الأوّل وصاحب المال في الثاني
، فلا يحكم بالضمان قبل رجوع المالك ومطالبة المشتري. وقد يثبت بها الخيار ، كما
في خيار الغبن والعيب ، ولكنّ الضرر الحاصل للمشتري من لزوم العقد يندفع بثبوت
الخيار له في الزمان الأوّل الذي يمكن
.................................................................................................
______________________________________________________
فسخ العقد فيه ،
فلا يصحّ إثباته في الزمان الثاني أيضا بقاعدة نفي الضرر. والاستناد في نفيه في
الزمان الثاني إلى عموم وجوب الوفاء بالعقود ، بتقريب أنّه قد خرج منه الزمان
الأوّل بقاعدة نفي الضرر ، ويعمل بعمومه في الثاني ، لما عرفت من عدم اقتضاء
القاعدة لخروجه أيضا ، فإذا لم يفسخ المشتري في الزمان الأوّل سقط خياره في الزمان
الثاني ، ضعيف ، لأنّ عموم قوله تعالى : (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) إنّما هو بحسب أفراد العقود لا بحسب أحوالها وأزمانها.
نعم ، يعمّها أيضا
من حيث إطلاق الأحوال لا من حيث إطلاق اللفظ ، ولكن إذا ثبت التقييد لعقد في زمان
لا يبقى للعموم المذكور إطلاق بالنسبة إلى زمان آخر بعده ، لأنّ الإطلاق بحسب
الأحوال إنّما كان ثابتا من جهة عدم تقييد الحكم بزمان أو حال ، فإذا ثبت تقيّده
بزمان مثلا يصير اللفظ مجملا بحسب العرف بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة عنه.
نعم ، نفس قاعدة
الضرر كافية في نفي الخيار في الزمان الثاني ، لأنّ عدم الخيار في الزمان الأوّل
كما أنّه ضرر على المشتري ، كذلك ثبوت الخيار في الزمان الثاني ضرر على البائع ،
فينفى كلّ منهما بالقاعدة. مضافا إلى عموم السلطنة ، وأصالة فساد الفسخ في الزمان
الثاني ، لما قرّر في محلّه من كون مقتضى الأصل في المعاملات هو الفساد. وقد
يتمسّك في إثبات الخيار في الزمان الثاني بالاستصحاب الذي هو حاكم على أصالة
الفساد. وفيه ـ مع عدم مقاومته لقاعدتي نفي الضرر والسلطنة ـ : أنّ من شرائط جريان
الاستصحاب بقاء الموضوع ، وهو هنا متغيّر ، لما عرفت من انتفاء الضرر في الزمان
الثاني بثبوت الخيار في الزمان الأوّل.
فإن قلت : كيف
تحكم بثبوت الضمان أو التضمين أو الخيار بعموم نفي الضرر ، ولا دلالة له على شيء
منها بإحدى الدلالات على كلّ من المعاني الأربعة المحتملة في قوله صلىاللهعليهوآله «لا ضرر ولا ضرار
في الإسلام» التي تقدّمت عند شرح ما يتعلّق ببيان معنى الرواية. أمّا على المعنى
الثاني والثالث الراجعين إلى بيان تحريم الفعل
.................................................................................................
______________________________________________________
الضرري فواضح ، إذ
حرمة إتلاف مال الغير أو إيقاع العقد على مال الغير مع جهل المشتري أو إيقاعه على
المبيع المعيب في الأمثلة المتقدّمة ، لا تدلّ على شيء من الضمان والتضمين والخيار
بإحدى الدلالات ، مع منع الحرمة في الأخيرين.
وأمّا على المعنى
الأوّل الراجع إلى نفي الحكم الضرري ، وكذا على الرابع الراجع إلى نفي الفعل
الضرري بلا انجبار وتدارك ، فلأنّ نفي الحكم الضرري لا يقتضي إلّا دفع الضرر ، وهو
لا يثبت الضمان في مسألة الإتلاف ، وتضمين المشتري للبائع في مسألة التغريم ،
والخيار في بيع المعيب ، لإمكان دفعه بتدارك الضرر من بيت المال أو من جانب الله
تعالى في الدنيا أو الآخرة. مضافا إلى عدم اقتضاء نفي الحكم الضرري ثبوت الخيار في
الثالث ، لإمكان دفع الضرر بثبوت أرش العيب أو بطلان العقد من رأسه. وكذا نفي
الفعل الضرري من دون جبران لا يثبت كون التدارك والجبران من مال الضارّ ، لإمكان
جبره من بيت المال ، لكونه معدّا لمصالح المسلمين ، أو في الآخرة أو في الدنيا من جانب
الله تعالى. نعم ، لو دلّ دليل على عدم التدارك من غير مال الضارّ ، كان قاعدة نفي
الضرر مع هذا الدليل مثبتا للضمان ، لكنّ القاعدة لا تنهض لإثباته بنفسها كما هو
المدّعى.
قلت : إنّا قد
أسلفنا سابقا أنّ المتعيّن في معنى الرواية هو المعنى الأوّل ، فنقول حينئذ : إنّه
إذا أتلف مال الغير ، فتدارك ضرر صاحب المال إمّا من مال المتلف ، أو المسلمين ،
أو بيت المال ، أو من جانب الله تعالى في الدنيا أو الآخرة. وما عدا الأوّل باطل.
أمّا الثاني فلاستلزامه لتضرّر المسلمين ، ولا تزر وازرة وزر اخرى.
وأمّا الثالث فإنّ
بيت المال معدّ للمصالح العامّة للمسلمين لا لكلّ مصلحة لهم ، والضرر هنا غالبا
حاصل لخصوص بعض المسلمين. نعم ، لو فرض أنّ شخصا أوصى بثلث ماله أو بشيء منه لمثل
ذلك أو لمطلق مصالح المسلمين جاز جبره منه.
وأمّا الرابع ،
فإنّ التدارك في الدنيا خلاف الوجدان. وأمّا في الآخرة ففيه ـ مضافا إلى أصالة
عدمه ـ أنّ الظاهر بل المقطوع به أنّ المراد تداركه في الدنيا ، كيف
.................................................................................................
______________________________________________________
لا ولو اريد
تداركه في الآخرة انقلب التكليف في موارد الضرر إلى استحباب الإضرار بالمسلمين ،
لكونه سببا للأجر الاخروي بإزاء ما دخله من الضرر ، وهو خير من الدنيا وما فيها.
مع أنّ ملاحظة الأخبار المتقدّمة سابقا الواردة في بيان هذه القاعدة تعطي خلاف ذلك
، ولذا أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله في قصّة سمرة بقلع عذقه ، وقال : إنّك رجل مضارّ ، وكذا
الصادق عليهالسلام حكم بالشفعة لنفي الضرر العائد إلى الشفيع ، وكذلك في رواية
هارون بن حمزة قد حكم لمعطي الدرهمين بخمس ما بلغ من القيمة لنفي الضرر ، فلم يحكم
في شيء من هذه الأخبار برفع الضرر الحاصل بالثواب الاخروي والمجازاة الأبديّة.
فإن قلت : إنّ
إثبات الضمان حينئذ لا يكون بمجرّد قاعدة نفي الضرر ، بل بها بضميمة ما عرفت من
حصر التدارك في مال المتلف مثلا.
قلت : نعم ، وليس
المقصود أيضا إثبات الضمان بقوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» بدلالته اللفظية من دون مدخليّة شيء
آخر أصلا ، فتدبّر.
هذا كلّه مضافا
إلى أن تتّبع موارد الضمانات والغرامات الثابتة شرعا واستقرائها يعطي ثبوت الضمان
على الضارّ والغارّ دون غيرهما ، وقد حكموا فيمن وطئ بهيمة الغير بضمان الواطي
قيمتها ، وكذا فيمن باع أمة بدعوى الوكالة في بيعها ثمّ استولدها المشتري ثمّ
تبيّن كذبه في دعوى الوكالة ، فحكموا بضمان مدّعي الوكالة للمشتري إذا رجع المالك
إليه بأرش البكارة وقيمة الولد ، وهكذا في غير ذلك من موارد الضمانات والغرامات.
وناهيك شاهدا بصحيحة البزنطي : «من ضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن». ومثلها
ما رواه المشايخ الثلاثة. وصحيحة الكناني المتقدّمة. وهي دالّة على الضمان مع
التسبيب ، ومع المباشرة بطريق أولى. هذا إن جعلت كلمة «من» فيها بمعنى «في» وإلّا
فإن بقيت على ظاهرها يفيد المباشرة. نعم ، رواية الثلاثة صريحة في صورة التسبيب.
ويدلّ عليه أيضا
آيات من الكتاب العزيز ، قال الله تعالى في سورة النحل :
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ). وقال جلّ وعلا في سورة البقرة : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). وفي سورة الشورى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها). ومن ذلك يظهر أيضا عدم جواز دفع الضرر في مسألة التغريم
وبيع المعيب والمغبون فيه من مال المسلمين ، أو بيت المال ، أو من جانب الله تعالى
في الدنيا أو الآخرة.
نعم ، بقي احتمال
دفعه في مسألة البيع بإثبات الأرش ، أو فساد العقد من رأس. ويرد على الأوّل : أنّ
إثبات الأرش ضرر على البائع ، لأنّه بعد انتقال الثمن إلى البائع والمثمن إلى
المشتري بالعقد اللازم كما هو الفرض ، فالرجوع إلى البائع بالأرش إدخال نقص عليه.
مع أنّ إثبات الأرش تدارك للضرر لا رفع له ، وقد تقدّم في بعض الامور السابقة أنّ
قوله صلىاللهعليهوآله «لا ضرر ولا ضرار»
وارد في مقام بيان دفع الضرر ، لا إثباته والأمر بتداركه. وعلى الثاني : أنّك قد
عرفت سابقا أنّه لا بدّ في نفي الحكم الضرري من الاقتصار على ما يندفع به الضرر
الحاصل من ثبوت الحكم ، ولا شكّ أنّ الضرر هنا حاصل من لزوم العقد ، فلا بدّ أن
يكون المنفي لزومه مع بقاء جوازه ، لا فساده من رأس.
الأمر الرابع :
أنّ ظاهر قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» هو نفي الضرر الواقعي ،
بمعنى نفي الحكم المستلزم له في الواقع ، سواء كان المكلّف عالما به أو شاكّا فيه
أو معتقدا للخلاف ، فيكون عدم الضرر حينئذ من الشرائط الواقعيّة للعبادات ، نظير
الطهارة بالنسبة إلى الصلاة. فإذا توضّأ مع اعتقاد عدم التضرّر باستعمال الماء ثمّ
انكشف خلافه ، فلا بدّ من الحكم بالبطلان ، ولكن بناء الفقهاء في العبادات على
خلافه ، حيث يعتبرون العلم بالضرر أو الظنّ به وعدمهما في الصحّة والبطلان. وعليه
يكون عدم الضرر من الشرائط العلميّة دون الواقعيّة.
نعم ، قد جروا في
المعاملات على مقتضى ظاهر لفظ الرواية ، ولذا حكموا بخيار الغبن والعيب بقاعدة نفي
الضرر ، ولو مع اعتقاد المشتري عدمهما حين البيع
.................................................................................................
______________________________________________________
ثمّ انكشف خلافه ،
فحكموا بثبوت الخيار من حين البيع لا من حين ظهور الغبن والعيب ، ولذا ذكروا الغبن
والعيب من أسباب الخيار لا ظهورهما.
ويمكن دفع الإشكال
عن العبادات أيضا بما نبّه عليه المصنّف رحمهالله في رسالته المفردة. وحاصله مع توضيح منّي : أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وارد في مقام بيان المنّة
على هذه الأمّة ، ولا منّة في رفع الأحكام الواقعيّة الشأنيّة ، لأنّ المنّة إنّما
تحصل برفع حكم ضرري بحيث لو لا رفعه توجّه التكليف به ، إذ لا ضرر على العباد مع
عدم توجّهه إليهم ، والأحكام الواقعيّة الشأنيّة ليست كذلك ، لأنّ المتوجّه إليهم
هو الأحكام الفعليّة دونها. بل رفع الأحكام الواقعيّة الشأنيّة ربّما يوجب الضرر
على العباد ، لأنّه إذا فرض ارتفاع وجوب الوضوء في الواقع مع تضرّر استعمال الماء
في الواقع ، واتّفق أنّ مكلّفا صلّى عشرين سنة ثمّ انكشف تضرّره بجميع الوضوءات
التي صلّى بها ، فلا ريب أنّ الحكم ببطلان الصلاة في هذه المدّة ووجوب قضائها ثانيا
ضرر فاحش عليه ، ومناف للمنّة. فالأوفق لها رفع الأحكام الفعليّة دون الواقعيّة ،
فيكون عدم العلم بالضرر أو الظنّ به شرطا في فعليّة الأحكام وتوجّهها إلى
المكلّفين ، لا الضرر الواقعي خاصّة في تحقّق الحكم الواقعي كذلك ، وحينئذ يكون
اعتبارهم للضرر الواقعي في المعاملات ثابتا على خلاف القاعدة ، فتدبّر.
الأمر الخامس :
أنّه لا إشكال في نفي الأحكام الوجوديّة بقاعدة نفي الضرر ، تكليفيّة كانت أم
وضعيّة. وأمّا إذا ترتّب ضرر على عدم الحكم في مورد ، كما إذا حبس الدابّة فمات
ولدها ، أو قبض الرجل فشردت دابّته ، أو فتح قفس طائر فطار ، لأنّ الحكم بعدم
الضمان يوجب تضرّر صاحب المال ، ففي ثبوت الضمان في أمثال هذه الموارد إشكال. نعم
، يظهر التمسّك بالقاعدة في إثباته من صاحب الرياض.
هذا مع قطع النظر
عن اندراج هذه الموارد تحت عنوان موجب للضمان ، كالإتلاف ونحوه ، أو بناء على عدم
العلم بكون السببيّة في هذه الموارد سببا للضمان ،
.................................................................................................
______________________________________________________
إذ كلّ سبب
للإتلاف ـ بعيدا كان أو قريبا ـ ليس موجبا له ، بل المدار على صدق الإتلاف عرفا ،
وعلى التسبيبات في الجملة كما أشرنا إليه سابقا ، ولذا لم يحكم بعضهم بالضمان في
هذه الموارد ، وكذا فيما حفر بئرا في ملكه أو في الأراضي المباحة فوقع فيه غيره.
ووجه الإشكال عدم
دلالة نفي الضرر على معانيه الأربعة المتقدّمة على ثبوت الضمان هنا ، بل وعلى معنى
خامس أيضا قد أهملنا ذكره هناك ، وهو أن يكون المراد بقوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» نفي الضرر في الأحكام
الأوّلية ، بمعنى كونها بأسرها منافع بالنسبة إلى المكلّفين ، وليس فيها ضرر على
العباد أصلا ، لأنّ الكلّ غير مسمن ولا مغن عن شيء في المقام.
أمّا أوّلا :
فإنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ هذه القاعدة موهونة بورود كثرة التخصيص عليها ،
وأنّه لا بدّ في العمل بها في مورد من جبر وهنها بعمل الأصحاب بها في هذا المورد ،
ولم يعمل أحد بها في المقام سوى ما عرفته من صاحب الرياض.
وأمّا ثانيا :
فإنّ نفي الحكم الواقعي في المقام بناء على المعنى الخامس الذي عرفته لا يستلزم
الضمان ، لأنّه إذا فتح باب قفس طائر فطار ، فهذا الفعل في الواقع وإن لم يخل من
أحد الأحكام الخمسة ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون حكمه في الواقع هي الحرمة ، ولم يرض
به الشارع في الواقع حتّى يترتّب عليه ضرر. وأمّا الحكم بالجواز في الظاهر لأصالة
البراءة فهو مسامحة في العبارة ، وإلّا فأصالة البراءة لا تقتضي إلّا مجرّد نفي
العقاب لا الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة. ومع التسليم فالضرر حينئذ يكون
مرتّبا على وجود الحكم ، لا على عدمه كما هو المفروض في المقام.
وكيف كان ،
فالقاعدة على هذا المعنى ساكتة عن نفي الضرر المرتّب على العدميّات. وستقف على
زيادة توضيح لذلك.
وأمّا بناء على
سائر المعاني المتقدّمة ، فأمّا على المعنى الثاني والثالث الراجعين
.................................................................................................
______________________________________________________
إلى بيان حرمة
الفعل الضرري ، فإنّ القاعدة وإن نفت جواز الفعل المذكور حينئذ ، كحبس الرجل أو
الدابّة وفتح القفس في الأمثلة المتقدّمة ، إلّا أنّ مجرّد الحرمة لا يدلّ على
الضمان ، لعدم الملازمة بينهما. مع أنّ الضمان على تقدير تسليمه إنّما هو مرتّب
على نفي الحكم الوجودي الضرري ، وهي إباحة الفعل ، لا على نفي عدم الحكم المثبت
لوجوده كما هو الفرض في المقام ، لأنّ المقصود إثبات الضمان بنفي عدمه من جهة
استلزام عدمه للضرر على الغير ، ولا ربط بين تحريم الفعل ونفي عدم الضمان المثبت
لوجوده.
وأمّا على المعنى
الرابع ، أعني : كون المراد نفي الضرر من دون تداركه وجبره في الإسلام ، فإنّ
مرجعه إلى نفي الضرر في الإسلام ، تنزيلا للضرر المتدارك منزلة عدمه ، كما تقدّم
عند بيان هذا المعنى. وتقدّم هناك أيضا أنّ الأمر بالتدارك ودفع العوض بعد حصول
الضرر إنّما يصحّح التكليف بالفعل الضرري ، لا أنّه ليس بضرر ولو بالتنزيل.
وبالجملة ، إنّه فرق بين الأمر بالتدارك وفعليّته ، والتنزيل إنّما يصحّ على
الثاني دون الأوّل ، كما صرّح به المصنّف رحمهالله في بعض كلماته. مع أنّ الحكم بالضمان لأجل تدارك الضرر
الحاصل بحبس الرجل والبراءة أو فتح القفس ، خروج من عنوان البحث كما تقدّم.
وأمّا على المعنى
الأوّل الراجع إلى نفي حكم ضرري في الإسلام كما هو ظاهر الرواية ، فإنّ الفرض في
المقام إثبات الحكم ـ أعني : الضمان ـ من جهة ترتّب الضرر على عدمه ، بأن ينفى
عدمه الملازم لوجوده ، لا نفي الحكم الوجودي المرتّب عليه ضرر ، كما هو مقتضى هذا
المعنى. ولا شكّ أنّ عدم الحكم ليس من الأحكام المجعولة حتّى يكون موردا للقاعدة ،
بأن يقال : إنّ عدم الضمان من جملة الأحكام التي يترتّب عليها ضرر ، فتنفيه قاعدة
نفي الضرر لوضوح كفاية العدم في عدميّة العدم من دون حاجة إلى إنشاء الشارع.
نعم ، يمكن إثبات
الضمان هنا لوجوه أخر :
.................................................................................................
______________________________________________________
أحدها : أن يرتكب
نوع مسامحة في الرواية ، بأن يقال : إنّ المراد بالإسلام فيها كلّ ما يعدّ منه
عرفا أو ينسب إلى الشارع ويجب أخذه منه من الوجوديّات والعدميّات ، ولا ريب أنّ
عدم الضمان كنفس الضمان من جملة ذلك ، وكذا مؤدّيات أصالة البراءة ، فإنّها وإن لم
تكن حكما شرعيّا ، لأنّ مؤدّى البراءة ليس إلّا مجرّد نفي العقاب دون الإباحة كما
أشرنا إليه ، إلّا أنّه ينسب مؤدّاها عرفا إلى الشارع.
ووجه المسامحة
واضح ، لأنّ الإسلام في الحقيقة هو ما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله ، والعدميّات ليست منه ، لما عرفت من عدم احتياجها إلى
إنشاء الشارع ، وكفاية إبقائها على عدمها السابق في تحقّق عدميّتها.
وثانيها : أنّ
العدميّات وإن لم تكن من الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّه يمكن إدخالها فيها باعتبار
لوازمها الشرعيّة ، لأنّه إذا حبس الرجل فشردت دابّته ، فعدم ضمان الحابس يوجب
حرمة مطالبة المحبوس بما فات منه بحبسه ، وكذا يحرم عليه التقاصّ من ماله عوض
الفائت ، وكذلك يحرم عليه التعرّض له ودفعه عن نفسه حين الإضرار ، فينفى ذلك كلّه
بعموم نفي الضرر ، فيثبت به الضمان.
وثالثها : أنّ
استدلال النبيّ صلىاللهعليهوآله في قصّة سمرة بعموم نفي الضرر على تسلّط الأنصاري على قلع
عذقه ، لأجل كون عدم تسلّطه عليه ضررا عليه ، وكذا استدلال الصادق له على إثبات
الشفعة ، لأجل كون عدم ثبوت الشفعة للشفيع ضررا عليه ، قرينة على دخول العدميّات
أيضا في عموم الرواية ، وحيث فرضنا استلزام عدم الضمان فيما نحن فيه أيضا للضرر
فينفى بعموم نفي الضرر.
ورابعها : قوله : «من
أضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن» بتقريب أنّ هذا الخبر من جملة الأخبار الواردة
في بيان قاعدة نفي الضرر كما تقدّم سابقا ، ولا ريب أنّ المناط في الضمان هو تضرّر
المسلمين من دون مدخليّة الطريق فيه ، فيثبت الضمان في كلّ ما استلزم تضرّرهم ،
سواء كان من الامور الوجوديّة أو العدميّة.
.................................................................................................
______________________________________________________
وخامسها : عمومات
الكتاب الواردة في جواز المقاصّة ، مثل قوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وقوله سبحانه : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) لدلالتها على جواز أخذ ما يساوي الضرر الداخل عليه مطلقا.
هذا ، ولكن في
الجميع نظر :
أمّا الأوّل ،
فلعدم الدليل على جواز الاعتداد بمثل المسامحة المذكورة ، وإلّا انهدم به أساس
الفقه.
وأمّا الثاني ،
فإنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وارد في مقام بيان نفي
الأحكام الضرريّة التي لو لا نفيها كانت ثابتة في الشرع. وبعبارة اخرى : إنّه وارد
في مقام بيان اختصاص عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتها بغير موارد الضرر ، فهو ناظر
إلى رفع أحكام هذه العمومات والمطلقات عن موارد الضرر ، وإن ترتّب على ارتفاعها
حكم آخر ، لا إلى إثبات حكم ابتداء بواسطة ترتّب الضرر على عدمه ، وإن استلزم عدمه
بعض اللوازم الشرعيّة ، فتأمّل.
وأمّا الثالث ،
فإنّ أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله الأنصاري بقلع عذق سمرة لعلّه لأجل كون بقاء سلطنة سمرة
على عذقه ضررا على الأنصاري ، لأجل كون عدم سلطنة الأنصاري على قلعه ضررا عليه.
وكذا حكم الصادق بالشفعة لعلّه لأجل كون لزوم العقد الثابت بقاعدة وجوب الوفاء
بالعقود ضررا على الشريك ، لا لأجل تضرّره بعدم سلطنته على أخذ المال المشترك فيه.
وأمّا الرابع ،
فإنّ الخبر المذكور لا دخل له في إثبات قاعدة نفي الضرر وإن ذكرناه في أخبارها ،
لوروده في مقام بيان حكم الضمان فيما أحدث أحد عملا في طريق المسلمين فتضرّر به
آخر ، لا في مقام بيان نفي الأحكام الضرريّة كما هو مقتضى القاعدة.
وأمّا الخامس ،
فإنّ غاية ما تثبته الآيتان هو جواز تقاصّ المستضرّ من مال المضرّ بمساوي ما دخل
عليه من الضرر ، وأمّا دلالتهما على ضمان المضرّ أيضا فلا.
.................................................................................................
______________________________________________________
وتظهر الثمرة في
آثارهما المختصّة بهما ، إذ على تقدير ضمانه يكون ذلك دينا في ذمّته ، فيقدّم بعد
الموت على تقسيم تركته بين الورثة ، ويؤخذ من صلب المال ، بخلافه على تقدير
المقاصّة من دون ضمان ، لعدم الدليل على بقاء هذا الحكم إلى ما بعد الموت وانتقال
المال إلى الورثة.
الأمر السادس :
أنّه إذا توجّه ضرر إلى مكلّف ، وتوقّف دفعه على الإضرار بالغير ، أو توجّه ضرر
إلى الغير ، وتوقّف دفعه على تحمّل الضرر عنه ، لا يجوز إدخال الضرر على الغير في
الأوّل ، ولا يجب تحمّله في الثاني ، لأنّ الجواز في الأوّل والوجوب في الثاني
حكمان ضرريّان ينفيهما عموم نفي الضرر.
ويتفرّع على
الأوّل ما ذهب إليه المشهور ، من عدم جواز إسناد الحائط المخوف وقوعه إلى جذع
الجار ، خلافا للشيخ مدّعيا لعدم الخلاف فيه. ولكنّه لأجل مخالفته للقاعدة ، أوّل
تارة بالحمل على صورة خوف إهلاك نفس محترمة ، فيكون الحكم بالجواز حينئذ مبنيّا
على تعارض الضررين وتقديم الأهمّ منهما ، وهو النفس. واخرى بالحمل على صورة عدم
تضرّر الجار بالإسناد إلى جذعه أصلا ، كالاستضاءة بنار الغير والاستظلال بحائطه.
ويتفرّع على
الثاني جواز إضرار الغير إكراها أو تقيّة ، بمعنى أنّه إذا أمره الظالم بالإضرار
بالغير ، وعلم بوصول ضرر منه إليه على تقدير المخالفة ، يجوز الإضرار بالغير حينئذ
، لعدم وجوب تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الغير. وليس هذا من قبيل دفع الضرر عن نفسه
بإدخال الضرر على غيره حتّى يدخل في الصورة الاولى ، لأنّ الضرر هنا متوجّه ابتداء
إلى الغير بالإرادة الحتميّة من الظالم ، وإليه على تقدير المخالفة وترك الامتثال
، فتوجّه الضرر إليه إنّما هو في المرتبة الثانية.
الأمر السابع :
أنّه لا فرق في الضرر المنفي بين الحاصل منه من قبل الله تعالى ، كما إذا تضرّر
باستعمال الماء في الوضوء لشدّة برودة الهواء مثلا ، وما كان من قبل المكلّف
وباختياره. وعليه لا فرق أيضا بين الجائز شرعا ، كما إذا قصّر في
.................................................................................................
______________________________________________________
الفحص عن قيمة ما
باعه فصار مغبونا في البيع ، وبين الحرام كذلك ، كما إذا أجنب نفسه مع علمه
بتضرّره بالغسل. فعموم نفي الضرر بنفى وجوب كلّ من الوضوء والغسل ولزوم البيع.
نعم ، لو أقدم
المكلّف على إدخال الضرر على نفسه ، كما إذا باع بدون ثمن المثل عالما به ،
فالقاعدة لا تنفيه ، لأنّ الحكم حينئذ لم يحصل بحكم الشارع ، بل بفعله وإقدامه. بل
لا يبعد أن يكون نفي الضرر حينئذ مناقضا للقاعدة ، لأنّ إلزام المكلّف على خلاف
مراده ومقصوده إضرار به.
فما ذكر صاحب
الجواهر في وجه وجوب ردّ المغصوب إلى مالكه ، وإن استلزم تضرّر الغاصب بأضعاف قيمة
المغصوب ، من أنّه هو الذي أدخل الضرر على نفسه بسبب الغصب ، لا يخلو من إشكال ،
لأنّه إن أراد بإدخال الضرر على نفسه إيجاد مقدّماته ، فقد عرفت أنّه لا يمنع
جريان القاعدة. وإن أراد الإقدام عليه بإرادته وقصده فهو ممنوع ، لأنّ الغاصب
إنّما يريد الانتفاع بالمغصوب لا إدخال الضرر على نفسه. ولكن أصل الحكم مشهور ، بل
يكاد لا يوجد فيه خلاف.
ويمكن توجيهه بأنّ
إحداث الغصب كما أنّه ضرر على المالك ، كذلك إبقاء المغصوب وعدم ردّه إليه ،
فيتعارض ضرر الإبقاء العائد إلى المالك مع ضرر الردّ الحاصل للغاصب ، وحينئذ إمّا
يحكم بتعارضهما وتساقطهما والرجوع إلى أصل آخر ، وهو عموم حرمة الإضرار بالغير ،
لأنّ حرمته ـ كحرمة الإضرار بالنفس ـ ثابتة بأدلّة أخر سوى أدلّة نفي الأحكام
الضرريّة ، وإن كانت هي من جملتها ، وقد عرفت أنّ إبقاء المغصوب ضرر على المالك ،
وبعد تعارض فردي عموم نفي الحكم الضرري يرجع إلى عموم حرمة الإضرار. وإمّا يرجّح
ضرر المالك ، لأنّ أخبار نفي الضرر ـ كما تقدّم سابقا ـ إنّما وردت في مقام
الامتنان ، والمالك أولى من الغاصب في شمول المنّة والرأفة من الله تعالى له عند
دوران الأمر بينهما ، لأنّ الغاصب لأجل غصبه قد صار سببا لعدم تعلّق التفضّل
والمنّة من الله تعالى به.
وجهان ، بل قولان.
يظهر الترجيح من بعض الكلمات المحكيّة عن التذكرة وبعض مواضع الدروس ، ورجّحه غير
واحد من المعاصرين .
ويمكن أن ينزّل عليه ما عن المشهور : من أنّه لو أدخلت الدابّة رأسها في القدر
بغير تفريط من أحد المالكين ، كسر القدر وضمن قيمته صاحب الدابّة معلّلا بأنّ
الكسر لمصلحته.
فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب من أنّ
ما يدخل من الضرر على مالك الدابّة إذا حكم عليه بتلف الدابّة وأخذ قيمتها ، أكثر
ممّا يدخل على صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته. وبعبارة اخرى : تلف إحدى العينين
وتبدّلها بالقيمة أهون من تلف الاخرى. وحينئذ ، فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل
الحكم بكونه لمصلحة صاحب الدابّة بما في المسالك : من أنّه قد يكون المصلحة لصاحب
القدر فقط ، وقد يكون المصلحة مشتركة بينهما. وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابّة إذا
دخلت في دار لا تخرج إلّا بهدمها معلّلا بأنّه لمصلحة صاحب الدابّة ؛ فإنّ الغالب
أنّ تدارك المهدوم أهون من تدارك الدابّة. وبه نستعين ومنه نستمدّ.
______________________________________________________
فضّل الله ثوابنا
في ميزان الأعمال بفضله ومنّه.
وليكن هذا آخر ما
أردنا إيراده في المجلّد الثاني من مجلّدات هذه التعليقة. وقد وقع الفراغ منه بيد
مصنّفه الجاني الفاني غريق بحار المعاصي موسى بن جعفر عفا الله عنهما ، في اليوم
العشرين من الشهر الأوّل من سنة ١٢٩٢ اثنتين وتسعين بعد ألف ومأتين قد مضين من
الهجرة المصطفويّة ، على هاجرها آلاف صلاة وتحيّة ، أثبت الله تعالى أقدامنا يوم
تزلّ فيه الأقدام.
المصادر
(١) بحار الأنوار
ج ٢٢ : ص ١٣٥ ، الحديث ١١٨.
(٢) الوسائل ج ١٧
: ص ٣٤١ ، الباب ١٢ من أبواب أحياء الموات ، الحديث ٣.
(٣) الصحاح ج ٢ :
ص ١٧٩ ـ ٧٢٠ ، مادّة «ضرر».
(٤) النهاية لابن
الأثير ج ٣ : ص ٨١ ـ ٨٢ ، مادّة «ضرر».
(٥) القوانين ج ٢
: ص ٥٠ ؛ عوائد الأيّام : ص ٥٣ و ٥٧.
(٦) جامع المقاصد
ج ٧ : ص ٢٦.
(٧) الدروس
الشرعيّة ج ٣ : ص ٦٠.
(٨) المبسوط ج ٣ :
ص ٢٧٢.
(٩) كفاية الأحكام
: ص ٢٤١.
(١٠) مفتاح
الكرامة ج ٧ : ص ٢٢.
(١١) التحرير ج ٢
: ص ١٣٨.
(١٢) مفتاح
الكرامة ج ٧ : ص ٢٢ ـ ٢٣.
(١٣) الجواهر ج ٣٧
: ص ٢٠٨.
فهرس الموضوعات
في
الشبهة الغير المحصورة.......................................................... ٧
في
دوران الأمر بين المتباينين..................................................... ٣٩
في
دوران الأمر بين المتباينين / التنبيهات.......................................... ٧٩
المصادر..................................................................... ١٠١
في
دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.............................................. ١٠٥
في
دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر / التنبيهات.................................... ١٨٩
خاتمة
: فيما يعتبر في العمل بالأصل الاحتياط................................... ٢٩٧
خاتمة
: فيما يعتبر في العمل بالأصل البراءة...................................... ٣٠٥
في
قاعدة لا ضرر ولا ضرار.................................................... ٣٩٣
|