المقصد الثالث في الشكّ

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة

الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

المقصد الثالث من مقاصد هذا الكتاب في الشكّ

قد قسّمنا في صدر هذا الكتاب المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعيّ العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام ؛ لأنّه إمّا أن يحصل له القطع بحكمه الشرعيّ ، وإمّا أن يحصل له الظنّ ، وإمّا أن يحصل له الشكّ.

وقد عرفت أنّ القطع حجّة في نفسه لا بجعل جاعل ، والظنّ يمكن أن يعتبر في متعلّقه ؛ لأنّه كاشف عنه ظنّا ، لكنّ العمل به والاعتماد عليه في الشرعيّات موقوف على وقوع التعبّد به شرعا ، وهو غير واقع إلّا في الجملة ، وقد ذكرنا موارد وقوعه في الأحكام الشرعيّة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

وأمّا الشكّ ، فلمّا لم يكن فيه كشف (١٠٨٧) أصلا لم يعقل أن يعتبر ، فلو ورد في مورده حكم شرعيّ ـ كأن يقول : الواقعة المشكوكة حكمها كذا ـ كان حكما

______________________________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمّد وآله المعصومين الأطيبين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

١٠٨٧. لتساوي نسبة الشكّ إلى طرفيه ، فلا يعقل أن يعتبر من باب الكشف بالنسبة إلى أحدهما ، وإلّا لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر. ولكنّا قد أسلفنا

ظاهريّا (١٠٨٨) ،

______________________________________________________

فيما علّقناه على صدر الكتاب ما يناقش في ذلك.

١٠٨٨. اعلم أنّ الأحكام باعتبار تعلّقها بنفس الموضوعات الواقعيّة وبالموضوعات المشكوك في حكمها تنقسم إلى واقعيّة وظاهريّة ، والأدلّة الدالّة عليها إلى اجتهاديّة وفقاهتيّة.

أمّا الاولى فهي ـ كما يستفاد من عبارة المصنّف رحمه‌الله ـ الأحكام المقرّرة في نفس الأمر لنفس الموضوعات الواقعيّة من غير مدخليّة للعلم والجهل فيها ، بمعنى تغيّرها وتبدّلها بعلم المكلّف وجهله بها ، إذ لو كان لهما مدخل فيها لزم التصويب في الأحكام الأوّلية ، لدورانها حينئذ وجودا وعدما مدار العلم والجهل.

نعم ، قد يكون لهما مدخل في موضوع هذه الأحكام ، بمعنى كونهما جزءا من موضوعاتها من دون أن يلزم منه تصويب باطل ، بأن يجعل الشارع الحرمة والنجاسة مرتّبتين على الخمر المعلومة الخمريّة ، ومقتضاه كونها مباحة وطاهرة في حقّ الجاهل بها. ومن هذا القبيل جواز الشهادة ، بناء على كون علم الشاهد بالواقعة جزءا من موضوع هذا الحكم.

وهذه الأحكام على قسمين ، اختياري : وهي الأحكام التي جعلها الشارع للمختار ، كوجوب الإتيان بالصلاة قائما ، وتسمّى بالأحكام الواقعيّة الاختياريّة. واضطراري : وهي الأحكام التي جعلها الشارع للمضطرّ ، مثل وجوب الإتيان بالصلاة قاعدا أو مضطجعا ، وتسمّى بالأحكام الواقعيّة الاضطراريّة. ومن لوازم هذه الأحكام عدم تنجّزها إلّا مع العلم بها. ومع العلم بها لا يجوز للشارع الحكم بخلافها إذا حصل العلم بها تفصيلا ، لوضوح المنافاة بينهما. وأمّا مع العلم بها إجمالا ففيه وجه للجواز ، لعدم امتناع أن يأمر الشارع ببدل الواقع ، بمعنى أن يقنع ببعض محتملات الواقع في مقام امتثاله ، بأن جعله بدلا عن الواقع ، كما في الشبهة المحصورة على القول بعدم وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثانية فهي الأحكام المقرّرة للجاهل بالأحكام الواقعيّة ، كمؤديات الاصول العمليّة. وهي مستلزمة لأحكام أخر مقرّرة في نفس الأمر لينسب الجهل إليها ، وتكون هذه ظاهريّة بالنسبة إليها ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله. وتسمّى أحكاما واقعية ثانويّة في لسان بعضهم ، وظاهريّة في لسان آخرين. ووجه التسمية واضح ممّا قرّره المصنّف رحمه‌الله.

قيل : ومن لوازمها عدم تحقّقها إلّا مع العلم بها ، لأنّ مؤدّى البراءة والاستصحاب مثلا لا يتحقّق ولا يصير حكما في حقّ المكلّف إلّا بعد العلم بكونه حكم الله في حقّه ، فبمجرّد علمه به يجعل هذا الحكم في حقّه ويتنجّز التكليف به ، بخلاف الأحكام الواقعيّة ، لتحقّقها في الواقع مع علم المكلّف بها وجهله. نعم ، تنجّزها يتوقّف على العلم بها على ما أسلفناه ، فتأمّل.

ومن جملة لوازمها أيضا انتفائها حقيقة أو حكما مع العلم أو الظنّ المعتبر بالحكم الواقعي ، على ما قرّره المصنّف رحمه‌الله. وتوضيحه : أنّ الواقع قد يفرض بالنسبة إلى نفس الأمر ، وقد يفرض بالنسبة إلى ما جعله الشارع في عرض الواقع بل عيّنه بالتنزيل ، كمؤديات الكتاب والسنّة على القول باعتبارها بالخصوص ، وبكونها منزّلة بمنزلة الواقع وإن لم تكن هي هو. وقد عرفت كون الأحكام الظاهريّة مجعولة في حقّ الجاهل بالحكم الواقعي لا العالم به.

وحينئذ إن كان المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري أعمّ من الجهل بالحكم الواقعي وما هو بمنزلته ، فمع العلم بأحدهما ينتفي موضوعه ، لفرض انتفاء الوصف المأخوذ في موضوعه ، فيتبعه انتفاء الحكم الظاهري حقيقة. وحينئذ تكون الأدلّة الاجتهاديّة ـ سواء أفادت العلم أو الظنّ بالواقع ـ واردة على الاصول.

وإن كان المأخوذ فيه هو الجهل بالحكم الواقعي خاصّة دون ما هو بمنزلته ، فبالعلم به ينتفي الحكم الظاهري حقيقة على ما عرفت. وأمّا مع العلم بما هو بمنزلته ، فيكون انتفاء الحكم الظاهري حينئذ بحسب حكم الشارع لا بحسب

.................................................................................................

______________________________________________________

الحقيقة ، لكون انتفاء موضوعه حينئذ بحكم الشارع لا بحسب الحقيقة ، لأنّ مؤدّيات ظواهر الكتاب والسنّة لمّا كانت بمنزلة الواقع بجعل الشارع كان العلم بها بمنزلة العلم بالواقع ، فترتّب على العلم بها أحكام العلم بالواقع. فكما أنّه مع العلم بالواقع ينتفي موضوع الحكم الظاهري ، كذلك مع العلم بالحكم المستفاد من ظواهر الكتاب مثلا ، غاية الأمر كون انتفائه هنا حكما وهناك حقيقة. وحينئذ تكون الأدلّة الاجتهاديّة الظنّية حاكمة على الاصول لا واردة عليها.

وعلى تقدير كون المراد من الجهل أعمّ من الجهل بالواقع وما هو بمنزلته ، قد يعتبر وصف الواقعيّة والظاهريّة بالنسبة إلى مؤدّيات الاصول التي هي أحكام ظاهريّة ، فيقال : إنّ شرب التتن مثلا له حكم واقعي مقرّر في نفس الأمر لا يختلف بالعلم والجهل ، وله مع الجهل بالواقع حكم ظاهري ، وهو ما يستفاد من البراءة ، وله حكم ظاهري آخر مع العجز عن ترجيح أدلّة البراءة على أدلّة الاحتياط في الموارد المختلف فيها ، وهو الحظر أو الإباحة على الخلاف في الأشياء المشتملة على منفعة خالية عن أمارة مفسدة ، كشمّ الطيب وأكل الفاكهة. وعلى القول بالإباحة فيها يتّحد الحكمان الظاهريّان ، فالبراءة والاحتياط بالنسبة إلى الواقع حكمان ظاهريّان ، وبالنسبة إلى الحظر والإباحة واقعيّان. وفي جميع هذه المراتب ينتفي موضوع الحكم الظاهري حقيقة أو حكما ـ على ما عرفت ـ بالعلم بالحكم الواقعي أو ما هو بمنزلته.

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا قدّمناه وجه ما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله من كون تقديم الأدلّة الاجتهاديّة الظنّية على الاصول من باب الحكومة دون التخصيص. وكذلك الوجه فيما فرّق بين ما لو قلنا باعتبار الاصول من باب الشرع أو العقل ، حيث تنزّل ممّا ذكرناه أوّلا ، فسلّم كون تقديمها عليها من باب التخصيص على الأوّل دون الثاني ، لأنّ المأخوذ في موضوع البراءة والاشتغال إذا قلنا باعتبارهما من باب الشرع هو عدم العلم بالواقع ، وهو لا يرتفع بالظنّ به وإن كان معتبرا شرعا.

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ يمكن أن يتوهّم كون تقديمها عليها من باب التخصيص على نحو ما قرّبه المصنّف رحمه‌الله ، وإن كان الحقّ كون ذلك من باب التخصّص كما حقّقه ثانيا ، وعرفت الوجه فيه ، بخلاف ما لو قلنا باعتبارهما من باب العقل ، إذ لا مجال للتوهّم المذكور حينئذ ، لأنّ المأخوذ في موضوعهما حينئذ إنّما هو التحيّر وعدم معرفة طريق امتثال الواقع لا عدم العلم به ، ولا ريب في ارتفاعه بمجرّد قيام طريق شرعيّ على تعيين الواقع ، وإن تخلّف عنه في نفس الأمر ، فلا بدّ حينئذ أن يكون رفع اليد عن البراءة والاشتغال لأجل التخصّص دون التخصيص.

ومن هنا يظهر وجه الفرق بين القول باعتبارهما من باب الشرع والعقل ، لكون تقديم الأدلّة الاجتهاديّة الظنية عليهما على الأوّل من باب الحكومة ، وعلى الثاني من باب الورود.

وكيف كان ، فما وقع في بعض الكتب ـ سيّما كتاب الرياض ـ من أنّ الأصل مخصّص بالدليل كما نقله المصنّف رحمه‌الله ، يرد عليه أوّلا : منع عموم أدلّة الاصول لموارد وجود الدليل ، لانتفاء موضوعها به ، والتخصيص فرع الشمول ليكون خروج الواقعة من مقتضى الاصول بحسب الحكم دون الموضوع.

وثانيا : مع التسليم أنّ النسبة بينها وبين أدلّة الأمارات عموم من وجه ، لكون الاولى أعمّ من حيث وجود الأمارة في موردها وعدمه ، والثانية من حيث شمولها لغير موارد الاصول ، وحينئذ لا بدّ من الحكم بالإجمال في مورد التعارض ، فتأمّل ، فإنّ في كلام المصنّف رحمه‌الله ما يدفع هذا ، وهو ما أشار إليه بقوله : «لا ينفع بعد قيام الإجماع». وحاصله : أنّ الحكم بالإجمال في مورد التعارض في المتعارضين من وجه إنّما هو مع عدم انعقاد الإجماع على عدم الفرق بين موارد أحد العامين بالخصوص ، وإلّا كانت مادّة التعارض مندرجة تحت هذا العامّ لا محالة ، إذ لا إشكال في جواز العمل به في محلّ الافتراق ، فلا بدّ أن يعمل به في محلّ التعارض أيضا للإجماع المذكور. بل لو كان إطلاق التقديم والتخصيص في المقام مبنيّا على

.................................................................................................

______________________________________________________

المسامحة ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ـ اندفع الإيرادان معا كما هو واضح.

وأمّا الثالثة ، أعني : الأدلّة الاجتهاديّة ، فهي الأمارات التي تكشف عن الواقع ولو ظنّا ، مثل ظواهر الكتاب والسنّة.

وأمّا الرابعة ، فهي ما كان مثبتا للأحكام الظاهريّة ، مثل الاصول العمليّة. وقد حكيت تسميته هذا القسم بالدليل الفقهائي عن الفاضل الصالح المازندراني في شرح الزبدة. وهذا أولى ممّا نقله المصنّف رحمه‌الله عن التوحيد البهبهاني من تسميته بالدليل الفقاهتي ، لأنّ القياس حذف التاء مع لحوق ياء النسبة.

وكيف كان ، وقد شاع هذا الاصطلاح في زمان الوحيد البهبهاني وبعده. ولعلّ هذا هو وجه نسبة التسمية إليه دون الفاضل المازندراني. ووجه تسميته بالفقاهتي وسابقه بالاجتهادي : أنّ الاجتهاد ـ على ما عرّفوه ـ هو استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بالأحكام الفرعيّة. والفقه هو العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة. فالفقه بناء على كون المراد بالأحكام أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة هو العلم والجزم بما ذكر في الحدّ. فالفقيه من حيث بذل جهده لتحصيل الظنّ بالأحكام مجتهد ، ومن حيث علمه بها ـ لأجل مقدّمة أثبتها بدليل خارج ، وهو الإجماع على أنّ ما ظنّه هو حكم الله في حقّه وحقّ مقلّده ـ فقيه ، فاختلافهما إنّما هو بالاعتبار وملاحظة الحيثيّة ، كاختلاف القاضي مع المفتي. ومن هنا كان الأنسب تسمية ما يستعمله الفقيه لتحصيل الظنّ بالأحكام الواقعيّة بالدليل الاجتهادي ، وتسمية ما يستعمله لتحصيل العلم بها بالدليل الفقاهتي. ولا ريب أنّ مؤدّيات الاصول العمليّة هو العلم بالأحكام الظاهريّة لا الظنّ بالأحكام الواقعيّة ، لأنّ ذلك مؤدّى الأمارات المسمّاة بالأدلّة الاجتهاديّة على ما عرفت.

ثمّ إنّه قد يتسامح في إطلاق الدليل الفقاهتي على كلّ أمارة لا تفيد العلم بالواقع ، فيندرج فيه حينئذ ظواهر الكتاب والسنّة أيضا. ووجه التسامح واضح ، لأنّ الدليل الفقاهتي ما كان مثبتا لحكم ظاهري ، وهو ما جعله الشارع للجاهل

لكونه مقابلا للحكم الواقعي المشكوك بالفرض. ويطلق عليه الواقعي الثانوي أيضا ؛ لأنّه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها ، وثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه ؛ لأنّ موضوع هذا الحكم الظاهري وهي الواقعة المشكوك في حكمها لا يتحقّق إلّا بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشكّ فيه ، مثلا شرب التتن في نفسه له حكم فرضنا فيما نحن فيه شكّ المكلّف فيه ، فإذا فرضنا ورود حكم شرعيّ لهذا الفعل المشكوك الحكم ، كان هذا الحكم الوارد متأخّرا طبعا عن ذلك المشكوك ، فذلك الحكم واقعي بقول مطلق ، وهذا الوارد ظاهري ؛ لكونه المعمول به في الظاهر ، وواقعي ثانوي ؛ لأنّه متأخّر عن ذلك الحكم ؛ لتأخّر موضوعه عنه. ويسمّى الدليل الدالّ على هذا الحكم الظاهري «أصلا».

وأمّا ما دلّ على الحكم الأوّل علما أو ظنّا معتبرا فيختصّ باسم «الدليل» ، وقد يقيّد ب «الاجتهادي» ، كما أنّ الأوّل قد يسمّى ب «الدليل» مقيّدا ب «الفقاهتي». وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهاني لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد. (١) ثمّ إنّ الظنّ الغير المعتبر حكمه حكم الشكّ كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا من تأخّر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لأجل تقييد

______________________________________________________

من حيث كونه جاهلا ، ولا ريب أنّ مؤدّيات ظواهر الكتاب والسنّة ليست كذلك وإن كانت مجعولة في حال جهل المكلّف بالواقع ، ولذا لا يعتدّ بها مع العلم بالواقع. وبعبارة اخرى : أنّ الجهل مأخوذ في الأحكام الظاهريّة من حيث كونه جزءا من موضوعها ، وفي مؤدّيات ظواهر الكتاب والسنّة من حيث الظرفية وكونها مجعولة في هذا الحال خاصّة ، ولكن مع قطع النظر عنه. ولعلّ هذا هو السبب في هذا التسامح ، لكون مؤدّيات الظواهر شبيهة بمؤديات الاصول فيما ذكرناه ، وإن فارقتها من جهة اخرى كما أوضحناه. ويمكن أن يكون السبب فيه هو كون اعتبار مؤدّيات الظواهر من حيث كونها مظنونة. كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «حكما ظاهريّا نظير مفاد الأصل ...». والفرق بينه وبين ما ذكرناه واضح.

موضوعه بالشكّ في الحكم الواقعي يظهر لك وجه تقديم الأدلّة على الاصول ؛ لأنّ موضوع الاصول يرتفع بوجود الدليل ، فلا معارضة بينهما ، لا لعدم اتّحاد الموضوع ، بل لارتفاع موضوع الأصل ـ وهو الشكّ ـ بوجود الدليل. ألا ترى أنّه لا معارضة ولا تنافي بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي الإباحة وبين كون حكم شرب التتن في نفسه مع قطع النظر عن الشكّ فيه هي الحرمة ، فإذا علمنا بالثاني لكونه علميّا والمفروض (*) سلامته عن معارضة الأوّل ، خرج شرب التتن عن موضوع دليل الأوّل وهو كونه مشكوك الحكم ، لا عن حكمه حتّى يلزم فيه تخصيص وطرح لظاهره. ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا ؛ لأنّ الترجيح فرع

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ اعتبار الاستصحاب عند الأكثر إنّما هو من جهة إفادته الظنّ بالحكم السابق. وإليه أشار العضدي في تعريفه بأنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء. وحينئذ يجب إدخاله في الأدلّة الاجتهاديّة مثل ظواهر الكتاب والسنّة ، فما وجه تقديم سائر الأدلّة عليه عند التعارض؟

قلت : إنّ الوجه في تقديمها عليه على القول باعتباره من باب الظنّ أنّه إنّما يفيد الظنّ في مورد الشكّ ، بمعنى أنّ الشاكّ في بقاء الحكم السابق يحصل له الظنّ ببقائه بملاحظة كونه متيقّنا في السابق ، وحينئذ تكون سائر الأدلّة الاجتهاديّة واردة عليه.

ولكن يشكل ذلك بأنّ مقتضاه عدم العمل به في مقابل سائر الأمارات المشكوكة الاعتبار ، وهو خلاف ما استقرّت عليه طريقة الفقهاء ، لعملهم بالاصول في مقابلها. والإنصاف أنّ هذا الإشكال وارد على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ الشخصي ، لا على الجواب المذكور.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المفروض» ، ولفرض.

المعارضة. وكذلك إطلاق الخاصّ على الدليل والعامّ على الأصل ، فيقال : يخصّص الأصل بالدليل أو يخرج عن الأصل بالدليل.

ويمكن أن يكون هذا الاطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلّة الغير العلميّة ، بأن يقال : إنّ مؤدّى أصل البراءة مثلا : أنّه إذا لم يعلم حرمة شرب التتن فهو غير محرّم ، وهذا عامّ ، ومفاد الدليل الدالّ على اعتبار تلك الأمارة الغير العلميّة المقابلة للأصل أنّه إذا قام تلك الأمارة الغير العلميّة على حرمة الشيء الفلاني فهو حرام ، وهذا أخصّ من دليل أصل البراءة مثلا ، فيخرج به عنه. وكون دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ـ باعتبار شموله لغير مورد أصل البراءة ـ لا ينفع بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبار تلك الأمارة بين مواردها.

توضيح ذلك (١٠٨٩) : أنّ كون الدليل رافعا لموضوع الأصل ـ وهو الشكّ ـ إنّما يصحّ في الدليل العلمي ؛ حيث إنّ وجوده يخرج حكم الواقعة عن كونه مشكوكا فيه ، وأمّا الدليل الغير العلمي فهو بنفسه (*) غير رافع لموضوع الأصل وهو عدم العلم ، وأمّا الدليل الدالّ على اعتباره فهو وإن كان علميّا إلّا أنّه لا يفيد إلّا حكما ظاهريا نظير مفاد الأصل ؛ إذ المراد بالحكم الظاهري ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي الثابت له من دون مدخليّة العلم والجهل ، فكما أنّ مفاد قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٢) يفيد الرخصة في الفعل الغير المعلوم ورود النهي فيه ، فكذلك ما دلّ على حجيّة الشهرة الدالّة مثلا على وجوب شيء ، يفيد وجوب ذلك الشيء من حيث إنّه مظنون مطلقا (١٠٩٠) أو بهذه الأمارة (١٠٩١) ولذا اشتهر : أنّ علم المجتهد بالحكم مستفاد من صغرى وجدانيّة وهي :

______________________________________________________

١٠٨٩. أي كون دليل الأمارة مخصّصا لدليل أصل البراءة.

١٠٩٠. بأن كانت حجيّة الشهرة ثابتة بدليل الانسداد.

١٠٩١. بأن كانت حجيّة الشهرة ثابتة بدليل خاصّ.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : بالنسبة إلى أصالة الاحتياط والتخيير كالعلم رافع للموضوع ، وأمّا بالنسبة إلى ما عداهما فهو بنفسه.

«هذا ما أدّى إليه ظنّي» ، وكبرى برهانيّة وهي : «كل ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي» ، فإنّ الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهري ، فإذا كان مفاد الأصل ثبوت الإباحة للفعل الغير المعلوم الحرمة ومفاد دليل تلك الأمارة ثبوت الحرمة للفعل المظنون الحرمة ، كانا متعارضين لا محالة ، فإذا بني على العمل بتلك الأمارة كان فيه خروج عن عموم الأصل وتخصيص له لا محالة.

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ دليل تلك الأمارة وإن لم يكن كالدليل العلمي رافعا لموضوع الأصل ، إلّا أنّه نزّل شرعا منزلة الرافع ، فهو حاكم على الأصل لا مخصّص له كما سيتّضح إن شاء الله تعالى ، على أنّ ذلك إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأدلة الشرعيّة (١٠٩٢) ، وأمّا الأدلّة العقليّة القائمة على البراءة والاشتغال فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلّة الظنيّة واضح ، لجواز الاقتناع بها (١٠٩٣) في مقام البيان وانتهاضها رافعا لاحتمال (١٠٩٤) العقاب كما هو ظاهر. وأمّا التخيير فهو أصل عقلي لا غير.

واعلم : أنّ المقصود بالكلام (١٠٩٥) هذه الرسالة الاصول المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلّي وإن تضمّنت حكم الشبهة في الموضوع أيضا ، وهي منحصرة في أربعة : «أصل البراءة» و «أصل الاحتياط» و «التخيير» و «الاستصحاب» بناء على كونه ظاهريّا ثبت التعبّد به من الأخبار ؛ إذ بناء على كونه مفيدا للظنّ يدخل في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي. وأمّا الاصول المشخّصة لحكم الشبهة في الموضوع ـ كأصالة الصحّة وأصالة الوقوع فيما شكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ـ فلا يقع الكلام فيها إلّا لمناسبة يقتضيها المقام.

______________________________________________________

١٠٩٢. الدالّة على اعتبار الاصوليّة.

١٠٩٣. هذا بالنسبة إلى البراءة.

١٠٩٤. هذا بالنسبة إلى قاعدة الاشتغال.

١٠٩٥. لأنّ علم الاصول هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فما تستنبط منها أحكام الموضوعات الخارجة التي لا يتعلّق بها إلّا

ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الاصول الأربعة عقلي (١٠٩٦) ،

______________________________________________________

أحكام جزئيّة فهي داخلة في الفقه دون الاصول ، مثل قاعدة البراءة والاشتغال والطهارة بالنسبة إلى إجرائها في الموضوعات الخارجة. وكذا قاعدة الشكّ بعد الفراغ ، وقاعدة حمل فعل المسلم على الصحّة ، ونحوها. ولكنّك خبير بأنّ مقتضى هذا الوجه كون قاعدة الطهارة من الاصول إذا أثبتت طهارة موضوع كلّي ، وهو خلاف ظاهرهم. وقد أوضحنا الكلام في ذلك في محلّ آخر.

١٠٩٦. لدوران الأمر فيها بين النفي والإثبات. وقد أسلفنا ما يتعلّق بذلك وبتقسيم الاصول إلى الأربعة عند شرح ما يتعلّق بصدر الكتاب ، ونقول هنا :

إن قلت : كيف تدّعي دوران الأمر بين الأربعة المذكورة مع أنّ في الشرع اصولا أخر لم يبحثوا عنها في الاصول ، مثل أصالة الطهارة المستفادة من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»؟ فما وجه الحصر المذكور؟ وما السّر في عدم بحثهم عنها هنا؟

قلنا : إنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الحصر ناظر إلى ظاهر كلمات الفقهاء ، حيث إنّ ظاهرها كون الاصول الأربعة من الأدلّة الاجتهاديّة ، لأنّهم قد اعتبروا أصالتي البراءة والاستصحاب من أسباب الظنّ الذي مستنده العقل ، ولذا لم يتمسّك أحد منهم في إثباتهما ـ إلى زمان والد شيخنا البهائي رحمه‌الله ـ بالأخبار ، وهو رحمه‌الله قد تمسّك في بعض كلماته في إثبات اعتبار الاستصحاب بالأخبار ، وتبعه من تأخّر عنه. واعتبروا أصالتي الاشتغال والتخيير من باب حكم العقل ، نظير حكمه بوجوب ردّ الوديعة وقبح الظلم ، بخلاف أصالة الطهارة ، فإنّها قاعدة مستفادة من الشرع خاصّة. نعم ، قد تمسّك الفاضل في بعض كتبه في تأسيس أصالة الطهارة بالأدلّة الأربعة ، نظرا في دلالة العقل إلى اقتضاء قاعدة اللطف من حيث رفع المشاقّ عن العباد لخلق الماء طهورا. ولكنّه ضعيف كما قرّر في محلّه.

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة ، إنّ عدم بحثهم عن أصالة الطهارة في الاصول إنّما هو من جهة عدم كونها من الأدلّة ، لكونها عندهم من القواعد الشرعيّة ، بخلاف الاصول الأربعة ، ولذا جعلوها من الأدلّة العقليّة. والفرق بين الدليل والقاعدة واضح ، ولذا جعلوا كلّ واحد منهما معنى مستقلا للأصل.

ثمّ إنّ هنا أمرين لم يتعرّض لهما المصنّف رحمه‌الله ينبغي التنبيه عليهما.

الأمر الأوّل : إنّ هنا إشكالين يجري أحدهما في جميع الأدلّة العقليّة ، ويختصّ الآخر بالاصول الأربعة.

أمّا الأوّل فهو أنّهم قد عرّفوا علم الاصول بأنّه ما يبحث فيه عن أحوال الأدلّة ، ولا ريب أنّ البحث في الأدلّة العقليّة ليس عن أحوال الدليل ، لأنّ بحثهم فيها ـ كما قرّر في محلّ آخر ـ إنّما هو عن حكم العقل لا عن أحواله من حيث كونه حجّة وعدمها ، لأنّهم قد بحثوا في مسألة البراءة والاستصحاب ، وكذا في مسألة الحسن والقبح ، عن أنّ العقل هل يحكم بالبراءة عن التكليف عند فقد الدليل على الحكم المشكوك فيه ، وأنّه يحكم ببقاء الحالة السابقة عند الشكّ في بقائها ، وأنّه يحكم بحسن فعل أو قبحه أو لا؟ لا عن اعتباره بعد فرض حكمه ، لكون اعتبار حكم العقل مسلّما عندهم بعد فرض وجوده ، والبحث عن أحوال الدليل العقلي إنّما يصدق بعد فرض حكمه.

وبالجملة ، إنّ البحث في الأدلّة العقليّة صغروي ، والبحث عن حجيّتها بعد إحراز الصغرى كبروي ، والأدلّة العقليّة إنّما تدخل في موضوع علم الاصول بالاعتبار الثاني [لا](*) الأوّل ، فيجب إخراجها عن موضوع هذا العلم. ومع تسليم كون البحث فيها عن حجيّتها فلا ريب أنّ البحث من هذه الحيثيّة داخل في المبادئ ، لأنّ موضوع علم الاصول هي الأدلّة الأربعة ، والبحث عن الحجيّة بحث عن دليليّة الدليل ، وهو بحث عن موضوع الدليل ، لا عن أحواله ليدخل في

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعنى.

.................................................................................................

______________________________________________________

المقاصد.

والجواب : أنّ البحث عن إدراك العقل من حيث هو وإن كان داخلا في المبادئ ، إلّا أنّ الملحوظ في ذلك هو إثبات حكم العقل وإدراكه لتخصّص وتقيّد به عمومات الكتاب والسنّة وإطلاقاتهما عند المعارضة ، فمرجع البحث من هذه الجهة إلى البحث عن أحوال الكتاب والسنّة من حيث جواز تخصيصهما وتقييدهما بالعقل. ومن هنا تظهر الحال فيما كان البحث عنه من حيث حجيّته بعد الفراغ عن حكم العقل. مضافا إلى ما ذكره بعض الأفاضل من كون موضوع علم الاصول هي ذات الأدلّة لا هي بوصف الدليليّة ، وحينئذ يكون البحث عن حجيّتها بحثا عن أحوالها ، فيدخل في المقاصد.

وأمّا الثاني فهو أنّهم قد عرّفوا الدليل العقلي بأنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ. وهذا غير صادق على الاصول ، لعدم التوصّل بها إلى حكم شرعيّ ، فلا وجه لعدّها من الأدلّة العقليّة. أمّا أصالة البراءة فلأنّ غاية ما يدلّ عليه العقل عند عدم الدليل على الحكم المحتمل هو الإتيان بالفعل المحتمل للحرمة وترك ما يحتمل الوجوب ، وأمّا دلالته على عدمها فلا سبيل للعقل إليها ، مع أنّ عدمهما ليس من الأحكام الخمسة.

فإن قلت : ربّما يدور الأمر بين الضدّين ، كالوجوب والاستحباب في غسل الجمعة ، حيث قال بكلّ منهما بعضهم ، ولا ريب أنّ نفي الوجوب بأصالة البراءة يثبت الاستحباب.

قلت : إنّ الأقوال ربّما تتكثّر في المسألة ، فنفي أحدها بالأصل لا يعيّن خصوص أحدها ممّا بقي محتملا في المسألة. مع أنّ إثبات الاستحباب بنفي الوجوب إنّما يتمّ على القول بالاصول التي لا نقول بها. وأمّا قاعدة الانتقال فلأنّ وجوب الاحتياط فيما علم التكليف فيه ، وشكّ في المكلّف به ، إنّما هو من أجل كونه من شعب وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، فإنّ حكم العقل بوجوب

.................................................................................................

______________________________________________________

الإتيان بجميع أطراف الشبهة إنّما هو لخوف ترك الواقع عند الاقتصار ببعض أطرافها في مقام الامتثال. فحكم العقل بوجوب الاحتياط إنّما هو لأجل دفع الضرر المحتمل ، أعني : العقاب الاخروي ، ولا ريب أنّ حكم العقل بذلك ليس إلزاميّا حتّى يقال : إنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ ، بل هو إرشادي من باب إراءة مصلحة المكلّف ، فهو نظير أوامر الأطبّاء لا يترتّب على موافقته ثواب ولا على مخالفته عقاب. بل جميع الأحكام العقليّة حتّى ما استقلّ به العقل ـ مثل قبح الظلم وحسن الإحسان ـ من قبيل ذلك ، لعدم إلزامه المكلّف بأمر مولوي بترك الظلم لأجل قبحه ، لأنّ غايته الإرشاد ولو إلزاما إلى أنّ في فعله ارتكابا للقبيح ، لا إلزامه بأمر مولويّ بتركه.

وحينئذ إن كان ما حكم به العقل ممّا يصحّ تعلّق خطاب شرعيّ به فهو ، وإلّا كان هذا الحكم إرشاديّا محضا. ووجوب الاحتياط من قبيل ذلك ، لكونه طريق امتثال إجمالي للواقع المعلوم إجمالا ، وما هو من قبيل كيفيّة امتثال أوامر الشرع لا يصلح تعلّق خطاب به ، لا بمعنى عدم إمكان تعلّق خطاب شرعيّ به ، بل بمعنى أنّه لو فرض ورود خطاب شرعيّ عليه كان من قبيل تقرير حكم العقل لا من باب إنشاء حكم شرعيّ ، إذ لو كان طريق امتثال الواقع محتاجا إلى بيان الشارع لاحتاج امتثال هذا الخطاب أيضا إلى بيان آخر حتّى يتسلسل أو يدور. وما كان قابلا لتعلّق خطاب كلّ من العقل والشرع به كان متّصفا بكلّ من حكمهما ، مثل الظلم والإحسان. وهذا أيضا هو المقصود من قولهم : كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

وممّا ذكرناه يندفع ما يمكن أن يورد علي ما ذكرناه من النقض بالضرر الدنيوي ، لأنّ المشهور حرمة السفر مع خوف الضرر فيه ، فإذا سافر يعاقب عليه في الآخرة وإن لم يصبه الضرر المتوهّم أو المظنون. ووجه الاندفاع : كون ذلك قليلا ، لورود حكم كلّ من العقل والشرع عليه. وتظهر الثمرة بينه وبين ما نحن

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه في أنّ العقاب فيه على تقدير المخالفة على السفر خاصّة ، وفيما نحن فيه على تقدير وجوب الاحتياط شرعا لو خالفه على كلّ من ترك الاحتياط والواقع لو فرضت مخالفة عمله له ، فيعاقب عقابين ، أحدهما لترك الاحتياط ، والآخر لمخالفة الواقع.

ثمّ إنّا لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب شرعا بواسطة حكم العقل لا نقول به فيما نحن فيه ، لوضوح الفرق بين المقدّمات الوجوديّة كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، والمقدّمات العلميّة كالإتيان بجميع أطراف الشبهة لتحصيل العلم بالواقع ، لكون الاولى مقدّمة لنفس الواجب ، فلا يبعد إلزام العقل بملاحظة خطاب الشارع بالإتيان بها ، بخلاف الثانية ، لفرض كونها مقدّمة للعلم بحصول الواجب في الخارج لا لنفسه ، لإمكان حصوله بدونه كما لا يخفى ، فحكم العقل بالإتيان بها إنّما هو لمجرّد الإرشاد إلى التحرّز عن احتمال ترك الواجب الواقعي الموعود بالعقاب عليه كما أسلفناه. وأمّا الاستصحاب فمن وجهين :

أحدهما : أنّ الظاهر المتبادر من حكم العقل حيث يطلق هو حكمه على سبيل القطع والجزم ، ولا ريب في عدم حكمه ببقاء الحالة السابقة كذلك في الاستصحاب ، لكون حكمه فيه ظنيّا كما هو واضح ، فلا ينطبق عليه ما تقدّم من تعريف الدليل العقلي.

وثانيهما : ـ مع تسليم كونه أعمّ من القطعي والظنّي ـ أنّ المعتبر في حكم العقل حصوله من مقدّمتين ، إحداهما عقليّة أو عاديّة ، وهي الصغرى ، والاخرى : عقليّة محضة ، وهي الكبرى ، فيقال : هذا ظلم ، وكلّ ظلم قبيح ، بخلاف الاستصحاب ، فإنّ الصغرى فيه ـ أعني قولنا : إنّ هذا الحكم كان محقّقا سابقا ـ مستفادة من الشرع ، وإن كانت كبراها ـ أعني قولنا : كلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء ـ مستندة إلى العقل ، والنتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها ، فإذا كانت إحداهما شرعيّة لا تكون النتيجة عقليّة ، كما أنّه لو كانت إحداهما ظنّية لا تكون النتيجة قطعيّة ،

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ لا ينطبق عليه تعريف الحكم العقلي. ولأجل ذلك قد ذكر الأكثر المفاهيم في مباحث الألفاظ دون الأدلّة العقليّة ، لكون الصغرى فيها مستندة إلى اللفظ ، لأنّه يقال فيها : إنّ هذا الحكم لازم لمنطوق هذا اللفظ بالدلالة الالتزاميّة ، وكلّ ما هو كذلك فهو مقصود للمتكلّم. وكذلك مقدّمة الواجب ، لكون الصغرى فيها أيضا مستندة إلى الخطاب الشرعيّ ، لأنّه يقال فيها : إنّ هذا ممّا يتوقّف عليه وجود الواجب ، وكلّ ما هو كذلك فهو واجب.

والحاصل : أنّ ذكرهم المفاهيم ، وكذا مقدّمة الواجب ، وكذلك اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، في مباحث الألفاظ إنّما هو من جهة عدم كون الصغرى فيها مستندة إلى العقل ، فلا ينطبق عليها تعريف الدليل العقلي بأنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ. وما نحن فيه أيضا كذلك ، فلا وجه لإدراجه في الأدلّة العقليّة.

وأمّا التخيير فلأنّه في حكم الاحتياط ، من حيث كونه من قبيل امتثال التكليف المعلوم إجمالا ، فلا يتعلّق به خطاب شرعيّ كما تقدّم ، لرجوعه إلى الاقتناع ببعض محتملات الواقع المعلوم إجمالا فيما لا يمكن فيه الاحتياط ، أو هو راجع إلى البراءة ، لأنّ مرجعه إلى نفي احتمال تعيين أحد الطرفين كما قدّمناه ، فيأتي فيه ما قدّمناه في أصالة البراءة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه حقّية ما أسلفناه من فساد إدراج الاصول الأربعة في الأدلّة العقليّة. اللهمّ إلّا أن يحمل ذلك منهم على التسامح ، بأن يقال في أصالة البراءة : إنّ العقل في مشتبه الحكم الواقعي وإن لم يحكم بشيء من الأحكام الخمسة ، إلّا أنّ إدراجها في الأدلّة العقليّة لأجل المسامحة في إطلاق الحكم المأخوذ في تعريف الدليل العقلي بأنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ ، بأخذه في الموضعين أعمّ من إثبات حكم ونفيه ، ولا ريب في حكم العقل بنفي التكليف في مقام الظاهر في موارد الشبهة التكليفيّة ، فبهذا الاعتبار يصحّ إدراجها في الأدلّة

.................................................................................................

______________________________________________________

العقليّة.

وأمّا الاحتياط فإدراجه فيها لوجهين :

أحدهما : أخذ الحكم العقلي وكذا الشرعيّ في تعريف الدليل العقلي أعمّ من الإرشادي والمولوي ، ولا ريب أنّ العقل إذا حكم بوجوب الاحتياط إرشادا يحكم به الشرع أيضا كذلك ، إذ قد عرفت أنّ الممنوع منه فيه حكم الشارع بأمر مولوي لا إرشادي.

وثانيهما : كون وجوب الاحتياط شرعيّا ، كما هو ظاهر المشهور ، حيث لا يفرّقون في رسائلهم العمليّة بين ما ثبت وجوبه بقاعدة الاشتغال وغيره.

وأمّا الاستصحاب فإدراجه فيها إمّا بملاحظة قلّة الأحكام العقليّة ، لأنّ الأحكام الشرعيّة لمّا كانت كثيرة بالنسبة إليها فأدرجوا الاستصحاب في العقليّات ، نظرا إلى كونه مستندا إلى العقل في الجملة. وإمّا لأنّ العمدة في تحصيل النتيجة هي الكبرى ، وكانت الكبرى في الحكم الثابت بالاستصحاب عقليّة كما تقدّم ، فأدرجوه فيها. وأمّا التخيير فيظهر الوجه فيه ممّا قدّمناه في الاحتياط.

الأمر الثاني : في بيان المراد بأصالة البراءة. قال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «الأصل يطلق في مصطلحهم على معان كثيرة مرجعها إلى أربعة : الدليل ، والقاعدة ، والاستصحاب ، والراجح. وهو هنا ـ يعني : في أصالة البراءة ـ قابل لثلاثة منها. الأوّل : استصحاب البراءة السابقة في حال الصغر أو الجنون ، أو حال علم فيها عدم اشتغال الذمّة بشيء ، مثل البراءة عن المهر قبل النكاح. والثاني : القاعدة المستفادة من العقل والنقل أن لا تكليف إلّا بعد البيان. الثالث : أنّ الراجح عند العقل براءة الذمّة إن جعلنا الراجح من معاني الأصل أعمّ من المتيقّن والمظنون» انتهى ملخّصا.

وقال في الفصول : «الأصل يطلق في عرفهم غالبا على معان أربعة : القاعدة ، والدليل ، والاستصحاب ، والراجح. والمراد به هنا ـ يعني : أصالة البراءة ـ هو المعنى الأوّل ، أعني : القاعدة. فالمعنى : القاعدة المحرّرة في البراءة أو للبراءة ، دون

.................................................................................................

______________________________________________________

الدليل ، لعدم ملائمته للمقام ، فإنّ البحث هنا عن مدلوله لا عن نفسه. ودون الاستصحاب وإن كان من جملة أدلّته ، لاختلاف مدارك المسألتين وأقوالهم فيهما. ودون الراجح ، لأنّ المراد به المظنون ، إذ المقطوع به لا يسمّى أصلا في اصطلاحهم. ولا خفاء في أنّ البراءة إن قيست إلى الواقع فقد لا يكون ظنّ بها ، وإن قيست إلى الظاهر فهي مقطوع بها. ولئن سلّم أنّ معناه الأعمّ فإنّما يصحّ على الظاهر اعتباره في التركيب الحملي كما ذكره الشهيد الثاني ، دون الإضافي كما زعمه الفاضل المعاصر» انتهى.

وقال في موضع آخر : «الثاني ـ يعني من أدلّة البراءة ـ استصحاب البراءة الثابتة في حال الصغر وشبهه ، فإنّ قضيّة عموم أدلّته كما سيأتي عدم اختصاص مورده بغير البراءة. ولا يخفى أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ، إذ بين مورد الاستصحاب وبين مورد أصل البراءة عموم من وجه ، لجريان الاستصحاب في غير البراءة ، وجريان أصل البراءة حيث لا يتقدّم براءة ، كمن علم بوقوع جنابة وغسل عمّا في الذمّة منه وشكّ في المتأخّر ، فإنّ قضيّة أصل البراءة هنا عدم تحريم جواز المسجدين واللبث في المساجد وقراءة العزائم عليه ، مع أنّه لا مسرح للاستصحاب فيها» انتهى.

وممّا ذكره يظهر ضعف ما تقدّم من المحقّق القمّي رحمه‌الله من صحّة إرادة معنى الاستصحاب من الأصل في المقام مطلقا.

وقال في الضوابط في مقام بيان مادّة الافتراق من جانب البراءة : «إنّا نرى تمسّكهم بأصل البراءة فيما لا يصلح فيه الاستصحاب ، كما في مسألة تبعيّة القضاء للأمر الأوّل أو للفرض الجديد ، فالمعظم على الثاني ، لأصالة البراءة ، مع أنّه لا معنى لاستصحاب البراءة هنا لو لم نقل إنّ الاستصحاب يقتضي الخلاف» انتهى. ويظهر هذا أيضا من المحقّق القمّي رحمه‌الله في مسألة تبعيّة القضاء للأمر الأوّل وعدمها.

هذا ، ويرد على ما ذكره في الفصول أنّه إن أراد عدم صلاحيّة المثال المذكور

.................................................................................................

______________________________________________________

للاستصحاب أصلا ، ففيه : أنّه لا وجه لمنع جريان استصحاب الجنابة والطهارة معا ، غاية الأمر أن يكون هنا أصلان متعارضان ، لا عدم كونه موردا للاستصحاب أصلا. وإن أراد عدم تحقّق استصحاب مثمر في مقام العمل ، ففيه : أنّ الشبهة في المثال موضوعيّة ، لأنّ مرجعها إلى الشكّ في كون المكلّف على الجنابة أو الطهارة. وحينئذ إن أراد عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات المشتبهة مطلقا فهو متّضح الفساد ، إذ لا ريب في جواز استصحاب حياة زيد عند الشكّ في موته ، وبقاء الخلّ على حالته الاولى عند الشكّ في انقلابه خمرا.

وإن أراد عدم جريانه في خصوص المثال كما هو ظاهر كلامه ، ففيه : أنّه لا شكّ في عدم تعلّق الخطابات الشرعيّة ـ التي منها عدم جواز الجواز من المسجدين واللبث في المساجد للجنب ـ بالمكلّف في حال الصغر والجنون ، والمتيقّن من انقطاع هذه الحالة بعد البلوغ والإفاقة هي صورة العلم بالجنابة تفصيلا لا مع الشكّ فيها ، وإن علم إجمالا بوقوع أحد الأمرين منها ومن الطهارة. وحينئذ يصحّ استصحاب العدم السابق إلى زمان الشكّ ، وإن لم يصحّ استصحاب خصوص إحداهما لأجل المعارضة.

وأمّا ما ذكره في الضوابط فيرد عليه : منع عدم صحّة استصحاب العدم فيما شكّ في كون القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد ، لأنّا لو قلنا بكونه بالأمر الأوّل فالأداء والقضاء تكليفان متغايران ، ودلالة الأمر الأوّل عليهما من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول ، لأنّ مطلوبيّة إيجاد الطبيعية في خارج الوقت على تقدير الإخلال بها في الوقت مستفادة من الخارج ، ومع الشكّ في التكليف الثاني يستصحب العدم السابق الثابت في حال الصغر. ولا وجه لاستصحاب التكليف الثابت في الوقت كما زعمه ، لاحتمال كون الإتيان به في الوقت مأخوذا في موضوعه ، فلا يكون الموضوع حينئذ محرزا حتّى يصحّ التمسّك بالاستصحاب.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الحقّ اتّحاد أصالة البراءة واستصحابها بحسب الموارد و

لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ ، والأوّل هو مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا ، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدلّ ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة. وقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ موارد الاصول قد تتداخل ؛ لأنّ المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقّنة ، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.

______________________________________________________

إن اختلفا بحسب المفهوم ، إذ المناط في حكم العقل بالبراءة هو مجرّد الشكّ في التكليف مع قطع النظر عن الحالة السابقة ، وفي الاستصحاب هو اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها ، فهما مختلفان مفهوما وإن اتّحدا موردا. وإن كان هذا خلاف المشهور ، إذ المعروف بين العلماء كون البراءة قسما من الاستصحاب ، فلاحظ المحقّق حيث قسّم في الفصل الثالث من مقدّمات المعتبر الاستصحاب إلى ثلاثة أقسام : استصحاب حال العقل ، وفسّره بالبراءة الأصليّة ، واستصحاب حال الشرع ، وهو أن يقال : عدم الدليل على كذا ، فيجب انتفائه.

وذكر الشهيد في الذكرى أصل البراءة في الأدلّة النقليّة وقال : ويسمّى استصحاب حال العقل. وقال الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : استصحاب الحال هو أربعة أقسام ، أحدها : استصحاب النفي في الحكم الشرعيّ إلى أن يرد دليل ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة. وقريب منه في قواعد الشهيد.

وفي المعارج : أطبق العلماء على أنّ مع عدم الدلالة الشرعيّة يجب إبقاء الحكم على ما يقتضيه البراءة الأصليّة ، ولا معنى للاستصحاب إلّا هذا. فإن قال : ليس هذا استصحابا ، بل هو إبقاء الحكم على ما كان ، لا حكما بالاستصحاب. قلنا : نحن نريد بالاستصحاب هذا القدر.

وقال في المعتبر : وأمّا الاستصحاب فأقسامه ثلاثة ، استصحاب حال العقل ، و

.................................................................................................

______________________________________________________

هو التمسّك بالبراءة الأصليّة. وقد اقتنع في المعالم عن عنوان مسألة البراءة بمبحث الاستصحاب ، إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة أو الظاهرة في كون أصالة البراءة قسما من الاستصحاب.

وكيف كان ، فقد ظهر لك عدم صحّة أخذ أصالة البراءة بمعنى الاستصحاب كما توهّمه المحقّق القمي رحمه‌الله. وأمّا أخذها بمعنى الراجح ـ أعني : الظنّ ـ فهو أيضا غير صحيح ، لأنّ أصالة البراءة المبنيّة على قبح العقاب بلا بيان إن قيست إلى الواقع فهي لا تفيد الظنّ ، وإن قيست إلى الظاهر فهي تفيد القطع دون الظنّ. ومن هنا جاز العمل بها مع الظنّ غير المعتبر على خلافها.

وأمّا أخذها بمعنى الدليل فهو أيضا غير صحيح كما تقدّم في كلام صاحب الفصول. وحينئذ لا بدّ أن يؤخذ بمعنى القاعدة ، وهي حكم العقل على سبيل القطع بعدم التكليف ظاهرا عند الشكّ فيه بحسب الواقع ، لاستقلاله بقبح التكليف بلا بيان وهذه القاعدة مطّردة في جميع موارد استصحاب النفي وإن تغايرا مفهوما ، فتأمّل ، لأنّ كلمات القوم غير محرّرة في المقام.

ثمّ اعلم أنّ هاهنا اصولا أخر سوى الاصول الأربعة العمليّة ، قد تداولت بينهم ، واستعملوها في كتبهم ، مثل كون عدم الدليل دليل العدم ، والبناء على الأقلّ عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، وعلى الأخفّ عند دوران الأمر بينه وبين الأثقل ، وغيرها. وهي إن رجعت إلى أحد الأربعة المذكورة فهو ، وإلّا فلا دليل عليها. نعم ، أصالة الإباحة معتبرة في نفسها ، ومغايرة للأربعة المذكورة. وقد ذكروا في التفصّي عن الإشكال الوارد على البحث عنها بعنوان مستقلّ في الكتب الاصوليّة ، بكون البحث عن أصالة البراءة مغنيا عنها من حيث كونها أعمّ منها ، وجوها كثيرة. وأرى ترك التعرّض لها وتمييز صحيحها عن سقيمها أولى ، لأنّ الاشتغال بالأهمّ فالأهمّ هو الأهمّ ، وإن كان التعرّض لها ، بل بسط الكلام في تحقيق ما هو الأحقّ بالقبول منها في مسألة أصالة الإباحة مناسبا للمقام ، وفّقنا الله

ثمّ إنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين : أحدهما : حكم الشكّ (١٠٩٧) في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع إلى الاصول الثلاثة. الثاني : حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو الاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل (١٠٩٨)

______________________________________________________

لما هو الأوفق بالمرام.

١٠٩٧. الوجه في إدراج مسألتي أصالة التخيير والاشتغال في مسألة البراءة وإفراد مقام آخر للاستصحاب : أنّ أصالة التخيير راجعة إلى أصالة البراءة ، لكون مرجعها إلى أصالة البراءة عن التعيين ، وأنّ حكم أصالة الاشتغال معلوم من حكم أصالة البراءة بالمقابلة ، نظرا إلى أنّ كلّ مورد لم يكن موردا للبراءة فهو مورد للاشتغال.

١٠٩٨. اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد ذكر أقسام موارد الشكّ البدوي هنا ، مع إدراج بعضها في بعض تقليلا للأقسام ، وأقسام الشكّ المشوب بالعلم الإجمالي في الموضع الثاني. ونحن نذكر جميعها هنا مع إضافة بعض آخر إليها ، ليكون الشروع في المقصد على زيادة بصيرة ، وإن احتجنا إلى حذف بعض الأقسام أيضا خوفا من الإطالة المخلّة ، فنقول مستمدّا من الله تعالى : إنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الاصول إمّا أن يكون متعلّقا بالموضوع أو الحكم. وبعبارة اخرى : إمّا بالمصداق أو المراد.

والمراد بالأوّل ما كان منشأ الشبهة فيه اختلاط امور خارجة بحيث لو تبدّل الشكّ فيه بالعلم لا يحتاج في معرفة حكمه إلى بيان الشارع ، مثل المائع المردّد بين الخمر والخلّ ، لأنّا لو علمنا بكونه أحدهما علمنا حكمه من الحلّ أو الحرمة. وبالجملة ، إنّ المراد به الشكّ المتعلّق بالموضوعات الصرفة.

والمراد بالثاني ما كان الشكّ فيه في مراد الشارع ، إمّا من جهة الموضوع مثل حرمة الغناء المردّد مفهومه بين الصوت المطرب والصوت مع الترجيع ، وإمّا من

.................................................................................................

______________________________________________________

جهة المحمول كالشكّ في حرمة شرب التتن ، وإمّا من الجهتين كالمثال الأوّل إذا فرض الشكّ فيه في الحكم أيضا.

وعلى كلّ من القسمين ، إمّا أن يكون الشكّ مشوبا بالعلم الإجمالي ، وإمّا أن يكون بدويّا. والمراد بالأوّل ما علم فيه سنخ التكليف وحصل الشكّ في متعلّقه ، كالظهر والجمعة اللتين علم وجوب أحدهما ، إجمالا والإنائين اللذين علمت حرمة شرب أحدهما كذلك ، لا ما علم جنس التكليف الإلزامي فيه وتردّد بين نوعيه من الوجوب والحرمة. والمراد بالثاني ما حصل الشكّ فيه في سنخ التكليف الإلزامي وإن علم جنسه ، كما يظهر بالمقايسة. وبضرب هذين القسمين في السابقين ترتقي الأقسام إلى أربعة ، أعني : الشبهة الموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي ، كما في الشبهة المحصورة. وكذا البدويّة ، مثل المائع المردّد بين الخمر والخلّ. والشبهة الحكميّة المشوبة بالعلم الإجمالي ، كالواجب المردّد بين الظهر والجمعة. وكذا البدويّة ، مثل شرب التتن المردّد حكمه بين الحرمة والإباحة.

ثمّ إنّه مع العلم الإجمالي بالتكليف إمّا أن يدور الأمر بين المتباينين ، أو بين الأقلّ والأكثر. والمراد بالتباين أعمّ من الحقيقي والحكمي. والأوّل مع كون الشبهة في الموضوع مثل الشبهة المحصورة ، ومع كونها في الحكم مثل الظهر والجمعة على ما عرفت. والمراد بالتباين الحكمي ما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير. والمراد بالتخيير أعمّ من الشرعيّ والعقلي. والأوّل مثل ما لو ثبت من الشرع وجوب عتق رقبة ، ودار الأمر فيه بين تخيير الشارع بين أفرادها وإرادة فرد خاصّ منها كالمؤمنة. والثاني مثل ما لو ثبت شرعا وجوب عتق رقبة ، ودار الأمر بين إرادة الطبيعة ـ التي لازمها تخيّر المكلّف عقلا بين أفرادها ـ وبين إرادة فرد خاصّ منها. وهذان المثالان من قبيل الشكّ في الحكم ، من جهة الشكّ في موضوعه ، مع العلم الإجمالي بالتكليف ، مع دوران الأمر بين المتباينين حكما ، وكون التخيير شرعيّا على الأوّل وعقليّا على الثاني.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا ما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر ، فاعلم أنّهما إمّا ارتباطيّان أو غيره. والثاني خارج من هذا التقسيم المختصّ بما كان الشكّ فيه مشوبا بالعلم الإجمالي الذي مرجعه إلى الشكّ في المكلّف به ، لانحلال العلم الإجمالي فيه إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فيدخل في قسم الشكّ في التكليف دون المكلّف به.

والمراد بالارتباطي عدم إجزاء الأقلّ ولو بقدره على تقدير كون المطلوب في الواقع هو الأكثر ، وبغير الارتباطي ما كان على عكسه. والأوّل مثل الشكّ في بعض أجزاء الصلاة وشرائطها ، والشكّ في حرمة تصوير أعضاء الحيوان مع العلم بحرمة تمام الصورة. والثاني مثل دوران الأمر في الفائتة بين الأربع والخمس ، وفي الدين بين درهم ودرهمين ، وفي ولوغ الكلب بين ثلاث غسلات وسبع ، وفي بعض صور منزوحات البئر بين ثلاثين وأربعين والأوّلان من قبيل الشبهة الموضوعيّة ، والأخيران من قبيل الحكميّة. والجميع من قبيل الشكّ في التكليف دون المكلّف به ، لكون وجوب الأقلّ معلوما تفصيلا ، ووجوب الأكثر مشكوكا من رأس ، ولذا أخرجنا هذا القسم من أقسام الشكّ في المكلّف به. ومثله الأقلّ والأكثر الارتباطيّان مع كون الشبهة تحريميّة ، مثل ما عرفت من مثال حرمة تصوير الصورة ، لكون حرمة الأكثر فيه معلومة ، وحرمة الأقلّ مشكوكة من رأس. ولا فرق فيه بين الأقسام الثلاثة الآتية للشبهة الحكميّة ، أعني : ما كانت الشبهة فيه ناشئة من فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه ، وبين الشبهة الموضوعيّة ، بخلاف ما لو كانت الشبهة فيه وجوبيّة ، لعدم وجود قدر متيقّن حينئذ كما لا يخفى.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الباقي من أقسام الشكّ في المكلّف به أربعة ، وهي الشبهة الحكميّة والموضوعيّة مع دوران الأمر فيهما بين المتباينين ، أو الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، مع كون الشبهة فيهما وجوبيّة ، وبضمّها إلى قسمي الشكّ في التكليف ترتقي الأقسام إلى ستّة.

فيقع الكلام فيه في موضعين : لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف وهو النوع الخاصّ من الإلزام وإن علم جنسه ، كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم. وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ، كما إذا علم وجوب شيء وشكّ بين تعلّقه بالظهر والجمعة ، أو علم وجوب فائتة وتردّدت بين الظهر والمغرب.

والموضع الأوّل يقع الكلام فيه في مطالب ؛ لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه

______________________________________________________

ثمّ إنّ صور الشكّ كثيرة ، لأنّه تارة يكون ثنائيّا ، واخرى ثلاثيّا ، وثالثة رباعيّا ، ورابعة خماسيّا ، لأنّه مع الشكّ في التكليف أو المكلّف به ربّما يدور الأمر بين حكمين من الأحكام الخمسة ، وتارة بين ثلاثة منها ، وهكذا. ولكنا اقتصرنا منها على بيان بعض الصور الثنائيّة كما ستعرفه ، تقليلا للأقسام ، مع كون الأحكام الباقية معلومة ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله من أحكامها.

ثمّ إنّه على جميع التقادير : إمّا أن يكون الأمر دائرا بين الوجوب وغير الحرمة ، أو الحرمة وغير الوجوب ، أو يدور الأمر بينهما. وبضرب الثلاثة في الستّة ترتقي الأقسام إلى ثمانية عشر قسما ، ستّة منها للشكّ في التكليف ، والباقي للشكّ في المكلّف به.

ثمّ إنّ هنا تقسيما آخر مختصّا بأقسام الشبهة الحكميّة ، وهي تسعة من الثمانيّة عشر ، وهو أنّ الشبهة في الحكم إمّا أن تكون لأجل فقدان النص في المسألة كشرب التتن ، أو لأجل تعارض النصّين مثل الظهر والجمعة ، أو لأجل إجماله كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) بناء على كون ألفاظ العبادات أسامي للصحيح. وبضرب هذه في التسعة المذكورة تحصل سبعة وعشرون قسما. وبضمّ أقسام الشبهة الموضوعيّة ـ وهي التسعة الباقية ـ ترتقي الأقسام إلى ستّة وثلاثين قسما. والمراد بفقدان النصّ أعمّ من عدم وجود دليل في المسألة أصلا ، ومن وجود أمارة غير معتبرة ، كالشهرة وقول الفقيه ونحوهما.

بالوجوب ، وصور الاشتباه كثيرة. وهذا مبنيّ على اختصاص (١٠٩٩) التكليف بالإلزام أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ، ولو فرض شموله للمستحبّ والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ؛ فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

ثمّ إنّ متعلّق التكليف المشكوك إمّا أن يكون فعلا كلّيا متعلّقا للحكم الشرعيّ الكلّي ، كشرب التتن المشكوك في حرمته والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه ، وإمّا أن يكون فعلا جزئيّا متعلّقا للحكم الجزئي ، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا.

______________________________________________________

١٠٩٩. يعني : حصر موارد الاشتباه في الثلاثة. قال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «وهذا الإطلاق ـ يعني : إطلاق أصالة البراءة بمعنى استصحابها ـ إنّما يناسب بالنسبة إلى ما شكّ في تحريمه أو وجوبه ، لأنّ اشتغال الذمّة لا يكون إلّا بالتكليف ، والتكليف منحصر فيهما» انتهى.

وقال بعض الأفاضل بعد نقله عنه : «ولعلّه ناظر إلى ما قيل من أنّ التكليف مأخوذ من الكلفة ، ومعناه الإلقاء في المشقّة ، ولا يصدق على غيرهما. وضعفه ظاهر ، لأنّ ذلك معنى التكليف لغة ، وأمّا في الاصطلاح فهو أعمّ من ذلك قطعا ، لأنّه يتناول الوجوب والحرمة بأنواعهما قولا واحدا ، ومن الواضح أنّه لا يكون كلفة فيهما. وكان المتداول في كلامهم استعمال أصل البراءة في نفي الوجوب وأصل الإباحة في نفي التحريم والكراهة ، والتعميم أولى بالمقام ، لصلوح اللفظ له بالمعنى الذي ذكرناه ، مع اشتراك الجميع في الأدلّة» انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره وإن كان متّجها بحسب استعمال أصالة البراءة في مواردها في كلمات العلماء ، إلّا أنّه لم يقم دليل على اعتبارها بهذا الإطلاق ، لأنّ غاية ما دلّ عليه الدليل العقلي المستدلّ به عليها والمنساق من الأدلّة اللفظيّة ـ كما سيجيء في محلّه ـ هو مجرّد نفي العقاب على مخالفة التكليف المحتمل مع عدم وصول البيان من الشارع ، لا نفي التكليف المحتمل في الواقع حتّى يقال : إنّه أعمّ من

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني : اشتباه الامور الخارجيّة. ومنشؤه في الأوّل : إمّا أن يكون عدم النصّ (١١٠٠) في المسألة ، كمسألة شرب التتن ، وإمّا أن يكون إجمال النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) (٣) بين التشديد والتخفيف مثلا ، وإمّا أن يكون تعارض النصّين ، ومنه الآية المذكورة بناء على تواتر القراءات (١١٠١).

وتوضيح أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب : الأوّل : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية. الثاني : دورانه بين الوجوب وغير التحريم. الثالث : دورانه بين الوجوب والتحريم.

فالمطلب الأوّل فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب وقد عرفت : أنّ متعلّق الشكّ تارة الواقعة الكلّية كشرب التتن ، ومنشأ الشكّ فيه عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه ، واخرى الواقعة الجزئيّة. فهنا أربع مسائل : الاولى ما لا نصّ فيه.

وقد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين (١١٠٢):

______________________________________________________

الوجوب والحرمة وغيرهما.

١١٠٠. لعلّ المراد بالنصّ هو مطلق الدليل الشامل للإجماع وغيره أيضا ، وإلّا فلا اختصاص لموارد البراءة بموارد فقدان النصّ فقط ، ولعلّ تخصيصه بالذكر لأجل كون بيان الأحكام به غالبا.

١١٠١. كذلك بناء على عدم تواترها مع ثبوت جواز الاستدلال بكلّ قراءة من السبعة ، كما أشار إليه في مبحث حجّية الظنّ ، فراجع.

١١٠٢. لعلّ التعبير بهذه العبارة إشارة إلى ضعف ما توهّمه المحقّق القمّي رحمه‌الله ، حيث نسب القول بالتفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره ـ بالقول بالبراءة في الأوّل دون الثاني ـ إلى المحقّق في المعتبر.

ووجه الضعف : أنّ المحقّق إنّما فصّل بذلك بالنسبة إلى كون عدم الدليل دليل العدم ، وقد تقدّم في الحواشي السابقة ـ عند بيان الفرق بين أصالة البراءة و

أحدهما : إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك. والثاني : وجوب الترك ، ويعبّر عنه بالاحتياط. والأوّل منسوب إلى المجتهدين ، والثاني إلى معظم الأخباريّين. وربّما نسب إليهم أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقّف ، والاحتياط. ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان ، ويحتمل الفرق بينها أو بين بعضها من وجوه أخر تأتي بعد ذكر أدلّة الأخباريّين.

احتجّ للقول الأوّل بالأدلّة الأربعة : فمن الكتاب آيات : منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (٤) (١١٠٣). قيل : دلالتها واضحة (٥). وفيه : أنّها غير ظاهرة ؛ فإنّ حقيقة الإيتاء : الإعطاء ، فإمّا أن يراد بالموصول المال ـ بقرينة قوله تعالى

______________________________________________________

سائر الاصول ـ مغايرة هذا الأصل عندهم لأصالة البراءة. مع أنّ المقصود في المقام بيان حكم ما اشتبه حكمه الواقعي ـ أعني : الحرمة ـ في مقام الظاهر ، وأنّه هي البراءة أو الاحتياط. والأصل المذكور وإن سلّمنا اندراجه في أصالة البراءة ، إلّا أنّه يفيد نفي الحكم فيما يعمّ به البلوى بحسب الواقع دون الظاهر ، فلا دخل له فيما نحن فيه. فالأولى حصر القول في المقام في البراءة والاحتياط.

١١٠٣. هذه الآية في سورة الطلاق. وتقريب الدلالة : أنّ المراد بالإيتاء إمّا هو الإعلام ، كما يشعر به قوله عليه‌السلام : «إنّ الله يحتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم» وإمّا الإقرار ، كما هو صريح الطبرسي. فهي تدلّ على الأوّل على نفي التكليف قبل وصول الإعلام والبيان من الله سبحانه ، وعلى الثاني على نفي التكليف عن غير المقدور ، لأنّ المعنى حينئذ : لا يكلّف الله نفسا إلّا ما أقدرها عليه ، والتكليف بالمجهول تكليف بغير المقدور ، فيكون منفيّا بحكم الآية.

وأمّا ما أورد عليه المصنّف رحمه‌الله بأنّ ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ، فيرد عليه : أنّه إن أراد ذلك عقلا فمسلّم إلّا أنّه غير مجد ، لأنّ الخطابات الشرعيّة واردة على متفاهم العرف ، فيكفي في الاستدلال بها كون الفعل غير مقدور في نظر

قبل ذلك : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) (٦) ـ فالمعنى : أنّ الله سبحانه لا يكلّف العبد إلّا دفع ما اعطي من المال. وإمّا أن يراد نفس فعل الشيء أو تركه بقرينة إيقاع التكليف عليه ، فإعطاؤه كناية عن الإقدار عليه ، فتدلّ على نفي التكليف بغير المقدور كما ذكره الطبرسي (٧) قدس‌سره ، وهذا المعنى أظهر وأشمل ؛ لأنّ الإنفاق من الميسور داخل في «(مِمَّا آتاهُ اللهُ)». وكيف كان : فمن المعلوم أنّ ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ؛ وإلّا لم ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين ، وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه. نعم ، لو اريد من الموصول نفس الحكم والتكليف ، كان إيتائه عبارة عن الإعلام به ، لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية ، وإرادة الأعمّ

______________________________________________________

عامّة الناس ، وما نحن فيه كذلك كما ستعرفه. وإن أراد ذلك في نظر العامّة فهو ممنوع.

وتوضيح المقام : أنّ خروج الفعل من قدرة المكلّف تارة يكون عقليّا ، واخرى عرفيّا ، بمعنى كونه كذلك في نظر أهل العرف وإن لم يكن كذلك عقلا. ومن هذا القبيل أمر الموالي عبيدهم بما لم يكن لهم طريق إلى امتثاله ، إذ لا ريب في عدّ مثل ذلك عندهم من قبيل التكليف بغير المقدور. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ لو تنجّز التكليف بالواقع فيما يحتمل التحريم عدّ ذلك أيضا تكليفا بغير مقدور ، إذ الفرض عدم ثبوت وجوب الاحتياط حتّى يقال إنّه طريق ظاهري في الشبهات. ومجرّد حسن الاحتياط عقلا وشرعا لا يصلح أن يكون طريقا لامتثال التكليف المفروض تنجّزه في الواقع ، إذ غايته جواز الاحتياط ، وهو لا يصلح طريقا لذلك.

وبالجملة ، إنّ وجه الاستدلال أنّ المراد بالموصولة إمّا هو الحكم ، والمراد بإيتائه إعلامه ، كما ترشد إليه الرواية المتقدّمة ، إلّا أنّه يشكل بعدم شمول الآية حينئذ لموردها ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. وإمّا نفس الفعل والترك ، والإيتاء وإن كان حقيقة في الإعطاء إلّا أن إيتاءهما كناية عن الإقدام عليهما. والمعنى : لا يكلّف الله نفسا إلّا بفعل أقدرها عليه ، فما هو غير مقدور للمكلّف لا يكلّف به ، وهو

منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين ؛ إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل (*) المحكوم عليه ، فافهم.

نعم ، في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قلت له : هل كلّف النّاس بالمعرفة؟ قال : لا ، على الله البيان ؛ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، و (لا يُكَلِّفُ اللهُ

______________________________________________________

أعمّ ممّا كان غير مقدور بالذات كالطيران إلى السماء ، أو بالعرض كما فيما نحن فيه على ما عرفت. وعليه ، تكون الآية عامّة لمواردها أيضا ، وهو خصوص المال ، كما يرشد إليه قوله سبحانه قبلها : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) لأنّ المعنى حينئذ بالنسبة إلى موردها : لا يكلّف الله نفسا إلّا بدفع مال أقدرها عليه ، وبالنسبة إلى الأحكام المعلومة : لا يكلّف الله نفسا إلّا بفعل واجب أو ترك حرام أقدرها عليه.

ولا يرد عليه ما أورده المصنّف رحمه‌الله على إرادة المعنى الأعمّ من استلزامه لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لكون الموصولة على ما ذكرناه عبارة عن نفس الفعل أو الترك ، وهو إن اعتبر بالنسبة إلى مورد الآية ـ وهو المال ـ فهو عبارة عن دفعه ، وإن اعتبر بالنسبة إلى الأحكام فهو عبارة عن الإتيان بها وامتثالها.

وممّا ذكرناه يظهر تقريب الاستدلال بقوله تعالى في آخر سورة البقرة : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) نظرا إلى كون الفعل المجهول الحكم خارجا عن وسع المكلّف في نظر العامّة كما تقدّم. وكذا يندفع ما أورد عليه بأنّه إنّما يتمّ على تقدير انسداد باب العلم في أغلب الأحكام ، نظرا إلى كون التكليف بالأفعال المجهولة الحكم في الواقع مع تعذّر الاحتياط لكثرة الشبهات تكليفا بما هو خارج من الوسع ، بخلاف ما لو كان باب العلم مفتوحا عقلا أو شرعا كما هو الفرض ، لأنّ الكلام مع الأخباريّين القائلين بالانفتاح ، بل على مذهب القائلين بالظنون الخاصّة من الاصوليّين ، إذ لا ريب في تيسّر الاحتياط حينئذ ، لقلّة موارد الشبهة ،

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بالفعل» ، والفعل.

نَفْساً إِلَّا ما آتاها)» (٨) ، لكنّها لا ينفع في المطلب ، لأنّ نفس المعرفة بالله غير مقدور (١١٠٤) قبل تعريف الله سبحانه ، فلا يحتاج دخولها في الآية إلى إرادة الإعلام من الإيتاء ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك في ذكر الدليل العقلي إن شاء الله تعالى. وممّا ذكرنا يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٩).

ومنها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٠) (١١٠٥) بناء على أنّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف ؛ لأنّه يكون به غالبا ، كما في قولك : «لا أبرح من هذا المكان حتّى يؤذّن المؤذّن (*)» كناية عن دخول الوقت أو عبارة عن البيان النقلي ، ويخصّص العموم بغير المستقلّات ، أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب إلّا مع اللطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذمّ ، بناء على أنّ منع

______________________________________________________

فالتكليف بالأفعال المجهولة الحكم لا يستلزم المحذور. ووجه الاندفاع واضح ، لأنّ ما ذكرناه مبنيّ على كون الفعل المجهول الحكم خارجا من الوسع مطلقا ، من دون فرق بين قلّة الشبهات وكثرتها.

١١٠٤. لعلّ الوجه فيه هو كون المراد بالمعرفة هي المعرفة الكاملة التي لا يهتدي إليها العباد بعقولهم القاصرة ، أو المراد بها مطلقها إلّا أنّ المراد بالبيان أعمّ من البيان الشرعيّ والعقلي. والقرينة على التأويل بهذين الوجهين هو تعرّض السائل لهذا السؤال ، إذ من البعيد حصول الشبهة في وجوب أصل المعرفة. مضافا إلى نفي الإمام عليه‌السلام للتكليف من دون بيان من الله تعالى ، للقطع بثبوت التكليف بأصل المعرفة ولو مع عدم بيان من الله سبحانه. وحاصل ما ذكره : انطباق الرواية على الآية على تقدير كون المراد بالموصولة هو الفعل والترك ، وبالإيتاء الإقدار عليهما.

١١٠٥. الآية في أوائل سورة بني إسرائيل. ولا يذهب عليك أنّ جريان أصالة البراءة لمّا كان موقوفا على عدم الدليل العقلي والشرعيّ في موردها ، لأنّ

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فإنّه.

.................................................................................................

______________________________________________________

المستدلّين بالآية هم الاصوليّون القائلون بالملازمة بين حكم العقل والشرع ، وكان ظاهر الآية نفي التكليف مع عدم البيان النقلي مطلقا ، سواء كان هنا دليل عقلي أم لا ، احتاج المصنّف رحمه‌الله في الاستدلال بها إلى إثبات احدى مقدّمات. الاولى : أن يكون بعث الرسول كناية عن بيان التكليف مطلقا ، سواء كان بالنقل أم العقل. الثانية : أن تبقى الآية على ظاهرها ، ويقال بكونها من قبيل المخصّص بالمخصّص المنفصل ، وهو ما دلّ على اعتبار العقل. الثالثة : أن تبقى الآية على ظاهرها من إرادة البيان النقلي من دون التزام استثناء أصلا. ويدّعى عدم منافاتها لملازمة حكم العقل لحكم الشرع بأن يقال : إنّ الملازمة بينهما إنّما هي في الحكم بحسن فعل أو قبحه ، بمعنى : أنّ العقل إذا حكم بحسنه أو قبحه فالشرع أيضا يحكم بذلك وبكون فاعله مستحقّا للعقاب ، إلّا أنّه لا ينافي عدم ترتّب العقاب الفعلي على ارتكاب فعل حكم العقل بقبحه ولم يرد النهي عنه شرعا ، كما هو مقتضى الآية.

وبالجملة ، إنّ الملازمة في الحكم بالقبح والاستحقاق لا تلازمها فعليّة ترتّب العقاب على ارتكاب هذا القبيح ، نظير حرمة الظهار المتعقّبة بالعفو بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) على ما يراه الشهيد الثاني ، وحرمة نيّة السوء التي ورد في الأخبار أنّها لا تكتب. والوجه في عدم ترتّب العقاب على مخالفة ما حكم بقبحه العقل ، مع عدم ورود النهي عنه شرعا ، ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من كون تأكّد العقل بالشرع لطفا واجبا على الله تعالى.

وعلى كلّ تقدير ، فالآية لا تنافي الملازمة المذكورة. وما أورد عليه المصنّف رحمه‌الله من كون ظاهرها إخبارا عن وقوع التعذيب سابقا في الأمم الماضية والقرون الخالية بعد البعث والبيان ، فلا تشمل نفي العقاب الاخروي من دون بيان ، ضعيف جدّا ، لأنّ ظاهرها أنّها إخبار عن عدم جريان عادته وسجيّته سبحانه ولو في الامم السابقة على التعذيب من دون بيان ، لأنّ معناها : ما كان من شأننا وسجيّتنا التعذيب حتّى نبعث ونبيّن الأحكام للعباد ، فهي بإطلاقها تشمل العقاب

اللطف يوجب قبح العقاب دون الذمّ ، كما صرّح به البعض ، وعلى أيّ تقدير فيدلّ على نفي العقاب قبل البيان. وفيه : أنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة.

ثمّ إنّه ربّما يورد التناقض (١١) (١١٠٦) على من جمع بين التمسّك بالآية في المقام

______________________________________________________

الدنيوي والاخروي ، كما هو صريح الطبرسي في تفسيره. ولا ريب أنّ مقتضى الحكمة أن لا تتغيّر عادته ولا تتبدّل سجيّته في القرون اللاحقة ، إن لم تكن هذه الأمّة المرحومة أولى بذلك. مع أنّ لفظة «كان» قد تستعمل للدلالة على استمرار خبرها لاسمها ، نحو (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي : لم يزل عليما حكيما في الماضي والحال والاستقبال.

نعم ، يرد على المقدّمة الأخيرة أنّ تسليم كون فاعل ما يستقلّ بقبحه العقل وتارك ما يستقلّ بحسنه مستحقّا للعقاب ومبغوضا عند الشارع وإن لم يكن معاقبا بالفعل ، مناف لما وجب على الله تعالى من اللطف بتأكيد الأحكام العقليّة بالسمعيّة ، لأنّ كون العبد مبغوضا للشارع ومستحقّا لسخطه أشدّ من التعذيب بالنار عند ذوي العقول والأبصار ، فكما أنّ العقاب بلا بيان ينافي اللطف ، كذلك الاستحقاق بلا بيان إن لم يكن أولى.

فإن قلت : إنّ غاية ما تدلّ عليه الآية مع تسليم المقدّمات المتقدّمة هو نفي فعليّة العقاب بلا بيان ، لا نفي الاستحقاق أيضا ، ولا يستلزم كون محتمل الحرمة غير حرام ولو في الظاهر ، لأنّ الحرام ما يستحقّ فاعله العقاب لا ما يعاقب عليه فعلا ، ونفي الفعليّة لا ينفي الاستحقاق أيضا.

قلت : مع أنّ مقتضى البراءة ـ كما سيجيء في محلّه ـ هو مجرّد نفي العقاب لا نفي الحكم الواقعي ، إنّ الخصم يسلّم عدم الاستحقاق على تقدير ثبوت عدم الفعليّة ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، وستعرفه عنه شرح كلامه.

١١٠٦. المورد هو المحقّق القمّي رحمه‌الله ، أورده على الفاضل التوني ، حيث استدلّ

وبين ردّ من استدلّ بها لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع : بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق ؛ فإنّ الإخبار بنفي التعذيب إن دلّ على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني ، وإن لم يدلّ فلا وجه للأوّل. ويمكن دفعه : بأنّ عدم الفعليّة يكفي في هذا المقام ؛ لأنّ الخصم يدّعي أنّ في ارتكاب الشبهة الوقوع في العقاب والهلاك فعلا من حيث لا يعلم ـ كما هو مقتضى رواية التثليث ونحوها التي هي عمدة أدلّتهم ـ ، ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعليّة ، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعليّة ، بخلاف مقام التكلّم في الملازمة ؛ فإنّ المقصود فيه إثبات الحكم الشرعيّ في مورد حكم العقل ، وعدم ترتب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته ، كما في الظهار حيث قيل : إنّه محرّم معفوّ عنه ، وكما في العزم على المعصية على احتمال. نعم ، لو فرض هناك أيضا إجماع على أنّه لو انتفت الفعليّة انتفى الاستحقاق ـ كما يظهر من بعض ما فرّعوا على تلك المسألة ـ لجاز التمسّك بها هناك. والإنصاف أنّ الآية لا دلالة لها (١١٠٧) على المطلب في المقامين.

______________________________________________________

في مسألة البراءة بالآية عليها. وفي مسألة الحسن والقبح ردّ على من منع الملازمة بين حكم العقل والشرع ، مستدلا بها عليه بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق ، ومنع الملازمة إنّما يتمّ على الثاني دون الأوّل. قال : «والعجب من بعض الأعاظم حيث جمع في كلامه بين الاستدلال بالآية لأصل البراءة ، ودفع الإشكال الوارد على الآية بالأحكام العقليّة الإلزاميّة ، بجواز العفو عن الله تعالى» انتهى.

وحاصل ما أورده من التناقض : أنّ مقتضى الاستدلال بالآية على أصالة البراءة هو نفي الحكم المستتبع لنفي الاستحقاق ، ومقتضى الردّ على المانع بما ذكره نفي فعليّة التعذيب بالعفو عنه مع تسليم أصل الاستحقاق ، والتنافي بينهما واضح.

١١٠٧. أمّا عدم دلالتها على أصالة البراءة فلما أورده على المستدلّ بها عليها. وأمّا عدم دلالتها على عدم الملازمة فلما صرّح به من كون محلّ النزاع هناك هو إثبات الملازمة بين حكم العقل والشرع في الاستحقاق خاصّة ، ومجرّد

ومنها : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١٢) (١١٠٨) أي : ما يجتنبونه من الأفعال والتروك. وظاهرها : أنّه تعالى لا يخذلهم بعد هدايتهم إلى الإسلام إلّا بعد ما يبيّن لهم. وعن الكافي وتفسير العياشي وكتاب التوحيد : (١٣) «حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه». وفيه ما تقدّم في الآية السابقة ، مع أنّ دلالتها أضعف من حيث إنّ توقّف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب ، اللهمّ إلّا بالفحوى.

______________________________________________________

نفي فعليّة التعذيب ـ كما هو مقتضى الآية ـ لا ينفيها.

١١٠٨. هذه الآية في سورة التوبة. وتقريب الاستدلال : أنّ المراد بقوله : (لِيُضِلَ) إمّا هو الحكم بالضلالة ، أو التعذيب في الدنيا والآخرة ، والوجهان يظهران من بعض المفسّرين ، أو الخذلان في مقابل الهداية والتوفيق ، كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله. وهذه الامور كلّها مرتّبة على معصيته سبحانه ، فإذا نفتها الآية قبل بيان ما يجب اجتنابه من الأفعال والتروك ثبت عدم تحقّق المعصية والمخالفة قبل وصول البيان من الشارع ، وإن كان الفعل المأتيّ به محتملا للحرمة في الواقع والمتروك للوجوب كذلك.

والمصنّف رحمه‌الله قد حمل الآية على الوجه الثالث ، وأجاب عنها تارة بما تقدّم في سابقتها من كونها إخبارا عن عادته تعالى في الأمم الماضية. واخرى بمنع استلزام توقّف الخذلان على البيان لتوقّف تنجّز التكليف عليه كما هو المدّعى ، وذلك لأنّ معنى الآية : ما كان الله ليخذل قوما بسلب أسباب التوفيق والتوكيل إلى النفس فيما يتعلّق بالمعاش والمعاد إلّا بعد بيان الواجبات والمحرّمات. وعليه ، تكون مرتبة الخذلان بعد بيان الأحكام ، إلّا أنّ الآية لا تدلّ على عدم التكليف قبل البيان ، لوضوح عدم استلزام توقّف الخذلان عليه ـ كما هو ظاهر الآية ـ لتوقّف التكليف عليه. اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالفحوى ، بأن يقال : إنّ الخذلان إذا توقّف علي البيان فتوقّف التعذيب الذي هو أشدّ منه عليه بطريق أولى.

ومنها : قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١٤) (١١٠٩) وفي دلالتها تأمّل ظاهر.

______________________________________________________

وأنت خبير بأنّ خذلانه سبحانه للعبد إنّما هو بعد بيان ما يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات ومخالفة العبد له ، وبعد إيعاده عليه مرّة بعد اخرى بإنزال البلايا والشدائد ، بل بعد بيان المكمّلات من الأعمال الموجبة للمراتب العليّة والدرجات الرفيعة من المستحبّات وغيرها ، فإذا استمرّ العبد على ما أصرّ عليه استحقّ الخذلان الذي هو أشدّ من الدخول في النيران ، إذ من البعيد خذلانه سبحانه للعبد بعد بيان الواجبات والمحرّمات بمجرّد مخالفته له تعالى فيهما من دون إصرار أو استمرار على ما أصرّ عليه ، كيف لا وبيان ما يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات واجب عليه سبحانه من باب اللطف.

وبالجملة ، إنّ استحقاق الخذلان فضلا عن فعليّته ليس مرتّبا على مجرّد المخالفة. فمن هنا يظهر أنّ جعل الإضلال في الآية الشريفة مغيّا ببيان (ما يَتَّقُونَ) ممّا يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات ، قرينة لعدم إرادة الخذلان من الإضلال ، لأنّ الخذلان وإن توقّف على بيان ما يتّقون ، إلّا أنّه متوقّف على أشياء أخر أيضا ، فجعل الإضلال مغيّا بما يجب بيانه على الله تعالى دليل على عدم إرادته من الإضلال ، بل المناسب له كون المراد به التعذيب. والمعنى حينئذ : ما كان الله ليعذّب قوما بعد أن هدهم إلى الإسلام حتّى يبيّن لهم ما يرضيه ويسخطه. ودلالتها على المدّعى حينئذ واضحة كما تقدّم. ومن التأمّل فيما ذكرناه يظهر ضعف التمسّك بالفحوى أيضا ، لما عرفت من كون الخذلان أشدّ من التعذيب في الدنيا والآخرة.

١١٠٩. الآية في سورة الأنفال. والمعني : ليهلك من ضلّ بعد قيام الحجّة عليه ، فتكون حياة الكافر وبقائه هلاكا له. ويحيا من اهتدى بعد قيام الحجّة عليه ، فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له. وقوله : (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي : بعد بيان

ويردّ على الكلّ : أنّ غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعا ، فلا ينافي ورود الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم ، ومعلوم أنّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلّا عن دليل علمي ، وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل ، بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

وإعلام. وقضيّة تخصيص الضلال والاهتداء بما بعد البيان هو عدم الوجوب والحرمة قبله.

ولعلّ وجه تأمّل المصنّف رحمه‌الله في دلالتها هو كون المراد بالبيّنة هي المعجزات الباهرة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والمقصود من الآية بيان علّة ما وقع منه تعالى من نصرة المسلمين ، لأنّ الآية قد نزلت في بيان قصّة غزوة بدر ونصرة المسلمين فيها ، كما يشهد به ما قبلها ، قال سبحانه : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ ...).

قد أخبر الله عزوجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّكم مع قلّة عددكم قد كنتم بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة ، والمشركون بالشفير الأقصى منها ، في حال كون الركب ـ يعني : أبا سفيان وأصحابه ـ في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر ، يعني : مع قلّة عددكم وبعدكم عن الماء ، والمشركون مع تقارب الفئتين منهم ومع كثرتهم ونزولهم على الماء ، قد نصر المسلمين عليهم.

ثمّ أخبر عن قلّة عدد المسلمين بأنّهم كانوا بحيث لو تواعدوا على الاجتماع في الموضع الذي اجتمعوا فيه ، ثمّ بلغهم كثرة المشركين مع قلّة عددهم ، لتأخّروا ونقضوا الميعاد.

ثمّ أخبر بأنّه تعالى قادر على الجمع بينهم وبين المشركين ليقضي ما لا بدّ من

ومنها : قوله تعالى مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١١١٠) ملقّنا إيّاه طريق الرد على اليهود حيث حرّموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (١٥) ، فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرّمات التي أوحى الله إليه ، وعدم وجدانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك فيما اوحي إليه وإن كان دليلا قطعيّا على عدم الوجود ، إلّا أنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة. لكنّ الإنصاف : أنّ غاية الأمر أن يكون

______________________________________________________

كونه ، من إعزاز الدين وأهله ، وإذلال الشرّ وأهله ، ليموت من مات عن بيّنة ، يعني : بعد إلزام الحجّة عليه بما رآه في هذه الغزوة ممّا يدلّ على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو نصرة المسلمين مع قلّة عددهم وكثرة المشركين ونزولهم على الماء دونهم ، ويعيش من عاش منهم بعد قيام الحجّة عليه.

وبالجملة ، إنّ المراد بقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ ...) بيان للغرض من نصرة المسلمين في هذه الغزوة من إلزام الحجّة على من مات أو بقي من المشركين ، ولا دلالة فيها على عدم التكليف بلا بيان ، لكونه بيانا لإلزام الحجّة على الكفّار في واقعة خاصّة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المستفاد من الآية لزوم إذاعة الحجّة في كلّ ما أراده الله تعالى من العباد ، سواء كان هو الإسلام أو الأحكام الفرعيّة ، فتأمّل.

١١١٠. الآية في سورة الأنعام. وتقريب الدلالة : أنّ الله تعالى قد خاطب نبيّه ملقّنا إيّاه كيفيّة الردّ على اليهود حيث حرّموا ما أحلّ الله لهم افتراء عليه تعالى ، بأن يقول : إنّي لا أجد في جملة ما أوحى الله تعالى إليّ محرّما سوى هذه المحرّمات ، فلقّنه طريق الردّ على اليهود بعدم وجدانه ما حرّموه في جملة ما أوحى إليه. فدلّت على كون عدم الوجدان دليلا على عدم الوجود ، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن وجه لتلقينه تعالى له ذلك في مقام الردّ على اليهود. وحينئذ يتمّ القول بالبراءة في الشبهات التحريميّة ـ بل مطلقا ـ بعد عدم وجدان الدليل في الواقعة على التكليف.

في العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان إشارة إلى المطلب (١١١١) ، وأمّا الدلالة فلا ؛ ولذا قال في الوافية : وفي الآية إشعار بأنّ إباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع. مع أنّه لو سلّم دلالتها فغاية مدلولها (١١١٢) كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن الله تعالى من الأحكام يوجب عدم التحريم ، لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام الله تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا ، وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالإجماع العملي على هذا المطلب.

ومنها : قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (١٦) (١١١٣). يعني مع خلوّ ما فصّل عن ذكر هذا الذي يجتنبونه.

______________________________________________________

١١١١. يمكن منع الإشارة والإشعار أيضا ، لاحتمال كون النكتة في التعبير بعدم الوجدان هي الإشارة إلى قلّة المحرّمات ، لأنّه مع اختلاط القليل بالكثير واشتباهه فيه ينسب الوجدان وعدمه إلى القليل ، فيقال : إذا تتبّعت الأشياء الفلانيّة فوجدت الشيء الفلاني من بينها أو لم تجد من بينها. ففي التعبير به إشارة إلى قلّة المحرّمات وكثرة المباحات ، بحيث توجد هي من بينها.

١١١٢. بل يمكن أن يقال : إنّ غاية مدلولها كون عدم وجدان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دليلا على عدم الوجود في الواقع ، إذ لا ريب في كون عدم وجدانه حرمة شيء كاشفا عن إباحته في الواقع. والمقصود في المقام إثبات الإباحة الظاهريّة بعدم وجدان الدليل على الحرمة ، كيف والمأخوذ في موضوع الاصول هو الجهل بالحكم الواقعي ، فكيف تجعل الآية دليلا على إثبات الإباحة الظاهريّة؟ والفرق بينه وبين ما ذكره المصنّف رحمه‌الله واضح ، فلا تغفل.

١١١٣. الآية في سورة الأنعام. وتقريب الدلالة : أنّ الله تعالى قد ذمّ على الالتزام بترك ما لم يوجد فيما فصّل من المحرّمات ، فتدلّ على إباحة كذلك ما لم يوجد تحريمه في الكتاب والسنّة.

ولعلّ هذه الآية أظهر من سابقتها ؛ لأنّ السابقة دلّت على أنّه لا يجوز (١١١٤) الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى الله سبحانه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه تدلّ على أنّه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصّل وإن لم يحكم بحرمته ، فيبطل وجوب الاحتياط أيضا (١١١٥) إلّا أنّ دلالتها موهونة من جهة اخرى وهي أنّ ظاهر الموصول العموم ، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع (١١١٦) المحرّمات الواقعيّة وعدم كون المتروك منها ، ولا ريب أنّ اللازم من ذلك العلم بعدم كون المتروك محرّما واقعيّا ، فالتوبيخ في محلّه.

والإنصاف ما ذكرنا من أنّ الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط ؛ لأنّ غاية مدلول الدالّ منها هو عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا أو عموما بالعقل أو النقل ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد ، وإنّما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجوبه ، فاللازم على منكره ردّ ذلك الدليل أو معارضته بما يدلّ على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه ، وأمّا الآيات المذكورة فهي كبعض الأخبار الآتية لا تنهض لذلك ؛ ضرورة أنّه إذا فرض أنّه ورد بطريق معتبر في نفسه أنّه يجب الاحتياط في كلّ ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة ، لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة.

______________________________________________________

١١١٤. عدم الحكم بالحرمة لا ينافي وجوب الاحتياط ، لأنّه عبارة عن الالتزام بالترك في الشبهة التحريميّة لا الحكم بالحرمة.

١١١٥. أي : كما تدلّ على عدم جواز الحكم بالحرمة.

١١١٦. ظاهره أنّ ما نحن فيه يفارق مورد الآية من وجهين :

أحدهما : أنّ موردها عدم كون المتروك في جميع المحرّمات الواقعيّة ، والمقصود فيما نحن فيه عدم كونه فيما بأيدينا من الأدلّة بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا.

وثانيهما : أنّ عدم وجدان المتروك في المحرّمات الواقعيّة دليل على إباحته في

.................................................................................................

______________________________________________________

الواقع ، والمقصود فيما نحن فيه إثبات الإباحة الظاهرية لمجهول الحكم بحسب الواقع.

وربّما يتمسّك في المقام أيضا بقوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً.) وقوله سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى.) وقوله جلّ ذكره : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.)

وتقريب الدلالة في الأوليين منها : أنّه تعالى رتّب الشكر والكفران فيها على الهداية ، فلا شكر ولا كفران إلّا بعد الهداية.

وفيه : أنّ المعنى في الاولى : أنّا فعلنا ذلك يعني : الهداية ـ سواء كانوا بعد ذلك شاكرين أم كافرين. وفي الثانية : أنّا هدينا ثمود ، وهم اختاروا العمى ـ يعني : الغواية والضلال ـ على الهدى. ولا دلالة فيها على وجوب الهداية قبل الضلال ، لكونهما إخبارا عن وقوع ذلك فيما سلف لا بيانا لوجوب الهداية قبل الضلال.

وأمّا الثالثة ، فوجه الدلالة فيها : أنّ اللام يقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ، فهي تدلّ على إباحة جميع ما يمكن الانتفاع به بنحو من أنحاء الانتفاع.

وفيه : أنّها أخصّ من المدّعى ، لأنّ ما في الأرض على أقسام : منها ما لا منفعة فيه ظاهرا ، ومنها ما له جهة منفعة واحدة ، ومنها ما له منافع متعدّدة ، مثل الأكل واللبس ونحوهما. وهذا أيضا على قسمين : قسم منافعه مختلفة في الظهور والخفاء ، فبعضها ظاهر من بينها ، كاللبس في الملبوس والشرب في المشروب والأكل في المأكول ، وقسم منافعه متساوية في الظهور والخفاء. ولا ريب أنّ المطلقات إذا كانت لها أفراد ظاهرة وخفيّة إنّما تنصرف إلى الظاهرة منها. وحينئذ نقول : إنّ المقصود بقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) هو خلق الأشياء لغاية الانتفاع بها ، وهو مطلق لا ينصرف إلّا إلى الأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها إلّا بجهة واحدة ،

وأمّا السنّة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة : منها : المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بسند صحيح (١١١٧) في الخصال كما عن التوحيد : «رفع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ...» (١٧). فإنّ حرمة شرب التتن (١١١٨)

______________________________________________________

وإلى ما له منافع من جهات متساوية ، وإلى أظهر جهات ما له جهات مختلفة ، فيكون أخصّ من المدّعى.

وربّما يقال : إنّ الآية مفسّرة في الخبر بالانتفاع بجهة الاستدلال بما في الأرض على وجود الصانع. واعترض عليه : أنّ الخبر إنّما تضمّن إحدى جهات الانتفاع ، ولا دلالة فيه على الحصر فيها. وربّما يقال أيضا : إنّها واردة في مقام بيان عدم كون خلق ما في الأرض عبثا ، لا لبيان إباحة جميع ما في الأرض ، فتأمّل.

١١١٧. لفظ الحديث على ما نقله في تفسير نور الثقلين عن التوحيد مسندا إلى حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام هكذا : قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». والخبر قد صحّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام ، وأسندوه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما ربّما يتوهّم من كونه نبويّا ضعيفا ضعيف جدّا.

١١١٨. قد أورد على التمسّك بالخبر بوجوه :

أحدها : بما تقدّم في الحاشية السابقة مع تضعيفه من كونه نبويّا ضعيفا.

وثانيها : أنّه خبر الواحد ، فلا يجوز التمسّك به في إثبات المسائل الاصوليّة عند المشهور.

وفيه أوّلا : أنّ هذه المسألة ـ كمسألة الاستصحاب ، كما سيأتي في مسألة الاستصحاب ـ من المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة.

وثانيا : أنّ الاستدلال ليس بهذا الخبر ، بل به بضميمة سائر الأخبار التي

.................................................................................................

______________________________________________________

تمسّك بها المصنّف رحمه‌الله في المقام. ولا تبعد دعوى تواترها معنى. وثالثا : منع عدم جواز الاستدلال بأخبار الآحاد في المسائل الاصوليّة ، لعموم أدلّتها كما لا يخفى.

وثالثها : ما أورده المصنّف رحمه‌الله من كون المراد بالموصولة بقرينة أخواتها هو الموضوع ، فلا يشمل الحكم المجهول. ويؤيّده أنّه لو كان المراد بها أعمّ من الموضوع والحكم لزم استعمالها في معنيين مختلفين ، لأنّ نسبة الرفع إليها عند إرادة الموضوع باعتبار معنى ، وعند إرادة الحكم باعتبار معنى آخر ، إذ المراد على الأوّل رفع مؤاخذة الفعل المشتبه الحكم ، وعلى الثاني رفع نفس الحكم المشتبه. اللهمّ أن يقال : إنّ المراد بها الموضوع خاصّة ، إلّا أنّ المراد به أعمّ من الموضوع المشتبه في نفسه ، كالمائع المردّد بين كونه خمرا وخلّا ، ومن الموضوع المشتبه الحكم كشرب التتن ، إلّا أنّه بعيد ومنافر لسائر الفقرات.

والحاصل : أنّه إمّا أن يراد بالموصولة الموضوع خاصّة ، أو الحكم خاصّة ، أو الأعمّ منهما. والأوّل هو المطلوب ، ولا ينفع المستدلّ. والثاني بعيد عن السياق. والثالث مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين متغايرين بإرادة واحدة.

ويرد عليه أوّلا : أنّ دعوى ظهور الموصولة في إرادة الموضوع خاصّة بقرينة السياق ، نظرا إلى اختصاص الخطأ والنسيان والإكراه وعدم الطاقة والاضطرار بالموضوع ممنوعة ، لصحّة إرادة الأعمّ منه ومن الحكم في هذه الفقرات أيضا. أمّا الخطأ فإنّه كما يتحقّق في الأفعال كذلك في الأحكام ، كما إذا اعتقد الفقيه عبارة الصدوق عبارة للصادق عليه‌السلام فأفتى بمضمونها ثمّ تبيّن خطائه ، فيكون الخطأ في الفتوى حينئذ ناشئا من الخطأ في الموضوع الخارج. وأمّا النسيان كما إذا كان عالما بحرمة الخمر مثلا فنسيها فشربها. وأمّا الإكراه فكإكراه فقيه على الإفتاء بخلاف الحقّ الذي اعتقده. ومنه يظهر الحال في الاضطرار أيضا ـ وأمّا عدم الطاقة فكتكليف المكلّف بما لا يطيق (*) لامتثاله.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «كإرادة الامتثال التفصيلي في التكاليف المجهولة. منه».

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيا : منع لزوم استعمال الموصولة في معنيين على تقدير إرادة المعنى الأعمّ منها ، إذ المراد برفع الامور التسعة. كما سيجيء في الحواشي الآتية ـ ليس رفع مؤاخذتها حتّى يلزم المحذور ، بل المراد هو عدم توجيه الخطاب على وجه يشمل صورة الخطأ والنسيان مثلا أيضا. وحينئذ يقال : إنّ المراد برفع ما لا يعلمون أيضا هو عدم توجيه التكليف بحيث يشمل المجهولات حتّى يجب فيه الاحتياط. وحينئذ يصحّ أن يقال : إنّ المراد بما لا يعلمون أعمّ من الموضوع والحكم المشتبهين ، والمراد برفعهما رفع حكمهما الظاهري ، بمعنى : أنّه إذا اشتبه الخمر بالخلّ أو اشتبه حكم شرب التتن ، فالخبر يدلّ على عدم توجّه الخطاب الواقعي بحيث يشمل صورة الجهل حتّى يجب الاحتياط في الصورتين. وسيأتي توضيح لذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إنّ اللازم على المجتهد هو استفراغ تمام وسعه في استنباط الأحكام الشرعيّة ، بحيث لا يقع منه تقصير في مقدّمات استنباطه إلّا على وجه يكون معذورا فيه ، كما إذا أخذ حكما من خبر صحيح على اعتقاده وكان من الأخبار المدسوسة في الواقع. وقد حكى بعض مشايخنا عن بعض مشايخه عن الشيخ أسد الله التستري أنّه قد ذكر أنّ الإمام عليه‌السلام لو كان حاضرا لاحتججت معه إلى سنّة ، ولا يلزمني بتقصير في مقدّمات اجتهادي وفي كيفيّة استنباطي فاللازم على المجتهد أوّلا هو بذل الوسع في تحصيل الأحكام الواقعيّة والوصول إليها ، وإن لم يصل إليها فهو إمّا من جهة تقصيره في الفحص عن الأدلّة أو معارضاتها ، أو من جهة قصوره عن الفحص أزيد ممّا بذل جهده فيه ، فهو على الأوّل معاقب ، وعلى الثاني معذور لا محالة ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق ، وهو منفي عقلا وشرعا.

وإذا تحقّق ذلك نقول : إنّك قد عرفت أنّ المراد في الخبر برفع الامور التسعة هو عدم توجيه الخطاب على وجه يشمل صورة الخطأ والنسيان والجهل مثلا. ولا ريب أنّ عدم توجيهه كذلك إمّا مع تقصير من المكلّف في حصول الامور المذكورة ، بأن لم يتحفّظ محفوظه بتكرير التذكّر مثلا حتّى لا ينسى ، أو لم يتفحّص

.................................................................................................

______________________________________________________

عن الأدلّة حتّى يصير عالما بالحكم ، أو لم يحتط في أفعاله كي لا يقع في الخطأ فيها ، أو مع عدم تقصير منه في ذلك. وتعميم الخبر للصورة الاولى بعيد في الغاية وفضيح إلى النهاية. وكذلك للصورة الثانية ، لأنّ قبح المؤاخذة في صورة عدم التقصير عقلي ، ويبعد بل لا يصحّ حمل الخبر الوارد في مقام المنّة على صورة يستقلّ بحكمها العقل.

وعلى كلّ تقدير فحمل الخبر على بيان رفع مؤاخذة الأحكام غير صحيح ، فلا بدّ من حمله على بيان رفع المؤاخذة على الموضوعات المشتبهة. فإذا أكل مال الغير مثلا خطأ أو نسيانا أو إكراها أو اضطرارا أو جهالة أو لأجل عدم الطاقة للاستنكاف عنه لبعض الأسباب الخارجة ، فالخبر يدلّ على رفع المؤاخذة عنه على ذلك ، ولا محذور فيه ، لعدم وجوب التحفّظ والاحتياط وتحصيل العلم في الموضوعات الخارجة المشتبهة ، حتّى يقال إنّه مع التقصير فالتكليف باق ، ومع عدمه فارتفاعه عقلي لا يناسب مقام المنّة.

قلت : إنّ اعتبار بذل الجهد في مقدّمات الاجتهاد بحيث لا يقع منه تقصير فيها أصلا عقلا يسدّ باب الاجتهاد ، لأنّ من زاول علم النحو مثلا بالتعليم والتعلّم ، واستمرّ عليه في أغلب أيّامه ، وغار في مسائله وأتقنها وأحكمها بما وصل إليه جهده ووسعه ، وبعد ذلك إذا أراد العود إلى ذلك ثانيا بتكرير النظر والبحث مع المتبحّرين في هذا العلم ، ينكشف عنه حجب العلم ، ويزداد علمه في كلّ آن ونظر ، إذ فوق كلّ ذي علم عليم.

والحاصل : أنّ العلوم ليست ممّا يقف على حدّ يمكن تحصيله ، فلو قلنا بوجوب تحصيل علم النحو والمنطق والاصول وغيرها من مقدّمات الفقه بحيث لا يعدّ مقصّرا فيها عقلا ، فلا بدّ أن نطوي ورقة الاجتهاد ، لكون تحصيلها على هذا النحو خارجا من الوسع والطاقة ، فلا بدّ له من حدّ مضبوط لئلّا يلزم تعطيل الحدود والأحكام. فالأولى حينئذ أن يقال : إنّ الواجب هو تحصيل المقدّمات

.................................................................................................

______________________________________________________

على حسب الوسع والطاقة ، بل دون الوسع ، لاستلزامه العسر أيضا كما لا يخفى.

فالواجب هو تحصيل المقدّمات على وجه لا يعدّ مقصّرا في العرف والعادة. فإذا صحّح كتاب الحديث من نسخة مصحّحة مرّتين أو مرّات ثلاثة كفى في الرجوع إليه وأخذ الأحاديث منه لاستنباط الأحكام منها ، وإن كان مقصّرا عقلا لو تبيّن الخطأ بعد ذلك ، وكذا في غيره من المقدّمات.

وحينئذ إذا كان المراد بالموصولة في قوله : «وما لا يعلمون» أعمّ من الحكم والموضوع ، فمن الجائز أن يكون الخبر واردا في مقام بيان رفع المؤاخذة على الأحكام المجهولة إذا لم يتفحّص عنها فوق متعارف الناس ، وهو لا ينافي المنّة. وكذا الكلام في باقي الفقرات ، بأن يقال بكونه واردا في مقام بيان رفع المؤاخذة على الأحكام المنسيّة إذا كان النسيان ناشئا من عدم التحفّظ فوق المتعارف ، وكذلك الأحكام التي وقع فيها الخطأ إذا كان ناشئا من عدم الاحتياط فوق المتعارف. فإذا زعم فقيه عبارة الفقيه متن حديث ، وفتّش عن ذلك بحسب المتعارف وأفتى بمضمونها ، ثمّ ظهر خطائه فيها ، فالخبر ينفى المؤاخذة على ذلك. وهكذا الكلام في باقي الفقرات ، فلا وجه لتخصيصها بالموضوعات.

وثالثا : مع تسليم اختصاص الموصولة بالموضوعات المشتبهة ، فلا ريب في شمولها للأفراد الخفيّة فيما لو علّق حكم على عامّ له أفراد ظاهرة وخفيّة ، كما إذا علمت حرمة الخمر وشكّ في شمول لفظ الخمر للفقّاع أيضا فإذا ثبت حكم الفقّاع بحكم الخبر وقلنا بإباحته ثبت جواز الحكم بالإباحة في سائر موارد أصالة البراءة أيضا بعدم القول بالفصل ، لمخالفة الأخباريّين في أصالة البراءة حتّى في الشبهات المفهوميّة ، وسمّوها بالأفراد الخفيّة ، لإيجابهم الاحتياط فيما تعلّق الحكم على عامّ مجمل بالنسبة إلى بعض أفراده ، مع كون الشبهة فيه في الحكم لا في موضوعه.

قال المحدّث البحراني في مقدّمات حدائقه : «التحقيق في المقام على ما أدّى

مثلا ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها ـ كرفع الخطأ والنسيان ـ رفع آثارها أو خصوص المؤاخذة ، فهو نظير قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

______________________________________________________

إليه النظر القاصر من أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام هو أن يقال : لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا ، واستفاضة الأمر به كما سيمرّ بك شطر من أخباره ، وهو عبارة عمّا يخرج به المكلّف عن عهدة التكليف على جميع الاحتمالات ، ومنه ما يكون واجبا ، ومنه ما يكون مستحبّا. والأوّل كما إذا تردّد المكلّف في الحكم ، إمّا لتعارض أدلّته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكلّية بناء على نفي البراءة الأصليّة ، أو لكون ذلك مشكوكا في اندراجه تحت الكلّيات المعلومة الحكم ، أو نحو ذلك.

ثمّ ساق الكلام في ذكر الأمثلة إلى أن انتهى إلى قوله : «ومن الاحتياط الواجب في جزئيّات الحكم الشرعيّ الإتيان بالفعل إذا علم أصل الحكم وكان هو الوجوب ، ولكن حصل الشكّ في اندراج بعض الأفراد تحته. وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج الواردة في جزاء الصيد الدالّة على ذلك. ومن هذا القسم ـ ولكن مع كون الاحتياط بالترك ـ ما إذا كان الحكم الشرعيّ التحريم ، وحصل الشكّ في اندراج بعض الجزئيّات تحته ، فإنّ الاحتياط هنا بالترك ، كحكم السجود على الخزف والحكم بطهارته بالطبخ ، فإنّ أصل الحكم في كلّ من المسألتين معلوم ، ولكن هذا الفرد بسبب الشكّ في استحالته بالطبخ وعدمها قد أوجب الشكّ في اندراجه تحت أصل الحكم ، فالاحتياط عند من يحصل له الشكّ المذكور واجب بترك السجود وترك استعماله فيما يشترط فيه الطهارة. ومنه الشكّ في اندراج بعض الأصوات تحت الغناء المعلوم تحريمه ، فإنّ الاحتياط واجب بتركه. وأمّا من يعمل بالبراءة الأصليّة ، فيرجّح بها هنا جانب العدم ، فلا يتّجه ذلك عنده» انتهى.

ويمكن أن يورد عليه بأنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» بقرينة أخواتها هو الموضوع ، أعني فعل المكلّف الغير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب الخمر أو شرب الخلّ وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ، فلا يشمل الحكم الغير المعلوم ، مع أنّ تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم ؛ لأنّ المقدّر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ، ولا معنى للمؤاخذة (١١١٩) على نفس الحرمة المجهولة. نعم ، هي من آثارها ، فلو جعل المقدّر في كلّ من هذه التسعة ما هو المناسب (١١٢٠) من أثره ، أمكن أن يقال : إنّ أثر حرمة شرب التتن مثلا المؤاخذة على فعله ، فهي مرفوعة. لكنّ الظاهر (١١٢١) ـ بناء على تقدير المؤاخذة

______________________________________________________

وقد يناقش في دلالة النبويّ أيضا ، بأنّ الحمل على ظاهره غير ممكن ، فلا بدّ من حمله على خلاف ظاهره. وهو كما يمكن بحمله على إرادة نفى الآثار ، كذلك يمكن بتصرّف في نسبة الرفع إلى الأمّة ، بأن تكون نسبة الرفع إليها باعتبار ارتفاع الامور التسعة عن بعضها ، كما يقال : فلان يركب الخيل إذا ركب بعضها ، وبنو فلان قتلوا فلانا وقد قتله بعضهم ، فالخبر حينئذ يدلّ على وجود معصوم عن هذه الامور في جملة الأمّة ، ولا مرجّح لأحد المجازين ، فيعود الخبر مجملا.

أقول : هذه المناقشة قد ذكرها الشهيد رحمه‌الله. ويرد عليها أوّلا : منع ارتفاع كلّ واحد من الامور التسعة عن بعض الأمّة ، إذ لا ريب في عدم ارتفاع الإكراه عن أئمّتنا عليهم‌السلام. وتشريع باب التقيّة أوضح شاهد له. وثانيا : أنّه على ما ذكر يكون تقييد قوله : «والوسوسة في الخلق» بقوله : «ما لم ينطق بشفة» لغوا ، لكون الإمام عليه‌السلام معصوما عن الوسوسة مطلقا.

١١١٩. لأنّ المؤاخذة على ارتكاب الحرام لا على الحرمة ، وإن كانت المؤاخذة من آثارها ، وهي سبب لها.

١١٢٠. كالمضرّة في الطيرة ، والكفر في الوسوسة ، والمؤاخذة في البواقي.

١١٢١. حاصله : أنّه إن قدّرت المؤاخذة باعتبار كونها مترتّبة على

ـ نسبة المؤاخذة إلى نفس المذكورات.

والحاصل (١١٢٢) أنّ المقدّر في الرواية ـ باعتبار دلالة الاقتضاء ـ يحتمل أن يكون جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ، وهو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقي. وأن يكون في كلّ منها ما هو الأثر الظاهر فيه. و (*) أن يقدّر المؤاخذة في الكلّ ، وهذا أقرب عرفا من الأوّل وأظهر من الثاني أيضا ؛ لأنّ الظاهر أنّ نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد ، فإذا اريد من «الخطأ» و «النسيان» و «ما اكرهوا عليه» و «ما اضطرّوا» المؤاخذة على أنفسها ، كان الظاهر في «ما لا يعلمون» ذلك أيضا.

______________________________________________________

المذكورات فهو صحيح ولا يلزم منه خلاف الظاهر ، إلّا أنّه قد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله تعيّن أخذ الموصولة حينئذ عبارة عن الموضوع ، فلا يصحّ الاستدلال. وإن قدّرت المؤاخذة باعتبار كونها من آثار المذكورات وإن لم تنسب إلى أنفسها ، صحّ أخذ الموصولة حينئذ أعمّ من الحكم والموضوع ، وصحّ الاستدلال أيضا ، إلّا أنّه خلاف الظاهر.

١١٢٢. حاصله : أنّ الخبر يحتمل وجوها ، أحدها : كون المرفوع جميع الآثار. وثانيها : كون المرفوع في كلّ واحد من المذكورات هو الأثر المناسب لكلّ منها. وثالثها : كون المرفوع في الجميع هي المؤاخذة خاصّة.

والأوّل وإن كان أقرب اعتبارا ، إذ لا ريب في كون الشيء المسلوب الآثار أقرب إلى عدم هذا الشيء ممّا سلب عنه بعض آثاره دون بعض ، إلّا أنّه لا اعتبار بالأقربيّة الاعتباريّة في مباحث الألفاظ ، لأنّ مدارها على الظهور العرفي ، سواء كانت هنا أقربيّة اعتباريّة أم لا. نعم ، قد تكون هذه الأقربيّة منشأ للأقربيّة العرفيّة أيضا ، ولكنّ المفروض في المقام كون تقدير خصوص المؤاخذة أقرب عرفا.

والثاني وإن كان ظاهرا إن لوحظت نسبة الرفع إلى كلّ واحدة من الفقرات

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الظاهر.

نعم ، يظهر من بعض (١١٢٣) الأخبار الصحيحة

______________________________________________________

بانفرادها ، إلّا أنّ السياق يقتضي أظهريّة الثالث ، فتعيّن للإرادة. وقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله عدم صحّة الاستدلال بالخبر على هذا التقدير وقد ظهر أنّ المستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ في الخبر وجوها ثلاثة.

وهنا وجه رابع ، وهو ابقائه على ظاهره من نفي حقيقة الامور التسعة ، كما أسلفناه عن الشهيد رحمه‌الله في ذيل ما علّقناه على ما أورده المصنّف رحمه‌الله على الاستدلال بالخبر ، وأسلفنا تزييفه هناك أيضا ، فراجع.

وخامس ، وهو الحكم بالإجمال ، لعدم تعيّن المراد بعد تعذّر إرادة الحقيقة ، لدورانه حينئذ بين نفي جميع الآثار وخصوص المؤاخذة ، فيعود الخبر مجملا. وفيه : ما عرفته من ظهوره في نفس خصوص المؤاخذة. ولعلّه لأجل غاية بعد هذين الوجهين لم يتعرّض لهما المصنّف رحمه‌الله في المقام.

١١٢٣. فيكون هذا الخبر قرينة على إرادة عموم الآثار من خبر الرفع ، بناء على كون ما تضمّنه هذا الخبر من النبويّ جزءا من خبر الرفع قد نقله الإمام في مقام الاستشهاد ، أو يقال : مع فرض تغايرهما تكون أخبار أئمّتنا عليهم‌السلام كاشفا بعضها عن بعض. وعلى كلّ تقدير ، يمكن الجواب عن ذلك بوجهين ، لعلّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار إليهما أو إلى أحدهما بالأمر بالتأمّل :

أحدهما : دعوى كونه محمولا على النسبة (*) ، لوجود أماراتها فيه ، لأنّ الحلف على ما تضمّنه باطل مع الاختيار أيضا ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ، وذلك لأنّه كان على الإمام عليه‌السلام أن يجيب ببطلان أصل الحلف لا إسناد البطلان إلى الإكراه ، فالعدول عنه إلى التمسّك بالنبويّ شاهد بعدم إرادته عليه‌السلام لبيان الواقع ، كما قيل في آية النبأ : إنّ تعليق الحكم فيها على الوصف المفارق ـ أعني : الفسق ـ دون الوصف اللازم ،

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، والظاهر أنّها تصحيف : التقيّة.

عدم اختصاص الموضوع (*) عن الامّة بخصوص المؤاخذة ، فعن المحاسن عن أبيه عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا عن أبي الحسن عليه‌السلام : «في الرجل يستكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لا ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطئوا ...» (١٨).

فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وإن كان باطلا عندنا مع الاختيار أيضا ، إلّا أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة ، لكنّ النبويّ المحكيّ في كلام الإمام عليه‌السلام مختصّ بثلاثة من التسعة ، فلعلّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ، فتأمّل.

______________________________________________________

أعني : الخبريّة ، بأن يقال : إن جاءكم خبر فتبيّنوا ، دليل على مدخليّة الوصف المفارق في تحقّق الحكم وعدمه. مع أنّه لو كان المقصود بالاستشهاد بيان الواقع لزم منه الإغراء بالجهل ، حيث إنّ ظاهر الجواب صحّة الطلاق مع الاختيار.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الجواب ناش من عدم التأمّل في فقه الحديث ، لأنّ المسئول عنه في كلام السائل هو الإكراه على الحلف مطلقا ، إلّا أنّ المكره ـ بالفتح ـ قد حلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملكه ، ولعلّ السائل قد زعم صحّة الحلف ولزومه مع الاختيار مطلقا ، سواء كان حلفا بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملكه ، بأن قال : والله أنت طالق إن فعلت كذا ، أم حلفا مشروعا ، بأن قال : والله لأطلّق زوجتي إن كان كذا ، إلّا أنّه سأل عن خصوص صورة الإكراه على الكلّي مع حلف المكره ـ بالفتح ـ بخصوص فرد منه ، وأنّ الإكراه على الكلّي هل هو إكراه على أفراده ومانع من صحّة الحلف أو لا؟ فأجاب الإمام عليه‌السلام بعدم الصحّة ومانعيّة الإكراه ، فلا وجه حينئذ لحمله على التقيّة. ولا يلزم منه تأخير البيان أيضا كما هو واضح. وعدم ردعه عليه‌السلام عمّا زعمه من صحّة الحلف بخصوص الطلاق لعلّه لأجل عدم كونه محلّ سؤال وحاجة للسائل.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : المرفوع.

وممّا يؤيّد إرادة العموم : ظهور كون رفع كلّ واحد من التسعة من خواصّ أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١١٢٤) ؛ إذ لو اختصّ الرفع بالمؤاخذة أشكل الأمر في كثير من تلك الامور من حيث إنّ العقل مستقلّ بقبح المؤاخذة عليها ، فلا اختصاص له بامّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يظهر من الرواية. والقول بأنّ الاختصاص باعتبار رفع المجموع وإن لم يكن رفع كلّ واحد من الخواصّ ، شطط من الكلام (١١٢٥).

لكنّ الذي يهوّن الأمر (١١٢٦)

______________________________________________________

وثانيهما : مع تسليم عدم وروده في مقام التقيّة والخوف ـ كما هو الظاهر ـ أنّ غاية ما يستفاد من الخبر هو ارتفاع قسم خاصّ من آثار الامور التسعة لا مطلقا ، وذلك لأنّ المفروض كون خبر الرفع ظاهرا في رفع المؤاخذة خاصّة ، وغاية ما يستفاد من خبر المحاسن هو ارتفاع الآثار التي ثبتت شرعا بالتزام المكلّف بحلف أو نذر أو نحوهما ، لا الآثار التي أثبتها الشارع ابتداء ، كالضمان المرتّب على الإتلاف أو اليد ونحوه ، فهو إنّما يصير قرينة على ارتكاب خلاف الظاهر في خبر الرفع بمقدار مدلوله ، وهو ما ذكرناه ، لا مطلق الآثار. ومع التسليم فغاية ما يسلّم كون خبر المحاسن قرينة على ارتفاع الأحكام الوضعيّة خاصّة لا الأعمّ منها ومن التكليفيّة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الظاهر أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام النبويّ من قبيل الاستدلال بالكلّي على بعض جزئيّاته ، فالمراد هو نفي جميع الآثار من دون اختصاص ببعضها.

١١٢٤. لعلّ الظهور المذكور ناش من ورود الخبر في مقام المنّة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا من إضافة الأمّة إلى ضمير المتكلّم ، لأنّ غايتها إفادة اختصاص الأمّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا اختصاص الرفع بهم أيضا ، إلّا من باب مفهوم اللقب ، ولا اعتداد به.

١١٢٥. لأنّ ظاهر الخبر نسبة الرفع إلى كلّ واحد واحد من الأشياء التسعة ، لا إلى المجموع من حيث هو.

١١٢٦. بل يمكن أنّ يقال : «إنّ النبويّ إشارة إلى الآيات المذكورة ، كما

.................................................................................................

______________________________________________________

يرشد إليه المرويّ عن اصول الكافي عن عمرو بن مروان قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي أربعة خصال : خطاؤها ، ونسيانها ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون. ذلك قول الله عزوجل : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ....) وقوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.)

وعنه في حديث طويل حكاه عن احتجاج الطبرسي رحمه‌الله : «فقال لمّا سمع ذلك : أمّا إذا فعلت ذلك بي وبأمّتي فزدني. قال : سل. قال : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا). قال عزوجل : لست أؤاخذ أمّتك بالنسيان والخطأ ، لكرامتك عليّ. وكانت الامم السالفة إذا نسوا ما ذكّروا به فتحت عليهم أبواب العذاب ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك. وكانت الامم السالفة إذا أخطئوا أخذوا بالخطإ وعوقبوا عليه ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ، لكرامتك عليّ. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أعطيتني ذلك فزدني. فقال الله تعالى له : سل. قال : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ، يعني بالإصر الشدائد التي على من كان قبلنا. فأجابه الله إلى ذلك ، فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمّتك الآصار التي كانت على الامم السالفة. ثمّ ذكر الله الآصار التي على الامم السالفة واحدا بعد واحد». وفي موضع آخر من هذا الحديث بعد ذكر الآصار : «فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أعطيتني ذلك كلّه فزدني. قال : سل. قال : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ). قال تبارك اسمه : فعلت ذلك بأمّتك ، قد رفعت عنهم أعظم بلاء الامم» الحديث.

وظاهر هذين الخبرين ـ بل صريحهما ـ أنّ مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ...) في الآية الشريفة هو سؤال الله سبحانه عن رفع امور كانت في الامم الماضية عن امّته بالخصوص. وحينئذ نقول فيما نحن فيه أيضا : إنّ مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله برفع الأشياء التسعة هي الإشارة إلى الآية الشريفة التي سئل فيها عن رفع بعض ما كان في الامم السالفة ، فيكون ارتفاع هذه الامور من خواصّ هذه الامّة ، لكن ذلك لا يستلزم كون رفع الأشياء التسعة باعتبار جميع آثارها ، لجواز كونه

في الرواية : جريان هذا الإشكال في الكتاب العزيز أيضا ؛ فإنّ موارد الإشكال (١١٢٧)

______________________________________________________

باعتبار رفع مؤاخذتها.

والإشكال فيه بمنافاته لقضيّة الاختصاص ـ كما قرّره المصنّف رحمه‌الله ـ مندفع بما أشار إليه أوّلا من ورود هذا الإشكال على ظاهر الآيات أيضا ، فهو لا يصدم في إبقاء حديث الرفع على ظاهره ، من كون المراد به رفع خصوص المؤاخذة ، كما هو ظاهر المصنّف في تقرير الرفع. وإن شئت قلت : إنّ هذا الإشكال راجع إلى الإشكال في ظاهر الآيات ، لا في خصوص حديث الرفع ، كما هو مقتضى ما قرّرناه أوّلا. وثانيا من الجواب حلّا ، بأنّ الأشياء التسعة تارة تستند إلى تقصير من المكلّف ، لأنّ الخطأ والنسيان مثلا قد ينشآن من عدم مبالاته في التحفّظ ، لأنّه إذا وطّن نفسه على أن لا ينسى ما ذكره ، بأن تذكّر محفوظه مرّة أو مرارا ، أو على أن لا يصدر عنه خطأ ، بأن احتاط في أفعاله واموره ، فربّما لا ينسى محفوظه ولا يصدر عنه خطأ ، وقد ورد أنّ النسيان في الغالب من الشيطان. واخرى لا يستند إلى تقصيره في المقدّمات ، بل يصدر عنه الخطأ والنسيان من دون اختياره وإرادته.

وحينئذ نقول : يجوز أن تكون الامم السالفة معاقبين على الخطأ والنسيان على الوجه الأوّل ، لعدم قبح ذلك عقلا ، وقد رفع ذلك عن هذه الأمّة. ومن هنا يسقط ما توهّمه البيضاوي ـ على ما حكي عنه ـ من جواز التكليف بما لا يطاق ، استنادا إلى الآية الشريفة ، إذ لو لم يجز ذلك لم يسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع مؤاخذته عن هذه الأمّة ، وإلّا لغا السؤال. وهو كما ترى في غاية من الضعف ، إذ لا إشكال في قبح التكليف بما لا يطاق ، لأنّ الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. وجواز المؤاخذة على ما خرج من الطاقة قد ظهر وجهه ممّا قدّمناه. مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «وأمّا في الآية فلا يبعد ...».

١١٢٧. إنّما خصّ موارد الإشكال بهذه الأربعة لعدم استقلال العقل بقبح المؤاخذة على البواقي. أمّا الطيرة والحسد والتفكّر في الوسوسة في الخلق فظاهر.

فيها ـ وهي الخطأ والنسيان وما لا يطاق وما اضطرّوا إليه ـ هي بعينها ما استوهبها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ربّه جلّ ذكره ليلة المعراج على ما حكاه الله تعالى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن بقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (١٩).

والذي يحسم أصل الإشكال منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الامور بقبول مطلق ؛ فإن الخطأ والنسيان الصادرين من ترك التحفّظ لا يقبح المؤاخذة عليهما ، وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع إمكان الاحتياط ، وكذا (*) التكليف الشاقّ (١١٢٨) الناشئ عن اختيار المكلّف.

______________________________________________________

وأمّا الإكراه فكذلك أيضا ، ولذا لا يجوز قتل النفس ولو مع الإكراه عليه. وأمّا ما لا يعلمون فلفرض إمكان الاحتياط ، فلا تقبح المؤاخذة عليه كما صرّح به.

ولكنّك خبير بأنّ مجرّد إمكان الاحتياط لو كان رافعا لقبح العقاب عقلا ، فلا يتمّ الاستدلال على أصالة البراءة في شيء من مواردها ، لأنّ مدركها عقلا هو قبح التكليف والعقاب بلا بيان ولو مع إمكان الاحتياط ، كما هو واضح لا سترة عليه. وما قرّرناه في الحاشية السابقة من توضيح دفع الإشكال إنّما كان على ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله ، وإلّا فقد عرفت عدم تماميّته بالنسبة إلى ما لا يعلمون.

اللهمّ إلّا أن يريد بإمكان الاحتياط إمكان إيجابه ، بأن كانت الامم السالفة مؤاخذين بمخالفة الواقع فيما لا يعلمون من الأحكام والموضوعات لأجل وجوب الاحتياط عليهم شرعا ، وقد رفع هذا الوجوب عن هذه الامّة. ولا ريب أنّ العقل إنّما يستقلّ بقبح التكليف والمؤاخذة بلا بيان مع عدم دليل على وجوب الاحتياط ، وإلّا فهو بيان إجمالي عقلا وشرعا كما هو واضح.

١١٢٨. يرد عليه : أنّه إن أراد به التكليف بفعل عسير ، ففيه : أنّ التكليف بالعسير لا قبح فيه ، سواء كان ناشئا من سوء اختيار المكلّف أم لا ، ولذا وقع

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : في.

والمراد ب «ما لا يطاق» في الرواية هو ما لا يتحمّل في العادة ، لا ما لا يقدر عليه أصلا كالطيران في الهواء. وأمّا في الآية فلا يبعد أن يراد به العذاب والعقوبة ، فمعنى (لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ :) لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة. وبالجملة : فتأييد إرادة رفع جميع الآثار بلزوم الإشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ضعيف جدّا.

______________________________________________________

التكليف به في موارد من الشرع.

نعم ، لو كان التكليف به موجبا لاختلال النظم ، أو لوقوع العباد في المعصية غالبا ـ لأنّ الإنسان مجبول بالطبع على الفرار عن التكاليف ، كيف لا لو لم يكن خوف العقاب في المخالفة لم يلتزم أكثر الناس بالأحكام الشرعيّة ، لأنّ إقامتهم بالفرائض واستدامتهم عليها إنّما هي لأجل ذلك ، لا لأجل تحصيل الثواب أو تحصيل رضوان الله الذي هو أكبر من جنّته ، فلو أمر الله تعالى بامور كثيرة شاقّة لم يلتزم بها أكثر الناس ، وخالفوا أو امره تعالى فيها ، فوقعوا بذلك في المعصية ، واستحقّوا لسخطه سبحانه ـ فهو قبيح ، لأنّ التكليف بما يوجب الاختلال أو وقوع العباد غالبا في المعصية قبيح عقلا ، لكون الأوّل منافيا للغرض من خلق العباد وتشريع أحكام بينهم لنظم معادهم ومعاشهم. والثاني مناف للطف الواجب عليه تعالى ، لفرض كون هذا النحو من التكليف مقرّبا للعبد إلى المعصية لا مبعّدا عنه. ولا فرق في ذلك أيضا بين تقصير المكلّف وعدمه. ومع التسليم فلا اختصاص لمورد الرواية بهذا النحو من التكليف الشاقّ حتّى يفصّل فيه بين تقصير المكلّف وعدمه.

وإن أراد به التكليف بما هو خارج من القدرة ، ففيه : أنّ التكليف به قبيح عقلا ، سواء كان مع التقصير أم لا ، لكون التكليف به سفها مطلقا. وما قيل من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لا ربط له بالمقام ، كما قرّرناه في مبحث المقدّمة.

وأضعف منه وهن إرادة العموم بلزوم كثرة الإضمار ، وقلّة الإضمار أولى. وهو كما ترى (١١٢٩) وإن ذكره بعض الفحول ، ولعلّه أراد بذلك أنّ المتيقّن رفع المؤاخذة ورفع ما عداه يحتاج إلى دليل.

وفيه : أنّه إنّما يحسن (١١٣٠) الرجوع إليه بعد الاعتراف بإجمال الرواية ، لا لإثبات ظهورها في رفع المؤاخذة ، إلّا أن يراد إثبات ظهورها (١١٣١) ؛

______________________________________________________

١١٢٩. لإمكان تقدير لفظ جامع بين جميع الآثار ، مثل لفظ الأثر أو الآثار.

١١٣٠. لأنّ مرجع ما ذكر إلى الأخذ بالمتيقّن ممّا هو مراد من اللفظ ، لا بما هو ظاهر منه.

١١٣١. هذا دليل آخر على كون المقدّر هو خصوص المؤاخذة لا جميع الآثار. وحاصله : أنّه على تقدير إجمال حديث الرفع يدور الأمر بين تقدير جميع الآثار أو خصوص المؤاخذة ، إلّا أنّه إذا كان المقدّر هو جميع الآثار لزمه تخصيص العمومات المثبتة للضمان والكفّارة والقضاء والإعادة وغيرها بغير صورة النسيان والخطأ مثلا. وإذا كان المقدّر هو خصوص المؤاخذة بقيت هذه العمومات على ظاهرها من إرادة العموم ، وأصالة الحقيقة فيها تقضي بكون المراد بحديث الرفع هو رفع خصوص المؤاخذة.

وبالجملة ، إنّه إذا ورد عامّ وخاصّ مجمل مردّد بين قلّة الخارج وكثرته ، فأصالة الحقيقة في العموم تقضي بكون المراد بالخاصّ ما هو المتيقّن منه ، فيكون هذا الأصل مبيّنا لحاله ، كما إذا ورد قولنا : أكرم الناس ، وورد أيضا قولنا : لا تكرم الفسّاق ، وتردّد الأمر في الفاسق بين كونه حقيقة في الفاسق بالجوارح خاصّة أو ما يعمّه والفاسق بالعقيدة ، فإنّ أصالة العموم في العامّ تخصّصه بالأوّل.

ويمكن أن يجاب عنه ـ مضافا إلى كون النسبة بين حديث الرفع على فرض تقدير جميع الآثار وبين سائر العمومات عموما من وجه ، والعامّ إنّما يصلح مبيّنا لحال الخاصّ المجمل بالنسبة إلى مورد الإجمال إذا كانت النسبة بينهما عموما و

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوصا مطلقا ، كما ستعرفه من مثال وجوب إكرام الناس وإهانة الفسّاق ، لا عموما وخصوصا من وجه ، إذ لا بدّ حينئذ من الحكم بالإجمال في مورد التعارض ـ بالفرق فيما ذكرنا بين المخصّص والحاكم ، لأنّ تعارض العمومات والمطلقات بالنسبة إلى مخصّصاتها ومقيّداتها إمّا من قبيل تعارض العامّ والخاصّ ، أو المطلق والمقيّد ، أو الحاكم والمحكوم عليه ، أو الوارد والمورود عليه.

والمراد بالأوّلين أنّه إذا ورد حكم على عامّ أو على مطلق ، ثمّ حكم آخر مضادّ له على بعض أفراد هذا العامّ أو على بعض أفراد هذا المطلق ، من دون أن يكون لدليل هذا الخاصّ أو المقيّد نظر بدلالته اللفظيّة إلى العامّ أو المطلق ، فالعقل إذا اطّلع على تعارضهما وتمانعهما يحكم ـ بملاحظة أظهريّة شمول الخاصّ والمقيّد لمورد التعارض ـ بصرف حكم العامّ والمطلق إلى غير مورد التعارض ، فيكون خروجه من تحتها بحسب الحكم دون الموضوع.

والمراد بالثالث أن يكون لدليل أحد الحكمين نظر إلى دليل الآخر ، بأن كان أحدهما مفسّرا بمدلوله اللفظي للمراد من الآخر ، بأن دلّ على كون المراد بالآخر غير مورد التعارض ، كأدلّة نفي الضرر والعسر بالنسبة إلى سائر العمومات والمطلقات المثبتة للتكاليف ، فإنّ مقتضاها بيان اختصاص سائر الأحكام بغير مورد الضرر والعسر. ومن هنا كان تقديم الحاكم على المحكوم عليه من باب التخصّص دون التخصيص ، لأنّ مقتضاه كما عرفت إخراج موضوعه من موضوع المحكوم عليه ، وإن لم يكن على وجه الحقيقة ، بل بحسب حكم الشرع. ولذا لا يعتبر في تقديمه عليه كونه خاصّا بالنسبة إلى المحكوم عليه ، بل يقدّم عليه وإن كان تعارضهما بالعموم من وجه أو غيره.

وأراد بالرابع ما كان دليل أحد الحكمين رافعا لموضوع دليل الآخر على وجه الحقيقة لا بحسب حكم الشرع ، كالأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى البراءة والاحتياط ، إذا قلنا بأنّ المأخوذ في موضوعهما هو التحيّر المرتفع بوجودها حقيقة ،

من حيث إنّ حملها على خصوص المؤاخذة يوجب عدم التخصيص في عموم الأدلّة المثبتة لآثار تلك الامور ، وحملها على العموم يوجب التخصيص فيها ؛ فعموم تلك الأدلّة مبيّن لتلك الرواية ؛ فإنّ المخصّص إذا كان مجملا من جهة تردّده بين ما يوجب كثرة الخارج وبين ما يوجب قلّته ، كان عموم العامّ بالنسبة إلى التخصيص (*) المشكوك فيه مبيّنا لاجماله ، فتأمّل.

______________________________________________________

لا الشكّ بالمعنى الأعمّ من الظنّ غير المعتبر الباقي مع وجودها أيضا. فتقديم الدليل الوارد من باب التخصّص الحقيقي ، وتقديم الدليل الحاكم من باب التخصّص الحكمي.

وإذا عرفت ذلك نقول : إنّه إذا ورد عامّ وخاصّ متنافيا الظاهر ، وكان الخاصّ مجملا بحسب المفهوم ، وكان له أفراد متيقّنة مثل قولنا : أكرم الناس وأهن الفسّاق ، مع التردّد في مفهوم الفسق بأنّه عبارة عن الخروج من الطاعة بالجوارح خاصّة أو أعمّ منه ومن الخروج منها بالاعتقاد ، وحينئذ يخصّص به العامّ بالنسبة إلى الأفراد المتيقّنة منه بحكم التنافي وفهم العرف ، ولكن حيث فرض قصور الخاصّ لإجماله عن الشمول لغيرها ، فيشمله حكم العامّ قضيّة للتمانع الحاصل بينهما لو لا إجمال الخاصّ ، فيخصّ الخاصّ بغير مورد الإجمال. وهذا هو معنى كون العامّ مبيّنا للخاصّ بالنسبة إلى مورد إجماله فيما دار الأمر فيه بين قلّة الخارج وكثرته.

هذا إذا لم يكن الخاصّ مطلقا أو من وجه حاكما على العامّ المعارض له ، إذ قد عرفت أنّ مقتضى قضيّة الحكومة كون الحاكم مفسّرا ومبيّنا بمدلوله اللفظي للمراد بالعامّ المقابل له ، بمعنى كون حكم العامّ مع ملاحظته مع الخاصّ تعليقيّا من حيث الشمول لأفراده كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي ، لأنّ العامّ حينئذ إنّما يقتضي العمل به لو لا شمول الخاصّ الحاكم لمورد العمل به ، كالأصل في مورد

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «التخصيص» ، المخصّص.

وأضعف من الوهن المذكور : وهن العموم بلزوم تخصيص كثير من الآثار بل أكثرها ؛ حيث إنّها لا ترتفع (١١٣٢) بالخطإ والنسيان وأخواتهما. وهو ناش عن عدم تحصيل معنى الرواية كما هو حقّه.

فاعلم : أنّه إذا بنينا على رفع عموم الآثار ، فليس المراد بها الآثار المترتّبة على هذه العنوانات من حيث هي ؛ إذ لا يعقل (١١٣٣) رفع الآثار الشرعيّة المترتّبة على الخطأ والسهو من حيث هذين العنوانين ، كوجوب الكفّارة المترتّب على قتل الخطأ ، ووجوب سجدتي السهو المترتّب على نسيان بعض الأجزاء.

وليس المراد أيضا رفع الآثار المترتّبة على الشيء بوصف عدم الخطأ ، مثل قوله :

______________________________________________________

العمل به بالنسبة إلى الدليل ، ففيما كان الخاصّ مجملا مردّدا بين كثرة الخارج وقلّته ، فالعامّ لا يصلح مبيّنا لحال الخاصّ بالنسبة إلى مورد إجماله ، لما عرفت من كون شمول الدليل المحكوم لمورد التعارض معلّقا على عدم شمول الحاكم له ، فمع إجمال الحاكم في الجملة فالدليل المحكوم لا يصلح لمدافعة حكم الخاصّ عن مورد إجماله ، لسكوته عن مدافعته عنه ، فيصير مجملا بالنسبة إليه ، بخلافه في مسألة تعارض العامّ والخاصّ على ما عرفت.

وممّا ذكرناه يظهر حال مقايسة ما نحن فيه على ما ذكرناه ، فلا وجه للحكم بكون العمومات المثبتة للتكاليف مبيّنة لحال حديث الرفع بالنسبة إلى مورد تعارضهما ، لفرض حكومته عليها. ولعلّه إلى ما ذكرناه أشار المصنّف رحمه‌الله بالأمر بالتأمّل.

١١٣٢. كالضمان فيما أتلف مال الغير خطأ ، ووجوب القضاء إذا نسي صلاته حتّى خرج الوقت ، أو أتى بإحدى المبطلات نسيانا أو إكراها ، وكوجوب الدية على العاقلة في قتل الخطأ ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع في مسائل العبادات والمعاملات من أبواب الفقه.

١١٣٣. إذ لو رفعت هذه الآثار لأجل الخطأ والنسيان مثلا لزم منه التناقض.

«من تعمّد الافطار فعليه كذا» ؛ لأنّ هذا الأثر يرتفع بنفسه (١١٣٤) في صورة الخطأ ، بل المراد (١١٣٥) أنّ الآثار المترتّبة على نفس الفعل لا بشرط الخطأ والعمد قد رفعها الشارع عن ذلك الفعل إذا صدر عن خطأ. ثمّ المراد بالآثار : هي الآثار المجعولة الشرعيّة التي وضعها الشارع ؛ لأنّها هي القابلة للارتفاع برفعه ، وأمّا ما لم يكن بجعله من الآثار العقليّة (١١٣٦) والعاديّة (١١٣٧) فلا تدلّ الرواية على رفعها

______________________________________________________

١١٣٤. لفرض أخذ العمد في موضوعه.

١١٣٥. حاصله : أنّه بعد استثناء القسمين المذكورين ، وكذا ما سيصرّح به من الآثار العقليّة والعاديّة ، والآثار الشرعيّة المرتّبة على أحدهما من الآثار المقدّرة ، وتخصيص المقدّر بالآثار الشرعيّة المرتّبة على الأفعال من حيث هي ، لا بوصف العمد والتذكّر ، ولا بوصف الخطأ والنسيان ، لا يلزم منه تخصيص الأكثر ، إذ لم يثبت خروج أكثر هذه الآثار المرتّبة عليها من حيث هي من تحت عموم حديث الرفع ، إذ خروجها في جميع موارد الاستثناء في غير ما ثبت بالدليل الخاصّ خلافي مبنيّ على كون المقدّر في حديث الرفع هو جميع الآثار أو خصوص المؤاخذة. وبالجملة ، إنّ ترتّب هذه الآثار على موضوعاتها ليس مسلّما مطلقا ـ سواء حمل حديث الرفع على العموم أم لا ـ حتّى يلزم المحذور على تقدير حمله على العموم ، كما هو واضح.

١١٣٦. كبطلان (*) العبادة المرتّب على نسيان بعض الأجزاء والشرائط.

١١٣٧. كالإسكار المرتّب على شرب الخمر ولو نسيانا ، والتألّم المرتّب على الضرب ولو خطأ.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «لأنّ البطلان عبارة عن مخالفة المأتيّ به للمأمور به ، وهي أمر عقلي. منه».

ولا رفع الآثار (١١٣٨) المجعولة المترتّبة عليها.

ثمّ المراد بالرفع (١١٣٩) ما يشمل عدم التكليف مع قيام المقتضي له ، فيعمّ الدفع ولو بأن يوجّه (١١٤٠) التكليف على وجه يختصّ بالعامد ، وسيجيء بيانه.

فإن قلت (١١٤١) : على ما ذكرت يخرج أثر التكليف في «ما لا يعلمون» عن مورد الرواية ؛ لأنّ استحقاق العقاب أثر عقلي له مع أنّه متفرّع على المخالفة بقيد العمد ؛ إذ مناطه ـ أعني المعصية ـ لا يتحقق إلّا بذلك. وأمّا نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعيّة. والحاصل أنّه ليس في «ما لا يعلمون» أثر مجعول من الشارع مترتّب على الفعل لا بقيد العلم ولا الجهل حتّى يحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل.

قلت : قد عرفت أنّ المراد ب «رفع التكليف» عدم توجيهه إلى المكلّف مع قيام المقتضي له ، سواء كان هنا دليل يثبته لو لا الرفع أم لا ، فالرفع هنا نظير رفع الحرج في الشريعة ، وحينئذ : فإذا فرضنا أنّه لا يقبح في العقل أن يوجّه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشكّ فيه ، فلم يفعل ذلك ولم يوجب تحصيل

______________________________________________________

١١٣٨. كوجوب الإعادة المرتّب على مخالفة المأتيّ به للمأمور به الناشئة من نسيان بعض الأجزاء والشرائط.

١١٣٩. لعلّ الوجه فيه صدقه عرفا مع قيام المقتضي وإن لم يشمله خطاب لفظي. وعلى تقدير أخذ الرفع أعمّ من الدفع يندفع هنا إشكالان ، أحدهما عن الاصول ، وهو ما أشار إليه بطريق السؤال ، لأنّ ما أجاب به عنه متفرّع على ما ذكرناه ، كما هو واضح. والآخر عن الفروع ، وهو ما أشار إليه بقوله : «ونظير ذلك ما ربّما يقال ...».

١١٤٠. الأولى ترك لفظ «ولو» بأن يقتصر على قوله : «بأن يوجّه ...».

١١٤١. حاصله : أنّه على تقدير إرادة عموم الآثار قد فرضنا أنّها لا تدلّ على رفع الآثار العقليّة ، ولا الآثار الشرعيّة المرتّبة على وصف العمد ، وحينئذ يرد على التمسّك بها لإثبات رفع المؤاخذة سؤالان :

العلم ولو بالاحتياط ، ووجّه التكليف على وجه يختصّ بالعالم تسهيلا على المكلّف كفى في صدق الرفع. وهكذا الكلام في «الخطأ والنسيان» ، فلا يشترط في تحقّق الرفع وجود دليل يثبت التكليف في حال العمد وغيره.

نعم ، لو قبح عقلا المؤاخذة على الترك ، كما في الغافل الغير المتمكّن من الاحتياط ، لم يكن في حقّه رفع أصلا ؛ إذ ليس من شأنه أن يوجّه إليه التكليف. وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التحريم في «ما لا يعلمون» عدم إيجاب الاحتياط والتحفّظ فيه حتّى يلزمه ترتّب العقاب إذا أفضى ترك التحفّظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي. وكذلك الكلام في رفع أثر النسيان والخطأ ؛ فإنّ مرجعه إلى عدم إيجاب التحفّظ عليه ؛ والّا فليس في التكاليف ما يعمّ صورة النسيان لقبح تكليف الغافل.

والحاصل : أنّ المرتفع في «ما لا يعلمون» وأشباهه ممّا لا يشمله أدلّة التكليف هو إيجاب التحفّظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي ، ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه ؛ فالمرتفع أوّلا وبالذات أمر مجعول يترتّب عليه ارتفاع أمر غير مجعول.

______________________________________________________

أحدهما : أنّ أثر التكليف فيما لا يعلمون هو استحقاق المؤاخذة ، وهو أثر عقليّ لا يرتفع بحديث الرفع.

وثانيهما : مع التسليم أنّ الاستحقاق مترتّب على المخالفة بقيد العمد ، لكونه آثار العصيان الذي لا يتحقّق بدون المخالفة العمديّة ، وأمّا نفس المؤاخذة فارتفاعها لا يمكن أن يكون مرادا من الرواية ، لأنّها من الأفعال الخارجة التي لا تقبل الارتفاع برفع الشارع ، فلا بدّ أن يكون مراد من ادّعى ظهور الرواية في رفع المؤاخذة هو ظهورها في رفع استحقاقها لا محالة ، مع أنّك قد عرفت فيه الإشكال من الوجهين.

وحاصل ما أجاب به : أنّ المراد بالرفع ليس هو رفع الاستحقاق ابتداء ، بل هو رفع الخطاب بمعنى عدم توجّهه على وجه يشمل موارد الأشياء التسعة ، إمّا بعدم إرادة مواردها من الخطابات المثبتة للتكاليف على وجه الإطلاق ، وإمّا بتوجيه الخطاب على وجه يختصّ بغيرها مع قيام المقتضي للإطلاق ، ويترتّب عليه ارتفاع الاستحقاق والمؤاخذة. والمراد برفع المؤاخذة في كلماتهم هو ما ذكرناه عبّر به

ونظير ذلك ما ربّما يقال في ردّ من تمسّك على عدم وجوب الإعادة على من صلّى في النجاسة ناسيا بعموم حديث الرفع : من أنّ وجوب الإعادة وإن كان حكما شرعيّا ، إلّا أنّه مترتّب على مخالفة المأتيّ به للمأمور به الموجبة لبقاء الأمر الأوّل ، وهي ليست من الآثار الشرعيّة للنسيان ، وقد تقدّم أنّ الرواية لا تدلّ على رفع الآثار الغير

______________________________________________________

عنه مسامحة ، لكون المقصود الأصلي في موارد أصل البراءة هو ذلك ، لا ارتفاع الخطاب ، سيّما وأنّ العقل لا يحكم في مواردها بأزيد من ذلك.

ومن هنا يظهر وجه دلالة حديث الرفع على ردّ القول بالاحتياط ، لأنّه مع فرض دلالته على عدم توجيه الخطاب على وجه يوجب الاحتياط في موارد الشكّ في التكليف ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، يكون هذا الخبر معارضا لما دلّ على وجوب الاحتياط فيها ، فلا بدّ حينئذ من إجراء حكم التعارض عليها. فهو نظير قوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» في ظهور الدلالة على عدم وجوب الاحتياط. وإنّما صرّح المصنّف رحمه‌الله بكونه أوضح من جميع الأخبار المستدلّ بها للمقام ، مع عدم قصور حديث الرفع عنه في الدلالة ، لمّا تقدّم من استشكاله في شموله للشبهات الحكميّة التي هي محلّ الكلام في المقام. ولكنّا قد أسلفنا ما يناقش فيه أو يمنعه ، فراجع.

واعلم أنّه على المقام إشكال ، وهو أنّ قول المصنّف رحمه‌الله : «فإذا فرضنا أنّه لا يقبح في العقل ...» إلى آخر ما ذكره ، ينافي استقلال العقل بقبح التكليف بلا بيان كما هو مدرك أصالة البراءة ، إذ لا ريب في منافاته لعدم قبح توجيه الخطابات الواقعيّة على وجه يشمل موارد الشبهات البدويّة ويقتضي وجوب الاحتياط فيها ، إذ مقتضى القضيّة الاولى هو قبح توجيه الخطابات الواقعيّة على الوجه المذكور ، ومقتضى الثانية هو عدم قبحه ، وحيث كان قبحه مسلّما فلا يصحّ أخذ الرفع في الخبر أعمّ منه ومن الدفع.

المجعولة ولا الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها كوجوب الإعادة فيما نحن فيه.

ويردّه ما تقدّم في نظيره من أنّ الرفع راجع إلى شرطيّة طهارة اللباس بالنسبة إلى الناسي ، فيقال بحكم حديث الرفع : إنّ شرطيّة الطهارة شرعا مختصّة بحال الذكر ، فيصير صلاة الناسي في النجاسة مطابقة للمأمور به ، فلا يجب الإعادة. وكذلك الكلام في الجزء المنسي ، فتأمّل (١١٤٢).

______________________________________________________

١١٤٢. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى كون الشرطيّة والجزئيّة وغيرها من الأحكام الوضعيّة ـ على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله تبعا للمحقّقين من العلماء ـ امورا اعتباريّة ، فلا يرتفع بحديث الرفع. ومع تسليم كون أحكام الوضع مجعولة فلا ريب أنّ الجزئيّة ليست منها ، إذ المسلّم منها الشرطيّة والمانعيّة والسببيّة خاصّة ، أو هي مع الصحّة والبطلان.

وفيه : أنّها وإن كانت امورا اعتباريّة إلّا أنّها منتزعة من الأحكام الطلبيّة ، ولا ريب في ارتفاع الأحكام الطلبيّة بسبب الخطأ والنسيان مثلا ، فيتبعها ارتفاع ما ينتزع منها لا محالة. ومن هنا أمكن أن يقال : إنّ القول باختصاص الخبر برفع خصوص المؤاخذة إنّما تتمّ على القول بكون الأحكام الوضعيّة مجعولة للشارع ، وإلّا فعلى القول بكونها منتزعة من الأحكام الطلبيّة فلا بدّ من ارتفاعها بارتفاع منشأ انتزاعها.

أقول : هذا وجه حسن في الجملة ، لأنّا إن قلنا بكونها مجعولة من قبل الشارع ، فلا ريب أنّ رفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان مثلا لا يوجب رفعها أيضا ، لأنّ عدم المؤاخذة على إتلاف مال الغير خطأ لا يوجب ارتفاع ضمانه أيضا ، وكذلك الإكراه على ما يوجب فساد الصلاة لا يوجب ارتفاع فسادها أيضا ، وهكذا. وإن قلنا بكونها منتزعة من الأحكام الطلبيّة ، فلا ريب أنّ كثيرا ممّا يطلق عليه اسم الحكم الوضعي ليس من المجعولات الشرعيّة ولا منتزعا من الأحكام الطلبيّة ، حتّى يرتفع في صورة الخطأ والنسيان مثلا بارتفاعه من حيث نفسه أو باعتبار ارتفاع

.................................................................................................

______________________________________________________

منشأ انتزاعه ، بل هو من الامور الواقعيّة ، كالطهارة والنجاسة والملكيّة والرقيّة والحريّة والإسلام والكفر ونحوها ، وإطلاق الحكم الوضعي عليها من باب المسامحة.

نعم ، ما كان منها منتزعا من الأحكام الطلبيّة لا بدّ أن يرتفع بارتفاع منشأ انتزاعه ، والمسلّم منه هي الشرطيّة والمانعيّة والسببيّة ، لأنّ المسلّم من الأحكام الوضعيّة التي اختلفوا في كونها مجعولة أو منتزعة هي هذه ، فلا بدّ في الحكم بارتفاعها باعتبار ارتفاع منشأ انتزاعها أن يقتصر عليها.

هذا ، ويحتمل أن يكون الأمر بالتأمّل إشارة إلى التأمّل في صحّة عبادة ناسي بعض الأجزاء ، لأنّ صحّتها عبارة عن موافقة الأمر المتوجّه إليه مع اعتبار قصد موافقتها له ، وإلّا فلا يتحقّق الامتثال المعتبر في صحّتها. وحينئذ إذا نسي المصلّي أحد أجزاء صلاته وأتى بباقي أجزائها ، فإن كان تكليفه في الواقع بتسعة أجزاء ، يجب عليه الإتيان بما أتى به بعنوان كونه مركّبا من تسعة أجزاء ، ليتحقّق منه قصد موافقة الأمر المتوجّه إليه ، والحال أنّه في حال النسيان معتقد بكون ما أتى به مركّبا من عشرة أجزاء التي هي تكليف المتذكّر ، وإن كان تكليفه بعشرة أجزاء ، فالمفروض عدم موافقة ما أتى به لتكليفه الواقعي. وعلى كلّ تقدير لا يمكن الحكم بصحّة ما أتى به. ومن هنا قد التزم جماعة بعدم كون ما أتى به ناسي بعض الأجزاء مأمورا به ، وأنّه حيثما ثبت جواز الاجتزاء به شرعا ـ كما في ناسي بعض الأجزاء غير الركنيّة ـ فهو أمر أجنبيّ مسقط للمأمور به. ولكنّه خلاف ظاهر العلماء ، لأنّ ظاهرهم كون ما أتى به الناسي هو المأمور به الواقعي ، بل هو خلاف ظاهر الأخبار أيضا ، لأنّ ظاهرها تماميّة الصلاة حينئذ ، مثل ما رواه جعفر عن أبيه : «أنّ عليّا عليه‌السلام سئل عن رجل ركع ولم يسبّح ، قال : تمّت صلاته». وقوله عليه‌السلام فيمن أفطر نسيانا : «رزق رزقه الله».

نعم ، يمكن أن يقال بعدم اعتبار قصد الموافقة بالنسبة إلى الشرائط ، بأن لا يعتبر

واعلم أيضا أنّه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار ، فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الامّة ، كما إذا استلزم إضرار المسلم ؛ فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضمان ، وكذلك الإضرار بمسلم (١١٤٣) لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم «ما اضطروا إليه» ، إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل بإضرار الغير ؛ فليس الإضرار بالغير نظير سائر المحرّمات الإلهيّة المسوّغة لدفع الضرر.

______________________________________________________

القصد إلى كون المأتيّ به مستجمعا لها في تحقّق الامتثال إذا فرض تحقّقها في الواقع ، ولذا يجوز الأمر بالعبادة من دون بيان الشرائط إذا كان المكلّف مستجمعا لها في الواقع. وحينئذ لا يرد الإشكال المذكور بالنسبة إلى ناسي بعض الشرائط.

هذا ، ويمكن دفع الإشكال بالنسبة إلى الأجزاء أيضا بمنع اعتبار موافقة المأتيّ به للمقصود في تحقّق الامتثال إذا فرض موافقته للواقع ، بأن كان المعتبر في صحّة العبادة قصد مطابقة المأتيّ به للواقع مع موافقته له ، وإن لم يكن الواقع المقصود مطابقا للواقع المكلّف به. فإذا كان تكليف الناسي بتسعة أجزاء إلّا أنّه أتى بها باعتقاد كون المأتيّ به مركّبا من عشرة أجزاء ، وأنّه تكليف في الواقع ، كفى ذلك في صحّة الفعل ، وتحقّق به الامتثال.

١١٤٣. اعلم أنّه إذا أكره شخص آخر على إتلاف مال ، وأمكن له دفع الضرر عنه بإدخاله على الآخر ، هو يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يتوجّه الإضرار من المكره ـ بالكسر ـ أوّلا وبالذات إلى المكره ـ بالفتح ـ إلّا أنّه دفعه عن نفسه بإدخاله على الآخر. ولا ريب في كون ارتفاع الضمان عن المكره ـ بالفتح ـ حينئذ منافيا للامتنان.

وثانيها : أن لا يتعلّق غرضه بإدخال الضرر على خصوص. أحدهما ، بل بإتلاف مال في الجملة ، فدفع المكره ـ بالفتح ـ ذلك عن نفسه بإدخال الضرر على غيره. وهو أيضا كسابقه.

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثها : أن يتعلّق الغرض أوّلا وبالذات بإدخال الضرر على شخص ، فأكره آخر على الإضرار به. ولا ريب في عدم منافاة ارتفاع الضمان من المكره ـ بالفتح ـ للامتنان ، لكون السبب هنا أقوى من المباشر ، فيكون ضرر صاحب المال منجبرا بضمان المكره ـ بالكسر ـ. وهذا هو المشهور. ولكن يمكن أن يقال بعدم ارتفاع الضمان عن المكره في هذه الصورة أيضا ، بأن كان استقرار الضمان على المكره ـ بالكسر ـ ، فيتخيّر المضمون له في الرجوع إلى من أراد منهما ، فإن رجع إلى المكره ـ بالفتح ـ فهو يرجع إلى المكره ـ بالكسر ـ. بل ربّما يشكل ارتفاع الحكم التكليفي حينئذ أيضا ـ كما هو ظاهر العلماء ـ إذا أمكن دفع الضرر عن الغير بإدخال ضرر يسير على نفسه ، بأن أكره على الإضرار بعرض الغير أو على إتلاف أموال كثيرة للغير ، وأمكن له دفعه بتحمّله لضرر يسير ، وحينئذ فلا بدّ من ملاحظة أقوى الضررين ، فتأمّل.

هذا ، ويمكن تقرير الاستدلال بحديث الرفع على وجه لا ينهض لرفع الضمانات وإن قلنا بعمومه لجميع الآثار ، بأن يقال : إنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «رفع عن أمّتي تسعة أشياء» هو رفع الأحكام التي لو كانت ثابتة كان ثبوتها على وجه الكلفة والمشقّة للمكلّفين ، سواء كانت إلزاميّة من الشارع أم كانت إمضائيّة بعد التزام المكلّف بها ، كما في النذر والعهد وشبههما ، لأنّ هذا هو الظاهر من رفع الامور التسعة في مقام الامتنان على الأمّة. ولا ريب أنّ المسبّبات الشرعيّة المرتّبة على أسبابها ، مثل الضمان المرتّب على إتلاف مال الغير ، والجنابة على التقاء الختانين ، وبطلان العبادات والمعاملات على مبطلاتها ، ونحو ذلك ، ليس ورودها من الشارع على وجه الكلفة والمشقّة للمكلّفين ، إذ لو كان كذلك لزم عدم تأثيرها مع صدورها عن الصبيّ والمجنون ، مع أنّ الإتلاف سبب للضمان مطلقا ، وكذا التقاء الختانين للجنابة كذلك ، وإن كان التكليف بدفع العوض وبالغسل متعلّقا بالصبيّ والمجنون بعد البلوغ والإفاقة. وعلى هذا يدخل في عموم النبويّ جميع الأحكام

وأمّا ورود الصحيحة المتقدّمة عن المحاسن في مورد حقّ الناس ـ أعني العتق والصدقة ـ فرفع أثر الإكراه عن الحالف يوجب فوات نفع على المعتق والفقراء ، لا إضرارا بهم. وكذلك رفع أثر الإكراه عن المكره فيما إذا تعلّق (*) بإضرار مسلم ، من باب عدم وجوب تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الغير ولا ينافي الامتنان ، وليس من باب الإضرار على الغير لدفع الضرر عن النفس لينافي ترخيصه الامتنان على العباد ؛ فإنّ الضرر أوّلا وبالذات متوجّه على الغير بمقتضى إرادة المكره ـ بالكسر ـ لا على المكره ـ بالفتح ـ ، فافهم.

بقي في المقام شيء وان لم يكن مربوطا به وهو أنّ النبويّ المذكور مشتمل على ذكر «الطيرة» و «الحسد» و «التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفتيه». وظاهره رفع المؤاخذة على الحسد مع مخالفته لظاهر الأخبار الكثيرة (١١٤٤). ويمكن حمله على ما لم يظهر الحاسد أثره باللسان أو غيره بجعل عدم النطق باللسان قيدا له أيضا.

______________________________________________________

الإلزاميّة والالتزاميّة ، مثل البيوع والمضاربة والأنكحة والطلاق والعهود والنذور والأيمان وغيرها ، فيرتفع جميع الآثار المرتّبة عليها في صورة الخطأ والنسيان مثلا ، ويخرج منه جميع المسبّبات المرتّبة على أسبابها الشرعيّة ، وكذلك المستحبّات والمكروهات والمباحات ، لوضوح عدم ورودها من الشارع على وجه الكلفة على العباد ، فلا يمكن نفيها بعموم النبويّ.

١١٤٤. بل الآيات أيضا ، مثل قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ.) وقوله عزوجل : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.) ومن الأخبار قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحسد يأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب». وقال عليه‌السلام : «قال الله تعالى لموسى بن عمران : لا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلي ، ولا تمدّنّ عينيك إلى

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الإكرام.

ويؤيّده تأخير الحسد عن الكلّ في مرفوعة النهديّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام المرويّة في آخر أبواب الكفر والإيمان من اصول الكافي : «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد ما لم يظهر بلسان أو بيد ...» (٢٠). ولعلّ الاقتصار في النبويّ الأوّل على قوله : «ما لم ينطق» ؛ لكونه أدنى مراتب الإظهار. وروي : «ثلاثة لا يسلم منها أحد : الطيرة ، والحسد ، والظنّ. قيل : فما نصنع؟ قال : إذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقّق» (٢١).

والبغي عبارة عن استعمال الحسد ؛ وسيأتي في رواية الخصال : «إنّ المؤمن لا يستعمل حسده» ، ولأجل ذلك عدّ في الدروس من الكبائر ـ في باب الشهادات ـ إظهار الحسد لا نفسه ، وفي الشرائع : إنّ الحسد معصية وكذا الظنّ بالمؤمن ، والتظاهر بذلك قادح في العدالة. والإنصاف : أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك.

وأمّا «الطّيرة» ـ بفتح الياء وقد يسكّن ـ : وهي في الأصل التشؤّم بالطير ؛ لأنّ أكثر تشؤم العرب كان به ، خصوصا الغراب. والمراد : إمّا رفع المؤاخذة عليها ؛ ويؤيّده ما روي من : «أنّ الطيرة شرك وإنّما يذهبه التوكّل» ، وإمّا رفع أثرها ؛ لأنّ التطيّر كان يصدّهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع.

______________________________________________________

ذلك ، ولا تتبعه نفسك ، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي ، صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي» إلى غير ذلك من الآيات والأخبار المتكاثرة. وهي بإطلاقها ـ على كثرتها ـ تمنع من التقييد بصورة الإظهار باللسان ، وإن شهد به بعض أخبار الوضع كما زعمه المصنّف رحمه‌الله. ويمكن الجمع بحمل الأخبار المطلقة على صورة العمد والقصد ، سواء أظهره باللسان ونحوه أم لا ، وأخبار الوضع على الخطرات الواردة على القلب. ولعلّ هذا الجمع أولى من الأوّل ، إذ من البعيد عدم حرمة الحسد مع العمد والقصد إليه وإن لم يظهره باللسان.

وأمّا «الوسوسة في التفكّر في الخلق» كما في النبويّ الثاني أو «التفكّر في الوسوسة فيه» كما في الأوّل ، فهما واحد ، والأوّل أنسب ، ولعلّ الثاني اشتباه من الراوي. والمراد به ـ كما قيل ـ : وسوسة الشيطان للانسان عند تفكّره في أمر الخلقة ؛ وقد استفاضت الأخبار بالعفو عنه.

ففي صحيحة جميل بن درّاج ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّه يقع في قلبي أمر عظيم ، فقال عليه‌السلام : قل : لا إله إلّا الله ، قال جميل : فكلّما وقع في قلبي شيء قلت : لا إله إلّا الله ، فذهب عني» (٢٢). وفي رواية حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن الوسوسة وإن كثرت ، قال : «لا شيء فيها ، تقول : لا إله إلّا الله» (٢٣). وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا رسول الله ، إنّي هلكت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله له : أتاك الخبيث ، فقال لك : من خلقك؟ فقلت : الله تعالى ، فقال : الله من خلقه؟ فقال : إي والذي بعثك بالحقّ قال كذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك والله محض الإيمان». قال ابن أبي عمير : فحدّثت ذلك عبد الرحمن بن الحجّاج ، فقال : حدّثني أبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما عنى بقوله : «هذا محض الإيمان» خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض في قلبه ذلك» (٢٤). وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والّذي بعثني بالحقّ إنّ هذا لصريح الإيمان ، فإذا وجدتموه فقولوا : آمنّا بالله ورسوله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله» (٢٥). وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم ، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلّكم ، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله تعالى وحده» (٢٦). ويحتمل أن يراد بالوسوسة في الخلق : الوسوسة في امور الناس وسوء الظنّ بهم ، وهذا أنسب بقوله : «ما لم ينطق بشفتيه».

ثمّ هذا الذي ذكرنا هو الظاهر المعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة. وفي الخصال بسند فيه رفع عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : ثلاث لم يعر منها نبيّ فمن دونه : الطيرة ، والحسد ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق» (٢٧). وذكر الصدوق رحمه‌الله في تفسيرها : أنّ المراد بالطيرة التطيّر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المؤمن ، لا تطيّره ؛ كما حكى الله عزوجل عن الكفّار : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) (٢٨) والمراد ب «الحسد» أن يحسد ، لا أن يحسد ؛ كما قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ

اللهُ) (٢٩). والمراد ب «التفكّر» ابتلاء الأنبياء عليهم‌السلام بأهل الوسوسة ، لا غير ذلك ؛ كما حكى الله عن الوليد بن مغيرة : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (٣٠) ، فافهم. وقد خرجنا في الكلام في النبويّ الشريف عمّا يقتضيه وضع الرسالة.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم». فإنّ المحجوب حرمة شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد. وفيه : أنّ الظاهر ممّا حجب الله (١١٤٥) علمه ما لم يبيّنه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم بمعصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره (١١٤٦) ؛ فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها ؛ رحمة من الله لكم» (٣١).

ومنها : قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٣٢). فإنّ كلمة «ما» إمّا موصولة اضيف إليه السعة وإمّا مصدريّة ظرفيّة ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب. وفيه : ما تقدّم (١١٤٧) في الآيات من أنّ الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع.

______________________________________________________

١١٤٥. بقرينة نسبة الحجب إلى نفسه تعالى. وحاصل ما ذكره : أنّ قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد» يحتمل أن يراد منه معنى : ما لم يبيّنه الله تعالى لهم. ويحتمل أن يراد منه معنى : ما اختفى علمه عليهم لأجل طروّ الحوادث الخارجة. والظاهر بقرينة ما قدّمناه هي إرادة المعنى الأوّل ، وعليه فلا دلالة في الرواية على المدّعى.

١١٤٦. لعلّ المراد بالأوّل إخفاء الحقّ ، وبالثاني تلبيسه بالباطل بعد ظهوره.

١١٤٧. يمكن منع ورود ما تقدّم في الآيات هنا ، بناء على كون كلمة «ما» موصولة ، لأنّ ظاهر الرواية حينئذ عدم كون الناس في ضيق من جهة جهلهم بحكم فعل ، ولا ريب أنّ وجوب الاحتياط في الشبهات ضيق من جهة الجهل بالحكم الواقعي ، فينفى وجوبه بمقتضى الرواية ، فتكون هذه الرواية حينئذ معارضة لأخبار

ومنها : رواية عبد الأعلى (١١٤٨) عن الصادق عليه‌السلام : «قال : سألته عمّن لم يعرف شيئا ، هل عليه شيء؟ قال : لا» (٣٣). بناء على أنّ المراد بالشيء الأوّل فرد معيّن مفروض في الخارج حتّى لا يفيد العموم في النفي ، فيكون المراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول؟ وأمّا بناء على إرادة العموم فظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا.

ومنها صلى‌الله‌عليه‌وآله : قوله : «أيّما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (٣٤). وفيه : أنّ الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك : «فلان عمل بكذا بجهالة» هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كون فعله صوابا أو خطأ. ويؤيّده أنّ تعميم الجهالة لصورة التردّد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر (١١٤٩) ، وسياقه يأبى عن التخصيص (١١٥٠) ، فتأمّل (١١٥١).

______________________________________________________

الاحتياط إن تمّت دلالة وسندا.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ على المختار من كون وجوب الاحتياط إرشاديّا من باب وجوب المقدّمة العلميّة ، وأمّا على ما هو ظاهر العلماء من كون وجوبه شرعيّا فيمكن أن يقال : إنّ الجهل بالحكم موضوع من الموضوعات ، والشارع قد جعل حكما ورتّبه عليه ، فليس هذا الحكم ثابتا بعنوان الضيق عند الجهل بالحكم الواقعي ، بل هو كسائر الأحكام الشرعيّة المرتّبة على موضوعاتها الواقعيّة.

١١٤٨. إنّما لم يتعرّض لردّ هذه الرواية لوضوح ضعف دلالتها ، لعدم دلالتها على المدّعى ، سواء اريد بالشيء شيء معيّن أو غير معيّن ، كما هو واضح.

١١٤٩. إذ لا إشكال في ثبوت المؤاخذة على الشاكّ المقصّر.

١١٥٠. لأنّ ظاهر الرواية لأجل بيان منشأ العذر إعطاء قاعدة عقليّة مطّردة في جميع مواردها.

١١٥١. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى عدم المناص من ارتكاب التخصيص ، وإن قلنا بكون المراد بالجهالة اعتقاد الصواب أيضا ، إذ لا ريب في ثبوت المؤاخذة

ومنها : قوله : عليه‌السلام : «إنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم» (٣٥). وفيه : أنّ مدلوله (١١٥٢) ـ كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار ـ ممّا لا ينكره الأخباريّون.

ومنها : قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه (١١٥٣) : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٣٦).

______________________________________________________

على الجاهل بالأحكام إذا كان مقصّرا ، سواء كان شاكّا أو معتقدا للصواب ، وإلّا لم يحسن عقاب كثير من الكفّار المعتقدين لحقّية مذهبهم ، إذ لا وجه له سوى كونهم مقصّرين. اللهمّ إلّا أن يحمل على إرادة الجهل بالموضوعات ، ولكنّ الرواية حينئذ تخرج من الدلالة على المدّعى.

١١٥٢. يمكن أن يقال بكون الرواية مساوقة لقوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم». وقد يقال : إنّ الاستدلال بالرواية إنّما هو من جهة دلالتها على عدم احتجاجه تعالى على العباد بما لم يأتهم ولم يعرّفهم ، بناء على كون الشبهات التحريميّة أيضا ممّا لم يعرّف الله حكمها على العباد ، فهي غير محجوج بها عليهم ، وهي إنّما تدلّ عليه على القول باعتبار مفهوم اللقب ، وهو ضعيف. وفيه : أنّ المفهوم المدلول عليه بقرينة السياق أو المقام أو غيرهما لم ينازع أحد في حجّيته.

١١٥٣. قد أجاب عنها في الوسائل بوجوه :

أحدها : الحمل على التقيّة ، لأنّ العامّة يقولون بحجيّة الأصل ، فتضعف عن مقاومة ما دلّ على وجوب الاحتياط. مضافا إلى كونها خبرا واحدا لا يعارض المتواتر.

وفيه : أنّ فيه اعترافا بظهور الدلالة ، وسيجيء بيان ضعف دلالة أخبار الاحتياط على الوجوب ، فلا وجه لالتماس الترجيح بعد فرض ضعف الدلالة. مضافا إلى أنّه مع ذهاب معظم أصحابنا ـ بل كلّهم سوى طائفة قليلة ـ إلى البراءة

.................................................................................................

______________________________________________________

لا وجه لحمل الخبر على التقيّة ، وإن كانت البراءة مذهبا للعامّة أيضا.

وثانيها : الحمل على الخطاب الشرعيّ ، يعني : أنّ كلّ شيء من الخطابات الشرعيّة يتعيّن حمله على إطلاقه أو عمومه حتّى يرد فيه نهي يخصّص بعض الأفراد ويخرجه من الإطلاق. مثاله : قولهم عليهم‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» فإنّه محمول على إطلاقه ، فلمّا ورد النهي عن استعمال كلّ واحد من الإنائين إذا نجس أحدهما واشتبها ، تعيّن تقييده بغير هذه الصورة. وفيه ما لا يخفى على أحد.

وثالثها : الحمل على بيان حكم الشبهات الموضوعيّة. وفيه : أنّه تقييد بلا دليل ، بل هو غير ممكن ، لأنّ النهي إنّما يرد على العناوين الكلّية لا الموضوعات الخارجة.

ورابعها : أنّ النهي فيها عامّ للنهي العامّ والخاصّ ، والأوّل قد بلغنا في الشبهات بأخبار الاحتياط. وفيه : أنّ ظاهرها إرادة النهي الخاصّ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وخامسها : حملها على بيان حكم المشتبهات قبل كمال الشريعة وتمامها ، وأمّا بعد انتشارها وانبساط الأحكام فلم يبق شيء على حكم البراءة.

وفيه أنّه لا دليل على هذا التقييد ، مع أنّه مروي عن الصادق عليه‌السلام ، والشريعة قد أكملت في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمع تأخّر ورودها عن إتمام الشرع كيف يحمل على ما قبله؟

وسادسها : الحمل على بيان حكم من لم تبلغه أحاديث النهي عن ارتكاب الشبهات والأمر بالاحتياط ، لاستحالة تكليف الغافل عقلا ونقلا. وفيه : أنّه خلاف ظاهر الرواية كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وسابعها : الحمل على الشبهات الوجوبيّة ، بحمل النهي على إرادة النهي عن الترك. وفيه : أيضا ما تقدّم في جملة من سوابقه من كونه تقييدا بلا دليل ، بل هو

استدلّ به الصدوق على جواز القنوت بالفارسية ، واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبت الحظر من دين الامامية. ودلالته على المطلب أوضح من الكلّ ، وظاهره عدم وجوب الاحتياط ؛ لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم ، فإن تمّ ما سيأتي من أدلّة الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ، ثمّ الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض.

وقد يحتجّ بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج (١١٥٤) ،

______________________________________________________

خلاف ظاهر الرواية.

وثامنها : الحمل على بيان حكم الأشياء المهمّة التي تعمّ بها البلوى ، ويعلم أنّه لو كان فيها حكم مخالف للأصل لنقل. وفيه : أيضا أنّه تقييد بلا دليل.

وبالجملة ، إنّ بعد هذه التوجيهات غير خفيّ على أحد ، إلّا أنّ الشيخ الحرّ العاملي قدس‌سره قد التجأ إليها بزعم تواتر أخبار الاحتياط وتماميّة دلالتها.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ظاهر الرواية هو ورود النهي عن الشارع وصدوره عنه لا وصوله إلينا حتّى تجدي في المقام ، لأنّ المقصود في المقام إثبات البراءة في كلّ ما لم يصل فيه إلينا نهي من الشارع ، لا فيما لم يصدر فيه عنه نهي في الواقع. اللهمّ إلّا أن يمنع هذا الظهور ، ويدّعى كون ظاهرها بيان لزوم تماميّة الحجّة في وجوب الاجتناب ، ولا ريب أنّ مجرّد صدور الخطاب عن الشارع في الواقع من دون علم المكلّف به غير مجد في ذلك. ولعلّ هذا أظهر.

١١٥٤. لا يذهب عليك أنّ موضع الدلالة من الصحيحة فقرتان ، إحداهما : ما دلّ منها على معذوريّة الجاهل بالتحريم. والاخرى : ما دلّ على معذوريّة الجاهل بالعدّة. ولكنّ الاستدلال بهما يتوقّف على إثبات مقدّمات الاولى : كون المراد بالجهالة في الموضعين هي الجهالة بالحكم دون الموضوع. والاخرى : كون المراد بها الجهالة البسيطة دون المركّبة. والثالثة : كون معذوريّة الجاهل فيما ترتّب

.................................................................................................

______________________________________________________

على الجهالة من الفعل لا في شيء آخر. ووجه التوقّف على هذه المقدّمات واضح ، لأنّ المقصود في المقام إثبات حجيّة أصالة البراءة في الشبهات التكليفيّة ، وكونه معذورا فيها لا مع الغفلة أو اعتقاد خلاف الواقع ، إلّا أنّ بعض هذه المقدّمات مفقود في المقام.

أمّا بناء على الاستدلال بالفقرة الاولى ، فإنّ الجهالة فيها وإن كانت عبارة عن الجهالة بالحكم ، إلّا أنّ المراد بها بمقتضى التعليل ـ على ما أفاده المصنّف ـ هي الجهالة المركّبة دون البسيطة. وكذا المراد بالمعذوريّة فيها هي المعذوريّة في حرمة تزويج المرأة مؤبّدة ، لا المؤاخذة على الفعل المرتّب على الجهالة ، كما هو المطلوب.

وأمّا بناء على الاستدلال بالفقرة الثانية فيتوقّف على بيان صور الاشتباه في العدّة ، فنقول : إنّ الشبهة فيها تارة تكون حكميّة ، واخرى موضوعيّة. وعلى التقديرين : إمّا أن تكون الشبهة في أصل العدّة ، أو في انقضائها بعد العلم بها في الجملة. فالصور أربع ، إحداها : أن يكون جاهلا بأصل تشريع العدّة. الثانية : أن يكون جاهلا بمقدارها بعد العلم بمشروعيّتها في الجملة. وعلى التقديرين تكون الشبهة حكميّة. الثالثة : أن يكون جاهلا بكون هذه المرأة معتدّة بعد العلم بمشروعيّتها ومدّتها. الرابعة : أن يكون جاهلا بانقضاء عدّة هذه المرأة المطلّقة أو المتوفّى عنها زوجها.

فقوله : «قلت : فهو في الاخرى معذور؟ قال : نعم» إن أراد به إحدى صورتي الجهل بالحكم فلا يمكن الاستدلال به للمقام ، لانتفاء المقدّمة الثالثة ، لأنّ ظاهر الصحيحة كونه معذورا في التحريم الأبدي لا في المؤاخذة كما تقدّم. ومع تسليمه تكون الصحيحة مطروحة بالاتّفاق ، لإجماعهم على وجوب الفحص عن الدليل إلى أن يحصل الظنّ بعدمه في العمل بأصالة البراءة في الشبهات الحكميّة. ومع التسليم فلا ريب أنّ العمل بها مشروط بعدم وجود أصل موضوعي حاكم عليها ، واستصحاب بقاء العدّة عند الشكّ في انقضائها ، وأصالة فساد العقد عند الشكّ في

.................................................................................................

______________________________________________________

أصل العدّة ، حاكمان عليها. فلو فرض موافقة البراءة للواقع فالعمل بها في المقام حرام من جهة التشريع ومخالفة الاصول.

وإن أراد به إحدى صورتي الجهل بالموضوع فلا يتمّ به الاستدلال أيضا ، لانتفاء المقدّمة الاولى ، لفرض كون الشبهة حينئذ موضوعيّة ، ولا خلاف في جريان أصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة حتّى من الأخباريّين. وكذا الثالثة كما تقدّم. مضافا إلى مخالفتها للأصلين كما عرفت.

هذا كلّه إذا كان المراد بالجهالة في الصور الأربع هي الجهالة البسيطة ، بأن كان شاكّا متردّدا في الحكم أو الموضوع. وأمّا إذا كان غافلا أو معتقدا للخلاف ، فيصحّ الحكم بمعذوريّته حينئذ مطلقا ، بأن يراد بالمعذوريّة معنى يشمل الحكم الوضعي والتكليفي ، إلّا أنّ الرواية لا تصلح حينئذ دليلا على المدّعى أيضا ، لانتفاء المقدّمة الثانية ، وهي شرط في جريان البراءة ، لعدم قدرته على الاحتياط مع الغفلة واعتقاد الخلاف. وعدم تعرّض المصنّف رحمه‌الله لبعض صور الشبهة في العدّة لعلّه لأجل وضوح حكمها ممّا ذكره.

وبقي في المقام شيء ، وهو أنّ المراد بالجهالة في جميع فقرات الصحيحة هل هي الجهالة البسيطة ، أو المركّبة ، أو لا بدّ من التفكيك فيها بينهما؟ لا سبيل إلى الأوّل والثاني ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ، وستعرفه. ومنه يظهر أيضا عدم صحّة إرادة الجهالة البسيطة من الجهل بالتحريم ، والجهالة المركّبة من الجهل بالعدّة ، فلا بدّ من التفكيك بينهما فيهما على عكس ذلك ، لأنّ مقتضى تعليل معذوريّة الجاهل بالتحريم بقوله : «لأنّه لا يقدر» هو كون المراد بالجهل بالتحريم هو الجهل المركّب دون البسيط ، لأنّه الذي لا يقدر المكلّف معه على الاحتياط. وكذا تخصيص الجاهل بالحرمة بذلك يدلّ على قدرة الجاهل بالعدّة على الاحتياط ، وهو يقتضي كونه جاهلا بسيطا. وهذا المقدار من ارتكاب خلاف الظاهر من التفكيك بين الجهالتين لا مناص منه ، سواء كان المراد بالجهل بالعدة هو الجهل بالحكم ـ كما هو مبنى

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستدلال ـ أو الجهل بالموضوع.

وممّا ذكرناه يظهر وجه عدم استدلال المصنّف رحمه‌الله بمعذوريّة الجاهل بالتحريم للمقام ، لتعيّن حمله على الجهل المركّب على ما عرفت. وكذا تظهر كيفيّة التدبّر في ورود الإشكال. وأمّا دفعه فبمنع اقتضاء تعليل الجهل بالتحريم لكون المراد بالجهل بالعدّة هو الجهل البسيط ، لصحّة التعليل على تقدير كون المراد به في المقامين هو الجهل المركّب. أمّا في الجهل بالتحريم فلما عرفت من كونه مقتضى ظاهر التعليل.

وأمّا في الجهل بالعدّة إذا اريد به الجهل بالموضوع الخارج ، فإنّ الغرض من التعليل حينئذ بيان أنّه مع الجهل بالتحريم واعتقاد الجواز لا يتمكّن المكلّف من الاحتياط أصلا ، إذ لا سبيل له إلى الأحكام التعبّدية إلّا ببيان من الشارع ، فمع عدم إعلامه وحصول الاعتقاد له بخلاف الواقع لا يسند إليه التقصير من وجه ، بخلاف الجهل بالموضوعات الخارجة ، لأنّ بيان الشارع لأحكامها وإعلامه بها تنبيه للمكلّف يتمكّن معه من الاحتياط ولو قبل حصول اعتقاد خلاف الواقع ، لأنّه بعد بيان حرمة التزويج في العدّة لا بدّ للمكلّف من مراعاة ذلك والفحص والتفتيش عن أحوال النساء عند إرادة تزويجها. فإذا جهل في مورد واعتقد بعدم كون امرأة معتدّة أو بانقضاء عدّتها مع مخالفة اعتقاده للواقع ، كشف ذلك عن تقصيره في الفحص ، وإلّا كان مصيبا للواقع أو بقي على شكّه. فالمراد بعدم تمكّن الجاهل بالتحريم من الاحتياط هو عدم تمكّنه منه بوجه أصلا ، وبتمكّن الجاهل بالعدّة ـ يعني : بموضوعها الخارج ـ هو تمكّنه منه في الجملة ولو قبل حصول الاعتقاد على ما عرفت. وهذا ما يخطر بالبال مع ضيق المجال فيما يتعلّق بالصحيحة ، وتوضيح ما أجمله في الكتاب.

واعلم أنّه لو أمكن تعميم الرواية بحيث تشمل الجهل المركّب والبسيط ، بأن أمكن تأويل التعليل بقوله : «لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط» بحيث يشمل

فيمن تزوّج امرأة في عدّتها : «قال : أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. قلت : بأيّ الجهالتين أعذر ، أبجهالته أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة؟ قال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأن الله حرّم عليه ذلك ؛ وذلك لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط ، قلت : فهو في الاخرى معذور؟ قال : نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها» (٣٧). وفيه : أنّ الجهل بكونها في العدّة إن كان مع العلم بالعدّة في الجملة والشكّ في انقضائها ، فان كان الشك في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها فهو شبهة في الموضوع خارج عمّا نحن فيه ، مع أنّ مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان عدم الجواز.

ومنه يعلم : أنّه لو كان الشكّ في مقدار العدّة فهي شبهة حكميّة قصّر في السؤال عنها ، وهو ليس معذورا فيها اتفاقا ؛ ولأصالة بقاء العدّة وأحكامها ، بل في رواية اخرى أنّه : «إذا علمت أنّ عليها العدّة لزمتها الحجّة» ، فالمراد من المعذوريّة عدم حرمتها عليه مؤبّدا ، لا من حيث المؤاخذة. ويشهد له أيضا : قوله عليه‌السلام ـ بعد قوله : «نعم ، أنّه إذا انقضت عدّتها فهو معذور» ـ : «جاز له أن يتزوّجها». وكذا مع الجهل بأصل العدّة ؛ لوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد ، خصوصا مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل.

______________________________________________________

الجهل البسيط أيضا ، فحكمهما كما تضمّنته الصحيحة من عدم استلزام التزويج في العدّة مع الجهل ـ بسيطا أو مركّبا ـ للحرمة الأبديّة ما لم يدخل بالزوجة ، لثبوت ذلك بالأدلّة الخارجة. والأخبار وكلمات علمائنا الأخيار مطلقة في معذوريّة الجاهل بالعدّة أو حكمها أو كليهما ، بحيث تشمل الجهل المركّب والبسيط.

ثمّ اعلم أيضا أنّ الصحيحة قد تضمّنت فقرة اخرى ، وهو قوله بعد ما تقدّم : «فقلت : إن كان أحدهما متعمّدا والاخرى بجهالة؟ فقال : الذي تعمّد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبدا». وفيه إشكال ، لأنّه لا ريب أنّ ما أخبر به الإمام عليه‌السلام في مورد الرواية من حرمة الرجوع لأحدهما أبدا بعد انقضاء العدّة وحلّية ذلك

هذا إن كان الجاهل ملتفتا شاكّا ، وإن كان غافلا أو معتقدا للجواز فهو خارج عن مسألة البراءة ؛ لعدم قدرته على الاحتياط. وعليه يحمل تعليل معذوريّة الجاهل بالتحريم بقوله عليه‌السلام : «لأنّه لا يقدر ...» ، وإن كان تخصيص الجاهل بالحرمة بهذا التعليل يدلّ على قدرة الجاهل بالعدّة على الاحتياط ؛ فلا يجوز حمله على الغافل ، إلّا أنّه إشكال يرد على الرواية على كلّ تقدير ، ومحصّله لزوم التفكيك بين الجهالتين ، فتدبّر فيه وفي دفعه.

وقد يستدلّ على المطلب (٣٨) ـ أخذا من الشهيد في الذكرى ـ بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». وتقريب الاستدلال كما في شرح الوافية ، أنّ معنى الحديث : أنّ كلّ فعل من جملة الأفعال التي

______________________________________________________

للآخر ، حكم واقعي أخبر عنه الإمام عليه‌السلام ، وحينئذ يشكل بأنّه إذا أوقعا العقد بعد انقضاء العدّة وجاز ذلك من أحدهما دون الآخر ، لزم كون العقد الواحد صحيحا من جانب وباطلا من جانب الآخر ، ولا معنى له ، لعدم قابليّة الأحكام الواقعيّة للتجزئة ، وإن توهّمه جماعة على ما حكي عنهم ، فهو إمّا صحيح مطلقا أو باطل كذلك.

نعم ، يتمّ ذلك في الأحكام الظاهريّة ، لما تقرّر من جواز التفكيك فيها بين المتلازمين ، كما لو ادّعى أحد الزوجين الزوجيّة وأنكرها الآخر ، حيث يحكم بترتّب أحكام الزوجيّة من جانب المدّعي وبعدمه من طرف المنكر. وموارد الانفكاك كثيرة.

ويمكن دفع الإشكال ، إمّا بحمل الرواية على إرادة بيان التحريم الأبدي من الجانبين ، وأنّ السبب فيه إقدام المتعمّد على التزويج دون الجاهل ، كما أنّ السبب في صورة علمهما هو إقدامهما مع العلم بالعدّة. وإمّا بحملها على بيان الحكم الظاهري ، وإرادة حرمة رجوع العامد مع عمده ، وإباحة رجوع الجاهل ما دام جاهلا ، وقد عرفت جواز التفكيك في الأحكام الظاهريّة.

تتّصف (١١٥٥) بالحلّ والحرمة ، وكذا كلّ عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة ، إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ والحرمة ، فهو حلال ؛ فخرج (١١٥٦) ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطرارية والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف ، وما علم أنّه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه. وليس الغرض من ذكر الوصف مجرّد الاحتراز (١١٥٧) بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.

فصار الحاصل أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال ، سواء علم حكم كلي فوقه (١١٥٨) أو تحته ـ بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه ـ أم لا (١١٥٩). وبعبارة اخرى :

______________________________________________________

١١٥٥. يعني : من شأنه ذلك ، فيشمل الشبهات الحكميّة أيضا.

١١٥٦. يعني : بتوصيف الشيء بقوله : فيه حلال وحرام.

١١٥٧. يعني : فائدة الوصف مع الاحتراز هو بيان الموضوع الذي يحكم بحلّيته ظاهرا ، وهو ما فيه حلال وحرام بالمعنى الذي ذكره.

١١٥٨. كما في الشبهات الموضوعيّة. والمراد بفوقيّة الكلّي أن يكون بين عنوان المشتبه وبين الكلّيين اللذين علم حكمهما عموم من وجه ، كلحم الغنم المشترى من السوق المردّد بين المذكّى والميتة مع العلم بإباحة المذكّى وحرمة الميتة ، لأنّ النسبة بين عنوان لحم الغنم وكلّ من المذكّى والميتة عموم من وجه ، بحيث لو علمنا باندراج الفرد المشتبه تحت أحد هذين الكلّيين لعلم حكمه.

والمراد بتحتيّة الكلّي أن يكون بين عنوان المشتبه وبين الكلّيين اللذين علم حكمهما عموم وخصوص مطلق ، بأن كان عنوان المشتبه أعمّ منهما ، كالمائع المردّد بين الخمر والخلّ مع العلم بحرمة الخمر وحلّية الخل ، بحيث لو علمنا تحقّق عنوان المشتبه في ضمن أحد هذين الخاصّين لعلم حكم الفرد المشتبه ، كما هو واضح.

١١٥٩. كما في الشبهة الحكميّة ، مثل شرب التتن ولحم الحمير ، إن لم نقل

أنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندك ـ بمعنى أنّك تقسّمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ولا تدري المعيّن منهما ـ فهو لك حلال. فيقال حينئذ : إنّ الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق المحتمل للمذكّى والميتة وعلى شرب التتن وعلى لحم الحمير إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه ؛ لأنّه يصدق على كلّ منها أنّه شيء فيه حلال وحرام عندنا ، بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين ، فنقول : هو إمّا حلال (١١٦٠) وإمّا حرام ، وأنّه يكون من جملة (١١٦١) الأفعال التي يكون بعض أنواعها أو أصنافها حلالا وبعضها حراما ، واشتركت في أنّ الحكم الشرعيّ المتعلّق بها غير معلوم ، انتهى. أقول : الظاهر أنّ المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه ، كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مثّله بهما ؛ إذ لا يستقيم (١١٦٢) إرجاع الضمير في «منه» إليهما ، لكن لفظة «منه» ليس في بعض النسخ.

وأيضا : الظاهر أنّ المراد بقوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» كونه منقسما إليهما ، ووجود القسمين فيه بالفعل لا مردّدا بينهما ؛ إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا ، لا ذهنا ولا خارجا. وكون الشيء مقسما لحكمين ـ كما ذكره المستدلّ ـ لم يعلم له معنى محصّل ، خصوصا مع قوله قدس سرّه : إنّه يجوز ذلك ؛ لأنّ التقسيم إلى الحكمين الذي هو

______________________________________________________

بوضوح حكمه.

١١٦٠. كما في الشبهة الحكميّة.

١١٦١. كما في الشبهة الموضوعيّة.

١١٦٢. لأنّه وإن صحّ إرجاع الضمير إلى الفعل المشتبه الموضوع كاللحم المشترى ، بارتكاب الاستخدام في ضمير «منه» بأن يقال : إنّ المعنى كلّ فعل مشتبه الموضوع الذي يحتمل الحلّ والحرمة فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام من نوعه في الخارج فتدعه ، إلّا أنّه لا يصحّ إرجاعه إلى الفعل المشتبه الحكم كلحم الحمير ، لعدم وجود نوع له يكون فيه قسم حرام وقسم حلال حتّى يصحّ إرجاع الضمير إلى النوع على سبيل الاستخدام. نعم ، يصحّ ذلك على ما فرضه المنتصر الآتي ، إلّا أنّ الكلام هنا مع الغضّ عنه.

في الحقيقة ترديد لا تقسيم ، أمر لازم قهري لا جائز (١١٦٣) لنا.

وعلى ما ذكرنا ، فالمعنى ـ والله العالم ـ : أنّ كلّ كلّي فيه قسم (١١٦٤) حلال وقسم حرام ـ كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكّى والميتة ـ فهذا الكلّي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معيّنا في الخارج فتدعه. وعلى الاستخدام (١١٦٥) يكون المراد :

______________________________________________________

١١٦٣. هذا إنّما يرد إن اريد من الجواز معنى الإمكان ، مثل قولهم هل يجوز اجتماع الأمر والنهي أو لا؟ بخلاف ما لو اريد به معنى الصحة ، بأن يريد به صحّة القسمة إلى القسمين ، مثل قولك : الزوج ما جاز قسمته إلى المتساويين.

١١٦٤. هذا المعنى أيضا لا يخلو من مسامحة ، لأنّ وجود القسمين إنّما هو بين أفراد الكلّي لا فيه نفسه ، كما هو واضح. بل لا بدّ على هذا المعنى من ارتكاب نوع استخدام أيضا في ضمير «منه» ؛ إذ المتّصف بالحلّية والحرمة ـ كما قرّر في محلّه ـ هو نفس الأفراد لا الماهيّة الموجودة في ضمنها ، فلا بدّ من إرجاع ضمير «منه» إلى أفراد الكلّي لا إلى نفسه. بل على هذا لا يصحّ إرجاع الضمير في قوله «فهو» إلى الشيء ، كما هو واضح. ولو قيل بكون الشيء عبارة عن أفراد الكلّي ، وخصّ مورد الرواية بالشبهات الموضوعيّة ، سلّم عن جميع ما أورد في المقام.

١١٦٥. هذا معنى ثالث في الرواية. وحيث استفيد ممّا اختاره في معنى الرواية تعيّن إرجاع الضمير في قوله «فيه» و «منه» إلى الكلّي ، يلزمه ارتكاب الاستخدام فيه لو اريد بالشيء الموضوع المشتبه ، فأشار هنا بقوله : «وعلى الاستخدام» إلى ما استفيد من كلامه ولو بالملازمة. وحاصل ما ذكره : عدم صحّة تعميم الرواية لكلّ من الفعل المشتبه الحكم والموضوع ، كما توهّمه شارح الوافية ، فلا بدّ حينئذ من حملها على بيان الشبهات الموضوعيّة. وحينئذ إن اريد من الشيء الكلّي الذي فيه حلال وحرام فلا يرد عليه شيء. وإن اريد منه الموضوع

أنّ كلّ جزئي خارجي في نوعه القسمان المذكوران ، فذلك الجزئي لك حلال حتّى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلّي في الخارج فتدعه. وعلى أيّ تقدير فالرواية مختصّة بالشبهة في الموضوع. وأمّا ما ذكره المستدلّ من أنّ المراد من وجود الحلال والحرام فيه احتماله وصلاحيته لهما ، فهو مخالف لظاهر القضيّة (١١٦٦) ولضمير «منه» (١١٦٧) ولو على الاستخدام.

ثمّ الظاهر أنّ ذكر هذا القيد (١١٦٨) مع تمام الكلام بدونه ـ كما في قوله عليه‌السلام في رواية اخرى : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» ـ بيان منشأ الاشتباه (١١٦٩) الذي يعلم من قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف» ، كما أنّ الاحتراز عن المذكورات في كلام المستدلّ أيضا يحصل بذلك.

______________________________________________________

المشتبه الخارج ، فلا بدّ فيه من ارتكاب الاستخدام في ضمير «فيه» و «منه». والفرق بين هذا المعنى وما ذكره شارح الوافية ـ مضافا إلى ما عرفت ـ لزوم ارتكاب الاستخدام في ضمير «فيه» على هذا المعنى ، بخلاف على ما ذكره ، إذ المعنى على هذا المعنى : كلّ موضوع مشتبه في نوعه الحرام والحلال ، وعلى ما ذكره : كلّ شيء فيه احتمال الحرمة والحلّية ، سواء كان مشتبه الموضوع أو الحكم.

١١٦٦. أي : قضيّة «فيه حلال وحرام» لظهورها في الانقسام الفعلي ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

١١٦٧. لما أسلفناه عند شرح قوله : «إذ لا يستقيم».

١١٦٨. يعني : قوله : «فيه حلال وحرام» لكونه وصفا للشيء وقيدا له.

١١٦٩. يعني : أنّ وصف الشيء بقوله فيه حلال وحرام ـ مع كونه احترازا عمّا ذكره شارح الوافية ـ إشارة إلى بيان اعتبار كون منشأ الاشتباه بحسب الحكم أو الموضوع المأخوذ في مورد الرواية ـ كما يرشد إليه قوله : «حتّى تعرف» ـ هو وجود القسمين ـ أعني : الحلال والحرام ـ في الشيء ، بأن كان الاشتباه ناشئا من عدم العلم بكون الأمر المشتبه من أيّ القسمين الموجودين في الشيء لا من أمر آخر ، كما فيما مثّل المنتصر به من مثال لحم الحمير ، لكون

ومنه يظهر فساد ما انتصر بعض المعاصرين (١١٧٠) للمستدلّ ـ بعد الاعتراف بما ذكرنا من ظهور القضيّة في الانقسام الفعلي ؛ فلا يشمل مثل شرب التتن من ـ : أنّا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام ، واشتبه قسم ثالث منه كاللحم ، فإنّه شيء فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الخنزير ، فهذا الكلّي المنقسم حلال ، فيكون لحم الحمار حلالا حتّى تعرف حرمته (٣٩). ووجه الفساد : أنّ وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار ، ولا دخل له في هذا الحكم (١١٧١) أصلا ، ولا في تحقّق الموضوع ، وتقييد (١١٧٢) الموضوع بقيد أجنبيّ لا دخل له في الحكم ولا في تحقّق الموضوع مع خروج بعض الأفراد (١١٧٣) منه مثل شرب التتن ـ حتّى احتاج هذا المنتصر إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه ممّا يوجد في نوعه قسمان معلومان بالإجماع المركّب ـ ، مستهجن جدّا لا ينبغي صدوره من متكلّم فضلا عن الإمام عليه‌السلام.

هذا ، مع أنّ اللازم ممّا ذكر عدم الحاجة إلى الإجماع المركّب ، فإنّ الشرب فيه قسمان : شرب الماء وشرب البنج ، فشرب التتن كلحم الحمار بعينه ، وهكذا جميع الافعال المجهولة الحكم. وأمّا الفرق بين الشرب واللحم بأنّ الشرب (١١٧٤)

______________________________________________________

الشبهة فيه ناشئة إمّا من عدم الدليل أو إجماله أو تعارضه ، لا من وجود لحم الخنزير والغنم في مطلق اللحم ، وعدم العلم بكون المشتبه من أيّهما.

١١٧٠. هو الفاضل النراقي. وقد ذكر للرواية معاني ستّة ثالثها ما اختاره المصنّف رحمه‌الله هنا. ويظهر ضعف ما سواه من التأمّل فيما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا وما علّقناه على كلامه ، فتدبّر.

١١٧١. يعني : حكم لحم الحمار الذي فرض الاشتباه فيه.

١١٧٢. مبتدأ ، وخبره قوله : «مستهجن».

١١٧٣. ممّا لا يوجد في نوعه حلال وحرام من الشبهات الحكميّة.

١١٧٤. يعني : بالمعنى الأعمّ من إدخال الدخان والماء الجوف من الفم.

جنس بعيد (١١٧٥) لشرب التتن بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي أن يصغى إليه. هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ الظاهر (١١٧٦) من قوله : «حتّى تعرف الحرام منه» معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ، ومعلوم أنّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّية لحم الحمار.

وقد اورد على الاستدلال (١١٧٧) بلزوم استعمال

______________________________________________________

١١٧٥. لأنّ جنسه القريب هو الشرب بمعنى إدخال الدخان الجوف من الفم.

١١٧٦. يعني : أنّ ظاهر الرواية اعتبار كون الشيء المحكوم بإباحته ما لم تعلم حرمته موجودا في الشيء المنقسم إلى الحلال والحرام ، بأن كان على تقدير العلم بحرمته واقعا داخلا في القسم الحرام الموجود في المقسم. وبعبارة اخرى : أنّ ظاهرها اعتبار كون الشيء المحكوم بإباحته ما لم تعلم حرمته بحيث لو علمت حليّته أو حرمته كان داخلا في أحد القسمين اللذين فرض انقسام الشيء إليهما ، لا شيئا ثالثا مغايرا لهما ، لأنّ هذا المعنى هو الذي يصحّ معه جعل معرفة الحرمة غاية للحكم بالإباحة الظاهريّة ، وإلّا لغا اعتبار وجود القسمين في الشيء وانقسامه إليهما ، لفرض عدم مدخليّة حرمة ما علمت حرمته حينئذ كلحم الخنزير ، وكذا ما علمت حلّيته كلحم الغنم في حرمة المشتبه وحلّيته كلحم الحمار في المثال ، حتّى تجعل معرفة حرمة لحم الخنزير غاية للحكم بإباحة لحم الحمار.

١١٧٧. المورد هو المحقّق القمّي قدس‌سره ، لأنّه بعد أن أورد كلام شارح الوافية قال : «وفيه نظر ، إذ هذا التفسير يوجب استعمال اللفظ في معنيين ، مع كونه خلاف المتبادر من الرواية أيضا. بيانه : أنّ خروج الأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف ـ كالسماء وذات الباري تعالى مثلا ـ إنّما هو لأجل عدم إمكان الاتّصاف بشيء من الحلّ والحرمة ، لا من جهة عدم اتّصافها بهما معا ، وعدم قابليّتها لانقسامها إليهما. وخروج الأفعال الضروريّة لبقاء الحياة إنّما هو لأجل أنّه لا يتّصف بأحدهما أيضا

.................................................................................................

______________________________________________________

شرعا ، وإن كان يمكن اتّصافه بهما جميعا لأجل أنّه فعل مكلّف اختياري. وكذلك خروج ما تعيّن حلّه أو حرمته ، لأنّه لا يتّصف إلّا بأحدهما ، فيلزم استعمال قوله : «فيه حلال وحرام» في معنيين : أحدهما : أنّه قابل» ثمّ ساق الكلام كما نقله المصنّف رحمه‌الله.

وحاصل مقصوده : أنّ إخراج الشارح للأفعال الضروريّة وكذا الأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف بقوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» إنّما هو لأجل عدم قابليّتها للاتّصاف ، وأنّ هذا هو المراد بقوله : «فخرج ما لا يتّصف بهما». وكذا إخراجه به لما علم أنّه حلال لا حرام فيه ، أو حرام لا حلال فيه ، لأجل عدم فعليّة الانقسام. وحينئذ لا بدّ أن تراد بقوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» تارة قابليّة الاتّصاف ، واخرى فعليّة الانقسام ، ليتمّ الاحترازان.

وأنت خبير بأنّ ظاهر كلام الشارح حمل قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» على إرادة قابليّة الاتّصاف. ولا ريب في حصول الاحتراز عن الأمرين بذلك ، لعدم منافاة فعليّة الانقسام لقابليّة الاتّصاف. وأمّا لزوم استعمال قوله : «حتّى تعرف الحرام» في المعنيين ، فيرد عليه : أنّ اختلاف طرق المعرفة لا يوجب تعدّدها ، وهو واضح.

ثمّ إنّه قد استدلّ غير واحد على أصالة البراءة في المقام برواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه ، وذلك ثوب يكون عليك قد اشتريت وهو سرقة ، أو المملوك عندك وهو حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة».

ويردّ عليه : أنّ الظاهر أنّ قوله : «هو لك» مبتدأ وخبر ، والجملة صفة لشيء ، وقوله «حلال» خبر عن الكلّ. والمعنى : كلّ شيء هو لك ولك استيلاء

قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» في معنيين : أحدهما : أنّه قابل للاتصاف بهما ، وبعبارة اخرى : يمكن تعلّق الحكم الشرعيّ به ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما. والثاني : أنّه ينقسم إليهما ويوجد النوعان فيه إمّا في نفس الأمر أو عندنا ، وهو غير جائز.

______________________________________________________

عليه فهو حلال. ويؤيّده ما تضمّنته من الأمثلة ، فهي واردة لبيان قاعدة اليد ، وأنّه حجّة ما لم يعلم خلافه أو تقوم به بيّنة. فلا دلالة فيها على بيان اعتبار أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة أصلا ، كيف والأصل في الفروج هو الاحتياط والحرمة ، مع أنّ الإمام عليه‌السلام حكم بحليّتها. فالظاهر أنّ المراد بيان أنّه إذا كان تحت يدك شيء واستوليت عليه كالثوب والعبد عندك والمرأة تحتك ، ويحتمل أن يكون استيلاؤك عليه على خلاف المشروع ، فيدك عليه ثابتة ، وهو لك حلال ما لم يستبن لك خلافه ، أو لم تقم به البيّنة ، والأشياء كلّها على هذا.

فإن قلت : لا مانع من حمل الرواية على بيان القاعدتين ، وإن كانت الأمثلة المذكورة فيها من موارد قاعدة اليد.

قلت : ذلك مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين ، وهو غير جائز ، لاختلاف المعنى بالنسبة إلى كلّ من القاعدتين ، لأنّها إن كانت واردة لبيان قاعدة اليد ، فلا بدّ أن يكون المعنى على نحو ما ذكرناه من كون قوله عليه‌السلام : «هو لك» مبتدأ وخبرا ، وإن كانت واردة لبيان قاعدة البراءة فلا بدّ أن يكون ضمير «هو» للفصل ، وقوله «لك» متعلّقا ب «حلال» مقدّما عليه ، وهو خبرا عن «كلّ شيء». مع أنّ الحكم على الإباحة على هذا التقدير لا بدّ أن يكون من حيث كون الواقعة مجهولة الحكم. وعلى تقدير ورودها لبيان قاعدة اليد لا بدّ أن يكون من حيث استيلاء يد المستولي ، لا من حيث وصف الجهالة بالواقع. ولا ريب في تغاير المعنيين. والله أعلم بالحقائق.

وبلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف الحرام منه بعينه» في المعنيين أيضا ؛ لأنّ المراد حتّى تعرف من الأدلّة الشرعيّة «الحرمة» إذا اريد معرفة الحكم المشتبه ، وحتّى تعرف من الخارج من بيّنة أو غيرها «الحرمة» ، إذا اريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمّل (٤٠) ، انتهى. وليته أمر بالتأمّل في الإيراد الأوّل أيضا ، ويمكن إرجاعه إليهما معا ، وهو الأولى.

هذه جملة ما استدلّ به من الأخبار. والإنصاف ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه في الشبهة (*) ، بحيث لو فرض تماميّة الأخبار الآتية للاحتياط وقعت المعارضة بينها ، لكن بعضها غير دالّ إلّا على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عامّ به ، فلا يعارض ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت للحجيّة سندا ودلالة.

______________________________________________________

وبقوله عليه‌السلام : «الحرام ما حرّم الله ورسوله» حيث دلّ على إباحة ما لم ترد حرمته في الكتاب والسنّة ، خرج ما خرج بالدليل وبقي الباقي. وربّما يقال : إنّ مدلوله من حيث إثبات الإباحة الواقعيّة وإن لم يطابق المدّعى من إثبات الإباحة الظاهريّة في موارد الشبهة ، إلّا أنّه يثبت فوق المدّعى ، فهو يكفي في ردّ أخبار الاحتياط.

وأنت خبير بأنّ أقصى مدلولها إباحة ما لم يرد نهي عنه في الكتاب والسنّة ، لا على إباحة ما لم يوجد على حرمته دليل فيما بأيدينا اليوم من الأدلّة بعد انطماس كثير منها أو أكثرها.

وبما رواه الصدوق في التوحيد عن حفص بن غياث النخعي القاضي قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من عمل بما علم كفي ما لم يعلم». ويردّ عليه أنّ ظاهره العفو وعدم المؤاخذة على ارتكاب المجهولات على تقدير العمل بالمعلومات ، ولا دلالة فيه على عدم الاستحقاق أيضا ، كما هو المقصود من إجراء أصالة البراءة ،

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : التحريمية.

وأمّا الإجماع فتقريره من وجهين : الأوّل : دعوى إجماع العلماء (١١٧٨) كلّهم من المجتهدين والأخباريّين على أنّ الحكم فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ولا على تحريمه من حيث إنّه مجهول الحكم ، هي البراءة وعدم العقاب على الفعل. وهذا الوجه لا ينفع إلّا بعد عدم تماميّة ما ذكر من الدليل العقلي والنقلي للحظر والاحتياط ، فهو نظير حكم العقل الآتي. الثاني : دعوى الإجماع على أنّ الحكم فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ، هو عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب.

وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه : الأوّل : ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه ، فإنّك لا تكاد تجد من زمان المحدّثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرّد الاحتياط. نعم ، ربّما يذكرونه في طيّ الاستدلال في جميع الموارد حتّى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط هنا بعدم وجوبه فيها. ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول ، فمنهم ثقة الإسلام الكليني قدس‌سره حيث صرّح في ديباجة الكافي : بأنّ الحكم فيما اختلف فيه الأخبار التخيير ، ولم يلزم الاحتياط مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان وما لم يرد فيه نصّ بوجوبه في خصوص ما لا نصّ فيه ، فالظاهر : أنّ كلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا.

______________________________________________________

فتدبّر.

١١٧٨. فإن قلت : إنّ دعوى الإجماع على هذا الوجه غير مفيدة أصلا ، وإلّا كانت جميع المسائل الاصوليّة والفقهيّة إجماعيّة ، إذ لا ريب أنّ أحد الخصمين إذا سلّم بطلان دليله في المسألة كان موافقا لخصمه في المذهب.

قلت : يظهر أثر هذا الإجماع فيما لم يقم دليل على اعتبار أصالة البراءة ، إذ بعد إبطال أدلّة وجوب الاحتياط من العقل والنقل يثبت اعتبارها بهذا الإجماع.

وقد يقرّر الإجماع. بدعوى اتّفاق المجتهدين والأخباريّين على البراءة فيما لم يرد دليل من الكتاب والسنّة على تحريمه بعنوانه الخاصّ ، ولا بعنوان كونه مجهول

ومنهم : الصدوق ؛ فإنّه قال : اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتّى يرد النهي. ويظهر من هذا موافقة والده ومشايخه ؛ لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم ، بل ربّما يقول : «الذي أعتقده وافتي به» ، واستظهر من عبارته هذه : أنّه من دين الاماميّة. وأمّا السيّدان فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة (٤١) ، وصرّحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد : أنّه متى فرضنا عدم الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل. وأمّا الشيخ قدس‌سره : فإنّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد قدس‌سره إلى أنّ الأصل في الأشياء من طريق العقل الوقف ، إلّا أنّه صرّح في العدة : بأنّ حكم الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف ، لكنّه لا يمتنع أن يدلّ دليل سمعي على أنّ الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب (٤٢) ، انتهى. وأمّا من تأخّر عن الشيخ قدس‌سره ، كالحلّي (٤٣) والمحقّق والعلّامة والشهيدين وغيرهم : فحكمهم بالبراءة يعلم من مراجعة كتبهم.

وبالجملة : فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط وإن كان ظاهر المعارج (١١٧٩) نسبته إلى جماعة.

______________________________________________________

الحكم. وحاصله : دعوى اعتراف الكلّ باستقلال العقل بالبراءة لو لم يرد عليها ولا على وجوب الاحتياط دليل من الكتاب والسنّة. وهذا وإن كان أولى من تقرير المصنّف رحمه‌الله ، إلّا أنّه إنّما يتمّ لو لا تمسّك الأخباريّين لوجوب الاحتياط بالعقل ، وليس كذلك ، كما يظهر ممّا قرّره المصنّف رحمه‌الله ، من أدلّتهم ، فتدبّر.

١١٧٩. إنّما جعله ظاهرا مع أنّ المحقّق في المعارج نسب القول بالاحتياط إلى جماعة بالصراحة قائلا : «العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى وجوبه ، وقال آخرون : مع اشتغال الذمّة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب» ثمّ مثّل لذلك بولوغ الكلب في الإناء ، لاحتمال كون مراده من الاحتياط هو الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة خاصّة ، بقرينة تمثيله بولوغ الكلب ، إلّا أنّ عموم عنوانه ـ سيّما مع ملاحظة عدم ظهور القول بوجوب الاحتياط في

ثمّ إنّه ربّما نسب إلى المحقّق قدس‌سره رجوعه عمّا في المعارج إلى ما في المعتبر : من التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره وأنّه لا يقول بالبراءة في الثاني. وسيجيء الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء الله.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ تخصيص بعض القول بالبراءة بمتأخّري الإماميّة مخالف للواقع ، وكانه ناش عمّا رأى من السيّد والشيخ من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد ؛ ويؤيّده ما في المعارج (١١٨٠) : من نسبة القول برفع الاحتياط على الإطلاق إلى جماعة (٤٤).

الثاني : الإجماعات المنقولة (١١٨١) والشهرة المحقّقة فإنّها قد تفيد القطع بالاتّفاق. وممّن استظهر منه دعوى ذلك الصدوق رحمه‌الله في عبارته المتقدّمة عن اعتقاداته. وممّن ادّعى اتّفاق المحصلين عليه : الحلّي في أوّل السرائر حيث قال بعد ذكر الكتاب والسنّة والإجماع : إنّه إذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعيّة عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسّك بدليل العقل ، انتهى. ومراده بدليل العقل ـ كما يظهر من تتّبع كتابه ـ هو أصل البراءة. وممّن ادّعى إطباق

______________________________________________________

الشبهات الوجوبيّة إلّا من بعض المتأخّرين من الأخباريّين ـ ظاهر في الشمول للشبهات التحريميّة أيضا على ما هو محلّ الكلام في المقام.

١١٨٠. لا يخفى أنّ المحقّق ـ على ما عرفت منه في الحاشية السابقة ـ لم ينسب القول برفع الاحتياط على الإطلاق إلى جماعة ، وإنّما نسبه إلى مختاره ، إلّا أنّ الظاهر أنّ المصنّف رحمه‌الله إنّما استفاد ذلك من نسبة القول بوجوب الاحتياط مطلقا إلى جماعة والتفصيل إلى اخرى ، لأنّ ظاهر سياق هذا الكلام وجود قول بالبراءة من جماعة اخرى. وإنّما جعله مؤيّدا لعدم صراحة كلام المحقّق في وجود القول بالبراءة من القدماء.

١١٨١. يمكن أن تجعل هذه الإجماعات المحكيّة دليلا مستقلا في المسألة وإن لم تفد القطع بالواقع ، لشمول دليل الإجماع المنقول للاصول ، ولا ريب في حجّية المعتضد منه بالشهرة المحقّقة.

العلماء : المحقّق في المعارج في باب الاستصحاب ، وعنه في المسائل المصريّة أيضا في توجيه نسبة السيّد إلى مذهبنا جواز إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه : أنّ من أصلنا العمل بالأصل حتّى يثبت الناقل ، ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمائعات. فلو لا كون الأصل إجماعيّا لم يحسن من المحقّق قدس‌سره جعله وجها لنسبة مقتضاه إلى مذهبنا.

وأمّا الشهرة فإنّها تتحقّق بعد التتبّع في كلمات الأصحاب خصوصا في الكتب الفقهيّة ؛ ويكفي في تحقّقها ذهاب من ذكرنا من القدماء والمتأخّرين.

الثالث : الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام ، فإنّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة بل في كلّ شريعة على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، وأنّ طريقة الشارع كانت تبليغ المحرّمات دون المباحات ؛ وليس ذلك إلّا لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان وكفاية عدم (*) النهي فيها. قال المحقّق قدس‌سره على ما حكى عنه : إنّ أهل الشرائع كافة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شىء من المشتبهات سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شىء من المأكول والمشروب أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الإذن (٤٥) ، انتهى.

أقول : إن كان الغرض ممّا ذكر ـ من عدم التخطئة ـ بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم ، فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع ، لكنّه راجع إلى الدليل العقلي الآتي ، ولا ينبغي الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع بل بناء كافّة العقلاء وإن لم يكونوا من أهل الشرائع على قبح ذلك. وإن كان الغرض منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ـ حتّى لو فرض عدم قبحه لفرض العقاب من اللوازم القهريّة لفعل الحرام مثلا ، أو فرض المولى في التكاليف العرفيّة ممّن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا ـ

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وجدان.

لم يزل بنائهم على ذلك ، فهو مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

الرابع من الأدلّة : حكم العقل بقبح العقاب (١١٨٢)

______________________________________________________

١١٨٢. قد يعبّر بقبح التكليف بلا بيان. وإنّما عبّر المصنّف رحمه‌الله بقبح العقاب ، لأنّ القدر المسلّم من حكم العقل حكمه بقبح العقاب بلا بيان لا قبح التكليف بدونه ، ولذا يجوز إجراء البراءة مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فيقال : إنّ الأصل عدم كلّ منهما مع القطع بثبوت أحدهما.

ويدلّ على ما ذكرناه أيضا أنّ التكليف بلا بيان لو كان قبيحا كان كلّ من الوجوب والاستحباب المشكوكين موردا للأصل ، لفرض قبح التكليف المجهول مع قطع النظر عن ترتّب العقاب عليه. وحينئذ فإذا تردّد الأمر بين وجوب فعل واستحبابه ، كغسل الجمعة ودعاء رؤية الهلال ، تتعارض أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم الاستحباب ، للعلم الإجمالي بثبوت أحدهما. ولا يمكن إجراء أصالة عدم كلّ منهما كما في الفرض الأوّل ، لاستلزامه المخالفة العمليّة هنا ، بخلافه هناك. ومع عدم جريان الأصلين لا بدّ من القول بوجوب الاحتياط ، لاحتمال الوجوب ، وليس كذلك ، لتعيّن إجراء أصالة البراءة عن الوجوب خاصّة ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله في محلّه ، وليس ذلك إلّا لأجل كون مبنى أصالة البراءة على قبح العقاب بلا بيان ، لا على قبح التكليف بدونه.

وعلى كلّ تقدير فقد يقرّر الدليل بوجهين :

أحدهما : أنّ التكليف أو العقاب بلا بيان قبيح ، ومجرّد احتمال التكليف في الواقع غير كاف في البيان ، بأن يحكم العقل بمجرّد ذلك بوجوب الاحتياط ، ويقنع به عن البيان التفصيلي ، إذ بيان كلّ شيء بحسبه ، فبيان الأحكام الواقعيّة إنّما هو ببيان نفس هذه الأحكام ، حتّى إنّه لو صرّح الشارع بوجوب الاحتياط فهو تكليف آخر ظاهري لا دخل له في التكليف بنفس الواقع ، واقتناع الشارع به من

.................................................................................................

______________________________________________________

بيان الواقع مع ثبوت التكليف به قبيح منه. وعلى هذا الوجه يبتني ما قرّره المصنّف رحمه‌الله من ورود قاعدة قبح التكليف بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

ولكنّك خبير بأنّ مقتضى هذا التقرير معارضة دليل العقل لأدلّة وجوب الاحتياط ، وهو ينافي ما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه من عدم المعارضة بينهما. وبالجملة ، إنّ دعواه ورود دليل العقل على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تنافي ما صرّح به في آخر كلامه.

وثانيهما : أنّ التكليف أو العقاب بلا بيان قبيح ، فلا بدّ للشارع إمّا بيان نفس الأحكام الواقعيّة ، وإمّا بيان طريق ظاهري إليها ولو كان هو الاحتياط. وهذا الوجه مبنيّ ـ بعد منع كون مجرّد احتمال التكليف في الواقع كافيا عن البيان ـ على منع دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه ، وهو كذلك كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

ولكن على هذا التقرير يمكن منع ورود دليل العقل على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ بعد الاعتراف بنهوض هذه القاعدة لإثبات حكم ظاهري كان هذا الحكم الظاهري بيانا ظاهريّا للتكليف المجهول. مضافا إلى ما يرد على المصنّف رحمه‌الله من أنّ قوله : «لا يكون بيانا للتكليف المجهول» إن أراد به عدم صلوح قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل للدلالة على نفس الحكم المجهول المحتمل فهو مسلّم ، إلّا أنّ القول بوجوب الاحتياط لا يبتني على ذلك ، بل على احتمال العقاب أو ثبوته في الجملة ، كيف وما ادّعاه من قبح العقاب بلا بيان ظاهر في تسليم وجوب الاحتياط مع فرض عدم القبح المذكور.

وإن أراد به عدم صلوحها لرفع قبح العقاب بلا بيان كما هو ظاهره ـ نظرا إلى أنّ هذه القاعدة على تقدير تماميّتها إنّما تثبت حكما ظاهريّا في موردها يترتّب العقاب على مخالفته ، سواء كان في موردها حكم واقعي أم لا ، وبالجملة إنّها إنّما تصلح لدفع القبح المذكور لو كان مقتضاها ثبوت العقاب على مخالفة الواقع لو كان

.................................................................................................

______________________________________________________

في موردها تكليف ، لا ثبوته على مخالفة مودتها مطلقا ـ يرد عليه أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إرشادي محض ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، فمقتضاها على تقدير تماميّتها هو ترتّب العقاب على الواقع لو كان في الواقع تكليف.

ثم إنّ قبح التكليف بلا بيان إنّما هو فيما أمكن فيه البيان من الشارع ولم يبيّنه ، بأن لم يكن له فيه عذر ومانع من البيان وتبليغ الأحكام ، وإلّا فلا ريب في عدم تقبيح العقل للتكليف بلا بيان ، بل بمجرّد احتماله يحكم العقل حينئذ بوجوب الاحتياط وإن لم يصرّح به الشارع.

ومن هنا يندفع ما ربّما يمكن أن يورد على المقام ، من أنّ التكليف بلا بيان إن كان قبيحا لزم عدم وجوب النظر إلى معجزة مدّعي النبوّة ، لأجل أصالة البراءة عن وجوبه ، لفرض عدم وصول البيان من الشارع فيه ، فلزم إفحام الأنبياء عليهم‌السلام.

ووجه الاندفاع : ما عرفت من أنّ حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان مشروط بإمكان البيان ، وهو متعذّر في المقام ، إذ لو لم يجب النظر إلى المعجزة لا يكون طريق إلى معرفة نبوّة المدّعي لو كان صادقا في الواقع ، إلّا الأخذ بدعواه للنبوّة ، وجوازه موقوف على ثبوت صدقه ونبوّته ، فلو ثبتت نبوّته بقوله لزم الدور ، فلا بدّ حينئذ من النظر للاحتياط كما عرفت. مع أنّ وجوب النظر إنّما هو من باب المقدّمة ، لوجوب تصديق المدّعي لو كان صادقا في دعواه في الواقع ، فالمقصود من نفي وجوب النظر بأصالة البراءة نفي وجوب تصديقه.

وحينئذ نقول : إنّ العمل بالاصول موقوف على الفحص إجماعا ، والفحص في العمل بها في الأحكام إنّما هو عن الأدلّة ، وفي مسألة النبوّة عن معجزاته بالنظر إليها ، فعدم جواز العمل بالأصل إنّما هو لفقد شرطه ، لا لأجل عدم تقبيح العقل للتكليف بلا بيان.

وربّما يظهر من المحكيّ عن الهداية التفصيل في المقام بين ما قبل بسط الشرع

على شىء من دون بيان التكليف. ويشهد له : حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه.

ودعوى : أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة ، مدفوعة : بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كلّية ظاهريّة وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ؛ فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة بل قاعدة القبح واردة عليها ؛ لأنّها فرع احتمال الضرر أعني العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان. فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها.

______________________________________________________

وانتشار الأحكام وما بعده ، فسلّم قبح التكليف بلا بيان في الأوّل ، ومنعه في الثاني. وذلك لأنّ التكليف بلا بيان على وجوه : أحدها : أن يكلّف الشارع من دون بيان ، مع مانع من بيانه كما عرفته من مسألة النبوّة. وثانيها : أن يكلّف بلا بيان ، مع عدم المانع من قبله ولا من قبل المكلّف. وثالثها : أن يكلّف من دون بيان مع وجود المانع من قبل المكلّف ، بأن أرسل الله سبحانه رسولا ، فبلّغ جميع ما يجب تبليغه ، ونصب أوصياء بعده ليكونوا مرجعا للأنام في كلّ زمان ، ويزيد واما نقصوا وينقصوا ما زادوا ، ولكنّ المكلّفين بسوء اختيارهم أزالوا هذه النعمة عن أنفسهم ، وصاروا سببا لغيبة الوصيّ من بينهم ، فقصر باعهم عن تناول الأحكام ومعرفتها لذلك.

وإذا تحقّق ذلك فنقول : لا شكّ في عدم وجوب البيان ووجوب الاحتياط في الأوّل على ما بيّنّاه ، وكذلك في القبح على الثاني. وأمّا الثالث فليس في العقل ما يقبّح التكليف بلا بيان في هذا القسم. وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل ، إذ لا ريب في تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما يجب عليه تبليغه ، ولا في عدم تقصير أوصيائه في

هذا كلّه إن اريد ب «الضرر» العقاب ، وإن اريد به مضرّة اخرى غير العقاب ـ التي لا يتوقّف ترتّبها على العلم ـ ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان إلّا أنّ الشبهة (١١٨٣)

______________________________________________________

ذلك ، وإنّما صار المكلّفون لأجل تغلّبهم وظلمهم سببا لغيبة الحجّة من بينهم ، والحرمان من الانتفاع بوجوده الشريف وما معه من الأحكام ، كما هو واضح بالضرورة.

وبالجملة ، إنّه لا فرق في عدم القبح بين ما كان المانع من قبل المكلّف ـ بالكسر ـ كما عرفت من مسألة المعجزة ، أو من قبل المكلّف ـ بالفتح ـ كما فيما نحن فيه.

ولكنّه لا يخلو عن مناقشة بل منع ، لوضوح الفرق بين المقامين ، لعدم إمكان البيان في مسألة المعجزة مطلقا لا تفصيلا ولا إجمالا ، بأن أوجب الاحتياط فيها ، لما عرفت من استلزامه الدور ، بخلاف ما نحن فيه ، لإمكان أن يبيّن وجوب الاحتياط عند تعذّر معرفة الأحكام الواقعيّة لأجل غيبة الإمام عليه‌السلام أو غيرها ، فمع عدم بيانه لذلك فالعقل يستقلّ بقبح التكليف لا محالة.

لا يقال : لعلّه قد بيّن ولم يصل إلينا ، مع أنّ أخبار الاحتياط ناطقة به.

لأنّا نقول : إنّ مطلق البيان غير كاف ما لم يصل إلينا ، ومع وصوله لا بدّ أن يكون واضح الدلالة ، وسيجيء منع دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه. مع أنّا نمنع عدم قبح التكليف بلا بيان في مسألة المعجزة أيضا ، لما عرفت من أنّ عدم جواز العمل بأصالة البراءة فيها لفقد شرطها لا لأجل منع القبح. وبالجملة ، إنّه لا فرق في قبح التكليف بلا بيان بين المقامين ، لاستقلال العقل بالبراءة مطلقا ما لم يصل بيان ولو إجمالا.

١١٨٣. حاصل ما ذكره من الجواب يرجع إلى وجوه :

أحدها : كون الشبهة في المقام موضوعيّة.

من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين ، فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود ؛ فلا بدّ على كلا القولين إمّا من منع وجوب الدفع ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر ، وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعية إن شاء الله.

ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس‌سره في الغنية : أنّ التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق. وتبعه بعض من تأخّر عنه ، فاستدلّ به في مسألة البراءة. والظاهر : أنّ المراد به (١١٨٤) ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة ، كما

______________________________________________________

وثانيها : منع وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل. والوجه فيه عدم إمكان التحرّز عن المضارّ الدنيويّة المحتملة ، لاحتمال وجود المفسدة في جميع الأفعال من جهة بل من جهات ، كما هو واضح. ويمكن أن يقال في منع وجوب التحرّز عن المفاسد المحتملة ووجوب تحصيل المصالح كذلك التي هي منشأ الأحكام الشرعيّة : إنّ ذلك إنّما يتمّ على تقدير كون هذه المفاسد والمصالح علّة تامّة لها ، ولم يثبت ، لاحتمال كون تأثيرها مشروطا بالعلم بها. ولا فرق حينئذ بين المفاسد الدنيويّة والأخرويّة غير العقاب.

وثالثها : ثبوت الرخصة من الشارع في ارتكابها ، وهي كاشفة عن وجود ترياق لها ، وإن كان ذلك حاصلا بالعمل بالأحكام المعلومة. بل ربّما يقال في منع حكم العقل بوجوب دفع المفاسد المحتملة بكفاية مجرّد احتمال جعل الشارع لها ترياقا وإن لم يعرفه المكلّف. ولكنّه كما ترى غير مانع من حكم العقل بالوجوب. وبعبارة اخرى : إنّا إن قلنا باعتبار أصالة البراءة من باب الشرع ، كشف ذلك عن وجود ترياق يتدارك به المفسدة اللازمة من العمل بالبراءة. وإن قلنا باعتبارها من باب العقل ، فهو إنّما يحكم بها بعد منع وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا يكفي فيه مجرّد احتمال ما ذكرناه.

١١٨٤. حاصله : أنّ غرض الشارع من التكليف هو إطاعة ما أمر به أو نهى

صرّح به جماعة من الخاصّة والعامّة في دليل اشتراط التكليف بالعلم ؛ وإلّا فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف به.

واحتمال كون الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل ولو مع عدم قصد الإطاعة أو كون الغرض من التكليف مع الشكّ فيه إتيان الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الإتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوبا للآمر ، وهذا ممكن من الشاكّ وإن لم يكن من الغافل ، مدفوع : بأنه إن قام دليل (١١٨٥)

______________________________________________________

عنه ، لا مجرّد وقوع المأمور به وعدم وقوع المنهيّ عنه ولو من باب الاتّفاق. والإطاعة في التعبّديات هي الإتيان بالمأمور به من حيث إنّ الشارع أمر به ، وهو معنى القربة المعتبرة فيها ، ولا شكّ أنّ هذا المعنى لا يمكن إلّا مع العلم بالأمر. وأمّا في التوصّليات فهي الإتيان بالفعل المأمور به في الخارج مع القصد إلى إيقاعه في الخارج ، وإن لم يكن بقصد امتثال ما أمره به ، بأن يوقع عقد البيع مع القصد إلى كونه من الأسباب الناقلة شرعا ، وإن لم يكن الإتيان به بقصد أنّه ممّا أمر الله به حتّى يترتّب عليه الثواب. ولا ريب في عدم القدرة أيضا على الإتيان بالمأمور به كذلك مع عدم العلم بالأمر.

وبالجملة ، إنّ مجرّد صدور الفعل المأمور به من باب الاتّفاق لا يوجب الإطاعة ، كما أنّ صدور تركه كذلك لا يوجب المخالفة. وسقوط التكليف في بعض الموارد بفعل الغير ـ كما في دفن الميّت وأداء الدين من غير المديون ـ إنّما هو من جهة سقوط أصل التكليف بفعل الغير ، لأجل حصول الغرض لا من جهة حصول الإطاعة.

١١٨٥. حاصله : أنّ الغرض من التكليف هو امتثاله ، فلو جاز التكليف بالمجهول فلا بدّ أن يكون الغرض منه امتثاله مطلقا ولو في حال الجهل ، ولا ريب أنّ الامتثال التفصيلي في حال الجهل متعذّر ، كما أسلفناه في الحاشية السابقة. وأمّا الامتثال الإجمالي بالإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر في الواقع ، فإن قام دليل على

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب ذلك في التكاليف المجهولة أغنى ذلك عن الأمر الواقعي ، لكون الغرض المقصود من الأمر الواقعي حاصلا بهذا الأمر الظاهري. وإن لم يقم على وجوبه دليل فمجرّد التكاليف الواقعيّة المشكوكة لا تنفع في تحصيل هذا الغرض ، لأنّه لو جاز التكليف بالمجهول كان الغرض منه حمل المكلّف عليه وإتيانه به مطلقا ولو مع الجهل به ، لأنّ ظاهر التكليف حيث ثبت كون المقصود منه إتيان المكلّف بالمكلّف به على الحال التي وقع عليها ، فالتكليف المشكوك بنفسه لا يفيد الغرض المذكور.

والحاصل : أنّه مع فرض عدم قيام دليل على وجوبه فغاية ما يترتّب على الأمر الواقعي المحتمل هو الإتيان بالفعل أحيانا من باب الاتّفاق أو لداعي احتماله ، لا لداعي إطاعته التفصيليّة ، وهو غير مجد في تحصيل الغرض المقصود منه من حمل المكلّف على الإتيان بالمكلّف به مطلقا ، وهو واضح.

هذا ، ويمكن أن يقال بورود جميع ما ذكره فيما ثبت وجوب الاحتياط فيه ، كما لو تردّد الواجب بين الظهر والجمعة أو بين القصر والإتمام في بعض الموارد ، إذ يمكن أن يقال هنا أيضا : إنّ التكليف بالمجهول لو جاز كان الغرض منه امتثاله مطلقا ، والامتثال التفصيلي متعذّر ، والإجمالي إن قام على وجوبه دليل أغنى هذا الدليل عن التكليف الواقعي ، وإلّا فمجرّد التكليف الواقعي لا ينفع في تحصيل الغرض المذكور. بل يمكن إجراء هذا الكلام في جميع موارد إمكان الاحتياط ، سواء كانت الشبهة بدويّة أم مشوبة بالعلم الإجمالي ، إذ ما ذكر من الوجه يمنع إمكان الاحتياط لا وجوبه. مع أنّ دعوى إغناء الأمر الظاهري بالاحتياط عن الأمر الواقعي متّضحة الفساد ، لوضوح عدم إغناء شيء منهما عن الآخر. أمّا عدم إغناء الأوّل فلكون إمكان الاحتياط متفرّعا على احتمال التكليف الواقعي. وأمّا عدم إغناء الثاني فلأنّه إنّما يسلّم مع إمكان تحصيل الواقع بالعلم التفصيلي ، وأمّا مع عدمه ـ كما في محلّ الفرض من موارد أصالة البراءة ، لفرض عدم إمكان تحصيل العلم

على وجوب إتيان الشاكّ في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبيّة أغنى ذلك من التكليف بنفس الفعل ، وإلّا لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور.

والحاصل أنّ التكليف المجهول لا يصلح لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا ، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف.

واعلم : أنّ هذا الدليل العقلي كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقليّة معلّق على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط ؛ فلا يثبت به إلّا الأصل في مسألة البراءة ، ولا يعدّ من أدلّتها بحيث يعارض أخبار الاحتياط.

وقد يستدلّ على البراءة بوجوه غير ناهضة : منها : استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون. وفيه : أنّ الاستدلال مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالّة على الحكم الواقعي دون الاصول المثبتة للأحكام الظاهريّة. وسيجيء عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ إن شاء الله. وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينفع في المقام ؛ لأنّ الثابت بها (١١٨٦) ترتّب اللوازم المجعولة الشرعيّة (١١٨٧)

______________________________________________________

بالواقع فيها تفصيلا ـ فلا يكون الأمر بالاحتياط فيه مغنيا عن الواقع لا محالة.

١١٨٦. يرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمه‌الله عليه ـ منع جريان استصحاب البراءة في مورد قاعدتها ، لكون الشكّ في التكليف علّة تامّة لحكم العقل بعدم التكليف في مقام الظاهر ، وحينئذ لا يبقى شكّ فيه حتّى يجري استصحاب البراءة. وحينئذ تكون قاعدة البراءة حاكمة على استصحابها ، نظير حكومة قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى استصحابه. اللهمّ إلّا أن يقال بكون التمسّك بالاستصحاب في المقام مبنيّا على الغضّ عن حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، أو على ظاهر المشهور من كون اعتبار البراءة من باب الاستصحاب.

١١٨٧. لأنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ليس المراد به النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، لانتقاضه به قهرا ، بل المراد به ـ على ما سيجيء في محلّه ـ

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم بالالتزام ببقاء المتيقّن السابق في زمان الشكّ إذا كان المستصحب حكما شرعيّا ، وببقاء الآثار الشرعيّة المرتّبة على المتيقّن السابق إن كان من الموضوعات الخارجة مثل حياة زيد ، لأنّ المقصود من استصحاب وجوده هو ترتيب الأحكام المرتّبة على وجوده في زمان اليقين به في زمان الشكّ فيه ، مثل الحكم بوجوب نفقة زوجته وعدم انتقال ملكه إلى الوارث ونحوهما ، ولذا لا يجري الاستصحاب في الموضوعات التي لا تترتّب عليها أحكام شرعيّة ، مثل استصحاب حياة جنّ معهود مثلا.

والمستصحب فيما نحن فيه هي براءة الذمّة من التكليف ، وعدم المنع من الفعل ، وعدم استحقاق العقاب عليه. والمقصود من استصحاب هذه الامور هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو ما يستلزم ذلك ، كإثبات الإذن والترخيص من الشارع في الفعل ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله. والقطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل ليس من اللوازم الشرعيّة للامور المذكورة ، وكذلك الإذن والترخيص ، فإنّه وإن كان من الامور الشرعيّة إلّا أنّه ليس من لوازم الامور المذكورة ، بل من مقارناتها على ما حقّق به المقام ، ولا هو موردا للاستصحاب ، لعدم توجّه الخطابات الشرعيّة إلى المجنون والصبيّ ، فكما أنّه لا وجوب ولا تحريم في حقّهما ، كذلك لا استحباب ولا كراهة ولا إباحة أيضا في حقّهما ، حتّى يستصحب شيء منها.

نعم ، استصحاب عدم المنع مثلا الثابت في حال الصغر والجنون إلى زمان ما بعد البلوغ ، مع العلم بعدم خلوّ الواقعة من أحد الأحكام الخمسة ، لا ينفكّ عن الإباحة بالمعنى الأعمّ الشامل للثلاثة الأخيرة. ولكنّ الاستصحاب كما لا يثبت اللوازم غير الشرعيّة ، كذلك لا يثبت المقارنات الاتّفاقيّة وإن كانت شرعيّة أيضا. بل الظاهر أنّ القائلين بالاصول المثبتة أيضا لا يقولون بذلك ، لأنّهم إنّما يقولون

على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلّا براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه ، والمطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو ما يستلزم ذلك ـ إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب ، احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه حتّى يأمن العقل من العقاب ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ـ ، ومن المعلوم أنّ المطلوب المذكور لا يترتّب على المستصحبات المذكورة ؛ لأنّ عدم استحقاق العقاب (١١٨٨) في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة حتّى يحكم به الشارع في الظاهر.

______________________________________________________

باعتباره في إثبات اللوازم مطلقا لا ما يشمل ذلك أيضا ، كما سيجيء في محلّه. فلا يصحّ على مذهبهم أيضا إثبات أحد الضدين بنفي الآخر ، كإثبات الاستحباب بنفي الوجوب بالأصل فيما دار الأمر بينهما. والعجب من صاحب الفصول ، فإنّه مع اعترافه باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد وعدم اعتداده بالاصول المثبتة قد تمسّك به في المقام ، وقد عرفت التنافي بينهما ، بل هذا شيء لا يقول به القائلون بالاصول المثبتة على ما عرفت.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في المقام. وهو متّجه إذا كان المقصود في المقام هو استصحاب الامور المذكورة لإثبات عدم العقاب أو الإذن والرخصة من الشارع. وأمّا إذا كان المقصود استصحاب عدم الوجوب والحرمة ، فهو أيضا وإن لم يثبت الإذن والرخصة على ما عرفت ، إلّا أنّه قد يثمر في بعض المواضع ، مثل ما ورد في الأخبار من أنّ من عليه فريضة لا يجوز له التطوّع ، حيث يستفاد منه كون جواز التطوّع لازما شرعيّا لعدم فريضة على المكلّف ، فإذا صحّ نفي الوجوب بالاستصحاب ثبت جواز التطوّع له شرعا ، فتدبّر.

١١٨٨. الأولى ترك لفظ الاستحقاق ، لأنّ عدم استحقاق العقاب أحد المستصحبات لا من لوازمها ، فضلا عن أن يكون شرعيّا أو غيره. اللهمّ إلّا أن يريد

وأمّا الإذن والترخيص في الفعل ، فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا إلّا أنّ الإذن الشرعيّ ليس لازما شرعيّا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ؛ حيث إنّ عدم المنع عن الفعل ـ بعد العلم إجمالا بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة ـ لا ينفكّ عن كونه مرخّصا فيه ، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم.

ومن هنا تبيّن أنّ استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا (٤٦) ـ من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وعدم إثباته إلّا اللوازم الشرعيّة ـ في هذا المقام باستصحاب البراءة ، منظور فيه. نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ أو أنّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبّد كلّ ما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللوازم الشرعيّة ، فلا بأس بتمسّكه به ، مع أنّه يمكن النظر فيه ؛ بناء على ما سيجيء من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب ، وموضوع البراءة في السابق ومناطها هو الصغير الغير القابل للتكليف ، فانسحابها في القابل أشبه بالقياس من الاستصحاب ، فتأمّل (١١٨٩). وبالجملة : فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها والمنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب.

______________________________________________________

باستحقاق العقاب ترتّبه مجازا ، أو يريد أنّ عدم استحقاقه ليس من اللوازم الشرعيّة للفعل حتّى يثبت باستصحاب نفسه. وهذا وإن كان صحيحا إلّا أنّه لا تفي به العبارة ، بل مناف لسياقها.

١١٨٩. الأمر بالتأمّل إشارة إلى بقاء الموضوع في زمان الشكّ في محلّ الفرض بالمسامحة العرفيّة ، وإن كان مرتفعا بالمداقّة العقليّة ، لكون بلوغ الصبيّ وإفاقة المجنون عند أهل العرف من قبيل تغيّر حالات الموضوع ، لا من قبيل تغيّر نفس الموضوع. وسيجيء توضيح ما يتعلّق بذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

وقد يورد على استصحاب البراءة أيضا بالعلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة ، لأنّ اليقين بالبراءة في حال الصغر والجنون إنّما هو مع العلم بعدم التكليف رأسا ، وقد علمنا إجمالا بانتقاض هذه الحالة بعد البلوغ والإفاقة بالعلم

ومنها : أنّ الاحتياط عسر منفي وجوبه (٤٧). وفيه : أنّ تعسّره ليس إلّا من حيث كثرة موارده وهي ممنوعة ؛ لأنّ مجراها عند الأخباريّين موارد فقد النصّ على الحرمة وتعارض النصوص من غير مرجّح منصوص ، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج ، وعند المجتهدين موارد فقد الظنون الخاصّة ، وهي عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على الاحتياط إلى الحرج. ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة فلا بدّ له من العمل (١١٩٠) بالظنّ الغير المنصوص على حجّيّته حذرا عن لزوم محذور الحرج ، ويتّضح ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد الذي أقاموه على وجوب التعدّي عن الظنون المخصوصة المنصوصة ، فراجع.

______________________________________________________

بأنّ للشارع في كلّ واقعة حكما من الأحكام الخمسة. وبعبارة اخرى : إنّ المستصحب إن كان هي البراءة الثابتة في حال الصغر والجنون ، فهي منتقضة بالعلم بخلافها إجمالا على ما عرفت. وإن كان هو عدم الوجوب والحرمة ، فهو معارض باستصحاب عدم الإباحة أيضا ، لكون الشكّ حينئذ في الحادث بعد العلم إجمالا بحدوث شيء.

وقد يذبّ عنه بأنّ المقصود باستصحاب عدم الوجوب والحرمة ليس هو إثبات الإباحة حتّى يرد ما عرفت ، بل المقصود نفي الأثر الزائد المرتّب على ما علم إجمالا ، لأنّه إذا علم حدوث أحد شيئين وكان أحدهما أكثر آثارا من الآخر فالأصل يقتضي نفي الأثر الزائد ، والوجوب والحرمة يختصّان بالنسبة إلى الإباحة بالمعنى الأعمّ بترتّب العقاب على مخالفتهما ، فالأصل يقتضي نفى هذا الأثر ، مع السكوت عن كون الثابت إجمالا هو ما ترتّب عليه هذا الأثر أو غيره.

١١٩٠. مع العمل بالظنّ غير المنصوص على حجيّته تقلّ موارد البراءة أيضا ، وهي موارد فقد الظنّ المطلق ، فلا يلزم من العمل بالاحتياط فيها عسر.

ومنها : أنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة. وفيه ما لا يخفى (١١٩١) ، ولم أر ذكره إلّا في كلام شاذّ لا يعبأ به.

______________________________________________________

١١٩١. لأنّ محلّ الكلام في المقام ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ، فلا يشمل ما دار الأمر فيه بين المحذورين وقد يتمسّك في المقام أيضا بالغلبة ، نظرا إلى كون أغلب الأشياء مباحة. وفيه أوّلا : منع الغلبة ، لأنّ مقصودهم حيث يتمسّك بها كون النادر مضمحلّا في جنب الغالب ، ولا ريب أنّ الواجب والحرام ليسا كذلك بالنسبة إلى المباح. وثانيا : منع حصول الظنّ من هذه الغلبة. وثالثا : منع اعتبار الظنّ الحاصل منها. ورابعا : خروج أصالة البراءة على هذا التقدير من كونها من الأدلّة الفقهائيّة ، لكون الغلبة مقيدة للظنّ بإباحة المشكوك بحسب الواقع ، فتأمّل.

المصادر

(١) الفوائد الحائرية : ص ٤٩٩ ، الفائدة ٣٣ في تعريف المجتهد والفقيه.

(٢) من لا يحضره الفقيه ج ١ : ص ٣١٧ ، الحديث ٩٣٧.

(٣) البقرة (٢) : ٢٢٢.

(٤) الطلاق (٦٥) : ٧.

(٥) مناهج الاصول : ص ٢١٠.

(٦) الطلاق (٦٥) : ٧.

(٧) مجمع البيان ج ١٠ : ص ٣٠٩.

(٨) الكافي ج ١ : ص ١٦٣ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث ٥.

(٩) البقرة (٢) : ٢٨٦.

(١٠) الإسراء (١٧) : ١٥.

(١١) القوانين ج ٢ : ص ١٦ ـ ١٧.

(١٢) التوبة (٩) : ١١٥.

(١٣) كتاب التوحيد للصدوق : ص ٤١٤ ، باب التعريف والبيان والحجّة ، الحديث ١١.

(١٤) الأنفال (٨) : ٤٢.

(١٥) الانعام (٦) : ١٤٥.

(١٦) الأنعام (٦) : ١١٩.

(١٧) الوسائل ج ١١ : ص ٢٩٥ ، باب ٥٦ ، الحديث ١.

(١٨) الوسائل ج ١٦ : ص ١٣٦ ، الباب ١٢ من كتاب الأيمان ، الحديث ١٢.

(١٩) البقرة (٢) : ٢٨٦.

(٢٠) الكافى ج ٢ : ص ٤٦٣ ، الحديث ٢.

(٢١) النهاية لابن الأثير ، ج : ٣ ، ص ١٥٢.

(٢٢) الوسائل ج ٤ : ص ١١٩١ ، الباب ١٦ من أبواب الذكر ، الحديث ١.

(٢٣) الكافى ج ٢ : ص ٤٢٤ ، الحديث ١.

(٢٤) الكافي ج ٢ : ص ٤٢٥ ، باب الوسوسة وحديث النفس ، الحديث ٣.

(٢٥) الكافى ج ٢ : ص ٤٢٥ ، الحديث ٤.

(٢٦) الكافى ج ٢ : ص ٤٢٦ ، الحديث ٥.

(٢٧) الخصال : ص ٨٩ ، باب الثلاثة ، الحديث ٢٧.

(٢٨) النمل (٢٧) : ٤٧.

(٢٩) النساء (٤) : ٥٤.

(٣٠) المدثر (٧٤) : ١٨ ـ ١٩.

(٣١) نهج البلاغة : ص ٤٨٧ ، الحكمة ١٠٥.

(٣٢) عوالي اللآلي ج ١ : ص ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩.

(٣٣) الكافي ج ١ : ص ١٦٤ ، باب حجج الله علي خلقه ، الحديث ٢.

(٣٤) الوسائل ج ٥ : ص ٣٤٤ ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ١.

(٣٥) الكافي ج ١ : ص ١٦٤ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث ١.

(٣٦) من لا يحضره الفقيه ج ١ : ص ٣١٧ ، الحديث ٩٣٧.

(٣٧) الوسائل ج ١٤ : ص ٣٤٥ ، الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ٤.

(٣٨) الوافية : ص ١٨١.

(٣٩) مناهج الأحكام : ص ٢١٤.

(٤٠) القوانين ج ٢ : ص ٢٥٩.

(٤١) الذريعة ج ٢ : ص ٨٠٩ ـ ٨١٢.

(٤٢) عدّة الاصول ج ٢ : ص ٧٥٠.

(٤٣) السرائر ج ١ : ص ٤٦.

(٤٤) معارج الاصول : ص ٢١٦.

(٤٥) معارج الاصول : ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٤٦) الفصول : ص ٣٥٢ ، ٣٧٠ و ٣٧٧.

(٤٧) مفاتيح الاصول : ص ٥٠٦.

احتجّ للقول الثاني ـ وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ـ بالأدلّة الثلاثة : فمن الكتاب طائفتان : إحداهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ؛ فإنّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء حيث إنّه لم يؤذن فيه. ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ؛ لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنّما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ؛ فإنّه لا يكون إلّا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة.

والاخرى : ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط والاتّقاء والتورّع ، مثل ما ذكره الشهيد رحمه‌الله في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت ـ للدلالة على مشروعيّة الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة للفساد ـ ، وهي قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١) و (جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٢). أقول : ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٤) ، وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٥).

والجواب أمّا عن الآيات الناهية عن القول بغير علم ـ مضافا إلى النقض (١١٩٢)

______________________________________________________

١١٩٢. يرد عليه أيضا : أنّ قول الأخباريّين بوجوب الاحتياط وحرمة الارتكاب قول بغير علم. وما ذكره المصنّف من عدم ابتناء القول بالاحتياط على الفتوى بحرمة الارتكاب مبنيّ على المماشاة مع الخصم ، وإلّا فلا ريب في فتوى الأخباريّين بوجوب الاحتياط وحرمة الارتكاب.

بشبهة الوجوب والشبهة في الموضوع ـ : فبأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتّكالا على قبح العقاب من غير بيان المتّفق عليه بين المجتهدين والأخباريين ليس من ذلك. وأمّا عمّا عدا آية التهلكة : فبمنع منافاة الارتكاب (١١٩٣) للتقوى والمجاهدة ، مع أنّ غايتها الدلالة على الرجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله (٦). وأمّا عن آية التهلكة :

______________________________________________________

١١٩٣. لأنّ للتقوى معنيين :

أحدهما : ما ذكره الفقهاء عند تعريف العدالة بأنّها ملكة تبعث على ملازمة التقوى ، من الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرّمات. وعلى هذا المعنى لا ينافي ارتكاب الشبهة للتقوى ، لفرض عدم العلم بحرمة المشتبه. وإليه ينظر قوله : «بمنع منافاة الارتكاب للتقوى».

وثانيهما : ما هو المتداول بين عامة الناس ، حيث لا يطلقون المتّقي إلّا على الأوحديّ من الناس ، وهو من أتى بالواجبات والمستحبّات ، واجتنب عن المحرّمات والمكروهات ، بل عن المباحات والمشتبهات ، على حسب ما يسعه وسعه. فلو كان المراد بالتقوى في الآيتين هو هذا المعنى لزم فيهما تخصيص الأكثر ، بناء على حمل الأمر فيها على ظاهره من الوجوب ، للقطع بجواز ارتكاب المباحات والمكروهات ، وكذا الشبهات التحريميّة الموضوعيّة ، باتّفاق من الأخباريّين ، وكذلك ترك المستحبّات ، وكذا الشبهات الوجوبيّة مطلقا ، حكميّة كانت أم موضوعيّة ، باتّفاق منهم ، فلا يبقى تحت الآيتين إلّا الواجبات والمحرّمات والشبهات التحريميّة الحكميّة. ولا ريب في كون الخارج حينئذ أكثر من الباقي ، كيف لا والشبهات الموضوعيّة بانفرادها أكثر من الداخل ، لكون أكثر الأشياء ـ من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها ـ مشتبهة بحسب الواقع. فلا مناص في دفع هذا الإشكال من حمل الأمر في الآيتين على مطلق الرجحان ، وهو مناف للغرض من الاستدلال بهما.

فإن قلت : إنّ المتفاهم عرفا من التقوى هو ترك ما في فعله وفعل ما في تركه

.................................................................................................

______________________________________________________

خوف ، فلا تشمل المستحبّات والمكروهات والمباحات ، فينحصر مفهومه في فعل الواجبات والشبهة الوجوبيّة وترك المحرّمات والشبهة التحريميّة ، سواء كانت حكميّة أم موضوعيّة ، والخارج منها لا يستلزم تخصيص الأكثر ، لكون التخصيص بحسب النوع دون الأفراد ، لأنّ الخارج حينئذ نوعان ، أعني : الشبهة الوجوبيّة مطلقا والشبهة التحريميّة الموضوعيّة ، والباقي ثلاثة أنواع ، أعني : الواجبات والمحرّمات والشبهة التحريميّة الحكميّة.

قلت أوّلا : إنّ التخصيص النوعي خلاف الأصل ، لظهور العمومات في خصوص الأفراد لا الأنواع ، والتخصيص النوعي مجاز لا بدّ في حمل اللفظ عليه من نصب قرينة.

وثانيا : أنّا نمنع شمول التقوى للواجبات والمحرّمات أيضا ، لما عرفت من ظهوره في ترك ما في فعله وفعل ما في تركه خوف العقاب ، والعقاب في ترك الواجب وفعل الحرام متحقّق لا ممّا يخاف عنه ، فيكون الخارج أيضا أكثر من الباقي. مع أنّ الآيتين آبيتان عن التخصيص ، سواء كان نوعيّا أم فرديّا ، لكونهما من القضايا التي كان موضوع الحكم فيها علّة له ، لأنّ علّة وجوب التقوى هو حسن ما يتّقى به ، فكلّ ما يحصل به التقوى فالعلّة موجودة فيه ، فلا يمكن تخصيصهما بما يحصل به التقوى أيضا ، فلا بدّ من حمل الأمر فيهما على إرادة مطلق الرجحان لتسلما من محذور التخصيص من رأس. فهما دليلان لنا لا علينا ، لفرض ظهورهما في استحباب الاحتياط غير المنافي للقول بالبراءة لا في مطلوب الخصم من وجوبه.

وممّا ذكرناه ظهر الوجه فيما ذكره المصنّف رحمه‌الله بقوله : «مع أنّ غايتها الدلالة على الرجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله».

وممّا ذكرناه تبيّن عدم دلالة آية المجاهدة أيضا ، إمّا لظهورها في فعل الواجبات وترك المحرّمات خاصّة ، كالتقوى على معناها الأوّل ، كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله. وإمّا لأنّ تعميمها يستلزم تخصيص الأكثر ، نظير ما تقدّم في التقوى

فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم (١١٩٤) ، وبمعنى غيره (١١٩٥) يكون الشبهة موضوعية لا يجب فيها الاجتناب بالاتّفاق.

ومن السنّة طوائف : إحداها : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم. وقد ظهر جوابها ممّا ذكر في الآيات. والثانية : ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة وعدم العلم وهي لا تحصى كثرة (١١٩٦). وظاهر التوقّف المطلق السكون وعدم المضيّ ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصّل قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». فلا يردّ على الاستدلال : أنّ التوقّف في الحكم الواقعي مسلّم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقّف في العمل لا معنى له.

فنذكر بعض تلك الأخبار تيمنا : منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : «إذا كان كذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك (١١٩٧) ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٧). ونحوها صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام وزاد فيها : «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (٨).

______________________________________________________

على معناها الثاني. وأمّا آية التنازع فيرد عليها : أنّ العمل بالبراءة المستفادة من الأدلّة الأربعة ردّ لحكم المشتبه إلى الله ورسوله. ولعلّه لغاية ضعف دلالتها لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله للجواب عنها.

١١٩٤. لما أسلفه من قبح العقاب بلا بيان.

١١٩٥. من سائر المفاسد الدنيويّة أو الاخرويّة.

١١٩٦. هي قريبة من التواتر ، أو متواترة على ما ادّعاه الشيخ الحرّ العاملي في باب القضاء من الوسائل.

١١٩٧. قال الطريحي : وفي الحديث المشتبه أمره : «فأرجه حتّى تلقى إمامك» أي : أخّره واحبس أمره من الإرجاء وهو التأخير.

وفي روايات الزهريّ والسكونيّ وعبد الأعلى : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه (١١٩٨) خير من روايتك حديثا لم تحصه» (٩) ، ورواية أبي شيبة عن أحدهما عليهما‌السلام (١١٩٩) وموثّقة سعد بن زياد عن

______________________________________________________

١١٩٨. يحتمل أن يكون المعنى : تركك وعدم نقلك حديثا لم تروه ولم تنقله عن الغير ، بل ترويه على سبيل الوجادة مثلا ، خير من روايتك أحاديث لم تحصها كثرة.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله : «حديثا» هو الحديث الصادر عن المعصوم عليه‌السلام في نفس الأمر. وقوله عليه‌السلام : «لم تروه» من الرواية صفة مؤكّدة أو حال منه مؤكّد لمضمون عامله ، ولا غرو في كون ذي الحال نكرة مع تأخّر الحال عنه ، لكون النكرة المنوّنة بتنوين التنكير في حكم الموصوفة باعتبار الواحدة المستفادة منه. والمعنى والله أعلم : تركك حديثا صادرا عن المعصوم عليه‌السلام في نفس الأمر في حال كونك لم تروه ، ووضعك له في سنبله خير لك من أن تروي ما لم تحط بجميع جهاته. قوله : «لم تحصه» من الإحصاء ، وهو كناية عن الإحاطة بجهات الحديث ، كقوله تعالى : إنّ الله قد (أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.) ومحصّل المعنى يرجع إلى أنّ حديثا لم تحط بجميع جهاته تركك روايته خير لك من روايته ، وإن كان الحديث صادرا في نفس الأمر عن المعصوم عليه‌السلام.

ويحتمل أن يكون قوله : «لم تروه» من الرويّة بمعنى التفكّر ، بأن كان حرف المضارعة مضمومة والراء بعدها مفتوحة والواو بعدها مكسورة مشدّدة. والمعنى حينئذ : تركك حديثا لم تتأمّل في سنده أو معارضه أو دلالته خير من روايتك أحاديث لم تحط بها كثرة ، فتدبّر.

١١٩٩. قال الطريحي في مشتركاته : «وبالباقرين يعني المراد به محمد بن عليّ عليه‌السلام وجعفر بن محمّد عليهما‌السلام من باب التغليب ، وبالصادقين كذلك ، وبأحدهما أحدهما عليهما‌السلام».

جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة» ـ إلى أن قال ـ : «فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

وتوهّم ظهور هذا الخبر (١٢٠٠) المستفيض في الاستحباب مدفوع بملاحظة أنّ الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا ، مع أن جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة قرينة على المطلوب. فمساقه مساق قول القائل : «أترك الأكل يوما خير من أن امنع منه سنة» ، وقوله عليه‌السلام في مقام وجوب (١٢٠١) الصبر حتّى يتيقّن الوقت : «لأن أصلّي بعد الوقت أحبّ إليّ من أن اصلّي قبل الوقت» (١٠) ، وقوله عليه‌السلام في مقام التقيّة : «لأن افطر يوما من شهر رمضان فأقضيه أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي». ونظيره في أخبار الشبهة قول عليّ عليه‌السلام في وصيّته لابنه : «أمسك عن طريق (١٢٠٢) إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال» (١١).

ومنها : موثّقة حمزة بن الطيّار : «أنّه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه عليه‌السلام ، حتّى إذا بلغ موضعا منها قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والرّدّ إلى أئمّة

______________________________________________________

١٢٠٠. لأجل التعبير بلفظ الخير الظاهر في الرجحان المطلق ، ويحمل ما خلا من هذا اللفظ عليه ، نظرا إلى كون الأخبار بعضها كاشفا عن بعض. وحاصل ما أجاب به : كون المراد بالخير مقابل الشرّ بقرينة ما ذكره ، لا ما هو المنساق منه في بادئ النظر.

١٢٠١. هذا وما يأتي من قوله : «وقوله عليه‌السلام في مقام التقيّة» عطف على قول القائل.

١٢٠٢. المقصود إيجاب الوقوف في سلوك طريق خيفت ضلالته ، إذا لم يكن في ترك سلوكه مفسدة اخرى أقوى من خوف على نفس أو عرض ، وإلّا فارتكاب الضلال خير من تحمّل هذه المفسدة.

الهدى عليهم‌السلام حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ؛ قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)» (١٢).

ومنها : رواية جميل عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام : «أنّه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الامور ثلاثة : أمر بيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله عزوجل» (١٣).

ومنها : رواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصيّته لأصحابه : «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح الله لنا» (١٤).

ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «حقّ الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون» (١٥). وقوله عليه‌السلام في رواية المسمعيّ الواردة في اختلاف الحديثين : «وما لم تجدوا في شىء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم الكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا» (١٦) إلى غير ذلك ممّا ظاهره وجوب التوقّف.

والجواب : أنّ بعض هذه الأخبار (١٢٠٣) مختصّ بما إذا كان المضيّ في الشبهة اقتحاما في الهلكة ، ولا يكون ذلك إلّا مع عدم معذوريّة الفاعل (*) ؛ لأجل القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام أو إلى الطرق المنصوبة منه عليه‌السلام ، كما هو ظاهر

______________________________________________________

١٢٠٣. حاصل ما ذكره : أنّ بعض هذه الأخبار ظاهر في وجوب التوقّف ، إلّا أنّ مورده خارج ممّا نحن فيه. وبعضها ظاهر في استحبابه ، فلا يفيد المطلوب. والكلمة الجامعة في الجواب عن الجميع كون الأمر فيها للإرشاد والتخويف عن الهلكة المحتملة ، فلا تفيد الوجوب الشرعيّ الذي يترتّب على موافقته ومخالفته الثواب والعقاب ، فلا يثبت به وجوب الاحتياط شرعا ولو ظاهرا. وأمّا من حيث احتمال الوقوع في الهلكة ، فإن كانت الهلكة المحتملة هو العقاب الاخروي فالتوقّف والاحتياط حينئذ وإن كان واجبا ، إلّا أنّ الأمر به للإرشاد إلى التحرّز عن هذه

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الفاعل» ، الجاهل.

المقبولة وموثّقة حمزة بن الطيار ورواية جابر ورواية المسمعيّ. وبعضها وارد في مقام النهي عن ذلك ؛ لاتّكاله في الامور العمليّة (*) على الاستنباطات العقليّة الظنّية أو لكون المسألة من الاعتقاديّات كصفات الله تعالى ورسوله والأئمة صلوات الله عليهم كما يظهر من قوله عليه‌السلام في رواية زرارة : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» ، والتوقّف في هذه المقامات واجب. وبعضها ظاهر في الاستحباب ، مثل قوله عليه‌السلام : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» ، وقوله عليه‌السلام : «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» (١٧) ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها» (١٨) ، وفي رواية النعمان بن بشير قال : «سمعت رسول الله يقول : لكلّ ملك حمى ، وحمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك. لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات» (١٩) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه».

______________________________________________________

الهلكة ، فلا يترتّب عليه سوى الوقوع فيها أحيانا. وإن كانت مفسدة اخرى سوى العقاب الاخروي ، فالتوقّف والاحتياط حينئذ مستحبّ ، والأمر به أيضا للإرشاد. وعلى كلّ تقدير ، فهذه الأوامر بأسرها للإرشاد ، لا يترتّب عليها سوى ما يترتّب على نفس مخالفة الواقع ، فلا يثبت بها وجوب التوقّف والاحتياط شرعا كما هو المدّعى.

وأنت خبير بأنّ التوقّف من حيث القول والفتوى إمّا هو المراد بهذه الأخبار كما فهمه جماعة ، أو داخل في المراد منها ، بناء على شمولها له وللتوقّف من حيث العمل الذي مرجعه إلى وجوب الاحتياط. ولا ريب في كون التوقّف من حيث القول والفتوى واجبا نفسيّا ، إذ لا إشكال في حرمة الفتوى في الشبهة على جميع أقسامها ، سواء كانت مطابقة للواقع أم مخالفة له. وحينئذ لا يصحّ حمل الأمر فيها

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «العمليّة» ، العلميّة.

وملخّص الجواب عن تلك الأخبار : أنّه لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للإرشاد ، من قبيل أوامر الأطبّاء المقصود منها عدم الوقوع في المضارّ ؛ إذ قد تبيّن فيها حكمة طلب التوقّف ، ولا يترتّب على مخالفته عقاب غير ما يترتّب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك المحتمل فيها.

فالمطلوب في تلك الأخبار ترك التعرّض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة ، فإن كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الاخروي ـ كما لو كان التكليف متحقّقا

______________________________________________________

على الإرشاد الذي مقتضاه عدم ترتّب شيء على الأمر بالتوقّف سوى ما يترتّب على نفس الواقع على ما عرفت. فإذا لم يصحّ ذلك بالنسبة إلى الفتوى لا يصحّ بالنسبة إلى العمل أيضا ، وإلّا لزم استعمال اللفظ في معنيين ، أعني : استعمال الأمر بالتوقّف في الإرشاد بالنسبة إلى العمل ، وفي الإلزام المولوي بالنسبة إلى الفتوى ، وهو باطل. مع أنّ موثّقة عمّار : «كفّ واسكت ، إنّه لا يسعكم فيما نزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والردّ» ظاهر كالصريح في الإلزام بالكفّ عن القول. وما ذكره المصنّف رحمه‌الله مبنيّ على حمل التوقّف فيها على التوقّف من حيث العمل ، بل هو صريحه ، حيث قال فيما تقدّم من كلامه : «وظاهر التوقّف المطلق السكون وعدم المضيّ ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ...» إلى آخر ما ذكره. وقد عرفت ضعفه.

ثمّ إنّ حمل ما دلّ على كون المضيّ في الشبهة اقتحاما في الهلكة على صورة عدم معذوريّة الفاعل لا يخلو من نظر ، لصراحة بعض هذه الأخبار في صورة كون الشبهة في الموضوع التي لا يجب فيها الاحتياط باتّفاق من المجتهدين والأخباريّين ، مثل قول مولانا الصادق عليه‌السلام : «إنّك إذا بلغك قد رضعت من لبنها ، أو أنّها لك محرّمة ، وما أشبه ذلك ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة ...». فلا بدّ من حمل الهلكة في هذه الأخبار على المفاسد الدنيويّة ، أو الأعمّ منها ومن الاخرويّة سوى العقاب.

فعلا في موارد الشبهة نظير الشبهة المحصورة ونحوها ، أو كان المكلّف قادرا على الفحص وإزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام أو الطرق المنصوبة ، أو كانت الشبهة من العقائد و (*) الغوامض التي لم يرد الشارع التديّن به بغير علم وبصيرة ، بل نهى عن ذلك بقوله عليه‌السلام : «إنّ الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا ، فلا تتكلّفوها ؛ رحمة من الله لكم» ، فربّما يوقع تكلّف (**) التديّن فيه بالاعتبارات العقليّة أو الشواذّ النقليّة إلى العقاب بل إلى الخلود فيه إذا وقع التقصير في مقدّمات تحصيل المعرفة في تلك المسألة ـ ففي هذه المقامات ونحوها يكون التوقّف لازما عقلا وشرعا من باب الإرشاد ، كأوامر الطبيب بترك المضارّ.

وإن كان الهلاك المحتمل مفسدة اخرى غير العقاب ـ سواء كانت دينيّة كصيرورة المكلّف بارتكاب الشبهة أقرب إلى ارتكاب المعصية ، كما دلّ عليه غير واحد من الأخبار المتقدّمة أم دنيويّة كالاحتراز عن (***) أموال الظلمة (١٢٠٤) ـ فمجرّد احتماله لا يوجب العقاب على فعله لو فرض حرمته واقعا ، والمفروض أنّ الأمر بالتوقّف في هذه الشبهة لا يفيد استحقاق العقاب على مخالفته ؛ لأنّ المفروض كونه للارشاد ، فيكون المقصود منه التخويف عن لحوق غير العقاب من المضارّ المحتملة ، فاجتناب هذه الشبهة لا يصير واجبا شرعيّا بمعنى ترتّب العقاب على ارتكابه.

وما نحن فيه وهي الشبهة الحكميّة التحريميّة من هذا القبيل ؛ لأنّ الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤاخذة الاخروية باتّفاق الأخباريّين ؛ لاعترافهم بقبح المؤاخذة على مجرّد مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة وإن زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف في الشبهة بأوامر التوقّف والاحتياط ، فإذا لم يكن المحتمل فيها هو العقاب الاخروي

______________________________________________________

١٢٠٤. هذا ليس مثالا للمفسدة الدنيويّة ، بل لما فيه ذلك ، بناء على كون أكل أموال الظلمة مورثا لقساوة القلب التي هي من الصفات الذميمة.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

(**) في بعض النسخ : بدل «تكلّف» ، تكليف.

(***) في بعض النسخ : بدل «كالاحتراز عن» ، كارتكاب.

كان حالها حال الشبهة الموضوعيّة ـ كأموال الظلمة والشبهة الوجوبيّة ـ في أنّه لا يحتمل فيها إلّا غير العقاب من المضارّ ، والمفروض كون الأمر بالتوقّف فيها للإرشاد والتخويف عن تلك المضرّة المحتملة.

وبالجملة فمفاد هذه الأخبار بأسرها التحذير عن التهلكة (*) المحتملة ، فلا بدّ من إحراز احتمال التهلكة عقابا كانت أو غيره ، وعلى تقدير إحراز هذا الاحتمال لا إشكال ولا خلاف في وجوب التحرّز عنه إذا كان المحتمل عقابا ، واستحبابه إذا كان غيره ؛ فهذه الأخبار لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال ولا في حكمه.

فإن قلت : إنّ المستفاد منها احتمال التهلكة في كلّ محتمل التكليف ، والمتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعيّة الدينيّة هي الاخرويّة ، فتكشف هذه الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة لأجل الجهل ، ولازم ذلك إيجاب الشارع للاحتياط (**) ؛ إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح. قلت : إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول ، وهو قبيح كما اعترف به ، وإن كان حكما ظاهريّا نفسيّا فالهلكة الاخروية مترتّبة على مخالفته لا مخالفة الواقع ، وصريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعيّة.

هذا كلّه ، مضافا إلى دوران الأمر في هذه الأخبار بين حملها على ما ذكرنا وبين ارتكاب التخصيص فيها بإخراج الشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة. وما ذكرنا أولى (١٢٠٥).

______________________________________________________

١٢٠٥. للزوم التخصيص على تقدير حمل الأمر في أخبار التوقّف على الوجوب الشرعيّ.

لا يقال : إنّ التخصيص وإن كان خلاف الأصل ، إلّا أنّ حمل الأمر على الإرشاد أيضا خلاف الظاهر ، سيّما حمله على الأعمّ من الإرشاد الإلزامي وغيره كما في المقام ، إذ لا ريب في كونه مجازا.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «التهلكة» ، الهلكة.

(**) في بعض النسخ : بدل «للاحتياط» ، الاحتياط.

وحينئذ : فخيريّة الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعمّ من الرجحان المانع من النقيض ومن غير المانع منه ، فهي قضيّة تستعمل في المقامين ، وقد استعملها الأئمّة عليهم‌السلام كذلك.

فمن موارد استعمالها في مقام لزوم التوقّف : مقبولة عمر بن حنظلة التي جعلت هذه القضيّة فيها علّة لوجوب التوقّف في الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح ، وصحيحة جميل المتقدّمة التي جعلت القضيّة فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب الله.

ومن موارد استعمالها في غير اللازم : رواية الزهريّ المتقدّمة التي جعل القضيّة فيها تمهيدا لترك رواية الخبر الغير المعلوم صدوره أو دلالته ؛ فإنّ من المعلوم رجحان ذلك لا لزومه ، وموثّقة سعد بن زياد المتقدّمة التي فيها قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة» ؛ فإنّ مولانا الصادق عليه‌السلام فسّره في تلك الموثّقة بقوله عليه‌السلام : «إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها أو أنّها لك محرم وما أشبه ذلك ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ...» (٢٠) ، ومن المعلوم أنّ الاحتراز عن نكاح ما في الرواية من النسوة المشتبهة غير لازم باتّفاق الأخباريّين ؛ لكونها شبهة موضوعيّة ولأصالة عدم تحقّق مانع النكاح.

وقد يجاب عن أخبار التوقّف بوجوه غير خالية عن النظر (١٢٠٦):

______________________________________________________

لأنّا نقول : يلزم على الأوّل تخصيص الأكثر ، إذ لا بدّ حينئذ من إخراج الشبهات الوجوبيّة مطلقا والتحريميّة الموضوعيّة ، ولا ريب في كون الشبهات الموضوعيّة أكثر من سائر الشبهات ، لكون أكثر الأشياء من المأكولات والمشروبات والملبوسات ونحوها مشتبهة بحسب الواقع. وقد تقدّم عند شرح ما يتعلّق بالجواب عن الآيات المستدلّ بها للمقام ما ينفعك هنا.

١٢٠٦. الأجوبة المذكورة في كلمات العلماء ترتقي إلى أربعة عشر جوابا ، جوابان للمصنّف ، لأنّ ما ذكره يرجع إلى جوابين :

أحدهما : أنّ شطرا من الأخبار تدلّ على ترتّب الهلكة الاخرويّة ـ أعني :

.................................................................................................

______________________________________________________

العقاب الاخروي ـ على ارتكاب الشبهة على تقدير حرمة الفعل في الواقع ، ولكنّها لا تشمل ما نحن فيه. وجملة اخرى تدلّ على استحباب التحرّز عن الشبهة. وهي وإن كانت شاملة لما نحن فيه ، إلّا أنّها لا تجدي الخصم.

وثانيهما : حمل الأمر في هذه الأخبار على الإرشاد. والفرق بين الجوابين : أنّ الأمر على الأوّل لا يتعيّن حمله على الإرشاد ، لتماميّته على تقدير كون الأمر فيها شرعيّا أيضا.

والثالث : ما أشار إليه بقوله فيما تقدّم من كلامه : «فلا يرد على الاستدلال ...».

والرابع : ما أشار إليه أيضا بقوله فيما تقدّم : «وتوهّم ظهور هذا الخبر ...». وحاصله : حمل أخبار التوقّف على الاستحباب ، كما يظهر ممّا علّقناه على شرح كلامه هناك.

والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع ما نقله هنا. والعاشر : أنّ ظاهر هذه الأخبار هو وجوب التوقّف عن الحكم الواقعي ، لا من حيث كون الواقعة مجهولة الحكم ، ولا ريب أنّ القائل بالبراءة إنّما يقول بها من هذه الحيثيّة لا من حيث بيان الحكم الواقعي.

وفيه : منع هذا الظهور ، بل ظاهر بعضها وجوب الاحتياط في مقام العمل ، مثل قوله عليه‌السلام : «الوقوف عند الشبهات خير من اقتحام الهلكات». وقوله عليه‌السلام : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة».

والحادي عشر : أنّ ظاهر كثير منها بيان حكم المتمكّن من العلم بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، فلا تشمل غير المتمكّن منه ، مثل قوله عليه‌السلام في رواية جابر : «حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح الله لنا». وقوله عليه‌السلام في رواية المسمعي : «حتّى يأتيكم البيان من عندنا». وقوله عليه‌السلام في موثّقة حمزة : «حتّى يحملوكم فيه إلى القصد ...» ، إلى غير ذلك. ومع التسليم فلا ريب في اختصاص هذه الخطابات بالمشافهين ، وإن اختلفوا في شمول خطابات الكتاب لغير المشافهين ، وثبوت

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم الثابت بهذه الخطابات لغيرهم يحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، لأنّه إن كان عموم لفظ ، فالتقدير خلافه. وإن كان هو الإجماع على الاشتراك في التكليف ، فإنّما هو مع اتّحاد الصنف بين الغائب والمشافه ، وهو مفقود في المقام ، لتمكّن المشافه من العلم ، بخلاف الغائب.

لا يقال : إنّ مجرّد الاختلاف في ذلك ـ كالاختلاف بالغيبة والحضور ـ لا دخل له في هذا الحكم.

لأنّا نمنع عدم المدخليّة ، لأنّ مجرّد احتمالها يمنع من التمسّك بالإجماع. والقياس على الغيبة والحضور لا دليل عليه.

والثاني عشر : أنّ أخبار البراءة أخصّ مطلقا من أخبار التوقّف ، لكون الاولى مخصّصة بالإجماع والعقل بلزوم الفحص ثمّ العمل بمقتضاها ، والثانية مطلقة أو عامّة بالنسبة إلى ما قبل الفحص وما بعده ، فيجب تخصيصها بالاولى.

الثالث عشر : ما ذكر الفاضل النراقي في مناهجه من «أنّا لو سلّمنا دلالة هذه الأخبار على وجوب التوقّف عند الشبهة ، ولكن نقول : إنّ كلّ ما يحتمل الحرمة الذي لا نصّ على حرمته معلوم الحكم. لا أقول من جهة أخبار «الناس في سعة ما لا يعلمون» وكلّ مجهول الحكم حلال وأمثاله كما قيل ، لإمكان المعارضة بالمثل ، بل الصنف الرابع من أخبار الإباحة ، وهو المصرّح بأنّ كلّ ما لم يحرم في القرآن فحكمه الحلّية ، وما لا نصّ فيه منه» انتهى.

وحاصله : أنّ أخبار التوقّف وإن سلّمنا ظهورها في وجوب التوقّف من حيث الحكم الواقعي عند الشبهة ، إلّا أنّا نقول : لا شبهة فيما لا نصّ فيه بحسب حكمه الواقعي ، للعلم بإباحته واقعا من جهة قوله عليه‌السلام : «الحرام ما حرّم الله في كتابه» حيث إنّ ظاهره إثبات الإباحة الواقعيّة فيما لم يرد فيه نهي في الكتاب.

وفيه أوّلا : أنّ هذا الخبر مجمل ، حيث لم يقل أحد بإباحة ما لم يرد نهي عنه في الكتاب بحسب الواقع ، فيحتمل أن يكون المراد بالكتاب ما يشمل البطون أيضا ،

منها : أنّ ظاهر أخبار التوقّف حرمة الحكم والفتوى من غير علم ، ونحن نقول

______________________________________________________

إذ لا ريب في كون حكم جميع الأشياء من الإباحة والحرمة وغيرهما مذكورا في الكتاب ، لقوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.) ويحتمل أن يكون المراد به ما يشمل بيان الأئمّة عليهم‌السلام أيضا. ومع تعدّد الاحتمال يسقط به الاستدلال.

وثانيا : أنّ ظاهره إثبات الإباحة الواقعيّة لمجهول الحكم ، والمقصود في المقام بيان حكم مجهول الحكم من حيث هو كذلك لا بحسب الواقع ، فتدبّر.

الرابع عشر : ما ذكره بعض سادة مشايخنا أدام الله أيّام إفادته على الأنام ، من أنّ النسبة بين أخبار البراءة والتوقّف هو التباين لا العموم والخصوص مطلقا. وسيجيء توضيح ذلك عند شرح ما يتعلّق بما نقله المصنّف رحمه‌الله من الأجوبة. ولا ترجيح من حيث السند ، لتواترها من الطرفين ، فيبقى التعارض من حيث الدلالة. ومن المقرّر في محلّه تقديم الأظهر على الظاهر من المتعارضين بحسب الدلالة ، كما في العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد وأشباههما. ولا ريب في كون أخبار البراءة أظهر في الدلالة من أخبار التوقّف ، لأنّ قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» لا يحتمل فيه ما تحتمله أخبار التوقّف ، فلا بدّ من صرف التأويل إليها دونه ، لاحتمال ورودها في مقام التمكّن من العلم ، كما تشهد به جملة منها ، على ما أسلفناه عند بيان الجواب الحادي عشر. ويحتمل ورودها في مقام بيان وجوب التوقّف عن الحكم الواقعي دون الظاهري. ويحتمل ورودها في مقام الإرشاد ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وبالجملة إنّ هذه الوجوه غير بعيدة في مقام الجمع ، بخلاف قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» لعدم احتماله تأويلا يستأنس به الطبع السليم. نعم ، قد أخرج صاحب الوسائل له محامل يشمئزّ منها الطبع السليم والفهم المستقيم ، قد أسلفناها مع ما فيها عند الاستدلال به للاصالة البراءة.

بمقتضاها ، ولكنّا ندّعي علمنا بالحكم الظاهري وهي الإباحة ؛ لأدلّة البراءة (٢١). وفيه : أنّ المراد (١٢٠٧) بالتوقّف ـ كما يشهد سياق تلك الأخبار وموارد أكثرها ـ هو التوقّف في العمل في مقابل المضيّ فيه على حسب الإرادة الذي هو الاقتحام في الهلكة ، لا التوقّف في الحكم. نعم ، قد يشمله من حيث كون الحكم عملا مشتبها ، لا من حيث كونه حكما في شبهة ، فوجوب التوقّف عبارة عن ترك العمل المشتبه الحكم.

ومنها : أنّها ضعيفة السند (٢٢). ومنها : أنّها في مقام المنع من العمل بالقياس ، وأنه يجب التوقّف عن القول إذا لم يكن هنا نصّ من أهل بيت الوحي عليهم‌السلام (٢٣). وفي كلا الجوابين (١٢٠٨) ما لا يخفى على من راجع تلك الأخبار.

ومنها : أنّها معارضة (١٢٠٩) بأخبار البراءة ، وهي أقوى سندا ودلالة واعتضادا بالكتاب والسنّة والعقل ، وغاية الأمر التكافؤ ، فيرجع إلى ما تعارض فيه النصّان ، والمختار فيه التخيير ، فيرجع إلى أصل البراءة (٢٤). وفيه : أنّ مقتضى أكثر أدلّة

______________________________________________________

١٢٠٧. فيه نظر يظهر بالتأمّل فيما أوردناه على ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله أوّلا عن الأخبار.

١٢٠٨. أمّا الأوّل فمع تسليم ضعف هذه الأخبار طرّا فلا ريب أنّ كثرتها تغني عن ملاحظة سندها ، حتّى إنّ صاحب الوسائل قد ادّعى تواترها. وأمّا الثاني فإنّ ظاهر رواية المسمعي وإن كان هو ما ذكره المجيب ، إلّا أنّ هذا ظاهر بعضها لا أكثرها فضلا عن جميعها.

١٢٠٩. هذا الجواب للمحقّق القمّي رحمه‌الله. وربّما يورد عليه بأنّ النسبة بين أخبار البراءة وأخبار التوقّف والاحتياط عموم وخصوص مطلق ، لاختصاص الثانية باتّفاق من الأخباريّين بالشبهات التحريميّة الحكميّة ، وعموم الأولى لها وللشبهات الموضوعيّة مطلقا ، فتخصّص هي بالثانية ، فيتمّ مطلوب الأخباريّين.

وفيه : أنّ بعض أخبار البراءة صريح في الاختصاص بالشبهة التحريميّة الحكميّة ، مثل مرسلة الفقيه عن الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» لأنّ

البراءة المتقدّمة ـ وهي جميع آيات الكتاب والعقل وأكثر السنّة وبعض تقريرات الإجماع ـ عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف ، ومن المعلوم أنّ هذا من مستقلّات العقل الذي لا يدلّ أخبار التوقّف ولا غيرها من الأدلّة النقليّة على خلافه ، وإنّما يثبت أخبار التوقّف ـ بعد الاعتراف بتماميّتها على ما هو المفروض ـ تكليفا ظاهريّا بوجوب الكفّ وترك المضيّ عند الشبهة ، والأدلّة المذكورة لا تنفي هذا المطلب ، فتلك الأدلّة بالنسبة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل ، فلا معنى لأخذ الترجيح بينهما. وما يبقى من السنّة من قبيل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» لا يكافئ أخبار التوقّف ؛ لكونها أكثر وأصحّ سندا. وأمّا قوّة الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم ، وظهر أنّ الكتاب والعقل لا ينافي وجوب التوقّف.

وأمّا ما ذكره من الرجوع إلى التخيير مع التكافؤ فيمكن للخصم منع التكافؤ ؛ لأنّ أخبار الاحتياط مخالفة للعامّة (١٢١٠) ؛ لاتّفاقهم ـ كما قيل ـ على البراءة ،

______________________________________________________

اختصاصها بالشبهة التحريميّة واضح. وأمّا اختصاصها بالشبهة الحكميّة فلأنّ ورود النهي في الشبهات الموضوعيّة مفروض ، والشبهة إنّما هي في موضوعه الخارج.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه إن أراد برجحان أخبار البراءة رجحانها بعد ملاحظة مجموع أخبار الطرفين ، ففيه : أنّه لا معنى لملاحظة السند بعد التواتر والقطع بالصدور من الطرفين. وإن أراد رجحانها بعد النقد وانتخاب ما هو واضح الدلالة منها ، ففيه : أنّ ما هو كذلك من أخبار البراءة ليس إلّا المرسلة المذكورة ، بخلاف أخبار التوقّف والاحتياط ، فإنّ الدالّ منها كثير ، وبعضها صحيح. مع أنّ دعوى اعتضاد أخبار البراءة بالكتاب والسنّة والعقل معارضة باعتضاد أخبار الاحتياط أيضا بها ، لاستدلال الأخباريّين بها أيضا.

١٢١٠. قلت : أخبار البراءة أيضا موافقة للشهرة المحقّقة ، وهي مقدّمة على سائر المرجّحات.

ومنع التخيير على تقدير التكافؤ ؛ لأنّ الحكم في تعارض النصّين الاحتياط (١٢١١) ، مع أنّ التخيير لا يضرّه ؛ لأنّه يختار أدلّة وجوب الاحتراز عن الشبهات.

ومنها : أنّ أخبار البراءة (١٢١٢) أخصّ ؛ لاختصاصها بمجهول الحلّية والحرمة ، وأخبار التوقّف تشمل كلّ شبهة ، فتخصّص بأخبار البراءة (٢٥). وفيه : ما تقدّم من أنّ أكثر أدلّة البراءة بالإضافة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل والدليل ، وما يبقى وإن كان ظاهره الاختصاص بالشبهة الحكميّة التحريميّة مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ، لكن يوجد في أدلّة التوقّف (١٢١٣) ما لا يكون أعمّ منه ؛ فإنّ ما ورد فيه نهي معارض بما دلّ على الاباحة غير داخل في هذا الخبر و

______________________________________________________

١٢١١. فيه : أنّ أخبار الاحتياط في تعارض النصّين معارضة بأخبار التخيير الواردة فيه.

١٢١٢. يرد عليه : أنّا إن سلّمنا ظهور أخبار البراءة مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» في الشبهة التحريميّة الحكميّة ، فلا ريب في خروج الشبهات الوجوبيّة والموضوعيّة مطلقا من عموم أخبار التوقّف باتّفاق من الأخباريّين ، فلو خرجت منها الشبهة التحريميّة أيضا بقيت هذه الأخبار بلا مورد. ومع تسليم عدم الاتّفاق المذكور ، فلا ريب أنّ كلّ من قال بالبراءة في الشبهات التحريميّة قال بها فيهما أيضا. فلو خصّصنا أخبار التوقّف بأخبار البراءة وقلنا بها في الشبهة التحريميّة فلا بدّ أن نقول بها فيهما أيضا ، لعدم القول بالفصل على ما عرفت ، فتبقى تلك الأخبار أيضا بلا مورد. ومع تسليم وجود الفاصل فلا ريب أنّ القول بالبراءة فيهما أسهل من القول بها في الشبهة التحريميّة ، لقلّة وجود القول بها فيهما ، فإذا قلنا بها في الشبهة التحريميّة لأخبارها ثبت القول بها فيهما أيضا بالأولويّة ، فتبقى تلك الأخبار بلا مورد ، فتأمّل.

١٢١٣. فيه نوع من الإجمال ، لأنّ مراده يحتمل وجهين لا يخلو كلّ منهما

.................................................................................................

______________________________________________________

من نظر :

أحدهما : أن يريد أنّ قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» وإن كان ظاهر الاختصاص بالشبهة التحريميّة وأخبار التوقّف أعمّ منها ، إلّا أنّه يوجد في أخبار التوقّف أيضا ما هو خاصّ بالشبهات التحريميّة ، مثل ما دلّ على التوقّف فيما تعارض فيه نصّان أحدهما مبيح والآخر حاظر ، لأنّه وإن لم يحصل التعارض بينهما ابتداء ، لتغاير موضوعيهما ، لاختصاص الأوّل بما لا نصّ فيه ، والثاني بما تعارض فيه نصّان ، إلّا أنّ التعارض بينهما يحصل بالإجماع المركّب ، إذ كلّ من قال بالتوقّف والاحتياط فيما تعارض فيه نصّان قال به فيما لا نصّ فيه ، فمع تعارضهما وتساقطهما تبقى سائر الأخبار العامّة من الطرفين على حالهما من المعارضة ، فلا وجه لتخصيص أحدهما بالآخر. ويشير إلى هذا المعنى قوله : «لكن يوجد في أدلّة التوقّف».

ويرد عليه أوّلا : أنّ ظاهره تسليم أنّه لو لم يفرض مثل الخبر الخاصّ المذكور بين أخبار التوقّف كان التعارض بين أخبار البراءة والتوقّف بالعموم والخصوص مطلقا ، وليس كذلك ، كما عرفته في الحاشية السابقة من كون التعارض بينهما بالتباين.

وثانيا : أنّ الخبر المذكور معارض بما دلّ على التخيير في تعارض الخبرين ، فيتساقطان ويبقى قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» مخصّصا لعمومات وجوب التوقّف.

وثالثا : أنّ الإجماع كما انعقد على وجوب التوقّف فيما لا نصّ فيه على تقدير وجوبه فيما تعارض فيه نصّان أحدهما مبيح والآخر حاظر ، كذلك انعقد على جواز العمل بالبراءة في الثاني على تقدير القول بها في الأوّل ، وبعد تعارض الإجماعين تبقى الأخبار على حالها من الطرفين. وإن شئت قلت : إنّ قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» يعارض الخبر المذكور بواسطة ما عرفته من

.................................................................................................

______________________________________________________

الإجماع ، والترجيح مع الأوّل ، لعمل معظم الأصحاب به. ومع تعادلهما يثبت التخيير بكليهما ، فللقائل بالبراءة أن يختار الأوّل ، فيخصّص به عمومات وجوب التوقّف.

ورابعا : نمنع وجود خبر خاصّ دالّ على وجوب التوقّف فيما تعارض فيه نصّان أحدهما مبيح والآخر حاظر. نعم ، ورد الأمر بالاحتياط في مثله ، ولا دخل له في أخبار التوقّف.

وثانيهما : فرض وجود مورد تشمله أخبار التوقّف دون قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» وهو ما تعارض فيه نصّان ، فإذا شملته أخبار التوقّف ووجب فيه التوقّف وجب فيما لا نصّ فيه بالإجماع المركّب ، فلا يصحّ تخصيص الأخبار المذكورة بالخبر المذكور. ويشير إلى هذا المعنى أيضا قوله : «يشمله أدلّة التوقّف». ولعلّ هذا المعنى أظهر بالنسبة إلى عبارة المصنّف رحمه‌الله.

لكن يرد عليه أيضا أوّلا : أنّ الأخبار المذكورة معارضة مع ما دلّ على التخيير فيما تعارض فيه نصّان.

وثانيا : أنّ الإجماع منقلب ، إذ كلّ من قال بالبراءة فيما لا نصّ فيه قال بالتخيير في تعارض النصّين. وضميمة هذا الإجماع ـ وهو قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» ـ أقوى من ضميمة ذلك ، وهو عمومات التوقّف ، لكون دلالة الأوّل بالخصوصيّة والثاني بالعموم.

ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى أحد الوجهين أو الوجوه المذكورة. ويحتمل أن يكون إشارة إلى منع ثبوت الإجماع المركّب في المقام ، وإن قلنا بثبوت الإجماع بين القول بالتخيير فيما تعارض فيه نصّان والقول بالبراءة فيما لا نصّ فيه ، كما يظهر وجهه بالتأمّل فيما ذكره عند بيان التقرير الأوّل للإجماع على أصالة البراءة في المقام عند بيان مذهب الكليني.

يشمله أخبار التوقّف ، فإذا وجب التوقّف هنا وجب فيما لا نصّ فيه بالإجماع المركّب ، فتأمّل.

مع أنّ جميع موارد الشبهة (١٢١٤) التي أمر فيها بالتوقّف ، لا تخلو عن أن يكون شيئا محتمل الحرمة ، سواء كان عملا أم حكما أم اعتقادا ، فتأمّل. والتحقيق في الجواب ما ذكرنا.

الثالثة : ما دلّ على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة : منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : «قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ،

______________________________________________________

١٢١٤. حاصله : منع كون قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» أخصّ مطلقا من أخبار التوقّف ، بدعوى كون موارد الشبهة فيها أيضا هو مشتبه الحكم ، غاية الأمر أن يكون هذا إمّا من جهة احتمال حرمة العمل كما في الأفعال المحتملة لها ، وإمّا من جهة احتمال حرمة الحكم ، كالحكم بإباحة محتمل الوجوب ، وإمّا من جهة احتمال حرمة الاعتقاد ، كما في أوصافه سبحانه والنبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، إذا لم يرد فيها نصّ من الشارع. وعلى هذا تكون النسبة بين قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» وأخبار التوقّف هو التباين.

ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى أنّه إذا شكّ في وجوب دعاء رؤية الهلال مثلا ، فهو بنفسه قضيّة قد وقع الشكّ فيها ، والشكّ في حرمة الإفتاء باستحبابه ـ من حيث كون الافتاء عملا من الأعمال ـ قضيّة اخرى كذلك ، وكون الثانية موردا لكلّ من أخبار البراءة والتوقّف لا يستلزم كون الاولى أيضا كذلك ، حتّى يقال بكون النسبة على وجه التباين. أو إشارة إلى كون حرمة الإفتاء معلومة ، حيث لا دليل على جوازها ، لكونها تشريعا محرّما بالأدلّة الأربعة ، فلا تكون موردا للشبهة. أو إشارة إلى كون الأمر في الإفتاء دائرا بين الوجوب والحرمة ، لا بين الحرمة وغير الوجوب ، كما هو محلّ الكلام. وإلى الوجهين الأخيرين قد أشار عند الردّ على من تمسّك بأصالة البراءة لإثبات جواز العمل بالظنّ ، فتدبّر.

الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال : بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، قال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه وتعلموا» (٢٦). ومنها : موثّقة عبد الله بن وضّاح ـ على الأقوى ـ : «قال : كتبت إلى العبد الصالح : يتوارى القرص ويقبل الليل ويزيد الليل (١٢١٥) ارتفاعا وتستتر عنّا الشمس (١٢١٦) وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون ، فاصلّي حينئذ وافطر إن كنت صائما أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب عليه‌السلام إليّ : أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢٧). فإنّ الظاهر أنّ قوله عليه‌السلام : «وتأخذ» بيان لمناط الحكم ، كما في قولك للمخاطب : «أرى لك أن توفّي دينك وتخلّص نفسك» ، فيدلّ على لزوم الاحتياط مطلقا.

ومنها : ما عن أمالي المفيد الثاني ـ ولد الشيخ قدس‌سرهما ـ بسند كالصحيح عن مولانا أبي الحسن الرضا عليهم‌السلام : «قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٢٨). وليس في السند إلّا عليّ بن محمد الكاتب الذي يروي عنه المفيد. ومنها : ما عن خطّ الشهيد في حديث طويل عن عنوان البصريّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول فيه : «سل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ الاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس» (٢٩). ومنها : ما أرسله الشهيد وحكي عن الفريقين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإنّك لن تجد (١٢١٧) فقد شىء تركته لله عزوجل» (٣٠). ومنها : ما أرسله

______________________________________________________

١٢١٥. أي : يرتفع الظلام من الأرض إلى طرف السماء ، لأنّه إذا غربت الشمس يحدث في الأرض أثر ظلمة ، فيزيد ويرتفع تدريجا حتّى يستوعب إلى عنان السماء.

١٢١٦. يعني : شعاعها.

١٢١٧. يعني : أنّ تركك شيئا لله عزوجل غير مفقود ، بل له عوض وجزاء

الشهيد رحمه‌الله أيضا من قوله عليه‌السلام : «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك» (٣١). ومنها : ما ارسل أيضا عنهم عليهم‌السلام : «ليس بناكب عن الصّراط من سلك سبيل الاحتياط».

والجواب أمّا عن الصحيحة : فبعدم الدلالة ؛ لأنّ المشار إليه في قوله عليه‌السلام : «بمثل هذا» إمّا نفس واقعة الصيد (١٢١٨) وإمّا أن يكون السؤال عن حكمها. وعلى الأوّل : فإن جعلنا المورد من قبيل الشكّ في التكليف ، بمعنى أنّ وجوب نصف الجزاء على كلّ واحد متيقّن ويشكّ في وجوب النصف الآخر عليه فيكون من قبيل وجوب أداء الدين المردّد بين الأقلّ والأكثر وقضاء الفوائت المردّدة ، والاحتياط في مثل هذا غير لازم بالاتّفاق ؛ لأنّه شكّ في الوجوب. وعلى تقدير قولنا بوجوب

______________________________________________________

عنده لو كان ممّا له جزاء في نفس الأمر على تقدير الإتيان به.

١٢١٨. الأولى أن يجاب أوّلا بما أشار إليه في تضاعيف كلامه من اختصاص الصحيحة بصورة التمكّن من إزالة الشبهة ، كما يرشد إليه قوله : «حتّى تسألوا وتعلموا» لكون وجوب الاحتياط حينئذ مسلّما عند الكلّ ، لاتّفاقهم على وجوب الفحص في العمل بالبراءة حتّى في الشبهة الوجوبيّة التي قال الأخباريّون أيضا بالبراءة فيها ، ثمّ يذكر الوجوه المحتملة في الرواية.

وعلى كلّ تقدير نقول : إنّ المشار إليه بقوله : «بمثل هذا» إمّا نفس واقعة الصيد ، بأن كان المراد هي الإشارة إلى المماثلة في خصوص الواقعة ، بأن أراد أنّكم إذا ابتليتم بمثل هذه الواقعة وما دريتم ما عليكم من الفعل فعليكم بالاحتياط. وإمّا السؤال عن حكمها ، بأن أراد أنّه إذا اشتبه عليكم الأمر ولم تدروا بم تحكمون وتفتون فيه فعليكم بالاحتياط. وعلى الأوّل إمّا أن يكون المراد المماثلة في الجنس ، بأن اشتركا في وصف عامّ ، أعني : مطلق الاشتباه ، سواء كانت الشبهة حكميّة أم موضوعيّة ، حتّى يجب الاحتياط في كلّ مشتبه ، فهو بعيد ، ولذا لم يتعرّض له المصنّف رحمه‌الله. أو الصنف ، بأن أراد المماثلة في اشتمال الواقعة على علم إجمالي ، لفرض

الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله ممّا ثبت التكليف فيه في الجملة لأجل هذه الصحيحة وغيرها ، لم يكن ما نحن فيه من الشبهة مماثلا له ؛ لعدم ثبوت التكليف فيه رأسا.

وإن جعلنا المورد من قبيل الشكّ في متعلّق التكليف وهو المكلّف به ـ لكون الأقلّ على تقدير وجوب الأكثر غير واجب بالاستقلال ، نظير وجوب التسليم في الصلاة ـ فالاحتياط هنا وإن كان مذهب جماعة من المجتهدين أيضا ، إلّا أنّ ما نحن فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة ليس مثلا لمورد الرواية ؛ لأنّ الشكّ فيه في أصل التكليف. هذا ، مع أنّ ظاهر الرواية التمكّن من استعلام حكم الواقعة بالسؤال والتعلّم فيما بعد ، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصيّة حتّى يتعلّم المسألة لما يستقبل من الوقائع.

ومنه يظهر أنّه إن كان المشار إليه ب «هذا» هو السؤال عن حكم الواقعة ، كما هو الثاني من شقّي الترديد : فإن اريد بالاحتياط فيه الإفتاء بالاحتياط لم ينفع فيما نحن فيه ، وإن اريد من الاحتياط الاحتراز عن الفتوى فيها أصلا حتّى بالاحتياط

______________________________________________________

علم الرجلين إجمالا بوجوب الجزاء عليهما في الجملة ، إمّا جزاء واحد على كلّ واحد منهما ، وإمّا عليهما معا. وحاصله : تردّد الواجب عندهما بين الأقلّ والأكثر.

وعليه ، إمّا أن تكون الشبهة في وجوب الجزاء المردّد بين الأقلّ والأكثر استقلاليّة ، بأن كان الإتيان بالأقلّ مجزيا بمقداره على تقدير وجوب الأكثر ، كما مثّل به من مثال أداء الدين وقضاء الفوائت ، فهي خارجة ممّا نحن فيه ، لكون الشبهة حينئذ وجوبيّة بدويّة ، لأنّ مرجع الشبهة في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين إلى علم تفصيلي بالأقلّ ، وهو فيما نحن فيه نصف الجزاء على كلّ واحد منهما ، وشكّ بدويّ في الزّائد عليه ، وهو النصف الآخر ، والشبهة الوجوبيّة البدويّة مورد لأصالة البراءة باتّفاق من الأخباريّين.

نعم ، قد يظهر من جماعة ـ منهم صاحب الرياض في كتاب الزكاة ـ الميل

فكذلك.

وأمّا عن الموثّقة : فبأنّ ظاهرها الاستحباب (١٢١٩) ، والظاهر أنّ

______________________________________________________

إلى التوقّف والاحتياط في صورة أيضا ، وقد ذكر ثمّة ما حاصله : «أنّ ما يسقى سيحا أو عذيا أو بعلا ففيه العشر ، وبالنواضح والدوالي ففيه نصف العشر ، ولو اجتمع الأمران حكم للأغلب ، ولو تساويا أخذ من نصفه العشر ومن نصفه نصف العشر. واعتبار التساوي بالمدّة والعدد ظاهر. وأمّا بالنفع والنموّ فيرجع فيه إلى أهل الخبرة. وإن اشتبه الحال وأشكل الأغلب ، ففي وجوب الأقلّ للأصل ، أو العشر للاحتياط ، أو الإلحاق بالتساوي ، لتحقّق تساويهما ، والأصل عدم التفاضل أوجه ، أحوطها الأوسط إن لم يكن أجود» انتهى. وفيه ما لا يخفى.

وإمّا أن تكون ارتباطيّة ، بأن كان الإتيان بالأقلّ غير مجز عن التكليف الواقعي على تقدير وجوب الأكثر في الواقع ، كالشكّ في الأجزاء والشرائط من الصلاة ، فالقول بوجوب الاحتياط حينئذ وإن كان مذهب جماعة من المجتهدين أيضا ، إلّا أنّ القول بذلك إنّما هو لأجل العلم الإجمالي بالتكليف وكون الشكّ في المكلّف به ، بخلاف ما نحن فيه ، لكون الشكّ فيه في أصل التكليف.

وأمّا الثاني فإنّه يحتمل أن يكون المراد منه أنّ ما اشتبه عليكم ولم تدروا حكمه من الوجوب أو الحرمة فعليكم بالاحتياط ، بأن كان المراد إمّا بيان حكم ظاهري في مقام القول والفتوى ، بأن يفتوا بالاحتياط والحرمة الظاهريّة ، وإمّا بيان الاحتياط في الفتوى ، بأن لا يفتوا بالاحتياط والحرمة الظاهريّة أيضا ، بأن يسكتوا عن القول نفيا وإثباتا. وهذا غير مجد للمستدلّ ، لأنّ الأوّل وإن كان مانعا له في الجملة إن ثبت ، إلّا أنّ مورد الصحيحة كما عرفت هي صورة التمكّن من إزالة الشبهة التي عرفت عدم الخلاف في وجوب الاحتياط فيها.

١٢١٩. لأنّه المنساق من نسبة الرواية إلى المخاطب. وأنت خبير بأنّه لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور ، لأنّ مقتضى الاستصحاب ـ سواء حملت الموثّقة

مراده (١٢٢٠) الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية ـ لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة أمارة عليها ـ ؛ لأنّ إرادة الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيدة عن منصب الإمام عليه‌السلام ؛ لأنّه لا يقرّر الجاهل بالحكم على جهله ، ولا ريب أنّ الانتظار مع الشكّ في الاستتار واجب ؛ لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل والاشتغال بالصوم وقاعدة الاشتغال بالصلاة. فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاكّ في براءة ذمّته عن الصوم والصلاة ، ويتعدّى منه إلى كلّ شاكّ في براءة ذمّته عمّا يجب عليه يقينا ، لا مطلق الشاكّ ؛ لأنّ الشاكّ في الموضوع الخارجي مع عدم تيقّن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتّفاق من الأخباريّين أيضا.

______________________________________________________

على بيان الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة ، على ما ستعرفه في الحاشية الآتية ـ وجوب الاحتياط إلّا على الوجه الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله على تقدير حملها على بيان الشبهة الحكميّة ، إلّا أنّه بعيد عن ظاهرها كما اعترف به ، لا أنّه أخذ بظاهرها. مع أنّه لا ظهور في النسبة المذكورة بحيث يصحّ الاستناد إليه ، لأنّ غايتها أن يستشمّ منها الاستحباب كما صرّح به ، فلا وجه لدعوى ظهورها فيه.

١٢٢٠. هذا جواب آخر عن الموثّقة. وحاصله : أنّ ظاهر الموثّقة ـ بقرينة ما صرّح به من عدم كون وظيفة الإمام عليه‌السلام بيان الحكم الظاهري في الشبهات الحكميّة ـ هو بيان الشبهة الموضوعيّة ، بأن كان السائل عالما بالحكم الشرعيّ ، أعني : جواز الإفطار والصلاة عند استتار القرص ، لكن أشكل عليه الأمر لأجل الاشتباه في الاستتار ، لأجل حيلولة الجبل بينهم وبينه ، ولذا قال : يرتفع فوق الجبل حمرة ، بمعنى : أنّه يرى فوقه شيء لا يعلم أنّه من آثار ضوء الشمس أو الحمرة الحادثة بعد الاستتار ، فسأل الإمام عليه‌السلام عن حكم هذا الموضوع المشتبه ، فأمر الإمام بالاحتياط. والموثّقة حينئذ تكون دليلا على مذهب جماعة ممّن اكتفى في الغروب الشرعيّ بمجرّد استتار القرص ، كما هو مذهب العامّة أيضا ، خلافا للمشهور حيث اعتبروا ذهاب الحمرة المشرقيّة.

هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب وكون الحمرة غير الحمرة المشرقيّة ، ويحتمل بعيدا (١٢٢١) أن يراد من الحمرة (١٢٢٢) الحمرة

______________________________________________________

١٢٢١. هذا وجه آخر في الموثّقة ، حاصله حملها على بيان الشبهة الحكميّة ، بأن كانت شبهة السائل في تحقّق الغروب ، وأنّه بأيّ شيء يحصل؟ فسأل الإمام عليه‌السلام عن ذلك بما ذكره في السؤال ، فأمره الإمام عليه‌السلام بالانتظار والأخذ بالاحتياط من دون بيان للحكم الواقعي ، للنكتة التي أشار إليها المصنّف رحمه‌الله من التخلّص من مخالفة العامّة.

هذا إذا كان المراد بالاحتياط المدلول عليه بقوله : «وتأخذ الحائطة» معناه المصطلح عليه ، أعني : الأخذ بما يوافق التكليف من طرفي الشبهة في مقابل البراءة. ويحتمل أن يكون المراد به معناه اللغوي (*) ، أعني : الأخذ بالأوثق ، وهو الانتظار إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة. وحينئذ لا يلزم بيان الحكم الواقعي بلباس الحكم الظاهري ، كما هو واضح. نعم ، ربّما يشعر التعبير بذلك بحصول الوثوق بالطرف الآخر. وهو فيما نحن فيه ليس كذلك ، للعلم بكونه خلاف الواقع ، إذ الفرض على هذا التقدير كون الغروب في الواقع عبارة عن ذهاب الحمرة المشرقيّة لا عن استتار القرص ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون ذلك لأجل حصول الوثوق به في الدين من حصول التقيّة به ، لأنّها أيضا من الدين ، وقد قال عليه‌السلام : «التقيّة ديني ودين آبائي» فيكون هذا موثوقا به ، وإن كان الأوّل أوثق. والموثّقة على تقدير كون المراد بالحمرة فيها الحمرة المشرقيّة تكون دليلا على مذهب المشهور من كون الغروب الشرعيّ عبارة عن ذهابها.

١٢٢٢. ربّما يؤيّده قطعها عن الإضافة إلى الجبل في كلام الإمام عليه‌السلام ، لأنّ المراد بها لو كان هو الباقي فوق الجبل كان الأنسب إضافتها إليه كما في السؤال.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة ، «قد جعل المحقّق القمّي رحمه‌الله المعنى اللغوي معنى اصطلاحيّا للفظ الاحتياط ، وهو كما ترى. منه دام علاه».

المشرقيّة التي لا بدّ من زوالها في تحقّق المغرب. وتعليله حينئذ بالاحتياط وإن كان بعيدا عن منصب الإمام عليه‌السلام كما لا يخفى ، إلّا أنّه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقيّة ؛ لإيهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه ، لا أنّ المغرب لا يدخل مع تحقّق الاستتار. كما أن قوله عليه‌السلام : «أرى لك» يستشمّ منه رائحة الاستحباب ، فلعلّ التعبير به مع وجوب التأخير من جهة التقيّة ، وحينئذ فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدلّ إلّا على رجحانه (١٢٢٣).

وأمّا عن رواية الأمالي ، فبعدم دلالتها على الوجوب ؛ للزوم إخراج أكثر (١٢٢٤) موارد الشبهة وهي الشبهة الموضوعية مطلقا والحكميّة الوجوبيّة ، والحمل على الاستحباب أيضا مستلزم لاخراج موارد وجوب الاحتياط ، فتحمل على الإرشاد أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ، وحينئذ : فلا ينافي لزومه في بعض الموارد وعدم لزومه في بعض آخر ؛ لأنّ تأكّد الطلب الإرشادي وعدمه بحسب المصلحة الموجودة في الفعل ؛ لأنّ الاحتياط هو الاحتراز عن موارد احتمال المضرّة ، فيختلف رضا المرشد بتركه وعدم رضاه بحسب مراتب المضرّة ، كما أنّ الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة الله ورسوله للإرشاد المشترك بين فعل الواجبات وفعل المندوبات.

______________________________________________________

اللهمّ إلّا أن يقال بكون الألف واللام الداخلة عليها في كلام الإمام عليه‌السلام للعهد الذكري ، فتكون إشارة إلى الحمرة المذكورة في كلام السائل.

١٢٢٣. لأنّ الاحتياط في مورد الموثّقة وإن كان واجبا بمقتضى الاستصحاب ، إلّا أنّ التعبير به لمّا كان لأجل التقيّة لا بدّ أن يراد به الاستحباب ، لعدم اندفاع التقيّة إلّا به.

١٢٢٤. مع تسليم عدم لزومه. لا ريب أنّ ظاهر الرواية آب عن التخصص وإن لم يكن الخارج أكثر الأفراد ، بناء على كون قوله «أخوك» خبرا مقدّما ، وقوله «دينك» مبتدأ مؤخّرا ، لأنّ حصر الأخوّة في الدين ـ كما هو مقتضى تقديم الخبر ـ يقتضي محافظة الدين عن جميع ما يرد عليه من النقص والعيب ، لا محافظته عن

هذا ، والذي يقتضيه دقيق النظر أنّ الأمر المذكور بالاحتياط (١٢٢٥) لخصوص الطلب الغير الإلزامي ؛ لأنّ المقصود منه بيان أعلى مراتب الاحتياط ، لا جميع مراتبه (١٢٢٦) ولا المقدار (١٢٢٧) الواجب. والمراد من قوله (١٢٢٨) : «بما شئت» ليس التعميم من حيث القلّة والكثرة والتفويض إلى مشيئة الشخص ؛ لأنّ هذا كلّه (١٢٢٩) مناف لجعله بمنزلة الأخ ، بل المراد أنّ أيّ مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلّها ، وليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين ؛ لأنّه

______________________________________________________

بعض دون بعض ، كما هو مقتضى ارتكاب التخصيص فيها.

ومن هنا يظهر أنّ موضع الاستدلال بالرواية فقرتان ، إحداهما : قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك» لأنّ معناه بمقتضى الحصر أنّه لا أخ لك سوى دينك ، والمقصود بيان المبالغة في المحافظة على الدين ، والمعنى : أنّه كما يلزم عليك مراعاة أخيك بدفع جميع ما يتوجّه إليه من المضارّ ، كذلك دينك يجب عليك فيه سدّ جميع ما يحتمل وروده عليه من النقائص بالاحتياط فيه. والاخرى : ظاهر الأمر بالاحتياط في قوله عليه‌السلام : «فاحتط لدينك». والجواب عنهما واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

١٢٢٥. يعني : أنّ المراد به خصوص الطلب الاستحبابي ، لا الإرشادي ، ولا الرجحان المطلق.

١٢٢٦. حتّى يحمل الأمر على الإرشاد ، أو الطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب.

١٢٢٧. حتّى يحمل الأمر على خصوص الطلب الإلزامي.

١٢٢٨. هذا تضعيف بما يتوهّم من ظهور قوله : «بما شئت» في كون المراد بالأمر خصوص الطلب الاستحبابي.

١٢٢٩. يعني : كلّ من التعميم والتفويض.

بمنزلة الأخ الذي هو كذلك (*) ، وليس بمنزلة سائر الامور (**) لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط ، كالمال وما عدا الأخ من الرجال ، فهو بمنزلة قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.)

وممّا ذكرنا يظهر الجواب (١٢٣٠) عن سائر الأخبار المتقدّمة مع ضعف السند في الجميع. نعم ، يظهر من المحقّق في المعارج اعتبار إسناد (***) النبويّ : «دع ما يريبك» ؛ حيث اقتصر في ردّه على أنّه خبر واحد لا يعوّل عليه في الاصول ، وأنّ

______________________________________________________

١٢٣٠. بحمل الأمر في باقي الأخبار أيضا إمّا على الإرشاد ، أو على الطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب. مضافا في مرسلة الشهيد إلى منع كون الريبة فيها بمعنى الشكّ ، لاحتمال كونها بمعنى التهمة ، والمقصود هو الأمر بترك ما يوجب التهمة إلى ما لا يوجبها ، فمساقها مساق قولهم عليهم‌السلام : «اتّقوا مواضع التهمة». قال الجوهري : الريب : الشكّ ، والريب : ما يريبك من الأمر ، والاسم الريبة بالكسر ، وهي التهمة والشكّ. ولا ريب في عدم وجوب الاجتناب عن التهمة. مع أنّ المرسلة حينئذ لا ترتبط بالمدّعى من إثبات وجوب الاحتياط.

وبالجملة ، إنّه مع احتمال هذا المعنى احتمالا مساويا تعود المرسلة مجملة ، بل تمكن دعوى كون لفظ الريبة موضوعا للجامع بين المعنيين ، وهو مطلق ما يوجب القلق والاضطراب ، فيكون ذكر كلّ من التهمة والشكّ معنى للفظ ، من قبيل ذكر فردي الكلّي الموضوع له. والمعنى : دع ما يوجب القلق والاضطراب إلى ما لا يوجب ذلك. ولا ريب في عدم كون الأمر بالنسبة إلى ما يوجب التهمة للوجوب فكذلك بالنسبة إلى معنى الشكّ ، وإلّا لزم استعماله في الوجوب والاستحباب.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «كذلك» ، لك.

(**) في بعض النسخ زيادة : التى.

(***) في بعض النسخ : بدل «إسناد» ، سند.

إلزام المكلّف بالأثقل (١٢٣١) مظنّة الريبة (٣٢) (١٢٣٢).

وما ذكره قدس‌سره محلّ تأمّل ؛ لمنع كون المسألة اصوليّة ، ثمّ منع كون النبويّ من أخبار الآحاد المجرّدة ؛ لأنّ مضمونه ـ وهو ترك الشبهة ـ يمكن دعوى تواتره ، ثمّ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الاصوليّة. وما ذكره : من أنّ إلزام المكلّف بالأثقل ... ، فيه : أنّ الإلزام من هذا الأمر (١٢٣٣) ، فلا ريبة فيه.

الرابعة : أخبار التثليث المرويّة عن النبيّ والوصيّ وبعض الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين : ففي مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين ـ بعد الأمر بأخذ المشهور منهما وترك الشاذّ النادر ؛ معلّلا بقوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ـ قوله : «وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم».

وجه الدلالة أن الامام عليه‌السلام (١٢٣٤):

______________________________________________________

١٢٣١. أعني : الاحتياط.

١٢٣٢. لأنّ في إيجاب الاحتياط إيقاعا للعباد في المشقّة ، ولعلّ الله تعالى لا يرضى بذلك.

١٢٣٣. حاصله : أنّ إيجاب الاحتياط إنّما يكون ريبة وشكّا إذا لم يدلّ عليه النبويّ أو غيره من الأدلّة ، وأمّا مع الدلالة عليه فيكون معلوما لا مشكوكا. ومن هنا يندفع ما يمكن أن يقال من أنّه لو دلّ النبويّ عليه لزم من وجوده عدمه ، وهو محال ، لأنّ دلالته عليه إنّما هي من جهة أنّ في ترك الاحتياط ريبة ، فيجب فعله دفعا للرّيبة. مع أنّ في إيجابه أيضا ريبة ، فيلزم أن لا يجب بمقتضى النبويّ ، لأنّ وجود ريب في إيجابه إنّما هو مع الغضّ عن دلالة النبويّ عليه ، وإلّا فمع دلالته عليه فلا ريب فيه أصلا.

١٢٣٤. حاصله : أنّ المراد بالمجمع عليه هو المشهور ، والمراد بنفي الريب عنه

.................................................................................................

______________________________________________________

نفيه بالإضافة إلى الشاذّ النادر. والمقصود إثبات رجحان للمشهور بالنسبة إلى الشاذ النادر ، مع إثبات ريب في الجملة فيه ، لا نفي الريب عنه رأسا حتّى يكون داخلا في بيّن الرشد ، والشاذ النادر في بيّن الغيّ ، لأجل عدم الريب في بطلانه ، وإلّا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة وغيرها ، لأنّ ظاهر ذلك عدم الاعتداد بالشهرة مع وجود أحد المرجّحات المتقدّمة عليها في الرواية ، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين كما هو واضح ، ولا للتعليل بتثليث الامور ، إذ يلزم عليه أن يكون ما عدا بيّن الرشد من بيّن الغيّ ، سواء كان معلوم الحرمة أم كان من المشبّهات. وبالجملة ، إنّ الناظر يقطع بكون الشاذّ النادر داخلا في الأمر المشكل الذي يردّ علمه إلى الله ، وفي الشبهات التي من تركها نجا من المحرّمات.

والمراد بالشبهات في النبويّ إمّا هي الشبهات الحكميّة ، أو هي مع الشبهات الموضوعيّة ، لعدم إمكان حملها على بيان الشبهات الموضوعيّة خاصّة ، لمنافاته لمساق الرواية ، لأنّ السؤال فيها إنّما هو عن تعارض الخبرين وعلاجه ، ولا تعلّق له بالشبهة في الموضوع الخارج. ولعلّه لوضوح هذه المقدّمة لم يتعرّض لها المصنّف رحمه‌الله في بيان تقريب الاستدلال.

والمراد بتركها هو تركها على سبيل الوجوب دون الاستحباب ، إذ لا ريب في وجوب العمل بالمرجّحات المذكورة التي منها الشهرة. وعلّل الإمام عليه‌السلام ذلك بتثليث الامور ، بإدخال المشهور في بيّن الرشد ، والشاذّ النادر في الأمر المشكل ، مستشهدا النبويّ بذلك ، فلو لم يكن المراد بترك الشبهات فيه تركها على سبيل الوجوب لم يبق وجه للاستشهاد به ، لوجوب ردّ علم الأمر المشكل إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. مضافا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نجا من المحرّمات» وقوله : «هلك من حيث لا يعلم».

وهذا توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من تقريب الاستدلال ، وهو المستفاد أيضا من كلمات غيره من العلماء.

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن أن يستدلّ على المقام بقول الصادق عليه‌السلام : «وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قطع النظر عن النبويّ ، نظرا إلى كون الشبهة في الحكم من الامور المشكلة التي يجب ردّ علمها إلى الله ورسوله. ومعنى ردّه إليهما هو التوقّف والسكون وعدم المضيّ في الفعل ، وهو معنى الاحتياط.

ولكن يرد عليه : أنّ الظاهر أنّ المراد بردّ علم الأمر المشكل إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بيان حكم ظاهري له ، لأنّ الظاهر أنّ المقصود من التعليل بتثليث الامور بيان أنّ منها ما هو بيّن الرشد بحسب الواقع ، مثل الصلاة والزكاة والخمس التي علم وجوبها بحسب الواقع ، ومنها ما هو بيّن الغيّ ، كشرب الخمر الذي علمت حرمته كذلك ، ومنها ما هو مشتبه الحكم بحسب الواقع ، وهو الأمر المشكل الذي يجب ردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كان ملحقا بأحد الأوّلين عند قيام أمارة ظاهريّة عليه ، كالشهرة التي ألحقت المشهور في مورد الرواية بما هو بيّن الرشد.

فالمقصود بالأمر المشكل ما أشكل فيه الأمر من جهة حكمه الواقعي ، وإن علمنا (*) فيه بمقتضى الأمارات والاصول ، وبردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو التوقّف من جهة حكمه الواقعي لا إنشاء حكم ظاهري له ، وإلّا فلا يناسبه وقوع خبر التثليث تعليلا للترجيح بالشهرة وطرح الشاذّ النادر ، لكون المشهور حينئذ من باب بيّن الرشد ، والشاذّ النادر من باب بيّن الغيّ. وعلى ما ذكرناه فالمشهور من الأمر المشكل بحسب حكمه الواقعي ، ومن بيّن الرشد بحسب الظاهر وفي مقام العمل. وأمّا الشاذّ النادر فهو من الأمر المشكل مطلقا ، فتدبّر.

ثمّ إنّ صريح المصنّف رحمه‌الله دخول الشاذّ النادر في الأمر المشكل. واستبعده صاحب الفصول ، نظرا إلى أنّ المشهور إذا كان من باب بيّن الرشد ، فمقتضى

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، ولعلّه تصحيف : علمنا.

أوجب طرح الشاذّ معلّلا بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، والمراد أنّ الشاذّ فيه ريب ، لا أنّ الشهرة تجعل الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ؛ وإلّا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة والأورعيّة ، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ، ولا لتثليث الامور ثمّ الاستشهاد بتثليث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والحاصل : أنّ الناظر في الرواية يقطع بأنّ الشاذّ ممّا فيه الريب فيجب طرحه ، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام ردّه إلى الله ورسوله.

فيعلم من ذلك كلّه : أنّ الاستشهاد بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التثليث لا يستقيم إلّا مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات ، مضافا إلى دلالة قوله : «نجا من المحرّمات» ، بناء على أنّ تخليص (*) النفس من المحرّمات واجب ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم».

______________________________________________________

المقابلة أن يكون الشاذّ النادر من باب بيّن الغيّ لا من الامور المشكلة والمشتبهة.

ثمّ قال : «والتحقيق أنّ مراده عليه‌السلام أنّ الحكم المستفاد من الرواية التي يشهد بجواز العمل بها المرجّح المعتبر ـ كالمرجّحات المذكورة في الرواية ـ من باب بيّن الرّشد ولو بحسب الظاهر ، وأنّ العمل بها كذلك. وأنّ الحكم المستفاد من الرواية الفاقدة له مع معارضتها لما اشتمل عليه من باب بيّن الغيّ ولو بحسب الظاهر ، وأنّ العمل بها كذلك.

وأنّ المستفاد من رواية لا علم للعامل بها بأنّها من أيّ النوعين ـ بجهله بحكم المرجّح ـ من المشكلات التي يجب الردّ فيها إلى الشارع ، وأنّ العمل بها كذلك. وعلى هذا ، فالظاهر من الحلال البيّن والحرام البيّن ما تبيّن جواز العمل به وعدم جوازه ، وبالشبهات ما لم يتبيّن فيه شيء منهما. وحينئذ فلا كلام في وجوب التجنّب عن الشبهات بهذا المعنى» انتهى وهو جيّد.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «تخليص» ، تخلّص.

ودون هذا النبويّ في الظهور : النبويّ المرويّ (١٢٣٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في كلام طويل ، وقد تقدّم في أخبار التوقّف وكذا مرسلة الصدوق (١٢٣٦) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والجواب عنه ما ذكرنا سابقا من أنّ الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشاديّ للتحرّز عن المضرّة المحتملة فيها ، فقد تكون المضرّة عقابا وحينئذ فالاجتناب لازم ، وقد تكون مضرّة اخرى فلا عقاب على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة ، كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتّفاقا ؛ لقبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول باعتراف الأخباريين أيضا ، كما تقدّم.

وإذا تبيّن لك أنّ المقصود من الأمر بطرح الشبهات ليس خصوص الإلزام ، فيكفي حينئذ في مناسبة (١٢٣٧) ذكر كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المسوق للإرشاد أنّه إذا كان الاجتناب عن المشتبه بالحرام راجحا ـ تفصّيا عن الوقوع في مفسدة الحرام ـ فكذلك طرح الخبر الشاذّ واجب ؛ لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من الريب وأقرب إلى الحقّ ؛ إذ لو قصّر في ذلك وأخذ بالخبر الذي فيه الريب احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ، فيكون الحكم به حكما من غير

______________________________________________________

وما قدّمناه من تقريب الاستدلال وغيره مبنيّ على ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وما استشهده المصنّف رحمه‌الله بدخول الشاذّ النادر في الأمر المشكل دون بيّن الغيّ ، إنّما يرد لو قلنا بدخوله في الثاني حقيقة لا بحسب الظاهر ، إذ لا ريب أنّ دخوله فيه ـ كدخول المشهور في بيّن الرشد بحسب الظاهر ـ لا ينافي تأخّر الترجيح بالشهرة عن سائر المرجّحات بحسب الشرع ، ولا لفرض الشهرة في كلا الخبرين ، لجواز تعارض الأمارات الظاهريّة ، ولا لتثليث الامور ، كما هو واضح ممّا ذكره صاحب الفصول. وسيجيء زيادة توضيح للمقام في بعض الحواشي الآتية.

١٢٣٥. هو خبر جميل عن الصادق عليه‌السلام.

١٢٣٦. يعني : الآتية.

١٢٣٧. سيجيء توضيح ذلك في ذيل بيان ما يتعلّق بالمؤيّد الثاني.

الطرق المنصوبة من قبل الشارع ، فتأمّل (١٢٣٨).

ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ النبويّ ليس واردا في مقام الإلزام بترك الشبهات ، امور : أحدها عموم الشبهات للشبهة الموضوعيّة التحريميّة التي اعترف الأخباريّون بعدم وجوب الاجتناب عنها. وتخصيصه بالشبهة الحكميّة ـ مع أنّه إخراج لأكثر الأفراد (١٢٣٩) ـ مناف للسياق ؛ فإنّ سياق الرواية آب عن التخصيص ؛ لأنّه

______________________________________________________

١٢٣٨. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة ـ مضافا إلى بعد ما ذكره من المناسبة عن ظاهر الرواية ـ إلى عدم صحّة حمل الأمر بترك الشبهات هنا على الإرشاد ، وإن قلنا بذلك في أخبار التوقّف. ووجه الفرق : أنّ الأمر بالتوقّف هناك قد علّل في بعض تلك الأخبار بكون ارتكاب الشبهة اقتحاما في الهلكة ، والهلكة عنوان عامّ شامل للعقاب الاخروي وما سواه من المفاسد. وحينئذ يصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالتوقّف إنّما هو للإرشاد إلى التحرّز عن هذه الهلكة المحتملة ، فإن كانت الهلكة المحتملة في مورد الشبهة هو العقاب الاخروي ـ كما في العقائد ، ومورد تنجّز التكليف لأجل العلم الإجمالي ، أو عدم معذوريّة المكلّف لأجل تمكّنه من الفحص وإزالة الشبهة ـ يجب فيه التوقّف ، وإن كانت غيره من المفاسد ـ كما في ارتكاب أموال الظلمة ـ يستحبّ فيه ذلك ، كما تقدّم توضيحه في كلام المصنّف رحمه‌الله فيما أجاب به عن أخبار التوقّف ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيّن في أخبار التثليث وجه الأمر بترك الشبهات ، وهو استلزام ارتكابه للدخول في الحرام ، فإن كان ذلك مقتضيا للوجوب فهو مقتض له مطلقا ، وإن كان مقتضيا للاستحباب فكذلك ، لعدم اختلافه باختلاف المقامات حتّى يقتضي الوجوب في مقام والاستحباب في مقام آخر. هذا ، مضافا إلى ما اعترضنا به على ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله عن أخبار التوقّف ، فراجع فلا تغفل ، وبالله التوفيق ومنه الاستعانة.

١٢٣٩. إن قلت : كيف تدّعي لزوم إخراج أكثر الأفراد ، وغاية ما يشمله النبويّ هي الشبهة التحريميّة الحكميّة والموضوعيّة منها خاصّة ، لوضوح عدم شموله

ظاهر في الحصر ، وليس الشبهة الموضوعيّة من الحلال البيّن ، ولو بني على كونها منه لأجل أدلّة جواز ارتكابها قلنا بمثله في الشبهة الحكميّة.

الثاني : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رتّب (١٢٤٠) على ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرّمات والهلاك من حيث لا يعلم ، والمراد جنس الشبهة لأنّه في مقام بيان ما تردّد بين

______________________________________________________

للشبهة الوجوبيّة مطلقا ، فعلى تقدير اختصاصه بالشبهة الحكميّة يكون الخارج كالباقي فردا واحدا؟

قلت : ما ذكرته من عدم الشمول للشبهة الوجوبيّة مطلقا متّجه ، إلّا أنّ منع لزوم إخراج أكثر الأفراد مبنيّ على كون إخراج الشبهة الموضوعيّة التحريميّة نوعيّا ، وإلّا فلو قلنا بعموم الشبهات في النبويّ لجميع أفراد الشبهة التحريميّة الحكميّة والموضوعيّة ـ كما هو مقتضى عموم جمع المعرّف ـ فلا ريب في كون إخراج الشبهة الموضوعيّة مستلزما للمحذور ، لقلّة وجود الشبهة الحكميّة التحريميّة بحسب الخارج ، ونهاية كثرة وجود الشبهات الموضوعيّة التحريميّة كذلك ، لكون أكثر الأشياء من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مشتبهة بحسب الواقع ، وارتكاب التخصيص بحسب النوع خلاف الظاهر ، كما أسلفناه في بعض الحواشي السابقة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ إخراج الشبهات التحريميّة الموضوعيّة إنّما يوجب تخصيص الأكثر إذا قطع النظر عن الأمارات القائمة عليها المزيلة للشبهة عنها من اليد والسوق والبيّنة ونحوها ، وإلّا يمكن منع أكثريّة الخارج ، لأنّ الباقي حينئذ ـ وهي الشبهات التحريميّة الحكميّة مطلقا ، والموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي ـ كثير أيضا ، فتدبّر.

١٢٤٠. توضيح المقام يتوقّف على فهم فقه الحديث ، فنقول : إنّ الألف واللام في الشبهات إمّا للاستغراق والعموم الاصولي حقيقة أو عرفا ، كما هو المتبادر من الجمع المعرّف ، وبنى عليه بعضهم الاستدلال في المقام. وإمّا للجنس ،

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن لا بمعنى الجنس الجمعي ، لكون الجمع المعرّف بعد انسلاخه عن العموم ظاهرا في مطلق الجنس من دون اعتبار الجمعيّة والفرديّة فيه ، وامّا احتمال العموم الجمعي فهو خلاف الظاهر. وعلى التقديرين : إمّا أن يراد من الوقوع في المحرّمات الوقوع فيها فعلا أو شأنا ، بمعنى كونه في شرف الوقوع فيها ، فيكون مجاز مشارفة.

وعلى التقديرين : إمّا أن يراد الوقوع أو الإشراف على محرّم معلوم الحرمة ، كشرب الخمر وأكل الربا ، بأن كان ارتكاب الشبهات مؤدّيا إليه ، أو على محرّم واقعي مجهول بين الشبهات. والمراد بالمحرّمات هو جنسها خاصّة دون العموم ، كما هو واضح. وهذا الذي ذكرناه هو أقرب الاحتمالات التي بنوا عليه الاستدلال ، وهنا احتمالات أخر بعيدة سخيفة.

أمّا حمل الشبهات على العموم الاصولي ـ وظاهر حينئذ كون المراد بالارتكاب هو الارتكاب الفعلي ، وبالمحرّمات هو الحرام الواقعي ، لبعد غيرهما من الاحتمالات ـ فقال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «الخبر يدلّ على أنّ من ارتكب جميع الشبهات فلا ينفكّ عن فعل الحرام ، إمّا للعلم العادّي بأنّ من ارتكب جميع الشبهات يرتكب حراما واقعيّا لا محالة ، أو من جهة إخبار المعصوم عليه‌السلام بذلك. وعلى تقدير استلزام ذلك الحرمة إنّما يدلّ على الحرمة إذا استوعب جميع الشبهات ، وهو غير محلّ النزاع ، بل النزاع في مطلق المشتبه وكلّما صدق عليه لا جميعها ، فلا يفيد ذلك أزيد من الكراهة ، كالنهي عن الصرف لخوف الوقوع في الربا ، وعن بيع الأكفان لخوف الوقوع في محبّة موت الناس. والحاصل : أنّ مطلب المستدلّ إثبات المؤاخذة والعقاب الاخروي في ارتكاب ما لا نصّ فيه ، وهذا لا يدلّ عليه» انتهى.

وأنت خبير بأنّ حمل الشبهات على إرادة العموم وإن كان فاسدا من الوجهين الآتيين ، إلّا أنّ منع استلزامه على تقديره لمطلب الخصم لا وجه ، له لأنّ مقصوده من الاستدلال بالخبر هو إثبات وجوب الاحتياط في الشبهات مع تسليم العلم عادة أو بإخبار المعصوم عليه‌السلام باستلزام ارتكاب جميع الشبهات للحرام المتعقّب

.................................................................................................

______________________________________________________

للعقاب الاخروي ، فيجب الاجتناب عن كلّ واحد منها من باب المقدّمة العلميّة ، نظير الشبهة المحصورة ، وإن زعم المحقّق المذكور جواز الارتكاب فيها أيضا إلى أن يبقى من أطراف الشبهة مقدار يعلم بارتكاب الحرام الواقعي بارتكابه ، إلّا أنّه ضعيف كما قرّر في محلّه. وصيرورة الشبهات الحكميّة حينئذ نظير الشبهة المحصورة في الاشتمال على العلم الإجمالي ، مع كون مفروض الكلام في الشبهات البدويّة لا يصد في إثبات مطلب الخصم ، لأنّ المقصود بيان حكم الشبهات الحكميّة التحريميّة التي منها شرب التتن مثلا ، وإثبات وجوب الاحتياط فيها بهذه الرواية ، سواء فرض العلم الإجمالي بحرمة بعضها في الواقع بحسب العادة أو بإخبار الإمام عليه‌السلام أم لا.

وأمّا عدم جواز حملها على العموم فمن وجهين :

أحدهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في الجملة ، وهو عدم مساعدة قرائن الكلام عليه. أمّا أوّلا : فلعدم مساعدة سياق الكلام عليه ، لأنّ ملاحظة ألفاظ الحديث مع انضمامها وانتظامها الخاصّ تعطي إرادة معنى الجنس لا العموم. ولعلّ الوجه فيه ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «لأنّه في مقام بيان ما تردّد بين الحرام والحلال ، لا في مقام التحرّز عن ارتكاب المجموع».

وأمّا ثانيا : فإنّ الألف واللام في المحرّمات للجنس يقينا ، فكذا في الشبهات للمقابلة.

وأمّا ثالثا : فإنّ الصادق عليه‌السلام قد استشهد بالنبويّ في تعارض الخبرين ، وبعد فرض كون المراد بالأمر بترك الشبهات ترك جميعها ، لا يناسبه استشهاده لوجوب طرح الشاذّ النادر ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «مع أنّه ينافي استشهاد الإمام عليه‌السلام» لعدم كون الأخذ بالشاذّ أخذا بجميع الشبهات. اللهمّ إلّا أن يقال في وجه المناسبة : إنّ مقصود الإمام عليه‌السلام من الاستشهاد هو بيان كون الخبر المشهور من الحلال البيّن فيجب الأخذ به ، والشاذّ من جملة المشتبهات فيجب طرحه ، لوجوب

.................................................................................................

______________________________________________________

طرح جميع الشبهات للتحرّز عن الوقوع في الحرام الواقعي بارتكاب الجميع الذي منها الشاذّ من المتعارضين ، فتدبّر.

وأمّا رابعا : فإنّ الشبهات في النبويّ في مقابل الأمر المشكل في كلام الصادق عليه‌السلام ولا ريب في عدم إرادة العموم من الثاني ، فكذا الأوّل.

وثانيهما : أنّ استلزام العموم للعلم بارتكاب حرام واقعي عادة أو بإخبار الإمام عليه‌السلام ـ كما ادّعاه المحقّق المذكور ـ فاسد جدّا. أمّا الأوّل فإنّ الشبهات ليست من الامور الواقعيّة الثابتة التي لا تختلف بالنسبة إلى الأشخاص ، إذ شيء واحد ربّما يكون راجحا عند شخص ، ومشكوكا فيه عند آخر ، وموهوما عند ثالث ، وحينئذ يمكن فرض شخص لا تكون الشبهات الحاصلة له في الواجبات والمحرّمات المتعلّقة به لأجل قلّتها مستلزمة للعلم الإجمالي المذكور ، إمّا من جهة كونه في بدو الإسلام أو بعيدا عن بلاد الإسلام أو محبوسا في مغمورة أو نحو ذلك ، وظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات» هو العموم بالنسبة إلى جميع المكلّفين ، فلا تتمّ دعوى الاستلزام بحسب العادة.

هذا إن أراد الاستلزام بالنسبة إلى غير المجتهدين. وإن أراد بالنسبة إليهم ، فيمكن منع الاستلزام أيضا ، إذ الكلام في المقام هي الشبهات الحكميّة التحريميّة ، وهي لقلّة وجودها في الخارج غير مستلزمة للعلم الإجمالي المذكور ، كما هو واضح.

وأمّا الثاني فإنّ الظاهر أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات» وارد في مقام الإخبار عن الملازمة العاديّة التي قد عرفت خلافها على تقدير إرادة العموم ، فلا بدّ من حمله على معنى آخر يصحّ معه ذلك. مضافا إلى أنّ ارتكاب جميع الشبهات غير ممكن أو غير متحقّق في الخارج إلّا في بعض الفروض النادرة ، فيخرج الكلام مع الحمل على العموم مخرج اللغويّة ، إذ النهي عن ارتكاب غير الممكن أو غير المتحقّق في الخارج مع العلم به لا يليق أن ينسب إلى الحكيم فضلا عن الحكيم على الإطلاق.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الحمل على إرادة معنى الجنس ، وقد تقدّم أنّ المراد بارتكاب الحرام حينئذ إمّا هو الارتكاب الفعلي ، أو على وجه المشارفة. وعلى التقديرين : فالمراد بالحرام إمّا الحرام المعلوم الحرمة ، أو الحرام الواقعي المجهول. فأمّا على تقدير إرادة الارتكاب الفعلي مع إرادة الحرام المعلوم الحرمة ، فيرد عليه : منع استلزام ارتكاب جنس الشبهة لارتكاب الحرام المعلوم الحرمة ، مثل شرب الخمر وأكل الربا. وكذا مع إرادة الحرام الواقعي المجهول أيضا. وأمّا على تقدير إرادة الارتكاب على وجه المشارفة مع إرادة الحرام المعلوم الحرمة ، فالظاهر أنّ هذا هو المقصود من الرواية. وحاصله : بيان أنّ ارتكاب الشبهات يوجب الاجتراء على ارتكاب المحرّمات المعلومة ، ويكون المكلّف معه في شرف ارتكابها.

فإن قلت : إنّ هذا المعنى لا يناسبه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وهلك من حيث لا يعلم» لأنّه مع حمل الارتكاب في النبويّ على إرادة الارتكاب على وجه المشارفة لا بدّ أن يراد بالوقوع في الهلاكة أيضا وقوعه فيها كذلك ، وحينئذ يكون الوقوع فيها عن علم لا من حيث لا يعلم.

قلت : إنّ المكلّف عند ارتكاب الشبهة ربّما يعقد قلبه على الاجتناب عن المحرّمات المعلومة ، إلّا أنّ ارتكابها من حيث كونه سببا للاجتراء ربّما يؤدّي إلى الوقوع فيها فيما بعد ذلك ، وإن لم يخطر ذلك بباله أو عقد قلبه على خلافه حين الارتكاب ، فيصدق حينئذ كون الوقوع في الهلاكة عن جهل لا عن علم وقصد ، فتدبّر.

وبالجملة ، إنّ ما ذكرناه هو الظاهر من الرواية ، وتؤيّده الأخبار التي نقلها المصنّف رحمه‌الله. وحينئذ يبقى الكلام مع الأخباريّين في أنّ ارتكاب الشبهة إذا أدّى إلى ارتكاب الحرام أحيانا من جهة إيراثه الاجتراء أو قساوة القلب أو غير ذلك ، فهل يوجب ذلك حرمته أو لا؟ وأنّى لهم بإثباته ، لأنّ غايته إثبات استحباب الاحتياط لا وجوبه ، نظير كراهة بيع الأكفان لخوف حبّ موت الناس ، وكراهة بيع الصرف

.................................................................................................

______________________________________________________

لخوف الوقوع في الربا.

وأمّا على تقدير إرادة الارتكاب على وجه المشارفة ، مع كون المراد بالحرام هو الحرام الواقعي للمجهول بين الشبهات ، فظنّي أنّ هذا هو مراد الأخباريّين في مقام الاستدلال بالرواية. ولكنّ الكلام معهم حينئذ في أنّ مجرّد احتمال ارتكاب الحرام الواقعي بارتكاب الشبهة هل يوجب حرمته أو لا؟ وأنّى لهم بإثباته. ومن التأمّل فيما ذكرناه يتّضح ما رامه المصنّف رحمه‌الله من المقام غاية الوضوح.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه عدم صحّة إرادة العموم من الشبهات ، وكذا إرادة معنى الجنس مع إرادة الارتكاب الفعلي للحرام بكلا قسميه. وأمّا إرادة معنى الجنس مع إرادة الارتكاب على وجه المشارفة ، سواء اريد من الحرام الحرام المعلوم الحرمة أو الحرام المجهول في الواقع ، فهو لا يفيد أزيد من الاستحباب. ويؤيّده ما نقله المصنّف رحمه‌الله من الأخبار.

فإن قلت : كيف نحمله على الاستحباب وقد استشهد الصادق عليه‌السلام بالنّبوي للترجيح بالشهرة ورفض الشاذّ النادر ، والعمل بمقتضى المرجّحات المعتبرة واجب؟

قلت : إنّ المصنّف رحمه‌الله وإن أشار إلى حلّ عقدة هذا الإشكال ، إلّا أنّا نشير إلى زيادة توضيح لذلك ونقول : إنّ الصادق عليه‌السلام بعد أن حكم بالأخذ بالمشهور ورفض الشاذّ النادر علّل ذلك بنفي الريب عن المجمع عليه ، وقد تقدّم في بعض الحواشي السابقة أنّ المراد به نفيه عنه بالإضافة إلى الشاذّ النادر لا مطلقا ، ومقصوده عليه‌السلام الاستدلال على الأخذ بالمشهور بالدليل والبرهان. وحاصل ما استدلّ به يرجع إلى أنّه مع رجحان أحد المتعارضين من جهة الموافقة للشهرة مثلا يجب الأخذ به ، لرجحانه وانتفاء الريب عنه ولو بالإضافة ، إذ لا ريب أنّ رفضه والأخذ بالشاذّ النادر ممّا فيه الريب ، لكونه اختيارا للمرجوح على الراجح.

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ علّل ذلك بتثليث الامور ، وأنّها لا تخلو : إمّا أن يكون بيّن الرشد فيجب اتّباعه ، وإمّا أن يكون بيّن الغيّ فيجتنب عنه ، وإمّا أن يكون أمرا مشكلا لا يعلم رشده ولا غيّه ، فيردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والأخذ بالمشهور من قبيل الأوّل ، لما عرفت من أنّ رفضه والأخذ بالشاذّ النادر ترجيح للمرجوح على الراجح ، وهو داخل في بيّن الغيّ. والشاذّ وإن كان من الامور المشكلة التي يجب ردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث شذوذه واعتباره في نفسه ، واحتمال كون الحكم الواقعي ما تضمّنه خاصّة ، إلّا أنّ الأخذ بالمشهور مستلزم لرفضه ، فالأخذ بالمشهور انّما هو لأجل كونه من البيّن الرشد ولو بالإضافة إلى الشاذّ النادر ، وترك الشاذّ النادر ليس من جهة كونه من البيّن الغيّ الذي أمر الإمام عليه‌السلام بتركه ، بل من جهة كون الأخذ بالمشهور مستلزما لذلك بعد فرض تعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما.

ومن هنا يندفع ما قدّمناه عن صاحب الفصول عند شرح قوله : «وجه الدلالة أنّ الإمام عليه‌السلام ...» واستجودناه أيضا من دخول الشاذّ النادر في بيّن الغيّ بقرينة مقابلته للمشهور.

ثمّ استشهد عليه‌السلام بالنّبوي لوجوب ردّ علم الأمر المشكل إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولمّا أشكل ذلك في الظاهر ـ من حيث عدم وجوب الاحتياط في المشتبه بين الحلال والحرام ، لأنّ غايته الاستحباب بالتقريب الذي قدّمناه ، فلا يصحّ الاستشهاد نظرا إلى وجوب الأخذ بالمشهور وترك الشاذّ ـ تصدّى المصنّف رفع الله في العليّين رتبته لرفع هذا الإشكال بالتوفيق بينهما ، بأنّه إذا استحبّ التوقّف والاحتياط في المشتبه بين الحلال والحرام كما قدّمناه ، أو كان ذلك راجحا مطلقا على ما قرّره المصنّف رحمه‌الله من حمل الأمر على الإرشاد من دون اشتمال أحد طرفي الشبهة على مرجّح معتبر ، تفصّيا عن الوقوع في مفسدة الحرام الواقعي ، كان طرح الشاذّ واجبا ، لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين لتحصيل الأقرب إلى الواقع و

الحلال والحرام ، لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع ، مع أنّه ينافي استشهاد الإمام عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ ارتكاب جنس الشبهة لا يوجب الوقوع في الحرام ولا الهلاك من حيث لا يعلم إلّا على مجاز المشارفة ؛ كما يدلّ عليه بعض ما مضى وما يأتي من الأخبار ، فالاستدلال موقوف على إثبات كبرى ، وهي : أنّ الإشراف على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرّم ، من دون سبق علم به أصلا.

الثالث : الأخبار الكثيرة المساوقة لهذا الخبر الشريف الظاهرة في الاستحباب بقرائن مذكورة فيها : منها : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقّف. ومنها : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في مرسلة الصدوق أنّه خطب وقال : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها». ومنها : رواية أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «قال : قال جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا : وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه ، فاتّقوا حمى الله ومحارمه» (٣٣). ومنها : ما ورد من : «أنّ في حلال الدنيا حسابا وفي حرامها عقابا وفي الشّبهات عتابا». ومنها : رواية فضيل بن عياض : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من النّاس؟ قال : الذي يتورّع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه» (٣٤).

______________________________________________________

الأبعد عن الريب ، إذ لو قصّر في ذلك احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ، فيكون الحكم به حكما بغير الطرق المقرّرة له من الشارع. وهذا من قبيل الاستدلال بالمساواة لا بالأولويّة كما زعمه المحقّق القمّي رحمه‌الله ، لأنّ استحباب التوقّف في المشتبه بالحلال والحرام مع عدم رجحان أحد الطرفين لا يثبت وجوبه بالأولويّة في المرجوح ، وهو الشاذّ النادر. نعم ، لو ثبت وجوبه في الأوّل ثبت ذلك في الثاني أيضا بطريق أولى ، والفرض خلافه.

وأمّا العقل ، فتقريره بوجهين : أحدهما : أنّا نعلم إجمالا (١٢٤١) قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرّمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣٥) ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة باتّفاق المجتهدين والأخباريّين ، وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرّمات الواقعيّة ، فلا بدّ من اجتناب كلّ ما احتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ يدلّ على حلّيته ؛ إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعا.

______________________________________________________

ومع تسليم ظهور النبويّ في وجوب الاحتياط لا بدّ من رفع اليد عنه للأخبار التي نقلها المصنّف رحمه‌الله ، لكونها أظهر منه في إرادة الاستحباب. ومع التسليم فهو معارض بالأخبار الدالّة على التخيير في تعارض النصّين ، بناء على كون الشبهة أعمّ من أن تكون ناشئة من فقد النصّ وإجماله وتعارضه ، ولذا استشهده الإمام عليه‌السلام في تعارض النصّين. ومع التسليم أيضا يأتي فيه جميع ما أجيب به عن أخبار التوقّف ، كلّ على حسب زعمه. ومع تسليمه أيضا تعارضه مرسلة الفقيه : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» معتضدة بغيرها من أخبار البراءة ، ومع التساقط يرجع إلى أصالة الإباحة في الأشياء. هذا إن قلنا بتواتر الأخبار من الطرفين ، وإلّا فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات ، وحينئذ إن لم نقل بالترجيح بموافقة الأصل فلا ريب في كون الشهرة العظيمة المحقّقة مرجّحة لأخبار البراءة ، فيجب الإذعان بمقتضاها ، والله أعلم بحقائق أحكامه.

١٢٤١. هذا الدليل مركّب من مقدّمات ، إحداهما : العلم إجمالا بوجود محرّمات في الواقع. الثانية : وجوب الانتهاء عنها في الجملة. الثالثة : كون الانتهاء عنها على وجه اليقين دون الظنّ والاحتمال. والاولى ثابتة بالضرورة ، والثانية بالآية الشريفة ، والثالثة بإجماع المجتهدين والأخباريّين وحينئذ يشكل الأمر بعدم

فإن قلت : بعد مراجعة الأدلّة نعلم تفصيلا بحرمة امور كثيرة ولا نعلم إجمالا بوجود ما عداها ، فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقّن حتّى يجب الاحتياط. وبعبارة اخرى : العلم الإجمالي قبل الرجوع إلى الأدلّة ، وأمّا بعده فليس هنا علم إجمالي.

قلت : إن اريد من الأدلّة (١٢٤٢) ما يوجب العلم بالحكم الواقعي الأوّلي ، فكلّ مراجع في الفقه يعلم أنّ ذلك غير ميسّر ، لأنّ سند الأخبار لو فرض قطعيّا لكن دلالتها ظنّية. وإن اريد منها ما يعمّ الدليل الظنّي المعتبر من الشارع فمراجعتها لا توجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالا ؛ إذ ليس معنى اعتبار الدليل

______________________________________________________

ثبوت شيء من هذه المقدّمات بالعقل ، فكيف سمّي الدليل المركّب منها عقليّا؟

ويمكن دفعه بأنّ مقصوده من الاتّفاق ليس إثبات المقدّمة الثالثة بالإجماع المصطلح ، بل بحكم العقل المتّفق عليه بين المجتهدين والأخباريّين. نعم ، كان الأولى في المقدّمة الثانية أيضا التمسّك بالعقل ، لأنّ مقتضى الآية لا يزيد على ما يستقلّ به العقل من وجوب إطاعة المولى ، ليكون تمام الكبرى ثابتا بالعقل. وحاصل هذا الدليل : كون المقام من قبيل شبهة الكثير في الكثير التي هي في حكم الشبهة المحصورة.

١٢٤٢. حاصل الجواب : أنّ رجوع العلم الإجمالي الحاصل قبل المراجعة إلى الأدلّة إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي بعد الرجوع إليها إنّما يتمّ بوجهين : أحدهما : أن تكون الأدلّة مفيدة للقطع بالواقع. الثاني : أن يكون التكليف في الواقع متعلّقا بما أدّى إليه الطرق الظاهريّة ، لأنّ مقتضى ذلك عدم التكليف في الواقع في الموارد الخالية من الطرق الظاهريّة.

والأوّل باطل بالوجدان باعتراف من الأخباريّين أيضا ، لأنّهم وإن زعموا قطعيّة الأخبار سندا إلّا أنّهم اعترفوا بظنّيتها دلالة. وما حكي عن الأمين الأسترآبادي من قطعيّتها مطلقا كما ترى.

الظنّي إلّا وجوب الأخذ بمضمونه ، فإن كان تحريما صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات الواقعيّة ، وإن كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله وإن كان في الواقع من المحرّمات ، وهذا المعنى لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعيّة في مضامين تلك الأدلّة حتّى يحصل العلم بالبراءة بموافقتها ، بل ولا يحصل الظنّ بالبراءة عن جميع المحرّمات المعلومة إجمالا. وليس الظنّ التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيلي بها ؛ لأنّ العلم التفصيلي بنفسه مناف لذلك العلم الإجمالي ، والظنّ غير مناف له لا بنفسه ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور.

نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الأدلّة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤدّاها بحيث يكون هو المكلّف به ، كان ما عدا ما تضمّنه الأدلّة من محتملات التحريم خارجا عن المكلّف به ، فلا يجب الاحتياط فيها.

وبالجملة فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالا بوجود محرّمات فيها ، ثمّ قامت البيّنة على تحريم جملة منها وتحليل جملة وبقي الشكّ في جملة ثالثة ؛ فإنّ مجرّد قيام البيّنة على تحريم البعض لا يوجب العلم ولا الظنّ بالبراءة من جميع المحرّمات.

نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ، بمعنى أنّه أمر بتشخيص المحرّمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق ، رجع التكليف إلى وجوب اجتناب ما قامت عليه البيّنة ، لا الحرام الواقعي.

______________________________________________________

والثاني مستلزم إمّا للتصويب ، نظرا إلى دوران المطلوبيّة الواقعيّة والفعليّة مدار ظنّ المجتهد ، أو ما يشبهه ، بناء على كون التصويب عبارة عن كون الحكم الواقعي من رأس تابعا لظنّ المجتهد ، والفرض في المقام تحقّق وجود واقعيّ للأحكام الواقعيّة في الجملة ، إلّا أنّ توقّف المطلوبيّة على ظنّ المجتهد جعل ذلك شبيها بالتصويب ، لعدم توقّف المطلوبيّة الواقعيّة عليه على القول بالتخطئة وإن توقّف تنجّزها عليه. وبعبارة اخرى : أنّ لازمه القول بأنّ الشارع قد جعل في الواقع حكما ناشئا من ملاحظة مصلحة أو مفسدة ، إلّا أنّ محبوبيّة هذا الحكم ومطلوبيّته له في الواقع والظاهر كانت مشروطة بظنّ المجتهد ، لا أن يكون ظنّه سببا لجعله في

والجواب أوّلا منع تعلّق (١٢٤٣) تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلّا بما أدّى إليه الطرق الغير العلميّة المنصوبة له ، فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا بمؤدّى هذه الطرق من حيث هو حتّى يلزم التصويب أو ما يشبهه ؛ لأنّ ما ذكرناه هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ، وتوضيحه في محلّه ، وحينئذ فلا يكون ما شكّ في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلا على تقدير حرمته واقعا.

______________________________________________________

الواقع كما ظنّه أهل التصويب.

وبعد بطلان الوجهين يظهر أنّ معنى اعتبار الأدلّة تنزيل مؤدّياتها بمنزلة الواقع بحكم الشارع ، بمعنى المعذوريّة في العمل بها على تقدير تخلّفها عنه ، لا حصر الواقع في مؤدّياتها حتّى يدّعى انحلال العلم الإجمالي بعد مراجعة الأدلّة بحكم الشارع إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي.

ولكنّك خبير بأنّه إن تمّ هذا الدليل العقلي لدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة أيضا ، وهو خلاف ما اتّفق عليه المجتهدون والاصوليّون. ودعوى أنّها خارجة من مقتضى الدليل بالإجماع ، لجواز اقتناع الشارع بالموافقة الاحتماليّة عن الواقع ، فلا يرد عدم جواز تخصيص الدليل العقلي ، مدفوعة بمنع الإجماع أوّلا ، ومنع حجّيته عند الأخباريّين ثانيا.

١٢٤٣. حاصله : أنّ مقتضى تعلّق التكليف بالواقع ـ كما هو مقتضى الخطابات ونصب الطرق الظاهريّة إليه ـ هو عدم تعلّق تكليف غير القادر على العلم إلّا بما أدّت إليه الطرق الظاهريّة ، بمعنى عدم تنجّز التكليف بالواقع إلّا على حسب تأدية الطرق الظاهريّة ، لا بالواقع مطلقا ، لمنافاته لنصب الطرق الظاهريّة ، ولا بمؤدّى الطرق كذلك بحيث ينقلب التكليف إليه ، لاستلزامه التصويب أو ما يشبهه كما عرفته في الحاشية السابقة ، ولا ريب أنّه مع اشتراط تنجّز الأحكام الواقعيّة بتأدية الطرق الظاهريّة إليها في حقّ غير القادر على تحصيل العلم بالواقع ،

وثانيا : سلّمنا التكليف الفعلي (١٢٤٤) بالمحرّمات الواقعيّة ، إلّا أنّ من المقرّر في الشبهة المحصورة ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ أنّه إذا ثبت في المشتبهات (*) المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلّق بالمعلوم الإجمالي ، اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ؛ لاحتمال كون المعلوم الإجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ، فأصالة الحلّ في البعض الآخر غير معارضة بالمثل ، سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الإجمالي ـ كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول ، فإنّه لا يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ حرمة أحدهما معلومة تفصيلا ـ أم كان لاحقا كما في مثال الغنم المذكور ؛ فإنّ العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبيّنة ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

______________________________________________________

كانت الموارد الخالية منها مجرّدة عن العلم الإجمالي.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب مبنيّ إمّا على القول بعدم تأثير العلم الإجمالي في إثبات التكليف أصلا ، وإمّا على القول بعدم تأثيره في إثبات وجوب الموافقة القطعيّة وإن قلنا بجواز المخالفة الاحتماليّة ، وكلّ منهما خلاف مذهب المصنّف قدس سرّه ، ولذا يقول بوجوب الاحتياط فيما دار الواجب بين أمرين بعد العلم بأصل الوجوب في الجملة ، كالظهر والجمعة والقصر والإتمام في بعض الموارد.

مع أنّ مقتضى ما ذكر هو القطع بعدم التكليف في الموارد الخالية من الطرق الظاهريّة لا الشكّ فيه ، كما هو مقتضى كونها من موارد قاعدة البراءة والاشتغال.

١٢٤٤. توضيحه : أنّ اعتبار أخبار الآحاد يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون مقتضى أدلّة اعتبارها إثبات اعتبار مؤدّياتها ، بمعنى الحكم بكون ما دلّ خبر الواحد على حرمته مثلا حراما في الواقع بتنزيل الشارع ، مع

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المشتبهات» ، الشبهات.

.................................................................................................

______________________________________________________

قطع النظر عن كون ما جعله الشارع حراما في الواقع هو مؤدّى هذا الطريق أيضا أو غيره.

وثانيهما : أن يكون مقتضاها إثبات اعتبارها في مقام تشخيص المجهولات الواقعيّة ، بأن يقول : إنّ ما أدّى إليه خبر الواحد هو ما حكمت به في الواقع ويجب البناء عليه.

وأثر الوجهين يظهر في أنّ مقتضى الأوّل عدم انحلال العلم الإجمالي بعد مراجعة الأدلة إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، لما قرّره المصنّف رحمه‌الله في تقرير الدليل العقلي من عدم منافاة العلم الإجمالي للظنّ التفصيلي ولا لدليل اعتباره على هذا الوجه ، لأنّ وجوب البناء على كون مؤدّيات الطرق الظاهريّة هو الواقع بتنزيل الشارع ، بأن يجب البناء إذا دلّ خبر الواحد على حرمة شيء على كونه حراما في الواقع بحكم الشارع ، لا يقتضي انحصار الواقع في مؤدّياتها ، بخلافه على الثاني ، لأنّ وجوب البناء على كون مؤدّياتها هو ما جعله الشارع من الأحكام الواقعيّة يقتضي انحصار الواقع في مؤدّياتها ، بمعنى عدم العلم بالوجوب والحرمة بحكم الشارع في غير مؤدّياتها.

ومن هنا يظهر أنّه مع سبق المراجعة إلى الأدلّة على العلم الإجمالي لا يجب الاحتياط في الموارد الخالية منها على الوجهين. أمّا على الأوّل فلاحتمال كون المحرّمات الواقعيّة هو ما قامت عليه الأدلّة ، فتكون أصالة البراءة في الموارد الخالية منها سليمة من المعارض ، نظير ما لو علمت نجاسة أحد الإنائين بالخصوص ثمّ وقعت قطرة دم في أحدهما المجهول ، كما أوضح المصنّف رحمه‌الله ذلك في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة المحصورة ، فراجع وأمّا على الثاني فواضح ممّا ذكرناه ، لفرض عدم بقاء العلم الإجمالي في الموارد الخالية منها على ما عرفت.

وأمّا مع لحوقها به ، بأن كان العلم الإجمالي سابقا عليها ، فعلى الأوّل يجب الاحتياط في الموارد الخالية ، لفرض تنجّز التكليف بالواقع قبل المراجعة ، وغاية ما

.................................................................................................

______________________________________________________

تقتضيه المراجعة إلى الأدلّة والعمل بها هو الظنّ بالخروج من عهدة المحرّمات الواقعيّة لا اليقين بها ، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، فلا يكفي الظنّ بها ، كيف لا ولا ظنّ بالخروج من عهدة جميعها. وقد صرّح المصنّف رحمه‌الله في التنبيه الخامس من تنبيهات الشّبهة المحصورة ـ فيما لو اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب بعض أطراف الشبهة ـ بعدم وجوب الاجتناب عن الآخر إن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه ، وبوجوبه إن كان بعده ، فراجع. وعلى الثاني لا يجب الاحتياط فيها كما هو واضح ممّا عرفت.

وإذا عرفت ذلك تحقّق لك أنّ ما حكم به المصنّف رحمه‌الله هنا من عدم وجوب الاحتياط في الموارد الخالية من الأدلّة ، سواء كانت المراجعة إليها قبل العلم الإجمالي أم بعده ، إنّما يتمّ على الوجه الثاني ، كما يرشد إليه قوله هنا : «فإنّ العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها ...». وتقرير الدليل العقلي المذكور مبنيّ على الأوّل ، كما يرشد إليه قوله هناك : «إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي إلّا وجوب الأخذ ...».

والوجه في كون اعتبار أخبار الآحاد من قبيل الثاني أنّه إذا أخبر واحد عن حكم واقعة من الأحكام الشرعيّة ، فمرجعه إلى الإخبار عمّا جعله الله تعالى في هذه الواقعة في نفس الأمر ، فكأنّه قال : ما جعله الله تعالى في هذه الواقعة في الواقع هو هذا. فإذا دلّ دليل على اعتبار خبره كان مقتضاه تنزيل ما أخبر به بمنزلة الواقع ، بمعنى عدم الاعتناء باحتمال الكذب في خبره ، وفرضه كالمقطوع بصدقه. وحينئذ فمقتضى اعتبار أخبار الآحاد هو كون مؤدّياتها بحكم الشارع هي الأحكام الواقعيّة التي جعلها الله تعالى في الواقع ، لا كون ما أخبر بحرمته مثلا حراما في الواقع ، مع قطع النظر عن كون ذلك هو الحرام الواقعي المجهول أو غيره. وقد عرفت أنّ مقتضى الأوّل انحصار الواقع بحكم الشارع في مؤدّيات الطرق ، وصيرورة الموارد الخالية منها مشكوكة بالشكّ البدوي.

الوجه الثاني : أنّ الأصل (١٢٤٥) في الأفعال الغير الضرورية الحظر ، كما نسب إلى طائفة من الإماميّة ، فيعمل به حتّى يثبت من الشرع الإباحة ، ولم يرد الإباحة فيما لا نصّ فيه. وما ورد ـ على تقدير تسليم دلالته ـ معارض بما ورد من الأمر بالتوقّف والاحتياط ، فالمرجع إلى الأصل. ولو تنزّلنا عن ذلك فالوقف ، كما عليه الشيخان قدس‌سرهما. واحتجّ عليه في العدّة : بأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة (٣٦).

______________________________________________________

ومن هنا قد تبيّن أنّ قياس اعتبار الأدلّة على اعتبار الأمارات كالبيّنة غير صحيح ، لأنّه إذا علمت إجمالا حرمة طائفة من قطيع غنم ، فإن أخبرت البيّنة بأنّ ما علمت إجمالا حرمته هي هذه الطائفة من القطيع ، فقد عرفت انحلال العلم الإجمالي حينئذ ـ بحكم أدلّة اعتبار البيّنة ـ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي. وإن أخبرت بحرمة طائفة منها مع قطع النظر عن كونها هي المعلومة إجمالا أو غيرها ، فالعلم الإجمالي حينئذ وإن كان باقيا على حاله ، إلّا أنّك قد عرفت أنّ الأدلّة الظنّية ليست كذلك.

وهنا جواب آخر ذكره المصنّف رحمه‌الله عند بيان شرائط العمل بأصالة البراءة ، من منع العلم الإجمالي في غير موارد الأدلّة التي يمكن الوصول إليها. وقد زيّفه هناك بقوله : «ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو بين جميع الوقائع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك ، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة». ثمّ أحال تحقيق ما ذكره هناك إلى المراجعة إلى ما ذكره هنا.

١٢٤٥. هذا الدليل ربّما ينافي ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله في تقرير الإجماع من اتّفاق كلّ من المجتهدين والأخباريّين على قبح العقاب بلا بيان ، وأنّ قول الأخباريّين بوجوب الاحتياط إنّما هو لأجل الأخبار الواردة فيه. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ هذا الدليل مبنيّ على قبح التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، لا على عدم قبح العقاب بلا بيان. لكنّه مع فساده في نفسه ـ لاستغنائه سبحانه عمّا سواه ـ

وقد جزم بهذه القضيّة السيّد أبو المكارم في الغنية وإن قال بالإباحة (*) كالسيّد المرتضى رحمه‌الله تعويلا على قاعدة «اللطف» ، وأنّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه ، لكن ردّها في العدّة : بأنّه قد يكون المفسدة في الإعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف.

والجواب : بعد تسليم استقلال (١٢٤٦) العقل بدفع الضرر أنّه إن اريد ما يتعلّق بأمر الآخرة من العقاب ، فيجب على الحكيم تعالى بيانه ، فهو مع عدم البيان مأمون ، وإن اريد غيره ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتّبة مع الجهل أيضا ، فوجوب دفعها غير لازم عقلا ؛ إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيويّ المقطوع (١٢٤٧) إذا كان لبعض الدواعي النفسانيّة ، وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد. وعلى تقدير الاستقلال فليس ممّا يترتّب عليه العقاب ؛ لكونه من باب الشبهة الموضوعيّة ـ لأنّ المحرّم هو مفهوم الإضرار ، وصدقه في هذا المقام مشكوك كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاصّ ـ ، والشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب عنها باتّفاق الأخباريّين أيضا ، وسيجيء تتمّة الكلام في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله.

______________________________________________________

ينافي ما أجاب به عنه المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ ظاهره كون مبنى أصالة الحظر على وجوب دفع الضرر المحتمل.

١٢٤٦. فيه إشارة إلى منع استقلال العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وهو ينافي ما قوّاه عند الاستدلال على حجيّة الظنّ المطلق بوجوب دفع الضرر المظنون ، من دعوى استقلاله بدفع المحتمل منه أيضا.

١٢٤٧. هذا ينافي دعوى إطباق العقلاء على وجوب دفع الضرر المظنون فضلا عن المقطوع عند استدلاله على حجيّة الظنّ المطلق بوجوب دفع الضرر المظنون ، إذ لا ريب أنّ الدواعي النفسانيّة لا تمنع من تقبيح العقل. اللهمّ إلّا أن يكون

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بالإباحة» ، بأصالة الإباحة.

وينبغى التنبيه على امور : الأول : أنّ المحكيّ عن المحقّق التفصيل في اعتبار أصل البراءة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني ، ولا بدّ من حكاية كلامه قدس‌سره في المعتبر والمعارج حتّى يتّضح حال النسبة ، قال في المعتبر : الثالث ـ يعني من أدلّة العقل ـ : الاستصحاب ، وأقسامه ثلاثة : الأوّل : استصحاب حال العقل وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة ، كما يقال : الوتر ليس واجبا ؛ لأنّ الأصل براءة العهدة. ومنه : أن يختلف العلماء في حكم الدية (*) بين الأقلّ والأكثر ، كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع. إلى أن قال : الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا ، فيجب انتفائه. وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هنا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فيجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة. ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر. الثالث : استصحاب حال الشرع. فاختار أنّه ليس بحجّة (٣٧) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس‌سره.

وذكر في المعارج على ما حكي عنه : أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة ، لكن ليس كذلك ،

______________________________________________________

فضلا عن المقطوع عند استدلاله على حجيّة الظنّ المطلق بوجوب دفع الضرر الداعي منفعة مساوية للضرر أو أقوى منه ، فتدبّر. ومن هنا يظهر أنّ تجويز الشارع لذلك في بعض الموارد لا يمنع من حكم العقل به ، لكشف ذلك عن وجود مصلحة مساوية للضرر أو أقوى منه. ولا ريب أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب دفع الضرر إذا لم يكن متداركا بمساويه أو أقوى منه. فالأولى في المقام أن يجاب بأنّ دفع الضرر المحتمل وإن كان واجبا ، إلّا أنّ تجويز الشارع للاقتحام فيه بأدلّة البراءة كشف عن وجود ترياق مصلح له في الواقع ، ومعه لا تتمّ دعوى استقلال العقل به على ما عرفت.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : المردّدة.

فيجب نفيه. وهذا الدليل لا يتمّ إلّا ببيان مقدّمتين : إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه. والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ؛ لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها ، لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلا على نفي الحكم (٣٨) ، انتهى.

وحكي عن المحدّث الأسترآبادي في فوائده : أنّ تحقيق هذا الكلام هو أنّ المحدّث الماهر إذا تتّبع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم‌السلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ، فإذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعا عاديّا بعدمه ، لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا ـ أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه‌السلام ، كما في المعتبر ـ كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان هممهم وهمّ الأئمّة عليهم‌السلام إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّ ما يسمعون منهم في الاصول ؛ لئلّا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامّة ، ولتعمل بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم كما في الروايات المتقدّمة ، ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع.

إلى أن قال : ولا يجوز التمسّك به في غير المسألة المفروضة ، إلّا عند العامّة القائلين بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به ، وتوفّرت الدواعي على جهة واحدة على نشره ، وما خص صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به (٣٩) ، انتهى.

أقول : المراد بالدليل المصحّح (١٢٤٨) للتكليف ـ حتّى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ـ هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه والاستفادة منه ، فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف (*) أصلا أو كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه أو تمكّن لكن بمشقّة رافعة للتكليف أو تيسّر ولم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ ؛ فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح على ما صرّح به المحقّق قدس‌سره في كلامه السابق ، سواء قلنا بأنّ وراء الحكم الفعلي حكما آخر ـ يسمّى حكما واقعيّا وحكما شأنيّا ـ على ما هو مقتضى مذهب المخطّئة ، أم قلنا بأنّه ليس ورائه حكم آخر ؛ للاتّفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعليّ.

وحينئذ فكلّ ما تتّبع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة في نظره إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبّع ، ولم يجد فيها ما يدلّ على حكم مخالف للأصل ، صحّ له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعلي. ولا فرق في ذلك بين العامّ البلوى وغيره ولا بين العامّة والخاصّة ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، ولا بين

______________________________________________________

١٢٤٨. هذا تمهيد وتوطئة لدفع توهّم التفصيل المعزى إلى المحقّق من عبارة المعارج ، مع الإشارة إلى تزييف ما زعمه الأمين الأسترآبادي تحقيقا لكلام المعارج. وحاصله : أنّ ما يمكن أن يتوهّم منه ذلك منها قوله : «أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ...» ، وهو فاسد ، لأنّ مقصوده من الأدلّة التي ادّعى أنّ الحكم لو كان ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الأدلّة هي الأدلّة التي يمكن الوصول إليها لا مطلقها ، لأنّها هي التي يلزم مع عدم دلالتها على الحكم التكليف بما لا طريق للمكلّف إليه لو كان الحكم ثابتا في الواقع ، كما هو واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله. ومرجعه إلى التمسّك بقبح التكليف بلا بيان بعد الفحص عن الأدلّة وعدم وجدان ما يدلّ عليه. ولا ريب أنّه لا فرق في ذلك بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، كي يتوهّم منه التفصيل المذكور ، ولا بين المخطئة والمصوّبة كما توهّمه الأسترآبادي. وسنشير إلى وجه

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «شاف» ، شأني.

المجتهدين والأخباريّين ، ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.

هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكلّ ـ فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقّق قدس‌سره من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ؛ لأنّ المفروض عدم إناطة التكليف به. نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه ؛ بعموم (*) البلوى به لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع عن نشره في أوّل الأمر من الشارع أو خلفائه أو من وصل إليه.

لكن هذا الظنّ لا دليل (١٢٤٩) على اعتباره ، ولا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلّة العقليّة ، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ، ولا بكلام المحقّق. فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقّق ـ مع أنّه غير تامّ في نفسه ـ أجنبيّ عنه بالمرّة. نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة : الظنّ بها فيما بعد الشرع كما سيجيء عن بعضهم ، لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي ذكره المحقّق.

______________________________________________________

عدم دلالة كلام المعتبر أيضا عليه.

١٢٤٩. أمّا عدم الدليل على اعتباره فواضح ، لعدم الدليل على اعتبار مطلق الظنّ. لا يقال : إنّ العمل بهذا الظنّ إجماعي. لأنّا نمنع الإجماعي ، لأنّ غاية الأمر أنّ العمل على طبق أصالة البراءة إجماعي ، وأمّا كون ذلك لأجل إفادتها الظنّ فلا. مع أنّ مورد قاعدة عدم الدليل أعمّ من مورد أصالة البراءة ، فكيف يجعل الإجماع عليها إجماعا عليها؟

وأمّا عدم دخله في أصل البراءة ، فلأنّ حكم العقل بها قطعي لا ظنّي. هذا إن قيست البراءة إلى الظاهر ، وإن قيست إلى الواقع فهو قد لا يفيد الظنّ بها ، بل قد يحصل الظنّ بخلافها من أمارة غير معتبرة كالقياس ونحوه. فكيف يكون الظنّ الحاصل

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بعموم» ، لعموم.

ومن هنا يعلم (١٢٥٠) : أنّ تغاير القسمين الأوّلين من الاستصحاب باعتبار كيفيّة الاستدلال ؛ حيث إنّ مناط الاستدلال في هذا القسم الملازمة بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة السابقة ، فجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ ولو لدليل آخر غير الاتّكال على الحالة السابقة ، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ، ومناط الاستدلال في القسم الأوّل ملاحظة الحالة السابقة حتّى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم.

______________________________________________________

من عدم وجدان الدليل دليلا عليها مطلقا؟

وأمّا عدم دخله في مسألة التكليف بما لا يطاق ، فلأنّ عدم الاعتداد بالظنّ الحاصل بعدم التكليف الواقعي مع ثبوته فيه لا يستلزم التكليف بما لا يطاق ، لأنّ ما يستلزمه هو ثبوت التكليف الفعلي في الواقع مع عدم الدليل عليه ، لا ثبوت التكليف الواقعي مطلقا كذلك ، كما هو واضح.

وأمّا عدم دخله في كلام المحقّق فلما حقّقه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «المراد بالدليل المصحّح ...». ومنه يظهر عدم تماميّة ما ذكره المحدّث المذكور في نفسه ، لما حقّقه من عدم الفرق فيما هو مناط التكليف والمصحّح له بين ما يعمّ به البلوى وغيره.

مع أنّ دعوى إفادة عدم الوجدان للقطع العادي بعدم الوجود فيما يعمّ به البلوى واضحة الفساد ، لأنّ غايته الظنّ دون القطع ، سيّما مع ملاحظة انطماس كثير من الأخبار ، لوضوح عدم الفرق في دواعي الاختفاء بين ما يعمّ به البلوى وغيره. مضافا إلى منع حصول العلم ببيان الأئمّة عليهم‌السلام جميع ما يحتاج إليه الأمّة من الأحكام ، وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيّن لهم ذلك ، لأنّ الظاهر بقاء بعض ذلك مخزونا عندهم عليهم‌السلام.

١٢٥٠. يعني : ممّا ذكره من كون مبنى اعتبار كون عدم الدليل دليل العدم على الظنّ بالعدم الناشئ من عموم البلوى ، ومبنى البراءة على الظنّ الاستصحابي

ويشهد لما ذكرنا من المغايرة الاعتباريّة أنّ الشيخ لم يقل بوجوب مضيّ المتيمّم الواجد للماء في أثناء صلاته لأجل الاستصحاب ، وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم.

نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل ؛ لجريانه في الأحكام العقليّة وغيرها ، كما ذكره جماعة من الاصوليّين. والحاصل : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقّق قدس‌سره على التمسّك بالبراءة الأصليّة مع الشكّ في الحرمة ، كما يظهر من تتبّع فتاويه في المعتبر.

______________________________________________________

عند بعضهم.

وحاصل ما ذكره : أنّ ما يستفاد من كلام المعتبر أنّ هنا اصولا ، أحدها : أصالة البراءة ، والآخر : كون عدم الدليل دليل العدم ، والثالث : استصحاب حال الشرع. وظاهره كون مبنى الأوّل على استصحاب البراءة ، ومبنى الثاني على الظنّ المستفاد من عدم الوجدان بعد الفحص عن مظانّه. وعليه ، فالفرق بينهما في مورد اجتماعهما يكون باعتبار كيفيّة الاستدلال ، لما عرفت من اختلاف مبناهما ، وابتناء الأوّل على ملاحظة الحالة السابقة ، بخلاف الثاني ، فيجري فيما لم تعلم فيه الحالة السابقة أيضا. وجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق حالة السابقة من المقسم في أغلب موارده. وإنّما قلنا ذلك لما عرفت من جريان قاعدة عدم الدليل فيما لم تعلم الحالة السابقة فيه أيضا. وممّا يشهد بمغايرتهما الاعتباريّة أنّ الشيخ لم يقل بوجوب المضيّ في الصلاة للمتيمّم الواجد للماء في أثنائها من جهة الاستصحاب ، وقال به من جهة كون عدم الدليل دليل العدم.

ومن هنا يتّضح أنّ ما توهّمه المحقّق القمّي رحمه‌الله من كون استصحاب البراءة قسما من قاعدة كون عدم الدليل دليل العدم ، نظرا إلى عموم مورد الأخيرة ، ضعيف جدّا ، لما عرفت من اختلاف مبناهما وكيفيّة الاستدلال بهما. ومجرّد كون

الثاني : مقتضى الأدلّة المتقدّمة (١٢٥١) كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم هي الإباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع ، فهذا الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ، ولو أفاده لم يكن معتبرا ، إلّا أنّ الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلّة الظنيّة ، منهم صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدّمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجيّة خبر الواحد ، ومنهم شيخنا البهائي رحمه‌الله ، ولعلّ هذا هو المشهور بين الاصوليّين ؛ حيث لا يتمسّكون فيه إلّا باستصحاب البراءة السابقة ، بل ظاهر المحقّق رحمه‌الله في المعارج الإطباق على التمسّك

______________________________________________________

النسبة بينهما بحسب المورد عموما مطلقا لا يوجب كون النسبة بينهما كذلك مفهوما أيضا.

وممّا ذكرناه قد ظهر أيضا أنّه لا مساس لكلام المعتبر أيضا بالتفصيل المعزى إلى المحقّق ، لأنّه إنّما فصّل بين ما يعمّ به البلوى وغيره في مورد قاعدة أنّ عدم الدليل دليل العدم ، لا في مورد استصحاب حال العقل المعبّر عنه بأصالة البراءة ، وقد عرفت تغايرهما واختلافهما بحسب المفهوم.

١٢٥١. توضيح المقام : أنّ مقتضى الأدلّة المتقدّمة هو إثبات الإباحة الظاهريّة لموضوع مشتبه الحكم ، بل نقول : إنّ مقتضاها إثبات الإباحة الظاهريّة ، بمعنى مجرّد نفي العقاب على مخالفة الواقع إن اتّفقت ، لا الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة ، كما يوهمه ظاهر عبارة المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ ما ذكرناه هو المحصّل من الأدلّة ، لا جعل حكم ظاهري للموضوع المشتبه فضلا عن نفي الحكم الواقعي المحتمل ، لأنّ ما ذكرناه هو المحصّل منها. ولا فرق فيه بين هذه المسألة وغيرها من موارد جريان أصالة البراءة.

ولعلّ هذا أيضا مراد العلماء ، وإن نسب خلافه إلى ظاهرهم ، لأنّ ما يوهم خلاف ذلك أمران : أحدهما : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون ظاهرهم اعتبار البراءة من باب الظنّ. والآخر : ما نسبه المحقّق القمّي رحمه‌الله إلى المحقّق من التفصيل بين ما يعمّ

بالبراءة الأصليّة حتّى يثبت الناقل ، وظاهره أنّ اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصليّة.

والتحقيق أنّه لو فرض حصول الظنّ من الحالة السابقة فلا يعتبر ، والإجماع ليس على اعتبار هذا الظنّ ، وإنّما هو على العمل على طبق الحالة السابقة ، ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدّمة وحكم العقل.

الثالث : لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا ، كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها. وهل الأوامر الشرعيّة (١٢٥٢) للاستحباب ، فيثاب عليه وإن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعي أو غيري بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرّز عن

______________________________________________________

به البلوى وغيره. والأوّل يدفعه أنّ مقتضى اعتبارها من باب الظنّ وإن كان هو نفي الحكم الواقعي ، لكن ينافيه تمسّكهم كثيرا بقاعدة قبح التكليف بلا بيان ، لصراحتها في كون النفي هو الحكم الفعلي دون الواقعي. مع أنّهم كثيرا ما يتمسّكون بها مع حصول الظنّ بخلافها من الأمارات غير المعتبرة ، فلا بدّ أن يكون مرادهم بإفادتها الظنّ إفادتها له غالبا ، بأن تسامحوا في ذكر ذلك وجها لاعتبارها ، أو يكون ذلك منهم لأجل متابعة العامّة القائلين بحجيّة الظنون المطلقة ، لأنّهم حيث اعتبروا أصالة البراءة من باب الظنّ فسامح من الخاصّة من تبعهم في التمسّك لإثبات حجيّتها بذلك ، لا أنّ مستندهم في الحقيقة هو ذلك. وبالجملة إنّ إخراج كلماتهم من ظاهرها بما ذكرناه لما ذكرناه أولى ، بل هو المتعيّن. وأمّا الثاني فقد تقدّم الكلام فيه عند شرح ما يتعلّق بالتنبيه السابق.

١٢٥٢. أمّا العقل فللإرشاد يقينا ، كما سيصرّح به. ومرجع الأمر الإرشادي إلى بيان مصلحة المكلّف ، من دون ملاحظة كون الآمر عاليا تجب إطاعته عقلا أو شرعا أو عادة ، أو كونه مستعليا ، كأمر الطبيب الذي مرجعه إلى بيان مصلحة المكلّف في شرب الدواء. ولذا لا يترتّب على موافقة هذا الأمر ثواب ولا على مخالفته عقاب ، بخلاف سائر الأوامر ، لكون جهة المولويّة وصدورها من

الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها ، فيكون الأمر به إرشاديا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى الخاصيّة المترتّبة على الفعل أو الترك ، نظير أوامر الطبيب ونظير الأمر بالإشهاد عند المعاملة لئلّا يقع التنازع؟ وجهان من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ؛ فإنّ الظاهر كونها مؤكّدة لحكم العقل بالاحتياط.

______________________________________________________

هذه الجهة ملحوظة فيه.

وبالجملة ، إنّ الأمر الإرشادي هو طلب الفعل لا على الجهة المولويّة ، بل على جهة إراءة مصلحة المكلّف. وهو قد يكون إلزاميّا ، وقد يكون غير إلزامي ، كما يظهر بملاحظة أوامر الأطبّاء. فما قيل من خلوّ هذا الأمر من الطلب من رأس ضعيف جدّا. وتشمله مادّة الأمر وصيغه حقيقة إذا اريد به الإلزام ، بمعنى كونهما حقيقتين عند استعمالهما في الأمر الإرشادي الإلزامي ، لما قرّرناه في محلّه من كونهما حقيقتين في مطلق الإلزام. نعم ، حيث يطلقان ينصرفان إلى الأمر المولوي ، فلا بدّ في حملهما عليه من قرينة معيّنة ، كانصرافهما إلى الوجوب التعييني العيني النفسي عند الإطلاق ، مع كونهما حقيقتين في كلّ من التخييري والكفائي والغيري أيضا. ولذا جعله المصنف رحمه‌الله وجها في مقابل حمل الأمر بالاحتياط على الاستحباب ، مع كون الأمر في الثاني مجازا على الأقوى.

فإن قلت : إنّه لا وجه للتردّد بينهما ، لأنّه مع قيام القرينة على عدم إرادة أحد فردي الحقيقة لا بدّ من حمله على الفرد الآخر ، لوجوب المحافظة على الحقائق مع عدم القرينة الصارفة.

قلت : نعم ، ولكن لا ريب أنّ المدار في حمل الألفاظ على معانيها الحقيقيّة أو على المجازيّة مع القرينة على الظهور العرفي ، وشيوع استعمال اللفظ في المعنى المجازي ربّما يعارض ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي ، ومن هنا قد اختلفوا في المجاز المشهور على أقوال. واستعمال الأمر في الاستحباب من المجازات الراجحة ، بل قيل

.................................................................................................

______________________________________________________

بكونه من المجازات المشهورة ، مع أنّ المقصود في المقام حمل أوامر الاحتياط على الإرشاد المطلق الشامل للإلزامي منه وغيره ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله عند الجواب عن كلّ من أوامر التوقّف والاحتياط ، ولا ريب في كون الأمر مجازا فيه ، فحمله عليه حمل له على معنى مرجوح بمرتبتين. ولذا تردّد المصنّف رحمه‌الله في حمله عليه مع شهادة سياق جلّ الأخبار به.

وعلى كلّ تقدير ، ربّما يقال بكون جميع الأوامر العقليّة للإرشاد ، وإراءة مصلحة المكلّف في الفعل ، لما أدركه من الحسن فيه. بل ربّما يظهر من سلطان العلماء كون جميع الأوامر الشرعيّة للإرشاد إلى المصالح والمفاسد الكامنة التي هي منشأ الأحكام الشرعيّة. قال : أوامر الشارع على المكلّفين ليس على قياس أوامر الملوك والحكّام الذين غرضهم نفس حصول الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده ، حتّى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه سفها وعبثا ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض إنّ اللائق بحاله كذا إن فعل كذا كان أثره كذا ، وإن فعل بخلافه كان أثره بخلافه ، إلى آخر ما ذكره. ولازمه كون ثبوت العقاب على مخالفة أوامر الشارع من جهة الشرع لا من جهة كونه من لوازم المخالفة ، وهو ضعيف.

لا يقال : كيف تدّعي كون الأوامر العقليّة للإرشاد ، إذ لو كانت كذلك لزم عدم ترتّب عقاب على مخالفتها ، لأنّ حكم العقل وإن كشف عن حكم الشرع ، إلّا أنّ المنكشف تابع للكاشف ، فإذا كان الأوّل للإرشاد كان الثاني أيضا كذلك ، فلا يترتّب على موافقتها ولا على مخالفتها ثواب ولا عقاب.

لأنّا نقول : إنّا نمنع التبعيّة من جميع الجهات ، لأنّ الملازمة بينهما إنّما هي من جهة أنّ العقل إذا أدرك حسن فعل وحكم من جهته بلزوم الإتيان به ، فالشرع أيضا لا بدّ أن يحكم بلزوم الإتيان به ، لأنّ الله لا يأمر إلّا بالحسن ، كما في وصيّة عليّ عليه‌السلام لابنه الحسن عليه‌السلام. وأمّا كون حكم الشارع أيضا على وجه الإرشاد فلا دليل عليه.

والظاهر أنّ حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط ـ على تقدير (*) كونه إلزاميّا ـ لمحض الاطمئنان ودفع احتمال العقاب ، وكما أنّه إذا تيقّن بالضرر يكون إلزام العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقّن ، فكذلك طلبه الغير الإلزامي إذا احتمل الضرر.

بل وكما أنّ أمر الشارع بالإطاعة في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (٤٠) لمحض الإرشاد ؛ لئلّا يقع العبد في عقاب المعصية ويفوته ثواب الطاعة ولا يترتّب على مخالفته سوى ذلك فكذلك أمره بالأخذ بما يأمن معه من الضرر ، ولا يترتّب على موافقته سوى الأمان المذكور ، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي على تقدير تحقّقه.

ويشهد لما ذكرنا أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلكة الواقعيّة لئلّا يقع فيها من حيث لا يعلم. واقترانه (١٢٥٣) مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا ، ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات في هذه الأخبار ليس إلّا للإرشاد ، لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها سوى الخاصيّة الموجودة في المأمور به ـ وهو الاجتناب عن الحرام ـ أو فوتها ، فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتّب على موافقته سوى ما يترتّب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع ، بل فعله المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام.

______________________________________________________

١٢٥٣. معطوف على قوله : «ظاهر الأخبار». والضمير عائد إلى الاجتناب عن الشبهات. وحاصله : أنّ الاجتناب عن الشبهات في أخبار الاحتياط مقترن بالاجتناب عن المحرّمات المعلومة في كون كلّ منهما ورعا ، كما في رواية فضيل بن عياض المتقدّمة في كلام المصنّف رحمه‌الله. ولا ريب في كون الثاني للإرشاد ، فكذلك الأوّل بقرينة المقارنة.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : بدل «تقدير» ، عدم.

ولا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه (١٢٥٤) من حيث إنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، فيكون حينئذ حال الاحتياط والأمر به حال نفس الإطاعة الحقيقيّة والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لو لا الأمر.

هذا ، ولكنّ الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة مثل قوله عليه‌السلام : «من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات» ، وقوله : «من ترك الشبهات كان لما استبان له من الإثم أترك» ، وقوله : «من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» : هو كون الأمر به للاستحباب ، وحكمته أن لا يهون عليه (١٢٥٥) ارتكاب المحرّمات المعلومة ولازم ذلك استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الخاصيّة المترتّبة على نفسه.

______________________________________________________

١٢٥٤. أي : على نفس الاحتياط والاجتناب مع قطع النظر عمّا ورد في الأخبار من الأمر به. وسيجيء في حواشي التنبيه الآتي ما يشكل في ذلك وما يدفعه.

١٢٥٥. توضيحه : أنّ رجحان الاحتياط تارة يكون لأجل إحراز الواقع ومصلحته به ، فيكون حينئذ مقدّمة علميّة للمجهولات الواقعيّة ، ولا ريب في كون الأمر بمثله للإرشاد ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. واخرى يكون لأجل حصول التحرّز به عن المحرّمات المعلومة ، لأنّه مع ارتكاب الشبهات يكون المكلّف قريبا من المحرّمات المعلومة ومشرفا عليها ، ويهون عليه ارتكابها ، لضعف سلطان العقل حينئذ ، وقوّة جنود الجهل ، فربّما تغلب عليه فلا يتمالك من نفسه ، فيقع فيها مقهورا ومغلولا للنفس ، فتحصيل ترك الشبهات حينئذ حسن ذاتيّ ومطلوبيّة نفسيّة وإن لم يبلغ مرتبة اللزوم ، فيكون تركها مستحبّا ، ويستحقّ التارك الممتثل للأمر المتعلّق به للثواب والجزاء. ومن هنا قد حمل المصنّف رحمه‌الله الأخبار الظاهرة الانطباق للأوّل على الإرشاد ، والأخبار الظاهرة الانطباق للثاني على الاستحباب.

ثمّ لا فرق فيما ذكرناه من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة (١٢٥٦) حتّى مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بناء على أنّ دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة ، وظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا.

ولا يتوهم أنّه يلزم من ذلك (١٢٥٧) عدم حسن الاحتياط (١٢٥٨) فيما احتمل كونه من العبادات المستحبّة بل حسن الاحتياط بتركه ؛ إذ لا ينفكّ ذلك عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما ؛ لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحقّقه ، ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقّق موضوع التشريع ؛ ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ، كما في الصلاة إلى أربع جهات أو في الثوبين المشتبهين وغيرهما ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.

الرابع : نسب الوحيد البهبهاني قدس‌سره (١٢٥٩) إلى الأخباريّين مذاهب أربعة فيما لا نصّ فيه : التوقّف والاحتياط والحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة (٤١) ، فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد وكون اختلافهم في التعبير لأجل اختلاف (١٢٦٠) ما ركنوا إليه من أدلّة القول بوجوب اجتناب الشبهة. فبعضهم ركن إلى أخبار التوقّف ،

______________________________________________________

١٢٥٦. لأنّ محلّ الكلام في المقام ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب مطلقا ، سواء كان هذا الغير هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة أو اثنان منها أو ثلاثة ، فالأقسام سبعة. وما ذكره تمهيد لدفع توهّم عدم رجحان الاحتياط فيما دار الأمر بين الحرمة والاستحباب مثلا ، لدوران الأمر بين المحذورين ، لرجحان الترك حينئذ لاحتمال حرمة الفعل ، ورجحان الفعل لاحتمال استحبابه. ووجه الرفع واضح ممّا ذكره.

١٢٥٧. أي : من عدم الفرق بين أفراد المسألة في حسن الاحتياط بالترك.

١٢٥٨. بالإتيان بالفعل ، لاحتمال استحبابه.

١٢٥٩. سيجيء نقل كلامه عند شرح ما يتعلّق بأقوال المطلب الثاني ، فانتظره.

١٢٦٠. يحتمل أن يكون الاختلاف في التعبير لا من جهة اختلاف ما ركنوا إليه من الأدلّة ، بل من جهة مجرّد الاختلاف في تأدية المراد ، بأن كان التعبير

وآخر إلى أخبار الاحتياط ، وثالث إلى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنّب المحرّمات كحديث التثليث ، ورابع إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث إنّها مشتبهات ؛ فإنّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعي الحرمة.

والأظهر أنّ التوقّف (١٢٦١) أعمّ بحسب المورد من الاحتياط ؛ لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس ممّا يجب فيها الصلح أو القرعة ، فمن عبّر به أراد وجوب التوقّف في جميع الوقائع الخالية عن النصّ العامّ والخاصّ ، والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به أراد الأعمّ من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ، مثل وجوب السورة أو وجوب الجزاء المردّد بين نصف الصيد وكلّه.

وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة ، فيحتمل الفرق بينهما : بأنّ المعبّر بالاولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي ، فالحرمة ظاهريّة. والمعبّر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم ، وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعيّة. إذ بملاحظة أنّه إذا منع الشارع المكلّف ـ من

______________________________________________________

بالتوقّف باعتبار التوقّف عن الحكم الواقعي ، وبالاحتياط باعتبار كون ذلك مقتضى الأخذ بالأوثق في مقام العمل ، وهو الترك هنا ، وبالحرمة الظاهريّة باعتبار كون حكم الواقعة المجهولة الحكم بحسب الواقع هو ذلك ، وبالحرمة الواقعيّة باعتبار كون الواقعة المشتبهة الحكم موضوعا حكمها في الواقع هو ذلك.

ويحتمل رجوع الأقوال إلى ثلاثة ، بإرجاع القول بالتوقّف إلى الحرمة الواقعيّة أو الظاهريّة ، لأنّه مع التوقّف عن حكم الواقعة بحسب الواقع يمكن القول بالحرمة الواقعيّة لأجل حرمة التصرّف في مال الغير ، وبالحرمة الظاهريّة لأجل أخبار التثليث. ويحتمل رجوعها إلى قولين ، بإرجاع القول بالتوقّف والاحتياط إلى أحد القولين الآخرين.

١٢٦١. حاصل الفرق بين الأقوال : أنّ القول بالتوقّف أعمّ من القول بالاحتياط ، وهو أعمّ من القولين الأخيرين ، وهما يتفارقان بأحد الوجوه التي احتملها.

حيث إنّه جاهل بالحكم ـ من الفعل ، فلا يعقل إباحته له واقعا ؛ لأنّ معنى الإباحة الإذن والترخيص ، فتأمّل (١٢٦٢).

ويحتمل الفرق بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الإباحة ، إلّا أنّ أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا ، والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء من باب قبح التصرّف فيما يختصّ بالغير بغير إذنه ويحتمل الفرق بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع ، والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلا ، فإن كان في الواقع حراما استحقّ المؤاخذة عليه وإلّا فلا ، وليس معناها أنّ المشتبه حرام واقعا بل معناه أنّه ليس فيه إلّا الحرمة الواقعيّة على تقدير ثبوتها ، فإنّ هذا أحد الأقوال للأخباريّين في المسألة على ما ذكره العلّامة الوحيد المتقدّم في موضع آخر ، حيث قال ـ بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم : بأنّه لا يدلّ على الحظر أو وجوب التوقّف ، بل مقتضاه أنّ من ارتكب الشبهة واتّفق كونها حراما في الواقع يهلك لا مطلقا ـ : ويخطر بخاطري أنّ من الأخباريّين من يقول بهذا المعنى (٤٢) ، انتهى.

ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا من أنّ الأمر العقلي والنقلي بالاحتياط للإرشاد من قبيل أوامر الطبيب لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتّب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر. نعم ، الإرشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم ـ كما في بعض أوامر الطبيب ـ لا للأولويّة

______________________________________________________

١٢٦٢. وجه التأمّل واضح ، لأنّ منع الشارع المكلّف من الفعل من حيث كونه جاهلا بحكمه وإن كان منافيا لرخصته في الفعل من هذه الحيثيّة ، إلّا أنّ هذا بمجرّده لا يوجب تسمية مثل هذا حكما واقعيّا ، لأنّ الظاهر من الحكم الواقعي ما يعرض الفعل من حيث نفسه في الواقع ، لا من حيث كونه مجهول الحكم ، لأنّه مرحلة الظاهر ، ففرض مجهول الحكم موضوعا واقعيّا بمعنى كونه أمرا ثابتا في الواقع لا يوجب تسمية ما يعرضه حكما واقعيّا.

كما اختاره القائلون بالبراءة. وأمّا ما يترتّب على نفس الاحتياط فليس إلّا التخلّص عن الهلاك المحتمل في الفعل.

نعم ، فاعله يستحقّ المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه نوع من الانقياد ويستحقّ عليه المدح والثواب. وأمّا تركه فليس فيه إلّا التجرّي بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى ، ولا دليل على حرمة التجرّي على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه ، بل عرفت في مسألة حجّية العلم : المناقشة في حرمة التجرّي بما هو أعظم من ذلك ، كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب ، ولا يلزم من تسليم استحقاق (١٢٦٣) الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجرّي بالإقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا. وسيأتي تتمّة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

١٢٦٣. ربّما يمنع عدم الملازمة ، نظرا إلى أنّ استحقاق الثواب إن كان لأجل كون الترك لاحتمال الحرمة عنوانا حسنا ، فلا بدّ أن يكون الفعل مع احتمال الحرمة عنوانا قبيحا ، فاحتمالها إن كان محسّنا للترك فلا بدّ أن يكون مقبّحا للفعل أيضا. وكما أنّ المصنّف رحمه‌الله يقول بكون الذمّ في التجرّي على الصفة في الفاعل لا على الفعل ، فكذا لا بدّ أن يقول بكون المدح في المقام أيضا كذلك. لأنّ الإقدام على المخالفة كما يكشف عن خبث السريرة ، كذلك الإقدام على الطاعة يكشف عن حسنها.

ويدفعه : أنّ استحقاق الثواب على الترك إنّما يلازم استحقاق العقاب على الفعل على تقدير كون حسن الترك على حدّ الإلزام ، وهو خلاف الفرض. مع إمكان أن يقال : إنّ الترك مقدّمة علميّة للاحتراز عن الحرام الواقعي ، ولا ريب في حسن الاحتراز عنه ، فتحسن مقدّمته أيضا ، بخلاف الفعل ، لأنّ غايته أن يكون مقدّمة علميّة لفعل الحرام الواقعي ، ومقدّمات الحرام إنّما تتّصف بالحرمة إذا كان الإتيان بها بقصد التوصّل بها إليه ، كما قرّر في مبحث المقدّمة. ونقول فيما نحن فيه

الخامس : أنّ أصالة الإباحة في مشتبه الحكم (١٢٦٤) إنّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها ، فلو شكّ في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى

______________________________________________________

أيضا : إنّ الإتيان بمحتمل الحرمة إنّما يكون مرجوحا إذا كان الإتيان به بقصد التوصّل به إلى الحرام الواقعي لا مطلقا. ومن هنا قد صرّح المصنّف في مسألة الشبهة المحصورة بكون الإتيان بأطراف الشبهة بقصد التوصّل بها إلى الحرام الواقعي خارجا من محلّ النزاع ، وحراما حتّى عند من لم يوجب الاحتياط فيها.

١٢٦٤. توضيح المقام على وجه تنكشف عنه غواشي الأوهام : أنّ جريان أصل البراءة التي تنشعب منها أصالة الإباحة في مشتبه الحكم أو الموضوع ـ سواء كانت الشبهة على التقديرين تحريميّة أم وجوبيّة ـ مشروط بعدم وجود أصل موضوعي في مورده حاكم عليه ، كما في الفروج والأموال واللحوم ونحوها ، لكون حلّية الفروج مشروطة بالسبب المحلّل لها ، وحلّية الأموال بالملكيّة أو إذن المالك ، واللحوم بقابليّة المحلّ للتذكية ، فإذا شكّ في تحقّق شيء من هذه الشروط في مورد فالأصل يقتضي عدمه.

فنقول : إذا وجد حيوان وعلمت قابليّته للتذكية فأصالة الإباحة تقتضي حلّيته. وإذا شكّ في قابليّته لها فأصالة الإباحة لا تقتضي كونه قابلا لذلك ، لفرض كون حلّية لحمه بمقتضى قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) مشروطة بقابليّته للتذكية ، فلا بدّ في الحكم بها من إحراز شرطها ، والأصل يقتضي عدمه ، فيحكم بحرمته حينئذ لا محالة.

نعم ، هذا إنّما هو فيما لم يكن هنا أصل لفظي يقتضي الحلّية ، مثل قوله عليه‌السلام : «الحرام ما حرّم الله في كتابه» أو كان وكان مجملا ، وإلّا فمقتضى الأصل الثانوي كون كلّ حيوان قابلا للتذكية ، بل لا بدّ أن يفرض الكلام أيضا على تقدير عدم كون التذكية أمرا عرفيّا ، كما حكي عن القاضي ، حيث ادّعى كفاية الذبح العرفي في الحلّية ، مدّعيا عدم ثبوت حقيقة شرعيّة في لفظها ، كما ادّعى عدم ثبوتها في

.................................................................................................

______________________________________________________

ألفاظ العبادات ، وإلّا فأصالة الإباحة بعد إبانة الرأس بحيث يصدق عليه كونه مذبوحا تقتضي جواز الأكل منه.

وقال الشهيد والمحقّق الثانيان ـ وقيل : لم يسبقهما ولم يلحقهما أحد في ذلك ـ في مقام عدّ أقسام النجاسات : «الكلب والخنزير البرّيان ، وأجزائهما وإن لم تحلّها الحياة ، وما تولّد منهما وإن باينهما في الاسم. وأمّا المتولّد من أحدهما وطاهر ، فإنّه يتبع في الحكم الاسم ولو لغيرهما ، فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته ، وإن حرم لحمه ، للأصل فيهما» انتهى كلام الشهيد.

وأقول : كلامهما مشتبه المقصود ، فيحتمل أن يكون لخصوص المتولّد منهما مدخليّة في الحكم. ويحتمل أن يكون ذكر المتولّد من نجس العين وطاهرها من باب المثال ، فيعمّ الحكم كلّ حيوان مشتبه الحلّية والطهارة. وعلى التقديرين يمكن أن يحتجّ لهما بوجوه :

أمّا على الأوّل ، فأوّلا : بفحوى ما ورد في أخبار كثيرة من حرمة أكل لحم حمل قد رضع من خنزيرة حتّى زادت قوّته ، واشتدّ عظمه ، ونبت لحمه بسببه. والمرويّ عن الصادق عليه‌السلام حرمة نسله أيضا. وفي مرفوعة عبد الله بن سنان : «لا تأكل من لحم حمل رضع من لبن خنزيرة». فإذا كان الرضاع مؤثّرا في حرمة المرتضع فالنطفة أولى بذلك. ويتعدّى من المتولّد من خنزير وغنم إلى كلّ متولّد من نجس العين وطاهرها ، أو من نجس العينين ، فتكون الحرمة أصلا في المتولّد من نجس العين. هذا بالنسبة إلى الحلّية والحرمة. وأمّا بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ، فتدلّ على الطهارة فيما نحن فيه الأصل المأخوذ من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر».

وثانيا : بالإجماع ، لأنّ ظاهر كاشف الغطاء وجود مدّع له ، لأنّه قال في حكم المسألة بعد بيان حكم الطهارة والنجاسة : «وأمّا حكم الإباحة والتحريم ، فإن ثبت إجماع على حرمة كلّ متفرع عن الحرام تبع الفرع أصله ، وإلّا فحكمه

.................................................................................................

______________________________________________________

كالسابق» انتهى. ولعلّهما قد استندا إلى هذا الإجماع ، لأنّ المستفاد منه قاعدة كلّية ، وهي تبعيّة الفرع للأصل في الحرمة.

وثالثا : بكون الشبهة في المتولّد من نجس العين وطاهرها موضوعيّة ، بناء على لحوقه بأحدهما في الواقع ، وعدم كونه طبيعة ثالثة ، نظير الخنثى ، بناء على كون توريثها نصف نصيب الذكر والأنثى خارجا بالدليل لا لأجل كونها طبيعة ثالثة ، لأنّ أصالة عدم تحقّق التذكية الشرعيّة في الخارج بفري الأوداج الأربعة تقتضي حرمته لا محالة.

لكن يرد على هذا الوجه : منع عدم كونه طبيعة ثالثة ، لعدم الدليل عليه بعد فرض عدم تحقّق التبعيّة في الاسم. مع أنّ أصالة عدم تحقّق التذكية كما تقتضي التحريم كذلك النجاسة ، قضيّة للتلازم بينهما ، وإن قلنا بجريان كلّ من أصالة عدم التذكية وعدم النجاسة فيما اختلف فيه موضوعهما ، كالصيد المرميّ الذي وجد ميّتا في الماء ، ولم يعلم استناد موته إلى الرمي أو إلى الغرق في الماء ، لأنّ الحكم بحرمة الصيد لأصالة عدم حصول التذكية ، وطهارة الماء للاستصحاب ، لا يقتضي الحكم بالتحريم والطهارة فيما نحن فيه أيضا ، لما عرفت من تغاير موضوعهما هنا ، بخلاف ما نحن فيه.

وأمّا على الاحتمال الثاني ـ كما فهمه جماعة من كلامهما ـ فيمكن الاحتجاج لما ذكراه أيضا بوجوه :

أحدها : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من استصحاب الطهارة وعدم التذكية المقتضي للتحريم.

ويرد عليه ـ مضافا إلى أنّ أصالة عدم التذكية كما تقتضي التحريم كذلك تقتضي النجاسة ، للملازمة بينهما ، لكون الطهارة مرتّبة شرعا على عنوان المذكّى ـ ما أشار إليه بقوله : «فإنّما يحسن مع الشكّ». وحاصله : حكومة قاعدة الإباحة المستفادة من الكتاب والسنّة المسلّمة عندهم على أصالة عدم التذكية. وقد قال

.................................................................................................

______________________________________________________

الله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.) وقال عليه‌السلام : «الحرام ما حرّم الله في كتابه» لاقتضاء هذه القاعدة أصالة قابليّة المحلّ للتذكية في محلّ الشكّ لا محالة.

فإن قلت : إنّ القاعدة مسلّمة فيما شكّ في الحلّية والحرمة بعد العلم بقابليّة المحلّ للتذكية ، لأنّ الحيوانات على أقسام ، منها ما هو قابل لها ومحلّل كالأنعام الثلاثة ، ومنها ما هو قابل لها ومحرّم كالسباع ، ومنها ما هو غير قابل لها ومحرّم الأكل كالكلب والخنزير. ومورد القاعدة ما كان قابلا لها وشكّ في حلّيته ، فهي لا تنافي أصالة عدم التذكية فيما نحن فيه أو غيره ممّا شكّ في قابليّته للتذكية.

قلت : هذا الوجه وإن كان جامعا بين الأصلين إلّا أنّ إطلاق الأدلّة ممّا تقدّم وغيره يدفعه. فأصالة الحلّية كما تثبت الحلّية فيما علمت قابليّته وشكّ في حلّيته ، كذلك أصالة الحلّية فيما شكّ في أصل القابليّة ، لملازمتها لها بحسب الشرع ، لأنّ العمومات من الأدلّة الاجتهاديّة ، فهي تثبت اللوازم مطلقا. ولا فرق فيه بين أن نقول بكون التذكية أمرا شرعيّا أو عرفيّا ، بخلاف ما لو قلنا بالإباحة لأجل أصالة الإباحة ، لأنّها إنّما تجدي في المقام لو قلنا بكون التذكية أمرا عرفيّا ، لثبوت الإباحة حينئذ بالأصل ، والتذكية التي هي عبارة عن الذبح عرفا بالوجدان. وأمّا لو قلنا بكونها أمرا شرعيّا ، فهي إنّما تثبت القابليّة على القول بالاصول المثبتة ، كما هو واضح.

وثانيها : ـ مع تسليم قابليّته للتذكية الثابتة بالعمومات ـ ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضا من استصحاب الطهارة والحرمة الثابتتين قبل الذبح ، لوضوح عدم منافاة قابليّته للتذكية للحرمة كالسباع وقد ذكر هذا الوجه بعض محشّي الروضة.

ويرد عليه أوّلا : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من أنّ الطهارة والحرمة قبل التذكية قائمتان بالميتة ، يعني : بغير المذكّى ، لأنّها عبارة عن غير المذكّى ، وبعدها بالمذكّى ، فانسحابهما إلى ما بعدها انسحاب لحكم موضوع إلى موضوع آخر. و

أصالة الحلّ ، وإن شكّ فيه من جهة الشكّ في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة ؛ لأصالة عدم التذكية ؛ لأنّ من شرائطها قابليّة المحلّ وهي مشكوكة ، فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة.

______________________________________________________

بعبارة اخرى : أنّ موضوع المستصحب في الحالة السابقة هي الميتة ، وفي زمان إثبات الحكم هو المذكّى ، والعلم ببقاء الموضوع شرط في جريان الاستصحاب ، فهو لا يجري مع الشكّ فيه فضلا عن العلم بتغيّره.

وثانيا : أنّه مع استصحاب الطهارة لا بدّ من الحكم بالحلّية أيضا ، لأنّها لا تثبت إلّا بعد قابليّة المحل للتذكية ، وحينئذ لا بدّ من الحكم بحلّيته أيضا ، لعموم ما دلّ على حلّية المذكّى إلّا ما أخرجه الدليل كالسباع ، لأنّها مع حرمتها قابلة للتذكية.

وثالثها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن شارح الروضة ـ يعني : الفاضل الهندي في المناهج السوية ـ من كون النجاسات معنونة ومحصورة في الشرع في عشرة أصناف أو أزيد ، وكذا المحلّل من الحيوانات مثل الأنعام الثلاثة وغيرها ، ولا ريب أنّ مقتضى الحصر كون ما يخالفه على مقتضى الأصل ، فيكون مشكوك الطهارة والحلّية محكوما عليه بهما.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره من الحصر متّجه بالنسبة إلى النجاسات ، وأمّا بالنسبة إلى المحلّل من الحيوانات فيمكن منع الحصر ، لأنّ غاية الأمر أنّ بعض الحيوانات لمّا كان محلّ ابتلاء للناس سألوا الأئمّة عليهم‌السلام عنها ، فأجابوهم بالحلّية في بعض والحرمة في بعض آخر. وأمّا دعوى الحصر فلا شاهد لها ، بل تمكن دعوى الحصر في المحرّم منها ، لأنّ المحرّم من غير أصناف الطيور ثلاثة أصناف : الحشرات والمسوخ والخبائث ، ومن الطيور أربعة أصناف : ما كان صفيفه أكثر من دفيفه ، وما لا قانصة له ، وما لا حوصلة له ، وما لا صيصية له. فمقتضى الحصر هو الحكم بحلّية المشكوك فيه. وأمّا تعليق الحلّية في الآية الشريفة بالطيّبات فيظهر تقرير السؤال والجواب عنه ممّا ذكره المصنّف قدس‌سره.

ويظهر من المحقّق والشهيد الثانيين (٤٣) قدس‌سرهما فيما إذا شكّ في حيوان متولّد من طاهر ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل : أنّ الأصل فيه الطهارة والحرمة. فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية ، فإنّما يحسن مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كلّ حيوان إلّا ما خرج ، كما ادّعاه بعض (٤٤).

وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل لحمه قبل التذكية ، ففيه أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فإذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة ، فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر. ولو شكّ في قبول التذكية رجع إلى الوجه السابق ، وكيف كان فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحلّ والإباحة.

نعم ، ذكر شارح الروضة هنا وجها آخر ونقله بعض محشّيها عن الشهيد في تمهيد القواعد. قال شارح الروضة : إنّ كلّا من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه ، وهو ظاهر ، انتهى. ويمكن منع حصر المحلّلات بل المحرّمات محصورة ، والعقل والنقل دلّ على إباحة ما لم يعلم حرمته ؛ ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة.

ولو قيل إنّ الحلّ إنّما علّق بالطيّبات في قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (٤٥) (١٢٦٥) المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ، فكلّ ما شكّ في كونه طيّبا فالأصل عدم إحلال الشارع له.

قلنا إنّ التحريم محمول في القرآن على «الخبائث» و «الفواحش» ، فإذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ، ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة وعموم قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) (٤٦) وقوله عليه‌السلام : «ليس الحرام إلّا ما حرّم

______________________________________________________

١٢٦٥. تتمّة الآية : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (*) الآية.

__________________

(*) هذا غفلة من المحشّي قدس‌سره ، والعصمة لله وحده ، فالآية المذكورة في المتن هي الآية الرابعة من سورة المائدة ، وتتمّتها : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ...). والآية التي أشار إليها المحشّي هي الآية (١٥٧) من سورة الأعراف ، وهي : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ.) لا : حرّم لكم الخبائث.

الله» ، مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا بل الطيّب ما لا يستقذر (١٢٦٦) ، فهو أمر عدميّ يمكن إحرازه بالأصل عند الشكّ ، فتدبّر.

السادس : حكي عن بعض الأخباريّين (١٢٦٧) كلام لا يخلو إيراده عن فائدة وهو أنّه هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد الله تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعيّة؟ فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم وأقتفي أثره وما يثبت من

______________________________________________________

١٢٦٦. يعني : أنّ الحكم بتعارض الأصلين إنّما يتمّ فيما لو كان عنوان كلّ من الطيّب والخبيث أمرا وجوديّا ، وليس كذلك ، إذ الظاهر أنّ الطيب عبارة عن عدم الخباثة ، كما يشهد به معناها اللغوي ، وهو عدم الاستقذار ، فتعليق الحلّ عليه إنّما هو من هذه الجهة لا من جهة كونها أمرا وجوديّا حتّى يكون عدمها موردا للأصل. وبالجملة إنّ موضوع الحرمة والحلّ هي الخباثة وعدمها ، فمع الشكّ في اتّصاف شيء بأحدهما يمكن إثبات عدمها بالأصل ، فيثبت به إباحته من دون معارضة شيء.

ولكنّك خبير بأنّه إن اريد باستصحاب عدم الخباثة استصحاب عدم خباثة الحيوان المشكوك الحلّ ، ففيه : أنّه لم يثبت عدم خباثته في زمان حتّى يستصحب. وإن اريد به استصحاب عدم الخباثة المطلقة المستلزم لعدم خباثة هذا الحيوان أيضا ، فهو إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة ، لأنّ استصحاب الكلّي وتطبيقه على بعض أفراده الخارجة لا يتمّ إلّا بذلك. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ إذا قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وأمّا الاصول العدميّة فهي ثابتة ببناء العقلاء ، فتأمّل.

١٢٦٧. قيل : هو السيّد نعمة الله الجزائري. وقد اشتبه عليه محل النزاع في مسألة البراءة والاحتياط ، لأنّ ما طعن به على السلف من علمائنا الاصوليّين إنّما يناسب المقام لو كانوا قائلين بحرمة الاحتياط عند الشبهة ، ولا يلتزم به ذو مسكة ، إذ لا ريب في رجحانه وكونه سبيل النجاة. فخلافهم إنّما هو في جواز

العلوم ، فإن اشتبه عليّ شيء عملت بالاحتياط ، أفيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط ويقابل بالإهانة والإحباط ، فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الأبرار؟ هيهات هيهات! أن يكون أهل التسامح والتساهل في الدين في الجنّة خالدين وأهل الاحتياط في النار معذّبين (٤٧) ، انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى على العوامّ فضلا عن غيرهم أنّ أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنّه سبيل النجاة. وأمّا الإفتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط لاحتمال حرمته ، فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين الوجوب والحرمة ، وإلّا فالاحتياط في ترك الفتوى ، وحينئذ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ، فإن التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ، وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه ، كمن احتمل أنّ فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

وعلى كلّ تقدير فلا ينفع قول الأخباريّين له : إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا قول الاصولي له : إنّ العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه. وبالجملة فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ، والافتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين ، ولا متيقّن من الأمرين في البين ، ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه ، كما لا يخفى ، فما ذكره هذا الأخباري من الإنكار لم يعلم توجّهه إلى أحد ، والله العالم وهو الحاكم.

المسألة الثانية : ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النصّ : إمّا بأن يكون اللفظ (١٢٦٨) الدالّ على الحكم مجملا ، كالنهي

______________________________________________________

الإفتاء بوجوب الاحتياط وحرمة العمل بالبراءة وفي عدم جوازه ، وكون مقتضى الأصل هو جواز العمل بالبراءة. وشيء منهما كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ـ ليس بمتيقّن حتّى يؤخذ به ويطعن على من أخذ بخلافه.

١٢٦٨. حاصله : أنّ إجمال النصّ تارة يكون من جهة إجمال ما دلّ على

المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكه لفظا بين الحرمة والكراهة ، وإمّا بأن يكون الدالّ على متعلّق الحكم كذلك ، سواء كان الإجمال في وضعه كالغناء إذا قلنا بإجماله ، فيكون المشكوك في كونه غناء محتمل الحرمة أم كان الإجمال في المراد منه ، كما إذا شكّ في شمول الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به. والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الاولى ، والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية هنا.

وربّما يتوهّم أنّ الإجمال إذا كان في متعلّق الحكم ـ كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر ـ كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم ، وهو فاسد.

المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما والأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط ؛ لعدم الدليل عليه عدا ما تقدّم من الوجوه المذكورة التي عرفت حالها وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصّين مثل ما في عوالي اللآلي من مرفوعة

______________________________________________________

الحكم التكليفي ، واخرى من جهة الإجمال في متعلّقاته. وعلى الثاني : تارة يكون الإجمال ناشئا من الجهل بالوضع ، واخرى من الشكّ في شمول إطلاق اللفظ لبعض أفراده الخفيّة بعد العلم بالوضع ، كالشكّ في دخول قطرة من الخمر في المراد بقولنا : الخمر حرام. وهذه الأقسام كلّها من قبيل الشبهة الحكميّة ، فهي داخلة في محلّ النزاع ، لأنّ المراد بها ما كانت الشبهة فيه ناشئة من فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه ، ولا ريب في تحقّق الإجمال في جميع الأقسام المذكورة. فما توهّمه بعضهم من خروج ما كانت الشبهة فيه ناشئة من الإجمال في متعلّق التكليف بقسميه من محلّ النزاع ، بزعم كون ذلك من قبيل الشبهة الموضوعيّة التي اتّفق الاصوليّون والأخباريّون على البراءة فيها ، ضعيف جدّا ، لأنّ المراد بالشبهة الموضوعيّة ما كانت الشبهة فيه في مصاديق مفاهيم ألفاظ الخطاب بعد العلم بوضعها والمراد منها ، ومنشأ الشبهة فيها اختلاط الامور الخارجة ، ومزيلها الأمارات المعتبرة في تشخيص الموضوعات الخارجة دون الأدلّة. وقد أوضحنا جميع ذلك في مقصد حجّية القطع ، فراجع ولا تغفل.

العلّامة رحمه‌الله (١٢٦٩) إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر. فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم. فقال عليه‌السلام : خذ بما يقوله أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي. فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ؛ فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف نصنع؟ قال : فخذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط. فقلت : إنّهما معا موافقان (١٢٧٠) للاحتياط أو مخالفان (١٢٧١) ، فكيف أصنع؟ قال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر ...» (٤٨).

وهذه الرواية وإن كانت أخصّ من أخبار التخيير (١٢٧٢) إلّا أنّها ضعيفة

______________________________________________________

١٢٦٩. قال الشهيد الثاني في شرح الدراية المرفوع هو ما أضيف إلى المعصوم من قول ، بأن يقول في الرواية : إنّه قال كذا ، أو فعل بأن يقول : فعل كذا أو تقرير بأن يقول فلان فعل بحضرته كذا ولم ينكره عليه ، فإنّه يكون قد أقرّه عليه. وأولى منه ما لو صرّح بالتقرير ، سواء كان إسناده متّصلا بالمعصوم بالمعنى السابق أو منقطعا ، بترك بعض الرواة ، أو إبهامه ، أو رواية بعض رجال سنده عمّن لم يلقه» انتهى. والظاهر أنّ المراد بالرفع هنا غير معناه المصطلح عليه ، كما هو واضح.

١٢٧٠. كما إذا أخبر أحدهما عن وجوب الظهر ، والآخر عن وجوب الجمعة.

١٢٧١. كما إذا أخبر أحدهما عن استحباب فعل ، والآخر عن إباحته ، مع احتمال الوجوب في المسألة.

١٢٧٢. لاختصاص الحكم بالتخيير في المرفوعة ـ مع اعتبار فقد المرجّحات ـ بصورة موافقة الخبرين للاحتياط أو مخالفتهما له ، بخلاف أخبار التخيير ، لكونها أعمّ من هذه الجهة.

السند ، وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب العوالي وصاحبه ، فقال : إنّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب العوالي ، مع ما هي عليها من الإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (٤٩) ، انتهى.

ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه أو كون الحكم الوقف أو التساقط (١٢٧٣) والرجوع إلى الأصل أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر أو دائما ، وجوه ليس هنا محلّ ذكرها ؛ فإنّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ، والله العالم.

بقي هنا شيء (١٢٧٤) وهو أنّ الاصوليّين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف (٥٠) ، ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل إلى أكثر الاصوليّين بل إلى جمهورهم منهم العلّامة قدس‌سره (٥١).

______________________________________________________

١٢٧٣. المراد بالتوقّف هو التوقّف عن الحكم بأحدهما تعيّنا في الواقع أو الظاهر ، وكذا تخييرا ، بأن لا يحكم في مورد الشبهة بحكم واقعي ولا ظاهري ، وإن لم يكن عليه حرج في ارتكاب طرفي الشبهة في مقام العمل ، كما سيجيء في المسألة الاولى من المطلب الثالث. والمراد بالتساقط فرض المورد بلا نصّ ، فكما يجوز العمل بالأصل مع عدمه فكذا مع تعارضه ، وإن كان مقتضاه مخالفا لمقتضاهما.

١٢٧٤. لا يخفى أنّه ـ مع تنافي الخلاف في المسألة الاولى للوفاق على تقديم الحاظر في المسألة الثانية ـ هنا إشكال آخر ، وهو إغناء عنوان المسألة الاولى عن الثانية. مع أنّ تقديم الجمهور للناقل ، والجميع للحاظر في المسألتين ، ينافي ما هو المشهور ـ بل نسبه المصنّف رحمه‌الله في موضع من باب التعادل والترجيح إلى ظاهر الفقهاء ، وفي موضع آخر إلى ما عثر عليه من كتب الاستدلال الفرعيّة ـ من الترجيح بموافقة الأصل ، لأنّ مقتضاه تقديم المقرّر والمبيح على الناقل والحاظر. و

وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدالّ على الإباحة على (*) الدالّ على الحظر والخلاف فيه (٥٢) ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك. والخلاف في المسألة الاولى ينافي الوفاق (١٢٧٥) في الثانية.

كما أنّ قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير (١٢٧٦) أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين حتّى العلّامة ، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير.

ويمكن أن يقال (١٢٧٧) : إنّ مرادهم من الأصل في مسألة الناقل والمقرّر أصالة البراءة من الوجوب لا أصالة الإباحة ، فيفارق مسألة تعارض المبيح والحاظر

______________________________________________________

الجواب عن الأوّل يظهر ممّا أجاب به المصنّف رحمه‌الله عن الإشكال الذي أورده إن تمّ.

١٢٧٥. على تقديم الحاظر الذي هو المخالف للأصل.

١٢٧٦. هذا هو المشهور ، بل عزاه المصنّف رحمه‌الله في باب التعادل والترجيح إلى جمهور المجتهدين.

١٢٧٧. بهذا الجواب أيضا أجاب عن الإشكال في مبحث التعادل والترجيح ، وزاد المنع من تحقّق الاتّفاق في المسألة الثانية.

وحاصل الجواب المذكور : تخصيص موضوع المسألة الاولى بصورة دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، كما أنّ موضوع الثانية هي صورة دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، فلا تنافي.

واعترضه هناك بإطلاق كلمات العلماء في المسألة الاولى ، فلا شاهد للتخصيص. مع أنّه يأباه أيضا إطلاق دليلهم على تقديم الناقل على المقرّر ، وهو أنّ الغالب فيما صدر عن الشارع هو الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغنى عنه بحكم

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الخبر.

و (*) إن حكم أصحابنا (١٢٧٨) بالتخيير أو الاحتياط لأجل الأخبار الواردة ، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما ، فيفارق المسألتين. لكن هذا الوجه (١٢٧٩) قد يأباه مقتضى أدلّتهم ، فلاحظ وتأمّل.

______________________________________________________

العقل ، إذ لا ريب أنّ مقتضاه أعمّ من المسألتين.

١٢٧٨. ظاهره بقاء إشكال رجوعهم إلى أصالة البراءة. والوجه فيه واضح ، لعدم ورود خبر في الرجوع إلى مقتضاها عند تعارض الخبرين.

١٢٧٩. لأنّ من جملة أدلّتهم على تقديم الحاظر على المبيح هو كون الحاظر متيقّنا في العمل ، استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وقوله عليه‌السلام : «ما اجتمع حلال وحرام إلّا غلب الله الحرام على الحلال». كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في آخر مبحث التعادل والترجيح. وهو صريح في عدم كون تقديم الحاظر بملاحظة نفس مدلول الخبرين ، بل بمئونة أدلّة الاحتياط.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

المصادر

(١) آل عمران (٣) : ١٠٢.

(٢) الحج (٢٢) : ٧٨

(٣) التغابن (٦٤) : ١٦.

(٤) البقرة (٢) : ١٩٥.

(٥) النساء (٤) : ٥٩

(٦) الذكرى ج ٢ : ص ٤٤٤.

(٧) الوسائل ج ١٨ : ص ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ١.

(٨) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٦ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٣٥.

(٩) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢.

(١٠) الوسائل ج ٣ : ص ١٢٣ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت ، الحديث ١١.

(١١) الوسائل ج ١٨ ، ص ١١٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٠.

(١٢) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ١٤.

(١٣) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٣٢.

(١٤) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى الحديث ٤٣.

(١٥) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٧.

(١٦) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢١.

(١٧) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٧ ، الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٠.

(١٨) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٢.

(١٩) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى الحديث ٤٠.

(٢٠) الوسائل ج ١٤ : ص ١٩٣ الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث ٢.

(٢١) الفصول الغرويّة : ص ٣٥٦.

(٢٢) ضوابط الاصول : ص ٣٢٣.

(٢٣) القوانين ج ٢ : ص ٢١.

(٢٤) القوانين ج ٢ : ص ٢٢.

(٢٥) مناهج الاصول : ص ٢١٤.

(٢٦) الوسائل ج ١٨ : ص ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ١.

(٢٧) الوسائل ج ٣ : ص ١٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، الحديث ١٤.

(٢٨) الأمالى : ج ١ ، ص ١١٠ ، الحديث ١٦٨.

(٢٩) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٥٤.

(٣٠) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٤ و ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٤٧ و ٥٦.

(٣١) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٥٨.

(٣٢) معارج الاصول : ص ٢١٦.

(٣٣) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٤٧.

(٣٤) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٥.

(٣٥) الحشر (٥٩) : ٧.

(٣٦) عدّة الاصول : ج ٢ : ص ٧٤٢.

(٣٧) المعتبر ج ١ : ص ٣٢.

(٣٨) معارج الاصول : ص ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٣٩) الفوائد المدنيّة : ص ١٤٠ ـ ١٤١.

(٤٠) الأنفال (٨) : ٢٠.

(٤١) الفوائد الحائريّة : ص ٢٤٠.

(٤٢) الفوائد الحائريّة : ص ٢٤٢.

(٤٣) الروضة البهيّة ج ١ : ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٤٤) مفاتيح الشرائع ج ١ : ص ٦٩.

(٤٥) المائدة (٥) : ٤.

(٤٦) الأنعام (٦) : ١٤٥.

(٤٧) الرسائل الاصوليّة : ص ٣٧٧.

(٤٨) عوالى اللآلى ج ٤ : ص ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩.

(٤٩) الحدائق الناضرة : ج ١ : ص ٩٩.

(٥٠) المعالم : ص ٢٥٣.

(٥١) تهذيب الوصول : ص ٩٩.

(٥٢) مفاتيح الاصول : ص ٧٠٨.

المسألة الرابعة : دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب مع كون الشكّ في الواقعة الجزئيّة لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجيّة ، كما إذا شكّ في حرمة شرب مائع وإباحته للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ، وفي حرمة لحم للتردّد بين كونه من الشاة أو من الأرنب. والظاهر عدم الخلاف في أنّ مقتضى الأصل فيه الإباحة ؛ للأخبار الكثيرة في ذلك ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» و «كلّ شىء فيه حلال وحرام فهو لك حلال».

واستدلّ العلّامة رحمه‌الله في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة (١٢٨٠): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة ، أو العبد يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» (١). وتبعه عليه جماعة من المتأخّرين (٢).

______________________________________________________

١٢٨٠. النسخ فيها مختلفة ففي بعضها كما في المتن ، وفي بعض آخر «هو لك» بزيادة ضمير الفصل. ومبنى الاستدلال على النسختين على أخذ قوله «لك» خبرا عن قوله «حلال» وهو غير متعيّن. أمّا على نسخة «هو لك» فلاحتمال أن يكون قوله «هو لك» صفة للشيء. ولعلّ هذا هو الظاهر من العبارة. والمعنى حينئذ : إنّ كلّ شيء هو لك ، ولك استيلاء عليه ، هو محكوم بالحلّ لك ما

.................................................................................................

______________________________________________________

لم ينكشف خلافه أو لم تقم البيّنة فتكون الرواية واردة لبيان قاعدة اليد وتؤيّده الأمثلة المذكورة فيها ، لعدم كون الحلّ في شيء منها مستندا إلى أصالة الحلّ ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. فالسّبب المحلّل فيها هو استيلاء اليد لا أصالة البراءة ، ولذا يحكم بإباحة التصرّف لمالك الدار فيما وجده فيها ولم يعلم بكونه من أمواله أو غيرها.

نعم ، في الفروج أصل آخر مستفاد من قوله سبحانه بعد عدّ أصناف النساء المحرّمة : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لأنّ مقتضى حصر المحرّمات وتحليل ما سواها يفيد أصالة الحلّ في الفروج ، فيجوز نكاح كلّ النساء إلّا من علم دخولها في المحرّمات. فلا يرد حينئذ أنّ النساء على صنفين : محلّلة ومحرّمة ، فلا يمكن تعيين إحداهما بالأصل.

وأمّا على ما في المتن من دون زيادة ضمير الفصل فكذلك أيضا ، لاحتمال كون قوله «لك» ظرفا مستقرّا صفة للشيء. ويؤيّده الأمثلة المذكورة أيضا ، بتقريب ما عرفت. وإن قيل : إنّ المراد بالرواية بيان قاعدة اليد والبراءة وإن كانت الأمثلة من قبيل الاولى. قلنا : يلزم منه استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ الحكم بالإباحة في مورد أصالة البراءة لأجل كون الواقعة مجهولة الحكم بحسب الواقع ، وفي مورد قاعدة اليد لأجل استيلاء اليد مع قطع النظر عن كونها مجهولة الحكم وعدمه.

ومن هنا يظهر وجه النظر في قوله : «مع أنّ صدرها وذيلها ظاهران في المدّعى» لأنّه إن أراد ظهورهما في بيان خصوص أصالة الإباحة فالأمثلة تأباه. وإن أراد ظهورهما في الأعمّ منها ومن قاعدة اليد ، فقد عرفت استلزامه استعمال اللفظ في معنيين. ويدفع ما ذكرناه أيضا عدم استناد الحلّ في مثال المرأة إلى قاعدة اليد ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله.

وأمّا دعوى أنّ المراد بالرواية بيان حلّية ما قامت على حلّيته أمارة كاليد في مثال الثوب والعبد ، أو أصل كأصالة عدم تحقّق الرضاع والنسب كما في مثال

ولا إشكال في ظهور صدرها في المدّعى ، إلّا أنّ الأمثلة المذكورة فيها ليس الحلّ فيها مستندا إلى أصالة الحلّية ؛ فإنّ الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حكم بحلّ التصرّف فيهما لأجل اليد ، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرّف ؛ لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرّيّة في الانسان المشكوك في رقّيته ، وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقّق النسب (١٢٨١) أو الرضاع فالحلّية مستندة إليه ، وإن قطع النظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد فيها ؛ فيحرم وطؤها. وبالجملة : فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأوّلي محكومة بالحرمة ، والحكم بحلّيتها إنّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانوي ، فالحلّ غير مستند إلى أصالة الإباحة في شيء منها. هذا ، ولكن في (*) الأخبار المتقدّمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية ، مع أنّ صدرها وذيلها ظاهران في المدّعى.

وتوهّم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ، نظرا إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلا ، فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدّمة العلميّة ؛ فالعقل لا يقبّح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام. مدفوع : بأنّ

______________________________________________________

الزوجة ، ما لم ينكشف الخلاف أو تقوم به البيّنة ، فبعيدة جدّا ، لعدم الحاجة في ذلك إلى بيان من الشارع بعد ثبوت اعتبار الأمارة والأصل. والإنصاف أنّ الرواية لا تخلو من إجمال وإغلاق ، فلا تصلح للاستدلال بها على المقام.

١٢٨١. فيه نظر ، لأنّه إن أراد بها استصحاب عدم تحقّق النسب بينه وبين المرأة الخاصّة ، ففيه : أنّه لا علم بتحقّق هذا العدم في السابق حتّى يستصحب. وإن اريد بها استصحاب عدمه مطلقا حتّى يثبت عدم تحقّقه بينه وبين هذه المرأة ، ففيه : أنّه إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة التي لا نقول بها ، لأنّ تطبيق الكلّيات الثابتة بالاصول على جزئيّاتها إنّما هو بالملازمة العقليّة. وهذا نظير استصحاب عدم الكرّية في ماء لم يعلم كونه مسبوقا بعدمها ، فتدبّر.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : باقى.

النهي (١٢٨٢) عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا المتردّدة بين محصورين ، والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة ، والثاني يتوقّف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير ، وأمّا ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه ، وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه.

فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقّف العلم باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلّي المشتبه حكمه كشرب التتن في قبح العقاب عليه.

وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضا ؛ لأنّ العمومات الدالّة على حرمة الخبائث والفواحش و (ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) تدلّ على حرمة امور واقعيّة يحتمل كون

______________________________________________________

١٢٨٢. حاصل الدفع : أنّ المناط في حكم العقل بأصالة البراءة هو قبح تنجّز التكليف في الواقع مع جهل المكلّف ، إمّا بنفس التكليف ومتعلّقاته كما في الشبهات الحكميّة ، أو مصاديقه الخارجة كما في الشبهات الموضوعيّة. والتعبير بقبح التكليف بلا بيان في الشبهات الحكميّة إنّما هو لأجل كون القبح فيها ناشئا من عدم البيان ، لا أنّ مجرّد البيان يصحّح التكليف ويرفع قبحه مطلقا ، حتّى يقال بعدم جريان دليل البراءة في المقام لأجل وصول البيان فيه. وبيان المصاديق الخارجة وإن لم يكن من وظيفة الشارع ، إلّا أنّ مجرّد ذلك كما عرفت لا يصحّح التكليف بالمجهول ـ بمعنى تنجّزه ـ مع اشتباه مصاديقه الخارجة ، لأنّ المحرّك للعقل إلى الاجتناب عن الموضوع المشتبه إمّا هو العلم التفصيلي باندراجه تحت المكلّف به ، أو كونه مقدّمة علميّة لما علم بتعلّق التكليف به إجمالا ، وشيء منهما غير متحقّق في المقام.

ولك أن تقول : يكون ما نحن فيه أيضا من موارد قبح التكليف بلا بيان ، لأنّ تشخيص أنّ هذا المائع خمر أو خلّ وإن لم يكن من وظيفة الشارع ، إلّا أنّ

شرب التتن منها. ومنشأ التوهّم المذكور ملاحظة تعلّق الحكم بكلّي مردّد بين مقدار معلوم وبين أكثر منه ، فيتخيّل أنّ الترديد في المكلّف به مع العلم بالتكليف ، فيجب الاحتياط. ونظير هذا التوهّم قد وقع في الشبهة الوجوبيّة ، حيث تخيّل بعض أنّ دوران ما فات من الصلوات (*) بين الأقلّ والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدّمة العلميّة. وقد عرفت وسيأتي اندفاعه.

فإن قلت : إنّ الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه لاحتمال كونه محرّما ، فيجب دفعه. قلنا : إن اريد بالضرر العقاب وما يجري مجراه من الامور الاخرويّة ، فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

وإن اريد ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان ـ كما في المضارّ الدنيويّة ـ فوجوب دفعه عقلا لو سلّم كما تقدّم من الشيخ وجماعة ، لم يسلّم وجوبه شرعا (١٢٨٣) ؛ لأنّ الشارع صرّح بحلّية ما لم يعلم حرمته ، فلا عقاب عليه ؛ كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعي الغير المتعلّق بأمر المعاد ، كما هو المفروض في الضرر المحتمل في المقام!

______________________________________________________

بيان أنّ الحكم الظاهري في الموضوع المشتبه هو البراءة أو الاحتياط من وظيفته لا محالة ، ولا بدّ أن يتلقّى ذلك منه. ومع عدم البيان فالعقل يحكم بالبراءة ، لقبح التكليف بلا بيان لو كان المكلّف به في الظاهر هو الاحتياط عند الشارع. فما يظهر من المصنّف رحمه‌الله من عدم كون المقام من موارد هذه القاعدة ، إنّما هو لأجل المماشاة مع الخصم وإرخاء عنان المجادلة معه ، وإلّا فقد عرفت أنّ التحقيق كون ما نحن فيه أيضا من جملة مواردها.

١٢٨٣. ليس المقصود منه بيان معارضة حكم العقل والشرع وتقديمه على الأوّل ، لوضوح فساده ، إذ لا ريب في تطابقهما بحكم الملازمة ، بل المقصود أنّه مع فرض حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فلا ريب أنّ ترخيص الشارع في

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الصلوات» ، الصلاة.

فإن قيل : نختار أوّلا احتمال الضرر المتعلّق بامور الآخرة ، والعقل لا يدفع ترتّبه من دون بيان ؛ لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل ، كما صرّح في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الإباحة من أنّه لو كان هناك في الفعل مضرّة آجلة لبيّنها. وثانيا : نختار المضرّة الدنيويّة ، وتحريمه ثابت شرعا لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٤) ، كما استدلّ به الشيخ أيضا في العدّة على دفع أصالة الإباحة ، وهذا الدليل ومثله رافع للحلّية (١٢٨٤) الثابتة بقولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام».

قلت : لو سلّمنا (١٢٨٥) احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاخروي ، إلّا أنّ قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شىء لك حلال» بيان لعدم الضرر الاخروي. وأمّا الضرر الغير الاخروي ، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع ، وآية «التهلكة» مختصّة بمظنّة

______________________________________________________

الارتكاب يكشف عن وجود مصلحة فيه متداركة للمفسدة المحتملة ، والعقل لا يحكم بوجوب دفع مثل هذا الضرر ، لأنّ حكمه بوجوب الدفع إنّما هو مع عدم التدارك لا معه.

١٢٨٤. يعني : بحسب الشرع ، فتكون الآية حاكمة على الرواية ، لا بحسب الواقع حتّى تكون واردة عليها.

١٢٨٥. فيه إشارة إلى إمكان دعوى القطع بعدم المصلحة في عدم البيان. ولعلّ الوجه فيه عدم صلوح سائر المصالح لجبر الضرر الاخروي ـ أعني : العقاب ـ لو صادفه المكلّف بجهالة.

ويمكن أن يقال : إنّه مع تسليم حكم العقل بوجوب بيان الضرر الاخروي من حيث هو ، فلا وجه لمنع ذلك بمجرّد احتمال المصلحة في عدم البيان ، لعدم اقتناع العقل في ذلك بمجرّد احتمال المانع ، لعدم اعتناء العقلاء بمجرّد احتماله مع فرض وجود المقتضي كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله عند الاستدلال على حجيّة مطلق الظنّ بوجوب دفع الضرر المظنون.

الهلاك (١٢٨٦) ، وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر بأنّ سلوك الطريق الذي يظنّ معه العطب معصية دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك. وكذا في باب التيمّم والإفطار لم يرخّصوا إلّا مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشكّ.

نعم ، ذكر قليل من متأخّري المتأخّرين انسحاب حكم الإفطار والتيمّم مع الشكّ ايضا ، لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر بل لدعوى تعلّق (١٢٨٧) الحكم في الأدلّة بخوف الضرر الصادق مع الشكّ ، بل مع بعض أفراد الوهم أيضا. لكنّ الإنصاف إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه (١٢٨٨) كالحكم بدفع الضرر المتيقّن ، كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمّية إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه.

______________________________________________________

١٢٨٦. لعلّ الوجه فيه هو فهم العلماء لما قيل ـ كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله هنا أيضا ـ من استقرار بنائهم على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وإلّا فتعليق الحكم بالهلكة الواقعيّة يقتضي وجوب الاجتناب عن الهلكة المحتملة أيضا.

١٢٨٧. الفرق بين تعلّق الحكم بالضرر المحتمل أو المشكوك وبخوفه واضح ، لأنّ نسبة خوف الضرر بالنسبة إلى احتماله أعمّ من وجه وأخصّ من وجه آخر ، لصدقه مع الظنّ بالضرر والشكّ فيه أيضا ، وعدم صدقه مع احتماله في بعض الموارد. وأمّا بالنسبة إلى الشكّ فيه فهو أعمّ منه مطلقا ، كما هو واضح.

وحاصل : ما ذكره هو عدم ظهور قول بوجوب دفع الضرر المحتمل أو المشكوك من حيث كونه محتملا أو مشكوكا فيه ، فلا تدلّ الآية على وجوب دفع الضرر المحتمل أو المشكوك على قول القليل من المتأخّرين أيضا. فمع احتمال الضرر الذي يصدق معه الخوف ، فمقتضى الاحتياط في باب التيمّم والإفطار هو الجمع بين التيمّم والوضوء ، وكذا بين الصوم في الوقت والقضاء في خارجه ، بناء على التردّد في كون موضوع الحكم هو الضرر غير الصادق إلّا مع الظنّ به ، أو خوفه الذي يصدق مع احتماله على وجه يعتني به العقلاء.

١٢٨٨. المراد بالضرر المشكوك فيه ما كان معتنى به عند العقلاء على تقدير

لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقّن إنّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوي من حيث هو ، كما يحكم بوجوب دفع الضرر الاخروي كذلك ، إلّا أنّه قد يتّحد مع الضرر الدنيوي عنوان يترتّب عليه نفع اخروي ، فلا يستقلّ العقل بوجوب دفعه ؛ ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص ، وتعريضها له في الجهاد والإكراه على القتل أو على الارتداد. وحينئذ فالضرر الدنيوي المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ، فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص (١٢٨٩) على العباد أو لغيرها من المصالح أولى بالجواز (*).

فإن قلت : إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة ، فيظنّ الضرر ، فيجب دفعه مع انعقاد الإجماع على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر. قلنا : الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظنّ بالضرر ، أمّا الاخروي ، فلأنّ المفروض عدم البيان ، فيقبح. وأمّا الدنيوي ، فلأنّ الحرمة لا تلازم الضرر الدنيوي ، بل القطع بها أيضا لا يلازمه ؛ لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلّق بالامور الاخرويّة. ولو فرض حصول الظنّ بالضرر الدنيوي فلا محيص عن التزام حرمته كسائر ما ظنّ فيه الضرر الدنيوي من الحركات والسكنات.

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّ محلّ الكلام في الشبهة الموضوعيّة المحكومة بالإباحة ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يقضي بالحرمة ؛ فمثل المرأة المردّدة بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ أصالة عدم علاقة الزوجيّة المقتضية

______________________________________________________

القطع به ، وإلّا فمطلق الضرر الدنيوي لا يحكم العقل بوجوب دفع المقطوع منه فضلا عن المشكوك فيه.

١٢٨٩. يعني : مصلحة تسهيل الأمر على العباد في إباحة محتمل الحرمة ، وإلّا فنفس الترخيص ليس بمصلحة في إباحة الارتكاب.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : هذا تمام الكلام فى هذا المقام ، وقد تقدّم الاستدلال على حجيّة ظنّ بلزوم دفع الضرر المظنون ما يمنع نقضا وإبراما ، فراجع.

للحرمة بل استصحاب الحرمة (١٢٩٠) حاكمة على أصالة الإباحة. ونحوها المال المردّد (١٢٩١) بين مال نفسه وملك الغير مع سبق ملك الغير له ، وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه ، فلا ينبغي الإشكال في عدم ترتّب أحكام ملكه عليه من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقّق الماليّة.

______________________________________________________

١٢٩٠. يعني : مع قطع النظر عن استصحاب عدم علاقة الزوجيّة ، لوضوح عدم جريانه مع ملاحظته ، لحكومته عليه. ويمكن منع جريان استصحاب الحرمة في المقام مع قطع النظر عنه أيضا ، لكون الحرمة في الزمان السابق قائمة بالمرأة بوصف عدم كونها منكوحة ، والموضوع بهذا الوصف مشكوك البقاء في الزمان اللاحق. اللهمّ إلّا أن يقال بكون زوال هذا الوصف من قبيل تغيّر حالات الموضوع في نظر أهل العرف لا من قبيل تغيّر نفسه.

١٢٩١. لا يخفى أنّ صور الاشتباه في المقام على وجوه :

أحدها : أن يشكّ في انتقال مال إليه قهرا أو اختيارا ، كالإرث أو النقل بأحد الأسباب الشرعيّة بعد علمه بكونه لغيره. والإشكال حينئذ في حرمة التصرّف فيه على أنحائه ، لأصالة عدم حصول أحد أسباب النقل والانتقال ، ولا مسرح لأصالة البراءة فيه أصلا.

وثانيها : أن يعلم بكون شيء من المباحات الأصليّة ، وشكّ في حيازة مسلم له ، فيدور الأمر حينئذ بين كونه من المباحات وكونه مالا لغيره ، ولا ريب أنّ أصالة الإباحة حينئذ بضميمة أصالة عدم ثبوت يد عليه تقتضي جواز التصرّف فيه على أنحائه أيضا.

وثالثها : أن يعلم سبق ملك له في الجملة ، ولكن تردّد بينه وبين غيره. ولا إشكال حينئذ في عدم جواز التصرّف بما يتوقّف على ثبوت كونه ملكا له ، كالبيع والهبة وجعله ثمن المبيع أو وجه مصالحة أو نحو ذلك ، لأصالة عدم الملكيّة في هذه كلّها. وأمّا التصرّف بما لا يتوقّف على ذلك ، بل يكفي فيه عدم كونه

.................................................................................................

______________________________________________________

ملكا لغيره ، كالشرب والأكل ونحوهما ممّا لا يتوقّف على إثبات كونه ملكا له ، فأصالة عدم تملّك الغير له تكفي في إثبات جواز التصرّف بهذا النحو من التصرّفات. وحينئذ لا بدّ من ملاحظة الأدلّة ، وكون هذه التصرّفات فيها محمولة على مجرّد عدم كون المتصرّف فيه ملكا لغيره ، أو على كونه ملكا له. ومقتضى الاستقراء ـ كما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله ـ وقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله» هو الثاني ، لأنّ ظاهره عدم جواز التصرّف إلّا بسبب شرعيّ. نعم ، هو بظاهره لا يشمل الوجه الثاني ، لأنّ ظاهره هو عدم الحلّ إلّا بعد إحراز الماليّة ، والفرض هناك عدمه ، لفرض دورانه بين كونه من المباحات أو من الأموال ، فهو قبل إثبات يده عليه لم يعلم كونه مالا لأحد وإن كان قابلا لذلك ، لأنّ الماليّة من الامور الإضافيّة التي لا تتحقّق بدون المالك.

ورابعها : أن يجد شيئا في دار الحرب ، وشكّ في كونه مالا لمسلم أو كافر حربيّ الذي ماله فيء للمسلمين. وأصالة البراءة بضميمة أصالة عدم كونه مالا لمسلم تقتضي جواز التصرف فيه بأنحائه. ولا تعارضها أصالة عدم كونه ملكا للكافر أيضا ، لأنّ حرمة التصرّف في مال الغير وعدمها مرتّبتان بمقتضى قوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» على كونه مالا لمسلم وعدمه ، فلا يحتاج إثبات جواز التصرّف على إثبات كونه مالا للكافر حتّى تتّجه المعارضة المذكورة. وقد تقرّر في محلّه عدم الاعتداد بالعلم الإجمالي إذا لم يترتّب على أحد الاستصحابين أثر شرعيّ. وممّن صرّح بجريان أصالة البراءة في المقام هو الشهيد الثاني في مسالكه.

هذا إن وجد المال في دار الحرب. وإن وجده في دار الإسلام فيغلب عليه جانب الإسلام ، لقوله عليه‌السلام : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» فترتّب عليه أحكام اللقطة ، ولذا ترتّب أحكامها أيضا على الكنز الذي عليه أثر الإسلام. ولا يذهب عليك أنّ قوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله» لا يمنع من التصرّف

وأمّا إباحة التصرّفات الغير المترتّبة في الأدلّة على ماله وملكه ، فيمكن القول بها للأصل. ويمكن عدمه ؛ لأنّ الحلّية في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء ولقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله».

ومبنى الوجهين أنّ إباحة التصرّف هي المحتاجة إلى السبب ، فيحرم مع عدمه ولو بالأصل ، وأنّ حرمة التصرّف محمولة في الأدلّة على ملك الغير ، فمع عدم تملّك

______________________________________________________

هنا ، لحصول الماليّة للمتصرّف بالتصرّف ، بضميمة أصالة عدم تملّك مسلم آخر له.

وإذا عرفت هذا فاعلم : أنّ قوله : «ونحوه المال المردّد ...» ظاهر الانطباق على الوجه الأوّل ، وهو واضح. وأمّا قوله : «وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه» يعني : مع عدم العلم بسبقه ، فلا ريب في عدم انطباقه على الوجهين الأوّلين ، لعدم تأتّي الوجهين اللذين ذكرهما فيه فيهما كما عرفت. وكذلك على الثالث ، لأنّ المفروض فيه سبق ملك في الجملة. نعم ، يمكن أن يريد به عدم العلم تفصيلا بسبق ملك أحد عليه ، وإن علم إجمالا بكونه له أو غيره.

وأمّا ما يظهر من بعض مشايخنا من حمله على الوجه الرابع ، نظرا إلى تأتّي الوجهين اللذين ذكرهما فيه ، لأنّه بناء على كون جواز التصرّف مرتّبا في الأدلّة على وجود سبب محلّل لا يجوز التصرّف حينئذ ، وبناء على كونه مرتّبا على عدم كونه ملكا للغير ـ يعني : لغيره من المسلمين ومن بحكمه من أهل الذمّة ـ يثبت الجواز بأصالة البراءة بضميمة أصالة عدم كونه ملكا لمسلم آخر ، فبعيد جدّا.

لا يقال : إنّ ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله عدم ثبوت الملكيّة له ولا لغيره من المسلمين والكفّار ، فلا مقتضى للحمل على الوجه الثالث ولا على الرابع.

لأنّا نقول : نعم ، لكن إن فرض ذلك على وجه يحتمل كونه من المباحات أيضا ، فيدخل في الوجه الثاني الذي عرفت عدم تأتّي الوجهين فيه. وإن فرض على وجه لا يسري فيه هذا الاحتمال ، فيدخل في الوجه الثالث ، وليس هنا شقّ آخر يمكن حمله عليه ، فتدبّر.

الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة. ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة : اللحم المردّد بين المذكّى والميتة ؛ فإنّ أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على أصالتي الإباحة والطهارة. وربّما يتخيّل (١٢٩٢) خلاف ذلك تارة لعدم حجيّة (١٢٩٣) استصحاب عدم التذكية ، واخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة.

والأوّل مبنيّ على عدم حجيّة الاستصحاب ولو في الامور العدميّة. والثاني مدفوع (١٢٩٤) أوّلا بأنّه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل ،

______________________________________________________

١٢٩٢. المتخيّل جماعة كصاحب المدارك والذخيرة والفاضل التوني والسيّد الصدر ، حيث تمسّكوا بأصالة البراءة في باب الجلود واللحوم تضعيفا للاستصحاب ، إمّا لعدم حجّيته أو كونه معارضا بالمثل كما ستعرفه. ولا أعلم في ذلك من سبق على صاحب المدارك.

١٢٩٣. قد يقال أيضا : إنّ المقصود من استصحاب عدم التذكية إثبات كون اللحم المردّد ميتة ، لكون الحرمة والنجاسة مترتّبتين عليها ، وإثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة. والجواب عنه أيضا يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

١٢٩٤. منع حجيّة الاستصحاب ـ سيّما في العدميّات ، كما زعمه صاحب المدارك ـ لمّا كان في غاية الضعف تعرّض المصنّف رحمه‌الله لدفع الوجه الثاني أوّلا بما حاصله : أنّ التذكية والموت وإن سلّمنا كونهما من الامور الوجوديّة ، إلّا أنّ تعارض الاستصحابين إنّما يتمّ لو كانت الطهارة والحلّ في الأدلّة محمولين على عنوان المذكّى ، والحرمة والنجاسة أيضا على عنوان الميتة ، وليس كذلك ، إذ الأخيرتان مرتّبتان في الأدلّة على عدم التذكية دون الموت ، لأنّ مقتضى منطوق قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ...) تعلّق الحلّ بعنوان التذكية ، ومقتضى المفهوم المخالف للحصر فيه تعلّق الحرمة بعدم التذكية دون الموت. وما يتراءى من خلاف

ولا يتوقّف على ثبوت الموت حتّى ينتفي بانتفائه ولو بحكم الأصل. والدليل عليه : استثناء (ما ذَكَّيْتُمْ) من قوله (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) (٥) فلم يبح الشارع إلّا ما ذكّي ، وإناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم الله عليه وغيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية ، فإذا انتفى بعضها ـ ولو بحكم الأصل ـ انتفت الإباحة. وثانيا : أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ؛ إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه ، بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا. وتمام الكلام في الفقه.

______________________________________________________

ذلك ، من قوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وكذا من عدّ الفقهاء للميتة من أقسام النجاسات ، مندفع بأنّ مقتضى الجمع بين مفهوم الآية الاولى ومنطوق الثانية هو حمل الميتة في الثانية على إرادة غير المذكّى منها ، وحينئذ لا بدّ من حمل كلمات الفقهاء على ذلك أيضا ، كما هو واضح.

وإذا ثبت كون المناط في الحكم بالحلّ والطهارة أو الحرمة والنجاسة هو عنوان التذكية وعدمها ، فلا بدّ في محلّ الفرض من الحكم بالحرمة والنجاسة ، لأصالة عدم التذكية من دون معارضة شيء ، لفرض عدم ترتّب شيء على أصالة عدم الموت حتّى تكون معارضة لها ، كما عرفت نظيره عند شرح قوله : «ونحوه المال المردّد ...». ومع تسليم ظهور الآية الثانية في تعلّق الحرمة بعنوان الميتة ، فلا ريب أنّه لا دلالة فيها على الحصر. وحينئذ يثبت للحرمة عنوانان ، أحدهما : موت الحيوان بحتف الأنف ، والآخر : كون الحيوان غير مذكّى ، كما هو مقتضى الحصر في الاولى ، فلا يحتاج إثبات الحرمة والنجاسة حينئذ أيضا إلى إثبات الموت بحتف الأنف ، لفرض كفاية إثبات عدم التذكية أيضا في ذلك ولو بالأصل ، فتدبّر.

وثانيا : بما حاصله أيضا ـ مع تسليم كون الحرمة والنجاسة مترتّبتين على عنوان الميتة ـ أنّ الميتة هو غير المذكّى على نحو ما أفاده ، فليس هنا أمران وجوديّان قد ترتّب على كلّ منهما حكم مخالف للآخر ، حتّى يكون نفي أحدهما بالأصل معارضا لنفي الآخر كذلك.

الثاني : أنّ الشيخ الحرّ قدس‌سره أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر الأخباريّين ، وحاصله أنّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه حيث أوجبتم الاحتياط في الأوّل دون الثاني؟ وأجاب بما لفظه : أنّ حدّ الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعيّ أعني الإباحة والتحريم ، كمن شكّ في أكل الميتة أنّه حلال أو حرام ، وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعيّ ما اشتبه فيه موضوع الحكم مع كون محموله معلوما ، كما في اشتباه اللحم الذي يشترى من السوق لا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة ، مع العلم بأنّ المذكّى حلال والميتة حرام. ويستفاد هذا التقسيم (١٢٩٥) من أحاديث الأئمة عليهم‌السلام ومن وجوه عقليّة مؤيّدة لتلك الأحاديث ويأتي بعضها.

وقسم متردّد (١٢٩٦) بين القسمين ، وهي الأفراد التي ليست بظاهرة الفرديّة لبعض الأنواع ، وليس اشتباهها بسبب شىء من الامور الدّنيوية كاختلاط الحلال بالحرام بل اشتباهها بسبب أمر ذاتيّ أعني اشتباه صنفها في نفسها ، كبعض

______________________________________________________

١٢٩٥. يعني : حكمه.

١٢٩٦. المراد بهذا القسم ما كانت الشبهة ناشئة من الإجمال في مفهوم متعلّق التكليف ، لدورانه بين الأقلّ المعلوم الاندراج والأكثر المشكوك فيه. وإنّما جعله واسطة بين القسمين لأنّ الشبهة الحكميّة عنده ما اشتبه حكمه التكليفي ، أعني : الحرمة والإباحة ، والحكم فيما نحن فيه متبيّن بالفرض ، والشبهة في طريقه عبارة عمّا كانت الشبهة فيه ناشئة من اختلاط الامور الخارجة ، والفرض في المقام خلافه أيضا.

هذا بناء على ما يظهر من عبارة الشيخ الحرّ. وأمّا على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله فالشبهة في متعلّق التكليف إذا لم تكن ناشئة من اختلاط الامور الخارجة مندرجة في الشبهة الحكميّة ، سواء دار الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر أم بين المتباينين ، وسواء كان منشأ الشبهة فقدان النصّ أم إجماله أم تعارضه ، كما أوضحناه عند بيان ما يتعلّق بحجيّة القطع ، فراجع.

أفراد الغناء (١٢٩٧) الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه أنواعه في أفراد يسيرة ، وبعض أفراد الخبائث الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض أفراده حتّى اختلف العقلاء فيها ، ومنها شرب التتن (١٢٩٨). وهذا النوع يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي (١٢٩٩) ورد الأمر باجتنابها.

وهذه التفاصيل تستفاد من مجموع الأحاديث ، ونذكر ممّا يدلّ على ذلك وجوها : منها قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» ، فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم. إلى أن قال : وإذا حصل الشكّ في تحريم الميتة لم يصدق عليها أنّ فيها حلالا وحراما.

أقول : كأنّ مطلبه أنّ هذه الرواية وأمثالها مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقّف والاحتياط في مطلق الشبهة ؛ وإلّا فجريان أصالة الإباحة (١٣٠٠) في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية.

______________________________________________________

١٢٩٧. المراد بالفرد هنا هو الفرد الإضافي ، ولذا جعل شرب التتن من أفراد الخبائث ، وبقوله : «واشتبه أنواعه في أفراد يسيرة» هو اشتباه أصناف الغناء في أفراد إضافيّة يسيرة ، بمعنى عدم العلم بكون هذه الأفراد الإضافيّة من الصوت من أصناف الغناء وعدمه. وعلى هذا يكون المراد بالفرد والصنف وكذا النوع في قوله : «واشتبه أنواعه» أمرا واحدا. نعم ، الظاهر أنّ المراد بالنوع في قوله : «تحريم نوعه» معناه الظاهر منه.

١٢٩٨. يعني : من الأفراد المشتبهة للخبائث.

١٢٩٩. كالشبهة الحكميّة التحريميّة.

١٣٠٠. حاصله : أنّ مراده من الاستدلال بالأخبار المذكورة على البراءة في الشبهات الموضوعيّة هو توهّم اختصاصها بها ، وكونها مخصّصة لأخبار التوقّف والاحتياط ، وإلّا فلا يتمّ التفصيل بالقول بالاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة والبراءة في الشبهة الموضوعيّة ، لأنّ شمول الأخبار المذكورة للثانية لا ينفي شمولها للاولى أيضا ، فلو لا ما ذكرناه من دعوى الاختصاص والتخصيص لم يكن وجه

مع أنّ سياق أخبار التوقّف (١٣٠١) والاحتياط يأبى عن التخصيص (١٣٠٢) من حيث اشتمالها على العلّة العقليّة لحسن التوقّف والاحتياط ـ أعني الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة ـ فحملها على الاستحباب أولى (١٣٠٣).

______________________________________________________

لتخصيص القول بالبراءة بالشبهات الموضوعيّة.

هذا ، ويمكن أن يقال : إنّ مراد المحدّث المذكور منع شمول أخبار التوقّف والاحتياط للشبهات الموضوعيّة ، وكذا منع شمول أخبار الإباحة للشبهات الحكميّة ، لا دعوى العموم للاولى وتخصيصها بالثانية ، كما يظهر بالتأمّل في الوجوه الآتية التي ذكرها بعد ذلك.

١٣٠١. يرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده ـ أنّ أخبار التوقّف والاحتياط كما أنّها معارضة لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» كذلك معارضة لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». ومقتضى الجمع تخصيصها بكلّ منهما ، وهو غير صحيح ، لبقاء الأخبار المذكورة حينئذ بلا مورد ، لخروج الشبهات الحكميّة التحريميّة والموضوعيّة كذلك منها بما عرفت ، وعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة مطلقا باتّفاق من الأخباريّين ، فلا بدّ من حمل تلك الأخبار على الاستحباب لتسلم من التخصيص الباطل.

١٣٠٢. لأنّ تعليل الحكم بعلّة عقليّة جارية في جميع الأفراد يأبى عن تخصيصه ببعضها ، لمنافاته لمقتضى العلّة.

١٣٠٣. هذا مناف لما تقدّم ، ويأتي من اختيار حملها على الطلب الراجح الشامل للوجوب والاستحباب ، إمّا على وجه الإرشاد كما صرّح به فيما تقدّم ، أو على وجه الأولويّة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الحمل على الاستحباب أولى من ارتكاب التخصيص ، وإن كان الحمل على مطلق الطلب الراجح أولى منه.

فإن قلت : إنّ الحمل على الاستحباب أيضا محوج إلى ارتكاب التخصيص ، بإخراج ما يجب فيه الاحتياط من موارد العلم الإجمالي ، وجميع موارد الشبهات

ثمّ قال : ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات» ، وهذا إنّما ينطبق على الشبهة في نفس الحكم ؛ وإلّا لم يكن (١٣٠٤) الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ، ولا يعلم أحدهما من الآخر إلّا علّام الغيوب ، وهذا ظاهر واضح.

أقول : فيه ـ مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص (١٣٠٥) ـ أنّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلّتهم ظاهرة في حصر ما يبتلي به المكلّف من الأفعال في ثلاثة ، فإن كانت عامّة للشبهة الموضوعيّة أيضا صحّ الحصر ، وإن اختصّت بالشبهة الحكميّة كان الفرد الخارجي المردّد بين الحلال والحرام قسما رابعا ؛ لأنّه ليس حلالا بيّنا ولا حراما بيّنا ولا مشتبه الحكم.

ولو استشهد بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه‌السلام : " إنّما الامور ثلاثة" ، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكميّة ؛ إذ المحصور في هذه الفقرة الامور التي يرجع فيها إلى بيان الشارع ، فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجيّ المشتبه أمرا رابعا للثلاثة.

وأمّا ما ذكره من المانع لشمول النبويّ للشبهة الموضوعيّة من أنّه لا يعلم الحلال من الحرام إلّا علّام الغيوب ، ففيه :

______________________________________________________

الحكميّة قبل الفحص عنها ، لوجوب الاحتياط فيها حينئذ باتّفاق من الاصوليّين ، فكيف يكون الحمل على الاستحباب أولى؟

قلت : إنّ علّة الاستحباب ـ وهي التحرّز عن الحرام الواقعي ـ لا تنافي وجوب الاحتياط لعارض من جهة العلم الإجمالي أو عدم الفحص ، بخلاف الحكم بالرخصة وجواز الارتكاب ، وهو واضح.

١٣٠٤. يعني : أنّ المراد بخبر التثليث لو كان بيان حال الموضوعات لم يصحّ تثليث الامور ، لعدم علم أحد بالحلال البيّن والحرام البيّن. وهذا من مثله عجيب ، لأنّا لو سلّمنا عدم وجود الحلال البيّن في الخارج ، فكيف ينكر وجود الحرام البيّن كذلك؟

١٣٠٥. يعني : تخصيص الشبهات الموضوعيّة من العموم لأجل الأخبار المتقدّمة.

أنّه إن اريد (١٣٠٦) عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى. وإن اريد ندرتهما ففيه : أنّ الندرة (١٣٠٧) تمنع من اختصاص النبويّ بالنادر لا من شموله (١٣٠٨) له مع أنّ دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم أكثر من الحلال البيّن من حيث الموضوع قابلة للمنع ، بل المحرّمات الخارجيّة المعلومة أكثر بمراتب من المحرّمات الكلّية المعلوم تحريمها.

ثمّ قال : ومنها ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والإباحة بسبب تعارض الأدلة وعدم النصّ ، وذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعيّ.

أقول : ما دلّ على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الإباحة مع عدم ورود النهي وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلّة التوقف والاحتياط ، إلّا أنّ الإنصاف أنّ دلالتها على الإباحة والرخصة أظهر من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب.

ثمّ قال : ومنها أنّ ذلك وجه للجمع بين الأخبار (١٣٠٩) لا يكاد يوجد وجه أقرب منه.

______________________________________________________

١٣٠٦. مضافا إلى أنّ ما ذكره إنّما يرد على تقدير دعوى اختصاص النبوىّ بالشبهات الموضوعيّة ، لا على تقدير دعوى عمومه لها وللحكميّة.

١٣٠٧. مضافا إلى أنّه إن اريد بالحلال البيّن ما علمت حلّيته في الواقع ، ففيه : أنّ مثله نادر في الأحكام أيضا في أمثال زماننا وإن اريد ما يعمّ ما قام عليه دليل الحلّية في الظّاهر ، ففيه : أنّ أمارات الحلّية ـ من اليد والسوق والبيّنة ونحوها ـ كثيرة أيضا في الشبهات الموضوعيّة.

١٣٠٨. لا يخفى أنّ الندرة إنّما لا تمنع من الشمول في العمومات دون المطلقات ، وكون ما نحن فيه من قبيل الأوّل ممنوع ، بل قد يقال بعدم شمول العموم أيضا للأفراد إلّا ندرة.

١٣٠٩. هذا ربّما ينافي ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله في بعض أجوبة أخبار التوقّف من منع الأظهريّة وقوّة دلالة أخبار البراءة.

أقول : مقتضى الإنصاف أنّ حمل أدلّة الاحتياط على الرجحان المطلق أقرب ممّا ذكره (١٣١٠).

ثمّ قال ما حاصله : ومنها : أنّ الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام عليه‌السلام بخلاف الشبهة في طريق الحكم ؛ لعدم وجوب السؤال عنه ، بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم ؛ لأنّه من علم الغيب فلا يعلمه إلّا الله ، وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاءوا أن يعلموا شيئا علموه ، انتهى.

أقول ما ذكره من الفرق لا مدخل له (١٣١١) ؛ فإنّ طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه ، لا من الإمام عليه‌السلام ولا من غيره من الطرق المتمكّن منها ، والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام إنّما يجب فيما تعلّق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر (*) الجاهل المتمكّن من العلم.

______________________________________________________

١٣١٠. لما أسلفه من إباء أخبار التوقّف والاحتياط عن التخصيص. مضافا إلى استلزام ما ذكره ارتكاب خلاف الظاهر في كلّ منها ومن أخبار البراءة ، كما هو واضح. مع أنّ حمل قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» على الشبهة الموضوعيّة فاسد جدّا ، وإن زعمه المحدّث المذكور.

١٣١١. الظاهر أنّ وجوب الاحتياط والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام إنّما هو فيما تعلّق التكليف فيه بالواقع ، وعدم وجوب ذلك في الشبهات الموضوعيّة الابتدائيّة إنّما هو لعدم تعلّق التكليف فيها بالواقع ، ولذا لا يجب فيها الرجوع إلى الأمارات الممكنة أيضا. وهذا أيضا هو المعيار في الشبهات الحكميّة ، فإن ثبت التكليف فيها بالواقع وجب فيها الاحتياط والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام وإلّا فلا.

ويمكن أن يقال : إنّ المقصود ممّا ذكره المحدّث المذكور ليس بيان الفرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة من حيث وجوب الاحتياط في الاولى دون الثانية ، بل مقصوده بيان أنّه قد ورد الأمر في غير واحد من أخبار التوقّف والاحتياط

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فيه.

وأمّا مسألة مقدار معلومات الإمام عليه‌السلام (١٣١٢) من حيث العموم والخصوص ،

______________________________________________________

بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام في إزالة الشبهة ، وهذا دليل على اختصاصها بالشبهات الحكميّة ، وعدم شمولها للشبهات الموضوعيّة ، لعدم وجوب السؤال عنها.

لكن يرد عليه حينئذ : أنّ هذا الوجه وإن كان متّجها ، إلّا أنّ الأمر المذكور كما أنّه قرينة لما ذكر ، كذلك قرينة لاختصاص الأمر بالاحتياط فيها بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ونحوه ، فلا تشمل صورة عدم التمكّن منه ، كما هو الفرض فيما نحن فيه.

١٣١٢. في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ذكر الحاكم أبو سعيد الخثعمي في تفسيره أنّها تدلّ على بطلان قول الإماميّة إنّ الأئمّة يعلمون الغيب. وأقول : إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم ، فإنّا لا نعلم أحدا منهم ـ بل أحدا من أهل الإسلام ـ يصف أحدا من الناس بعلم الغيب ، ومن وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين ، والشيعة الإماميّة براء من هذا القول ، فمن نسبهم إلى ذلك فالله بينه وبينهم» انتهى.

وقد أورد المرتضى في تنزيه الأنبياء سؤالا في خروج الحسين عليه‌السلام من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة ، مع استيلاء أعدائه عليها ، وكون يزيد لعنه الله منبسط الأمر والنهي. وأجاب عن ذلك بما حاصله : غلبة ظنّه بوصوله إلى حقّه والقيام بما فوّض إليه ، وإن كان فيه ضرب من المشقّة ، لأجل ما وصل إليه من أهل الكوفة من العهود والمواثيق والمكاتبات.

أقول : هذا الوجه وإن كان مخالفا لأخبار كثيرة ظاهرة أو صريحة في علمه عليه‌السلام بما يرد عليه من أهل الكوفة بإخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، إلّا أنّ فيه اعترافا بعدم علم الإمام بجميع ما يرد عليه. وقد أسلفنا شطرا من الكلام في مقصد حجيّة القطع فيما يتعلّق بسهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولا ريب أنّ التوقّف ـ كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ـ

وكيفيّة علمه بها من حيث توقّفه على مشيّتهم (١٣١٣) أو على التفاتهم إلى نفس الشيء أو عدم توقّفه على ذلك ، فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ما يطمئنّ به النفس ؛ فالأولى ووكول علم ذلك إليهم صلوات الله عليهم اجمعين.

ثمّ قال : ومنها : أنّ اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور ؛ لأنّ أنواعه محصورة بخلاف الشبهة في طريق الحكم فاجتنابها غير ممكن ؛ لما أشرنا إليه من عدم وجود الحلال البيّن ولزوم تكليف ما لا يطاق. والاجتناب عمّا يزيد (١٣١٤) على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد ؛ لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات ، انتهى. أقول : لا ريب أنّ أكثر الشبهات (١٣١٥) الموضوعيّة لا يخلو عن أمارات الحلّ والحرمة ، ك «يد المسلم» و «السوق» و «أصالة الطهارة» و «قول المدّعي بلا معارض» والاصول العدميّة المجمع عليها عند المجتهدين والأخباريّين على ما صرّح به المحدّث الأسترآبادي ، كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب ، وبالجملة : فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات لقلّتها.

______________________________________________________

في خصوص علم الإمام عليه‌السلام سبيل السلامة ، لاختلاف الأخبار في ذلك جدّا. ولو لا خوف الإطالة لذكرنا شطرا من الأخبار وكلمات علمائنا الأخيار ، وما يمكن به الجمع بين الأخبار ، والله الهادي إلى صوب الرشاد.

١٣١٣. قد سمعنا من بعض سادة مشايخنا أنّ ظاهر الفقهاء كون علم الإمام عليه‌السلام إراديّا.

١٣١٤. بأن يرتكب من الشبهات ما تندفع به الضرورة ، ويجتنب عمّا زاد عليه.

١٣١٥. حاصله : أنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو وجوب الاحتياط وعدمه في الشبهات الخالية من دليل شرعيّ إذا كانت الشبهة حكميّة ، ومن أمارة شرعيّة إذا كانت موضوعيّة ، والموضوعات الخارجة المثبتة غالبا من وجود أمارة الحلّ ، ولا أقلّ من استصحاب العدم الذي ادّعى الأمين الأسترآبادي الضرورة على اعتباره في الموضوعات.

ثمّ قال : ومنها : أنّ اجتناب الحرام واجب عقلا ونقلا ، ولا يتمّ إلّا باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعيّ ومن الأفراد الغير الظاهرة الفرديّة ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به وكان مقدورا فهو واجب ، إلى غير ذلك من الوجوه. وإن أمكن المناقشة في بعضها ، فمجموعها دليل كاف شاف في هذا المقام ، والله أعلم بحقائق الأحكام (٦) ، انتهى.

أقول : الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب عن الشبهة في طريق الحكم ، بل لو تمّ لم يتمّ إلّا (١٣١٦) فيه ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلّا بدليل حرمة ذلك الشيء أو أمر وجوب إطاعة الأوامر والنواهي ممّا ورد في الشرع وحكم به العقل ، فهي كلّها تابعة لتحقّق الموضوع أعني الأمر والنهي ، والمفروض الشكّ في تحقّق النهي ، وحينئذ : فإذا فرض عدم الدليل على الحرمة ، فأين وجوب ذي المقدّمة حتّى يثبت وجوبها؟

______________________________________________________

١٣١٦. فيه إشارة إلى عدم تماميّة الدليل المذكور لا في الشبهات الحكميّة ولا الموضوعيّة ، كما أشار إلى توضيحه عند بيان عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة. وعلى تقدير تسليم تماميّته إنّما يتمّ في الشبهات الموضوعيّة دون الحكميّة كما زعمه المحدّث الحرّ العاملي ، لحصول العلم التفصيلي فيها بالخطاب المقتضي لوجوب الاجتناب عن جميع مصاديقه ، بخلاف الشبهات الحكميّة ، للشكّ فيه فيها بالفرض ، فنفس الخطاب الواقعي المشكوك فيه فيها على تقدير وجوده في الواقع غير مقتض لوجوب الاجتناب.

وأمّا عموم ما دلّ على وجوب إطاعة الأوامر والنواهي من العقل والنقل ، فهي وإن شملت الخطابات الواقعيّة المشكوك فيها على تقدير وجودها في الواقع ، بل عموم تلك الأدلّة في الشمول للخطابات المشتبهة ، نظير الخطابات المفصّلة المعلومة في الشمول للمصاديق المشتبهة لكون الشبهة في الخطابات الواقعيّة بالنسبة إلى شمول قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) موضوعيّة أيضا ، إلّا أنّ

.................................................................................................

______________________________________________________

الفرق بين المقامين : أنّ صدق متعلّق التكليف على مصاديقه الخارجة ، فيما علم الخطاب تفصيلا وشكّ في بعض مصاديقه ـ في غير أوامر الإطاعة ـ لا يتوقّف على معرفة المصاديق تفصيلا أو إجمالا ، لأنّه إذا ورد : اجتنب عن الخمر ، وتردّد مائع عندنا بين كونه خمرا أو خلّا ، وكان خمرا في الواقع ، واجتنب عنه المكلّف ، صدق عليه في الواقع أنّه اجتنب عن الخمر ، فمع صدقه عليه يمكن أن يتوهّم شمول عموم وجوب الاجتناب له ، لوجود المقتضي وعدم المانع ، بخلاف الأمر بالإطاعة ، لأنّ موضوع الإطاعة إنّما يصدق مع العلم تفصيلا أو إجمالا بالتكليف الذي تعدّ موافقته إطاعة ، فمع عدم العلم بالتكليف الواقعي مطلقا ـ كما هو الفرض في المقام ـ لا يحصل موضوع الإطاعة بالموافقة الاحتماليّة ، حتّى يقال بوجوب الإطاعة في الواقع على تقدير وجود التكليف في الواقع بعموم ما دلّ على وجوب الإطاعة ، نظير ما قلناه في الشبهات الموضوعيّة. وإلى ما ذكرناه أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : «فهي كلّها تابعة لتحقّق الموضوع».

وفيه نظر ، أمّا بالنسبة إلى الأمر العقلي الدالّ على وجوب الإطاعة ، فإنّ الإطاعة وإن لم تجب ما لم يحصل العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا ، إلّا أنّ عدم وجوب الإطاعة حينئذ غير عدم تحقّق موضوعها ، فالإطاعة للنهي الواقعي ـ على تقدير وجوده في الواقع ـ بالاجتناب عن الفعل ـ لاحتمال حرمته في الواقع ـ حاصلة وإن لم تجب هذه الإطاعة عقلا ، بناء على أخذ العلم في موضوع وجوبها عقلا. وأمّا بالنسبة إلى الأمر الشرعيّ ، فمع تحقّق موضوع الإطاعة كما عرفت تجب شرعا ، لفرض إطلاق الأمر بها. هذا ، مضافا إلى عدم انحصار الأمر في المقام فيما دلّ على وجوب الإطاعة ، لإمكان الاستدلال عليه بما دل على وجوب الاجتناب عن الفواحش والخبائث ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله سابقا. ولا يرد عليه ما أورده على أوامر الإطاعة.

نعم ، يمكن أن يقال في الشبهة في طريق الحكم بعد ما قام الدليل على حرمة الخمر : يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعيّة ، ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العامّ إلّا بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته.

لكنّك عرفت الجواب عنه سابقا وأنّ التكليف بذي المقدّمة غير محرز إلّا بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، فالاجتناب عمّا يحتمل الحرمة (*) احتمالا مجرّدا عن العلم الإجمالي لا يجب ، لا نفسا ولا مقدّمة ، والله العالم.

الثالث : أنّه لا شكّ في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا حتّى فيما كان هناك أمارة على الحلّ مغنية عن أصالة الإباحة ، إلا أنّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام كما ذكره المحدّث المتقدّم ذكره ، بل يلزم أزيد ممّا ذكره ، فلا يجوز الأمر به من الحكيم ؛ لمنافاته للغرض والتبعيض بحسب الموارد ، واستحباب الاحتياط حتّى يلزم الاختلال أيضا مشكل ؛ لأنّ تحديده في غاية العسر ، فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأمّا المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها فالاحتياط فيها حرج مخلّ بالنظام ، ويدلّ على هذا العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا واستلزام كلّيته الاختلال.

ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل (١٣١٧) إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع كالدماء والفروج ، بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى ، يحتاط فيه ، وإلّا فلا.

ويدلّ على هذا : جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح وأنّه شديد وأنّه يكون منه الولد ، منها : ما تقدّم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجامعوا على النكاح بالشبهة» ، قال عليه‌السلام : «فإذا بلغك أنّ امرأة أرضعتك» ـ إلى أن قال ـ : «إنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

______________________________________________________

١٣١٧. مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : يستحبّ فيه الاحتياط.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الحرمة» ، الخمريّة.

وقد تعارض هذه بما دلّ على عدم وجوب السؤال والتوبيخ عليه وعدم قبول قول من يدّعي حرمة المعقودة مطلقا أو بشرط عدم كونه ثقة ، وغير ذلك. وفيه : أنّ مساقها التسهيل وعدم وجوب الاحتياط ، فلا ينافي الاستحباب.

ويحتمل التبعيض بين موارد الأمارة على الإباحة وموارد لا يوجد فيها إلّا أصالة الإباحة ، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات والوقوف عند الشبهات على الثاني دون الأوّل ؛ لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعيّة على الإباحة ؛ فإنّ الأمارات في الموضوعات بمنزلة الأدلّة في الأحكام مزيلة للشبهة ، خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما يتحيّر في حكمه ولا بيان من الشارع لا عموما ولا خصوصا بالنسبة إليه ، دون مطلق ما فيه الاحتمال ، وهذا بخلاف أصالة الإباحة ؛ فإنّها حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها. هذا ، ولكن أدلّة الاحتياط لا تنحصر فيما ذكر فيه لفظ «الشبهة» ، بل العقل مستقلّ بحسن الاحتياط مطلقا. فالأولى الحكم برجحان (١٣١٨) الاحتياط في كلّ موضع لا يلزم منه الحرام (*). وما ذكر من أنّ تحديد

______________________________________________________

١٣١٨. حاصله : رجحان الاحتياط بحسب الإمكان ، وإن كان فيه حرج ومشقّة ، ما لم يلزم منه الحرام من تفويت حقّ واجب ونحوه.

ولكنّك خبير بأنّه لا بدّ أن يستثنى من ذلك الأشياء التي يعمّ بها البلوى ويكثر دورانها بين العباد ، كالأدهان والأنعام والغلّات ونحوها ، كما حكى التصريح به عن كاشف الغطاء ، لاستمرار السيرة عليه حتّى من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّه وأوصيائه عليهم‌السلام ، إذ لم يحك من أحد من الزهّاد والعبّاد والمتورّعين من العلماء الاجتناب عن ذلك ولو استحبابا ، بل المتتبّع في أحوال السلف يقطع بجريان عادتهم بارتكابها. وقد ثبت استعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام للسكّر والمعطّرات ، مع كونهما معمولين في بلاد الكفر. وكانوا أيضا يستعملون أدهان الأسواق ، ويلبسون الأقمشة المشتراة من الأسواق ، المتطرّق عليها الشبهة من وجوه شتّى ، و

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الحرام» ، الحرج.

الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر ، فهو إنّما يقدح في وجوب (١٣١٩) الاحتياط لا في حسنه.

الرابع : إباحة ما يحتمل الحرمة (١٣٢٠) غير مختصّة بالعاجز عن الاستعلام بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع ؛ لعموم أدلّته من العقل والنقل ، وقوله عليه‌السلام في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره أو

______________________________________________________

هكذا. فلا بدّ من الحكم بعدم رجحان الاحتياط في أمثال ذلك ، فتدبّر.

١٣١٩. لأنّ ظاهر أدلّة نفي العسر والحرج هو نفي ما فيه الكلفة والحرج من الأحكام ، ولا حرج في المستحبّات ، لجواز فعلها وتركها ، كما هو واضح.

١٣٢٠. حاصله : عدم وجوب الفحص عن الأمارات التي يمكن الوصول إليها في العمل بأصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة. وأمّا الشبهات الحكميّة فسيجيء الكلام فيها في آخر المبحث. وأمّا عموم دليل العقل لما قبل الفحص في المقام ، فلعدم جريان الأدلّة التي أقاموها على وجوب الفحص في الشبهات الحكميّة في المقام ، سوى دليل عدم حكم العقل بالمعذوريّة قبل الفحص ، وسوى دليل استلزام العمل بالبراءة قبله للمخالفة الكثيرة. وشيء منهما غير جار في المقام ، لأنّ عدم حكم العقل بالمعذوريّة قبل الفحص في الأحكام إنّما هو لمنافاته لوجوب التبليغ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجوب امتثال الأحكام للمكلّفين ، إذ لو جاز العمل بأصالة البراءة قبل الفحص كان ذلك سبيلا إلى عدم وجوب الالتزام بشيء منها أو إلّا القليل منها ، لعدم ثبوت التكليف حينئذ بالفحص ومراجعة الأدلّة بالفرض كي يطّلع عليها فيجب امتثالها. وهذا الوجه غير جار في المقام ، كما هو واضح. وأمّا العلم الإجمالي بالمخالفة الكثيرة ، فهو أيضا إنّما يوجب الفحص لأجل ما عرفته من كون المخالفة الكثيرة منافية للغرض من بعث الأنبياء وتبليغ الأحكام ، وقد عرفت عدم جريانه في المقام ، فتدبّر.

تقوم به البيّنة» ، فإنّ ظاهره حصول الاستبانة وقيام البيّنة لا التحصيل (١٣٢١) ، وقوله : «هو لك حلال حتّى يجيئك شاهدان». لكن هذا وأشباهه مثل قوله عليه‌السلام في اللحم المشترى من السوق : «كل ولا تسأل» وقوله عليه‌السلام : «ليس عليكم المسألة ؛ إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم» وقوله عليه‌السلام في حكاية المنقطعة التي تبيّن لها زوج : «لم سألت» واردة في موارد وجود الأمارة الشرعيّة على الحلّية ، فلا تشمل ما نحن فيه ، إلّا أنّ المسألة غير خلافيّة ، مع كفاية الإطلاقات.

______________________________________________________

١٣٢١. لا يخفى أنّ المراد لو كان بيان وجوب تحصيل الاستبانة والبيّنة لم يدلّ أيضا على وجوب الفحص ، لأنّ المعنى حينئذ : والأشياء كلّها على هذا ـ يعني : على الإباحة ـ حتّى تتفحّص عنها فتستبين لك خلافها. ولا يقول به القائل بالفحص لو كان به هنا قول ، لأنّه إنّما يقول بوجوب الاحتياط قبل الفحص وبالبراءة بعده ، فالأولى ترك قوله : «لا التحصيل».

المصادر

(١) الوسائل ج ١٢ : ص ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣) الحشر (٥٩) : ٧.

(٤) البقرة (٢) : ١٩٥.

(٥) المائدة (٥) : ٣.

(٦) الفوائد الطوسيّة : ص ٥١٩ ـ ٥٢١.

المطلب الثاني : في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام وفيه أيضا مسائل : الاولى فيما اشتبه حكمه الشرعيّ الكلّي من جهة عدم النصّ المعتبر كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل ، كالدعاء عند رؤية الهلال وكالاستهلال في رمضان ، وغير ذلك.

والمعروف من الأخباريّين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، قال المحدّث الحرّ العاملي (١٣٢٢) في باب القضاء من الوسائل :

______________________________________________________

١٣٢٢. قريب منه كلام الوحيد البهبهاني في فوائده العتيقة في الفائدة الرابعة والعشرين ، قال : «اعلم أنّ المجتهدين ذهبوا إلى أنّ ما لا نصّ فيه والشبهة في موضوع الحكم الأصل فيهما البراءة. والمراد من الثاني أنّ حكم الشيء يكون معلوما لكن وقع الشبهة في موضوعه ، مثلا الميتة حرام البتّة والمذكّى حلال كذلك ، لكن وجد لحم لا ندري أنّه فرد الميتة أو المذكّى. والأخباريّون على أربعة مذاهب فيما لا نصّ فيه. الأوّل : التوقّف ، وهو المشهور بينهم. الثاني : الحرمة ظاهرا. والثالث : واقعا. والرابع : وجوب الاحتياط. ويحتمل أن يكون القول بالتحريم مختصّا بما قبل ورود الشرع ، وغير مختصّ بالأخباري. وألحق الأخباريّون بما لا نصّ فيه ما تعارض فيه النصان وأفراد غير ظاهرة الفرديّة. وصرّح منهم بأنّ هذه المذاهب فيما إذا احتمل الحرمة وغيرها من الأحكام ، وأمّا إذا احتمل الوجوب وغيره ـ سوى الحرمة ـ فهم مثل المجتهدين يقولون بالبراءة. هذا فيما

إنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، إلّا إذا علمنا اشتغال الذمّة بعبادة معيّنة وحصل الشكّ بين فردين كالقصر والتمام والظهر والجمعة وجزاء واحد (١٣٢٣) للصيد أو اثنين ونحو ذلك ، فإنّه يجب الجمع بين العبادتين ؛ لتحريم تركهما معا ، للنصّ ، وتحريم الجزم بوجوب أحدهما بعينه عملا بأحاديث الاحتياط (١) ، انتهى موضع الحاجة.

وقال المحدّث البحراني في مقدّمات كتابه بعد تقسيم أصل البراءة إلى قسمين : أحدهما أنّها عبارة (١٣٢٤) عن نفي وجوب فعل وجودي ، بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يقوم دليل على الوجوب. وهذا القسم لا خلاف في صحّة الاستدلال به ؛ إذ لم يقل أحد : إنّ الأصل الوجوب. وقال في محكيّ كتابه المسمّى بالدرر النجفيّة : إن كان الحكم المشكوك دليله هو الوجوب ، فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر دليله ؛ لاستلزام التكليف بدون الدليل الحرج (١٣٢٥) والتكليف بما لا يطاق (٢) ، انتهى. لكنّه قدس‌سره في مسألة وجوب الاحتياط قال بعد القطع برجحان الاحتياط : إنّ منه ما يكون واجبا ومنه ما يكون مستحبّا ، فالأوّل : كما إذا تردّد المكلّف في الحكم إمّا لتعارض الأدلّة أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها أو لعدم الدليل

______________________________________________________

لا نصّ فيه. وأمّا الشبهة في موضوع الحكم فهم مثل المجتهدين يقولون بالبراءة.» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

١٣٢٣. بناء على كون ذلك من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فتدبّر.

١٣٢٤. مقول «قال». ولا يخفى ما في العبارة من الفتور ، وأصل العبارة هكذا : اعلم أنّ البراءة الأصليّة على قسمين : أحدهما : أنّه عبارة إلى آخر ما ذكره.

١٣٢٥. لا يقال : إنّ هذا منتقض بورد مثله في الشبهات التحريميّة أيضا. لأنّا نقول : لعلّه مبنيّ على توهّم عدم لزوم الحرج من اجتماع تروك كثيرة ، كما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله أيضا في بعض كلماته السابقة. ولكنّا قد تنظّرنا هناك فيه بما لا يخفى. ويحتمل أن يكون قول الأخباريّين بوجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة لأجل الأخبار الخاصّة ، إذ لا ريب في كون قاعدة نفي الحرج قابلة

بالكلّية بناء على نفي البراءة الأصليّة أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكلّيات المعلومة الحكم أو نحو ذلك. والثاني : كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعيّ احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوّزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعيّ إباحة شىء وحلّيته لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب أنّه ممّا حرّمه الشارع وإن لم يعلم به المكلّف. ومنه جوائز الجائر ونكاح امرأة بلغك أنّها ارتضعت معك الرضاع المحرّم إلّا أنّه لم يثبت ذلك شرعا ، ومنه أيضا الدليل المرجوح (١٣٢٦) في نظر الفقيه. أمّا إذا لم يحصل (١٣٢٧) ما يوجب الشكّ والريبة ، فإنّه يعمل على ما ظهر له من الأدلّة وإن احتمل النقيض باعتبار الواقع ، ولا يستحبّ له الاحتياط هنا بل ربما كان مرجوحا لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين.

ثمّ ذكر الأمثلة (١٣٢٨) للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط ، أعني اشتباه الدليل وتردّده بين الوجوب والاستحباب وتعارض الدليلين وعدم النصّ ، قال :

______________________________________________________

للتخصيص ، وقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق مندفعة بإمكان الاحتياط ، فتأمّل.

١٣٢٦. هذا بالنسبة إلى الوقائع التي تعمّ بها البلوى ، لما سيشير إلى وجوب الاحتياط في غيرها.

١٣٢٧. أي : لم يحصل الشكّ باحتمال النقيض بأحد أسبابه لما قام عليه الدليل الشرعيّ. وهذا القسم خارج من القسمين المذكورين ، فلا يجب فيه الاحتياط ولا يستحبّ ، بل حكمه عدم الاحتياط.

١٣٢٨. من دون ذكر مثال للقسم الرابع. ولا يذهب عليك أنّ قوله : «قال : ومن هذا القسم» بيان لذكر بعض الأمثلة المذكورة. وليس المراد أنّه قال ذلك بعد ذكر المثال لكلّ من الأقسام الثلاثة ، إذ الموجود في مقدّمات الحدائق من عبارته هكذا : «ولنذكر جملة من الأمثلة ليتّضح بها ما أجملناه ويظهر منها ما قلناه ، فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعيّ المتعلّق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدليل ،

ومن هذا القسم : ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام التي لا يعمّ بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصليّة ، فإنّ الحكم فيه ما ذكر ، كما سلف (٣) ، انتهى.

وممّن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا المحدّث الأسترآبادي حيث حكي عنه في الفوائد المدنيّة أنّه قال : إنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة من حيث هي هي إنّما يجوز قبل إكمال الدين ، وأمّا بعد تواتر الأخبار بأنّ كلّ واقعة محتاج إليها فيها خطاب قطعي من قبل الله تعالى ، فلا يجوز قطعا ؛ وكيف يجوز؟ وقد تواتر عنهم عليهم‌السلام وجوب التوقّف فيما لم يعلم حكمها ، معلّلين بأنّه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى ، وبأنّ من حكم بغير ما أنزل الله تعالى فاولئك هم الكافرون.

ثمّ أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريّ بنا أن نحقّق المقام ونوضّحه بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام ، فنقول التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، وكذلك عند من يقول بهما (١٣٢٩) ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيّين ، كما هو المستفاد من كلامهم عليهم‌السلام ، وهو الحقّ عندي. ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لا بعده إلّا على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم وارد من الله تعالى.

لا يقال : بقي هنا أصل آخر ، وهو أن يكون الخطاب الذي ورد من الله تعالى

______________________________________________________

بأن تردّد بين احتمالي الوجوب والاستحباب ، فالواجب التوقّف في الحكم ، والاحتياط بالإتيان بذلك» إلى أن قال : «ومن هذا القسم أيضا ما تعارضت فيه الأخبار على وجه يتعذّر الترجيح بينها بالمرجّحات المنصوصة». ثمّ ساق الكلام إلى أن قال : «ومن هذا القسم أيضا ما لم يرد فيه نصّ» إلى آخر ما أورده في المتن. والقسم الثالث بإطلاقه يشمل ما كانت الشبهة فيه وجوبيّة أيضا.

١٣٢٩. أي : يقول بالحسن والقبح الذاتيّين ، ولا يقول بالملازمة بين حكم العقل والشرع ، ولو استنادا في ذلك إلى الشرع.

موافقا للبراءة الأصليّة. لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيب ؛ لأنّ خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة. إلى أن قال : هذا الكلام ممّا لا يرتاب في قبحه ، نظير أن يقال : الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلوّ ، ومن المعلوم بطلان هذا المقال. ثمّ أقول : الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في ثلاثة ، وحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ونظائرهما ، أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصليّة وأوجب التوقّف فيها.

ثمّ قال ـ بعد أنّ الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب وقد يكون في محتمل الحرمة ـ : إنّ عادة العامّة والمتأخّرين من الخاصّة جرت بالتمسّك بالبراءة الأصليّة ، ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين لعلمنا بأنّ الله تعالى أكمل لنا ديننا ، ولعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها ورد فيها خطاب قطعي من الله تعالى خال عن المعارض ، ولعلمنا بأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مخزون عند العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، ولم يرخّصوا لنا في التمسّك بالبراءة الأصليّة فيما لم نعلم الحكم الذي ورد فيه بعينه ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ ما لم يعلم حكمه وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين وسنحقّقه فيما يأتي إن شاء الله تعالى (٤).

وذكر هناك ما حاصله : وجوب الاحتياط عند تساوي احتمالي الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب ، ولو كان ظاهرا في الندب بني على جواز الترك. وكذا لو وردت رواية ضعيفة (١٣٣٠) بوجوب شيء. وتمسّك في ذلك بحديث : «ما حجب الله علمه» وحديث : «رفع التسعة» ، قال : وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجودي لم يقطع بجوازه ؛ لحديث التثليث.

______________________________________________________

١٣٣٠. يعني : يبني على جواز الترك. وأنت خبير بأنّ صريح هذا الكلام هو عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة ، مع عدم ورود دليل معتبر فيها ، فهو صريح في خلاف ما نسبه إليه أوّلا من وجوب الاحتياط فيها. ولا بأس بنقل كلامه في الفوائد حتّى يتّضح به جليّة الحال فيما نقل المصنّف رحمه‌الله محصّله عنه هنا.

.................................................................................................

______________________________________________________

فنقول : إنّه قال في الفصل الثامن الذي عقده للجواب عن الاسئلة التي أوردها على نفسه : «السؤال الخامس أن يقال : كيف عملكم معشر الأخباريّين في حديث ضعيف يدلّ على وجوب فعل وجودي؟ وجوابه أن يقال : نوجب التوقّف عن تعيين أحد المحتملات ، ومصداقه في هذه المباحث (*) أن لا يقع منه فعل أو قول أو ترك مبنيّ على القطع بأحد المحتملات بعينه ، ويجوز له أن يأتي بفعل أو قول أو ترك يجامع جميع المحتملات ، أو يجامع حال الشكّ والتردّد فيها. فإذا دار الفعل بين الوجوب والحرمة يجب عليه تركه ما دام كذلك. وإذا دار بين الوجوب والندب والكراهة فله فعله بنيّة مطلقة ، وله تركه. ويجب السؤال والتفتيش عن الحكم ، ونحن معذورون ما دمنا ساعين. ومن الموضّحات لذلك قولهم عليهم‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» انتهى.

ثمّ ساق الكلام في بيان الأسئلة إلى أن قال : «السؤال الثالث عشر : هل يكون حكم فعل بلغنا حديث ضعيف صريح في وجوبه ، وحكم فعل بلغنا حديث صحيح صريح في أنّه مطلوب غير صريح وجوبه وندبه ، واحد في جواز الترك؟ وجوابه : أنّ للفرض الثاني صورا : إحداها : أن يكون الظاهر الوجوب ، ولم يكن نصّا فيه. ومن المعلوم أنّ الترك حينئذ من باب الجرأة في الدين ، وتعيين الاحتمال الظاهر كذلك جرأة في الدين ، فيجب الاحتياط في الفتوى والعمل. وثانيتها : تساوي الاحتمالين ، وهنا التوقّف عن تعيين أحدهما ، ومصداقه الاحتياط. وثالثتها : أن يكون الظاهر الندب ، وقد مضى حكمه سابقا». أقول : قد أراد به جواز الترك.

ثمّ قال : «فإن قلت : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» شامل لما نحن فيه. قلت : لا يوجب القطع ، لجواز أن يكون المراد به العدول عن فعل وجودي يحتمل الحرمة إلى ما لا يحتمل الحرمة ، أو يكون المراد به الاستحباب ، كما ذهب إليه

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «يعني : في الموارد التي ذكرها في الأسئلة التي أوردها على نفسه. منه».

أقول : قد عرفت فيما تقدّم في نقل كلام المحقّق قدس‌سره : أنّ التمسّك بأصل البراءة منوط بدليل عقلي هو قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به ، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا لكون الحسن والقبح أو الوجوب والتحريم عقليّين أو شرعيّين في ذلك.

والعمدة فيما ذكره هذا المحدّث من أوّله إلى آخره تخيّله أنّ مذهب المجتهدين التمسّك بالبراءة الأصليّة لنفي الحكم الواقعي ، ولم أجد أحدا يستدلّ بها على ذلك.

______________________________________________________

جمع من العامّة والخاصّة. ولك أن تقول : الفرض الأوّل والصورة الثالثة مندرجان تحت قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد موضوع عنهم». وقوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن تسعة أشياء» من جملتها : ما لا تعلمون ، فنحن معذورون ما دمنا متفحّصين. وخرج من تحتهما كلّ فعل وجودي لم نقطع بجوازه بالحديث المشتمل على حصر الامور في ثلاثة وبنظائره. ومن هنا ظهر عليك وانكشف لديك الفرق بين احتمال وجوب فعل وجودي وبين احتمال حرمته ، بأنّه لا يجب الاحتياط في المسألة الاولى ، ويجب الاحتياط في المسألة الثانية».

ثمّ نقل عن جماعة من متأخّري الخاصّة تبعا للعامّة كون أصالة البراءة مفيدة للظنّ بعدم الوجوب في الشبهة الوجوبيّة ، وبعدم التحريم في الشبهة التحريميّة ، وطعن فيه «بأنّ ذلك إنّما يتمّ قبل إكمال الشريعة أو بعده مع تجويز خلوّ بعض الوقائع عن حكم وارد من الله تعالى ، وكذا عند من لم يقل بالواجبات الذاتيّة ومحرّماتها» انتهى موضع الحاجة.

وحاصله : التفصيل في ما قطع بعدم حرمته بين ما ورد خبر ضعيف صريح في وجوبه ، وخبر صحيح ظاهر في الندب ، وبين ما ورد خبر صحيح فيه محتمل للوجوب والندب أو ظاهر في الوجوب ، بالقول بالبراءة في الأوّلين ، وبوجوب الاحتياط في الخبرين ، وهو مبنيّ على عدم الاعتداد بالظواهر. ويناسبه ما حكي عنه من دعوى كون أخبار الكتب الأربعة قطعيّة سندا ودلالة.

نعم ، قد عرفت سابقا أنّ ظاهر جماعة من الإماميّة جعل أصل البراءة من الأدلّة الظنّية ، كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزبدة ، لكنّ ما ذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظنّ ؛ لجواز دعوى أنّ المظنون بالاستصحاب أو غيره موافقة ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للبراءة. وما ذكره من تبعيّة خطاب الله تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك (١٣٣١).

لكنّ الإنصاف ، أنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ خصوصا في المقام ـ كما سيجيء في محلّه ـ ، ولا أمارة غيره يفيد الظنّ. فالاعتراض على مثل هؤلاء إنّما هو منع حصول الظنّ ومنع اعتباره على تقدير الحصول ، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا للحسن والقبح العقليّين في هذا المنع.

______________________________________________________

وكيف كان ، فهو ينافي ما نسبه إليه المصنّف رحمه‌الله من وجوب الاحتياط فيما نحن فيه كما عرفت. نعم ، قوله فيما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه : «ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين ...» صريح في عدم جواز العمل بأصالة البراءة في الشبهة الوجوبيّة. ومن هنا قد يتوهّم التنافي بين كلامي المحدّث المذكور. وهو ضعيف. لأن المحدّث المذكور قد زعم أنّ البراءة الأصليّة في كلمات العلماء عبارة عن نفي الحكم الواقعي بسبب حكم العقل ، ولذا جعلها مبنيّة تارة على مذهب الأشاعرة ، واخرى على نفي الملازمة ، وحكم بتماميّتها على المذهبين قبل إكمال الدين ، ثمّ ادّعى في آخر كلامه منافاتها لامور ، ثمّ زعم بقاء جملة من الشبهات تحت قاعدة الاحتياط ، وهي الشبهات التحريميّة ، وجملة من الشبهات الوجوبيّة ، وهو ما ورد فيه خبر صحيح مردّد بين الوجوب والاستحباب ، وخبر صحيح ظاهر في الوجوب ، وادّعى رخصة الشارع في جواز ترك جملة اخرى منها ، وهو ما ورد فيه خبر ضعيف صريح في وجوبه ، وخبر صحيح ظاهر في استحبابه ، ولا ريب أنّ الرخصة الشرعيّة في الظاهر لا تنافي نفي أصالة البراءة مطلقا بالمعنى المذكور.

١٣٣١. لأنّه مع حصول الظنّ بالخطاب الواقعي لأجل الاستصحاب يحصل الظنّ أيضا بمطابقة المصلحة في الواقعة للخطاب المظنون ، بمعنى : كون المصلحة فيها

وكيف كان : فيظهر من المعارج (١٣٣٢) القول بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : العمل بالاحتياط غير لازم وصار آخرون إلى لزومه وفصّل آخرون (٥) ، انتهى. وحكي عن المعالم نسبته إلى جماعة. فالظاهر أنّ المسألة خلافيّة ، لكن لم يعرف القائل به بعينه ، وإن كان يظهر من الشيخ والسيّدين التمسّك به أحيانا ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل. والأقوى فيه : جريان أصالة البراءة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافا إلى الإجماع المركّب (١٣٣٣).

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّ محلّ الكلام في هذه المسألة (١٣٣٤) هو

______________________________________________________

مقتضية للإباحة دون الوجوب.

١٣٣٢. لعموم عنوان كلامه ، سيّما مع تمثيله بولوغ الكلب الذي هو من قبيل الشبهات الوجوبيّة. ولعلّ هذا من المحقّق لأجل ملاحظته عمل الشيخ والسيّدين ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله. ولكنّه صرّح بأنّ تمسّكهم في أكثر المسائل بأصالة البراءة يكشف عن عدم كون مذهبهم وجوب الاحتياط فيما تمسّكوا به ، لاحتمال كون ذلك منهم في مقام تأييد دليل آخر ، ولذا ربّما يجمعون في مقام الاستدلال بين قاعدة الاحتياط وغيرها من الأدلّة الاجتهاديّة ، مع عدم جريان الاولى مع وجود الثانية.

قال في الانتصار : «وممّا انفردت به الإماميّة كراهة صلاة الضحى ، وأنّ التنفّل بالصلاة بعد طلوع الشمس إلى وقت زوالها محرّمة إلّا في يوم الجمعة خاصّة. والوجه في ذلك الإجماع المتقدّم ، وطريقة الاحتياط ، فإنّ صلاة الضحى غير واجبة عند أحد ، ولا حرج في تركها ، وفي فعلها خلاف هل يكون بدعة ويلحق به إثم؟ فالأحوط العدول عنها» انتهى.

١٣٣٣. لأنّ كلّ من قال بالبراءة في الشبهة التحريميّة قال بها أيضا في الشبهة الوجوبيّة ، وإن لم ينعكس.

١٣٣٤. كذا في المسألة الثانية والثالثة الآتيتين.

احتمال الوجوب النفسي المستقل ، وأمّا إذا احتمل كون شىء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر ، فهو داخل في الشكّ في المكلّف به ، وإن كان المختار جريان أصل البراءة فيه أيضا ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى ، لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتّفاقيّة.

الثاني : أنّه لا إشكال في رجحان الاحتياط (١٣٣٥) بالفعل حتّى فيما احتمل كراهته.

______________________________________________________

١٣٣٥. هذا شروع بعد منع وجوب الاحتياط في المقام في بيان استحبابه شرعا وعدمه ، وقد اختلفوا فيه ، فعن السيّد الصدر نسبة الأوّل إلى المجتهدين ، وقيل بالثاني. والمصنّف رحمه‌الله قد أهمل بيان أقسام المسألة وأحكامها ، وتحقيق الكلام فيها يحتاج إلى بسط في الكلام ، مع الإشارة في ضمنه إلى ما يتعلّق بما حقّقه المصنّف رحمه‌الله.

فنقول بتوفيق من الملك العلّام ودلالة من الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام : إنّه إذا دار الأمر في حكم فعل بين الوجوب وغير الحرمة ، كما هو موضوع البحث في المقام ، فهو يتصوّر على وجوه : أحدها : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب. الثاني : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة. الثالث : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والكراهة. الرابع : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب والكراهة. الخامس : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب والإباحة. السادس : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة والكراهة. السابع : ما دار الأمر فيه بين الأربعة. والشكّ في الثلاثة الأول ثنائي ، وفي الثلاثة الوسطى ثلاثي ، وفي الأخير رباعيّ.

وشبهة الوجوب فيما عدا دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب من الثنائيّات ، إمّا أن تكون ناشئة من وجود دليل ضعيف كالخبر الضعيف ، أو وجود فتوى فقيه أو انقداح رجحان إلزامي في نظر الفقيه ، لأنّه ربّما تختلج بباله شبهة وجوب من خصوصيّات المقام من دون أن يكون فيه دليل ضعيف وإن كان فتوى

.................................................................................................

______________________________________________________

فقيه. وإنّما استثنيناه صورة دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب لعدم شمول أخبار التسامح لها ، لظهورها ـ بل صراحتها كما ستعرفه ـ في ترتّب الثواب على عمل مشكوك الرجحان ، بخلاف هذه الصورة ، لكون الرجحان فيها يقينيّا ، والشبهة إنّما هي في تحقّقه في ضمن فصل الوجوب أو الاستحباب ، ولذا لو أتى به بقصد القربة المطلقة حكم بصحّته لو كان من العبادات ، وترتّب عليه الثواب لا محالة. ومن هنا قد استثناها المصنّف رحمه‌الله من مورد الوجهين اللذين قوّى أوّلهما.

وكيف كان ، فالمقصود في المقام بيان حكم الوجهين الأوّلين من الثنائيّة ، لظهور حكم غيرهما بعد الإحاطة بما سنذكره فيهما. أمّا الأوّل ، أعني : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب ، كالشكّ في وجوب دعاء رؤية الهلال واستحبابه ، فقد عرفت نسبة السيّد الصدر القول بالاستحباب فيه إلى المجتهدين. وقد يحتجّ له بأنّ الرجحان المطلق ثابت فيه يقينا ، فإذا نفت أصالة البراءة فصل الوجوب ـ أعني : المنع من الترك ـ ثبت فصل الاستحباب ، لامتناع بقاء الجنس بلا فصل ، فيثبت الاستحباب.

وفيه أوّلا : أنّ مقتضى أصالة البراءة ليس إلّا مجرّد نفي العقاب على مخالفة الواقع لو اتّفقت ، لا نفي الوجوب كما تقدّم في بعض الحواشي السابقة.

وثانيا : أنّ الثابت في الواقع إنّما هو أحد الأمرين من الوجوب والاستحباب ، ولا ريب في قيام كلّ منهما بفصله الخاصّ ، ولا بقاء للجنس مع عدم فصله ، ولذا قيل بكونه علّة له ، فإذا انتفى فصل الوجوب بالأصل فلا بدّ من انتفاء جنسه الذي تحقّق في ضمنه إن كان الفعل واجبا في الواقع ، فلا يبقى جنسه حتّى يتحقّق في ضمن فصل الاستحباب ، ولذا قيل : إنّ الفصول لا تثبت بالاصول ، فإثبات الاستحباب حينئذ يحتاج إلى دليل آخر لا محالة.

ونقل في الضوابط عن صاحب الرياض القول بالتخيير قائلا : «إنّ الشكّ الواقع في المكلّف به على قسمين : أحدهما : الشكّ في متعلّق الطلب ، كما لو دار

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر فيه بين الوجوب والحرمة. والآخر : الشكّ في كيفيّة الطلب ، كما في دوران الأمر فيما نحن فيه بين الوجوب والاستحباب. وفي كلا القسمين نحكم بالتخيير البدوي» انتهى. وحاصله : منع جريان البراءة في المقامين ، فيؤخذ بأحد الاحتمالين.

وفيه : أنّ مقتضى أصالة البراءة ليس إلّا مجرّد نفي العقاب ، ومقتضاها في المقام جواز كلّ من الفعل والترك ، فلا وجه لمنع جريانه هنا. اللهمّ إلّا أن تؤخذ أصالة البراءة بمعنى استصحابها ، فيقال : إنّ ما نحن فيه من قبيل ما علم بحدوث حادث وشكّ في الحادث ، وهو خصوص الوجوب والاستحباب ، فاستصحاب عدم أحدهما معارض باستصحاب عدم الآخر ، وبعد تساقطهما لأجل التعارض لا مناص من الحكم بالتخيير. ولكن أخذها بهذا المعنى فاسد جدّا ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله غير مرّة.

والتحقيق ما عرفت من جواز الإتيان بالفعل بنيّة مطلقة من دون اعتبار وجوبه واستحبابه ، لعدم الدليل على تعيين أحدهما بالخصوص.

وأمّا الثاني ، أعني ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة ، مع عدم وجود دليل ضعيف ولا قول فقيه فيه ، فلا إشكال في رجحان الاحتياط فيه. ولعلّه يثاب عليه أيضا ـ كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ـ إذا أتى به بداعي احتمال المحبوبيّة ، لأنّ ذلك وإن لم يكن إطاعة حقيقة ، نظرا إلى توقّفها على العلم بالأمر ، إلّا أنّه في حكمها ، لكون العبد معه شبيها بالمنقادين. ولعلّ الحكم بالثواب هنا أولى من الحكم بترتّب العقاب على ترك الاحتياط اللازم ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. والوجه فيه يظهر ممّا أسلفناه عند شرح ما يتعلّق بالتنبيه الرابع من تنبيهات المسألة الاولى من مسائل المطلب الأوّل ، فراجع.

ولكن مع ذلك لا يحكم باستحباب الفعل ، لأنّ حسن الاحتياط وترتّب الثواب عليه لا يستلزم حسن المحتاط فيه ورجحانه من حيث هو ، لفرض عدم كون الإتيان به إطاعة حقيقيّة حتّى تستدعي وجود أمر كاشف عن حسن المأمور به ، و

.................................................................................................

______________________________________________________

لذا قد حكم المصنّف رحمه‌الله بعدم كون ما يترتّب على الاحتياط ثوابا ، بل هو نوع تفضّل من الله سبحانه لأجل جعل نفسه في عدد المطيعين ، لأنّ الثواب هو الجزاء على فعل المأمور به ، ولا علم بالأمر هنا بالفرض. وتوضيحه : أنّ الثواب ـ كما عرّفه القوشچي ـ هو النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال. وقيد الاستحقاق احتراز عن التفضّل ، والمقارنة احتراز عن الاجرة. واشترطوا في موجبه المشقّة ، نظرا إلى عدم اقتضاء ما ليست فيه مشقّة لذلك. وصرّحوا بعدم صحّة الابتداء به ، وعلّله المحقّق الطوسي بأنّه لو أمكن الابتداء به كان التكليف عبثا.

ولعلّ الوجه في إخراج المصنّف رحمه‌الله ما يترتّب على الاحتياط من الحدّ هو عدم ثبوت الاستحقاق بذلك. والوجه فيه أيضا يظهر ممّا حقّقناه في مبحث المقدّمة في وجه عدم ترتّب الثواب على الواجبات الغيريّة ، لكون الاحتياط أيضا من المقدّمات العلميّة ، كيف ولو كان ذلك سببا للثواب كان الإتيان بمقدّمات الحرام أيضا سببا للعقاب ، فتلزم حرمة الأفعال المباحة غالبا ، لكونها من مقدّمات الحرام. وقد أشرنا سابقا إلى بعض الكلام في ذلك ، وإلى اختصاص حرمة المقدّمة بصورة قصد التوصّل بها إلى الحرام وبالعلّة التامة له.

وبالجملة ، إنّ الظاهر اختصاص موجب الثواب بإطاعة الأوامر ، فما يترتّب على الاحتياط على تقدير عدم إصابة الواقع لا بدّ أن يكون من باب التفضّل دون الثواب. ومن ذلك كلّه قد قوّى المصنّف رحمه‌الله عدم صحّة الفعل لو كان عبادة على تقدير وجوبه في الواقع. وحاصله : عدم الإمكان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، لأنّ الاحتياط لغة هو الأخذ بالأوثق ، واصطلاحا كلّ فعل أو ترك يحرز به الواقع ، والفعل إنّما يكون عبادة إذا اشتمل على قصد القربة شرطا أو شطرا ، المتوقّف على العلم بالأمر به إجمالا أو تفصيلا ، فالاحتياط بالعبادة فرع إحراز كونها عبادة ، وهو فرع العلم بالأمر المفروض عدمه في المقام. ومن هنا قد صرّح المدقّق الشرواني بكون الاحتياط فيها تشريعا محرّما ،

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوقّف السبزواري في مشروعيّته ، على ما حكي عنهما.

نعم ، قد احتمل المصنّف رحمه‌الله جريان الاحتياط في المقام ، بناء على كفاية هذا المقدار من الحسن العقلي في العبادة ، ومنع توقّفها على ورود أمر بها ، بمعنى عروض حسن الفعل المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع ، وإن لم يكن مأمورا به في الواقع. مضافا إلى حسن هذا النحو من الإطاعة الحكميّة. ثمّ استشهد له سيرة العلماء ، مضافا إلى ما استدلّ به عليه في الذكرى.

وأقول : لا بأس بتقديم الكلام فيما ذكره الشهيد رحمه‌الله ، ثمّ الإشارة إلى توضيح ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من عروض الحسن للفعل المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته.

فنقول : قد ذكر الشهيد في خاتمة مباحث الأوقات أنّه «قد اشتهر بين متأخّري الأصحاب قولا وفعلا الاحتياط بقضاء صلاة يتخيّل اشتمالها على خلل ، بل جميع العبادات الموهوم فيها ذلك. وربّما تداركوا ما لا مدخل للوهم في صحّته وبطلانه في الحياة وبالوصيّة بعد الوفاة. ولم نظفر بنصّ في ذلك بالخصوص. وللبحث فيه مجال ، إذ يمكن أن يقال بشرعيّته بوجوه : منها : قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) و (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» و «إنّما الأعمال بالنّيات» و «من اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله للمتيمّم لمّا أعاد صلاته لوجود الماء في الوقت : «لك الأجر مرّتين» والذي لم يعد : «أصبت السنّة». وقول الصادق عليه‌السلام في الخبر السالف : «انظروا إلى عبدي يقضي ما لم أفترض عليه». وقول العبد الصالح في مكاتبة عبد الله بن وضّاح : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ الحائط لدينك».

ثمّ ذكر وجوها للمنع وقال : «والأقرب الأوّل ، لعموم قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ

الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصّلاة خير موضوع من شاء استقلّ ومن شاء استكثر». ولأنّ الاحتياط المشروع في الصلاة من هذا القبيل ، فإنّ غايته التجويز ، ولهذا قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإن كان صلّى أربعا كان هاتان نافلة». ولأنّ إجماع شيعة عصرنا وما راهقه عليه ، فإنّهم لا يزالون يوصون بقضاء العبادات مع فعلهم إيّاها ، ويعيدون كثيرا منها قضاء أو أداء. والنهي عن إعادة الصلاة هو في الشكّ الذي يمكن فيه البناء» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وهذه خمسة عشر وجها لمشروعيّة الاحتياط في العبادات ، كلّها لا يخلو من نظر.

أمّا الأوّلان ، فلما أفاده المصنّف رحمه‌الله من عدم حصول موضوع التقوى في المقام إلّا بالعلم بالأمر ، لأنّ التقوى هو إتيان ما أمر الله به والانتهاء عمّا نهى عنه ، فشمول الأمر به للمأتيّ به فرع احتماله لكونه عبادة ، واحتماله له فرع إتيانه بقصد القربة وإلّا لم يكن عبادة يقينا ، وهو فرع العلم بالأمر به تفصيلا أو إجمالا ، فلو اريد إثبات صحّة قصد التقرّب به بهذا الأمر لزم الدور ، اللهمّ إلّا أن يلتزم بما أجاب به من النّقض والحلّ.

ولكنّا قد قرّرنا الجواب عن الأوّل في مبحث الصحيح والأعمّ ، باختلاف معنى الصحة المأخوذة في موضوع العبادة والمتفرّعة على الأمر بها ، لكون المراد بالاولى كون المأمور به تامّ الأجزاء والشرائط ، بمعنى شرائط المأمور به ، وبالثانية عند المتكلّمين مطابقة الأمر ، وعند الفقهاء إسقاط الإعادة والقضاء. وقد أوضحنا تفصيل الكلام في ذلك في كتابنا المسمّى بغاية المأمول في كشف معضلات الاصول. ولا ريب أنّ ما يتوقّف عليه الأمر هي الصحة بالمعنى الأوّل ، وما يتوقّف عليه سقوط التكليف وكون الفعل عبادة هي الصحّة بالمعنى الثاني.

ومن هنا يظهر وجه النظر في قوله : «إنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا» لأنّه إن أراد أخذ ذلك في موضوع الأمر بالصلاة مثلا ـ

.................................................................................................

______________________________________________________

كما هو ظاهره ـ فقد عرفت ضعفه ، كيف لا وهو غير معقول. وإن أراد أخذه في كيفيّة امتثال الأمر بها ـ كما هو كذلك ـ فهو لا يتوقّف على سبق اعتبار ذلك في المأمور به شطرا أو شرطا ، لفرض كونه من شرائط امتثال الأمر ومنتزعا عليه فكيف يتقدّم عليه؟

ويرد على الثاني أيضا أنّ التقوى بنفسها ليست عبادة يعتبر في تحقّقها قصد امتثال الأمر بها ، بل هي أمر يحصل بامتثال الأوامر والانتهاء عن النواهي الشرعيّة ، سواء كان ما يتّقى به عبادة أم غيرها. فمجرّد قصد امتثال الأمر بالتقوى لا يوجب كون المتّقى به عبادة ، كيف وقد تكون المتّقى به من الواجبات التوصّلية ، وقد يحصل بترك المحرّمات. مضافا إلى وضوح كون الأمر بها للإرشاد ، فلا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس ما يتّقى به.

وأمّا الثالث والرابع ، فإنّ المراد بالمجاهدة إن كان معناها المتبادر منها لا يرتبط بالمقام. وإن كان المراد بها المجاهدة والاجتهاد في تحصيل الأحكام الشرعيّة وامتثالها ، لا تشمل ما لم يعلم حكمه من الشرع ، كما هو الفرض في المقام.

وأمّا الخامس ، فلعدم العلم بدخول محلّ الفرض في (ما آتَوْا). والمراد بالآية الشريفة ـ والله أعلم ـ بيان حال الأشخاص الذين اتّبعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأتوا بما أتى به من الأحكام في حال كون قلوبهم خائفة من الله تعالى ، لا الإتيان بما لم يعلم حكمه من الشرع ، فضلا عن الإتيان بما يحتمل التحريم من جهة التشريع ، فتأمّل.

وأمّا السادس ، فهو على خلاف المدّعى أدلّ ، لكون الإعادة والقضاء من دون علم بالأمر بهما محلّ ريبة ، لما عرفت من احتمال التشريع فيهما ، فيجب تركهما بمقتضى الرواية ، فتأمّل. مع أنّ مقتضاها الأمر بالاحتياط ، وقد عرفت الإشكال في تحقّقه في العبادات.

وأمّا السابع ، فإنّ المراد به بيان اعتبار النيّة فيما ثبت من الشرع لا فيما شكّ في ثبوته فيه كما في محلّ الفرض ، لاختلاف وجوه العبادات بها ، لأنّ الصلاة مثلا

.................................................................................................

______________________________________________________

بنيّة القربة من المقرّبات إلى الله تعالى ، وبنيّة الرياء من المبعّدات عن حضرته سبحانه.

وأمّا الثامن ، فقد ظهر الجواب عنه ممّا أوردناه على الوجد السادس ، لكون القضاء والإعادة في محلّ الفرض محلّ شبهة وريبة.

وأمّا التاسع ، فإنّ إعادة المتيمّم الواجد للماء في الوقت لا بدّ أن تكون مع علمه بجواز الإعادة ولو لادراك كمال الصلاة مع الوضوء قبل اطّلاعه على ما وعده الإمام عليه‌السلام من الأجرين ، إذ لو لم يكن عالما به قبله لم تصحّ الإعادة كما هو واضح ، والفرض في المقام عدم العلم بالجواز.

وأمّا العاشر ، فإنّ المراد به مدح من امتثل بغير ما فرضه الله عليه ، والمراد بالقضاء فيه مطلق الفعل لا تدارك ما فات منه ، فلا دخل له فيما نحن فيه ممّا لم يعلم فيه الأمر أصلا.

وأمّا الحادي عشر ، فإنّ الأمر بالاحتياط فيه وارد على طبق القاعدة ، لثبوت التكليف في مورده مع الشكّ في الخروج من عهدته مع موافقته الاستصحابات الموضوعيّة ، كما تقدّم توضيحه من المصنّف رحمه‌الله في المطلب الأوّل في تضاعيف أدلّة الاحتياط ، والفرض في المقام سقوط أصل التكليف ظاهرا ، وكون الإعادة والقضاء لاحتمال خلل لم يعلم الآمر بتداركه.

وأمّا الثاني عشر ، فإنّ المراد به المنع من النهي عن صلاة علم الأمر بها ، فلا يشمل المقام.

وأمّا الثالث عشر ، فإنّ المراد به التخيير بين الاستقلال والاستكثار في ما علم كونه صلاة وسمّاه الشارع بها ووعد الجزاء بها ، لأنّ هذا هو الظاهر من كونها خير موضوع ، لا ما لم يعلم الأمر به أصلا.

وأمّا الرابع عشر ، فإنّ تشريع صلاة الاحتياط عند الشكّ في عدد ركعاتها إنّما هو من جهة كون الصلاة مع جميع أجزائها وشرائطها المعيّنة مطلوبة و

.................................................................................................

______________________________________________________

مقصودة من المكلّف ، والعلم بالخروج من عهدة التكليف بها لمّا لم يحصل إلّا بالعلم وجدانا أو شرعا بالإتيان بها على ما هي عليه من الأجزاء والشرائط ، فالشارع قد جعل صلاة الاحتياط ـ تسهيلا للأمر على المكلّف ـ جابرة لما احتمل فيها من النقص في ركعاتها ، ولذا قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإن كان صلّى أربعا كان هاتان نافلة». وأين هذا ممّا علم بسقوط التكليف فيه ظاهرا ، وكان الغرض من القضاء والإعادة تدارك خلل محتمل لم يعلم الإذن من الشارع بتداركه؟

وأمّا الخامس عشر ، فلعدم الاعتداد بالإجماع في المسائل المستحدثة ، سيّما هذه المسألة التي لم يتعرّض لها أحد قبل الشهيد ، وإليه أشار في موضع آخر بقوله : «إنّ معاصري الأئمّة عليهم‌السلام من جهة شدّة اهتمامهم وعنايتهم بالصلاة كانوا لا يحتاجون إلى إعادتها وقضائها». نعم ، تمكن دعواه على طريقة الشيخ من ابتناء حجّية الإجماع على قاعدة اللطف ، وهذا ربّما يوهم موافقته له فيها.

نعم ، يمكن أن يستدلّ عليه بهذا الإجماع ، لا من حيث كونه إجماعا حتّى يرد عليه ما ذكر ، بل من حيث كشفه عن استقرار عمل الصلحاء من العباد والكمّلين من العلماء في زمن الغيبة على ذلك ، وهو يكشف عن وجود دليل معتبر عندهم ، على ذلك أو عن حسن هذا الفعل عندهم مع قطع النظر عن حسنه المحتمل بحسب نفس الأمر ، من أجل احتمال وجوبه في الواقع كما هو محلّ الفرض. ولعلّ مراد المصنّف رحمه‌الله أيضا بدعوى كفاية الحسن العقلي في العبادة مستشهدا لها سيرة العلماء هو ما ذكرناه ، من كشف سيرتهم عن وجود دليل معتبر عندهم ، وإلّا فمجرّد دعوى كفاية الحسن العقلي فيها إعادة للمدّعى ، وسيرة العلماء مجرّدة عن اعتبار ما ذكرناه لا دليل على اعتبارها.

وعلى كلّ تقدير ، فممّا ذكرناه يندفع احتمال التشريع في المقام كما زعمه المدقّق الشرواني ، إذ لم يقل أحد بذلك مع وجود دليل معتبر ، أو حسن الفعل في نفسه الكاشف عن حسنه عند الشارع أيضا وأمره به.

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذلك يندفع ما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله في وجه عدم جريان الاحتياط في المقام ، من كون الأمر بالاحتياط ـ كأوامر الإطاعة ـ إرشاديّا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس الواقع مع قطع النظر عن هذا الأمر ، لأنّ ذلك إنّما يرد لو قلنا بأنّ مبنى الاحتياط بالإعادة والقضاء من جهة احتمال خلل فيها على مجرّد كون ذلك طريق امتثال للأمر المحتمل ، وليس كذلك ، لما عرفت من كون ذلك لأجل حسن الفعل في نفسه. مضافا إلى حسن الإطاعة الحكميّة ، لكشفه عن أمر الشارع به في الواقع بحكم الملازمة.

فإن قلت : كون الصلاة المعادة أو المقضيّة عبادة وحسنة موقوف على أمر الشارع بها ، إذ لا حسن للعبادات من دون أمره بها ، ولذا لا تصحّ من دون قصد التقرّب بامتثال الأمر المتعلّق بها ، وأمره بها فرع حسنها في نفسها ، لكون أوامره تابعة للحسن الواقعي لا محالة ، فيلزم الدور. ولعلّه من هنا قد التزم صاحب الفصول بكفاية الحسن في الأمر ، وعدم لزوم حسن المأمور به في أمر الشارع به ، ومنع الملازمة بين حكم العقل والشرع وإلّا لم يندفع الدور. ومن هنا يظهر ضعف قول المصنّف رحمه‌الله : «والتحقيق : أنّه إن قلنا بكفاية ...» ، لأنّ صريحه اندفاع الدور على تقدير حسن الفعل المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته. مضافا إلى حسن الإطاعة الحكميّة ، إذ قد عرفت بقاء إشكال الدور على هذا التقدير أيضا ، وإن اختلف تقريره على التقديرين ، لأنّ لزومه على تقدير عدم حسن الفعل في نفسه من جهة أنّ شمول الأمر بالاحتياط للمأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته موقوف على قصد القربة به ، وهو موقوف على شمول الأمر المذكور له ، وعلى تقدير حسنه في نفسه من جهة أنّ حسن الفعل المأتيّ به موقوف على أمر الشارع به ، وأمره به موقوف على حسنه كما عرفت.

قلت : إنّه ـ مع انتقاضه بسائر العبادات التي علم أمر الشارع بها ، لورود المحذور المذكور فيها أيضا ـ يمكن منع توقّف حسن العبادات على أمر الشارع ، و

.................................................................................................

______________________________________________________

لذا لو أتى بها حبّا لله وشكرا له لم يقل أحد ببطلانها. وما قرع سمعك من اعتبار قصد القربة وامتثال أمره تعالى في صحّتها ، إنّما هو لبيان أقلّ مراتب ما يعتبر في العبادة من القصد لا للحصر. بل نقول : إنّه لو أتى بها بقصد حسنها الواقعي وإن لم يعلم بحسنها الخاصّ كفى في صحّتها ، وترتّب عليها ما يترتّب عليها لو أتى بها بقصد امتثال الأمر ، لأنّ الثواب ـ من التقرّب ودخول الجنّة وغيرهما ـ من آثار حسن الفعل لا من آثار إطاعة أمر الشارع من حيث هي.

ولعلّه إلى ما ذكرناه يرجع ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في دفع الدور حلّا على تقدير عدم كفاية احتمال المطلوبيّة في صحّة العبادة ، من كون المراد بالاحتياط والاتّقاء في الأوامر الواردة فيهما هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة.

وحاصله : أنّ موضوع الاحتياط والاتّقاء إنّما يتوقّف على قصد القربة إذا كان اعتبار قصدها مأخوذا في موضوع الأوامر الواقعيّة شطرا أو شرطا ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّ الإتيان بالفعل باحتمال محبوبيّته في الواقع من دون قصد القربة لا يكون احتياطا واتّقاء ، لعدم موافقته للأمر الواقعي على تقدير وجوده في الواقع ، لما عرفت من فرض اعتبار قصد القربة في موضوعه. وأمّا إذا لم يكن مأخوذا في موضوع الأوامر الواقعيّة كما أوضحناه ، فلا ريب في موافقة الفعل المأتيّ به ـ باحتمال محبوبيّته في الواقع ـ للأمر الواقعي على تقدير وجوده في الواقع ، وحينئذ يدّعى كون هذا الفعل متعلّقا لأوامر الاحتياط والاتّقاء ، فيقصد بها القربة.

نعم ، [إن](*) أراد أنّ المراد بالاحتياط والاتّقاء في الأوامر المتعلّقة بهما هو الاحتياط والاتّقاء في الجملة ، يعني : في غير جهة قصد القربة ، فرارا عن لزوم الدور ، أمكن منعه ، لمخالفته لظاهر هذه الأوامر ، ولعدم الحاجة إلى هذه الدعوى كما عرفت.

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعنى.

.................................................................................................

______________________________________________________

والذي يوضح المقام ويحسم مادّة الإشكال هو الفرق بين شرائط المأمور به التي هي قيود للماهيّة ومعتبرة في تحصّلها في الخارج ، مثل الطهارة وستر العورة ونحوهما بالنسبة إلى الصلاة ، وبين شرائط امتثال الأمر. والأوّل لا بدّ من تحقّقه في تحقّق موضوع العبادة ، والثاني يختلف باختلاف حالات المكلّف كما ستعرفه. وقصد القربة من قبيل الثاني ، إذ لو كان مأخوذا في المأمور به لزم تقدّمه على الأمر ، والفرض تأخّره عنه وكونه متفرّعا عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ، فلا بدّ أن يكون ذلك معتبرا في تحقّق امتثال الأمر دون المأمور به.

وحينئذ نقول : إنّ مطابقة الفعل المأتيّ به للمأمور به الواقعي على تقدير وجود الأمر في الواقع لا يتوقّف على قصد القربة به ، لأنّه إنّما يلزم على تقدير أخذه في نفس المأمور به الواقعي لا في كيفيّة امتثال الأمر المتعلّق به ، وقد عرفت خلافه.

وحينئذ يصحّ قصد القربة بإطاعة الأمر بالاحتياط والاتّقاء ، وإن لم يأت به بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. ولكنّك خبير بأنّك بعد ما عرفت من كون قصد القربة من شرائط امتثال الأمر دون المأمور به ، فلا ريب أنّ اعتبار قصدها في صحّة العبادات مأخوذ من العرف لعدم صدق الامتثال بدونه. وحينئذ إن علم الأمر المتعلّق بالفعل المتعبّد به تفصيلا أو إجمالا ، فالمعتبر عرفا هو الإتيان به بقصد كونه مقرّبا إلى الله تعالى. وإن احتمل فيه ذلك يجب الإتيان به باحتمال كونه مقرّبا ، لكفاية ذلك في صدق امتثال الأمر المحتمل عرفا. وحينئذ فمع تحقّق الأمر في الواقع يثاب على إطاعته ، ومع عدمه يثاب على عمله ، لأجل كون ذلك شبه انقياد وإطاعة حكميّة. ومن هنا تصحّ دعوى جريان الاحتياط في العبادات كغيرها من دون حاجة إلى دعوى كفاية الحسن العقلي في صيرورة المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع عبادة ، وكذا إلى دعوى كون المراد بالاحتياط والاتّقاء في الأوامر الواردة فيهما موافقة المأتيّ به للواقع في غير جهة قصد القربة ، كما صدر

.................................................................................................

______________________________________________________

عن المصنّف رحمه‌الله ، لما عرفت من تحقّق موضوع الاحتياط والاتّقاء في العبادات كغيرها من دون حاجة إلى الدعويين.

نعم ، على ما ذكرناه يتعيّن الإتيان بالفعل بداعي احتمال محبوبيّته ، ويكون حسن الفعل تابعا بتحقّق الأمر في الواقع ، وإن أثيب العبد على تقدير عدمه أيضا من جهة الإطاعة الحكميّة. ويتعيّن أيضا حمل الأوامر الواردة في الاحتياط والاتّقاء على الإرشاد ، لوضوح كونها حينئذ مؤكّدة لحكم العقل. وحينئذ لا يمكن الحكم باستحباب الفعل من حيث نفسه ، بمعنى مطلوبيّة الإتيان به من حيث رجحان نفسه وإن لم يكن بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع ، وهو خلاف ظاهر العلماء ، لحكمهم باستحبابه من دون تقييد إتيانه بالداعي المذكور ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله. ولعلّ هذا هو الداعي له إلى الدعوى الثانية ليصحّ معها الحكم بالاستحباب النفسي.

ويمكن أن يحتجّ له أيضا بأخبار التسامح ، لأنّ الإعادة والقضاء فيما نحن فيه وإن لم يرد بهما خبر ضعيف ، إلّا أنّه يمكن إثبات استحبابهما باتّحاد طريق المسألتين ، لأنّ ما وعده الإمام عليه‌السلام من الثواب على العمل في مورد هذه الروايات وإن كان هو صورة سماع الثواب أو بلوغه ، إلّا أنّ المتأمّل في الروايات يقطع بكون ترتّب الثواب الموعود على العمل من جهة إتيان المكلّف به ، لاحتمال حسنه في الواقع ومحبوبيّته عند الشارع من دون مدخليّة لبلوغ الثواب من حيث هو في ذلك. وحينئذ تندرج الإعادة والقضاء فيما نحن فيه في ذلك ، بل يندرج فيه كلّ فعل يحتمل رجحان في الواقع وإن لم يرد ذلك بطريق أخبار الآحاد ، فيندرج فيه جميع الأقسام السبعة المتقدّمة في صدر المبحث. بل تمكن دعوى شمول البلوغ والسماع في هذه الأخبار لفتوى الفقيه ، فيشمل ما نحن فيه بالمنطوق لا بالملازمة ، لفتوى الفقهاء بالاستحباب فيه أيضا.

هذا كلّه في ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة ، مع عدم ورود خبر

والظاهر ترتّب الثواب عليه إذا اتي به لداعي احتمال المحبوبيّة ؛ لأنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، والحكم بالثواب هنا أولى من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم ، بناء على أنّه (*) في حكم المعصية وإن لم يفعل محرّما واقعيّا.

وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان : أقواهما العدم (١٣٣٦) ؛ لأنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرّب المتوقّفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (**) كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة. وما ذكرنا من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلّق الأمر به ، بل هو لأجل كونه انقيادا للشارع والعبد معه في حكم المطيع ، بل لا يسمّى ذلك ثوابا.

______________________________________________________

ضعيف أو فتوى فقيه بالوجوب. وأمّا إذا كان احتمال الوجوب ناشئا من أحدهما فلا مناص من الحكم بالاستحباب ، لأخبار التسامح ، بناء على شمولها لفتوى الفقيه أيضا. وللمصنّف قدس‌سره في ذلك رسالة مفردة ، مشتملة على تحقيقات رشيقة ، ورموز وإشارات دقيقة ، لم يسبق عليه بمثلها أحد فيما أعلم ، ولله درّه ، لأنّه في جميع مصنّفاته قد أفاد وأجاد ، وأتى بما فوق المراد ، شكّر الله سعيه ، وطيّب رمسه ، وجزاه الله عنّا كلّ الجزاء. وإنّي أورد تلك الرسالة في هذه التعليقة بعد الفراغ ممّا يتعلّق بشرح كلامه في هذا التنبيه ، لأنّه ما أجمله في المقام ـ من تقرير أسئلة ، وتحرير أجوبة ، ومنع اعتراضات ، ودفع شبهات ـ قد كشف الحجاب هناك عن تفصيلها ، ودفع الستر عن مستورها ، فمن أراد أن يصدع الحقّ فعليه بمراجعتها.

١٣٣٦. هذا بحسب الدليل في بادئ النظر ، وإلّا فالذي استقرّ عليه رأيه في آخر كلامه هو الوجه الثاني.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «أنّه» ، أنّها.

(**) في بعض النسخ زيادة : أو الظنّ المعتبر.

ودعوى : أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الإتيان ثبت بحكم الملازمة الأمر به شرعا. مدفوعة ؛ لما تقدّم في المطلب الأوّل من أنّ الأمر الشرعيّ بهذا النحو من الانقياد ـ كأمره بالانقياد الحقيقي والإطاعة الواقعيّة في معلوم التكليف ـ إرشادي محض ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الإرشاديّة ، فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة ، كما أنّ إطاعة الأوامر المتحقّقة لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (٦).

ويحتمل الجريان بناء على أنّ هذا المقدار من الحسن العقلي يكفي في العبادة ومنع توقّفها على ورود أمر بها ، بل يكفي الإتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا ؛ ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة والفتاوى النادرة. واستدلّ في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعيّة قضاء الصلوات لمجرّد احتمال خلل فيها موهوم بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ.) (٧)

والتحقيق أنّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة ولو إجمالا ، فهو ، وإلّا فما أورده قدس‌سره في الذكرى كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحّتها ؛ لأنّ موضوع التقوى والاحتياط الذي يتوقّف عليه هذه الأوامر لا يتحقّق إلّا بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب ؛ وإلّا لم يكن احتياطا ؛ فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ للقربة المنويّة فيها.

اللهمّ إلّا أن يقال ـ بعد النقض بورود هذا الإيراد في الأوامر الواقعيّة بالعبادات مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٨) ؛ حيث إنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا ، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيها ـ : إنّ المراد من الاحتياط والاتّقاء في هذه الأوامر هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما

يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل ، وحينئذ : فيقصد المكلّف فيه التقرّب بإطاعة هذا الأمر.

ومن هنا يتّجه (١٣٣٧) الفتوى باستحباب هذا الفعل وإن لم يعلم المقلّد كون هذا الفعل ممّا شكّ في كونها عبادة ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة ؛ ولو اريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقي وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبيّة ، لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلّا مع التقييد بإتيانه بداعي الاحتمال حتّى يصدق عليه عنوان الاحتياط ، مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه (١٣٣٨). فعلم أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي.

قاعدة التسامح في أدلّة السنن : ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط وكلفة إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون الإرشاد العقلي ؛ لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (٩). وعن البحار بعد ذكرها : أنّ هذا الخبر من المشهورات ، رواه العامّة والخاصّة بأسانيد. والظاهر : أنّ المراد من «شيء من الثواب» ـ بقرينة ضمير «فعمله» وإضافة الأجر إليه ـ هو الفعل المشتمل على الثواب. وفي عدّة الداعي عن

______________________________________________________

١٣٣٧. لفرض تعلّق الأمر بالإتيان بجميع ما يعتبر في العبادة ما عدا قصد القربة ، فيثبت به استحباب الفعل شرعا ، وتقصد القربة بامتثال هذا الأمر دون الأمر المحتمل الواقعي ، ليعتبر في تحقّق امتثاله علم المقلّد بكونه ممّا شكّ في كونه عبادة ، وإتيانه به بداعي احتمال المحبوبيّة ، لعدم مدخليّة شيء منهما في تحقّق موضوع الاحتياط بالمعنى المذكور الذي هو متعلّق الأمر.

١٣٣٨. لإفتائهم في موارد هذه المسألة بالاستحباب من دون تقييد.

الكليني قدس‌سره : أنّه روى بطرقه عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّه : «من بلغه شيء من الخير فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما بلغه» (١٠). وأرسل نحوه السيّد في الإقبال عن الصادق عليه‌السلام ، إلّا أنّ فيه : «كان له ذلك».

والأخبار الواردة في هذا الباب (١٣٣٩) كثيرة ، إلّا أنّ ما ذكرناه أوضح دلالة على ما نحن فيه ، وإن كان يورد عليه أيضا تارة بأنّ ثبوت (١٣٤٠) الأجر

______________________________________________________

١٣٣٩. سيأتي في الرسالة الموعودة ـ مضافا إلى ما نقله المصنّف رحمه‌الله هنا ـ أخبار خمسة أخر ، ولكن لم يعلم وجه كون ما نقله هنا أوضح دلالة منها.

وكيف كان ، فهذه الأخبار هي العمدة عندهم في إثبات جواز التسامح في أدلّة السنن. ومرادهم بالتسامح فيها عدم اشتراطهم فيها ما اشترطوه في أدلّة التكاليف الإلزاميّة من الوجوب والحرمة. استنادا فيه إلى دليل معتبر ، وهي الأخبار المذكورة. فلا يرد حينئذ أنّ المثبت للاستحباب إن كان دليلا ضعيفا فلا وجه للاستناد إليه ، لأنّ إثبات الاستحباب والكراهة ـ كإثبات الوجوب والحرمة ـ محتاج إلى دليل معتبر ، لاشتراك الجميع في كونها من الأحكام التوقيفيّة الشرعيّة. وإن كان دليلا معتبرا فلا مورد للتسامح حينئذ.

ثمّ إنّه يمكن أن يورد على الأخبار المذكورة ـ مضافا إلى ما أورده هنا وفي الرسالة الآتية ـ أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام في رواية صفوان الآتية في الرسالة : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير» كون البالغ هو أصل الثواب مع العلم بكون الموعود عليه الثواب خيرا ، فلا يشمل ما شكّ في أصل خيريّته ، يعني : في أصل شرعيّته ، سواء كان البالغ هو ذلك أو هو مع الثواب.

وفيه : ـ مع إطلاق غيرها وعدم الدليل على التقييد في المقام ـ أنّه يحتمل أن يراد منها بلوغ كلّ من الثواب والخيريّة ، لا الأوّل بعد العلم بالثاني. ويؤيده عمل العلماء وفهمهم ، فتدبّر.

١٣٤٠. هذا هو الإيراد الخامس الآتي في الرسالة الآتية.

لا يدلّ على الاستحباب (١٣٤١) الشرعيّ ، واخرى بما تقدّم في أوامر الاحتياط من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يجوز أن تكون هي المصحّحة لفعله ، فيختصّ موردها (١٣٤٢) بصورة تحقّق الاستحباب ، وكون البالغ هو الثواب الخاصّ ، فهو التسامح فيه دون أصل شرعيّة الفعل. وثالثة : بظهورها (١٣٤٣) فيما بلغ فيه الثواب المحض ، لا العقاب محضا أو مع الثواب. لكن يردّ هذا منع الظهور مع إطلاق الخبر (١٣٤٤) ، ويردّ ما قبله ما تقدّم

______________________________________________________

١٣٤١. لعدم الملازمة بينهما ، لجواز كون الثواب على الإطاعة الحكميّة ، كما سيشير إليه.

١٣٤٢. هذا تقرير آخر للإيراد الثاني من الإيرادات التي أوردها في الرسالة الآتية ، إلّا أنّه استند هنا في الحمل على صورة تحقّق الاستحباب إلى لزوم الإشكال الذي ذكره على تقدير كون المراد بلوغ أصل الاستحباب ، وهناك إلى ظواهر الأخبار. ولعلّ الوجه فيه ظاهر تنكير لفظ «شيء» في قوله : «شيء من الثواب» في الصحيحة ، وكذا تنكير لفظ «ثواب» في جملة اخرى. وقد أجاب عن الأوّل هنا ، وعن الثاني هناك ، فراجع.

١٣٤٣. لأنّ الخبر الضعيف قد يتضمّن استحباب فعل ، وقد يتضمّن وجوبه التوصّلي ، وقد يتضمّن وجوبه التعبّدي. والأوّل مستلزم للإخبار عن الثواب المحض. والثاني عن العقاب المحض ، لعدم ترتّب الثواب على الواجبات التوصّلية ما لم يقصد امتثال الأمر المتعلّق بها. والثالث عن كلّ منهما. والأخبار المذكورة حيث كان ظاهرها صورة الإخبار عن الثواب المحض فلا تشمل الأخيرين ، وهو خلاف ظاهر أهل التسامح ويمكن أن يمثّل أيضا للأوّل بما تضمّن استحباب فعل مع الوعد عليه ، وللثاني بما تضمّن وجوبه مع الوعيد على تركه ، وللثالث بذلك أيضا مع الوعد على فعله.

١٣٤٤. قد أوضحه في الرسالة الآتية ، فراجع.

في أوامر (١٣٤٥) الاحتياط.

وأمّا الإيراد الأوّل ، فالإنصاف أنّه لا يخلو (١٣٤٦) عن وجه ؛ لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل ويؤيّده : تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتماس الثواب الموعود ، ومن المعلوم أنّ العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل (١٣٤٧) المدح والثواب ، وحينئذ : فإنّ كان الثابت بهذه الأخبار أصل الثواب (١٣٤٨) كانت مؤكّدة لحكم العقل بالاستحقاق ، وأمّا طلب الشارع لهذا الفعل : فإن كان على وجه الإرشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود فهو لازم للاستحقاق المذكور ، وهو عين

______________________________________________________

١٣٤٥. من كون المقصود من الاحتياط المأمور به الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي. فإن قلت : إنّ أخبار التسامح ما بين صريح وظاهر في اعتبار كون العمل بداعي بلوغ الثواب ، فكيف لا يعتبر ذلك في صحّة العمل وترتّب الثواب الموعود عليه؟

قلت : لعلّ المراد بها كون بلوغ الثواب داعيا إلى العمل وباعثا له لا معتبرا في النيّة ، ولا ريب في عدم مدخليّة دواعي الفعل في صحّته وما يترتّب عليه من الثواب. مع أنّ الظهور المذكور ناش من أخذ الفاء في قوله «فصنعه» أو «فعمله» للتفريع ، ويحتمل أن يكون لمجرّد العطف ، فلا يدلّ على تفرّع العمل على بلوغ الثواب ، حتّى يدّعى ظهور ذلك في اعتبار تقييد العمل بالداعي المذكور ، فتدبّر.

١٣٤٦. سيأتي في الرسالة الآتية ما يوضح ورود الإيراد على تقدير كون الفاء للتفريع ، واندفاعه على تقدير كونه للعطف.

١٣٤٧. لأجل الانقياد والإطاعة الحكميّة.

١٣٤٨. يعني : مطلقا لا الثواب الخاصّ. وحاصله : أنّ المراد بالثواب الموعود إن كان مطلقه ، يؤكّد ذلك حكم العقل بحسن الإتيان بالفعل بداعي احتمال محبوبيّته عند الشارع ، واستحقاق الفاعل لذلك للثواب في الجملة. وأمّا أمر الشارع

الأمر بالاحتياط. وإن كان على وجه الطلب الشرعيّ المعبّر عنه بالاستحباب ، فهو غير لازم للحكم بتنجّز الثواب ؛ لأنّ هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجّزه فيشبه قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي) (١١) ، إلّا أنّ هذا وعد على الإطاعة الحقيقيّة ، وما نحن فيه وعد على الإطاعة الحكميّة ، وهو الفعل الذي يعدّ معه العبد في حكم المطيع ، فهو من باب وعد الثواب على نيّة الخير التي يعدّ معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ استفادة الاستحباب الشرعيّ فيما نحن فيه نظير استفادة الاستحباب الشرعيّ من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل ، مثل قوله عليه‌السلام : «من سرّح لحيته فله كذا» ، فمدفوع بأنّ الاستفادة هناك باعتبار أنّ ترتّب الثواب لا يكون إلّا مع الإطاعة حقيقة أو حكما ، فمرجع تلك الأخبار (١٣٤٩) إلى بيان الثواب على إطاعة الله سبحانه بهذا الفعل ، فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع ، فالثواب هناك لازم للأمر يستدلّ به عليه استدلالا إنيّا. ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم ممّا اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل.

______________________________________________________

بهذا الفعل لتحصيل هذا الثواب ، فإن كان للإرشاد يوافق حكم العقل بحسن الاحتياط ، والإتيان بالفعل على الوجه المذكور. وإن كان على وجه الطلب الشرعيّ المعبّر عنه بالاستحباب كما هو المدّعى ، فتنجّز الثواب الموعود المذكور لا يصحّ أن يكون غاية لهذا الأمر ، لعدم كونه من لوازم تنجّزه ، لأنّ الفرض تنجّزه بحكم العقل وإن لم يكن هنا طلب شرعيّ. نعم ، تنجّزه عقلي لازم الحكم العقل بحسن الاحتياط ، فلا يصحّ أن يكون غاية للطلب الشرعيّ.

١٣٤٩. حاصل الفرق بين هذه الأخبار وما نحن فيه : أنّ الثواب الموعود في هذه الأخبار هو الثواب المترتّب على نفس الفعل من حيث هو ، وهو مستلزم لكون الفعل من حيث هو مأمورا به وجوبا أو استحبابا ، فيكون الثواب حينئذ مترتّبا على الإطاعة الحقيقيّة ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الثواب فيه مترتّب على

وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الإطاعة الحكميّة ، فهو لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر آخر أصلا ، فلا يدلّ على طلب شرعيّ آخر له. نعم ، يلزم من الوعد على الثواب طلب إرشادي لتحصيل ذلك الموعود. فالغرض من هذه الأوامر كأوامر الاحتياط تأييد حكم العقل والترغيب في تحصيل ما وعد الله عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين.

وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها (١٣٥٠) ، فهو وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل ـ بناء على أنّ العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعي إلى الفعل ، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقّه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء والعوض ـ ، إلّا أنّ مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضّل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وهو أيضا ليس لازما لأمر شرعيّ هو الموجب لهذا الثواب ، بل هو نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١٢) ملزوم لأمر إرشادي يستقلّ به العقل بتحصيل ذلك الثواب المضاعف. والحاصل : أنّه كان ينبغي (١٣٥١) للمتوهّم أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نيّة الخير ، لا على ما ورد من الثواب في بيان المستحبّات.

______________________________________________________

الإتيان بالفعل بداعي كونه ممّا يثاب عليه ، كما هو ظاهر أخبار التسامح ، فيكون الثواب مترتّبا على الإطاعة الحكميّة وهو لا يستلزم الاستحباب الشرعيّ ، بخلاف الأوّل. وإن شئت قلت : إنّ المراد بالثواب الموعود في تلك الأخبار هو الثواب المصطلح الذي لا يترتّب إلّا على الإطاعة الحقيقيّة ، وفي هذه الأخبار هو التفضّل المجامع للإطاعة الحكميّة.

١٣٥٠. مثل قوله عليه‌السلام : «كان له من الثواب ما بلغه».

١٣٥١. لا يخفى ما في العبارة ، لأنّ هذا ليس حاصلا للشقّ الثاني من الترديد ولا الشقّين معا ، بل هو حاصل لما أجاب به عن التوهّم المذكور في الشقّ الأوّل.

ثمّ إنّ الثمرة بين ما ذكرنا (١٣٥٢) وبين الاستحباب الشرعيّ تظهر في ترتّب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستحبّات الشرعيّة ، مثل ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا ؛ فإنّ مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجب إلّا استحقاق الثواب عليه ، ولا يترتّب عليه رفع الحدث ، فتأمّل (١٣٥٣).

وكذا الحكم باستحباب (١٣٥٤) غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرّد الاحتياط ، لا يسوّغ جواز المسح ببلله ، بل يحتمل قويّا أن يمنع من المسح ببلله وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا ، فافهم.

______________________________________________________

١٣٥٢. يعني مع تسليم ترتّب الثواب الموعود على التقديرين. وربّما يتوهّم هنا وجود ثمرة اخرى أيضا ، وهي جواز الإفتاء بالاستحباب على القول به ، بخلافه على القول بحمل الأخبار المذكورة على الإرشاد وتأكيد حكم العقل ، لعدم جواز الإفتاء حينئذ لمقلّده فيما ورد خبر ضعيف على استحباب فعل بجواز فعله إلّا بعد بيان مدلول الخبر له ، وإرشاده إلى الإتيان بالفعل بداعي بلوغ الثواب.

وفيه : أنّه على تقدير حمل الأخبار المذكورة على بيان حكم العقل بحسن الاحتياط ، فقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله عدم اعتبار الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر أو الثواب عند بيان الاحتياط في العبادات ، وأشار إليه عند الجواب عن الإيراد الثاني ، وقد أسلفنا هناك ما تتبصّر بملاحظته هنا.

١٣٥٣. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان منع كون كلّ وضوء مستحبّ شرعا رافعا للحدث ، ولذا قد تخلّف عنه كثيرا ، كاستحبابه للحائض وجماع المحتلم ونحوهما. ولكنّ الذي اختاره المصنّف رحمه‌الله في الفقه كون ارتفاع الحدث الأصغر لازما لطبيعة الوضوء في محلّ قابل له. والمسألة محلّ خلاف ، وتفصيلها محرّر في الفقه.

١٣٥٤. قال المصنّف رحمه‌الله في كتاب الطهارة عند شرح قول المحقّق : «ولو جفّ ما على يده أخذ من لحيته وأشفار عينه» : إنّ إطلاق اللحية في كلام المصنّف رحمه‌الله وغيره تبعا للنصوص ، من غير تقييد بظاهر ما كان في حدّ الوجه ، يحتمل أن يكون من جهة كون تخلّل باطن اللحية وغسل المسترسل منها مستحبّا.

.................................................................................................

______________________________________________________

ويحتمل أن يكون المراد منها خصوص ما تقدّم في غسل الوجه الذي يجب غسله. ويحتمل أن يراد جواز الأخذ منها وإن لم يكن غسل الزائد واجبا ولا مستحبّا ، لعدّه عرفا من الماء المستعمل في الوضوء ما لم ينفصل عن المحلّ العرفي للغسل ولو باعتبار جزئه. بل يحتمل المسح بالماء المستعمل لأصل الوضوء ولو من باب المقدّمة الوجوديّة أو العلميّة ، فيؤخذ من جزء الرأس الذي غسل مقدّمة ، ومن المواضع المشكوكة المحكوم بوجوب غسلها بقاعدة الاحتياط ، بل ومن المواضع التي حكم باستحباب غسلها بمجرّد خبر ضعيف أو فتوى فقيه تسامحا ، لأنّه يكون من أجزاء الفرد المندوب باعتبار اشتماله على هذا الجزء. لكن في جميع ذلك نظر ، بل لا يبعد وجوب الاقتصار على ما ثبت بالدليل كونه من مواضع الغسل أصالة» انتهى.

ومنه يظهر أنّ الوجه في جواز المسح ببلل المسترسل من اللّحية أمران : أحدهما : استحباب غسله في الوضوء ، فيكون جزء فرد منه ، فيصدق على بلله الماء المستعمل في الوضوء. وثانيهما : صدق ذلك عليه عرفا ، وإن لم يجب ولم يستحبّ غسله فيه.

ولعلّ وجه النظر فيهما ـ بعد أصالة عدم حصول الطهارة بذلك ـ أنّ ظاهر الأخبار الواردة في المقام اعتبار كون المسح بنداوة الوضوء ، مثل ما رواه المفيد في إرشاده عن محمّد بن إسماعيل ، عن محمّد بن الفضل ، عن عليّ بن يقطين ، وفيه بعد أمر عليّ بن يقطين بالوضوء على وجه التقيّة ، وفعل ابن يقطين كما أمره عليه‌السلام ، وصلاح حاله عند الرشيد ، كتاب عليه‌السلام إليه : «يا عليّ توضّأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرّة واحدة فريضة واخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين ، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنّا نخاف عليك». ولا ريب في عدم صدق ذلك على الوجه الثاني ، إذ النداوة هو البلل ، فإذا أضيفت إلى الوضوء فهي ظاهرة في إرادة البلل الباقي على أعضاء الوضوء ، فلا يشمل مطلق الماء المستعمل في الوضوء ، ولذا لا يشمل ما انفصل عنها

.................................................................................................

______________________________________________________

واجتمع في إناء أو محلّ آخر.

ومن هنا يظهر عدم صدقه على الوجه الأوّل أيضا ، وذلك لأنّ المصنّف رحمه‌الله في كتاب الطهارة بعد أن حكى استحباب غسل المسترسل من اللحية عن الإسكافي قال : «ولعلّه لقوله عليه‌السلام في بعض الوضوءات : «وأسدله على أطراف لحيته» وإطلاق الأخبار الآمرة بأخذ الماء من اللحية عند الجفاف. مضافا إلى التسامح في أدلّة السنن». ثمّ قال : «لكن لا يثبت بذلك كون مائه ماء الوضوء حتّى يجوز المسح به ، فإنّه وإن ثبت استحباب الهيئة المركّبة من سائر الأفعال وغسل المسترسل ، إلّا أنّه لا يثبت كون غسله من أجزاء الوضوء ، وصيرورته أفضل فردي الوضوء باعتبار اشتماله على هذا الفعل لا باعتبار تركّبه منه ومن غيره ، فهو قيد لا جزء ، والتقييد داخل ، والقيد خارج» انتهى.

وحاصله : أنّ استحباب غسل المسترسل في الوضوء لا يثبت كونه جزءا منه ، لاحتمال كونه قيدا لكمال الوضوء لا جزءا مستحبّا منه. والفرق بينهما هو الفرق بين المقيّد والمركّب.

وممّا ذكرناه ظهر الوجه فيما قوّاه في المتن من المنع من المسح ببلله وإن قلنا بكونه مستحبّا شرعيّا. ولكنّك خبير بأنّ ظاهر اعتبار شيء في مركّب كونه جزءا منه [لا](*) قيدا له.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على كون مفاد أخبار التسامح هو الاستحباب الشرعيّ دون تأكيد حكم العقل بوجوه :

أحدها : أنّ حملها مع كثرتها على ذلك بعيد جدّا.

الثاني : أنّ أكثر هذه الأخبار مطلقات لا دلالة فيها على اعتبار كون إتيان الفعل بداعي إدراك الثواب البالغ ، وما وقع فيه التقييد بذلك مجمل ، لاحتمال كون المراد به بيان كونه الداعي إلى العمل والمحرّك للمكلّف إليه ، لا اعتبار ذلك في كيفيّة

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعنى.

.................................................................................................

______________________________________________________

الامتثال ، بأن يكون غاية مقصوده من الفعل ، والفرق بينهما واضح.

الثالث : أنّ ظاهرها استحقاق الثواب بالعمل ، فلو حملت على بيان حكم العقل وتأكيده لا يكون ترتّب الثواب على وجه الاستحقاق ، بل على وجه التفضّل من الله سبحانه ، لكون العبد معه في حكم المطيع والمنقاد.

الرابع : فهم الفقهاء ، لحكمهم بالاستحباب الشرعيّ لأجلها ، وهم من أهل اللسان.

الخامس : أنّ ظاهر بعضها ـ كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله ـ هو استحقاق خصوص الثواب البالغ لا مطلقه ، والعقل لا يستقلّ به ، وحمله على التفضّل أيضا خلاف الظاهر.

ثمّ إنّا وعدناك في بعض الحواشي السابقة نقل رسالة مفردة في التسامح في أدلّة السنن للمصنّف قدس‌سره وطيّب رمسه ، وهي :

بسم الله الرّحمن الرّحيم. المشهور بين أصحابنا والعامّة التسامح في أدلّة السنن ، بمعنى عدم اعتبار ما ذكروه من الشروط للعمل بأخبار الآحاد ، من الإسلام والعدالة والضبط في الروايات الدالّة على السنن فعلا أو تركا. وعن الذكرى : أنّ أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم. وفي عدّة الداعي بعد نقل الروايات الآتية قالك «فصار هذا المعنى مجمعا عليه بين الفريقين». وعن الأربعين لشيخنا البهائي نسبته إلى فقهائنا. وعن الوسائل نسبته إلى أصحابنا ، مصرّحا بشمول المسألة لأدلّة المكروهات أيضا. وعن بعض الأجلّة نسبته إلى العلماء المحقّقين ، خلافا للمحكيّ عن موضعين من المنتهى وصاحب المدارك في أوائل كتابه. قال بعد ذكر جملة من الوضوءات المستحبّة وذكر ضعف سندها ما لفظه : «وما يقال من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها منظور فيه ، لأنّ الاستحباب حكم شرعيّ» انتهى. وحاصل هذا يرجع إلى التمسّك بأصالة العدم إلى أن يثبت الدليل المعتبر شرعا. ويؤكّدها ما دلّ على حرمة العمل بما وراء العلم.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأنت خبير بأنّه يخرج عن الأصل والعمومات بأدلّة القول الأوّل ، وهي وجوه :

الأوّل : الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة ، بل الاتّفاق المحقّق ، فإنّ الظاهر من صاحب المدارك في باب الصلاة الرجوع عمّا ذكره في أوّل الطهارة. وهو المحكيّ أيضا عن ظاهر العلّامة أعلى الله مقامه.

الثاني : ما ذكره جماعة تبعا للوحيد البهبهاني من حسن الاحتياط الثابت بالسنّة والإجماع والعقل. والاعتراض عليه بمنع صدق الاحتياط في المقام ، بناء على اختصاصه بالتجنّب عن محتمل الضرر ، مدفوع أوّلا بظهور صدق الاحتياط ، بناء على ما فسّروه بأنّه الأخذ بالأوثق. وثانيا : بأنّ الإقدام على محتمل المنفعة ومأمون المضرّة عنوان لا ريب في حسنه. ولا فرق عند العقل بينه وبين الاحتراز عن محتمل الضرر ، فلا يتوقّف حسنه على صدق الاحتياط عليه.

وأضعف من هذا الاعتراض باستلزامه للتشريع المحرّم ، وأنّ ترك السنّة أولى من فعل البدعة. توضيح الضعف ـ مع وضوحه ـ أنّ التشريع هو أن تنسب إلى الشرع شيئا علم أنّه ليس منه أو لم يعلم كونه منه ، لا أن تفعل شيئا لاحتمال أن يكون فعله مطلوبا في الشرع ، أو تتركه لاحتمال أن يكون تركه كذلك ، فإنّه أمر مطلوب يشهد به العقل والنقل. مع أنّ التشريع حرام بالأدلّة الأربعة ، وقد يوجب الكفر.

نعم ، يرد على هذا الوجه أنّ الإقدام على الفعل المذكور إنّما يحسّنه العقل إذا كان الداعي عليه احتمال المحبوبيّة ، وقصد المكلّف إحراز مطلوبات المولى إخلاصا أو رجاء الثواب طمعا ، ولا كلام لأحد في ذلك ، فإنّه ممّا يستقلّ به العقل ضرورة ، إنّما الكلام في استحباب نفس الفعل المذكور على حدّ سائر المستحبّات ، حتّى يكون الداعي للمكلّف على فعله هو هذا الاستحباب القطعي الذي ثبت من أدلّة التسامح. فالقائل بالتسامح يقول : إذا ورد رواية ضعيفة في استحباب وضوء

.................................................................................................

______________________________________________________

الحائض مثلا فلها أن تتوضّأ بقصد القربة المتحقّقة المجزوم بها ، لا أنّ لها أن تتوضّأ لاحتمال كون الوضوء مقرّبا في حقّها ومطلوبا منها. ولا يخفى أنّ نيّة القربة على وجه الجزم تتوقّف على تحقّق الأمر ، والمفروض عدم تحقّقه. وأمّا الأمر العقلي بحسن الاحتياط إنّما يرد على موضوع الاحتياط الذي لا يتحقّق إلّا بعد كون الداعي على الإقدام هو احتمال المحبوبيّة ، لا مجرّد فعل محتمل المحبوبيّة ، فلا يمكن أن يكون نفس هذا الأمر العقلي القطعي داعيا على الإقدام المذكور.

ومنه يظهر أنّه لو فرض ورود الأمر الشرعيّ على هذا الفعل مطابقا لحكم العقل ومؤكّدا له ، فلا يعقل أن يصير داعيا إلى الفعل ، بل الداعي هو الاحتمال المذكور ، وهو الذي يدعو إلى الفعل لو أغمض الفاعل عن ثبوت حسنه والأمر به ، واستحقاق الثواب المنجّز عليه عقلا وشرعا. وأيضا فإنّ حكم العقل باستحقاق هذا الفاعل الثواب ثابت ولو في صورة فرض عدم التفات الفاعل إلى ورود الأمر الشرعيّ به ، فتبيّن أنّ الأمر الشرعيّ الوارد على فعل الاحتياط من حيث هو احتياط ليس داعيا للفاعل إلى الاحتياط ، ولا منشأ لاستحقاق الثواب.

والسرّ فيه أنّ الاحتياط في الحقيقة راجع إلى ضرب من الإطاعة ، فهي إطاعة احتماليّة ، فكما أنّ الإطاعة العلميّة المحقّقة بإتيان الشيء ـ لأنّه مأمور به هي بنفسها ـ حسنة موجبة لاستحقاق الثواب من غير التفات واحتياج إلى قول الشارع :

أطعني في أوامري ، ولو فرض أنّه قال ذلك فالثواب ليس بإزاء هذا الأمر ومن جهته ، فكذلك الإطاعة الاحتماليّة المحقّقة بإتيان الشيء ـ لاحتمال كونه مأمورا به ـ هي بنفسها موجبة لاستحقاق الثواب ، ولا يحتاج إلى ورود الأمر بها من الشارع ، ولو ورد فليس الثواب لموافقة هذا الأمر.

نعم ، لو فرض ورود أمر شرعيّ لا على وجه الموضوع الذي حسّنه العقل وحكم باستحقاق الثواب عليه ، وهو الاحتياط من حيث هو احتياط ، بل على مجرّد ما يحتمل استحبابه مطلقا ، أو من جهة بلوغه إليه بخبر محتمل الصدق ، بحيث يكون

.................................................................................................

______________________________________________________

إدراك المطلوبات الواقعيّة وإحرازها داعيا للآمر إلى أمره لا للمأمور إلى فعله ، فهو المثبت لما راموه من التسامح. وهذا المعنى مستفاد من بعض الأخبار الآتية الأول ، مع احتمال كون مساق جميعها مساق الاحتياط.

فحاصل الفرق بين قاعدة التسامح وقاعدة الاحتياط أنّ إدراك المطلوب الواقعي والوصول إليه في الاولى داع للآمر إلى أمره ، وفي الثانية داع للمأمور إلى فعله. وأيضا فالموجب للثواب في الاولى هو الأمر القطعي الوارد بالتسامح ، بخلاف الثانية ، فإنّ الموجب للثواب هو نفس الاحتياط دون الأمر الوارد به. وأيضا ما احتمل الحرمة لا يمكن جريان القاعدة الثانية فيه ، لعدم تحقّق عنوان الاحتياط معه ، بخلاف الاولى. وسيأتي ثمرات اخرى للقاعدتين في فروع المسألة إن شاء الله تعالى.

الثالث : الأخبار المستفيضة التي لا يبعد دعوى تواترها معنى. منها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله». ومنها : حسنة اخرى كالصحيحة له عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا قال : «من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له ، وإن لم يكن كما بلغه». ومنها المرويّ عن صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك ، وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفعله». ومنها : خبر محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمل ذلك طلب قول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله». ومنها خبر آخر لمحمّد بن مروان قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من بلغه ثواب من الله على عمل ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه ، وإن لم يكن الحديث كما بلغه». ومنها : المحكيّ عن ابن طاوس في الإقبال أنّه روي عن الصادق عليه‌السلام قال : «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان ذلك له ، وإن لم يكن الأمر كما بلغه».

ومن طريق العامّة ما عن عبد الرحمن الحلواني أنّه رفع إلى جابر بن عبد الله

.................................................................................................

______________________________________________________

الأنصاري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بلغه من الله فضيلة فأخذ بها وعمل بها إيمانا بالله ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك» : وهذه الأخبار مع صحّة بعضها غنيّة عن ملاحظة سندها ، لتعاضدها وتلقّيها بالقبول بين الفحول.

نعم ، ربّما اعترض عليها من غير جهة السند بوجوه :

منها : أنّ هذه الأخبار لا تخرج عن أخبار الآحاد ، فلا تكون حجّة في المسألة. والجواب عنه تارة بمنع كونها آحادا ، بل هي إمّا متواترة أو محفوفة بالقرينة ، لما عرفت من تحقّق الاتّفاق ، واستفاضة نقله على مضمونها. واخرى بمنع عدم جواز العمل بالآحاد في الاصول العمليّة ، وإنّما هي ممنوعة العمل في اصول الدين.

وقد أجاب عنه بعض مشايخنا المعاصرين قدس‌سرهم بمنع كون المسألة اصوليّة ، لأنّ الكلام ليس في حجّية الخبر الضعيف في المستحبّات ، بل هو غير حجّة وغير معتنى به مطلقا ، ولا يجوز الركون إليه في حكم من الأحكام. وإنّما الكلام في مسألة فرعيّة ، وهي استحباب كلّ فعل بلغ الثواب عليه. فالخبر الضعيف ليس دليلا على الحكم ، وإنّما هو محقّق لموضوعه ، نظير يد المسلم واحتمال طهارة ما لم يعلم نجاسته ، فكما أنّ الدليل في ملكيّة كلّ ما في يد المسلم وطهارة مجهول النجاسة نفس أدلّة اليد وأصالة الطهارة ، فكذا الدليل فيما نحن فيه على استحباب الفعل هذه الأخبار الصحيحة ، لا الخبر الضعيف لتكون هذه الأخبار أدلّة حجيّة الخبر الضعيف.

أقول : وهذا الكلام لا يخلو عن مناقشة بل منع. أمّا أوّلا : فلأنّه مخالف لعنوان المسألة في معقد الشهرة والإجماعات المحكيّة بقولهم : يتسامح في أدلّة السنن ، فإنّ الظاهر منه العمل بالخبر الضعيف في السنن ، وهكذا قولهم في الفقه : يستحبّ كذا للرواية الفلانيّة ، فيريدون الاستحباب الواقعي الذي هو مدلول الرواية الضعيفة. وقد تراهم يحسبون مستحبّات كثيرة كالوضوءات والأفعال المستحبّة ، مع أنّ بعضها ثابت بالروايات الضعيفة ، والحال أنّ التأمّل في كلماتهم في الاصول والفقه يوجب

.................................................................................................

______________________________________________________

القطع بإرادة حجيّة الخبر الضعيف في المستحبّات.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكر في التعبير عن المسألة باستحباب كلّ فعل دلّ على استحبابه خبر ضعيف عبارة اخرى عن حجيّة الضعيف في المستحبّات. ويجوز مثل هذا التعبير في حجيّة الخبر الصحيح أيضا ، بأن يقال : الكلام فيه في وجوب كلّ فعل دلّ الخبر الصحيح على وجوبه ، واستحباب كلّ فعل دلّ الخبر باستحبابه ، وكذا الحرمة والكراهة والإباحة ، وكذا الأحكام الوضعيّة بناء على كونها أحكاما مستقلّة ، كما استدلّوا على حجّية خبر الواحد بأنّ في ترك الفعل الذي أخبر بوجوبه مظنّة الضرر ، ويجب دفع الضرر المظنون.

وحاصل هذا يرجع إلى أنّه يجب عقلا كلّ فعل أخبر بوجوبه ، ويحرم كلّ ما أخبر بحرمته ، بل إذا تأمّلت في سائر أدلّة وجوب العمل بالخبر لا تجدها إلّا دالّة على إنشاء الأحكام الظاهريّة المطابقة لمدلول الخبر لموضوعاتها ، ولا محصّل لجعل الخبر حجّة ومتّبعا إلّا هذا ، فإنّ المراد من تصديق العادل فيما يخبره أو العمل بخبره ليس عقد القلب على صدقه وكونه متّبعا ، بل تطبيق المكلّف عمله ـ أعني : حركاته وسكناته ـ على مدلول الخبر. وهذا المعنى نفسه مجعول في الخبر الضعيف بالنسبة إلى الاستحباب ، أترى أنّ المانع عن التمسّك بالآحاد في المسألة الاصوليّة يتمسّك بخبر الواحد على أنّه يجب كلّ فعل ذهب المشهور إلى وجوبه ، ويستحبّ كلّ ما ذهبوا إلى استحبابه ، ويحرم كلّ ما ذهبوا إلى تحريمه ، ويكره كذلك ، ويباح كذلك ، أو يقول إنّه يتمسّك بخبر الواحد في مسألة حجيّة الشهرة. هذا ، مع أنّك إذا تأمّلت لا تكاد ثمرة في فرع من فروع المسألة بين التعبيرين المذكورين ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلأنّا لو سلّمنا أنّ الكلام ليس في حجيّة الخبر الضعيف ، بناء على أنّ الحجّة من الامور الغير العلميّة عبارة عمّا أمر الشارع باتّباعه وتصديقه ، والبناء على مطابقة مضمونه للواقع ، وأخبار التسامح لم يستفد منها ثبوت هذا الاعتبار للخبر الضعيف ، بل استفيد استحباب فعل قام على استحبابه خبر ضعيف ، نظير

.................................................................................................

______________________________________________________

أدلّة وجوب الاحتياط على القول بوجوبه مطلقا أو في الجملة ، حيث إنّها تدلّ على وجوب كلّ فعل قام فيه احتمال الحرمة أو احتمال كونه هو المكلّف به ، وأدلّة الاستصحاب ، حيث إنّها تدلّ على ثبوت الحكم السابق لكلّ موضوع احتمل فيه بقاء ذلك الحكم. فنظير الخبر الضعيف نظير الاحتمال في مسألتي الاحتياط والاستصحاب في كونه محقّقا لموضوع الحكم الظاهري ، لا علامة ودليلا على الحكم الواقعي.

لكن نقول : إنّ هذا لا ينفع في إخراج المسألة عن الاصول ، غاية الأمر أن يكون نظير مسألتي الاحتياط والاستصحاب. وقد صرّح المحقّق في المعارج في جواب من استدلّ على وجوب الاحتياط بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» بكون مسألة الاحتياط اصوليّة لا تثبت بخبر الواحد. وكذا صرّح المحقّق السبزواري بكون مسألة الاستصحاب اصوليّة ، لا يجوز التمسك فيها بالآحاد. أترى أنّ هذين المحقّقين لم يميّزا بين المسائل الاصوليّة والفروعيّة. نعم ، قد خلط بينهما من قاس مسألتنا بمسألة اعتبار اليد وأصالة الطهارة في الأعيان المشكوكة.

فالتحقيق في الفرق بينهما هو أنّ المسألة الاصوليّة عبارة عن قاعدة يبنى عليها الفقه ، أعني : معرفة الأحكام الكلّية الصادرة عن الشارع ، ومهّدت لذلك. فهي بعد إتقانها وفهمها عموما أو خصوصا مرجع للفقيه في الأحكام الفرعيّة الكلّية ، سواء بحث فيها عن حجّية شيء أم لا. وكلّ قاعدة متعلّقة بالعمل ليست كذلك فهي فرعيّة ، سواء بحث فيها عن حجّية شيء أم لا. ومن خواصّ المسائل الاصوليّة أنّها لا تنفع في العمل ما لم ينضمّ إليها صرف قوّة الاجتهاد واستعمال ملكته ، فلا تفيد المقلّد ، بخلاف المسائل الفرعيّة ، فإنّها إذا أتقنها المجتهد على الوجه الذي استنبطها من الأدلّة جاز إلقائها إلى المقلّد ليعمل بها.

وحينئذ فالبحث عن حجّية خبر الواحد ووجوب الاحتياط والاستصحاب في الأحكام الصادرة عن الشارع مسائل اصوليّة ، لأنّ المجتهد بعد ما أتقنها عموما

.................................................................................................

______________________________________________________

أو خصوصا يرجع إليها في المسائل الفرعيّة. ولا تنفع المقلّد ، لأنّ العمل بها موقوف على ملكة الاجتهاد ، فكيف يمكن للمقلّد أن يعمل بخبر الواحد حيثما وجده مع عدم قوّة له يقتدر بها على فهم مدلول الخبر ، والفحص عن معارضه ، وكيفيّة علاج المعارضة بعد العثور على المعارض؟ وكيف يمكن للمقلّد إيجاب الاحتياط على نفسه ، أو الأخذ بالبراءة في المسائل المشكوكة ، أو الالتزام بالحالة السابقة فيها؟ مع أنّ جميع ذلك موقوف على صرف ملكة الاجتهاد ، واستعمال القوّة القدسيّة في الفحص عن الأدلّة ، وفهم ما يمكن منها أن يردّ على الاصول المذكورة ، ويرفع اليد به عنها ، وذلك واضح.

والحاصل : أنّه لا فرق بين الاصول وبين العمومات اللفظيّة التي هي الأدلّة للأحكام ، في أنّه لا يعمل بها إلّا بعد الفحص. وأمّا البحث عن اعتبار اليد ، وأصالة الطهارة في الأعيان المشكوكة ، وحجّية قول الشاهدين ، فهي مسائل فرعيّة ، فإنّها بعد إتقانها لا يرجع إليها المجتهد عند الشكّ في الأحكام الكلّية ، إذ الثابت بهذه القاعدة الأحكام الجزئيّة الثابتة للجزئيّات الحقيقيّة التي ليس وظيفة الفقيه البحث عنها ، بل هو والمقلّد فيها سواء ، فهي ليست متعلّقة للاجتهاد ولا للتقليد. وأمّا ما يرى من رجوع الفقهاء في الموارد إلى القواعد ، مثل قاعدة اللزوم وقاعدة الصحّة ونحوهما ، فلا يعنون بها الأحكام الفرعيّة المرادة من هذه العمومات ، بل المراد بها نفس العمومات التي هي القابلة للرجوع إليها عند الشكّ.

وأمّا مدلول هذه العمومات والمستنبط منها بعد الاجتهاد والنظر في تلك العمومات ومعارضها وما يصلح أنّ يخصّصها ونحو ذلك ، فهي قاعدة لا تنفع إلّا في العمل ، وينبغي أن يلقى إلى المقلّد ويكتب في رسائل التقليد ، مثلا : إذا لاحظ الفقيه قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) واستنبط قاعدة وجوب الوفاء بكلّ العقود أو ببعضها ، على حسب ما يكشف له ـ بعد ملاحظة المعارضات والمخصّصات ـ أنّه مراد الله تعالى من هذا العموم ، فلا ريب أنّ هذه القاعدة قاعدة عمليّة تلقى إلى

.................................................................................................

______________________________________________________

المقلّد ، ولا يصلح أن يكون مرجعا في مسألة ، وإنّما المرجع في المسألة المشكوك فيها هو العموم الدالّ على هذه القاعدة ، فمعنى الرجوع إلى هذه القاعدة الرجوع إلى عموم ما دلّ عليها. وهذا بخلاف الرجوع إلى قاعدة اليقين أو الاحتياط في مقام الشكّ والتمسّك بخبر الواحد ، فإنّ شيئا من ذلك ليس رجوعا إلى عموم قوله عليه‌السلام : «لا تنقض» ولا بعموم قوله عليه‌السلام : «احتط لدينك» ولا بعموم أدلّة حجيّة خبر الواحد ، إذ لم يقع شكّ في تخصيص هذه العمومات حتّى يرجع إلى عمومها.

فتبيّن أنّ حال قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تنقض اليقين» مثلا حال أدلّة حجيّة خبر الواحد ، في أنّ المجتهد بعد ما فهم مراد الله سبحانه منها عموما أو خصوصا ـ بأن قطع بالمراد منها ـ يصير مرجعا للأحكام الشرعيّة عند الشكّ ، بخلاف (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّ المرجع في الحقيقة أصالة الحقيقة وعدم التخصيص الثابتة في نفس الأدلّة لا في المعنى المراد منها. وإن أبيت إلّا عن أنّ المرجع في موارد الاستصحاب ليس إلّا نفس قوله : عليه‌السلام «لا تنقض اليقين» فهو نفس المرجع لا مدلوله ، منعنا على هذا الوجه كون المرجع في إثبات حكم العقد المشكوك وجوب الوفاء به هي الآية ، لأنّ الشكّ في وجوب الوفاء بهذا العقد الخاصّ راجع إلى الشكّ في شمول الآية. فالدليل في الحقيقة على وجوب الوفاء بما شكّ في شمول الآية له ، هو ما دلّ على وجوب الحكم بالشمول في العمومات اللفظيّة عند الشكّ في خروج بعض الأفراد ، وهذا غير جار في الرجوع إلى «لا تنقض» في موارد الاستصحاب.

فتحصّل أنّ «لا تنقض اليقين أبدا» في مرتبة فوق مرتبة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإن اعتبرت الآية مرجعا كان «لا تنقض الشكّ» مرجعا ، وإن كان «لا تنقض» مرجعا كان دليل اعتبار ظاهر الآية مرجعا في مقام الشكّ لا نفسها. والسرّ في ذلك أنّ الشكّ الموجب للرجوع إلى «لا تنقض» غير الشكّ الموجب للرجوع إلى عموم الآية ، فافهم واغتنم.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك أنّ قاعدة التسامح مسألة اصوليّة ، لأنّها بعد

.................................................................................................

______________________________________________________

إتقانها واستنباط ما هو مراد الشارع منها في قبال الأخبار المتقدّمة فهو شيء يرجع إليه المجتهد في الاستحباب ، وليس ممّا ينفع المقلّد في شيء ، لأنّ العمل بها يحتاج إلى إعمال ملكة الاجتهاد ، وصرف القوّة القدسيّة في استنباط مدلول الخبر ، والفحص عن معارضة الراجح عليه أو المساوي له ، ونحو ذلك ممّا يحتاج إليه العمل بالخبر الصحيح. فهو نظير مسألة حجيّة خبر الواحد ومسائل الاستصحاب والبراءة والاحتياط ، في أنّها يرجع إليها المجتهد ولا ينفع المقلّد ، وإن كانت نفس القاعدة قطعيّة المراد من حيث العموم أو الخصوص.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ إطلاق الرخصة للمقلّدين في قاعدة التسامح غير جائز ، كيف ودلالة الأخبار الضعيفة غير ضروريّة ، فقد يظهر منها ما يجب طرحه ، لمنافاته لدليل معتبر عقلي أو نقلي ، وقد يعارض الاستصحاب احتمال الحرمة الذي لا يتفطّن له المقلّد ، وقد يخطئ في فهم كيفيّة العمل ، إلى غير ذلك من الاختلال. نعم ، يمكن أن يرخّص له ذلك على وجه خاصّ يؤمن معه الخطأ ، كترخيص أدعية كتاب زاد المعاد للعامّي الذي لا يقطع باستحبابها ، وهو في الحقيقة إنشاء باستحبابها لا إنشاء بالتسامح.

ومن جملة ما أورد على تلك الأخبار ما حكي عن جماعة من أنّ مفاد تلك الروايات أنّه إذا ورد أنّ في العمل الفلاني ثواب كذا ، فهي دالّة على أنّ مقدار الثواب الذي أخبر به في العمل الثابت استحبابه ـ كزيارة عاشوراء ـ يعطاه العامل ، وإن لم يكن ثواب هذا العمل على ذلك المقدار المرويّ ، فهي ساكتة عن ثبوت الثواب على العمل الذي أخبر بأصل الثواب عليه.

وربّما يجاب عن ذلك بإطلاق الأخبار. نعم ، قوله عليه‌السلام في رواية صفوان المتقدّمة : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل» ظاهر في ما ذكره المورد ، بل لا يبعد استظهار ذلك من بعض آخر ، مثل الرواية الثانية لمحمّد بن مروان عن أبي جعفر عليه‌السلام كما لا يخفى. ولكنّه ظهور ضعيف ، مع أنّ في إطلاق الوافي

.................................................................................................

______________________________________________________

كفاية. والمقيّد منها لا يعارض المطلق حتّى يحمل المطلق عليه. مع أنّ صريح بعضها الاختصاص بورود الرواية بأصل الرجحان والخيرية ، مثل قوله عليه‌السلام في رواية الإقبال المتقدّمة : «من بلغه شيء من الخير فعمل به» وقوله عليه‌السلام في الرواية الاولى لهشام : «من بلغه شيء من الثواب فعمله» فإنّ الظاهر من «شيء من الثواب» بقرينة «فعمله» هو نفس الفعل المستحبّ. وكذا الرواية الاولى لمحمّد بن مروان والنبويّ العامي.

ومنها : ما قيل من أنّ الروايات مختصّة بما ورد فيه الثواب ، فلا يشمل ما دلّ على أصل الرجحان ولو استلزمه الثواب.

واجيب عنه بأنّ الرجحان يستلزم الثواب ، فقد ورد الثواب ولو بدلالة ما ورد عليه التزاما.

وفيه : أنّ المخبر بأنّ الله تعالى قال : افعلوا كذا ليس مخبرا بأنّ الله يثيب عمله ، إذ الأمر لا يدلّ على ترتب الثواب على الفعل المأمور به بإحدى الدلالات. نعم ، العقل يحكم باستحقاق الثواب عليه ، إلّا أن يقال : إنّ الإخبار بالطلب يستلزم عرفا الإخبار بالثواب.

والأحسن في الجواب : أنّ كثيرا من الأخبار المتقدّمة خال عن اعتبار بلوغ الثواب على العمل ، مثل رواية ابن طاوس والنبويّ. وقد عرفت أنّ المراد بالثواب في اولى روايات هشام وابنه مروان ـ كالمراد بالفضيلة في النبويّ ـ هو نفس العمل بعلاقة السببيّة ، كما في قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.)

ومنها : أنّ هذه الأخبار معارضة بما دلّ على لزوم طرح خبر الفاسق ، وجعل احتمال صدقه كالعدم.

وأجيب عنه بأنّه لا تعارض ، نظرا إلى أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على جواز الركون إلى خبر الفاسق وتصديقه ، وإنّما تدلّ على استحباب ما روى الفاسق استحبابه.

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أنّ هذا وإن لم يكن تصديقا له ، إلّا أنّ معنى طرح خبر الفاسق جعل احتمال صدقه كالعدم. وظاهر هذه الأخبار الاعتناء باحتماله وعدم جعله كالعدم ، ولهذا لو وقع نظير هذا في خبر الفاسق الدالّ على الوجوب لكانت أدلّة طرح خبر الفاسق معارضة له قطعا ، بل قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ هذا في الحقيقة عمل بخبر الفاسق.

وربّما يجاب أيضا بأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، والترجيح مع هذه الأخبار.

والتحقيق في الجواب : أنّ دليل طرح خبر الفاسق إن كان هو الإجماع فهو في المقام غير ثابت. وإن كانت آية النبأ فهي مختصّة ـ بشهادة تعليلها ـ بالوجوب والتحريم ، فلا بدّ في التعدّي عنها من دليل مفقود في المقام.

ومنها : أنّ الإخبار بترتّب الثواب على العمل المذكور لا يستلزم الاستحباب.

واجيب : بأنّ الثواب لا يكون إلّا فيما يترجّح فعله على تركه ، وليس المستحبّ إلّا ما كان كذلك وجاز تركه.

وفيه : أنّ الثواب قد يكون على إتيان الشيء لاحتمال كونه محبوبا راجحا ، وهذا لا يحتاج في ترتّب الثواب إلى رجحان آخر غير الرجحان المحتمل. وقد ذكرنا سابقا أنّ هناك شيئين : أحدهما : فعل محتمل المطلوبيّة لداعي احتمال كونه مطلوبا ، وهو معنى الاحتياط. وهذا لا يحتاج في ثبوت الثواب عليه إلى صدور طلبه من الشارع ، بل يكفى احتمال كون الفعل مطلوبا ، مع كون داعي الفاعل هو هذا الاحتمال. والثاني : مجرّد إتيان محتمل المطلوبيّة من دون ملاحظة كون الداعي هو الاحتمال. وهذا لا يترتّب الثواب إلّا إذا ورد الأمر به شرعا ، لأنّ ترتّب الثواب لا يكون في فعل إلّا إذا كان الداعي عليه طلبا محقّقا أو محتملا ، واحتمال الأمر موجود لكنّه لم يصر داعيا بالفرض ، فإذا كان الأمر المحقّق غير موجود فلا ثواب.

فحاصل الإيراد : أنّه كما يمكن أن تكون الأخبار محمولة على الوجه الثاني ،

.................................................................................................

______________________________________________________

بأن يكون الشارع قد طلب بهذه الأخبار مجرّد فعل محتمل المطلوبيّة ، فيكون إخباره بالثواب عليه كاشفا عن أمره به ، فيكون هذا الثواب المخبر به بإزاء موافقة الاستحباب الذي كشف عنه بيان الثواب ، كذلك يحتمل أن يكون إخباره هذا بالثواب على الوجه الأوّل ، ويكون بيانا لما يحكم به العقل من استحقاق العامل لداعي احتمال المطلوب والثواب المرجوّ ، ولو على فرض مخالفة ما رجاه للواقع ، فيكون الإخبار مختصّا بما إذا فعل الفعل لداعي احتمال المطلوبيّة.

بل ربّما يدّعى أنّ هذا هو الظاهر من هذه الأخبار مع تفاوتها في مراتب الظهور ، فإنّ قوله في غير واحد منها «ففعله رجاء ذلك الثواب» كالصريح في ذلك ، وما خلا عن هذا القيد فإنّما يستفاد منه كون الداعي إلى الفعل احتمال المحبوبيّة ، من جهة تفريع إتيان الفعل على البلوغ بالفاء التي هي ظاهرة في الترتّب ، فإنّ الفعل لا يترتّب على البلوغ ، ولا تأثير للبلوغ فيه على وجه سوى كون ما يورثه البلوغ من القطع أو الظنّ أو الاحتمال داعيا إلى العمل. اللهمّ إلّا أن يمنع من دلالة الفاء على ما ذكر من السببيّة والتأثير ، بل هي عاطفة ، على نحو قوله : من سمع الأذان فبادر إلى المسجد كان له كذا. فالأخبار الخالية عن تعليل الفعل برجاء الثواب غير ظاهرة في مضمون الأخبار المشتملة على التعليل ، بل هي ظاهرة في ترتّب الثواب على نفس الفعل. واللازم من ذلك كونها مسوقة لبيان استحبابه ، لما عرفت من أنّ إتيان محتمل المحبوبيّة بما هو هو لا يوجب الثواب ، فالإخبار بثبوت الثواب عليه بيان لاستحبابه. ويؤيّد ما ذكرنا فهم الأصحاب القائلين بالتسامح.

ومنها : أنّ هذه الأخبار لو نهضت للدلالة على استحباب الشيء بمجرّد ورود الرواية الضعيفة ، لنهضت للدلالة على وجوب الشيء بذلك ، لأنّ الرواية إذا دلّت على الوجوب يؤخذ بها ويحكم بكون الفعل طاعة ، والمفروض أنّ المستفاد من الرواية كون طلبه على وجه يمنع من نقيضه ، فيثبت الوجوب.

وقد يجاب : بأنّا لم نعمل بالرواية الضعيفة حتّى يلزمنا الأخذ بمضمونه ، وهو

.................................................................................................

______________________________________________________

الطلب البالغ حدّ الإلزام والمنع من النقيض. وإنّما عملنا بالأخبار الدالّة على استحباب ما ورد الرواية بأنّ فيه الثواب ، وهذا منه فيستحبّ وإن كان واجبا على تقدير صدق الرواية في الواقع ، ولا تنافي بين وجوب الشيء واقعا واستحبابه ظاهرا.

والأولى في الجواب هو : أنّا لو قلنا أيضا بحجيّة الخبر الضعيف بهذه الأخبار ، فإنّا نقول بحجيّته في أصل رجحان الفعل دون خصوصيّته من الندب أو الوجوب ، فإنّ الواجب فيها التوقّف والرجوع إلى الاصول العمليّة كأصالة البراءة ، وكم من حجّة شرعيّة يتبعّض في مضمونها من حيث الأخذ والطرح.

وهناك أيضا بعض الاحتمالات التي ذكروها في معنى هذه الأخبار ، لم نتعرّض لذكرها ، لبعدها وعدم فائدة مهمّة في ردّها.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّه إذا احتمل الفعل المذكور التحريم احتمالا غير مستند إلى رواية أو فتوى فقيه ، فإن قلنا بالتسامح من باب الاحتياط فهو غير متحقّق ، لأنّ احتمال الحرمة أولى بالمراعاة ، ولا أقلّ من تساويه مع احتمال الرجحان في الفعل. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الذي لا يتأتّى مع احتمال الحرمة هو الاحتياط بمعنى الأخذ بالأوثق ، وأمّا قاعدة جلب المنفعة المحتملة فتوقّفها على عدم احتمال الحرمة محلّ نظر ، إذ الغرض قد يتعلّق بخصوص المنفعة المحتملة في الفعل. إلّا أن يقال : إنّ الكلام في الحسن العقلي ، وحكم العقل باستحقاق من أتى بمحتمل المحبوبيّة رجاء محبوبيّته الثواب ، والعقل هنا غير حاكم. نعم ، لو فرض كون المحبوبيّة المحتملة على تقدير ثبوتها واقعا أقوى من محبوبيّة الترك المحتملة ، فالظاهر ترجيح الفعل. ومن هنا ربّما يحكم برجحان فعل ما احتمل وجوبه وكراهته ، وترك ما احتمل حرمته واستحبابه.

هذا من حيث قوّة المحبوبيّة. وأمّا من حيث إنّ دفع الضرر أولى من جلب النفع ، فلا إشكال في ترجيح احتمال لزوم الفعل أو الترك. وأمّا بناء على أخبار

.................................................................................................

______________________________________________________

التسامح ، فالظاهر إطلاقها وعدم تقييدها بعدم احتمال الحرمة. نعم ، ما اشتمل منها على التعليل برجاء الثواب ظاهر في صورة عدم احتمال التحريم. لكنّك قد عرفت أنّ المعتمد في الاستدلال هو إطلاق غيرها ، والمطلق هنا لا يحمل على المقيّد كما لا يخفى. اللهمّ إلّا أن يدّعى انصراف تلك الإطلاقات أيضا إلى غير صورة احتمال التحريم.

وعلى الإطلاق ، ففي صورة احتمال الحرمة فيما وردت الرواية الضعيفة باستحبابه ، فهنا يتعارض استحباب الفعل لأجل الأخبار ، واستحباب الترك لأجل قاعدة الاحتياط. والظاهر عدم التعارض ، بل يحكم بكون كلّ من الفعل والترك مستحبّا ، ولا ضير في ذلك ، كما إذا دلّ على استحباب شيء دليل معتبر ، ودلّ على تحريمه أمارة غير معتبرة كالشهرة مثلا ، فإنّ فعله من حيث هو مستحبّ ، وتركه لداعي احتمال مبغوضيّته للمولى أيضا محبوب ، فلم يتوجّه الاستحبابان إلى الفعل المطلق والترك المطلق.

ثمّ لو فرض حكم العقل بأنّ دفع مضرّة التحريم المحتملة أولى من جلب منفعة الاستحباب المقطوع بها ، قبح حكم الشارع بطلب محتمل التحريم واستحبابه ، فلا بدّ من تقييد الأخبار بما عدا صورة احتمال التحريم.

الثاني : هل يعتبر في الرواية الضعيفة أن تفيد الظنّ ، أو يكفي فيه أن لا يكون موهوما ، أو لا يعتبر ذلك أيضا؟ وجوه منشؤها إطلاقات النصوص والفتاوى ، وإمكان دعوى انصراف النصوص التي هي مستند الفتاوى إلى صورة عدم كون مضمون الرواية موهوما ، أو إلى صورة كونه مظنونا. والاحتمال الأوسط أوسط.

الثالث : هل يعتبر فيها أن تكون مدوّنة في كتب الخاصّة أم لا؟ الأقوى هو الثاني ، لإطلاق الأخبار. وقد حكي عن بعض منكري التسامح إلزام القائلين به بأنّه يلزمهم أن يعملوا بذلك ، مع ما ورد من النهي عن الرجوع إليهم وإلى كتبهم. وفيه : أنّه ليس رجوعا إليهم. ومجرّد الرجوع إلى كتبهم لأخذ روايات

.................................................................................................

______________________________________________________

الآداب والأخلاق والسنن ممّا لم يثبت تحريمه.

الرابع : حكي عن الشهيد الثاني في الرعاية أنّه قال : «جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال ، لا في صفات الله وأحكام الحلال والحرام. وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاق» انتهى.

أقول : المراد بالعمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب ، وترتّب الآثار عليها على ما يتعيّن الواجب والحرام. والحاصل : أنّ العمل بكلّ شيء على حسب ذلك الشيء ، وهذا أمر وجداني لا ينكر. ويدخل في القصص حكاية فضائل أهل البيت ومصائبهم صلوات الله عليهم. ويدخل في العمل الإخبار بوقوعها من دون نسبة الحكاية على حدّ الإخبار بالامور الواردة بالطرق المعتمدة ، كأن يقال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يصلّي كذا ويفعل كذا ويبكي كذا ، ونزل مولانا سيّد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه كذا وكذا. ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة وإن كان يجوز حكايتها ، فإنّ حكاية الخبر الكاذب ليس كذبا. مع أنّه لا يبعد عدم الجواز إلّا مع بيان كونها كاذبة.

ثمّ إنّ الدليل على جواز ما ذكرنا من طريق العقل حسن العمل بهذه مع أمن المضرّة فيها على تقدير الكذب. وأمّا من طريق النقل فرواية ابن طاوس رحمه‌الله والنبويّ ، مضافا إلى إجماع الذكرى المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر. وربّما يؤيّد جواز نقل هذه الأخبار جواز ما دلّ على رجحان الإعانة على البرّ والتقوى ، وما دلّ على رجحان الإبكاء على سيّد الشهداء عليه‌السلام ، وأنّ من أبكى وجبت له الجنّة. وفيه : أنّ الإعانة والإبكاء قد قيّد رجحانهما ـ بالإجماع ـ بالسبب المباح ، فلا بدّ من ثبوت إباحة السبب من الخارج حتّى يثبت له الاستحباب بواسطة دخوله في أحد العنوانين ، فلا يمكن إثبات إباحة شيء وعدم تحريمه بأنّه يصير ممّا يعان به على

.................................................................................................

______________________________________________________

البرّ ، ولو كان كذلك لكان لأدلّة الإعانة والإبكاء قوّة المعارضة لما دلّ على تحريم بعض الأشياء ، كالغناء في المراثي والعمل بالملاهي لإجابة المؤمن ونحو ذلك.

الخامس : أنّه هل يلحق بالرواية في صيرورته منشأ للتسامح فتوى الفقيه برجحان عمل أم لا؟ لا إشكال في الإلحاق بناء على الاستناد إلى قاعدة الاحتياط.

وأمّا على الاستناد إلى الأخبار فالتحقيق أن يقال : إن كان يحتمل استناده في ذلك إلى صدور ذلك من الشارع أخذ به ، لصدق البلوغ بإخباره. وأمّا إن علم خطاؤه في المستند ، بأن استند في ذلك إلى رواية لا دلالة فيها ، فلا يؤخذ به وإن احتمل مطابقته للواقع ، لأنّ مجرّد احتمال الثواب غير كاف بمقتضى الأخبار ، بل لا بدّ من صدق البلوغ عن الله سبحانه أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأقلّ ذلك احتمال صدقه في حكايته ، والمفروض أنّا نعلم بأنّ هذا الرجل خاطئ في حكايته. فهو نظير ما إذا قال الرجل :

سمعت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ في كذا ثوابا كذا ، مع أنّا لم نشكّ في أنّه سمع رجلا اشتبه عليه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا الاكتفاء بمجرّد احتمال أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ذلك ، فهو اكتفاء بمجرّد الاحتمال ، ولا يحتاج إلى قيد البلوغ. وكذا لو علمنا أنّه استند في ذلك إلى قاعدة عقليّة ، فإنّ البلوغ منصرف إلى غير ذلك. ومن ذلك أنّ ما حكي من حكم الغزالي باستحقاق الثواب على فعل مقدّمة الواجب لا يصير منشأ للتسامح ، لأنّ الظاهر عدم استناده في ذلك إلّا إلى قاعدة عقليّة ، مثل تحسين العقل للإقدام على تهيئة مقدّمات الواجب ونحو ذلك. ومنه يظهر ما في ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله في القوانين ، من إمكان كون ذلك منشأ للتسامح. وأضعف من ذلك ما ذكره في حاشية منه على هذا الكلام ، بأنّ القول بالاستحباب في مثل المقام يستلزم تسديس الأحكام.

السادس : أنّ المشهور إلحاق الكراهة بالاستحباب في التسامح في دليله. ولا إشكال فيه بناء على الاستناد إلى قاعدة الاحتياط. وأمّا بناء على الاستناد إلى

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخبار ، فلا بدّ من تنقيح المناط بين الاستحباب والكراهة ، وإلّا فمورد الأخبار ظاهر الاختصاص بالفعل المستحبّ ، فلا يشمل ترك المكروه ، إلّا أن يدّعى عموم لفظ الفضائل في النبويّ ، بل عموم لفظ الشيء في غيره للفعل والترك ، فتأمّل. مضافا إلى ظاهر إجماع الذكرى وصريح اتّفاق الوسائل ، بل جميع معاقد الاتّفاق ، بناء على أنّ السنّة تشمل ترك المكروه ، مضافا إلى ظهور الإجماع المركّب.

السابع : قيل : إنّ المستفاد من الأخبار هو إعطاء الثواب لمن بلغه الرواية بالثواب ، فيلزم الاقتصار على مدلولها ، فإفتاء المجتهد باستحبابه مطلقا مشكل. نعم ، للمجتهد أن يروي الحديث ثمّ يفتي بأنّ من عمل بمقتضاه كان الأجر له ، انتهى بمضمونه.

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّ الأخبار المتقدّمة إنّما دلّت على جواز العمل بالأخبار الضعيفة في السنن ، فالأخبار الضعيفة في مقام الاستحباب بمنزلة الصحاح ، وحينئذ فلا بأس بنقل المجتهد لمضمونها ، وهو الاستحباب المطلق ، فيكون بلوغ الرواية إلى المجتهد عثورا على مدرك الحكم لا قيدا لموضوعه.

وثانيا : أنّه لو سلّمنا عدم دلالة تلك الأخبار إلّا على استحباب الفعل في حقّ من بلغه ، لا على حجيّة ما بلغ لمن بلغ ، لكن نقول : قد عرفت أنّ أمثال هذه المسائل مسائل اصوليّة ، ومرجع المجتهد في الأحكام الشرعيّة دون المقلّد ، فالقيود المأخوذة في موضوعاتها إنّما يعتبر اتّصاف المجتهد بها دون المقلّد. ألا ترى أنّ المعتبر في استصحاب الحكم الشرعيّ كون المجتهد شاكّا في بقاء الحكم وارتفاعه ، والمعتبر في الاحتياط كون المجتهد شاكّا في المكلّف به. وكذا الكلام في البراءة والتخيير. والسرّ في ذلك أنّ هذه القيود يتوقّف تحقّقها إثباتا ونفيا على مراجعة الأدلّة وبذل الجهد واستفراغ الوسع فيها ، وذلك وظيفة المجتهد ، فكأنّه يفعل ذلك كلّه من طرف المقلّد ، ويسقط الاجتهاد عنه بفعله. وهذا بخلاف القواعد الفرعيّة الظاهريّة ، فإنّ القيود المأخوذة في موضوعاتها نظير القيود المأخوذة في

.................................................................................................

______________________________________________________

الأحكام الواقعيّة ، كالسفر والحضر والصحّة والمرض ، يشترك فيها المجتهد والمقلّد ، فمن دخل في الموضوع ثبت له الحكم ، ومن خرج فلا ، كالاستصحاب والاحتياط والبراءة والتخيير في الشبهة الموضوعيّة في الامور الخارجيّة. وقد عرفت سابقا ـ وستعرف ـ أنّ إثبات بلوغ الثواب على عمل لا يعارضه بلوغ العقاب ، إذ ثبوته ليس من وظيفة المقلّد.

وأمّا ثالثا : فلأنّا لو سلّمنا كون بلوغ الثواب قيدا لموضوع الحكم الفرعيّ ، بأن يناط الحكم باستحبابه وجودا وعدما بالنسبة إلى المجتهد والمقلّد ، لكن نقول :

إنّ إفتاء المجتهد بالاستحباب وإن كان إنشاء بما لم يدلّ عليه دليل الاستحباب ، لأنّ الفرض اختصاصه بمن بلغه الثواب ، إلّا أنّ هذا ممّا لا يترتّب عليه مفسدة عمليّة ، ولا يوجب وقوع المقلّد في خلاف الواقع ، إذ المقلّد حين العمل يعتمد على فتوى المجتهد ، فهذه الفتوى محقّقة لموضوع حكم العقل والنقل فيه باستحقاق الثواب ، حيث إنّ المقلّد إنّما يأتي بالفعل رجاء الثواب. وفي هذا الجواب نظر لا يخفى.

الثامن : هل يجوز للمقلّد أن يعمل بقاعدة التسامح إذا أخذها تقليدا من المجتهد ، أو حكم عقله بها بناء على الاستناد فيه إلى الاحتياط أم لا؟ الظاهر من بعض الأوّل. والتحقيق أنّ قاعدة التسامح ـ كما عرفت سابقا ـ مسألة اصوليّة يرجع إليها المجتهد في إثبات الاستحباب. ودعوى جواز رجوع المقلّد إليها إذا أمكنه تشخيص الموضوع ـ بأن يفهم دلالة الرواية الضعيفة ، وسلامتها عن المعارضة ببلوغ الحرمة ، أو ثبوتها بدليل معتبر ، ويفهم على تقدير المعارضة ترجيح مدلول أحدهما على الآخر ، من حيث قوّة الدلالة أو وجود الجابر ، إلى غير ذلك ـ معارضة بجواز ذلك في سائر القواعد الاصوليّة ، مثل العمل بالاصول في الأحكام الشرعيّة ، بل العمل بالأدلّة الشرعيّة مثل الكتاب ، بأن يفهم دلالتها وسلامتها عن المعارض كما لا يخفى.

.................................................................................................

______________________________________________________

فالأقوى عدم جواز رجوع المقلّد إليها إلّا في طائفة من الموارد التي يعلم المجتهد بعدم ثبوت الحرمة فيها ، وثبوت الأخبار الضعيفة الواضحة الدلالة ، بحيث يأمن المجتهد وقوع المقلّد في خلاف الواقع. لكنّ العمل بالقاعدة حينئذ أيضا جائز ، بعد تقليد المجتهد في تحقّق شروطها وانتفاء موانعها.

التاسع : إذا وردت رواية ضعيفة بالوجوب أو الحرمة ، فقد عرفت في أصل المسألة جواز الحكم بالاستحباب والكراهة للأخبار ، وإن قلنا بدلالتها على العمل بالروايات الضعيفة في السنن ، لأنّ التبعيض في مدلولات الحجج الظاهريّة أخذا وطرحا ليس يندفع. فيحكم في الفعل المذكور بأنّ فيه أو في تركه رجحانا للأخبار.

ولا يحكم بثبوت العقاب على خلافه ، لأصالة البراءة ، وعدم حجيّة الضعاف في الوجوب والحرمة. وكأنّ هذا مقصود الفقهاء ، وإن أبت عنه ظاهر عباراتهم ، حيث يقولون بعد ذكر الرواية الضعيفة الدالّة على الوجوب : إنّ الرواية ضعيفة تحمل على الاستحباب. وحيث إنّ ظاهر هذا الكلام تفرّع الحمل على الاستحباب على ضعف الرواية ، طعن عليهم بأنّ ضعف الرواية كيف يصير قرينة للحمل على الاستحباب؟ وأنت خبير بأنّ هذا شيء غير معقول ، لا يصدر عن فاضل فضلا عن الفحول. فمرادهم ـ كما عن صريح شارح الدروس ـ هو أنّ الحكم بالنسبة إلى الاستحباب ، وأمّا معنى حمل الرواية على الاستحباب فهو أن يؤخذ بمضمونه من حيث الثواب دون العقاب ، فكأنّه قد ألغيت دلالتها على اللزوم وعدم جواز الترك ، تنزيلا لغير المعتبر منزلة المعدوم.

العاشر : إذا وردت رواية ضعيفة بالاستحباب ، وورد دليل معتبر على عدم استحبابه ، ففي جواز الحكم بالاستحباب من جهة الرواية الضعيفة وعدمه وجهان بل قولان ، صرّح بعض مشايخنا بالثاني ، لأنّ الدليل المعتبر بمنزلة القطعي ، فلا بدّ من التزام عدم استحبابه ، وترتّب آثار عدم الاستحباب عليه ، كما لو قطع بعدم الاستحباب.

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أنّ الالتزام بعدم استحبابه ليس إلّا من جهة ما دلّ على حجيّة ذلك الدليل المعتبر ، وهو معارض بالأخبار المتقدّمة ، وإن سلّمنا أنّها لا تثبت حجّية الخبر الضعيف ، بل مجرّد استحباب فعل ما بلغ عليه الثواب ، إذ لا مدخل لهذا التعبير في المعارضة ، فإنّ معنى حجّية الخبر الصحيح تنزيله منزلة الواقع ، ولا معنى لذلك إلّا جعل مضمونه ـ أعني : عدم الاستحباب ـ حكما للمكلّف في مرحلة الظاهر ، ومضمون تلك الأخبار جعل الاستحباب حكما له في الظاهر.

وأمّا تنزيل هذا الدليل المعتبر بمنزلة القطع في عدم جواز العمل بتلك الأخبار في مقابلة فهو ضعيف جدّا ، لأنّ الأخبار المتقدّمة من جهة اختصاصها ـ كالفتاوى ـ بغير صورة القطع لا تجري في صورة القطع ، فكأنّ الشارع قال : إنّ من بلغه الثواب على عمل ولم يقطع بكذبه يستحبّ له ذلك العمل. والدليل المعتبر إنّما هو بمنزلة القطع بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة المجعولة المتعلّقة للقطع ، لا بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة على نفس صفة القطع ، كيف ولو كان كذلك لم يحسن الاحتياط مع وجود الدليل المعتبر ، لأنّه بمنزلة القطعي الذي لا احتياط معه. وكذا لو نذر أحد أن يصوم ما دام قاطعا بحياة ولده ، فزال قطعه بها مع دلالة الدليل المعتبر ـ كالاستصحاب أو البيّنة ـ عليها ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في عدم وجوب الصوم. والسرّ في ذلك كلّه أنّ الشارع نزّل المظنون بالأدلّة المعتبرة منزلة الواقع المقطوع به ، فيترتّب عليه آثار الواقع المحتمل المقابل للمظنون منزلة غير الواقع المقطوع بعدمه ، لا أنّه نزّل صفة الظنّ منزلة صفة القطع ، ونزّل نفس الاحتمال المرجوع منزلة القطع بالعدم. فالتنزيلات الشرعيّة في الأدلّة الغير العلميّة بالنسبة إلى المدرك لا الإدراك. فالتسامح والاحتياط وعدم وجوب الصوم في الأمثلة المذكورة تابعة لنفس الاحتمال ، وعدم القطع لا يرتفع بما دلّ على اعتبار الأدلّة الظنّية ، ولذا لا ينكر الاحتياط مع قيام الأدلّة المعتبرة والعجب ممّن أنكر التسامح في المقام ، مع أنّه تمسّك لإثباته بقاعدة الاحتياط.

.................................................................................................

______________________________________________________

فالتحقيق أنّه لا إشكال في التسامح في المقام من باب الاحتياط ، بل هو إجماعي ظاهرا. وأمّا من باب الأخبار فمقتضى إطلاقها ذلك أيضا ، إلّا أن يدّعى انصرافها إلى غير ذلك ، ولا شاهد عليه ، فيقع التعارض بين هذه الأخبار وأدلّة ذلك الدليل المعتبر لا نفسه ، لاختلاف الموضوع ، ومقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط ، إلّا أنّ الأمر لمّا دار بين الاستحباب وغيره ، وصدق بلوغ الثواب ولو من جهة أخبار بلوغ الثواب ، حكم بالاستحباب تسامحا.

فإن قلت : أخبار بلوغ الثواب لا تعمّ نفسها. قلنا : نعم ، غير معقول إلّا أنّ المناط فيها منقّح ، فلا يقدح عدم العموم اللفظي ، لعدم تعقّله ، فافهم. فالقول بالتسامح قويّ جدّا.

الحادي عشر : إذا ورد رواية ضعيفة بالاستحباب واخرى بعدمه فلا إشكال في التسامح ، لأنّ الخبر الضعيف ليس حجّة في عدم الاستحباب ، فوجوده كعدمه. ومنه يعلم أنّه لو كان الدالّ على عدم الاستحباب أخصّ مطلقا من الدالّ على الاستحباب ، فلا يحمل هنا المطلق على المقيّد ولا العامّ على الخاصّ ، لأنّ دلالة الخبر الضعيف على عدم الاستحباب مطلقا أو في بعض الأفراد كالعدم لا يمنع من التسامح.

الثاني عشر : لو ورد رواية ضعيفة بالوجوب أو بالاستحباب ، واخرى بالحرمة أو الكراهة ، فلا إشكال في عدم جريان التسامح من باب الاحتياط كما لا يخفى ، إلّا إذا بنينا على ترجيح احتمال الخطر ـ كراهة أو تحريما ـ على احتمال المحبوبيّة وجوبا أو استحبابا ، وتقديم احتمال اللزوم فعلا أو تركا على غيره. وأمّا من جهة الأخبار فالظاهر أيضا عدم التسامح ، لأنّ كلّا من الفعل والترك قد بلغ الثواب عليهما وظاهر الروايات استحباب كلّ من الفعل والترك ، وهو غير ممكن ، لأنّ طلب الفعل والترك قبيح ، لعدم القدرة على الامتثال. وصرف الأخبار إلى استحباب أحدهما على وجه التخيير موجب لاستعمال الكلام في الاستحباب

.................................................................................................

______________________________________________________

العيني والتخييري ، مع أنّ التخيير بين الفعل والترك في الاستحباب لا محصّل له ، فتعيّن خروج هذا الفرض عن عموم الأخبار. مضافا إلى انصرافها بشهادة العرف إلى غير هذه الصورة.

الثالث عشر : لو علم استحباب شيء وتردّد بين شيئين فلا إشكال في استحباب المتيقّن إذا كان بينهما قدر متيقّن ، ولا فيما إذا جمع بينهما إذا كانا متباينين ولم يكن قدر متيقّن. وإنّما الكلام في استحباب غير المتيقّن إذا ورد به رواية ضعيفة أو فتوى فقيه ، وفي استحباب أحد المتباينين. مثال الأوّل : ما إذا ورد رواية أو فتوى باستحباب الزيارة الجامعة ولو مع عدم الغسل ، وباستحباب النافلة ولو إلى غير القبلة ، وزيارة عاشوراء مع فقد بعض الخصوصيّات. مثال الثاني : ما إذا تردّد المسح المستحبّ بثلاث أصابع بين أن يكون طولا وأن يكون عرضا ، وكان على كلّ منهما رواية أو فتوى.

فهل ينسحب في الاقتصار على أحدهما ثواب من باب التسامح؟ والكلام قد يقع من باب الاحتياط ، وقد يقع من باب الأخبار.

أمّا من باب الاحتياط فالظاهر (*) أنّ الإتيان بالمتيقّن في الأوّل والجمع بين المحتملين في الثاني ، لاستقلال العقل بالفرق بين من لم يتعرّض للامتثال رأسا ، وبين من تعرّض له بإتيان المحتمل ، كما أنّ الإقدام على محتمل المبغوضيّة لا يخلو عن مرجوحيّة وإن لم يجمع بين محتملاته.

نعم ، لا يسمّى هذا احتياطا ، لأن الاحتياط لغة وعرفا هو إحراز المقصود الواقعي ، سواء كان دفع ضرر أو جلب منفعة ، ويعبّر عنه بالأخذ بالأوثق ، وهو لا يتحقّق إلّا إذا انحصر المحتمل في المأتيّ ، بأن لا يكون للواقع محتمل سواه ، كما في محتمل المطلوبيّة والمبغوضيّة مع عدم العلم الإجمالي ، ويسمّى بالشكّ في التكليف ،

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «الظاهر أنّ في العبارة غلطا ، وحقّها أن يقال : فالظاهر رجحان الإتيان لغير المتيقّن في الأوّل ، وبأحد المحتملين في الثاني ، لاستقلال العقل .... من المحشّي دام ظلّه».

.................................................................................................

______________________________________________________

أو إذا جمع بين المحتملات ، كما في الشكّ في المكلّف به مع العلم بالتكليف. وهذان القسمان مشتركان في استحقاق الفاعل ثواب الامتثال القطعي. أمّا الثاني فلأنّه حصل القطع بالامتثال. وأمّا الأوّل فلأنّه أيضا حصل القطع به على فرض ثبوته واقعا. وأمّا الاقتصار في القسم الثاني على أحد المحتملات فهو دون القسمين في الرجحان. ومنع رجحانه ـ لكون اقتصاره على أحد المحتملات كاشفا عن عدم كون الداعي له هو تحصيل رضا المولى ، إذ لو كان هو الداعي لدعاه إلى تحصيل اليقين بالجمع بين المحتملات ـ مكابرة للوجدان الحاكم بحسن التعريض للامتثال ، عكس التعريض للمخالفة.

وأمّا الكلام في استحباب هذا المحتمل من جهة الأخبار ، فالتحقيق فيه التفصيل بين ما كان من القسم الأوّل ، وهو الفرد المشكوك ، وما كان من الثاني ، أعني : المتباينين ، فيشمل الأخبار الأوّل دون الثاني ، لأنّه إذا وردت رواية بأنّ مطلق الزيارة الجامعة فيها كذا ، فيصدق بلوغ الثواب على هذا المطلق ، ومجرّد ورود رواية اخرى على التقييد لا يمنع استحباب المطلق ، لما عرفت في الأمر الحادي عشر من أنّ المطلق في الأخبار الضعيفة لا يحمل على المقيّد فيها ، لعدم حجيّة الخبر الضعيف في نفي الاستحباب. بل لو فرض رواية معتبرة على التقييد المستلزم للدلالة على نفي استحباب ما عدا محلّ القيد ، فقد عرفت في الأمر العاشر قوّة جريان التسامح فيه أيضا.

وأمّا أحد محتملي المتباينين ، فهو وإن صدق عليه بعد ورود رواية باستحبابه أنّه ممّا بلغ عليه الثواب ، إلّا أنّ المحتمل الآخر أيضا كذلك ، فإن حكم بثبوت استحبابهما معا فهو خلاف الإجماع ، وإن حكم باستحباب أحدهما دون الآخر فهو ترجيح بلا مرجّح ، والتخيير ممّا لا يدلّ عليه الكلام. هذا مع وضوح أنّ الأخبار منصرفة بشهادة فهم العرف إلى الشبهة الابتدائيّة دون الناشئة من العلم الإجمالي. وأمّا في القسم الأوّل فالمعلوم الإجمالي حيث دار بين المطلق والمقيّد ،

.................................................................................................

______________________________________________________

فيكون استحباب المقيّد قطعيّا ، ونشكّ في استحباب المطلق بما هو ، فيتسامح فيما ورد في استحبابه ، فتأمّل.

بقي هنا شيء ، وهو أنّا إنّما حكمنا في القسم الأوّل بمجرّد استحباب الفرد المشكوك ، وأمّا إثبات كونه امتثالا للكلّي المأمور به المردّد بين المطلق والمقيّد بحيث يترتّب عليه أحكام ذلك الكلّي فلا ، مثلا : إذا ورد الأمر بنوافل الظهر أو صلاة جعفر ، فشككنا في أنّه يشترط فيهما القبلة أم لا ، وورد رواية ضعيفة أو فتوى فقيه في عدم اشتراطهما بالقبلة ، فالفرد المأتيّ به على خلاف القبلة لا يحكم عليها بأنّها صلاة جعفر ، ولا أنّ الذي يترتّب على نوافل الظهر ، بل ولا من الأوامر القطعيّة المتعلّقة بمطلق الصلاة ، فإنّ استحباب مطلق فعل تلك الأجزاء ولو على خلاف القبلة لا يستلزم الخروج عن عمومات الصلاة أو خصوصاتها. ومنه يظهر أنّ نيّة امتثال تلك الأوامر القطعيّة بهذا الفرد المشكوك تشريع محرّم. وهذا هو السرّ في أنّهم لا يتسامحون في شروط الماهيّات المستحبّة وإجرائها ، بل يلتزمون فيها بالمتيقّن ، متمسّكين بأنّ العبادات توقيفيّة ، كما ذكروا ذلك في جواز النافلة إلى غير القبلة ، وفي جواز النافلة مضطجعا ومستلقيا في حال الاختيار ، ونحو ذلك.

فحاصل معنى التسامح الذي ذكرنا في هذا المقام أنّه إذا ورد استحباب مطلق وورد استحباب مقيّد ، فحيث يلزم منه نفي استحباب المطلق فيحكم باستحباب المطلق ولو في ضمن غير المقيّد ، لكن لا يحكم بكونه امتثالا لأمر قطعي ثبت في المقام مردّدا بين المطلق والمقيّد ، فافهم واغتنم.

الرابع عشر : قد يجري على لسان بعض المعاصرين التسامح في الدلالة نظير التسامح في السند ، بأن يكون في الدليل المعتبر من حيث السند دلالة ضعيفة ، فيثبت بها الاستحباب تسامحا.

وفيه نظر ، فإنّ الأخبار مختصّة بصورة بلوغ الثواب وسماعه ، فلا بدّ أن يكون البلوغ والسماع ، ومع ضعف الدلالة لا بلوغ ولا سماع. نعم ، قاعدة الاحتياط

.................................................................................................

______________________________________________________

جارية ، لكنّها لا تختصّ بالدلالة الضعيفة ، بل تجري في صورة احتمال الدليل واحتماله للمطلوبيّة.

الخامس عشر : إذا ثبت استحباب شيء بهذه الأخبار فيصير مستحبّا كالمستحبّات الواقعيّة ، يترتّب عليه ما يترتّب عليها من الأحكام التكليفيّة والوضعيّة. والمحكيّ عن الذخيرة أنّه بعد ذكر أنّه يمكن أن يتسامح في أدلّة السنن بالأخبار المذكورة قال : «لكن لا يخفى أنّ هذا الوجه إنّما يفيد مجرّد ترتّب الثواب على ذلك الفعل ، لا أنّه أمر شرعيّ يترتّب عليه الأحكام الوضعيّة المترتّبة على الأحكام الواقعيّة» انتهى.

أقول : وكأنّه حمل الأخبار على عنوان الاحتياط حتّى لا يكون الفعل المحتمل في ذاته محبوبا ، بل المحبوب هو الفعل مع كون الداعي عليه هو احتمال المحبوبيّة ، لا الاستحباب القطعي الحاصل من تلك الأخبار. فحينئذ فالحقّ ما ذكره ، لأنّ الفعل مع قطع النظر عن كون الداعي عليه هو رجاء إدراك مطلوب المولى ليس مستحبّا لا عقلا ولا شرعا ، ومع القيد المذكور لم يتعلّق به طلب شرعيّ يكون إتيانه امتثالا لذلك الطلب الشرعيّ ، لما عرفت مفصّلا من أنّ الفعل بهذا القيد بذاته موجب لاستحقاق الثواب لا باعتبار صدور أمر فيه ، فحينئذ فالأحكام الوضعيّة المترتّبة على المستحبّات لا يترتّب عليها. لكن قد عرفت أنّ الأخبار في مقام الاستحباب الشرعيّ وجعل المحبوبيّة من حيث هو هو ، وحينئذ فهو كأحد المستحبّات الواقعيّة.

السادس عشر : يجوز العمل بالروايات الضعيفة في أفضليّة مستحبّ من مستحب آخر أمّا على قاعدة الاحتياط فواضح ، لأنّ طلب المزيّة المحتملة في أحدهما محبوب عقلا. وأمّا على الأخبار ، فلأنّ مرجع أفضليّة أحدهما إلى استحباب تقديم الفاضل على المفضول في الاختيار عند التعارض ، فيشمله الأخبار. مضافا إلى عموم قول الذكرى : «إنّ أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم». ومن هنا يظهر وجه المسامحة في كراهة العبادات بمعنى قلة الثواب. وأمّا لو حملنا الكراهة فيها على

.................................................................................................

______________________________________________________

مجرّد المرجوحيّة من دون نقص الثواب ، بناء على أنّ المكروه من العبادات كالمعيوب الذي لا ينقص قيمته عن الصحيح كما حكي عن بعض ، ففيه إشكال. ولو حملنا الكراهة على المعنى الاصطلاحي فلا إشكال أيضا في التسامح.

السابع عشر : هل يجوز التسامح في الرواية الغير المعتبرة الدالّة على تشخيص مصداق المستحبّ أو فتوى الفقيه بذلك ، فإذا ذكر بعض الأصحاب أنّ هودا وصالحا على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام مدفونان في هذا المقام المتعارف الآن في وادي السلام ، فهل يحكم باستحباب إتيان ذلك المقام لزيارتهما والحضور عندهما أم لا؟ وكذا إذا ورد رواية بدفن رأس مولانا سيّد الشهداء عليه‌السلام عند أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما ، فهل يستحبّ زيارته بالخصوص أم لا؟ وكذا لو أخبر عدل واحد بكون هذا المكان مسجدا أو مدفنا لنبيّ أو وليّ.

التحقيق أن يقال بعد عدم الإشكال في الاستحباب العقلي من باب الاحتياط وجلب المنفعة المحتملة : إنّ الأخبار وإن كانت ظاهرة في الشبهة الحكميّة ، أعني : ما إذا كان الرواية مثبتة لنفس الاستحباب لا لموضوعه ، إلّا أنّ الظاهر جريان الحكم في محلّ الكلام بتنقيح المناط ، إذ من المعلوم أن لا فرق بين أن يعتمد على خبر الشخص في استحباب العمل الفلاني في هذا المكان كبعض أماكن مسجد الكوفة ، وبين أن يعتمد عليه في أنّ هذا المكان هو المكان الفلاني الذي علم أنّه يستحبّ فيه العمل الفلاني. مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ الإخبار بالموضوع مستلزم للإخبار بحكم ، بل قد يكون الغرض منه هو الإخبار بثبوت الحكم في هذا الموضوع الخاصّ. والحاصل : أنّ التسامح أقوى.

نعم ، لو ترتّب على الخبر المذكور حكم آخر غير الاستحباب فلا يترتّب عليه ، لما عرفت. فلو ثبت كيفيّة خاصّة للزيارة من القريب بحيث لا يجوز في البعيد فلا يجوز ، لأنّ الثابت من الرواية استحباب حضور هذا المكان ، لا كون الشخص مدفونا فيه.

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا يستحبّ الصلاة في المكان الذي يقال له المسجد ، ولا يجب إزالة النجاسة ، ولا يجوز الاعتكاف فيه ، إلى غير ذلك ممّا هو واضح من المطالب المتقدّمة.

الثامن عشر : قد عرفت أنّ حرمة التشريع لا يزاحم هذا الاستحباب ، سواء قلنا به من باب الاحتياط أم قلنا به من باب الأخبار ، لأنّ موضوع التشريع منتف على التقديرين. ولكن هذا في التشريع العامّ. وأمّا التشريع الخاصّ ـ بأن يحكم الشارع بعدم مشروعيّة عنوان بالخصوص ، كأن ينفي الصوم في السفر بقوله : لا صيام في سفر ، وقوله : «ليس من البرّ الصيام في السفر» ونحو ما دلّ على نفي الوتر في النوافل ، بمعنى صلاة ركعة واحدة ، وقوله : لا تطوّع في وقت فريضة ، أو لا صلاة لمن عليه صلاة ، وقوله : لا صلاة إلّا إلى القبلة ـ فالظاهر عدم جريان التسامح فيها ، لا لورود الدليل المعتبر على عدم استحباب الفعل ، لما عرفت من أنّ هذا لا يمنع التسامح ، سيّما على قاعدة الاحتياط وجلب المنفعة المحتملة ، بل لأنّ المستفاد من هذه الأدلّة الخاصّة هو أنّ امتثال مطلقات أوامر هذه العبادات لا يتحقّق بدون ذلك الشرط أو مع ذلك المانع ، لما عرفت من أنّ الأخبار الضعيفة لا تبيّن الماهيّات التوقيفيّة. فالصائم في السفر لا يجوز له أن ينوي الصوم لداعي امتثال أوامره ، وكذا النافلة في وقت الفريضة أو ممّن عليه القضاء.

التاسع عشر : ظاهر الأصحاب عدم التفصيل في مسألة التسامح بين أن يكون الفعل من ماهيّة العبادات المركّبة المخترعة ، وبين أن يكون من غيرها ، إلّا أنّ الأستاذ الشريف تغمّده الله بغفرانه فصّل ومنع التسامح في الاولى. والذي بالبال ممّا ذكره لسانا في وجه التفصيل هو أنّ ... إلى هنا جفّ قلمه الشريف ، وبلغ كلامه اللطيف ، نوّر الله مرقده المنيف. وإنّي شاهدت أمّ النسخ ، ولكنّي نسخت هذه النسخة من نسخة مستنسخة من الأصل ، الحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

الثالث : أنّ الظاهر اختصاص أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعييني ، سواء كان أصليّا أو عرضيّا كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار ، أمّا لو شك في الوجوب التخييري والإباحة فلا تجري فيه أدلّة البراءة ؛ لظهورها في عدم تعيين الشيء (١٣٥٥) المجهول على المكلّف بحيث يلتزم به ويعاقب عليه.

______________________________________________________

١٣٥٥. الأولى أن يقال بدله : لأنّ مفادها عدم تعيين الشيء ، ليشمل الدليل العقلي أيضا ، إذ لا معنى لدعوى الظهور بالنسبة إلى العقل.

وكيف كان فلا يفيد شيء من أدلّة البراءة نفي الوجوب التخييري من حيث هو ، وإن أفاد نفي التعيين بالعرض. أمّا دليل العقل ، فلأنّ غايته في باب البراءة هو الحكم بقبح العقاب بلا بيان لا نفي الخطاب الواقعي ، فإذا شكّ في كون فعل مباحا أو واجبا مخيّرا بينه وبين فعل آخر معلوم الوجوب في الجملة ، وتركه المكلّف ، فلا يخلو : إمّا أن يترك معه الفعل الآخر أيضا أو لا. فعلى الأوّل لا معنى لنفي العقاب ، للعلم به إجمالا لأجل ترك واجب واقعي ، وإن لم يعلم بجهة العقاب. وكذا على الثاني لا مسرح لحكم العقل فيه ، للعلم بعد العقاب حينئذ بجواز ترك أحد فردي الواجب المخيّر مع العلم بوجوبه مع اختيار فرد آخر منهما ، فضلا عن صورة الشكّ فيه. نعم ، لو تعذّر الفرد الآخر الذي علم بوجوبه إجمالا أمكن نفي وجوب الفرد المشكوك فيه بالأصل ، إلّا أنّ المنفي حينئذ هو وجوبه التعييني العارضي المحتمل لأجل تعذّر الفرد الآخر ، لا وجوبه التخييري ، وهو خارج من محلّ الكلام.

وأمّا الأدلّة النقليّة ، فلأنّ المنساق منها هو نفي الضيق عن المكلّف في التكاليف المجهولة ، ولا ريب أنّ نفي وجوب الفرد المشكوك فيه لا يوجب توسعة عليه ، بل هو موجب للضيق عليه ، لأجل تعيّن الإتيان بالفرد الآخر عليه حينئذ بنفي وجوب الفرد المشكوك فيه.

وفي جريان أصالة عدم الوجوب (١٣٥٦) تفصيل : لأنّه إن كان الشكّ في وجوبه

______________________________________________________

١٣٥٦. يعني : في استصحاب عدم الوجوب تفصيل بالنسبة إلى التخيير العقلي والشرعيّ ، فيجري الأصل في الثاني دون الأوّل. وتوضيحه : أنّه إذا شكّ في وجوب فعل ، بأن دار الأمر فيه بين كونه أحد فردي الواجب المخيّر وكونه مباحا ، فهو على وجهين :

أحدهما : أن يعلم إجمالا وجوب فعل ، ولكن لم يعلم أنّ الواجب هو الكلّي المشترك بين الفرد المشكوك فيه وغيره ، أو خصوص الفرد الآخر الذي علم وجوبه في الجملة ، كما إذا ورد الأمر بعتق رقبة ، وشكّ في أنّ متعلّقه هو الكلّي الذي مقتضاه ثبوت التخيير بين أفراده التي منها الفرد المشكوك فيه ، أعني : الكافرة ، أو هو خصوص المؤمنة حتّى يجب عتقها تعيينا.

وثانيهما : أن يعلم وجوب فعل بالخصوص في الجملة ، ولكن شكّ في كونه واجبا تعيينا بالخصوص ، أو كونه أحد فردي الواجب المخيّر فيه شرعا ، كما إذا ورد أمر بعتق المؤمنة ، وشكّ في ورود أمر آخر بالكافرة على وجه لو ثبت كان مفيدا للوجوب التخييري. وعلى تقدير عدم ثبوته كان عتق الكافرة مباحا.

أمّا الأوّل فلا يمكن فيه استصحاب عدم وجوب الفرد المشكوك فيه ، لعدم دخوله في أطراف الشبهة ، لأنّ مرجعها حينئذ إلى أنّ الواجب هو الكلّي حتّى يجب الفرد المشكوك فيه أيضا بوجوبه ، أو الفرد الآخر منه ، فتصير الشبهة في الفرد المشكوك فيه حينئذ ناشئة من الشبهة في حكم الكلّي لا فيه نفسه ، فهو بنفسه ليس موردا للأصل. ولا مسرح لنفي وجوب الكلّي أيضا لتثبت به إباحة المشكوك فيه ، للعلم إجمالا بوجوب أحد الأمرين تعيينا ، أعني : الكلّي والفرد الآخر ، فليس نفي وجوب أحدهما بأولى من نفي وجوب الآخر ، فيتعيّن هنا إجراء أصالة عدم اللازم الوضعي لوجوب الفرد المشكوك فيه ، وهو عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل المشكوك فيه ، لا أصالة عدم وجوب المشكوك فيه ، وإن كان مؤدّى

.................................................................................................

______________________________________________________

كلّ منهما عدم وجوبه.

وأمّا الثاني فهو أيضا على قسمين : أحدهما : أن يعلم كون الفرد المشكوك فيه مسقطا للتكليف المعلوم إجمالا على تقدير وجوبه في الواقع ، كما في سائر الواجبات التخييريّة. والآخر : أن يعلم كونه مسقطا له وإن ثبتت إباحته في الواقع ، كما في مثال الصوم والسفر ، إذا ورد الأمر بالصوم في الحضر ، وشكّ في ورود أمر آخر بالسفر ، بحيث لو ثبت أفاد التخيير بينهما ، لأنّه على تقدير عدم ثبوته كان مباحا مسقطا لوجوب الصوم.

أمّا الأوّل فيمكن فيه إجراء أصالة عدم وجوب الفرد المشكوك فيه ، للعلم إجمالا بورود الأمر للفرد المتيقّن والشك في وروده في الفرد الآخر ، فينفى بالأصل فيه. وكذا أصالة عدم اللازم الوضعي لوجوب الفرد المشكوك فيه ، فيثبت بهما وجوب الفرد الآخر تعيينا.

وأمّا الثاني فتجري فيه أصالة عدم الحكم التكليفي خاصّة ، كما هو واضح.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ مقتضى الأصل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ سواء كان التخيير عقليّا أم شرعيّا ـ هو التعيين. وظهر أيضا جواز انفكاك استصحاب عدم التكليف الأزلي عن مورد قاعدة البراءة ، لما عرفت في الحاشية السابقة عدم كون شيء من الأقسام المذكورة موردا للقاعدة ، مع جريان أصالة عدم الوجوب في بعضها على ما عرفت. ومن هنا يظهر ضعف ما سمعناه من بعض مشايخنا من دعوى عدم الانفكاك بينهما. والكلام في ذلك محرّر في مقام آخر.

ثمّ إنّ فرض دوران الأمر بين التعيين والتخيير يتصوّر على وجوه :

أحدها أن يدور الأمر فيه بين الكلّي والفرد. وقد عرفت أنّه ليس بمجرى للاستصحاب.

وثانيها : أن يدور الأمر فيه بين تعيين فرد والتخيير بينه وبين فرد آخر ، من

.................................................................................................

______________________________________________________

جهة الاشتباه في كيفيّة إنشاء الشارع ، بأن يعلم إجمالا بإنشائه لوجوب الإكرام مثلا ، ولكن لم يعلم كونه على وجه يختصّ بزيد على وجه التعيين ، أو يعمّ زيدا وعمرا على وجه التخيير. وهذا أيضا ليس بمورد للاستصحاب ، لأنّ مرجع نفي وجوب إكرام عمرو إلى نفي الإنشاء التخييري ، وهو ليس بأولى من نفي الإنشاء التعييني.

وثالثها : أن يعلم إنشاء الشارع لوجوب إكرام زيد ، وشكّ في إنشائه لوجوب إكرام عمرو أيضا بإنشاء آخر ، بحيث لو ثبت ثبت التخيير بينهما. وهذا هو مورد للاستصحاب ، لكون إنشاء وجوب إكرام أحدهما معلوما والآخر مشكوكا فيه ، فينفى بالأصل ، بخلاف القسمين الأوّلين.

ثمّ إنّ حكمنا بالتعيين أو التخيير في الأقسام المتقدّمة إنّما هو مع عدم إطلاق لفظي يقتضي التعيين ، كما إذا كان الحكم المعلوم إجمالا ثابتا بدليل لبيّ كالإجماع أو لفظي مجمل ، وإلّا فلو ورد قولنا : أكرم زيدا ، وشكّ في كون المراد وجوب إكرامه تعيينا أو تخييرا بينه وبين إكرام عمرو ، كان مقتضى الإطلاق ـ ولو بواسطة عدم ذكر القيد ـ وجوب إكرام زيد تعيينا ، وإن كان الأمر حقيقة في الوجوب التخييري أيضا على المختار ، إلّا أنّ إطلاق الأمر ينصرف إلى التعيين كما قرّر في محلّ آخر.

وبقي هنا إشكال ، وهو أنّ المصنّف قدس‌سره في مسألة الشكّ في الأجزاء والشرائط قد ذكر القسم الأوّل والثاني من الأقسام الثلاثة المذكورة لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، واختار في الأوّل كونه مجرى لأصالة البراءة ، بمعنى البراءة عن محتمل التعيين ، وفي الثاني كونه مجرى لقاعدة الاحتياط ، فحكم بوجوب الأخذ بمحتمل التعيين على نوع تردّد منه في ذلك. ولا ريب أنّ مقتضى الحكم بالبراءة في الأوّل هو الالتزام بثبوت التخيير بين الفردين ولو عقلا ، ولازمه تعيّن كلّ منهما عند تعذّر الآخر ، وعدم جواز دفع تعيّنه بالبراءة ، لأنّ الباقي بعد تعذّر أحدهما إن

في ضمن كلّي مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص ، فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب ، إذ ليس هنا إلّا وجوب واحد مردّد بين الكلّي والفرد ، فتعيّن هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك.

وأمّا إذا كان الشكّ في وجوبه بالخصوص ، جرى أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم لازمه الوضعي ، وهو سقوط الواجب المعلوم به إذا شكّ في إسقاطه له ، أمّا إذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه ـ نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ـ فلا مجرى للأصل إلّا بالنسبة إلى طلبه ، وتجري أصالة البراءة عن وجوبه التعييني بالعرض إذا فرض تعذّر ذلك الواجب الآخر.

______________________________________________________

كان هو محتمل التعيين فهو متعيّن إمّا بالذات أو بالعرض لأجل تعذّر الآخر ، وإن كان هو الفرد الآخر ، فبعد إثبات التخيير بينه وبين الفرد المتعذّر بأصالة البراءة لا وجه لدفع احتمال تعيّنه بتعذّر الفرد الآخر بأصالة البراءة ، لفرض كون التعيّن العرضي فيه بمقتضى إثبات التخيير بينهما بالأصل. وحينئذ نقول : إنّ ما اختاره في تلك المسألة من كون ما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير مجرى للبراءة ، ينافي ما اختاره هنا من كون الفرد المحتمل للتعيين العرضي لأجل تعذّر الفرد الآخر مجرى لها ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ ما اختاره هنا من كون الفرد المحتمل للوجوب التعييني والتخييري مجرى لاستصحاب عدم سقوط وجوبه بالإتيان بالفرد الآخر ، الذي مقتضاه وجوب الأخذ بمحتمل التعيين ، ينافي ما اختاره في تلك المسألة من الحكم بالتخيير فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير العقلي بأصالة البراءة ، لفرض كون أصالة عدم السقوط مقتضيا للأخذ بمحتمل التعيين.

ولكنّك خبير بإمكان منع جريان هذا الأصل في المقام ، لأنّ المستصحب إن كان هو عدم سقوط الوجوب التعيني فهو غير محرز قبل الإتيان بالفرد الآخر ، لفرض الشكّ فيه. وإن كان هو عدم سقوط الوجوب المشترك بين التعيين و

وربّما يتخيّل (١٣٥٧) من هذا القبيل ما لو شكّ في وجوب الائتمام على من عجز

______________________________________________________

التخيير ، فأصالة البراءة حاكمة على هذا الأصل ، لكون الشكّ في السقوط مسبّبا عن الشكّ في الوجوب التعييني في الفرد المحتمل له ، فإذا ثبت عدم وجوبه تعيينا وكون المكلّف مخيّرا بينه وبين الفرد الآخر بأصالة البراءة ، ارتفع الشكّ عن سقوطه بالإتيان بالفرد الآخر. مضافا إلى أنّه مع الإتيان بالفرد المشكوك فيه يحصل الشكّ في الخروج من عهدة التكليف المعلوم إجمالا ، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو الإتيان بالفرد الآخر ، ومعها لا مجرى لاستصحاب عدم السقوط ، لحكومتها عليه وإن توافقا في المؤدّى.

١٣٥٧. يمكن أن ينتصر لهذا المتخيّل في منع كون الائتمام أحد فردي الواجب المتخيّر ، بأنّ ظاهر كلمات الفقهاء حيث حكموا بأنّه يجب تعلّم القراءة على من لا يحسنها ـ كما في الشرائع وغيره ـ هو وجوب التعلّم تعيينا ـ كما حكي التصريح به عن كشف الغطاء ـ لا تخييرا بينه وبين الائتمام ، وإلّا فلا بدّ أن يصرّحوا بالتخيير بينهما. وقد ادّعى في محكيّ مطالع الأنوار استفاضة الإجماع على وجوب التعلّم ، وادّعى أنّ ظاهرهم وجوبه تعيينا ، وإن ذكر بعده أنّه إن ثبت الإجماع عليه وإلّا فمقتضى الأدلّة كونه تخييرا. وقريب منه ما حكاه بعض الأساطين عن مصابيح العلّامة الطباطبائي.

وهذه العبارة إنّما تقال فيما كان ظاهر الأصحاب الإجماع عليه. ولكنّ الإنصاف عدم ثبوته. وإطلاق الفقهاء لوجوب التعلّم الموهم للوجوب التعييني إنّما هو إمّا لأجل معلوميّة جواز الائتمام كما ذكره بعضهم ، أو لعدم تمكّن أغلب الناس في أغلب الأوقات ـ سيّما أهل البادية والقرى ـ من الائتمام ، لا لأجل وجوب التعلّم تعيينا ، كما هو واضح وحينئذ فما استظهره المصنّف قدس‌سره لا يخلو من قوّة. وسيجيء تتمّة الكلام في ذلك.

وقد ذكر بعضهم أنّ الأحوط هو الائتمام. وفيه نظر ، لأنّ التعلّم إن كان

عن القراءة وتعلّمها ، بناء على رجوع المسألة إلى الشكّ في كون الائتمام مستحبّا مسقطا (١٣٥٨) أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة ، فيدفع وجوبه التخييري (١٣٥٩) بالأصل.

لكنّ الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا القبيل ؛ لأنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة ، فتتّصف بالوجوب لا محالة ، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب ، فيختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من غيره ، فإذا عجز تعيّن وخرج عن الاستحباب ، كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا. لكن يمكن منع تحقّق العجز فيما نحن فيه ؛ فإنّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة ؛ لسقوطها عنه بالتعذّر كسقوطها بالائتمام ، فتعيّن أحد المسقطين يحتاج إلى دليل.

قال فخر المحقّقين في الإيضاح في شرح قول والده قدس‌سرهما (١٣٦٠) : والأقرب وجوب الائتمام على الامّي العاجز : وجه القرب تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة. و

______________________________________________________

واجبا تعيينا في الواقع كان الأمر به مقتضيا للنهي عن الائتمام ، لأنّا وإن لم نقل بكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه بحسب الاجتهاد ، إلّا أنّه محتمل ، سيّما بعد ذهاب المشهور إليه ، وهو كاف في نفي موافقة الائتمام للاحتياط. نعم ، يتمّ ما ذكر مع ضيق الوقت ، لسقوط وجوب التعلّم حينئذ يقينا ، ولكن هذا في الحقيقة ليس عملا بالاحتياط.

١٣٥٨. بأن لم يتّصف الائتمام بالوجوب أصلا ، بل كان هو أمرا أجنبيّا مسقطا عن التكليف بالصلاة ، كالسفر بالنسبة إلى الصوم.

١٣٥٩. يعني : وجوبه التخييري المتعيّن بتعذّر أحد الفردين.

١٣٦٠. نظر والده إمّا إلى ما ذكره المصنّف قدس‌سره من كون الائتمام والانفراد مع القراءة من قبيل فردي الواجب المخيّر ، فإذا تعذّر الثاني تعيّن الأوّل. وإمّا إلى ما ذكره الفخر من كون الائتمام بدلا اختياريّا ، والصلاة مع الإتيان فيها بما يحسن من القراءة مع العجز عنها بدلا اضطراريّا ، ومع تعذّر المبدل وإن لم يتعيّن أحد البدلين إلّا أنّ البدل الاختياري أولى بالتقديم في الاعتبار ، لكونه مجعولا في عرض

يحتمل عدمه ؛ لعموم نصّين (١٣٦١) : أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم. والثاني : ندبيّة الجماعة. والأوّل أقوى ؛ لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا فيتعيّن عند الضرورة ؛ لأنّ كلّ بدل اختياري يجب عينا عند تعذّر مبدله ، وقد بيّن ذلك في الاصول.

ويحتمل العدم ؛ لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على المأموم ، والتعذّر أيضا مسقط ، فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ؛ إذ التقدير أنّ كلا منهما سبب تامّ. والمنشأ أنّ قراءة الإمام (١٣٦٢) بدل أو مسقط (١٣)؟ انتهى. والمسألة محتاجة إلى التأمّل.

______________________________________________________

المبدل التامّ الأجزاء ، بخلاف البدل الاضطراري ، لكونه مجعولا في طوله. وستعرف تتمّة الكلام في ذلك.

١٣٦١. عموم الأوّل من حيث شموله للمتمكّن من الجماعة وغيره. والثاني من حيث شموله للعاجز عن القراءة. ومقتضاهما جواز صلاة العاجز منفردا ولو مع التمكّن من الجماعة.

١٣٦٢. لا يخفى أنّ ما يحتمله المقام وجوه :

أحدها : أن يكون من قبيل تعذّر أحد فردي الواجب المخيّر ، كما عرفته عند شرح قوله : «في شرح قول والده ...».

وثانيها : أن يكون من قبيل دوران الأمر بين البدل الاختياري والاضطراري. وقد عرفت هناك أن مقتضاه وجوب تقديم البدل الاختياري.

لا يقال : إنّ كون البدل الاختياري في عرض المبدل والاضطراري في طوله ـ كما تقدّم هناك ـ إنّما يقتضي أولويّة تقديمه لا وجوبه ، إذ الفرض تحقّق موضوع الاضطرار. لأنّا نقول : نمنع صدق الاضطرار مع التمكّن من البدل الاختياري.

وثالثها : أن يكون من قبيل دوران الأمر بين البدل الاختياري والمبدل الناقص ، ففي تقديم الأوّل أو ثبوت التخيير بينهما وجهان ، ذكرهما المصنّف رحمه‌الله في

.................................................................................................

______________________________________________________

مسائل الشكّ في الأجزاء والشرائط عند دوران الأمر بين البدل الاضطراري والمبدل الناقص ، من أنّ مقتضى البدليّة كونه بدلا عن التامّ ، فيقدّم على الناقص ، ومن أنّ الناقص حال الاضطرار تامّ ، لانتفاء جزئيّة المفقود ، فيثبت التخيير بينهما كثبوته بين المبدل والبدل الاختياري.

ورابعها : أن يكون من قبيل دوران الأمر بين المسقطين ، ولا ترجيح حينئذ كما ذكره فخر الدين. وحينئذ لا بدّ من تحقيق كون قراءة الإمام بدلا أو مسقطة ، وكذا تحقيق كون تعذّر الجزء مسقطا ، أو كون الصلاة الفاقدة للجزء بدلا اضطراريّا كالتيمّم بالنسبة إلى الوضوء والغسل ، أو مبدلا أصليّا ، غاية الأمر أن يكون تعلّق الأمر به مرتّبا على تعذّر الجزء المفقود ، كما هو ظاهر قول المصنّف رحمه‌الله إنّ الناقص حال الاضطرار تامّ ، لانتفاء جزئيّة المفقود كما عرفت. وليعلم أنّ المنساق من لفظ المسقط في أمثال المقام هو ما كان سببا لسقوط التكليف من دون حصول امتثال للأمر ، فلا يشمل امتثال الأمر وإن كان سببا لارتفاعه. ولا يبعد شموله ، لمخالفته لكونها سببا للسقوط. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المنساق منه ما كان مسقطا للتكليف من دون ترتّب عقاب على المكلّف من جهته ، فتدبّر. والظاهر عدم شموله أيضا للإتيان ببدل المأمور به ، لأنّه في حكمه ، ولا لأدائه من دون امتثال ، كأداء الدين من دون قصد إطاعة الأمر المتعلّق به. ومن هنا يظهر كون المسقط مباينا للبدل ، وكذا الإسقاط للامتثال والأداء. نعم ، الامتثال أخصّ من الأداء مطلقا.

ثمّ إنّ الإسقاط تارة يحصل بفعل المكلّف ، كما إذا أتى بالمكلّف به في حال الذهول عن الأمر في غير التعبّديات ، واخرى بفعل الغير ، كما إذا وجب عليه تحصيل الماء للوضوء ففاجأه من أتاه به. وأيضا قد يحصل بالفعل المباح ، كما في المثال الأوّل ، وقد يحصل بالفعل الحرام ، كما إذا ركب الدابّة المغصوبة في طريق الحجّ ، أو غسل توبه النجس بالماء المغصوب إذا وجب غسله للصلاة.

وإذا عرفت هذا نقول : يمكن أن يستدلّ على كون الائتمام أو قراءة الإمام

.................................................................................................

______________________________________________________

مسقطا لا بدلا بوجوه :

أحدها : أنّ ظاهر الفقهاء حيث حكموا بوجوب تعلّم القراءة على من لا يحسنها هو وجوبه تعيينا ، إذ لو وجب ذلك تخييرا بينه والائتمام لأشاروا إلى ذلك. وقد أوضحنا ذلك عند شرح قوله : «وربّما يتخيّل». ولكنّا قد أسلفنا هناك ما يزيّفه أيضا.

وثانيها : ظاهر خبر إبراهيم بن علي المرافقي وعمر بن الربيع البصري المنجبر ضعف سنده ـ كما قيل ـ بالشهرة المحكيّة أو المحصّلة ، أنّه سئل جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن القراءة خلف الإمام ، فقال : «إذا كنت خلف الإمام وتتولّاه وتثق به ، فإنّه يجزيك قراءته ، وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت به ، فإذا جهر فأنصت ، قال الله تعالى : (وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). إذ لو كان الائتمام بدلا عن صلاة الانفراد مع القراءة لم تكن قراءة الإمام مجزية عن قراءته ، بل كان نفس الائتمام بدلا عنها. مضافا إلى صراحتها ـ كغيرها من جملة من الأخبار ـ في جواز قراءة المأموم أيضا ، فلو كان الائتمام بدلا عنها لزم الجمع بين العوض والمعوّض. ويؤيّده أنّ الأشهر ـ كما عن المعتبر والدروس ، بل المشهور كما في الروضة ـ كراهة قراءة المأموم غير المسبوق خلف الإمام المرضي في أوليي الفريضة الإخفاتيّة.

وثالثها : ظاهر الإجماعات المحكيّة صريحا وظاهرا عن جماعة على سقوط القراءة عن المأموم في أوليي الفريضة الإخفاتيّة.

ورابعها : الأخبار الدالّة على ضمان الإمام القراءة دون غيرها ، بناء على كون المراد به سقوطها بقراءته كما ادّعاه في الجواهر.

وخامسها : ما ذكره في الجواهر في مقام نفي التخيير بين الائتمام وتعلّم القراءة لمن لا يحسنها : «من عدم كون الائتمام من أفعال المكلّف كي يتخيّر بينهما ، ضرورة توقّفه على ما لا يدخل تحت قدرته ، مع عدم اطمئنانه بإتمام صلاته جماعة بحيث لا يحتاج فيها إلى القراءة» انتهى.

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنّ الإنصاف أنّ شيئا من هذه الوجوه لا يغني من جوع. أمّا الأوّل فلما عرفت. وأمّا الثاني فلأنّ الظاهر أنّ المراد بالإجزاء فيه مجرّد عدم وجوب القراءة على المأموم مع قراءة الإمام ، لوضوح عدم ورود الخبر في مقام بيان بدليّة الائتمام أو كونه مسقطا. ومنه يظهر ضعف دلالة الثالث والرابع أيضا ، لوضوح ورودهما في مقام بيان عدم وجوب القراءة ، لا في مقام بيان البدليّة أو الإسقاط. وأمّا قضيّة الجمع بين البدل والمبدل ، ففيه : أنّ الائتمام بدل عن وجوب القراءة في حال الانفراد في بعض الموارد ، كما في الأوليين من الفريضة الإخفاتيّة ، وعن أصل مشروعيّتها في موضع آخر ، كما في الأوليين من الفريضة الجهريّة مع سماع القراءة ، والأوّل لا ينافي جوازها.

وأمّا الخامس ، فيرد عليه : أنّ الائتمام لو لم يكن مقدورا للمكلّف لم يرد الأمر به ، والمقصود من بدليّته بدليّة المقدار المقدور منه لا مطلقا. نعم ، يرد ما ذكر على دعوى بدليّة قراءة الإمام إن قلنا باعتبار تعلّق القدرة بالشيء في بدليّته عن المأمور به ، فتدبّر. وحينئذ يتّجه ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون صلاة الجماعة أحد فردي الواجب المخيّر ، وكونها أفضلهما.

وحينئذ إن قلنا بكون المبدل الناقص تامّا ، لأجل انتفاء جزئيّة المفقود كما تقدّم عن المصنّف رحمه‌الله ثبت التخيير بينهما. وإن قلنا بكونه بدلا اضطراريّا يمكن الحكم بتعيّن الائتمام ، لعدم صدق الاضطرار مع التمكّن من البدل الاختياري. ويحتمل عدمه ، نظرا إلى تحقّق موضوع الاضطرار حقيقة. وكذلك إن قلنا بكونه مسقطا ، لفرض عدم العلم بإسقاطه في محلّ الفرض ، فالخروج من عهدة التكليف المعلوم إجمالا لا يحصل إلّا بالايتمام. وليس في المقام شيء تطمئنّ به النفس في تعيين أحد الوجوه المذكورة. وما عرفته من المصنّف رحمه‌الله من انتفاء جزئيّة المفقود لا يدلّ على كون الباقي مأمورا به ، لاحتمال كون سقوط التكليف به لأجل كونه أمرا أجنبيّا مسقطا له أو بدلا اضطراريّا ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ الكلام في الشكّ (١٣٦٣) في الوجوب الكفائي ـ كوجوب ردّ السلام على

______________________________________________________

١٣٦٣. اعلم أنّه قد بقي في المقام أمران :

أحدهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من كون الكلام في الشكّ في الوجوب الكفائي نظير الكلام في الشكّ في الوجوب التخييري ، فنقول : إذا شكّ في وجوب فعل كفاية أو كونه مباحا لا يمكن نفي وجوبه بأصالة البراءة ، لما تقدّم سابقا ـ وسيجيء أيضا ـ من كون مقتضاها مجرّد نفي العقاب لا نفي الخطاب الواقعي ، ولا عقاب على ترك الواجب الكفائي مع قيام الغير به. نعم ، لو احتمل تعيّنه ، لأجل عدم وجود من تقوم به الكفاية ، أو لعدم قيامه به مع وجوده ، أمكن نفي وجوبه العيني العرضي المحتمل حينئذ بها. وأمّا أصالة العدم فهي جارية هنا بلا إشكال. وعليه لا يجوز للمصلّي ردّ السلام إلّا بقصد القرآن أو الدعاء ، بناء على جوازه فيها. وأمّا أصالة عدم اللازم الوضعي فهي غير جارية بالنسبة إلى المصلّي الشاكّ. نعم ، هي جارية بالنسبة إلى غيره ممّن قطع بتوجّه خطاب إليه وشكّ في كون مفاده الوجوب العيني أو الكفائي ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّ الأصل عدم سقوطه عنه بفعل المصلّي.

وثانيهما : أنّ الأصحّ عدم جريان أصالة البراءة في الواجبات التي لا يترتّب على مخالفتها عقاب ، مثل الوجوب التبعي للمقدّمة إن قلنا بعدم ترتّبه عليه ، فلا يمكن نفي وجوبها بالأصل عند الشكّ فيه ، كما زعمه جماعة. ولا ينافي ذلك ما اخترناه من إجراء البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، لوضوح الفرق بينهما ، لأنّ الشكّ في وجوب المقدّمة إنّما هو بعد إحراز كونها مقدّمة لواجب ، فلا أثر لنفي وجوبها حينئذ ، إذ مقدّمات الواجب لا بدّ من الإتيان بها ، سواء قلنا بوجوبها أم لا ، لفرض توقّف الواجب عليها ، بخلاف ما لو شكّ في أصل الجزئيّة والشرطيّة ، إذ هذا المعنى قابل لنفيه بالبراءة ، وإن لم تكن نفس الجزء والشرط ممّا يترتّب عليه عقاب ، لأن محتمل الجزئيّة إن كان جزءا في الواقع ترتّب على تركه ترك الواجب

.................................................................................................

______________________________________________________

في الواقع ، فعند تركه يحتمل ترتّب العقاب على تركه ولو من جهة إفضائه إلى ترك الواجب ، وحينئذ يصحّ أن يقال : الأصل عدم ترتّب عقاب على تركه وإن كان من جهة إفضائه إلى ترك الواجب ، وسيجيء توضيحه في محلّه إن شاء الله تعالى ، بخلاف وجوب المقدّمة على ما عرفت.

نعم ، لو قلنا بكون مقتضى البراءة رفع التكليف مطلقا ، سواء كان إلزاميّا مثل الوجوب والحرمة ، أم غيره كالاستحباب والكراهة ، أمكن نفي الوجوب التبعي أيضا بالأصل ، ولكنّه خلاف التحقيق.

وإن شئت تحقيق المقام وإن كان خارجا من المقصود نقول : إنّهم قد اختلفوا في جواز التمسّك بأصالة البراءة في غير التكاليف الإلزاميّة على قولين ، فقيل ب «لما» ، وهو المحكيّ عن المشهور ، وقيل ب «نعم» ، وهو المحكيّ عن بعض كتب العلّامة ، وتبعهما صاحبا الهداية والفصول. والحقّ هو الأوّل ، لأنّ البراءة تارة تفرض بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة ، واخرى بالنسبة إلى الأحكام الظاهريّة.

أمّا الأوّل ، فكما في زمن الحضور مع فرض فقد الموانع من قبل المكلّف والمكلّف من تبليغ الأحكام وإيصالها إلى المكلّفين ، لاستقلال العقل حينئذ مع عدم بيان الشارع بعدم الحكم في الواقع وإن كان هو الاستحباب أو الكراهة ، لأنّ عدم بيانه له لو فرض وجوده في الواقع ينافي الغرض المقصود من جعل الأحكام وأمر السفراء بتبليغها.

وأمّا الثاني ، فكما في أمثال زماننا الذي منعت الحوادث من وصول الأحكام إلينا ، إذ لا ريب في تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما يجب عليه تبليغه من الأحكام إلى أوصيائه المعصومين عليهم‌السلام ، وهم أيضا لم يقصّروا في تبليغها إلى المكلّفين ، إنّما منعهم من ذلك تغلّب الظالمين ، ونحن نعلم أنّه لو ارتفعت الموانع لظهرت الحجّة ، وبيّن الأحكام على ما هي عليه في كلّ ما تحتاج إليه الأمّة. ولا ريب أنّه مع وجود المانع وعدم وصول البيان من الشارع ، فالعقل إنّما يستقلّ بقبح العقاب على مخالفة

المصلّي إذا سلّم على جماعة وهو منهم ـ يظهر ممّا ذكرنا ، فافهم.

المسألة الثانية : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة إجمال اللفظ كما إذا قلنا باشتراك لفظ «الأمر» بين الوجوب والاستحباب أو الإباحة. والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط ، وقد تقدّم عن المحدّث العاملي في الوسائل : أنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، ويشمله أيضا معقد إجماع المعارج (١٤).

______________________________________________________

الواقع لو كان فيه ما يوجبه ، وأمّا دلالته على قبح التكليف بما لم يوعد العقاب على فعله أو تركه فلا. وحينئذ لو فرض في الواقع واجب لا يترتّب على موافقته ثواب ولا على مخالفته عقاب ، مثل الواجبات التبعيّة المستفاد خطابها من خطاب ذي المقدّمة على القول بها ، لا يستقلّ العقل بنفيها عند الشكّ فيها. وكذا الكلام في الاستحباب والكراهة. والتمسّك في ذلك بقبح خطاب الجاهل يدفعه حسن الاحتياط يقينا ، فيجوز للشارع أن يكتفي من بيان ما لم يوعد عليه بما هو معلوم عند الجاهل من حسن الاحتياط. هذا إذا لم يكن الأمر فيه دائرا بين المحذورين ، كالاستحباب والكراهة. وسيجيء حكم الدوران بينهما في محلّه إن شاء الله تعالى.

وإذا حقّقت ذلك فاعلم : أنّ الصورة الأصليّة ـ أعني : صورة إجراء البراءة بالنسبة إلى زمن الحضور ـ خارجة من محلّ كلام المنازعين في أصالة البراءة ، لأنّ مبناها حينئذ على قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولم يتمسّك به أحد في إثبات اعتباره سوى المحقّق القمّي رحمه‌الله في بعض كلماته ، وقد خطّأه المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته الآتية.

فمقصودهم منها إنّما هو إجرائها بالنسبة إلى أمثال زماننا التي قد صدر عن الشارع فيها بيان جميع الأحكام حتّى أرش الخدش ، إلّا أنّه منعت الحوادث من وصولها إلينا ، وقد عرفت أنّ غاية ما يستقلّ العقل بنفيه فيها هو مجرّد نفي العقاب. وحينئذ نقول : إنّ القائل بالبراءة مطلقا ، سواء كانت في مورد الحكم الإلزامي أم غيره ، إن أراد إجرائها بالنسبة إلى زمن الحضور فقد عرفت خروجه من محلّ الكلام. وإن أراد إجرائها بالنسبة إلى أمثال هذا الزمان ، فقد عرفت عدم نهوضها حينئذ لنفي الاستحباب والكراهة.

لكن تقدّم من المعارج ـ أيضا ـ عند ذكر الخلاف في وجوب الاحتياط وجود القائل بوجوبه هنا ، وقد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدّث الأسترآبادي بوجوب التوقّف والاحتياط هنا ، قال في الحدائق بعد ذكر وجوب التوقّف : إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب.

وفيه أوّلا : منع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة. وثانيا : أنّ مرجع ذلك إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة ، ومن المعلوم أنّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والحكم الخفيّة. ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ؛ فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب (١٥) ، انتهى.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ القائل بالبراءة الأصليّة إن رجع إليها من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجع ذلك إلى دعوى كون حكم الله هو الاستحباب ، فضلا عن تعليل ذلك بالبراءة الأصليّة. وإن رجع إليها بدعوى حصول الظنّ فحديث تبعيّة الأحكام للمصالح وعدم تبعيّتها ـ كما عليه الأشاعرة ـ ، أجنبيّ عن ذلك ؛ إذ الواجب عليه إقامة الدليل على اعتبار هذا الظنّ المتعلّق بحكم الله الواقعي ، الصادر عن المصلحة أو لا عنها على الخلاف.

وبالجملة : فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نصّ فيه وبين ما اجمل فيه النصّ ، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظنّ ، حتّى لو جعل مناط الظنّ عموم البلوى ؛ فإنّ عموم البلوى فيما نحن فيه يوجب الظنّ بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور ؛ وإلّا لنقل مع توفّر الدواعي ، بخلاف الاستحباب لعدم توفّر الدواعي على نقله.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حسن الاحتياط جار هنا ، والكلام في استحبابه شرعا كما تقدّم. نعم ، الأخبار المتقدّمة فيمن بلغه الثواب لا يجري هنا ؛ لأنّ الأمر لو دار بين الوجوب والإباحة لم يدخل في مواردها ؛ لأنّ المفروض احتمال الإباحة فلا يعلم بلوغ الثواب. وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة. ولو دار بين الوجوب والاستحباب

لم يحتج إليها (١٣٦٤) ، والله العالم.

المسألة الثالثة : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة تعارض النصّين وهنا مقامات (١٣٦٥) ، لكنّ المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقّف والاحتياط. والمعروف عدم وجوبه هنا ، وما تقدّم في المسألة الثانية من نقل الوفاق والخلاف آت هنا.

وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان بوجوب التوقّف والاحتياط هنا ، ولا مدرك له سوى أخبار التوقّف التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة على الوجوب فيما نحن فيه (١٣٦٦) ، مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة (١٣٦٧) والتخيير. وما دلّ على التوقّف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد منهما مختصّ أيضا بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام.

وأمّا رواية عوالي اللآلي المتقدّمة الآمرة بالاحتياط وإن كانت أخصّ منها (١٣٦٨) ، إلّا أنّك قد عرفت ما فيها مع إمكان حملها على صورة التمكّن من الاستعلام. ومنه يظهر عدم جواز (١٣٦٩) التمسّك هنا بصحيحة ابن الحجّاج

______________________________________________________

١٣٦٤. لفرض ثبوت أصل الرجحان الشرعيّ ، فيصحّ به قصد القربة في العبادات ، وإن لم يعلم أنّ رجحانه من جهة وجوبه أو استحبابه في الواقع.

١٣٦٥. من أنّ مقتضى القاعدة فيما تعارض فيه نصّان ، هل هو التخيير ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو التوقّف ، أو الاحتياط؟ على ما ذكره مستوفى في باب التعادل والترجيح.

١٣٦٦. من الشكّ في التكليف.

١٣٦٧. فيما تعارض فيه نصّان.

١٣٦٨. لاختصاص دلالتها على التوسعة والتخيير بصورة عدم إمكان الاحتياط ، بخلاف أخبار التخيير.

١٣٦٩. يستفاد منه اشتراط جواز الحكم بالتخيير في تعارض الخبرين من باب الأخبار بالفحص عن الأدلّة ، كالحكم بالتخيير من باب العقل فيما دار الأمر

المتقدّمة الواردة في جزاء الصيد ، بناء على استظهار شمولها باعتبار المناط لما نحن فيه.

وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة : التوقيع المرويّ (١٣٧٠) في الاحتجاج عن الحميريّ ، حيث كتب إلى الصاحب عجّل الله فرجه : «يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه تكبيرة ، ويجوز أن يقول بحول الله وقوّته أقوم وأقعد. الجواب : في ذلك حديثان ، أمّا أحدهما ، فإنّه إذا انتقل عن حالة إلى اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الحديث الآخر ، فإنّه روي : أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتشهّد الأوّل يجري هذا المجرى (١٣٧١) ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا ...» (١٦).

______________________________________________________

فيه بين محذورين من دون نصّ. وهو كذلك ، لوجوب الفحص المعتبر عن المعارض في العمل بالأخبار ، وعدم كفاية وجدان المعارض في الجملة.

ثمّ إنّ التمسّك بالصحيحة مبنيّ على كون موردها من قبيل الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، ليرجع إلى الشكّ في التكليف ، لا الارتباطيّين ، وإلّا كان أجنبيّا عمّا نحن فيه. اللهمّ إلّا أن يريد بالمناط ما يشمل ذلك. لكنّ الظاهر أنّ المقصود منه تعدية حكم ما لا نصّ فيه إلى صورة تعارض النصّين ، نظرا إلى كون المناط في الأوّل هو الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي ، فتدبّر.

١٣٧٠. لا يذهب عليك أنّه لم يحك عن أحد الفتوى بمضمون التوقيع سوى المفيد ، حيث حكى عنه في الجواهر القول بمشروعيّة التكبير عند القيام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة. ثمّ قال : وفي الذكرى لا نعلم له مأخذا. وحينئذ يكون التوقيع مطروحا يشكل التمسّك به في المقام. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ طرحه من جهة ما ذكرناه لا يستلزم طرحه من جهة دلالته على التخيير في تعارض الخبرين ، بناء على جواز التبعيض في السند ، كما سيجيء في باب التعادل والترجيح ، فتدبّر.

١٣٧١. يعني : أنّ القيام من التشهّد أيضا قيام بعد الجلوس من السجدة الثانية ،

فإنّ الحديث الثاني وإن كان أخصّ من الأوّل وكان اللازم تخصيص الأوّل به والحكم بعدم وجوب التكبير ، إلّا أنّ جوابه صلوات الله وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدلّ على أنّ الحديث الأوّل نقله الإمام عليه‌السلام بالمعنى وأراد شموله (١٣٧٢) لحالة الانتقال من القعود إلى القيام بحيث لا يمكن (*) إرادة ما عدا هذا الفرد منه ، فأجاب عليه‌السلام بالتخيير. ثمّ إنّ وظيفة الإمام عليه‌السلام وإن كانت إزالة الشبهة عن الحكم الواقعي ، إلّا أنّ هذا الجواب لعلّه تعليم طريق العمل عند التعارض مع عدم وجوب التكبير عنده في الواقع ، وليس فيه الإغراء بالجهل من حيث قصد الوجوب فيما ليس بواجب من جهة (**) كفاية قصد القربة (١٣٧٣) في العمل.

وكيف كان : فإذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئيّة وعدمه ، ثبت فيما نحن فيه ـ من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقلّ ـ بالإجماع والأولوية القطعيّة (١٣٧٤).

ثمّ إنّ جماعة من الاصوليّين ذكروا في باب التراجيح الخلاف في ترجيح الناقل أو المقرّر ، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل. وذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب و

______________________________________________________

فتشمله الرواية الثانية.

١٣٧٢. بأن كان نصّا في هذا الفرد ، مثل أن يقع التصريح فيه بجميع حالات الانتقال على وجه لا يقبل التقليد أو التخصيص.

١٣٧٣. لا يخفى أنّ الإغراء إنّما هو من جهة قصد الوجوب فيما ليس بواجب إذا أخذ بالرواية الاولى ، وهو لا يندفع بالقول بكفاية قصد القربة في العمل ، إذ اللازم في المقام هو قصد الخلاف ، وهو غير جائز على هذا القول أيضا.

١٣٧٤. لأنّه إذا ثبت التخيير وعدم وجوب الاحتياط في مورد الشكّ في المكلّف به ، ففي مورد الشكّ في التكليف أولى.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «لا يمكن» ، لا يتمكّن.

(**) في بعض النسخ : بدل «من جهة» ، لأجل.

المفيد للإباحة ، وذهب جماعة إلى ترجيح الأوّل وذكروا تعارض الخبر المفيد للإباحة والمفيد للحظر ، وحكي عن الأكثر بل الكلّ تقديم الحاظر ، ولعلّ هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار (١٣٧٥).

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين الوجوب وغيره من جهة الاشتباه في موضوع الحكم والحكم فيه البراءة ؛ ويدلّ عليه جميع (١٣٧٦) ما تقدّم في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة من أدلّة البراءة عند الشكّ في التكليف. وتقدّم فيها أيضا اندفاع توهّم أنّ التكليف إذا تعلّق بمفهوم وجب مقدّمة لامتثال التكليف في جميع أفراده موافقته في كلّ ما يحتمل أن يكون فردا له.

______________________________________________________

١٣٧٥. فلا ينافي المشهور ـ بل المنقول عليه الاتّفاق ـ من القول بالتخيير هنا. ولكن قد تقدّم في المسألة الاولى تضعيفه لهذا الوجه ، فراجع. مع أنّ الكلام في المسألتين لو كان مع قطع النظر عن الأخبار صارت المسألة فرضيّة ، وهو بعيد ، مضافا إلى أنّ لازمه القول بالتخيير مع ملاحظتها ، وهو مخالف لما يشاهد من عملهم في الفقه كما قيل.

فالأولى أن يقال : إنّ مرجع نزاعهم في تقديم الناقل أو الحاظر إلى النزاع في كون النقل أو الحظر مرجّحا في تعارض الخبرين وعدمه ، إذ اللازم أوّلا في تعارض الخبرين على مذهب المجتهدين هو استعمال الجهد في الفحص عن المرجّحات ، ثمّ الترجيح بها إن وجدت ، وإلّا فالتخيير. فمن قال بتقديم الناقل أو الحاظر فقد زعم كون ذلك مرجّحا عند التعارض ، وهو لا ينافي القول بالتخيير عند فقد المرجّحات ، كما إذا كان الخبران معا مخالفين للأصل.

١٣٧٦. لا يذهب عليك أنّ المصنّف رحمه‌الله قد استدلّ في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة أوّلا بالأخبار الخاصّة بها ، وثانيا بالكتاب والسنّة المتقدّمين في الشبهة التحريميّة الحكميّة.

ولا ريب في عدم شمول الأخبار للمقام ، وهو واضح. وأمّا الكتاب فكذلك أيضا ،

.................................................................................................

______________________________________________________

لظهور اختصاص الآيات المستدلّ بها على أصالة البراءة بالشبهات الحكميّة.

وأمّا السنّة فغاية ما يمكن أن يستدلّ به منها عليه هو حديث الرفع ، وقوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» لظهور اختصاص غيرها بالشبهات الحكميّة أيضا. والعمدة في المقام هو الإجماع حتّى من الأخباريّين. وأمّا العقل ، فقد تقدّم تقريب الدلالة فيه في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، فراجع.

وقد يتوهّم الخلاف في المسألة من صاحب الرياض ، قال فيما شكّ في بلوغ الذهب والفضّة نصابهما : «إنّ مقتضى الأدلّة وجوب الزكاة في النصاب ، وهو اسم لما كان نصابا في نفس الأمر من غير مدخليّة للعلم به في مفهومه ، وحينئذ فيجب تحصيل العلم والفحص عن ثبوته وعدمه في نفس الأمر ولو من باب المقدّمة. لكن ظاهر كلمة من وقفت عليه من الأصحاب الإطباق على عدم الوجوب هنا ، فإن تمّ إجماعا وإلّا فالأحوط الاستعلام أو إخراج ما يتيقّن معه بعدم اشتغال الذمّة ، كما صرّح به بعض متأخّري المتأخّرين» انتهى.

وفيه : أنّه قد صرّح بلا فصل بقوله : «وإن كان ما ذكروه لا يخلو عن قوّة ، لإمكان دفع المناقشة بما هنا ليس محلّه» انتهى. نعم ، قد فصّل هو بين ما شكّ في بلوغه النصاب ، وما علم بلوغه إليه وشكّ في الزائد ، بالقول بالبراءة في الأوّل ، وبالاحتياط تحصيلا للبراءة اليقينيّة عمّا علم اشتغال الذمّة به إجمالا في الثاني ، حاكيا له عن الشيخ ومنتهى العلّامة وجماعة. نعم ، ما نقله عن بعض متأخّري المتأخّرين صريح في المخالفة ، بل ما اختاره في المسألة الثانية أيضا كذلك ، لكونها من جملة موارد المسألة ، نظير مثال قضاء الفوائت الذي ذكره المصنّف قدس‌سره.

وكيف كان ، فقد يجاب عمّا استدلّ به لبعض متأخّري المتأخّرين بانصراف الألفاظ مطلقا أو الواردة منها في مقام بيان الأحكام ـ كما قيل ـ إلى المعاني المعلومة.

وفيه : ـ مع منع الانصراف وإن ادّعاه المحقّق القمّي رحمه‌الله في غير المقام ـ أنّ مقتضاه انحصار تعلّق الأحكام الواقعيّة بالموضوعات المعلومة ، فلا معنى للتمسّك

ومن ذلك يعلم (١٣٧٧) أنّه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال فيما إذا تردّدت الفائتة بين الأقلّ والأكثر ـ كصلاتين وصلاة واحدة ـ بناء على أنّ الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا يقتضي لزوم الاتيان بالأكثر من باب المقدّمة.

توضيح ذلك مضافا إلى ما تقدّم في الشبهة التحريميّة أنّ قوله : «اقض ما فات» يوجب العلم التفصيلي بوجوب قضاء ما علم فوته وهو الأقل ، ولا يدلّ أصلا على وجوب ما شكّ في فوته وليس فعله مقدّمة لواجب حتّى يجب من باب المقدّمة ، فالأمر بقضاء ما فات واقعا لا يقتضي إلّا وجوب المعلوم فواته ، لا من جهة دلالة اللفظ على المعلوم حتّى يقال : إنّ اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم ، بل من جهة أنّ الأمر بقضاء الفائت الواقعي لا يعدّ دليلا إلّا على ما علم صدق الفائت عليه ، وهذا لا يحتاج إلى مقدّمة ، ولا يعلم منه وجوب شىء آخر يحتاج إلى المقدّمة العلميّة.

والحاصل أنّ المقدّمة العلميّة المتّصفة بالوجوب لا تكون إلّا مع العلم الإجمالي. نعم ، لو اجري في المقام أصالة عدم الإتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه ، فله وجه (١٣٧٨) وسيجيء الكلام عليه.

______________________________________________________

حينئذ بالبراءة في الموضوعات المشتبهة ، للعلم بعدم تعلّقها بها حينئذ بحسب نفس الأمر ، وهو خلاف طريقة المحقّق المذكور وغيره مع أنّ مقتضاه نفي حسن الاحتياط ، وهو بديهي الفساد. فالأولى في الجواب : منع كون وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة مقتضيا لوجوب الاحتياط ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله ، مضافا إلى الإجماع وبعض الأخبار كما قدّمناه.

١٣٧٧. هذا بيان لعدم الفرق في موارد المسألة بين الشبهة البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي إذا كانت الشبهة فيها راجعة إلى الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، مع تضعيف قول المشهور في مسألة قضاء الفوائت.

١٣٧٨. لحكومة الاستصحاب الموضوعي على أصالة البراءة عن الزائد المشكوك فيه.

هذا ، ولكنّ المشهور بين الأصحاب رضوان الله عليهم بل المقطوع به من المفيد قدس‌سره إلى الشهيد الثاني أنّه لو لم يعلم كميّة ما فات قضى حتّى يظنّ الفراغ منها.

وظاهر ذلك ـ خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء بالظنّ رخصة ، وأنّ القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ـ كون الحكم على القاعدة.

قال في التذكرة : لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد ، صلّى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء ؛ لاشتغال الذمّة بالفائت ، فلا يحصل البراءة قطعا إلّا بذلك. ولو كانت واحدة ولم يعلم العدد (١٣٧٩) ، صلّى تلك الصلاة مكرّرا حتّى يظنّ الوفاء. ثمّ احتمل في المسألة احتمالين آخرين : أحدهما : تحصيل العلم ؛ لعدم البراءة إلّا باليقين ، والثاني : الأخذ بالقدر المعلوم ؛ لأنّ الظاهر أنّ المسلم لا يفوّت الصلاة ، ثمّ نسب كلا الوجهين إلى الشافعيّة (١٧) ، انتهى.

وحكي هذا الكلام بعينه عن النهاية ، وصرّح الشهيدان بوجوب تحصيل العلم مع الإمكان ، وصرّح في الرياض بأنّ مقتضى الأصل القضاء حتّى يحصل العلم بالوفاء تحصيلا للبراءة اليقينيّة. وقد سبقهم في هذا الاستدلال الشيخ قدس‌سره في التهذيب ، حيث قال : أمّا ما يدلّ على أنّه يجب أن يكثر منها ، فهو ما ثبت أنّ قضاء الفرائض واجب ، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلّص من ذلك إلّا بأن يستكثر منها ، وجب (١٨) ، انتهى.

وقد عرفت أنّ المورد من موارد جريان أصالة البراءة والأخذ بالأقل عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، كما لو شكّ في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه ، أو في أنّ الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر ، فإنّ الظاهر عدم إفتائهم بلزوم قضاء الظهر ، وكذا ما لو تردّد فيما فات عن أبويه أو فيما تحمّله بالإجارة بين الأقلّ والأكثر.

______________________________________________________

١٣٧٩. كما إذا فاتت الظهر من أيّام لم يعلم عددها.

وربّما يظهر عن بعض المحقّقين (١٣٨٠):

______________________________________________________

١٣٨٠. هو شيخنا (*) البهائي في حاشية المدارك على ما حكي عنه. وحاصل الفرق : أنّه إذا علم في الزمان السابق بفوات مقدار معيّن ولو بالعلم بفوات كلّ فائتة حين فوتها ، ثمّ نسي ذلك المقدار ، فمقتضى القاعدة هو القضاء حتّى يحصل العلم بالفراغ. وأمّا إذا شكّ في مقدار ما فات من غير سبق علم ونسيان منه ، كما إذا علم إجمالا باشتمال عدّة من صلواته السابقة على خلل موجب للبطلان ، ولم يعلم كميّتها وإن لم يعلم بذلك حين العمل ، فالحكم هنا البراءة من الزائد على القدر المتيقّن. وجعل الأمثلة المذكورة من قبيل الثاني دون الأوّل.

وحاصل ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله هو منع الفارق بين الصورتين ، نظرا إلى أنّ كلّ علم إجمالي منحلّ على علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فهو ليس موردا للاحتياط والاشتغال. وهذا محصّل ما ذكره سابقا.

وتوضيح المقام : أنّ المكلّف وإن علم بفوات كلّ صلاة فاتت منه حين فوتها ، ولم يكن النسيان أيضا مسقطا للقضاء ، لكنّ الشكّ بعده في عدد الفوائت يسري إلى الزائد على المتيقّن ، فيكون الزائد عليه مشكوكا من أصله ، فلا وجه للاستناد إلى الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال. ولا فرق فيما ذكرناه بين ما لو علم بفوات صلاة الظهر بخصوصها وشكّ في فوات العصر معها وعدمه ، وما لو علم بفوات عدد مجهول مردّد ابتداء بين الأقلّ والأكثر ، وما لو علم فوات فرائض متعدّدة ، وعلم بفوات كلّ واحدة عند فواتها ، ولم يضبطها في عدد بعد فوتها ، و

__________________

(*) هذا غفلة من المحشّي قدس‌سره ، والعصمة لله وحده ، لأنّ الشيخ الأعظم قدس‌سره صرّح في المتن بأنّ كلام بعض المحقّقين في ردّ صاحب الذخيرة ، وصاحب الذخيرة كما في الذريعة ج ١٠ / رقم ٩٦ هو المحقّق السبزواري قدس‌سره ، ولد عام ١٠١٧ وتوفّى ١٠٩٠ ، وفرغ من تأليف المجلّة الأوّل من ذخيرة المعاد عام ١٠٥٠ ، بينما أنّ الشيخ البهائي قدس‌سره توفّى عام ١٠٣٠ أو ١٠٣١ ، فكيف يمكن أن يكون الردّ من الشيخ البهائي وقد توفّى قبل الفراغ من تأليف المردود عليه بعشرين سنة؟!!

.................................................................................................

______________________________________________________

ما لو علم بفوات عدد معيّن كالعشرة مثلا ثمّ نسي هذا العدد ، فدار أمره بين الأقلّ والأكثر ، لرجوع العلم الإجمالي في الجميع إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي. وإن شئت توضيحه فقسه على مسألة الدين ، إذ لا ريب أنّ من علم أنّه كان عليه دين ونسي مقداره فلا ريب في كون شكّه في الزمان الثاني ساريا إلى الزائد على المتيقّن ، وسيجيء في مبحث الاستصحاب عدم الاعتداد بهذا الشكّ ، وعدم كونه موردا للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال ، فما يحكى عن بعضهم من التمسّك بهما في القسم الرابع لا وجه له.

ثمّ إنّ ما استظهره المصنّف رحمه‌الله من كلام المحقّق المذكور من الفرق بين ما نحن فيه وما ذكره من الأمثلة لا يخلو من إشكال. وتوضيحه : أنّ من فاته بعض صلواته ودار الأمر بين الأقلّ والأكثر لا يخلو : إمّا أن تكون المعلومة الفوت صلاة واحدة ويشكّ في الزائدة عليها ، وإمّا أن تكون صلوات متعدّدة ويشكّ في الزائدة عليها. وعلى التقديرين : إمّا أن يعلم بكلّ فائتة حين فوتها ، ثمّ يتردّد الأمر بين الأقلّ والأكثر لأجل النسيان ، من دون سبق علم بعدد مخصوص قبله وإمّا أن يعلم بعد الفوت عدد ما فاته ثمّ يعرض له النسيان وإمّا أن يحصل له العلم الإجمالي بفوات بعض صلواته الدائرة بين الأقلّ والأكثر ، من دون سبق علم بما فاته لا حين الفوت ولا بعده ، كما إذا وجد على ثوبه منيّا وعلم بإتيانه ببعض صلواته مع الجنابة ، إمّا بأن علم بإتيانه بصلاة واحدة معها وشكّ في الزائدة ، وإمّا بأن علم بإتيانه بصلوات متعدّدة معها وشكّ في الزائدة عليها. فالأقسام ستّة. وهذه الأقسام آتية أيضا في مسألة الدين ، وأكثرها في ما تحمّله عن أبويه أو بالإجارة ، وهو واضح.

وإذا تحقّق هذا نقول : إنّ ظاهر المحقّق المذكور هو التفصيل بين أقسام سبق العلم التفصيلي ثمّ عروض النسيان ، وقسمي عروض العلم الإجمالي ابتداء. وحينئذ إن أراد المصنّف رحمه‌الله بما نحن فيه ما علم المكلّف بفوات صلوات متعدّدة مع العلم

الفرق بين هذه الأمثلة وبين ما نحن فيه ؛ حيث حكي عنه ـ في ردّ صاحب الذخيرة القائل بأنّ مقتضى القاعدة في المقام الرجوع إلى البراءة ـ أنّه قال : إنّ المكلّف حين علم بالفوائت صار مكلّفا بقضاء هذه الفائتة قطعا ، وكذلك الحال في الفائتة الثانية والثالثة وهكذا ، ومجرّد عروض النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الإطلاقات والاستصحاب بل الإجماع أيضا؟ وأيّ شخص يحصل منه التأمّل في أنّه إلى ما قبل صدور النسيان كان مكلّفا ، وبمجرّد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت؟ وإن أنكر حجيّة الاستصحاب فهو يسلّم أنّ الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة إلى أن قال : نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجمالي (١٣٨١) باشتغال ذمّته بفوائت متعدّدة يعلم قطعا تعدّدها لكن لا يعلم مقدارها ، فإنّه يمكن حينئذ أن يقال : لا نسلّم

______________________________________________________

بكلّ واحدة منها حين فوتها ، أو مع العلم بعددها المخصوص بعد فوتها ، ثمّ عرض النسيان فدار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، يرد عليه ـ مع عدم الدليل على تخصيص كلمات العلماء بذلك ، لإطلاق حكمهم بوجوب القضاء حتّى يغلب على ظنّه الوفاء ـ أنّ ما ذكره المحقّق المذكور لا يصلح فارقا بين ما ذكر وما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الأمثلة ، لما عرفت من أنّ ما ذكره المحقّق المذكور من التفصيل جار في مثال الدين وما تحمّله من أبويه أو بالإجارة ، بل في ما لو علم بفوات صلاة واحدة وشكّ في الزائدة عليها ، مع إطلاق فتوى العلماء بالبراءة فيها.

وإن أراد به ما لو حصل العلم الإجمالي ابتداء بفوات صلوات متعدّدة ، مع دورانها بين الأقلّ والأكثر من دون سبق علم تفصيلي ، يرد عليه ـ مع عدم الشاهد له أيضا ـ أنّه لا معنى حينئذ للفرق الذي استظهره من كلام المحقّق المذكور بين ما نحن فيه وما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الأمثلة ، لأنّ المقصود من استظهار هذا الفرق تصحيح قول المشهور بوجوب الاحتياط فيما نحن فيه ، والمفروض أنّ المحقّق المذكور قد اختار القول بالبراءة في هذا المورد.

١٣٨١. بأن علم إجمالا بعروض خلل في بعض صلواته الماضية من دون علم به حين الإتيان بها.

تحقّق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقّنه. إلى أن قال : والحاصل أنّ المكلّف إذا حصّل له القطع باشتغال ذمّته بمتعدّد والتبس عليه ذلك كمّا ، وأمكنه الخروج عن عهدته ، فالأمر كما أفتى به الأصحاب ، وإن لم يحصّل ذلك ، بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث وأمّا أزيد من ذلك فلا ، بل احتمال احتمله ، فالأمر كما ذكره في الذخيرة. ومن هنا : لو لم يعلم أصلا بمتعدد في فائتة وعلم أنّ صلاة صبح يومه فاتت ، وأمّا غيرها فلا يعلم ولا يظنّ فوته أصلا ، فليس عليه إلّا الفريضة الواحدة دون المحتمل ؛ لكونه شكّا بعد خروج الوقت ، والمنصوص أنّه ليس عليه قضاؤها بل لعلّه المفتى به ، انتهى كلامه رفع مقامه.

ويظهر النظر فيه ممّا ذكرناه سابقا ، ولا يحضرني الآن حكم لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام (١٣٨٢) بل الظاهر منهم إجراء أصل البراءة في أمثال ما نحن فيه ممّا لا يحصى. وربّما يوجّه الحكم (١٣٨٣) فيما نحن فيه : بأنّ الأصل عدم الإتيان بالصلاة الواجبة ، فيترتّب عليه وجوب القضاء إلّا في صلاة علم الإتيان بها في وقتها.

______________________________________________________

١٣٨٢. قد تقدّم عند شرح قوله : «يدلّ عليه جميع ما تقدّم في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ...» حكم جماعة في مسألة الزكاة بوجوب الاحتياط في نظير المقام ، فراجع.

١٣٨٣. يعني : حكم المشهور بوجوب القضاء حتّى يعلم أو يظنّ الفراغ. وحاصله : أنّ استصحاب عدم الإتيان بالمشكوك فيه حاكم على أصالة البراءة عنه ، ولا فرق فيه بين القول بكون القضاء تابعا للأداء أو بأمر جديد ، لثبوت بقاء الأمر ، وكذا توجّه الخطاب بقضاء الفوائت بإثبات عدم الإتيان بالأصل. ومن هنا احتاج إلى دفع دعوى أنّ الحقّ كون القضاء بأمر جديد لا بالأمر الأوّل ، وهو في الأدلّة معلّق على صدق الفوت ، وهو أمر وجودي مسبوق بالعدم ، وإثباته بأصالة عدم الإتيان بالمشكوك فيه لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة ، ولا نقول بها.

وحاصل الدفع : هو منع كون القضاء مرتّبا على عنوان الفوت في الشرع بحيث يدور الحكم مدار صدق عنوانه ، ولذا يجب قضاء الصوم على الحائض مع

ودعوى : ترتّب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت بالأصل ، لا مجرّد عدم الاتيان الثابت بالأصل ، ممنوعة ؛ لما يظهر من الأخبار وكلمات الأصحاب من أنّ المراد بالفوت مجرّد الترك كما بيّناه في الفقه.

وأمّا ما دلّ على أنّ الشكّ (١٣٨٤) في إتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتدّ به ، فلا يشمل (١٣٨٥) ما نحن فيه. وإن شئت تطبيق (١٣٨٦) ذلك على قاعدة الاحتياط

______________________________________________________

عدم صدق عنوان الفوت مع وجود المانع. وما ورد من الأمر بقضاء ما فات كما فات مبنيّ على التعبير بالفرد الغالب من حصول ترك المأمور به في وقته مع التمكّن منه ، وإلّا فالمدار على مجرّد عدم الإتيان بالمأمور به ، لا عليه مع صدق عنوان الفوت عليه ، فتدبّر.

١٣٨٤. هي حسنة زرارة والفضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «متى استيقنت أو شككت في وقت صلاة أنّك لم تصلّها صلّيتها ، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوائت فقد دخل حائل ، فلا إعادة عليك من شكّ حتّى تستيقن ، وإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حال كنت».

١٣٨٥. ولعلّ الوجه فيه ـ كما صرّح به في الرياض ، وسيجيء ـ ظهور الحسنة في الشكّ البدوي ، فلا تشمل المشوب بالعلم الإجمالي كما في المقام. ولكنّ المصنّف رحمه‌الله سيصرّح بمنع هذا الظهور.

١٣٨٦. الفرق بين هذا التوجيه وسابقه : أنّ هذا التوجيه مبنيّ على منع جريان أصالة البراءة وسابقه على تسليمه ، وحكومة الاستصحاب الموضوعي عليها. وإن شئت قلت : إنّ المستصحب في السابق هو عدم الإتيان بالمأمور به الذي يتفرّع عليه توجّه الخطاب بالقضاء ، وهنا بقاء الأمر بالطبيعة.

وكيف كان ، فحاصل التوجيه هو الاستكشاف بالأمر بالقضاء عن كون المراد بالأمر بالأداء في الوقت أمرين : أحدهما : مطلوبيّة الطبيعة من حيث هي بإرادة مستقلّة ، والآخر : مطلوبيّة إيجادها في ضمن فرد خاصّ كذلك ، فإذا انتفى الثاني

اللازم ، فتوضيحه أنّ القضاء وإن كان بأمر جديد إلّا أنّ ذلك الأمر كاشف عن استمرار مطلوبيّة الصلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكّن من المكلّف ، غاية الأمر كون هذا على سبيل تعدّد المطلوب ، بأن يكون الكلّي المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا وكون إتيانه في الوقت مطلوبا آخر ، كما أنّ أداء الدين وردّ السلام واجب في أوّل أوقات الإمكان ، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني ، وهكذا.

وحينئذ : فإذا دخل الوقت وجب إبراء الذمّة عن ذلك الكلّي ، فإذا شكّ في براءة ذمّته بعد الوقت ، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقيني للبراءة اليقينيّة وجوب الإتيان ، كما لو شكّ في البراءة قبل خروج الوقت ، وكما لو شكّ في أداء الدين الفوري ، فلا يقال : إنّ الطلب في الزمان الأوّل قد ارتفع بالعصيان ووجوده في الزمان الثاني مشكوك فيه ، وكذلك جواب السلام. والحاصل : أنّ التكليف المتعدّد بالمطلق والمقيّد لا ينافي جريان الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالنسبة إلى المطلق ، فلا يكون المقام مجرى البراءة.

______________________________________________________

بقي الأوّل ، وإذا شكّ في الإتيان بالفرد تستصحب مطلوبيّة الطبيعة. وربّما يعضده أنّه لو لا تعدّد المطلوب في الأوامر الموقّتة أشكل تكليف الكفّار بالقضاء ، لأنّه إن كان بوصف الكفر فهو تكليف بما لا يطاق ، وإن كان بعد الإسلام فهو يجبّ عمّا قبله ، فلا يبقى معنى لتكليفهم بالقضاء. ولا مناص منه إلّا بما ذكرناه من تعدّد المطلوب ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّه إذا كان المطلوب بالأمر الموقّت أمرين : مطلوبيّة الطبيعة من حيث هي وإيجادها في الوقت ، فمقتضى الأوّل بقاء التكليف في خارج الوقت وإن استلزم التكليف بما لا يطاق ، ولا قبح فيه ، لأنّ الامتناع إنّما جاء من قبلهم لا من قبل المكلّف بالكسر ، لأنّه كان لهم قبول الإسلام في الوقت والإتيان بالطبيعة على وجه الصحة ، فإذا قصّروا في ذلك وتركوا الامتثال بها فالعقل لا يقبّح بقاء التكليف في خارجه ، بخلاف ما لو قلنا بكون التكليف مقيّدا بالوقت وكون القضاء بأمر مستقلّ ، إذ تقصيرهم في التكليف الأوّل حينئذ لا يصحّح بقاء التكليف الثاني ، كما هو واضح.

هذا ، ولكنّ الإنصاف ضعف هذا التوجيه لو سلّم استناد الأصحاب إليه في المقام. أمّا أوّلا (١٣٨٧) : فلأنّ من المحتمل بل الظاهر على القول بكون القضاء بأمر جديد ، كون كلّ من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا (١٣٨٨) للآخر ، فهو من قبيل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته ـ كما يكشف عن ذلك تعلّق أمر الأداء بنفس الفعل وأمر القضاء به بوصف الفوت (١٣٨٩) ، ويؤيّده (١٣٩٠) : بعض ما دلّ على أنّ لكلّ من الفرائض بدلا وهو قضاؤه عدا الولاية ـ لا من باب الأمر

______________________________________________________

والإنصاف أنّ المقام لا يصفوا عن شوب إشكال ، وإن زعم المحقّق القمّي رحمه‌الله كون سوء اختيار المكلّف مصحّحا للتكليف بالمحال ، والكلام في ذلك محرّر في مقام آخر.

١٣٨٧. لا يخفى أنّ هذه الإيرادات الثلاثة مختلفة ، فالأوّل وارد على التوجيه الأخير خاصّة ، والأخيران مشتركا الورود عليه وعلى سابقه.

١٣٨٨. المستند فيه ظهور الأمر بالأداء في اتّحاد التكليف ، والأمر بالقضاء في إرادة التكليف المستقلّ.

١٣٨٩. لا يقال : إنّ هذا بظاهره ينافي ما تقدّم من المصنّف من كون المراد بالفوت في الأخبار مجرّد الترك. لأنّا نقول : يتمّ المطلوب على التقديرين ، كما هو واضح.

١٣٩٠. يؤيّده أيضا وجوه :

أحدها : أنّ القضاء في مصطلح الفقهاء والاصوليّين تدارك ما فات في وقته في خارجه ، إذ المأتيّ به في خارج الوقت على ما ذكر في التوجيه لا يكون تداركا لما فات بل عينه. لا يقال : إنّ هذا اصطلاح متأخّر ، فلا يجوز حمل الأخبار عليه. لأنّا نقول : الظاهر كونه مأخوذا من إطلاقات القضاء في الأخبار.

وثانيها : أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «اقض ما فات» هو الإتيان بالفعل ثانيا بعد ارتفاع الأمر به ، وهو

لا يصدق مع بقاء الأمر الأوّل.

وثالثها : أنّه على ما ذكر في التوجيه يكون الأمر بالقضاء تأكيدا لما يستفاد

بالكلّي والأمر بفرد خاصّ منه كقوله : صم ، وصم يوم الخميس ، أو الأمر بالكلّي والأمر بتعجيله كردّ السلام وقضاء الدين ، فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ منع عموم ما دلّ على أنّ الشكّ في الإتيان بعد خروج الوقت لا يعتدّ به للمقام خال عن السند (١٣٩١).

______________________________________________________

من الأمر الأوّل ، وهو مطلوبيّة الطبيعة من حيث هي ، وعلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله يكون تأسيسا للأمر بالقضاء ، فمع الشكّ في كون إنشاء مطلوبيّة القضاء حين الأمر الأوّل أو حين الأمر الثاني فالأصل يقتضي تأخّره ، فتدبّر.

١٣٩١. لا يخفى أنّه مع تسليم العموم تكون القاعدة حاكمة على كلّ من استصحاب عدم الإتيان في الوقت ، وأصالة بقاء الأمر بالطبيعة وقاعدة الشغل.

ومنع العموم يظهر من الرياض عند شرح قول المحقّق : «ولو فاتته ـ يعني : من الفرائض ـ ما لم يحصه قضى حتّى يغلب على ظنّه الوفاء». قال : «على المشهور بل المقطوع به في كلام الأصحاب كما في المدارك ، وهو مشعر بالإجماع ، فإن تمّ وإلّا كان الرجوع إلى الاصول لازما ، ومقتضاها القضاء حتّى يحصل القطع بالوفاء ، تحصيلا للبراءة اليقينيّة عمّا تيقّن ثبوته في الذمّة مجملا. وبه أفتى شيخنا في الروض في بعض الصور وفاقا للذكرى ، خلافا لسبطه في المدارك ، فاستوجه الاكتفاء بقضاء ما تيقّن فواته خاصّة مطلقا وفاقا لمحتمل التذكرة. قال : لأصالة البراءة من التكليف بالقضاء ، مع عدم تيقّن الفوات. ويؤيّده الحسن : «متى ما استيقنت أو شككت في وقت صلاة أنّك لم تصلّها صلّيتها ، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوات فقد دخل حائل ، فلا إعادة عليك من شيء حتّى تستيقن ، وإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حال».

وفيه نظر ، لابتناء الأوّل ـ يعني : عدم وجوب القضاء ، لأصالة البراءة ـ على عدم حجيّة الاستصحاب ، وهو خلاف الصواب. والمتبادر من الثاني هو الشكّ في ثبوت أصل القضاء في الذّمة وعدمه ، ونحن نقول بحكمه الذي فيه. ولكنّه غير ما

.................................................................................................

______________________________________________________

نحن فيه ، وهو الشكّ في مقدار القضاء بعد القطع بثبوت أصله في الذمة واشتغالها به مجملا ، والفرق بينهما واضح لا يخفى» انتهى.

وأنت خبير بأنّ المتّجه ما ذكره صاحب المدارك ، لكون الشكّ في الزائد على المتيقّن بدويّا مندفعا بأصالة البراءة ، كما حقّقه المصنّف رحمه‌الله ، وأسلفنا توضيحه. ومنه يظهر أيضا فساد دعوى انصراف الرواية إلى صورة الشكّ البدوي.

نعم ، لا يجري الأصل في صورة دوران الأمر بين المتباينين ، كالشكّ في أنّ الفائتة هي الظهر أو العصر ، لعدم القدر المتيقّن في البين حتّى يؤخذ بالمتيقّن وينفى المشكوك فيه بالأصل.

وقال في المدارك : «إذا توضّأ المكلّف وضوءا رافعا للحدث فرضا أو نفلا ، ثمّ جدّد وضوءا آخر بنيّة الندب أو الوجوب ، ثمّ ذكر الإخلال بعضو من إحدى الطهارتين» إلى أن قال : «وإن اعتبرنا الرفع أو الاستباحة وقلنا بعدم رفع المجدّد وجب إعادتها ، يعني : الطهارة والصلاة الواقعة بعد الطهارتين ، لإمكان أن يكون الإخلال من الاولى ، والثانية غير مبيحة. وقوّى العلّامة في المنتهى عدم الالتفات إلى هذا الشكّ مطلقا ، لاندراجه تحت الشكّ في الوضوء بعد الفراغ. ونقله الشهيد في البيان عن السيّد جمال الدين بن طاوس رحمه‌الله واستوجهه. ويمكن الفرق بين الصورتين ، بأنّ اليقين هنا حاصل بالترك ، وإنّما حصل الشكّ في موضوعه ، بخلاف الشكّ بعد الفراغ ، فإنّه لا يقين فيه بوجه ، والمتبادر من الأخبار المتضمّنة لعدم الالتفات إلى الشكّ في الوضوء بعد الفراغ هو الوضوء الذي حصل الشكّ فيه بعد الفراغ منه ، فتأمّل» انتهى.

وهو وإن كان منظورا فيه ، إلّا أنّه أولى ممّا ذكره صاحب الرياض ، لأنّ اليقين ببطلان إحدى الطهارتين حاصل ، وليس هنا قدر متيقّن يؤخذ به ، وينفى الزائد المشكوك فيه بالأصل أو بقاعدة الفراغ من الوضوء ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ القدر المتيقّن فيه حاصل ، والزائد المشكوك فيه منفي بالأصل.

خصوصا مع اعتضاده بما دلّ على أنّ الشكّ في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه ، مثل قوله عليه‌السلام : «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه» ، ومع اعتضاده في بعض المقامات (١٣٩٢) بظاهر حال المسلم في عدم ترك الصلاة.

وأمّا ثالثا (١٣٩٣) : فلأنّه لو تمّ ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه إذا شكّ في مقدار ما فات منهما ، ولا أظنّهم يلتزمون بذلك ، وإن التزموا بأنّه إذا وجب على الميّت ـ لجهله بما فاته ـ مقدار معيّن يعلم أو يظنّ معه البراءة ، وجب على الوليّ قضاء ذلك المقدار ؛ لوجوبه ظاهرا على الميّت ، بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه.

وكيف كان : فالتوجيه المذكور ضعيف. وأضعف منه التمسّك (١٣٩٤) فيما نحن فيه بالنصّ الوارد في : «أنّ من عليه من النافلة ما لا يحصيه من كثرته ، قضى حتّى

______________________________________________________

وأمّا وجه النظر فيما ذكره صاحب المدارك فهو ما قرّر في محلّه من أنّ العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة إنّما يفيد وجوب الاحتياط إذا ترتّب على طرفي الشبهة أثر شرعيّ ، والفرض في المقام عدم ترتّب أثر على الوضوء المجدّد ، فإجراء قاعدة الشكّ بعد الفراغ بالنسبة إلى الوضوء الأصلي لا يعارض إجرائها في المجدّد.

١٣٩٢. كما إذا كان الشكّ في الترك العمدي ، لا بمثل النسيان والنوم ونحوهما.

١٣٩٣. هذا النقض وارد على التوجيهين. أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني فإنّه يمكن أن يقال أيضا : إنّ أمر الشارع للوليّ بقضاء ما فات عن أبيه من الصلوات يكشف عن مطلوبيّة صدورها في الخارج مطلقا ، سواء كان من الميّت أم الوليّ ، وإن كانت مطلوبيّة صدورها عن الوليّ مرتّبة على فواتها عن الميّت ، وأنّ إتيان الميّت بها في حال حياتها مطلوب آخر.

١٣٩٤. النصّ هي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع؟ قال : فليصلّ حتّى لا يدري كم صلّى من كثرتها ، فيكون قد قضى بقدر ما عليه من ذلك» الخبر. وقد استدلّ بها الشيخ في محكيّ التهذيب على استحباب

لا يدري كم صلّى من كثرته» بناء على أنّ ذلك طريق لتدارك ما فات ولم يحص ، لا أنّه مختصّ بالنافلة ، مع أنّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى ، فتأمّل.

______________________________________________________

قضاء ما يغلب على الظنّ فواته من النوافل.

ووجه الأضعفيّة ـ مع ابتنائه على ما ذكره المصنّف قدس‌سره ـ هو عدم دلالتها على وجوب تحصيل الظنّ أو العلم بالفراغ. اللهمّ إلّا أن يكون قوله : قضى حتّى لا يدري كم صلّى ، كناية عن حصول الظنّ لأجل كثرة ما صلّى. لكنّه كما ترى لا شاهد له. مع أنّ وجه الاستدلال في التعدّي عن موردها إلى ما نحن فيه إمّا هو تنقيح المناط أو الأولويّة. والأوّل ممنوع. والثانية بطريق أولى ، لأنّ النوافل أدنى مرتبة من الفرائض ، فلا يلزم من الاكتفاء فيها بالظنّ الاكتفاء به في الفرائض ، لثبوت التسامح فيها دونها. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التعدّي إنّما هو في مراعاة الاحتياط في الفرائض لا في كفاية الظنّ بالفراغ. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ الثابت في النوافل هو استحباب القضاء إلى أن يغلب على ظنّه الوفاء. والأولويّة إن تمّت إنّما تثبت الاستحباب في الفرائض دون الوجوب. ومن هنا يظهر الوجه في أمره بالتأمّل في الأولويّة التي ذكرها في المتن.

المصادر

(١) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٨.

(٢) الدرر النجفيّة ص ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) الحدائق الناضرة ، ج ١ : ص ٦٨ ـ ٧٠.

(٤) الفوائد المدنيّة : ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٥) معارج الاصول : ص ٢١٦.

(٦) الأنفال (٨) : ٢٠.

(٧) المؤمنون (٢٣) : ٦٠.

(٨) البقرة (٢) : ٤٣.

(٩) المحاسن ج ١ : ص ٩٣ ، الحديث ٢.

(١٠) عدّة الداعى : ص ١٢.

(١١) النساء (٤) : ١٣.

(١٢) الأنعام (٦) : ١٦٠.

(١٣) إيضاح الفوائد ج ١ : ص ١٥٤.

(١٤) معارج الاصول : ص ٢٠٨.

(١٥) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ٦٩ ـ ٧٠.

(١٦) الاحتجاج ج ٢ : ص ٣٠٤.

(١٧) تذكرة الفقهاء ج ٢ : ص ٣٦١.

(١٨) تهذيب الأحكام ج ٢ : ص ١٩٨.

المطلب الثالث : فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة وفيه مسائل : المسألة الاولى في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة (١٣٩٥) من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما كما إذا اختلفت الامّة على القولين بحيث علم عدم الثالث.

______________________________________________________

١٣٩٥. ينبغي قبل الأخذ في المطلوب من بيان امور :

الأوّل : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الواجب قد يكون تعيينيّا. وقد يكون تخييريّا عقليّا أو شرعيّا. وأمّا الحرام فالنهي إن تعلّق بفرد خاصّ فلا ريب في إفادته حرمته تعيينا. وإن تعلّق بالطبيعة يفيد حرمتها تعيينا بالأصالة. وكذا حرمة أفرادها كذلك من باب المقدّمة ، لأنّ امتثاله لا يمكن إلّا بالاجتناب عن جميع أفرادها بالالتزام ، يفيد العموم فيها لا محالة. نعم ، هو من قبيل المطلق بالنسبة إلى زمان الامتثال ، بل إطلاقه بالنسبة إليه أحوالي لا مادّي ، فإذا ترك أفراد الطبيعة في الزمان الثاني حصل امتثال النهي ، ما لم تفهم من الخطاب المتضمّن للنهي أو من الخارج إرادة العموم بحسب الزمان أيضا. وإن تعلّق بأحد الأمرين ، بأن قال : لا تفعل هذا أو هذا ، فهو يفيد التخيير في ترك أحدهما ، نظير الشبهة المحصورة في الموضوعات على القول بحرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة كذلك.

وإذا تحقّق ذلك نقول : إنّ الوجوب والحرمة اللذين فرض الدوران بينهما إمّا أن يكونا تعيينيّين ، أو تخييريّين ، أو مختلفين. فالأوّل : مثل ما لو دار الأمر بين

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب شرب التتن وحرمته. والثاني : مثل ما لو علم وجوب شيء في الجملة وحرمة آخر كذلك ، وشكّ في وجوب ثالث وحرمته على وجه لو ثبت وجوبه كان تخييريّا بينه وبين ما علم وجوبه في الجملة ، وكذا لو ثبت تحريمه ثبت كذلك. والثالث : ما لو دار الأمر بين وجوب كلّي وحرمة فرد معيّن منه ، أو دار بين حرمة أحد شيئين تخييرا ووجوب أحدهما المعيّن.

أمّا الأوّل فلا إشكال أيضا في خروجه منه ، لما تقدّم في المسألة الاولى من مسائل المطلب الثاني من عدم كون الشكّ في الوجوب التخييري مجرى لأصالة البراءة. ويظهر بالمقايسة كون التحريم التخييري أيضا كذلك.

وأمّا الثالث ، فإن دار الأمر فيه بين التحريم التخييري والوجوب التعييني ، فلا إشكال في دخوله في محلّ النزاع إن تعذّر أحد فردي الحرام المخيّر الذي لا يحتمل الوجوب ، لصيرورة التحريم المحتمل في الفرد الآخر تعيينيّا بتعذّر معادله ، فيدخل في القسم الأوّل ، لدوران الأمر حينئذ بين الوجوب والتحريم التعيينيّين. وإن لم يتعذّر ينفى وجوبه التعييني المحتمل بالأصل ، بخلاف تحريمه المحتمل كما عرفت.

وإن دار الأمر فيه بين الوجوب التخييري والتحريم التعييني ، فإن كان التخيير شرعيّا ينفى التحريم التعييني المحتمل بالأصل دونه. وإن كان عقليّا فهو موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد مرّ حكمه في محلّه. ونقول هنا أيضا : إنّه لا إشكال على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في كون الإتيان بالصلاة في الدار المغصوبة مبرئا للذمّة وإن استلزم حراما. وأمّا على القول بعدم جوازه فالقائلون به بين مرجّح للنهي ، ومرجّح للأمر ، ومتوقّف فيه. وعلى الأوّلين فالأمر واضح ، إذ مرجّح النهي يحكم بالحرمة والبطلان ، ومرجّح الأمر يحكم بالصحّة وعدم الحرمة. وأمّا على القول بالتوقّف فمقتضى أصالة البراءة هو عدم الحرمة ، ومقتضى أصالة بقاء الاشتغال هو بطلان الصلاة ووجوب إعادتها ثانيا ، فيتعارض الأصلان ، لكون عدم الحرمة مستلزما للصحّة في الواقع ، والحرمة للبطلان

.................................................................................................

______________________________________________________

كذلك. وحينئذ تخرّج في المسألة وجوه :

أحدها : ترجيح أصالة الاشتغال ، إذ نسبتها إلى أصالة البراءة نسبة الدليل إلى الأصل ، إذ البراءة إنّما تجري مع عدم المقتضى للتكليف ، وقاعدة الاشتغال مقتضية له.

وثانيها : العمل بمقتضى الأصلين وإن لزمت منه مخالفة العلم الإجمالي ، لأنّها غير قادحة ما لم تستلزم مخالفة عمليّة. والمقام ليس كذلك ، فيحكم بعدم الحرمة وبطلان الصلاة.

وثالثها : ترجيح أصالة البراءة. وهو الأقرب ، لأنّ إباحة المكان ليست من الشرائط الواقعيّة التي تبطل الصلاة بالإخلال بها مطلقا كالطهارة ونحوها ، لأنّ شرطيّتها إنّما استفيدت من النهي عن الغصب ، فإذا انتفت حرمته بالأصل يحكم بالصحّة ، لتحقّق الشرط وانتفاء المانع ، فتكون شرطيّتها عمليّة لا واقعيّة.

الثاني : أنّه يعتبر في محلّ النزاع أن لا يكون الشكّ في الوجوب مسبّبا عن الشكّ في التحريم أو بالعكس ، مثل ما لو نذر الإتيان بفعل لاعتقاد رجحانه ، ثمّ شكّ في حرمته بسبب من الأسباب ، إذ بعد نفي الحرمة بالأصل يتعيّن الأخذ بالوجوب المحتمل.

الثالث : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره من كون المراد بالوجوب والحرمة هنا ما كان توصّليّا لا تعبّديا يعتبر فيه قصد القربة ، إذ لو كانا تعبّديّين أو أحدهما المعيّن كذلك ، بأن دار الأمر بين وجوب فعل تعبّدا وتركه توصّلا أو بالعكس ، لم تأت فيه الوجوه المذكورة في المتن التي منها الحكم بالإباحة ، لا أصالة البراءة عنهما. أمّا الأوّل فإنّ مقتضاها جواز كلّ من الفعل والترك من دون اعتبار قصد القربة فيهما ، وهو مخالف بحسب العمل لما علم إجمالا من وجوب أحد الأمرين تعبّدا. وأمّا الثاني فكذلك أيضا ، لأنّ مقتضاها فيما علم إجمالا وجوب الفعل تعبّدا أو تركه توصّلا جواز الإتيان به من دون قصد القربة ، وهو مخالف لما علم إجمالا من أحد

ولا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة ـ بمعنى نفي الآثار المتعلّقة بكلّ واحد منهما بالخصوص (١٣٩٦) ـ إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيلي ، بل

______________________________________________________

الأمرين ، وبالعكس في صورة العكس. وقد أوضحنا ما يتعلّق بذلك فيما علّقنا على حجيّة القطع.

الرابع : أنّ المراد بالحرمة المحتملة في المقام هي الحرمة الذاتيّة دون التشريعيّة ، لعدم منافاة الثانية للإتيان بالفعل بداعي احتمال المطلوبيّة ، كما هو واضح.

١٣٩٦. احترز بقيد الخصوصيّة عمّا لو ترتّب أثر شرعيّ على القدر المشترك بين الوجوب والحرمة ، كما إذا نذر أن يعطي الفقراء درهما إن أتى بفعل متعلّق بحكم إلزامي من وجوب أو حرمة ، وكان غرضه من إدخال الحرمة في متعلّق نذره أن يكون ذلك زاجرا له عن ارتكاب المحرّمات ليصحّ النذر. فإذا أتى بفعل مردّد بين الوجوب والحرمة وجب الإعطاء ، للعلم بصدور أحد الأمرين عنه. ولا يصحّ إجراء أصالة عدم الوجوب خاصّة أو الحرمة كذلك أو هما معا ، لأنّ الأوّلين معارضان بالمثل ، والثاني مخالف للعلم الإجمالي بحسب العمل ، بخلاف ما لو ترتّب الأثر الشرعيّ على خصوص أحد الأمرين دون الآخر ، كما إذا نذر أن يعطي الفقراء درهما إن أتى هو أو غيره بواجب ، أو نذر أن يعطيهم درهما إن أتى بفعل حرام ليكون هذا زاجرا له عن ارتكاب المحرّمات ، فأتى بفعل مردّد بين الوجوب والحرمة ، إذ لا إشكال حينئذ في جريان أصالة عدم الوجوب على الأوّل ، وأصالة عدم الحرمة على الثاني من دون معارضة شيء أصلا.

نعم ، إن ترتّب أثر على خصوص كلّ منهما ، كما لو نذر أن يعطي درهما لمن أتى بواجب ويعزّر من أتى بفعل حرام ، فأتى شخص بفعل مردّد بين الوجوب والحرمة ، فحينئذ لا يجوز إجراء أصالة عدم الوجوب خاصّة ولا الحرمة كذلك ولا هما معا ، إذ الأوّلان ترجيح بلا مرجّح ، والثالث مستلزم للعلم التفصيلي بمخالفة العمل لما علم إجمالا من وجوب الإعطاء أو التعزير ، ولذا اشترط جريان الأصلين

ولو استلزم ذلك على وجه تقدّم في أوّل الكتاب (١٣٩٧) في فروع اعتبار العلم الإجمالي.

وإنّما الكلام هنا في حكم الواقعة (١٣٩٨) من حيث جريان أصالة البراءة و

______________________________________________________

بما إذا لم تلزم مخالفة علم تفصيلي ، يعني : مخالفة علم تفصيلي بمخالفة العمل للحكم الواقعي المعلوم إجمالا. ولعلّ الوجه في عدم استثناء العلم الإجمالي بمخالفة العمل له هو عدم تحقّقه فيما نحن فيه ، لأنّ فرض مخالفة العمل لكلّ من الوجوب والحرمة مستلزم للعلم التفصيلي بمخالفة العمل للحكم المعلوم إجمالا.

١٣٩٧. قال هناك : «إذا تولّد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم الشرعيّ وجب اتّباعه وحرمت مخالفته ، لما تقدّم من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ» إلى أن قال : «وبالجملة ، لا فرق بين هذا العلم التفصيلي ـ أعني : الناشئ من العلم الإجمالي ـ وبين غيره من المعلوم التفصيليّة ، إلّا أنّه قد ورد في الشرع موارد توهم خلاف ذلك». ثمّ ذكر شطرا من تلك الموارد قال : «فلا بدّ في هذه الموارد من التزام أحد امور على سبيل منع الخلوّ». ثمّ ذكر توجيهات ثلاثة لمخالفة العلم التفصيلي في الموارد المذكورة قال : «وعليك بالتأمّل في دفع الإشكال عن كلّ مورد بأحد الامور المذكورة ، فإنّ اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي لا يقبل التخصيص بإجماع ونحوه» انتهى. وقوله هنا : «على وجه تقدّم ... إشارة إلى التوجيهات المذكورة هناك.

١٣٩٨. لا يخفى أنّ المثال للمقام مع استجماعه للقيود الأربعة المتقدّمة عند بيان محلّ النزاع وإن كان كثيرا في الشرع ، إلّا أنّ الحكم قد ثبت فيها بالأدلّة ، مثل إجابة الزوجة لما دعاها إليه الزوج من الدخول في ما بعد النقاء وقبل الغسل ، أو في ما اختلف فيه من أيّام الاستظهار ، لأنّه قد قيل بوجوب الاستظهار بالتحيّض بعد أيّام العادة إذا كانت دون العشرة بيومين ، وقيل بثلاثة ، وقيل بالتخيير بينهما ، إلى غير ذلك من الأقوال. فيحتمل الوجوب في ما اختلف فيه ، إلحاقا له بأيّام

عدمه ، فإنّ في المسألة وجوها ثلاثة (١٣٩٩):

______________________________________________________

الاستحاضة. وتحتمل الحرمة إلحاقا له بأيّام الحيض ، إلّا أنّ الحكم فيه قد ثبت بالاستصحاب ، بل الأخبار كما سيجيء. ومثل ردّ السلام في الصلاة إذا كان المسلّم غير بالغ أو غالطا فيه ، إذ يحتمل تحريمه لأجل حرمة إبطال الصلاة ، ويحتمل وجوبه لأجل وجوب ردّ السلام ، إلّا أنّ أصالة الصحّة وعدم عروض المانع تدفع احتمال الحرمة.

وبالجملة ، إنّ وجود مثال مخالف للاصول حتّى يثمر في المقام نادر. ويمكن أن يمثّل له بما اختلفوا فيه من اشتراط الدخول في ثبوت العدّة على الحائل بالطلاق ، كما هو ظاهر المشهور ، أو تكفي فيه المساحقة من مقطوع الذكر سليم الانثيين ، كما حكي عن الشيخ في مبسوطه. قال : «وجبت عليها العدّة إن ساحقها ، فإن كانت حاملا فبوضع الحمل ، وإلّا فبالأشهر دون الأقراء». فإذا طلّقها بعد المساحقة بالطلاق الرجعي ، وراجعها قبل انقضاء عدّتها ، فالتمتّع بها بالدخول أو غيره ـ بعد المطالبة منه ـ يتردّد بين الوجوب والحرمة عند من اشتبه عليه حكم المسألة.

١٣٩٩. بل ستّة ، أحدها : بالإباحة الظاهريّة. الثاني : التوقّف عن الحكم الواقعي ، وعدم الحكم بشيء في مقام الظاهر. الثالث : ترجيح جانب الحرمة. الرابع : التخيير الابتدائي في الأخذ بأحد الاحتمالين. الخامس : التخيير الاستمراري فيه مطلقا. السادس : التخيير الاستمراري بشرط البناء عليه من أوّل الأمر ، كما أشار إلى الجميع في طيّ كلامه. نعم ، قد جعل هنا الأخذ بأحدهما في الجملة ثالث الثلاثة ، مشيرا به إلى الأربعة الأخيرة ، فلا يرد أنّ المذكور هنا وجوه أربعة لا ثلاثة ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ القول منحصر في ترجيح جانب الحرمة والتخيير ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي. ويمكن أن يقال بكونها

الحكم بالإباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ، ومرجعه إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين ، فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل ؛ وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح. والتوقّف بمعنى عدم الحكم بشىء لا ظاهرا ولا واقعا ، ووجوب الأخذ بأحدهما بعينه أو لا بعينه. ومحلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصليّا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ؛ إذ لو كانا تعبّديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعيّن كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة عمليّة.

وكيف كان فقد يقال في محلّ الكلام بالإباحة ظاهرا ؛ لعموم أدلّة الإباحة الظاهريّة ، مثل قولهم : «كلّ شىء لك حلال» ، وقولهم : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» ، فإنّ كلا من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ، وغير ذلك من أدلّته حتّى قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء (١٤٠٠) مطلق حتّى يرد فيه

______________________________________________________

خمسة ، بناء على شمول ما ذكره الشيخ في الإجماع المركّب لما نحن فيه. أحدها : ترجيح جانب الحرمة. وثانيها : التخيير كما عرفت. وثالثها : الرجوع إلى الأصل ، كما حكاه الشيخ هناك ، ومقتضاه الحكم بالإباحة فيما نحن فيه. ورابعها : التوقّف بحسب الواقع ، وعدم الحكم بشيء في مقام الظاهر. واختاره المصنّف رحمه‌الله هنا. وخامسها : التفصيل بين تعدّد الواقعة واتّحادها ، بالقول بالتخيير الابتدائي في الأوّل ، والرجوع إلى البراءة في الثاني. واختاره المصنّف رحمه‌الله أيضا في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي ، وهو ينافي ما اختاره هنا. وعليه تكون الوجوه سبعة.

ثمّ إنّ هذه المسألة ليست مشمولة لنزاع الأخباريّين مع المجتهدين في وجوب الاحتياط وعدمه في الشبهات الحكميّة ، لوضوح أنّهم إنّما يقولون به مع إمكانه لا بدونه ، وقد أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته. فما صدر عن المحقّق القمّي رحمه‌الله وغيره من جعل هذه المسألة محلّ نقض لقول الأخباريّين ليس في محلّه.

١٤٠٠. وجه خصوصيّة هذه الرواية هو إمكان أن يمنع الاستدلال بها على

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام ، نظرا إلى كون الغاية فيها هو العلم بورود أحد الأمرين من الأمر والنهي ، وهو حاصل في المقام بالفرض. وضعفه ظاهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

لا يقال : إنّه لو كان المراد بالأمر والنهي فيها ما علم تفصيلا لم يجب الاحتياط فيما تردّد الواجب أو الحرام بين أمرين ، كالظهر والجمعة والقصر والإتمام والإنائين المشتبهين ، لعدم العلم بالأمر والنهي فيهما تفصيلا.

لأنّا نقول : إنّ الأمر في الأوّلين معلوم تفصيلا وإن وقع الاشتباه في متعلّقه. وأمّا الثالث فلا دخل له فيما نحن فيه ، للعلم فيه بالنهي ومتعلّقه تفصيلا ، وإنّما وقع الاشتباه فيه في مصداق متعلّقه ، بخلاف ما نحن فيه ، لفرض الجهل بخصوص الأمر والنهي فيه.

لا يقال : سلّمنا ولكنّها ليست صريحة فيما ذكر ، فلا بدّ من تأويلها بما يشمل العلم الإجمالي أيضا ، لكونه كالتفصيلي في الاعتبار ، كما قرّر في مبحث حجّية القطع.

لأنّا نقول : إنّ هذا إنّما هو فيما استلزم طرحه المخالفة العمليّة ، وليس المقام كذلك ، لأنّ غايته لزوم المخالفة الالتزاميّة كما يظهر من تقريره لدليل العقل.

لا يقال : سلّمنا ولكنّ الفتوى بالإباحة ولو في الظاهر مخالف بحسب العمل لما علم إجمالا من الوجوب أو الحرمة.

لأنّا نقول : سيظهر ضعف هذا الجواب أيضا ممّا ذكره في تقرير دليل العقل.

مضافا إلى وقوع نظير ذلك في الشرع كثيرا ، مثل الحكم بطهارة البدن وعدم ارتفاع الحدث فيما توضّأ بمائع مردّد بين الماء والخمر ، مع ملازمة الطهارة لارتفاع الحدث ، وعدم ارتفاعه للتنجّس بحسب الواقع ، والحكم بأحكام الزوجيّة من أحد الجانبين دون الآخر فيما أقر أحد الزوجين بالزوجيّة وأنكرها الآخر ، إلى غير ذلك ممّا تقدّم في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي ، وسيجيء أيضا في الشبهة المحصورة.

نهي أو أمر» على رواية الشيخ (١٤٠١) ؛ إذ الظاهر ورود أحدهما بحيث يعلم تفصيلا ، فيصدق هنا أنّه لم يرد أمر ولا نهي.

هذا كلّه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ؛ فإنّ الجهل بأصل الوجوب علّة تامّة عقلا لقبح العقاب على الترك من غير مدخليّة لانتفاء احتمال الحرمة فيه ، وكذا الجهل بأصل الحرمة. وليس العلم بجنس التكليف (١٤٠٢) المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد ، حتّى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم إجمالا.

وأمّا دعوى وجوب الالتزام بحكم الله تعالى ، لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ، ففيها : أنّ المراد بوجوب الالتزام : إن اريد وجوب موافقة حكم الله فهو حاصل (١٤٠٣) فيما نحن فيه ؛ فإنّ في الفعل موافقة للوجوب وفي الترك موافقة للحرمة ؛ إذ المفروض عدم توقّف الموافقة في المقام على قصد الامتثال. وإن اريد

______________________________________________________

١٤٠١. الرواية الاخرى المجرّدة عن لفظ «أو أمر» للصدوق قدس‌سره.

١٤٠٢. لأنّ اللازم من طرح العلم الإجمالي في الأوّل هي المخالفة الالتزاميّة كما فيما نحن فيه ، لأنّ المكلّف بحسب العمل لا يخلو من فعل موافق لاحتمال الوجوب ، وعن ترك موافق لاحتمال الحرمة ، واللازم من طرحه في الثاني هي المخالفة بحسب العمل ، لأنّ من ترك الظهر والجمعة أو القصر والإتمام أو شرب الإنائين المشتبهين كان عمله مخالفا للتكليف المعلوم إجمالا أو تفصيلا لا محالة ، والمسلّم من قبح المخالفة هو الثاني دون الأوّل ، إذ لا دليل عليه سوى بعض الوجوه التي ضعّفها المصنّف رحمه‌الله.

١٤٠٣. إن أراد حصول الموافقة لحكم الله سبحانه في كلّ من حال الفعل والترك فهو واضح الفساد ، للعلم بمخالفة إحدى الحالين للواقع. وإن أراد حصول الموافقة في إحداهما فهو غير كاف في تحصيل موافقة حكم الله ، إذ لو ثبت ذلك ثبت وجوبه في جميع الحالات لا في الجملة. ولكنّ الظاهر ـ بل المتعيّن ـ أنّ مراده بوجوب الموافقة وجوب عدم العلم بمخالفة العمل للواقع ، بأن يريد بالموافقة الموافقة

وجوب الانقياد والتديّن بحكم الله فهو تابع للعلم بالحكم (١٤٠٤) ، فإن علم تفصيلا وجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالا وجب التديّن بثبوته في الواقع ، ولا ينافي ذلك التديّن حينئذ بإباحته ظاهرا ؛ إذ الحكم الظاهري لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلا للحكم الواقعي من حيث العمل ، لا من حيث التديّن به.

ومنه يظهر اندفاع ما يقال : من أنّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما إلّا أنّ طرحهما والحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي ، وهو محرّم. وعليه يبنى عدم

______________________________________________________

الاحتماليّة لا القطعيّة ، كما يرشد إليه تعليله بقوله : «فإنّ في الفعل موافقة للوجوب» لعدم العلم بالوجوب بالفرض حتّى تكون موافقة الفعل موافقة قطعيّة. والوجه فيه أنّ ما يقبح عقلا هو العلم بالمخالفة لا احتمالها ، وإلّا ثبت وجوب الاحتياط في جميع موارد الشبهات البدويّة ، والفرض في المقام بطلانه.

١٤٠٤. حاصله : أنّه لم يدلّ دليل على وجوب الانقياد على الأحكام الواقعيّة ، بمعنى كون ذلك أيضا حكما من الأحكام الواقعيّة سابقا على العلم به ، ولا استفيد ذلك من الدليل المثبت للحكم ، وإنّما هو تابع للعلم بالحكم لأجل وجوب التديّن بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن علم تفصيلا يجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالا فكذلك أيضا ، كما سيجيء توضيحه. والتديّن الإجمالي بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع لا ينافي جواز التديّن بالإباحة الظاهريّة ، ومن حيث كون الفعل غير معلوم الحكم تفصيلا ، لأنّه إنّما ينافي العلم بالواقع تفصيلا ، لأنّ المأخوذ حينئذ في موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ في الواقع ، وهو لا يجتمع مع العلم به تفصيلا وكذا إجمالا ، مع استلزام طرحه للمخالفة العمليّة ، لما عرفت في الحاشية السابقة من قبحه ، وشيء منهما غير لازم فيما نحن فيه.

وأنت خبير بأنّه ينافي ما تقدّم منه في المقصد الأوّل عند بيان حكم مخالفة العلم الإجمالي ، من تقويته لعدم جواز الرجوع إلى الإباحة فيما احتمل الوجوب والحرمة كما في ما نحن فيه ، نظرا إلى استلزام الفعل في زمان والترك في آخر

جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الامّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه‌السلام في أحدهما. توضيح الاندفاع (١٤٠٥) : أنّ المحرّم وهو الطرح في مقام العمل غير متحقّق ، والواجب في مقام التديّن الالتزام بحكم الله على ما هو عليه في الواقع ، وهو أيضا متحقّق في الواقع ، فلم يبق إلّا وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه والتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي ، وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلا.

والحاصل : أنّ الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم أنّه حكم الله الواقعي ، ووجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة بعينها من اللوازم العقليّة للعلم (*) التفصيلي يحصل من ضمّ صغرى معلومة تفصيلا إلى تلك الكبرى ، فلا يعقل وجوده مع انتفائه ، وليس حكما شرعيّا (١٤٠٦) ثابتا في الواقع حتّى يجب

______________________________________________________

للمخالفة العمليّة ، فراجع.

١٤٠٥. حاصله : أنّ هنا امورا أربعة : أحدها : طرح المعلوم بالإجمال بحسب العمل. الثاني : التديّن بحكم الله الواقعي على نحو ثبوته عندنا. الثالث : وجوب الالتزام بخصوص أحد الاحتمالين. الرابع : جواز التديّن بالإباحة الظاهريّة. والمحرّم من هذه الامور هو الأوّل ، وهو غير حاصل. والواجب بمقتضى وجوب التديّن بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الثاني ، وهو حاصل بالفرض. والمطلوب هو الثالث ، ولا دليل عليه. فتعيّن الرابع.

١٤٠٦. يعني : أنّ وجوب الالتزام بخصوص الوجوب أو الحرمة لو لم يكن تابعا للعلم التفصيلي ، بل كان واجبا واقعيّا في عرض سائر الواجبات الواقعيّة التي يجب مراعاتها مع الجهل التفصيلي ، كان اللازم في المقام هو وجوب الأخذ بخصوص أحدهما ، وإلّا لزمت المخالفة العمليّة لما علم من وجوب الالتزام في الواقع بما علم إجمالا من الوجوب أو الحرمة. وقد أشار إلى هذا الوجه في صدر الكتاب أيضا.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : العادى.

مراعاته ولو مع الجهل التفصيلي. ومن هنا يبطل (١٤٠٧) قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة الدالّة أحدهما على الأمر والآخر على النهي ، كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين.

______________________________________________________

وحاصله : ثبوت الفرق بين كون العلم التفصيلي بالأحكام الواقعيّة أو العلم الإجمالي بها مأخوذا في موضوع وجوب الالتزام التفصيلي أو الإجمالي ، وبين كون وجوب الالتزام بها حكما واقعيّا سابقا على العلم بها كنفس سائر الأحكام الواقعيّة ، إذ اللازم على الأوّل هو عدم وجوب الالتزام ما لم يحصل العلم بها تفصيلا أو إجمالا ، وإلّا لزم تقدّم الحكم على موضوعه. وحينئذ إن حصل العلم بها تفصيلا وجب الالتزام بها كذلك ، وإن حصل العلم بها إجمالا وجب الالتزام بها كذلك ، بمعنى وجوب الالتزام بوجوب الفعل في الواقع إن كان واجبا في الواقع وبحرمته إن كان حراما كذلك ، وهو لا ينافي البناء على الإباحة في مقام الظاهر. واللازم على الثاني هو وجوب الالتزام بوجوب الفعل بالخصوص أو حرمته كذلك في مقام الظاهر. إذ الالتزام بإباحته كذلك مستلزم لمخالفة العمل لما علم وجوبه في الواقع من وجوب الالتزام بالحكم الواقعي للفعل من الوجوب أو الحرمة ، نظير سائر الواجبات التي يجب عدم مخالفة العمل لها.

١٤٠٧. أي : من عدم كون وجوب الالتزام بالأحكام الواقعيّة حكما واقعيّا في عرض غيرها. ووجه البطلان هو كون وجوب الالتزام بالأخبار من حيث هي حكما واقعيّا في المسألة الاصوليّة بمقتضى أدلّة اعتبارها ، فإذا تعذّر امتثال هذا الحكم الواقعي لأجل تعارض الخبرين وجب الأخذ بأحدهما لا محالة ، كي لا تلزم المخالفة بحسب العمل لهذا الحكم. ومن هنا قد استدلّ في محكيّ المفاتيح على التخيير في تعارض الخبرين بأدلّة اعتبارهما ، فالحكم بوجوب الأخذ بأحدهما يكون واردا على وفق القاعدة ، وتبقى أخبار التخيير شاهدا له ، بخلاف ما نحن فيه على ما عرفت.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه ينافي ما تقدّم منه في المقصد الأوّل عند بيان جواز

ولا يمكن أن يقال : إنّ المستفاد منه بتنقيح المناط (١٤٠٨) هو وجوب الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر.

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ بأحدهما ، هو أنّ الشارع أوجب الأخذ بكلّ من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجّية ، فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا فلا بدّ من الأخذ بأحدهما ، وهذا تكليف شرعيّ في المسألة الاصوليّة غير التكليف المعلوم تعلّقه إجمالا في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والترك ، بل ولو لا النصّ الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة ، بخلاف ما نحن فيه ، إذ لا تكليف إلّا بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ، والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص.

ويشير إلى ما ذكرنا من الوجه قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك». وقوله عليه‌السلام : «من باب التسليم» إشارة إلى أنّه لمّا وجب على المكلّف التسليم لجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ـ كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمّة عليهم‌السلام ، منها قوله : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» ـ ، وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا ، وجب التسليم لأحدهما مخيّرا في تعيينه.

______________________________________________________

مخالفة العلم الإجمالي ، من استدلاله بأخبار التخيير في تعارض الخبرين على وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين فيما نحن فيه ، وعدم جواز الحكم بالإباحة فيه فراجع.

١٤٠٨. لأنّ المناط في حكم الشارع بالتخيير في تعارض الخبرين إنّما هو عدم إعراضه عن الأحكام الواقعيّة ورجحان الأخذ بها بحسب الإمكان ، وهو موجود فيما نحن فيه أيضا ، بل على وجه الأولويّة ، للعلم إجمالا بصدق أحد الاحتمالين ، بخلاف الخبرين المتعارضين ، لاحتمال كذب كلا المتعارضين. ومن هنا يظهر إمكان تقريب الدلالة بوجهين : أحدهما : تنقيح المناط ، والآخر : الأولويّة القطعيّة. ويرد على الأوّل ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمه‌الله ـ أنّه يحتمل أن يكون

ثمّ إنّ هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع (١٤٠٩) إلّا أنّ مجرّد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض ، فافهم (*). وبما ذكرنا ، يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة.

وما ذكروه في مسألة (١٤١٠) اختلاف الامّة لا يعلم شموله لما نحن فيه ممّا كان الرجوع (١٤١١) إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه‌السلام ، مع أنّ

______________________________________________________

أمر الشارع بالتخيير في تعارض الخبرين لأجل مصلحة في العمل بخبر العادل سوى مصلحة الوصول إلى الواقع ، ومع احتمالها يكون المناط مستنبطا لا قطعيّا. ومنه يظهر منع الأولويّة فضلا عن أن تكون قطعيّة ، فلا تغفل.

١٤٠٩. لأنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو قلنا باعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، لا من باب كونها مرآة وطريقا إلى الواقع كما هو الأظهر ، وإلّا فمقتضى القاعدة عند التعارض هو التساقط ، فلا بدّ أن يكون ما تضمّنته الأخبار من التخيير في تعارض الخبرين من باب التعبّد ، وهو غير مفيد في المقام. وسيأتي الكلام في ذلك مستوفى في باب التعادل والترجيح.

ولكنّك خبير بأنّ ما دلّ على كون اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة إن كان ظنّا معتبرا شرعا فلا اعتداد بإبداء احتمال الخلاف في المقام ، وإن لم يكن معتبرا كذلك فلا وجه للمنع المذكور.

١٤١٠. في مقام بيان عدم جواز خرق الإجماع المركّب من عدم جواز مخالفة قول الإمام عليه‌السلام ووجه عدم الشمول هو احتمال اختصاصه بما استلزم الخرق المخالفة العمليّة ، وهي منتفية فيما نحن فيه بالفرض.

١٤١١. بيان لما نحن فيه.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فالأقوى فى المسألة : التوقّف واقعا وظاهرا ؛ وأنّ الأخذ بأحدهما قول بما لا يعلم لم يقم عليه دليل ، والعمل على طبق ما التزمه على أنّه كذلك لا يخلو من التشريع.

عدم جواز (١٤١٢) الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتّفاقيّا.

على أنّ ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير ـ كما سيجيء ـ هو إرادة التخيير الواقعي (١٤١٣) المخالف لقول الإمام عليه‌السلام في المسألة ، ولذا اعترض عليه المحقّق بأنّه لا ينفع التخيير فرارا عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ؛ لأنّ التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه‌السلام.

وإن انتصر للشيخ بعض (١٤١٤) بأنّ التخيير بين الحكمين ظاهرا وأخذ أحدهما ،

______________________________________________________

١٤١٢. في مسألة اختلاف الامّة. ووجه عدم الاتّفاق ظاهر من كلام الشيخ.

١٤١٣. يؤيّده عدم الإشارة إلى الحكم الظاهري في كلمات الفقهاء ، فحيث يطلقون الحكم ـ سواء كان هو التخيير أو غيره من الأحكام الخمسة ـ فالظاهر إرادة الواقعي منه ، حتّى إنّ ظاهرهم اعتبار الاصول من باب الظنّ الذي مقتضاه تعيين الحكم الواقعي. وتقسيمه إلى الواقعي والظاهري إنّما حدث في كلام المتأخّرين ، كما هو واضح للمتأمّل المتتبّع.

ولكنّك خبير بأنّ استشهاده فهم المحقّق ربّما ينافيه ظاهر كلامه في مسألة اتّفاق الامّة بعد اختلافهم ، لأنّ الشيخ بعد أن منع ذلك لمنافاته التخيير ـ كما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ـ اعترضه المحقّق بجواز كون التخيير مشروطا بعدم الاتّفاق فيما بعد. وهذا إنّما يناسب فهم المحقّق من التخيير في كلام الشيخ التخيير مع الظاهري ، لوضوح عدم اشتراط الأحكام الواقعيّة باتّفاق الآراء أو اختلافها ، وإلّا كان شبيها بالتصويب. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مراده دعوى الاشتراط بحسب الواقع ، بناء على أنّ بطلان المطلب لا يدلّ على عدم إرادته. ويؤيّده ما قدّمناه من عدم الإشارة في كلماتهم إلى تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري ، سيّما كلماته بذلك.

١٤١٤. هو المحقق القمّي قدس‌سره تبعا لسلطان العلماء في حاشية المعالم ، وقد ادّعى فيها صراحة كلام الشيخ في إرادة التخيير الظاهري ، نظرا إلى قوله : «نحن مخيّرون في العمل» سيّما مع تعقيبه بقوله : «وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا».

هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام ، لكنّ ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره يأبى عن ذلك ، قال في العدّة : إذا اختلفت الامّة على قولين فلا يكون إجماعا ، ولأصحابنا في ذلك مذهبان : منهم من يقول : إذا تكافأ الفريقان ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم أو يدلّ على أنّ المعصوم عليه‌السلام داخل فيه ، سقطا ووجب التمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم ، وهذا القول ليس بقويّ. ثمّ علّله باطّراح قول الإمام عليه‌السلام (١٤١٥) ، قال : ولو جاز ذلك لجاز مع تعيين قول الإمام عليه‌السلام تركه والعمل بما في العقل. ومنهم من يقول : نحن مخيّرون في العمل بأيّ القولين ، وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا ، انتهى.

ثمّ فرّع على القول الأوّل جواز اتّفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد ، وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك ؛ معلّلا بأنّه يلزم من ذلك بطلان القول الآخر ، وقد قلنا : إنّهم مخيّرون في العمل ، ولو كان إجماعهم على أحدهما انتقض ذلك ، انتهى.

______________________________________________________

أقول : إنّ كلام الشيخ وإن لم يكن صريحا فيما ذكره ، لكنّ الإنصاف ظهوره فيه ، ولعلّه لا يقصر عمّا استشهده المصنّف رحمه‌الله من التفريع. ولعلّ هذه الخلافات والتنافيات ناشئة من عدم التفرقة بين الحكم الواقعي والظاهري موضوعا وآثارا. وحينئذ يحتمل أن يكون الشيخ قد أراد بالتخيير التخيير الظاهري ، ومع ذلك قد منع الاتّفاق بعد الخلاف ، بزعم منافاة ذلك للحكم بالتخيير. ويؤيّده ما عرفته في الحاشية السابقة من الاختلاف في كلمات المحقّق أيضا. والإنصاف أنّ هذا كلّه خارج من السداد ، وستعرف ما ينبغي بناء كلام الشيخ عليه.

١٤١٥. قال ما لفظه : «لأنّهم إذا اختلفوا على قولين علم أنّ قول الإمام موافق لأحدهما ، لأنّه لا يجوز أن يكون قوله خارجا عن القولين ، لأنّ ذلك مقتضى كونهم مجمعين على قولين» انتهى. والظاهر أنّ مراده بقوله : «كونهم مجمعين ...» إجماعهم على نفي الثالث ، فهو لا ينافي قوله فيما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله : «فلا يكون إجماعا» لأنّ مراده به نفي الإجماع على خصوص أحد القولين.

وما ذكره من التفريع أقوى شاهد (١٤١٦) على إرادة التخيير الواقعي ، وإن كان القول به لا يخلو عن الإشكال. هذا ، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأوّل من الكتاب عند التكلّم في فروع اعتبار القطع ، فراجع.

وكيف كان : فالظاهر بعد التأمّل في كلماتهم في باب الإجماع إرادتهم ب «طرح قول الإمام عليه‌السلام» الطرح من حيث العمل ، فتأمّل (١٤١٧).

______________________________________________________

١٤١٦. إذ لو كان مراده بالتخيير هو التخيير الظاهري لم يستلزم الاتّفاق بعد الاختلاف إبطال قول الإمام عليه‌السلام ، لكشف ذلك عن كون قول الإمام عليه‌السلام هو المجمع عليه من القولين.

١٤١٧. لعلّه إشارة إلى منع الظهور مع إطلاق كلماتهم. ويؤيّده ـ بل يدلّ عليه ـ انحصار القول فيما نحن فيه ـ كما صرّح به في المقصد الأوّل عند بيان جواز مخالفة العلم الإجمالي ـ في التخيير وترجيح جانب الحرمة ، إذ لو جازت المخالفة الالتزاميّة لكان القول بالإباحة الظاهريّة فيما نحن فيه أولى بالإذعان ، لموافقتها لأصالة البراءة عن كلّ من الوجوب والحرمة ، لعدم تأثير العلم الإجمالي حينئذ في الفرق بينه وبين الشبهات المجرّدة عنه.

وتؤيّده أيضا ملاحظة كلمات الشيخ ، مثل تعليله لعدم جواز إحداث قول ثالث أو رابع في المسألة بموافقة قول الإمام عليه‌السلام لأحد القولين ، وبعدم جواز إجماع الامّة على المسألتين مخطئة فيهما على مذهبنا ومذهب العامّة ، وغير ذلك ممّا هو ظاهر كالصريح في كون مخالفة قول الإمام عليه‌السلام من حيث هي ممنوعة عندهم ، كيف ولو كانت المخالفة الالتزاميّة جائزة عندهم لأشاروا إليها لا محالة ، مع أنّها مستلزمة للمخالفة العمليّة بتعدّد الواقعة ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل.

فإن قلت : كيف تأبى عن نسبة تجويز المخالفة الالتزاميّة إليهم ، والشيخ قد عزى جواز الرجوع إلى مقتضى الأصل في مسألة الإجماع المركّب إلى بعض أصحابنا ، كما حكاه عنه المصنّف رحمه‌الله؟ والأصل قد يكون مخالفا للقولين. وقول

ولكنّ الإنصاف (١٤١٨) : أنّ أدلّة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب ، وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا تفيد

______________________________________________________

الشيخ أيضا بالتخيير الواقعي مستلزم لطرح قول الإمام عليه‌السلام ، كما أورده عليه المحقّق وقرّره صاحب المعالم. ولا ريب أنّ تعميم كلامهما لصورة لزوم المخالفة العمليّة بعيد جدّا ، لقبحها عقلا ، ومنافاتها لاعتبار قول الحجّة ولكلماتهم في حجيّة الإجماع على مذهب الخاصّة ، فلا مناص من حمل كلامهما على صورة لزوم المخالفة بحسب الالتزام دون العمل.

قلت : ما حكاه الشيخ مجهول القائل وإن عزاه إلى بعض أصحابنا ، ولعلّه قد غفل عن استلزام الرجوع إلى الأصل مخالفة قول الإمام عليه‌السلام في بعض الأحيان التزاما أو عملا ، أو جوّز المخالفة مطلقا مع موافقة الأصل ، أو أراد به الأصل الموافق لأحد القولين.

وأمّا قول الشيخ بالتخيير فلا دلالة فيه على جواز مخالفة قول الإمام عليه‌السلام أصلا ، لأنّ قوله بذلك إنّما هو من أجل قوله باعتبار الإجماع من باب اللطف ، لأنّه مع اختلاف الأمّة على قولين إذا لم يظهر الإمام عليه‌السلام ولم يظهر الحقّ كشف ذلك عن كون الحقّ في كلا القولين ، وإلّا وجب عليه الظهور وردع إحدى الطائفتين عن الباطل. فقوله بالتخيير إنّما هو لأجل كون ذلك قول الإمام عليه‌السلام لا مخالفا له. وعليه يتفرّع أيضا ما ذكره من عدم جواز الوفاق بعد الخلاف. وبالجملة ، إنّي لم أجد مدعيا من العلماء لجواز خصوص المخالفة الالتزاميّة تصريحا أو تلويحا بل مطلقا ، كما هو واضح ، مضافا إلى مخالفته لطريقة العقلاء كما ستعرفه.

١٤١٨. هذا اعتراض على جميع ما تقدّم بمنع نهوض أدلّة البراءة لإثبات الإباحة الظاهريّة. وحاصله : أنّ ما هو ظاهر في إثبات الإباحة الظاهريّة ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» منصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب. وما دلّ على نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف فيه ، مثل

إلّا عدم المؤاخذة على الترك أو الفعل وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب ، وهذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه. نعم ، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ؛ فاللازم هو التوقّف وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع ، ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل ، نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا» وقوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» وفي حكمه دليل العقل ، ظاهر في مجرّد نفي العقاب على الفعل أو الترك ، وعدم تعيّن خصوص أحدهما عليه ، وهو أعمّ من الإباحة الظاهريّة ، وغير مناف لوجوب الأخذ بأحدهما. نعم ، هذا الوجوب أيضا لا دليل عليه ، فالمتيقّن من الأدلّة هو التوقّف عن الحكم الواقعي ، والالتزام به على ما هو عليه في الواقع ، وعدم الالتزام بشيء في مقام الظاهر ، وإن لم يكن حرج في الفعل أو الترك في مقام العمل. ومن هنا يظهر قوّة القول الثاني ودليله.

فإن قلت : كيف لا تلتزم في مقام الظاهر بحكم ظاهري ، وقد تواترت الأخبار على عدم خلوّ واقعة من حكم حتّى أرش الخدش؟

قلت : المسلّم عدم خلوّ الواقعة من حكم واقعي لا من حكم ظاهري أيضا ، لعدم الدليل عليه ، إذا لم يحتج إليه في مقام العمل ، ولذا نقول بعدم الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فيما دار الأمر بينهما ، نظرا إلى عدم كون نفي الوجوب بالأصل مثبتا للاستحباب. وقد يمنع عدم الدليل على الوجوب المذكور ، نظرا إلى بناء العقلاء على الالتزام بأحد الاحتمالين فيما دار الأمر فيه بين المحذورين كما فيما نحن فيه ، لكون ذلك نحو امتثال للحكم المعلوم إجمالا عندهم ، ولا ريب في كون طريق امتثال الأحكام وكيفيّة امتثالها موكولة إليهم. وهو غير بعيد بعد ما عرفت في الحاشية السابقة من عدم ظهور قول بجواز المخالفة الالتزاميّة ، سيّما في هذه المسألة التي قد تقدّم غير مرّة انحصار القول فيها في تقديم جانب الحرمة و

ثمّ على تقدير وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذ بالحرمة أو يتخيّر بينه وبين الأخذ بالوجوب؟ وجهان ، بل قولان : يستدلّ على الأوّل (١٤١٩) ـ بعد قاعدة الاحتياط ؛ حيث يدور الأمر (١٤٢٠) بين التخيير والتعيين ـ : بظاهر ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ؛ فإنّ الظاهر من التوقّف ترك الدخول في الشبهة ، وبأنّ دفع المفسدة (١٤٢١) أولى من جلب المنفعة ؛ لما عن النهاية من : أنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ.

ويشهد له ما ارسل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من أنّ «اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيّئات». ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ؛ لأنّ مقصود الحرمة يتأتّى بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة ، بخلاف فعل الواجب ، انتهى.

______________________________________________________

التخيير ، فتدبّر. والله العالم بأحكامه.

١٤١٩. ربّما يستدلّ عليه بالإجماع المحكيّ عن النهاية. وفيه : أنّه لا اعتداد به بعد العلم بمستند المجمعين ، وهو الوجوه الاعتباريّة المضعّفة في المتن ، لأنّ غايته الظنّ ، ولا اعتداد به. لا يقال : إنّ العمل بالظنّ في باب الترجيح إجماعي. لأنّا نقول : إنّ الإجماع إنّما هو في تعارض الأخبار ، لا في تعارض الاحتمالين كما فيما نحن فيه. اللهمّ إلّا أن يتمسّك بقبح ترجيح المرجوح بعد عدم إمكان الاحتياط ، وحينئذ لا بدّ من منع إفادته للظنّ.

١٤٢٠. قد مرّ غير مرّة انحصار القول في هذه المسألة في ترجيح جانب الحرمة والتخيير ، فيكون الأوّل متيقّنا.

١٤٢١. لا يقال : لو وجب دفع المفسدة وجب ترجيح جانب الحرمة ابتداء ، ولم يحتج إلى إثبات وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين. لأنّا نقول : لعلّ المستدلّ قد اعتبر وجوب الدفع في مقام الترجيح دون الإثبات ، وقد يعتبر في مقام الترجيح ما لا يعتبر في غيره ، فتأمّل.

وبالاستقراء ؛ بناء على أنّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة ، ومثّل له بأيّام الاستظهار وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس.

ويضعّف الأخير بمنع الغلبة (١٤٢٢). وما ذكر من الأمثلة ـ مع عدم ثبوت الغلبة بها ـ خارج عن محلّ الكلام ؛ فإنّ ترك العبادة في أيام الاستظهار (١٤٢٣) ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ، ولو قيل بالوجوب فلعلّه لمراعاة أصالة بقاء

______________________________________________________

١٤٢٢. هذا إن اريد بها الاستقراء التامّ ، وإلّا يمكن منع اعتبار الظنّ الحاصل منها أوّلا ، ومنع حصول الظنّ منها في خصوص المقام ثانيا ، لوضوح عدم حصول الظنّ في مورد الشكّ بوجدان مثالين كما هو واضح. ولعلّ هذا هو مراد المحقّق القمّي رحمه‌الله في مبحث اجتماع الأمر والنهي من منع حجيّة هذا الاستقراء ، وإلّا فلا وجه له على مذهبه من اعتبار الظنّ المطلق على تقدير تسليم إفادته للظنّ. ومنع مطابقة المثالين للمراد ثالثا ، كما أوضحه المصنف رحمه‌الله.

١٤٢٣. توضيح المقام : أنّ استظهار الحائض إمّا في آخر أيّام دمها ، أو في أوّلها. أمّا الأوّل فإنّ المعتادة عددا دون العشرة إذا انقطع دمها ظاهرا لدون العشرة استبرأت بما هو المقرّر في الفقه ، فإذا خرجت القطنة ملطّخة بالدم ـ بأيّ لون اتّفق ـ استظهرت بترك العبادة بيومين أو ثلاثة ، أو مخيّرة بين يوم ويومين كما حكي عن المشهور ، أو بغير ذلك من الأقوال المختلفة الناشئ اختلافها من اختلاف الأخبار أو من الاختلاف في الجمع بينها. ولا كلام لنا في ذلك ، وقد استفاض نقل الاتّفاق الذي لا يقصر عن نقل الإجماع ـ كما اعترف به المصنّف قدس‌سره في بعض كلماته ـ على أصل مشروعيّته.

وإنّما الإشكال في كونه على وجه الاستحباب أو الوجوب. والأوّل هو المشهور بين المتأخّرين ، بل عزي إلى عامّتهم ، بحمل الأخبار الآمرة بظاهرها بالاستظهار على اختلافها على الاستحباب ، والمانعة منه بظاهرها الدالّة على

.................................................................................................

______________________________________________________

ترتيب أحكام الاستحاضة على بيان عدم الوجوب. والمصنّف قدس‌سره بعد أن نقل في كتاب الطهارة هذا الوجه مع وجوه أخر للجمع بين الأخبار وضعّفها قال : وهنا جمع آخر لا يخلو عن قرب. ثمّ ذكر ما حاصله : إبقاء أخبار الاستظهار على ظاهرها من الوجوب ، وجعلها مختصّة بصورة رجاء المرأة الانقطاع لدون العشرة ، وحمل أخبار الاغتسال بعد العادة على اليائسة عن الانقطاع.

هذا في المعتادة. وأمّا المبتدئة ، أعني : من لم تستقرّ لها عادة عدديّة ، فإنّها عند رؤية الدم على القطنة المستدخلة تصبر حتّى تنقى يقينا أو بحكم استبراء آخر أو يمضي من أوّل حيضها عشرة أيّام ، فإن انقطعت اغتسلت ، وإلّا رجعت إلى المتميز على وجه مقرّر في محلّه. وحكي عليه الإجماع عن جماعة.

وأمّا الثاني ، فالمعتادة وقتا وعددا ، وكذا وقتا خاصّة ، أو عددا كذلك ، تتحيّض الاولى منهنّ بمجرّد الرؤية إذا اتّفقت في أوّل أيّام العادة إجماعا ، وكذا إذا تقدّمت عليها بزمان يصدق معه تعجيل العادة للأخبار ، لا بمثل عشرين يوما. وكذا الثانية في وجه قويّ. ويشمله إطلاق إجماع المحقّق في الشرائع ، وقيل : وكذا إجماع الفاضل في المنتهى. وكذلك الثالثة في وجه لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا. وأمّا المبتدئة فتتحيّض بالرؤية عند المصنّف رحمه‌الله وجماعة من المتأخّرين ، بشرط اتّصاف الدم بصفات الحيض ، وبدونه يستظهر إلى مضيّ ثلاثة أيّام. والكلام في هذه المراتب مقرّر في الفقه.

أمّا الأوّل فربّما يقال : إنّ مقتضى الأصل فيه بقاء دم الحيض. وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله في كتاب الطهارة بمعارضة أصالة بقاء الدم إلى ما بعد العشرة المستلزم لعدم كونه (*) حيضا شرعا. ثمّ قال : «لكنّ المرجع بعد تسليم المعارضة إلى استصحاب أحكام الحيض لا نفس الموضوع».

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «يعني : الزائد على العادة. منه».

.................................................................................................

______________________________________________________

وأقول : إنّ قوله : «مع تسليم المعارضة» إشارة إلى حكومة أصالة البقاء إلى ما بعد العشرة على أصالة بقاء دم الحيض ، لأنّ الشكّ في كون الدم بعد أيّام العادة وقبل العشرة دم حيض مسبّبا عن الشكّ في تجاوز الدم عن العشرة. نعم ، يرد عليه أنّ جريان الاستصحاب مشروط ببقاء الموضوع ، فمع تعارض الأصلين يشكّ في بقاء الموضوع ، فلا يصحّ استصحاب أحكام الحيض حينئذ.

ثمّ قال : «نعم ، لو قلنا بأنّ الأصل لا يجري في مثل المقام من الامور التدريجيّة ، كما نبّهنا عليه مرارا ، كان الأصل عدم حدوث دم الحيض زائدا على ما حدث ، فيزول به استصحاب بقاء أحكام الحائض» انتهى. وقد صرّح بعدم جريان هذا الأصل في المبتدئة.

وفيه : أنّ مبنى الاستصحاب على التسامح وإلّا لم يجر استصحاب الأزمان ، وهو اتّفاقي ، بل ادّعى عليه بعضهم الضرورة. ومن هنا تبيّن عدم كون الحكم بالتحيّض مبنيّا على الاستصحاب ، وإن كان جريانه متّجها في المقام.

وربّما يقال بابتنائه على قاعدة الإمكان. وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله أيضا : «بأنّها إنّما استفيدت من الإجماعات المحكيّة دون الأخبار ، لعدم نهوضها لإثباتها كما قرّر في الفقه ، والمفروض أنّ المشهور بين المتأخّرين عدم الحكم بالحيضيّة في المقام ، وجعل الاستظهار مستحبّا. مع أنّ قاعدة الإمكان ـ كما تقدّم في محلّه ـ لا تجدي في التحيّض بدم متزلزل يحتمل ظهور كونها المستحاضة ، لعدم استقرار الإمكان ، فتأمّل. فالأولى إثبات وجوب الاستظهار بالأخبار» انتهى. ولعلّ هذا هو الوجه في عدم تعرّض المصنّف رحمه‌الله لقاعدة الإمكان هنا ، مع تعرّضه لها في حكم المبتدئة.

وأمّا الثاني فأصالة الطهارة وعدم الحيض هنا متّجهة. وصرّح المصنّف رحمه‌الله في الطهارة هنا أيضا بعدم ابتناء وجوب التحيّض على قاعدة الإمكان ، معلّلا بما تقدّم من عدم استقرار الإمكان.

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا ذكرناه قد ظهر ما في كلام المصنّف رحمه‌الله من مواقع النظر :

أمّا أوّلا : فإنّ شهرة الحكم بين المتأخّرين باستحباب الاستظهار لا يضرّ بعد اختياره للوجوب ولو في الجملة.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من عدم كون الوجوب مبنيّا على الاستصحاب. مضافا إلى عدم صحّة الجمع بين استصحاب الموضوع والحكم في قوله : «لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة» كما هو واضح.

وأمّا ثالثا : فإنّ كون الحكم في المبتدئة مستفادا من الإطلاقات مشكل بل غير صحيح ، لأنّ اتّصاف الدم بكونه دم حيض مشروط بعدم نقصانه عن ثلاثة أيّام ، فمع الشكّ في أوائل زمان الرؤية في أنّه يتجاوز عن الثلاثة أم لا تصير الشبهة موضوعيّة ، لا يصحّ فيها التمسّك بالإطلاقات عند المصنّف رحمه‌الله ، خلافا للمحقّق الثاني ، كما سيجيء في مبحث الاستصحاب.

وأمّا رابعا : فلما عرفت من عدم كون الحكم بوجوب تحيّض المبتدئة مبنيّا على قاعدة الإمكان. نعم ، قال المصنّف رحمه‌الله في المعتادة : «إنّ تحيّضها برؤية الدم مع أصالة عدم حدوث الزائد من جهة أنّ العادة سبب شرعيّ للحكم ، وليس من جهة الإمكان حتّى يعتبر فيه الاستقرار».

وكيف كان ، فقد يورد على المثال أيضا بكون حرمة عبادة الحائض تشريعيّة ، وقد تقدّم عند تحرير محلّ النزاع خروج ذلك من محلّ النزاع.

وفيه : أنّه خلاف ظاهر الأوامر. نعم ، قال المصنّف رحمه‌الله : «لا إشكال في تحريم الصلاة ـ يعني : على الحائض ـ من حيث التشريع ، وهل هي محرّمة ذاتا كقراءة العزائم ، أو لا حرمة فيها إلّا من جهة التشريع بفعل الصلاة الغير المأمور بها؟

وجهان ، من التصريح بعدم الجواز ، والأمر بالترك في النصوص وأكثر معاقد الإجماعات ، ففي صحيحة زرارة إذا كانت المرأة طامثا لا تجوز لها الصلاة». وفي صحيحة اخرى : «لا تحلّ لها الصلاة». وفي اخرى : «إذا دفقته ـ يعني : الدم ـ

الحيض (١٤٢٤) وحرمة العبادة. وأمّا ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرّد الرؤية ، فهو للإطلاقات وقاعدة «كلّ ما أمكن» ؛ وإلّا فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع.

______________________________________________________

حرمت عليها الصلاة» ونحوها غيرها. وفي المنتهى : «يحرم على الحائض الصلاة والصوم ، وهو مذهب عامّة أهل الإسلام». ومن أنّ الظاهر توجّه التحريم والأمر بالترك في الأدلّة على فعل الصلاة على وجه التعبّد والمشروعيّة كما كانت تفعلها قبل الحيض ، ولا ريب في حرمة ذلك ، لأنّه تشريع وتعبّد بما لم يأمر به الشارع. وإنّما تظهر الثمرة في حسن الاحتياط بها بفعل الصوم والصلاة الواجبين أو المندوبين عند الشكّ في الحيض ، مع فرض عدم أصل أو عموم يرجع إليه ، فإن قلنا بالتحريم الذاتي لم يحسن له الاحتياط ، سيّما بفعل المندوبة. والأقوى عدمه ، للأصل ، وظهور النواهي فيما ذكرنا. مع أنّ أوامر الترك واردة في مقام رفع الوجوب ، ولذا أبدل التحريم في المعتبر والنافع بعدم الانعقاد ، فقال في المعتبر : لا ينعقد للحائض صوم ولا صلاة ، وعليه الإجماع. وقال المصنّف رحمه‌الله هنا : ولا يصحّ منها الصوم» انتهى.

وأنت خبير بأنّه يمكن منعه ، لمخالفته لظواهر الأخبار. ولا مانع من اجتماع الجهتين مع قصد التعبّد كما في قراءة العزائم. وقد سمعت من بعض مشايخنا وجود خبر دالّ على حرمة صلاة المحدث ولو مع عدم قصد التعبّد ، بأن أتى بصورتها من دون قصد التقرّب. ومع التسليم كان عليه الإشارة إلى الإيراد المذكور في المثال الأوّل أيضا ، كما أشار إليه في المثال الثاني ، فلا تغفل. والله أعلم.

١٤٢٤. فيكون المثال خارجا من محلّ النزاع ، لأنّ مقتضى الاستصحاب كون الدم الخارج بعد أيّام العادة حيضا ، فيخرج من مورد دوران الأمر بين الحرمة والوجوب. وبعبارة اخرى : أنّ الحكم بوجوب الاستظهار إنّما ينفع المستدلّ لو حكم على الدم بأحكام الحيض مع فرض تردّده بين كونه حيضا أو استحاضة ،

وأمّا ترك الإنائين المشتبهين في الطهارة ، فليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ؛ لأنّ الظاهر ـ كما ثبت في محلّه (١٤٢٥) ـ أنّ حرمة الطهارة بالماء النجس

______________________________________________________

نظير الحكم بالنجاسة في الشبهة المحصورة ، ومقتضى الاستصحاب في المعتادة والإطلاقات في المبتدئة كون الدم الخارج حيضا ، لا إجراء أحكام الحيض على المردّد بينه وبين الاستحاضة. نعم ، قد تقدّم الإشكال في التمسّك بهما في المقام ، فتدبّر.

١٤٢٥. قال المصنّف قدس‌سره في شرح قول الفاضل في الإرشاد : «وإذا حكم بنجاسة الماء لم يجز استعماله في الطهارة» أمّا الحرمة فلأنّ المفروض فعله بقصد ترتّب الأثر عليه ، وإلّا لم يكن مستعملا للماء في الطهارة ، ولذا قال كاشف اللثام : إنّ استعماله في صورة الطهارة والإزالة مع اعتقاد عدم حصولهما لا إثم فيه ، وليس استعمالا فيهما» انتهى.

وعن النهاية : أنّ المراد بالحرمة عدم ترتّب الأثر. ولعلّه لأنّه المستفاد من النهي الوارد في مقام بيان الموانع ، كاستفادة الحكم الوضعي من الأمر الوارد في مقام بيان الشروط. وهذه غير الحرمة الناشئة من ذات الفعل ، ولذا صحّ جعل الحكم مطلقا غير مختصّ بصورة العلم والاختيار ، فإنّ الحرمة الذاتيّة لا تجري فيهما ، كمن تطهّر معتقدا لطهارة الماء أو مكرها عليه.

وربّما يستظهر في المقام تحقّق الحرمة الذاتيّة أيضا من ظواهر النهي عن التوضّؤ بالماء النجس ونحوه ، وحكمهم بوجوب الاجتناب عن الإنائين المشتبهين في الطهارة عن الخبث في ظاهر كلامهم ، فإنّ الحرمة التشريعيّة لا تمنع عن الاحتياط بالجمع بين الواجب وغيره المحرّم تشريعا ، كما في اشتباه المطلق بالمضاف ، واشتباه القبلة والفائتة وغير ذلك ، لعدم عنوان التشريع مع الاحتياط.

ويضعّف الاستظهار من ظاهر النواهي بأنّ النهي فيها وارد في مقام رفع اعتقاد الإجزاء الحاصل من إطلاق أوامر الطهارة ، فإنّ الأمر المطلق ـ كقول الشارع : توضّأ وصلّ ، وقول الموكّل : اشتر لي رقبة ـ يدلّ على الرخصة في الوضوء

.................................................................................................

______________________________________________________

بالماء النجس والصلاة في الثوب النجس وشراء الرقبة الغير المؤمنة ، وهذه الرخصة رخصة وضعيّة حاصلة من تخيير العقل في امتثال المطلق في ضمن أيّ فرد كان ، فإذا ورد بعد ذلك قوله : لا تتوضّأ بالماء النجس ، ولا تصلّ في الثوب النجس ، ولا تشتر رقبة غير مؤمنة ، لم يرد بذلك إلّا رفع تلك الرخصة ، أعني : رفع الإذن عن امتثال المطلق في ضمن الفرد المنهي عنه ، وأنّ الامتثال في ضمن هذا الفرد غير مأذون فيه ، ومعلوم أنّ هذا لا يوجب تحريما أصلا فضلا عن أن يكون ذاتيّا. نعم ، التعرّض للامتثال فيما لم يأذن الشارع في الامتثال به تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، ولا يجوز أن تكون حرمة هذا التشريع بتلك النواهي ، لأنّها محصّلة ومحقّقة لموضوع التشريع ، فلا يصحّ أن يكون منهيّا عنه بها.

وأمّا حكمهم بوجوب اجتناب المشتبهين فلأجل النص الوارد بوجوب التيمّم معهما ، فيقتصر على مورد النص. وما يفهم منه التعدّي إليه ، كأزيد من الإنائين ، واشتباه نجس العين بالطاهر ، وغير ذلك ، انتهى.

وإذا فرض كون تحريم الاستعمال تشريعيّا خرج المثال من محلّ النزاع ، كما تقدّم عند تحرير محلّه ، لعدم منافاته للاحتياط كما عرفت. وحينئذ يجوز أن يتوضّأ بأحد الإنائين ، ثمّ يغسل أعضاء الوضوء بالآخر ثمّ يتوضّأ به ، للقطع حينئذ بحصول الطهارة اليقينيّة. ويدفع احتمال تنجّس بدنه بقاعدة الطهارة ، إذ كما يحتمل عروض النجاسة عقيب التطهير بالماء الطاهر ، كذلك يحتمل تعقّب التطهير بالماء الطاهر بالتطهير بالمتنجّس. مع أنّه يمكن تكرير الصلاة بالإتيان بها عقيب كلّ من الطهارتين. فالنهي عن استعمال الإنائين المشتبهين ، كما في موثّقتي سماعة وعمّار عن رجل معه إناءان وقع في أحدهما قذر ، ولا يدري أيّهما هو ، ولا يقدر على ماء غيرهما ، قال : «يهريقهما ويتيمّم». وعن المعتبر والمنتهى عمل الأصحاب بهما وقبولهم لهما ، مضافا إلى الاتّفاقات المستفيضة ـ لا بدّ أن يكون من باب التعبّد لمصلحة راعاها الشارع ، لا لأجل تقديم جانب الحرمة المحتملة.

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال المصنّف قدس‌سره : «ويمكن تنزيل النصّ ـ لأجل تطبيقه على القاعدة ـ على ما إذا لم يتمكّن من إزالة النجاسة المتيقّنة عن بدنه. وتكرار الصلاة مع كلّ وضوء وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه قد لا يتمكّن من إزالتها للصلاة الآتية ولسائر استعمالاته المتوقّفة على طهارة يده ووجهه». وقال : «وبالجملة ، فترك الاستفصال لا يفيد العموم في هذا المورد بالنسبة إلى صورة غير صورة لزوم وقوعه في المحذور ، من استعمال النجس في الصلاة والأكل والشرب ، ونجاسة ما يتضرّر من نجاسته من المأكول والمشروب» انتهى.

ويؤيّده عدم كون الأمر بالإراقة للوجوب يقينا ، فلا بدّ أن يكون الوجه فيه معارضة التوضّؤ بالإناءين لفوات واجب آخر ، من طهارة البدن في الصلاة أو الأكل والشرب ونحوها ، وحينئذ تكون الإراقة قريبا من الاحتياط ، لانتقال التكليف حينئذ إلى التيمّم ، وفيه نوع جمع بين ترك الحرام وفعل الواجب. ولعلّه من هنا قد أفتى بعض مشايخنا بجواز التوضّؤ بهما على نحو ما تقدّم. وحينئذ تكون الموثّقتان واردتين على طبق القاعدة.

ثمّ إنّ حرمة التوضّؤ بالماء النجس أو المحتمل له تشريعا ـ لأجل قصد التعبّد به مع فقد شرطه ، أو احتمال ذلك فيه ـ لا ينافي تحريم استعماله في الأكل والشرب ذاتا ، كما هو واضح. ومع تسليم الحرمة الذاتية في المقام نقول : إنّ وجه ترك الواجب ـ وهو الوضوء ـ ثبوت البدل له دون الحرام وهو التيمّم ، لا كون ذلك لأجل تقديم جانب الحرمة. وفي التيمّم نوع جمع بين الواجب وترك الحرام.

قال المصنّف قدس‌سره في كتاب الطهارة : «وكأنّه لذلك يجب التيمّم في كلّ مورد يلزم من الطهارة المائيّة فوات واجب لا بدل له ، ولا يختصّ بما يلزم منه فعل محرّم. والسرّ أنّه فهم من أدلّة التيمّم عند العذر في استعمال الماء الشمول لمورد مزاحمة واجب أو استلزام محرّم. وعلّل في بعض الأخبار تقديم مراعاة سائر الواجبات والمحرّمات بأنّ الله جعل للماء بدلا ، فتأمّل» انتهى.

تشريعيّة لا ذاتيّة (*) ، وإنّما منع عن الطهارة مع الاشتباه لأجل النصّ ، مع أنّها لو كانت ذاتيّة ، فوجه ترك الواجب وهو الوضوء ثبوت البدل له وهو التيمّم ، كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين ، وبالجملة : فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرّما.

مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ؛ لأنّ العلماء والعقلاء متّفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام (**) ، فهذا المثال (***) أجنبيّ عمّا نحن فيه قطعا. ويضعّف ما قبله (١٤٢٦) بأنّه يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب ، لا لنفي

______________________________________________________

ومع التسليم نقول : إنّ تقديم جانب الحرمة فيما نحن فيه إنّما هو للتحرّز عن الحرمة المحتملة ، ولا يمكن إثبات ذلك بوجوب ترك استعمال الإنائين المشتبهين ، لأنّه للاحتراز عن الحرمة المعلومة إجمالا.

لا يقال : إذا ثبت جواز المخالفة القطعيّة للواجب لأجل تحصيل الموافقة اليقينيّة للحرام ، ثبت جواز المخالفة للوجوب المحتمل لأجل تحصيل الموافقة للحرمة المحتملة ، لاتّحاد طريقهما. وبهذا الاعتبار عدّ هذا المثال من الأفراد المستقرأ فيها.

لأنّا نقول : إنّه قياس مع وجود الفارق باعتراف الخصم ، لكون الأوّل خلاف طريقة العلماء والعقلاء ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة ...». فلا بدّ حينئذ من حمل الأمر بترك الإنائين المشتبهين على إرادة التعبّد المحض ، أو على إرادة ثبوت البدل للواجب ، أو على غير ذلك ممّا تقدّم ، لا على إرادة تقديم جانب الحرام.

١٤٢٦. يعني : كون إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فالأمر دائر بين الواجب وغير الحرام.

(**) في بعض النسخ زيادة : بل اللازم إجماعا فى مثل ذلك ارتكاب أحدهما وترك الآخر.

(***) في بعض النسخ زيادة : المفروض فيه وجوب المخالفة القطعيّة فى الواجب.

التخيير.

وأمّا أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة (١٤٢٧) ، لكنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة ؛ وإلّا لم يصلح للإلزام ؛ إذ مجرّد فوات (*) المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت (**) ، لا يصلح وجها لإلزام شىء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ؛ وإلّا لكان أصغر المحرّمات أعظم من ترك أهمّ الفرائض مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر.

وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتّب المضرّة الدنيويّة ؛ فإنّ فوات النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا. وأمّا

______________________________________________________

١٤٢٧. حاصله : تسليم استقلال العقل بوجوب دفع المفسدة وأولويّته بالنسبة إلى جلب المنفعة عند التعارض. ولكنّه إنّما هو فيما لم تكن في فوت المنفعة مفسدة مساوية للمفسدة المحتملة أو أقوى منها ، وإلّا يمنع استقلاله بوجوب دفعها ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع كون المصالح والمفاسد الواقعيّة من قبيل العلل للأحكام ، لاحتمال كونها من قبيل المقتضيات المشروط تأثيرها بشرط مفقود ، ولو كان هو علم المكلّف بسنخ التكليف تفصيلا أو إجمالا ، ولا ريب في عدم استقلال العقل بوجوب دفعها ولو مع عدم المعارضة. ومع التسليم ربّما تمنع كلّية الكبرى ، إذ ربّ منفعة تقدّم عند العقلاء على المفسدة ، كما إذا كانت المنفعة كثيرة في الغاية ، والمفسدة قليلة في النهاية.

وفيه : أنّ المصلحة وإن بلغت ـ ما بلغت ما لم تبلغ مرتبة الإلزام التي يتضمّن فوتها المفسدة ـ لا تعارض المفسدة التي يستقلّ العقل بوجوب دفعها ، ومع بلوغها إليها تكون من جملة أفراد ما نحن فيه. وأمّا ما ترى من اقتحام كثير من

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «فوات» ، فوت.

(**) في بعض النسخ : بدل «الفوت» ، الواجب عليه.

الأخبار الدالّة على التوقّف ، فظاهرة فيما لا يحتمل الضرر (١٤٢٨) في تركه ، كما لا يخفى. وظاهر كلام السيّد الشارح للوافية : جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام ، وهو بعيد (١٤٢٩).

وأمّا قاعدة «الاحتياط عند الشكّ في التخيير والتعيين» فغير جار في أمثال المقام ممّا يكون الحاكم فيه العقل (١٤٣٠) ؛ فإنّ العقل إمّا أن يستقلّ بالتخيير وإمّا

______________________________________________________

الناس في المضارّ لجلب المنافع ، فهو إمّا لعدم المبالاة بحكم العقل كعدم مبالاتهم بحكم الشرع في كثير من الموارد ، أو لعدم بلوغ المفسدة إلى حدّ الإلزام.

١٤٢٨. يعني : فيما يحتمل الحرمة وغير الوجوب. ووجه الظهور : تعليله عليه‌السلام الأمر بالوقوف عند الشبهة بقوله : «فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة». وهو ظاهر كالصريح في كون الأمر بالوقوف فيما كانت المفسدة فيه في الفعل دون الترك. ويمكن أن يقال أيضا : إنّ ظاهر هذه الأخبار هو التوقّف حتّى بحسب الفتوى ، لأنّ ظاهر التوقّف المطلق هو السكوت من حيث الفتوى ، وعدم المضيّ من حيث العمل ، ولا يقول به من يقدّم جانب الحرمة.

١٤٢٩. لأنّ الاحتياط فيما نحن فيه وإن فرض إمكانه لأجل دوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، إلّا أنّ هذا احتياط في المسألة الاصوليّة ، وظاهر الأخبار هو الاحتياط في المسألة الفقهيّة ، وهو متعذّر فيما نحن فيه بالفرض.

١٤٣٠. سيجيء توضيح ذلك في مبحث الاستصحاب عند بيان عدم جريانه في الأحكام العقليّة. ومحصّله : عدم تعقّل الشكّ في حكم العقل حتّى يحكم فيه بحكم ظاهري من الاحتياط أو غيره ، لأنّ العقل لا يحكم بشيء نفيا أو إثباتا إلّا بعد إحراز جميع قيود موضوعه ، فلا يعقل الإجمال في موضوع حكمه كي يتردّد في الحكم عليه بشيء ، حتّى يحكم عليه في مقام الشكّ والجهل بحكمه بحكم ظاهري. وفيما نحن فيه أيضا ، حيث فرض كون الحكم بتقديم جانب الحرمة أو التخيير بين الأخذ بأحد الاحتمالين عقليّا ـ لأنّه بعد إبطال القول بالإباحة الظاهريّة ، وكذا

أن يستقلّ بالتعيين ، فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ، وإنّما الشكّ في الأحكام التوقيفيّة التي لا يدركها العقل ، إلّا أن يقال (١٤٣١) : إنّ احتمال أن يرد من الشارع حكم توقيفيّ في ترجيح جانب الحرمة ـ ولو لاحتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه ـ كاف في الاحتياط والأخذ بالحرمة.

ثمّ لو قلنا بالتخيير ، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار أو مستمرّ فله العدول مطلقا أو بشرط البناء على الاستمرار (١٤٣٢)؟ وجوه. يستدل

______________________________________________________

القول بالتوقّف عن تعيين الواقع والظاهر ـ فمع فرض عدم إمكان الاحتياط وعدم تعقّل التوقّف في مقام العمل ، فإن استقلّ العقل بأولويّة دفع المفسدة عن جلب المنفعة استقلّ بتقديم جانب الحرمة ، وإن لم يستقلّ بذلك ، نظرا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون المقام من موارد تعارض المفسدتين ، استقلّ بالحكم بالتخيير لا محالة ، لعدم الواسطة بينهما ، وحينئذ لا يعقل التردّد في حكمه ليحكم في مقام الظاهر بالاحتياط.

١٤٣١. لكون احتمال التعيين حينئذ شرعيّا ، فتخرج المسألة من كونها عقليّة ، وإن كان الحاكم بالاحتياط حينئذ أيضا هو العقل. وأنت خبير بأنّ احتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه لا يزيد في المقام شيئا ، لأنّ هذه الأخبار في عرض حكم العقل ، فإن توافقا فهي تؤكّد حكمه ، وإن اختلفا فلا ريب أنّ مجرّد احتمال شمولها لما نحن فيه لا يمنع من حكم العقل بقبح العقاب على مجهول الحرمة والوجوب ، نظير عدم قدح احتمال تضمّن الكذب للمصلحة في مورد في حكم العقل بقبحه. وبالجملة ، إنّ العقل إن كان حاكما بوجوب الاحتياط فلا يحتاج إلى احتمال شمول أخبار التوقّف للمقام ، وإلّا فهو بمجرّده لا يوجب حكمه به كما عرفت. نعم ، لو دار الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيّين ، فالعقل يستقلّ بوجوب الأخذ بمحتمل التعيين ، بتقريب ما تقدّم في تنبيهات الشبهة الوجوبيّة.

١٤٣٢. أي : على العدول.

للأوّل : بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب الحكم المختار ، واستلزام العدول للمخالفة القطعيّة المانعة عن الرجوع إلى الإباحة من أوّل الأمر.

ويضعّف الأخير (١٤٣٣) بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ، كما لو بدا للمجتهد في رأيه ، أو عدل المقلّد عن مجتهده لعذر من موت أو جنون

______________________________________________________

١٤٣٣. يمكن الفرق بين ما نحن فيه والمثالين ، بأن يقال ، إنّ المناط في حرمة المخالفة العمليّة هو قبح ذلك عقلا ، لكونها مخالفة ومعصية للمولى. وهذا المناط موجود فيما نحن فيه إذا فرض تخيّر المكلّف ابتداء في الأخذ بأحد الاحتمالين ، واستدامة في العدول عمّا أخذ به أوّلا ، من دون فرق في قبح المخالفة بينه والقول بإباحة الفعل أوّلا وبالذات ، سيّما إذا كان بانيا على العدول من أوّل الأمر.

وأمّا المثال الأوّل فهو أجنبيّ عمّا نحن فيه ، لأنّ المجتهد عند رأيه الأوّل ملتزم به ومعتقد بحرمة العمل بخلافه ، وعند رأيه الثاني معتقد ببطلان رأيه الأوّل ، ولذا يجب عليه تجديد معاملاته التي أوقعها على طبق رأيه الأوّل ، وإعادة عباداته كذلك في الوقت ، وقضائها في خارجه إن قلنا بكونه بالأمر الأوّل لا بأمر جديد. ولا دليل على قبح المخالفة بمثلها ، لكونها ناشئة من الخطأ في الاجتهاد.

وأمّا المثال الثاني ، فإن كان العدول عن عذر ، مع عدم القول بجوازه عن اختيار ، فالكلام فيه كسابقه. وإن كان عن اختيار فالأقوى فيه ـ وفاقا للفاضل في النهاية ، والشهيد في الذكرى ناسبا له إلى الأكثر ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة ـ هو عدم الجواز كما قرّر في محلّه. مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ الاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي إنّما يجب إذا كان كلّ من طرفيه محلّ ابتلاء للمكلّف ، وكلّ من الواقعتين فيما ذكر من المثال خارج من محلّ الابتلاء عند الابتلاء بالأخرى ، فتأمّل ، بخلاف ما نحن فيه ، لكون كلّ من الفعل والترك محلّ ابتلاء عند الابتلاء بالآخر. هذا كلّه مع اعتراف المصنّف رحمه‌الله في فروع العلم الإجمالي بالفرق بينه وبين ما نحن فيه ، فراجع.

أو فسق أو اختيارا على القول بجوازه. ويضعّف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير (١٤٣٤) الحاكم عليه. ويضعّف قاعدة الاحتياط (١٤٣٥) بما تقدّم ، من أنّ حكم العقل بالتخيير عقلي لا احتمال فيه حتّى يجري فيه الاحتياط.

ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ؛ إذ لا إهمال في حكم العقل حتّى يشكّ في بقائه في الزمان الثاني. فالأقوى هو التخيير الاستمراري (١٤٣٦) ، لا للاستصحاب بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزمان الأوّل.

______________________________________________________

١٤٣٤. فيه مسامحة ، إذ لا معارضة مع الحكومة. وكيف كان ، يرد عليه أنّ الشكّ في المقام إنّما هو في كون الأخذ بأحد الاحتمالين معيّنا للأخذ به وعدم جواز العدول عنه وعدمه. وحينئذ إن اريد استصحاب حكم التخيير الثابت قبل الأخذ بأحدهما فالموضوع غير محرز ، لاحتمال تقيّده بعدم الأخذ بأحدهما. وإن اريد استصحاب ما ثبت بعد الأخذ بأحدهما ، فهو غير متيقّن في السابق ، فالمتّجه حينئذ هو استصحاب الحكم المختار ، للزومه عليه ما لم يرد العدول. اللهمّ إلّا أن يقال بأنّ لزومه أيضا يحتمل أن يكون مقيّدا بعدم العدول. هذا إن بني على المداقّة في أمر الاستصحاب ، وإلّا فهو جار في المقامين بناء على المسامحة فيه. اللهمّ إلّا أن يفرّق بينهما فيها ، فتدبّر.

١٤٣٥. يمكن أن يقال : إنّ حكم العقل بالتخيير قبل الأخذ بأحد الاحتمالين إنّما كان من جهة عدم الترجيح ، وعدم المناص من العمل ، وبطلان القول بالإباحة ، وبعد احتمال تعيّن المأخوذ بالأخذ يدور الأمر بين التعيين والتخيير ، فيجب الأخذ بمحتمل التعيين لقاعدة الاحتياط ، فالتمسّك بها لأجل منع حكم العقل بالتخيير بعد احتمال تعيّن المأخوذ بالأخذ ، وكون مقتضى القاعدة عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو الأخذ بمحتمل التعيين ، لا لأجل الشكّ في حكم العقل بالتخيير بعد الأخذ بأحدهما حتّى يمنع ذلك فيه.

١٤٣٦. قد يقال : إنّ مرجعه إلى القول بالإباحة ، فلا وجه للقول به لأجل

المسألة الثانية : إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل إمّا حكما ، كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد أو موضوعا ، كما لو أمر بالتحرّز عن أمر مردّد (١٤٣٧) بين فعل الشيء وتركه ، فالحكم فيه كما في المسألة السابقة.

المسألة الثالثة : لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة فالحكم هنا : التخيير ؛ لإطلاق ادلّته ، وخصوص بعض منها الوارد في خبرين أحدهما أمر والآخر نهي ، خلافا للعلامة رحمه‌الله في النهاية وشارح المختصر (٢) والآمدي ، فرجّحوا ما دلّ على النهي لما ذكرنا (١٤٣٨) سابقا ، ولما هو أضعف منه. وفي كون التخيير هنا بدويّا أو استمراريّا مطلقا أو مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار؟ وجوه تقدّمت ، إلّا أنّه قد يتمسّك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار.

ويشكل بأنّها مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أوّل الأمر ، فلا تعرّض لها لحكمه

______________________________________________________

الفرار منها ، لعدم ترتّب ثمرة على الالتزام بأحد الاحتمالين مع جواز الالتزام بالآخر حين الالتزام به ، بخلاف التخيير بين خبرين أحدهما موجب والآخر حاظر ، لأنّ ثمرته تظهر في قصد امتثال الأمر أو النهي الملتزم به ، مع أنّ التخيير فيه شرعيّ ، ولعلّ الشارع قد لاحظ فيه مصلحة وإن لم نعلمها تفصيلا.

وأنت خبير بأنّ هذا الإيراد غير وارد على المصنّف رحمه‌الله ، لأنّه إنّما قال بالتخيير على تقدير قيام دليل على وجوب الأخذ بأحدهما في الجملة. وحاصله : أنّه بعد فرض بطلان القول بالإباحة الظاهريّة ، والقول بالتوقّف ، وفرض وجود دليل على وجوب الأخذ بأحدهما ، فمقتضى القاعدة هو التخيير الاستمراري ، لعدم الدليل على التخيير البدوي. نعم ، يرد عليه ذلك لو قال بكون ذلك مقتضى القاعدة أوّلا وبالذات فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والتحريم ، وليس كذلك كما عرفت.

١٤٣٧. كاللفظ الموضوع لفعل وتركه.

١٤٣٨. من الوجوه الخمسة.

بعد الأخذ بأحدهما. نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ؛ حيث إنّه ثبت (*) بحكم الشارع القابل للاستمرار ، إلّا أن يدّعى أنّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر ، فتأمّل (١٤٣٩).

______________________________________________________

١٤٣٩. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى منع زوال التحيّر بمجرّد الأخذ بأحدهما إلّا بعد ثبوت كونه بعد الأخذ به حكما ظاهريّا متعيّنا عليه ، وهو أوّل الكلام. أو إشارة إلى كون الأمر في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب مبنيّا على العرف ، والموضوع عرفا في المقام هو المكلّف ، وزوال التحيّر من قبيل تغيّر حالات الموضوع لا نفسه. أو إلى منع كون الموضوع هو المتحيّر ، بل هو المكلّف ، وإن سلّم كون التحيّر سببا لعروض الحكم ، إذ لا ريب في انتفائه بعد ثبوت التخيير بالأخبار وقبل الأخذ بأحد المتعارضين. وبعبارة اخرى : أنّ التحيّر على تقدير تسليم كونه جزءا من موضوع التخيير ، فهو إنّما هو في عروض الحكم وحدوثه لا في بقائه ، والشكّ أيضا إنّما هو في كون الأخذ بأحدهما معيّنا للمأخوذ وعدمه ، لا في كون التحيّر جزءا منه وعدمه. وحينئذ يصحّ استصحاب الحكم من دون غائلة فيه. نعم ، قد تقدّم في المسألة الاولى ما يناقش فيه ويدفعه ، فراجع.

وبقي في المقام شيء ، وهو أنّه حيث حكمنا بالتخيير في مسائل الشبهة الحكميّة ، هل يجب على المجتهد أن يفتي المقلّد بما اختاره ، أو يجوز له الفتوى بالتخيير؟ فيه وجهان ، من كون المجتهد نائبا عن المقلّد في استنباط الأحكام واستفادتها من الأدلّة ، ولذا لا يعتدّ بشكّه في موارد الاصول التي يتفرّع عليها الأحكام الكلّية ، فما ترجّح في نظره فهو حكمه ، ولا بدّ له من الإفتاء به. ومن أنّ القدر الثابت من الأدلّة رجوع المقلّد إلى المجتهد وتقليده له في ما ثبت له بالأدلّة ، ولا ريب أنّ تخيّر المجتهد عقلا أو شرعا في الأخذ بأحد الاحتمالين أو الخبرين ليس حكما شرعيّا له من قبل الشارع ، بل هو توسعة له من قبل الشارع في اختياره

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «ثبت» ، يثبت.

وسيتّضح هذا في بحث الاستصحاب ، وعليه فاللازم الاستمرار على ما اختار ؛ لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني.

المسألة الرابعة : لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع وقد مثّل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطؤها بالأصالة أو لعارض من نذر أو غيره ـ بالأجنبيّة ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر.

ويرد على الأوّل (١٤٤٠) أنّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطء ؛ لأصالة عدم الزوجيّة بينهما وأصالة عدم وجوب الوطء. وعلى الثاني أنّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ؛ جمعا بين (١٤٤١) أصالتي الإباحة وعدم الحلف على شربه.

______________________________________________________

لأحدهما على حسب الدواعي الخارجة ، فإذا اختار أحدهما كان المختار هو الحكم المجعول في حقّه ما لم يعدل عنه ، فلا بدّ له من الإفتاء بما اختاره. والأحوط هو الإفتاء بالتخيير ، ثمّ إرشاد المقلّد إلى الأخذ بما اختاره. وعلى تقدير وجوب الإفتاء بما اختاره إذا أفتى بما اختاره ثمّ عدل عنه ، فوجوب إعلام المقلّد بذلك يبتني على وجوب إعلامه عند تبدّل رأيه.

١٤٤٠. حاصله : أنّ جريان أصالة البراءة مشروط ـ كما تقدّم في غير موضوع ـ بعدم حكومة أصل موضوعي عليها ، وهذا الشرط مفقود في المثال ، وهو واضح. ولكنّه لو أبدلت الأجنبيّة فيه بالمطلّقة ، مع فرض كون الوجوب المحتمل فيه أصليّا ، ووقوع الطلاق في زمان وجوب وطي المطلّقة ، لم يرد عليه ذلك ، لوضوح عدم جريان أصالة عدم الزوجيّة ، ولا عدم وجوب الوطي. وكذا أصالة عدم وقوع الطلاق على هذه المرأة المشتبهة ، لعدم إثباتها لزوجيّتها إلّا على القول بالاصول المثبتة. وكذلك أصالة بقاء الزوجيّة ، لعدم إثباتها كون هذه المرأة هي المرأة غير المطلّقة التي وجب وطيها. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مقتضى هذا الأصل جواز وطيها ، فيكون الجواز مستندا إليه لا إلى أصالة البراءة ، وإن لم يثبت به ما ذكر.

١٤٤١. مخالفة العلم الإجمالي اللازمة من العمل بالأصلين هنا غير ضائرة ،

والأولى : فرض المثال (١٤٤٢) فيما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة. والحكم فيه كما في المسألة الاولى (١٤٤٣) من عدم وجوب الأخذ بأحدهما في الظاهر ، بل هنا أولى ؛ إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه‌السلام ، إذ ليس الاشتباه في الحكم الشرعيّ الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه‌السلام ، وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة ولو إجمالا ، مع أنّ مخالفة المعلوم إجمالا في العمل فوق حدّ الإحصاء (١٤٤٤) في الشبهات الموضوعيّة.

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة أعني دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة وعكسه ودوران الأمر بينهما. وأمّا دوران الأمر بين ما عدا (١٤٤٥)

______________________________________________________

لكونها بحسب الالتزام دون العمل.

١٤٤٢. هذا بناء على كون زيد غير مسبوق بالعلم بالفسق أو العدالة كما هو واضح ، وعلى عدم الواسطة بينهما ، أو معها مع فرض العلم إجمالا باتّصافه بأحدهما ، وإلّا فيمكن نفي كلّ منهما بالأصل ، فيخرج المثال ممّا نحن فيه.

١٤٤٣. في لزوم التوقّف بحسب الواقع وعدم الحكم بشيء في الظاهر.

١٤٤٤. قد تقدّم الكلام في ذلك في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي. وسيجيء أيضا في الشبهة المحصورة.

١٤٤٥. لا يخفى أنّ ما دار الأمر فيه بين ما عدا الوجوب والحرمة على أقسام : منها : ما دار الأمر فيه بين الاستحباب والإباحة. ومنها : ما دار الأمر فيه بين الكراهة والإباحة. ومنها : ما دار الأمر فيه بين الاستحباب والكراهة. ومنها : ما دار الأمر فيه بين الثلاثة. ويلحق بهذه الأقسام الكلام فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والكراهة ، وبين الحرمة والاستحباب. والمراد بالإباحة هنا معناها الخاصّ. وهي فيما دار الأمر فيه بينها وبين الاستحباب في غير العبادات واضح. وأمّا فيها فمع قطع النظر عن لزوم الحرمة من جهة اخرى ، مثل لزوم الحرمة التشريعيّة مع قصد التعبّد فيما لم يعلم ورود الأمر به.

الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا. وملخّصه أنّ دوران الأمر بين طلب الفعل أو الترك وبين الإباحة نظير المقامين الأوّلين ، ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث. ولا إشكال في أصل هذا الحكم ، إلّا أنّ إجراء أدلّة البراءة في صورة الشكّ في الطلب الغير الإلزامي فعلا أو تركا قد يستشكل فيه ؛ لأنّ ظاهر تلك الأدلّة نفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض انتفائهما في غير الواجب والحرام ، فتدبّر.

______________________________________________________

أمّا الأوّل ، فالمحكيّ عن الفاضل عند بيان استحباب التكبير لرفع الرأس من الركوع واستحباب رفع اليدين إلى حذاء الأذنين ـ وكذا عن المحقّق القمّي وصاحب الفصول ـ هو التمسّك بالبراءة الأصليّة فيه ، بل ظاهر المصنّف رحمه‌الله كون الكلام في المسائل المذكورة نظير الكلام في المطالب الثلاثة اتّفاقيا ، فإن ثبت الإجماع وإلّا فهو كما أشار إليه مشكل ، لأنّ دليلها إمّا العقل ، وقد مرّ غير مرّة أنّ أقصاه الدلالة على مجرّد نفي العقاب فيما يحتمله لا نفي الخطاب ، والفرض انتفاء احتماله في المقام. أو النقل من الكتاب والسنّة ، ومساقه عند التأمّل مساق حكم العقل من الدلالة على كون المكلّف مرخى العنان ، غير ملزم بفعل ما يحتمل الوجوب وترك ما يحتمل الحرمة.

نعم ، يمكن أن يستدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : أن يقال : إنّ عدم الدليل دليل العدم. وفيه : أنّك قد عرفت في الحواشي السابقة أنّ ذلك إنّما يجدي في صدر الإسلام وقبل انتشار الأحكام ، لأنّه مع الفحص عن دليل الحكم ـ وإن كان هو الاستحباب أو الكراهة ـ بما لا يعدّ معه مسامحا في الدين ومساهلا في الأخذ والطلب ، مع ملاحظة بناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه المعصومين عليهم‌السلام على إبلاغ الأحكام إلى المكلّفين وإعلامهم بها ، مع عدم حدوث موانع الإبلاغ ، وعدم عروض سوانح الانطماس في ذلك الزمان ، يحصل القطع بأنّه لو كان هنا دليل على الحكم لوصل إلينا ، ومرجعه إلى قبح تأخير البيان

.................................................................................................

______________________________________________________

عن وقت الحاجة ، مع عدم المانع منه ، بخلاف زماننا هذا وما ضاهاه ممّا انطمس فيه كثير من الأحكام ، ومنعت الوسائط من إبلاغها ، إذ لا ريب في عدم كون عدم الدليل حينئذ مورثا للظنّ بالعدم ، فضلا عن القطع به.

وثانيهما : استصحاب عدم الاستحباب. لا يقال : إنّه تعارضه أصالة عدم الإباحة ، لكونها أيضا من الخمسة التكليفيّة المسبوقة بالعدم. لأنّا نقول : ليس المقصود منه إثبات الإباحة ، ولا هو ملازم بالذات لإثباتها حتّى يعارض بالمثل ، بل المقصود مجرّد نفي الاستحباب ، مع قطع النظر عن كون الباقي بعده هي الإباحة أو غيرها. نعم ، لو ترتّب عليها أثر خاصّ ينفى أيضا بالأصل ، فتأمّل.

وأمّا الثاني فالكلام فيه كالأوّل. وأمّا الثالث فالكلام فيه يحذو حذو الكلام فيما دار الأمر فيه بين الحرمة والوجوب ، إلّا أنّه لا بدّ هنا من تبديل دفع المضرّة بدفع المنقصة.

وأما الرابع فالكلام فيه يظهر من التأمّل في الأوّلين. وأمّا الخامس والسادس فظاهر بعضهم الحكم بالاستحباب في الأوّل وبالكراهة في الثاني ، تمسّكا بأنّ احتمال الوجوب في الأوّل والحرمة في الثاني وإن كان مندفعا بأصالة البراءة ، إلّا أنّ الأخذ بمحتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة حسن عند العقلاء ، فيثبت به استحباب الأوّل وكراهة الثاني ، وإن كان كلّ منهما خارجا من طرفي الشبهة.

والتحقيق هو نفي احتمال الوجوب والحرمة بالأصل ، والحكم بحسن الإتيان بالفعل في الأوّل بداعي احتمال محبوبيّته ، وتركه في الثاني بداعي احتمال مبغوضيّته ، ويثاب على ذلك ، لكونه شبه انقياد وإطاعة حكميّة. وأمّا الحكم بالاستحباب في الأوّل والكراهة في الثاني فلا دليل عليه. اللهمّ إلّا أن يلتزم بذلك في موارد حسن الاحتياط عقلا ، وقد تقدّم تحقيقه في بعض الحواشي السابقة. والله العالم بحقائق أحكامه.

المصادر

(١) غرر الحكم : ص ٨١ ، الفصل الأوّل ، الحكمة ١٥٥٩.

(٢) شرح مختصر الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨٩.

الموضع الثاني : في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب. ومطالبه أيضا ثلاثة (١٤٤٦):

المطلب الأوّل : في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ومسائله أربع : الاولى : لو علم التحريم وشكّ في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي وإنّما قدّمنا الشبهة الموضوعيّة هنا ؛ لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة. ثمّ الحرام المشتبه بغيره إمّا مشتبه في امور محصورة (١٤٤٧) ، كما لو دار بين أمرين أو امور محصورة ، ويسمّى بالشبهة المحصورة ، وإمّا مشتبه في امور غير محصورة.

أمّا الأوّل : فالكلام فيه يقع في مقامين : أحدهما : جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور وطرح العلم الإجمالي وعدمه ، وبعبارة اخرى حرمة المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمها. الثاني : وجوب اجتناب الكلّ وعدمه ، وبعبارة اخرى : وجوب الموافقة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمه.

______________________________________________________

١٤٤٦. قد أشار المصنّف رحمه‌الله في طيّ المطالب الآتية إلى خروج بعض الصور من محلّ النزاع ، مثل ما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين من الشبهة التحريميّة ، والاستقلاليّين من الشبهة الوجوبيّة ، لانحلال العلم الإجمالي فيهما إلى شكّ بدوي وعلم تفصيلي ، فيدخلان في أقسام الشكّ في التكليف ، كما سيجيء في محلّه.

١٤٤٧. اعلم أنّ الاشتباه تارة يحصل بامتزاج الحرام بغيره ، واخرى باختلاطه

.................................................................................................

______________________________________________________

واشتباهه بغيره. أمّا الأوّل فلا إشكال ولا خلاف في عدم جواز ارتكابه كلّا أو بعضا ، كامتزاج الدهن الحلال بالمغصوب منه ونحوه. ولا فرق فيه بين كون الامتزاج موجبا للشركة ، كامتزاج مثليّين كالحبوب ونحوها ، وبين غيره ، إذ الحرمة على الأوّل واضحة ، وكذا على الثاني ، لاستلزام تناول الممتزج بالحرام تناوله لا محالة. ولكن ذلك يختصّ بما إذا لم يعرض للحرام الممتزج عنوان محلّل ، كاستهلاكه في الحلال ، كقطرة من عصير العنب إذا وقعت في الماء بناء على طهارته وحرمته ، لتبدّل عنوان الحرام بالاستهلاك. والظاهر أيضا عدم شمول ما ذكروه من حلّية المختلط بالحرام بالتخميس لصورة الامتزاج ، فلا يمكن الحكم بها في امتزاج المثليّين بعد التخميس.

وأمّا الثاني فكاشتباه الدرهم الحلال بالحرام ، والإناء النجس بالطاهر ، وكذا الثوبين ونحوهما. ومحلّ النزاع في المقام مختصّ بهذه الصورة ، لما عرفت من عدم الإشكال والخلاف في الحرمة في الأوّل. وأيضا الخلاف مختصّ بما لم يقصد بارتكاب أطراف الشبهة التوصّل إلى ارتكاب الحرام الواقعي ، وإلّا فهو حرام بلا خلاف ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر المسألة. وكذا بما إذا لم تقم على أحدها أمارة شرعيّة من يد أو بيّنة أو نحوهما ، لخروج ما قامت عليه الأمارة من أطراف الشبهة ، وصيرورة الشبهة في الباقي بدويّة على إشكال فيه في الجملة ، تقدّمت الإشارة إليه في حواشي المقام الأوّل ، ولعلّه سيجيء التنبيه عليه أيضا في الحواشي الآتية ، فانتظره.

وأيضا محلّ النزاع في المقام مختصّ بما كان مقتضى الأصل في المشتبهين هي الإباحة ، دون ما كان مقتضاه هي الحرمة كالمذكّى المشتبه بالميتة ، لأنّ مقتضى أصالة عدم التذكية في كلّ واحد منهما هي حرمة بيع كلّ واحد منهما منفردا ومجتمعا. ووجه خروجه من محلّ النزاع هو عدم استلزام المخالفة القطعيّة فيه للمخالفة العمليّة. وسيأتي التصريح بذلك من المصنّف رحمه‌الله فيما سننقله عنه فيما

أمّا المقام الأوّل : فالحقّ فيه عدم الجواز (١٤٤٨) وحرمة المخالفة القطعيّة ، وحكي عن ظاهر بعض (١) جوازها. لنا على ذلك (١٤٤٩) وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها. أمّا ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ؛ فإنّ قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين

______________________________________________________

علّقناه على التنبيه الأوّل من تنبيهات هذا المقام. ولكنّه سيصرّح في التنبيه الثامن بعموم كلمات بعضهم ، وكذا بتصريح بعضهم باختصاص النزاع بالمحرّمات الماليّة ونحوها كالنجس ، دون النفوس والأعراض ، مع تنظّره فيه.

١٤٤٨. اعلم أنّ الأقوال في المقامين أربعة : أحدها : ما اختاره المصنّف رحمه‌الله ، وهو المشهور بين الأصحاب. وثانيها : جواز ارتكاب الكلّ ، نقله المحقّق القمّي رحمه‌الله عن العلّامة المجلسي في أربعينه. وثالثها : التخيير وإبقاء ما يتحقّق به ارتكاب الحرام. ومال إليه المقدّس الأردبيلي ، واختاره جماعة ممّن تأخّر عنه ، كصاحب المدارك والذخيرة والرياض والقوانين والمناهج ، ونسب أيضا إلى الوحيد البهبهاني قدس‌سرهم ورابعها : القرعة ، واختاره ابن طاوس قدس‌سره.

١٤٤٩. يدلّ عليه أيضا وجوه :

أحدها : الإجماع محكيّا ومحصّلا ظاهرا ، لعدم المخالف فيه سوى ما عزاه المجلسي إلى بعضهم ، وهو مجهول القائل. وأمّا المجلسي فعبارته المحكيّة غير صريحة في ذلك ، لأنّه قال : «وقيل : يحلّ له الجميع ، لما ورد في الأخبار الصحيحة إذا اشتبه عليك الحلال والحرام فأنت على حلّ حتّى تعرف الحرام بعينه ، وهذا أقوى عقلا ونقلا» انتهى موضع الحاجة ، لأنّه يحتمل أن يريد به تقوية هذا القول بحسب الدليل دون الفتوى ، والفرق بينهما واضح.

وثانيها : كون تجويز ارتكاب الجميع نقضا لغرض الشّارع ، لكونه وسيلة إلى إمكان ارتكاب المحرّمات الواقعيّة بخلطتها بالمحلّلات بحيث يقع الاشتباه بينهما ، وهو موجب لاختلال نظم الأموال والفروج وغيرهما.

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ خلط المكلّف باختياره حرام ، فهو مانع من اختلال النظم.

قلت : إنّ كان سبب الحرمة حرمة ارتكاب الحرام الواقعي ، بأن كان الخلط حراما من باب المقدّمة للحرام ، ففيه : أنّه لا فرق فيه بين الخلط والاختلاط ، لكون ارتكاب أطراف الشبهة مطلقا مقدّمة لارتكاب الحرام الواقعي. وإن كان غير ذلك فلا دليل عليه. هكذا قرّره بعض مشايخنا.

وفيه نظر ، لأنّ إيجاد مقدّمة الحرام بقصد التوصّل إليه بها حرام ، بخلاف ما لم يكن بقصده ، كما قرّرناه في مبحث المقدّمة ، فلا يقاس الخلط على الاختلاط. نعم ، إن كان المقصود بارتكاب أطراف الشبهة في صورة الاختلاط هو التوصّل إلى ارتكاب الحرام الواقعي لم يجز ذلك أيضا ، ولذا أخرجنا هذه الصورة من محلّ النزاع في الحواشي السابقة.

فإن قلت : كيف تنكر جواز ارتكاب الجميع ، وقد وقع ذلك في الشرع في الجملة ، وهو أقوى دليل على الجواز ، وأفتى به بعضهم ، ففي الحدائق عن المختلف عن ابن الجنيد أنّه قال : «من اشتبه عليه الربا لم يكن له أن يقدم عليه إلّا بعد اليقين بأنّ ما يدخل فيه حلال ، فإن قلّد غيره أو استدلّ فأخطأ ثمّ تبيّن له أنّ ذلك ربّما لا يحلّ ، فإن كان معروفا ردّه على صاحبه وتاب إلى الله تعالى. وإن اختلط بماله حتّى لا يعرفه ، أو ورث ما لا يعلم أنّ صاحبه كان يربي ولا يعلم الربا بعينه فيعزله ، جاز له أكله والتصرّف فيه» انتهى.

وقد حكى المصنّف رحمه‌الله في بعض تحقيقاته عن بعض الأصحاب القول بحلّية المال الموروث الذي علم فيه الربا. وإذا ثبت الجواز في الجملة ثبت مطلقا ، لعدم كون حكم العقل قابلا للتخصيص. وقد روى المشايخ الثلاثة عطّر الله مراقدهم في الصحيح أو الحسن ، وفي الفقيه مرسلا قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كلّ ربا أكله الناس ثمّ تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة». وقال : «لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا ، وقد عرف منه شيئا معزولا أنّه ربا ، فليأخذ رأس ماله وليردّ الربا».

.................................................................................................

______________________________________________________

وزاد في الكافي والفقيه : «وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا فيه من الربا فجهل ذلك ثمّ عرفه ، فإن أراد أن ينزعه فما مضى فله ، ويدعه فيما يستأنف».

وفي الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أتى رجل أبي فقال : إنّي ورثت مالا ، وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد اعترف أنّ فيه ربا واستيقن ذلك ، وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه ، وقد سألت الفقهاء من أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحلّ أكله من أجل ما فيه. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن كنت تعلم أنّ فيه مالا معروفا فأربى ، وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطا فكله هنيئا مريئا ، فإنّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وضع ما مضى من الربا ، وحرّم عليهم ما بقي ، فمن جهل وسع له جهله حتّى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه حرم عليه ، ووجبت عليه فيه العقوبة إذا ارتكبه كما يجب على من يأكل الربا».

وفي الكافي عن أبي ربيع الشامي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أربى بجهالة ، ثمّ أراد أن يتركه ، فقال : أمّا ما مضى فله ، وليتركه فيما يستقبل. ثمّ قال : إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام فقال : إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبه كان يربي ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وفقهاء أهل الحجاز فذكروا أنّه لا يحلّ أكله. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن كنت تعرف منه شيئا معزولا ، وتعرف أهله وتعرف أنّه ربا ، فخذ رأس مالك ودع ما سواه. وإن كان المال مختلطا فكل هنيئا مريئا ، فإنّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبك ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وضع ما مضى من الربا ، فمن جهله وسعه أكله ، فإذا عرف حرم عليه أكله وبعد المعرفة وجب عليه ما وجب على آكل الربا». ورواه في مستطرفات السرائر عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب.

وفي الكافي عن سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من

.................................................................................................

______________________________________________________

عمل بني أميّة ، وهو يتصدّق منه ويصل منه قرابته ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ، وهو يقول : إنّ الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، ولكنّ الحسنة تحطّ الخطيئة. ثمّ قال : إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلا يعرف الحلال من الحرام فلا بأس».

قلت : أمّا أخبار الربا فإنّ ظاهرها كون الحلّية فيها مستندة إلى الجهل بحكم الربا ، وقد نفى عنه الخلاف في الحدائق كما سيجيء ، لا إلى اشتباه الحلال بالحرام ، وإن حكي ذلك عن بعض أفاضل المتأخّرين ، ولا أقلّ من تساوي الاحتمالين ، فلا يصحّ الاستدلال بها على المقام. وعن الحلّي في السرائر : وجوب الخمس في المال الذي يعلم أنّ فيه الربا. وعليه أيضا لا تدلّ هذه الأخبار على المدّعى ، لأنّه ـ مضافا إلى احتمال كون التخميس من الأسباب المملّكة ـ لا يحصل العلم حينئذ بالمخالفة. اللهمّ إلّا أن تعلم الزيادة عليه ، ولعلّه يقول بوجوب التصدّق بالزائد حينئذ. مع أنّه يحتمل أن يكون الحكم بالحلّية مع الجهل بالمالك ، وحينئذ يكون الحرام مجهول المالك ، فلا غرو حينئذ أن تكون الحليّة من جهة إذن الإمام عليه‌السلام في التصرّف فيه ، بناء على كون مجهول المالك للإمام عليه‌السلام ، ولذا قيل : إنّ الأحوط فيه التصدّق مع إذن المجتهد. ومنه يظهر الكلام في المال الموروث أيضا.

وفي الجواهر : «يمكن حمل بعض النصوص على العلم بأنّ الميّت كان يربي وإن لم يعلم في خصوص المال منه شيئا ، وعلى أنّه مجهول المالك وقد أباحه الإمام عليه‌السلام عليه ، وعلى أنّه من الشبهة الغير المحصورة ، أو غير ذلك. بل في المحكيّ عن كشف الرموز أنّه يمكن أن يقال : إنّ من ادّعى اليوم في الإسلام جهالة تحريم الربا لا يسمع منه ، فيحمل النصّ والفتوى على أوّل الإسلام. وقد حكاه هو أيضا عن صاحب الشرائع» انتهى.

وبالجملة ، يكفي في توهين الاستدلال بها عدم تمسّك أحد ممّن وقفت على كلماته بها في المقام ، بل لا عامل بها في غير ما نحن فيه أيضا سوى ابن الجنيد على

.................................................................................................

______________________________________________________

تفصيل عرفته ، والشيخ والصدوق في النهاية والفقيه مطلقا على ما حكي عنهما ، استنادا إلى أخبار أخر ، وتبعهما بعض أواخر المتأخّرين. وتفصيل الكلام في ذلك مقرّر في الفقه.

وأمّا موثّقة سماعة فقال المصنّف قدس‌سره في بعض تحقيقاته : «فيحتمل أن يكون نفي البأس عن التصدّق من المال المختلط ـ بل سائر التصرّفات في الجملة ولو بعد التخميس ـ في مقابل الحرام المحض الذي هو مورد السؤال ، حيث لا يجوز منه التصدق في بعض الصور فضلا عن تصرّف آخر. وكيف كان ، فالرواية ليست نصّا في حلّية جميع المال المختلط» انتهى. وسيجيء تتمّة الكلام في ذلك عند شرح ما يتعلّق بالمقام الثاني.

وثالثها : بناء العقلاء ، لأنّ من تتّبع طريقتهم عرف جريان عادتهم على ذمّ من ارتكب كلا المشتبهين.

فإن قلت : إنّ هذا أخصّ من المدّعى ، لأنّ من ارتكب أحدهما إمّا أن يكون حين ارتكابه بانيا على ارتكاب الآخر أيضا ثمّ يرتكبه ، وإمّا أن يكون شاكّا فيه ثمّ يرتكبه ، أو يكون بانيا على عدمه ثمّ يرتكبه ، والمدّعى في المقام أعمّ من الثلاثة ، وبناء العقلاء لم يثبت فيما عدا الأوّل.

قلت : نمنع أعميّة المدّعى بناء على عدم وجوب الموافقة القطعيّة كما هو الفرض ، لعدم الدليل عليه في القسمين الأخيرين ، إذ الدليل عليه إنّما هو قبح المخالفة العمليّة ، والمسلّم منها على هذا القول هي المخالفة إمّا بارتكابهما دفعة ، ولكنّه خارج ممّا نحن فيه كما أسلفناه ، وإمّا بارتكابهما تدريجا مع البناء عند ارتكاب الأوّل على ارتكاب الثاني أيضا ، وغاية ما يلزم من الأخيرين هو حصول العلم بالمخالفة عند ارتكاب الثاني ، إمّا به أو بالأوّل مع عدم البناء على المخالفة من أوّل الأمر ، ولا دليل على قبح هذا النحو من المخالفة. ولذا قال المحقّق القمّي فيما أجاب به عمّا أورده على نفسه بعد اختيار القول بالتخيير وعدم وجوب الموافقة

أو أزيد ، ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا. مع أنّه لو اختصّ الدليل (١٤٥٠) بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم إجمالا عن كونه حراما واقعيّا وكان حلالا واقعيّا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك حتّى من يقول بكون الألفاظ أسامي للامور المعلومة ؛ فإنّ الظاهر إرادتهم الأعمّ من المعلوم إجمالا.

______________________________________________________

القطعيّة : «إنّ المدار إذا كان في عدم وجوبها عدم العلم بارتكاب الحرام الواقعي ، فلم لا تقول بجواز ارتكاب الجميع تدريجا؟ لعدم العلم في كلّ مرتبة من الاستعمالات ، والذي يوجب العلم بارتكاب الحرام إذا ارتكب الجميع دفعة. قلت : ولا نقول به ، إذ لا دليل عقلا وشرعا يدلّ على الحرمة والعقاب ، ولا إجماع على بطلانه ، والقائل به موجود كما سنشير إليه. وثانيا نقول : كما أنّ ارتكاب الحرام الواقعي المتيقّن حرام ، فتحصيل العلم بارتكاب الحرام أيضا حرام ، فتحريمه حينئذ من هذه الجهة ، فارتكاب الفرد الآخر الذي يعلم به بارتكاب الحرام الواقعي مقدّمة لتحصيل اليقين بارتكابه ، ومقدّمة الحرام حرام ، ويمكن منع المقدّمتين» انتهى.

وكتب في الحاشية على قوله : «ويمكن منع المقدّمتين» يعني : حرمة تحصيل اليقين بارتكاب الحرام إذا لم يعلم ارتكاب الحرام بنفس ذلك الفعل بخصوصه ، وحرمة مقدّمة الحرام» انتهى. وهو صريح في منع حرمة تحصيل العلم بارتكاب الحرام ، وهو وإن كان شاملا للقسم الأوّل أيضا ، إلّا أنّه فيه مخالف للعقل وبناء العقلاء كما عرفت.

١٤٥٠. هذا دفع لما يدّعى من منع وجود المقتضي في المقام ، إمّا لكون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة ، أو لكونها منصرفة إليها مطلقا أو في حيّز الطلب ، فلا يجب الاجتناب إلّا عمّا علم تحريمه أو نجاسته تفصيلا. وبعض هذه الوجوه يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله.

وفيه : منع الصغرى ، لما تقرّر في محلّه من كون وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة.

وأمّا عدم المانع : فلأنّ العقل لا يمنع (١٤٥١) التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو امور ، والعقاب على مخالفة هذا التكليف. وأمّا الشرع فلم يرد (١٤٥٢) فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شىء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» و «كلّ شىء فيه حلال وحرام

______________________________________________________

وكذا منع الانصراف مطلقا ، غاية الأمر أن يكون العلم شرطا لتنجّز التكليف ، وهو حاصل في المقام ، وقد تقدّم في المقصد الأوّل عدم الفرق في ذلك بين العلم التفصيلي والإجمالي. ولعلّ الغفلة عن ذلك أوجب دعوى الانصراف ، كيف ولو تمّ ما ذكر لم يحسن الاحتياط ، بل لم يبق له محلّ أصلا ، وهو كما ترى خلاف ما اتّفقت عليه كلمتهم ، سوى ما حكاه المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل عن السيّد أبي المكارم ابن زهرة. ومع التسليم فلم يظهر ذلك من القائل بكون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة أو منصرفة إليها في خصوص ما نحن فيه ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله.

١٤٥١. لأنّ المانع عند العقل إمّا قبح التكليف ، أو العقاب بلا بيان ، أو قبح التكليف بخطاب مجمل ، أو بأمر مبهم ، وما عدا الأخير منتف في المقام ، لفرض تبيّن الخطاب ، وحصول الاشتباه في مصداق موضوعه المبيّن. وأمّا الأخير فهو غير مانع بعد إمكان الاحتياط ، وكون العلم الإجمالي كالتفصيلي ، وعدم كون وظيفة الشارع بيان المصاديق الخارجة.

١٤٥٢. حيث كان تأثير المقتضي موقوفا على إحراز عدم المانع ، أشار هنا بعد منع المنع عقلا إلى عدم المانع شرعا أيضا ، لأنّ ما يصلح للمنع شرعا إمّا عموم أدلّة البراءة ، أو خصوص ما هو الظاهر منها في الشبهات الموضوعيّة.

أمّا الأوّل فمثل قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون». وقوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم». وحديث الرفع وغيره.

وفيه : أنّ هذه الأخبار ظاهرة الاختصاص بالشبهات الحكميّة ، ولعلّه لذا لم

.................................................................................................

______________________________________________________

يتعرّض لها المصنّف رحمه‌الله في المقام. مع أنّ مقتضى مفهومها المعتبر بحسب مساعدة المقام هو عدم التوسعة والوضع مع العلم ولو إجمالا ، وهو حاصل بالفرض في المقام.

وأمّا الثاني فمثل رواية مسعدة بن صدقة : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه ، ذلك ثوب يكون عليك» الحديث. ورواية عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». لإطلاقها بالنّسبة إلى كلّ مشتبه ، سواء كان مشوبا بالعلم الإجمالي أم لا.

وظاهر المصنّف قدس سرّه تسليم شمولهما للشبهات المشوبة بالعلم الإجمالي ، إلّا أنّه ادّعى كون مقتضاهما وجوب الاجتناب عمّا علمت حرمته إجمالا ، كما سنوضحه عند شرح ما يتعلّق بالعبارة.

والحقّ في الجواب منع شمولهما لصورة العلم الإجمالي ، بمعنى منع دلالتهما على إباحة المشتبه بالشبهة المشوبة بالعلم الإجمالي أوّلا ، وكون مقتضاهما ما ذكره المصنّف رحمه‌الله على تقدير تسليم الشمول ثانيا.

توضيح المقام : أنّ الشبهة تارة تكون في الحكم ، واخرى في الموضوع. وعلى التقديرين : إمّا أن تكون الشبهة بدويّة ، وإمّا أن تكون مشوبة بالعلم الإجمالي. فهذه أربعة أقسام. وظاهر جماعة شمول الخبرين لكلّ منها ، وظاهر بعض آخر ـ ولعلّه المشهور ـ اختصاصهما بالشبهات الموضوعيّة البدويّة ، بل ومع شوبها بالعلم الإجمالي إذا لم يكن معتبرا كما في الشبهة غير المحصورة. وقيل باختصاصهما بما عدا الشبهة الحكميّة البدويّة.

ونقول : أمّا رواية مسعدة بن صدقة فعلى رواية : «هو لك حلال» يمكن منع إفادتها سوى قاعدة اليد ، كما أسلفناه في الشبهة التحريميّة البدويّة. وعلى رواية «هو حلال» يمكن منع إفادتها حلّية المشتبه بالشبهة المشوبة بالعلم الإجمالي ، لأنّ

.................................................................................................

______________________________________________________

لفظ «شيء» في قوله : «كلّ شيء هو حلال» وإن كان بإطلاقه شاملا للشيء المشتبه بالشبهة البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي ، فيفيد إباحة طرفي العلم الإجمالي ، إلّا أنّ لفظ «تعلم» أيضا في قوله : «حتّى تعلم أنّه حرام» مطلق شامل للعلم الإجمالي والتفصيلي ، وهو في إفادة الإطلاق أظهر من إطلاق لفظ «شيء» وأظهريّته قرينة لإرادة خصوص المشتبه بالشبهة البدويّة من لفظ «شيء» كما سيجيء توضيحه عند شرح قوله : «فلا يدلّ على ما ذكرت». وحينئذ فيصير محصّل معنى الرواية : أنّ كلّ شيء مشتبه بالشبهة البدويّة فهو محكوم بالحلّية في الظاهر ما لم يعلم حرمته تفصيلا أو إجمالا ، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة. ومع التسليم ـ نظرا إلى كون كلّ من طرفي العلم الإجمالي مجهول الحرمة بالخصوص ، وإن علمت حرمة أحدهما إجمالا في الواقع ـ نقول : إنّها حينئذ كما تفيد حليّة كلّ من المشتبهين ، نظرا إلى عدم العلم بحرمة كلّ منهما بالخصوص ، كذلك تقتضي حرمة الفرد المشتبه الذي علمت حرمته إجمالا ، فتفيد حرمة كلّ منهما من باب المقدّمة ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله فيما أجاب به عمّا أورده على نفسه.

وأمّا رواية عبد الله بن سنان فهي غير ظاهرة الشمول لجميع الأقسام المتقدّمة ، بل هو غير صحيح ، لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، لأنّه على تقدير شمولها للشبهة الحكميّة البدويّة يكون المراد بالشيء في قوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» هو الشيء المشتبه الحكم ، وبالحلال والحرام هو الحلال والحرام المحتملان لا المتحقّقان. والمعنى حينئذ : كلّ شيء تحتمل حلّيته وحرمته فهو لك حلال. وعلى تقدير شمولها للشبهة الموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي يكون المراد بالشيء هو الكلّي ومن الحلال والحرام هو الحلال والحرام المتحقّقان. والمعنى حينئذ : كلّ كلّي بعض أفراده حلال وبعضها حرام ، فهذا الكلّي لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه. فالمائع الذي بعض أفراده حلال كالخلّ وبعض آخر حرام

.................................................................................................

______________________________________________________

كالخمر ، إذا اشتبه الفرد الحلال منه بالحرام ، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه. ولا ريب أنّ المعنيين متغايران لا جامع بينهما ، فلا يمكن إرادتهما من الرواية ولو بعموم الاشتراك.

نعم ، الجمود على ظاهر اللفظ يقتضي الشمول لما عدا الشبهة الحكميّة البدويّة. أمّا بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة مطلقا فواضح ، إذ يصحّ أن يقال فيما تردّد المائع في الخارج بين الخمر والخلّ ، وكذا فيما علم إجمالا بكون أحد الإنائين خمرا والآخر خلّا : إنّ المائع الكلّي حلال حتّى تعرف حرمته في ضمن فرد معيّن منه. وأمّا بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة المشوبة بالعلم الإجمالي ، كالغناء المردّد مفهومه بين الصوت المطرب والصوت مع الترجيع ، فإنّه يصحّ أن يقال : إنّ سماع مطلق الصوت حلال لك حتّى تعرف الفرد الحرام منه بعينه.

ولكنّ الإنصاف أنّ سوقها يأبى عن الشمول للقسم الثاني ، لأنّ منشأ الشبهة التي حمل الراوي على السؤال إمّا أن يكون اشتباه الفرد الحلال بالحرام في الخارج كما في الشبهة الموضوعيّة ، أو اشتباه حكم الكلّي كما عرفته من مثال الغناء ، والمنساق من الرواية هو الأوّل ، ولذا قال : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» يعني : كلّ كلّي فيه ذلك. وفيه إشارة إلى ردّ ما هو المركوز في الأذهان من كون وجود الكلّي كذلك منشأ لوجوب الاحتياط ، فردّه الإمام عليه‌السلام بالحكم بالحلّية ما لم يعلم الفرد الحرام منه بعينه ، كما صرّح به المحقّق القمّي رحمه‌الله وغيره.

وفي الشبهة الحكميّة أيضا وإن أمكن فرض كلّي له فرد حلال وفرد حرام واشتبه أحدهما بالآخر كما عرفته من مثال الغناء ، إلّا أنّ المنساق منها كون منشأ الشبهة في وجوب الاحتياط وجود الكلّي المذكور. ولا ريب أنّ منشأها في الشبهة الحكميّة هو عدم معرفة حكم الكلّي لا وجود الكلّي المذكور ، فلا تشملها. بل يمكن منع شمولها للشبهة الموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي أيضا ، لأنّ منشأ الشبهة للسائل فيها إمّا أن يكون اشتباه الفرد الحرام بالحلال في الخارج ، وإمّا أن يكون دوران

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر في الفرد الخارجي بين الحلّية والحرمة ، أو الأعمّ منهما.

فعلى الأوّل تكون الرواية نصّا في حلّية كلا المشتبهين بالشبهة المحصورة ، فينحصر المناص حينئذ في الجواب عنها بالمناقشة في سندها ، أو مخالفتها للإجماع ، أو نحو ذلك كما سيجيء. وعلى الثاني لا تشمل الشبهة المحصورة كما عرفت.

وعلى الثالث أنّها وإن اقتضت حينئذ حلّية كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة ، إلّا أنّا نقول ـ مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من وقوع التعارض حينئذ بينهما ، وما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ـ : إنّ هذه الرواية قد وردت بطريقين ، أحدهما : ما عرفت. والآخر هو المذكور في باب الجبن من الكافي كتاب الأطعمة والأشربة عن عبد الله بن سنان ، عن عبد الله بن سليمان قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثمّ أعطى الغلام درهما فقال : يا غلام ابتع لنا جبنا ، ودعا بالغداة فتغدّينا معه ، وأتي بالجبن فأكله وأكلنا ، فلمّا فرغنا عن الغداء قلت له : ما تقول في الجبن؟ فقال لي : أو لم ترني أكلته؟ قلت : بلى ، ولكنّي أحبّ أن أسمعه منك. فقال : سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه».

وهو كما ترى كالصريح في كون منشأ شبهة السائل هو وجود الفرد الحلال والحرام للكلّي ، وتردّد الأمر في فرد منه بين الحرمة والحلية ، لا اشتباه الفرد الحلال بالحرام ، وتردّد الأمر بينهما مع العلم إجمالا بحرمة أحدهما ، سيّما مع ملاحظة قوله عليه‌السلام : «أو لم ترني أكلته» لأنّ ما أكله كان مشترى من السوق لا أحد فردين علمت حرمة أحدهما إجمالا. ومع تسليم علم السائل بحرمة بعض ما في السوق يدخل مورد الرواية في الشبهة غير المحصورة ، ولا اعتداد بالعلم الإجمالي فيها ، لكونها في حكم الشبهة البدويّة ، بل جميع الشبهات الموضوعيّة البدويّة مرجعها بعد التأمّل إليها. ومع تسليم شمولها للشبهة المحصورة ـ بل صراحتها فيها ـ لا بدّ من ردّها أو تأويلها ، لمخالفتها الإجماع حكاية وتحصيلا ظاهرا على ما أسلفناه سابقا.

فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» وغير ذلك (١٤٥٣) ، بناء على أنّ هذه الأخبار كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الإجمالي وإن كان محرّما في علم الله سبحانه كذلك دلّت على حلّية المشتبه مع العلم الإجمالي.

ويؤيّده إطلاق الأمثلة (١٤٥٤) المذكورة في بعض هذه الروايات ، مثل الثوب المحتمل للسرقة والمملوك المحتمل للحريّة والمرأة المحتملة للرضيعة ؛ فإنّ إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجمالي ، بل الغالب ثبوت العلم الإجمالي ، لكن مع كون الشبهة غير محصورة. ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا تصلح للمنع ؛ لأنّها كما تدلّ (١٤٥٥) على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ؛ لأنّه أيضا شيء علم حرمته.

فإن قلت : إنّ غاية الحلّ معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقّق في المعلوم الإجمالي.

قلت : أمّا قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» فلا يدلّ على ما

______________________________________________________

مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من وقوع المعارضة حينئذ بينها وما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي. وستقف على تتمّة الكلام فيما يتعلّق بما قدّمناه في الحواشي الآتية.

١٤٥٣. ممّا تقدّم في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة.

١٤٥٤. قد تقدّم في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة خروج الأمثلة المذكورة من محلّ النزاع. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه لا فرق في اعتبار العلم الإجمالي وعدمه بين أصالة البراءة وغيرها من الاصول الموضوعيّة والأمارات. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المنساق من الأمثلة ـ بملاحظة ذكر منشأ الاحتمال فيها ـ ما كان احتمال الحرمة فيه مجرّدا عن العلم الإجمالي. وأمّا ما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله من الغلبة مع كون أطراف العلم الإجمالي غير محصورة ، فهو غير مجد كما لا يخفى.

١٤٥٥. حاصله : وقوع التعارض بين منطوق الخبرين ومفهوم الغاية فيهما ، فلا بدّ من حملهما على إرادة الشبهة البدويّة ، فيفيدان حلّية كلّ مشتبه الحرمة بالشبهة البدويّة حتّى تعلم حرمته إجمالا أو تفصيلا. اللهمّ إلّا أن يقال بأولويّة تقييد

ذكرت (١٤٥٦) ؛ لأنّ قوله عليه‌السلام : " بعينه" تأكيد للضمير جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ، كما يقال : «رأيت زيدا نفسه بعينه» لدفع توهّم وقوع الاشتباه في الرؤية ؛ و

______________________________________________________

المفهوم ، لكون المنطوق أقوى منه ، فيفيدان حينئذ حلّية كلّ مشتبه الحرمة ـ سواء كانت الشبهة بدويّة أم مشوبة بالعلم الإجمالي ـ حتّى تعلم حرمته تفصيلا ، فتدبّر.

١٤٥٦. حاصل الفرق بين الروايتين : أنّ لفظ «بعينه» في هذه الرواية تأكيد لضمير الشيء ، وأنّ «أنّ» مع اسمه وخبره مؤوّل بالمصدر ، والمعنى : كلّ شيء محكوم بالحلّ ظاهرا ما لم تعلم حرمة هذا الشيء بعينه. وهذا صادق على معلوم الحرمة إجمالا أيضا كما في المثال ، لأنّ إناء زيد بعينه في مقابل إناء عمرو ممّا علمت حرمته ، ولا يلزم في صدق الرواية معرفة إناء زيد بالخصوص. وحينئذ لو لم تجعل فائدة التأكيد دفع التوهّم المذكور كان التأكيد لغوا ، لأنّ فائدته إمّا دفع التوهّم المذكور أو الاحتراز عمّا علمت حرمته إجمالا ، وحيث فرض صدق الرواية على المعلوم إجمالا تنحصر فائدته في الأوّل.

هذا بخلاف الرواية الاخرى ، لأنّ لفظ «بعينه» فيها تأكيد للحرام ، والغاية فيها معرفة الفرد الحرام بعينه من الكلّي الذي علم وجود الحلال والحرام فيه ، وظاهره معرفة الفرد الحرام في الخارج بالخصوص في الحكم بحرمته. وهذا هو المراد بكون قوله «بعينه» فيها قيدا للمعرفة ـ يعني : معرفة الفرد الحرام ـ وإلّا فهو قيد لها في الروايتين ، غاية الأمر أنّه قيد في الاولى لمعرفة حرمة الشيء ، وفي الثانية لمعرفة الفرد الحرام. وعلى الثاني تكون فائدة التأكيد الاحتراز عن المعلوم إجمالا ، فهو داخل في المغيّا خاصّة في الثانية ، فتفيد حلّية كلّ من طرفي العلم الإجمالي حتّى يحصل العلم التفصيلي بما هو حرام منهما في الواقع ، فيقع التعارض بينها وما دلّ على حرمة الفرد المعلوم الإجمال ، وفي كلّ من الغاية والمغيّا في الاولى ، لأنّ قوله :

«كلّ شيء حلال» يفيد بإطلاقه حلّية كلّ مشتبه ، سواء كان مشكوكا بدويّا أم مشوبا بالعلم الإجمالي ، وقوله : «حتّى تعلم أنّه حرام» يفيد حرمة كلّ معلوم

إلّا فكلّ شىء (١٤٥٧) علم حرمته فقد علم حرمته بعينه ، فإذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة إناء عمرو فاشتبه الإناءان ، فإناء زيد شيء علم حرمته بعينه.

نعم ، يتّصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لا بعينه إذا اطلق عليه عنوان «أحدهما»

______________________________________________________

الحرمة ، سواء كانت معلومة بالعلم الإجمالي أو التفصيلي ، فيقع التعارض بين حكمي الغاية والمغيّا.

وهذا غاية توضيح المقام. وهو بعد لا يخلو من شيء ، لأنّه إذا فرض كون قوله «بعينه» في الرواية الاولى تأكيدا للضمير كما عرفت ، يصير المعنى : كلّ شيء مشتبه محكوم بالإباحة حتّى تعلم تحريمه بعينه. ولا ريب أنّ شمول قوله «كلّ شيء» للشبهة البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي إنّما هو بحسب الإطلاق الأحوالي ، وشمول قوله «حتّى تعلم أنّه حرام» للعلم الإجمالي والتفصيلي إنّما هو بالإطلاق المادّي ، ولا ريب أنّ الثاني أظهر من الأوّل ، سيّما إذا قلنا بظهور المطلقات في الإطلاق المادّي بحسب الوضع لا بدليل الحكمة. ومع أظهريّة الثاني يكون إطلاق قوله «حتّى تعلم» قرينة لإرادة خصوص المشتبه بالشبهة البدويّة من الشيء في المغيّا ، لفرض عدم إمكان إرادة إطلاقهما معا ، فيصير المعنى : أنّ كلّ شيء مشتبه بالشبهة البدويّة محكوم بالحلّية حتّى تعلم حرمته تفصيلا أو إجمالا ، فلا وجه للحكم بالتعارض بين حكمي الغاية والمغيّا.

فإن قلت : إنّ أظهريّة دلالة الغاية على ارتفاع حكم المغيّا يعارضها أنّ دلالة الغاية ، إنّما هي بحسب المفهوم ، ودلالة المغيّا إنّما هي بحسب المنطوق ، وهو أقوى من المفهوم.

قلت : إنّ دلالة مفهوم الغاية الذي هو أظهر المفاهيم أقوى من دلالة المنطوق التي هي بحسب إطلاق الأحوال.

١٤٥٧. يعني : لو لم يكن التأكيد للاهتمام لدفع التوهّم المذكور كان لغوا ، لأنّ كلّ شيء علمت حرمته ولو إجمالا ـ كما في المثال ـ فقد علمت حرمة نفسه.

فيقال : أحدهما لا بعينه ، في مقابل أحدهما المعيّن عند القائل.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» ، فله ظهور فيما ذكر حيث إنّ قوله : «بعينه» قيد للمعرفة ، فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولا يتحقّق ذلك إلّا إذا أمكنت الإشارة الحسّية إليه ، و (*) إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوما بهذا العنوان إلّا أنّه مجهول باعتبار الامور المميّزة له في الخارج عن إناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه ، إلّا أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ، مثل قوله : «اجتنب عن الخمر» ؛ لأنّ الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع ، وهو ممّا يشهد الاتّفاق والنصّ على خلافه حتّى نفس هذه الأخبار ، حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعيّة للأمر المشتبه.

فإن قلت : مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الحكم الواقعي ، كما في الشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي ، مثلا قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالا ، وحلّيته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتّى لا يكون حراما واقعيّا ، فلا ضير في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم إجمالا.

قلت : الحكم الظاهري لا يقدح (١٤٥٨) مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة ؛ لرجوع ذلك إلى معذوريّة المحكوم الجاهل كما في أصالة

______________________________________________________

١٤٥٨. حاصله : أنّ عدم تنافي مخالفة الحكم الظاهري للواقعي مطلقا حتّى فيما نحن فيه من الشبهة المحصورة ، إنّما يتمّ على تقدير عدم كون العلم الإجمالي كالتفصيلي موجبا لتنجّز التكليف بالواقع ، وإلّا فالتنافي بينهما في كمال الوضوح.

ولا يقاس عليه جعل الحكم الظاهري في سائر الموارد التي يقبح تنجّز التكليف

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : أمّا.

البراءة ، وإلى بدليّة الحكم الظاهري عن الواقع أو كونه طريقا مجعولا إليه على الوجهين في الطرق الظاهرية المجعولة. وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين ؛ لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم ، فإذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الإطاعة.

فإن قلت : إذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث إنّه إذن في المعصية والمخالفة ، وهو إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقّق المعصية حين ارتكابها حينئذ ، والإذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك إذا كان على التدريج ، بل هو إذن في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها إلّا بعدها ، وليس في العقل ما يقبّح ذلك وإلّا لقبّح الإذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة الغير المحصورة ، أو في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها وفي ارتكاب الشبهة المجرّدة التي يعلم المولى اطّلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية ، وفي الحكم بالتخيير الاستمراري بين الخبرين أو فتوى المجتهدين.

قلت : إذن الشارع في أحد المشتبهين ينافي أيضا حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلّق بالمصداق المشتبه ؛ لإيجاب العقل حينئذ الاجتناب عن كلا المشتبهين. نعم ، لو أذن الشارع (١٤٥٩) في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز ، فإذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلّا

______________________________________________________

بالواقع فيها ، ولا تقدح مخالفة العمل له أحيانا. وأمّا في الشبهة البدويّة من موارد أصل البراءة ، فلرجوع جعل الحكم الظاهري فيها إلى معذوريّة الجاهل ، لجهله على تقدير المخالفة. وأمّا في موارد الطرق الظاهريّة ، فلرجوعه فيها إلى جعل مؤدّاها بدلا عن الواقع أو طريقا محضا إليه ، على الخلاف في كون جعل الطرق من باب الموضوعيّة أو الطريقيّة المحضة.

١٤٥٩. هذا إشارة ـ بعد دعوى كون العلم الإجمالي كالتفصيلي في وجوب تحصيل العلم بموافقة كلّ منها ـ إلى الفرق بينهما من جهة اخرى ، وهي قابليّة المعلوم إجمالا بجعل الشارع أحد المشتبهين بدلا ظاهريّا عنه ، بأن يقنع عن الواقع

.................................................................................................

______________________________________________________

باجتناب أحدهما ، لعدم المانع منه عقلا ، ووقوع نظيره شرعا ، كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، لوضوح عدم حصول العلم بالواقع بها ، بخلاف المعلوم تفصيلا ، لعدم تعقّل جعل بدل ظاهري له مع فرض العلم به تفصيلا ، لوضوح كون البدليّة الظاهريّة فرع الجهل بالواقع ، فإذن الشارع في ارتكاب أحد المشتبهين لا يتمّ إلّا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر ، ليكون المأمور بالاجتناب عنه بدلا عن المرخّص في ارتكابه.

فإن قلت : إنّ الغرض من جعل الشارع لأحد المشتبهين بدلا عمّا رخّص في ارتكابه هو عدم حصول العلم للمكلّف بالمخالفة ولو بعد ارتكابهما ، ولا حاجة في ذلك إلى أمره بالاجتناب عن أحدهما ، لحصوله باجتناب المكلّف عن أحدهما ولو من دون أمره.

قلت : إنّ مقتضى كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ـ هو وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين تحصيلا للموافقة القطعيّة ، فلا يجوز الاقتصار على أحدهما في مقام الامتثال إلّا بإذن الشارع فيه ، ومرجعه إلى الاقتصار في مقام الامتثال بالموافقة الاحتماليّة. نعم ، لو قلنا بعدم الدليل على وجوب الموافقة القطعيّة وكفاية الموافقة الاحتماليّة كان ذلك منها ، وليس فليس.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من عدم قابليّة المعلوم تفصيلا لجعل بدل ظاهري له إنّما هو بعد حصول العلم التفصيلي به ، وإلّا فلا مانع منه قبله ، كما لو رخّص الإمام عليه‌السلام في أخذ معالم الدين من مثل زرارة مع التمكّن من أخذها منه ، وهو واضح.

ثمّ إنّ في المقام بحثا ، وهو منع استلزام الإذن في ارتكاب أحد المشتبهين لجعل ترك الآخر بدلا عن الواقع ، وذلك لأنّه إذا وجب الاحتياط الكلّي عقلا من باب المقدّمة لامتثال الواقع ، فإذا تعذّر ذلك عقلا أو رخّص الشارع في مخالفته لمصلحة راعاها فيه ، فالعقل يستقلّ بمراعاة ما أمكن مراعاته من أطراف الشبهة ، لأنّه إذا

بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا ظاهريّا عن الحرام الواقعي ، فيكون المحرّم الظاهري هو أحدهما على التخيير وكذا المحلّل الظاهري ، ويثبت المطلوب وهو حرمة المخالفة القطعيّة بفعل كلا المشتبهين.

وحاصل معنى تلك الصحيحة : أنّ كلّ شىء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف أنّ في ارتكابه فقط أو في ارتكابه المقرون مع ارتكاب غيره ارتكابا للحرام ، والأوّل في العلم التفصيلي والثاني في العلم الإجمالي.

فإن قلت : إذا فرضنا المشتبهين (١٤٦٠) ممّا لا يمكن ارتكابهما إلّا تدريجا ، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقّق الاجتناب عن الآخر قهرا ، فالمقصود من التخيير وهو ترك أحدهما حاصل مع الإذن في ارتكاب كليهما ؛ إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد فضلا عن قصد الامتثال.

قلت : الإذن في فعلهما في هذه الصورة أيضا ينافي الأمر بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم ؛ لما تقدّم من أنّه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين لا يصحّ الإذن في أحدهما إلّا بعد المنع عن الآخر بدلا عن المحرّم الواقعي ،

______________________________________________________

تعذّر الاحتياط الكلّي عقلا أو شرعا وجب الإتيان بما هو الأقرب إلى الواقع من مراتب الاحتياطات الجزئيّة ، واللازم على الشارع حينئذ إمضاء هذا الحكم العقلي ، لا جعل القدر الممكن من أطراف الشبهة بدلا عن الواقع. ولذا قد اعترف المصنّف قدس‌سره عند تقرير دليل الانسداد ، بأنّ مقتضى منع وجوب الاحتياط الكلّي بعد الانسداد لأجل استلزامه اختلال النظم أو العسر ، هو كون العمل بالظنّ من باب الاحتياط الجزئي ، لا الحجيّة الشرعيّة حتّى يجوز أن تخصّص به العمومات وتقيّد به المطلقات التي ثبت اعتبارها من باب الظنون الخاصّة ، إذ لا ريب أنّ مقتضى ما ذكره هنا كون العمل بالظنون المطلقة من باب البدليّة عن الواقع ، لا من باب الاحتياط الجزئي ، فتدبّر.

١٤٦٠. حاصله : عدم تأتّي ما ذكره بقوله : «فإذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلّا بعد الأمر ...» في صورة عدم إمكان الجمع بينهما في آن واحد ، وإن

ومعناه المنع (١٤٦١) عن فعله بعده ؛ لأنّ هذا هو الذي يمكن أن يجعله الشارع بدلا عن الحرام الواقعي حتّى لا ينافي أمره بالاجتناب عنه ؛ إذ تركه في زمان فعل الآخر لا يصلح أن يكون بدلا (*) ، وحينئذ فإن منع في هذه الصورة عن واحد من الأمرين المتدرّجين في الوجود لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل وإلّا لغى المنع المذكور.

فإن قلت : الإذن في أحدهما يتوقّف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة بأن لا يرتكبهما (١٤٦٢) دفعة ، والمفروض امتناع ذلك فيما نحن فيه من غير حاجة إلى المنع ، ولا يتوقّف على المنع عن الآخر بعد ارتكاب الأوّل ، كما في التخيير الظاهري الاستمراري.

______________________________________________________

تأتّى في صورة إمكان الجمع ، لأنّه في الاولى إذا ارتكب أحدهما لا يمكن للشارع حين ارتكابه الأمر بالاجتناب عن الآخر ، لكون تركه حينئذ قهريّا وحاصلا بنفسه. ولا يقبح حينئذ من الشارع أيضا أن يأذن في ارتكابهما تدريجا ، كما لا يقبح له الإذن في ارتكابهما تخييرا في صورة إمكان ارتكابهما دفعة ، إذ المقصود من التخيير في صورة الإمكان حصول ترك الآخر حين ارتكاب أحدهما ، وهو حاصل مع الإذن في ارتكاب كليهما في صورة عدم إمكان الجمع بينهما.

نعم ، لو اعتبر في ترك أحدهما في صورة التخيير القصد إليه ، أمكن أن يقال بعدم حصول مقصود التخيير بالإذن في ارتكابهما في ما نحن فيه ، بأن يقال : إنّ المقصود من التخيير في صورة إمكان الجمع هو ارتكاب أحدهما مع القصد إلى ترك الآخر ، وهو غير حاصل في صورة عدم إمكان الجمع ، إذ مع ارتكاب أحدهما فالآخر متروك قهرا ومن دون قصد واختيار ، وإذ ليس فليس.

١٤٦١. أي : معنى المنع من الآخر ـ مع فرض الإذن في فعل أحدهما في صورة عدم ارتكابهما دفعة ـ هو المنع من الآخر بعد فعل أحدهما.

١٤٦٢. بيان للواقعة ، بأن يكون المشتبهان ممّا يمكن ارتكابهما دفعة.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : عن حرمته.

قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدريجا طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي ، والتخيير الاستمراري في مثل ذلك ممنوع ، والمسلّم منه (١٤٦٣) ما إذا لم يسبق التكليف بمعيّن أو سبق التكليف بالفعل حتّى يكون المأتيّ به في كلّ دفعة بدلا عن المتروك على تقدير وجوبه ، دون العكس بأن يكون المتروك في زمان الإتيان بالآخر بدلا عن المأتيّ به على تقدير حرمته ، وسيأتي تتمّة ذلك في الشبهة الغير المحصورة.

فإن قلت : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي فوق حدّ الاحصاء في الشرعيّات كما في الشبهة الغير المحصورة ، وكما لو قال القائل في مقام الإقرار : هذا لزيد بل لعمرو ، فإنّ الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، مع أنّ أحدهما أخذ للمال بالباطل ،

______________________________________________________

١٤٦٣. يعني : أنّ المسلّم من التخيير الاستمراري ما إذا لم يسبق فيه تكليف بمعيّن مطلقا ، كما في صورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة أو سبق التكليف بالفعل ، كما إذا علم الوجوب وتردّد الواجب بين الظهر والجمعة مثلا. وأمّا إذا سبق التكليف بالترك ، مثل ما لو علم التحريم وتردّد الحرام بحسب الحكم بين أمرين ، فلا دليل على جواز التخيير الاستمراري فيه.

ولعلّ الوجه فيه أنّه إذا جاز التخيير في صورة عدم سبق التكليف بمعيّن أصلا أو سبقه بالفعل ، فإذا ارتكب محتمل الوجوب والحرمة في زمان وتركه في زمان آخر ، وكذا إذا أتى بأحد الفعلين اللذين علم وجوب أحدهما في يوم وبالآخر في يوم آخر ، فكما يحصل القطع بالمخالفة حينئذ ، كذلك يحصل القطع بالموافقة أيضا ، بخلاف التخيير الاستمراري فيما ثبت التحريم وتردّد الحرام بين أمرين ، لاستلزامه القطع بالمخالفة محضا.

وفيه نظر واضح ، لعدم تعقّل الفرق بين ما لو علم الوجوب وتردّد الواجب بين أمرين ، وبين ما لو علم التحريم وتردّد الحرام بين أمرين ، لأنّ التخيير الاستمراري في الأوّل كما يستلزم القطع بموافقة الواجب الواقعي ومخالفته باعتبار تعدّد الواقعة ، كذلك في الثاني ، ولا سترة عليه.

وكذا يجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو مع علمه بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه. ولو قال : هذا لزيد بل لعمرو بل لخالد ، حيث إنّه يغرم لكلّ من عمرو وخالد تمام القيمة ، مع أنّ حكم الحاكم باشتغال (١٤٦٤) ذمّته بقيمتين مخالف للواقع قطعا.

وأيّ فرق بين قوله عليه‌السلام : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» وبين أدلّة حلّ ما لم يعرف كونه حراما ، حتّى أنّ الأوّل يعمّ الإقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع ، والثاني لا يعمّ الشيئين المعلوم حرمة أحدهما؟ وكذلك لو تداعيا عينا في موضع يحكم بتنصيفها بينهما مع العلم بأنّها ليست إلّا لأحدهما. وذكروا أيضا في باب الصلح : أنّه لو كان لأحد المودعين (*) درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعيّ أحد الدراهم ، فإنه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ، مع العلم الإجمالي بأن دفع أحد النصفين دفع للمال إلى غير صاحبه. وكذا لو اختلف (١٤٦٥) المتبايعان في المبيع أو الثمن وحكم بالتحالف وانفساخ البيع ، فإنّه يلزم مخالفة العلم الإجمالي بل التفصيلي في بعض الفروض ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

١٤٦٤. أمّا حكمه باشتغال ذمّته بإحداهما فلا لاحتمال كون المال لعمرو أو لخالد في الواقع ، فإذا أعطي المال لزيد تكون إحدى القيمتين عوضا عن المال الذي يستحقّه أحدهما في الواقع ، فيكون دفع إحداهما ـ كدفع نفس المال ـ على خلاف الواقع ، فالمعلوم بالإجمال هو مخالفة اشتغال الذمّة بكلتا القيمتين للواقع لا إحداهما.

١٤٦٥. كما إذا تنازع المتبايعان في كون المبيع هو العبد بعشرة دراهم أو الجارية بدينار ، فإنّ الحكم بانفساخ العقد وردّ المبيع إلى البائع والثمن إلى المشتري مخالف لما علم إجمالا من وقوع العقد صحيحا ، وصيرورة الثمن ملكا للبائع والمثمن ملكا للمشتري. وإن اختلفا في المبيع خاصّة أو الثمن كذلك ، بأن اختلفا في كون المبيع هو العبد بعشرة دراهم أو الجارية كذلك ، أو بالعكس بأن اختلفا في

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المودعين» ، الودعيّين.

قلت : أمّا الشبهة الغير المحصورة فسيجيء وجه جواز المخالفة (١٤٦٦) فيها. وأمّا الحاكم فوظيفته أخذ ما يستحقّه (١٤٦٧) المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهريّة ، كالإقرار والحلف والبيّنة وغيرها ، فهو قائم مقام المستحقّ في أخذ حقّه ، ولا عبرة بعلمه الإجمالي. نظير ذلك ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المنيّ في الثوب المشترك في دخول المسجد ، فإنّه إنّما يأذن كلّا منهما بملاحظة تكليفه في نفسه ، فلا يقال : إنّه يلزم من ذلك إذن الجنب في دخول المسجد وهو حرام.

وأمّا غير الحاكم ممّن اتّفق له أخذ المالين من الشخصين المقرّ لهما في مسألة الإقرار ، فلا نسلّم جواز أخذه لهما ، بل ولا لشيء منهما (١٤٦٨) ، إلّا إذا قلنا بأنّ ما يأخذه كلّ منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعي نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد مخالف لمذهب من يريد ترتيب الأثر ، بناء على أنّ العبرة في ترتيب آثار

______________________________________________________

كون الثمن عشرة دراهم أو دينارا مع اتّفاقهما على كون المبيع عبدا أو جارية ، فالردّ حينئذ مستلزم لمخالفة علم إجمالي من جهة ، ومخالفة علم تفصيلي من جهة اخرى.

وفيه نظر ، لأنّه مع الحكم بالانفساخ لا تلزم مخالفة علم إجمالي أصلا ، لرجوع المبيع حينئذ إلى ملك البائع والثمن إلى ملك المشتري بحسب الواقع ، والمخالفة إنّما هي مع بقاء العقد على حاله وعدم انفساخه. ولكن قد تقدّم الجواب عنه في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي ، فراجع.

١٤٦٦. هذا مناف لما سيحقّقه من عدم جواز ارتكاب جميع أطراف الشبهة غير المحصورة.

١٤٦٧. لعلّ المراد أنّ وظيفة الحاكم الحكم أو الفتوى للمحكوم له بأخذ ما يستحقّه من المحكوم عليه بالأسباب الظاهريّة. وحاصله : أنّ حكمه أو فتواه بذلك مرتّب على استحقاق المستحقّ في ظاهر الشرع ، فالملحوظ عند الشارع هو حال المستحقّ دون علم الحاكم ، وإلّا يمكن المنع من أخذ الحاكم بنفسه ، إلّا أنّه ينافره قوله : «فهو قائم مقام المستحقّ في أخذ حقّه».

١٤٦٨ بناء على وجوب الموافقة القطعيّة كما سيجيء.

الموضوعات الثابتة في الشريعة ـ كالملكيّة والزوجيّة وغيرهما ـ بصحّتها عند المتلبّس بها (١٤٦٩) ـ كالمالك والزوجين ـ ما لم يعلم تفصيلا من يريد ترتيب الأثر خلاف ذلك ، ولذا قيل (١٤٧٠) بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المنيّ في صلاة واحدة ؛ بناء على أنّ المناط في صحّة الاقتداء الصحّة عند المصلّي ما لم يعلم تفصيلا فساده.

وأمّا مسألة الصلح ، فالحكم فيها تعبّدي ، وكأنّه صلح قهري بين المالكين أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط ، وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة. وبالجملة فلا بدّ من التوجيه في جميع ما توهم جواز المخالفة القطعيّة الراجعة إلى طرح دليل شرعيّ ، لأنّها كما عرفت ممّا يمنع عنها العقل والنقل خصوصا إذا قصد (١٤٧١) من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام. هذا ممّا لا تأمّل فيه ، ومن يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر أنّه قصد غير هذه الصورة.

ومنه يظهر أنّ إلزام القائل بالجواز بأنّ تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصّل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ـ بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين تفصيلا كالخمر والخلّ على وجه يوجب الاشتباه فيرتكبهما ـ ، محلّ نظر ، خصوصا على ما مثّل (١٤٧٢) به من الجمع بين الأجنبيّة والزوجة.

هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مردّدا بين أمرين ، وأمّا إذا

______________________________________________________

١٤٦٩. دون الواقع المعلوم إجمالا ، فإذا كان المال المقرّ به ملكا للمقرّ لهما ظاهرا بحسب إقرار المقرّ جاز لثالث ترتيب آثار الواقع عليه ، بأخذه منهما بالبيع ونحوه ما لم يعلم خلافه تفصيلا.

١٤٧٠. كما إذا كان الإمام مسافرا والمأموم حاضرا ، فاقتدى في الظهر بأحد واجدي المني ، فإذا سلّم في الركعة الثانية قام الآخر مقامه وشرع في العصر ، فأتمّ المأموم صلاته ـ أعني : الظهر ـ معه.

١٤٧١. لصدق المعصية حينئذ يقينا كما سيصرّح به.

١٤٧٢. لأنّ أصالة عدم علاقة الزوجيّة حاكمة على أصالة البراءة ، ولا مانع من إجرائها في كلّ من المرأتين المشتبهين ، لعدم استلزامه المخالفة العمليّة. مضافا

كان مردّدا بين عنوانين ، كما مثّلنا (١٤٧٣) سابقا بالعلم الإجمالي بأنّ أحد المائعين (*) (١٤٧٤) خمر أو الآخر مغصوب ، فالظاهر أنّ حكمه كذلك ؛ إذ لا فرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعيّ بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل وكونه معلوما بالإجمال ؛ فإنّ من ارتكب الإناءين في المثال يعلم بأنّه خالف دليل حرمة الخمر أو دليل حرمة المغصوب ؛ ولذا لو كان إناء واحد مردّدا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه ، مع أنّه لا يلزم منه إلّا مخالفة أحد الدليلين لا بعينه ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّ مخالفة الدليل الشرعيّ محرّم عقلا وشرعا ، سواء تعيّن للمكلّف أو تردّد بين دليلين.

ويظهر من صاحب الحدائق التفصيل في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان فيجب الاجتناب عنه وبين كونه مردّدا بين عنوانين فلا يجب (٢).

فإن أراد عدم وجوب الاجتناب عن شىء منهما في الثاني وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفه بما ذكرنا ، وإن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه فسيجيء ما فيه.

وأمّا المقام الثاني : فالحقّ فيه وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ، وفي المدارك أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب ، ونسبه المحقّق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب ، وعن المحقّق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية دعوى الإجماع (١٤٧٥) صريحا ، وذهب جماعة إلى عدم وجوبه ، وحكي عن بعض القرعة.

______________________________________________________

إلى اهتمام الشارع بأمر الفروج والأعراض ، فلا يجوز الارتكاب في مثال الزوجة والأجنبيّة وإن قلنا بالجواز في غيره.

١٤٧٣. في أوّل الكتاب لا في مسألة البراءة.

١٤٧٤. بأن علم إجمالا أنّ هذا خمر وذاك خلّ ، أو أنّ ذاك مغصوب وهذا خلّ.

١٤٧٥. لعلّه ناش من ملاحظة نسبة بعض القائلين بعدم وجوب الموافقة

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : إمّا.

لنا على ما ذكرنا (١٤٧٦) أنّه إذا ثبت كون أدلّة تحريم المحرّمات شاملة للمعلوم إجمالا ولم يكن هنا مانع عقلي أو شرعيّ من تنجّز التكليف به ، لزم بحكم العقل التحرّز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهين.

وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم إجمالا إن لم يكن ثابتا جازت المخالفة القطعيّة ، والمفروض في هذا المقام التسالم على حرمتها ، وإن كان ثابتا وجب الاحتياط فيه بحكم العقل ؛ إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعي ، فيعاقب عليه ؛ لأنّ المفروض لمّا كان ثبوت التكليف بذلك المحرّم لم يقبح

______________________________________________________

القطعيّة ـ كصاحب المدارك وغيره ـ ذلك إلى أصحابنا. ويؤيّدها تصريح الفاضل التوني في مبحث المقدّمة بخروج المقدّمات العلميّة من محلّ النزاع ، ولا ريب في شمولها للشبهات التحريميّة المشوبة بالعلم الإجمالي. ويؤيّدها أيضا فتواهم بلا خلاف بوجوب غسل مقدار من الرأس والعضد مقدّمة لغسل الوجه واليد ، وبوجوب الإمساك قبل الطلوع بمقدار يحصل به القطع بتحقّق الإمساك من أوّل الفجر ، لأنّ هذه وإن كانت مقدّمة علميّة للواجب ، إلّا أنّه لا فرق بينها وبين المقدّمة لترك الحرام كما هو واضح.

ولكنّك خبير بأنّ دعوى الإجماع بمجرّد ذلك مشكلة. نعم ، هذا القول مشهور إلى زمان المقدّس الأردبيلي ، بل لم يوجد فيه مخالف إلى زمانه سوى ما حكي عن بعضهم القول بالقرعة ، وهو مع جهالة قائله غير مناف للقول بوجوب الاحتياط من باب القاعدة ، كما هو واضح ولو تمّ الإجماع المذكور لكفى في إثبات المسألة ، إذ لا ريب في اعتبار الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة المحقّقة ، سيّما في الشبهة المحصورة التي هي من المسائل الفرعيّة.

١٤٧٦. حاصله : دعوى وجود المقتضي وعدم المانع. أمّا الأوّل فهو حاصل من إحراز المقدّمتين ، إحداهما : شمول الخطابات الواقعيّة للمعلوم الإجمالي ، وهي مبنيّة على كون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، وغير منصرفة مطلقا أو في خبر

العقاب عليه إذا اتّفق ارتكابه ولو لم يعلم به حين الارتكاب. واختبر ذلك من حال العبد إذا قال له المولى : «اجتنب وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الإناءين» ؛ فإنّك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط ، ولا فرق بين هذا الخطاب وبين أدلّة المحرّمات الثابتة في الشريعة إلّا العموم والخصوص.

فإن قلت : أصالة الحلّ (١٤٧٧) في كلا المشتبهين جارية في نفسها ومعتبرة لو لا

______________________________________________________

الطلب إلى المعاني المعلومة. وقد تقدّم تحقيقه في المقام الأوّل. والاخرى : كون العلم الإجمالي كالتفصيلي منجّزا للتكليف بالواقع ، بحيث لا يقبح معه العقاب على مخالفة الواقع بارتكاب المشتبهين أو بارتكاب أحدهما لو اتّفقت المخالفة به. وقد تقدّم تحقيقه في مقصد حجّية القطع.

وأمّا الثاني ، فقد أشار إليه بما أجاب به عمّا أورده على نفسه ، وإذا ثبت التكليف بالواقع بحيث لا يقبح العقاب على مخالفته ، وجب الاجتناب عن كلا المشتبهين دفعا للضرر المحتمل بارتكاب أحدهما. وقد تقدّم تحقيق ذلك أيضا في المسائل السابقة ، وفي مقصد حجّية الظنّ ، ومرجعه إلى ما اشتهر في ألسنة الطلبة فضلا عن العلماء من أنّ الشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

١٤٧٧. مرجعه إلى دعوى حكومة قاعدة الاشتغال على قاعدة البراءة. وقد يقرّر الجواب بأنّ العلم بحرمة أحد المشتبهين يوجب خروجه من عمومات البراءة ، فتكون مخصّصة به ، بل خروجه منها بحسب الموضوع ، فيكون من باب التخصّص دون التخصيص ، إلّا أن تردّد الخارج بين الأمرين يوجب إجمال هذه العمومات ، لصيرورتها حينئذ من باب المخصّص بالمجمل ، فلا تصير حجّة بالنسبة إلى شيء من المشتبهين ، فيجب الاجتناب عنهما تحصيلا للبراءة عمّا علمت حرمته إجمالا.

وفيه : أنّ الخارج هو الحرام الواقعي لا أحد المشتبهين بوصف كونه مشتبها ، وحينئذ إن كان العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع ، كان وجوب الاحتياط حينئذ لأجل ما قرّره المصنّف رحمه‌الله من حكومة قاعدة الاشتغال على أصالة البراءة ، لا

المعارض ، وغاية ما يلزم في المقام تعارض الأصلين ، فيتخيّر في العمل (*) في أحد المشتبهين ، ولا وجه لطرح كليهما.

قلت : أصالة الحلّ غير جارية هنا بعد فرض كون المحرّم الواقعي مكلّفا بالاجتناب عنه منجّزا ـ على ما هو مقتضى (**) الخطاب بالاجتناب عنه ـ ؛ لأنّ مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي هو الاحتياط والتحرّز عن كلا المشتبهين حتّى لا يقع في محذور فعل الحرام ، وهو معنى المرسل المروي في بعض كتب الفتاوى : «اترك ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» ، فلا يبقى مجال للإذن في فعل أحدهما. وسيجيء في باب الاستصحاب ايضا أنّ الحكم في تعارض كلّ أصلين (***) لم يكن أحدهما حاكما على الآخر ، هو التساقط لا التخيير.

______________________________________________________

لإجمال عموماتها ، وإلّا لم يترتّب أثر للعلم الإجمالي المذكور ، وكانت أصالة البراءة محكّمة في كلّ من المشتبهين.

نعم ، قد يقرّر الجواب بوجه آخر ، وهو أنّه لا يخلو : إمّا أن يراد إجراء أصالة الحلّ بالنسبة إلى خصوص كلّ من المشتبهين ، وإمّا بالنسبة إليهما على سبيل البدليّة والتخيير ، وإمّا بالنسبة إلى أحدهما المعيّن عند الله غير المعيّن عندنا ، وإمّا بالنسبة إلى أحدهما لا بعينه. ولا سبيل إلى الأوّل ، لمنافاته لاعتبار العلم الإجمالي ، مضافا إلى عدم التزام الخصم به. ولا إلى الثاني ، لما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله بقوله : فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر». ولا إلى الثالث ، وهو واضح. ولا إلى الرابع ، لأنّ أحدهما ليس فردا آخر مغايرا للمشتبهين ، لكونه مفهوما منتزعا منهما. مضافا إلى أنّ مدّعى الخصم إجرائها بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين حتّى يحكم بالتخيير فيهما من باب التعارض.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : به.

(**) في بعض النسخ زيادة : عموم.

(***) في بعض النسخ زيادة : إذا.

فإن قلت : قوله : «كلّ شىء (١٤٧٨) لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» ونحوه ، يستفاد منه حلّية المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي جميعا ، وحلّية الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي على البدل ؛ لأنّ الرخصة في كلّ شبهة مجرّدة لا تنافي الرخصة

______________________________________________________

وربّما يظهر من ذيل كلام المصنّف رحمه‌الله كون الوجه في عدم جريان أصالة الحلّ في المقام هو تساقط الأصلين بعد التعارض ، فيرجع ما ذكره إلى وجهين : أحدهما : عدم جريان الأصل في شيء من المشتبهين ، لحكومة قاعدة الاشتغال عليه. والآخر : كون الوجه فيه التساقط بعد التعارض.

١٤٧٨. حاصله : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» هو إلغاء احتمال الحرمة فيما يحتملها والحلّية ، والبناء على كونه محلّلا في الواقع. وهذا في الشبهات البدويّة واضح ، لعدم منافاة البناء على حلّية بعضها للبناء على حلّية الباقي أيضا ، لاحتمال حلّية الجميع في نفس الأمر ، فيحكم في الجميع بكونها محلّلا في الواقع بحسب تنزيل الشارع.

وأمّا الشبهة المحصورة فالعلم فيها لمّا كان حاصلا بحرمة أحد المشتبهين ، فالبناء على كون أحدهما حلالا في الواقع يستلزم وجوب البناء على كون الآخر حراما لا محالة ، وحيث لا ترجيح للحكم بحلّية أحدهما بالخصوص يحكم بذلك فيهما على التخيير. وتوضيحه : أنّه إذا شكّ في حلّية امور وحرمتها مع تجرّدها عن العلم الإجمالي ، فكلّ واحد منهما متعلّق لشكّ مستقلّ ، لفرض حصول الشبهة في إباحة كلّ واحد منها بنفسه من دون علم بحرمة أحدهما إجمالا. ولا ريب أنّ انتفاء الشكّ في أحدها حقيقة كما لا يوجب العلم بحرمة الباقي ، لاحتمال إباحة الجميع في الواقع ، كذلك انتفائه بحسب الشرع.

وأمّا إذا كان الشكّ فيها مشوبا بالعلم الإجمالي فليس هنا إلّا شكّ واحد جامع لجميع أطراف الشبهة ، لفرض حصول العلم إجمالا بحرمة بعضها وإباحة بعض آخر ، والشكّ إنّما هو في أنّ متعلّق إحداهما هذا ومتعلّق الاخرى ذاك أو

.................................................................................................

______________________________________________________

بالعكس. وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ هو تساوي احتمالين في مورد. وهو في الشبهة البدويّة واضح. وأمّا في الشبهة المحصورة ، فإنّه إذا علم إجمالا بكون أحد الإنائين من إناء زيد وإناء عمرو نجسا والآخر طاهرا ، فأحد الاحتمالين هنا كون إناء زيد نجسا وإناء عمرو طاهرا ، والآخر صورة العكس ، وكما أنّه إذا انتفى احتمال نجاسة إناء زيد حقيقة ، وحصل القطع بطهارته وجدانا ، حصل القطع بكون النجس المعلوم إجمالا هو إناء عمرو ، كذلك إذا ثبت ذلك شرعا على ما عرفت.

وممّا ذكرناه قد تبيّن أنّ شمول الرواية للشبهة البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي على نهج واحد ، وهو إلغاء احتمال الحرمة في المحتمل لها وللحلّية ، غاية الأمر أنّ إلغائه في المشوب بالعلم الإجمالي مستلزم لتعيّن كون الحرام الواقعي هو الطرف الآخر من المشتبهين ، وفي الشبهة البدويّة لحلّية المشتبه على ما عرفت. فلا يرد حينئذ أنّ إثبات حلّية المشتبه تعيينا في الشبهة البدويّة وتخييرا في المشوبة بالعلم الإجمالي بالرواية المتقدّمة مستلزم لاستعمالها في معنيين.

وفيه نظر واضح. أمّا أوّلا : فإنّه إنّما يتمّ إن كان مقتضى قوله : «كلّ شيء لك حلال» حلّية كلّ مشتبه في الجملة بإلغاء احتمال الحرمة فيه ، وليس كذلك ، لأنّ ظاهره الحكم بحلّية خصوص كلّ مشتبه تعيينا. ويلزم على ما تقدّم البناء في الشبهات البدويّة على حلّية كلّ مشتبه تعيينا ، وفي المشوبة بالعلم الإجمالي على حلّية كلّ من المشتبهين تخييرا ، وهو مستلزم لمحذور استعمال اللفظ في معنيين. اللهمّ إلّا أن يحمل على إرادة عموم المجاز ، بأن يراد بقوله : «كلّ شيء لك حلال» إلغاء احتمال الحرمة في كلّ محتمل الحلّية والحرمة ، فيقال : إنّ لازم هذا المعنى الكلّي هو الحكم في الشبهات البدويّة بالحلّية تعيينا وفي المشوبة بالعلم الإجمالي تخييرا ، ويدفعه : أنّ ظاهر قوله : «كلّ شيء لك حلال» هو الحكم بالحلّية في خصوص كلّ مشتبه تعيينا ، ولا قرينة على إرادة المعنى الكلّي المذكور.

في غيرها (١٤٧٩) ؛ لاحتمال كون الجميع حلالا في الواقع ، فالبناء على كون هذا المشتبه بالخمر خلا ، لا ينافي البناء على كون المشتبه الآخر خلّا.

وأمّا الرخصة في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي والبناء على كونه خلّا لمّا تستلزم وجوب البناء على كون المحرّم هو المشتبه الآخر ، فلا يجوز الرخصة فيه جميعا ، نعم يجوز الرخصة فيه بمعنى جواز ارتكابه والبناء على أنّ المحرّم غيره ، مثل الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا ، فإنّه لمّا علم من الأدلّة تحريم الخمر الواقعي ولو تردّد بين الأمرين ، كان معنى الرخصة في ارتكاب أحدهما الإذن في البناء على عدم كونه هو الخمر المحرّم عليه وأنّ المحرّم غيره ، فكلّ منهما حلال بمعنى جواز البناء على كون المحرّم غيره.

والحاصل أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار أن يلغي من طرفي الشكّ في حرمة الشيء وحلّيته احتمال الحرمة ويجعل محتمل الحلّية في حكم متيقّنها ، ولمّا كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شكّ واحد ولم يكن فيه إلّا احتمال كون هذا حلالا وذاك حراما واحتمال العكس ، كان إلغاء احتمال الحرمة في أحدهما إعمالا له في الآخر وبالعكس ، وكان الحكم الظاهري في أحدهما بالحلّ حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، وليس معنى حلّية كلّ منهما إلّا الإذن في ارتكابه وإلغاء احتمال الحرمة فيه المستلزم لإعماله في الآخر. فتأمّل حتّى لا تتوهّم أنّ استعمال قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء لك حلال» بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي والشبهات المجرّدة استعمال في معنيين.

______________________________________________________

وأمّا ثانيا : فإنّ قول الشارع : اجتنب عن النجس ، يقتضي الاجتناب عن كلّ نجس تعيينا ، ولا ريب في شموله للمعلوم إجمالا. فهو حينئذ إن اقتضى وجوب الاجتناب عنه تعيينا وجب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، وهو خلاف مدّعى السائل. وإن اقتضاه تخييرا فهو مستلزم لاستعمال اللفظ في الوجوب التعييني بالنسبة إلى النجاسات المعلومة تفصيلا ، وفي الوجوب التخييري في الشبهات المحصورة.

١٤٧٩. يعني : من الشبهات المجرّدة.

قلت : الظاهر من الأخبار (١٤٨٠)

______________________________________________________

١٤٨٠. لمّا كان السؤال مبنيّا على مقدّمتين : إحداهما : كون مقتضى الأخبار المذكورة هو البناء على كون محتمل الحرمة هو الموضوع المحلّل الواقعي. والاخرى : كون مقتضى البناء المذكور في أحد المشتبهين هو البناء على كون المشتبه الآخر هو الموضوع المحرّم ، لأجل ما ذكره من وحدة الشكّ في المشوب بالعلم الإجمالي. أشار المصنّف رحمه‌الله إلى منع كلتا المقدّمتين.

أمّا الاولى فلأنّ مقتضى الأخبار المذكورة هو مجرّد الرخصة في الارتكاب وعدم الحرمة في الظاهر ، لا البناء على كون أحد المشتبهين هو الموضوع المحلّل ، حتّى يستلزم كون الآخر هو الموضوع المحرّم.

وأمّا الثانية مع تسليم الاولى ، فإنّ البناء على كون أحدهما هو الموضوع المحلّل إنّما يستلزم البناء على كون الآخر هو الموضوع المحرّم من باب حكم العقل ، لأجل وحدة الشكّ والعلم إجمالا بكون أحدهما حلالا في الواقع والآخر حراما كذلك ، وسيجيء في مبحث الاستصحاب عدم إثبات الاصول اللوازم العقليّة لمؤدّياتها ، نظير إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر. فلا بدّ في المقام إمّا من إلغاء العلم الإجمالي والحكم بحلّية كلّ من المشتبهين لأجل الأخبار المذكورة ، وإمّا من القول بحرمة كلّ منهما ، لأجل ما قرّره المصنّف رحمه‌الله من حكومة قاعدة الاشتغال على أصالة الحلّ في المشتبهين ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر.

فإن قلت : إنّ مقتضى الأخبار المذكورة وإن لم يكن هو البناء على كون محتمل الحرمة هو الموضوع المحلّل ، إلّا أنّه لا ريب في كون مقتضاها هو البناء على كونه حلالا في الواقع ، بإلغاء احتمال الحرمة بتنزيل الشارع. والمانع من العمل بها في كلّ من المشتبهين هو العلم بحرمة أحدهما إجمالا ، وهو لا يصلح للمنع مطلقا ، لأنّ مقتضى الجمع بين الأمرين هو التخيير في ارتكاب أحدهما ، نظير ثبوت التخيير في تعارض الخبرين ، لأنّ الوجه فيه أيضا ثبوت اعتبار كلّ من الخبرين إذا لوحظا في

.................................................................................................

______________________________________________________

أنفسهما ، لأنّ مقتضى أدلّة اعتبار الأخبار هو العمل بكلّ منها تعيينا لو لا المعارض ، ومعه يجب العمل بالمتعارضين تخييرا ، لأنّ هذا هو القدر الممكن من العمل بأدلّة اعتبارهما بعد عدم جواز طرحهما.

وبالجملة ، إنّه لا ريب في شمول آية النبأ مثلا لهما ، إذ لولاه لم يكن معنى لفرض التعارض وإجراء أحكامه عليهما. ولا يمكن العمل بكلّ منهما للتعارض ، ولا طرحهما ، لاستلزامه المخالفة العمليّة للآية ، فلا بدّ من الحكم بالتخيير في العمل بهما ، لكون ذلك هو القدر الممكن من العمل بهما ، ويقال بمثله أيضا بالنسبة إلى أدلّة اعتبار الاصول.

قلت : إنّ القول بالتخيير في تعارض الأخبار لا يخلو : إمّا أن يكون على وفق القاعدة ، أو من باب التعبّد والأخبار الواردة فيه. وشيء منهما لا يجري في تعارض الاصول. والثاني واضح. وأمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ الحكم بالتخيير في تعارض الخبرين فرع اعتبارهما في أنفسهما لو لا التعارض ، والفرض في تعارض الاصول عدم اعتبار أحد المتعارضين وإن قطع النظر عن تعارضهما ، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، والعقل في مثله لا يحكم بالتخيير ، لدوران الأمر فيه بين الحقّ والباطل ، ومقتضاه التوقّف عن الحكم بحرمة أحد المشتبهين بالخصوص ، والاحتياط في مقام العمل بما يحصل القطع بالبراءة معه ، بخلاف الخبرين المتعارضين ، لفرض اعتبارهما بأدلّة اعتبارهما كما عرفت.

وتحقيق المقام : أنّ اعتبار الأخبار إمّا أن يكون من باب الموضوعيّة ، بأن كان الأمر بالعمل بها لأجل تضمّنها مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها له ، وإمّا أن يكون من باب الطريقيّة ، بأن كان الأمر بها لمجرّد كونها غالبة الإيصال إلى الواقع. والظاهر هو الأوّل ، ولذا يجوز العمل بها مع انفتاح باب العلم والتمكّن من أخذ الأحكام من الإمام عليه‌السلام ، إذ لو كان اعتبارها من باب الطريقيّة المحضة لزم حينئذ تفويت مصلحة الواقع عن المكلّف من دون تداركها بشيء ، و

.................................................................................................

______________________________________________________

هو قبيح على الشارع ، لمنافاته لجعل الأحكام على مذهب الإماميّة من كونها ناشئة من المصالح والمفاسد الواقعيّة ، وكون الغرض من جعلها تحصيل هذه المصالح والاحتراز عن هذه المفاسد. واحتمال كون اعتبارها لأجل إيصالها إلى الواقع دائما بعيد في الغاية. وحينئذ فمع تعارض الخبرين لا بدّ من أن يكون كلّ منهما حجّة شرعيّة مأمورا بالعمل به ، مع قطع النظر عن غلبة إيصالهما إلى الواقع ، لما عرفت من تضمّن كلّ منهما المصلحة المطلوبة ، إلّا أنّ تعارضهما لمّا كان مانعا من العمل بهما معا فالعقل يستقلّ بالعمل بكلّ منهما تخييرا ، لوجود المصلحة في كلّ منهما.

نعم ، مقتضى القاعدة على الثاني هو التساقط ، لعدم كون الطريق المزاحم بالمثل طريقا إلى الواقع ، فيسقطان عن مرتبة الاعتبار ، لزوال مناط اعتبارهما ، فلا بدّ أن يكون القول بالتخيير حينئذ من باب التعبّد بالأخبار الواردة فيه ، بخلافه على الأوّل ، لكون هذه الأخبار حينئذ مؤكّدة لحكم العقل ومؤيّدة له.

هذا بخلاف تعارض الاصول ، إذ لا مصلحة فيها سوى عذر المكلّف على تقدير مخالفتها الواقع ، فلا يتأتّى فيها ما قدّمناه من الحكم بالتخيير لأجل تعارض المصلحتين ، بل قد عرفت أنّ تعارضهما من قبيل تعارض الحقّ والباطل ، وأنّ العقل في مثله يحكم بالاحتياط دون التخيير. ولا فرق في ذلك بين الاصول العمليّة واللفظيّة. أمّا الاولى فلما عرفت. وأمّا الثانية فإنّ اعتبار الظواهر إنّما هو من باب الظهور العرفي ، ولا يبقى لها مع التعارض ظهور ، فيخرج كلّ من المتعارضين منها من مرتبة الحجيّة ، لزوال مناط اعتبارهما. وحينئذ إذا فرض تعارض ظاهرين بالتباين الكلّي خرج كلّ منهما من الحجّية. وإذا تعارضا بالعموم من وجه ، فلا بدّ من الحكم بالإجمال في مادّة التعارض ، والرجوع فيها إلى الأصل إن كان أحدهما موافقا له ، وإلّا يحكم بالتخيير من باب الاضطرار في تعارض الاحتمالين. ولا تشمله أيضا أخبار التخيير ، لاختصاصها بالمتعارضين بحسب السند دون الدلالة.

والانصاف أنّ المقام بعد لا يصفو عن شوب إشكال ، إذ ما قدّمناه من شمول

المذكورة البناء على حلّية محتمل التحريم والرخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل. ولو سلّم ، فظاهرها البناء على كون كلّ مشتبه كذلك ، وليس الأمر بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخلّ أمرا بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر.

احتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ومنع عنه بوجهين : الأوّل : الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها ، وإنّما منع من ارتكاب مقدار الحرام ؛ إمّا لاستلزامه (١٤٨١) للعلم بارتكاب الحرام وهو حرام ، وإمّا لما ذكره بعضهم (١٤٨٢) من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام.

قال في توضيح ذلك : إنّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه وكذا كلّ منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ، وكلّ منهما بشرط الانفراد مجهول الحرمة فيكون حلالا (٣).

والجواب عن ذلك أنّ الأخبار المتقدّمة على ما عرفت إمّا أن لا تشمل شيئا (١٤٨٣) من المشتبهين وإمّا أن تشملهما جميعا ، وما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل ، فغير صالح للمنع.

______________________________________________________

أدلّة أخبار الآحاد لصورة التعارض ربّما يشكل باستلزامه استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ شمولها للأخبار السليمة عن المعارض بالوجوب التعييني ، وللأخبار المعارضة بالوجوب التخييري ، إلّا أنّ هذا شيء وارد على ما قدّمناه من كون الأخبار الدالّة على التخيير في تعارض الأخبار واردة على القاعدة ، وهو لا يجدي في إثبات التخيير في تعارض الاصول كما هو المطلوب.

١٤٨١. ذكره المحقّق القمي رحمه‌الله.

١٤٨٢. هو النراقي في مناهجه.

١٤٨٣. قد تقدّم توضيحه عند شرح قوله : «فإن قلت : قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال ...».

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه إن اريد أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ دليل عليه (١٤٨٤) ، نعم تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام من حيث التجسّس (١٤٨٥) المنهيّ عنه وإن لم يحصل له العلم.

وإن اريد أنّ الممنوع عنه عقلا من مخالفة أحكام الشارع ـ بل مطلق الموالي ـ هي المخالفة العلميّة دون الاحتماليّة ؛ فإنّها لا تعدّ عصيانا في العرف ، فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو ارتكاب المجموع دون المحرّم الواقعي وإن لم يعرف حين الارتكاب ، وحاصله : منع وجوب المقدّمة العلميّة ، ففيه : مع إطباق العلماء بل العقلاء ـ كما حكي (١٤٨٦) ـ على وجوب المقدّمة العلميّة ، أنّه إن اريد من

______________________________________________________

١٤٨٤. فإن قلت : كيف تنكر الدليل عليه والمصنّف رحمه‌الله قد ادّعى في غير موضع قبح المخالفة القطعيّة.

قلت : فرق بين المخالفة القطعيّة بمعنى الإتيان بما تعلم تفصيلا أو إجمالا مخالفته للواقع ، وبين تحصيل القطع تفصيلا أو إجمالا بالمخالفة السابقة ، والقبيح هو الأوّل دون الثاني.

١٤٨٥. قال سبحانه : (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً.) والمعنى والله أعلم : لا تتّبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها ، ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكرهه وإن كان فيه. وفي اصول الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تطلبوا عثرات المؤمنين ، فإنّه من تتّبع عثرات أخيه تتّبع الله عثراته ، ومن تتّبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته». والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

وفي كلام المصنّف رحمه‌الله إشارة إلى عدم استلزام حرمة التجسّس حرمة تحصيل العلم بتحقّق المعصية من وجهين : أحدهما : اختصاص الأوّل بالبحث عن عثرات الغير ، فلا يشمل البحث عن عثرات نفسه. وثانيهما : أنّ الحرام في الأوّل نفس التجسّس وإن لم يحصل به العلم ، بخلاف ما نحن فيه.

١٤٨٦. قد تقدّم حكاية نفي الخلاف عنه عن الفاضل التوني.

حرمة المخالفة العلميّة حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ، فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ؛ إذ لا يحصل معه مخالفة معلومة تفصيلا.

وإن اريد منها حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها ، فمرجعها إلى حرمة (١٤٨٧) تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ، وقد عرفت منع حرمتها جدّا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد الوجه الثاني ؛ فإنّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه الغير المعيّن ، فضمّ الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته. نعم له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا لنفسه ، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام.

ومن ذلك يظهر : فساد جعل الحرام كلّا منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ، فإنّ حرمته وإن كانت معلومة إلّا أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقّق لا لذات الحرام ، فلا يحرم إيجاد الاجتماع ، إلّا إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقّق ، ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام.

الثاني : ما دلّ بنفسه او بضميمة ما دلّ على المنع عن ارتكاب الحرام الواقعى على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها ـ على تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع ـ وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ، بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات

______________________________________________________

١٤٨٧. لأنّ ظاهر قوله : «وإن اريد منها حرمة المخالفة ...» دعوى اشتراط العلم في صدق المعصية ، بمعنى اشتراط تأثير مخالفة الحرام الواقعي في ترتّب العقاب بحصول العلم بتحقّقها ولو بعدها ، لا مجرّد احتمالها حين العمل. وحينئذ فنسبة الحرمة في كلام المستدلّ إلى تحصيل العلم إنّما هي من جهة كونه جزء أخير من العلّة التامّة ، لكن تمكن دعوى القطع بعدم تأثير مخالفة الحرام الواقعي مع عدم العلم بها حين العمل ـ لا تفصيلا ولا إجمالا ـ في ترتّب العقاب ، لقبح العقاب بلا بيان ، فلا بدّ أن يكون العقاب مترتّبا على تحصيل العلم بالمخالفة بعد تحقّقها ، ولذا ادّعى المصنّف رحمه‌الله أنّ مرجع ما ذكر في هذا الشقّ من الترديد إلى حرمة تحصيل العلم الذي تصير به المخالفة قطعيّة.

بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها. وهذه الأخبار كثيرة : منها : موثّقة سماعة. قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني اميّة ، وهو يتصدّق منه ويصل قرابته ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ويقول : إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ، فقال عليه‌السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، وإنّ الحسنة تحطّ الخطيئة. ثمّ قال : إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس».

فإنّ ظاهره نفي البأس عن التصدّق والصلة والحجّ من المال المختلط وحصول الأجر في ذلك ، وليس فيه دلالة (١٤٨٨) على جواز التصرّف في الجميع. ولو فرض ظهوره فيه صرف عنه بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، وهو مقتض بنفسه لحرمة التصرّف في الكلّ ، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ، ومن جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرّف في البعض المحتمل أيضا ، لكن عرفت أنّه يجوز الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة بجعل بعضها الآخر بدلا ظاهريّا عن ذي المقدّمة.

______________________________________________________

١٤٨٨. هذا تقريب للاستدلال بالرواية. وتوضيحه : أنّه ليس فيها دلالة على جواز التصرّف في الجميع ، لعدم وقوع السؤال عنه ، بل عن جواز التصرّف في الجملة ، بالتصدّق وصلة القرابة والحجّ ونحوها ، فليست هي واردة لبيان الإطلاق وجواز التصرّف في الجميع حتّى يقال بظهورها في جواز المخالفة القطعيّة ، لأنّ غايتها عدم وجوب الموافقة القطعيّة لا جواز المخالفة كذلك. وحينئذ يصحّ الاستناد إليها في إثبات عدم وجوب الموافقة القطعيّة ، وتثبت حرمة المخالفة القطعيّة بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، فيثبت التخيير بين المشتبهين. ومع تسليم ظهورها في ارتكاب الجميع لا بدّ من صرفها إلى ما ذكرناه ، لأجل ما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، لأنّ مقتضاه بنفسه وبضميمة حكم العقل وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين. ولا يجوز ورود

والجواب عن هذا الخبر : أنّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ؛ لأنّه يتصدّق ويصل ويحجّ بالبعض ويمسك الباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي ؛ فلا بدّ إمّا من الأخذ به وتجويز المخالفة القطعيّة وإمّا من صرفه عن ظاهره ، وحينئذ : فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم عليه إمساك مقدار الحرام ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل ، كالربا بناء على ما ورد (١٤٨٩) في عدّة أخبار من حلّية الربا الذي اخذ جهلا ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط.

______________________________________________________

الرخصة على خلافه ، لكونه إذنا في المعصية ، وهو قبيح عقلا. نعم ، قد تقدّم سابقا جواز الإذن في ارتكاب أحدهما بجعل الآخر بدلا عن الواقع ، وحينئذ فما دلّ على جواز ارتكاب كليهما لا بدّ من صرفه إلى ما لا ينافي ذلك.

١٤٨٩. قد تقدّم شطر من هذه الأخبار في المقام الأوّل. ولا خلاف في حرمة الربا مع العلم بحرمته. وكذا الاختلاف (*) ـ كما قيل ـ في عدمها مع الجهل بها. وإنّما الخلاف في وجوب ردّ ما أخذه حال الجهل إذا علم به بعد ذلك ، فذهب الشيخ في النهاية والصدوق في المقنع إلى عدمه ، ونقله في محكي المختلف عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، وتبعهما جماعة من المتأخّرين ، كالمحقّق في النافع والشهيد في الدروس وغيرهما. وعن التنقيح نسبته إلى الشيخ وأتباعه.

وصرّح في المناهل بعد اختياره بعدم الفرق بين القاصر والمقصّر ، وأنّه متى عرف وتاب حلّ له ما مضى من الربا ، وإن كان متميّزا وصاحبه معروفا ، وإن لم يتب فكالعامد : «وحكمه أنّه يجب عليه ردّ الزائد مطلقا على نحو سائر أموال الناس التي عنده أو بذمّته. وأمّا القدر المساوي فكذلك إن لم يتب ، وإن تاب حلّ له المساوي وإن كانت المعاوضة باطلة» انتهى.

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، وهو تصحيف : لا خلاف.

وبالجملة : فالأخبار الواردة في حلّية ما لم يعلم حرمته على أصناف. منها : ما كان من قبيل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام». وهذا الصنف

______________________________________________________

وفي الجواهر : «ظاهرهم اشتراط ذلك بالانتهاء عمّا مضى ، بأن يتوب عمّا سلف». وفي الحدائق التصريح بصحّة المعاملة مع الجهل. وفي الجواهر بعد نقله : «ولعلّه مراد الباقين ، إذ الحكم بعدم وجوب الردّ مع القول بفساد المعاملة في غاية البعد».

وتقدّم في ما علّقناه على المقام الأوّل عن ابن الجنيد التفصيل بين ما كان متميّزا معروفا ، وبين ما كان مختلطا بحلال ، بالقول بوجوب الردّ في الأوّل دون الثاني ، خلافا للحلّي في السرائر والعلّامة في المختلف ، فيجب الردّ مطلقا. ونقل المصنّف رحمه‌الله في بعض تحقيقاته عن الحلّي وجوب إخراج الخمس. وحمل المصنّف رحمه‌الله الأخبار الواردة في المقام على المال الموروث ، مع العلم بأن المورّث كان يأكل الربا ، مع عدم العلم بوجوده في المال المخصوص.

ولكن ينافيه صريح جملة اخرى من الأخبار المعتبرة. ويضعّف سابقه بكون الأخبار الواردة في المقام أخصّ ممّا دلّ على وجوب إخراج الخمس من المختلط بالحرام. ويضعّف قول الشيخ والصدوق بأنّ حمل المطلق على المقيّد يقتضي ترجيح قول ابن الجنيد ، وإن أمكن حمل ما دلّ بظاهره على وجوب ردّ ما كان معزولا على الاستحباب ، إلّا أنّ الأوّل أولى كما لا يخفى ، ولكنّ القول به نادر ، فيشكل به الخروج من عمومات الضمان ، وإن ساعدته الأخبار المعتبرة ، وسبيل الاحتياط واضح.

وحمل المصنّف رحمه‌الله للموثّقة هنا على صورة الجهل بالربا لا يدلّ على اختياره قول الشيخ ، لأنّ الكلام هنا في الحكم التكليفي دون الوضعي ، وارتفاع الأوّل لا يستلزم ارتفاع الثاني. وممّا ذكرناه يظهر الوجه فيما ذكره المصنّف رحمه‌الله من نفي الأولويّة ، لما عرفت من عدم الخلاف في المعذوريّة من حيث الحكم التكليفي. اللهمّ

لا يجوز الاستدلال به لمن لا يرى جواز ارتكاب المشتبهين ؛ لأنّ حمل تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة والآحاد المعيّنة في الشبهة المجرّدة من العلم الإجمالي والشبهة الغير المحصورة (١٤٩٠) متعسّر بل متعذّر (١٤٩١) ، فيجب حملها على صورة عدم التكليف (١٤٩٢) الفعليّ بالحرام الواقعي.

ومنها : ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة ، مثل الخبر المتقدّم. وهذا أيضا لا يلتزم المستدلّ بمضمونه ، ولا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة ـ لأنّ موردها فيها ـ ، فيجب حمله على أقرب المحتملين من ارتكاب البعض مع إبقاء مقدار الحرام ومن وروده في مورد خاصّ ، كالربا ونحوه ممّا يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة. ومن ذلك يعلم حال ما ورد في الربا من حلّ جميع المال المختلط به.

ومنها : ما دلّ على جواز أخذ ما علم فيه الحرام إجمالا ، كأخبار جواز الأخذ من العامل والسارق والسلطان. وسيجيء : حمل جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ومتفرّعا على تصرّفه المحمول على الصحّة عند الشكّ.

فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلّة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعيّة ـ وهي وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب إطاعة التكاليف المعلومة المتوقّفة (١٤٩٣) على الاجتناب عن كلا المشتبهين ـ ، مشكل جدّا ، خصوصا مع اعتضاد القاعدة

______________________________________________________

إلّا أن يقال بأنّ المنساق من الموثّقة ارتفاع الحكم الوضعي أيضا ، فتأمّل.

١٤٩٠. هذا مبنيّ على ظاهر مذهب المشهور ، وإلّا فالمختار عند المصنّف رحمه‌الله ـ كما سيجيء ـ هي حرمة المخالفة القطعيّة فيها.

١٤٩١. كما تقدّم في الجواب عن السؤال الثاني في تقريب ما اختاره.

١٤٩٢. كما في الشبهة المجرّدة.

١٤٩٣. لفظة «المتوقّفة» صفة للإطاعة ، وفيه نوع مسامحة ، لوضوح عدم

بوجهين آخرين هما كالدليل على المطلب ، أحدهما الأخبار الدالّة على هذا المعنى : منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال» ، والمرسل المتقدّم : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» ، وضعفها ينجبر (١٤٩٤) بالشهرة المحقّقة والإجماع المدّعى في كلام من تقدّم.

ومنها : رواية ضريس عن السّمن والجبن في أرض المشركين؟ «قال : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكل» (٤) ، فإنّ الخلط يصدق (١٤٩٥) مع الاشتباه. ورواية ابن سنان : «كلّ شىء حلال حتّى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة» (٥) ، فإنّه يصدق على مجموع قطعات اللحم أنّ فيه الميتة.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث التثليث : «وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» بناء على أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام ، فإن كان الحرام لم يتنجّز

______________________________________________________

توقّفها على الاحتياط ، إذ المتوقّف عليه هو العلم بها دون نفسها ، إذ لا ريب في تحقّق إطاعة النهي لو ترك أحد المشتبهين واتّفق كونه هو الحرام الواقعي.

ثمّ إنّ الوجه فيما استشكله ليس هو عدم جواز مخالفة حكم العقل بالأدلّة الشرعيّة ، لوضوح حكومة أدلّة البراءة عليها ، بل هو عدم تماميّة دلالة تلك الأدلّة ، كما هو واضح.

١٤٩٤. يؤيّده أنّ المرسل الأوّل محكيّ عن السرائر ، والحلّي لا يعمل بأخبار الآحاد.

١٤٩٥. فلا يمكن أن يتوهّم أنّ الخلط إنّما يصدق مع الامتزاج الذي تقدّم خروجه من محلّ النزاع. قال في المصباح : «خلطت الشيء بغيره خلطا ـ من باب ضرب ـ ضممته إليه فاختلط هو. وقد يمكن التميّز بعد ذلك كما في خلط الحيوانات ، وقد لا يمكن كخلط المائعات ، فيكون مزجا. قال المرزوقي : أصل الخلط تداخل أجزاء الأشياء بعضها في بعض ، وقد توسّع فيه حتّى قيل : رجل خليط إذا اختلط كثيرا بالناس ، والجمع خلطاء ، مثل شريف وشرفاء. ومن هنا قال

التكليف به فالهلاك المترتّب عليه منقصته الذاتيّة ، وإن كان ممّا يتنجّز التكليف به ـ كما فيما نحن فيه ـ كان المترتّب عليه هو العقاب الاخروي ، وحيث إنّ دفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل وجب الاجتناب عن كلّ مشتبه بالشبهة المحصورة ، ولمّا كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم إجماعا كان الاجتناب عن الشبهة المجرّدة غير واجب بل مستحبّا. وفائدة الاستدلال (١٤٩٦) بمثل هذا الخبر : معارضته لما يفرض من الدليل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا ، وجعل الآخر بدلا عن

______________________________________________________

ابن فارس : الخليط المجاور ، والخليط الشريك» انتهى.

١٤٩٦. دفع لما ربّما يتوهّم من عدم إجداء خبر التثليث في المقام ، لأنّ الاستدلال به إنّما يتمّ بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، كما قرّره هنا ، وأوضحه عند الجواب عن أدلّة الأخباريّين في الشبهة التحريميّة الحكميّة ، وهو بنفسه ناهض لإثبات المطلوب من دون حاجة إلى ضمّ الخبر إليه. ووجه الدفع واضح.

وربّما يشكل ذلك بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كان المراد بالمشار إليه بقوله : «هذا الخبر» هو خبر التثليث ، ولكن ينافيه قوله : «بمثل خبر التثليث وبالنبويّين» لأنّ ظاهره كون ما ذكر فائدة لجميع ما تقدّم في الوجه الأوّل من الأخبار ، فلا بدّ أن يكون المراد بالمشار إليه جنس الخبر ليشمل جميع هذه الأخبار ، مع وضوح عدم ورود الإشكال المذكور على ما عدا خبر التثليث. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المراد بالمشار إليه هو خبر التثليث ، إلّا أنّ الفائدة المذكورة تعمّه وغيره من الأخبار المذكورة ، لكن تبقى النكتة حينئذ في تخصيص النبويّين بالذكر ، إلّا أن يكون من باب المثال. ومع ذلك كلّه تشكل الفائدة المذكورة بمنع معارضة خبر التثليث والدليل المفروض ، لأنّ مؤدّى الأوّل لا يزيد على قاعدة الاحتياط. ولا ريب في حكومة الدليل المفروض ـ بل وروده ـ عليها. مع أنّ النسبة بينه على تقدير شموله للشبهات البدويّة وبين خبر التثليث هو التباين ، لدلالة الأوّل على البراءة في الشبهة التحريميّة مطلقا ، والثاني على وجوب الاحتياط كذلك ، فلا وجه لتخصيص

الحرام الواقعي ؛ فإنّ مثل هذا الدليل لو فرض وجوده حاكم على الأدلّة (١٤٩٧) الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي ، لكنّه معارض بمثل خبر التثليث وبالنبويّين ، بل مخصّص بهما لو فرض عمومه للشبهة الابتدائيّة ، فيسلم تلك الأدلّة ، فتأمّل.

الثاني : ما يستفاد من أخبار كثيرة من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمّة عليهم‌السلام والشيعة بل العامّة أيضا ، بل استدلّ صاحب الحدائق (١٤٩٨) على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة ، لكنّ الإنصاف عدم بلوغ ذلك حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلّا ، وإن كان ما يستشمّ منها قولا وتقريرا من الروايات كثيرة :

______________________________________________________

أحدهما بالآخر. ولعلّه إلى الوجهين أو أحدهما أشار المصنّف رحمه‌الله بالأمر بالتأمّل.

نعم ، يمكن دفع الثاني بأنّ خبر التثليث وإن كان أعمّ موضوعا من الشبهات البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي ، إلّا أنّه من حيث دلالته على وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي وعدمه في غيرها ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في تقريب دلالته على المقام ـ أخصّ حكما من الدليل المفروض الدالّ على البراءة مطلقا.

١٤٩٧. لأنّ الحكومة تارة تكون بالتخصيص في دليل آخر ، كأدلّة العسر بالنسبة إلى غيرها من أدلّة التكاليف ، واخرى بالتعميم في موضوع دليل آخر ، كالبيّنة بالنسبة إلى أدلّة المحرّمات وغيرها ، لإفادتها دخول موردها في موضوعات تلك الأدلّة بحكم الشرع. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لإفادة الدليل المفروض لدخول المتروك من المشتبهين بعد تناول الآخر في موضوع المحرمات الواقعيّة ، بأن يراد من أدلّته ما يشمل ذلك أيضا.

وفيه : أنّه لا بدّ أن يراد حينئذ بقول الشارع : اجتنب عن النجس ما يشمل ذلك ، ولا ريب أنّ شموله له على وجه التخيير ، ولسائر النجاسات المعلومة تفصيلا على وجه التعيين ، فيلزم استعماله في معنيين.

١٤٩٨. قال في مقدّمات الحدائق «ولا يخفى أنّ القواعد كما يكون بورود

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم كلّيا وباشتمال القضيّة على سور الكلّية ، كذلك تحصل بتتبّع الجزئيّات إجمالا كما في القواعد النحويّة ، بل في بعض الأخبار الواردة في هذا المقام تصريح بكلّية الحكم أيضا. ولنشر هنا إلى بعض الأخبار إجمالا» ثمّ نقل موثّقة عمّار في الإنائين المشتبهين ، وحسنة الصفّار في الثوبين المشتبهين ، والأخبار الواردة في غسل الثوب النجس بعضه مع اشتباهه بالباقي. وأضاف المصنّف رحمه‌الله إلى هذه الأخبار ما دلّ على بيع الذبائح وخبر القرعة.

أقول : أولى منهما ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأمر برمي كلّ من المشتبهين من الميتة والمذكّى. والإنصاف أنّ الاستقراء ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ وإن لم يحصل بذلك ، إلّا أنّه يمكن توجيه كلامه بمنع كون مراده دعوى استقراء الأحكام في إثبات الكلّية المدّعاة ، بل مراده دعوى حصول الظنّ بها من ملاحظة الأخبار الواردة في جزئيّات هذه الكلّية ، لعدم الفرق في اعتبار الظنون الحاصلة من ظواهر الألفاظ بين الحاصل من خصوص خبر والحاصل من مجموع الأخبار ، ولذا يستدلّ كثيرا على المطلوب بمجموع الأدلّة ، وإن كان كلّ واحد منها قابلا للمناقشة أو المنع.

ولكن يرد عليه منع كون الأمثلة المستقرأ فيها من محلّ النزاع. أمّا موثّقة عمّار فلدوران الأمر فيها إمّا بين الواجب والحرام أو بين الواجب وغير الحرام ، على الوجهين في كون استعمال النجس في المشترط بالطهارة ـ سوى الأكل والشرب ـ حراما ذاتيّا كما يظهر من بعضهم ، أو تشريعيّا كما هو الظاهر وأسلفناه سابقا ، وعلى التقديرين فهو خارج ممّا نحن فيه من دوران الأمر بين الحرمة الذاتيّة وغير الوجوب. نعم ، استعمال الإنائين في الأكل والشرب ينطبق على ما نحن فيه ، لكنّه خارج من مورد الموثّقة. ومن هنا يظهر أنّ ما اشتهر من التمثيل بها للمقام على إطلاقه ليس بصحيح.

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا حسنة الصفّار ففيها ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّ القول بوجوب الصلاة في الثوبين المشتبهين لا ينافي القول بالتخيير في ما نحن فيه ، وذلك لأنّ مقتضى أصالة البراءة ـ كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في غير موضع ـ هو مجرّد الرخصة في الارتكاب وعدم ترتّب العقاب عليه على تقدير مصادفته للواقع ، لا إثبات الأحكام الوضعيّة أيضا من الطهارة وغيرها ، فلا يحصل اليقين بالبراءة بالصلاة في أحدهما. وقد تقدّم سابقا اختصاص محلّ النزاع بما لم يكن أحد المشتبهين مجرى لأصل موضوعي ، وهو هنا قاعدة الاشتغال.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ جريان أصالة البراءة في أحد المشتبهين وإن لم يكن مجديا في إثبات طهارته حتّى يحكم بصحّة الصلاة فيه ، إلّا أنّه لا مانع من جريان قاعدة الطهارة أو استصحابها في أحدهما على القول بكفاية الموافقة الاحتماليّة. فمقتضى القاعدة حينئذ هو الحكم بصحة الصلاة في أحدهما ، لحكومة قاعدة الطهارة على قاعدة الاشتغال ، لكن حكم الشارع حينئذ بعدم الصحّة يكشف عن عدم جريان قاعدة الطهارة في موارد العلم الإجمالي ، وحينئذ يحكم بعدم جريان قاعدة البراءة أيضا ، لعدم تعقّل الفارق ، إذ المانع من جريان قاعدة الطهارة ليس إلّا العلم الإجمالي المشترك في المنع بين القاعدتين.

ومنه يظهر الكلام في الأخبار الدالّة على غسل الثوب النجس بعضه مع اشتباهه بالباقي ، لأنّه مع خروجه من محلّ النزاع ـ كما عرفت ـ أنّ أصالة البراءة بعد غسل الثوب بمقدار يرتفع معه العلم الإجمالي غير مجدية في الحكم بصحّة الصلاة إلّا بالتقريب الذي عرفته. نعم ، قول المصنّف رحمه‌الله : «فإنّه لو جرت أصالة الطهارة وأصالة الحلّ لحلّت الطهارة والصلاة في بعض المشتبهين» لا يخلو من نظر ، لعدم استناد صحّة الصلاة إلى أصالة الحلّ أصلا ، لما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة هو الحكم بالفساد مع قطع النظر عن جريان أصالة الطهارة.

وأمّا الأخبار الدالّة على جواز بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكّاها ، ففيها أنّها

.................................................................................................

______________________________________________________

موهونة بإعراض الأصحاب عنها ، للإجماع على عدم جواز المعاوضة على الميتة كما عن التذكرة والمنتهى والتنقيح. وما وجّه به المصنّف رحمه‌الله الجواز هنا غير وجيه كما ستعرفه. مضافا إلى خروج مثال المذكّى والميتة من محلّ النزاع ، لأنّ الخلاف في المقام إنّما هو فيما كان العمل بالأصل بالمشتبهين مستلزما للمخالفة العمليّة ، وإلّا جازت المخالفة القطعيّة فيه ، لما قرّره المصنّف رحمه‌الله في غير موضع من عدم حرمة المخالفة الالتزاميّة ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في المكاسب.

ولا بأس بنقل كلامه هنا ، لعدم خلوّه من فائدة ، قال : «إنّه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة ، كذلك لا يجوز بيعها منضمّة إلى مذكّى. ولو باعها فإن كان المذكّى ممتازا صحّ البيع فيه وبطل في الميتة ، كما سيجيء في محلّه. وإن كان مشتبها بالميتة لم يجز بيعه أيضا ، لأنّه لا ينتفع به منفعة محلّلة ، بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع ، فأكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل ، كما أنّ أكل كلّ من المشتبهين في حكم أكل الميتة. ومن هنا يعلم أنّه لا فرق في المشتري بين الكافر المستحلّ للميتة وغيره. لكن في صحيحة الحلبي وحسنته : «إذا اختلط المذكّى بالميتة بيع ممّن يستحلّ الميتة». وحكي نحوهما عن كتاب عليّ بن جعفر. واستوجه العمل بهذه الأخبار في الكفاية. وهو مشكل ، مع أنّ المرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه يرمى بهما. وجوّز بعضهم البيع بقصد بيع المذكّى. وفيه : أنّ القصد لا ينفع بعد فرض عدم جواز الانتفاع بالمذكّى لأجل الاشتباه.

نعم ، لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة وجواز ارتكاب أحدهما جاز البيع بالقصد المذكور. لكن لا ينبغي القول به في المقام ، لأنّ الأصل في كلّ واحد من المشتبهين عدم التذكية ، غاية الأمر العلم الإجمالي بتذكية أحدهما ، وهو غير قادح في العمل بالأصلين. وإنّما يصحّ القول بجواز ارتكاب أحدهما في

.................................................................................................

______________________________________________________

المشتبهين إذا كان الأصل في كلّ منهما الحلّ ، وعلم إجمالا بوجود الحرام ، فقد يقال هنا بجواز ارتكاب أحدهما اتّكالا على أصالة الحلّ ، وعدم جواز ارتكاب الآخر بعد ذلك حذرا عن ارتكاب الحرام الواقعي ، وإن كان هذا الكلام مخدوشا في هذا المقام أيضا ، لكنّ القول به ممكن هنا ، بخلاف ما نحن فيه لما ذكرناه ، فافهم.

وعن العلّامة حمل الخبرين على جواز استنقاذ مال المستحلّ للميتة بذلك برضاه. وفيه : المستحلّ قد يكون ممّن لا يجوز الاستنقاذ منه إلّا بالأسباب الشرعيّة كالذمّي. ويمكن حملهما على صورة قصد البائع المسلم أجزائها التي لا تحلّها الحياة من الصوف والشعر والعظم ونحوها ، وتخصيص المشتري بالمستحلّ ، لأنّ الداعي له على الاشتراء اللحم أيضا ، ولا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد عليه» انتهى كلامه رفع مقامه.

وأمّا خبر القرعة فمورده وإن كان من محلّ النزاع ، إلّا أنّه يكفي في الإعراض عنه إعراض الأصحاب عنه. ويمكن الاعتذار عن صاحب الحدائق في تمسّكه بما تقدّم من الأخبار التي ادّعى الاستقراء بملاحظتها ، بأنّ ما أوردناه عليها مبنيّ على المداقّة في المسألة ، وإلّا فالمشهور لم يفرّقوا هنا بين الحرمة الذاتيّة والتشريعيّة وبين وجود أصل موضوعي هنا وعدمه. وحكم صاحب المدارك أو غيره بوجوب الاحتياط في الإناءين المشتبهين والثوبين المشتبهين ، مع اختياره للتخيير في مسألة الشبهة المحصورة ، ليس من جهة عدم كونهما من محلّ النزاع عندهم في الشبهة المحصورة ، بل لأجل ما ورد به فيهما من الأخبار على خلاف القاعدة التي هي التخيير عنده ، فما استقرأه من الأخبار منطبق [على](*) محلّ النزاع على ظاهر المشهور ، وحينئذ يبقى الكلام معه في صحّة دعوى حصول الظنّ بالكلّية من الأخبار المذكورة ، على ما قدّمناه.

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعني.

منها : ما ورد في الماءين المشتبهين ، خصوصا مع فتوى الأصحاب بلا خلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا. ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين. ومنها : ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة معلّلا بقوله عليه‌السلام : «حتّى يكون على يقين من طهارته». فإنّ وجوب تحصيل اليقين بالطهارة ـ على ما يستفاد من التعليل ـ يدلّ على عدم جريان أصالة الطهارة بعد العلم الإجمالي بالنجاسة ، وهو الذي بنينا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة وعدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحلّ ؛ فإنّه لو جرت أصالة الطهارة وأصالة حلّ الطهارة والصلاة في بعض المشتبهين ، لم يكن للأحكام المذكورة وجه ، ولا للتعليل في الحكم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة.

ومنها : ما دلّ على بيع الذبائح (١٤٩٩) المختلط ميتتها بمذكّاها من أهل الكتاب ؛ بناء على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة (*) بأن يقصد بيع المذكّى خاصّة أو مع ما لا تحلّه الحياة من الميتة.

وقد يستأنس له (١٥٠٠) بما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ، وهي الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه‌السلام لسؤال

______________________________________________________

١٤٩٩. بتقريب أنّه لو لم يجب الاحتياط في الشبهة المحصورة لجاز بيع الميتة المشتبهة بالمذكّى ممّن لا يستحلّ الميتة أيضا ، لأنّ المانع منه ـ كما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله في الحاشية السابقة ـ هو عدم جواز الانتفاع بها ، وهو حاصل على القول بالتخيير.

١٥٠٠. أي : لما يستفاد من أخبار كثيرة. ووجه الاستئناس ما سيشير إليه بقوله : «نعم هي دالّة ...». ووجه الدلالة : أنّه لو لم يجب الاحتياط ، وجاز التخيير فيما نحن فيه مع قطع النظر عن القرعة ، لم يحتج إلى إخراج مقدار الحرام بالقرعة التي هي طريق لتشخيص الحرام عن الحلال.

__________________

(*) في بعض النسخ : المشتبه.

يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ثمّ أرسلها في الغنم؟ حيث قال عليه‌السلام : «يقسّم الغنم نصفين ثمّ يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين ، وهكذا حتّى يبقى واحد ونجا الباقي» (٦). وهي حجّة القول بوجوب القرعة ، لكنّها لا تنهض (١٥٠١) لإثبات حكم مخالف للاصول. نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شىء منها قبل القرعة ؛ فإنّ التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعيّة واجب بالاجتناب عن الكلّ حتّى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ.

______________________________________________________

١٥٠١. لإعراض الأصحاب عنها ، لعدم القول بالقرعة هنا سوى ما حكي عن ابن طاوس ، مع أنّها لا تكافئ ما تقدّم من الأدلّة على المختار. نعم ، هي تدلّ على ما اخترناه ، كما عرفته في الحاشية السابقة. لكنّ الإنصاف أنّ دلالتها على مطلب الخصم أتمّ من الدلالة على ما اخترناه ، إذ على المختار لا بدّ من طرحها أو العمل بها في موردها ، وأمّا على القول بالتخيير فلا بدّ من حملها على الاستحباب ، فتدلّ حينئذ على مرجوحيّة الاحتياط.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على القول بالقرعة بعموماتها.

ويردّ عليه أوّلا : أنّ هذه العمومات لكثرة ورود التخصيص عليها قد سقطت عن الظهور في العموم ، ما لم ينضمّ إليها عمل الأصحاب المفقود في المقام.

وثانيا : أنّ موردها الامور المشكلة المشتبهة ، ولا إشكال في موارد الاصول.

ولا ريب في كون الشبهة المحصورة إمّا موردا لقاعدة الاشتغال على المختار ، أو لأصالة البراءة على ما اختاره جماعة ، فيختصّ موردها بما لم يكن مجرى للاصول ، أعني : موارد التخيير التي يدور الأمر فيها بين المحذورين. هكذا قيل. وفيه نظر ، لوضوح حكومة عمومات القرعة على الاصول ، فدعوى العكس ضعيفة جدّا.

وثالثا : أنّ النسبة بين أدلّة الاصول وعمومات القرعة عموم وخصوص مطلقا ، لعدم اعتبار شيء في موارد الثانية ممّا يعتبر في موارد الاولى ، من اعتبار الشكّ في التكليف في مورد البراءة والعلم به ، ثمّ الشكّ في الخروج من عهدة

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناء على حمل القرعة على الاستحباب ؛ إذ على قول المشهور لا بدّ من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها.

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه الحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغير ذلك ؛ لعموم ما تقدّم من الأدلّة. ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ؛ فإنّه ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد (١٥٠٢) ما قوّاه من عدم وجوب الاجتناب عن (*) المشتبهين ، وهو : أنّ المستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الإناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرناه.

قال مجيبا عن ذلك :

______________________________________________________

التكليف في موارد قاعدة الاشتغال ، واعتبار الحالة السابقة في موارد الاستصحاب ، فلا بدّ من تخصيصها بها ، فلا يشمل ما نحن فيه وغيره من موارد الاصول.

فإن قلت : إنّ الشبهة في التكليف خارجة من عمومات القرعة إجماعا ، وهي مشمولة لأدلّة الاصول ، فتكون النسبة بينهما عموما من وجه.

قلت : هذا الإجماع في عرض أدلّة الاصول مخصّص لتلك العمومات ، فلا وجه لفرض التخصيص به أوّلا ثمّ ملاحظة النسبة بينهما ، بل لا بدّ من التخصيص بكلّ واحد منهما في مرتبة واحدة ، كما سيجيء في مبحث التعادل والترجيح.

وفيه : أنّ النسبة إنّما تلاحظ في التقديم والترجيح في غير موارد الحكومة ، وقد عرفت حكومة تلك العمومات على أدلّة الاصول.

١٥٠٢. ظرف مستقرّ صفة لكلام صاحب المدارك ، يعني : ذكر الكلام الذي ذكره صاحب المدارك في مقام تأييد ما اختاره.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : كلا.

أوّلا : أنّه (*) من باب الشبهة الغير المحصورة. وثانيا : أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة والجزئيّات التي تحويها حقيقة واحدة إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنته تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف اتّفق (٧) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه ـ بعد منع (١٥٠٣) كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ، بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الإناء أو ظهر الإناء ، فظاهرهم الحكم بطهارة الماء أيضا ، كما يدلّ عليه تأويلهم لصحيحة علي بن جعفر (١٥٠٤) الواردة في الدم الغير المستبين في الماء بذلك ـ : أنّه لا وجه لما ذكره من اختصاص القاعدة. أمّا أوّلا : فلعموم الأدلّة المذكورة خصوصا عمدتها وهي أدلّة الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعيّة ـ كالنجس والخمر ومال الغير وغير ذلك ـ بضميمة حكم

______________________________________________________

١٥٠٣. لأنّ ما نقله صاحب المدارك عن الأصحاب يشمل صورة كون الشبهة محصورة أيضا ، فلا وجه لإطلاق القول بكونه من غير المحصورة. ولعلّ الوجه في عدم حكم الأصحاب بوجوب الاجتناب في مثال الإناء وخارجه مطلقا ـ مع ما علم من مذهبهم في مسألة الشبهة المحصورة ـ هو ما سيجيء من المصنّف رحمه‌الله من اشتراط وجوب الاحتياط فيها بكون جميع أطراف الشبهة محلّ ابتلاء للمكلّف ، والمقام ليس كذلك ، كما سيجيء في التنبيه الثالث.

١٥٠٤. عن أخيه عليه‌السلام : «عن رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس». واستدلّ بها الشيخ على طهارة ما لا يدركه الطرف من النجاسة في المبسوط ، ومن الدم خاصّة في الاستبصار. وأجيب عنها في المشهور بعدم الدلالة على إصابة الماء ، ويراد بعدم الاستبانة في الجواب عدم العلم بإصابته لا عدم إدراك الطرف. وقد عرفت في الحاشية السابقة الجواب أيضا عن صيرورة الشبهة حينئذ محصورة.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «أنّه» ، بأنّه.

العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل. وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة (١٥٠٥) لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ، ولم يعلم الفرق بين تردّد النجس بين ظاهر الإناء وباطنه أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومائع آخر ، أو بين ما يعين مختلفي الحقيقة ، وبين تردّده بين ماءين أو ثوبين أو ما يعين متّحدي الحقيقة.

نعم ، هنا شيء آخر (١٥٠٦) وهو أنّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي أو النجس الواقعي المردّد بين المشتبهين أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا لحكم واحد أم

______________________________________________________

١٥٠٥. ربّما يقال : لو فرض وجود الدليل على عدم وجوب الاجتناب ، مع عدم اندراج المشتبهين تحت حقيقة واحدة ، لا يضرّ عدم وجود الضابط في ذلك شرعا ، لأنّا لو قلنا بكون وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة لأجل قاعدة الاشتغال ، وجب الحكم بوجوب الاجتناب إلّا فيما علم بعدم الاندراج ، وإن قلنا بكونه من باب التعبّد ، وجب الحكم بعدم وجوب الاجتناب إلّا في ما علم فيه الاندراج وبالجملة ، إنّ الموارد المشكوكة الاندراج ـ نظير الأفراد الخفيّة للمطلقات ـ يعمل فيها بما تقتضيه القواعد.

ولكنّ الظاهر أنّ مقصود المصنّف رحمه‌الله أنّ اشتراط الاندراج في وجوب الاجتناب لا بدّ أن يكون عن دليل شرعي ، ومن البعيد تعليق الشارع للحكم بأمر غير منضبط أصلا. وقياسه على المطلقات قياس مع وجود الفارق ، لعدم كون العمل بها شرعيا وإن أمضى الشارع ، مع أنّ ظهور اللفظ في مقدار ما يتناوله أمر مضبوط كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد بعدم الضابط لما ذكره هو عدم الضابط له من حيث إنّ المدار في اندراج المشتبهين تحت حقيقة واحدة ، هل هو على دخولهما تحت صنف أو نوع أو جنس قريب أو بعيد أو أبعد؟ لعدم ورود نصّ في ذلك ليؤخذ بمقتضاه.

١٥٠٦. لا يبعد أن يكون هذا هو مراد صاحب الحدائق ، بأن يقال في توجيه كلامه : إنّ المراد باندراج المشتبهين تحت حقيقة واحدة اندراج كلّ واحد

.................................................................................................

______________________________________________________

منهما تحت عنوان واحد تعلّق الخطاب به على تقدير كونه هو المحرّم الواقعي ، بأن اشتبه مصداق موضوع الحكم في الخارج مع العلم بنفس الخطاب تفصيلا ، كاندراج كلّ واحد من الإنائين المشتبهين تحت قوله : اجتنب عن النجس على تقدير كونه هو النجس في الواقع ، بخلاف ما لو علم إجمالا بنجاسة ثوب مخصوص وغصبيّة أرض مخصوصة ، لأنّ الأوّل إنّما يندرج تحت عنوان النجس والآخر تحت عنوان الغصب ، ولا يجمعهما خطاب واحد مفصّل.

والوجه فيه : أنّ المتيقّن من قبح مخالفة خطابات الشارع هي مخالفة ما علم منها تفصيلا لا الخطاب المردّد بين الخطابين ، لعدم كون الأمر المردّد خطابا واقعيّا ، والفرض عدم العلم بتوجّه خصوص أحد الخطابين المحتملين إليه ، فلا داعي للاجتناب عن كلا الأمرين اللذين علم إجمالا باندراج أحدهما تحت أحد الخطابين.

وحينئذ نقول : إنّ المشتبهين إمّا أن يتساويا في الاندراج تحت عنوان موضوع خطاب تفصيلي ، كالإناءين أو الثوبين اللذين علم نجاسة أحدهما أو كونه مغصوبا ، ولا إشكال في وجوب الاحتياط فيه.

وإمّا أن يتساويا كذلك لكن اختلف تعلّق الخطاب بهما ، كما إذا علم بنجاسة واحد من الإناء والأرض ، لأنّهما وإن تساويا في الاندراج تحت عنوان النجاسة ، إلّا أنّ تعلّق الخطاب بالأوّل من حيث حرمة التيمّم أو السجدة على الأرض النجسة ، وبالثاني من حيث حرمة الشرب أو التوضّؤ منه. ومن هذا القسم ما ذكره صاحب المدارك من مثال الإناء وخارجه ، فإنّ تعلّق خطاب وجوب الاجتناب عن النجس بالإناء من حيث حرمة الشرب والتوضّؤ به ، وبخارجه باعتبار حرمة التيمّم والسجدة عليه وهذا القسم من جهة تساوي اندراج المشتبهين فيه تحت عنوان واحد تعلّق به خطاب تفصيلي ـ وهو قوله : اجتنب عن النجس ـ يجب الاجتناب عنه ، ومن جهة انحلال الخطاب التفصيلي الذي فرض اختلاف تعلّقه بهما على خطابين مردّدين ـ على ما عرفت ـ لا يجب الاجتناب

لا؟ مثلا إذا كان أحد المشتبهين ثوبا والآخر مسجدا ؛ حيث إنّ المحرّم في أحدهما اللبس وفي الآخر السجدة ، فليس هنا خطاب جامع للنجس الواقعي ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : «لا تلبس النجس في الصلاة» و «لا تسجد على النجس».

وأولى من ذلك بالإشكال ما لو كان المحرّم على كلّ تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا وكون الآخر مال الغير ؛ لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل تحت خطاب «الاجتناب عن النجس» بخلاف الثاني. وأولى من ذلك ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبيّة أو كون هذا المائع خمرا.

وتوهّم إدراج ذلك كلّه في وجوب الاجتناب عن الحرام ، مدفوع بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلّقة بالعناوين الواقعيّة ، فالاعتبار بها لا به ، كما لا يخفى.

والأقوى أنّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ، ولا فرق عقلا وعرفا في مخالفة نواهي الشارع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه وبين العلم الإجمالي بمخالفة أحد النهيين ؛ ألا ترى أنّه لو ارتكب مائعا واحدا يعلم أنّه مال الغير أو نجس ، لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه ، فكذا حال من ارتكب النظر إلى المرأة وشرب المائع في المثال الأخير.

______________________________________________________

عنه ، ومن هنا كان وجوب الاحتياط في الأوّل أولى من هذا القسم.

وإمّا أن يختلفا في ما ذكرناه مع اتّحاد عنوان نفس المشتبهين ، كما إذا علم بنجاسة أحد ما يعين أو غصبيّة الآخر ، لأنّ عنوان المشتبهين فيه ـ وهو كونه مائعا ـ وإن كان متّحدا ، إلّا أنّ اندراج أحدهما تحت عنوان موضوع الخطاب الواقعي باعتبار كونه نجسا والآخر باعتبار كونه غصبا ، والحكم بوجوب الاجتناب في سابقه أولى من هذا القسم ، لكون اعتبار الخطاب الجامع التفصيلي ـ الذي هو مناط الموافقة والمخالفة ـ لأجل اتّحاد عنوان موضوع الخطابين المحتملين هناك أقرب

والحاصل : أنّ النواهي الشرعيّة بعد الاطّلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور ، فكما تقدّم أنّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعيّ واحد كالخمر مع الإذن في ارتكاب المائعين المردّد بينهما الخمر ، فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الإذن في ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما.

وأمّا الموافقة القطعيّة فالأقوى ايضا وجوبها ؛ لعدم جريان أدلّة الحلّية ولا أدلّة البراءة (١٥٠٧) عقليّها ونقليّها. أمّا النقليّة فلما تقدّم من استوائها بالنسبة إلى كلّ

______________________________________________________

من اعتباره هنا ، إذ لا جامع بين موضوع الخطابين المحتملين هنا حتّى ينتزع منهما خطاب تفصيلي ، ويقال بتساوي المشتبهين في الاندراج تحت موضوعه الكلّي ، إلّا اتّصاف موضوع كلّ منهما على تقدير تحقّقه في الواقع بكونه حراما ، فينتزع منهما هنا أيضا بملاحظة اشتراك عنوان المشتبهين في كونه مائعا خطاب تفصيلي ، وهو وجوب الاجتناب عن مائع حرام.

وإمّا أن يختلفا في ما ذكرنا وفي عنوان أنفسهما ، كما إذا تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبيّة أو كون هذا المائع خمرا ، إذ لا جامع هنا إلّا باعتبار وجوب الاجتناب عن الحرام ، ولذا كان وجوب الاحتياط في سابقيه أولى من هذا القسم. وبالجملة إنّك حيث قد عرفت كون المدار في الإطاعة والمخالفة على الخطابات التفصيليّة ، وكان الخطاب التفصيلي في ما عدا القسم الأوّل اعتباريّا ، وكان اعتبار جامع بين المشتبهين يكون موضوعا للخطاب المنتزع مختلفا في القرب والبعد ، لاشتمال كلّ سابق على جامع لاحقه ، مع اختصاصه لما لم يشتمل عليه لاحقه ، أو لاشتماله على ما هو أقوى من جامع لاحقه ، كما يظهر بالتأمّل في ما قدّمناه ، كان وجوب الاحتياط في كلّ سابق أولى من لاحقه ، وفي كلّ لاحق أشكل من سابقه. وممّا ذكرناه يتّضح الوجه في ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الفرق بين الأقسام المذكورة غاية الوضوح. وكيف كان ، فما قوّاه المصنّف رحمه‌الله هو الأقوى.

١٥٠٧. المراد بالاولى أدلّة أصالة الإباحة المختصّة بالشبهة في التحريم ، و

من المشتبهين ، وإبقائهما (١٥٠٨) يوجب التنافي مع أدلّة تحريم العناوين الواقعيّة ، وإبقاء واحد على سبيل البدل غير جائز ؛ إذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم.

وأمّا العقل ؛ فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام المردّد بين الأمرين ، بل الظاهر استقلال العقل في المقام بعد عدم القبح المذكور بوجوب دفع الضرر ، أعني العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما.

وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فإمّا أن تجوّز الاولى وإمّا أن تمنع الثانية.

الثاني : أنّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي ؛ فلا مؤاخذة إلّا على تقدير الوقوع في الحرام ، أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث إنّه مشتبه ؛ فيستحقّ المؤاخذة بارتكاب أحدهما ولو لم يصادف الحرام ، ولو ارتكبهما استحقّ عقابين (١٥٠٩)؟

______________________________________________________

بالثانية أدلّة البراءة. ويحتمل أن يريد بالاولى ما اختصّ بالشبهة في التحريم من أدلّة البراءة ، مثل قوله : عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» وقوله : عليه‌السلام «وكلّ شيء لك حلال». وبالثانية عموماتها ، مثل قوله : عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد». ومثل حديث الرفع ونحوهما.

١٥٠٨. يعني : تحت ما تقدّم من الأدلّة.

١٥٠٩. فإن قلت : يمكن أن يقال بتثليث العقاب على تقدير ارتكاب المشتبهين ، وبترتّب عقابين على ارتكاب أحدهما مع مصادفته للواقع ، لأنّ الحرام الواقعي بعنوانه الخاصّ موضوع ، والمشتبهين بوصف الاشتباه فيهما موضوعان آخران ، والفرض كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع بحيث يترتّب العقاب على مخالفته من حيث هو ، وكذا المشتبهان بوصف الاشتباه فيهما محكومان بالحرمة شرعا بحيث يترتّب العقاب على ارتكاب كلّ منهما. والقول بتداخل عقاب الظاهر

فيه وجهان بل قولان ، أقواهما الأوّل ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر ـ بمعنى العقاب المحتمل بل المقطوع ـ حكم إرشادي ، وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله : «تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا» ، لم يكن إلّا إرشاديّا ، ولم يترتّب على موافقته ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ، كما هو شأن الطلب الإرشادي.

______________________________________________________

والواقع في المصادف للواقع لا وجه له ، نظير ما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في مسألة التجرّي ـ على القول بحرمته ـ في مقام الردّ على صاحب الفصول. ويمكن أن يقال باتّحاد العقاب على تقدير ارتكاب كلا المشتبهين ، وإن قلنا بحرمتهما شرعا ، بناء على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله ـ في آخر هذا المقصد عند بيان شرائط العمل بأصالة البراءة ـ من عدم ترتّب العقاب على مخالفة الأحكام الظاهريّة ، فما وجه عدم تعرّض المصنّف رحمه‌الله لهذين الوجهين في المقام؟

قلت : لعلّ الوجه فيه أنّ كلّ من جعل وجوب الاجتناب عن المشتبهين عقليّا قد جعل حكم العقل حينئذ إرشاديّا ، فلا وجه حينئذ للقول باثنينيّة العقاب فضلا عن تثليثه ، كما يظهر ممّا ذكره في وجه ما قوّاه. وكلّ من جعله شرعيّا جعل كلّ واحد من المشتبهين موضوعا مستقلّا محلّا للثواب والعقاب. وبعبارة اخرى : أنّ من قال بكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع ، وبوجوب دفع الضرر المحتمل الّذي هو من باب الإرشاد ، قال باتّحاد العقاب هنا ، وحمل الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط على إمضاء حكم العقل. ومن لم يقل بكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع ، وقال بوجوب الاحتياط هنا من باب الأخبار ، التزم باثنينيّة العقاب. وعلى كلّ تقدير لا وجه لتثليث العقاب هنا.

نعم ، من لم يلتزم بترتّب العقاب على الأحكام الظاهريّة فلا بدّ له من القول باتّحاد العقاب ، وإن قلنا بكون وجوب الاجتناب عن المشتبهين شرعيّا أيضا ، إلّا أنّ التزام المصنّف رحمه‌الله هنا باثنينيّة العقاب على القول بوجوب اجتنابهما شرعا مبنيّ

وإلى هذا المعنى أشار (١٥١٠) صلوات الله عليه بقوله : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» وقوله : «من ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم». ومن هنا ظهر : أنّه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب الاجتناب إلى حكم العقل وبين الاستناد فيه إلى حكم الشرع بوجوب الاحتياط. وأمّا حكمهم بوجوب دفع الضرر (١٥١١) المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه

______________________________________________________

على ظاهر المشهور لا على مختاره.

١٥١٠. لأنّ الأمر بالترك وإن كان ظاهرا في الطلب الشرعيّ ، إلّا أنّ تعليله بقوله : «حذرا عمّا به البأس» قرينة لصرفه عن ظاهره.

١٥١١. هذا تصريح من المصنّف رحمه‌الله بعدم الفرق في ما نحن فيه بين كون كلّ من المشتبهين مشكوكا ، وكون أحدهما مظنونا بظنّ غير معتبر. ودفع لتوهّم أنّه إذا لم يترتّب العقاب على مخالفة القطع بالضرر مع عدم المصادفة فمع الظنّ به كذلك بطريق أولى ، وهو خلاف ما حكموا به في الضرر الدنيوي المظنون.

وتحقيقه أنّ ارتكاب الضرر الدنيوي قد حكم الشارع بحرمته بنفسه ، وجعل مطلق الظنّ طريقا إليه ، صادف الواقع أم لا ، كسائر الظنون الخاصّة المتعلّقة بالأحكام الواقعيّة أو الموضوعات كذلك. ولا ريب أنّ اعتبار الطرق الشرعيّة ليس من باب مجرّد الكشف عن الواقع حتّى يكون مدار الموافقة والمخالفة على نفس الواقع ، بل لأجل مصلحة في سلوكها يتدارك بها مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها له ، وإلّا فتفويت الواقع من الشارع على المكلّف مع تمكّنه من تحصيله بالعلم ـ كما هو الفرض من اعتبار الطرق الشرعيّة مطلقا حتّى مع التمكّن من العلم ـ قبيح جدّا. وحينئذ لا بدّ أن يكون مدار الموافقة والمخالفة مع فقد العلم على مؤدّيات الطرق الظاهريّة. وقد حرّر تحقيق ذلك في مقام آخر.

هذا بخلاف الظنّ غير المعتبر في ما نحن فيه ، إذ الفرض أنّه لا دليل عليه شرعا حتّى يستكشف به عن وجود المصلحة فيه مطلقا ، سواء طابق الواقع أم لا ، و

وإن لم يصادف الواقع ، فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ الضرر الدنيويّ ارتكابه مع العلم حرام شرعا ، والمفروض أنّ الظنّ في باب الضرر طريق شرعيّ إليه ، فالمقدم مع الظن كالمقدم مع القطع مستحقّ للعقاب ، كما لو ظنّ سائر المحرّمات بالظنّ المعتبر.

______________________________________________________

لا دليل آخر أيضا على كون مدار الموافقة والمخالفة على مؤدّاه. بل لو فرض حكم العقل باعتباره لأجل دليل الانسداد ، لا يترتّب عليه أيضا أثر سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، لكون اعتباره حينئذ كالقطع من باب مجرّد الكشف والإرشاد. وغاية الفرق بين الظنّ غير المعتبر والظنّ المعتبر بدليل الانسداد هو عدم وجوب الالتزام به شرعا ، بل حرمته تشريعا على الأوّل ، بخلافه على الثاني ، فيعذر مع مخالفة عمله للواقع على الأوّل دون الثاني. ومن هنا يظهر الوجه في عدم ترتّب أثر على الظنّ المتعلّق بأحد المشتبهين مع عدم المصادفة في ما نحن فيه. وكذا الوجه في الفرق بين القطع بالعقاب والظنّ بالضرر الدنيوي.

وهذا غاية توضيح المقام. وهو مع الغضّ عن كون اعتبار الظن بالضرر الدنيوي من باب الشرع أو العقل لا يخلو من نظر.

أمّا أوّلا : فإنّ الالتزام بوجود المصلحة في الطرق الظاهريّة مستلزم للقول بالإجزاء ، والظاهر أنّ المصنّف رحمه‌الله لا يقول به. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ وجود المصلحة فيها مقيّد بعدم انكشاف خلافها ، لأنّ مجرّد احتمال ذلك يكفي في منع القول بالإجزاء ، كما قرّرناه في مسألة الإجزاء.

وأمّا ثانيا : فإنّه مستلزم للقول بترتّب العقاب على مخالفة الطرق الظاهريّة على تقدير عدم مصادفتها للواقع ، وقد أشرنا عند شرح قوله : «استحقّ عقابين» إلى أنّ المصنّف رحمه‌الله لا يقول بذلك.

وأمّا ثالثا : فإنّه لم يفرّق في مسألة التجرّي بين الضرر الدنيويّ المظنون وغيره ، في عدم ترتّب العقاب على مخالفته على تقدير عدم مصادفته للواقع ، بل استدلّ على القول بحرمته بقوله : «لا خلاف بينهم ظاهرا في أنّ سلوك الطريق

نعم ، لو شكّ في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الإباحة وعدم الضرر ؛ لعدم استحالة (١٥١٢) ترخيص الشارع في الإقدام على الضرر الدنيوي المقطوع إذا كان في الترخيص مصلحة اخرويّة ، فيجوز ترخيصه في الإقدام على المحتمل لمصلحة ولو كانت تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الإقدام على إرادته. وهذا بخلاف الضرر الاخروي ؛ فإنّه على تقدير ثبوته واقعا يقبح من الشارع الترخيص فيه. نعم ، وجوب دفعه عقلي ولو مع الشكّ ، لكن لا يترتّب على ترك دفعه إلّا نفسه على تقدير ثبوته واقعا حتّى أنّه لو قطع به ثمّ لم يدفعه واتّفق عدمه واقعا لم يعاقب عليه إلّا من باب التجرّي ، وقد تقدّم في المقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجّية القطع الكلام فيه ، وسيجيء أيضا.

______________________________________________________

المظنون الخطر أو مقطوعه معصية ، يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه» انتهى. ولم يجب عنه إلّا بمنع الاتّفاق.

١٥١٢. فيه إشارة إلى دفع ما ربّما يتوهّم من أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي متفرّع على وجود الضرر ولو على سبيل الاحتمال ، وحكمه بأصالة البراءة في المقام مبنيّ على عدم هذا الضرر يقينا ، لأنّ الفرض أنّ احتمال التكليف هنا مسبّب عن احتمال الضرر ، ولا مسرح له لدفع احتمال المضارّ الدنيويّة ، وحينئذ تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل جارية من دون معارضته بقاعدة البراءة.

نعم ، لو كان الضرر اخرويّا استقلّ العقل بدفعه ، لقبح العقاب وما في معناه بلا بيان ، وحينئذ تكون قاعدة البراءة حاكمة عليها. ووجه الدفع : أنّ العقل وإن لم يستقلّ بدفع احتمال المضارّ الدنيويّة ، إلّا أنّ احتمالها لمّا كان مستلزما لاحتمال العقاب الاخروي فالعقل يستقلّ أنّه لو كان هنا ضرر فلا بدّ للشارع من جبره بمصلحة اخرى ، إذ لولاه لزمت المؤاخذة مع جهل المكلّف بموضوع الضرر ، وهو قبيح ، وقد صرّح المصنّف بقبح العقاب من دون علم المكلّف به مع كون الشبهة موضوعيّة في مسألة الشبهة التحريميّة الموضوعيّة. وإن شئت قلت : إنّ الشارع قد

فإن قلت : قد ذكر العدليّة في الاستدلال على وجوب شكر المنعم بأنّ في تركه احتمال المضرّة ، وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه : استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه (١٥١٣) دعوة نبيّ زمانه ، فيدلّ ذلك على استحقاق العقاب (١٥١٤) بمجرّد ترك (*) دفع الضرر الاخروي المحتمل. قلت : حكمهم باستحقاق

______________________________________________________

رخّص في الارتكاب بمقتضى عموم أخبار البراءة ، فلو لا جبره للضرر المحتمل بمصلحة اخرى لزم إذنه في الدخول فيه من دون جبره بشيء ، وهو قبيح. ولعلّ هذا مراد المصنّف رحمه‌الله كما يظهر من تلك المسألة.

نعم ، لمّا كان العقاب الاخروي غير منجبر بمصلحة أصلا ، فالترخيص في مورد احتماله لا يكون إلّا بعد ارتفاع نفس هذا الضرر ، فالترخيص في مورده حينئذ إن ثبت على سبيل القطع فهو يكشف عن عدم العقاب قطعا ، وإن ثبت ظنّا كشف عن عدمه كذلك.

ثمّ إنّ المصلحة الجابرة لا بدّ أن تكون موازنة للمفسدة المجبورة ، وإلّا لزم تفويت مقدار التفاوت من دون جبره بشيء. ولعلّ مصلحة تسهيل الأمر من هذا القبيل في الجملة ، لعدم بلوغها على إطلاقها حدّ الإلزام إلّا في موارد يلزم من عدم الرخصة فيها في الفعل اختلال النظم أو العسر المنفي شرعا ، فتدبّر.

١٥١٣. أي : لم تثبت عنده نبوّة مدّعيها ، سواء لم تبلغه دعوته أو بلغته ولم تثبت عنده ، كما يشير إليه قوله في الجواب : «مع عدم العلم به من طريق شرعيّ».

١٥١٤. سواء صادف الواقع أم لا ، فلا يتمّ ما تقدّم من عدم العقاب مع عدم المصادفة. وحاصل ما أجاب به أنّ حكمهم بترتّب العقاب على المخالفة إنّما هو لأجل العلم بالمصادفة في خصوص المقام ، لا لأجل مخالفة ما حكم به العقل مطلقا. وذلك لأنّ تشريع الأحكام ، ووجود نبيّ في كلّ زمان ، ووجوب الشكر لكلّ واحد من الأنام ، لمّا كان ثابتا عندهم فأطلقوا القول بعقاب تارك الفحص ، وغرضهم أنّ أثر حكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل إنّما يظهر في

__________________

(*) في بعض النسخ : كلمة «ترك» زائدة.

العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر في تركه (*) لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ؛ فإنّ الشكر لمّا علمنا بوجوبه عند الشارع وترتّب العقاب على تركه ، فإذا احتمل العاقل العقاب على تركه ، فإن قلنا بحكومة العقل في مسألة «دفع الضرر المحتمل» صحّ عقاب تارك الشكر من أجل إتمام الحجّة عليه بمخالفة عقله ، وإلّا فلا ، فغرضهم : أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل إنّما يظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع ، لا أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ، وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريميّة شطر من الكلام في ذلك. وقد يتمسّك لإثبات الحرمة في المقام بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلا ، فيحرم شرعا.

وقد تقدّم في فروع حجّية العلم الكلام على حرمة التجرّي (١٥١٥) حتّى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع ، كما أفتى به في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر وانكشف بقاء الوقت ، وإن تردّد في النهاية.

وأضعف من ذلك التمسّك بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على الاحتياط ، لما تقدّم من أنّ الظاهر من مادّة «الاحتياط» التحرّز عن الوقوع في الحرام ، كما يوضح ذلك النبويّان

______________________________________________________

الضرر الثابت شرعا ، لعدم المانع حينئذ من ترتّبه على المخالفة بمجرّد احتماله ، لإتمام الحجّة حينئذ بحكم العقل بوجوب الدفع ، لا أنّ العقاب يترتّب على المخالفة على كلّ تقدير وإن لم يكن ثابتا في الواقع أيضا.

فإن قلت : إنّ هذا ينافي قضيّة قبح العقاب بلا بيان.

قلت : إنّ حكم العقل بهذا إنّما هو في ما أمكن فيه البيان من الشارع ، والبيان في مسألة النبوّة غير ممكن للشارع ، لأنّ تصديق قوله يتوقّف على تصديق نبوّته ، فلو صدّقنا نبوّته أيضا بقوله لزم الدور.

١٥١٥. لفظ «على» هنا للضرر. قوله : «كما أفتى به» الضمير المجرور عائد إلى عدم الحرمة المستفاد من قوله : «الكلام على حرمة ...».

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بمجرّد احتمال الضرر فى تركه» ، بمجرّد ترك دفع الضرر فى تركه.

السابقان (١٥١٦) ، وقولهم صلوات الله عليهم : «إنّ الوقوف عند الشبهة أولى من الاقتحام في الهلكة».

الثالث : أنّ وجوب الاجتناب (١٥١٧) عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي على كلّ تقدير ، بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف بالاجتناب منجّزا ، فلو لم يكن كذلك بأن لم يكلّف به أصلا ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد إناءين أحدهما بول أو متنجّس بالبول أو

______________________________________________________

١٥١٦. من حديث التثليث والمرسل في السرائر : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس».

١٥١٧. اعلم أنّ هذه المسألة ـ أعني : اشتراط كون طرفي العلم الإجمالي محلّ ابتلاء للمكلّف في وجوب الاجتناب عنهما ـ من خواصّ هذا الكتاب ، ولم يسبق إلى المصنّف رحمه‌الله في ذلك أحد فيما أعلم. ومرجعه إلى اشتراط كون كلّ من المشتبهين بحيث لو علم تفصيلا بكونه هو الحرام الواقعي المعلوم إجمالا تنجّز التكليف بالاجتناب عنه فعلا. ولو لم يكن كلاهما أو أحدهما كذلك لم يجب الاجتناب ، إذ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة إنّما هو من باب المقدّمة العلميّة للاجتناب عن الحرام الواقعي ، لابتنائه على مقدّمتين : إحداهما : تنجّز التكليف بالواقع ، والاخرى : وجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ لو لم يجب ذلك لم يثبت وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين. وكذا لو لم يعلم بوجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعي فعلا لم يبق مقتض لوجوب الاجتناب عن مقدّمته العلميّة ، لوضوح عدم كفاية العلم إجمالا بالحرمة الواقعيّة مطلقا في ذلك ، إذ الباعث على حكم العقل هو العلم بتوجّه خطاب متعقّب للعقاب على المخالفة لو اتّفقت بارتكاب أحد المشتبهين ، فمع عدم العلم به لا يبقى مقتض للاجتناب ، بل رجع الشكّ في التكليف الحادث إلى الشكّ البدوي. وحينئذ يخرج من قاعدة وجوب الاجتناب أمران :

أحدهما : ما لم يكن العلم الإجمالي فيه مؤثّرا في إحداث تكليف جديد ، كما

كثير لا ينفعل بالنجاسة أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه ، لم يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ؛ إذ لو كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلا ، فالشكّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكّ في أصل التكليف لا المكلّف به.

وكذا لو كان التكليف في أحدهما معلوما (١٥١٨) لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقا على تمكّن المكلّف منه ، فإنّ ما لا يتمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ، كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الشكّ في أصل تنجّز التكليف لا في المكلّف به تكليفا منجّزا.

وكذا لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكنا عقلا ، لكن المكلّف أجنبيّ عنه وغير مبتل به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النجس بين إنائه وإناء آخر لا دخل للمكلّف فيه أصلا ؛ فإنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكّن عقلا غير منجّز عرفا ؛ ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به ، نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتّفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو تملّك أو إباحة فاجتنب عنه.

______________________________________________________

إذا علم بنجاسة أحد الإنائين تفصيلا ، ثمّ علم إجمالا بملاقاة أحدهما للنجاسة ، إذ الحادث بسبب العلم الإجمالي حينئذ هو الشكّ في عروض النجاسة لمعلوم الطهارة ، لفرض العلم بنجاسة الآخر تفصيلا ، وعدم تأثير ملاقاة النجس للنجس في شيء.

وثانيهما : ما كان العلم الإجمالي فيه سببا لحدوث تكليف مشروط تنجّزه إمّا بالقدرة ، كما إذا كان أحد المشتبهين غير مقدور للمكلّف ، وإمّا بابتلائه كما إذا كان أحدهما خارجا من محلّ ابتلائه ، مثل ما لو علم بنجاسة ثوبه أو ثوب بنت قيصر ، لعدم صحّة التكليف في أمثالهما إلا مشروطا بالقدرة أو الابتلاء ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

١٥١٨. إذا علم بكونه الحرام الواقعي.

والحاصل أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك مختصّة بحكم العقل والعرف بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّ عنها ، ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا إلّا على وجه التقييد بصورة الابتلاء. ولعلّ السرّ في ذلك : أنّ غير المبتلي تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

وهذا باب واسع ينحلّ به الإشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع ، مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض لا يبتلي به المكلّف عادة أو بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فإنّ الثوبين لكلّ منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما ، فإذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره ؛ إذ لا يترتّب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتّبها مع العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجّز بالأمر المعلوم إجمالا.

ألا ترى أنّ زوجة شخص لو شكّت في أنّها هي المطلّقة أو غيرها من ضرّاتها جاز لها ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ، ولو شكّ الزوج هذا الشكّ لم يجز له النظر إلى إحداهما ؛ وليس ذلك إلّا لأنّ أصالة عدم تطليقة كلّا منهما متعارضان في حقّ الزوج بخلاف الزوجة ؛ فإنّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا تثمر لها ثمرة عمليّة. نعم ، لو اتّفق ترتّب تكليف على زوجيّة (١٥١٩) ضرّتها دخلت في الشبهة المحصورة ، ومثل ذلك كثير في الغاية (١٥٢٠).

وممّا ذكرنا يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك رحمه‌الله من الاستنهاض على ما اختاره من عدم وجوب الاجتناب (*) في الشبهة المحصورة بما يستفاد من الأصحاب

______________________________________________________

١٥١٩. كما إذا اشترت من النفقة التي أخذت ضرّتها من زوجها.

١٥٢٠. منها مسألة واجدي المني في الثوب المشترك ، إذ يجوز لكلّ منهما الصلاة ودخول المساجد ومسّ كتابة القرآن بعد الوضوء ، وغير ذلك ممّا لا يجوز

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الاجتناب» ، الاحتياط.

من عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ؛ إذ لا يخفى أنّ خارج الإناء ـ سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ـ ليس ممّا يبتلي به المكلّف عادة ، ولو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا بوجوب الاجتناب عنهما ؛ للعلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس وحرمة السجدة على الأرض النجسة.

ويؤيّد ما ذكرنا (١٥٢١) صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام ، الواردة فيمن رعف فامتخط (١٥٢٢) فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا بيّنا فلا» (٨). حيث استدلّ به الشيخ قدس‌سره على العفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم ، وحملها المشهور على أنّ إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء ، فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شىء في الماء يحكم بطهارته ، ومعلوم أنّ ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة. وما ذكرنا واضح لمن تدبّر ، إلّا أنّ الإنصاف (١٥٢٣) أنّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين وعدم الابتلاء بواحد معيّن منهما كثيرا ما يخفى.

______________________________________________________

للجنب ارتكابه ، استصحابا للطهارة. نعم ، لا يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر ، بناء على كون المدار في صحّة الاقتداء على الصحّة عند المأموم دون الإمام.

١٥٢١. لأنّ حمل المشهور للصحيحة على صورة كون الشبهة محصورة ، مع قولهم فيها بوجوب الاحتياط ، لا يتمّ إلّا على اشتراط وجوب الاجتناب عندهم بكون كلّ من طرفي الشبهة محلّ ابتلاء للمكلّف ، وعلى كون مورد الصحيحة ممّا خرج أحد طرفي الشبهة فيها من محلّ الابتلاء.

١٥٢٢. قال الطريحي : «المخاط بضمّ الميم ما يسيل من أنف الحيوان من الماء ، امتخط رمى به من أنفه».

١٥٢٣. هذا بيان لميزان العمل في موارد الشكّ في الابتلاء وعدمه ، بعد بيان اشتراط وجوب الاجتناب به. وتحقيق المقام يتوقّف على بيان مقدّمة ، وهي أنّ عموم التكليف إذا ثبت إمّا أن يثبت بدليل لبّي كالإجماع ونحوه ، وإمّا بدليل لفظي. وعلى الثاني : إمّا أن يكون اللفظ مجملا ، كالصلاة على القول بكون ألفاظ

.................................................................................................

______________________________________________________

العبادات موضوعة للصحيحة ، وإمّا أن يكون مبيّنا. وعلى جميع التقادير : إذا ورد له مقيّد فهو أيضا إمّا أن يثبت بدليل لبّي ، أو لفظي مجمل أو مبيّن. فهنا صور :

إحداها : أن يكون كلّ من إطلاق الحكم والمقيّد له ثابتا بدليل لبّي أو لفظي مجمل. وحينئذ إذا شكّ في اندراج بعض الأفراد تحت أحدهما ، فلا بدّ فيه من العمل بمقتضى الاصول إذا لم يستلزم المخالفة العمليّة للحكم المعلوم إجمالا ، وإلّا يحكم فيه بالاحتياط أو التخيير.

الثانية : أن يكون كلّ منهما ثابتا بدليل لفظي مبيّن. وحينئذ إمّا أن يكون كلّ منهما مبيّنا بالنسبة إلى جميع أفرادهما ، أو يكون لكلّ منهما أو لأحدهما أفراد مشكوكة. ولا إشكال في بناء العامّ على الخاصّ مطلقا على الأوّل. وأمّا الثاني فهو كالصورة الاولى مع اتّحاد إجمالهما بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة. وأمّا الثالث فيرفع إجمال المجمل منهما بالمبيّن منهما ، بمعنى الحكم بدخول الفرد المشكوك فيه تحت المبيّن منهما.

ومنه يظهر حكم الصورة الثالثة ، وهي أن يثبت حكم العامّ بدليل لفظي مبيّن ، والخاصّ بدليل لبّي أو لفظي مجمل ، لأنّه حينئذ إن كان لمدلول الخاصّ قدر متيقّن يحكم بدخول الفرد المشكوك فيه تحت المبيّن منهما ، ويجعل المبيّن منهما معيّنا للمراد بالمجمل. فإذا ورد قوله : أكرم العلماء ، وثبت بدليل لبّي أو لفظي مجمل وجوب إهانة الفسّاق ، وعلمنا بدليل خارج بدخول الفاسق بالجوارح في المراد ، وشكّ في دخول الفاسق بالعقيدة فيه ، يحكم بعموم العامّ بكون المراد بالفاسق هو الأوّل خاصّة. نعم ، إن لم يكن لمدلوله متيقّن أصلا ، كما إذا ورد قوله : أكرم العلماء ، وانعقد الإجماع على وجوب إهانة بعض النحاة ، يحكم بإجمال العامّ بمقدار مدلول الخاصّ ، ويرجع في مورد الإجمال إلى الاصول.

الرابعة : عكس سابقتها ، بأن يثبت الحكم العامّ بدليل لبّي أو لفظي مجمل ، والخاصّ بإطلاق دليل لفظي مبيّن ، فيجعل الثاني مبيّنا للمراد بالأوّل ، بإدخال الفرد

.................................................................................................

______________________________________________________

المشكوك فيه تحته.

هذا كلّه إذا كانت الشبهة في الفرد المشكوك فيه حكميّة ، وإن كانت مصداقيّة يعمل فيها بما عرفته في الصورة الاولى إذا كان الدليلان لبيّين أو لفظيّين مجملين. وكذا مع كون أحدهما لفظيّا مبيّنا والآخر لبّيا أو لفظيّا مجملا ، كما إذا ورد قوله : أكرم العلماء وثبت بالإجماع أيضا وجوب إهانة الفسّاق ، وشكّ في كون رجل عادلا عالما أو فاسقا جاهلا. وكذلك لو كانا لفظيّين مبيّنين ، كالمثال المذكور إذا ثبت الخاصّ بدليل لفظي مبيّن ، لما تقرّر في محلّه ـ وصرّح به المصنّف رحمه‌الله أيضا في مبحث الاستصحاب ـ من إجمال العمومات والمطلقات بالنسبة إلى المصاديق المشتبهة. نعم ، لو اشتبه مصداق أحدهما مع شمول عنوان موضوع الآخر له ، كما إذا فرض الشكّ في المثال في كون عالم فاسقا أو عادلا ، يحكم بعموم العامّ حينئذ بدخول الفرد المشكوك فيه تحته وخروجه من تحت عنوان الخاصّ ، كما هو مقرّر في محلّه.

وإذا عرفت هذا نقول : إنّه لا ريب أنّ اشتراط تنجّز التكاليف بالابتلاء لم يرد فيه نصّ من الكتاب والسنة ، وإنّما استفيد ذلك من عدم حسن التكليف الفعلي بدونه عند العقلاء. ومنه يظهر عدم صحّة فرض الشبهة في الابتلاء وعدمه في الموارد التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله مفهوميّة ، لأنّه فرع ورود دليل لفظي فيه ، وقد عرفت أنّه ليس في الأدلّة اللفظيّة منه عين ولا أثر ، فلا بدّ أن تكون الشبهة فيه موضوعيّة ، لأنّ مرجع الشبهة في موارد الشكّ في تحقّق الابتلاء وعدمه إلى الشكّ في تحقّق موضوعه ، من جهة الجهل بحال أهل العرف من حيث تحسينهم للتكليف الفعلي فيها وعدمه.

وممّا ذكرناه يظهر محلّ النظر في كلامه. أمّا أوّلا فإنّ إطلاق ما قرّره أوّلا من الرجوع إلى أصالة البراءة في موارد الشكّ ، وكذا إطلاق ما قرّره ثانيا من الرجوع إلى إطلاق دليل الحرمة الواقعيّة ، لا يخلو من نظر بل منع ، لأنّ الرجوع إلى

.................................................................................................

______________________________________________________

البراءة إنّما يصحّ إن لم يكن هنا إطلاق لفظي كما هو واضح. ومن هنا يظهر أنّ التعبير بالأولويّة بقوله : «إلّا أنّ هذا ليس بأولى ...» لا يخلو من شيء ، لأنّ الرجوع إلى إطلاق الأدلّة في موارد وجوده متعيّن ليس على وجه الأولويّة (*). وكذا الرجوع إلى إطلاق الدليل إنّما يتمّ في موارد وجود دليل لفظي ، وقد عرفت أنّ الحكم قد يثبت بدليل لبّي أو لفظي مجمل ، فلا معنى للرجوع إلى الإطلاق في مثله ، لأنّ المتعيّن في مثله الرجوع إلى الاصول.

وأمّا ثانيا فإنّه ربّما يظهر من قوله : «لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه» كون الشبهة في مصداق الابتلاء في ما نحن فيه ناشئة من الشبهة في مفهومه ، وقد عرفت ضعفه ، لعدم ورود لفظ الابتلاء وعدمه في الكتاب والسنة أوّلا ، وعدم جواز الرجوع إلى أصالة الإطلاق وعدم التقييد في ما كانت الشبهة في تحقّق مصداق القيد ـ على تقدير تسليم وروده في الكتاب والسنّة ـ ثانيا ، لأنّ الرجوع إلى الإطلاقات إنّما يصحّ في ما كان الشكّ في أصل التقييد أو مقداره لا في تحقّق مصداقه كما في ما نحن فيه ، إذ المتعيّن فيه الرجوع إلى أصالة عدم تحقّقه.

ولعلّ مراده بقوله : «لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه» كون الشبهة في مصداق الابتلاء ناشئة من الشبهة في الأمر المركوز في نظر العقلاء الذي علّق عليه تنجّز التكاليف ، وإن كانت العبارة قاصرة عن إفادته.

وحاصله : أنّ الابتلاء الذي علّق عليه تنجّز التكاليف أمر مركوز في نظر العقلاء ، وقد علمنا تحقّقه في بعض الموارد وعدمه في آخر وشككنا في تحقّقه في ثالث ، إلّا أنّ الشكّ في تحقّقه فيه ناش من عدم ضبط الأمر المركوز كمّا ، لا من اختلاط بعض الامور الخارجة ، كما هو الشأن في سائر الشبهات الموضوعيّة. و

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «اللهمّ إلّا أن يريد بالأولويّة معنى التعيّن واللزوم ، كما في آية أولي الأرحام. منه».

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه لا يتّفق عادة ابتلائه بالموضع النجس منه ، لم يشكّ أحد في عدم وجوب الاجتناب عن ثوبه ، وأمّا لو كان الطرف الآخر أرضا لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلا ، ففيه تأمّل. والمعيار في ذلك وإن كان صحّة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء واتّفاق صيرورته واقعة له ، إلّا أنّ تشخيص ذلك مشكل جدّا.

نعم ، يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه إلّا معلّقا : الأصل البراءة من التكليف المنجّز ، كما هو المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا أو معلّقا على أمر محقّق العدم ، أو علم التعليق على أمر لكن شكّ في تحقّقه أو كون المتحقّق من أفراده كما في المقام (١٥٢٤) ، إلّا أنّ هذا ليس بأولى من أن يقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلّق بالابتلاء ، كما لو قال : «اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدّام أمير البلد» مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ، أو «لا تصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه» ، مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلا ولا عادة ، إلّا أنّه بعيد الاتّفاق ، وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات.

______________________________________________________

حينئذ يصحّ التمسك بالإطلاقات في موارد الشكّ ، لأنّ مرجع الشبهة حينئذ إلى الشكّ في التقييد زائدا عمّا علم تقييد تلك الإطلاقات به.

ولكنّك خبير بما فيه من الضعف ، لأنّ المدار في تحقّق الابتلاء وعدمه ـ كما صرّح به ـ على حسن التكليف الفعلي عرفا وعدمه ، فمرجع الشبهة في جميع مواردها لا بدّ أن يكون إلى الشكّ في تحقّق موضوع هذا الكلّي لا محالة.

١٥٢٤. لا يخفى أنّ ما نحن فيه من قبيل ما شكّ في تحقّقه ، لا من قبيل ما

فمرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق في بعض الموارد ـ لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه ، كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفيّة ـ هل يجوز التمسّك به أو لا؟ والأقوى الجواز ، فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلّا ما علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام ، إلّا أن يقال إنّ المستفاد (١٥٢٥) من صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة كون الماء وظاهر الإناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ، فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه ؛ إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النصّ ، فافهم.

الرابع : أنّ الثابت في كلّ من المشتبهين (١٥٢٦) ـ لأجل العلم الإجمالي بوجود

______________________________________________________

شكّ في كون المتحقّق من أفراد ما علم التعليق عليه ، فتدبّر.

١٥٢٥. بتقريب أنّ الماء وظاهر الإناء من موارد الشكّ في الابتلاء وعدمه ، وقد حكم الإمام عليه‌السلام فيه بعدم وجوب الاحتياط ، فيستفاد منه كون الحكم كذلك في سائر موارد الشكّ أيضا ، لوضوح عدم خصوصيّة لهذا المورد ، إذ احتمال كون مقتضى القاعدة في موارد الشكّ في الابتلاء من موارد الشبهة المحصورة هو وجوب الاحتياط كموارد العلم بالابتلاء ، وكون خصوص مثال الماء وظاهر الإناء خارجا من هذه القاعدة للصحيحة ، بعيد جدّا.

١٥٢٦. مرجع ما ذكره إلى أنّ حكم العقل على المشتبهين بحكم في الشبهة المحصورة وما يضاهيها من باب المقدّمة العلميّة ، إنّما هو في ما كان ترك المشتبهين أو الإتيان بهما مقدّمة علميّة لامتثال تكليف منجّز مشتبه مصداقه بين المشتبهين أو الامور المشتبهة ، كما في مثال الإنائين والقبلة عند اشتباهها في جهتين أو جهات. وأمّا إذا كان تنجّز التكليف وتوجّهه إلى المكلّف فعلا معلّقا على ارتكاب الموضوع الواقعي المشتبه بين أمرين أو امور ، فلا معنى حينئذ لتعلّق حكم ظاهري بالمشتبهين لأجل العلم الإجمالي المفروض من باب المقدّمة العلميّة ، لأنّ ذلك فرع تنجّز التكليف ، والفرض توقّف تنجّزه على ارتكاب الموضوع الواقعي المشتبه ،

.................................................................................................

______________________________________________________

كما إذا اشتبه إناء خمر بإناء ماء ، لأنّ تنجّز التكليف بإقامة الحدّ على شارب الخمر موقوف على شرب الخمر الواقعي المشتبه ، فلا تكليف بها قبل شرب أحد المشتبهين حتّى تتأتّى فيه قضيّة المقدّمة العلميّة. وأمّا بعد شرب أحدهما فلا مقتضى أيضا لإقامة الحدّ عليه ، لعدم العلم بحدوث سببه ، بل الأصل عدمه. نعم ، بعد شربها يحصل العلم بحدوث سببه ، وهو خارج ممّا نحن فيه. فمن هنا يفرّق بين الأحكام الوضعيّة والطلبيّة في باب الشبهة المحصورة ، لعدم تأتّي المقدّمة العلميّة على الاولى ، بخلاف الثانية على ما عرفت.

نعم ، لو كان الحكم الوضعي مرتّبا على الطلبي ترتّب ذلك على المشتبهين أيضا بواسطة عروض الحكم الطلبي لهما ، كما لو ترتّب بطلان الوضوء على التوضّؤ بالماء المتنجّس بواسطة وجوب الاجتناب عنه ، لأنّه إذا ثبت وجوب الاجتناب عن المشتبهين ترتّب عليهما البطلان أيضا على تقدير التوضّؤ بأحدهما. وهو أيضا خارج ممّا نحن فيه ، لأنّ محلّ النزاع هي الآثار الوضعيّة المرتّبة على الموضوعات المشتبهة من دون توسط حكم طلبي في عروضها ، لأنّها هي التي لا تجري فيها المقدّمة العلميّة على ما عرفت. ولا إشكال في كبرى ما قدّمناه ، ولعلّه لا خلاف فيها أيضا. وإنّما وقع الخلاف لأجل بعض الأدلّة الآخر في بعض صغرياتها ، وهو تنجّس ملاقي أحد المشتبهين في ما اشتبه النجس بالطاهر منهما. وقد حكي (*) القول به عن الفاضل في المنتهى والمختلف وجماعة ممّن تأخّر عنه.

أقول : قد اختاره في الحدائق ، وحكاه فيها عن المحدّث الأسترآبادي في فوائده المدنية. والمشهور ـ كما في الجواهر ـ القول بعدمه ، واختاره المصنّف رحمه‌الله ، وستطّلع على حقيقة الحال في ذلك.

هذا غاية توضيح المقام. والإنصاف أنّ بعض ما قدّمناه لا يخلو من نظر ، لأنّ

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «حكاه المصنّف عن المنتهى تبعا للمدارك ، وفي الجواهر عن المختلف.

منه».

الحرام الواقعي فيهما ـ هو وجوب الاجتناب ؛ لأنّه اللازم من باب المقدّمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام فلا تترتّب عليهما ؛ لعدم جريان باب المقدّمة فيها ، فيرجع فيها إلى الاصول الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ، فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حدّ الخمر على المرتكب بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ ووجوبه.

وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي (١٥٢٧) إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ؛ بناء على أنّ الاجتناب عن

______________________________________________________

ما تقدّم من عدم جريان المقدّمة العلميّة في الآثار الوضعيّة وإن كان متّجها ، إلّا أنّه يمكن أن يقال بكون أصالة عدم حدوث سبب الحدّ بشرب أحد الإنائين معارضة بأصالة عدم كون الآخر أيضا سببا له على تقدير شربه. وإن شئت قلت : إنّه كما يصحّ أن يقال قبل شرب أحدهما : إنّ الأصل أن لا يكون شرب هذا الإناء بالخصوص سببا للحدّ ، كذلك يمكن أن يقال : إنّ الأصل أن لا يكون شرب ذاك أيضا كذلك ، ولا ريب أنّ مجرّد ارتكاب أحدهما لا يوجب جريان الأصل فيه دون الآخر ، وبعد تعارض الأصلين وإن لم يبق مقتض لوجوب إقامة الحدّ على شارب أحدهما ، إلّا أنّه لا يبقى دليل أيضا على نفيه عنه ، فلا بدّ من التوقّف فيه ، لا نفيه عنه كما هو المدّعى. وبنحو ذلك أيضا يقال في ما اشتبه المال المغصوب بالحلال بالنسبة إلى ثوب (*) الضمان بارتكاب أحدهما ، وهكذا في ما يضاهيه من الموارد.

١٥٢٧. هذا دليل قول العلّامة ، ومرجعه إلى دعوى الملازمة بين وجوب الاجتناب عن شيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط. واستند فيه المصنّف رحمه‌الله تارة إلى فهم العرف من خطاب وجوب الاجتناب مؤيّدا بفهم بعض العلماء ، واخرى إلى الرواية. ويظهر ضعفهما ممّا قرّره في المتن.

وربّما يستدلّ على هذا القول أيضا بوجوه أخر :

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة. وهو تصحيف : ترتّب.

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : أنّ المقتضي لثبوت الحكم التكليفي للمشتبهين ـ وهو العلم الإجمالي ـ موجود بالنسبة إلى الحكم الوضعي أيضا.

وفيه : أنّ ثبوت الحكم التكليفي لهما لأجل كونهما مقدّمة علميّة للتكليف المعلوم إجمالا ، وقضيّة المقدّمة غير آتية في الآثار الوضعيّة ، كما تقدّم في الحاشية السابقة.

وثانيها : ما ذكره في الحدائق ، وحاصله : أنّ استقراء الأخبار الواردة في موارد الشبهة المحصورة يفيد إعطاء الشارع الشبيه بالنجس حكم النجس.

وفيه : أنّ غاية ما يفيده الاستقراء ـ على تقدير تسليمه ـ هو وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة في جميع مواردها لا عن ملاقيها أيضا. نعم ، لو ثبت وجوب الاجتناب عن ملاقي ما ثبت وجوب الاجتناب عنه بدليل آخر ثبت المدّعى بعد إثبات وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة. لكنّك قد عرفت ضعفه.

وثالثها : ما نقله في الجواهر عن بعض المتأخّرين من أنّ الظاهر من الأدلّة أنّ المحصور يعامل معاملة النجس. والفرق بينه وبين ما تقدّم عن صاحب الحدائق : أنّ ظاهر هذا الوجه كون المحصور كالنجس في جميع الآثار ، بخلاف صاحب الحدائق ، لأنّه قال فيها : «إنّ للمشتبه في هذه المسألة وأمثالها حالة متوسّطة ، فمن بعض الجهات ـ كالأكل والشرب والملاقاة برطوبة ـ حكمه حكم النجس ، ومن بعض الجهات ـ كالصلاة في الثوبين المشتبهين باعتبار تكرارها فيهما ـ له حالة ثالثة» انتهى.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ هذا الوجه خلاف الإجماع ، كما يومي إليه عبارة المتن. مضافا إلى ما تقدّم من منع دلالة الأدلّة على ذلك.

ورابعها : أنّ العلم الإجمالي في المشتبهين كما أوجب الاجتناب عنهما ، كذلك العلم الإجمالي بتنجّس الملاقي بالكسر أو صاحب الملاقى بالفتح يوجب

.................................................................................................

______________________________________________________

الاجتناب عنهما. ولعلّ مرجع هذا الدليل إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله على سبيل السؤال. ويمكن أن يقال : إنّ مبنى ما ذكره على اتّحاد العلم الإجمالي بين الملاقي بالكسر والملاقى بالفتح وصاحبه ، وهذا الدليل على تعدّده.

وعلى كلّ تقدير ، فما أجاب به عمّا أورده على نفسه ـ من كون الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّبا عن الشكّ في المشتبهين ، فإذا تساقط الأصلان في الشكّ السببي لأجل التعارض جرى الأصل في الشكّ المسبّب من دون مانع ـ غير جار هنا ، بل غير تامّ هناك أيضا ، لأنّ الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّب عن الشكّ في الملاقى بالفتح خاصّة دون صاحبه ، فالأصل فيه يعارض كلّا من الأصل الجاري في الملاقى بالفتح والملاقي بالكسر ، وإن لم يكن الأصل في الملاقي بالكسر معارضا للأصل في الملاقى بالفتح ، لما عرفت من حكومة الثاني ـ على تقدير جريانه ـ على الأوّل ، وعدم المانع من جريان الأوّل مع عدم جريان الثاني لأجل المعارضة.

فإن قلت : إنّا نمنع كون الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّبا عن الشكّ في الملاقى بالفتح خاصّة ، لاتّحاد الشكّ في مورد الشبهة المحصورة كما أوضحناه سابقا. ونقول هنا أيضا : إنّ الشكّ هو تساوي احتمالين في مورد ، فإن كان الشكّ في حدوث شيء فالاحتمالان هو حدوثه وعدم حدوثه ، وإن علم حدوثه وشكّ في الحادث فالاحتمالان هو كون الحادث هو هذا الشيء دون ذاك وبالعكس ، فليس في الشبهة المحصورة شكّان قام أحدهما بأحد المشتبهين والآخر بالآخر ، حتّى يقال : إنّ الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّب عن أحدهما دون الآخر.

قلت : نعم ، إلّا أنّ الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّب عن احتمال كون النجس الواقعي هو الملاقى بالفتح دون صاحبه ، لا عن احتمال العكس ، فالشكّ فيه ناش من أحد احتمالي الشكّ القائم بالمشتبهين في الشبهة المحصورة ، وهذا القدر كاف فيما ادّعيناه.

وفيه : أنّ الأصل في صاحب الملاقي قد سقط عن الاعتبار قبل حصول الملاقاة ،

النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ؛ ولذا استدلّ السيّد أبو المكارم في الغنية على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٩) ، ويدلّ عليه أيضا ما في بعض الأخبار من استدلاله عليه‌السلام على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة ب «أنّ الله سبحانه حرّم الميتة» ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه. هذا معنى ما استدلّ به العلّامة قدس‌سره في المنتهى على ذلك : بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس ؛ وإلّا فلم يقل أحد (١٥٢٨) : إنّ كلّا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين ، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب على العنوان الواقعي من النجاسات نظير وجوب الحدّ للخمر ، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة.

والأقوى هو الثاني ، أمّا أوّلا (١٥٢٩) فلما ذكر ، وحاصله منع ما في

______________________________________________________

لأجل المعارضة بالأصل الجاري في الملاقى بالفتح. نعم ، هو إنّما يعارض الأصل الجاري في الملاقي بالكسر مع قطع النظر عن هذه المعارضة لا معها. إلّا أن يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ فيما حصلت الملاقاة بعد العلم الإجمالي ، وأمّا لو حصلت قبله فالأصل في صاحب الملاقي يعارض الأصل الجاري في المتلاقيين معا لا محالة. ومن هنا يمكن التفصيل في المسألة بين حصول الملاقاة بعد العلم الإجمالي وقبله. والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمّل. وهذا ما يخطر بالبال في العاجل ، لعلّ الله تعالى يوفّقنا لما هو أدقّ وأتقن في الآجل ، وستعرف تتمّة ما يتعلّق بالمقام في الحواشي الآتية.

١٥٢٨. قال في المدارك : «قولهم : إنّ المشتبه بالنجس بحكم النجس ، لا يريدون به من جميع الوجوه ، بل المراد صيرورته بحيث يمنع استعماله في الطهارة خاصّة. ولو صرّحوا بإرادة المساواة من كلّ وجه كانت دعوى خالية من الدليل» انتهى.

١٥٢٩. لا يذهب عليك أنّه ليس في كلامه معادل لذلك. واستدلّ في الجواهر أيضا على هذا القول برجوع الشبهة في الملاقي بالكسر إلى الشبهة في غير المحصور ، فيكون حاله حال محتمل النجاسة.

الغنية (١٥٣٠) من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز ، فتنجيه حينئذ ليس إلّا لمجرّد تعبّد خاصّ ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدلّ على وجوب هجر ما يلاقيه. نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه من جهة استظهار أنّ

______________________________________________________

قال : «فإنّه لا إشكال في عدم وجوب اجتنابه وإن كان التكليف بالنجس لا يتمّ إلّا به ، لكن لمّا كانت أفراد النجس غير محصورة لم يجب اجتناب المحتمل ، وهذا كذلك أيضا ، فإنّ إصابة المشتبه له صيّرته محتمل النجاسة. وكون هذا الاحتمال إنّما نشأ من إصابة متنجّس يجب اجتنابه للمقدّمة لا يصيّر الملاقي كذلك ، وكيف مع أنّه لو تعذّر الاحتمال من وجوب المجتنب على اليقين لما وجب الاجتناب ، فهذا أولى. مثلا : لو كان الإناءان النجس منهما معلوما ، ووقعت قطرة لا نعلمها من أيّ الإنائين ، فلا شكّ في عدم نجاسة الثوب بها. وهو معنى قوله عليه‌السلام : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء؟ إذا كنت لا أدري». وما يقال : من أنّ اجتناب النجس لا يتمّ إلّا بذلك ، فيه أنّه جار في محتمل (*) التنجّس بنجاسة خاصّة معلومة كالبول المخصوص ونحوه ، فتأمّل» انتهى.

وفيه : أنّ الفرق بين محتمل النجاسة ـ سواء كانت الشبهة فيه بدويّة ، أو مشوبة بالعلم الإجمالي مع كونها غير محصورة ـ وبين ما نحن فيه واضح ، لدخول الملاقي بالكسر بالملاقاة في أطراف العلم الإجمالي ، ولذا لو أريق الملاقى بالفتح بقي العلم الإجمالي بين الملاقي بالكسر وصاحب الملاقى بالفتح بحاله ، فلا يقاس ذلك على الشبهات البدويّة. ولا معنى أيضا لدعوى كونه من أطراف غير المحصورة.

١٥٣٠. مضافا إلى أنّ الشيخ الطريحي قال في تفسير الآية : «الرجز بكسر الراء وضمّها إمّا العذاب كما هو قول الأكثرين ، فيكون الأمر بهجرانه أمرا

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «والحال أنّه لا يجب الاجتناب عنه. منه».

الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، فحكم بكون الخارج بولا ، لا أنّه أوجب خصوص الوضوء بخروجه. وبه يندفع تعجّب صاحب الحدائق من حكمهم بعدم النجاسة فيما نحن فيه وحكمهم بها في البلل مع كون كلّ منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.

وأمّا الرواية ، فهي رواية عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّه أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تأكله ، فقال الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (١٠). وجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولو لا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

لكنّ الرواية ضعيفة سندا (١٥٣١) ،

______________________________________________________

بهجران أسبابه الموجبة له ، أو النجاسة ، فهو حينئذ صريح في وجوب توقّي النجاسة في الصلاة» إلى أن قال : «وفسّره البعض بالأوثان ، وسميّت رجزا لأنّها سبب الرجز الذي هو العذاب» انتهى. ولا ريب أنّه مع تعدّد الاحتمال ـ سيّما مع موافقة الأوّل لقول الأكثرين ـ سقط بها الاستدلال. ومع التسليم أنّ دلالته على وجوب هجر ملاقي النجس لعلّه لأجل خصوصيّة المادّة هنا ، لكون النجاسة في نظر أهل العرف من الأوصاف المسرية ، فلا تثبت به الدلالة على وجوب الاجتناب عن ملاقي كلّ ما يجب الاجتناب عنه ، حتّى يثبت به وجوب الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة ، لأجل حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن أطرافها.

١٥٣١. لأنّ عمرو بن شمر ضعيف. وعن النجاشي والغضائري ثمّ الخلاصة رميه بالكذب والوضع. فإن قلت : إنّ ضعفها منجبر بالإجماع على مضمونها ، لإجماعهم على حرمة ملاقي الميتة. قلت أوّلا : إنّ إجماعهم على ذلك إنّما هو لأجل نجاسة الميتة لا لأجل حرمتها مطلقا. وثانيا : إنّه لم يظهر منهم الاستناد في ذلك

مع أنّ الظاهر من الحرمة (١٥٣٢) فيها النجاسة ؛ لأنّ مجرّد التحريم لا يدلّ على النجاسة فضلا عن تنجّس الملاقي ، وارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرّمات كما ترى ؛ فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ، لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه.

______________________________________________________

إليها ، ومثله لا يصلح للجبر كما هو واضح.

١٥٣٢. يعني : مع أنّ الظاهر من حرمة الميتة في الرواية حرمتها من حيث النجاسة لا مطلقا ، وإلّا لم يحسن استدلال الإمام عليه‌السلام بحرمتها على حرمة السمن والزيت ، لوضوح عدم دلالتها على النجاسة فضلا عن تنجّس الملاقي ، ولذا لم يقل أحد بحرمة الملاقي في ما عدا النجاسات. ودعوى أنّ ظاهر الرواية استلزام حرمة شيء مطلقا لحرمة ملاقيه ، غاية الأمر أنّه خرج منها ما عدا النجاسات بالإجماع وبقيت هي تحتها ، ضعيفة جدّا ، لاستلزامه تخصيص الأكثر. فالثابت بالرواية هي الملازمة بين نجاسة شيء وتنجّس ملاقيه ، لا الملازمة بين حرمة شيء وحرمة ملاقيه. والأوّل مسلّم ، إلّا أنّه غير مفيد في المقام. والثاني هو المطلوب ، إلّا أنّ الرواية لا تدلّ عليه.

فإن قلت : سلّمنا ولكنّه كاف في المقام ، بناء على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله في محلّه من كون الأحكام الوضعيّة منتزعة من الأحكام الطلبيّة لا مجعولة للشارع ، لأنّه إذا فرض كون معنى نجاسة الميتة وجوب الاجتناب عنها ووجوب الاجتناب عن ملاقيها أيضا ، ثبت المطلوب من وجوب الاجتناب عن ملاقي ما يجب الاجتناب عنه.

قلت أوّلا : إنّ الظاهر أنّ النجاسة والطهارة من الأوصاف الواقعيّة. ولعلّ استدلال الإمام عليه‌السلام بحرمة الميتة على حرمة ملاقيها لأجل كون النجاسة من الأوصاف المسرية. ومجرّد احتماله كاف في منع التعدّي عن مورد الرواية ، كيف ولو كان مبنى استدلاله على ما ذكرته لزم منه تخصيص الأكثر كما عرفت.

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيا : مع تسليم استلزام حرمة شيء حرمة ملاقيه ، نمنع ذلك في خصوص المقام ، لأنّ الدليل على حرمة أطراف الشبهة المحصورة إمّا هو العقل أو الشرع ، وشيء منهما لا يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض أطرافها. أمّا الأوّل فإنّ حكم العقل بوجوب الاجتناب عن جميع أطرافها إنّما هو للتحرّز عن الوقوع في الحرام الواقعي ، وهو إنّما يقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقيها لو لم يكن الأصل الجاري فيه سليما من معارضة الأصل الجاري في المشتبهين ، وهو خلاف ما حقّقه المصنّف رحمه‌الله. ومنه يظهر ضعف دلالة الشرع أيضا ، لأنّ ظاهر جلّ أخبار الاحتياط ـ كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في غير موضع ـ إنّما يدلّ عليه لأجل التحرّز عن الهلكة الواقعيّة ، فمؤدّاها عين مؤدّى حكم العقل.

فإن قلت : إنّ مناط وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة موجود في ملاقيها أيضا ، لأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس الواقعي إنّما هو بعد العلم بتأثّر الملاقي بالملاقاة ، فلا بدّ أن يكون وجوب الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة على القول به أيضا كذلك ، وحينئذ يدخل ملاقيها في أطراف الشبهة لا محالة ، ويمنع جريان أصالة الطهارة فيه ، كما هو واضح.

قلت : إنّ دخول الملاقي بالكسر في أطراف الشبهة إنّما هو لانتقال بعض أجزاء الملاقى بالفتح بالملاقاة إليه ، وحينئذ إن صدق على هذه الأجزاء القائمة بالملاقي بالكسر عنوان الملاقى بالفتح عرفا فهو خارج ممّا نحن فيه ، ولذا منع المصنّف رحمه‌الله دلالة وجوب هجر الرجز على وجوب الاجتناب عن ملاقيه فيما إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز. وإن لم يصدق عليه ذلك نمنع دخوله بذلك في أطراف الشبهة ، لعدم الدليل على نجاسة هذا الأثر على تقدير العلم بنجاسة الملاقى بالفتح ، لاختلاف الأحكام باختلاف عناوينها. وغاية ما ثبت من الأدلّة هو تنجّس ملاقي النجس مع التأثّر ، لا نجاسة نفس الأثر مع عدم صدق عنوان النجس عليه ، لوضوح عدم كون تنجّس الملاقي باعتبار قيام هذا الأثر به ، ولذا يحكم ببقاء تنجّس

فإن قلت : وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلّا أنّه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كلّ منهما أحد طرفي الشبهة ، فهو نظير ما إذا قسم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء. قلت : ليس الأمر كذلك (١٥٣٣) ، لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالكسر ـ سليم عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى ـ بالفتح ـ فإنّها معارضة بها في المشتبه الآخر.

والسرّ في ذلك أنّ الشكّ في الملاقي ـ بالكسر ـ ناش عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ؛ فالأصل فيهما أصل في الشكّ السببي ، والأصل فيه أصل في الشك المسبّبي ، وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل في الشكّ السببي حاكم (*) على الأصل في الشك المسبّبي ـ سواء كان مخالفا له ، كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس المغسول به ، أم موافقا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على

______________________________________________________

المحلّ مع زوال هذا الأثر عنه بالجفاف أو الإزالة. ومن هنا يظهر عدم توجّه السؤال إلى صورة زوال الأثر ، اللهم إلّا أن يقال بعدم الفصل بينها وبين غيرها ، فتأمّل.

١٥٣٣. حاصله : تسليم دخول الملاقي بالكسر في أطراف الشبهة ، ومنع وجوب الاجتناب عنه ، لسلامة الأصل الجاري فيه عن المعارض. ومنه يظهر ضعف ما استدلّ في الجواهر على وجوبه بقضيّة المقدمة. قال فيما لاقى الثوب أحد الإنائين : «إنّه حينئذ يكون مكلّفا باجتناب النجس ، وهو دائر بين أن يكون هذا الإناء أو الثوب ، أو الإناء الآخر والثوب أو هذا الإناء وحده ، أو الآخر وحده فيجب ترك الجميع من باب المقدّمة ، وبه ينقطع الاستصحاب كما انقطع الاستصحاب في غيره ، إذ لا معنى للقول بخصوص الحكم فيما إذا كان الاشتباه في الإناءات ـ أي : في متّحد النوع ـ دون غيره ، فإنّ من اليقين جريان المقدّمة فيما لو وقعت في الإناء أو الثوب أو البدن» انتهى. ولكن قد تقدّم ما يناقش في هذا

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : ووارد.

أصالة إباحة الشرب ـ ، فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم ؛ لأنّ الأوّل رافع شرعيّ للشكّ المسبّب بمنزلة الدليل بالنسبة إليه ، وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله زال المانع من جريان الأصل في الشكّ المسبّب ووجب الرجوع إليه ؛ لأنّه كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين.

ألا ترى أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة ـ عند تتميم الماء النجس كرّا بطاهر وعند غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس ـ إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين؟ نعم ، ربما تجعل معاضدا لأحدهما الموافق لها بزعم كونهما في مرتبة واحدة.

لكنّه توهّم فاسد ؛ ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى ـ بالفتح ـ لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ.

فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتّحاد مرتبتهما (١٥٣٤) لاتّحاد الشبهة (١٥٣٥) الموجبة لهما : الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض لم يرجع إليه ، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو من غير جنسهما كقاعدة الطهارة في المثالين ، فافهم واغتنم. وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى. نعم ، لو حصل للأصل في هذا الملاقي ـ بالكسر ـ أصل آخر في مرتبته كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ، كانا من الشبهة المحصورة.

ولو كان ملاقاة شىء (١٥٣٦) لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه

______________________________________________________

الجواب ، فراجع.

١٥٣٤. بأن لم يكن أحدهما حاكما أو واردا على الآخر.

١٥٣٥. قد تقدّم توضيح اتّحاد الشبهة في الشبهة المحصورة عند شرح قوله : «إنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء ...».

١٥٣٦. لا يخفى أنّه إذا لاقى شيء أحد الإنائين ، إمّا أن تحصل الملاقاة قبل العلم الإجمالي أو بعده أو معه. وعلى التقادير : إمّا أن يفقد الملاقى بالفتح بعدها أو

مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ؛ لأنّ أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر ؛ لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ؛ لما أشرنا إليه في الأمر الثالث من عدم جريان الأصل فيما لا يبتلي

______________________________________________________

لا. وعلى الأوّل : إمّا أن يعود المفقود أو لا. فهنا صور :

إحداها : أن تحصل الملاقاة قبل العلم الإجمالي أو بعده أو معه مع وجود الملاقى بالفتح. وقد ظهر حكمها ممّا حقّقه المصنّف رحمه‌الله في أصل المسألة.

الثانية : أن يكون كلّ من حصول الملاقاة وفقد الملاقى بالفتح قبل العلم الإجمالي. وحكمها كما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا.

الثالثة : أن يحصل العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففقد. والظاهر حينئذ هو الحكم بطهارة الملاقي بالكسر ، ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقي كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ المفروض أنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين كان ثابتا قبل فقد الملاقى بالفتح ، لأجل تنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس الواقعي المشتبه بينهما ، فمجرّد فقد أحدهما لا يوجب ارتفاع هذا الحكم العقلي عن الباقي المحتمل كونه هو النجس الواقعي ، لأنّ تنجّز التكليف بالواقع في آن ثمّ الشكّ في بقائه علّة تامّة لحكم العقل بتحصيل اليقين بالبراءة بالاجتناب عن الباقي ، ولذا يجب الاجتناب عن الباقي أيضا فيما ارتكب أحدهما عصيانا. وأمّا طهارة الملاقي بالكسر فلقاعدتها ، إذ المانع من جريانها فيه هو العلم الإجمالي بتنجّسه أو نجاسة الباقي ، وبعد ثبوت وجوب الاجتناب عن الباقي ، بقاعدة الاشتغال ينحلّ العلم الإجمالي على علم تفصيلي ظاهري وشكّ بدوي ، نظير ما لو قامت البيّنة على نجاسة أحد الإنائين أو تنجّس أحدهما المعيّن بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما. ولعلّ المصنّف رحمه‌الله أشار بالأمر بالتأمّل الجيّد إلى الوجه في حكم المسألة.

الرابعة : أن يقارن العلم الإجمالي بالملاقاة ففقد. والظاهر أنّ حكمها كالصورة الثالثة في وجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى بالفتح ، وطهارة الملاقي بالكسر.

.................................................................................................

______________________________________________________

الخامسة : هي الصورة الثانية مع عود المفقود قبل العلم الإجمالي أو بعده. أمّا الأوّل فالظاهر أنّه لا أثر للفقد فيه. وأمّا الثاني ففيه وجوه :

أحدها : وهو الأوفق بالقواعد أن يحكم بوجوب الاجتناب عن الباقي والملاقي ، وبطهارة العائد. أمّا الأوّل فلكون الباقي والملاقي قبل عود المفقود محكومين بوجوب الاجتناب عنهما ، لأجل تعارض الأصلين. ومجرّد عود المفقود لا يوجب الشكّ في هذا الحكم الثابت بقاعدة الاشتغال. وأمّا الثاني فلأصالة الطهارة. ومجرّد العلم الإجمالي بنجاسته أو صاحبه الباقي لا يوجب رفع اليد عنها ، لأجل تعارض الأصلين فيهما بعد الحكم بوجوب الاجتناب عن أحدهما بالخصوص ، وهو الباقي كما تقدّم.

وثانيها : أن يحكم بوجوب الاجتناب عن الجميع أمّا الباقي والملاقي فلما مرّ. وأمّا العائد فلدخوله بعد عوده في أطراف العلم الإجمالي.

وثالثها : أن يحكم بوجوب الاجتناب عن الفاقد وصاحبه ، للعلم الإجمالي الموجب لتعارض الأصلين فيهما ، وبطهارة الملاقي بالكسر ، لسلامة أصالة الطهارة فيه بعد تعارض الأصلين في الأوّلين وتساقطهما.

السادسة : هي الصورة الثالثة مع عود المفقود. فيظهر حكمها من سابقتها.

فرعان : الأوّل : الظاهر أنّ ملاقي الملاقي بالكسر بحكمه ، فيجري على ملاقي أحد الملاقيين حكم الملاقي الواحد ، وعلى ملاقييهما حكم الملاقيين ، ما لم ينته إلى أحد غير المحصورة.

الثاني : أنّ جميع ما قدّمناه إنّما هو على القول بوجوب الموافقة القطعيّة. وأمّا على القول بجواز المخالفة القطعيّة ، فلا إشكال في جواز ارتكاب ملاقي أحد المشتبهين وملاقييهما. وأمّا على القول بحرمة المخالفة القطعيّة ، وعدم وجوب الموافقة كذلك ، فكذلك بالنسبة إلى ملاقي أحدهما ، ويثبت التخيير بين ملاقييهما كأصليهما. وحيث كان هذا القول ضعيفا فلا يهمّنا التعرض لما يتفرّع عليه ، وكذا

به المكلّف ولا أثر له بالنسبة إليه. فمحصّل ما ذكرنا أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة.

ولو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولا يخفى وجهه ، فتأمّل جيّدا.

الخامس : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض (١٥٣٧) المحتملات : فإن كان بعضا معيّنا ، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه ؛ لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ؛ لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم. وإن كان بعده فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الإذن في ترك بعض (١٥٣٨) المقدّمات العلميّة بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات.

______________________________________________________

على القول بالقرعة.

١٥٣٧. في حكم الاضطرار ما لو تلف بعض أطراف الشبهة. وأمّا لو قامت أمارة شرعيّة ـ من بيّنة ونحوها ـ على نجاسة بعضها أو طهارته فهو أيضا كذلك في الجملة. وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك في الجواب عن الدليل العقلي للأخباريّين على وجوب الاحتياط في الشبهة البدويّة التحريميّة.

١٥٣٨. لا يخفى أنّ اكتفاء الشارع عن امتثال التكليف الواقعي ببعض محتملاته الذي مرجعه إلى دعوى بدليّة بعض محتملاته عنه ، إنّما يحسن فيما علم وجود التكليف الواقعي فعلا ، كما في الاكتفاء بأربع جهات عند اشتباه القبلة ، وكذا فيما لو فرض وجود دليل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين فيما نحن فيه مع فرض كون كلّ منهما محلّ ابتلاء للمكلّف ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال بكون أحد المشتبهين بدلا شرعيّا عن الواقع المعلوم إجمالا ، وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ بعد فرض الاضطرار إلى أحد المشتبهين معيّنا يحتمل أن يكون الحرام الواقعي هو المضطرّ إليه ، فلا يبقى العلم حينئذ بوجود التكليف الواقعي حتّى يدّعى كون المشتبه الآخر

ولو كان المضطرّ إليه بعضا غير معيّن ، وجب الاجتناب عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي ؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من امور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه ، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

فإن قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعي ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي. قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ، واللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا ، وحيث إنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ـ بملاحظة تعلّق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ـ ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من العقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسّط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلّقا بالواقع على ما هو عليه.

______________________________________________________

بدلا عنه. ومجرّد احتمال كونه هو الحرام الواقعي لا يقتضي وجوب الاجتناب. فالأولى في المقام هو التمسّك بقاعدة الاشتغال ، بأن يقال : إنّ التكليف قبل الاضطرار كان منجّزا بالواقع ، فبعد الاضطرار إلى أحد المحتملين لا يحصل القطع بالفراغ إلّا بالاجتناب عن الآخر.

لا يقال : لعلّ مراد المصنّف رحمه‌الله أيضا دعوى اكتفاء الشارع بالمشتبه الآخر عن التكليف الواقعي المحتمل لا المعلوم ، بأن يقال : إنّ رخصة الشارع في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد العلم الحاصل قبل الاضطرار بوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف المحتمل بعد الاضطرار بالاجتناب عن المشتبه الآخر.

لأنّا نقول : ـ مع ما فيه من التكلّف في تنزيل عبارة المصنّف رحمه‌الله عليه ـ إنّ وجوب الاجتناب عن المشتبه الآخر حينئذ عقلي لا شرعيّ ، كما يظهر ممّا قدّمناه.

وحاصله : ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ، وهو ترك باقي المحتملات. وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه إلى القناعة (١٥٣٩) عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ، أو مخيّرا كما في موارد التخيير.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعيّة وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي فيها بالاحتياط ـ لمكان الحرج أو قيام الإجماع على عدم وجوبه ـ : أن يرجع فيما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه أعني موارد الظنّ مطلقا أو في الجملة إلى الاحتياط ، مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد إبطال الاحتياط (١٥٤٠) ووجوب العمل بالظنّ مطلقا أو في الجملة ـ على الخلاف بينهم ـ على الرجوع في غير موارد الظنّ المعتبر إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.

نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط دليل عقلي أو إجماع على وجوب كون الظنّ ـ مطلقا أو في الجملة ـ حجّة وطريقا في الأحكام الشرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشكّ في المكلّف به ، صحّ ما جروا عليه من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق إلى الاصول الجارية في مواردها. لكنّك خبير بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلّا بطلان الاحتياط ، مع اعتراف أكثرهم بأنّه الأصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح ، ومن المعلوم أنّ هذا

______________________________________________________

١٥٣٩. فيه نوع مسامحة ، لأنّ مرجع اعتبار الظنون الخاصّة إلى تنزيل مؤدّياتها منزلة نفس الواقع ، لا إلى القناعة في مواردها على بعض محتملات الواقع. والفرق بينهما واضح ، ولذا لا يجب الاحتياط في الموارد الخالية منها عند انفتاح باب العلم.

١٥٤٠. يعني : إبطال وجوبه والمراد بوجوب العمل بالظنّ هو مقابل عدم جواز العمل بالشكّ والوهم ، وإلّا فلا ريب في عدم وجوبه ، وجواز الاحتياط في موارده ـ طابقه أو خالفه ـ لكون العمل بالظنّ بعد الانسداد رخصة لا عزيمة.

لا يفيد إلّا جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذا لزوم الاحتياط في غير المظنونات.

السادس : لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ، فيعلم إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر (١٥٤١) ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟

______________________________________________________

١٥٤١. الوجهان ينشآن من توجّه الخطاب التفصيلي بالاجتناب ، فمع اشتباه مصداق متعلّقه يجب الاجتناب عن كلا المشتبهين أو المشتبهات ليحصل اليقين بالبراءة عن التكليف المتيقّن. ومجرّد تدرّج المشتبهات الموجودة في الخارج لا يصلح فارقا بينها وبين الموجودة منها فعلا ، لوجود المناط ـ وهو حكم العقل ـ في كلا القسمين. ومن عدم العلم بالتكليف المنجّز عند كلّ واقعة ، فترجع الشبهة عند كلّ واحدة منها إلى الشبهة البدويّة ، لأنّ مجيء زمان التكليف لمّا كان شرطا في تنجّزه ، فعند الواقعة الاولى يحتمل أن يكون المكلّف به هي الواقعة الثانية ، فلا يحصل العلم بالتكليف المنجّز عندها ، وعند الثانية يحتمل أن يكون المكلّف به هي الأولى ، فلا يحصل العلم أيضا بالتكليف المنجّز ، بل المعلّق أيضا عندها.

وفيه : أنّ اشتراط تنجّز التكليف بمجيء زمانه إنّما هو لأجل عدم تحقّق الابتلاء قبله ، وإذا عدّت الواقعة الثانية مبتلى بها عرفا عند الواقعة الاولى ، ارتفع المانع من تنجّز التكليف بالواقع المشتبه على كلّ تقدير ، فحينئذ لا بدّ من الاحتياط لتحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المنجّز اليقيني. ومن هنا جعل المصنّف رحمه‌الله مدار تحقيق المقام على تحقّق الابتلاء بالواقعتين عرفا عند أولاهما.

نعم ، لو تغاير زمان التكليف وزمان الفعل المكلّف به ، بأن قال : حرّمت عليك اليوم الإتيان بفعل كذا في غد ، واشتبه زمان الفعل فلا إشكال حينئذ في وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين من دون تعليق على تحقّق الابتلاء وعدمه ،

وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟

التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينها إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه ؛ لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب. نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيّات ، كما في مثال الحيض ؛ فإنّ تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ؛ فإنّ قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (١١) ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ؛ إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب ، فهذا الخطاب كما أنّه مختصّ بذوي الأزواج ولا يشمل العزّاب إلّا على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.

______________________________________________________

لفرض تنجّز التكليف حينئذ بالواقع على كلّ تقدير ، وإن لم تعدّ الواقعة الثانية مبتلى بها للمكلّف عند الاولى.

وضابط المقام : أنّ الخطاب الصادر عن الشارع إمّا أن يتأخّر فيه زمان الفعل عن زمان التكليف ، بأن قال في يوم الخميس : أوجبت اليوم عليك الغسل في يوم الجمعة مثلا ، وإمّا أن يتّحد زمانهما. وعليه إمّا أن يتّحد زمانهما مع زمان صدور الخطاب وتوجّهه إلى المخاطب ، بأن قال : اجتنب عن النجس ، وكان النجس موجودا ومحلّ ابتلاء له حين الخطاب ، وإمّا أن يتأخّر زمانهما عن زمانه ، بأن قال : إذا كان يوم الجمعة اغتسل فيه ، بأن كان الزمان شرطا للوجوب أيضا لا ظرفا للواجب خاصّة.

والأوّلان من أقسام الواجب المطلق. وخصّ صاحب الفصول أوّلهما باسم المعلّق ، وثانيهما باسم المطلق. والثالث هو المشروط. وقد بسطنا الكلام في تحقيق ما يتعلّق بذلك في كتابنا المسمّى بغاية المأمول. وحينئذ إذا اشتبه متعلّق التكليف بين أمرين فلا إشكال في وجوب الاحتياط في الأوّلين. وكذا في وجوبه في الثالث

ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف على ترك الوطء في ليلة خاصّة ، ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد ، ولكنّ الأظهر (١٥٤٢) هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين.

وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة ، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريما.

______________________________________________________

مع العلم بتحقّق الشرط. وكذلك في عدم وجوبه مع العلم بعدم تحقّقه ، بل ومع الشكّ فيه أيضا ، لعدم العلم بوجود المقتضي له ، وهو العلم بتوجّه الخطاب المنجّز الذي يعاقب على مخالفته على كلّ تقدير.

وممّا ذكرناه يظهر وجه النظر في ما أطلقه المصنّف رحمه‌الله من عدم وجوب الاحتياط ، بل جواز المخالفة القطعيّة في ما لا تعدّ الواقعة الثانية محلّ ابتلاء للمكلّف عند الواقعة الاولى ، لما عرفت من عدم تماميّة ذلك في التكليف المعلّق على ما اصطلح عليه صاحب الفصول ، إلّا أنّ الظاهر أنّ إطلاق المصنّف رحمه‌الله مبنيّ على ظاهر الخطابات الشرعيّة المتعارفة ، فإنّها لا تخرج من القسمين الأخيرين ، سواء وقع التعبير فيها في ما ذكر الزمان فيه قيدا للكلام بقولنا : إن كان وقت كذا فافعل كذا ، أو بقولنا : افعل كذا في وقت كذا ، كما أوضحناه في مبحث المقدّمة في كتابنا المذكور ، فراجع حتّى تطّلع على حقيقة الحال.

١٥٤٢. لتحقّق الابتلاء لكلّ من طرفي الشبهة بحسب العرف في المثالين ، بخلاف مثال الحيض. نعم ، لو فرض تردّد الأمر فيه أيضا بين أوّل الشهر والرابع والسابع كان كالأوّلين أيضا. وبالجملة ، إنّ المدار في الابتلاء وعدمه على حكم العرف ، ولطول الزمان وقصره مدخل في حكمهم بالنسبة إلى الأفعال المتدرّجة في الوجود. ومن هنا يمكن التأمّل في إطلاق وجوب الاجتناب في المثال الثاني ، لأنّ المسلّم منه فيه إنّما هو في ما علم بابتلائه في يومه بمعاملة ربويّة ، وأمّا في ما علم

فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه (١٥٤٣) إلى أصالة الإباحة ؛ لعدم جريان استصحاب الطهر. وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد (١٥٤٤) ، فيحكم في كلّ معاملة يشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر عليها ؛ لأنّ فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم (١٥٤٥) التكليفي ، ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر على وجه (١٥٤٦).

______________________________________________________

بذلك في شهره ففي الفرق حينئذ بينه وبين مثال الحيض تأمّل ، فتدبّر.

١٥٤٣. أي : في مقدار الحيض. أمّا عدم جواز الرجوع فيه إلى الاستصحاب ، فللعلم بارتفاع الحالة السابقة فيه. وأمّا جواز الرجوع إلى أصالة الإباحة ، فلفرض عدم الاعتداد بالعلم الإجمالي في المقام. وأنت خبير بأنّه إذا بقي من الشهر مقدار الحيض كثلاثة أيّام ، فإذا مضى جزء من هذا المقدار يحصل للمرأة القطع بكونها حائضا إمّا في هذا الزمان أو في سابقه ، فيتعيّن عليها استصحاب الحيض ، فلا وجه معه لأصالة الإباحة كما لا يخفى.

١٥٤٤. لا يخفى أنّ حرمة المعاملة تارة تنشأ من ذاتها ، واخرى من كون إيقاعها بقصد ترتيب الآثار تشريعا ، وفسادها ملازم لإحدى الحرمتين لا محالة ، إذ المقصود من إثبات الفساد بالأصل إنّما هو في صورة قصد ترتيب الآثار ، وإلّا فالفساد مع عدم قصده ثابت بالقطع لا بالأصل ، وحينئذ يشكل الجمع بين الأصلين ، لمنافاة مؤدّاهما. والقول بأنّ أصالة الإباحة إنّما تنفي الحرمة الذاتيّة ، وأصالة الفساد إنّما تلازم الحرمة التشريعيّة ، غير مفيد بعد ثبوت الحرمة ولو تشريعا بعد الفساد ، لعدم ترتّب أثر على الإباحة الذاتيّة من حيث هي ، كما هو واضح.

١٥٤٥. خلافا لصاحب الحدائق. وقد تقدّم سابقا شطر من الكلام في ذلك ، فراجع.

١٥٤٦. يعني : بناء على صحّة معاملات الصبيّ المميّز ، إذ على القول بفسادها يكون الفساد مستندا إلى عدم البلوغ لا إلى كون المعاملة ربويّة.

وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود (*) ؛ للعلم بخروج بعض المشتبهات التدريجيّة عن العموم ؛ لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العامّ عن الظهور بالنسبة إليها ، ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجيّة كما لا يقدح في إجراء الاصول العمليّة فيها ، كذلك لا يقدح في إجراء الاصول اللفظيّة ، فيمكن التمسّك فيما نحن فيه لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق (١٥٤٧) بين الاصول اللفظيّة والعمليّة ، فتأمّل.

______________________________________________________

١٥٤٧. بالقول باعتبار الاصول العمليّة مع العلم الإجمالي بخلافها ، وبعدم اعتبار الاصول اللفظيّة معه. ووجه الفرق : أنّ اعتبار الاولى إنّما هو من باب التعبّد الشرعيّ ، والفرض أنّ العلم الإجمالي بخلافها إنّما يؤثّر في سقوطها مع تنجّز التكليف بالواقع ، لسلامة الأصل في كلّ من المشتبهين عن المعارض بدونه ، بخلاف الثانية ، لأنّ اعتبارها من باب الظهور النوعي المرتفع مع العلم ـ ولو إجمالا ـ بخلافها ، بل وكذلك لو قلنا باعتبارها من باب التعبّد العقلائي ، لظهور عدم تعبّدهم بالظواهر مع العلم الإجمالي بخلافها.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع تأثير العلم الإجمالي في العمل بالظواهر أيضا فيما احتمل كون الفرد الخارج من الأفراد التي لا يبتلي بها المكلّف ، كما إذا أمر المولى بإكرام العلماء ، وثبتت حرمة إكرام عالم مردّد بين أحد علماء البلد إجمالا وبين عالم في بلد ناء لا يبتلي به المكلّف عادة ، إذ لا ريب أنّ العقلاء لا يعذّرون العبد حينئذ في ترك إكرام علماء البلد لأجل كون العامّ عنده مخصّصا بمجمل. والسرّ فيه عدم ظهور العامّ في الشمول للأفراد التي لا يبتلي بها المكلّف عادة إلّا على وجه التعليق بالابتلاء ، وإذا تردّد الخارج بين الأفراد التي يبتلي بها المكلّف فعلا وبين غيرها ، رجع الشكّ في تخصيصه بالنسبة إلى الأفراد التي له ظهور في الشمول لها فعلا إلى الشكّ البدوي الذي يدفع بعموم العامّ.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وإن قلنا بالرجوع إلى العامّ عند الشكّ فى مصداق ما خرج عنه.

السابع : قد عرفت (١٥٤٨) أنّ المانع من إجراء الأصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو العلم الإجمالي المتعلّق بالمكلّف به ، وهذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به كما في المشتبه بالخمر أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالا بحرمة إحدى لباسي الرجل والمرأة عليه ، وهذا من قبيل ما إذا علم أنّ هذا الإناء خمر أو أنّ هذا الثوب مغصوب.

______________________________________________________

ولعلّه إلى ذلك أشار المصنّف رحمه‌الله بأمره بالتأمّل. ويحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ الكلام في سقوط الظواهر عن الظهور بالعلم الإجمالي بخلافها في المقام وعدمه ، إنّما هو فرع جواز التمسّك بها في الشبهات الموضوعيّة ، كما حكي عن المحقّق الكركي ، وإلّا ـ كما هو الحقّ المحقّق في محلّه ـ فلا وقع للفرق المذكور ، لوضوح عدم ظهورها في الشمول للموضوعات المشتبهة ولو بالشكّ البدوي فضلا عن المشوب بالعلم الإجمالي ، كما إذا ورد وجوب إكرام العلماء ، وتردّد الأمر في شخص بين كونه عالما وجاهلا ، إذ لا ريب أنّ خطاب الأمر بإكرام العلماء لا يقتضي كونه عالما أو جاهلا بالخصوص إذا لم يعلم بكونه مسبوقا بأحد الوصفين. وكذا في ما نحن فيه إذا لم يعلم المكلّف بكون الصادر عنه من مصاديق البيع الربوي أو غيره ، فعموم حلّية البيع أو حرمة الرّبا لا يقضي كونه من أحد القبيلين.

١٥٤٨. لا يذهب عليك أنّ وجه مناسبة ذكر مسألة الخنثى من تنبيهات الشبهة المحصورة هو اشتباه المكلّف به مع كون الشبهة ناشئة من اشتباه مصداق المكلّف. وربّما يقال بعدم كفاية مجرّد ذلك فيها ، لأنّ الكلام في الشبهة المحصورة إنّما هو فيما اشتبه مصداق الحرام بعد العلم بالحرمة ، ولا ريب في عدم اشتباه مصداق الحرام في مسألة الخنثى ، بل نفس الخطاب المتوجّه إليها ، وإن كان الاشتباه فيه ناشئا من الاشتباه في مصداق المكلّف الذي توجّه إليه الخطاب في الواقع. فالأنسب ذكرها في ذيل مسائل الشبهة الحكميّة من مسائل الشكّ في المكلّف به ، لأنّها وإن كانت خارجة من المقامين إلّا أنّها بالأخيرة ألصق.

وقد عرفت في الأمر الأوّل أنّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم وجود موضوعه بين المشتبهين وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين. وعلى هذا فيحرم (١٥٤٩) على الخنثى كشف كلّ من قبليه (١٥٥٠) ؛ لأنّ أحدهما عورة قطعا والتكلّم مع الرجال والنساء إلّا لضرورة ، وكذا استماع صوتهما وإن جاز للرجال والنساء استماع صوتها بل النظر إليها ؛ لأصالة الحلّ ، بناء على عدم العموم (١٥٥١) في آية «الغضّ» للرجال (١٥٥٢) وعدم جواز التمسّك (١٥٥٣)

______________________________________________________

١٥٤٩. لا يخفى أنّ في حكم الخنثى وجوها ستّة ـ أقواها ما اختاره المصنّف رحمه‌الله ـ قد تقدّمت مع ما يتعلّق بفروع المسألة على مختاره في صدر الكتاب ، وبملاحظته تتبصّر هنا ، فراجع.

١٥٥٠. من آلتي الرجوليّة والأنوثيّة.

١٥٥١. هذا بالنسبة إلى حرمة نظر الرجل إلى الخنثى ، قال الله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ.) وتوهّم العموم فيه إنّما هو بالنظر إلى إطلاقه ، من جهة عدم تقييد الغضّ فيه بكون الغضّ من غير الخنثى ، فهو بإطلاقه يشملها والرجال والنساء ، غاية الأمر أنّه قد خرج منه نظر الرجل إلى أمثاله وإلى من يجوز النظر إليها من النساء الأقارب ، فتبقى حرمة نظر الرجل إلى الخنثى مندرجة تحت إطلاقه.

وأمّا وجه عدم العموم ، فلكون الفعل فيه ممّا حذف متعلّقه ، فاعتبار العموم فيه تابع لتقدير لفظ عامّ يشمل الخنثى وغيرها ، ولا قرينة له. ومع التسليم فالشبهة موضوعيّة ، لفرض عدم كون الخنثى طبيعة ثالثة ، فهي داخلة في أحد القبيلين ، فلا يجوز التمسّك فيها بالعموم أو الإطلاق.

١٥٥٢. صفة للغضّ.

١٥٥٣. هذا بالنسبة إلى حرمة نظر النساء إلى الخنثى ، قال الله سبحانه : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا

بعموم آية «حرمة إبداء الزينة على النساء» ؛ لاشتباه مصداق المخصّص. وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزوجة ؛ وإلّا فالأصل عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج.

______________________________________________________

ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَ) إلى قوله (أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ....)

ولا يذهب عليك أنّ الأمر بوجوب الغضّ للنساء ـ كآية الأمر بغضّ البصر للرجال ـ ليس له عموم ، بخلاف النهي عن إبداء الزينة ، فإنّ له عموما بقرينة الاستثناء ، ولذا غيّر أسلوب العبارة ، فبنى الأمر في الآية الاولى على عدم العموم ، وفي هذه على عدم جواز التمسّك بالعموم في المقام ، نظرا إلى كون الشبهة مصداقيّة ، وظاهره تسليم العموم هنا خاصّة. وكذا قد جعل بناء الاستدلال في الاولى على الأمر بالغضّ ، وهنا على حرمة إبداء الزينة مع الأمر بالغضّ هنا أيضا.

قال في كنز العرفان : «يحرم إبداء الزينة. فقيل : المراد مواضعها على حذف المضاف ، لا نفس الزينة ، لأنّ ذلك يحلّ النظر إليه ، كالحلّي والثياب والأصباغ. وقيل : المراد نفسها. ويظهر لي أنّ المراد نفس الزينة ، وإنّما حرّم النظر إليها إذ لو أبيح كان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها. وأمّا ما ظهر منها فليس بمحرّم ، للزوم الحرج المنفي في الدين» انتهى.

ومبنى الاستدلال في المقام بالعموم ـ على تقدير جوازه ـ إنّما هو على القول الأوّل ، وكذا على أنّ حرمة إبداء مواضع الزينة للنساء تستلزم حرمة نظر الغير إليها أيضا ، فمقتضى العموم حرمة النظر إلى النساء على كلّ من الرجال والنساء ، وإذا انضمّت إليه حرمة نظر النساء إلى الرجال كما هو مقتضى صدر الآية ـ لأنّه وإن لم يكن له عموم كما تقدّم ، إلّا أنّ هذا متيقّن منه ـ يثبت بمقتضى صدر الآية والمستثنى منه في ذيلها حرمة نظر كلّ من الرجال والنساء إلى النساء ، ونظر النساء إلى الرجال ، وقد استثنى من ذلك جواز نظر النساء إلى أمثالهنّ.

ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها ؛ إمّا لانصرافها إلى غيرها خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ، وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا وإن كان مردّدا بين خطابين موجهين إليه تفصيلا (١٥٥٤) ، لأنّ الخطابين بشخص

______________________________________________________

فإذا نظرت المرأة إلى الخنثى ، فإن كانت الخنثى مؤنّثا في الواقع يكون هذا النظر حلالا في [الواقع](*) ، وإن كان مذكّرا كان حراما كذلك ، وحيث فرض تردّدها بينهما كانت الشبهة في الحكم لأجل الشبهة في مصداق موضوعه في الخارج ، فلا يجوز التمسّك بالعموم حينئذ.

وهذا غاية توجيه المقام. وهو بعد لا يخلو من إشكال بل منع ، لأنّه ـ مع ما في عبارة المتن لما عرفت من عدم تماميّة التمسّك بعموم حرمة الإبداء بانفراده على تقدير جوازه في الشبهات الموضوعيّة من دون ضمّ صدر الآية إليه ـ إنّ التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة لا مدخل له في إثبات حرمة نظر النساء إلى الخنثى كما هو المدّعى ، لأنّ غايته الدلالة على حرمة نظر الرجال إليها كما عرفت. وأمّا صدر الآية ، فهو بنفسه وإن كان مفيدا لحرمة نظر النساء إلى الخنثى ، بناء على عمومه للرجال والنساء ، وجواز التمسّك بعمومه في الشبهات الموضوعيّة بعد إخراج النساء منه ، إلّا أنّه لا حاجة حينئذ في إثبات حرمة نظر النساء إلى الخنثى إلى ضمّه إلى ذيل الآية. نعم ، لو كان المقصود من إيراد كلّ من الآيتين إثبات حرمة نظر الرجال إلى الخنثى خاصّة ، لم يرد على المصنّف رحمه‌الله شيء ممّا قدّمناه ، إلّا أنّه يبقى حكم حرمة نظر النساء إلى الخنثى بلا دليل مذكور في العبارة.

١٥٥٤. قيد للتوجّه. والمراد بالتوجّه التفصيلي هو العلم بتوجّه الخطاب إليه وإن كان مردّدا بين خطابين ، في قبال العلم بتوجّه خطابين إلى صنفين يعلم دخوله في أحدهما.

__________________

(*) سقط ما بين المعوقين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعنى.

واحد بمنزلة خطاب واحد لشيئين ؛ إذ لا فرق بين قوله : «اجتنب عن الخمر» و «اجتنب عن مال الغير» ، وبين قوله : «اجتنب عن كليهما» ، بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما ، لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة ضعيفة ؛ فإنّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزنا أو العورة عن النظر للخنثى ، كما ترى (١٥٥٥).

وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ؛ فإنّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل الإباحة في المشتبهين ، وهو ثابت فيما نحن فيه ؛ ضرورة عدم (*) جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ؛ للعلم بوجوب حفظ الفرج من النظر والزنا على كلّ أحد ، فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا لبعض الاشتباهات ، فلا يجوز له ترك العمل بخطابهما.

الثامن : أنّ ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كلّ واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ؛ لأنّ المفروض عدم جريان الأصل فيهما ـ لأجل معارضته بالمثل ـ ، فوجوده كعدمه.

ويمكن الفرق (١٥٥٦) من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام وتخصيص الجواز بالصورة الاولى ، ويحكمون في الثانية بعدم جواز الارتكاب ؛ بناء على العمل بالأصل فيهما ، ولا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ، ولا دليل على حرمتها إذا لم

______________________________________________________

١٥٥٥. لأنّ منشأ الانصراف هنا هي قلّة وجود الخنثى ، وهي بنفسها من دون ضمّ كثرة الاستعمال إليها ليست منشأ له ، ومعه لا حاجة إليها كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في بعض تحقيقاته في الفقه.

١٥٥٦. إنّما خصّ الفرق بالمجوّزين لعدم تأتّيه على القول بوجوب الموافقة القطعيّة ، لفرض وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين فيما كان الأصل في كلّ

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : جواز.

تتعلّق بالعمل ، خصوصا إذا وافق (١٥٥٧) الاحتياط ، إلّا أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ربّما يظهر منه التعميم ، وعلى التخصيص فيخرج عن محلّ النزاع ، كما لو علم (١٥٥٨) بكون إحدى المرأتين أجنبيّة أو إحدى الذبيحتين ميتة أو أحد المالين مال الغير أو أحد الأسيرين محقون الدم أو كان الإناءان معلومي النجاسة سابقا ، فعلم طهارة أحدهما.

وربّما يقال (١٢) (١٥٥٩) : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات الماليّة ونحوها كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض ، فيستظهر أنّه لم يقل أحد فيها بجواز الارتكاب ؛ لأنّ المنع في مثل ذلك ضروري. وفيه نظر.

التاسع : أنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ؛ لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر.

______________________________________________________

منهما الحلّ ، لقاعدة الاشتغال بعد تساقط الأصلين ، لأجل التعارض أو لأجل حكومتها عليهما ، على الوجهين في مبنى هذا القول. وأمّا فيما كان الأصل فيهما الحرمة فللعمل بالأصلين فيهما ، لأنّ المانع من العمل بهما في الأوّل هو لزوم المخالفة العمليّة للعلم الإجمالي المفقودة هنا بالفرض.

١٥٥٧. كما في مفروض المقام.

١٥٥٨. لأصالة عدم سبب الحلّ في جميع ما ذكر.

١٥٥٩. حكي ذلك عن المحقّق السبزواري في رسالته التي أفردها في مقدّمة الواجب ، حيث قال بوجوب الاحتياط في النفوس والأعراض دون الأموال ، نظرا إلى ما استفيد من الشرع من اهتمام الشارع بالأوّلين. ووجه النظر هو منع ثبوت الضرورة في النفوس والأعراض أيضا ، لإطلاق كلام المجوّزين.

المصادر

(١) الأربعين (لعلّامة المجلسى) : ص ٥٨٢.

(٢) حدائق الناضرة ج ١ : ص ٥١٧.

(٣) مناهج الأحكام : ص ٢١٧.

(٤) الوسائل ج ١٦ : ص ٤٠٣ ، الباب ٦٤ من أبواب حكم السمن والجبن ، الحديث ١.

(٥) الوسائل ج ١٧ : ص ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٢.

(٦) تحف العقول : ص ٤٨٠.

(٧) حدائق الناضرة ج ١ : ص ٥١٧.

(٨) الوسائل ج ١ : ص ١١٢ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٩) المدّثّر (٧٤) : ٥.

(١٠) الوسائل ج ١ : ص ١٤٩ ، الباب ٥ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

(١١) البقرة (٢) : ٢٢٢.

(١٢) هداية المسترشدين : ص ٢٢١.

فهرس الموضوعات

في المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي.............................................. ٧

في الانحصار عقلي الاصول الأربعة............................................... ١٧

الشك في نفس التكليف........................................................ ٢٩

الشبهة التحريميّة............................................................... ٣٣

أدلة البراءة.................................................................... ٣٥

المصادر..................................................................... ١١٥

أدلة الاحتياط............................................................... ١١٧

أدلة الاحتياط / التنبيه الأوّل.................................................. ١٧١

أدلة الاحتياط / التنبيه الثالث................................................. ١٧٧

أدلة الاحتياط / التنبيه الرابع.................................................. ١٨٣

أدلة الاحتياط / التنبيه الخامس................................................ ١٨٧

الشبهة التحريميّة من جهة تعارض النصّين........................................ ١٩٥

المصادر..................................................................... ١٩٩

الشبهة التحريميّة من جهة تعارض النصّين........................................ ٢٠١

التنبيه الأوّل................................................................. ٢٠٩

في الشبهة الوجوبية........................................................... ٢٢٩

قاعدة التسامح في أدلّة السنن................................................. ٢٥٣

المصادر..................................................................... ٣٢٣

في دوران الأمر بين المحذورين................................................... ٣٢٥

المصادر..................................................................... ٣٦٥

في الشبهة المحصورة........................................................... ٣٦٧

في الشبهة المحصورة / التنبيه الأوّل.............................................. ٤١٩

في الشبهة المحصورة / التنبيه الثانى............................................... ٤٢٥

في الشبهة المحصورة / التنبيه الثالث............................................. ٤٣١

في الشبهة المحصورة / التنبيه الرابع............................................... ٤٣٩

في الشبهة المحصورة / التنبيه الخامس............................................. ٤٥٣

في الشبهة المحصورة / التنبيه السادس............................................ ٤٥٧

في الشبهة المحصورة / التنبيه الثامن.............................................. ٤٦٥

المصادر..................................................................... ٤٦٧

فرائد الأصول - ٣

المؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
الصفحات: 470
ISBN: 978-964-8536-66-9
  • في المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي 7
  • في الانحصار عقلي الاصول الأربعة 17
  • الشك في نفس التكليف 29
  • الشبهة التحريميّة 33
  • أدلة البراءة 35
  • المصادر 115
  • أدلة الاحتياط 117
  • أدلة الاحتياط / التنبيه الأوّل 171
  • أدلة الاحتياط / التنبيه الثالث 177
  • أدلة الاحتياط / التنبيه الرابع 183
  • أدلة الاحتياط / التنبيه الخامس 187
  • الشبهة التحريميّة من جهة تعارض النصّين 195
  • المصادر 199
  • الشبهة التحريميّة من جهة تعارض النصّين 201
  • التنبيه الأوّل 209
  • في الشبهة الوجوبية 229
  • قاعدة التسامح في أدلّة السنن 253
  • المصادر 323
  • في دوران الأمر بين المحذورين 325
  • المصادر 365
  • في الشبهة المحصورة 367
  • في الشبهة المحصورة / التنبيه الأوّل 419
  • في الشبهة المحصورة / التنبيه الثانى 425
  • في الشبهة المحصورة / التنبيه الثالث 431
  • في الشبهة المحصورة / التنبيه الرابع 439
  • في الشبهة المحصورة / التنبيه الخامس 453
  • في الشبهة المحصورة / التنبيه السادس 457
  • في الشبهة المحصورة / التنبيه الثامن 465
  • المصادر 467