بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد :

فإن التربية عملية شاقة تشمل النفس والجسد والعقل والسلوك والروح والوجدان والأخلاق والإنسان والمجتمع والحياة برمتها ، لذا كانت بحق رسالات الأديان التي توجت بالإسلام هي رسالات تربية وإصلاح وتقدم وترق.

والتربية لا تتحدد بزمان أو مكان أو بيئة ، وإنما تحتاج إلى ممارسة ومتابعة وتعاون جميع العقلاء لإنجاح مهمتها ، حتى تتآزر جهودهم في تحقيق الغاية المرجوة منها ، لذا كانت شرائع الإسلام في العقيدة والعبادة والمعاملات دائمة متجددة ملازمة لحياة الإنسان ، تبشر وتنذر ، وترغب وتحذر.

ولا غرو في أن تظل الهداية الربانية وجهود الأنبياء والمرسلين والمصلحين هي النبراس الأول للتربية والمنار المضيء للأجيال ، والحكم الفاصل في نظريات التربية قديما وحديثا.

وما الزواجر والمواعظ المتكررة ومناهج الترغيب والترهيب المتلازمين غالبا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، إلا عوامل ناجحة وحاسمة في تحقيق أهداف التربية الناجحة والوصول إلى الكمال المنشود ، وإعداد الفرد الصالح الملتزم بالأخلاق والقيم الصالحة كالتزامه بالعقيدة والإيمان بالله عزوجل.

وإن هذا الإنسان بأطماعه وحرصه على كسب أكبر قدر من فوائد الكون ليحتاج إلى الحد من أطماعه ، وتخفيف حدة حرصه ووضع ضوابط فعاله أمام جشعه ، ومنع استرساله بما تملي عليه قوته وجبروته ، وذلك حتى تكون المنافسة بينه وبين بني جنسه شريفة لا نزاع فيها ولا صراع ، ولا يتحقق ذلك إلا بأصول راسخة من التربية التي تضمن له السعادة والطمأنينة والاستقرار ، وتكون عاملا مهما في التوصل لتحقيق الآمال العراض في حياته ، بل لتمنحه القدرة على فهم الحياة ، وتزوده بطاقات روحانية هائلة يتغلب بها على مصاعب الدنيا ومعكرات المعيشة.

ومن بداهة القول أو نافلته التأكيد عى أن رسالة الدين وتاجه الإسلام تقوم على منهج التربية الصالحة لإعداد الجيل المؤمن الذي يسعى لخيري الدنيا والآخرة ، وخير نفسه وغيره من أبناء المجتمع على قدم المساواة ، حتى لا يكون هناك في ساحة الحياة أحقاد ولا أطماع ، ولا صراعات ونزاعات ، ولا انحرافات ومفاسد ، ولا جبن وتخاذل ، ولا فتور وخمول ولا حسد ولا تغابن وغش ، وإنما شأن ديننا وعقيدتنا إعداد النفس المؤمنة الصالحة التي لا تعرف اليأس والقنوط ، وتتميز بالإقبال على الحياة بروح طيبة متفائلة راضية ، متعاونة أمينة متفائلة راضية ، متعاونة أمينة على مصالح الأمة وتطلعاتها ، تفيد وتستفيد ، وتعطي ولا تمنع ، وترحم ولا تقسو ، وتصفو ولا تكدر ، وتتنامى ولا تخبو وتتقدم ولا تتأخر ، وتكون هي الطليعة في كل شيء نافع مفيد للإنسان والإنسانية جمعاء.

وإن أهم ما علمنا الإسلام في مجال التربية هو خلق الأمانة ، حتى يكون المربي أمينا على حاجات الناس ، وتكوينهم وتطلعاتهم ، فلا تعصف به الأهواء والشهوات ، والميول والتيارات ، والنزعات الهدامة ، فيضيع مقدرات الأمة ويسيء لعقول أبنائها ويجعلها في شتات وضياع. وعلي المربي أن يكون دائما مراقبا ربه ، خائفا من عقابه وعذابه ، لا يتردد عن قول الحسن وفعله والترغيب فيه ، والتنفير من القبيح والنهي عنه.

ومن متطلبات الأمانة كثرة الاطلاع على العلوم والمعارف القديمة والحديثة ، والتعرف على ما لدى الآخرين من نظريات بناءة ، ليختار ما هو صالح منها ، وينتقي ما هو مفيد ، ويتجنب ما هو ضار ، وإمامه ومنهجه وهدفه وغايته هو الالتزام بنظام الدين والإسلام والخلق الفاضل وأخص بنود الأخلاق خلق الحياء ، إذ لا فائدة من علم بلا أخلاق ، ولا أخلاق بل حياء.

ومن أهم أصول التربية الاجتماعية وركائزها العتيدة في شرعة الإسلام التحلي بروح الأخوة الإنسانية والإيمانية بالله تعالى ، حتى يحس المربي من أعماق نفسه بشعور قوي نحو غيره ، ألا وهو الانتماء لهذه الرابطة الأخوية الأصيلة والتي يكون العطاء والعمل بموجبها.

إن الأمانة والأخوة صمام الأمان للتربية الناجحة ، ولعل أخلص القائمين بالتربية هم الموجهون الدينيون الذين لا يرجون جزاء ولا شكورا ، فتراهم يتحرقون من أجل إيصال الكلمة الطيبة لغيرهم والتذكير بالعمل الصالح مناط الحياة الفاضلة.

ولا أعدو الحقيقة إن قلت : إن الأخ الفاضل الأستاذ عمر أحمد عمر الذي عرفته

منذ مدة طويلة في رحاب جامعة دمشق هو الرجل الفاضل والمربي الناجح ، إنه طيب النفس ، لا مع الفكر ، واسع الأفق ، مخلص العقيدة لدينه ، قوي الهمة والعزيمة في عمله وواجبه.

وكتابه هذا فضلا عن تميزه بتحقيق الأحاديث النبوية وتخريجها من مصادرها الموثوقة ، جمع بين الأصول الإسلامية التربوية ، وبين الأفكار والنظريات العلمية العصرية ، لذا كان جلي الفائدة عظيم الأثر.

ومنهجه وسبيله ليس جديدا إنما هو منهج الإسلام وتراثه وعقيدته وتشريعه الخالد ، كما قال الله تعالى في كتابه المجيد : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف : ١٠٨).

الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه

بجامعة دمشق

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسّلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وبعد ، فإن التربية أخطر عملية يتأثر بها الإنسان وعليها يتوقف نمو الإنسان إلى أقصى الحدود المرسومة له ، وبها يصلح لأداء المهمة المنوطة به.

وحين تبرز أمة على مسرح التاريخ ، وتتفوق على الأمم المعاصرة والسابقة لها ، وتصبح أشد منها قوة وأكثر رقيا ، وتحقق العدل والحياة الكريمة لأفرادها ؛ ثم تريد أن تكشف السر الذي جعلها خير الأمم ، فادرس المنهج الذي ربت عليها صغارها ؛ فجعلتهم أبطالا صالحين وعلماء راسخين.

وإن القرآن الكريم هو دستور التربية الناجحة ؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنزله لهداية الخلق وارشادهم ، كما جاء في قوله سبحانه :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) سورة الإسراء : (٩).

وهو يتضمن أعظم منهج تربوي عرفه البشر. وقد جربته أمة كانت تعاني من الفرقة والضعف والجهل والتأخر ، فأصبحت أرقى الأمم وأعلمها وأقواها ، وبقيت كذلك قرونا عديدة ، وهي تنهل من معينه الفياض ، وتأوي إلى ظله الوارف ، ثم حدثت عوامل جعلتها تنحرف عنه ؛ فمنيت بالتمزق والتخلف.

وهي الآن تحاول أن تلحق بمن سبقها في مضمار الرقي ، ولكنها تتعثر في سيرها ، وتجد العقبات والمزالق في طريقها. فإذا أرادت أن ترقى القمة مرة ثانية ، وأن تأخذ بيد البشرية الضالة ، وأن تنقذها من شفا الحفرة التي توشك أن تقع فيها ؛ فيجب أن تعود إلى ذلك المنهج القويم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد سعيت إلى نفض الغبار الذي تراكم على ذلك المنهج مع مرور الزمن ، وتسليط الضوء عليه ، عسى أن أسهم في رقي هذه الأمة ، وأكون سببا في هداية كثير من الحائرين الضالين ، وأقدم دليلا ومنهاجا للمربين والمعلمين.

وقد خطر لي أن أقوم بهذا الجهد منذ أكثر من عشر سنين ، وكنت أتهيب القيام به لخشيتي من التقصير في الإحاطة بذلك المنهج ، أو العجز عن التعبير عنه بوضوح يتناسب مع بيان القرآن وبلاغته. ورغبت في أن يكفيني غيري من المربين والأدباء هذه المهمة العسيرة ، فلم أجد من أحسن القيام بها ؛ لأن القرآن الكريم لا يستطيع أن يفهم مقاصده وأغراضه ، وأن يتكلم ويكتب في موضوعاته إلا من تفيا طويلا في ظلاله ، وعاش مع وقائعه وأحكامه ، وتمكن من حفظ آياته ، وثابر على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، وتلقى العلم عن العلماء الراسخين ، وقرأ أمهات كتب التفسير ، وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وكان أديبا سهل العبارة ، ملما بضروب الإعجاز وأطراف البلاغة.

وبجانب القرآن الكريم توجد السنة النبوية ، وهي مبينة لمعانيه ، ومتممة لأحكامه. وهي مثله تحوي على منهج تربوي قويم ، ولا ريب في ذلك ، فقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم المربين وأكبر المصلحين ؛ ربى أمة بكاملها على أسس سليمة ومبادئ قويمة فكانت خير أمة أخرجت للناس. قال الله عزوجل :

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) سورة آل عمران : (١٦٤).

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجمعة ٢ ولذا يجب على من يحاول استخراج منهج القرآن في التربية أن يرجع إلى السنة ليكتمل عمله ، وتعظم الفائده منه.

فإذا تمكنت من عرض هذا المنهج وتوضيحه فالفضل في ذلك لله وحده. وإن أخطأت أو قصرت فمن نفسي. ويشفع لي حرصي على الحق وإخلاصي في طلبه وبذلي الجهد للوصول إليه.

والله أسال أن يعنيني على إتمام هذا العمل ، وأن يثيبني عليه ، وأن يثيب كل من ساهم فيه واطلع عليه واستفاد منه.

عمر أحمد عمر

الفصل الأول :

معنى التربية والحاجة إليها وأهدافها

١ ـ معنى التربية

لكلمة التربية أصول لغوية ثلاثة :

١ ـ ربا يربو : بمعنى زاد ونما. قال الله تعالى :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (١).

٢ ـ ربي يربى : بمعنى نشأ وترعرع. قال ابن الأعرابي :

فمن يك سائلا عني فإني

بمكة منزل وبها ربيت

٣ ـ رب يرب : ورب الشيء بمعنى أصلحه وتولى أمره وساسه وقام عليه ورعاه (٢).

ورب العالمين هو مربيهم ومتولي أمرهم ومصلحهم. قال الإمام البيضاوي في تفسيره : (الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية ، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا) (٣).

وقال الراغب الأصفهاني :

(الرب في الأصل التربية ، وهي إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام) (٤).

ويرى" فيخته" أن التربيه هي العمل الذي يسعى إلى تحقيق جوهر الكائن الإنساني ككائن يسعى إلى الخير بذاته ولذاته).

ويعرف عالم النفس" هنري جولي" التربية بأنها (مجموعة الجهود التي تهدف إلى أن تيسر للفرد الامتلاك الكامل لمختلف ملكاته وحسن استخدامها).

ويعرف عالم الاجتماع" دركهايم" التربية بأنها" العمل الذي تحدثه الأجيال الراشدة في الأجيال الناشئة من أجل الحياة الاجتماعية. وتهدف إلى تأسيس وتنمية عدد من العادات الجسدية والعقلية والأخلاقية التي يطالب بها المجتمع السياسي والوسط الاجتماعي الذي يعد له".

وكذلك يعرف" جون ديوي" التربية بأنها" وظيفة اجتماعية".

ورأت الدكتورة" فاطمة الجيوشي" أن تعريفات التربية العديدة تتفق على أنها : «العمل الإرادي الذي يحدثه الراشدون في الصغار لتحقيق هدف الفرد وهدف الجماعة التي ينتمي إليها في مناخ اجتماعي محدد (٥).

والتربية تشمل النمو الجسمي والعقلي وزيادة القدرات المادية والمعنوية والتدريب والتوجيه ، والإعداد للحياة ، ورعاية الناشئ وتعليمه وصقل مواهبه ، والأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه ، وجعله يعمل على تحقيق أكبر نفع لنفسه ولغيره ، ويصل إلى المستوى اللائق به والمناسب له ، ويشعر بالسعادة في حياته.

والتربية أوسع معنى من التعليم الذي يكون بنقل المعلومات من المعلم إلى المتعلم ؛ لأن التعليم يقتصر على الجانب العقلي ، بينما تتعلق التربية بالجسم والعقل والنفس والروح ، وتهتم بنمو الكائن بكل جوانبه.

فكل ما يحتاج إليه الإنسان لينمو وتزداد قوته يدخل في مجال التربية وكل تمرين أو عمل يؤثر في بنيته أو في ميوله وعواطفه تشمله التربية ، وكل تعليم أو توجيه يؤثر على نفسية المرء ، ويغير من اتجاهه يعتبر من محتواها وكل إعداد وتدريب يقصد به الفرد ليعود عليه بالنفع تتضمنه التربية. وكل تنشئة وتنمية جسمية أو فكرية أو نفسية تدخل في معناها.

والمربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق جل وعلا. فهو الذي خلق الكائنات جميعها ، وجعل بعضها ينمو ويتعلم بالحصول على الغذاء والتمرين المناسبين. وهو الذي منح الإنسان العقل ، وجعله قابلا للتعليم والتدريب والتوجيه. وعمل المربي تابع لخلق الله وإيجاده ، ونابع من شرع الله وكتابه. وإذا كانت التربية وفق الأسس التي شرعها الله كانت مواتية ، وآتت ثمارها على أحسن وجه.

والتربية عملية هادفة لها أغراضها وأهدافها وغايتها. وهي تقتضي خططا متدرجة ، تسير فيها الأعمال التربوية وفق ترتيب منظم صاعد ، ينتقل مع الناشئ ومن مرحلة إلى مرحلة (٦)

٢ ـ الحاجة إلى التربية

يحتاج إلى التربية كل كائن حي ينمو ويكبر ، ويتعلم ويزداد قوة ، ويتأثر بالتدريب والتوجيه. والكائنات قسمان : جامدة وحية. أما الكائنات التي نحسبها جامدة ، والتي لا تتغذى ولا تنمو ، فلا تخضع لأي عملية تربوية. وأما الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان فهي التي تخضع للتربية ، ويجعلها المربون حقلا لأعمالهم. ولكل كائن ما يناسبه. وأبسط هذه الكائنات وأقلها حاجة إلى التربية النبات. وأشدها تعقيدا وأكثرها حاجة إلى التربية الإنسان. وإليك تفصيل ذلك :

أ ـ تربية النبات :

لا يهتم الناس بتربية كل أنواع النبات ، وإنما يهتمون بتربية أنواع مخصوصة تفيدهم في الغذاء أو البناء أو يصنعون منها الألبسة والمفروشات ، أو يتمتعون بالنظر إلى أوراقها الخضراء وأزهارها الجميلة ويبتهجون باستنشاق روائحها الشذية.

وأول ما يجب على من يريد تربية بعض النباتات أن يحدد الغاية من تربيتها ، وهل يقصد التغذي بها ، أو الحصول على ثمارها ، أو الانتفاع بأخشابها ، أو غير ذلك؟

ثم يجب أن يدرس تركيب التربة التي يريد زراعتها ويختار المزروعات المناسبة لها. فالتربة تختلف في تركيبها والعناصر المؤلفة لها ، كما تختلف في ألوانها. وقد جعل الله هذا الاختلاف كالاختلاف في ألوان الثمار آية على قدرته. قال سبحانه وتعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ (٧) بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٨).

ولما كان الماء الذي يروي المزروعات متماثلا في تركيبه في كل الأصقاع ، فإن اختلاف التربة من مكان إلى آخر يجعل النباتات مختلفة في أشكالها وألوانها ، بما أودعه الله في كل منها من الخاصية التي تجعله يمتص من التربة العناصر المناسبة له دون غيرها. قال تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً (٩) وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها (١٠) قِنْوانٌ دانِيَةٌ (١١) وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً

وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ (١٢) انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ (١٣) إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٤).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ (١٥) وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٦)

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ (١٧) سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ (١٨) فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ (١٩) لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً (٢٠) كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٢١)

وإذا غرست التربة الطيبة بالأشجار الملائمة لها ، وأمدت بما تحتاج إليه ، فإنها تصبح جنات بإذن الله. قال الله عزوجل :

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ (٢٢) وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٣)

ثم يجب أن تختار النباتات المناسبة لمناخ المنطقة التي تزرع فيها. فأشجار المناطق الحارة لا تعيش في المناطق الباردة ، والنباتات التي تحتاج إلى رطوبة عالية لا تحتمل الجفاف الشديد ، ولكل نوع من المزروعات فصل تزرع فيه ، وما يزرع في الصيف لا ينمو إذا زرع في الشتاء ، فيجب أن تزرع النبتة في الفصل المناسب لها.

وبعد تهيئة الأرض وبذرها أو شتلها بالغراس تحتاج إلى الري بالماء الذي ينزل من السماء أو الذي ينبع من الأرض. قال سبحانه :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (٢٤) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٥)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ (٢٦) يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ (٢٧) فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً (٢٨) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢٩)

وحاجة النباتات إلى الماء تختلف في المقدار ومواعيد الري بحسب النوع والفصل والتربة والمناخ. فيجب جعل الماء بالمقدار المناسب وفي الوقت المناسب ، أو زرع ما يتناسب مع كمية الماء التي تنزل من السماء كل عام في الأرض البعلية.

وفوق ذلك يجب حرث الأرض وقلع الأعشاب الغريبة ، وقطع الأغصان اليابسة والتي تنمو بشكل غير مرغوب فيه. كما يجب إضافة السماد ومكافحة الحشرات والأوبئة. وهذا كله يحتاج إلى خبرة ودراية لا يحيط به غير المختصين بهذا الشأن.

فإذا روعيت كل هذه الأمور فإن المحصول يكون وفيرا وجيدا.

فإن كان حبوبا فإنها تتضاعف إلى سبعمائة ضعف. قال الله تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣٠)

وإن كان أشجارا فإنها ترتفع عالية ، وتتفرع أغصانها. وتعطى ثمارا يانعة جيدة.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها (٣١) كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٣٢)

وبذلك تحقق تربية النبات هدفها.

* * *

٢ ـ تربية الحيوانات

لقد ذلل الله للإنسان بعض الحيوانات ، واعتاد الناس تربيتها من قديم ، لأنها تفيدهم في الغذاء والركوب عليها وتحمل أمتعتهم ، ولأنهم ينتفعون من جلودها وأصوافها وأشعارها ، ويسرون بالنظر إليها. قال الله تعالى :

(وَالْأَنْعامَ (٣٣) خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ (٣٤) وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٣٥) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ (٣٦) إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ (٣٧) وَمِنْها جائِرٌ (٣٨) وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩)

وامتن الله على الناس بأن سقاهم اللبن من ضروع الغنم والماعز والإبل والبقر. قال سبحانه :

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ (٤٠) وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (٤١)

كما امتن عليهم بأن جعل هذه الحيوانات خاضعة لأصحابها ، ينتفعون منها على وجوه عديدة. قال تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها (٤٢) لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ). (٤٣)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ (٤٤) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٤٥)

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً (٤٦) كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٤٧)

وعرف الناس فوائد العسل الذي تصنعه النحل ، وأصبحوا يربون النحل للحصول على العسل. والله هو الذي سخر النحل لهذا العمل.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٤٨). ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً (٤٩) يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٠)

واستطاع الناس تعليم بعض الكلاب والطيور الجارحة للاعتماد عليها في الصيد.

قال تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١)

كما استطاعوا تعليم بعض الكلاب بالاعتماد على حاسة الشم القوية التي تمتاز بها أن تتعقب المتهمين بالقتل أو السرقة ، أو تتبع الأثر للبحث عن المسروقات ، واستطاعوا تعليم الحمام الزاجل واستخدامه في نقل الرسائل وبعض الأشياء الخفيفة.

وفي هذا العصر تمكن الإنسان من تربية الأسماك في الأحواض الكبيرة والبحيرات الصناعية ، وافتن في تربية الطيور التي تعطيه اللحم والبيض ، واعتنى بتربية أنواع عديدة لما لها من الفائدة أو لما يجده فيها من المتعة. وتحديد الغاية من تربية الحيوان واختيار النوع المناسب لذلك أمر أساسي. وقد يتوجب اختيار صنف معين لنوع من الحيوانات دون غيره. فالذي يريد تربية العجول لذبحها يختار صنفا ينمو بسرعة ويكبر إلى حد لا تصل إليه أصناف أخرى. كما إن الذي يريد تربية أبقار للبنها يختار صنفا يدر اللبن بكميات كبيرة. وكذلك الذي يربي الدجاج للحصول على البيض يختار صنفا يختلف عن الصنف الذي يربى للحصول على اللحم.

وبالإضافة إلى إعداد المكان المناسب للحيوان وتقديم ما يحتاج إليه من العلف والماء بطريقة فنية نظيفة ومريحة ، وبمقادير مدروسة ، أصبح الإنسان يعتمد على الآلات لحلب الأبقار. وجمع البيض وحفظ الألبان ومشتقاتها ، وصناعة اللحوم ومعلباتها.

ولما كانت الحيوانات تمتاز عن النباتات بالحس والحركة ، فمن الواجب على مربيها أن يحسن معاملتها لتستجيب له ولا تنفر منه. فالذي يعمد إلى فرس ليمسك بزمامها يعلم أنه إذا حمل بيده قبضة من العشب ، ومشى نحوها بهدوء ، وناداها برفق فإنها تقبل إليه ؛ ولكنها تهرب منه إذا جاء إليها راكضا ، ولم يكن في يده شيء تأكله. والذي يريد تدريب مهر على الركوب فإنه يبدأ بوضع شيء خفيف على ظهره ، ثم يزيد في ثقله ، وهو يسوسه ويطعمه ويمشي بجانبه ، حتى يمكنه من أن يعلو ظهره في الوقت المناسب.

وقد يتأثر الحيوان بالصوت الحسن والنغمات الموزونة أكثر من الضرب بالسياط. فالجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقال ، ويستصغر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي ، واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال ، ما إن تسمع صوت الحادي حتى تمد أعناقها ، وتصغي إليه ناصبة آذانها ، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها. وربما تتلف أنفسها من شدة السير ونقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها.

وقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري قال : كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب ، فأضافني رجل منهم ، وأدخلني خباءه ، فرأيت عبدا أسود مقيدا بقيد ، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت ، وقد بقي منها جمل ، وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه ، فقال لي الغلام : أنت ضيف ولك حق ، فتشفع فيّ إلى مولاي ، فإنه مكرم لضيفه ، فلا يرد شفاعتك ، فعساه يحل القيد عني.

قال : فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت : لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد.

فقال : إن هذا العبد قد أفقرني ، وأهلك جميع مالي. فقلت : ما ذا فعل؟

فقال : إن له صوتا طيبا ، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال ، فحملها أحمالا ثقالا ، وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته. فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد. ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك.

قال : فأحببت أن أسمع صوته ، فلما أصبحنا أمرته أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هناك ، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي. فما أظن أني سمعت قط صوتا أطيب منه (٥٢).

وكانت الطيور تقف على رأس داود عليه‌السلام لاستماع صوته. قال تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ (٥٣) وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). (٥٤) وتوصل العلماء إلى اسماع الأبقار نغمات معينة حين حلبها تجعلها تقف هادئة وتدر اللبن ، كما توصلوا إلى إسماع الزرازير والحيوانات التي يرغبون في إبعادها عنهم أصواتا تجعلها تنفر وتبتعد ؛ فتجتنب أضرارها.

وبذلك تدخل في تربية الحيوان عوامل ليست في النبات.

٣ ـ تربية الإنسان :

إن تربية الإنسان أشد تعقيدا وأكثر أهمية ، وهي تستغرق مدة أطول من تربية غيره من الكائنات.

فأما المدة التي يحتاج إليها الإنسان في التربية فتدوم طوال حياته ، لأنه لا يصبح كاملا وإن طالت تربيته ، فتراه يخطئ ويتعثر في سيره ، ويقع في المشكلات من حين إلى آخر. ومهما حصل من العلوم ، وتلقى من التربية يبقى محتاجا إلى المزيد منها. وهذا سر قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٥٥)

وتبقى علوم الإنسان محدودة وضئيلة لقصور عقله وقلة إدراكه :

(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٥٦)

ولذلك فإنه يحتاج إلى من يوجهه وينصحه ويربيه ويعلمه ما دام حيا وتعظم حاجته إلى التربية في المراحل الأولى من عمره ، وخاصة حين يصبح مميزا قادرا على الفهم حتى سن البلوغ والرشد ، أي ما بين السنة السادسة والسابعة إلى الخامسة عشرة والثامنة عشرة من عمره.

وأما أهمية تربية الإنسان فلمكانته المرموقة في هذا الكون ؛ فقد جعله الله خليفة في هذه الأرض :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٥٧)

وسخر له ما في البر والبحر وما في السموات والأرض :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا (٥٨) مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩) وجعله من أكرم وأفضل المخلوقات :

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً). (٦٠)

والإنسان لا يستطيع إعمار الأرض وتحقيق الخلافة فيها ، ولا يستطيع الاستفادة من ثروات الأرض وخيرات السماء على أحسن وجه ، ولا يستحق التكريم والتفضيل إلا بالتربية الرفيعة التي ينالها والعلوم الهامة التي تعلمها ؛ ولهذا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم لما أخبرهم بأسماء الأشياء التي لم يتعلموها. قال سبحانه :

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي

بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ). (٦١)

وأما سبب تعقيد وصعوبة تربيته فلانه توجد فيه عدة عناصر ، ويتأثر بكثير من العوامل ولا تقتصر تربيته على جسمه كالنباتات والحيوانات ، بل يجب أن تشمل عقله وروحه وانفعالاته أيضا. وتفصيل ذلك نستأنفه بعد تحديد أهداف التربية.

* * *

٣ ـ أهداف التربية

إن تحديد الهدف أمر أساسي في كل عمل. وبعد أن يتم توضيح الهدف ، وتوجد القناعة بأهميته ، تبين الطريق المؤدية إليه ، ويبدأ السير مرحلة بعد مرحلة ، وخطوة بعد خطوة ، حتى الوصول إلى الغاية وتحقيق الهدف المرسوم وما لم يكن هذا فإن الجهود تتبعثر والخطوات تتعثر ، ويصبح المرء كمن يدور في حلقة مفرغة ، فيضل ويتثاقل إلى الأرض ولا يرغب في بذل أي جهد.

ومثال ذلك أنك لو طلبت من مجموعة من الناس أن يسيروا على طريق لا يعلمون طوله ، ولا الغاية التي يبلغونها بعد قطعها ، فإنك مهما حاولت أن تحثهم على متابعة السير ، تجدهم يميلون إلى تقصير الخطوات ، ويبدو عليهم التعب ، ويرغبون في الجلوس والرجوع. أما لو كانت الطريق بطول يقطعه المرء في ساعة أو ساعتين ، وكانت تتنهي بحديقة فيها الطعام اللذيذ والماء العذب والمناظر الجميلة والألعاب الممتعة ، وكانوا بوصولهم إليها تفتح لهم أبوابها ، ويقدم إليهم كل ما يرغبون فيه بدون مقابل ، وكان لديهم دافع إلى الطعام والشراب أو المتعة والتسلية ، فإنهم يسيرون بأقصى سرعة ، ولا يشعرون بأي تعب ، ويتسابقون في الوصول إليها.

وكذلك حين يتم تحديد هدف التربية بشكل صحيح ، ويكون هذا الهدف واضحا للمريبين ومقبولا من الذين يعلمون في حقلها ويتأثرون بها ، وتوضع الوسائل المؤدية إليه ، ويبدأ العمل بأساليب محكمة ؛ فإن التربية تؤتي ثمارها ، وتصبح ذات أثر كبير في رقي الأمة وازدهار المجتمع.

فوضوح الهدف والرغبة في تحقيقه هو الأساس الأول ، وتعيين الطريق الموصلة إليها والوسائل اللازمة لبلوغه هو الأساس الثاني. وبدون ذلك لا توجد تربية نافعة ولا تظهر لها ثمار يانعة.

وإذا استعرضنا الأهدف التي نادى بها المربون في أوربا في العصر الحديث نجدها متعددة ومختلفة بحسب النزعة الفكرية لكل منهم :

" فكومينوس" الذي يعد من أهم ممثلي الحركة الواقعية في التربية في القرن السابع عشر جعل الهدف من التربية هو مساعدة الإنسان على الوصول إلى السعادة الأبدية ، وذلك بالإتصال بالله. وكان المربون في عصره يرون أن التربية تساعد على الوصول إلى تلك الغاية بتحطيم الغرائز والشهوات الطبيعية والعواطف ، وسلوك

مسلك تهذيبي ، وروحي يؤدي إليها أما كومينوس فكان يعتقد أن الغاية القصوى الدينية يحصل عليها الإنسان بسيطرته سيطرة خلقية على نفسه. ولضمان ذلك ينبعي أن يعرف الإنسان نفسه ، وأن يعرف كل الأشياء ؛ فالمعرفة والفضيلة والتقوى هي بهذا الترتيب الهدف من التربية (٦٢).

ثم انتشر المذهب التهذيبي الذي يرى أنصاره أن عملية التعليم لا الموضوع المتعلم هي أهم شيء في التربية. ويمثل هذا المذهب التربوي" جون لوك" بقوله : إن أعظم عمل للمربي هو أن يقوّم السلوك وأن يشكّل العقل ، وأن يغرس في تلميذه العادات الطيبة ومبادئ الفضيلة والحكمة ، وأن يكوّن في نفسه فكرة عن النوع الإنساني ، ويقوده إلى حب ما هو حميد وجدير بالثناء. وأن يعوده النشاط والحيوية والاجتهاد في أداء ما يعمل ، وأن يعوده تحمل المشاق.

وأن يدعه يتذوق قدرا يسيرا من طعم المادة التي يجب أن يتقنها بجهوده الخاصة. أما الدراسات التي يطلب منه القيام بها فهي تمرين لملكاته وحسن استغلال أوقاته حتى لا ينزع إلى التواني والكسل» (٦٣).

وأنصار النزعة النفسية في التربة يرون مع" بستالوتزي" (١٧٤٦ ـ ١٨٢٧ م) أن المربي لا يغرس قوى جديدة في الإنسان ، أو ينفخ فيه روح الحياة ، لأن مهمته الأساسية هي منع أي قوة خارجية أن تقف في طريق النمو الطبيعي للفرد. فقوى الفرد الأخلاقية والعقلية والعملية يجب أن تستمد حياتها من القوى الداخلية لا من مصادر صناعية.

والتربية في نظره عبارة عن النمو العضوي للفرد سواء أكان هذا النمو أخلاقيا أو عقليا أو جسميا. وهي نمو جميع قوى الإنسان وملكاته نموا طبيعيا تقدميا منسجما (٦٤)

أما هربارت (١٧٧٦ ـ ١٨٤١ م) وهو من أصحاب النزعة النفسية أيضا فقد جعل الغرض من التربية أخلاقيا بقوله : (فالعمل الوحيد والكلي للتربية يمكن أن يلخص في كلمة الأخلاق). وقوله (إن لفظ الفضيلة يعبر عن الغرض من التربية جميعه). والفضيلة في نظره هي : (الحرية الباطنية التي تطورت إلى حقيقة واقعة ثابتة في الفرد) (٦٥).

وكذلك" فروبل" (١٧٨٢ ـ ١٨٥٢ م) اعتبر هدف التربية هو النمو وعملية التربية هي عملية نمو. وليس هناك أهداف خارجية. كما أكد الناحية الخلقية في التربية ، وجعل مهمة التربية بناء الأخلاق لأنها توجه نشاط الطفل ، وتربطه بالحياة وتكشف عن طبيعته الباطنية عن طريق العمل (٦٦).

وأصحاب النزعة العلمية يحددون الغرض من التربية بأنه الإعداد للحياة الكاملة وهذا يكون بالحصول على القدر الكافي المناسب من المعرفة لتكوين الإنسان من الناحية الفردية والاجتماعية ، وبتنمية القدرة على استخدام هذه المعرفة (٦٧).

أما أصحاب النزعة الاجتماعية فينظرون إلى التربية على أنها وسيلة لبقاء الجماعة ونموها ، ويتناولون البحوث التربوية بطريق دراسة بناء المجتمع ومظاهر النشاط والمطالب الاجتماعية. وهدف التربية في نظرهم هو إعداد الفرد للمشاركة الناجحة في حياة زملائه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية)٦٨(. وعلى العموم توجد أهداف ونظريات عديدة في التربية نجملها فيما يلي :

١ ـ التربية لكسب الرزق

٢ ـ نظرية تحقيق الذات

٣ ـ نظرية النمو

٤ ـ نظرية ايجاد المواطن الصالح.

١ ـ والذين قالوا بالهدف الأول ، وجعلوا التربية وسيلة للتدريب على الأعمال اللازمة لكسب الرزق ، ضيقوا مجال التربية ، وحطوا من شأنها ، لأن الإنسان لا تقتصر حاجته على إشباع دوافع جسده ؛ ولا يحتاج إلى كل هذا الإعداد وهذه الجهود للحصول على الرزق ، فقد قدر الله للناس أرزاقهم ، وهيأ لكل مخلوق ما يحتاج إليه. قال تعالى :

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٦٩)

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٧٠)

والرزق موجود في مناكب الأرض بما يكفي كل الناس ، وما على الإنسان إلا أن يسعى إليه ويستخرجه من مستودعه.

(وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (٧١) وقد تكفل الله برزق خلقه جميعا حتى الحيوانات والحشرات :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (٧٢)

وما يروجه بعض الكتاب من أن زيادة الغذاء الذي يتم الحصول عليه لا تتناسب مع زيادة عدد السكان وهم باطل. وإذا وجدت مجاعة في بلد ما فسببها سوء الاستغلال وسوء التوزيع ، فلو استغلت الأرض الصالحة للزراعة استغلالا جيدا ، واستغلت مياه الأمطار والأنهار والينابيع لري المزروعات ، واستغلت الثروات المخبوءة في أعماق البحار والمحيطات ووزع ذلك على أساس العدل والمساواة ، لفاضت الخيرات وعمت البركات :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (٧٣)

وسوء الاستغلال يجعل بعض الجشعين يحرصون على زراعة ما يزيد أرباحهم لا ما يحتاج إليه الناس. وسوء التوزيع يجعل بعض المحاصيل الزراعية تتراكم في خزانات أولئك الجشعين بدلا من توزيعها على المحتاجين إليها. وهذا ما ينذر المجتمع بكارثة خطيرة :

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً (٧٤) فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٧٥) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ (٧٦) الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٧)

وأولئك الذين يجعلون التربية وسيلة للحصول على شهادة للعمل في إحدى المهن والوظائف لا يستفيدون من التربية فائدة كبيرة ، ولا يحصلون على الرزق الوفير. وكم من جاهل يزيد دخله على دخل المتعلم ، وكم من أمي يملك أضعاف ما يملكه حاملو الشهادات العليا!

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا بالقناعة والزهد ، ونهانا عن الطمع ومحاولة الحصول على الرزق بالوسائل غير المشروعة.

«إن روح القدس نفث في روعي : لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. (٧٨)»

وبالتالي فلا ننكر أن التربية تسهم في رفع مستوى المعيشة وتحسين سبل الحصول على الأرزاق. ولكن كسب الرزق إذا جعله بعض الأفراد هدفا لهم ، فلا يصح أن يعتبر هدفا عاما أساسيا ، ويجب البحث عن هدف آخر.

٢ ـ نظرية تحقيق الذات : تعني هذه النظرية أن تجعل للفرد من خلال التربية شخصية قوية ، وأن يشعر بكيانه المستقل ، ويصبح له وجود ذو أهمية ، ويحصل على مكانة مرموقة في المجتمع.

غير أن الصفات التي يحقق بها الفرد ذاته تختلف من واحد إلى آخر ، ومن مجتمع إلى سواه ، بحسب عقيدته وثقافته ونظرته إلى الوجود. فلا يمكن تحديد معايير موضوعية لتحقيق الذات ، وتكون مقبولة في كل البلدان والأزمان ثم إن هذه النظرية تجعل الأفراد في سباق وصراع دائمين لتحقيق الذات. وكل منهم يريد أن يتفوق على غيره ، ويتبوأ مكان الصدارة ، وهذا وإن كان له أثره الجيد في الرقي والتقدم ، إلا أنه يكون على حساب العلاقات الإنسانية والعواطف النبيلة التي تجعل الإنسان يفعل الخير دون أن تكون الأضواء مسلطة عليه ، ويأخذ بيد الضعيف ، ويساعد العاجز ، ويحسن إلى المحتاج بدون أن يرغب في جزاء أو ثناء سوى ما أعده الله للمحسنين وكان نتيجة هذه النظرية في المجتمعات الغربية تفكك المجتمع وانحلال الأسرة والتردي في حمأة المادية ، واضمحلال القيم التي تجعل الناس أخوة متحابين. أما تأثير النظرية على العلاقات بين الدول فهو أشد خطرا وأعظم وقعا ، إذ تجعلها في سباق جنوني لتملك أسباب القوة والهيبة. وهذا ما يؤدي إلى الحروب فيما بينها بدلا من أن يعم السّلام والأمن.

٣ ـ نظرية النمو :

قال الفيلسوف" كانط" : (إن هدف التربية هو أن تنمي لدى الفرد كل ما يستطيعه من كمال). ويعني بهذا الكمال العقلي ، وعلى الأخص الكمال الخلقي (٧٩) وتحرص هذه النظرية على إزالة كل ما يعيق النمو السليم ، وعلى توفير الوسائل التي تسهل نمو الجسم والعقل ، وتزيد مختلف القوى المادية والمعنوية للإنسان.

غير أنها لا تحدد الغاية من استكمال الإنسان نموه وقوته ، ولا تبين ما يعمله الإنسان بعد أن يجتاز فترة النمو المقدرة له. فكأن هذه النظرية تجعل الوسيلة هدفا ، وتتعامى عن الهدف الصحيح!

٤ ـ نظرية إعداد المواطن الصالح :

إن معظم النظم البشرية وكثيرا من حكام ورجال هذا العصر يجعلون إعداد المواطن الصالح هدفا للتربية. ويحاولون التوفيق بين حقوق الفرد وواجباته الاجتماعية ، وإيجاد توازن بينهما ، كذلك التوفيق بين" نمو الذات" وبين السعادة أو الرفاهية الاجتماعية.

وهذه النظرية إن كانت مقبولة داخل حدود الوطن الواحد ، فإنها غير مقبولة على مستوى الإنسانية ؛ لأن المواطن الصالح قد يعامل أبناء وطنه باحترام وتقدير ،

ويحافظ على حقوقهم ويصون كرامتهم ، ولكنه قد يحتقر أبناء الأوطان الأخرى ويسلب أموالهم. ولهذا فإن الأوربي المتأثر بهذه النظرية يحترم أبناء وطنه ، ويعاملهم معاملة إنسانية تتحقق فيها العدالة والمساواة. ولكنه حين يذهب إلى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية يصبح كالوحش المفترس ، يستعبد الناس ويذلهم وينهب ثرواتهم ، ويعيث في الأرض فسادا. وهو في هذا لا يتعدى الهدف المرسوم له.

وبعد هذا العرض والتلخيص لأهداف التربية المختلفة ، نعرج على هدف التربية في الإسلام ، ولا بد من استنباطه من القرآن والسنة.

هدف التربية في القرآن والسنة :

تهدف التربية بالقرآن والسنة إلى جعل الإنسان يحقق الغاية التي خلق من أجلها ، وهي عبادة الله سبحانه ، بدليل قوله تعالى :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). (٨٠)

وعبادة الله لا تقتصر على الصلاة والصيام والزكاة والحج ، لأن هذه العبادات ـ وإن كانت أركان الإسلام ـ لا تستغرق حياة الإنسان كلها ، ولا تستنفد جهوده جميعها. والعبادة التي خلقنا الله لأجلها تشتمل كل طاعة يتقرب فيها العبد إلى ربه ، وكل عمل صالح يعود على صاحبه أو على غيره بالنفع ، ويقصد به وجهه الكريم. والعمل هو الذي يستغرق من الإنسان حياته ، ويجزى عليه بعد مماته. قال تعالى :

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ (٨١) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). (٨٢)

والذي يقوم بالأعمال الصالحة يكون إنسانا صالحا. ولا يقتصر صلاحه على نفسه وأبناء وطنه ، بل يشمل الإنسانية جميعها والخلائق كلها.

وبذلك يكون هدف التربية في الإسلام هو إعداد الإنسان الصالح ، وهو الإنسان التقي الذي يعبد الله ويهتدي بهديه. وهو الذي يعمر الأرض ويفي بشروط الخلافة فيها ، وهو الذي يحيا حياة فاضلة سعيدة ، لأنه استجاب لله ، ونظم أمور حياته بأحكام شريعته ، عملا بقوله سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). (٨٣)

وقد وعد الله المؤمنين الصالحين الذين يطيعون الله ورسوله ، ويقيمون الصلاة

ويؤتون الزكاة بأن يجعل لهم مكانة عالية في الأرض ويثبت أقدامهم فيها. وأنذر الكافرين الذين أعرضوا عن هديه بالدمار والبوار. قال سبحانه :

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). (٨٤)

وهذا الهدف يتناول جوانب الإنسان وكيانه كله. ولا بد لتحقيقه من تنمية جسمه ، وحفظ صحته ، وتقويم لسانه وتثقيف عقله ، وتزويده بالعلوم الصحيحة النافعة. ويتناول تدريبه على وسائل الكسب ، وإرهاف شعوره بجمال الكون ، وتعريفه بحقوق المجتمع والبشرية. ويشمل أقسام التربية كلها (٨٥).

* * *

هوامش الفصل الأول

__________________

(١) سورة الروم : ٣٩

(٢) مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام ـ عبد الرحمن الباني ص ٧ ـ ١٢ وأصول التربية ـ عبد الرحمن النحلاوي ص ١٢

(٣) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، طبع ١٣٠٥ ه‍ ص ٣

(٤) معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ـ تحقيق نديم مرعشلي دار الكتاب العربي. ص ١٨٩.

(٥) نقلنا هذا التعريف والتعريفات السابقة له من كتاب التربية العامة (١) للدكتورة فاطمة الجيوشي ، ص : آ ب ، ١٢٧.

(٦) أصول التربية ـ عبد الرحمن النحلاوي ص ١٤.

(٧) طرق

(٨) شديدة السواد. والآية في سورة فاطر : ٢٧.

(٩) بعضه فوق بعض كسنابل الحنطة.

(١٠) ثمرها أول انعقاده

(١١) عراجين النخل أي عناقيده تكون قريبة بعضها من بعض ومتدلية

(١٢) أي يشبه بعضها بعضا في الأوراق ، ويختلف في الطعم واللون

(١٣) نضجه

(١٤) سورة الأنعام : ٩٩

(١٥) أي بعضها يتسلق العرائش كأشجار العنب ، وبعضها لا يحتاج إلى عرائش ، وبعضها يزحف على الأرض ، وبعضها يرتفغ عاليا.

(١٦) سورة الأنعام : ١٤١

(١٧) حملت

(١٨) لا نبات فيه

(١٩) فسد ترابه

__________________

(٢٠) عسرا بمشقة

(٢١) سورة الأعراف ٥٧ ـ ٥٨

(٢٢) أي تخرج نخلتان أو أكثر من أصل واحد

(٢٣) سورة الرعد : ٤

(٢٤) ترعون دوابكم

(٢٥) سورة النحل : ١١

(٢٦) أدخله

(٢٧) ييبس

(٢٨) فتاتا

(٢٩) لذوي العقول والآية في سورة الزمر : ٢١.

(٣٠) سورة البقرة : ٢٦١

(٣١) تعطي ثمرها

(٣٢) سورة ابراهيم : ٢٤ ـ ٢٥

(٣٣) الأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز

(٣٤) تردونها إلى مراحها بالعشي.

(٣٥) تخرجونها إلى المرعى بالغداة

(٣٦) بجهدها

(٣٧) بيان الطريق المستقيم

(٣٨) حائد عن الاستقامة.

(٣٩) سورة النحل : ٥ ـ ٩

(٤٠) الفرث : ما في كرش الحيوانات وأمعائها من الغذاء

(٤١) سورة النحل : ٦٦

(٤٢) سخرناها

(٤٣) سورة يس : ٧١ ـ ٧٣.

(٤٤) الحاجة هي حمل الأثقال إلى البلاد.

(٤٥) الفلك : السفن. والآيتان في سورة المؤمن : ٧٩ ـ ٨٠

(٤٦) الحمولة : الصالحة للحمل عليها كالإبل الكبار. والفرش : التي لا تصلح له كالإبل الصغار والغنم. سميت فرشا لأنها كالفرش للأرض ، لدنوها منها. أو لأنها تتخذ منها المفروشات.

__________________

(٤٧) سورة الأنعم : ١٤٢

(٤٨) يبنون

(٤٩) مسخرة لك

(٥٠) سورة النحل : ٦٨ ـ ٦٩

(٥١) سورة المائدة : ٤

(٥٢) إحياء علوم الدين ج ٢ ص ٢٧٥.

(٥٣) رجعي صوته بالتسبيح والقراءة.

(٥٤) سورة سبأ : ١٠.

(٥٥) سورة طه : ١١٤

(٥٦) سورة الإسراء : ٨٥

(٥٧) سورة البقرة : ٣٠

(٥٨) لتطلبوا

(٥٩) سورة الجاثية : ١٢ ـ ١٣.

(٦٠) سورة الإسراء : ٧٠

(٦١) سورة البقرة : ٢١ ـ ٢٣.

(٦٢) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ١٥ ، ١٨٦

(٦٣) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ١٥ ، ١٨٦

(٦٤) المرجع في تاريخ التربية : ج ٢ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ـ ٣١٧ ، ٣٥٣ ، ٣٨١.

(٦٥) المرجع في تاريخ التربية : ج ٢ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ـ ٣١٧ ، ٣٥٣ ، ٣٨١.

(٦٦) المرجع في تاريخ التربية : ج ٢ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ـ ٣١٧ ، ٣٥٣ ، ٣٨١.

(٦٧) المرجع في تاريخ التربية : ج ٢ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ـ ٣١٧ ، ٣٥٣ ، ٣٨١.

(٦٨) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٤٠٤

(٦٩) سورة الذاريات : ٢٢ ـ ٢٣

(٧٠) سورة الزخرف : ٣٢.

(٧١) سورة فصلت : ١٠.

(٧٢) سورة العنكبوت : ٦٠

(٧٣) سورة الأعراف : ٩٦

(٧٤) فجأة

(٧٥) آيسون من كل خير

(٧٦) أي استؤصلوا

(٧٧) سورة الأنعام : ٤٤ ـ ٤٥.

__________________

(٧٨) رواه الديلمي في سند الفردوس عن جابر ، وأبو نعيم والطبراني عن أبي أمامة ، والبزار عن حذيفة. وأخرجه ابن أبي الدنيا ، وصححه الحاكم عن ابن مسعود. (كشف الخفاء)

(٧٩) التربية العامة (١) للدكتورة فاطمة جيوشي ص ١ ب.

(٨٠) سورة الذاريات : ٥٦ ـ ٥٨

(٨١) ليختبركم

(٨٢) سورة الملك : ٢

(٨٣) سورة الأنفال : ٢٤

(٨٤) سورة النور : ٥٤ ـ ٥٦

(٨٥) منهج التربية الإسلامية ـ محمد قطب ص ١١ ـ ١٤ ، مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام ـ عبد الرحمن الباني ص ٦٢ ـ ٧٢.

الفصل الثاني :

مجالات التربية

تتناول التربية كل جوانب الإنسان الجسمية والعقلية والروحية ، ثم تتجاوز ذلك إلى تهذيب انفعالاته وعواطفه ، وتهتم بمشاعره وأحاسيسه ، وتحدد علاقته بغيره على أسس سليمة.

فهي تشمل التربية البدنية والتربية العقلية ، والتربية الروحية والتربية الاجتماعية ، والتربية الانفعالية والتربية الجمالية.

وهذا ما نفصله فيما يلي :

١ ـ التربية البدنية

أول ما يقع عليه نظرنا من الإنسان هو جسمه المميز له ، وهو كغيره من الثديات يولد صغيرا ضعيفا ، ثم ينمو ويقوى شيئا فشيئا حتى يبلغ أوج قوته. وبعد ذلك تميل أعضاؤه إلى الضمور ، وقوته إلى الضعف ، حتى تنتهي حياته على هذه الأرض. ولقد أنعم الله على الإنسان بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة. قال سبحانه :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١)

ومنحه عينين جميلتين يبصر بهما ، ولسانا ينطق به ، وشفتين رقيقتين تحفظان فمه وأسنانه ، وتعينانه على الكلام والطعام :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) (٢)

والثديات ـ بما فيها الإنسان ـ تتغذى باللبن بعد ولادتها لفترة تطول لدى الإنسان إلى عامين ، وتقصر لدى غيره إلى أشهر معدودة.

قال تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (٣)

وأفضل لبن يتغذى به الطفل من الناحية الصحية والنفسية والاقتصادية هو لبن أمه. وقد ثبت علميا أن تركيب لبن الأم يتغير مع نمو الطفل الرضيع بما يتناسب مع

حاجته إلى الغذاء وقدرته على هضمه ؛ فيكون رقيقا خفيفا في البدء ، ثم يزداد تركيزا وكثافة كلما كبر الرضيع. وهذا اللبن يكون نظيفا غير ملوث بالجراثيم التي تملأ الزجاجة والحلمة الصناعية التي تقدم إليه بدلا من ثدي أمه. وشعور الطفل بالأمن والسرور حين يوضع في حجر أمه لترضعه يجعله يستفيد من لبنها فائدة كاملة وو ينمو نموا حسنا من الناحية الجسمية والعاطفية.

وبعد الفطام يحتاج الطفل إلى الغذاء. وقد أحل الله لنا الطعام الطيب النافع :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (سورة البقرة : ١٦٨)

وحرم علينا ما هو ضار خبيث :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً (٤) أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ (٥) أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (٦) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٧)

ونهانا عن الإسراف في الطعام والشراب ، لأنه يؤدي إلى اضطراب في جهاز الهضم ، أو يجعل خلايا الجسم تتكدس بالشحم الذي تنوء بحمله الأطراف ، ويصبح عبئا ثقيلا على القلب. قال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٨).

وأمرنا بالصيام لأنه يؤدي إلى تنقية الجسم من الفضلات والرواسب المتراكمة فيه ؛ مما يجعله كبير النفع من الناحية الصحية ، بالإضافة إلى فوائده الخلقية والنفسية والروحية. قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (٩)

ويحتاج الناس إلى ثياب تقيهم البرد والحر ، وتستر عوراتهم ، وتزين أجسامهم وقد امتن الله عليهم بتوفير المواد التي تصنع منها الثياب وتعليمهم صنعها :

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ (١٠) وَرِيشاً ، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). (١١)

وعورة الرجل الواجب سترها ما بين السرة والركبة. وعورة المرأة على المرأة مثل ذلك ، وعورتها على الرجل الأجنبي عنها كل جسمها عدا الوجه والكفين. ودليل ذلك

قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ (١٢) وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ (١٣) ذلِكَ أَزْكى (١٤) لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها (١٥) وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ (١٦) وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ (١٧) أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ (١٨) أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ (١٩) أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ (٢٠) وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢١)

وقد رخص الإسلام للمرأة أن تكشف عن رأسها وساعديها وساقيها أمام محارمها المذكورين في الآية السابقة لأنه يكثر اختلاطها بهم ، وقد تعيش معهم في بيت واحد. فلو أمرت بالستر أمامهم كما تفعل حين تخرج من البيت لوقعت في الحرج. وإذا كشفت هذه الأعضاء للقيام بأعمال المنزل. فلا يراها فيه أحد غيرهم ، ولا يخشى عليهم من الفتنة بها إذا نظروا إليها في تلك الحالة.

أما الرجل! فعمله خارج المنزل قد يجعله يكشف عن رأسه ويديه وساقيه ، وهو مرخص له في ذلك. وهذا الحكم يدل على يسر الإسلام وحكمته.

ومع أن الناس تعلموا صنع الألبسة الناعمة والجميلة إلا أن كثيرا من الذين لم يهتدوا بهدي هذا الدين ، ولم يتربوا بتربيته يكشفون ما أمر الله بستره من أجسامهم. وهم في ذلك يرجعون القهقرى ، ويفعلون كالإنسان البدائي الذي لم يكن يجد ما يستر به جسمه. وبهذا يبؤون بغضب من الله ، ويصبحون أتباعا للشيطان عدوهم الأول الذي حذرنا الله من غوايته :

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). (٢٢)

وحثنا الإسلام على القيام بالتمرينات التي تزيد الجسم قوة ونشاطا. وللصلاة أثر ملموس في هذه الناحية ، فهي تجعل معظم عضلات الجسم تتحرك برفق مرات عديدة كل يوم ، مما يحفظ عليها مرونتها ، كما إنها تنشط الدورة الدموية بسبب تغير

أوضاع الجسم ما بين الركوع والسجود والقيام والجلوس والطهارة التي لا تصح الصلاة بدونها تجعل الجسم نظيفا ونشيطا. وتقيه شر كثير من الجراثيم والفطريات التي تعلق به ، فإذا اغتسل أو توضأ سقطت عنه.

ونهانا الإسلام عن التعرض للأوبئة والاختلاط بالمصابين بالأمراض السارية ، وشرع مبدأ الحجر الصحي ، وأمر بالتداوي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها. وإذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها» (٢٣)

وقال : «تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء» (٢٤).

وحرم الإسلام الانتحار والقتل بدون حق وإيقاع أي ضرر بالجسم. وشرع القصاص والجزاء العادل لمن يقدم على قتل غيره أو يتلف عضوا منه ، للمحافظة على سلامة الإنسان وحقه في الحياة.

ومن واجب القائمين على التربية في المدارس والمعاهد أن يولوا الناحية الجسمية لطلابهم العناية اللائقة. ويتم ذلك بقياس طول كل طالب ووزنه ، وملاحظة تناسب القياس مع سنه. ويعاد القياس مع كل سنة على الأقل ، مع تقديم الوصايا اللازمة إذا ظهر أي تأخر أو اضطراب في النمو. ويجب تقديم وجبه غذائية للطلاب تمنح أجسامهم العناصر التي تحتاج إليها. كما يجب أن يشرف عليهم لجنة طبية تفحص عيونهم وآذانهم وأسنانهم وسائر حواسهم وأعضائهم في أوقات معينة ، وتقدم العلاج لكل من يحتاج إليه ، ويجب تعليمهم العادات الصحية في طعامهم وشرابهم وعملهم وجلوسهم وأحوالهم كلها. ثم يجب أن تكون مقاعد الطلاب مناسبة لأجسامهم ، وأن تكون الغرف التي يدرسون فيها نظيفة وجيدة التهوية والتدفئة والإضاءة. وأن تكون التمرينات الرياضية التي يقومون بها مناسبة لأعمارهم وقواهم.

فإذا ما روعيت كل هذه الأمور نبتت الأجسام نباتا حسنا ، ونمت نموا سليما. وبذلك يصبح الإنسان قوي الجسم صحيح البنية ، وهذا ما يجعله يضطلع بالتكاليف الملقاة عليه ، ويقوم بالواجبات المطلوبة منه.

٢ ـ التربية العقلية

هذه التربية أهم وأخطر من التربية الجسمية ، لأن الإنسان يمتاز عن الحيوان بعقله لا بجسمه ، فكثير من الحيوانات أعظم منه جسما وأشد منه قوة ، وهو يستطيع التغلب عليها وتجنب أذاها ، وإخضاعها له بعقله ودهائه.

وليس العقل تلك الكتلة من الأعصاب الموجودة داخل عظام الجمجمة والتي يسمونها الدماغ. ولكن الدماغ ضروري لحياة الإنسان ولقيام أعضائه بوظائفها ، ولجعله قادرا على الحس والشعور والتعلم كضرورة القلب لحياة الجسم. ونسبة العقل إلى الدماغ كنسبة الرؤية إلى العين ، ونسبة الحركة إلى اليد ، فالعقل نتيجة خاصية جعلها الله في الدماغ ، يفارق بها الإنسان سائر البهائم ، وهو الذي يستعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية ، وبه يعرف عواقب الأمور (٢٥).

ولا تعني التربية العقلية نمو الدماغ ، فنموه مرتبط بنمو الجسم وهو مع نموه وزيادة حجمه لا تتكاثر خلاياه ولا تتجدد طيلة الحياة ، فالخلايا العصبية تتكون أثناء فترة الحمل ، والإنسان جنين في بطن أمه. وتبقى تقوم بوظائفها حتى يعتريها الضمور والتلف في فترة الهرم والشيخوخة. ولكن التريبة العقلية تنصرف إلى الذكاء وزيادة القدرة على التفكير والإبداع ، وجعل الإنسان أكثر علما ومعرفة ، وجعله يزداد خبرة ومهارة ، للقيام بمهمته في الحياة على أكمل وجه.

والقدرات العقلية للإنسان تنمو بالتعلم والتدريب وبالإطلاع والتفكير. ويمكن لعلماء النفس قياس الذكاء وملاحظة ارتفاعه بالتربية المناسبة ، كما يمكن لغيرهم قياس طول القامة وملاحظة زيادتها في فترة النمو. ويجب أن تخضع المناهج التربوية للدراسة والتجربة ، وأن تجعل بشكل يؤدي إلى نمو الذكاء والقدرة على التفكير ، ولا تقتصر على معلومات تلقن للطلاب ، ويؤمرون بحفظها ، بدون نظر إلى حاجتهم إليها ، وصلتها بالحياة التي تسعى التربية لإعدادهم لخوض غمارها.

ولقد مضى العصر الذي كان يظن فيها أن العلماء توصلوا لمعرفة كل شيء ، وكانت المناهج التربوية فيه تشمل خلاصات كل العلوم ، ليحفظها الطلاب. فالعلماء أصبحوا أكثر تواضعا ويقينا بأن علومهم محدودة ، وأن ما يجهلونه أكثر مما يعلمونه ، وتتسع دائرة المجهول أمامهم كلما اتسعت الدائرة التي تنطوي فيها معلوماتهم. وظروف الحياة لا تبقى على نمط واحد ، بل تتغير من حين إلى آخر ، وتزداد سرعة

تغيرها بتقدم الحضارة ورقي المجتمع. ولذلك أصبحت التربية تسعى لجعل الإنسان يواجه الظروف المختلفة التي تمر عليه ، وتجعله يكتسب مرونة وقدرة على التفكير والتكيف مع الظروف الجديدة ، وإيجاد الحلول لكل المشاكل الطارئة ، وتجعله يبدع طرقا جديدة ، في إنجاز أعماله ، ويخترع أدوات حديثة تسهل عليه مهامه ، ويبتكر أجهزة معقدة تقوم بما لم يكن في الحسبان.

ولأن التفكير والعلم هما الزاد الذي يغذي العقل وينمي الذكاء ، فإن القرآن الكريم أمر بإعمال الفكر وتحصيل العلم ، وأثنى الله فيه على العلماء المفكرين والعقلاء الباحثين الذين يفكرون في السموات والأرض وينظرون إلى ما فيهما من أشياء محكمة الصنع ، ويعلمون ما تجري عليه الحوادث من نظام دقيق ؛ فيؤمنون بالله الواحد الذي خلق الكون ونظم الوجود قال سبحانه :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَ (٢٦) فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٧)

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ(٢٨). الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢٩).

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (٣٠)

وبالمقابل ذم الله المعطلين لعقولهم وحواسهم ، والمتبعين لآبائهم اتباعا أعمى بدون تفكير وبغير برهان. قال سبحانه :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا (٣١) عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (٣٢).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا

حَسْبُنا (٣٣) ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (٣٤)

فهم لا يقبلون الحقائق العلمية ، ولا يهتدون بكتاب منزل. ولكنهم ضالون متكبرون ، يتبعون الشيطان الذي يوردهم المهالك :

قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). (٣٥)

وليس أضر على الإنسان وأخطر على الحق من اتباع الهوى وتعطيل العقل والحواس ، قال سبحانه :

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً). (٣٦)

ومما يدل على قيمة العلم أن الله عزوجل امتن على الإنسان بخلقه وبتعليمه القرآن والبيان ، أي التعبير عن الأفكار والإفصاح عن المعاني. فقال :

(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ). (٣٧)

ولعل هذا الجمع بين ذكر خلق الإنسان وتعليمه ، وذكر تعليمه قبل ذكر خلقه وبعده ، لدليل على أنه لا شأن للإنسان بغير العلم ، ولا غنى له عنه.

وفوق ذلك فقد رفع الله من شأن العلماء الأتقياء ، ودل على فضلهم بقوله :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ (٣٨) آناءَ اللَّيْلِ (٣٩) ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). (٤٠)

وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنزلة العالية للعلماء والأجر الكبير الذي يحصلون عليه بقوله :

«من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، والحيتان في الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء. وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (٤١).

وذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلان : أحدهما عابد والآخر عالم فقال :

«فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال : إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» (٤٢)

والعالم يؤجر على علمه ، ويبقى ثوابه يكتب له بعد موته ، ما دام الناس ينتفعون بعلمه ، ويستفيدون من مخترعاته.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث :

صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» (٤٣)

والعلماء هم أشد الناس خشية لله وأقواهم إيمانا به ، بسبب ما يتوصلون إلى معرفته من الآيات الناطقة بعظمته وحكمته.

قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ). (٤٤) والعلم المذكور في هذه الآيات وغيرها لا يقتصر على القرآن وأحكام الشريعة ، بل يشمل كل العلوم النافعة للإنسان.

والأية السابقة التي تضمنت خشية العلماء لله أعقبت ذكر ما يهتم به المختصون في علوم الطبيعة ، كعلماء الفلك وعلماء الأجناس البشرية ، وعلماء طبقات الأرض والنبات والحيوان. وهذا يدل على عناية الإسلام بالعلوم كلها بدون تمييز بين العلوم الدينية والعلوم الطبيعية.

وقد جعل الله العلماء شهودا على أهم قضية في العقيدة ، وهي وحدانية الله عزوجل ، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته ، فقال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤٥).

وجعلهم حكاما على الناس يوم القيامة. قال سبحانه :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٤٦). وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي

كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤٧).

والعلماء يشفعون في الخلائق يوم القيامة ومرتبتهم بعد مرتبة الأنبياء.

عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (٤٨).

ولطالب العلم ثواب كالجهاد في سبيل الله.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع» (٤٩).

وبلغ احترام العقل في هذا الدين أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعتمد في دعوته على المعجزات التي يقف الإنسان مبهوتا أمامها.

وإنما كان يدعو الناس بالحكمة ، ويقنعهم بالحجة ، ويأمرهم بالتفكير في هذا الوجود كلما طلبوا منه معجزة خارقة. قال تعالى :

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ (٥٠) مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). (٥١)

فانظر كيف نقلهم من طلب المعجزة إلى التفكير في الحيوانات والطيور ؛ وذلك لأن المعجزة تدفع إلى الإذعان والخضوع بدون تعقل ، والتفكير يدفع إلى عبادة الخالق القدير بفهم وقناعة.

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقابل طلبهم للمعجزات بإعلانه أنه بشر يبلغ ما يوحى إليه ، لا يملك قوى خارقة ، ولا يستطيع أن يفعل شيئا إلا بإذن الله. قال سبحانه :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً (٥٢) أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٥٣) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ (٥٤) أَوْ تَرْقى (٥٥) فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٥٦).

وكان من فضل هذا الدين على العقل أن قضى على الخرافات والأساطير ، وأنقذ الناس من الجهل والضلال.

وللمحافظة على العقل حرم الله المسكرات والمخدرات التي تشل الأعصاب وتعطل العقول. كما حرم الميسر الذي يجعل لاعبه يستسلم للمصادفات ، ولا يقوم بأي جهد يعود بالنفع على الفرد والمجتمع.

فالله سبحانه هو الذي وهب الناس العقول ، وهو الذي أنزل اليهم ما يحتاجونه من البينات والهدى. فإذا ما اهتدوا بهديه ، واقتبسوا من نوره ، حققوا الهدف من وجودهم والغاية من حياتهم بدون اضطراب أو انحراف. وبذلك تكتمل العقول كما اكتملت الأجسام من قبل كمالها اللائق بها ، وتصبح جديرة بالتقديم والتقدير ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). (٥٧)

* * *

٣ ـ التربية الإجتماعية

يقضي الإنسان حياته كلها في وسط اجتماعي ، ولا يمكنه أن يستغني عن الخدمات المادية والمعنوية التي يقدمها له الآخرون. ولا بد من احترام الناس ومعاملتهم بالحسنى ليتم التعاون فيما بينهم ، ولا يستطيع الفرد أن يتكيف مع المجتمع ويحصل على التقدير والإحترام فيه ما لم يتقبل آراء مجتمعه ومفاهيمه ونظرته إلى الحياة. ولا يبقى المجتمع محافظا على شخصيته وخصائصه وثقافته ما لم يطبع أفراده عليها.

وقد حرص الإسلام على تماسك المجتمع بكل مؤسساته الصغيرة والكبيرة وعني بتربية الأفراد تربية اجتماعية فاضلة.

وأول مؤسسة اجتماعية ينتمي الفرد إليها هي الأسرة. وقد شرع الإسلام الأحكام التي تجعلها متماسكة ، وتحقق الالفة والمودة بين أعضائها ، وتمكنها من القيام بدورها الاجتماعي على أكمل وجه ، فمع أن الله سبحانه وتعالى غرس في قلوب الزوجين ميل كل منهما نحو الآخر :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٨)

أمر الرجل الإحسان إلى امرأته وإكرامها حتى في حال كرهها :

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً). (٥٩)

وأمر المرأة بطاعة زوجها وحفظ ماله وعرضه :

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ). (٦٠)

كما إن الله ـ عزوجل ـ جعل في قلوب الوالدين العطف والحنان على أولادهما وأوصاهما بحسن تربيتهم. وأمر الأولاد في كثير من آيات الذكر الحكيم بالإحسان إلى والديهم ، وقرن الإحسان إليهم بعبادته ، وشكرهما بشكره. من ذلك قوله سبحانه

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ (٦١) وَفِصالُهُ (٦٢) فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٦٣)

وهذا الإحسان واجب في كل الحالات حتى الحالة التي يكون فيها الولد مؤمنا والوالد مشركا ، غير أنه لا يطيعه فما يخالف أحكام الشرع :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما

وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ (٦٤) إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٦٥)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٦)

وجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوالدين أحق الناس بالصحبة. وحق الوالدة مقدم على حق الوالد في ذلك.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! من أحق بحسن صحابتي؟

قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك قال : ثم من؟

قال : أبوك» (٦٧).

ثم تتسع الدائرة لتشمل الأقرباء والأصحاب.

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قلت : يا رسول الله! من أبر؟

قال : أمك ثم أمك ثم أمك ، ثم أباك ، ثم الأقرب فالأقرب» (٦٨)

وعن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

يا رسول الله! من أبر؟

قال أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ومولاك الذي يلي ذاك ، حق واجب ورحم موصولة» (٦٩)

والإحسان إلى أصحاب الوالدين نوع من الإحسان إلى نفسيهما.

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» (٧٠).

والإحسان إلى الأقارب بالإنفاق على فقيرهم سبب للثراء في المال والبركة في الرزق ، ومساعدتهم وقضاء حاجاتهم سبب لطول العمر والتوفيق للأعمال الجليلة النافعة وبقاء الذكرى الحسنة والثناء الجميل.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«من سره أن يبسط (٧١) له في رزقه ، وأن ينسأ (٧٢) له في أثره (٧٣) فليصل رحمه» (٧٤) وأمر الله بالإحسان إلى الأرحام وإلى الفئات الضعيفة في المجتمع كالفقراء

والمساكين والمسافرين المنقطعين عن بلدهم. قال سبحانه :

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (٧٥)

واعتبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحسن إلى المساكين والأرامل ـ وهن النساء اللاتي فقدن أزواجهن ـ كالمجاهد في سبيل الله ، والمتعبد الذي لا يفتر عن قيام الليل وصوم النهار.

عن صفوان بن سليم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل» (٧٦).

وأمر الله تعالى بالإحسان إلى الجيران القريب منهم وغير القريب ، فقال : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ (٧٧) وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (٧٨) وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (٧٩) إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً). (٨٠)

ورفع الإسلام الصلات بين الجيران إلى مستوى الصلات بين الأرحام.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلّي الله عليه وسلّم قال :

«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (٨١).

فمن كثرة هذه الوصايا ظن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الجار سيرث من جاره ، كما يرث الرجل مال أبيه وابنه وأخيه.

وإيذاء الجار يتعارض مع الإيمان :

عن أبي شريح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن. قيل : ومن يا رسول الله؟

قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه» (٨٢)

وحق الجار يشمل الإحسان إليه والامتناع عن إيذائه بكل الوسائل المادية والمعنوية. عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قالوا : يا رسول الله! ما حق الجار على الجار؟

قال : «إن استقرضك أقرضته ، وإن استعانك أعنته ، وإن مرض عدته ، وإن احتاج أعطيته ، وإن افتقر عدت عليه ، وإن أصابه خير هنيته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذيه بريح قدرك

إلا أن تغرف له. وإن اشتريت فاكهة فاهد له ، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» (٨٣).

ويؤدي الإحسان إلى الأقارب والجيران إلى إعمار الديار وطول الأعمار.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (٨٤).

ولئن أصبح الناس يسكنون في بنايات ذات طوابق عديدة ، وشقق ملتصق بعضها ببعض ، فهم في أمس الحاجة إلى هذه التربية التي تجعلهم متراحمين متعاطفين ، وتنزع منهم كل ما يكدر صفاء الأخوة.

ولا يقتصر التراحم والتعاطف في الإسلام على الأسرة والقبيلة والجيران والمحتاجين ، بل يشمل كافة أفراد المجتمع المسلم. فقد جعل الله المؤمنين إخوة ، وأمرهم بأن يكونوا متحابين ، وأن يصلحوا بين كل فريقين أو فردين تنازعا. قال سبحانه :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ (٨٥) إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ (٨٦) إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا (٨٧) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٨٨)

ومن مستلزمات هذه الأخوة أن يعامل كل فرد إخوانه كما يحب أن يعاملوه ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، وللمحافظة على الأخوة بين المسلمين نهى الله عن السخرية من الآخرين ، وعن ذكر عيوبهم ، وعن التجسس عليهم والظن السيء بهم. ونهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التباغض والتحاسد والتقاطع والهجر الطويل.

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا تباغضوا ولا تحاسدوا (٨٩) ولا تدابروا (٩٠) وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (٩١).

ولذلك أيضا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإلقاء السّلام على من عرفت ومن لم تعرف :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، لا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السّلام بينكم» (٩٢).

كما أمر بإطعام الطعام وتبادل الهدايا وتقديم النصح والمجاملة بين الناس.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«حق المسلم على المسلم ست. قيل : ما هن يا رسول الله؟

قال : إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه» (٩٣).

ويتعدى هذا البر والإحسان المسلمين إلى غيرهم من المواطنين والمعاهدين والمتسأمنين. قال تعالى :

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (٩٤)

ولا يتسع المجال لاستعراض كل الأحكام والمبادئ والآداب والأخلاق التي تسهم في التربية الاجتماعية ، فهذا يستغرق كتابا كبيرا ، وسنعرض في فصل قادم شيئا مما يتعلق بهذا الموضوع. كما أن للعبادات في الإسلام آثارا اجتماعية على قدر كبير من الأهمية سنبينها في فصل مقومات التربية إن شاء الله تعالى.

وكما حرص الإسلام على تربية الفرد تربية اجتماعية تجعله ينسجم مع الآخرين ويحسن إليهم ، ويمتنع عن إيذائهم والعدوان عليهم ، فإنه حرص على تربيته بما يجعله يسهر على سلامة مجتمعه وأمنه ، ويسهم في رقيه وتقدمه ، ويعمل على توجيهه لما يرضى الله ، ومنعه من الانحراف والضلال ، ووقايته من الزيغ والفساد.

* * *

٤ ـ التربية الجمالية

لقد أضفى الله على كثير من مخلوقاته جمالا وزينة يحس به كل ذي حس مرهف وشعور دقيق. فالسماء يزينها القمر والنجوم :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ). (٩٥)

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ). (٩٦)

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). (٩٧)

والإنسان مركب على أحسن صورة وأجمل هيئة :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ (٩٨) فَعَدَلَكَ (٩٩) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ). (١٠٠)

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (١٠١)

والحيوانات التي سخرها الله للناس ، وأصبحوا يربونها لينتفعوا من لحومها وألبانها ، أو ليجعلوها مطية للسفر ونقل الأمتعة ؛ يشعرون حين ينظرون إليها بالمتعة والبهجة لما يلمسون فيها من الجمال والزينة* والأرض تزينها الأنهار والأشجار والورود والأزهار حتى إن هذه الزينة كثيرا ما تغري الناس بالاستمتاع بها ، وتنسيهم الغاية التي خلقوا لأجلها ؛ فيحتاجون إلى ما ينبههم لذلك بأمر يقضي عليها. قال تعالى :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها (١٠٢) وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا (١٠٣) لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ (١٠٤) بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (١٠٥)

والحسن والجمال يتصف به كل شيء خلقه الله :

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ). (١٠٦)

ولقد فطر الناس على حب الزينة والاستمتاع بالجمال ، حتى إنهم ليركنون إلى الدنيا التي يجب أن يجعلوها طريقا للدار الآخرة.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ

الْمُقَنْطَرَةِ (١٠٧) مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ (١٠٨) وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ (١٠٩) ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). (١١٠)

والله سبحانه أحل لعباده الزينة وأباح لهم الطيبات من غير إسراف أو تجاوز للحدود ، وندبهم إلى التزين حين الذهاب إلى المساجد وإقام الصلاة واجتماع بعضهم ببعض ، وحثهم على تناول الحلال الطيب الذي يجعلهم يرغبون فيما أعده الله للمتقين في الآخرة.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١١)

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الرائحة الحسنة ويكره الروائح الكريهة ، ويطيب نفسه حتى يرى أثر الطيب على جسده ، وتبقى رائحته في الطريق الذي سار فيه أو المكان الذي جلس فيه. ويعرف بأنه كان هناك.

عن عائشة رضي الله عنها ـ قالت : «كنت أطيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته» (١١٢).

كما كان يربي أصحابه على العناية بزينتهم وحسن مظهرهم :

عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال (أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره فقال : «أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره»! ورأى رجلا آخر عليه ثياب وسخة قال : «أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه» (١١٣)

وعن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا ثائر الرأس واللحية فأشار إليه بإصلاح رأسه ولحيته (١١٤).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«ومن كان له شعر فليكرمه» (١١٥).

وأوصى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم القادمين على غيرهم بإصلاح أحوالهم فقال «إنكم قادمون على إخوانكم ، فأصلحوا رحالكم (١١٦) وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس. فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» (١١٧).

ومن ذلك أمره بتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة

عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«الفطرة خمس. الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الآباط» (١١٨).

أما اللحية فقد حث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تركها وافرة والإبقاء عليها لأنها زينة للرجال ، وبها يتميزون عن النساء.

عن أبي عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«انهكوا الشوارب ، وأعفوا اللحى» (١١٩).

غير أن ما يباح التزين به له حدود ، من تجاوزها وقع في الحرام. فلا يجوز للرجال أن يتزينوا بالذهب والحرير.

عن علي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ حريرا وذهبا فقال :

«هذان حرام على ذكور أمتي ، حل لإناثهم» (١٢٠).

ولا يجوز الخلط بين لباس الرجال وزينتهم ولباس النساء وزينتهن.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال :

«لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ؛ والمتشبهات من النساء بالرجال» (١٢١).

ولا يقتصر الجمال على ما ذكرناه ، بل يشمل كل ما يجد فيه الإنسان لذة بعقله وحواسه. قال الإمام أبو حامد الغزالي :

«وللإنسان عقل وخمس حواس ، ولكل حاسة إدراك ، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ : فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضر والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة ، وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشم الروائح الطيبة ، وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة ، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة. وللمس لذة اللين والنعومة والملامسة ، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة. وللعقل لذة العلم والمعرفة ، وهي في مقابلة الجهل والبلادة. فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ، ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها» (١٢٢).

وقال أيضا : «إن الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس ، وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة والأول يدركه الصبيان

والبهائم ، والثاني يختص بدركه أرباب القلوب ، ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. وكل جمال فهو محبوب عند مدرك الجمال» (١٢٣).

وهكذا تهدف التربية الجمالية إلى المحافظة على مواضع الجمال والزينة ، وعدم تشويهها ، وإلى العناية بأجسامنا وبيوتنا وممتلكاتنا ، والمحافظة على نظافة الطرقات والحدائق والمرافق العامة ، وجعلها جميلة تسر الناظرين ، كما تهدف إلى زيادة المتعة والشعور بالبهجة بكل ما هو جميل ، وإلى ابتكار وصنع الأشياء الجميلة مما يريح النفس من عناء العمل ، ويجعلها تقوم بواجباتها بدون شعور بالتعب ، ويدفع عنها الهموم والأحزان ؛ وذلك ضمن حدود الشرع ، ودون تجاوز للحلال إلى الحرام.

* * *

٥ ـ التربية الانفعالية

يطلق الانفعال على المشاعر القوية لدى الإنسان كاللذة والألم والفرح والحزن والقلق والغيرة. ويميز الباحثون بين أنواع ومستويات من الانفعال فهناك الهيجان والعاطفة والهوى ، ولكل منها طابعه وخصائصه وتأثيره في تفكير الإنسان وتصرفاته. وقد تنحرف هذه الانفعالات عن النضج والاستواء فتحتاح إلى التربية الملائمة.

والهيجان اضطراب نفسي جسدي ، يحدث إثر مواجهة المرء لمثير عنيف ولا يدوم طويلا. ومثاله الخوف والغضب والفرح ؛ حيث يضطرب الشعور والتفكير ، وتضعف المحاكمة ، ويتغير لون الوجه وقسماته ، ويرتفع ضغط الدم أو ينخفض ، وتتغير سرعة التنفس عن حالتها العادية ، وقد يبطؤ الهضم ، ويزداد الإفراز البولي ... ويرافق هذه التغيرات سلوك إقدامي أو إحجامي يقوم به المنفعل ، فيهجم ويقاتل في الغضب ويهرب في الخوف ويضحك في الفرح.

ويتغير الهيجان في مثيراته ومشاعره وتعابيره حسب مراحل العمر ، ويصل إلى مستوى مناسب من النضج بعد البلوغ ، وحينئذ يتميز بالاعتدال ، فلا يكون المرء ضعيف التأثر متبلدا ، ولا سريع التأثر ، يثور لأتفه الأسباب كما يتميز بالواقعية في مجابهة مشاكل الحياة ، فيصبح الفرد موضوعيا في إدراكه للعالم المحيط به ، متحررا من الذاتية العاطفية والعقلية ، ومن الاتكالية على الآخرين. ويتميز أيضا بالتوازن بين جميع الانفعالات والدوافع ، فلا يوجد بينها ما هو مسيطر متحكم في الجميع ، ولا يضعف بعضها لدرجة الكبت الشديد. ويصبح الشخص قادرا على ضبط النفس واحتمال الصعوبات والحرمان ، وعلى تأجيل اللذات العاجلة من أجل تحقيق أهداف أبعد. ويتسم بالرصانة وعدم التقلب بين المرح والانقباض ، والفرح والحزن ، أو الضحك والبكاء والتحمس والفتور.

والنضج الانفعالي عامل أساسي للتكيف الاجتماعي السوي والصحة النفسية السليمة. فاضطراب الصلاة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية ناشئ عن اضطراب الانفعالات الإنسانية. كما إن النجاح أو الإخفاق في الحياة يتوقف إلى حد كبير على عوامل انفعالية. ويتعلق النضج الانفعالي بعدة عوامل وراثية واجتماعية وتربوية. والتربية السليمة تكون في تعليم الطفل حل مشاكله ومعالجة أموره دون أن يطلق العنان لانفعالاته ، ودون إسراف في كبح جماحه أو تدليله. وتحرص التربية على

توجيه الانفعالات نحو المثيرات الاجتماعية المناسبة ، وتخليصه من أسباب الإثارة الطفولية ، إذا كانت لا تناسب الانفعال الناضج ، ولا تتفق مع متطلبات التكيف الاجتماعي. فمثيرات الفرح أو الغضب أو الخوف عند الطفل والمراهق لا تكون جميعها مقبولة عند الراشدين. ولذا ينبغي جعلها ناضجة معتدلة.

أما العاطفة فهي حالة انفعالية تتميز بشعور معين نحو موضوع ما ، وتتصف بالاستمرار والثبات ، كما تتميز بنزعة للقيام ببعض الاستجابات والتصرفات ، وبقابلية لإثارة الهيجان بما يتضمنه من حدة الشعور والسلوك ومن أمثلتها : الحب والكره والحقد والاحترام والإعجاب والاحتقار.

قد تكون العاطفة هادئة معتدلة ، وقد تكون قوية جياشة تسيطر على بقية العواطف ، وتأسر الشخص في شعوره وسلوكه ، وتجعله منجرفا في تيارها ، عاجزا عن مقاومة قوتها الدافعة ، مسخرا لما تمليه عليه. وهذا المستوى من العاطفة يسمى هوى. ومن أمثلته هوى شرب الخمر الذي يجعل صاحبه مدمنا عليه ، وهوى الرياضة الذي يجعله مندفعا نحوها ، يقضي وقته في ألعابها ، وينشغل تفكيره وشعوره بها ، وهوى فتاة يراها أجمل النساء ، ويجعله مندفعا في حبها ، منشغلا به ، ضعيف المحاكمة والموضوعية والمقارنة إزاءه. مستعدا للتضحية واقتحام الأخطار في سبيله.

وتنمو الحياة العاطفية كغيرها من جوانب الحياة النفسية ، فتزداد غنى واكتمالا حتى تصل بعد البلوغ إلى نضج نسبي يتميز بالاستقرار والارتقاء إلى الموضوعات الأسمى. ويؤثر الوسط الإجتماعي في نشأة العواطف نحو بعض الأشخاص كالأم والأب والمعلم والزميل والزعيم ، أو نحو بعض الأشياء والأعمال والقيم ، ولمبادئ المجتمع وقيمه وتطلعاته دور كبير في توجيه دوافع الأفراد وتركيزها حول بعض المواضيع دون بعضها الآخر.

وللعوامل الشخصية تأثيرها في التوجيه العاطفي للفرد ، فالشخصيات الانفعالية تتجه عواطفهم نحو الأشخاص ، وأصحاب الاستعدادات الحركية تتكون لديهم ميول نحو الرياضة أو الأعمال التي تحتاج إلى نشاط جسدي غالبا ، والقابليات العقلية تسهم في تكوين الميول نحو الموضوعات التي تتطلب التعمق الفكري.

وقد يميل الفرد إلى موضوع دون أن يتوفر لديه الاستعداد أو القدرة فيه وللخبرات السابقة دورها في تكوين العواطف ، لا سيما خبرات الطفولة ، سواء أكانت سارة أو مزعجة.

وتعمل العواطف على تحريض السلوك باتجاه إرضائها ، ويترافق إرضاؤها أو إحباطها بحالات من هيجانات اللذة أو الألم والفرح أو القلق. ولهذا تأثير في عمليات التعلم ؛ فالتعلم يستلزم القيام بسلوك هادف ، وهو يحصل بفعالية أفضل عند ما ينفعل المتعلم انفعالا ملائما يسهل الإقبال على موضوع التعلم والفرح به ، وبالتالي استيعابه واكتساب السلوك المطلوب. والعواطف تثير في المتعلم نشاطا انفعاليا وتوجهه نحو اختيار الاستجابات الملائمة لحاجاتها ، والتي تنفع في إحداث التعلم ؛ وبذلك يتغلب المعلم على مواقف اللامبالاة أو السلبية لدى المتعلمين.

ومن وسائل توظيف العواطف في التعلم المدرسي تنظيم موضوعات التعلم وطرائقه بحيث ترتبط بعواطف الطلبة ، وترضيها عن طريق القيام بالسلوك المطلوب لحدوث التعلم. ولذا دعا بعض المربين إلى نوع من المناهج سموه مناهج النشاط القائم على ميول التلاميذ ، حيث تنظم محتويات المنهج وطرائقه وفقا لميول المتعلمين ، وهي تفيد في إثارة اهتمام المعلم لربط مادة التعليم وطريقته بميول التلاميذ حتى يحقق تعلما أفضل (١٢٤).

وقد حرص الإسلام على التربية الانفعالية السوية ، فوجه عواطف الإنسان وانفعالاته نحو ما هو جدير بها ، وجعلها معتدلة بالشكل المناسب فالمحبة الخالصة تكون لله ورسوله ، ولا يوجد من يستحق الحب الكبير سواهما ؛ فالله هو الخالق الرزاق والمنعم بكل النعم ، وهو المتفضل بكل شيء. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي هدانا إلى الصراط المستقيم ولا يصح إيمان المرء إذا منح حبه لشيء أكثر من الله ورسوله. قال تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها (١٢٥) وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا (١٢٦) حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (١٢٧)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (١٢٨) والمؤمنون الصالحون يحبهم المؤمن لوجه الله ، أي لصلاحهم لا ليحصل على نفعهم. ويريد لهم الخير الذي يريده لنفسه.

عن أنس رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (١٢٩).

ومن المؤمنين من يقدم لغيره ما يحتاج إليه ، ويصل بذلك إلى أسمى الفضائل وأنبل التضحيات. وهذا هو الإيثار الذي أثنى الله على المتصفين به من الأنصار وغيرهم بقوله :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (١٣٠) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ (١٣١) فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٣٢)

وقد نهى الله عن مغالاة المرء بعواطفه وانفعالاته ، وأرشد إلى ما يجعلها متوسطة الشدة متزنة. قال سبحانه :

(لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١٣٣)

كما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرفق والاعتدال في الحب والبغض

عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما» (١٣٤)

وسيأتي في بحث الأخلاق بيان كيفية معالجة الغضب والحد من نزواته وغيره من الانفعالات ، فلا نطيل بذكرها الآن.

* * *

٦ ـ التربية الروحية

تطلق الروح على معنيين :

أحدهما : ما يفارق به الحي الميت ، وما يجعل أعضاء الجسم وحواسه قادرة على الحركة والحس والقيام بوظائها. وليس هذا المعنى مقصودا في بحثنا ، فهو سر غامض ، لا يتمكن الإنسان من فهمه بعقله القاصر وعلومه المحدودة. قال تعالى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). (١٣٥)

وثانيهما : هو القوة اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان.

وقد يطلق هذا المعنى على القلب ، وقد يطلق على النفس(١٣٦).

فمن إطلاق هذا المعنى على القلب ما جاء من وصفه بالخشوع والاطمئنان في قوله تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (١٣٧) وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). (١٣٨)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. (١٣٩)

ومن اطلاقه على النفس ما جاء في قوله سبحانه :

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (١٤٠)

وهذه الروح ميز الله بها الإنسان على سائر خلقه ، وجعله مستحقا التكريم والتفضيل :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (١٤١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ). (١٤٢)

والتربية الروحية أرفع أقسام التربية وأكثرها أهمية. وبقدر حصول الإنسان على التربية في هذا المجال يرتفع شأنه وتسمو نفسه. والنظم المادية التي تغفل عن هذه التربية تحط من شأن الإنسان ، وتخفض من مقداره ؛ لأن الإنسان ما هو إلا قبضة من طين ونفخة من روح الله ، ومن عناصر الطين يتركب جسده ، والجسد لا يحيا بدون الطعام والشراب المستخرجين من الطين. فالماء يتفجر من ينابيع الأرض ، ويجري فوقها أو ينزل من السماء ويختلط بترابها. والطعام الذي يتناوله الإنسان يحصل عليه من

النباتات التي تستمد عناصرها من الطين ، أو من الحيوانات التي تتغذى بالنباتات ، وتتركب منها لحومها وألبانها. وكذلك الروح لا تستغني عن الغذاء ، وغذاء الروح هو المناسب لطبعها والملائم لجوهرها. ولا يعلم ما يناسبها ويلائمها إلا الله الذي أودع الروح في الإنسان. ومن رحمة الله بعباده أنه لم يتركهم يتخبطون في هذه الأرض ، ويضلون في أرجائها ، وإنما أنزل إليهم ما يهديهم سواء السبيل ، ويقيهم من الغواية والضلال. قال سبحانه :

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً (١٤٣) وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى). (١٤٤)

ولقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن يجعل ما يصلح الجسد معروفا للناس ، وفي أنفسهم دافع قوي للحصول عليه. أما ما يصلح الروح فهو غامض ومعقد ، يحتاج إلى علم وبصيرة لكشفه والانتفاع به ومن خبثت نفسه لا يطلبه ولا يحرص عليه بل يعرض عنه وينفر منه. ولذلك جعل الله الناس يضربون في الأرض ويأكلون من رزقه ، وأرسل الرسل وأنزل عليهم الوحي الذي يصلح الأرواح ويسعد الأحياء.

والتربية الروحية تعني ما يؤدي إلى تهذيب النفس وسمو الإنسان والتحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل.

ويكون ذلك بالعقيدة والعبادات والأخلاق الحميدة وهو موضوع الفصل التالي.

* * *

هوامش الفصل الثاني :

__________________

(١) سورة التين : ٤

(٢) سورة البلد : ٨ ـ ٩

(٣) سورة لقمان : ١٤ ، ومعنى فصاله : فطامه

(٤) أي إن الدم المنفصل عن جسم الذبيحة يحرم تناوله ، ولا حرج في القطرات المتبقية في العروق.

(٥) أي نجس. ومعروف أن الخنزير يلتهم طعامه ، ولا يتحاشى النجاسات ، ولحمه موبوء ببيوض الدودة الوحيدة التي تتعلق بجدار الأمعاء إذا أكل لحمه ، ويصعب العلاج منها.

(٦) أي ما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه. وهذا وثيق الصلة بالعقيدة.

(٧) يباح أكل شيء من المحرمات حين الضرورة ، وبالقدر الذي تتوقف الحياة عليه ، بدون تجاوز لهذا المقدار. والآية في سورة الأنعام : ١٤٥

(٨) سورة الأعراف : ٣١

(٩) سورة البقرة : ١٨٣.

(١٠) يستر عوراتكم

(١١) سورة الأعراف : ٢٦

(١٢) أي يمتنعوا عن النظر إلى عورات الآخرين وإلى النساء الأجنبيات.

(١٣) أي يستروها ويعفوا عن الفاحشة

(١٤) أطهر

(١٥) أي ما وجد حرج في ستره ، وهو الوجه والكفان بدون زينة.

(١٦) الخمر : جمع خمار ، وهو غطاء الرأس. والجيب : فتحة الثوب من الأعلى التي يدخل فيها الرأس. أمرت النساء بإسدال أغطية رؤوسهن على أعناقهن وصدورهن.

(١٧) أزواجهن

(١٨) عبيدهن

(١٩) أي البلهاء الذين لا يميلون إلى النساء

(٢٠) أي الصغار دون سن التمييز

__________________

(٢١) سورة النور : ٣٠ ـ ٣١

(٢٢) سورة الأعراف : ٢٧

(٢٣) رواه الشيخان والترمذي عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف ، خ ٥٧٢٨ ، ٥٧٢٩.

(٢٤) رواه أصحاب السنن عن أسامة بن شريك

(٢٥) أحياء علوم الدين ج ١ ص ٨٥.

(٢٦) نشر

(٢٧) سورة البقرة : ١٦٤

(٢٨) لأصحاب العقول.

(٢٩) سورة آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١

(٣٠) سورة الروم : ٢٢ ـ ٢٤.

(٣١) وجدنا

(٣٢) سورة البقرة : ١٧٠

(٣٣) يكفينا

(٣٤) سورة المائدة : ١٠٤

(٣٥) سورة لقمان : ٢٠ ـ ٢١

(٣٦) سورة الفرقان : ٤٣ ـ ٤٤.

(٣٧) سورة الرحمن : ١ ـ ٤

(٣٨) خاشع متعبد

(٣٩) ساعاته واطرافه

(٤٠) سورة الزمر : ٩

(٤١) رواه أبو داود في كتاب العلم ، والترمذي وابن ماجه في المقدمة عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

(٤٢) رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي.

(٤٣) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

(٤٤) سورة فاطر : ٢٧ ـ ٢٨.

(٤٥) سورة آل عمران : ١٨ والقسط : العدل.

__________________

(٤٦) يصرفون عن الحق والإيمان

(٤٧) سورة الروم : ٥٥ ـ ٥٦

(٤٨) أخرجه ابن ماجه

(٤٩) أخرجه الترمذي من حديث أنس في كتاب العلم.

(٥٠) فرطنا : تركنا ، والكتاب : اللوح المحفوظ

(٥١) سورة الأنعام : ٣٧ ـ ٣٨

(٥٢) قطعا

(٥٣) مقابلة وعيانا فنراهم.

(٥٤) ذهب

(٥٥) تصعد

(٥٦) سورة الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

(٥٧) سورة البقرة : ٢٤٧.

(٥٨) سورة الروم : ٣١

(٥٩) سورة النساء : ١٩

(٦٠) سورة النساء : ٣٤ ومعنى قانتات : مطيعات لأزواجهن.

(٦١) ضعفا على ضعف

(٦٢) فطامه

(٦٣) المصير : المرجع. والآية في سورة لقمان : ١٤

(٦٤) رجع

(٦٥) سورة لقمان : ١٥

(٦٦) سورة العنكبوت : ٨

(٦٧) رواه الشيخان : البخاري في كتاب الأدب ٧٨ برقم ٥٩٧١.

(٦٨) رواه أبو داود في كتاب الأدب والترمذي

(٦٩) رواه أبو داود في كتاب الأدب.

(٧٠) رواه مسلم وأبو داود والترمذي

(٧١) البسط : الزيادة.

(٧٢) النسأ : التأخير.

(٧٣) الأثر : الأجل

__________________

(٧٤) رواه الشيخان وأبو داود. خ ٧٨ ـ ك الأدب رقم ٥٩٨٥

(٧٥) سورة الإسراء : ٢٦.

(٧٦) الشيخان والترمذي ، خ ك ٧٨ ـ الأدب رقم ٦٠٠٦

(٧٧) الجار ذي القربى : من كان قريبا في النسب ، والجار الجنب بخلافه

(٧٨) الرفيق في السفر ، والزميل في المهنة

(٧٩) الأرقاء المملوكين

(٨٠) سورة النساء : ٣٦

(٨١) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. خ ك ٧٨ الأدب رقم ٦٠١٤.

(٨٢) بوائقه : شره. الحديث أخرجه البخاري ك ٧٨ ـ الأدب رقم ٦٠١٦

(٨٣) أخرجه أبو الشيخ في كتاب التوبيخ ، والطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وألفاظهم متقاربة ، وأسانيدهم واهية. (فتح الباري ج ١٠ ص ٤٤٦).

(٨٤) أخرجه أحمد عن عائشة بنسد رجاله ثقات (فتح الباري ١٠ / ٤١٥) ورواه البيهقي عنها. وهو حديث حسن.

(٨٥) تعدت

(٨٦) ترجع

(٨٧) اعدلوا.

(٨٨) سورة الحجرات : ٩ ـ ١٠.

(٨٩) الحسد : تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها.

(٩٠) أي لا تتهاجروا ، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه.

(٩١) رواه البخاري ك ٧٨ ـ الأدب رقم ٦٠٦٥

(٩٢) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

(٩٣) رواه الخمسة : البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

(٩٤) سورة الممتحنة : ٨. والقسط : العدل.

(٩٥) سورة الصافات : ٦

__________________

(٩٦) سورة الملك : ٥

(٩٧) سورة فصلت : ١٢

(٩٨) جعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء.

(٩٩) جعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء

(١٠٠) سورة الإنفطار : ٦ ـ ٨

(١٠١) سورة غافر : ٦٤

(١٠٢) بهجتها

(١٠٣) قضاؤنا أو عذابنا

(١٠٤) لم تكن

(١٠٥) سورة يونس : ٢٤

(١٠٦) سورة السجدة : ٧

(١٠٧) الكثيرة

(١٠٨) الراعية والمطهمة الحسان

(١٠٩) الأرض المتخذة للغراس والزراعة

(١١٠) المآب : المرجع والثواب. والآية في سورة آل عمران : ١٤

(١١١) سورة الأعراف : ٣١ ـ ٣٢

(١١٢) الوبيص : البريق. والحديث أخرجه البخاري في كتاب ٧٧ ـ اللباس رقم ٥٩٢٣

(١١٣) رواه أبو داود في كتاب اللباس. وروى النسائي شطره الأول في كتاب الزينة.

(١١٤) أخرجه مالك في الموطأ. وهو مرسل صحيح الإسناد.

(١١٥) رواه أبو داود في كتاب الترجل بسند حسن.

(١١٦) الرحل للناقة كالسرج للفرس ، ما يوضع عليها لتركب وتحمل الأثقال

(١١٧) رواه أبو داود عن أبي الدرداء عن ابن الحنظلية في ك. اللباس

(١١٨) رواه البخاري ك ٧٧ ـ اللباس رقم ٥٨٩١.

(١١٩) رواه البخاري ك. اللباس ٧٧ / ٥٨٩٣

(١٢٠) رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم.

__________________

(١٢١) رواه البخاري ك. اللباس ٧٧ / ٥٨٨٥

(١٢٢) إحياء علوم الدين : ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١ ، ج ٤ ص ٣٠٣

(١٢٣) إحياء علوم الدين : ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١ ، ج ٤ ص ٣٠٣

(١٢٤) التربية العامة (٢) للدكتور انطون حبيب رحمة ص ١٩١ ـ ٢١٩

(١٢٥) اكتسبتموها

(١٢٦) انتظروا

(١٢٧) سورة التوبة : ٢٤.

(١٢٨) رواه الشيخان والنسائي.

(١٢٩) رواه الشيخان والترمذي والنسائي. خ. ك الإيمان ٢ / ١٣

(١٣٠) حاجة

(١٣١) حرصها على المال

(١٣٢) سورة الحشر : ٩

(١٣٣) سورة القصص : ٧٦

(١٣٤) رواه الترمذي والبيهقي ، والطبراني عن ابن عمر.

(١٣٥) سورة الإسراء : ٨٥

(١٣٦) إحياء علوم الدين : ج ٣ ص ٤

(١٣٧) خافت

(١٣٨) سورة الأنفال : ٢

(١٣٩) سورة الرعد : ٢٨

(١٤٠) سورة الفجر : ٢٧ ـ ٢٨.

(١٤١) المراد بالصلصال : التراب اليابس ، والحمأ : الطين ، والمسنون : الأملس الصقيل.

(١٤٢) سورة الحجر : ٢٨ ـ ٢٩

(١٤٣) بمعنى ضيقه

(١٤٤) سورة طه : ١٢٣ ـ ١٢٤.

الفصل الثالث

مقومات التربية

تقوم التربية في القرآن والسنة على مقومات تجعلها تمتد عميقا في جذور النفس البشرية ، وتسمو بها إلى أعلى المراتب ؛ فتصفيها من كل ما يعلق بها من الأدران ، وتزيل عنها كل ما يتراكم عليها من الران ، وتجعلها تسير بخطوات هادئة مستقيمة على أرض الواقع البشري ، وتحلق في جو الكمال الإنساني.

وهذه المقومات هي : العقيدة التي يفيض بها القلب ، فتجعل النفس نقية مطمئنة ، والعبادة التي يقوم بها المرء ، فتزيده صفاء وإشراقا ، والأخلاق التي يتحلى بها فترفعه إلى عليين.

أولا العقيدة

تطلق العقيدة على الفكرة التي اقتنع بها المرء قناعة تامة ، فقبلها عقله واستقرت في قلبه ، واطمأنت بها نفسه ، وامتزجت بروحه.

وهي تشمل في هذا الدين أركان الإيمان الستة التي ذكرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره» (١) وبينها الله سبحانه وتعالى في قوله :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (٢)

وحذر من الكفر بها في قوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً). (٣)

أما الإيمان بالقضاء والقدر فقد ورد في آيات أخرى ، نبينها بعد تناول ما سبقه من الأركان بالأدلة والتفصيل ، ونذكر الآثار التربوية لكل منها إن شاء الله تعالى ، وبه التوفيق.

١ ـ الإيمان بالله

إن الإيمان بالله جل جلاله أهم قضية في الدين ، وأعظم أساس في التربية. ولا يحتاج الإيمان بالله إلى أدلة فلسفية وبراهين معقدة رغم كثرة الأدلة التي تدل على وجوده ووضوحها. ومنها :

١ ـ دليل وجداني :

إن الإنسان مهما كان بعيدا عن الله في حياته ، ومهما جادل وعائد في وجوده فإنه يلتجئ إلى الله حين المصيبة ، ويدعوه حين الشدة قال سبحانه :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (٤)

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً). (٥)

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً (٦) إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ (٧) نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً (٨) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ). (٩)

ولو بقي الإنسان على الحالة التي خلقه الله عليها لكان مؤمنا بالله مائلا عن الشرك ، كما قال سبحانه :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً (١٠) فِطْرَتَ اللهِ (١١) الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (١٢)

ولكن التأثير السيء للمجتمع ، والتربية المنحرفة للأسرة يجعل الإنسان يتردى في مهاوي الشر والوثنية.

٢ ـ دليل اجتماعي تاريخي :

إن البشرية منذ أن كفرت في عهد نوح ـ عليه‌السلام ـ وما بعده ، لم تنكر وجود الله عزوجل ، ولم تخل أي لغة من لغاتها من كلمة تدل عليه. وإنما كان كفرهم يتجلى في شركهم بالله وعبادتهم الأصنام وكانوا لا يتصورون حقيقة الإلهية تصورا صحيحا ، ولا يجعلون علاقتهم بالله وبالكون الذي يعيشون فيه. مستمدة من شريعة الله.

ولم ينكر الكافرون في أي عصر عدا قلة من الذين تمادوا في طغيانهم وشذوا في تفكيرهم وجود الله سبحانه ، وإنما كانوا يعترضون على شخص الرسول وعلى دعوته ، ويرفضون ترك آلهتهم واتباعه :

فقوم نوح اعترفوا بوجود الله ، ولكنهم لم يصدقوا بأنه أرسل إليهم رسولا من البشر مثلهم ، وظنوا أن رسل الله يكونون من الملائكة لا من البشر. قال تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ). (١٣)

وقوم عاد أصروا على الشرك بالله ، وعلى عبادة ما كان يعبد آباؤهم

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ (١٤) ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٥)

وقوم ثمود اعترضوا على الرسالة ، وكفروا بما جاء به الرسول :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). (١٦)

والمشركون من العرب أقروا بأن الله هو الخالق لكل شيء :

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ). (١٧)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). (١٨)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً (١٩) لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٢٠)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). (٢١)

وعبادة الأصنام تدل على أن الإنسان لا يستغني عن إله يعبده ويتقرب إليه ، فإذا لم يعبد الإله الحق عبد آلهة زائفة ، وإذا لم يهتد إلى العبادة الصحيحة قام بطقوس يعتبرها عبادة.

والكفر عارض في تاريخ البشرية ، والإيمان هو الأصل وكلمة الكفر نفسها تدل على وجود الله ، لأنها بمعنى التغطية ، فهي محاولة لإخفاء شيء موجود ، ولو كشف الغطاء لظهر وجوده لكل ذي بصيرة ، وكل شيء غطى شيئا فقد كفره ، ومنه سمي الكافر لأنه يستر نعم الله عليه. والكافر الزارع لأنه يغطي البذر بالتراب والكفار : الزراع (٢٢)

٣ ـ دليل الوجود :

إن وجود هذا الكون الذي نعيش فيه يدل على وجود الله عزوجل ذلك أن الكون وما فيه من مجرات وشموس وكواكب لم يكن موجودا من الأزل وإنما وجد من العدم. ولقد كان الفلاسفة المسلمون يستدلون على ذلك بما يطرأ على الكون من تغير وتبدل ، وبما أن كل متغير حادث ؛ لأن القديم يبقى على حال واحدة ، فالكون حادث مخلوق. قال الإمام الغزالي رحمه‌الله :

«كل جسم فلا يخلو عن الحوادث ، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فيلزم منه إن كل جسم فهو حادث إذ لا يستريب عاقل قط في ثبوت الأعراض في ذاته من الآلام والأسقام والجوع والعطش وسائر الأحوال ولا في حدوثها ، وكذلك إذا نظرنا إلى أجسام العالم لم نسترب في تبدل الأحوال عليه ، وأن تلك التبديلات حادثة (٢٣)».

والعلماء في هذا العصر متفقون على حدوث الكون ، ويحسبون عمره بما يتراوح بين خمسة آلاف إلى عشرين آلف مليون سنة. وتعليل وجوده لا يتعدى ثلاثة افتراضات هي :

أ ـ وجد بدون موجد : وهذا الافتراض لا يقبله عقل ، لأن المادة تتصف بالعطالة فلا توجد بدون موجد ، ولا تتحرك بدون محرك. وقانون السببية الذي هو من بديهيات العقل ، يجعل الإنسان يسأل عن موجد الكون ، ولا يصدق بإمكان وجوده بدون موجد.

ب ـ أوجد نفسه بنفسه : وهذا الافتراض لا يقل في تهافته عن السابق ، لأن المعدوم لا وجود له ، فلا يمكن أن يوجد نفسه ، ولا بد له من موجد.

ج ـ هناك قدرة عظيمة أوجدت الكون. وصاحب هذه القدرة لا يمكن أن يكون أحد أجزاء هذا الكون ، لأن الإنسان أعظم الكائنات لا يستطيع أن يوجد ذرة رمل من العدم فضلا عن خلق نفسه وخلق هذا الكون الهائل.

قال تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٢٤)

ومن صنع شيئا بدقة وإحكام فإنه لا يسمح لغيره بأن ينسب لنفسه ما صنعه. فصاحب القدرة العظيمة الذي خلق الكون هو الله ، وهو الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب إلى الناس ليؤمنوا به ويعبدوه.

٤ ـ دليل الحكمة والنظام :

ليس هذا الكون موجودا بشكل عشوائي ، بل منظم تنظيما دقيقا يدل على اتصاف خالقه بالقدرة والعلم والحكمة. وآيات القرآن الكريم تلفت أنظار الناس إلى هذا الكون ونظامه العجيب ، ليكون إيمانهم بالله نتيجة للنظر والتفكير في بديع صنعه.

قال تعالى :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٢٥).

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ (٢٦) يَطْلُبُهُ حَثِيثاً (٢٧) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (٢٨)

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ (٢٩) وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ (٢٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (٣٠)

والله هو الذي سخر الشمس والقمر والنجوم والبحار والليل والنهار والجبال والأنهار للناس.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَما ذَرَأَ (٣١) لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ (٣٢) وَلِتَبْتَغُوا (٣٣) مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقى

فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ (٢٩) أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣٤)

وتوالي الليل والنهار ، ونقصان أحدهما وطول الآخر ، بما يتناسب مع فصول السنة ، وبما يتفق مع دورة الحياة لدى النباتات شاهد على وجود الله وحكمته.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (٣٥) وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). (٣٦)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً (٣٧) إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا (٣٣) مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٨)

ودوران الشمس والقمر والنجوم والكواكب بسرعة منتظمة ، وبدون أن تنحرف عن أفلاكها المرسومة لها منذ آلاف السنين دليل على قدرة الله وعلمه :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). (٤٠) وكلما تقدم العلم اكتشف العلماء في الكون الفسيح وفي الأنفس البشرية مزيدا من الأدلة الشاهدة علي وجود الخالق والناطقة بالحق الذي يقوم عليه هذا الدين ، والذي جاء به الكتاب المنزل :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). (٤١)

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). (٤٢)

٥ ـ دليل الحياة :

لم يكن أي شكل من الحياة على ظهر الأرض عند بدء تكوينها فقد كانت حرارتها مرتفعة إلى درجة لا تتحملها الكائنات الحية ، ولم يكن هواؤها مناسبا للحياة كما يقول العلماء. ثم ظهر عليها النباتات والحيوانات والإنسان بعد عصور مديدة.

وسواء أكان الكائن الحي بسيطا أو معقدا ، وبدائيا أو راقيا فلا يمكن أن يوجد بنفسه. إذ لا يمكن للمادة الميتة أن تدب فيها الحياة بدون خالق. ولقد أجرى علماء الشرق والغرب تجارب طويلة استغرقت عشرات السنين ، حاولوا فيها أن يحولوا المادة الميتة إلى أبسط أجزاء الخلية الحية فلم يستطيعوا وباؤوا بالفشل الذريع.

ولا يمكن أن يكون أصل الحياة هبط إلى الأرض من الكواكب والنجوم الأخرى ، لأن كواكب المجموعة الشمسية التي هي أقرب إلى الأرض من غيرها لم يكتشف العلماء وجود كائنات حية عليها. وهي بسبب قربها من الشمس أو بعدها عنها ، وبسبب تركيب جوها المختلف في نسبة عناصره عن جو الأرض لا تصلح للحياة الموجودة على هذا الكواكب. ولو وجدت حياة على الكواكب التابعة للشموس الأخرى فلا يمكن أن تقطع مسافات تقدر بالسنين الضوئية (٤٣) لتهبط على كوكبنا. ولو أمكن ذلك لعدنا نسأل عن سبب نشوء الحياة فيها.

وبعد انبثاق الحياة لا يمكن استمرارها وتكاثرها بالانقسام أو التوالد بدون خالق جعل فيها هذه الخاصية ، وأوجد لها ما تحتاج من عناصر للغذاء والنمو والبقاء إلى أجل مسمى.

ولترسيخ الإيمان بالخالق أمرنا بالتفكير في خلق الحيوانات ، كما أمرنا بالتفكير في خلق السموات والأرض ، وجعلها ممهدة لعيش الانسان.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ). (٤٤)

وأمرنا بالتفكير في خلق أنفسنا وأصل تكويننا :

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ). (٤٥)

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٤٦) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٤٧) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ). (٤٨)

وأمرنا بالتفكير في أعضائنا وحواسنا :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٤٩)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٥٠) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٥١). أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٥٢).

وأمرنا بالنظر في المراحل التي يمر بها الإنسان منذ أن يكون نطفة حتى يصبح جنينا سوي الخلق ، ثم حتى يدركه الموت ، ويبعث يوم القيامة :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً (٥٣) فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ). (٥٤)

فالله ـ جل جلاله ـ هو خالق الأحياء ، وهو الذي يحفظ حياتهم ولا يمكن لغيره أن يخلق أتفه الحشرات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). (٥٥)

٦ ـ دليل القدرة والطاقة :

لقد اكتشف العلماء في هذا الكون ملايين المجرات ، وفي كل منها مئات الألوف من النجوم ، وهذه النجوم تنطلق منها طاقات هائلة على شكل ضوء وحرارة منذ آلاف الملايين من السنين. ولا يمكن لهذه الطاقة أن تنطلق بنفسها ؛ فالعلماء يعملون سنوات طويلة لبناء مصنع يولد الطاقة من الفحم أو النفط أو نتيجة لانفجار الذرة أو التحام الذرات أو غير ذلك ، ومهما كان هذا المصنع من الضخامة فإن الطاقة التي يولدها تكون محدودة ، ولا يصلح للعمل أكثر من سنوات لا تبلغ مدة حياة الإنسان على هذه الأرض ولا بد من إله خلق الشموس والنجوم ، وجعلها تشع الضوء وتنشر الدفء بالمقدار اللازم للحياة

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (٥٦)

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً). (٥٧)

٧ ـ دليل الوحي :

ورغم وضوح الأدلة والبراهين العقلية والعلمية المنتشرة في هذا الكون الفسيح على وجود الخالق ، فإنه سبحانه أوحى إلى بعض عباده ليدلوهم على ربهم ، ويهدوهم إلى الإيمان به. وسنبين ذلك في موضوع الإيمان بالكتب والرسل.

وحدانية الله تعالى

مع اعتراف معظم الناس بوجود الله عزوجل ، فإن أكثرهم يشركون به في الاعتقاد والتصور ، أو في الوجدان والمشاعر ، أو في الطقوس والعبادات :

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٥٨).

والشرك قد يكون في صورة سافرة أو خفية ، في القلب أو في الجوارح. فشرك القلب يكون في اعتقاد وجود إلهين أو أكثر :

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). (٥٩)

وليس لله والد ولا ولد ، وليس له مثيل :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ (٦٠) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٦١)

وكيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ، وهو الخالق لكل شيء ، وليس له شريك.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا (٦٢) لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). (٦٣)

ولو كان مع الله آلهة كما يزعم المشركون لطلبوا الرفعة والعزة ، ولنازعوا الله سبحانه في علوه وسلطانه :

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً). (٦٤)

ويستحيل وجود آلهة مع الله بدون أن يحصل بينهم نزاع وخلاف ، ولو حصل ذلك لأدى إلى اضطراب الكون وفساد السموات والأرض.

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ). (٦٥)

أو لأدى إلى تقسيم الكون بين الآلهة ، واختصاص كل إله بقسم ، وتنظيمه بشكل مختلف عن غيره :

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٦٦)

ولكن دراسة الكون والتأمل في تركيبه ونظامه يدل على وحدانية خالقه. فمن حيث البنية تنقسم الكائنات إلى أشياء ميتة وأجسام حية. والأجسام الحية تشمل الإنسان والحيوان والنبات ؛ والناس جميعا متشابهون في أجسامهم ، ومتماثلون في تكوينهم مما يدل على أن خالقهم واحد. والحيوانات كذلك تتشابه في أعضائها وأجهزتها الأساسية : الرأس والجذع والإطراف وجهاز القلب والدوران وجهاز الهضم والجملة العصبية وغير ذلك. والتشابه الأكبر يكون في تركيب خلاياها ، إذ أن كل الأجسام الحية تنقسم إلى خلايا صغيرة ، وهذه الخلايا تتشابه في بنيتها وصفاتها ، وكذلك النباتات تتشابه في بنيتها العامة وفي تركيب خلاياها. وبمقارنة الخلية الحيوانية مع الخلية النباتية من حيث احتواؤها على غلاف ونواة تسبح ضمن سائل يسمى بالهيولى ، واشتمالها على مورثات وعناصر معينة يتبين لنا وحدة البنية والتركيب الدالة على وحدانية الخالق.

وإذا حللنا الأجسام الحية تحليلا كيميائيا فلا نجد فيها غير العناصر الموجودة في التربة. وكذلك لا يوجد في النجوم والكواكب والشمس والقمر ـ كما اكتشف العلماء ـ سوى العناصر الموجودة على الأرض وهذا يدل على أن خالق الكون بجميع أجزائه واحد لا شريك له.

وبعد أن توصل الإنسان إلى تفجير الذرة ، ووقف على الكثير من أسرارها ، تبين أن العناصر تتشابه جميعها في بنيتها ، لأن ذرات كل العناصر تتألف من نواة والكترونات تدور حولها.

والنواة تتألف من بروتونات ونوترونات تختلف في عددها من عنصر إلى آخر ، وتتفق في بنيتها بين كل العناصر. ففى ذرة الحديد مثلا / ٢٦ / الكترونا ، وفي نواته مثل هذا العدد من البروتونات وفي ذرة الأكسجين / ٨ / الكترونات وفي نواته مثل ذلك من البروتونات بدون أن تختلف الكترونات وبروتونات ونوترونات الحديد عن الأكسجين أو غيره من العناصر سوى في العدد. كما تبين أن الطاقة التي تنبعث من الذرات حين انشطارها أو التحامها بعضها

مع بعض هي وجه آخر للمادة. والالكترونات تدور حول النواة في ذرات كل العناصر بنصف سرعة الضوء تقريبا ، وكل واحد له مداره القريب أو البعيد من النواة ، كما تدور الكواكب حول الشمس ، ويدور القمر حول الكوكب التابع له ، والنجوم حول مركز المجرة التي تضمها. وهذا كله يدل بما لا يدع مجالا للشك على وحدانية الله عزوجل.

وليس لغير الله سلطة على أي جزء من هذا الكون ، وقدرة على التصرف المطلق فيه :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ. بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً). (٦٧)

ولكن مع الاعتقاد بوحدانية الله تعالى قد يشرك المرء في وجدانه ومشاعره ، وذلك حين يخشى غير الله على حياته ، أو يطلب رزقه من غير خالقه وبغير الوسائل التي شرعها لطلبه ، أو يرجو النفع ودفع الضر من غيره.

فقد قدر الله الأعمار للأمم والأفراد :

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٦٨)

والأجل لا يحول دونه أمنع الحصون :

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٦٩) وخروج الرجل إلى الجهاد لا يعرضه للوفاة إن لم تكتب له الشهادة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٠)

وليس لأحد قدرة على منح الحياة أو سلبها إلا الله :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً). (٧١)

وإذا تمكن الإنسان من قتل غيره فإنه في الحقيقة يقوم بفعل قدر له أن يؤدي

إلى نهاية حياة المقتول. وكثيرا ما لا تؤدي تلك الأفعال إلى القتل ، وذلك حين يكون في الأجل بقية.

والاعتقاد بوحدانية الله يقتضي التصديق بأن الله هو الرزاق لعباده :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). (٧٢)

وهو الذي يوسع الرزق على بعض الناس ويضيقه على بعضهم الآخر ، فيمنح كل واحد ما يتناسب مع حاله :

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٣)

وهو ينزل رزقه بمقدار معين ، حتى لا يطغى الناس ويفسدوا في الأرض.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). (٧٤)

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). (٧٥)

وليس الذي وسع عليه رزقه أفضل عند الله من غيره إلا إذا آمن وعمل صالحا وأنفق ماله في سبيل الله تعالى :

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ (٧٦) وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى (٧٧) إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ). (٧٨)

وتوحيد الله يقتضي الاعتقاد بأن النفع والضر بيد الله وحده :

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (٧٩)

ولا يستطيع أحد أن ينفع أو يضر إلا بإذنه :

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (٨٠)

وتوحيد الله يجعل المؤمن يعتمد على الله وحده في أموره كلها ، ويتوجه إليه بالدعاء ، ويطلب منه العون والتوفيق ، ولا يخشى غيره.

عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ قال : كنت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال :

«يا غلام! إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عيك. رفعت الأقلام ، وجفت الصحف (٨١).

والشرك في الجوارح يكون في القيام بالطقوس والعبادات لغير الله ، كتلك الأعمال التي يقوم بها الكهان الذي لا يؤمنون بالله ، والطقوس التي يفعلها الذين يعبدون الأصنام ، حتى العبادات التي لا تختلف في ظاهرها عن عبادات المؤمنين إذا لم يتوجه بها فاعلوها إلى الله وحده : فمن صلى أمام الناس ، وأطال القيام والركوع والسجود ، وتظاهر بالخشوع ليحصل على تقديرهم وثنائهم يعتبر مرائيا ، والرياء نوع من الشرك ، ولا يقبل الله من الأعمال إلا ما خلص له. وكذلك من أنفق المال على المحتاجين ليشتهر بين الناس بالجود والسخاء هو مراء ، ليس له أجر على صدقته :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ (٨٢) عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ (٨٣) فَتَرَكَهُ صَلْداً (٨٤) لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٨٦)

الأثار التربوية لعقيدة التوحيد :

إن للإيمان بإله واحد آثارا تربوية عظيمة في النواحي النفسية والخلقية والاجتماعية.

١ ـ فالمؤمن بإله واحد يحصل على الاستقرار النفسي لأنه يتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله الذي خلقه وخلق هذا الكون الذي يعيش فيه ويستفيد من خيراته :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (٨٦)

والمؤمن ينظم أموره كلها بشريعة الله ، فيحصل الانسجام بين الجانب الإرادي

والجانب اللإرادي من نفسه ، ذلك الجانب الخاضع لسنة الله بدون أن يكون لصاحبه سلطة عليه ، كما يحصل الانسجام بين نفسه وبين الكون الذي يعيش فيه ، وبينها وبين المجتمع الذي ينضم إليه.

٢ ـ والمؤمن يشعر بالاطمئنان نتيجة لإيمانه بأن حياته ورزقه وأموره كلها بيد الله تعالى ، وهو يتلقى منه المبادئ والمثل والشرائع والقوانين.

أما الكافر فهو قلق دائما ، قلق على حياته وعلى رزقه ، وهو لا يعلم لماذا خلق وما مهمته في هذه الحياة ، وما مصيره بعد الموت. وهو يتوجه بالطقوس والشعائر التعبدية إلى جهة ، ويسعى لتحصيل رزقه من جهة ثانية ، ويخاف قوى عديدة بشرية وغيبية على حياته ونفسه ؛ وهو في صراع دائم مع نفسه ومع الناس والطبيعة ، بسبب خروجه على النظام الذي وضعه من نظم الكون ووضع سننا لحياة الإنسان والحيوان والنبات ، ولا يحيد عن هذه السنن أحد إلا ضل وهلك. ولا سعادة للإنسان ولا استقرار للنفس ولا اطمئنان للقلب إلا في الإيمان بالله وعبادته والعمل بشريعته.

٣ ـ والإيمان بإله واحد يؤدي إلى شعور المؤمن بقوته وعزته وكرامته فالمؤمن قوي لأن الله يحب الأقوياء ، ولأنه يستمد من قوة القوي العزيز ، ويتوكل على العلي الكبير.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن باله ولا تعجزه» (٨٧)

وعند ما يخاف الناس ، وتظهر عليهم علامات الجبن والذعر ، فإن المؤمنين يثبتون ، وتظهر عليهم علامات القوة والجرأة. فحين جبن قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ عن دخول الأرض المقدسة.

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٨)

فهما يخافان الله ، فلا يخافان أحدا سواه ، ويتوكلان عليه ، فلا ترهبهما قوة في الوجود.

وحين تلقى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسالة الكافرين بأنهم حشدوا الجيوش للقضاء عليهم ازدادوا إيمانا وثباتا بتوكلهم على الله :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ (٨٩) وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (٩٠)

وهكذا يكون شأن المومنين أبدا ، قوة لا تعرف الضعف ، وجرأة لا تعرف الخور ، وثبات لا يعرف الهزيمة ، واستعلاء ينكر الخضوع لغير الله :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ (٩١) كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا (٩٢) لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا (٩٣) وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٩٤)

٤ ـ والمؤمن يشعر بعزته لأن الله أعز المؤمنين ورفع شأنهم :

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٥)

والمؤمن يشعر بكرامته لأنه لا يحني ظهره لغير خالقه ، ولا يذل نفسه لغير بارئه وهو مع ذلك رحيم متواضع غير باغ ولا عاد :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٩٦)

٥ ـ والإيمان بالله قاعدة للحرية والمساواة والعدالة. أما الحرية! فلا تكون بشكل صحيح إلا في ظل العبودية لله عزوجل ، فحينئذ يتحرر المرء من أهواء نفسه الأمارة بالسوء ، ويتحرر من الخوف على حياته وعلى رزقه وعلى مستقبله ومصيره ؛ لأنه يعلم أن الله وحده مالك أمره ، فلا يخضع لمخلوق مثله.

وحين يستمد الرجل حريته من رب العالمين لا يرضى بأن يسلبها منه أو يضع قيدا عليها طاغية مستبد ، فتراه يضحي بماله وروحه للحفاظ على حريته ، ولا يرى قيمة للحياة بدونه. وبذلك تحافظ الأمة على سيادتها واستقلالها ، ويبذل الأفراد أقصى جهودهم لرقيها وازدهارها.

والحرية المحدودة بشريعة الإسلام لا تقتصر على فئة مخصوصة أو طبقة معينة ، وإنما تشمل الناس جميعا ؛ لأنها ليست منحة من الطبيعة ، فيستغلها الأغنياء والأقوياء ، ويحرم منها الضعفاء والفقراء ، وليست نعمة من الملك أو الإمبراطور ، فيغدقها على المقربين إليه ، ويحجبها عمن دونهم ، وليست تشريعا من إحدى سلطات الدولة ، فتكون لصالح بعض الناس دون بعضهم الآخر. فشريعة الإسلام مبرأة من التحيز والعنصرية ، والحرية المنظمة بأحكامه تحقق العدل وتمنع الظلم.

وأما المساواة! فهي نتيجة للإيمان بأن الله خلق الناس جميعا من نفس واحدة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً). (٩٧)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (٩٨)

فقد كان الناس يفتخرون بأنسابهم ، فتبين أنهم جميعا ينتسبون إلى أبيهم آدم عليه‌السلام ، وكانوا يتمايزون بأجناسهم وقبائلهم وألوانهم ، فتبين أنهم عند الله متساوون ، وكان بعضهم يزعم أنه خلق من رأس الإله ، وأن الآخرين خلقوا من قدميه فتبين بطلان هذا الادعاء وكانوا منقسمين إلى طبقات يعلو بعضها فوق بعض ، فتبين أن أصلحهم وأتقاهم هو أفضلهم عند الله.

وحين يخضع الناس لشريعة الإسلام تتحقق فيهم المساواة بأوسع معانيها. ولا توجد المساواة في مجتمع يتلقى تشريعاته من الكهان أو من رؤساء العشائر والحكام فذلك يجعل بعض الناس عبيدا لبعضهم الآخر. وعقيدة التوحيد تقضي بخضوع الناس جميعا لشريعة الله :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). (٩٩)

والمساواة تعني بالدرجة الأولى تكافؤ الفرص في العلم والعمل وهذا ما يجعل كل فرد يقوم بواجبه ، ويحصل على حقه ، ويجعل المجتمع في أعلى الدرجات.

وأما العدالة : فهي الغاية من بعثة الرسل وإنزال الكتب وما تضمنته من مبادئ وقيم. وقد أمر الله بالعدل. ونهى عن التحيز إلى جانب الذين نحبهم أو ضد الذين نكرههم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (١٠٠) شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا (١٠١) أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً). (١٠٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ (١٠٣) عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). (١٠٤)

والإيمان بالله يؤدي إلى تقويم السلوك وتهذيب النفس ، لأن المؤمن يعلم أن الله مطلع على عمله ، عالم بما يجول في نفسه ، وأنه مجزي على فعله :

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). (١٠٥)

وهذا ما يجعله نقي السريرة مخلصا في عمله ، صالحا في السر والعلن.

* * *

٢ ـ الإيمان بالملائكة

الملائكة مخلوقات نورانية لطيفة لا تأكل ولا تشرب ولا تنام ولا تتصف بذكورة ولا أنوثة.

ودليل وجود الملائكة الخبر الصادق في القرآن والسنة. ومن ذلك قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ) ١٠٦ (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي (١٠٧) أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (١٠٨)

فهم رسل الله إلى المصطفين من عباده ، وهم متفاوتون في الشكل ، لبعضهم جناحان ، ولبعضهم ثلاثة أجنحة ، ولبعضهم أربعة أو أكثر.

والأجنحة تدل على القوة والسرعة.

ورغم عدم رؤيتنا الملائكة على الحالة التي خلقها الله عليه ، فقد تتمثل بأجسام مرثية كما ظهر جبريل أمام مريم وبشرها بعيسى عليه‌السلام :

(فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا (١٠٩) فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا). (١١٠)

فقد حسبته رجلا يريد بها سوءا ، فاستعاذت بالله منه ، فأعلمها أنه رسول الله إليها ، وبشرها بغلام طاهر مبارك.

ودليل امتناع الملائكة عن تناول الطعام والشراب أنه دخل عدد منهم على إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في هيئة رجال ، فظنهم ضيوفا من الناس ، وقدم لهم عجلا مشويا ، فامتنعوا عن تناوله ، مما جعله يخاف منهم ، لأن الضيف الذي يمتنع عن الطعام يريد شرا بأهل البيت ؛ فأعلموه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط لاهلاكهم ، وبشروه باسحق ويعقوب :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (١١١) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (١١٢) قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) (١١٣)

والملائكة تستغني عن الطعام والشراب للطافة أجسامها.

وهي لا تنام ولا تنقطع عن عبادة الله وتسبيحه.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١١٤) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١١٥)

والملائكة لا يتزوجون ولا يتناسلون ، وليسوا ذكورا ولا إناثا.

وقد ندد الله بالمشركين لزعمهم أن الملائكة إناث :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى. وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). (١١٦)

فقد جعل الله الناس ذكورا وإناثا ليتزوجوا ويتناسلوا ، أما الملائكة فلم يجعلهم الله مثلنا. وقد خلقهم جميعا قبل خلق أبينا آدم عليه‌السلام ، بدليل قوله سبحانه :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). (١١٧) وعدد الملائكة كثير لا يعلمهم إلا الله :

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). (١١٨)

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون. إن السماء أطت ، وحق لها أن تئط. ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله» (١١٩).

وليس في الملائكة من يعصي الله ويمتنع عن طاعته :

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٢٠)

وأعمال الملائكة كثيرة ومتنوعة أهمها :

١ ـ تسجيل أعمال الناس وأقوالهم. قال تعالى :

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢١)

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). (١٢٢)

٢ ـ تبليغ الوحي إلى الرسل :

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ). (١٢٣)

وملك الوحي هو جبريل عليه‌السلام :

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). (١٢٤)

وهو المسمى بالروح الأمين :

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٢٥)

كما سماه الله روح القدس ، أي الروح الطاهرة المقدسة ، وذلك في قوله :

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). (١٢٦)

٣ ـ قبض الأرواح. والمكلف بذلك عزرائيل عليه‌السلام

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٢٧)

٤ ـ النفخ في الصور والمكلف بذلك اسرافيل عليه‌السلام :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (١٢٨)

٥ ـ حمل العرش والتسبيح بحمد الله والدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). (١٢٩)

٦ ـ تثبيت المؤمنين حين يقاتلون في سبيل الله. ففي غزوة بدر استغاث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته بالله فأمدهم بالملائكة :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). (١٣٠)

والملائكة جميعهم مطيعون لله خائفون منه :

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). (١٣١)

الآثار التربوية للإيمان بالملائكة :

١ ـ يؤدي الإيمان بالملائكة إلى سمو الإنسان وترفعه عن الشهوات. فحين يعلم بوجود مخلوقات لا تأكل ولا تشرب ولا تنقطع عن عبادة الله ، لا يجعل الطعام والشراب وسائر الملذات غاية حياته ، بل يرتفع فوق الحاجات المادية ، ويهتم بمعالي الأمور. وهذا ما يجعله أكثر صلاحا وأحسن تربية.

٢ ـ كما إن الإيمان بالملائكة يجعل الإنسان مستقيما مخلصا في عمله بعيدا عن الغش والخداع وعن الأذى والعدوان ، وذلك لعلمه بوجود من يحصي عليه أنفاسه ويكتب كل ما يقوله ويفعله.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والتعري ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل الى أهله ، فاستحيوهم وأكرموهم (١٣٢)»

والحياء من الملائكة يكون بستر العورة والامتناع عن القول الفاحش والأعمال السيئة. وإكرامهم يكون بالستر الجميل والطيب والطاعات والذكر وتلاوة القرآن وحضور مجالس العلم.

٣ ـ وحين يعلم المؤمنون بأن الله يمدهم بمن يقاتل معهم حين يجاهدون في سبيله إذا استعدوا للقاء عدوهم ما استطاعوا ، وتجهزوا بما في وسعهم وتوكلوا على الله حق التوكل ، فإنهم يصبحون أكثر شجاعة وأشد جرأة وهذا يؤدي إلى قوتهم المعنوية وعزتهم ونصرهم.

الجن

والجن أيضا مخلوقات خفية لا ترى على حقيقتها. ولكنهم يأكلون ويشربون ، وهم يتزوجون ويتناسلون ولقد خلقهم الله قبل آدم من نار :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (١٣٣) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ). (١٣٤)

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ). (١٣٥)

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم (١٣٦)»

ونار السموم هي أحسن النار وأقواها ، وهي نار لا دخان لها تنفذ من المسام. ومارج من نار : أي ألسنة النار ولهبها الخالص من الدخان.

والجن كالإنس مكلفون بعبادة الله ، وفيهم المؤمن الصالح والكافر الفاجر ، بدليل قوله تعالى على لسان الجن :

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ ، كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً). (١٣٧)

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ (١٣٨) فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). (١٣٩)

والكفرة الفجرة منهم هم الشياطين الذين حذرنا الله من غوايتهم وعلى رأسهم إبليس ـ عليه اللعنة ـ الذي بدأت عداوته لآدم منذ امتناعه عن السجود له ، وطرده من رحمة الله بسببه :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). (١٤٠)

والإيمان بالملائكة والتصديق بوجود الجن يوسع من مدارك الإنسان ومن الآفاق التي يفكر فيها. فيعلم أنه ليس المخلوق الوحيد الذي يقوم بعبادة الله في هذا الكون ويعلم أن الوجود لا يقتصر على الأشياء التي يراها ويحس بوجودها ، فهناك عالم الغيب وعالم الشهادة. وقد أثنى الله على الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة

الإيمان بالكتب السماوية

أنزل الله كتبا على بعض رسله لتبين لهم ما يحتاجون إليه من أمور العقيدة ، وعالم الغيب ، ولتدلهم على كيفية العبادة ، وتشرع لهم نظاما للمعاملات ومبادئ لتحقيق العدل ومنع الظلم ، ولتكون سجلا لأحكام الدين ، يرجع إليه المؤمنون بعد وفاة الرسول الذي أنزل عليه الكتاب ، فلا يلتبس عليهم شيء من أحكامه ، ولا يختلفون على شيء من تعاليمه. قال الله تعالى :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤١)

وأنزل الله عددا من الصحف وجميع الكتب والصحف المنزلة تضمنها حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ إذ قال :

«قلت يا رسول الله! كم كتابا أنزل الله تعالى؟

قال : مائة صحيفة وأربعة كتب : على آدم عشر صحائف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (١٤٢)»

وذكرت الصحف في قوله تعالى :

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (١٤٣)

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٤٤)

والتوراة هي كتاب موسى عليه‌السلام. قال تعالى :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ). (١٤٥)

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ (١٤٦) بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي

ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١٤٧)

والزبور أنزل على داود عليه‌السلام. قال تعالى :

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٤٨)

والإنجيل أنزل على عيسى عليه‌السلام ، وهو مكمل للتوراة ، وناسخ لبعض أحكامها. قال تعالى :

(وَقَفَّيْنا (١٤٩) عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). (١٥٠)

والقرآن الكريم أنزل على محمد عليه الصلاة والسّلام. وهو مصدق لما قبله من الكتب وحاكم عليها.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). (١٥١)

وقد سمي القرآن الكريم بهذا الاسم في قوله تعالى :

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). (١٥٢)

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (١٥٣)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). (١٥٤)

وسمي الفرقان في قوله تعالى :

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ). (١٥٥)

كما سميت التوراة بهذا الإسم في قوله سبحانه :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (١٥٦)

وهذه التسمية تدل على أنه يفرق بين الحق والباطل ، ويميز بين الحلال والحرام.

وسمي القرآن بالذكر في قوله تعالى :

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). (١٥٧)

ولقد تكفل الله بحفظ القرآن الكريم.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (١٥٨)

وساعد على حفظه في الصدور وعلى كتابته في السطور نزوله مفرقا. كما ساعد ذلك على فهمه والعمل بأحكامه. قال تعالى :

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٥٩)

فكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلما نزلت عليه آيات يأمر كتاب الوحي بكتابتها ، ويقرؤها على الصحابة فيحفظونها. وتم جمع القرآن في مصحف واحد إثر وفاته ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم نسخ في مصاحف عديدة وزعت على البلاد الإسلامية في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ونقل من جيل إلى جيل كتابة وحفظا. وحملة القرآن هم بفضل الله في كل عصر كثيرون بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب. وبهذا لم يحصل في القرآن شيء من التحريف والضياع أو الزيادة والنقص. بل نقل إلينا كما أنزل.

أما الكتب السماوية السابقة فلم يتكفل الله بحفظها ، بل وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار ، وهم العلماء في كل أمة. ولم يتيسر كتابتها حين نزولها ، ولم يوجد من يحفظها عن ظهر قلب ، فلم تبق على حالها ، بل ضاع قسم منها ، وحرف قسم آخر. قال تعالى عن بني اسرائيل والنصارى :

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ). (١٦٠)

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ). (١٦١)

وهذا لأن الكتب الأولى كانت خاصة بأمم معينة في العصور القديمة أما القرآن الكريم فهو كتاب الله الخالد الذي يجب على الناس كافة أن يقتبسوا من نوره ، وأن يهتدوا بهديه ، ويتربوا بمنهاجه ، ويعملوا بتعاليمه إلى يوم القيامة. فقد جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصحيفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله : ما هذه؟ فقال : صحيفة رأيت يهوديا يقرأ بها فأعجبتني فجئتك بها. فقال : «دعها فلو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» (١٦٢).

٤ ـ الإيمان بالرسل

الحاجة إلى الرسل :

احتاج الناس إلى هدي رب العالمين من أول وجودهم على ظهر هذه الأرض. ولم يترك الله خلقه يتخبطون في الظلام ، بل أنزل على المصطفين منهم ما يهديهم إلى الإيمان الصحيح والعقيدة الراسخة ، ويجعلهم يفعلون الخير ، ويتصفون بالخلق الفاضل ويقيهم من الفساد والضلال. قال تعالى :

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (١٦٣)

واحتاج الناس إلى الرسل ليعرفوا صفات ربهم ، ويعلموا مصيرهم بعد موتهم ، وليقوموا بعبادة الله على الوجه الذي يرضيه ، وينظموا حياتهم وعلاقاتهم على أساس الحق والعدل. قال تعالى :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (١٦٤) وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (١٦٥) وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (١٦٦)

واحتاجوا إليهم لتبليغهم هدي رب العالمين وتوضيحه وتبيينه وتفسيره :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (١٦٧)

واحتاجوا إلى الرسل أيضا ليجعلوهم قدوة لهم في سلوكهم ، وليتصفوا بصفاتهم ويتخلقوا بأخلاقهم قال الله تعالى آمرا بالاقتداء برسله :

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). (١٦٨)

والرسل هم أعظم المربين للجنس البشري ، وهم أفضل المصلحين وأحسن المعلمين لأنهم يجتثون من النفوس ما علق بها من الأدران ، ويستأصلون من القلوب ما ران عليها من الخطايا ، ويغرسون فيها الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة. وبالاقتباس من النور الذي جاؤوا به يصبح الناس علماء صالحين وحكماء مخلصين. قال تعالى :

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ

لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ). (١٦٩)

وبإرسال الرسل أقام الله الحجة على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه :

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ). (١٧٠)

ولم يبق للناس عذر عند ربهم إن كفروا به وعصوه :

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). (١٧١)

فقد حذرهم الله برسله من الغرور بالدنيا ومن غواية الشيطان ، وعهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). (١٧٢)

تعريف الرسل وصفاتهم :

الرسل بشر يوحى إليهم ، ويكلفون بهداية الناس. وليس في الرسل طبيعة إلهية ، وليسوا من الملائكة ، ولا يختلفون عن البشر الآخرين في شيء من صفاتهم الجسمية. غير أنهم أفضل المخلوقات لصلاحهم وحسن أخلاقهم. ولذلك اصطفاهم الله وخصهم بالوحي. قال تعالى :

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). (١٧٣)

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). (١٧٤)

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (١٧٥)

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ). (١٧٦)

ولا بد من أن يكون الرسول صادقا ، حتى يصدقه الناس فيما يبلغهم إياه ويثقوا به. قال الله تعالى في بيان اتصاف الرسل بالصدق :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا). (١٧٧)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا). (١٧٨)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا). (١٧٩)

وقد حذر الله من الكذب عليه فقال :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). (١٨٠)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ). (١٨١)

وقال سبحانه مبينا مصير من يفتري عليه :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (١٨٢) (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ). (١٨٣)

كما لا بد من أن يكون الرسول أمينا ، ليتعلم الناس منه الأمانة ، ويتلقوا ما يبلغهم إياه عن ربهم بالرضى والتسليم. قال الله تعالى مشيدا بأمانة رسله :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٤)

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٥)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٦)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٧)

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٨)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٨٩)

ويتصف الرسل أيضا بالفطنة والذكاء ، والحكمة وسرعة البديهة والفصاحة والبلاغة ليتمكنوا من تفنيد حجج المبطلين ، ومن الرد على المعاندين ، ومن هداية الضالين ، والفصل بين المتنازعين. قال الله تعالى في اتصاف رسله بالعلم والحكمة ، وتوفيقهم للحجة المقنعة والدليل الواضح :

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ (١٩٠) وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ). (١٩١)

وقال سبحانه في تعليم رسله أصول الفصل في المنازعات (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ (١٩٢) إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ (١٩٣) وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ). (١٩٤)

كما قال في داود عليه‌السلام :

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (١٩٥)

وقال سبحانه في فضل الرسل وصلاحهم وقوة بصيرتهم وسداد رأيهم :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ (١٩٦) الْأَخْيارِ. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (١٩٧)

والرسل معصومون عن ال معاصي لأنهم قدوة لغيرهم ، فلو ارتكبوا المعصية ، لجعلهم الناس حجة في فعلها.

وكذلك لا يصاب الرسل بعاهة أو مرض منفر ، ليبقوا محبوبين من الناس.

والرسل جميعا من الرجال ، لأن المرأة لا تقدر على تحمل أعباء الرسالة بما ركب فيها من ضعف ، ولا يمكنها أن تصبر على ما تلاقيه من إيذاء الكافرين ولذلك اختص الرجال بالنبوة والإمامة العظمى. قال تعالى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (١٩٨)

وهم من أهل القرى والمدن وليسوا من البدو والرحل.

عدد الرسل وأفضلهم ووجوب الإيمان بهم :

والرسل كثيرون ، بلغ عددهم عدد الأمم التي وجدت منذ وجود الإنسان على الأرض إلى عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١٩٩)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٠٠)

ولم يخبرنا الله بأسماء كل الرسل :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٢٠١)

ولقد قص الله علينا أسماء خمسة وعشرين رسولا : أو لهم أبو البشر آدم عليه‌السلام ، وكانت رسالته إلى زوجه وأولاده. قال تعالى :

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢٠٢)

وآخر الرسل سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال سبحانه :

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً). (٢٠٣)

وقد أتينا على ذكر من قصهم الله في كتابه من الرسل فيما سبق من الآيات في هذا الفصل.

ولا يصح إيمان من أنكر نبوة واحد من الرسل المذكورين. قال تعالى :

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ (٢٠٤) وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٢٠٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٢٠٦)

وعدم التفريق في الإيمان بينهم لا يعني أنهم سواء في الفضل عند الله :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). (٢٠٧)

ولا يجوز لنا أن نفضل بعض الرسل على بعض من تلقاء أنفسنا ، ولكن نثبت الفضل لمن فضلهم الله في كتابه. وأفضلهم هم أولو العزم المذكورون في قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً). (٢٠٨)

وأفضلهم على الإطلاق هو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ قال :

«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (٢٠٩) فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل (٢١٠) وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» (٢١١)

ولقد كان كل رسول يبعث إلى قومه خاصة في العصور الغابرة لصعوبة الاتصال بين الأمم ، وللاختلاف في ظروف معيشتها ؛ فلم يكن من المناسب أن يبعث رسول لكل الناس ولم يكن بالإمكان حفظ تعاليم الرسل ، كما إن أحوال الأمم كانت تتغير من عصر إلى عصر ؛ ولهذا بعث الله رسلا كثيرين على مر العصور.

فلما وصلت البشرية إلى مستوى من الرقي والنضج يؤهلها لحمل رسالة الإسلام وأصبح بالإمكان الاتصال بين الأمم المختلفة ، وبين الأجيال المتعاقبة ، كانت رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل الناس إلى يوم القيامة :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (٢١٢)

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (٢١٣)

تعاليم الرسل ومعجزاتهم :

يتفق الرسل في توحيد الله عزوجل والتوجه إليه بالعبادة :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). (٢١٤)

كما يتفقون في سائر أمور العقيدة وفي أسس الدين ومبادئه وفي الأخلاق والفضائل.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). (٢١٥)

ولكنهم يختلفون في الشرائع التي تنظم الحياة ، وتحدد العلاقات بين الناس ؛ لتكون شريعة كل رسول صالحة لأمته وعصره. قال تعالى :

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٢١٦)

ولما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بشريعة صالحة لكل زمان ومكان بما اتصفت به من مرونة وشمول ، فهي تحدد الأسس والمبادئ فيما يتغير بتوالي العصور وفيما يختلف بين الشعوب ، ولا تذكر الأحكام الفرعية التفصيلية إلا فيما يبقى على حاله ، ويكون مناسبا لكل الناس في جميع العصور. وضرب الأمثلة يخرجنا عن موضوع البحث الذي نعالجه ، فنكتفي بهذا القول المقتضب.

ولقد جاء بعض الرسل بمعجزات تجعل أقوامهم يصدقونهم فيما دعوهم إليه. والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة الذي يفوق طاقات البشر ، ويتحدى بها الرسول قومه.

ومن هذه المعجزات الناقة التي جاء بها صالح عليه‌السلام ، إذ طلب منه قومه أن يأتيهم بآية على صدقه ، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها

بأنفسهم ناقة عشراء تمخض. فأخذ عليهم صالح ـ عليه‌السلام ـ العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنه ؛ فلما أعطوه عهودهم ومواثيقهم قام إلى صلاته ، ودعا الله عزوجل ، فتحركت تلك الصخرة ، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء ، يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا. فعند ذلك آمن رئيسهم ومن كان معه على أمره ، وأصر بعضهم على الكفر.

وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب ماء البئر يوما ، وتدعه لهم يوما. وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم. ثم تسرح في أوديتهم يوم شربهم. فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لنبيهم عزموا على قتلها ، فعقروها ، فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين (٢١٧)

قال تعالى في تكذيبهم لرسولهم وطلبهم المعجزة وهلاكهم : (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢١٨).

ولما دعا موسى ـ عليه‌السلام ـ فرعون إلى الإيمان لم يصدقه واتهمه بالجنون ، وهم بسجنه وتعذيبه ، فجاءه موسى بمعجزة تدل على صدقه وهي مبينة في قوله تعالى :

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ). (٢١٩)

أما عيسى ـ عليه‌السلام ـ فقد جاء بمعجزات تضمنها قول الله سبحانه :

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ (٢٢٠) وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). (٢٢١)

وهكذا نجد أن هؤلاء الرسل جاؤوا بكائن حي من شيء لا حياة فيه : ناقة تخرج من صخرة ، وعصا تنقلب إلى ثعبان ، وطين يتحول إلى طير. وكان رد الكافرين عليهم واحدا ، وهو اتهامهم بالسحر بدلا من تصديقهم والإيمان بهم.

وكانت معجزات الرسل السابقين مادية حسية ، لتكون مناسبة للناس في سذاجة

تفكيرهم وقلة إدراكهم في قديم الزمان ، فلما اتسعت المدارك ، وتفتحت العقول كانت معجزة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكبرى التي اعتمد عليها في دعوته معجزة عقلية باقية ، يستطيع كل عاقل أن يتملاها ، ويدرك نواحي الإعجاز التي فيها ، وهي القرآن الكريم.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (٢٢٢).

وفوق ذلك فقد جاء ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بمعجزات حسية كثيرة للدلالة على أن رسالته لا تختلف في أصلها عن رسالات الذين سبقوه ، ولكنه لم يكن يعتمد عليها في دعوته. وهي مبينة في كتب السيرة.

غير أن الرسول لا يستطيع أن يفعل شيئا من الخوارق إلا ما أذن الله له فيه وسلطه عليه ، فالفاعل الحقيقي هو الله تعالى. وما المعجزة إلا دليل على أن من جاء بها هو رسول الله.

ولئن كنا نجهل تفاصيل حياة الرسل الأولين ، ولا نعلم منها إلا ما قصه الله في كتابه المنزل على خاتمهم ، وغالب ما ذكر فيه يتعلق بالدعوة ومواقف أقوامهم منها ، فإن حياة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معروفة بكل دقائقها منذ ولادته حتى وفاته واضحة وضوح الشمس. ومن واجبنا أن ندرس السيرة النبوية ، ونجعل صاحبها قدوة لنا في أخلاقنا وأعمالنا :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (٢٢٣)

وهو الرسول الذي أخذ الله العهد على النبيين من قبله أن يؤمنوا به حين يرسل وأن يتبعوه وينصروه ، وأن يدعوا أتباعهم إلى ذلك :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي (٢٢٤) قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٢٢٥)

ومن واجب كل من آمن برسول من قبله أن يؤمن به وأن يتبعه :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ

الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٢٢٦)

الآثار التربوية :

يقدم الإيمان بالرسل للإنسان النموذج الصالح ليقتدي به ، والتربية بالقدوة لها أثر كبير لا يقل عن آثار التربية الناتجة عن القناعة العقلية أو الإثارة العاطفية نحو الخير والحق.

ويجد الإنسان في تعاليم الرسل وشرائعهم والكتب المنزلة عليهم أعظم المناهج والأسس التربوية ، بل يجد فيها نظاما للحياة بكل جوانبها ، وهو النظام الوحيد المناسب للناس ، لأنه وضعه من خلق الكون وأبدعه على أكمل وجه.

كما يجد الإنسان في سير الرسل المتعة والفائدة الجمة ، ويجد فيها أحسن الطرق والوسائل في التربية.

* * *

٥ ـ الإيمان باليوم الآخر

يعتبر الإيمان باليوم الآخر أهم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله تعالى ، لأن المؤمن لا يفعل ما أمر به ولا يترك ما نهي عنه ، ولا يندفع إلى عبادة الله ، ولا يقوم بواجبه ، ما لم يأت عليه يوم يحاسب فيه ويجازى على فعله. ولا بد من مجيء هذا اليوم ليتحقق العدل بين الناس ، ويصل كل واحد إلى حقه ؛ لأننا إذا تأملنا حياة الناس وجدنا فيهم الصالح التقي الذي يظلم ويعتدى عليه ، ويحرم من حقه في هذه الدنيا ، ووجدنا الفاجر الشرير الذي يظلم الناس ويأكل أموالهم ، ويعتدي على الضعفاء ، ولا ينال عقابه ، فلو انتهت الحياة بالموت لكانت اقرارا للظلم ، والله حرم الظلم ؛ فلا بد من عودة إلى الحياة لينصف المظلوم ، ويلقى كل واحد جزاء عمله. قال تعالى :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). (٢٢٧)

ولا بد من بعث الناس ليعاقب الظالمون ويقتص منهم :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٢٢٨)

ولا بد من اليوم الآخر ليتحقق العدل الإلهي :

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ). (٢٢٩)

ثم إن الإنسان قد يقضي حياته دون أن يكمل تدريبه وتحصيله من أجل حياة أفضل ، ويتأتيه الموت وفي نفسه آمال كثيرة يريد أن يحققها. وتبقى فيه قوى كامنة لا يصرفها في شيء ؛ وهو لا يستنفذ طاقاته ، ولا يتمكن من استغلال ما أودع فيه من قدرات ، ولا يستفيد مما حصل عليه من علوم على الوجه الأكمل في هذه الحياة. فلو انتهت حياته بالموت لكانت عبثا لا معنى لها. والله ـ سبحانه ـ منزه عن العبث :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ). (٢٣٠)

فلا بد من عودة إلى الحياة ، يحقق فيها الإنسان سعادته ، ويجد فيها عزته

وكرامته. ومن غير المعقول أن يسخر الله للإنسان كل ما في الكون من الأشياء ، وأن يفضله على كثير من المخلوقات ، وأن يجهزه بهذه الأعضاء والحواس ويودع فيه تلك المواهب والقدرات ، ويزوده بالعلم والمعرفة ، ويهذبه بالخلق والتربية ، ثم تنتهي حياته بهذه المدة القصيرة التي يقضيها على ظهر الأرض.

وليست إعادة خلق الناس صعبة على الله ، فإعادة الخلق أهون من بدئه ، وليس على الله شيء صعب :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (٢٣١)

وإن الذي خلق السموات والأرض لا يصعب عليه إحياء الناس يوم القيامة :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ). (٢٣٢)

كما إن الذي خلق الإنسان من نطفة وجعله كائنا سويا قادر على إحيائه :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ (٢٣٣) مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٢٣٤) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢٣٥)

وإحياء الموتى شبيه بإحياء الأرض الميتة ، وبعودة الحياة إلى الأشجار اليابسة ، مما هو مشاهد أمام أعيننا. وقد استدل الله ـ عزوجل ـ على بعث الموتى بخلق الناس من تراب ، وبإحيائه الأرض الميتة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ (٢٣٦) لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ (٢٣٧) لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ (٢٣٨) وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ). (٢٣٩)

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ (٢٤٠) فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ). (٢٤١)

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ (٢٤٢) سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (٢٤٣)

وهناك موتى أحياهم الله في هذه الدنيا ليكونوا مثالا على الإحياء في الآخرة. كالذي مر على قرية خربة مات أهلها ولم يبق فيها سوى الأطلال والآثار الدالة عليهم فتعجب من قدرة الله على إحيائهم. فأماته الله مئة عام ثم بعثه ليجعله عبرة لغيره. وأمات حماره أيضا ، ثم أراه كيف تتجمع عظامه التي كانت بالية متفرقة ، ثم تكسى لحما ، ويعود كما كان ، بينما بقي طعامه وشرابه على حاله ، لم يفسد طيلة هذه المدة قال سبحانه :

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها (٢٤٤) قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ : بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ (٢٤٥) وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها (٢٤٦) ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٢٤٧)

وكأهل الكهف الذين بعثهم الله بعد أن لبثوا في كهفهم ثلاثة قرون :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها). (٢٤٨)

ولا يعلم أحد إلا الله موعد يوم القيامة :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها) (٢٤٩) لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً (٢٥٠) يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌ (٢٥١) عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (٢٥٢)

وقد أخبر الله تعالى أنها قريبة منا :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً). (٢٥٣)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ). (٢٥٤)

وتبدأ أحداث اليوم الآخر بالنفخ في الصور نفخة تؤدي إلى فناء الأحياء ، فلا يبقى سوى الملك الموكل بالصور وملك الموت الذي يقبض الأرواح وجبريل لفضله عند الله. ثم يأمر الله ملك الموت بقبض روح من بقي حيا ، ثم يميته ، فلا يبقى غيره جل جلاله.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (٢٥٥)

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). (٢٥٦)

وبعد ذلك يحيي الله إسرافيل ويأمره بالنفخ ثانية فتحيا الخلائق ، ويخرج الأموات من قبورهم ، ويجتمعون للحساب :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). (٢٥٧)

ويكون البعث بالروح والجسد بدليل قوله سبحانه :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (٢٥٨)

ويعلم المجرمون يومئذ صدق الرسل الذين دعوهم إلى الإيمان :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٢٥٩) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٦٠)

ويطرأ تغيير هائل على الكون في ذلك اليوم ، إذ تنشق السماء ، وتنطمس النجوم ، وتجمع الشمس والقمر ، وتمد الأرض ، وتزول الجبال ، وتفجر البحار ، قال الله تعالى :

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢٦١).

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (٢٦٢) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢٦٣) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ). (٢٦٤)

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٢٦٥)

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ). (٢٦٦)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (٢٦٧) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ). (٢٦٨)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها (٢٦٩) وَحُقَّتْ (٢٧٠) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٢٧١)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (٢٧٢) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٢٧٣)

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٢٧٤). وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ (٢٧٥) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (٢٧٦)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (٢٧٧) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً). (٢٧٨)

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٢٧٩) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٢٨٠)

ويتفاقم الخطب على الناس في ذلك اليوم ، ويعظم الأمر ، حتى يتمنوا أن يذهبوا إلى النار ، ولا يبقوا يعانون من أهواله :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ (٢٨١) كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). (٢٨٢)

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً). (٢٨٣)

وذلك اليوم طويل جدا على الكافرين والظالمين ، ويتراوح الشعور بطوله بحسب حال المرء :

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). (٢٨٤)

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). (٢٨٥)

أما المؤمنون الصالحون فلا يشعرون بطول ذلك اليوم ، ولا يخافون كغيرهم من الناس. بل تنزل عليهم الملائكة تبشرهم ، وتبعد عنهم الهم والحزن :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). (٢٨٦)

ويتمنى الإنسان في ذلك اليوم أن ينجو بنفسه ، ولا يهتم بمصير أقرب الناس إليه

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). (٢٨٧)

ويومئذ تنقطع الصلات بين الناس إلا ما كان منها لله تعالى ، فالأصدقاء يصبحون أعداء ، ما لم يكن حب الله هو سبب صداقتهم :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). (٢٨٨)

بل يتمنى المذنب أن يفتدي نفسه من العذاب بأعز الناس عليه :

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ (٢٨٩) الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ). (٢٩٠)

ولو حاول المسيء أن يدفع عن نفسه العذاب بالتماس الشفاعة من غيره أو بدفع الفدية ، فلا يقبل منه :

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). (٢٩١)

ولو بذل الكافر كل ما في الأرض لما نجا من العذاب

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ). (٢٩٢)

ولا ينفع الإنسان في ذلك اليوم إلا إيمانه وعمله :

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). (٢٩٣)

وبعد الحشر هناك الحساب على كل صغيرة وكبيرة.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً (٢٩٤). وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ (٢٩٥) مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما

خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً. وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ (٢٩٦) مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). (٢٩٧)

ثم يوضع ميزان الأعمال ، ويجازى الإنسان على كل ذرة من خير أو شر :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). (٢٩٨)

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٢٩٩)

ويناول كل إنسان كتاب أعماله ، فالصالح يعطى كتابه بيمنه ، ويحاسب حسابا سهلا. والمسيء يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، فيخسر خسرانا كبيرا :

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ) (٣٠٠) اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٣٠١)

كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ). (٣٠٢)

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ (٣٠٣) إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (٣٠٤) وَيَصْلى سَعِيراً). (٣٠٥)

وحينئذ يدعو الكافر على نفسه بالهلاك ، ويتمنى أن لا يكون له وجود :

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً. يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). (٣٠٦)

ومن ثقلت حسناته كان من السعداء ومن ساء عمله كان من الأشقياء :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ. تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ). (٣٠٧)

والصالحون يدخلون الجنة ، ويجتمعون فيها بأزواجهم وذرياتهم وأصحابهم الصالحين ، وينعمون فيها أبدا. أما المجرمون فيدخلون النار ، ويعذبون فيها أبدا.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٣٠٨) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ (٣٠٩) وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ (٣١٠) عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٣١١) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٣١٢) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). (٣١٣)

الآثار التربوية :

للإيمان باليوم الآخر أعظم الآثار التربوية بعد الإيمان بالله ، فهو يجعل الإنسان صالحا طيلة حياته ، يفعل الخير في جميع أحواله ، ويريده لكل الناس حتى الذين يقابلونه بالشر ، لعلمه بأن كل واحد يجازى على عمله.

وهو يجعل الشخص يتحمل المسؤولية ، ويقوم بالواجب على أكمل وجه ويجعله يصبر على الشدائد ، ويحتمل المشاق لتحقيق ما يعود عليه وعلى غيره بالنفع. ثم إنه يوجه إرادته نحو ما هو خير ، ويضبط غرائزه ويتحكم في دوافعه ؛ فلا يفعل إلا ما يرضي الله عزوجل.

والإيمان باليوم الآخر يجعل المرء حريصا على قول الحق وتأييد العدل ونصرة المظلوم ومساعدة الضعيف ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن الله أمره بهذه الأعمال ، ووعده بالمثوبة عليها.

ويجعل المؤمن ـ يجاهد بماله ونفسه في سبيل الله لرد العدوان وقمع الظلم ونشر الدين ، لإيمانه بأن ما ينفقه من ماله يجده أحوج ما يكون إليه ، وأنه إذا جاد بنفسه في سبيل الله فإن روحه تصعد إلى بارئها ، وتكون جنات الفردوس مثواها.

وهذا ما يجعل المجتمع في غاية القوة والصلاح ، ويجعل الأمة في أوج العزة والمنعة

٦ ـ الإيمان بالقضاء والقدر

القضاء هو حكم الله الأزلي في الكون والإنسان والحوادث على النحو التي ستوجد عليه المخلوقات وتقع فيه الحوادث.

والقدر هو وجود الأشياء ووقوع الحوادث وفق حكم الله فيها.

فقد قرر الله ـ سبحانه ـ كل ما سيخلقه ، وكل ما سيطرأ على مخلوقاته وما سيقع من حوادث. ولا يخلق شيء ، ولا يوجد كائن ، ولا يولد إنسان أو يموت ، وما تحمل من أنثى أو تضع حملها ، وما يمد من الأجل لكل حي ، أو ينقص منه إلا هو مكتوب من قبل :

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٣١٤)

حتى البذرة التي توضع في الأرض والورقة الساقطة من الشجر وجميع ما في البر والبحر والأرض والسماء ، كل ذلك لا يوجد إلا وفق قضاء الله تعالى ولا يقع إلا كما هو مكتوب. قال تعالى :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣١٥)

والآيات الدالة على القضاء والقدر كثيرة منها :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (٣١٦)

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). (٣٠٧)

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ). (٣١٨)

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). (٣١٩)

فقد دلت هذه الآيات على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قدر كل شيء بحجمه وشكله ومقداره. ولا يوجد شيء إلا حسبما هو مقدر ، ووفق المقادير الموضوعة له في الوقت المحدد.

وما يقع لإنسان من خير أو شر مقدر أيضا. قال تعالى :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (٣٢٠) وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٣٢١)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها (٣٢٢) إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (٣٢٣)

أي إن الله تعالى قدر وقوع المصيبة ، وأمر بكتابتها من قبل وقوعها ومن قبل خلق الأرض والأنفس.

وتوجد أحاديث نبوية كثيرة تدل على القضاء والقدر ، منها :

١ ـ عن علي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع : بالله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله ، وبالبعث بعد الموت ، والقدر» (٣٢٤)

٢ ـ وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

«كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (٣٢٥)».

٣ ـ وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» (٣٢٦).

٤ ـ وقال عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ لابنه :

«يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب فقال : رب وما ذا أكتب؟ فقال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة».

يا بني إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من مات على غير هذا فليس منى» (٣٢٧).

٥ ـ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة (٣٢٨)»

أي أمر بكتابة المقادير في اللوح المحفوظ كما علم وأراد قبل خلق الأشياء بتلك المدة.

٦ ـ وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين

يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك. ثم ينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد. فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها. وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها (٣٢٩)».

والإيمان بالقضاء والقدر لا يجعل الإنسان فاقدا للقدرة والإرادة ، ولا يسلبه حريته في اتخاذ قراراته وتحديد مواقفه. فقد ترك الله للإنسان حرية الاختيار بين الكفر والإيمان :

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). (٣٣٠)

وليس لأحد من رسول أو غيره سلطة لإجبار الناس على الإيمان ، فلو شاء الله لجعل الناس جميعا مؤمنين ، ولكنه تركهم وشأنهم ليلقى كل واحد جزاءه :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). (٣٣١)

ولا يجوز لأحد أن يتعلل بالقضاء والقدر ، ويحتج بمشيئة الله في الشرك به وارتكاب المحرمات ، كما فعل المشركون من قبل :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا (٣٣٢) قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (٣٣٣) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ. فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ). (٣٣٤)

فقولهم هذا بعيد عن الحقيقة ، مجرد من البرهان وما هو إلا رجم بالغيب وتقليد للسابقين ومصير كل من قال به العذاب الشديد. وليس لأحد أن يحتج بمثله ؛ فقد أقام الله الحجة على عباده ، وبلغهم الرسل ما نزل إليهم من الحق.

ومشيئة الإنسان من مشيئة الله ، فهو الذي منحة القدرة على العمل والحرية في أقواله وأفعاله ، ومشيئته ـ تعالى ـ مطلقة ، وعلمه لا يحد ، ورحمته وسعت كل شيء (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). (٣٣٥)

وعلى هذا فإن كل ما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة يصح نسبته إلى الله

تعالى ، لأنه هو المقدر له ، وهو الذي ألهم الإنسان ما يعمله ، ومنحه القدرة التي تمكنه من العمل. وقد ندد الله ـ سبحانه ـ بالمنافقين الذين كانوا يعتبرون الخير من الله ، ويجعلون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سببا في الشر الذي يصيبهم وبين أنهما من عند الله. فقال :

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً). (٣٣٦)

ومع ذلك فليس من الأدب أن تنسب السيئة إلى الله عزوجل ، لأن الإنسان هو الذي سعى إليها ، وكان سببا في وقوعها :

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٣٣٧)

والمصائب تنزل على الإنسان بسبب ذنوبه وتقصيره في واجباته ، أو بسبب إهماله وقلة احتياطه. ولو لا عفو الله عنا لأصابنا كثير منها.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٣٨)

والنتيجة أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يعفي الإنسان من المسؤولية عن عمله ، غير أن مسؤوليته لا تتعلق بالجوانب الخارجة عن إرادته كطول قامته ولون بشرته ، وإنما يسأل عن الواجبات الشرعية والتكاليف الملقاة عليه. فإن قام بواجباته وأخلص في عمله استحق الثواب ، وإن ضيع الأمانة وغش في عمله ، وفعل ما نهي عنه ، وترك ما أمر به استحق العقاب.

آثار الإيمان بالقضاء والقدر :

إن لهذا الركن من أركان الإيمان آثارا نفسية وتربوية على غاية الأهمية ، إذ أنه

١ ـ يمنع اليأس والحسرة حين يحاول الإنسان تحقيق شيء ، ويفشل فيه. ويجعله يرضى بالنتيجة التي قدرها الله ، فهو أعلم منه بمصلحته :

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (٣٣٩)

وهذا ما يجعل الإنسان يبذل جهده ويستعين بربه لتحقيق ما ينفعه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجر. وإذا أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل. فإن" لو" تفتح عمل الشيطان» (٣٤٠)

٢ ـ يقضي على الغرور والاختيال حين النجاح : فإذا أراد المؤمن تحقيق شيء ، ووفق فيه ، فإنه يعلم أن الفضل لله في تقدير ذلك ، وفي عونه عليه ؛ فيبقى متواضعا شاكرا لأنعم الله الذي قال :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا (٣٤١) عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ). (٣٤٢)

٣ ـ يطهر القلب من الحسد : فحين تعلم أن الله فضل بعض الناس على بعض في الرزق ليبلوهم فيما آتاهم ، فإنك لا تحسد من هم أحسن حالا منك ، وإنما نرضى بما قسم لك ، وتحمد الله على فضله.

٤ ـ يؤدي إلى الإقدام والشجاعة : فالأعمار مقدرة ، والآجال محتومة ، وهذا يجعل المؤمن يجاهد بشجاعة لنصرة الحق وإزهاق الباطل ، لا يهاب الموت ، ولا يفر من لقاء العدو :

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً). (٣٤٣)

٥ ـ يجعل الإنسان قوي الإرادة ماضي العزيمة : فهو يعلم أن مصيره بيد الله وحده ، فيتوكل عليه ، ويسير بخطوات ثابتة إلى غايته ، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). (٣٤٤)

٦ ـ يجعل النفس راضية مطمئنة : وكيف لا ترضى وتطمئن وهي تعلم أن الله هو الذي يعطي ويمنع ، ويعز ويذل ، والخير بيده ، وهو على كل شيء قدير! وأي جوار يلجأ إليه الضعيف أمنع وأعز من اللجوء إلى الله القوي العزيز والتوكل عليه :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

قَدِيرٌ. تُولِجُ (٣٤٥) اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). (٣٤٦)

وبذلك يكون الإيمان بالقدر بلسماء لشفاء الجروح التي يصاب بها المرء حين يقوم بالمهام الصعبة ، وبرءا للنفوس حين يصيبها الإعياء والسقم وهي تتصدى للمخاطر الجسيمة ، وكابحا لنزوات الفرد من أن تجعله يخرج عن الطريق. فبينما ينهار الكافر إذا أصابه مكروه ، ويختال إذا أصابه خير ، وينقطع عن العمل مدة طويلة بسبب يأسه وتحسره في الحالة الأولى ، أو بسبب فرحه وسروره الذي يجعله يميل إلى الملذات ، ويقيم الاحتفالات في الحالة الثانية ؛ فإن المؤمن يستمر في العمل المجدي الذي يعود بالنفع عليه وعلى أمته :

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٣٤٧)

وبينما يمتلئ قلب الكافر بالحسد إذا رأى من فضل عليه في الرزق ، وتطير نفسه شعاعا إذا سيق إلى ساحة الوغى ، وتجده ضعيفا خائرا في ساعة العسرة ، وشاكيا ناقما حين المصيبة ؛ فإن المؤمن طاهر القلب ثابت الجنان ، مطمئن النفس ، صابر شاكر.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير وليس ذلك لغير المؤمن إذا أصابه سراء شكر فكان خيرا له ، وإذا أصابه ضراء صبر فكان خيرا له» (٣٤٨)

وهذا ما يؤدى إلى سعادة الفرد وفلاحه ورقي الأمة وتقدمها.

وهكذا يتجلى أن الإيمان بالله ليس وهما ولا خرافة ، بل هو حقيقة ثابتة وقضية مسلمة ، لا يماري فيها أي عاقل : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣٤٩)

وليس الإيمان سببا للجمود ولا عائقا عن الرقي ، وليس صلة خاصة بين الإنسان وربه دون أن يكون لها علاقة بالحياة ؛ فالإيمان أساس في التربية ومنطلق في الإصلاح ودعامة لكل خير وفضيلة.

وليس العمل بالتعاليم التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مانعا من مسايرة العصر والتقدم ، بل مانعا من الزيغ والضلال ومن الانحراف والفساد.

واتباع الرسل يصون جهود الإنسان من التبعثر ، ويقيه شر التخبط بالسير على الطرق التي يحسب أن فيها نجاته ؛ فيوفر جهده ووقته لإنجاز ما يعود عليه بالنفع ،

وهو مطمئن النفس ، واثق من حصوله على حقوقه ، ومن درء الظلم والعدوان ، ونشر العدل والأمن.

وليس الإيمان باليوم الآخر صارفا للإنسان عن تحسين أحواله في الدنيا ولا يوجد تعارض بين العمل للآخرة والعمل لإصلاح الحياة الدنيا ، فطريقهما واحد ، والسعي لهما مشترك :

(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ). (٣٥٠)

ولا يمكن إصلاح الدنيا وتحقيق سعادة الناس فيها ما لم يؤمنوا بأنها طريق يسافرون عليه للوصول إلى الدار الآخرة ، وما لم يتزودوا بالزاد الذي ينفعهم لذلك السفر الطويل قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ). (٣٥١)

وليس الإيمان بالقدر سببا لجعل الإنسان مستسلما للمصادفات ، ولا لجعله ضعيفا خاضعا للأقوياء ، ولا لجعله هائما حائرا كالريشة في مهب الريح ؛ بل يجعله قويا صامدا وشجاعا صابرا ومطمئنا راضيا ، ينصر الحق ويقاوم الظلم ، ويعمل الخير ، ويقمع الشر وبذلك تكون العقيدة الإسلامية أكبر عامل في التربية الروحية ، ويكون من الواجب الاعتماد عليها في كل تربية هادفة وفي كل إصلاح منشود.

* * *

ثانيا : العبادات

العبادة هي طاعة الله تعالى والخضوع المطلق له ، وهي تشمل فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه. ولكنا نقتصر في هذا البحث على العبادات التي فرضها الله علينا ، وجعلها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أركان الإسلام بقوله :

«بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع له سبيلا» (٣٥٢).

والعبادة مظهر للعقيدة : فالشهادتان تعبير باللسان عن الإيمان بالله ورسوله ، والصلاة تعبير عن الإيمان بأقوال وأفعال معينة ، والصوم تعبير عنه بالامتناع عن المفطرات ، يرمز إلى اجتناب المحرمات.

والزكاة عبادة مالية ، والحج عبادة بدنية ومالية. وكل هذه العبادات تدل على وجود الإيمان في قلب من يقوم بها بشرط أن تكون خالصة لوجه الله تعالى ، أما إذا لم تصحبها النية الخالصة لله ، فتكون مجرد أعمال ظاهرية لا تنفع صاحبها شيئا عند ربه ويكون مثلها مثل شجرة اجتثت من فوق الأرض لا تعطي شيئا من الثمار ، ولا يستقر لها قرار ، فسرعان ما تعصف بها الريح.

وبالمقابل فإن العبادة تؤدي إلى ترسيخ العقيدة وزيادة الإيمان ، إذ أن الإيمان يبقى فكرة ضعيفة باهتة حتى يدفع الى العبادة ، فإذا فعلت العبادات قوي الإيمان ، واستقر في القلب. ولذلك اقترن الإيمان بالعبادات في كثير من أي الذكر الحكيم.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (٣٥٣)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ). (٣٥٤)

وللعبادة أعظم أثر تربوي ، إذ أنها تبعث على الاستقامة ، وتقوي الشعور بمراقبة الله تعالى ، حتى يصل العبد إلى درجة الإحسان التي أخبر عنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (٣٥٥).

والإنسان الذي يوقن بأن عين الله لا تغفل عنه هو صالح في السر والعلانية ، يقوم بكل ما أمر به ، ويترك ما نهي عنه. هذا هو الأساس في تقدم الأمم ورقي الشعوب.

كما إن العبادات تنشئ الإنسان المعتدل المتوازن في تصوره وسلوكه الذي يعطي كل جانب من جسمه وعقله وروحه حقه ، ويعمل لدنياه وآخرته ، وبذلك تنسجم العلاقة بينه وبين نفسه ، وبينه وبين الناس الآخرين ، كما يحصل الانسجام بينه وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ، والذي لا يخرج على النواميس التي وضعها الله له ، فهو مطيع عابد لله :

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣٥٦)

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٣٥٧)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ). (٣٥٨)

وتسبيح الكائنات وسجودها لله إما أن يكون بكيفية مناسبة لها ، يعلمها الخالق سبحانه وإن خفيت علينا ، أو يحمل على خضوعها له ، وعدم امتناعها عن القيام بما خلقت لأجله.

وبذلك يكون الإنسان العاصي لله المستنكف عن عبادته شاذا في هذا الوجود. وهذا ما يجعله على شقاق مع نفسه التي بين جنبيه وعلى شقاق مع الناس والأشياء كلها. وأنى يجد السعادة من كانت هذه حاله!

أما المؤمن المطيع لله فهو الذي يفوز برضاه ، ويسعد بجواره ، ويتلاءم مع مخلوقاته ، لأنه يحقق الغاية التي خلق من أجلها ، ويحسن الاستفادة من الأشياء التي سخرت له.

ولكل من العبادت المفروضة آثار تربوية خاصة بها ، نجملها فيما يلي :

١ ـ الصلاة

تعتبر الصلاة أعظم صلة للإنسان بربه. وهي لغة بمعنى الدعاء. وشرعا : أقوال وأفعال محددة بنية عبادة الله تعالى ، تبدأ بالتكبير وتختتم بالتسليم. ولقد شرعت الصلاة من أول الدعوة إلى الإسلام ، إذ أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقيام الليل في أوائل السور التي أنزلت عليه ، وذلك في قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (٣٥٩) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٣٦٠)

ولقد علم الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الإيمان لا يكون بغير عبادة الله ، فكانوا يقومون الليل معه من قبل أن يؤمروا بذلك ، حتى نزلت الآية في الثناء عليهم والتخفيف عنهم :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى (٣٦١) مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ (٣٦٢) يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ (٣٦٣) وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). (٣٦٤)

ثم فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج لتكون معراجا للمؤمن بروحه كلما وقف بين يدي ربه. ومع أنها كسائر التكاليف الشرعية تفرض على المسلم من سن البلوغ ، فإن الطفل يؤمر بها من أول سن التمييز لقوله عليه الصلاة والسّلام :

«مروا أولادكم بالصلاة ، وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها ، وهم أبناء عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع» (٣٦٥)

والمقصود من هذا الأمر في تلك السن المبكرة أن ينشأ المسلم معتادا لها ، وأن يبقى محافظا عليها طيلة عمره. إذ أن الصلاة لا تسقط عن المسلم بأي حال سواء أكان فقيرا أم غنيا ، مريضا أم معافى ، عاجزا أم قادرا.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب» (٣٦٦).

فهي بحق أم العبادات وعماد الدين. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«الصلاة عماد الدين ، فمن تركها فقد هدم الدين» (٣٦٧).

ويقدر ما للصلاة من أهمية فإن لها آثارا تربوية عظيمة في النواحي الجسمية والروحية والخلقية والاجتماعية :

أ) ـ فمن الناحية الجسمية : تتجلى فائدة الصلاة في جعل الجسم نظيفا نشيطا ، إذ أن الطهارة شرط لصحتها ، فتبقى ثياب المسلم طاهرة نظيفة ؛ وهو يحافظ على طهارة جسمه ، ويزيل ما يعلق عليه من النجاسات ، ويغسل الأعضاء والأطراف المكشوفة منه كل وضوء ؛ مما يقيه شر الجراثيم والأوساخ التي تلوث الجلد : والمضمضة والسواك وسيلتان لتنظف الفم ووقاية الأسنان.

والاستنشاق والاستنثار يؤديان إلى طرح الأوساخ من الأنف والمحافظة على صحة جهاز التنفس ومنع الإصابة بالحميات الراشحة إلى حد كبير. وغسل الوجه يجعله في غاية النضارة والإشراق ، ويقي العيون مما يتجمع حولها من الأوساخ ، والتخليل بين أصابع اليدين والقدمين يمنع أسباب العفونة ، وينشط الدورة الدموية.

والصلاة رياضة خفيفة مناسبة لكل الأعمار وكل الناس علي اختلاف قدراتهم ، تؤدي إلى حركة معظم أعضاء الجسم ، وتجعل مفاصله لينة سهلة الحركة ؛ ولولاها لتصلبت الأعضاء والمفاصل التي لا يحركها الإنسان أثناء قيامه بأعماله المعتادة. ثم إن كثيرا من الناس يقضون وقتا طويلا حين عملهم في حالة الوقوف أو الجلوس ؛ مما يعرقل رجوع الدم من الساقين إلى القلب ، ويعرضهم للإصابة بالدوالي ، ومما يلقي على القلب حملا ثقيلا ليدفع الدم إلى الدماغ الذي يحتاج إلى الغذاء والأكسجين بمقدار خمس حاجة الجسم كله.

وحين الركوع يصبح الرأس في مستوى القلب ، فيسهل دفع الدم إليه. وحين السجود يصبح القدمان في مستوى القلب ، فيسهل رجوع الدم منهما. وهكذا تؤدي الصلاة إلى تنشيط الدورة الدموية والوقاية من الإصابة بتصلب المفاصل ودوالي الساقين كما إن الاستيقاظ باكرا لصلاة الصبح يجعل الجسم سليما نشيطا.

ب) ـ ومن الناحية الروحية والنفسية والخلقية : تؤدي الصلاة إلى تكفير السيئات ومغفرة الذنوب. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» (٣٦٨).

وهذا يؤدي إلى سمو الروح واطمئنان النفس لفوزها برضا الله وجنته. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«خمس صلوات كتبهن الله على العباد ، فمن جاء بهن ، ولم يضيع منهن شيئا استخفاقا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة.

ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء أدخله الجنة» (٣٦٩).

كما تؤدي إلى تهذيب النفس والبعد عن الفواحش والمنكرات ، فكيف يفعل الفواحش من يتضرع إلى ربه ويناجيه ، ويعلم أنه مطلع عليه ومراقبه ، قال الله تعالى :

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ). (٣٧٠)

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا (٣٧١)».

ثم إن الصلاة تعين على مجابهة الصعاب وتحمل المشاق. قال الله تعالى :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ). (٣٧٢)

ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى. (رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة).

والصلاة تريح الإنسان مما يعانيه من هموم الحياة ، وتضع عن كاهله ما ينوء بحمله من الأثقال ؛ لأنه يفوض الأمر إلى الله ، ويستمد منه العون والتوفيق ، فيصبح قرير العين مسرور الفؤاد. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«حبب إليّ الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة (٣٧٣)».

وكان يقول لمؤذنه حين يدخل وقتها : «أرحنا بها يا بلال» (٣٧٤).

وهي تعين على تركيز الذهن ، لأن المصلي يصرف وساوس الشيطان عن نفسه ويطرد هموم الدنيا من قلبه ، ويركز ذهنه على التفكير في معاني الآيات التي يقرؤها أو يسمعها من إمامه ، ويحصر نشاطه العقلي في مناجاة الله والتضرع إليه. وتركيز الذهن وحصر القوى العقلية في موضوع يؤدي إلى وضوحه وفهمه. وبدون ذلك لا يكون هناك إبداع ولا اختراع.

ويمكننا أن نضيف إلى هذه الناحية أيضا أن الصلاة تعلم النظام واتقان العمل فحين يحافظ المسلم على الصلوات في أوقاتها ، ويقيم الصلاة بدون إخلال بشيء من أركانها وسننها فإنه يتعلم أن يقوم بواجباته كلها في الأوقات المحددة له وعلى أحسن وجه. ولهذا الأثر أهميته في إعداد النفوس وبناء الحضارة.

ج) ـ وتتجلى آثار الصلاة الاجتماعية حين يجتمع المسلمون في بيوت الله ،

ويجلس الفقير إلى جانب الغني ، والصغير إلى جانب الكبير والضعيف إلى جانب الشريف ، ويقفون في صفوف متراصة ، ويتابعون الإمام في القيام والركوع والسجود والجلوس كجسم واحد ؛ فتتحقق بينهم المساواة ، وتنشأ بينهم الألفة ، ويتعارفون فيما بينهم ، ويتعاونون على ما فيه صلاحهم.

والإنسان يميل إلى الاجتماع بالآخرين. والصلاة تمكنه من أن يجتمع بأبناء حيه أو بلده عدة مرات في اليوم ؛ فيعرف بعضهم بعضا ، ويتفقدون الغائب منهم ، فيعودونه إن كان مريضا ، ويعينونه إن كان محتاجا إلى العون ، ويهنئونه إن أصابه خير ، ويواسونه إن أصابه شر.

وفي بيوت الله يلتقي الأمير بالرعية ، وهو في الغالب يؤمهم في الصلاة ، وهم يقتدون به ؛ فيتعلمون طاعته والاستماع إليه ، وينصحونه ولا يبخلون عليه بالرأي السديد ، ويرفعون إليه مظالمهم ؛ وبذلك ينتشر العدل ويقضى على الظلم ، وتنهض البلاد.

ولهذا كانت «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة (٣٧٥)»

* * *

٢ ـ الزكاة

الزكاة لغة : الطهارة والنماء ، فهي طهارة معنوية للنفس البشرية ، ونماء للمال والعلاقات الإجتماعية ،

وشرعا : إخراج مال معلوم إلى مستحقيه بشروط معينة.

والمال الذي تجب فيه الزكاة هو المعد للاستثمار كالنقود والمزروعات والأنعام وعروض التجارة. أما المعد للانتفاع الشخصي كالألبسة ودار السكن فلا زكاة فيها.

ومن شروط وجوب الزكاة أن يبلغ المال نصابا ، فإذا نقص عن قدر معين فلا زكاة فيه. وتقوم النقود المتداولة وعروض التجارة بالذهب أو الفضة ، لأنهما الأساس في قيمة الأشياء ، وقد غلب التقويم بالذهب في هذا العصر. ونصابه عشرون مثقالا ، تعادل ستة وسبعين غراما. وتختلف قيمته من عام إلى آخر.

ونصاب الفضة مائتا درهم ، يبلغ وزنها خمسمائة وأربعين غراما.

ويشترط أيضا أن يحول الحول ، أي أن تمضي سنة قمرية على ملك النصاب ، فلا تجب الزكاة سوى مرة كل عام ، وهذا في النقود وعروض التجارة والأنعام. أما المزروعات فتجب زكاتها مرة واحدة عند جمع محصولها لقوله تعالى :

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ). (٣٧٦)

ونسبة الزكاة الواجبة في الذهب والفضة والنقود وعروض التجارة هي ٥ ، ٢% ، وفي المزروعات المسقية بكلفة ، كأن تحتاج إلى مضخة أو حيوان أو جهد لإخراج الماء ، تجب بنسبة ٥% ، وفي المزروعات البعلية أو المروية بدون كلفة ١٠% لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا (٣٧٧) العشر ، وما سقي بالنضج نصف العشر» (٣٧٨).

وقد جعل الله ـ جل شأنه ـ بعض الناس قادرين وبعضهم ضعفاء ، وجعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء ، ليمتحنهم فيما منحهم : يمتحن الغني هل يشكر لله ويعطي الفقير حقه أم لا ، ويمتحن الفقير هل يرضى بما قسمه الله له ويتصف بالعفة أم يسخط ويحسد الغني. قال تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ

دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). (٣٧٩)

ومما يدل على أهمية الزكاة أنها اقترنت بالصلاة في كثير من الآيات. قال تعالى في صفات المتقين :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (٣٨٠)

وقال سبحانه في وصف المؤمنين :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (٣٨١)

وقال في غاية قتال المشركين : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٨٢)

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (٣٨٣)

وقال آمرا بهما :

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ). (٣٨٤)

وقال آمرا بالإخلاص في العبادة :

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). (٣٨٥)

وقال مرغبا في العبادات ، والأعمال الصالحة :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (٣٨٦)

وللزكاة آثار تربوية من الناحية النفسية والاجتماعية كبيرة :

١) فهي تستأصل من نفس الغني الشح وتجعله سخيا كريما. قال تعالى :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). (٣٨٧)

٢) ـ وهي تستأصل من نفس الفقير الحسد والطمع ، وتجعله عفيفا راضيا. فالفقير يسخط حين يرى نفسه محروما ، ويرى غيره موسعا عليه في الرزق ، ويتمنى زوال نعمة الغني ليصير مثله. أما حين يرى الغني يعطيه جزءا من ماله ، فإنه يقنع بما رزقه الله ، ويصبح عفيف النفس.

٣) ـ والزكاة كفارة للذنوب ، تطهر النفوس من أدرانها ، وتسمو بها في مدارج الكمال الإنساني. قال تعالى :

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها). (٣٨٨)

٤) وهي تجعل المجتمع متعاونا متآلفا ، فلا يبقى نزاع بين الأغنياء والفقراء ، فالغني يعطي الفقير بدلا من أن يستغله ، والفقير يعين الغني بدلا من أن يحاول نهب ماله ، ويصبح الجميع إخوة متحابين كما قال تعالى :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً). (٣٨٩)

٥) وهي تسهم في تحقيق التكافل الاجتماعي ، فلا يبقى جائع لا يجد الطعام ، ولا يبقى مريض لا يجد العلاج ، ولا يبقى أحد لا يجد اللباس والمسكن اللائق به. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم ما يسع فقراءهم ، فإن جاعوا أو عروا فبما يصنع أغنياؤهم. ألا وإن الله محاسبهم حسابا شديدا ، ومعذبهم عذابا أليما.» (٣٩٠).

٦) وهي فوق ذلك تصون المال وتؤدي إلى زيادته والبركة فيه. فإذا احتاج الغني إلى مساعدة الفقير لجمع محصوله ولدرء الفيضان والأخطار عنه ، فلا يقف متفرجا عليه شامتا به ، بل يندفع إلى تقديم ما يحتاجه من عون ، ما دام يعلم أن له حصة في ماله. ولا يسعى الفقير إلى سرقة مال الغني أو أخذه بدون حق ، إنما يحافظ عليه ويصونه من العبث ، ويرده إليه إن وجده. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«حصنوا أموالكم بالزكاة» (٣٩١).

وقد وعد الله المتصدقين بالتعويض عليهم :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). (٣٩٢)

٣ ـ الصوم

الصوم لغة : الامتناع والإمساك. وشرعا : الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية طاعة الله تعالى :

وقد فرض صيام رمضان في السنة الثانية للهجرة. وخص هذا الشهر بهذه العبادة لنزول القرآن فيه. قال تعالى :

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). (٣٩٣)

ورخص الله للمريض والمسافر بالفطر في رمضان لما في الصوم من المشقة ، ولأن حالهما يستدعي التخفيف. وهذا يدل على يسر الإسلام وسهولة أحكامه.

ويطالب المريض بالقضاء بعد تمام الشفاء ، ويطالب المسافر بالقضاء بعد رجوعه إلى بلده ، لئلا يحرما من ثواب الصوم وآثاره التربوية.

والصوم هو العبادة التي لا يدخلها الرياء ، لأنه لا يعلم حقيقة المرء هل هو صائم أم لا إلا علام الغيوب. وهذا ما يجعل المسلم نقي السريرة مخلصا في عمله ، لا يظهر خلاف ما يخفيه. ولهذا وعد الله الصائمين بجزيل الثواب ، فقال ـ سبحانه ـ في الحديث القدسي :

«كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به : يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي (٣٤٩)».

وللصوم آثار جسيمة في النواحي الجسمية والنفسية والخلقية والاجتماعية :

أ ـ الآثار الجسمية : يؤدي الصوم إلى راحة المعدة وجهاز الهضم بعض الوقت كل يوم من أيامه ، وبذلك تطرح ما فيها من بقايا الطعام المتراكمة ، التي تسبب عسر الهضم ، والتي تفسد وتتفسخ وتضر بالجسم. كما يخلص الصوم الدم مما ينحل فيه من الدهون التي تعيق حركته ، وتترسب على جدران الأوعية الدموية فتسبب تصلبها. ويخلص الجسم مما يتراكم فيه من الشحوم التي تؤدي إلى زيادة الوزن ، وتجعل الرجلين تنوآن بحمل الجسم ، وتجعل القلب ينوء بضخ الدم إلى كل أعضائه ، فالصوم إذن يؤدي إلى حفظ الصحة ويجعل الجسم قويا سليما. وإلى هذا يشير الحديث الشريف :

«صوموا تصحوا» (٣٩٥).

ب ـ الآثار النفسية والخلقية :

إن الصوم أفضل وسيلة لتهذيب النفس وتحسين الخلق ، لأنه يجعل الإنسان في عبادة مستمرة معظم الوقت الذي يكون فيه مستيقظا. وهو يؤدي إلى إضعاف الشهوات واجتناب المحرمات ، لأن الذي يمتنع عن الطعام والشراب وهما أمامه ، لا يأكل أموال الناس بالباطل ولا يعتدي عليهم. ويمنع الصوم من اللغو في الكلام ومن البذاء في اللسان.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصيام جنة. فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم ، إني صائم» (٣٩٦).

أي إن صومه يمنعه من الشتم والخصام ، ويقيه الشرور والآثام كما يمنع الصوم الوقوع في الفواحش ، ويعين على العفة. ولهذا أوصى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشباب الذين لا يجدون نفقات الزواج بالصوم ، وبين أنه يقيهم من الانزلاق في الحرام ، فقال :

«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (٣٩٧) فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له به وجاء (٣٩٨)».

فالصوم وسيلة للتقوى ، تجعل الإنسان يفعل ما أمره به الله ، ويترك ما نهاه عنه ، ويخشاه ويطلب مرضاته ، ولهذا فرضه الله على كل الأمم ، وجعله كفارة لكثير من الذنوب كالقتل خطأ والظهار والحنث في اليمين ، والصيد أثناء الإحرام. فهذا يدل على أن الصوم يجعل النفس رقيقة مهذبة ، لا تدفع إلى فعل شيء غير مشروع.

أما الذي لا يكف عن الكذب والغيبة والنميمة وأكل الحرام والعدوان على الناس فلا يعتبر صائما بالمعنى الحقيقي ، ولا يؤجر على صومه.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش» (٣٩٩).

وقال : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (٤٠٠).

ثم إن الصوم يؤدي إلى سمو الإنسان ، وترفعه فوق شهواته وحاجاته المادية ، ويجعله شبيها بالملائكة في الاستغناء عن الطعام والشراب وعدم معصية الله في شيء كما يعلم الصوم الصبر والنظام ، فالذي يصبر على الجوع والعطش يصبر على الصعاب ، ويتحمل المشاق : والذي لا يتناول الطعام والشراب إلا في أوقات محددة ، يتعلم أن يقوم بأعماله كلها في حينها.

ويؤدي الصوم إلى قوة الإرادة ، فالذي يقاوم دوافعه الفطرية إلى الطعام والشراب والملذات ، يصبح قوي الإرادة ، يملك نفسه ، ويسيرها على طريق الشرع. وكذلك يغير الصوم من عادات الإنسان في طعامه وشرابه ؛ وكثير من الناس يصبحون أسرى لعاداتهم في كثير من الأشياء ، بدون أن تكون هذه العادات ضرورية لحياتهم أما الصائم فيضطر إلى تغيير عاداته في مواعيد تناول طعامه وشرابه ، وبذلك يعيش حرا طليقا. وقد نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم الدهر حتى لا يصبح الصوم عادة ، وليبقى عبادة لها وقتها وأحكامها التي تجعل الإنسان يختلف في صومه عن إفطاره.

عن أبي قتادة أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال : «لا صام ولا أفطر ، أو لم يصم ولم يفطر». (رواه أبو داود)

وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صام من صام الأبد»

وعن عبد الله بن الشخير قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صام الأبد فلا صام ولا أفطر». (رواهما ابن ماجه)

ج ـ الآثار الإجتماعية :

يجعل الصوم المسلمين كأسرة واحدة ، يجلسون إلى الطعام في وقت واحد ، ويستوي غنيهم وفقيرهم في الامتناع عن المفطرات طيلة النهار. كما يدفع الصوم إلى الاحسان ؛ لأن الإنسان حين يكون شبعانا لا يحس بجوع أحد ، أما حين يشعر بالجوع فإنه يتذكر الذين لا يجدون قوت يومهم ، ويندفع إلى قضاء حاجاتهم والاحسان إليهم. وهكذا يسهم الصوم في تحقيق التكافل الاجتماعي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم» (٤٠١).

ولهذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل ـ عليه‌السلام ـ يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. فإذا لقيه جبريل ـ عليه‌السلام ـ كان أجود بالخير من الريح المرسلة» (٤٠٢).

٤ ـ حج البيت الحرام

الحج لغة : القصد إلى معظم

وشرعا : القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة في أشهر الحج.

وقد تأخر فرض الحج إلى السنة التاسعة للهجرة حتى أمكن تطهير البيت من الأوثان ، وتطهير الحرم من المشركين. ففرض حين دخلت قبائل العرب في الإسلام ، وأصبحوا بحاجة إلى مؤتمر يجمعهم وقيل : فرض سنة ست ، لأنه نزل فيها قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٤٠٣) والأول أرجح ، لأن الأمر باتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما لا يقتضي وجوب الإبتداء. وقد نزل فرضه في صدر سورة آل عمران ، والذي نزل عام الوفود ، حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصالحهم على الجزية ، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع (٤٠٤).

ولما كانت هذه العبادة تحتاج إلى سفر طويل ونفقات كثيرة ، فإنها لم تفرض على غير المستطيع. قال الله تعالى :

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٤٠٥)

ويجب الحج على المكلف مرة واحدة في العمر فمن زاد على ذلك فهو تطوع يؤجر عليه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ أن الأقرع بن حابس ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟

قال : «بل مرة واحدة ، فمن زاد فهو تطوع» (٤٠٦)

وللحج أهم الآثار التربوية في النواحي الروحية والخلقية والاجتماعية :

١) فهو كفارة للذنوب. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من حج فلم يرفث (٤٠٧) ولم يفسق (٤٠٨) رجع كيوم ولدته أمه (٤٠٩)».

وحين يضع المسلم ذنوبه عن كاهله فإنه يستأنف حياة نظيفة «لا يدنسها بشيء من الخطايا ، فتسمو نفسه درجات في سلم الكمال.

٢) ويؤدي الحج إلى ترسيخ الإيمان ، وذلك بالطواف بأول بيت وضع لعبادة الله في الأرض. قال تعالى :

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٤١٠)

كما أن الحاج يتذكر الجهود التي قام بها إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ وهما يبنيان الكعبة.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (٤١١)

ويتذكر تصميم إبراهيم على ذبح ابنه اسماعيل امتثالا لرؤياه ، ورضا الابن بذلك :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ : يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). (٤١٢)

وبذلك تهون عليه التضحية بماله ، فينفقه في سبيل الله ، ويتصدق به على المحتاجين ، وينحر الإبل ويذبح الأضاحي ليطعم الجائعين.

ثم يتذكر سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طفولته وشبابه ، حين يزور البقاع التي نشأ فيها ، فيتصف بفضائله ويتخلق بأخلاقه. ويرى الساحات التي وقعت فيه بعض غزواته ، ويتذكر ما عاناه في سبيل الدعوة إلى الإسلام ، فيتمسك بهذا الدين ، ويصبح داعية له ، يضحي بنفسه لنصرته.

وحين يخلع الحاج ثيابه المخيطة ، ويلبس ثوبين غير مخيطين للإحرام ، يتصور نفسه حين يموت ، وتنزع عنه ثيابه ، ويلبس كفنه ، فيزهد في الدنيا ، ويقبل على عبادة ربه.

وحين يسعى بين الصفا والمروة يتذكر أم إسماعيل وهي تبحث عن الماء لتسقيه ، بعد أن كاد الظمأ يقتله ، وكيف صعدت الصفا ونظرت حولها فلم تجد ماء ، ثم سعت إلى المروة ، ونظرت فلم تجد ماء ، فعادت الكرة سبع مرات حتى تفجر الماء تحت قدميه ؛ فيوقن بفضل الله ورحمته ، وأنه لا يتخلى عن عباده المؤمنين ، بل يرعاهم ويكلؤهم بفضله.

وفي يوم عرفة يغدو الحجاج إلى عرفات ليقفوا جميعا على صعيد واحد ، فيتصوروا يوم الحشر حين يقومون للحساب والجزاء ؛ وهذا ما يجعلهم يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، ويقضون بقية عمرهم في الطاعات وفعل الخيرات ويترفعون عن الدنايا ويجتنبون الأذى والإضرار بالناس.

ويرمز رمي الجمار إلى القضاء على الشر ودحر الشيطان الذي ظهر لابراهيم ـ عليه‌السلام ـ حين ذهب بابنه ليمتثل ما رآه في نومه ، وحاول أن يثنيه عن عزيمته ، فرماه بحصيات من الأرض. وما زالت الأماكن الثلاثة التي ظهر فيها ترمى بالجمار ؛ ليكون ذلك تصميما على محاربة الشيطان ودحره ومقاومة الشر واستئصال الفساد.

٣) ـ ويتعرض الحاج للمشاق في سفره ، فيتعلم الصبر. ويحرم عليه أثناء الإحرام حلق الشعر وقلم الأظافر والطيب وصيد البر ؛ فيتعلم الزهد والعفة ، وينقطع للعبادة والتلبية. كما يحرم عليه الكلام البذيء والتسبب في إيذاء الناس حتى بالجدال قال الله تعالى :

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (٤١٣)

وهذا يعلمه الحلم ، ويعوده على طيب الكلام ومحاسن الأخلاق.

٤) وتتجلى الآثار الاجتماعية في اجتماع أكبر عدد من المسلمين في مكان واحد ، فتمحى الفوارق من بينهم ، ويتساوى الغني والفقير والشريف والوضيع والأمير والرعية ، وتزول الشارات التي تميز بعضهم عن بعض. ويظهر الجميع بأبسط مظهر وأبعده عن التكلف والاختيال. ثم يطوفون حول الكعبة باتجاه واحد ، ويتجهون إليها في صلاتهم ؛ فيعلمون أنهم أبناء أمة واحدة ، وأنه لا يجوز أن يبقوا متفرقين. قال الله تعالى :

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٤١٤)

والحكمة من وقوف جميع الحجاج في عرفات في التاسع من ذي الحجة أن يشعروا بالرابطة التي تجمعهم ، وأن يتعارفوا فيما بينهم ، وأن يعملوا على مقاومة الطغيان ونشر الإسلام والنهوض بالمسلمين. كما إن اجتماعهم هناك يمكنهم من الاطلاع على ما قام به العلماء والمفكرون من التجارب والأبحاث ، وعلى ما يقع في الشرق والغرب من الأحداث ، وهذا الاطلاع الشامل يؤدي إلى مزج الثقافات وتلقيح الأفكار وتقدم العلوم ، ويمكن من التخطيط الشامل للقضاء على أسباب التخلف ، وللنهوض بالأمة ورفع شأنها.

ولهذا يعد الوقوف بعرفة أهم أركان الحج ، ومن لم يقف ولو لحظة بين ظهر يوم عرفة وفجر اليوم التالي في عرفات ، فقد فاته الحج. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«الحج يوم عرفة ، ومن جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع (٤١٥) فتم حجة (٤١٦)»

وهكذا يبدو أن العبادات ليست مجرد طقوس يقوم بها المرء ، وليست صلة خاصة بين العبد وربه بمعزل عن مسرح الحياة ، وإنما هي وسيلة فعالة لإصلاح النفوس ، وجعلها تشعر بالبهجة والسعادة في دنياها ، وتفوز بالجنة في أخراها ، ولا يمكن للتربية أن تكون متكاملة ، وأن تؤدي ثمارها ما لم تعتمد على العبادة في المقام الأول بعد الاعتماد على عنصر الإيمان.

* * *

ثالثا الأخلاق

تعتبر الأخلاق أبرز مقومات التربية ، بل هي مظهر التربية وثمرتها المباشرة. ويقدر ما تكون أخلاق الإنسان حسنة ، فإنه يدل على التربية الرفيعة التي حصل عليها أما إذا كانت أخلاقه سيئة فإنه يدل على فشل تربيته ، أو إنه لم ينل منها ما يجعله إنسانا صالحا جديرا بالاحترام.

ولا تتكون الأخلاق في معزل عن المقومين السابقين ، إذ أنها ثمرة لكل من العقيدة والعبادة. فالعقيدة السليمة الراسخة تثمر الأخلاق الحميدة المتأصلة في فطرة الإنسان ، كما إن الأخلاق الفاضلة تدل على كمال الإيمان ودليل ذلك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (٤١٧)

وكذلك فإن العبادة الصحيحة التي يقوم به المسلم تجعل أخلاقه حميدة كما بينا في البحث السابق. وقد ربط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين العقيدة والعبادة من جهة ، وبين الأخلاق من جهة ثانية بقوله :

«المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» (٤١٨)

فقد أوضح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في هذه الحديث أن المسلم الذي يقيم أركان الإسلام ، ويؤدي العبادات المفروضة ، يصبح مسالما ، لا يتعرض لأذى أحد بلسانه أو يده ، وأن المؤمن يصبح أمينا على نفوس الناس وممتلكاتهم ، فلا يعرض أحدا للقتل ، ولا يعرض مال أحد للضياع.

أما إذا ادعى أحد الإيمان ورآه الناس يقوم بفروض الإسلام ، وكانت معاملته سيئة وصفاته قبيحة ، فيكون منافقا يظهر خلاف حقيقته ، أو تكون عبادته مجرد طقوس غير مقبولة في ميزان الحق. فقد ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن امرأة كثيرة الصوم والصلاة ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال : «هي في النار» (٤١٩).

والأخلاق تستمد من الشرع ، فما حسنه الشرع كان حسنا وفضيلة ، وما قبحه الشرع كان قبيحا ورذيلة وليست رد فعل لغريزة في الإنسان ، أو انعكاسا لوضع المجتمع ، وليست من وضع الطبقة المستغلة فيه. ولهذا فإن الأخلاق ثابتة وليست

متغيرة من عصر إلى آخر ، فالحق لا يصبح باطلا ، والفضيلة لا تنقلب رذيلة. وفطرة الإنسان وخصائصه الأساسية لم تتغير منذ أن وجد في الأرض. وما نشاهده من اختلاف بين القيم الخلقية عند الأمم المختلفة أو في العصور المتعاقبة ، يرجع إلى اختلاف الناس في معتقداتهم وفي النظم التي يحتكمون إليها. وليس كل ما تعارفه الناس في أي عصر أو مصر يكون حقا في ميزان العدل الإلهي. أما الجماعات التي تقوم على أساس الإسلام ، فإن الأخلاق التي ترتضيها وتربي أبناءها عليها ، لا تتبدل من عصر إلى آخر ، ولا تختلف بين شعب وغيره ؛ لأنها تستمد مبادئها الخلقية ونظام حياتها من الحق الأزلي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهذا لا يدل على جمود المجتمع ، ولا يمنع من الرقي والتقدم ، ففي هذا الدين ما يؤدي إلى تقدم المجتمع الذي يحسن العمل به ، وما يدفع الى رقي الأمة التي تقوم على أساسه. ولكن هذا الرقي والتقدم يكونان ضمن إطار من التعاليم التي تمنع الزيغ والضلال ، وتوجه طاقات الإنسان نحو ما يفيده ، ويرفع من شأنه.

ولقد جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدعوة إلى مكارم الأخلاق هدفا أسهم كل الرسل في تحقيقه فقال :

«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (٤٢٠).

وهذا يدل على اتفاق الرسل على القيم الخلقية رغم اختلاف الأمم التي أرسلوا إليها واختلاف العصور التي بعثوا فيها.

وليس أدل على مكانة ذي الخلق القويم من جعله محبوبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريبا من مجلسه يوم القيامة :

إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون (٤٢١) والمتفيهقون. قالوا يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون ، فما المتفيهقون؟

قال : المستكبرون» (٤٢٢).

أما ذو الخلق السيء فهو شر الناس. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره (٤٢٣)»

ولا بد من أن يكون المربي والداعية إلى الإصلاح حسن الخلق حتى يحبه الناس ويستجيبوا له. قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (٤٢٤).

ولهذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحسن الناس خلقا ، وقد أثنى الله عليه بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). (٤٢٥)

ومن واجب كل المربين وكل الناس أن يقتدوا به ، ليحققوا أهداف التربية

ويفوزوا برضى ربهم. وسبيل ذلك أن يعملوا بكتاب الله ، وأن يقتبسوا منهجه التربوي ، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها ـ عن خلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : «كان خلقه القرآن» (٤٢٦).

ولا أريد أن أستعرض كل الفضائل الخلقية التي أمر بها الله ورسوله ، ولكني أقتصر خشية الإطالة على أهمها كالصدق والوفاء والأمانة والعفو والحلم والصبر والشكر ، كما احذر مما نهى الشرع عنه كالغيبة والنميمة والسخرية والكبر.

* * *

١ ـ الصدق

الصدق هو القول الموافق للواقع. وله أثر كبير على المجتمع ، إذ يؤدي إلى الثقة بين الناس والتعاون بينهم. وقد أمر به الله بقوله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٤٢٧)

وحذر من الكذب ، وأخبر أنه من صفات الكافرين بقوله :

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ). (٤٢٨)

ويعتبر الكذب خيانة لمن يحدث به. قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق ، وأنت له به مكذب» (٤٢٩)

ومهما ارتكب المؤمن من الذنوب فإنه لا يتصف بالكذب. فعن عبد الله بن جراد قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله! هل يزني المؤمن؟

قال : قد يكون ذلك. قلت : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا» (٤٣٠)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب» (٤٣١)

وقالت عائشة رضي الله عنها : «ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكذب. ولقد كان الرجل يحدث عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذبة ، فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة» (٤٣٢)

ولا يجوز الكذب في المزاح لإضحاك الناس. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ، ويل له ويل له» (٤٣٣).

ويجب تربية الطفل على الصدق منذ نعومة أظفاره ، وقد حذر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكذب على الطفل ؛ لأن ذلك قد يجعله يتصف بهذه الصفة الممقوته. قال عبد الله بن عامر : «جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير ، فذهبت لألعب ، فقالت أمي : يا عبد الله ، تعال حتى أعطيك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما أردت أن تعطيه؟ قالت : تمرا. فقال : أما إنك لو لم تفعلي لكتب عليك كذبة» (٤٣٤).

والصدق يوصل إلى الجنة ، والكذب يوصل إلى النار. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة. وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار.

وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (٤٣٥)

والله تعالى يترك الكاذب في الضلال ثم يضل الكاذب ، ويعذبه العذاب الأليم قال سبحانه :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ). (٤٣٦)

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). (٤٣٧)

(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٣٨)

والكذب على الله بالافتراء عليه والشرك به ، والتكذيب بآياته هو ظلم شديد. قال تعالى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). (٤٣٩)

ومن أشد أنواع الكذب شهادة الزور التي تؤدي إلى سفك الدماء وأكل المال بالباطل. قال تعالى :

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). (٤٤٠)

وعن عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله.

قال ثلاثا : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس : فقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يقولها حتى قلت : لا يسكت» (٤٤١).

ولا يباح الكذب إلا في إصلاح ذات البين ، وفي خداع العدو ، وفي حديث الزوجين عن حب أحدهما للآخر وتقديره له. فعن أم كلثوم بنت عقبة قالت : (سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، ويقول خيرا وينمي خيرا (٤٤٢)».

قالت : ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث :

الحرب والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها (٤٤٣).

٢ ـ الوفاء بالعهد

يعتبر الوفاء بالعهد نوعا من الصدق ، لأن المعاهد يكون قد التزم بفعل شيء في المستقبل ، فإذا أنجز ما وعد به كان وفيا صادقا. ويؤدي الوفاء بالعهد إلى الثقة وإلى الاستفادة من الوقت ، وإلى تقدم المجتمع وازدهاره.

قد أمر الله بالوفاء بالعهد ، وبين أنه سيسأل كل إنسان عن عهده بقوله :

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً). (٤٤٤)

وحذر من مخالفة العهد ، ومن نقض المواثيق ، فقال :

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ). (٤٤٨)

ونهى عن أن يكون الطمع سببا في نقض العهد :

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٤٤٦)

وجعل نقض العهد من صفات الكافرين :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ). (٤٤٧)

والوفاء بالعهد من صفات المؤمنين العقلاء :

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ). (٤٤٨)

وهو من وجوه الخير وأنواع البر :

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا). (٤٤٩)

وكما أمر الله بالوفاء بالعهد بين الأفراد ، فإنه أمر بالوفاء بالمعاهدات والمواثيق التي تعقد بين الدول ، حتى إنه منع نصرة المؤمنين الذين يقع عليهم عدوان في بلد غير إسلامي ، إذ أدى نصرهم إلى الإخلال بالمعاهدات التي التزم به المسلمون. قال تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٥٠)

أما إذا ظهر للمسلمين من الذين عاهدوهم تبييت الغدر والخيانة فلا يجوز أن يقابلوهم بمثل ذلك ، وإنما يعلنون إنهاء المعاهدة بصراحة ودون مواربة. قال تعالى :

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ). (٤٥١)

وحينئذ يجوز للمؤمنين أن يقاتلوا الكافرين الذين نقضوا المعاهدة :

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ). (٤٥٢)

* * *

٣ ـ الأمانة

تعتبر الأمانة من مستلزمات الإيمان ، كما يعتبر الوفاء بالعهد دليلا على صحة العقيدة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له» (٤٥٣).

وقد ذكر هذان الخلقان بين صفات المؤمنين في أي الذكر الحكيم :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ). (٤٥٤)

وعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يخون الأمانة وينقض العهد ، ويكذب في الحديث من المنافقين :

«آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان (٤٥٥)»

ولا تجوز مقابلة الخيانة بمثلها ، بل تجب الأمانة في معاملة كل الناس

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك (٤٥٦)».

ولا تقتصر الأمانة على حفظ الوديعة وإعادتها إلى صاحبها ، بل تشمل كل ما كلف به الإنسان من الواجبات ، وما عهد إليه من المسؤوليات ، ومن ذلك أن يحفظ أعضاءه وحواسه ، وأن يستعملها في طاعة الله ، وأن يقوم بالعبادات المفروضة على أحسن وجه ، وأن يخلص في عمله ويتقنه ، وأن يكتم سر صاحبه ولا يفشيه ؛ ولذلك لم توكل الأمانة لغير الإنسان العاقل. قال الله تعالى :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ (٤٥٧) مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً). (٤٥٨)

وأعظم الأمانات ما كان متعلقا بالعقيدة والعبادة. وما ترتب على تلاوة القرآن الكريم وفهمه والعمل بأحكامه ، وعلى طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخلق بأخلاقه والاقتداء به. قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٤٥٩)

ثم ما تعلق بنظام الحكم والإمارة وتولي أمور الناس. قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم محذرا الأمراء من التقصير في واجباتهم نحو الرعية :

«إنها ـ أي الإمارة ـ أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها» (٤٦٠).

وحق الإمارة النصح للرعية ، وقضاء حوائجهم ، وتولية الأكفياء عليهم.

عن معقل بن يسار قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة (٤٦١)».

وعن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«من ولي من أمر المسلمين شيئا ، فأمر عليهم أحدا محاباة ، فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم» (٤٦٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استعمل رجلا على عصابة ، وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (٤٦٣).

فالرجل القوي الأمين المخلص هو الجدير بحمل الأمانة والقيام بالأعمال الهامة قال الله تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). (٤٦٤)

ويلي ذلك في سلم الأمانات ما يتعلق بالمعاملات بين الناس ، وبحفظ حقوقهم ووفاء ديونهم. قال الله تعالى :

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ). (٤٦٥)

* * *

٤ ـ الحلم والعفو

الحلم هو ضبط النفس ، ومنعها من الانفعال والثوران عند الغضب.

وهو يدل على قوة الإرادة ومضاء العزيمة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الشديد بالصرعة (٤٦٦) ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (٤٦٧) ويقصد بالعفو الصفح عن المسيء ، والتجاوز عن المعتدي. وقد أمر الله بالعفو فقال سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). (٤٦٨)

وعده من صفات المتقين فقال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). (٤٦٩)

وجعله من صفات العقلاء الذين يفوزون بجنات الخلود :

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ). (٤٧٠)

كما امتن الله ـ سبحانه ـ على المتصفين بالعفو والحلم ، وأخبر عن حبه لهم فقال (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ (٤٧١) وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (٤٧٢) وأشار إلى مغفرته لذنوبهم ورحمته بهم فقال :

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤٧٣)

وهو لا يضيع أجرهم ، ولا يحب من ظلمهم :

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). (٤٧٤)

ويؤدي الحلم والعفو عن المسيء ومقابلته بالإحسان إلى طرح ما في صدره من عداوة ، وجعله صديقا مخلصا. قال تعالى :

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). (٤٧٥)

ويرفع العفو من شأن صاحبه ، ويعلي من منزلته ، ويجعل له مهابة وجلالا.

فإذا ظن أنه بالانتقام يعظم ويصان جانبه ، وأن الإغضاء والعفو لا يحصل به ذلك فهو واهم ؛ لأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر بأنه يزداد بالعفو عزا بقوله : «ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله تعالى» (٤٧٦).

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهى عن الغضب ، فقد جاء إليه رجل وقال له : أوصني. فقال : «لا تغضب ، فأعاد الرجل طلب الوصية ثلاثا ، وفي كل مرة يقول له : «لا تغضب» (٤٧٧).

ويزول الغضب بالوسائل التالية :

١ ـ الاستعاذة : قال الله تعالى :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ (٤٧٨) فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٧٩)

وذلك لأن الغضب من الشيطان ، وهو يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين. فالالتجاء إلى الله والاستعانة به يذهبان وسوسته.

٢ ـ الوضوء أو الغسل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحد فليتوضأ (٤٨٠)»

وكذلك فإن الماء يؤدي إلى تبريد الدم وهدوء الأعصاب.

٣ ـ السكوت : حتى لا يتكلم أثناء انفعاله بالقبيح من الكلام ، ولا تصدر عنه كلمة تسيء إلى غيره ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا غضبت فاسكت». (٤٨١)

٤ ـ الجلوس والاضطجاع : لأن القائم مهيأ للبطش ، والجالس بعيد عن خصمه ، والمضطج أكثر بعدا عنه. وذلك يؤدي إلى هدوء الأعصاب ومنع الانفعال الشديد. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه غضبه وإلا فليضطجع» (٤٨٢).

٥ ـ تعويد النفس على الحلم : قال أبو الدرداء رضي الله عنه :

«إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه (٤٨٣).

والغضب مذموم حين يقع عدوان على النفس والمال ، أما إذا وقع عدوان على الدين والعرض ، فيصبح الغضب محمودا. فلا يجوز الطعن في الدين ولا انتهاك الأعراض. ومن لم يغضب في هاتين الحالتين فهو فاقد للشرف والمروءة.

عن الحسن بن علي عن خاله هند بن أبي هالة قال :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها. فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها (٤٨٤)

وهكذا اهتم منهج الإسلام بتربية الانفعالات والعواطف ، كما اهتم بتربية الأبدان والأرواح.

٥ ـ الصبر

لا بد من أن يتصف الإنسان بالصبر ليتغلب على الصعاب ويجتاز العقبات التي يلاقيها في طريقه ، ويصل إلى غايته. وبدون الصبر لا تحقق التربية أهدافها ؛ إذ لا بد من صبر المربي على ما يجده في طلابه من العنت والعوج ، ولا بد من صبر الطالب ليدرك مغزى التربية ويتأثر بها ، وليفهم دروسه ويعمل بها.

ويكون الصبر في إمساك النفس عن الانزلاق إلى حمأة الشهوات المحرمة ، والوقوف بها في دائرة الطيبات المباحة ، ومنعها من تعدي الحدود التي نهى الله عنها. كما يكون في ترويض النفس على القيام بالواجبات والتكاليف الموكلة إليها ، وفي تحمل الأعباء وبذل الجهود اللازمة للقيام بها. وبذلك يشمل الصبر القيام بالصلاة وغيرها من العبادات. قال سبحانه وتعالى :

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً (٤٨٥) مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٤٨٦)

وقال جل شأنه : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ). (٤٨٧)

ويشمل معاشرة الأهل بالمعروف ، وتعويدهم على القيام بالفروض.

قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى). (٤٨٨)

وأحوج الناس إلى الصبر هم المصلحون والدعاة إلى الخير والمجاهدون في سبيل الله. قال تعالى في وصية لقمان لابنه :

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (٤٨٩)

والله ـ سبحانه وتعالى ـ يمتحن الناس بالأعداء والمصائب والأمراض ونقص الرزق ليثيب الصابرين ويزيد في حسناتهم :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ (٤٩٠) حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا (٤٩١) أَخْبارَكُمْ (٤٩٢)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ

وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). (٤٩٣)

فإذا لم يكن المرء مؤمنا صالحا ، وإذا لم يتبع الحق ويصبر عليه ويدعو إليه ، فإنه يخسر دنياه وآخرته :

(وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ). (٤٩٤)

أما الصابرون فإن الله وعدهم بالعون والنصر وحسن الجزاء والجنة :

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (٤٩٥) وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٩٦)

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ). (٤٩٧)

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (٤٩٨)

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (٤٩٩)

وقد دلنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دعاء لذهاب المصيبة وثبوت الأجر ، فقال :

«ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، اللهم أجرني بمصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله به ذلك». (٥٠٠)

وبذلك نرى أن الصبر في الإسلام ليس استسلاما وخنوعا ، وإنما هو إرادة وعزيمة وثبات وصمود ، وسلاح لا يستغني عنه الإنسان في رحلة الحياة. وأن المنهج التربوي في الإسلام يزود الإنسان بعدة الكفاح المعنوي ، ويجعله قوي الإرادة شديد المراس.

* * *

٦ ـ الشكر

لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة لا يحصيها العد :

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). (٥٠١)

فقد سخر لنا ما في السموات والأرض ، وسخر الشمس والقمر والأمطار والأنهار فيجب أن نقابله بالشكر لا بالجحود والكفر.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ (٥٠٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). (٥٠٣)

وقد أمر الله عباده بأن يشكروه ولا يكفروا به :

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (٥٠٤)

والله ـ سبحانه ـ غني عن عبادتنا وعن شكرنا ، ولكنه لا يرضى عن عباده إذا كانوا كافرين ، ويرضى عنهم إذا كانوا مؤمنين شاكرين :

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ). (٥٠٥)

وقد وعد الله الشاكرين بزيادة نعمه عليهم ، وأوعد الكافرين بالعذاب :

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (٥٠٦)

كما وعد الشاكرين بالجزاء الحسن :

(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (٥٠٧) (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ). (٥٠٨)

ووعدهم بالنجاة من العذاب :

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً). (٥٠٩)

وبشر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشاكرين بدخول الجنة قبل غيرهم ، فقد روي عنه أنه قال :

«أول ما يدعى إلى الجنة الحمادون. قيل : ومن الحمادون؟

قال : الذين يشكرون الله على كل حال» (٥١٠).

ولا يقتصر الشكر على اللسان بقول : الحمد لله ، وإنما يشمل الإيمان الراسخ والأعمال الصالحة التي يبتغي بها وجه الله سبحانه.

ويعين على الشكر النظر إلى من هم دوننا لا إلى من فضلهم الله علينا بالرزق.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر ألا تزدروا (٥١١) نعمة الله عليكم (٥١٢)»

فينبغي النظر إلى من هم أكثر عبادة وشكرا ، وإلى من هم أدنى منا في الدنيا لنكون صابرين شاكرين.

عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«خصلتان من كانتا فيه كتبه الله صابرا شاكرا ، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا : من نظر في دينه إلى ما هو فوقه ، فاقتدى به ، ونظر في دنياه إلى من هو دونه ، فحمد الله على ما فضله به عليه ، كتبه الله شاكرا صابرا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه ، فأسف على ما فاته منها لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا (٥١٣).

ومهما كان الإنسان فقيرا ومحروما مما عند غيره ، فإن حواسه وأعضاءه التي خلقها الله له لا تقدر بثمن. فيجب أن يشكر الله الذي منحه إياها ولأهمية الشكر عد نصف الإيمان. قال ابن مسعود رضي الله عنه :

«الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر» (٥١٤)

ولا ينافي شكر الله أن نشكر الناس المحسنين إلينا إذ أن شكرهم من شكر الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» (٥١٥).

ويكون شكرهم بالإحسان إلى المحسن منهم ، وبالدعاء له بأن يجزيه الله خيرا.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صنع إليكم معروفا فكافئوه. فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (٥١٦)

وعن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صنع إليه معروف فقال لفاعله : جزاك الله خيرا ، فقد أبلغ في الثناء (٥١٧)

٧ ـ الكبر

الكبر من الأخلاق السيئة التي تحول دون الحصول على العلم وتمنع من التأثر بالتربية ، وتجعل الإنسان محروما من نعيم الجنة. قال تعالى :

«تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (٥١٨).

وقد نهانا الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن الكبر والاختيال وعن الزهو بالنفس فقال

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٥١٩)

وأخبر عن عدم حبه للمتكبرين فقال :

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ). (٥٢٠)

وليس الكبر في المظهر الحسن والثوب النظيف ، وإنما هو في احتقار الناس والتعالي عليهم ، وفي دفع الحق وعدم قبوله :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر».

فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا!

قال : إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق (٥٢١) وغمط الناس (٥٢٢)»

والمتكبر معرض للعقاب الشديد والهلاك في الدنيا.

عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

«لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ، فيصيبه ما أصابهم» (٥٢٣).

والمتكبرون في الدنيا هم المهانون يوم القيامة.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر (٥٢٤) تطؤهم الناس لهوانهم على الله تعالى (٥٢٥)».

وهم محرومون من رحمة الله تعالى ومن النظر إليهم.

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا (٥٢٦)»

وعنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم ؛ شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر» (٥٢٧).

وهم معرضون لغضب الله وعذابه.

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من تعاظم في نفسه ، واختال في مشيته ، لقي الله وهو عليه غضبان (٥٢٨).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله عزوجل : «العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته (٥٢٩)».

فالله ـ سبحانه وتعالى ـ هو العزيز الجبار المتكبر. ولا يجوز لأحد من خلقه أن يتصف بهذه الصفات. ومن كان كذلك فمصيره النار ، حيث الذل والهوان. قال الله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٥٣٠)

وعن حارثة بن وهب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«ألا أخبركم بأهل النار : كل عتل جواظ مستكبر (٥٣١)»

ومقابل التكبر يوجد التواضع ، وهو الخلق الحسن الذي يدل على التربية الرفيعة والأدب الجم ، ويسهل لصاحبه نيل العلم واكتساب المعرفة ، ويجعله محبوبا من الناس ، قريبا من الله. ولذلك أمرنا به.

عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد» (٥٣٢).

وينبغي على المعلم أن يتواضع للمتعلمين الذين هم كأولاده في ملازمتهم إياه واعتمادهم عليه في طلب العلم ، مع ما هم عليه من حق الصحبة وحرمة التردد وشرف المحبة وصدق التودد. قال الله تعالى :

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (٥٣٣)

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف (٥٣٤).

كما ينبغي على المتعلم أن يعرف للمعلم حقه ، ولا ينسى له فضله ، ويتواضع له ويذل ، ويعلم أن ذله لشيخه عز ، وخضوعه له فخر ، وتعظيم حرمته مثوبة والتشمير في خدمته شرف (٥٣٥).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تعلموا العلم ، وتعلموا له السكينة والوقار. وتواضعوا لمن تتعلمون منه ولمن تعلمونه ، ولا تكونوا جبابرة العلماء (٥٣٦).

٨ ـ السخرية

نهى الله ـ سبحانه ـ عن احتقار الناس والاستهزاء بهم وعن الطعن في أعراضهم والحط من شأنهم ، وعن كل ما يسيء إليهم فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (٥٣٧) وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ (٥٣٨) بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (٥٣٩)

فإن كان الهزء بالأخرين بسبب ما هم عليه من القبح ، فيكون ذلك سوء أدب مع الله الخالق المصور ، وإن كان بسبب ما هم عليه من الفقر والمسكنة فيكون اعتراضا على الرازق المنعم.

وقد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى ، وأحب إليه من الساخر منه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«رب أشعث أغبر ذي طمرين (٥٤٠) مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره (٥٤١)»

وقد توعد الله كل من يطعن في الناس ويهينهم فقال :

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (٥٤٢)

والهمز هو الطعن بالإشارة والحركة ، واللمز هو الطعن بالقول واحتقار المسلم بهذا وذاك والقدح في عرضه شر كبير.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم (٥٤٣) كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» (٥٤٤).

وكما يجب الكف عن السخرية والاحتقار ، يجب الامتناع عن السب والشتم ، وعن نداء الناس بالألقاب والصفات التي يكرهونها.

وينبغي أن ندعو كل إنسان بأحب الأسماء والكنى إلى نفسه. فلذلك أثر كبير في جعل أفراد الأمة متحابين متآلفين.

٩ ـ الغيبة

الغيبة هي ذكر عيوب غيرك في غيابه ، سواء أذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في خلقه أو في فعله ، أو في قوله أو في دينه أو في دنياه ... عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذكرك أخاك بما يكره. قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (٥٤٥).

ولا تقتصر الغيبة على اللسان ، بل تشمل الكتابة والإشارة والحركة وكل ما يفهم المقصود. عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. تشير إلى قصرها. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

" لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"(٥٤٦).

وقد نفر الله من الغيبة ، وشبه المغتاب بآكل لحم الإنسان الميت فقال :

(وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). (٥٤٧)

وحذرنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغيبة ومن التجسس على الناس وتتبع عيوبهم. وأنذر من يفعل ذلك بالفضيحة ، فقال :

«يا معشر من آمن بلسانه! لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخية يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته (٥٤٨)»

فمن واجب المسلم أن يدافع عن أخيه ، وأن يصون كرامته ، ويستر عيوبه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ما من امرئ مسلم يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه ، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في مواطن يحب فيها نصرته» (٥٤٩).

١٠ ـ النميمة

النميمة هي نقل الكلام من إنسان إلى آخر للإفساد بينهما.

وقد نهى الله عن طاعة النمام والثقة به فقال :

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ). (٥٥٠)

وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النمام محروم من الجنة بقوله :

«لا يدخل الجنة قتات» (٥٥١) أي نمام.

وعده من شرار الناس ، فقال :

" ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : الذين إذا رؤوا ذكر الله عزوجل.

ثم قال : ألا أخبركم بشراركم : المشاؤون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء ، العنت» (٥٥٢).

ولعظم النميمة فإن فاعلها : ينزل عليه العذاب في قبره.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحائط (٥٥٣) من حيطان المدينة ، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهم فقال :

«يعذبان ، وما يعذبان في كبير. ثم قال : بلى. كان أحدهما لا يتستر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة (٥٥٤).

وتأثير تحريم الغيبة والنميمة كبير في منع النزاع والخلاف بين الناس ، وصفاء العلاقات الإنسانية.

ولهذه الأخلاق تأثير عظيم في تطهير النفس من المفاسد ، وتخليص المجتمع من كل ما يكدر صفاءه وأخوته ، والمحافظة على وحدته وقوته.

وبهذه المقومات من العقيدة والعبادة والأخلاق نضمن حصول التربية وتحقيق أهدافها. وبها يتميز منهج التربية في القرآن والسنة عما سواه. وهي تجعل التربية القائمة عليها كبناء يقوم على أرض صلبة ويعتمد على دعائم قوية ، فيرتفع ويعلو ويصبح قويا متينا ، يقاوم كل عوامل الهدم والانهيار ، ويبدو متناسقا رائعا يأخذ بالأبصار.

هوامش الفصل الثالث

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

(٢) سورة البقرة : ٢٨٥

(٣) سورة النساء : ١٣٦.

(٤) سورة يونس : ١٢

(٥) سورة الإسراء : ٦٧

(٦) راجعا

(٧) أعطاه

(٨) شركاء

(٩) سورة الزمر : ٨

(١٠) مائلا إليه ، أي أخلص دينك لله

(١١) خلقته.

(١٢) سورة الروم : ٣٠

(١٣) سورة المؤمنون : ٢٣ ـ ٢٤.

(١٤) نترك

(١٥) سورة الأعراف : ٧٠

(١٦) سورة الأعراف : ٧٥ ـ ٧٦

(١٧) سورة المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٩

(١٨) سورة لقمان : ٢٥

(١٩) طرقا

(٢٠) سورة الزخرف : ٩ ـ ١٠

(٢١) يعزفون عن عبادته وتوحيده. والآية في سورة العنكبوت : ٦١

(٢٢) مختار الصحاح ، مادة كفر

(٢٣) الاقتصاد في الاعتقاد ص ١٦.

(٢٤) سورة الطور : ٣٥ ـ ٣٦

(٢٥) سورة يونس : ١٠١

__________________

(٢٦) يغطي كلا منهما بالآخر

(٢٧) سريعا.

(٢٨) سورة الأعراف : ٥٤.

(٢٩) جبالا.

(٣٠) سورة الرعد : ٢ ـ ٣

(٣١) خلق

(٣٢) الفلك : السفن ، تنخر الماء : تشقه بجريها فيه.

(٣٣) لتطلبوا

(٣٤) سورة النحل : ١٢ ـ ١٧.

(٣٥) أي يدخل كلا منهما في الآخر.

(٣٦) سورة الحج : ٦١

(٣٧) دائما.

(٣٨) سورة القصص : ٧١ ـ ٧٣

(٣٩) العرجون : عذق النخلة ، أي العود الذي يحمل حبات التمر المصطفة كالعنقود ، شبه به القمر حين يكون هلالا.

(٤٠) سورة يس : ٣٧ ـ ٤٠

(٤١) سورة النمل : ٩٣

(٤٢) سورة فصلت : ٥٣

(٤٣) يستغرق الضوء المنبعث من أقرب النجوم حتى يصل إلينا أكثر من أربع سنوات.

(٤٤) سورة الغاشية : ١٧ ـ ٢٠

(٤٥) سورة الطارق : ٥ ـ ٧ والترائب : عظام الصدر

(٤٦) ضعيف وهو المني

(٤٧) حريز وهو الرحم

(٤٨) سورة المرسلات : ٢٠ ـ ٢٣

(٤٩) سورة الذاريات : ٢٠ ـ ٢١

(٥٠) نصب وشدة

(٥١) كثيرا

__________________

(٥٢) بينا له طريق الخير والشر. والآيات في سورة البلد : ٤ ـ ١٠

(٥٣) لحمة قدر ما يمضغ

(٥٤) سورة المؤمنون : ١٢ ـ ٦

(٥٥) سورة الحج : ٧٣

(٥٦) سورة النبأ : ١٣

(٥٧) سورة الفرقان : ٦١

(٥٨) سورة يوسف : ١٠٦

(٥٩) سورة النحل : ٥١

(٦٠) المقصود في الحوائج على الدوام

(٦١) سورة الإخلاص : ١ ـ ٤

(٦٢) اختلقوا

(٦٣) سورة الأنعام : ١٠٠ ـ ١٠٢

(٦٤) سورة الإسراء : ٤٢ ـ ٤٣

(٦٥) سورة الأنبياء : ٢٢

(٦٦) سورة المؤمنون : ٩١

(٦٧) سورة فاطر : ٤٠ ـ ٤١

(٦٨) سورة سبأ : ٣٠

(٦٩) سورة النساء : ٧٨

(٧٠) سورة آل عمران : ١٥٦

(٧١) سورة الفرقان : ٣ نشورا : بعثا للأموات

(٧٢) سورة فاطر : ٣

(٧٣) سورة العنكبوت : ٦٢

(٧٤) سورة العلق : ٦ ـ ٧

(٧٥) سورة الشورى : ٢٧

(٧٦) يضيق

(٧٧) قربى

(٧٨) سورة سبأ : ٣٥ ـ ٣٧

(٧٩) سورة فاطر : ٢

__________________

(٨٠) سورة يونس : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٨١) رواه أحمد والترمذي

(٨٢) حجر أملس

(٨٣) مطر شديد

(٨٤) صلبا أملس لا شيء عليه

(٨٥) سورة البقرة : ٢٦٤

(٨٦) سورة الأنعام : ٧٩

(٨٧) رواه مسلم عن أبي هريرة

(٨٨) سورة المائدة : ٢٣

(٨٩) كافينا أمرهم

(٩٠) سورة آل عمران : ١٧٣ ـ ١٧٤

(٩١) علماء أتقياء وعابدون لربهم. والربي منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة

(٩٢) ماجبنوا.

(٩٣) ما ذلوا وما خضعوا لعدوهم

(٩٤) سورة آل عمران : ١٤٦ ـ ١٤٧

(٩٥) سورة المنافقون : ٧

(٩٦) سورة الفتح : ٢٩

(٩٧) بث : فرق ونشر. والآية في سورة النساء : ١

(٩٨) سورة الحجرات : ١٣

(٩٩) سورة آل عمران : ٦٤

(١٠٠) بالعدل

(١٠١) تحرفوا الشهادة

(١٠٢) سورة النساء : ١٣٥

(١٠٣) لا يحملنكم بغضهم

(١٠٤) سورة المائدة : ٨

(١٠٥) سورة آل عمران : ٢٩ ـ ٣٠

(١٠٦) خالق

__________________

(١٠٧) أصحاب

(١٠٨) سورة فاطر : ١

(١٠٩) أي جبرئيل عليه‌السلام

(١١٠) سورة مريم : ١٧ ـ ١٩

(١١١) مشوي على الحجارة المحماة

(١١٢) أضمر وشعر في نفسه خوفا

(١١٣) سورة هود : ٦٩ ـ ٧٠

(١١٤) لا يعيون ولا يتعبون

(١١٥) سورة الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠

(١١٦) سورة النجم : ٢٧ ـ ٢٨

(١١٧) سورة البقرة : ٣٠

(١١٨) سورة المدثر : ٣١

(١١٩) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد

(١٢٠) سورة التحريم : ٦

(١٢١) سورة الإنفطار : ١٠ ـ ١٢

(١٢٢) سورة ق : ١٨ ، وعتيد : حاضر

(١٢٣) سورة النحل : ٢

(١٢٤) سورة البقرة : ٩٧

(١٢٥) سورة الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤

(١٢٦) سورة النحل : ١٠٢

(١٢٧) سورة السجدة : ١١

(١٢٨) سورة النمل : ٨٧. وداخرين : صاغرين مطيعين

(١٢٩) سورة غافر : ٧

(١٣٠) سورة الأنفال : ٩ ومردفين : متتابعين.

(١٣١) سورة النحل : ٤٩ ـ ٥٠

(١٣٢) رواه الترمذي في كتاب الأدب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما

(١٣٣) صلصال : طين يابس ، يسمع له صلصلة أي صوت إذا نقر ، وحمأ مسنون : طين أسود متغير.

__________________

(١٣٤) سورة الحجر : ٢٦ ـ ٢٧

(١٣٥) سورة الرحمن : ١٤ ـ ١٥

(١٣٦) رواه مسلم وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها

(١٣٧) سورة الجن : ١١

(١٣٨) الجائرون بكفرهم ، الظالمون

(١٣٩) سورة الجن : ١٤ ـ ١٥

(١٤٠) سورة الكهف : ٥٠

(١٤١) سورة البقرة : ٢١٣

(١٤٢) رواه الطبري في تاريخه ج ١ ص ٣١٣ ، والثعلبي في قصص الأنبياء

(١٤٣) ص ٨٧ سورة النجم : ٣٦ ـ ٣٧

(١٤٤) سورة الأعلى : ١٨ ـ ١٩.

(١٤٥) سورة الأنعام : ١٥٤

(١٤٦) العلماء والفقهاء

(١٤٧) سورة المائدة : ٤٤

(١٤٨) سورة النساء : ١٦٣

(١٤٩) أتبعنا

(١٥٠) سورة المائدة : ٤٦

(١٥١) سورة المائدة : ٤٨

(١٥٢) سورة ص : ١

(١٥٣) سورة البروج : ٢١ ـ ٢٢

(١٥٤) سورة الحجر : ١

(١٥٥) سورة آل عمران : ٣ ـ ٤

(١٥٦) سورة الأنبياء : ٤٨

(١٥٧) سورة الأنبياء : ٥٠

(١٥٨) سورة الحجر : ٩

(١٥٩) سورة الإسراء : ١٠٦

(١٦٠) ،

(١٦١) سورة المائدة : ١٣ ، ١٤

__________________

(١٦٢) رواه الحافظ أبو يعلى من حديث جابر رضي الله عنه.

(١٦٣) سورة البقرة : ٣٨

(١٦٤) أي بالحق والعدل

(١٦٥) أي وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق وعائده بعد قيام الحجة عليه.

(١٦٦) سورة الحديد : ٢٥

(١٦٧) سورة النحل : ٤٤

(١٦٨) سورة الأنعام : ٩٠

(١٦٩) سورة آل عمران : ٧٩

(١٧٠) سورة الأنعام : ١٣٠

(١٧١) سورة النساء : ١٦٥

(١٧٢) سورة يس : ٦٠ ـ ٦١

(١٧٣) سورة الأنعام : ١٢٤

(١٧٤) سورة القصص : ٦٨

(١٧٥) سورة الكهف : ١١٠

(١٧٦) سورة الأنعام : ٥٠

(١٧٧) سورة مريم : ٤١

(١٧٨) ،

(١٧٩) سورة مريم : ٥٤ ، ٥٦

(١٨٠) سورة الأنعام : ٩٣

(١٨١) سورة الأعراف : ٣٧

(١٨٢) عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه.

(١٨٣) سورة الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧

(١٨٤) سورة الشعراء : ١٠٥ ـ ١٠٧

(١٨٥) ،

(١٨٦)

(١٨٧)

(١٨٨) سورة الشعراء : ١٢٣ ـ ١٢٥ ، ١٤١ ـ ١٤٣ ، ١٦٠ ـ ١٦٢ ، ١٧٦ ـ ١٧٨.

(١٨٩) سورة الدخان : ١٧ ـ ١٨ ومعنى فتنا : بلونا

(١٩٠) اخترناهم.

(١٩١) سورة الأنعام : ٨٣ ـ ٨٩

__________________

(١٩٢) هو زرع أو كرم

(١٩٣) أي رعته دليلا.

(١٩٤) سورة الأنبياء : ٧٨ ، ٧٩

(١٩٥)

(١٩٦) سورة ص : ٢٠ ، ٤٥ ـ ٤٨

(١٩٧) أصحاب القوى في العبادة والبصائر في الدين

(١٩٨) سورة يوسف : ١٠٩

(١٩٩) الطاغوت : الأوثان. والآية في سورة النحل : ٣٦

(٢٠٠) سورة فاطر : ٢٤

(٢٠١) سورة غافر ٧٨

(٢٠٢) سورة طه ١١٥

(٢٠٣) سورة الأحزاب : ٤٠

(٢٠٤) أولاد يعقوب

(٢٠٥) سورة البقرة : ١٣٦

(٢٠٦) سورة النساء : ١٥٠ ـ ١٥١

(٢٠٧) سورة البقرة : ٢٥٣

(٢٠٨) سورة الأحزاب : ٧. وانظر كتابنا «أولو العزم من الرسل»

(٢٠٩) فإذا لم يتيسر الماء تيمم بالتراب

(٢١٠) بخلاف الأمم السابقة ، فما كانت تقبل صلاتهم إلا في الكنائس.

(٢١١) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(٢١٢) سورة الأعراف : ١٥٨

(٢١٣) سورة سبأ : ٢٨

(٢١٤) سورة الأنبياء : ٢٥

(٢١٥) سورة الشورى : ١٣

(٢١٦) سورة المائدة : ٤٨

(٢١٧) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٢٨

(٢١٨) ،

(٢١٩) سورة الشعراء : ١٥٣ ـ ١٥٨ ، ٢٩ ـ ٣٤.

__________________

(٢٢٠) الذي ولد أعمى.

(٢٢١) سورة المائدة : ١١٠

(٢٢٢) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.

(٢٢٣) سورة الأحزاب : ٢١

(٢٢٤) عهدي

(٢٢٥) سورة آل عمران : ٨١

(٢٢٦) سورة المائدة : ٩

(٢٢٧) سورة فصلت : ٤٦

(٢٢٨) يقال : شخص بصر فلان : أي فتحه فلم يغمضه ، وذلك من الهول. والآية في سورة ابراهيم : ٤٢

(٢٢٩) القسط : العدل. والآية في سورة الأنبياء : ٤٧

(٢٣٠) سورة المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦

(٢٣١) سورة الروم : ٣٧

(٢٣٢) لا ريب : لا شك. والآيات في سورة غافر : ٥٧ ـ ٥٩.

(٢٣٣) شديدة الخصومة.

(٢٣٤) بالية

(٢٣٥) سورة يس : ٧٧ ـ ٧٩

(٢٣٦) إذا استقرت النطفة في رحم المرأة فإنها تعلق به ، ثم تنمو وتصبح علقة حمراء ، ثم تصير مضغة غير مخلقة ، أي قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخصيط. ثم يصور فيها الجذع والرأس والأطراف وسائر الأعضاء ، وتلك المضغة المخلقة.

(٢٣٧) وهو الشيخوخة وضعف العقل والقوة.

(٢٣٨) أي تحركت وارتفعت

(٢٣٩) سورة الحج : ٥ ـ ٧

(٢٤٠) لا نبات به

(٢٤١) النشور : البعث والإحياء. والآية في سورة فاطر : ٩

(٢٤٢) حملت

(٢٤٣) سورة الأعراف : ٥٧

__________________

(٢٤٤) ساقطة على سقوفها

(٢٤٥) لم يتغير

(٢٤٦) تحركها ونرفعها

(٢٤٧) سورة البقرة : ٢٥٩

(٢٤٨) سورة الكهف : ٢١

(٢٤٩) لا يظهرها

(٢٥٠) فجأة.

(٢٥١) مبالغ في السؤال

(٢٥٢) سورة الأعراف : ١١٧

(٢٥٣) سورة الأحزاب : ٦٣

(٢٥٤) سورة الأنبياء : ١

(٢٥٥) سورة القصص : ٨٧

(٢٥٦) سورة الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧

(٢٥٧) سورة الزمر : ٦٨ ـ ٦٩

(٢٥٨) البنان : الأصابع. والآيتان في سورة القيامة : ٣ ـ ٤

(٢٥٩) أي يخرجون من قبورهم ويمشون مسرعين

(٢٦٠) سورة يس : ٥١ ـ ٥٤

(٢٦١) سورة إبراهيم : ٤٨

(٢٦٢) يعني أظلمت وذهب ضوؤها ، وجمع بعضها إلى بعض

(٢٦٣) أي انتثرت وتساقطت

(٢٦٤) سورة التكوير : ١ ـ ٣.

(٢٦٥) أي تصير نارا تأجج ، ويفيض ماؤها ، فلا يبقى فيها قطرة. والآية في سورة التكوير : ٦

(٢٦٦) أي كشفت وأزيلت. والآية في سورة التكوير : ١١

(٢٦٧) أي انشقت

(٢٦٨) سورة الانفطار : ١ ـ ٥

(٢٦٩) أي استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق : ١ ـ ٥

(٢٧٠) أي وحق لها أن تطيع.

__________________

(٢٧١) سورة الإنشقاق : ١ ـ ٥

(٢٧٢) ضعيفة

(٢٧٣) سورة الحاقة : ١٣ ـ ١٨

(٢٧٤) أي ذهب ضوءه

(٢٧٥) أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه

(٢٧٦) سورة القيامة : ٧ ـ ١٢

(٢٧٧) القاع : المستوي من الأرض. والصفصف تأكيد للمعنى.

(٢٧٨) أي لا ترى في الأرض يومئذ مكانا منخفضا ولا مرتفعا. والآيات في سورة طه ١٠٥ ـ ١٠٧

(٢٧٩) أي كعكر الزيت

(٢٨٠) أي كالصوف المنفوش. والآيتان في سورة المعارج : ٨ ـ ٩

(٢٨١) تنسى

(٢٨٢) سورة الحج : ١ ـ ٢

(٢٨٣) سورة المزمل : ١٧ ـ ١٨

(٢٨٤) سورة الحج : ٤٧

(٢٨٥) سورة المعارج : ٤

(٢٨٦) سورة فصلت : ٣٠

(٢٨٧) سورة عبس : ٣٣ ـ ٣٧

(٢٨٨) سورة الزخرف : ٦٧

(٢٨٩) عشيرته

(٢٩٠) سورة المعارج : ١٠ ـ ١٤

(٢٩١) سورة البقرة : ١٢٣

(٢٩٢) سورة المائدة : ٣٦ ـ ٣٧

(٢٩٣) سورة النجم : ٣٩ ـ ٤٢

(٢٩٤) ظاهرة

(٢٩٥) نترك

__________________

(٢٩٦) خائفين

(٢٩٧) سورة الكهف : ٤٧ ـ ٤٩.

(٢٩٨) سورة الزلزلة : ٧ ـ ٨

(٢٩٩) سورة النساء : ٤٠

(٣٠٠) أي خذوا

(٣٠١) ثمارها قريبة يتناولها القائم والقاعد والمضطجع

(٣٠٢) سورة الحاقة : ١٨ ـ ٢٩

(٣٠٣) جاهد في عملك.

(٣٠٤) خسارا وهلاكا

(٣٠٥) سورة الانشقاق : ٦ ـ ١٢

(٣٠٦) سورة النبأ : ٤٠.

(٣٠٧) الكالح الذي قصرت شفتاه عن أسنانه. والآيات في سورة المؤمنون : ١٠١ ـ ١٠٤

(٣٠٨) أي تنعمون وتسعدون

(٣٠٩) الصحاف : القصاع : آنية الطعام. والأكواب : جمع كوب وهو إناء للشراب لا عروة له.

(٣١٠) لا يخفف

(٣١١) آيسون من كل خير

(٣١٢) مقيمون في العذاب

(٣١٣) سورة الزخرف : ٦٨ ـ ٧٨

(٣١٤) سورة فاطر : ١١

(٣١٥) سورة الأنعام : ٥٩

(٣١٦) سورة القمر : ٤٩

(٣١٧) سورة الفرقان : ٢

(٣١٨) سورة الرعد : ٨

(٣١٩) سورة الحجر : ٢١

(٣٢٠) أي عن قدره ومشيئته.

(٣٢١) سورة التغابن : ١١

(٣٢٢) نخلقها

__________________

(٣٢٣) سورة الحديد : ٢٢ ويسير : سهل

(٣٢٤) رواه الترمذي وابن ماجه رقم ٨١

(٣٢٥) رواه مسلم وأحمد

(٣٢٦) رواه الترمذي.

(٣٢٧) رواه أبو داود والترمذي وأحمد

(٣٢٨) رواه مسلم والترمذي وأحمد

(٣٢٩) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجه رقم ٧٦

(٣٣٠) سورة الكهف : ٢٩

(٣٣١) سورة يونس : ٩٩

(٣٣٢) عذابنا

(٣٣٣) تكذبون

(٣٣٤) سورة الأنعام : ١٤٨ ـ ١٤٩

(٣٣٥) سورة الإنسان : ٣٠ ـ ٣١.

(٣٣٦) سورة النساء : ٧٨ ـ ٧٩

(٣٣٧) سورة النساء : ٧٨ ـ ٧٩

(٣٣٨) سورة الشورى : ٣٠.

(٣٣٩) سورة البقرة : ٢١٦

(٣٤٠) رواه مسلم وابن ماجه رقم ٧٩

(٣٤١) تحزنوا

(٣٤٢) سورة الحديد : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣٤٣) سورة الأحزاب : ١٦

(٣٤٤) سورة التوبة : ٥١

(٣٤٥) تدخل

(٣٤٦) سورة آل عمران : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣٤٧) سورة التوبة : ١٠٥

(٣٤٨) رواه مسلم والنسائي من حديث صهيب وسعد بن أبي وقاص

(٣٤٩) سورة ابراهيم : ١٠.

(٣٥٠) سورة البقرة : ٢٠١

(٣٥١) سورة البقرة : ١٩٧

__________________

(٣٥٢) أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر.

(٣٥٣) سورة الأنفال : ٢ ـ ٣

(٣٥٤) سورة المؤمنون : ١ ـ ٤

(٣٥٥) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة وعمر بن الخطاب.

(٣٥٦) سورة فصلت : ١١

(٣٥٧) سورة الإسراء : ٤٤

(٣٥٨) سورة الحج : ١٨

(٣٥٩) أصله المتزمل : المتلفف في ثيابه.

(٣٦٠) سورة المزمل : ١ ـ ٤

(٣٦١) أقل

(٣٦٢) يسافرون

(٣٦٣) يطلبون من رزقه

(٣٦٤) سورة المزمل : ٢٠

(٣٦٥) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والترمذي والدار قطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(٣٦٦) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث عمران بن حصين.

(٣٦٧) رواه البيهقي في الشعب من حديث عمر بسند ضعيف.

(٣٦٨) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣٦٩) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان ، وصححه ابن عبد البر من حديث عبادة بن الصامت.

(٣٧٠) سورة العنكبوت : ٤٥

(٣٧١) أخرجه علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية من حديث الحسن مرسلا بإسناد صحيح. ورواه الطبراني ، وأسنده ابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عباس باسناد لين. ورواه الطبراني من قول ابن مسعود بلفظ : «من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر .. الحديث» واسناده صحيح.

(٣٧٢) سورة البقرة : ٤٥

__________________

(٣٧٣) رواه النسائي من حديث أنس بإسناد جيد ، وضعفه العقيلي. ورواه الطبراني وابن عدي وأبو يعلى وأبو عوانة والبيهقي والخطيب والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

(٣٧٤) أخرجه الدار قطني في العلل من حديث بلال ، ولأبي داود نحوه من حديث رجل من الصحابة لم يسم بإسناد صحيح.

(٣٧٥) الفذ : المنفرد. والحديث متفق عليه من حديث ابن عمر.

(٣٧٦) سورة الأنعام : ١٤١

(٣٧٧) أي يشرب بعروقه من غير سقي.

(٣٧٨) رواه البخاري من حديث ابن عمر ، رقم ١٤٨٣

(٣٧٩) سورة الأنعام : ١٦٥

(٣٨٠) سورة البقرة : ٣

(٣٨١) سورة التوبة : ٧١ ، ٥ ، ١١.

(٣٨٢) سورة التوبة : ٧١ ، ٥ ، ١١.

(٣٨٣) سورة التوبة : ٧١ ، ٥ ، ١١.

(٣٨٤) سورة الحج : ٧٨

(٣٨٥) القيمة : المستقيمة. والآية في سورة البينة : ٥

(٣٨٦) سورة البقرة : ٢٧٧

(٣٨٧) سورة المعارج : ١٩ ـ ٢٥

(٣٨٨) سورة التوبة : ١٠٣.

(٣٨٩) سورة آل عمران : ١٠٣

(٣٩٠) رواه الطبراني. ورواه ابن حزم موقوفا على علي رضي الله عنه.

(٣٩١) رواه الطبراني وأبو نعيم والعسكري والقضاعي عن ابن مسعود مرفوعا. والطبراني عن عبادة بن الصامت. والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة مرفوعا. والطبراني وأبو الشيخ عن سمرة بن جندب رفعه. والديلمي عن ابن عمر. قال ابن الفرس : ضعيف لكن ورد له شواهد. (كشف الخفاء ج ١ ص ٣٦١).

(٣٩٢) سورة سبأ : ٣٩.

(٣٩٣) سورة البقرة : ١٨٥

(٣٩٤) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

(٣٩٥) رواه أحمد عن أبي هريرة ، والطبراني وأبو نعيم

(٣٩٦) أخرجاه من حديث أبي هريرة. خ ٩٤ ١٨

(٣٩٧) النكاح ونفقات الزواج.

__________________

(٣٩٨) أي مانع لثوران الشهوة كالوجاء الذي هو قطع الخصيتين في القضاء عليها ، والحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود.

(٣٩٩) أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة.

(٤٠٠) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم ١٩٠٣ ، ٦٠٥٧.

(٤٠١) رواه الطبراني والبزار من حديث أنس وإسناده حسن.

(٤٠٢) رواه البخاري من حديث ابن عباس ، رقم ١٩٠١.

(٤٠٣) سورة البقرة : ١٩٦

(٤٠٤) زاد المعاد في هدي خير العباد ـ لابن القيم ج ٢ ص ١٧٥.

(٤٠٥) سورة آل عمران ٩٧

(٤٠٦) رواه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم وصححه.

(٤٠٧) الرفث : الجماع ، ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول.

(٤٠٨) أي لم يأت بسيئة ولا معصية.

(٤٠٩) رواه الشيخان والنسائي والترمذي من حديث أبي هريرة. خ رقم ١٥٢١

(٤١٠) سورة آل عمران : ٩١

(٤١١) سورة البقرة : ١٢٣

(٤١٢) سورة الصافات : ١٠٢.

(٤١٣) سورة البقرة : ١٩٧

(٤١٤) سورة الأنبياء : ٩٢

(٤١٥) ليلة جمع : هي ليلة الوقوف في مزدلفة ، أي ليلة العاشر من ذي الحجة.

(٤١٦) رواه أصحاب السنن ورواه أحمد وابن حبان والحاكم وقال : صحيح الإسناد. ورواه أبو يعلى الموصلي بلفظ : " الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج." ورواه الدار قطني والبيهقي. وألفاظهم متشابهة. ورووه كلهم عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي. ولكن ابن ماجه نسبه إلى" الديلمي". وهو في الإصابة لابن حجر : " الدئلي" وعرفه بأنه صحابي يكنى أبا الأسود ، سكن الكوفة ومات بخراسان.

(٤١٧) رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث أبي هريرة وقال الحاكم : رواته ثقات على شرط الشيخين.

(٤١٨) رواه النسائي عن أبي هريرة.

__________________

(٤١٩) أخرجه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة.

(٤٢٠) أخرجه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة. وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم.

(٤٢١) الثرثارون : ج ثرثار وهو كثير الكلام. والمتشدقون : ج متشدق : وهو من يتكلف السمع ويظهر الفصاحة.

(٤٢٢) رواه الترمذي بسند حسن من حديث جابر.

(٤٢٣) متفق عليه من حديث عائشة

(٤٢٤) سورة آل عمران : ١٥٩

(٤٢٥) سورة القلم : ٤

(٤٢٦) رواه مسلم.

(٤٢٧) سورة التوبة : ١١٩

(٤٢٨) سورة النحل : ١٠٥

(٤٢٩) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود من حديث سفيان بن أسيد ، وضعفه ابن عدي ورواه أحمد والطبراني من حديث النواس بن سمعان بإسناد جيد.

(٤٣٠) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف ، ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت مقتصرا على الكذب ، وجعل السائل أبا الدرداء.

(٤٣١) أخرجه ابن أبي شبية في المصنف من حديث أبي أمامة. ورواه ابن عدي في مقدمة الكامل من حديث سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي أمامة ، ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت من حديث سعد. والبزار من حديث سعد ، وسنده قوي. وذكر الدار قطني أن الأشبه أنه موقوف.

(٤٣٢) رواه الترمذي برقم ١٩٧٤.

(٤٣٣) أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ، والنسائي في الكبرى عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

(٤٣٤) رواه أبو داود والبيهقي

(٤٣٥) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود

(٤٣٦) سورة الزمر : ٣

(٤٣٧) سورة المؤمن : ٢٨

(٤٣٨) سورة النحل : ١١٦ ـ ١١٧

__________________

(٤٣٩) سورة الأنعام : ٢١

(٤٤٠) سورة الحج : ٣٠

(٤٤١) رواه الشيخان. خ ٥٩٧٦

(٤٤٢) أي ينقل عن كل من المتخاصمين لخصمه كلاما حسنا.

(٤٤٣) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي.

(٤٤٤) سورة الإسراء : ٣٤

(٤٤٥) سورة النحل : ٩١

(٤٤٦) سورة النحل : ٩٥

(٤٤٧) سورة الأنفال : ٥٥ ـ ٥٦

(٤٤٨) سورة الرعد : ١٩ ـ ٢٠

(٤٤٩) سورة البقرة : ١٧٧

(٤٥٠) سورة الأنفال : ٧٢

(٤٥١) سورة الأنفال : ٥٨

(٤٥٢) سورة التوبة : ١٢

(٤٥٣) رواه أبو يعلى والبيهقي عن أنس رفعه. ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر بلفظ : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا صلاة لمن لا طهور له ، ولا دين لمن لا صلاة له وموضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد" (كشف الخفاء ٢ / ٣٤٩).

(٤٥٤) سورة المؤمنون : ٨ وسورة المعارج : ٣٢

(٤٥٥) الآية : العلامة. والحديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة رقم ٣٣

(٤٥٦) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة.

(٤٥٧) خفن.

(٤٥٨) سورة الأحزاب : ٧٢.

(٤٥٩) سورة الأنفال : ٢٧.

(٤٦٠) أخرجه مسلم وأبو داود من حديث أبي ذر رضي الله عنه

(٤٦١) متفق عليه

(٤٦٢) أخرجه الحاكم وصححه.

(٤٦٣) أخرجه أحمد والحاكم

(٤٦٤) سورة القصص : ٢٦

__________________

(٤٦٥) سورة البقرة : ٢٨٣

(٤٦٦) الذي يصرع الناس كثيرا بقوته ، ويرميهم في الأرض لشدته

(٤٦٧) رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة. خ ٦١١٤

(٤٦٨) سورة الأعراف : ١٩٩

(٤٦٩) سورة البقرة : ٢٣٧

(٤٧٠) يدرؤون : يدفعون. والآية في سورة الرعد : ٢٢

(٤٧١) الكافين عن إمضائه مع القدرة

(٤٧٢) سورة آل عمران : ١٣٤

(٤٧٣) سورة التغابن : ١٤

(٤٧٤) سورة الشورى : ٤٠.

(٤٧٥) سورة فصلت : ٣٤

(٤٧٦) رواه مسلم من حديث أبي هريرة

(٤٧٧) رواه البخاري والترمذي وأحمد من حديث أبي هريرة. خ ٦١١٦

(٤٧٨) أي أن يصرفك عما أمرت به صارف

(٤٧٩) سورة الأعراف : ٢٠٠

(٤٨٠) رواه أبو داود في كتاب الأدب من حديث عطية السعدي.

(٤٨١) أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني ـ واللفظ لهما ـ والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس.

(٤٨٢) رواه أبو داود وأحمد عن أبي ذر

(٤٨٣) أخرجه الطبراني والدار قطني في العلل مرفوعا بسند ضعيف. ورواه ابن عبد البر موقوفا.

(٤٨٤) رواه الترمذي.

(٤٨٥) جمع زلفة أي طائفة

(٤٨٦) سورة هود : ١١٤ ـ ١١٥

(٤٨٧) سورة مريم : ٦٥

(٤٨٨) سورة طه : ١٣٢

(٤٨٩) سورة لقمان : ١٧.

(٤٩٠) نختبركم

__________________

(٤٩١) نظهر

(٤٩٢) سورة محمد : ٣١

(٤٩٣) سورة البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٧

(٤٩٤) سورة العصر : ١ ـ ٣

(٤٩٥) أي لا تختلفوا فتجبنوا وتذهب قوتكم

(٤٩٦) سورة الأنفال : ٤٦

(٤٩٧) سورة الزمر : ١٠

(٤٩٨) سورة الإنسان : ١٢

(٤٩٩) سورة النحل : ٩٦

(٥٠٠) رواه مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

(٥٠١) سورة النحل : ١٨

(٥٠٢) جاريين في فلكهما لا يفتران.

(٥٠٣) سورة ابراهيم : ٣٢ ـ ٣٤ ، ٧

(٥٠٤) سورة البقرة : ١٥٢

(٥٠٥) سورة ابراهيم : ٣٢ ـ ٣٤ ، ٧

(٥٠٦) سورة ابراهيم : ٧

(٥٠٧) سورة آل عمران : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٥٠٨) سورة آل عمران : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٥٠٩) سورة النساء : ١٤٧

(٥١٠) أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس. وفيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور.

(٥١١) تحتقروا

(٥١٢) رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة.

(٥١٣) رواه الترمذي في باب الرقاق. وفي سنده المثني بن الصباح وهو ضعيف.

(٥١٤) إحياء علوم الدين ج ٤ ص ٦٦.

(٥١٥) رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة ، وابن حبان عن أبي سعيد.

(٥١٦) رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر بإسناد صحيح.

(٥١٧) رواه الترمذي وابن حبان بسند صحيح.

(٥١٨) سورة القصص : ١٣

(٥١٩) سورة الإسراء : ٣٧

__________________

(٥٢٠) سورة النحل : ٢٣

(٥٢١) دفعه ورده

(٥٢٢) احتقارهم وازدراؤهم. والحديث رواه مسلم : ١٤٧ ـ (٩١) والحاكم والترمذي

(٥٢٣) رواه الترمذي.

(٥٢٤) صغار النمل

(٥٢٥) رواه البزار ، وهو حديث حسن

(٥٢٦) متفق عليه

(٥٢٧) العائل : الفقير. والحديث رواه مسلم

(٥٢٨) أخرجه الحاكم ورجاله ثقات

(٥٢٩) رواه مسلم

(٥٣٠) سورة غافر : ٧٦

(٥٣١) العتل : الجافي الغليظ ، والجواظ ، الضخم المختال. والحديث متفق عليه.

(٥٣٢) رواه مسلم

(٥٣٣) سورة الشعراء : ٢١٥

(٥٣٤) رواه الحارث والطيالسي في مسنديهما ، والبيهقي في المدخل ، وله شواهد. وهو عند الطيالسي عن أبي هريرة بلفظ : " علموا ولا تعنفوا فإن العلم خير من التعبد"

(٥٣٥) المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٤٧ ، ٦٤.

(٥٣٦) رواه ابن عبد البر من حديث أبي سعيد الخدري. وروي موقوفا على عمر وعلي رضي الله عنهما. (مختصر جامع بيان العلم ص ٥٤ ، ٦٣).

(٥٣٧) أي لا يعب بعضكم بعضا

(٥٣٨) لا يدع بعضكم بعضا بلقب يكرهه

(٥٣٩) سورة الحجرات : ١١

(٥٤٠) ثياب بالية ممزقة.

(٥٤١) رواه مسلم والحاكم من حديث أبي هريرة.

(٥٤٢) سورة الهمزة : ١

(٥٤٣) أي يكفيه أن يكون من أهل الشر بهذه الخصلة وحدها.

(٥٤٤) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

(٥٤٥) رواه مسلم وأبو داود والترمذي ، وقال : حسن صحيح.

__________________

(٥٤٦) رواه ابو داود والترمذي في كتاب الرقائق

(٥٤٧) سورة الحجرات : ١٢

(٥٤٨) رواه أبو داود وأبو يعلى وابن أبي الدنيا عن أبي برزة والبراد بن عازب.

(٥٤٩) رواه أبو داود عن جابر وأبي طلحة.

(٥٥٠) سورة القلم : ١٠ ـ ١١

(٥٥١) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي عن حذيفة. خ ٦٠٥٦

(٥٥٢) روي : العيب والعنت وهو المشقة. وقد رواه أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن

(٥٥٣) أي بستان.

(٥٥٤) رواه الشيخان. خ ٢١٦.

الفصل الرابع

مبادئ التربية

يقصد بهذه المبادئ جملة من الأسس والمنطلقات يعتمد عليها في ميدان التربية ، وتسهم في تحسينها وزيادة مردودها. وأهمها :

١ ـ القابلية والإعداد للتربية

لو لا قابلية الإنسان للتربية لكان كل جهد يبذل في هذا المجال يضيع سدى ولا يحتاج هذا الأمر إلى بيان من الناحية الجسمية ، إذ أن نمو الأجسام وتأثرها بالتربية واضح معروف. أما النواحي العقلية والنفسية والروحية والخلقية فتتضح بملاحظة استجابة الإنسان لما يقدم إليه منها وتأثره بها ، ومقارنة من حصل على تربية رفيعة وتعليم عالي المستوى بمن حرم من ذلك ، فالأول تتفتح مداركه وتصقل مواهبه ، وينمو ذكاؤه ، ويعتدل مزاجه ، ويرتفع شأنه درجات عالية ، بينما لا يرقى الثاني إلى هذا المستوى الرفيع.

وقد خلق الله الإنسان غير عالم بشيء ، ولكنه زوده بالوسائل التي تمكنه من العلم والاستجابة للتربية ، وجعل فيه الاستعداد والقابلية لذلك. قال سبحانه :

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١)

وجعل لديه القابلية ليسلك طريق الخير أو طريق الشر : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). (٢)

وهو إذا سلك طريق الحق والخير أصبح مؤمنا شاكرا ، وإذا سلك طريق الباطل والشر أصبح كافرا فاجرا.

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ (٣) نَبْتَلِيهِ (٤) فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً). (٥)

وإذا هذب الإنسان نفسه وأصلحها أصبح من المتقين المفلحين ، وإذا دنس نفسه بالذنوب وقبائح العيوب أصبح من الفجار الخاسرين :

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٦) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٧)

وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا بد من تلقي العلم ودراسة الفقه ليصبح الإنسان فقيها عالما ، فقال :

«يا أيها الناس! تعلموا ، إنما العلم بالتعلم ، والفقه بالتفقه ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (٨)

وقال الإمام الغزالي : (لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات. ولما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسنوا أخلاقكم» (٩) وكيف ينكر هذا في حق الآدمي ، وتغيير خلق البهيمة ممكن ، إذ ينتقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس ، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية ، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد. وكل ذلك تغيير للأخلاق) (١٠)

ورغم قابلية الإنسان للتربية واستعداده لها ، فكثيرا ما يعتريه الفتور ، ويشعر بالملل والنفور. ولذا ينصح علماء التربية بتهيئة الطلاب قبل تقديم المعلومات إليهم ، ويوصون بجعلهم على حالة يشعرون فيها بالحاجة إلى التعلم ، فإذا ما تلقوا ما يحتاجون إليه بعدئذ ، فهموه وتأثروا به غاية التأثر. وإذا ما أصبح الطالب في مشكلة ، وأصبح يبحث عن حل لها ، وطلب من مربيه أن يساعده للخروج منها ، وأمده بالتوجيهات والعلوم المناسبة ، فإنه يتلقاها بكل حواسه ، ولا يفوته شيء منها.

وقد تحقق هذا المبدأ بنزول القرآن مفرقا ، وخاصة الآيات التي نزلت لحل مشكلة وبيان حكم شرعي فيما عرف بأسباب النزول. فكان الصحابة يتلقون تلك الآيات كتلقي الأرض العطشى لوابل المطر ، فيقبلون عليها يتلونها ويحفظونها ، ويمتثلون أحكامها بدون تردد أو تريث.

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتصد في الموعظة حتى لا يملها أصحابه ، ويتحين الأوقات المناسبة لذلك. وعلى هذه الطريق سار الصحابة حين أصبحوا يعظون التابعين ويعلمونهم. وكذلك فعل العلماء من بعدهم.

عن شقيق قال : كنا جلوسا عند باب عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ

ننتظره ، فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي فقلنا : اعلمه بمكاننا. فدخل عليه ، فلم يلبث أن خرج علينا فقال : (إني أخبر بمكانكم ، فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم. إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتخولنا (١١) بالموعظة في الأيام مخافة السآمة (١٢) علينا (١٣).

وعن أبي وائل قال : كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل خميس فقال : (ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم. إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا (١٤).

وبذلك يكون من واجب المربين أن يهيئوا طلابهم قبل تقديم العلوم إليهم ، وأن يجعلوا التربية مناسبة لأعمار تلاميذهم ومستواهم العقلي واهتماماتهم وميولهم ، وأن يجعلوا طريقتهم موافقة للذين يربونهم وأن يربوا الصغار بطريقة تناسب طبيعتهم وعقولهم ، والكبار بالشكل المفيد لهم ، وأ لا ينظروا إلى الطفل نظرتهم إلى الرجل الكبير.

وقد أدرك مربونا الكبار مبدأ الفصل والتفريق بين العلوم والمواضيع المختلفة ، ونهوا عن تعليم أي موضوع قبل الفراغ مما قبله.

قال ابن سحنون : (ولا يجوز أن ينقلهم من سورة إلى سورة حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها (١٥)

ونهى القاضي أبو بكر بن العربي أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم والنشاط (١٦).

وقال الشيخ عبد الباسط العلموي المتوفى في دمشق سنة ٩٨١ ه‍.

(ولا يمكن الطالب من الاشتغال في فنين أو أكثر إذا لم يضبطهما ، بل يقدم الأهم فالأهم. وإذا غلب على ظنه أنه لا يفتح عليه في ذلك الفن ، أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فلاحه فيه) (١٧)

وكذلك نص ابن خلدون على مبدأ الفصل بين المسائل والعلوم المختلفة وعدم تعليم شيء قبل اتقان ما سبقه لئلا يؤدي ذلك إلى اضطراب الذهن وخلط الموضوعات بعضها ببعض ، فقال :

(ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ، ويحصل أغراضه ، ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي ، وحصل له نشاط في طلب المزيد

والنهوض إلى ما فوق ، حتى يستولي على غايات العلم. وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال ، وانطمس فكره ، ويئس من التحصيل ، وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء.

وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها ، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض ، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة ، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره. وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه. والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون.

ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا ، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما ، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر ، فيستغلقان معا ، ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة ، وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله. والله ـ سبحانه وتعالى ـ الموفق للصواب) (١٨).

أما في بلاد الغرب فكانت التربية تتم بطريقة شكلية دون مراعاة لطبيعة الطفل وميوله ، وكان الطفل يعتبر رجلا صغيرا لا يختلف عن الكبير في الميول والقوى العقلية.

وبقي الأمر كذلك حتى ظهرت الحركة الواقعية الحسية ، فأصرت على دراسة الطفل وتكييف عملية التربية تبعا لميوله ، رغم أن معرفتهم بنمو عقل الطفل وبتطور مظاهر نشاطه كانت محدودة (١٩).

ومما قاله" كومينوس" (١٥٩٢ ـ ١٦٧٠ م) :

(يجب أن ندرس الأشياء كلها ، ولا نعلم أكثر من شيء واحد في المرة الواحدة (٢٠))

ومن تعاليم" روسو" المولود عام ١٧١٢ م : إن التربية تبدأ بالطفل ، وإن هدفها هو تكوين أخلاق الطفل وتنظيم علاقاته الاجتماعية ، وإن أسلوبها تحدده طبيعة الطفل (٢٠)

ويعتبر جون لوك عالم النفس الإنكليزي الذي امتدات حياته بين عامي (١٦٣٢ ـ ١٧٠٤ م) أول من كتب كتابا في التربية يهتم اهتماما كبيرا بالطفل (٢٠)

وهكذا نشأت روح عطف على الأطفال ومعرفة لعقل الطفل وميوله وقدراته ، مما كان يجهله القدامى في العصور السابقة. فأعلن" بستالوتري" أن مشكلة التربية يجب دراستها من ناحية علاقتها بنمو عقلية الطفل ، وقال في ذلك : «فمهما يحاول الإنسان أن يفعل في تربية الطفل فلن يستطيع أن يعمل أكثر من أن يساعده في جهوده التي يبذلها هو في سبيل تنمية شخصيته. وإن سر التربية العظيم هو أن نفعل ذلك بحيث يكون تأثير التربية متناسبا دائما مع نمو الملكات التي لم تتفتح بعد ومتناسبا مع طبائعها. لذلك يجب أن تكون المعارف التي تقدمها التربية للأطفال جارية على نظام معين من التتابع ، فيتلو بعضها بعضا بحيث يكون أولها مناسبا لأول الملكات تفتحا ، وبحيث يكون التقدم في الإلمام بهذه المبادئ موازيا لنمو الطفل (٢١)

وأكد" فروبل" على أن الطفل وميوله وخبراته ومظاهر نشاطه هو نقطة البداية ، وأن التربية تبدأ بالنشاط الذاتي لدى الطفل (٢١).

وهكذا سبق الإسلام إلى مبدأ التهيئة والإعداد في التربية كما سبق إلى مبدأ الفصل والتوزيع بين مواد التربية وعدم جعلها متلاحقة.

وبعد أن اهتدى المربون إلى هذا المبدأ أصبحوا لا يقدمون المعارف إلى طلابهم بدون إعداد لهم ، وإنما يضعونهم في ظروف ، ويوقعونهم في مشكلات تجعلهم يلتمسون إيجاد الحلول لها ، ويفكرون للخروج منها. فإذا ما توصلوا إلى الحل الصحيح ، وكان تفكيرهم سليما لقوا التشجيع والتأييد. وإذا ما تعثروا في سيرهم ، وأخطؤوا في حكمهم لقوا التوجيه والتسديد. وإذا ما طلبوا التوضيح ، وسألوا عما يعينهم في انجاز مهمتهم قدمت إليهم المعلومات المناسبة ، فترسخ في أذهانهم ، وتستقر في أفهامهم.

ولو أنصف هؤلاء المربون لاعترفوا بسبق القرآن والسنة إلى هذه المبادئ التربوية ولأقبلوا عليهما بالدراسة والبحث ولجعلوهما أساسا في العلم والعمل ومنهاجا في التربية غير أن البلاد المتأخرة لا تزال بعيدة عن هذا المنهج ومائلة عن هذه الطريقة ، إذ تعهد بالتربية إلى أشخاص غير أذكياء ، ليلقنوا تلاميذهم دروسا ليسوا بحاجة إليها وليست مناسبة لهم ؛ فيسيئون إليهم وإلى مجتمعهم ، ويجعلون الذكي فيهم بليدا والنابه غافلا ، لا يتعلم سوى دروس يمل من تكرارها ويود بعد خروجه من قاعة الامتحان نسيانها ، لأنها أتعبت دماغه وأسقمت جسمه. وإذا ما أكمل الطالب دراسته وحصل على شهادته ، ودخل معترك الحياة وخاض في غمارها ، فإنه لا يجد فيما تعلمه درسا يفيده أو بحثا ينفعه ، فيجعل الحصول على وظيفة في إحدى الدوائر

غايته والقيام بعمل في أحد المكاتب أمنيته. فإذا ما أصبح موظفا قضى حياته في أعمال بسيطة لا تحتاج إلى مؤهل كبير ، وملأ وقته باللعب واللهو والثرثرة. وإذا ما قل راتبه عن تأمين حاجياته استغل وظيفته في الحصول على الرشوة ، أو سخر ما يشرف عليه من الوسائل والآلات في تحقيق منافع خاصة به ، أو قام بعمل آخر يبذل فيه جهده وطاقته ، وتراه غير مخلص في عمله ولا ناصح لأحد ممن يتعامل معه. وسبب هذا كله التربية التي حصل عليها.

فإذا ما أرادت الأمة أن تنهض من كبوتها وتصحو من سباتها وتلحق بالأمم التي تقدمت عليها ، وتجهل أبناءها أذكياء مخلصين وعلماء عاملين ومثقفين مجدين فعليها أن تقتبس منهج القرآن وطريقته في التربية فهو الشفاء من كل داء والدواء لكل علة.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً). (٢٢)

* * *

٢ ـ التدرج في التربية

يعني هذا المبدأ الانطلاق من السهل إلى الصعب ، والانتقال من البسيط الجلي إلى المعقد الخفي ، ومن المألوف المعروف إلى الغريب المجهول ، ومن الأسس والمبادئ العامة إلى التفصيل والفروع الجزئية. كما يعني جعل التربية على خطوات يتلو بعضها بعضا.

وقد اعتمد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا المبدأ في دعوته ، إذ لم يبدأ بتشريع الأحكام التي تنظم علاقة الإنسان بغيره ، ولم يستهل الدعوة بصياغة نظريات لإصلاح الفرد والمجتمع ، ولا وضع قوانين في نظام المال ونظام الحكم بل لم يبدأ بتفصيل أحكام العبادات وبيان شروطها وأركانها وسننها ، وإنما بدأ بأساس ذلك كله وهو العقيدة واستمرت الآيات ثلاث عشرة سنة تنزل في النهي عن عبادة الأصنام وعن الشرك بالله ، والأمر بعبادة الله الواحد وطاعته ، وتحث على العمل بشريعته ، وتدعوا إلى الإيمان باليوم الآخر ، وتبشر المؤمنين بالجنة وتخوف الكافرين بالعذاب والنار ؛ حتى دخل الناس في الإسلام ، وأصبحوا على استعداد لفعل ما يؤمرون به وترك ما ينهون عنه.

وحينئذ نزلت الآيات بالأحكام الشرعية التي يحتاجون إليها.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل (٢٣) فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب (٢٤) الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ولو نزل : لا تزنوا ، لقالوا : لا ندع الزنى أبدا (٢٥)».

وأوضح مثال على هذا المبدأ الخطوات التي أدت إلى تحريم الخمر إذ كان العرب مولعين بشربها ، وكانوا يعدونها من المؤن الضرورية ، ويتناولونها في الصباح والمساء والليل والنهار وحين السرور والحزن. والخمر أم الخبائث فهي تضر بالصحة ، لأنها تتلف المعدة ، وتؤدي إلى تشمع الكبد وتصلب الشرايين وتذهب العقل ، وتشل الأعصاب ، وتجعل من يتناولها يسيء إلى أقاربه وأصحابه ، فيصبح الأصدقاء المتحابون أعداء متباغضين. وما يحدث بسببها من الخسائر المادية لا يحتاج إلى بيان. ومبادئ الإسلام تقضي بتحريمها لما فيها من أضرار. ومع ذلك فلم تحرم إلا بعد مضي خمس عشرة سنة من بدء الوحي. وكان تحريمها بالتدريج وأثر حادثة تقتضي الحكم الشرعي في كل مرة.

وأول إشارة للمسكرات كانت قبل الهجرة ، في سياق ذكر بعض نعم الله على عباده ، إذ وصف ما يصنعه الناس من ثمرات النخيل والأعناب من تمر وزبيب ودبس ومربيات بأنه رزق حسن ، ولم توصف الخمر التي يصنعونها منها بهذا الوصف. قال تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (٢٦)

وتذييل الآية يدل على أن العقلاء يتخذون الرزق الحسن من الثمرات لا السكر غير الحسن. وما ذا بعد الحسن إلا القبيح! فالخمر إذن قبيحة.

والخطوة الثانية في تحريم الخمر.

كانت في لفت الأنظار إلى أن أضرار الخمر والميسر تربو على منافعهما فأضرارهما كبيرة لا يحدها وصف ، ومنافعهما ضئيلة لا تكاد تذكر ، ولا تزيد على دريهمات يحصل عليها من يعصر الخمر ويبيعها ، ولقيمات يقدمها لاعبو الميسر إلى الفقراء حين يذبحون الجزور التي استقسموا عليها. وهم يكدرون هذا البر اليسير بما يخالطه من المن والفخر والخيلاء والكبر.

وكان هذا التنبيه حين أتى عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : أفتنا في الخمر والميسر ، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال. فأنزل الله تعالى هذه الآية :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما). (٢٧)

والخطوة الثالثة حرمت الخمر والسكر حين القيام للصلاة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ). (٢٨)

والآية نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يشربون الخمر ، ويحضرون الصلاة وهم نشاوى ، فلا يدرون كم يصلون ولا ما يقولون في صلاتهم إذ صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، ودعا رجالا من الصحابة ، فطعموا وشربوا.

وحضرت صلاة المغرب ، فتقدم أحدهم فصلى بهم ، فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فلم يقمها ، فنزلت». (٢٩)

وهذه الخطوة كسرت طوق العادة المستحكمة فيهم ، وضيقت الأوقات التي يستطيعون أن يتناولوا الخمر فيها ، فحصرتها في الليل بعد صلاة العشاء ، وفي

الصباح بعد صلاة الفجر. ولم يعد بإمكانهم أن يشربوها من الزوال إلى العشاء لضيق الوقت بين الصلوات في ذلك الحين ، فلو سكر أحدهم بعد الظهر لدخل وقت العصر قبل أن يصحو من سكره ، ولو سكر بعد العصر لأضاع صلاة المغرب ، وكذلك لو سكر بعد المغرب لأضاع صلاة العشاء.

والخطوة الرابعة حرمت الخمر والميسر تحريما قطعيا بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ (٣٠) وَالْأَزْلامُ (٣١) رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٣٢)

وسبب النزول يرويه سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ بقوله :

«أتيت على نفر من المهاجرين فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمرا ، وذلك قبل أن يحرم الخمر ، فأتيتهم في حش (٣٣) وإذا رأس جزور مشويا عندهم ودن من خمر ، فأكلت وشربت معهم ، وذكرت الأنصار والمهاجرين فقلت : المهاجرون خير من الأنصار ، فأخذ رجل لحي الرأس فجدع أنفي بذلك ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فأنزل الله في شأن الخمر الآية» (٣٤).

فما إن نزلت هذه الاية حتى كفوا جميعا عن شرب الخمر ، وأهرقوا ما عندهم منها وكسروا قلالها.

عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا الفضيخ والبسر (٣٥). فإذا مناد ينادي! قال : اخرج فانظر. فاذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت. فجرت في سكك المدينة. فقال لي أبو طلحة : اخرج فأهرقها فهرقتها (٣٦).

وبهذه الطريقة المحكمة وبهذا المنهج الفذ والمبدأ القويم أمكن إصلاح الناس وتهذيب النفوس والقضاء على العادات السيئة.

ولقد نص علماؤنا على ضرورة الأخذ بهذه الطريقة.

قال الإمام الغزالي وهو يبين آداب المتعلم ووظائفه ويوصيه بمراعاة الترتيب والتدريج في تحصيل العلوم :

(أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة ، بل يراعي الترتيب ، ويبتدئ بالأهم. فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء

أحسنه. وأن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله ، فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا ، وبعضها طريق إلى بعض. والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج» (٣٧)

وقال العلامة ابن خلدون :

«اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا : يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه ، حتى ينتهي إلى آخر الفن ؛ وعند ذلك تحصل له ملكة في ذلك العلم إلا إنها جزئية وضعيفة ، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية ، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ، ويستوفي الشرح والبيان ، ويخرج عن الإجمال ، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن ؛ فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شذا فلا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله ، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.

وهذا وجه التعليم المفيد ، وهو ـ كما رأيت ـ إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه» (٣٨).

وعلل ذلك بقوله :

فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه ، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه ، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ، ويحيط هو بمسائل الفن.

وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات ، وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي ، وبعيد عن الاستعداد له ، كل ذهنه عنها ، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه ، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله ، وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم (٣٩).

وبعد ذلك أوضح الكاتب الإنكليزي" هربارت سبنسر" الذي كتب في التربية في القرن التاسع عشر أن التعلم يجب أن يسير من البسيط إلى المركب ، ومن الحسي إلى المعنوي ، ومن العملي إلى النظري ، وأن التربية يجب أن تكون سارة (٤٠).

٣ ـ مراعاة الفروق الفردية

لا ينكر اختلاف الناس في ذكائهم ومواهبهم وفي ميولهم وقدرتهم ، فمنهم الذكي والغبي والنابه والغافل ... فإذا أهملنا الفروق التي بينهم ، وحاولنا تربية الجميع على صعيد واحد ، أدى ذلك إلى ضياع الجهد وعدم تحقيق الفائدة المتوخاة. وذلك أن الذكي المجد إذا لم نقدم له ما يحتاج إلى التفكير ، وإذا لم تتناسب دروسه مع مستوى ذكائه ، فإنه يشعر بالملل ، وينصرف عن الدرس ، أو يتبلد ذهنه ، ويصبح كمن هو أدنى ذكاء منه. كما إن متوسط الذكاء إذا قدم له ما يصعب عليه فهمه فإنه يشعر بالإحباط ، ويتعذر عليه متابعة التعلم.

وقد سبق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبار المربين إلى العمل بهذا المبدأ ، فكان يخاطب كل قوم على قدر عقولهم ، ويؤتيهم من الحكمة ما يتناسب مع أفهامهم ، وينهى عن تكليم الناس بما لا يفهمونه ولا يتصورون حقيقته. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ، ونكلمهم على قدر عقولهم» (٤١)

«كلموا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله» (٤٢)

«ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان فتنة عليهم» (٤٣).

فالعلم جوهرة ثمينة لا يعلم قدرها إلا الخبير بالجواهر. وهو الذي يصونها ، ويزين بها من يستحقها وهذا ما عناه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : «قام أخي عيسى ـ عليه‌السلام ـ في بني اسرائيل فقال :

«لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم» (٤٥)

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب» (٤٦)

وقد أدرك مربونا الأفاضل هذا المبدأ ، ونصوا على وجود مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب :

قال الإمام الغرالي في بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق :

«فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطيب نفوس المريدين ، ويعالج قلوب المسترشدين ، ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ، ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم وكما إن الطبيب لو عالج جميع

المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم ، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ، ويبني على ذلك رياضته» (٤٥)

وقال الشيخ عبد الباسط العلموي في بيان آداب المعلم مع طلبته :

«ويفهم كل واحد بحسب فهمه ، ولا يبسط له الكلام بسطا لا يضبطه حفظه ، ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة. ويخاطب كلا على قدر درجته وفهمه وهمته ، فيكتفي للحاذق بالإشارة ، ويوضح لغيره بالعبارة ، ويكررها لمن لا يفهمها إلا بتكرار (٤٦) ، «ومن ذلك إذا سلك الطالب فوق ما يقتضيه حاله ، وخاف ضجره ، أوصاه بالرفق في نفسه ، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة أو ضجر أمره بالراحة. ولا يشير على الطالب بتعلم ما لا يحتمله فهمه أو سنه ، ولا بكتاب يقصر عنه ذهنه. فإن استشاره من لا يعرف حاله في قراءة فن مشكل أو كتاب مشكل لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه ، ويعلم حاله. فإن لم يحتمل الوقت التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب ؛ فإن رأى فهمه جيدا نقله إلى كتاب يليق بذهنه ، لأن نقل الطالب الذكي يزداد به فهمه واجتهاده وانبساطه ، ونقل الطالب غير الذكي يكل فهمه ونشاطه» (٤٦).

* * *

٤ ـ وسائل المعرفة

يتعلم الإنسان بوساطة حواسه وعقله. فالحواس هي منافذ العقل على الكون ، والعقل يدرك المعلومات التي تنقلها إليه الحواس ، ويرتبها ويستنتج ما بينها من صلات وارتباطات ، ويحتفظ بها ، ثم يتذكرها في الوقت المناسب. وحين يتعلم الطفل الكلام ، ويفهم معاني الألفاظ التي يسمعها ، يصبح بالإمكان نقل معارف الآخرين إليه ، وبذلك يكتسب خبرات غيره ، ويطلع على ما لديهم من علوم.

وبإمكان الإنسان إذا تأمل في الأشياء التي يراها ، وفكر في العلاقات التي تحكمها أن يستنتج قوانينها ، ويحسن الانتفاع بها.

وأهم مصادر المعرفة الخبر الصادق الذي يسمعه المرء من غيره ، والرؤية المتيقنة التي رآها ببصره ؛ غير أنه لا يصبح ما سمعه المرء من الأخبار وما رآه من الأشياء معرفة حتى يدركه عقله ، وينظم العلاقة بينه وبين ما تلقاه من قبل.

قد أشار القرآن الكريم إلى وسائل المعرفة في الآية :

(وَلا تَقْفُ (٤٧) ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً). (٤٨)

فقد نهانا الله في هذه الآية عن اتباع ما لا نعلمه ، وبين أن العلم يأتي بطريق السمع والبصر والفؤاد. والفؤاد هو القلب ، ولا يقصد به في هذه الآية وأمثالها تلك العضلة الصنوبرية الشكل الموجود في الجانب الأيسر من الصدر ، والتي تدفع الدم إلى أنحاء الجسم ، وإنما يقصد به ماله صلة بالعقل ، وما هو مناط التفكير. وهو كما يقول الغزالي «لطيفة ربانية روحية ، لها بالقلب الجسماني تعلق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. وهو المدرك العالم العارف من الإنسان. وهو المخاطب والمطالب والمعاقب والمعاتب» (٤٩).

ومسؤولية الإنسان عن عقله وحواسه تقتضي منه المحافظة عليها واستخدامها فيما خلق لأجله ، وتقتضي منه تنمية قواه الفكرية وتوجيهه نحو ما ينفعه. ومسؤوليته هذه تحتم عليه ألا يقبل شيئا بلا برهان ، ولا يتبع احدا بغير دليل. وبذلك تتسع معارف الإنسان ، ويصبح عالما. وقد سئل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بم نلت العلم؟ فقال : بلسان سؤول وقلب عقول (٥٠).

وقد ذم الله المعطلين عقولهم وحواسه ، وشبههم بالحيونات التي حرمت العقل ، وجعل جهنم جزاء لهم : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا (٥١) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ). (٥٢)

فتعطيل العقل والحواس يحرم الإنسان من العلم الذي استحق به التكريم ، ويجعله يتخبط في الظلمات لا يهتدي إلى الحق ، ولا يستجيب لمن يدعوه إلى الإيمان.

قال تعالى :

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ). (٥٣)

ويكونون بذلك شر الدواب وأرذل المخلوقات :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). (٥٤)

ولقد أرشدت هذه الآيات المسلمين إلى المنهج العلمي التجريبي الذي كان له أثر كبير في تقدم الحضارة ورقي البشرية. إذ كان الفلاسفة من قبل يتناقلون أكداسا من المعارف ، لا يستطيعون أن يفرقوا بين غثها وسمينها ، ولا أن يميزوا بين حقائقها وأوهامها.

فلما تلقى المسلمون هذه الآيات استنبطوا منها هذا المنهج في كشف العلم واكتساب المعرفة ، ثم اطلعوا على علوم الأقدمين ، وأخضعوها للبحث والتجربة ، وفصلوا بين صوابها وخطئها ، وانطلقوا يلاحظون ويجربون ، ويضعون قوانين العلوم وقواعد الحضارة ، حتى كانت تلك النهضة الرائعة التي لم تعرف لها البشرية مثيلا من قبل.

ولم تشهد أوربا نهضتها المعاصرة إلا بعد أن اطلعت على علوم المسلمين ، وأخذت منهجهم في العلم والمعرفة ، وسارت على طريقهم في البحث والتجربة. لكنها لم تتمكن من السير على الطريق الذي خطه القرآن الكريم إلا بعد ضلال بعيد وتخبط أعمى. فبعد أن كان سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد يعتقد أن المعرفة موجودة لدى كل إنسان ، ولكنها في حاجة إلى أن تولد وتستنبط (٥٥) نادى أصحاب الحركة الواقعية الحسية في القرن السابع عشر بأن المعرفة تأتي أولا عن طريق الحواس ، وأن التربية يجب أن تؤسس على الإدراك الحسي أكثر مما تبنى على نشاط الذاكرة (٥٦) وأصبح طريق الملاحظة والبحث والتجربة هو الطريق الوحيد للوصول إلى المعرفة (٥٦).

ولعل رابليه (١٤٨٣ ـ ١٥٥٣ م) أول المربين الذين جعلوا للعلوم المكان الأول بين جميع الدراسات الجديرة بالإنسان ، بعد أن أهمل العصر الوسيط دراسة الطبيعة. وكان فن الملاحظة يجهله أولئك الجدليون الذين لم يكونوا يريدون معرفة عالم الطبيعة إلا من خلال نظريات" أرسطو" ولم يكونوا يقيمون أي وزن لدراسة العالم المادي الذي هو دار فناء تحتقرها النفوس الخالدة (٥٧).

ويرى" كومنيوس" أن المعرفة تأتي من ثلاثة طرق : الحواس والعقل والوحي الإلهي. وأن الخطأ يمتنع إذا راعينا التوازن بينها جميعا (٥٨) وقد ضاهى المربين المحدثين في اهتمامه بالمشاهدة وملاحظة الأشياء الحسية واعتبارها التمرين الفكري الأول ، ومما يقوله في هذا :

(لم لا نفتح بدلا من الكتب الميتة كتاب الطبيعة الحي؟ إن تدريس الشبيبة لا يعني أن نطبع في ذهنهم حشدا من الألفاظ والجمل والأحكام والآراء التي نلتقطها من الكتب ، وإنما يعني أن نفتح ذكاءهم عن طريق الأشياء ، إن أساس كل علم هو أن نحسن اطلاع حواسنا على الأشياء المحسوسة كما يسهل فهمهما. بل إني لأرى أن هذا المبدأ هو مبدأ كل الأعمال الأخرى ، إذ لا نستطيع العمل والكلام بسداد وحكمة ما لم نفهم جيدا ما نريد أن نعمل أو نقول. ومن الثابت أن لا شيء في العقل لم يكن من قبل في الحس ؛ الأمر الذي يجعلنا نضع بحق أساس كل حكمة وكل بلاغة وكل عمل رشيد طيب ، حين ندرب الحواس بعناية على أن تدرك جيدا الفروق بين الأشياء الطبيعية ولما كانت هذه الناحية على فرط أهميتها مهملة عادة في مدارسنا اليوم ، ولما كان المعلمون يذكرون للطلاب أشياء لا يفهمونها أبدا ، لأن حواسهم لم تتمثلها ، وخيالهم لم يتصورها ، رأينا النصب في التعليم من جهة ، والمشقة في التعلم من جهة ثانية ، يسيطران ويورثان الضيق ، ولا ينتجان إلا ثمرات قليلة .. ينبغي ألا نقدم للشبيبة ظلال الأشياء وأشباحها ، بل علينا أن نقدم لهم الأشياء نفسها التي تحدث أثرا في الحواس والخيال وتنطبع فيها. ينبغي أن تبتدئ الثقافة بالملاحظة للأشياء لا بالوصف اللفظي لها) (٥٩)

وكذلك أنكر هربارت فكرة اشتمال النفس على قدرات عقلية فطرية ، وبين أنها ترتبط بالعالم الخارجي أو بالبيئة عن طريق الجهاز العصبي ، وبهذا الاتصال يتزود العقل بمبادئه ومعلوماته الأولية ، وذلك بطريق الإدراك الحسي ؛ وعن هذا الطريق تتكون الحياة العقلية للطفل. وتفاعل هذه الظواهر يؤدي إلى المدركات العقلية

العامة ، ثم بطريق عمليات مشابهة لهذا الإدماج أو هذا التفاعل يتكون الحكم والتفكير. ولذلك كان كل ما يجب على المدرس عمله هو أن يحصر جهوده في البحث في هذه المجموعة من المعارف التي تأتي إلى العقل من مصدرين أسايين هما : الخبرة أو الاحتكاك بالطبيعة ، والتحادث أو الاحتكاك بالمجتمع (٦٠)

* * *

٥ ـ الزامية التعليم

أمر الله بنشر العلم ، وعد كتمانه ذنبا كبيرا ، يلعن مرتكبه ما لم يتب إلى الله ، وينشر العلم المنزل لهداية الناس :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (٦١)

وهدد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين يمتنعون عن تعليم الناس ما يحتاجون إليه بالعذاب الأليم فقال :

«من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» (٦٢).

وهم بعقاب من يقصر في التعليم أو طلب العلم.

عن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده قال :

خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ، فأثنى على طوائف المسلمين خيرا ، ثم قال :

«ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم! وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون! والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم ، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون. أو لأعاجلنهم العقوبة».

ثم نزل. فقال قوم : من ترونه عنى بهؤلاء؟ قال : الأشعريين ، هم قوم فقهاء ، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب.

فبلغ ذلك الأشعريين ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله! ذكرت قوما بخير ، وذكرتنا بشر ، فما بالنا؟

فقال : «ليعلمن قوم جيرانهم وليعظنهم وليأمرنهم ولينهونهم. وليتعلم قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون ، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا».

فقالوا : يا رسول الله! أنفطن غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم.

فأعادوا قولهم : أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا. فقالوا :

أمهلنا سنة. فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم (٦٣).

ورغب ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في طلب العلم ونشره ، وخاصة القرآن الكريم والسنة والفقه ، فقال :

«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (٦٤)

«نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمع ، فرب مبلغ أوعى من سامع (٦٥)»

«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (٦٦)

وأمر بالسفر لطلب العلم إلى أقصى البلاد ، فقال :

«اطلبوا العلم ولو بالصين» (٦٧)

وجعله فرضا على كل المسلمين رجالا ونساء :

«طلب العلم فريضة على كل مسلم» (٦٨).

فما يحتاج إليه المسلم من أركان الدين وأحكام العبادات ونظام المعاملات هو فرض عين. وما لا يستغني عنه الناس في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما ، والأصول والفقه والنحو والتصريف واللغة ، وما يحتاجون إليه في قوام أمور الدنيا كالطب والرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء هو فرض كفاية ، إذا قام به بعضهم بما يكفل صلاحهم سقط الفرض عن الباقين. وإلا أثم الجميع.

أصول العلم :

وأهم العلوم : القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه في الدين ، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«العلم ثلاثة ، فما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، وسنة قائمة ، وفريضة عادلة» (٦٩).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (تعلموا الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن) (٦٩).

وقال ابن عبد البر : (وأما أصول العلم فالكتاب والسنة) (٧٠).

وقال أيضا : (طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها ... فأول العلم حفظ كتاب الله عزوجل وتفهمه. وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه .. والقرآن أصل العلم ، فمن حفظه قبل بلوغه ، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان

العرب ، كان له ذلك عونا كبيرا علي مراده منه .. ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عزوجل في كتابه ، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا. وفي سير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبيه على كثير من الناسخ والمنسوخ في السنن. ومن طلب السنن فليكن معوله على حديث الأئمة الثقات الحفاظ الذين جعلهم الله خزائن لعلم دينه وأمناء على سنن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ..

ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كتاب الله ، وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها وسعة لغتها وأشعارها ومجازها ، وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه وسائر مذاهبها إن قدر ، فهو شيء لا يستغنى عنه.

وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يكتب إلى الآفاق أن يتعلموا السنة والفرائض واللحن ـ يعني النحو ـ كما يتعلم القرآن ..

وعن عاصم الأحول عن أبي عثمان قال : كان في كتاب عمر : تعلموا العربية وعن عمر بن زيد قال : كتب عمر إلى أبي موسى : أما بعد فتفقهوا في السنة ، وتفقهوا في العربية» (٧١).

وعن الربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي محمد بن ادريس يقول :

«من حفظ القرآن عظمت قيمته ، ومن طلب الفقه نبل قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن نظر في النحو رق طبعه ، ومن لم يصن نفسه لم يصنه العلم» (٧٢)

وقال ابن عبد البر أيضا : (والعلوم عند أهل الديانات ثلاثة : علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط. فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزله الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم ـ نصا. والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره ، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة. والعلم الأسفل هو أحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والرمي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال) (٧٣) (٧٤).

وقال أيضا : والحساب علم لا يكاد يستغني عنه علم من العلوم (٧٥).

إلزامية التعليم في أوربا :

هذا في بلاد الإسلام ، أما في الغرب فبقي معظم الناس محرومين من العلم قرونا طويلة ، وأول من نادى بإلزامية التعليم وشموله عندهم هو المصلح الديني" مارتن لوثر" الذي عاش في سنوات (١٤٨٣ ـ ١٥٤٦ م) حين أعلن أن المدارس يجب أن تفتح أبوابها للجميع : النبلاء والعامة ، الأغنياء والفقراء ، وتضم البنين والبنات. وطالب بأن يكون اليوم المدرسي ساعتين ليهيء لكبار التلاميذ وشبابهم الفرصة في أن يساهموا في تأدية الواجبات الاقتصادية في الحياة دون عائق. وقال : (يجب علينا أن نرسل الأولاد إلى المدرسة ساعة أو ساعتين في اليوم ، وندعهم يتعلمون بقية اليوم مهنة ما أو حرفة في المنزل ، ويجب أن يسير هذان الأمران جنبا إلى جنب). وكان رأيه في السلطات الحاكمة أنه محتم عليها أن ترغم رعاياها على إرسال الأطفال إلى المدارس (٧٤).

ولم يوجد نظام تعليم لعامة الشعب قبل سنة ١٥٢٩ ، ففي تلك السنة وضع" دوق وتمبرج" نظاما تعليميا خاصا ، لم تعترف به الدول إلا سنة ١٥٦٥ ، وذلك بإنشاء مدارس أولية قومية في جميع القرى ، يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة والدين والموسيقى الدينية.

وأول مرة طبق فيها مبدأ التعليم الإجباري لجميع الطبقات كان في ولاية" ويمار" سنة ١٦١٩ ، فقد نص قانونها على أن جميع الأطفال من بنين وبنات يجب أن يبقوا بالمدارس من السادسة إلى الثانية عشرة.

وفي سنة ١٧٢٤ نص القانون على اشتراك البنات مع الأولاد في الدراسة. وفي سنة ١٧٧٢ أصبح التعليم الإلزامي نافذا من سن الخامسة إلى سن الرابعة عشرة.

وكذلك نادى" ملكاستر" (١٥٣١ ـ ١٦١١ م) وهو من أشهر المدرسين الإنجليز أن التعليم ليس مقصورا على الفتى ، بل هو حق للفتاة أيضا (٧٥).

وأكد كومنيوس في كتابه" المرشد الأكبر" الذي ألفه سنة ١٦٣٢ وجوب ارسال الأطفال من الجنسين إلى المدارس.

ويعتبر" روسو" أول من نادى بحقوق الرجل العادي السياسية والاجتماعية ، وبحقه في التربية منذ ولادته. غير أنه رأى أن تكون تربية المرأة مقننة وفق ما يقتضيه مصيرها كزوج ، وأن إرضاء الرجل ونيل محبته واحترامه وتربية الأولاد

والعناية بهم هي واجبات النساء في كل العصور ، وأن زوجها وحده هو الذي يثقفها ويجعلها على صورته ملبية لفائدته الخاصة (٧٦)

وكان" فردريك" الأكبر ملك" بروسيا" (١٧٤٠ ـ ١٧٨٦ م) و" ماريا تريزا" امبراطورة" النمسا" (١٧٤٠ ـ ١٧٨٠ م) في مقدمة الملوك الذين اعتقدوا أن رفاهية الشعب واستقراره يتوقفان على تعميم التربية والتعليم.

ففردريك الأكبر قرر في قوانينه المدرسية المشهورة التي أصدرها سنة ١٧٦٣ أن واجب رجال الحكم يحتم عليهم أن يبذلوا جهودهم لتحقيق سعادة وطننا وجميع طبقات الشعب في بلادنا ، وذلك بوضع الأسس الصحيحة في مدارسنا لتربية صغار الجيل تربية فكرية ودينية سليمة لتعويدهم الخوف من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتوجيههم نحو أهداف أخرى مفيدة ، وبذلك جعل التعليم إجباريا ، وقرر أن يمرن المدرسون تمرينا كافيا ، ويكافؤوا على مجهوداتهم ، كما قرر تهيئة الكتب المدرسية اللازمة وتحسين الطرق وضمان الإشراف على التعليم والتسامح الديني في التربية. ولم يتم الانتقال إلى النظم الجديدة إلا في سنة ١٧٩٤.

وفي" انجلترا" أصبح التعليم إجباريا لمن هم دون العاشرة بمقتضى قانون سنة ١٨٧٠ ، ثم رفع سن التعليم الإجباري إلى الثانية عشرة سنة ١٨٩٩ وأباح قانون سنة ١٩٠٠ للمجالس المالية أن ترفع السن إلى الرابعة عشرة (٧٧).

* * *

٦ ـ مجانية التعليم :

لا تتحقق الغاية من الزامية التعليم إذا حالت تكاليفه دون حصول كل شخص عليه ، وكان عجز الفقراء عن تلك التكاليف عائقا لهم عن طلب العلم. ولذا جعل الإسلام التعليم مجانيا ، ووفر العلم لطلابه بدون مقابل. ودليل ذلك أن الرسل ـ وهم أعظم المربين ـ كانوا يعلمون أقوامهم ما فيه صلاح دينهم ودنياهم بدون أن يأخذوا أجرا منهم وقال الله تعالى على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام :

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٨)

وقال على لسان هود عليه‌السلام :

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ). (٧٩)

وقال على لسان محمد عليه الصلاة والسّلام :

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). (٨٠)

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً). (٨١)

وحذر الله سبحانه من الامتناع عن تعليم ما أنزله من الكتب بدون مقابل ، ومن جعل كتابه وسيلة للحصول على الكسب الرخيص فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).

(سورة البقرة : ١٧٤ ـ ١٧٥)

ووفر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التعليم لأصحابه بدون مقابل وذلك حين جعل فداء الرجل من أسرى بدر ـ إذا كان متعلما القراءة والكتابة ـ أن يعلم عشرة من أبناء الأنصار ، بدون أن يطالب أولياءهم بشيء.

وهذا ما جعل العلماء يحرصون على نشر العلم ، لا يبتغون بذلك أجرا إلا من

الله. وكان أحدهم يعمل في التجارة أو الزراعة أو في إحدى الحرف لينفق على نفسه وعياله ، ويقنع بالقليل من الكسب ، ثم يجلس إلى طلاب العلم ، يعلمهم مما علمه الله وهو يرى نفسه يقوم بأعظم القربات.

ولم يكونوا يعدون الذين يأخذون على العلم أجرا من العلماء ، إذ قالوا :

لا يكون العالم عالما حتى تكون فيه ثلاث خصال : لا يحتقر من دونه ، ولا يحسد من فوقه ولا يأخذ على العلم ثمنا (٨٢).

وكان العلماء يوصون بالتنزه عن جعل العلم وسيلة لشيء من الأغراض الدنيوية قال الإمام الشيخ بدر الدين ابن جماعة في بيان آداب العالم في نفسه :

(أن ينزه علمه عن جعله سلما يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو خدمة أو تقدم على أقرانه.

وكذلك ينزهه عن الطمع في رفق من طلبته بمال أو خدمة أو غيرهما بسبب اشتغالهم عليه وترددهم إليه) (٨٣).

وكان الخلفاء والأمراء يخصصون لطلاب العلم ما يكفيهم من النفقات عن يحي ابن أبي كثير قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن أجروا على طلبة العلم الرزق وفرغوهم للطلب (٨٤)

وكان الأغنياء يوقفون لطلاب العلم المعاهد التي يتعلمون فيها والمهاجع التي يبيتون فيها ، ويقدمون لهم الطعام واللباس وكل ما يحتاجون إليه. ولا تزال بقايا تلك المعاهد ماثلة في كثير من المدن الإسلامية حتى الآن.

أما الأجور التي كان يتقاضاها المعلمون في الكتاتيب من أولياء الأولاد الذين يتعلمون فيها فلا تتناقض مع مبدأ مجانية التعليم ؛ لأن المعلمين كانوا يأخذون أجرة مقابل قيامهم بعمل محدد هو تعليم الولد ، وكانوا ينقطعون للتربية والتعليم ، ولا يشتغلون بغير ذلك.

قال محمد بن سحنون : (لا بأس أن يستأجر الرجل المعلم على أن يعلم أولاده القرآن بأجرة معلومة إلى أجل معلوم ، أو كل شهر ، وكذلك نصف القرآن أو ربعه أو ما سميا منه).

وقال أيضا : (ولا بأس بالرجل يستأجر الرجل أن يعلم ولده الخط والهجاء وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفادي بالرجل يعلم الخط) (٨٥).

وكانت تلك الأجور يسيرة لا ترهق أحدا من الناس. وكان المعلمون لا يطالبون

الفقراء واليتامى بشيء. وكان يساوون بين أبناء الأشراف والفقراء في التعليم ، قال الإمام سحنون : (يجب العدل في التعليم ، ولا يفضل فيه بعضهم على بعض ولو تفاضلوا في الجعل (٨٦) أي في الأجرة التي يدفعونها.

وهكذا كان كثير من الشيوخ والمعلمين يحرصون على نشر العلم بدون أجر ، وكان بعضهم لا يرى بأسا في قبول أعطيات من الولاة أو الحصول على أجور زهيدة من التلاميذ ، أو الاستفادة مما تدره المزارع والمحلات الموقوفة للمعلمين وطلبة العلم.

وقد بعث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ـ يزيد بن أبي مالك والحارث بن أبي محمد إلى البادية ليعلما الناس السنة ، وأجرى عليهما الرزق ، فقبل يزيد ، ولم يقبل الحارث وقال : (ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجرا) فذكر ذلك لعمر فقال : (ما نعلم بما صنع يزيد بأسا ، وأكثر الله فينا مثل الحارث) (٨٧).

مجانية التعليم في بلاد الغرب :

على الرغم من تقرير مجانية التعليم عند المسلمين ، فإن بلاد الغرب لم تعمل بهذا المبدأ حتى القرن التاسع عشر :

ففي الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن أي مدرسة مجانية حتى ١٨٠٥ ، حيث نظمت" جمعية المدارس الحرة" التي سميت فيما بعد جمعية المدارس الشعبية بزعامة عمدة مدينة نيويورك مدرسة مجانية. وكان الهدف منها فتح أبواب التعليم المجاني لأبناء الفقراء الذين لم يوفقوا في الالتحاق بمدارس الكنيسة الموجودة. ولم تستقر فكرة المدارس المجانية فيها حتى صدر قانون سنة ١٨٦٧ بالغاء دفع أجور التعليم في المدارس العامة. ولم يتم هذا في بعص الولايات (٨٨).

وفي ألمانيا جعل التعليم اجباريا سنة ١٧٦٣ وعدلت قوانين المدارس البروسية سنة ١٨٢٥ ، ١٨٥١ ، ١٨٧٢ لتنص على زيادة مساهمة الحكومات المركزية في مساعدة المدارس وإلغاء دفع الآباء أجورا على التعليم.

وفي فرنسا جعل التعليم مجانا سنة ١٨٨١ وبعد ذلك بسنة جعل إجباريا (٨٩).

وبذلك يتضح سبق الإسلام إلى مبدأ الزامية التعليم ومجانيته ، وكان ذلك في عصر غلبت فيه الأمية على الناس ، وكان العلم قاصرا على الأمراء والوجهاء فلما دخل الناس في هذا الدين أقبلوا على العلم ينهلون من معينه بدون تمييز بين شريف وحقير وغني وفقير ؛ مما أدى إلى تلك النهضة العلمية الرائعة التي نفخر بها على مر الزمن.

٧ ـ خطوات الدرس

رأينا أن السمع والبصر والعقل وسائل أساسية في الحصول على المعرفة وإذا ما رشحت المعرفة إلى العقل عن طريق الحواس كلها فإنها تستقر فيه أكثر من أن ترشح إليه عن طريق حاسة واحدة وما يتلقاه المرء بسمعه وبصره معا فإنه يرسخ في عقله أكثر مما يتلقاه بالسمع أو البصر وحده.

ولقد وضع المربون والعلماء خطوات للدرس الذي يتعلمه الطالب وللمعرفة التي يحصل عليها. فإذا ما أراد استنتاج القانون الذي ينظم بعض الظواهر الطبيعة ، وليكن قانون تمدد الأشياء بالحرارة مثلا ، فإن ذلك يبدأ بملاحظة أشياء متنوعة في درجات حرارة مختلفة ، كملاحظة انحناء أسلاك الكهرباء بين عامودين ، وأن الانحناء يكون في الصيف أشد من الشتاء فإذا ما انتبه إلى هذه الملاحظة ، ووضع فرضية أن الحرارة هي السبب في التمدد ، فإنه يجب أن يتأكد منها بالتجربة. وعندئد يدخل المخبر ليخضع أجساما عديدة صلبة ومائعة وغازية للحرارة ، ويتأكد من تمددها ، ثم يتحكم في ظروف التجربة ، فيثبت العوامل المختلفة ، ويقيس ما يطرأ على عامل واحد متغير فيتوصل إلى حساب عامل التمدد في كل مادة وبذلك يتأكد من صحة فرضيته ، ويستنتج القانون العلمي.

وبعد ذلك يأتي التطبيق العملي لهذا القانون ؛ فالسكك الحديدية التي تسير عليها القطارات يجب أن تكون طليقة في إحدى نهاياتها ، وأن تترك فواصل بين أجزائها ، لتتمدد بدون أن تتقوس. والجسور الكبيرة يجب أن يراعى عند بنائها إمكان تمددها بدون أن تتصدع.

ويمكن حساب ما يناسب ذلك بكل دقة. وهكذا تكون الخطوات. الملاحظة والفرضية ثم التجربة والقياس ، واستنتاج القانون وهو المعرفة المراد الحصول عليها. ثم التطبيق العملي.

وقد تدل التجربة على خطأ فرضيته ، فيضع فرضية أخرى ، ثم يجري التجارب عليها. وقد تدل التجربة على تأثير عوامل مختلفة على الظاهرة التي يدرسها ، فيضطر إلى الكشف عنها ؛ ففي مثالنا السابق يؤثر الضغط في حجم الأجسام كما تؤثر الحرارة ، لكن زيادة الضغط تؤدي إلى تقلص الحجم ، بينما يؤدي ارتفاع الحرارة إلى تمدده.

وقد تشذ بعض العناصر عن القانون العلمي ؛ فالماء حين تنخفض حرارته فإن حجمه ينقص بحسب القانون العام. ولكنه حين يتجمد يزداد حجمه ، على عكس المائعات التي يقل حجمها حين تتجمد. ولهذا فإن الجليد يطفو على سطح الماء ، فإذا ما تجمدت البحار ، فإن الماء في أعماقها يبقى محتفظا بحرارته التي تسمح ببقاء الكائنات البحرية حية فيه.

وإذا ما ارتفعت الحرارة في الصيف ذاب الجليد. ولو لا ذلك لترسب الجليد في القاع ، ولما حصل على الحرارة التي تميعه ثانية.

خطوات الدرس النظري :

وإذا ما أردنا تعليم الطلاب درسا نظريا ، فأول خطوة هي التمهيد ، لينتبه الطلاب ، ويدركوا أهمية الدرس ، ويرغبوا فيه ، فيصبحوا مصغين إليه مستعدين لفهمه. قال الله تعالى :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٩٠)

لما كان المشركون لا يرغبون في الاستماع للقرآن ، وكانوا يحاولون صرف الناس عنه برفع أصواتهم باللغط من القول ، ووصف الله محاولتهم هذه بقوله :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). (٩١)

لما كانوا غير مهيئين لسماع القرآن ، فقد تنزلت بعض السور مبتدئة بألفاظ لم يكونوا يبدؤون كلامهم بها وهي الحروف المتقطعة ، مما لفت انتباههم ، وجعلهم يعجبون من أسلوبه ، ويستمعون إلى آياته.

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمهد للمسألة ، ويقربها من فهم السامع ، ويجعله في حالة مناسبة لتقبل حكمها قبل أن يبينه له ، بل كان يجعله يستنتج الحكم بنفسه.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابيا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، وإني أنكرته

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لك من إبل؟ قال : نعم.

قال : فما ألوانها؟ قال : حمر

قال : هل فيها من أورق (٩٢)؟ قال : إن فيها لورقا.

قال : فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال : يا رسول الله عرق نزعها.

قال : ولعل هذا عرق نزعه. ولم يرخص له في الانتفاء منه (٩٣).

والخطوة الثانية هي عرض أفكار الدرس بشكل متسلسل بحيث ينتقل مما تتقبله العقول بالبداهة إلى ما يحتاج إلى نظر وبرهان. ومن المقدمة إلى النتيجة.

وينبغي على المدرس أن لا يسرد الكلام سردا بل يتمهل فيه ويكرره ، ليسهل فهمه واستيعابه.

وقد روي أن كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فصلا ، يفهمه من سمعه وأنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :

«ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل ، يحفظه من جلس إليه (٩٤)»

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :

«كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه» (٩٥)

وينبغي أن يكون صوت المدرس مناسبا ، فلا يرفعه زيادة على الحاجة ، ولا يخفضه خفضا يمنع طلابه من كمال الفهم فإن حضر ثقيل السمع ، فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه. ويشير إلى اعتدال الصوت قوله تعالى :

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٩٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (٩٧)

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«إن الله يحب الصوت الخفيض ، ويبغض الصوت الرفيع» (٩٨)

وقد ذكر مربونا الكبار أن المدرس يجب أن يكون مرتاحا نشيطا على أحسن حال حين الدرس ، وأن مجلس الدرس يجب أن يكون مناسبا أيضا قال الشيخ عبد الباسط العلموي وهو يستعرض آداب المدرس :

(ومن الآداب أن لا يدرس وبه ما يزعجه ويذهب استحضاره كمرض أو جوع أو عطش أو مدافعة حدث ، أو شدة فرح أو غم أو غضب أو نعاس أو قلق ، ولا في حالة برده المؤلم وحره المزعج فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب ، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر. ولا يكون في مجلسه ما يؤذي الحاضرين ، بل يكون واسعا مصونا من الحر والبرد والريح والغبار والدخان ونحو ذلك) (٩٩)

(وأن يصون مجلسه عن اللغط وعن رفع الأصوات وسوء الأدب في المباحثة واختلاف جهات البحث .. وليزجر من تعدى في بحثه وظهر منه سوء أدب أو كدر (١٠٠).

أو ترك انصاف بعد ظهور الحق ، أو أكثر الصياح بغير فائدة ، أو أساء أدبه على غيره. أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه ، أو نام ، أو تحدث مع غيره ، أو ضحك ، أو استهزأ بأحد) (١٠١)

وكتابة الدرس أو أفكاره الأساسية تساعد على حفظه والرجوع اليه في كل حين وقد أقسم الله تعالى بالقلم وما يكتب به ، وفي هذا تنيبه إلى ضرورة الإمساك بالقلم وتعلم الكتابة وتقييد العلم. قال سبحانه :

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). (١٠٢)

ووردت أثار وأخبار تدل على فضل كتابه العلم :

فعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيدوا العلم بالكتابة» (١٠٣).

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (١٠٣).

وعن عطاء عن عبد الله بن عمرو قلت : (يا رسول الله : أأقيد العلم؟

قال : قيد العلم. قال عطاء : وما تقييد العلم؟ قال : الكتاب» (١٠٣).

وعن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكلم في الرضا والغضب! فأمسكت عن الكتاب ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأومأ باصبعه إلى فيه وقال : «اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق (١٠٣).

وبعد فتح مكة خطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهلها. فجاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول الله. فقال : " اكتبوا لأبي فلان" فكتبت له تلك الخطبة (١٠٣).

وعن معاوية بن قرة قال : (من لم يكتب العلم فلا تعدوه عالما) (١٠٣)

وعن أبي زرعة قال : سمعت أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يقولان :

(كل من لا يكتب العلم لا يؤمن عليه الغلط) (١٠٣).

وأما ما ورد من كراهية كتابة العلم! فذلك كما يقول ابن عبد البر لوجهين :

أحدهما أن لا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهى به.

وثانيهما لئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ ، فيقل الحفظ كما قال الخليل :

ليس بعلم ما حوى القمطر (١٠٥)

ما العلم إلا ما حواه الصدر (١٠٦).

وطول الدرس يجب أن يكون معتدلا ، فلا يطول بحيث يؤدي إلى الملل والضجر ولا يقصر بحيث لا يتسع له. قال الشيخ بدر الدين ابن جماعة :

(وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلا يمل ، ولا يقصره تقصيرا يخل. ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين في الفائدة في التطويل) (١٠٧).

وطرق التدريس تختلف من مادة إلى أخرى. وقد ذكرنا في الفصل القادم أهم الطرق التي يشير إليها القرآن والسنة. ولا بد من الاستفادة من الكتب التي تبين أصول التدريس في كل مادة. ويتوقف نجاح المدرس على اختيار الطريقة المناسبة لدرسه.

والخطوة الثالثة هي مذاكرة الدرس : وذلك لحث الطلاب على الانتباه والفهم ، والتمييز بين الذكي منهم ومتوسط الذكاء ، وإعادة ما يحتاج من الدرس إلى شرح ، وتفهيم من لم يفهم. وآخر الدرس هو المناسب لمذاكرته وطرح أسئلة تتعلق به. ويمكن طرح مثل هذه الأسئلة في بدء الدرس للوقوف على معلومات الطلاب السابقة ، وفي أثناء الدرس لجعلهم يتابعونه ، وينتبهون إلى كل فكرة فيه. كما يمكن ذلك في وقت آخر ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطرح المسألة على أصحابه ، ليختبر ما عندهم من العلم ، فعن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم. حدثوني ما هي؟ قال : فوقع الناس في شجر البوادي.

قال عبد الله : فوقع في نفسي إنها النخلة. ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله قال : هي النخلة» (١٠٨)

ووجه شبه النخلة بالمسلم أن بركتها موجودة في جميع أجزائها ، ومستمرة في جميع أحوالها. فمن حين تطلع إلى أن تيبس ، تؤكل أنواعا. ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها ، حتى النوى في علف الدواب. ويصنع منها الليف والحبال وكذا بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته (١٠٩).

وعن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«يا أبن المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟

قال : قلت : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...).

قال : فضرب في صدري وقال : ليهنك العلم أبا المنذر» (١١٠)

وعن معاذ بن جبل قال : كنت ردف (١١١) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

«هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.

أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : حق الناس على الله أن لا يعذبهم.

قال : قلت : يا رسول الله! ألا أبشر الناس؟ قال : دعهم يعملون (١١٢)».

وقد نص كبار المربين على فائدة مذاكرة العلم. قال الشيخان العلموي المتوفى بدمشق سنة ٩٨١ ه‍. وبدر الدين محمد بن ابراهيم بن سعد الله بن جماعة المتوفى سنة ٧٣٣ ه‍.

«ينبغي على المعلم أن يطالب تلاميذه بإعادة محفوظاتهم ، فمن وجده حافظا مراعيا لمحفوظاته ومهماته وقواعده أثنى عليه وأشاع ذلك ، ومن وجده مقصرا عنفه وأعاده له ليحفظه حفظا راسخا ... وينبغي أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائل ، ويختبر بذلك أفهامهم .. وإذا فرغ من شرح درس فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة ، وإعادة ذكر ما أشكل منه ليمتحن بذلك فهمهم وضبطهم لما شرحه لهم. فمن ظهر استحكام فهمه شكره ، ومن لم يفهم تلطف في إعادته. وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافعة في الدروس ، وإعادة ما وقع من التقرير بعد فراغه ليثبت في أذهانهم» (١١٣).

وبعد ذلك يجب على الطلاب أن يراجعوا دروسهم ويذاكروها من حين إلى آخر حتى لا ينسوها. قال الشيخان العلموي وابن جماعة :

«ويجب على المتعلم أن يذاكر من يرافقه من مواظبي مجلس الشيخ بما وقع فيه من الأدب والفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك ، ويعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم. وينبغي الإسراع بها بعد القيام من المجلس قبل تفرق الأذهان وتشتت الخواطر.

قال بعض الحكماء : من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينس ما علمه».

وقال الشاعر :

إذا لم يذاكر ذو العلم بعلمه

ولم يستفد علما نسي ما تعلما

فكم جامع للكتب في كل مذهب يزيد

مع الأيام في جمعه عمى (١١٤)

وقال السيد محمد هاشم الندوي ناشر كتاب تذكرة السامع والمتكلم :

«ويذاكر طالب العلم بمحفوظاته من يشتغل بالفن الذي يحفظ ، سواء كان مثله في المرتبة أو فوقه أو تحته. فإن بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويزداد بحسب كثرة المذاكرة.

ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أيام» (١١٥)

والليل هو الوقت المناسب لمذاكرة العلم ، فذلك يثبت العلم في الذهن ، ولا يمحوه شيء مما يطرأ بعده في وقت اليقظة. قال الشيخ العلموي : «وأجود الأوقات للمذاكرة الليل. وكان جماعة يبتدئون من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا آذان الصبح ، فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه ، فيعلق ذلك بخاطره إذا كرره ، فإن تكرار المعنى على القلب بتكرار اللفظ على اللسان.

ويجب على التلميذ أن يذاكر بمحفوظاته ويديم الفكر فيها ، ويعتني بما يحصل فيها من الفوائد ، ويقسم أوقات ليله ونهاره ويغتنم ما بقي من عمره. وأجود الأوقات للحفظ الأسحار ، وللبحث الأبكار ، وللكتابة وسط النهار ، وللمطالعة والمذاكرة الليل» (١١٦).

وقال الخطيب : «أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة. وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار. ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع» (١١٦)

ولا يستحسن الخروج إلى الطرقات والبساتين للحفظ ، فهذا يشتت الذهن. قال الشيخ العلموي : «وأجود أماكن الحفظ الغرف ، وكل موضع بعيد عن الملهيات. وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق وضجيج الأصوات ، لأنها تمنع من خلو القلب غالبا» (١١٦).

والخطوة الرابعة في التعلم هي العلم بالعلم ، وتعليمه لمن يجهله. فالعمل يثبت العلم ، ويمكن صاحبه من تعلم المزيد. والعلم يزكو بالإنفاق. ولا بد من العمل بالعلم قبل نشره وتعليمه. ولقد أحسن أبو الأسود الدؤلي في قوله :

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وأبدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك تقبل إن وعظت ويقتدى

بالقول منك وينفع التعليم

تصف الدواء لذي السقام من الضنا

كيما يصح به وأنت سقيم

وأراك تلقح بالرشاد عقولنا

نصحا وأنت من الرشاد عديم (١١٧)

وقد ذكر علماؤنا هذه الخطوات في التعلم. فقال فضيل بن عياض وابن المبارك ومحمد بن النضر الحارثي : «أول العلم الإنصات والاستماع ، ثم الفهم والحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر (١١٧).

وقال الأصمعي : (أول العلم الصمت ، والثاني الاستماع ، والثالث الحفظ ، والرابع العمل ، والخامس نشره) (١١٨).

وأنشد الشيخ قوام الدين حماد بن ابراهيم بن اسماعيل الغفاري الأنصاري لشيخه القاضي الخليل بن أحمد السجزي الحنفي في بيان طريقة التعلم :

أخدم العلم خدمة المستفيد

وأدم درسه بفعل جهيد

وإذا ما حفظت شيئا أعده

ثم أكده غاية التأكيد

ثم عقله (١١٩) كي تعود إليه

وإلى درسه على التأبيد

وإذا ما أمنت منه فواتا

فانتدب بعده لشيء جديد (١٢٠)

مع تكرار ما تقدم منه

واقتناء لشأن هذا المزيد

ذاكر الناس بالعلوم لتحي

لا تكن من أولي النهى ببعيد

إن كتمت العلوم أنسيت حتى

لا ترى غير جاهل وبليد

ثم ألجمت في القيامة نارا

وتلهبت في العذاب الشديد (١٢١)

وهكذا كان لمربينا فضل السبق على هربارت الذي وضع أربع خطوات لاكتساب المعرفة ، وزاد فيها اتباعه فجعلوه خمسا هي :

المقدمة ، والعرض والمقارنة والتجريد ، والتعميم ، والتطبيق (١٢٢).

هوامش الفصل الرابع

__________________

(١) سورة النحل : ٧٨

(٢) سورة البلد : ٨ ـ ١٠

(٣) أخلاط ، أي ماء الرجل وماء المرأة المختلطين.

(٤) نختبره

(٥) سورة الإنسان : ٢ ـ ٣

(٦) طهرها من الذنوب.

(٧) أي خسر من لطخها بالمعصية. والآيات في سورة الشمس : ٧ ـ ١٠

(٨) رواه ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية. وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا. ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعا. ورواه البخاري معلقا بلفظ : " ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وإنما العلم بالتعلم."

(٩) أخرجه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث معاذ. منقطع ورجاله ثقات

(١٠) احياء علوم الدين ج ٣ ص ٥٥ ـ ٥٦.

(١١) أي يتعاهدنا

(١٢) الملل

(١٣) ، (١٤) أخرجه مسلم رقم ٨٢ ـ (٢٨٢١) ، ٨٣ ـ (...) والترمذي في كتاب الأدب.

(١٥) ،

(١٦) آداب المعلمين لمحمد بن سحنون ص ١٠٦ ، ١٤٧.

(١٧) المعيد في أدب المفيد والمستفيد للشيخ العلموي ص ٥٢.

(١٨) مقدمة ابن خلدون ص : ٦٢٦.

(١٩) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٣٠ ، ١٣٤.

(٢٠) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١٦٦ ، ٢٢٨ ، ٢٥٦.

(٢١) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٢٧٤ ، ٢٨١ ، ٢٩٦ ، ٣٣٠.

(٢٢) سورة الإسراء : ٨٢

(٢٣) المفصل : السور التي تكثر فواصلها من سورة ق إلى آخر المصحف.

(٢٤) أي رجع.

(٢٥) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن رقم ٤٩٩٣.

(٢٦) سورة النحل : ٦٧

__________________

(٢٧) الميسر : القمار. والآية في سورة البقرة : ٢١٩

(٢٨) سورة النساء : ٤٣

(٢٩) لم يقمها : لم يقرأها كما ينبغي بل خلط فيها. انظر أسباب النزول للواحدي ص : ٤٤ ، ١٠١ ـ ١٠٢.

(٣٠) حجارة كانوا يذبحون قرا بينهم عندها.

(٣١) عيدان ملساء كانوا يلعبون بها الميسر ، فتحدد الرابح والخاسر ومقدار الريح والخسارة بحسب ما عليها من كتابة.

(٣٢) سورة المائدة : ٩٠ ـ ٩١

(٣٣) الحش : البستان

(٣٤) رواه مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، والواحدي في أسباب النزول ص ١٣٨.

(٣٥) الفضيخ : شراب يتخذ من البسر من غير أن تمسه النار والبسر : التمر قبل أن ينضج

(٣٦) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٩٣.

(٣٧) احياء علوم الدين ج ١ ص ٥٢.

(٣٨) المقدمة لابن خلدون ص ٦٢٤ ـ ٦٢٥.

(٣٩) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٣٨٥.

(٤٠) رواه أبو داود من حديث عائشة ، وأبو بكر بن الشخير من حديث عمر.

(٤١) رواه البخاري وابن عبد البر موقوفا على علي. ورفعه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم.

(٤٢) رواه العقيلي في الضعفاء ، وابن السني ، وأبو نعيم في الرياء من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف. ومسلم في مقدمة صحيحه وابن عبد البر موقوفا على ابن مسعود.

(٤٣) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله

(٤٤) رواه ابن عبد البر وابن ماجة وقال : ضعيف

(٤٥) احياء علوم الدين ج ٣ ص ٦١.

(٤٦) المعيد في أدب المفيد والمستفيد للعلموي ص : ٤٩ ، ٥٢. وانظر تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة ص : ٥٥ ـ ٥٧.

(٤٧) لا تتبع

__________________

(٤٨) سورة الإسراء : ٣٦.

(٤٩) احياء علوم الدين ج ٣ ص ٣

(٥٠) تعليم المتعلم للزرنوجي ص ١٩

(٥١) خلقنا

(٥٢) سورة الأعراف ١٧٩

(٥٣) سورة البقرة : ١٧١

(٥٤) سورة الأنفال : ٢٢

(٥٥) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم : ٣١

(٥٦) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو : ١٣٣ ، ١٥٠.

(٥٧) تاريخ التربية ، عبد الله عبد الدائم : ٢٣٥ ، ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٥٨) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ص ١٦٤.

(٥٩) تاريخ التربية ، عبد الله عبد الدائم : ٢٣٥ ، ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٦٠) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ص ٣١٤.

(٦١) سورة البقرة : ١٥٩ ـ ١٦٠

(٦٢) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى والبيهقي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي : حديث حسن.

(٦٣) رواه الطبراني في الكبير عن بكير بن معروف عن علقمة. ونقلناه عن الترغيب والترهيب للحافظ المنذري ج ١ ص ٧٤ ـ ٧٥.

(٦٤) رواه البخاري والترمذي وأحمد وأبو داود عن علي رضي الله عنه.

(٦٥) رواه الترمذي ٢ / ١٠٩ وابن عبد البر عن زيد بن ثابت وابن مسعود ، والجملة الأخيرة رواها البخاري من حديث أبي بكرة رقم ١٧٤١.

(٦٦) رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية ، وابن عبد البر عن معاوية وابن عمر.

(٦٧) أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس وقال : متنه مشهور وأسانيده ضعيفة.

(٦٨) رواه ابن ماجه والبيهقي وابن عدي من حديث أنس ، ورواه الطبراني عن ابن عباس وابن مسعود. قال المناوي : أسانيده ضعيفة ، ولكن تقوى بكثرة طرقه.

(٦٩) رواه ابن عبد البر ـ مختصر جامع بيان العلم وفضله ص : ١٠٧ ـ ١١٤

(٧٠) مختصر جامع بيان العلم وفضله ص ١١٤.

(٧١) ،

(٧٢) ،

(٧٣) مختصر جامع بيان العلم وفضله (ص : ٢٠٥ ـ ٢٠٨ ، ١١٦ ـ ١١٧).

__________________

(٧٤) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص : ٧٤ ، ٩٩ ـ ١٠٠ ، ١٣٩

(٧٥) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص : ٧٤ ، ٩٩ ـ ١٠٠ ، ١٣٩

(٧٦) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١٧٣ ـ ١٧٤ ، ٢٣٠ ، تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص ٣٣٨

(٧٧) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٤١١ ، ٤٣٣ ، ٤٣٧.

(٧٨) سورة الشعراء : (١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠)

(٧٩) سورة هود : ٥١

(٨٠) سورة سبأ : ٤٧

(٨١) سورة الفرقان : ٥٧

(٨٢) العقد الفريد لابن عبد ربه ـ اختيار الدكتور محمد يوسف زايد ق ص ٨٧

(٨٣) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة ص ١٩.

(٨٤) مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص : ٨٨

(٨٥) ،

(٨٦) آداب المعلمين لابن سحنون ص ١٢٩ ـ ١٣٠ ، ٤٩.

(٨٧) تذكر السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم حاشية ص ١٩ ، نقلا عن سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص ١٦٧.

(٨٨) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٤٣٠ ، ٤٤١.

(٨٩) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٤٣٣ ـ ٤٣٥.

(٩٠) سورة الأعراف : ٢٠٤

(٩١) سورة فصلت : ٢٦

(٩٢) الأورق : ما كان أبيض مائلا إلى السواد

(٩٣) رواه البخاري برقم ٧٣١٤.

(٩٤) رواه البخاري برقم ٣٥٦٨ والترمذي.

(٩٥) رواه الترمذي

(٩٦) سورة الإسراء : ١١٠

(٩٧) سورة الحجرات : ٢

(٩٨) رواه الخطيب في الجامع.

(٩٩) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص ٣٩ ، ٤١ ، والمعيد في أدب المفيد والمستفيد للعلموي ص ٥٥ ـ ٥٦.

(١٠٠) خصومة شديدة

(١٠١) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص ٣٩ ، ٤١ ، والمعيد في أدب المفيد والمستفيد للعلموي ص ٥٥ ـ ٥٦.

__________________

(١٠٢) سورة القلم : ١ ـ ٢

(١٠٣) رواه ابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم وفضله ص : ٣٦ ـ ٣٨ ، ١٠٩ وانظر المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٧٥ ـ ٧٦.

(١٠٤) رواه البخاري في كتاب العلم برقم ١١٢ وابن عبد البر عن أبي هريرة

(١٠٥) القمطر : ما يصان فيه الكتب.

(١٠٦) مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص ٣٤.

(١٠٧) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص ٣٨ ، وانظر المعيد في أدب المفيد والمستفيد : ٥٥.

(١٠٨) رواه البخاري في كتاب العلم رقم ٦٢ ومسلم وابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم : ٥٩

(١٠٩) فتح الباري لابن حجر ج ١ ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(١١٠) رواه مسلم وأبو داود وابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم : ١٠٩ ـ ١١٠ والآية هي آية الكرسي : سورة البقرة : ٢٥٥.

(١١١) الردف : الذي يركب خلف الراكب.

(١١٢) رواه ابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم : ٥٩

(١١٣) ،

(١١٤) المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٥١ ، ٧٩ وتذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ص ٥٣ ـ ٥٤ ، ١٤٣ ـ ١٤٥.

(١١٥) تذكرة السامع والمتكلم ، حاشية ص ٤١

(١١٦) المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٧٤ ـ ٧٥ ، ٧٩.

(١١٧) يروى هذا الشعر للعزرمي أيضا : مختصر جامع بيان العلم وفضله : ص ٩٣ ـ ٩٤ ، ٥٩.

(١١٨) العقد الفريد لابن عبد ربه ـ اختيار د. محمد زايد ق ١ ص ٨٦.

(١١٩) أي اكتبه

(١٢٠) أي تعلم درسا جديدا بعد اتقان ما تعلمته ورسوخه في ذهنك.

(١٢١) تعليم المتعلم للزرنوجي : ١٨ ، والمعيد في أدب المفيد والمستفيد : ٨

(١٢٢) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم : ٤٠٧.

الفصل الخامس

طرق وأساليب التربية

يمكننا التأثير على الإنسان وجعله يتقبل التربية المرغوبة ويستجيب لها بتغيير قناعته وآرائه ، وذلك بمخاطبة عقله ، أو بتوجيه انفعالاته وإثارة عواطفه ، وبتكوين عادات حسنة عنده. ولذلك يجب أن تتنوع أساليب التربية ، فتكون عقلية علمية ، تعتمد على طريقة العقل في المحاكمة والإدراك وتقبل المعلومات ، فتقدم له الدليل ، وتجعله يستنتج النتيجة ، وتضعه في بداية الطريق ليصل إلى الغاية. وتكون أيضا عاطفية ، تثير كوامن النفس ، وتشبع رغباتها وأشواقها ، وتستفيد من نزعتي الخوف والرجاء لديها ، فتعتمد على الترغيب والترهيب. وتكون كذلك بوضعه أمام بعض الأبطال والعظماء من الناس ، ليرقب حركاتهم ويلاحظ سلوكهم ويرى أخلاقهم ؛ فيعمل على مضاهاتهم والاقتداء بهم.

ولا ينبغي أن تقتصر التربية على الجانب النظري. بل يجب أن تكون تربية عملية ، تسعى لجعل الإنسان يقوم بالأعمال الصالحة ، ويستفيد من كل العلوم التي حصل عليها ، ويغير عاداته وطريقته في الحياة لتتفق مع ما هو حق وفضيلة. والتربية العملية أسهل من التربية النظرية وأشد تأثيرا.

وهناك أساليب كثيرة لتحقيق هذه التربية الشاملة للعقل والجسم والنفس والروح بجانبها النظري والعملي ، نجملها في التربية بالموعظة والإرشاد ، والتربية بالقصة والحوار ، والتربية بالتشبيه وضرب الأمثال ، والتربية بالعمل والعادة والقدوة واللعب ، وبالترغيب والترهيب (١)

١ ـ التربية بالوعظ والإرشاد

إن الوعظ هو الأسلوب المباشر الصريح في التربية. ومن السهل الاعتماد على هذا الأسلوب ؛ فما على المربي إلا أن يتوجه بالمواعظ والنصائح إلى من يريد ، ويطلب منه الامتثال لها ، والانصياع لأوامره ونواهيه.

وخير مثال على ذلك من كتاب الله ما جاء في موعظة لقمان الحكيم لابنه ، وهو ينهاه عن الشرك بالله ، ويبين له علمه الشامل لكل شيء ، ويأمره بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويأمره بالصبر وينهاه عن الكبر. قال الله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). (٢)

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ (٣) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً (٤) إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ (٥) وَاغْضُضْ (٦) مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). (٧)

ومن التأمل في هذه الموعظة الغالية نجد أنها تتعلق بالعقيدة والعبادة والأخلاق وهي واضحة لا غموض فيها ، ومقبولة للنفس السوية ، ولا يجد أحد مسوغا لردها.

ومن ذلك ما جاء في دعوة هود ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، إذ خاطبهم بقوله :

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). (٨)

وهكذا ذكرهم بفضل الله عليهم وأمرهم بطاعته وتقوى الله ، وخوفهم من العذاب ولكنهم أصروا على الكفر ، فكان مصيرهم الهلاك :

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ (٩) الْأَوَّلِينَ ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٠)

ومثال ذلك من السنة الشريفة حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» (١١).

وهكذا جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر أساسا في التربية وقاعدة للدعوة إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور.

لكن الإسراف في هذا الأسلوب من التربية قد يجعله مملا ممقوتا ، ويؤدي إلى الإعراض والنفور ، ولذا يجب الاقتصاد فيه ، وملاحظة النتائج المترتبة عليه.

* * *

٢ ـ التربية بالقصة

تعتبر القصة من أكثر أساليب التربية فعالية وأقواها أثرا وهي وسيلة مشوقة للصغار والكبار ، تحدث أثرها في النفس وهي تشعر بالمتعة وتجعل الإنسان ينجذب إليها ، وينتبه إلى كل أحداثها ؛ فلا يشرد بذهنه عمن يربيه. فإذا صدرت القصة عن الحكيم الخبير العليم ببواطن النفس وما يصحلها ، آتت ثمارها يانعة ، وحققت المرجو منها على أكمل وجه. ولهذا كثر الاعتماد على القصة في القرآن الكريم ، وكانت قصصه طويلة حينا وقصيرة أحيانا ، وهي دائما في القمة من حيث البلاغة والصور البيانية ، ومن الناحية الأدبية والفنية ، وبالنظر إلى مغزاها وآثارها التربوية :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ). (١٢)

واختار مثالا على ذلك قصة يوسف عليه‌السلام لشهرتها ، ولأنها مذكورة في موضع واحد ، هو السورة المسماة باسم هذا النبي الكريم ومعظم آيات السورة في بيان وقائع القصة وعبرها.

بدأت القصة بذكر رؤيا ، رآها يوسف في نومه وهو طفل صغير ، وأخبر بها أباه ففهم تعبيرها ، وبشره بما سينعم الله به عليه من العلم والفضل ، ونهاه عن إخبار إخوته بها لئلا يسيئوا إليه :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). (١٣)

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً (١٤) إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ (١٥) رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ (١٦) وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ (١٧) إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (١٨)

ولعل يوسف كان يستأثر بقلب أبيه ، ولعل أباه كان يغمره بفيض حنانه لصغره ونجابته. ولعله زاد في تكريمه بعد تلك الرؤيا ؛ مما أوغر صدور إخوته عليه ، وجعلهم يمكرون به ، ويصممون على قتله أو تعريضه للهلاك بطرحه في أرض خالية مجهولة :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ

وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ (١٩) إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ (٢٠) وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ). (٢١)

لكن أحد اخوته تحركت في نفسه نوازع الرحمة والشفقه عليه ، فنهاهم عن قتله وأشار إلى وسيلة لإبعاده عنهم والتخلص منه :

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ (٢٢) يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ (٢٣) إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٢٤)

وتم اتفاقهم على هذه المكيدة ، وشرعوا يدبرون وقوعها ، فانطلقوا يستأذنون أباهم ليرسله معهم ، ويغرونه بإرساله ، ويعدونه بأن يكونوا أمناء عليه حافظين له :

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ. قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (٢٥)

ولعلهم ازدادوا تصميما على فعلتهم الشنيعة بعد أن سمعوا جواب الأب بأنه يحزن لبعده عنه ولو لم يصبه مكروه ، وأنه يتخوف عليه كل أذى.

وبعد أن واروه في البئر راحو إلى أبيهم متباكين ، يزعمون أنه حدث ما كان يحذره. وجاؤوا بما حسبوه علامة على صدقهم.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (٢٦)

ومع أن الأب أدرك كذبهم ، وعلم أنه لم يكن هناك لعب ولا سباق ولا ذئب ، مع ذلك لم يقابلهم بغير الصبر والاستعانة بالله :

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ (٢٧) لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ). (٢٦)

وبذلك تنتهي المرحلة الأولى من حياة يوسف ، وقد تعلمنا منها وجوب العدل بين الأبناء ، ورأينا نتيجة الحسد والغيرة بين الأقران. وأصبحنا في شوق لمعرفة تتمة القصة ، ونحن نتمنى السلامة لذلك الطفل البريء الذي غدر به الذين كان من واجبهم أن يحفظوه ويعطفوا عليه.

النجاه والتكريم :

لم تغفل عين الله لحظة عن الطفل ، إذ أوحى إليه ما يثبته ويشعره بالأمن ، وأرسل له من أخرجه من ذلك المكان المظلم العميق ، ونقله إلى بيت يجد فيه التكريم والنعيم :

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ (٢٨) فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ (٢٩). دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ (٣٠) عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣١)

محنة يوسف في القصر :

نشأ يوسف نشأة حسنة ، وظهر عليه ما يدل على علمه وذكائه ، بالإضافة إلى حسنه وجماله ؛ مما جعل سيدة القصر تفتن به ، وتحاول أن تغويه بنفسها ، لكنه قاوم كل الإغراء وصرف الله عنه السوء والفحشاء :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ (٣٣) لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ (٣٣) إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ). (٣٤)

ولم يكن امتناعه بسبب خوف أو عجز ، فهي التي طلبت منه صراحة بعد أن فشلت في محاولات الإغراء المقنعة ، وقد هيأت المخدع الآمن ، وأوصدت الأبواب ، وكشفت له عن شهوتها المستعرة. ومن الذي يمتنع عن تلبية دوافعه في ذلك الحين ، ومن يستطيع أن يتحكم في مشاعره ويضبط غريزته حينئذ؟

إنه لا يفعل ذلك إلا من عصمه الله ، وكان تقيا نقيا.

وهكذا يجب أن تصور القصة مشهد العفة والطهر ، وأن تمجد الفضيلة والشرف وأن تربي الناس على صون الأعراض والتحلي بالمكارم.

وبينما كانت تجذبه إليها وتشده ليقع عليها ، وكان يحاول التفلت منها والبعد عنها ، طرق الباب ، وجاءه المخلص ، فاتجه سريعا نحوه ، وقامت لتسبقه إليه ، إذ لم يبق مجال لفعل ما همت به ، وشقت قميصه وهي تتعلق به.

ووجدها زوجها متلبسة بفعلتها الشنيعة ، فسارعت إلى إلقاء التهمة على يوسف ، واقتراح العقاب المناسب له ، وهو عقاب لا خطر منه على حياته ، فهي ترغب في بقائه حيا ، لعلها تظفر بما تطلبه منه.

وتكلم يوسف بكلام صريح لا تلثعم فيه ، فقال : " هي راودتني عن نفسي" إذ لا تنفع التورية في رد التهمة ، وقيض الله حكما من ذويها يقول :

إن كان قميصه شق من الأمام فهي الصادقة ، لأنها تكون قد دفعته وهو يطلبها وإن كان قميصه شق من الخلف فهي الكاذبة ، لأنها تكون قد شدته وهو يفر منها.

وحين تبين صدق يوسف ، وظهرت براءته ، فإن الزوج لم يغضب على المرأة التي أرادت أن تدنس عرضه وتلطخ شرفه ، بل اكتفى بالعتاب الرقيق واللوم الخفيف ، وطلب من يوسف أن يعرض عن تلك المسألة ، ولا يبوح بها. وهذا يدل على ما كان عليه ذلك المجتمع من الميوعة والتحلل ويضفي مزيدا من الإجلال والإكبار لمن حافظ على الطهارة والعفة فيه :

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ (٣٥) قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها (٣٦) لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٣٧)

وما أسرع ما تنتشر مثل هذه الأخبار بين الناس ، وما أكثر ما يجعلونها أحاديث للتسلية والفكاهة ، وقد تضاعف اهتمامهم بها لأن المرأة لم تكن من عوام النساء ، بل كانت ذات مكانة مرموقة ، لأنها زوج أمير مصر. ولم تخجل السيدة الجليلة من تلك الأقاويل ، بل جمعت لداتها من النساء ، وقدمت لهن الفاكهة والمأكولات التي تحتاج إلى التقطيع بالسكين

وناولت كل واحدة سكينا ، ونادته ليخرج عليهن. فلما رأينه هالهن حسنه وأذهلهن بهاؤه ، فقطعن أيديهن ولم يشعرن ، وانطلقت منهن عبارات الإعجاب والثناء عليه. وحينئذ بينت أنه هو الذي دخل شغاف قلبها ، وأعلنت أنها ستأمر بسجنه وإهانته ما لم يستجب لها ، صراحة بلا مواربة ولا حياء.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ (٣٨) ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ (٣٩) وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ). (٤٠)

وقاوم يوسف الوعيد كما قاوم الإغراء ولم يؤثر فيه التهديد كما لم يؤثر فيه الترغيب. وما أقل النفوس التي تحافظ على استقامتها وصلاحها رغم كل هذا وذاك!

وفضل السجن على الانزلاق في حمأة الرذيلة ، والتجأ إلى الله ليثبته ويعينه :

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ (٤١) إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ (٤٢) لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٤٣)

وبذلك انتهت المرحلة الثانية من القصة. وأبرز ما فيها التمجيد بالشرف والعفة ، وإكبار من يتعالى على وسائل الترف والمدنية الزائفة ، ويترفع على دافع الشهوة ونزعة الغريزة.

يوسف السجين : الضيق والفرج

أودع يوسف السجن ظلما ، بدلا من عقاب السيدة التي دبرت له تلك المكيدة ولكن المجتمعات الفاسدة تعاقب البريء وتطلق المذنب ، وتضيق على التقي ، وتوسع على الفاجر ، ولعل الحكمة من سجنه أن يذوق مرارة العيش بعد أن ذاق حلاوته ، وأن يعاشر البؤساء بعد أن عاشر الأثرياء وبذلك يعتدل مزاجه ، ويعد للمهمة الكبيرة التي تنتظره ، ويصبح على علم بأحوال المظلومين الذين ينتظرون من ينصفهم.

ورأى السجناء صلاح يوسف وإحسانه ، فقص عليه اثنان منهم رؤيا رأياها ، ففسرها لهما بعد أن دعاهما إلى عبادة الله الواحد ، ونهاهما عن الشرك به :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ (٤٤) قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ (٤٥) إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ (٤٦) خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤٧)

وهكذا يجب على المؤمن أن يكون داعية إلى الإيمان بلسان حاله ولسان مقاله في كل حين ، ولا يدع فرصة تفوته دون أن يغتنمها في الدعوة إلى الهدى والرشاد.

ولم ينس يوسف أن يطلب من الذي سيطلق سراحه أن يذكر قصته عند الملك. فلم يتذكره حتى رأى الملك رؤيا طلب من خواصه أن يفسروها له ، فلم يعلموا تأويلها فتذكر الفتى يوسف ، وطلب من الملك أن يرسله إليه ليأتيه بتعبير رؤياه :

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ (٤٨) وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ (٤٩) وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً (٥٠) فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ (٥١) فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ (٥٢) يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). (٥٣)

وهكذا لم يكتف يوسف بتعبير الرؤيا التي تقرر مستقبل البلاد طيلة خمس عشرة سنة ، وإنما أشار بالطريقة التي تؤدي إلى حفظ الغلال الفائضة عن الحاجة في سنوات الخصب ، وليجدوها في سنوات القحط ، فبقاء الحبوب في السنابل يقيها من الحشرات والرطوبة ، ويمنع تسوسها وتعفنها.

وهذا ما جعل الملك يدرك فضله وعلمه ، ويأمر باخراجه من السجن. ولكن يوسف أبى أن يخرج حتى تظهر براءته ، ويقطع مقالة السوء فيه. وبعد أن حقق الملك في قضيته ، ووثق بنقاء سريرته جعله من خواصه.

وكلمه يوسف ليعهد إليه بالإشراف على الخزينة العامة ، فهو خير من يتولى ذلك لأمانته وعلمه بحفظ الأموال والغلال ، وهو أعدل من يقوم بتوزيعها على مستحقيها.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قالَ ما خَطْبُكُنَ (٥٤) إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ. قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ

قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ (٥٥) الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. (٥٦) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ (٥٧) مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٨)

وبذلك تنتهي المرحلة الثالثة من حياته ، مرحلة السجن والإهانة ، وقد احتملها بنفس أبية صابرة حتى خرج من السجن معززا مكرما. وأصبح أهلا ليتولى شؤون البلاد والعباد. ويوفر الغذاء للجائعين ، وينشر العدل بين المظلومين.

وطلبه الولاية لم يكن ليحقق مكاسب لنفسه ، ويستغل عمله كما يفعل الجشعون ، وإنما كان ليقوم بمهمة جسيمة لا يصلح لها غيره ، وليتمكن من دعوة الناس إلى الإيمان وهو حاكم مطاع ، يأتيه الناس ويصدرون عنه بما يصلح أرواحهم وأجسامهم وأبرز الآثار التربوية في هذه المرحلة أن يحتمل الإنسان الشدة ، وأن يصبر على البلاء ، فلا يجزع لضر يصيبه ، ولا يبطر لخير يناله. وأن يتصف بالحلم والأناة كما فعل يوسف حين دعي للملك ، وأن يحرص على شرفه أكثر مما يحرص على متاع الدنيا

يوسف العزيز : العفو والكرم

نرى يوسف ـ عليه‌السلام ـ في المرحلة الرابعة ، وهو يوزع الغلال على المعوزين خلال السنوات العجاف ، التي جعلت الناس يتوافدون عليه من كل حدب وصوب ليحصلوا على قوتهم. وحين أتاه إخوته عرفهم دون أن يعرفوه ، وأعطاهم ما جاؤوا لأجله ، ورد عليهم البضاعة التي قدموا بها ليجعلوها عوضا عما اشتروه. وطلب منهم أن يأتوه في المرة القادمة : بأخيهم الذي ضن أبوه عن إرساله معهم.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ، وَإِنَّا لَفاعِلُونَ. وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (٥٩)

ولكن الأب الذي لا زال حزينا على يوسف لم يستجب لطلبهم حتى أخذ عليهم ميثاقا غليظا أن يأتوه به ما لم يغلبوا على أمرهم ، وحتى أوصاهم بما يدفع عنهم العين والحسد ، وذكرهم بالله ، وأمرهم بالتوكل عليه :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ (٦٠) أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ. قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ. وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦١)

ولم يطلب يوسف شقيقه إلا ليخلصه من كيد إخوته ، وليشاركه فيما أنعم الله به عليه من الفضل. فلما دخل عليه ضمه إليه ، ودبر حيلة لا بقائه عنده.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِ نَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ (٦٢) فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ (٦٣) إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. قالُوا : وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ. قالُوا : نَفْقِدُ صُواعَ (٦٣) الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٦٤). قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ. قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا (٦٥) لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). (٦٦)

فقد جعل المكيال في رحل أخيه دون أن يشعروا به ، ووجه إليهم تهمة السرقة ، وأعلن عن جائزة حمولة ناقة لمن جاء به. وقابلوا التهمة بإنكار البريء ، وأعلنوا عن استعدادهم لتسليم السارق ، وجعله عبدا لصاحب الشيء المسروق كما تقضي شريعتهم ولم يكن هذا الحكم في شريعة الملك. فأمر بتفتيش متاعهم وتم العثور على المكيال ، وانطلت عليهم الحيلة.

ولم يستطيعوا أن يخفوا استياءهم منه ومن أخيه من قبل حين وجهوا إليه التهمة. وحاولوا دون جدوى أن يبدلوه بواحد منهم. وأصر كبيرهم على البقاء حيث أخوه ، وأمرهم بالرجوع إلى أبيهم ليخبروه :

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ. قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ : مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ

قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ). (٦٧)

وأنى يصدق الشيخ الضعيف أقوال الذين حالوا بينه وبين أحب أولاده إليه ، بل إن فقد ابنه الثاني ذكره بفقد أخيه من قبل ، وتضاعف حزنه حتى أظلمت الدنيا في عينيه ، فقد بصره. ومع ذلك لم ييأس من رحمة الله. وها هو يطلب من بنيه محاولة البحث عن يوسف وأخيه :

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا (٦٨) تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً (٦٩) أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٧٠).

وها هم يأتون بقلوب منكسرة ، ويعرفون أخاهم ، ويعترفون بفضله عليهم ثم يرجعون إلى أبيهم حاملين معهم البشرى التي ردت إليه بصره ، ويطلبون منه العفو والاستغفار :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ (٧١) فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ. قالُوا : أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ (٧٢) اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ. قالَ لا تَثْرِيبَ (٧٣) عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٧٤). قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قالُوا : يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (٧٥)

ويتجلى في هذه المرحلة خلق العفو عن المسيء والصفح عن المخطئ ، كما يتجلى فيها معنى الإحسان والكرم ، وعاقبة الصبر والاستعانة بالله.

أما كيف شم يعقوب ريح يوسف منذ انفصال القافلة عن أرض مصر ، وقبل وصول البشير الحامل لقميصه ، وكيف ارتد بصيرا لما ألقاه على وجهه؟

فهذا من القضايا النفسية والمسائل الروحية التي يحدث ما يماثلها لكثير من الناس فضلا عن الأنبياء والصديقين. ولا يهمنا أن نثبته للماديين الذي ينكرون وجود ما لا يرونه.

اللقاء والختام :

تصور المرحلة الأخيرة من القصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين استقبل والديه ، وكرمهما بالجلوس على العرش ؛ فقابلاه هما وإخوته بالاحترام والتعظيم. كما تصوره وهو يشكر الله الذي أحسن إليه وإلى أهله ، ويسأله أن يحسن خاتمته ويلحقه بالصالحين :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ : ادْخُلُوا مِصْرَ

إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ (٧٦) الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). (٧٧)

ثم يسدل الستار ويبقى البطل متربعا على عرش العفة والفضيلة والجود والإباء والحلم والصبر والتواضع والشكر ويصبح المشاهدون واثقين بأن العسر يليه اليسر ، وأن الضيق يعقبه الفرج ، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين ، ولا يخيب أمل المتوكلين عليه.

وبانتهاء القصة تتحقق رؤيا يوسف التي رآها في صباه ؛ فالشمس والقمر رمز لأمه (*) وأبيه ، والكواكب الإحدى عشرة رمز لإخوته. كما تحققت من قبل رؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا الملك.

وليس كل ما يراه النائم من هذا القبيل ، فمن الأحلام ما يكون أثرا للماضي الذي عاينه الرائي ، ومنها ما يكون ناتجا عن حالته الجسدية والنفسية ، ومنها ما يعبر عن آماله وتطلعاته. ولا يتمكن غير العلماء من تأويل الأحلام وحل رموزها.

وإن تلقي مثل هذه القصة عن رجل أمي ، لم يكن هو ولا قومه على علم بها ، لدليل عى أنها وحي أنزله الله إليه.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ. (٧٨)

وإن العقلاء والحكماء ليستنبطون العبر من قصص الأنبياء ، ويجعلونها وسيلة من وسائل التربية وهداية الناس إلى الحق والفضيلة :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩)

من قصص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

حديث الغار

لم يغفل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جعل القصة وسيلة من وسائل التربية.

ولقد اخترت من قصصه هذه القصة الطريفة لصحتها وأثرها التربوي الرائع :

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم إذ أصابهم مطر ، فأووا إلى غار ، فانطبق عليهم. فقال بعضهم لبعض : إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق ؛ فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه (٨٠).

فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق (٨١) من أرز ، فذهب وتركه ، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته ، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا. وأنه أتاني يطلب أجره ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فسقها. فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز. فقلت له : اعمد إلى تلك البقر ، فإنها من ذلك الفرق ، فساقها ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. فانساخت (٨٢) عنهم الصخرة.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عنهما ليلة ، فجئت وقد رقدا ، وأهلي وعيالي يتضاغون (٨٣) من الجوع. وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما ، وكرهت أن أدعهما ، فيستكنا لشربتهما (٨٤) فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. فانساخت عنه الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي ، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن أتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت ، فأتيتها بها فدفعتها إليها ، فأمكنتني من نفسها. فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقمت وتركت المائة الدينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. ففرج الله عنهم فخرجوا» (٨٥)

وفي الحديث فضل حفظ حق العامل ، وفضل بر الوالدين وخدمتهما وإيثارهما

على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما. وفيه فضل العفة والكف عن الحرام والتقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل. وفيه دلالة على أن ترك المعصية من خشية الله يمحو مقدمات طلبها ، وأن التوبة تجب ما قبلها. وفيه فضل أداء الأمانة ، وإثبات الكرامة للصالحين (٨٦).

ولقد استغل بعض الوعاظ والدعاة رغبة الناس في القصص ، فأصبحوا يكثرون من سردها دون النظر إلى الآثار التربوية التي تنتج عنها وقد يكون لقصصهم آثار سلبية ، حين لا تتفق مع الواقع والحقائق العلمية ولا تكون صحيحة. وذلك يجعل المعتادين لسماع هذا النوع من القصص يتقبلون كل ما يصدر عن الواعظ كأنه معصوم دون أن يكون لهم قدرة على المحاكمة والنقد والتمييز بين الغث والسمين. وكأن المتعة وزيادة التلاميذ هي المقصود من تلك القصص دون العبر التي تدل عليها. بل قد تدل بعض القصص على معاني لا تتفق مع أصول الدين وأحكامه الشرعية ، وتنسب مع ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبا وزورا مع أنه حذر من الكذب عليه بقوله

«من كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار». (٨٧)

* * *

٣ ـ أسلوب الجدل والحوار

يعتمد هذا الأسلوب في التربية على مقابلة الرأي بالرأي ومقارعة الحجة بالحجة بقصد تغيير رأي المعارض ، وجعله يقتنع بما نراه من الحقائق.

ومع أنه قلما تخلو قصة في القرآن الكريم من ذكر الحوار بين أشخاصها حتى يخيل إلى القارئ أنه ينظر إلى أحداث القصة تقع أمام عينيه ، ويستمع إلى أشخاصها وهم يتحاورون ويتجادلون ؛ مما يعطيها صفة الحيوية ، ويجعلها أكثر متعة وأشد تأثيرا على النفس ، مع ذلك فإن الجدل والحوار يعتبر أسلوبا متميزا من أساليب التربية ونراه بارزا في كثير من آي الذكر الحكيم.

ولقد ندد الله سبحانه بمن يجادل بدون الاعتماد على الحقائق والأدلة الصحيحة ، فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٨٨)

وبين أن من يدفع الحق ويرفض الحقيقة هو متكبر مضل ، ومصيره الذل والعذاب

(ثانِيَ عِطْفِهِ (٨٩) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ). (٩٠)

وهو متبع للشيطان ، يجري وراء الأوهام :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ). (٩١)

ونهى الله أن يؤدي الجدال إلى الشحناء والبغضاء ، وأمر أن يكون بالحسنى ، وبقصد الهداية وقبول الحق :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٩٢).

والجدال بالتي هي أحسن يكون بالدعوة إلى ما التزمنا به دون تفريق بيننا وبين من نخاطبه :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (٩٣)

ومن المجادلة بالتي هي أحسن ما جاء في دعوة نوح ـ عليه‌السلام ـ قومه إلى عبادة الله وحده ، ورده على اعتراضاتهم. قال تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا (٩٤) بادِيَ الرَّأْيِ (٩٥) وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. قالَ يا قَوْمِ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها (٩٦) وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ. وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي (٩٧) أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قالُوا : يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٩٨)

ومنها ما جرى بين ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ وبين ملك متجبر كفر بالله وجعل لنفسه الحق في الحكم على الناس بالموت أو الحياة. فطلب منه ابراهيم أن يغير شيئا في سنن الكون ؛ فيجعل الشمس تطلع من الغرب ، فأصبح مبهوتا مذهولا لا يجد ما يرد به عليه :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قالَ إِبْراهِيمُ : فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ (٩٩) الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٠)

وكذلك دعا ابراهيم قومه إلى عبادة الله وحده ، ونهاهم عن عبادة أصنام لا يوجد دليل على عبادتها ، ولا شيء يجعل الإنسان يخاف منها.

فالله القادر هو الذي يجب أن يخافه الناس إذا أشركوا به ، وأن يطمئنوا إذا عبدوه :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ، قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً (١٠١) فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا (١٠٢) إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٠٣)

ومن ذلك الحوار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وفرعون الطاغية :

(قالَ فِرْعَوْنُ : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟

قال : رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين.

قال لمن حوله : ألا تستمعون؟

قال : ربكم ورب آبائكم الأولين.

قال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.

قال : رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون.

قال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين. (١٠٤)

وتهديد العتاة بالسجن والتعذيب في مثل هذا الموقف ما هو إلا عجز عن الرد وهزيمة أمام الحق الذي يجب أن يتبع.

وأحيانا تروى القصة بكاملها بأسلوب الحوار ، كقصة صاحب الجنتين الكافر مع الفقير المؤمن الذي حذره من الكبر والكفر ومن الغرور بالمال والعشيرة ، وخوفه من سوء العاقبة ؛ فاستمر في ضلاله وعناده حتى وقعت الكارثة ، ولم تغن عنه عشيرته شيئا.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها (١٠٥)

وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ، وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً. (١٠٦) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (١٠٧) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً. لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً (١٠٨) مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (١٠٩) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها (١١٠) وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً. هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً). (١١١)

وكذلك كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد إلى أسلوب الحوار والجدل في دحض الآراء الباطلة وجعل من يخاطبه يقبل بالحكم الشرعي : فقد جاءته امرأة فقالت إن أمي نذرت أن تحج ، فماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها؟

قال : نعم ، حجي عنها. أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟

قالت : نعم

قال : فاقضوا الذي له فإن الله أحق بالوفاء (١١٢)

وأتاه شاب فقال : يا محمد! ائذن لي في الزنى.

فأقبل عليه القوم فزجروه وقالوا : صه صه

فقال : ادنه

فدنا منه قريبا فجلس

قال : أتحبه لأمك؟

قال : لا والله ، جعلني الله فداك.

قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. أفتحبه لابنتك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك

قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك.

قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم. أتحبه لعمتك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك

قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم. أتحبه لخالتك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك

قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم.

ثم وضع يده عليه وقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه فلم يكن الفتى يلتفت بعد ذلك إلى شيء (١١٣).

أما إذا أدى الجدال إلى العناد والشقاق فهو حينئذ مذموم :

عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

«من ترك الكذب وهو باطل بني له قصر في ربض الجنة (١١٤) ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها. ومن حسن خلقه بني له في أعلاها (١١٥)».

وعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وترك الكذب وإن كان مازحا ، وحسن خلقه (١١٦)).

والجدال الذي يؤدي إلى الزيغ والضلال ونشر البدع منهي عنه :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ : «بل هم قوم خصمون» (١١٧).

وقال أبو عمر ، ابن عبد البر : (تناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد لأنه يؤدي إلى الانسلاخ من الدين) (١١٨).

٤ ـ أسلوب التشبيه وضرب الأمثال

يؤدي تشبيه المعاني الذهنية المجردة بالأشياء الحسية الملموسة إلى وضوحها ، ويؤدي ضرب الأمثال إلى تقريب الأفكار من العقل وجعلها مفهومة ، كما يؤدي التشبيه والتمثيل إلى إدراك المعنى وتكوين صورة له في المخيلة ؛ ويكون التأثر بتلك الصورة أشد وأقوى فعالية من الأفكار المجردة ، بالإضافة إلى ما في التصوير والتشخيص الحي من الإثارة والمتعة ، مما يطرد السأم عن المتعلم ، ويجعله متقد الذهن حاضر القلب.

ولذلك كثر الاعتماد على هذا الأسلوب في القرآن الكريم حتى ضربت فيه الأمثال بكثير من الأشياء الصغيرة وبعض الحشرات الحقيرة. قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ). (١١٩)

ومن ذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ شبه ضلال المشركين وضعف أوليائهم الذين يلجؤون إليهم من دون الله بالأنسجة التي تنسجها العناكب لقنص فريستها. فقال :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ (١٢٠) الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). (١٢١)

فالمشركون الذين يلتجؤون إلى غير الله كالذبابة التي علقت ببيت العنكبوت. وحبائل الشيطان التي أضلت هؤلاء المشركين ، ووسائل أوليائهم التي أدت إلى غوايتهم شبيهة بتلك الشبكة التي علقت بها الذبابة. وأولياء المشركين كالعنكبوت الذي يمتص دم فريسته. وأولئك الأولياء ووسائلهم في ضعف العنكبوت وبيته. وفي هذا المثل ما يكفي للتنفير من عبادة غير الله عزوجل.

ومنه تشبيه الأصنام والآلهة التي يعبدها المشركون بالذباب الضعيف الحقير :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). (١٢٢)

فأول صفات الله التي تجعله مستحقا للعبادة القدرة على الخلق. وكل ما عبد من دونه عاجز عن خلق حشرة حقيرة كالذباب. بل إن الأصنام التي يعبدها المشركون عاجزة عن استرداد ما قدم لها من الطعام إذا سلب منه الذباب شيئا. وسواء أكان الطالب هو الصنم والمطلوب هو الذباب ، أم كان الطالب هو المشرك والمطلوب هو الصنم ؛ لأن الجميع ضعاف ، والله هو القوي الخالق لكل شيء والمستحق للعبادة.

وأخبر الله عن عدم قبول أعمال الكافرين بقوله :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ). (١٢٣)

فكما أن الريح الشديدة والعاصفة القوية تبعثر الرماد ، ولا تبقى منه شيئا فإن أعمال الكافرين تبدد فتصبح هباء منثورا ، ولا ينفعهم شيء مما عملوه وكسبوه لأنهم لم يريدوا به وجه الله.

كما أخبر ـ سبحانه ـ عن هذا المعنى بقوله :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ (١٢٤) يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ (١٢٥) ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ .. أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ (١٢٦) يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١٢٧)

وإن الذهن حين يدرك هاتين الآيتين ليتخيل صورة مسافر في الصحراء تحت أشعة الشمس المحرقة ، وقد انقطع عن الماء ، وأشرف على الهلاك من الظمأ. وإذ به يتراءى له عن بعد ما يظنه ماء ، فيحاول الوصول إليه بما بقي لديه من جهد. ومهما اشتد في سيره يراه بعيدا أمامه ، حتى إذا تضيفت الشمس للغروب ، أو شاهد علامة في تلك الأرض المستوية ، فوصل إليها ، علم أنه كان يجري وراء سراب خادع ، وانقطعت أنفاسه.

ويتخيل صورة راكب سفينة في خضم بحر عميق متلاطم الأمواج ، وقد تراكم عليه الضباب وغشيته الظلمات ، فلم يعد يرى مسافة ذراع عنه ، ولم يدر كيف يتجه فأيقن بالهلاك.

وفي هذا ما يجعل كل عاقل يؤمن بالله ، ويخلص في عمله لوجهه الكريم.

وشبه الله المنافقين في ضلالهم وحيرتهم بعد أن عرفوا الإسلام بمن أوقد نارا ، فلما سطع ضوؤها ، وأبصر ما حوله انطفأت ، فأصبح في ظلام دامس. وهم في خوفهم مما يحيط بهم شبيهون بالذين أصابهم إعصار فيه نار وانقضت عليهم الصواعق وسط ظلام شديد ، فصاروا يجعلون أصابعهم في آذانهم ، ويحاولون أن يمشوا على ضوء البرق الذي يخطف الأبصار ، وأصبحوا كمن فقد سمعه وبصره :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ (١٢٨) مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (١٢٩)

وشبه الله ـ تعالى ـ مضاعفته ثواب الذين ينفقون أموالهم في سبيله بالحبة التي أنبتت سنابل كثيرة في كل منها حبات عديدة ، (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). (١٣٠)

كما شبه ذلك بالجنة الطيبة الهواء التي تؤتي ثمارها مضاعفة حين ينزل عليها الماء. قال سبحانه وتعالى :

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ (١٣١) وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (١٣٢)

وكذلك كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد على هذا الأسلوب في توضيح المعاني وتقريب الأفكار إلى عقول السامعين. ومن ذلك قوله :

«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها نقية (١٣٣) قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب (١٣٤) الكثير. وكان منها أجادب (١٣٥) أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان (١٣٦) لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين اله ، ونفعه الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (١٣٧)».

فقد ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه ، وكذا كان حال الناس قبل مبعثهم ، وكما أن الغيث يحي البلد الميت ، فكذا علوم الدين تحي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض التي ينزل فيها الغيث : فمنهم العالم العامل المعلم ، فهو بمنزلة الأرض الطيبة التي شربت الماء فانتفعت في نفسها ، وأنبتت فنفعت غيرها ، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه ، غير أنه لم يعمل بنوافله ، أو لم يتفقه فيما جمع ، لكنه أداه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء ، فينتفع الناس به ، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ، ولا ينقله لغيره ، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.

وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما ، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم (١٣٨).

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحث على تلاوة كتاب الله :

«مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ، ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة ، لا ريح لها ، وطعمها حلو.

ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مر.

ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة ، لا ريح لها ، وطعمها مر» (١٣٩) ومن ذلك تصويره للتعاون والتناصر بين المؤمنين بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وشبك بين أصابعه» (١٤٠)

فكما أن البناء تتماسك أجزاؤه ، ويصبح كيانا واحدا ، لا يمكن فصل بعضه عن بعض ، فكذلك المؤمنون في اتحادهم وتعاونهم وتناصرهم. ولم يكتف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا البيان الرائع ، وإنما أضاف إليه التشبيك بين أصابعه ليدل على أن المؤمنين يشد بعضهم بعضا. والتمثيل بالحركات أوقع في النفس من الكلام المجرد.

ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام :

«ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (١٤١).

فالمؤمنون يرحم بعضهم بعضا ، ويعطف بعضهم على بعض ، ويتوادون فيما بينهم ، فيصبحون كجسم واحد ، إن أصيب عضو منه بألم تألم له سائر الأعضاء.

٥ ـ التربية بالعمل والعادة

يعد القيام بالعمل النافع أثرا من آثار التربية وغاية مرغوبا فيها. ولا قيمة لفكرة نظرية ما لم تؤد إلى نتيجة عملية. ولذلك كان من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن دعاء لا يسمع ، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ...» (١٤٢)

وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا أصبح :

«اللهم إني أسالك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا» (١٤٣)

ويدل على أهمية العمل وعدم جدوى الأفكار النظرية ما لم تكن مصحوبة به اقتران العمل الصالح بالإيمان في كثير من آيات الذكر الحكيم :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). (١٤٤)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا (١٤٥) إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (١٤٦)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى (١٤٧) لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (١٤٨) ولا يحصل طالب العلم على الثواب والأجر حتى يعمل بعلمه :

عن عبد الرحمن بن غنم قال : حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا :

كنا نتدارس العلم في مسجد قبا إذ خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال

«تعلموا ما شئتم أن تعلموا ، فلن يأجركم الله حتى تعملوا» (١٤٩).

ولا يرسخ العلم إلا بالعمل ، ولا يسمى عالما بحق من لم يعمل بعلمه :

عن علي رضي الله عنه قال : «يا حملة العلم! اعملوا به ، فإنما العالم من علم ثم عمل ، ووافق علمه عمله. وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف عملهم علمهم ، يقعدون حلقا فيباهي بعضهم بعضا ، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه. أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عزوجل» (١٥٠).

ولا يتأثر الناس بقول العالم إلا إذا عمل بعلمه :

قال مالك بن دينار : (العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلب كما يزل الماء عن الصفا) (١٥١).

والعمل يمكن المرء من تعلم المزيد : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» (١٥٢).

ويبقى التعلم النظري باهتا ضعيف الأثر حتى يقترن بالتدريب العملي. فلتعلم قيادة السيارة مثلا لا يكفي أن تتعلم كيف تدير المحرك ، وكيف تجعلها تسير ، وكيف تغير السرعة ، ثم كيف توقف السيارة وتطفئ محركها نظريا ؛ بل لا بد من محاولة ذلك وتكراره عمليا لساعات طويلة حتى تكتسب المهارة المطلوبة.

ولقد اعتمد هذا الدين على التربية بالعمل من أول الدعوة ، فكان الواحد من الصحابة حين يعتنق الإسلام ، يدفعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من يعلمه ما نزل من القرآن الكريم ، فيتعلم عشر آيات ، ويقول لمن يعلمه : دعني حتى أذهب وأعمل بهذه الآيات ، ثم أعود فأتعلم غيرها.

عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن).

وقال أبو عبد الرحمن السلمي : (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا) (١٥٣).

وهكذا تلقوا القرآن بالعلم والعمل.

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أصحابه أحكام الدين بطريقة عملية كلما كانت هذه الطريقة هي الأجدى في تعليمها :

فلتعليمهم الوضوء لم يجلسهم أمامه ويكلمهم عن أركانه وسننه وآدابه وشروطه وإنما توضأ أمامهم ، وأمرهم بأن يتوضؤوا مثله ؛ وأصبحوا هم يعلمون غيرهم الوضوء بهذه الطريقة العملية البسيطة".

عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء (١٥٤) فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كل رجل ثلاثا ، ثم قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال

«من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» (١٥٥).

ولم تختلف طريقة تعليم الغسل عن ذلك :

قال أبو سلمة : (دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة ، فسألها أخوها عن غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فدعت بإناء نحو من صاع فاغتسلت ، وأفاضت على رأسها ، وبيننا وبينها حجاب) (١٥٦).

وعائشة ـ رضي الله عنه ـ هي خالة أبي سلمة من الرضاع ، أرضعته أختها أم كلثوم ، وقد اغتسلت أمامهما بعد أن سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه وظاهر الحديث أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل نظره للمحرم.

والحديث يدل بشكل واضح على أن التربية العملية هي الطريقة المفضلة في التربية كلما كانت ميسورة. وقد قال الإمام ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث : «وفي فعل عائشة دلالة على استحباب التعليم بالفعل ، لأنه أوقع في النفس. ولما كان السؤال محتملا للكيفية والكمية ثبت لهما ما يدل على الأمرين معا : أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء ، وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع (١٥٧).

وكذلك علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه الصلاة بأن صلى أمامهم وقال لهم :

«صلوا كما رأيتموني أصلي» (١٥٨).

وكان أصحابه يعلمون التابعين الصلاة بهذه الطريقة :

حدثنا أيوب عن أبي قلابة قال : جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال إني لأصلي بكم ، وما أريد الصلاة ، أصلي كيف رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي. فقلت لأبي قلابة : كيف كان يصلي؟ قال : مثل شيخنا هذا (١٥٩). والشيخ هو عمرو بن سلمة.

وحج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه ، وهم يقومون بما يقوم به من الأعمال. وقال لهم بعد أن علمهم الحج بالطريقة العملية ، حين رمي الجمرة :

«خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه. (١٦٠) وهكذا نجد الاعتماد على العمل في التربية بشكل واضح ملموس في هذا المنهج. وقد احترم الإسلام العلم وكرم العمال ، بينما كان" أرسطو" ينظر إلى كل ما ينزع إلى فائدة عملية ومادية نظرة ازدراء ، ويرى فيه عبودية لا تليق بالإنسان ، ولم يعرض سوى الدراسات الفكرية التي تهدف إلى السمو بالروح وتزويدها بالأفكار الرفيعة (١٦١).

وبذلك كان للمنهج الإسلامي في التربية فضل السبق على" لوثر" الذي نادى بأن تكون التربية العملية والعمل في إحدى المهن إلى جانب التربية النظرية ، ورأى أن يرسل الفتيان إلى المدرسة ساعة أو ساعتين في اليوم ، وأن يعلموا مهنة في البيت فيما تبقى من الوقت (١٦٢) وعلى" كومنيوس" الذي أطلق عليه بعضهم لقب المبشر الأول بالتربية الحديثة ، وامتازت طريقته بالعناية بالتمرينات العملية ، ورأى أن لا يكرر الدرس ويعاد على نحو آلي حتى يحفظ عن ظهر قلب ، بل أن يعتاد الطالب العمل المثمر والجهد الشخصي ؛ وقد قال في هذا المعنى : (إن أصحاب الحرف يعرفون هذه الحقيقة تمام المعرفة ، فليس بينهم من يقدم للمبتدئ دروسا نظرية عن مهنته ، بل تراهم يدعونه يتأمل ما يفعله المعلم ، ثم يضعون الآلات بين يديه ، ويعلمونه استخدامها. وبطرق الحديد يصبح المرء حدادا) (١٦٢)

كما كان له هذا الفضل على" لوك" المربي الإنكليزي الذي أراد أن يعلم تلميذه مهنة من المهن كالنجارة أو الزراعة ليهيء عن طريق هذا العمل الجسدي سلوى للفكر وفرصة للراحة والاسترخاء ، ويقدم للجسد تمرينا مفيدا ، ووجه عام ١٦٩٧ تقريرا إلى الحكومة الإنكليزية دعا فيه الى تنظيم بيوتات العمل للأطفال او الفقراء الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة والرابعة عشر ، حيث يعملون ويقدم لهم الغذاء (١٦٢).

وعلى" روسو" الذي قال في القرن الثامن عشر : إني لا أمل تكرار تلك الحقيقة ، وهي : إن جميع دروس الأطفال يجب أن تكون بطريق العمل لا بطريق الألفاظ ، لا تعلمهم شيئا من الكتب يمكن أن يتعلموه بطريق الخبرة (١٦٣).

وعلى" فروبل" الذي قال في القرن التاسع عشر : (إن الوقت قد حان لأن نرفع أي عمل إلى منزلة النشاط الحر ، أي نجعله عملا يدل على الذكاء. وبذلك يصبح للعمل الإنشائي في المدرسة غرض أعظم وأعمق من مجرد التدريب الحسي أو نمو المهارة أو التمرين الجسمي أو التلقين بطريقة آلية أو اكتساب المهنة أو الحرفة ، بل يصبح أبرز صورة للتعبير عن الأفكار ، وأوضح طريقة لتكوين العادات أو تشكيل الأخلاق) (١٦٣)

وحين يكرر الإنسان الأعمال التي تعلمها مرات عديدة تصبح عادة متأصلة في نفسه. والإنسان يخضع لعادات كثيرة في حياته ، يقوم بها تلقائيا دون أن يعيرها كبير انتباه. ولذلك يحرص المربون على تكوين العادات الحسنة وترك العادات السيئة ولقد نظم الإسلام حياة الناس تنظيما شاملا ، سواء في شعائرهم التعبدية أو في شؤونهم اليومية ، فجعلهم يعتادون البدء بالجانب الأيمن من أعضائهم في كل أمر حسن

ففي الوضوء يسن غسل اليد والرجل اليمنى قبل اليسرى ، وفي الغسل يسن صب الماء على الجانب الأيمن من الجسم قبل الأيسر ، وحين تمشيط شعر الرأس أو حلقه يستحب البدء بشقه الأيمن ، وحين لبس الثوب يستحب إدخال اليد اليمنى في الكم قبل اليسرى ، وكذلك إدخال الرجل اليمنى في السراويل أو الجوربين والحذاء قبل الأخرى. وعلى العكس حين النزع يستحب البدء باليسرى ، وحين دخول المسجد تقدم الرجل اليمنى ، بينما تقدم الرجل اليسرى حين الخروج منه أو دخول الخلاء. والمسلم يستعمل يده اليمنى لتناول الطعام والشراب والمضمضة والاستنشاق ، وللمصافحة والآخذ والعطاء والكتابة ، ويستعمل اليسرى لإزالة الأقذار كالاستنثار والاستنجاء.

قال الإمام النووي : «يستحب أن يبتدئ في لبس الثوب والنعل والسراويل وشبههما باليمنى من كميه ورجلي السراويل ، ويخلع الأيسر ثم الأيمن وكذلك الاكتحال والسواك وتقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط وحلق الرأس والسّلام من الصلاة ودخول المسجد والخروج من الخلاء ، والوضوء والغسل والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود ، وأخذ الحاجة من الإنسان ودفعها إليه وما أشبه ذلك ، فكله يفعله باليمنى وضده باليسار».

وقال أيضا : «قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمنى في كل ما كان من باب التكريم والتزين. وما كان بضدهما استحب فيه التياسر (١٦٤).

والأصل في هذه الأحكام ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله (١٦٥) وطهوره في شأنه كله (١٦٦)».

وعنها قالت : «كانت يد رسول الله اليمنى لطهوره وطعامه. وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان به من أذى (١٦٧)».

كان ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يربي أصحابه على هذه العادات الحسنة والآداب الرفيعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«إذا لبستم وإذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم (١٦٨)».

وعن عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنهما ـ قال :

(كنت غلاما في حجر (١٦٩) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصفحة (١٧٠) فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا غلام! سم الله وكل بيمينك ، وكل مما يليك» فما زالت تلك طعمتي (١٧١) بعد» (١٧٢).

٦ ـ التربية بالقدوة الحسنة

يميل الإنسان إلى تقليد الكبار والعظماء والاقتداء بهم. والتربية بالقدوة ذات أثر كبير في النفس يفوق أثر الكلام الجميل المنمق وقد اعتمد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الطريقة في التربية ، ففي الحديبية أمر أصحابه بالتحلل من الإحرام بعد أن تم الصلح بينه وبين المشركين على أن يرجع المسلمون في ذلك العام ، ثم يؤدون العمرة في العام الذي يليه ، ولكن الصحابة كانوا في غاية الشوق إلى البيت الحرام والطواف بالكعبة المشرفة ، فصعب عليهم أن يرجعوا بدون زيارته ، وقد أصبحوا على مشارف مكة المكرمة ؛ فامتنعوا عن التحلل من الإحرام رجاء أن يغير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيه. ودخل ـ عليه الصلاة والسّلام ـ على أم سلمة رضي الله عنها ، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت : يا نبي الله! اخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك (١٧٣) وتحلق شعرك. فخرج ونحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه. وما إن رأوا ذلك حتى أيقنوا أن الأمر لا رجعة فيه ، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا (١٧٤).

ولذا يجب على الآباء والمربين أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم وتلاميذهم. فهؤلاء يمليون إلى محاكاتهم وينطبعون بطباعهم ، ويتأثرون بأخلاقهم وصفاتهم أكثر من تأثرهم بما يسمعونه منهم من النصائح والدروس.

وقد أدرك مربونا أهمية هذه الطريقة في التربية ، وأوصوا بالاعتماد عليها ؛ فقال عمرو بن عتبة لمعلم ولده : (ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك ، فإن عيونهم معقودة بعينك ، فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت. علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ، ولا تتركهم منه فيهجروه. وروهم من الحديث أشرفه ومن الشعر أعفه. ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه ، فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم. وعلمهم سنن الحكماء ، وجنبهم محادثة النساء ولا تتكل على عذر مني لك ، فقد اتكلت على كفاية منك) (١٧٥).

وقال الشيخ الصالح أبو اسحق الجبنياتي المتوفى سنة ٣٦٩ ه‍ :

(لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين ؛ لأن دين الصبي على دين معلمه) (١٧٦).

وأعظم قدوة لكل إنسان صغير أو كبير هو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذو الخلق العظيم والقدر الجليل. وقد أمر الله ـ جل جلاله ـ كل مؤمن بأن يقتدي به فقال :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (١٧٧)

٧ ـ طريقة التربية باللعب

يميل المرء إلى اللعب واللهو طيلة حياته ، ويقضي معظم وقته في اللعب حين يكون صغيرا غير مميز ، ثم يقل انصرافه إليه مع تقدمه في السن. فإذا ما جعلنا اللعب بطريقة منظمة ذات أثر في تقوية الجسم وتنشيط العقل وتكوين الخلق أمكننا تحقيق أهداف التربية مع الشعور بالمتعة ، وذلك كما في الألعاب والتمارين الرياضية التي تؤدي إلى صحة الجسم ومرونة أعضائه وقوة عضلاته. وكما يحدث حين توضع عدة قطع أمام الطفل ، وتكون قابلة للتركيب على وجوه عديدة ، فيصنع منها بناء أو دراجة أو سيارة أو غير ذلك ، ثم يفك أجزاءها ليركبها بشكل آخر ؛ فينشط ذهنه ، وينمو عقله ، وتصبح لديه قدرة على الإبداع والاختراع.

ويمكن أن يؤدي اللعب المشترك بين عدد من الأفراد إلى تعليم النظام والتعاون ومحبة بعضهم بعضا ، ويجعل اللعب الأطفال يوجهون كل اهتمامهم نحو موضوع اللعبة ولا يملون منه ، ولا يفكرون بغيره. وذلك يؤدي إلى زيادة الانتباه ودقة الفهم وسرعة التعلم.

غير أن الإفراط في اللعب قد يؤدي إلى ضياع الوقت ، ويصرف عن الجد والعمل المثمر ، لذا يجب أن يسمح باللعب في أوقات محددة عقب الساعات المخصصة للدرس والعمل ، وأن تتناسب الألعاب مع عمر الطفل وقدراته حتى تكون ذات أثر تربوي.

وقد أذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأحباش أن يلعبوا بالحراب في المسجد في يوم عيد لما في ذلك من الفائدة في تعلم الرمي بها ، واتقاء ضرباتها ، ولما فيه من المتعة والبهجة ؛ حتى إنه جعل عائشة ـ رضي الله عنها ـ تنظر إليهم ، فعنها قالت : «رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ، حتى أكون أنا التي أسأم ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو» (١٧٨).

وقد أدرك مربونا الكبار حاجة الأولاد إلى اللعب منذ العصر الأول في تاريخ هذه الأمة. حكى معتب بن أبي الأزهر ، وهو من علماء القيروان في القرن الثاني الهجري ، قال : قال لي : أبو القاسم عبد الله بن محمد في معرض حديث :

(وما حال صبيانكم في الكتاب؟

قلت : لهم ولع كثير باللعب

فقال : إن لم يكونوا كذلك فعلق عليهم التمائم!)

يعني إنه لا يمنع الطفل من اللعب إلا أن يكون مريضا (١٧٩).

وقال الغزالي مبينا الطريق في رياضة الصبيان وتأديبهم :

(وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعبا جميلا يستريح إليه من تعب الكتب ، بحيث لا يتعب في اللعب.

فإن منع الصبي من اللعب وإرهافه إلى التعليم دائما يميت قلبه ، ويبطل ذكاءه ، وينغص عليه العيش ، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسا» (١٨٠)

وبعد ذلك بقرون عديدة أراد" رابليه" أن يتعلم تلميذه عن شوق ورغبة ، وأن يثقف وهو يلعب ، وأن يدرس الرياضيات نفسها عن طريق اللهو والتسلية ، واعتنى بالفنون المسلية (١٨١).

ثم جاء" فروبل" المربي الألماني فجعل اللعب أساسا لعملية التربية في السنوات الأولى من الحياة ، واعتبره خير وسيلة يستطيع بها المربي أن يدمج الطفل في عالم العلاقات الاجتماعية الحقيقية ، وأن يلقنه معنى الاستقلال والمساعدة المتبادلة ، وأن يمده بفرصة الابتكار وبدافع الحركة ، وأن ينميه باعتباره فردا يكون جزءا مستقلا من أجزاء الكل الاجتماعي. وجعل للعب قيمة خلقية وفكرية بالإضافة إلى قيمته الجسمية (١٨٢).

* * *

٨ ـ التربية بالترغيب والترهيب

يعتبر الترغيب والترهيب حافزا يدفع الإنسان إلى التعلم الصحيح وتجنب الأخطاء وفعل الحسن وترك القبيح. ولا ينكر وجود عاطفتي الحب والكره ، والميل إلى الشيء أو النفور منه في نفس كل إنسان.

فإذا حققت التربية رغبات النفس البشرية ، وأصبح ما يتعلمه المرء وسيلة للحصول على ما يرغب فيه ، أو النجاة مما يخاف منه ، فإنه يتأثر بها إلى أبعد الحدود.

وتتنوع رغبات الناس بين الأشياء المادية والمعنوية ، وكلها ترجع إلى ما يحفظ عليهم صحتهم ، ويشبع غرائزهم ، ويلبي دوافعهم ويجعلهم في مكانة مرموقة ، ويشعرهم بالسعادة والعظمة ، كما أنهم يخافون من الموت ومن فقدان ما يحتاجون إليه ومن أي ضرر يصيبهم أو يصيب أحبابهم.

وقد أبعد الإسلام عن الناس الخوف من الموت حين أعلمهم أن الموت باب يدخلون منه إلى الدار الآخرة ، وهو يأتي في أجله المحدد ، ولا يستطيع أحد أن يمد في عمر إنسان أو ينقص منه ساعة واحدة ، وأبعد عنهم المخاوف المجهولة حين أعلمهم أن الضرر والنفع بيد الله وحده ، ولا يستطيع أحد أن ينفع غيره أو أن يضره فيما لم يأذن به الله قال سبحانه : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). (١٨٣)

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (١٨٤)

وأبعد عنهم الخوف من الفقر حين قرر أن الله قد تكفل بأرزاق عباده ، وأن كل مخلوق يحصل على ما قسم له. قال تعالى :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (١٨٥)

ولكنه حذرهم من غضب الله ونقمته إن هم عصوه وكفروا به. قال تعالى :

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا (١٨٦) بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ). (١٨٧)

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). (١٨٨)

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً (١٨٩) وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ). (١٩٠)

كما حذرهم من عذابه في الدار الآخرة.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). (١٩١)

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً (١٩٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (١٩٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً). (١٩٤)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ). (١٩٥)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً). (١٩٦)

وبالمقابل رغبهم بالجنان التي ينعمون فيها إن هم آمنوا به وأطاعوه :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً). (١٩٧)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ (١٩٨) مُتَقابِلِينَ. كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ). (١٩٩). يَدْعُونَ (٢٠٠) فِيها بِكُلِّ اكِهَةٍ آمِنِينَ) (٢٠١)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ (٢٠٢) بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ (٢٠٣) مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ. وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. يَتَنازَعُونَ (٢٠٤) فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٢٠٥).

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ (٢٠٦) مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ. عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (٢٠٧) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (٢٠٨) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً. وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٠٩) وَطَلْحٍ (٢١٠) مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً (٢١١) أَتْراباً (٢١٢) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ). (٢١٣)

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً. حَدائِقَ وَأَعْناباً. وَكَواعِبَ (٢١٤) أَتْراباً. وَكَأْساً دِهاقاً (٢١٥) ، لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً). (٢١٦)»

وهذا النعيم لا يقتصر على الأنواع المادية الحسية ، وإنما يشمل الأنواع المعنوية الروحية التي يستمتع فيها أصحاب النفوس الكبيرة أكثر من الأولى. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٢١٧).

وهم يبتهجون بالنظر إلى وجهه الكريم :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). (٢١٨)

ويشعرون بالرضى حين يعلمون برضوان الله عليهم :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). (٢١٩) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). (٢٢٠)

هذا في الآخرة ، وفي الدنيا وعد الله المستغفرين التائبين بسعة الرزق وكثرة المال والولد ، إذ جاء في دعوة نوح ـ عليه‌السلام ـ لقومه قوله :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (٢٢١)

وجاء في دعوة هود عليه‌السلام ـ قوله :

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ). (٢٢٢)

كما وعد الله المتقين المتوكلين عليه بالفرج والرزق الكثير والعون :

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (٢٢٣) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (٢٢٤) إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً). (٢٢٥)

وقد شرع الإسلام للوالد أن يؤدب أولاده إن هم قصروا في عبادة الله ، أو خرجوا على طاعته. وله أن يضربهم إن لم يجد فيهم الكلام اللين. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» (٢٢٦).

وشرع للرجل أن يمنع امرأته من النشوز ، وأن يحملها على طاعته والقيام بواجباتها الدينية والبيتية ، وأن يضربها حين لا ينفع فيها الوعظ والتذكير ولا الهجر والامتناع عن معاشرتها. قال تعالى :

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ (٢٢٧) فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً). (٢٢٨)

ولكن الضرب المشروع هو الضرب الخفيف غير المبرح. ولا يجوز إيقاعه على الوجه والرأس. قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت» (٢٢٩).

ويبقى الضرب وسيلة غير مرغوب فيها ، فبعد الإذن فيه جاء إلى آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساء يشتكين أزواجهن فقال : «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ، ليس أولئك بخياركم» (٢٣٠).

غير أن الذين يهملون واجباتهم ، ويتعدون حدود الله ، ولا يتأثرون بالأساليب التربوية اللينة ، من الأفضل تحذيرهم بهذه الوسيلة القاسية حتى لا يكونوا بؤرة فساد في المجتمع أو حجر عثرة في سبيل تقدمه.

ولهذا شرع الإسلام الحدود والقصاص للمحافظة على الأنفس والأعراض والأموال ولمنع الظلم والعدوان.

والقصاص أن يعاقب المعتدي عمدا على إنسان في نفسه أو أحد أعضائه ، بأن يعتدى عليه بمثل عدوانه. فإن قتله عمدا يقتل ، وإن قلع عينه تقلع عينه ، وإن جدع أنفه يجدع أنفه .. إلا أن يعفو ولي القتيل أو من وقع عليه العدوان. قال الله تعالى :

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (٢٣١)

والقصاص هو الذي يمنع القتل وسفك الدماء ، ويصون حق الحياة للناس ويؤدي إلى استتباب الأمن والعدل. قال الله عزوجل :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (٢٣٢)

أما الحدود فهي العقوبات المقدرة في القرآن والسنة. ومنها :

حد الزنى : وقد ذكر في كتاب الله حد الزاني غير المحصن ، أي الذي لم يتزوج بقوله سبحانه :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (٢٣٣)

أما المحصن وهو الذي قد وطأ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فيعاقب بالرجم بالحجارة حتى الموت إذا ارتكب هذه الفاحشة. ودليل ذلك من السنة ، فقد جاء ما عز الأسلمي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنه قد زنى ، فأعرض عنه ، ثم جاء من شقه الآخر فقال : إنه زنى ، فأعرض عنه.

ثم جاء من شقه الآخر فقال : إنه قد زنى. فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة. فلما وجد مس الحجارة فر يشتد ، فلقيه رجل معه لحي جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات. فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هلا تركتموه (٢٣٤)

ومع شدة هذا العقاب فإن الإسلام شدد في إثبات هذه الجريمة ، فلا تثبت إلا بالاعتراف الصريح أو بشهادة أربعة رجال على أنهم رأوا الزاني يزني أمام أعينهم. وكل من اتهم غيره بهذه الفاحشة ، ولم يثبت صدقه بشهادة أربعة رجال ، فإنه يقام عليه حد القذف وهو الجلد ثمانين ورد شهادته ،. قال تعالى :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ (٢٣٥) ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). (٢٣٦)

وبذلك صان الإسلام العرض وحفظ النسل.

ولصيانة لأموال شرع حد السرقة ، وهو قطع اليد اليمنى من الرسغ. قال الله تعالى :

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً (٢٣٧) مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (٢٣٨)

أما قطاع الطرق الذين يعتدون على المسافرين فيعاقبون بالحبس أو النفي إلى مكان لا يتمكنون فيه من فعل جريمتهم إن هم أخافوهم ولم يأخذوا شيئا من أموالهم ولم يقتلوا أحدا منهم. ويعاقبون بقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن أخذوا أموالهم ، وبالقتل إن قتلوا ، وبالصلب إن قتلوا وأخذوا المال. وهذا هو حد المحاربة المذكور في قوله سبحانه وتعالى :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ). (٢٣٩)

وهناك حد السكر وشرب الخمر شرعه الإسلام لصيانة العقل ، وهو الجلد أربعين أو ثمانين كما ثبت في السنة الشريفة.

قال علي رضي الله عنه : «جلد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين. وكل سنة. وهذا ـ أي الأربعين ـ أحب إلي» (٢٤٠)

وبالإضافة إلى ذلك هنالك التعزيرات ، وهي العقوبات التي لا نص فيها ، ويترك تقديرها للحاكم.

وبهذا طهر الإسلام المجتمع ، وقطع دابر الفساد من الأرض وجعل الناس ينعمون بالأمن والحرية ، ويشعرون بالعزة والكرامة. ولا يغرنك قول من يزعم إن هذه العقوبات قاسية ، ولا تتناسب مع المستوى الحضاري الذي بلغته البشرية في هذا العصر! لأن هذه العقوبات وضعت لمنع الناس من ارتكاب هذه الجرائم وليس من المناسب أن تكون العقوبات خفيفة يستهين بها المفسدون في الأرض.

ويكفي التلويح بهذه العقوبات لمنع معظم الناس من التعدي على حدود الله.

وقد فشلت كل العقوبات الأخرى التي شرعها البشر في منع الزنى والقتل والسرقة وغير ذلك من المفاسد. وليس المجتمع المتحضر بالذي يسمح بالإجرام ويتساهل مع المجرمين وإنما هو الذي يربي أفراده على الأمانة والفضيلة ، ويمنع الشر والرذيلة.

ولهذا يكون من المجدي استعمال المثوبات والعقوبات في التربية بالوسائل المادية والمعنوية. فتشجيع المتعلم والثناء عليه ومكافأته إن أحسن يؤدي إلى تعزيز إجابته واستمرار تقدمه وزيادة فعالياته. وتأنيب المسيء وعقابه وحرمانه من بعض الأشياء يجعله يعلم أن الأمر جد لا هزل فيه. فيصبح أكثر يقظة وانتباها وأشد حذرا واهتماما ، فيجتنب الخطأ ويبتعد عن القبيح.

والمربي الحكيم هو الذي يضع كل شيء في موضعه ، ويعامل كل واحد بما يناسبه فلا يؤنب من تكفيه الإشارة ، ولا يضرب من تنفعه العبارة ، والترغيب والثواب مقدم على الترهيب والعقاب :

حكى الأحمر النحوي عن نفسه قال : (بعث إلى الرشيد لتأديب ولده محمد الأمين ، فلما دخلت قال : يا أحمر! إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه ، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعتك عليه واجبة. فكن عليه بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن ، وعرفه الآثار ، وروه الأشعار ، وعلمه السنن ، وبصره مواقع الكلام وبدأه. وامنعه من الضحك إلا في أوقاته. لا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيده إياها من غير أن تخرق به فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه.

وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة ، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة) (٢٤١).

والطفل الرقيق المرهف الحس لا يحتاج إلى الضرب والعنف.

كان" سحنون" يقول لمعلم ابنه : «لا تؤد به إلا بالمدح ولطيف الكلام ، ليس هو ممن يؤدب بالضرب والتعنيف» (٢٤٢).

وذهب" محمد بن سحنون" إلى أن المعلم لا يجاوز بضرب الأولاد ثلاثة أو عشرة أسواط فقال : «ولا بأس أن يضربهم على منافعهم. ولا يجاوز بالأدب ثلاثا إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدا.

ويؤدبهم على اللعب والبطالة ، ولا يجاوز بالأدب عشرة. وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثا (٢٤٣) وقال في تعليل هذا المقدار : سمعت مالكا يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حد» (٢٤٤).

وقد حذر العلامة ابن خلدون من الإفراط في الشدة والعنف وبين سوء ذلك بقوله (إن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد ، لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر ، وضيق على النفس في انبساطها ، وذهب بنشاطها ، ودعاه إلى الكسل ، وحمل على الكذب والخبث ، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه ، وعلمه المكر والخديعة لذلك ، وصارت له هذه عادة وخلقا ، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن ، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله. وصار عيالا على غيره في ذلك ، بل وكسلت نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل ، فانقبضت عن غابتها ومدى إنسانيتها ، فانتكس وعاد في أسفل سافلين) (٢٤٥).

وقد اختلف موقف المربين من العقوبات على مدى العصور :

فكانت النظم في الهند قديما تبيح العقاب الجسدي. وكان المعلمون يستخدمون العصا وبعض الوسائل الأخرى ، كأن يصبوا الماء البارد على المتعلم (٢٤٦).

وكان نظام التربية لدى بني إسرائيل لينا بعض الشيء ، ومما يقوله التلمود : (عاقب الأطفال بإحدى يديك ، وداعبهم بكلتيهما) ومع ذلك فقد كانوا يبيحون العقاب الجسدي للأطفال الذين يجاوزون الحادية عشرة. وكان من الجائز أن يحرم من جاوز هذه السن من الخبز ، وأن يضرب بشسع النعل (٢٤٧).

وكان نظام التربية المسيحية الذي ساد أوربا في العصر الوسيط قاسيا ، إذ كانوا يسيئون الظن بالنفس الإنسانية ، ويحاولون أن يرهقوها وأن يعذبوها ليطهروها. ولقد حرم على الطلاب مثلا عام ١٣٦٣ م الجلوس على المقاعد والكراسي بحجة أنها تفسح المجال للكبرياء والغرور ، أما العقاب فكان سائدا وغليظا. وكان العقاب الجسدي خاصة كثير الاستعمال متنوع الأشكال ، وبقي استعمال الدرة حتى القرن الخامس عشر حيث اتخذت التربية اتجاها مختلفا على يد" جيرسون" (١٣٦٣ ـ ١٤٢٦ م) الذي طلب أن يجنح المعلمون إلى الصبر والشفقة (لأن الأطفال الصغار أسهل انقيادا بالمداعبة واللين منهم بالإرهاب والخوف) وحارب العقوبات الجسدية ، وطلب من الأساتذة أن يحملوا لطلابهم عطف الأب ورحمته.

وكذلك دعا المربي الهولندي" ايراسموس" (١٤٦٧ ـ ١٥٣٦) إلى استبعاد النظام القاسي والطرق الوحشية في التعليم ، وأن يستبدل بها طرق التشويق والإغراء (٢٤٨).

ومثله" مونيني" (١٥٣٣ ـ ١٥٩٢ م) صاحب النزعة الإنسانية الذي احتقر

العقوبات الجسدية والنظام القاسي الذي كان سائدا في المدارس الداخلية في زمنه وقال : (إننا بدلا من أن نحبب الآداب للأطفال ، لا نزودهم في الواقع إلا بالذعر والقسوة ، فانزعوا القسوة والقوة ، إذ لا شيء في نظري أقتل للطفل وأخطر على الطبيعة السليمة منهما .. ولقد ساءني دوما مثل هذه التدابير التي تلجأ إليها معظم كلياتنا ... إنه لسجن حقيقي لشبيبة أسيرة. إنك إذا دخلت عليهم لا تسمع إلا صراخ أطفال يعذبهم معلمون قد ملكتهم نشوة الغضب. فيا لها من خطة لإيقاظ الشهوة إلى الدروس ، ولتوجيه تلك النفوس الغضة السريعة الخوف إلى تلك الدروس بيدين مسلحتين بالدرر ويا له من مظهر مسيء للعدالة قتال .. أو ليس من الأليق أن نغرس صفوفهم بالأزهار والأوراق بدلا من أن نغرسها بقضب القصب الدامية).

ثم جاء عالم النفس الإنكليزي" جون لوك" ، فمنع العقاب الجسدي ، وحكم على الدرة بقوله : (إن الدرة أداة خنوع تجعل الطبع ذليلا).

غير أن" مالبرانش" (١٦٧٨ ـ ١٧١٥ م) رأى أن نحذف كل المكافآت الحسية ، وأبقى على العقاب المادي ، وأجاز الضرب بالدرة (٢٤٩).

* * *

هوامش الفصل الخامس

__________________

(١) انظر أصول التربية الإسلامية للنحلاوي : ٢٠٥ ، ومنهج التربية الإسلامية لمحمد قطب : ٢١٩ ـ ٢٦٢.

(٢) سورة لقمان : ١٣ ، ١٦ ـ ١٩

(٣) لا تمل وجهك عنهم تكبرا

(٤) خيلاء

(٥) اعتدل وتوسط فيه

(٦) اخفض

(٧) سورة لقمان : ١٣ ، ١٦ ـ ١٩

(٨) سورة الشعراء : ١٣١ ـ ١٣٩.

(٩) أي طبيعتهم عاداتهم

(١٠) سورة الشعراء : ١٣١ ـ ١٣٩.

(١١) متفق عليه. ورواه أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها.

(١٢) ،

(١٣) سورة يوسف : ٣ ـ ٤

(١٤) يحتالون في هلاكك

(١٥) يختارك ويصطفيك.

(١٦) تعبير الرؤيا

(١٧) اسحق جد يوسف ، وابراهيم جد أبيه ، فهو يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم

(١٨) سورة يوسف : (٥ ـ ١٤).

(١٩) جماعة ، وكانوا عشرة عدا يوسف وشقيقه ، وهما أخوان لهم من أبيهم ، وأمهما غير أمهم.

(٢٠) بأن يقبل عليكم ولا يلتفت لغيركم

(٢١) سورة يوسف : (٥ ـ ١٤).

(٢٢) البئر المظلم

(٢٣) السائرين المسافرين.

(٢٤) ،

(٢٥) سورة يوسف : (٥ ـ ١٤).

(٢٦) سورة يوسف : ١٦ ـ ١٨

(٢٧) زينت

(٢٨) من يأتيهم بالماء

(٢٩) باعوه بثمن قليل.

(٣٠) مقامه

(٣١) سورة يوسف : ١٩ ـ ٢٤

__________________

(٣٢) أي هلم وتعال

(٣٣) مقامي

(٣٤) سورة يوسف : ١٩ ـ ٢٤

(٣٥) شقت

(٣٦) وجدا زوجها

(٣٧) سورة يوسف : (٢٥ ـ ٢٩)

(٣٨) تنزيها له

(٣٩) امتنع

(٤٠) الذليلين

(٤١) أصبو : أميل

(٤٢) البراهين والعلامات على براءة يوسف

(٤٣) سورة يوسف : (٣٠ ـ ٣٥)

(٤٤) دين

(٤٥) حجة وبرهان.

(٤٦) أي سيده الملك

(٤٧) سورة يوسف : (٣٦ ـ ٤١)

(٤٨) هزيلة

(٤٩) منامات مختلطة.

(٥٠) متتابعة

(٥١) اتركوه

(٥٢) مجدبات ، صعاب

(٥٣) أي يعصرون الأعناب وغيرها. والآيات في سورة يوسف (٤٢ ـ ٤٩)

(٥٤) ما شأنكن

(٥٥) وضح وتبين.

(٥٦) ذو مكانة وأمانة

(٥٧) ينزل

(٥٨) سورة يوسف : (٥٠ ـ ٥٧).

(٥٩) سورة يوسف : (٥٨ ـ ٦٢)

(٦٠) نأتي بالميرة ، وهي الطعام.

__________________

(٦١) سورة يوسف : (٦٣ ـ ٧٦).

(٦٢) أي الإناء الذي يشرب به ، وكانت تكال به الحبوب

(٦٣) القافلة ، وما تحمل عليه الميرة من الإبل والبغال والحمير

(٦٤) كفيل

(٦٥) علمناه الكيد والاحتيال في أخذ أخيه.

(٦٦) سورة يوسف : (٦٣ ـ ٧٦).

(٦٧) سورة يوسف : ٧٧ ـ ٨٢

(٦٨) تزال

(٦٩) مشرفا على الهلاك.

(٧٠) سورة يوسف : (٨٣ ـ ٩٨)

(٧١) كاسدة ، غبر مرغوب فيها.

(٧٢) فضلك

(٧٣) لا لوم ولا عتاب.

(٧٤) أن تسفهوني وتنسبوني إلى الخطل والخرف.

(٧٥) سورة يوسف : (٨٣ ـ ٩٨)

(٧٦) أفسد

(٧٧) سورة يوسف : ٩٩ ـ ١٠١

(*) قيل إن أمه توفيت بعد ولادة شقيقه. وإن المراد بأبويه : أبوه وخالته.

(٧٨) ، (٧٩) سورة يوسف : (١٠٢ ، ١١١).

(٨٠) في رواية سالم : " إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم" (البخاري).

(٨١) مكيال يسع ثلاثة آصع

(٨٢) أي انشقت. وفي رواية سالم : " فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج"

(٨٣) الضغاء : الصياح ببكاء.

(٨٤) أي يضعفان لعدم شربتهما.

(٨٥) رواه البخاري ومسلم وابن حبان والبزار وأحمد والطبراني ، عن أبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وعبد الله بن أبي أوفى وعقبة بن عامر.

(٨٦) فتح الباري لابن حجر ج ٦ ص ٥٠٥ ـ ٥١١

(٨٧) رواه البخاري عن أبي هريرة. والحديث متواتر.

(٨٨) سورة الحج : ٨ ، سورة لقمان : ٢٠

__________________

(٨٩) لاوي عنقه تكبرا ، والعطف : الجانب

(٩٠) سورة الحج : ٩

(٩١) سورة الحج : ٣

(٩٢) سورة النحل : ١٢٥

(٩٣) سورة العنكبوت : ٤٦

(٩٤) أسافلنا

(٩٥) أي ابتداء من غير تفكير

(٩٦) أنجبركم على قبولها.

(٩٧) تحتقر.

(٩٨) سورة هود : ٢٥ ـ ٣٣

(٩٩) تحير ودهش

(١٠٠) سورة البقرة : ٢٥٨

(١٠١) حجة وبرهانا

(١٠٢) لم يخلطوا.

(١٠٣) سورة الأنعام : ٨٠ ـ ٨٣

(١٠٤) سورة الشعراء : ٢٣ ـ ٢٩

(١٠٥) ثمرها

(١٠٦) عشيرة

(١٠٧) مرجعا

(١٠٨) صواعق

(١٠٩) أرضا ملساء لا يثبت عليها قدم

(١١٠) ساقطة على دعائمها

(١١١) سورة الكهف : ٣٢ ـ ٤٤

(١١٢) رواه البخاري عن ابن عباس رقم ٧٣١٥.

(١١٣) أخرجه أحمد عن أبي أمامة

(١١٤) حوالي الجنة وأطرافها

(١١٥) رواه ابن ماجه رقم ٥١ والترمذي وقال : حديث حسن

(١١٦) رواه البزار والطبراني

__________________

(١١٧) رواه ابن ماجه رقم ٤٨ وابن عبد البر عن أبي أمامة والآية في سورة الزخرف : ٥٨

(١١٨) مختصر جامع بيان العلم وفضله ص ١٥٧.

(١١٩) سورة البقرة : ٢٦

(١٢٠) أضعف

(١٢١) سورة العنكبوت : ٤١.

(١٢٢) سورة الحج : ٧٣

(١٢٣) سورة ابراهيم : ١٨

(١٢٤) جمع قاع أي فلاة

(١٢٥) يظنه العطشان

(١٢٦) عميق.

(١٢٧) سورة النور : ٣٩ ـ ٤٠

(١٢٨) أصحاب مطر

(١٢٩) سورة البقرة : ١٧ ـ ٢٠

(١٣٠) سورة البقرة : ٢٦١

(١٣١) الوابل : المطر الغزير ، والطل : المطر الخفيف

(١٣٢) سورة البقرة : ٢٦٥

(١٣٣) أرض طيبة.

__________________

(١٣٤) الكلأ : يطلق على النبات الرطب واليابس. والعشب : الرطب فقط.

(١٣٥) جمع جدب ، وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء

(١٣٦) جمع قاع ، وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت.

(١٣٧) رواه البخاري (٧٩) ومسلم وابن عبد البر عن أبي موسى الأشعري.

(١٣٨) فتح الباري لابن حجر ، وقد عزا هذا الشرح للقرطبي ، ج ١ ص ١٧٧

(١٣٩) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي موسى الأشعري.

(١٤٠) رواه الشيخان والترمذي من حديث أبي موسى الأشعري.

(١٤١) رواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(١٤٢) رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة.

(١٤٣) رواه ابن عبد البر.

(١٤٤) سورة المائدة : ٩

(١٤٥) سكنوا واطمأنوا أو أنابوا.

(١٤٦) سورة هود : ٢٣

(١٤٧) مصدر من الطيب أو شجرة في الجنة

(١٤٨) مرجع ، والآية في سورة الرعد : ٢٩

(١٤٩) رواه ابن عبد البر

(١٥٠) رواه ابن عبد البر

(١٥١) العقد الفريد لابن عبد ربه ـ اختيار د. محمود يوسف زايد ق ١ ص ٨٨

(١٥٢) رواه أبو نعيم عن أنس (كشف الخفاء).

(١٥٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣

(١٥٤) الماء المعد للوضوء.

(١٥٥) رواه البخاري : ١٦٤

(١٥٦) رواه البخاري : ٢٥١

(١٥٧) فتح الباري ج ١ ص ٣٦٥

(١٥٨) رواه البخاري والدارمي وأحمد من حديث مالك بن الحويرث.

(١٥٩) رواه البخاري.

(١٦٠) رواه ابن عبد البر من حديث جابر.

__________________

(١٦١) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص : ٥٠ ـ ٥١ ، ٢٥٥ ٢٥٩ ، ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، ٣١٤ ـ ٣١٥.

(١٦٢) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص : ٥٠ ـ ٥١ ، ٢٥٥ ٢٥٩ ، ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، ٣١٤ ـ ٣١٥.

(١٦٣) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٢٤٩ ، ٣٥٩ ، ٣٦٠.

(١٦٤) الأذكار للنووي ص ٢٣ ، فتح الباري ج ١ ص ٢٧٠.

(١٦٥) أي لبس نعليه ، وتسريح شعره ودهنه.

(١٦٦) متفق عليه.

(١٦٧) رواه أبو داود بإسناد صحيح.

(١٦٨) حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي.

(١٦٩) أي في تربيته وتحت نظره ، لأنه كان يربيه في حضنه تربية الولد.

(١٧٠) أي كان يأكل من نواحي الإناء الموضوع فيه الطعام.

(١٧١) أي صفة أكلي

(١٧٢) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي.

(١٧٣) البدنة : الناقة التي تهدي للحرم

(١٧٤) البداية والنهاية لابن كثير ج ٤ ص ١٧٦ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٥.

(١٧٥) العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ج ٢ ص ٤٣٦.

(١٧٦) آداب المعلمين لابن سحنون ص ٤٧ ، نقلا عن مناقب أبي اسحق : ٢٥

(١٧٧) سورة الأحزاب : ٢١.

(١٧٨) رواه البخاري في كتاب النكاح

(١٧٩) آداب المعلمين : ٥٣ ـ ٥٤ نقلا عن كتاب المدارك في ترجمة معتب بن أبي الأزهر ٤ / ٢٣٢

(١٨٠) احياء علوم الدين ج ٣ ص ٧٣

(١٨١) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم : ٢٣٧

(١٨٢) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(١٨٣) سورة يونس : ٤٩

(١٨٤) سورة الأنعام : ١٧

(١٨٥) سورة هود : ٦

(١٨٦) عذابنا

__________________

(١٨٧) سورة الأعراف : ٩٧

(١٨٨) سورة النحل : ٤٥ ـ ٤٧

(١٨٩) يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء.

(١٩٠) سورة الأنعام : ٦٥

(١٩١) سورة الأنعام : ١٥

(١٩٢) مرجعا

(١٩٣) دهورا لا نهاية لها.

(١٩٤) ماء حارا غاية الحرارة ، وما يسيل من صديد أهل النار ، والآيات في سورة النبأ : ٢١ ـ ٢٥.

(١٩٥) سورة فاطر : ٣٦

(١٩٦) سورة النساء : ٥٦ ـ ٥٧

(١٩٧) سورة النساء : ٥٦ ـ ٥٧

(١٩٨) الحرير الرقيق والغليظ

(١٩٩) بنساء بيض واسعات الأعين حسان.

(٢٠٠) يطلبون.

(٢٠١) سورة الدخان : ٥١ ـ ٥٥

(٢٠٢) متلذذين.

(٢٠٣) نقصناهم.

(٢٠٤) يتعاطون بينهم.

(٢٠٥) مكنون : مصون. والآيات في سورة الطور : ١٧ ـ ٢٤

(٢٠٦) جماعة.

(٢٠٧) منسوجة بالذهب والجوهر.

(٢٠٨) أي لا يحصل لهم صداع ولا ذهاب عقل.

(٢٠٩) شجر النبق لا شوك فيه.

(٢١٠) شجر الموز.

(٢١١) جمع عروب ، وهي المتحببة إلى زوجها.

(٢١٢) جمع ترب ، أي مستويات في السن.

(٢١٣) سورة الواقعة : ١٠ ـ ٤٠

(٢١٤) جواري تكعبت أثداؤهن.

__________________

(٢١٥) مملوءة خمرا

(٢١٦) سورة النبأ : ٣١ ـ ٣٦

(٢١٧) سورة مريم : ٩٦

(٢١٨) سورة القيامة : ٢٢ ـ ٢٣

(٢١٩) الخليقة

(٢٢٠) سورة البينة : ٧ ـ ٨

(٢٢١) سورة نوح : ١٠ ـ ١٢

(٢٢٢) سورة هود : ٥٢

(٢٢٣) لا يخطر بباله

(٢٢٤) كافيه

(٢٢٥) سورة الطلاق : ٢ ـ ٣

(٢٢٦) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والدار قطني

(٢٢٧) عصيانهن. والمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه

(٢٢٨) سورة النساء : ٣٤

(٢٢٩) رواه أصحاب السنن والمسند من حديث معاوية بن حيدة القشيري.

(٢٣٠) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه عن إياس بن عبد الله بن أبي ذئب.

(٢٣١) سورة المائدة : ٤٥

(٢٣٢) سورة البقرة : ١٧٩

(٢٣٣) سورة النور : ٢.

__________________

(٢٣٤) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي ، واللفظ له ، عن أبي هريرة وجابر وابن عباس.

(٢٣٥) المحصنة هي الحرة البالغة العفيفة

(٢٣٦) سورة النور : ٤

(٢٣٧) عقوبة لهما

(٢٣٨) سورة المائدة : ٣٨

(٢٣٩) سورة المائدة : ٣٣

(٢٤٠) رواه مسلم وأبو داود.

(٢٤١) مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٣٦٢

(٢٤٢) ،

(٢٤٣) آداب المعلمين ص ١٥ ـ ١٦ ، ٨٩

(٢٤٤) رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي من حدي أبي بردة.

(٢٤٥) المقدمة ص ٦٣٢ ـ ٦٣٣.

(٢٤٦) ،

(٢٤٧) ،

(٢٤٨) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص : ١٤ ، ١٧ ، ٨٧ ـ ٨٨ ، ٢٢٨.

(٢٤٩) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص : ٢٤٢ ، ٣٠٢ ، ٣١٠.

الفصل السادس

مراحل التربية (*)

لا تقتصر تربية الإنسان على فترة محدودة من عمره ، وإنما تستغرق حياته كلها بل تسبق وجوده في هذه الدنيا ويمكننا تقسيمها إلى هذه المراحل الخمس :

١ ـ مرحلة ما قبل الولادة :

تبدأ هذه المرحلة باختيار الزوجة الصالحة التي ستصبح أما للأولاد ، وأول مربية لهم. فالطفل يتلقى من أبويه صفاتهما الجسمية عن طريق الوراثة ، ويكتسب كثيرا من طباعهما ، وأخلاقهما بطريق الإلف والعادة والقدوة. واختيار الزوجة الفاضلة شبيه بانتقاء الأرض الخصبة لتوضع فيها البذرة الجيدة ، فتنبت نباتا حسنا.

وقد أمر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «تخيروا لنطفكم ، فإن العرق دساس» (١)

وحين يريد الرجل أن يجامع امرأته ينبغي أن يذكر اسم الله ، وأن يدعوه ليحفظهما ونسلهما من غواية الشيطان.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا. فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا (٢)

ثم إن المعاشرة الحسنة بين الزوجين لها أثر جميل في صحة الجنين من الناحية الجسمية والنفسية ؛ فالحامل التي تشعر بالبهجة والسرور ، وتتناول الغذاء الجيد ، ستضع طفلا سليما أما التي تشعر بالبؤس والشقاء وتعاني من الجوع ونقص التغذية ، فستضع طفلا ضعيفا معرضا للعلل الجسدية والنفسية. ولهذا أمر الله بالإحسان إلى الزوجات ومعاشرتهن بالمعروف.

__________________

(*) نشر هذا الفصل في مجلة الثقافة الإسلامية عدد ٤١ تاريخ رجب ١٤١٢ ه‍ ـ كانون الثاني ١٩٩٢ ص ١٧٠ ـ ١٨٣.

٢ ـ مرحلة الطفولة الأولى :

تمتد هذه المرحلة من الولادة إلى سن التمييز. وحين ولادة الطفل يستحب الآذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى ، ليكون الذكر أول ما يطرق سمعه ، فتشمله بركته.

عن أبي رافع ـ رضي الله عنه ـ قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة ، رضي الله عنهم (٣).

ثم يستحب أن ترضعه أمه من ثدييها ، فلبن الأم خير غذاء للطفل لأنه نظيف خال من الجراثيم ، ونسبة الدم والسكر فيه مناسبة للمولود ، وتتغير هذه النسبة مع نمو الطفل لتبقى مناسبة له دوما ، ولبن الأم يتميز بميزة خاصة بسبب مكوناته المتفردة من الحمض الأميني ، فمثلا يشتمل لبن البقرة على عدد من الأحماض الأمينية بمقادير تزيد من ثلاثة إلى أربعة أضعاف مقاديرها في لبن الأم. كما يوجد فرق في النسب المئوية التي توجد بها الأنواع المختلفة من الأحماض الأمينية في كل من لبن الأم ولبن البقرة. والكثير من الخمائر اللازمة لتحليل الأحماض الأمينية المختلفة لا تكون موجودة بالقدر المناسب عند الأطفال حديثي الولادة. ولذلك فإن الأطفال ـ خاصة المولودين قبل اكتمال فترة النمو الطبيعي ـ الذي يتغذون على لبن البقرة قد يواجهون ارتفاعا في نسبة الأحماض الأمينية في الدم ، ويستمر ذلك الارتفاع عدة أسابيع ، وقد تسبب هذه التغذية غير الملائمة بعض أنواع القصور العقلي ؛ وذلك لأن المخ والجهاز العصبي يمران بتغيرات سريعة خلال سنوات الطفولة الأولى ، والدهن مكون مهم من مكونات هذا الجهاز ، فتناول أنواع من الأحماض الدهنية غير المناسبة يؤثر تأثيرا كبيرا على نموه.

ويكون الجهاز الهضمي للطفل المولود بعد فترة حمل طبيعية مهيئا لهضم وتمثيل لبن الأم ، إذ توجد لديه كل خمائر الهضم بمقادير مناسبة للبن الأم.

ويتغير تكون لبن الأم خلال كل رضعة ، فيحتوي في نهايتها أربعة أمثال ما يحتويه في أولها من الدسم ، وتزداد نسبة البروتين مرة ونصف ، أما نسبة سكر اللبن فتبقى دون تغيير. وهذا يحقق إشباعا لجوع الرضيع من ناحية وريا لعطشه من ناحية أخرى ويحتوي لبن الأم على الأملاح المعدنية والمعادن النادرة بالكميات المعادلة لمتطلبات النمو ، كما يحتوي على فيتامين" د" الذي يمنع حدوث الكساح ، وعلى

الأجسام المضادة لكثير من الأمراض المعدية ، وهي تمنح الرضيع الحصانة والمناعة ضد البكتريا. ولبن الأم بجنب الطفل كثيرا من أمراض الحساسية.

أما لبن الأبقار وغيرها من الثديات فلا يناسب لتغذية الرضيع ، ولا يحتوي على المواد التي يحتاج إليها ، ولا يستطيع جهازه الهضمي أن يهضمه ؛ فيخلف كميات كبيرة من المواد البروتينية الغريبة والقاسية ، ويسبب حمى الإسهال ، ويجهد الكلى حتى تتمكن من طرح المواد والأملاح الزائدة عن حاجة الجسم (٤).

أضف إلى ذلك أن الطفل يشعر بالعطف والحنان حين تضعه أمه في حجرها ، وتلقمه ثديها ، مما يكون له أثر كبير في نموه وانفعالاته.

ولهذا أوصى الله الوالدات برضاع أولادهن فقال سبحانه :

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ). (٥)

والحد الأدنى للرضاعة من ثدي الأم هو ستة أشهر ، وذلك لحماية الطفل من الالتهابات ومن الحساسية. وهذه الحماية ضرورية بصفة خاصة في الأشهر الأولى من الولادة ، حين يكون الطفل سريع التأثر ، ويكون لبن الأم هو الغذاء الوحيد المناسب له (٦).

وإذا وجد ما يمنع الأم من إرضاع ولدها ، فلا حرج في التماس مرضع له ، على أن تكون ذات صحة جيدة ، وعقل كبير وخلق حسن ، فهذا أفضل من تقديم لبن الحيوانات للرضيع ، سواء أكان اللبن طازجا أم مجففا. قال الله تعالى :

(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). (٧)

ويجب أن يسمى المولود باسم حسن : عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم» (٨)

وأحسن الأسماء أسماء الأنبياء تفاؤلا بالاقتداء بهم وتبركا بذكر أسمائهم ، وأحب الأسماء إلى الله ما اشتمل على كلمة عبد مضافة إلى اسم من أسمائه الحسنى. وأصدق الأسماء حارث وهمام ، لأن حارثا يدل على الكسب والسعي ، وهماما يدل على الهم والطلب ، وكل إنسان لا يخلو من ذلك ، وأقبح الأسماء حرب ومرة ، لما فيهما من البشاعة والعنف والمرارة.

عن أبي وهب الجشعي رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«تسموا بأسماء الأنبياء. وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام. وأقبحها حرب ومرة (٩)»

وكان من هدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تغيير الاسم القبيح باسم حسن عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما اسمك؟ قال : حزن (١٠). قال : أنت سهل (١١)».

وذلك لأن الحزن ضد السهل ، وهو ما غلظ من الأرض ، ويدل على الشدة والصعوبة.

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسماها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميلة (١٢).

ويستحب أن تذبح شاة في اليوم السابع من عمر الطفل ، وأن يدعى الأقارب والأصحاب والجيران ليعلموا به ، ويحيطوه بعطفهم ورعايتهم ، أو أن يتصدق بلحمها على المساكين ، ويهدى للجيران والأرحام. وهذه الذبيحة تسمى بالعقيقة. ويستحب أن يحلق رأسه حينئذ ويتصدق بوزن شعره من الذهب أو الفضة ، وأن يلطخ رأسه بطيب كزعفران ، لأنه ينعش النفس :

عن سمرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«الغلام مرتهن بعقيقته ، تذبح عنه يوم السابع ، ويحلق رأسه ويسمى» (١٣).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : عق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحسن بشاة ، وقال : يا فاطمة! احلقي رأسه ، وتصدقي بزنة شعره فضة. فوزناه ، فكان درهما أو بعض درهم (١٣).

ويستحب أن يختن الغلام في ذلك الحين.

وبعد ذلك ينبغي بر الأبناء وغمرهم بالعطف والرحمة :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا! فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «من لا يرحم لا يرحم (١٤)»

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : جاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتقبلون الصبيان! فما نقبلهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة (١٥)».

وقال أسامة بن زيد ، رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه ، ويقعد الحسن على فخذه الآخر ، ثم يضمهما ، ثم يقول : اللهم ارحمهما فإني أرحمهما (١٦).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطف على الصغار ، ويشعرهم بالرحمة في كل أحواله ، لا يمنعه من ذلك قيامه للخطبة أو الصلاة :

عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ، فجاء الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران. فنزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحملهما ، ووضعهما بين يديه ثم قال : (صدق الله عزوجل : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) (١٧).

وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : (خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إحدى صلاتي العشاء ، وهو حامل حسنا أو حسينا ، فتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضعه ، ثم كبر للصلاة فصلى ، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها. قال أبي : فرفعت رأسي ، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ساجد ، فرجعت إلى سجودي. فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة قال الناس يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر ، أو أنه يوحى إليك؟ قال : «كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» (١٨).

ولا تمنع الصلاة من حمل الطفل وإشعاره بالعطف.

عن أبي قتادة الأنصاري (أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها» (١٩).

فكان يحملها على عاتقه ، حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ، ثم ركع وسجد ، حتى إذا فرغ من سجوده قام وأخذها ، فردها في مكانها. ولعل السر في حملها أن يدفع ما كانت تألفه العرب من كراهة البنات وحملهن ، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة ، للمبالغة في ردعهم. والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول.

وبهذا ينشأ الطفل محبا لوالديه وأقاربه ، ويشب على احترام الكبار وإكرامهم.

وفي هذه المرحلة يعرف الطفل بربه ، ويبين له أن الله هو الخالق المنعم بكل شيء ويغرس في قلبه حب الله ورسوله. وفيها يتعلم الطفل الكلمات ، فيجب أن يجنب الكلمات البذيئة ، وأن يعود على النظافة وآداب الطعام والشراب ، ويعلم ما يسهل عليه من سورة القرآن الكريم.

٣ ـ مرحلة التمييز :

يصبح الطفل واعيا مميزا بين السادسة والسابعة من عمره ، وهذه هي السن التي يرسل فيها الأولاد إلى المدارس الابتدائية ليتعلموا القراءة والكتابة. ويجب تعليمهم تلاوة القرآن الكريم وتحفيظهم العديد من سوره وأجزائه.

ولقد كان أسلافنا يعلمون الطفل القرآن ، فيتقوم لسانه ، ويصبح نطقه بالحروف سليما ، ويصير فصيحا بليغا. أما المدارس التي تهمل تعليم القرآن الكريم ، أو تعتبره مادة ثانوية قليلة الأهمية ، فإنها مهما خصصت من الساعات لتعليم اللغة العربية لا تستطيع أن تجعل التلاميذ يتقنونها. ويبقى أحدهم يتعثر في قراءته ويخطئ في كتابته ، ولا يستطيع التعبير عن أفكاره بأسلوب بليغ ، حتى فشا اللحن بين الطلاب في أعلى المستويات.

وقد وجدت علوم اللغة في الأصل لخدمة القرآن الكريم ؛ فإذا جعلناه أساسا في التعليم ، وجعلنا النحو والصرف وقواعد الإملاء والبلاغة وسيلة لحفظه أمكننا حفظ القرآن واللغة التي نزل بها. أما إذا أهملنا القرآن أو قللنا من أهميته ، واعتبرنا اللغة غاية بذاتها ، فإنا نعرضها وإياه للضياع لو لا أن تكفل الله بحفظه.

ولا يوجد دافع يجعل الطالب يعتبر اللغة العربية الفصحى غاية ، ويحرص على تعلمها لذاتها ، لا سيما وهو يتكلم اللهجة العامية ، ويسمع أهله والناس حوله يتكلمون بها ، ولكنه حين يعلم أنها لغة الكتاب الذي أنزله الله ، وأمره بترتيله ، وتدبره والاهتداء بهديه ، فإنه يحرص على تعلمها وحفظ قواعدها وعلومها. ولقد أدرك الأدباء والكتاب هذا مؤخرا ، مما جعل مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مؤتمر الدورة الحادية والخمسين سنة ١٩٨٥ م يوصي" بأن تزود مكتبات مدارس التعليم العام بتسجيلات المصحف المرتل ، لتمكين الطلبة من محاكاة الفصحى والنطق بها نطقا سليما ، وأن تهتم وزارات التربية بزيادة رصيد الطلبة من محفوظات القرآن الكريم ، ليزداد وعيهم بالألفاظ والأساليب القرآنية". (٢٠)

ولا ضير من تعليم الطلاب العرب غير المسلمين القرآن الكريم وتفسيره لهم وبيان أحكامه ، ودعوتهم إلى العمل به. وليس في ذلك إكراه لهم على اعتناق الإسلام ولا يجوز لعربي أن يجهل الكتاب الذي حفظ لغة أمته ، وجعل لها حضارة وأمجادا تعتز بها.

وذهب القاضي أبو بكر بن العربي إلى تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم ، لأن الشعر ديوان العرب ، ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين. ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه متيسر له بهذه المقدمة.

ووجه تقديم دراسة القرآن كما قال ابن خلدون" إيثار التبرك والثواب ، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم ؛ فيفوته القرآن. لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ ، وانحل من ربقة القهر ، فربما عصفت به رياح الشبيبة ، فألقته بساحل البطالة. فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن ، لئلا يذهب خلوا منه. ولو حصل التيقن باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان المذهب الذي ذكره القاضي أولى.

ويرى ابن خلدون أن تعليم الصنائع والكتابة والحساب ينمي العقل ، ومن قوله : «والملكات الصناعية تفيد عقلا. والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك ، فإنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصنائع. وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس .. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات ، وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة ، فيكسب ذلك ملكة من التعقل ، تكون زيادة عقل ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور لما تعوده من ذلك الانتقال. ويلحق بذلك الحساب ، فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في العدد بالضم والتفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير ، فيبقى متعودا للاستدلال والنظر. وهو معنى العقل. والله أعلم (٢١). وفي هذه المرحلة يتعلم التلاميذ مبادئ الرياضيات والعلوم والجغرافية والتاريخ وغيرها. وينبغي أن يكون ما يتعلمونه متناسبا مع قدراتهم وميولهم ومع بيئتهم وواقعهم ، وذا أثر في نموهم الجسمي والعقلي والوجداني وصقل مواهبهم.

ولا يجوز أن توضع المناهج المدرسية جزافا ، وأن يوكل وضعها وتغييرها إلى غير الأكفاء. فمثل هذه المناهج قد تعرقل نمو الطلاب ، وتنفرهم من المدرسة ، وتكون حجر عثرة في طريق الرقي. ولكن يجب أن يعهد بوضعها إلى مربين حكماء وباحثين مخلصين ، يقيسون ذكاء الطلاب في كل مرحلة من مراحل الدراسة ، ويتعرفون على قدراتهم وميولهم واهتماماتهم ، ويصنفونهم على مستويات مختلفة ، ويضعون لكل صنف ما يناسبه ، فيراعون الفروق الفردية ويجعلون مناهجهم شاملة للناحيتين النظرية والعملية ، وللجوانب الجسمية والعقلية والنفسية والروحية ، ومناسبة للمجتمع والبيئة ويسعون لتكوين علماء عاملين وأتقياء مخلصين.

ويتم التلاميذ في هذه المرحلة الدراسة الابتدائية ، فتصبح لديهم القدرة على القراءة والكتابة وفهم ما يقرؤنه ، والتعبير عن آرائهم بأسلوب صحيح واضح. ثم يتابعون الدراسة الإعدادية ، فيكملون تحصيلهم ، وتنضج شخصيتهم ، وتتضح استعداداتهم واتجاهاتهم ، ويوجهون نحو ما ينفعهم ويرفع أمتهم.

ويكمل الوالدان مهمة المدرسة. وأهم ما يجب الحرص عليه هو تعليم أركان الإسلام والإيمان والأحكام الأساسية في الدين ، والقيام بالصلاة ، والتحلي بالأخلاق الحميدة والآداب الرفيعة.

عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن» (٢٢).

ولا ينكر أثر المجتمع في تربية الطفل بعد أن يخرج من نطاق الأسرة ويختلط بالآخرين. فبإمكان هؤلاء أن يعلموه قواعد التعامل مع الناس ، ويجعلوه يحترمهم ويحافظ على حقوقهم ، ولهذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسلم على الصبيان ، ويداعبهم ويكرمهم :

عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (أنه مر على صبيان فسلم عليهم ، وقال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله) (٢٣).

مرحلة البلوغ والرشد :

يكمل الطلاب في هذه المرحلة دراستهم في المدارس الثانوية والمعاهد والكليات الجامعية ، ثم يتوجهون للقيام بالأعمال التي يحصلون منها على دخل مناسب. كما يمكنهم العمل من بداية هذه المرحلة. على أنه لا يجوز الانقطاع عن المطالعة ودراسة الكتب النافعة ، بل يجب الاستمرار في التعلم والمضي في طريق التربية. ولهذا يجب التشجيع على المطالعة وتوفير الكتب وإعداد المكتبات والاهتمام بذلك كاهتمامنا بالطعام والشراب. فلا تنهض الأمم بغير العلم ولا تتقدم الشعوب بدون المعرفة. والعلم يؤدي إلى اتقان العمل ، والعمل وسيلة للحصول على العلم.

وفي هذه المرحلة تنضج غريزة الإنسان ، ويصبح لديه ميل نحو الجنس الآخر ، فيجب معالجة ذلك بالصبر والعفة. قال الله تعالى :

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٢٤)

والصوم يعين الشباب على العفاف وغض البصر وحفظ الفرج ، كما يعينهم على ذلك منع النساء من إظهار زينتهن لغير أزواجهن ومحارمهن ، ومنع الاختلاط بين الجنسين ، ومنع كل ما يؤدي إلى إثارة الشهوات من روايات ومسرحيات وصور ماجنة.

ويستمر هذا العلاج حتى يتزوج الشاب. وقد حث الإسلام على الزواج لأنه الطريق الطبيعي لإرواء الدوافع الفطرية ، والوسيلة الأساسية للمحافظة على كيان المجتمع وإمداده بعناصر جديدة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» (٢٥).

والودود : المحبوبة بما هي عليه من خصال الخير وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها.

والودود : كثيرة الولادة. ويعرف ذلك في البكر بحال قريباتها.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة» (٢٦).

ولا ينبغي أن يكون الفقر عائقا دون الزواج ، فقد وعد الله المتزوجين بالغنى واليسار :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى (٢٧) مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ (٢٨) إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). (٢٩)

وحذر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الامتناع عن تزويج الأكفياء الصالحين :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» (٣٠).

وقد نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المغالاة في المهور ، ورغب في تيسير الزواج فقال :

«أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا» (٣١).

«خير الصداق أيسره» (٣٢).

فالمجتمع الإسلامي يمنع الفاحشة ، ويعاقب من يفعلها ، ويضيق كل السبل المؤدية إليها. ويرغب في الزواج ويزيل ما يقف في سبيله من عقبات ؛ مما يؤدي إلى صون الشرف والكرامة ، وحفظ العرض والنسل ، وانطلاق الفرد للعلم والعمل. أما المجتمعات الفاسدة المنحلة فإنها تغري بالفاحشة ، وتسهل ارتكابها ، وتستهين بالزواج

وتضع العوائق في طريقه : مما يؤدي إلى انهيار الأسرة ، والتحلل من الأخلاق ، وانتشار البؤس والشقاء.

وبعد ذلك يصبح الرجل أبا ومربيا لأولاده ، وقد يعهد إليه بتربية أولاد غيره في المؤسسات التربوية ، وبهذا يرد إلى المجتمع ما عليه من ديون ؛ فقد أتاح له مجتمعه العيش الكريم والتربية القويمة ، ووفر له الكثير من الخدمات ، وأنفق عليه المبالغ الضخمة حتى بلغ أشده واستوى. وحين يكون أسرة ، ويسهم في تربية أولاده وغيرهم ويعمل في بعض المجالات النافعة ، فإنه يقضي دينه ، ويرد الحقوق إلى أصحابها ؛ فيعلو صرح المجتمع ، وتتصل حلقات التربية ، ويصبح أبناؤه علماء مؤمنين. قال الله تعالى :

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). (٣٣)

مرحلة الكبر والشيخوخة :

الشيخوخة هي المرحلة الأخيرة في حياة الإنسان. قال الله تعالى :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ (٣٤) ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (٣٥)

وفي هذه المرحلة يعود الإنسان ضعيفا كما كان في مرحلة الصغر :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ). (٣٦)

وحينئذ يضعف عقله كما يضعف جسمه ، وتضعف ذاكرته ، وينسى الكثير مما تعلمه : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ (٣٧) لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً). (٣٨)

وخير مكان يقضي فيه الشيخ أيامه الأخيرة هو بيته الذي قضى فيه شبابه ، بين أبنائه وأحفاده ، ووسط جيرانه وأصحابه ، حيث يبادلونه الحب ، ويشعرونه بالاحترام ويستفيدون من تجاربه في الحياة ، ويقتبسون منه الحكمة ، ويتلقون منه العلم والخلق

أما تخصيص دور للعجزة فأمر غير إنساني ، وعادة غريبة عن دار الإسلام ، حيث يصبح العاجز فيها كالشجرة الكبيرة التي قطعت جذورها وقلعت من تربتها ، ووضعت في تربة غير صالحة لها ؛ فسرعان ما تموت.

وكذلك فإن العاجز في هذه الدور يشعر بالغربة وبعزوف ذويه عنه ، ويصعب عليه التكيف في مجتمعه الجديد ، ولا يمكنه تكوين صداقات جديدة ، فينزوي على نفسه ، وتسوء حاله ، حتى يأتي أجله.

وقد أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالإحسان إلى الوالدين ، حتى إنه قرن ذلك بالأمر بإفراده بالعبادة في كثير من الآيات ، وأمر بالتواضع لهما والرفق بهما والصبر على أخلاقهما حين الكبر. ونهى عن كل إزعاج لهما ، وأشار إلى وجوب إسكانهما مع الابن في قوله :

(وَقَضى (٣٩) رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ (٤٠) وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ (٤١) مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً). (٤٢)

وحذر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تضييع الكبير وعدم احترامه فقال :

ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا» (٤٣)

ووعد من يكرم الكبير بالتكريم حين يكبر :

عن أنس رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه» (٤٤)

ولا ينبغي للشيخ أن يتوانى في طلب العلم ، بل عليه أن يستدرك ما فاته ، ويراجع ما حصله ، ويتذكر ما نسيه.

قيل لأبي عمرو بن العلاء هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟

قال : إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم (٤٥)

وبالإضافة إلى هذا فإن عليه أن يقدم علومه التي حصلها وخبرته التي اكتسبها وحكمته التي أوتيها لمن يخلفه من بعده ، حتى لا يذهب العلم بموت العلماء.

هوامش الفصل السادس

__________________

(١) رواه ابن ماجه من حديث عائشة مقتصرا على أوله. وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس : «تزوجوا في الحجر الصالح ، فإن العرق دساس». وروى أبو موسى المديني في كتاب تضييع العمر والأيام من حديث ابن عمر : «وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس». وكلاهما ضعيف.

(٢) رواه البخاري ومسلم ، واللفظ له ، وأبو داود والترمذي والنسائي.

(٣) رواه أبو داود والترمذي وصححه.

(٤) الرضاعة الطبيعية : ١٠٥ ، ١٠٨ ـ ١١٠ ، ١٣٨ ، ١٤٥ ، ١٥٢ ، ١٥٥ ، ١٥٩ ، ١٦٤

(٥) سورة البقرة : ٢٣٣

(٦) الرضاعة الطبيعية ص : ١٢٩

(٧) سورة البقرة : ٢٣٣

(٨) رواه أبو داود.

(٩) رواه أبو داود والنسائي وأحمد

(١٠) وهو حزن بن أبي وهب ، جد سعيد بن المسيب

(١١) رواه البخاري وأحمد وأبو داود

(١٢) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

(١٣) رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

(١٤) رواه البخاري وأبو داود والترمذي.

(١٥) رواه الشيخان

(١٦) رواه البخاري

(١٧) رواه الترمذي. والآية في سورة التغابن : ١٥

(١٨) رواه النسائي والحاكم

(١٩) رواه الشيخان وأحمد والنسائي وأبو داود.

(٢٠) مجلة الدوحة العدد ١١٤ ص ١٣٢.

(٢١) المقدمة لابن خلدون ص ٤٧٨ ـ ٤٧٩ ، ٦٣٢.

(٢٢) رواه الترمذي والحاكم. ومعنى نحل : وهب

(٢٣) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي.

(٢٤) سورة النور : ٣٣

__________________

(٢٥) رواه أحمد ، وصححه ابن حبان عن أنس ، ورواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث معقل بن يسار.

(٢٦) أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس بسند حسن

(٢٧) جمع أيم ، أي من لا زوج له ذكرا أو أنثى بكرا أو ثيبا.

(٢٨) جمع أمة ، وهي الجارية المملوكة. والمقصود كل امرأة غير متزوجة.

(٢٩) سورة النور : ٣٢

(٣٠) رواه الترمذي في كتاب النكاح

(٣١) رواه أحمد والبيهقي والحاكم من حديث عائشة. والصداق : المهر.

(٣٢) أخرجه أبو داود وصححه الحاكم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(٣٣) سورة المجادلة : ١١

(٣٤) تكامل قوتكم من الثلاثين سنة إلى الأربعين.

(٣٥) سورة غافر : ٦٧

(٣٦) سورة الروم : ٥٤

(٣٧) اخسه من الهرم والخرف

(٣٨) سورة الحج : ٥

(٣٩) أمر

(٤٠) مصدر بمعنى تبا وقبحا

(٤١) أي ألن لهما جانبك

(٤٢) سورة الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤.

(٤٣) رواه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما

(٤٤) رواه الترمذي

(٤٥) العقد الفريد لابن عبد ربه ، اختيار د. محمود يوسف زايد ق ١ ص : ٨٤.

الفصل السابع

المؤسسات التربوية (*)

يتلقى الإنسان التربية في أماكن مختلفة ، يقوم بالعملية التربوية فيها منظمات عديدة ، أهمها : الأسرة والمسجد والمدرسة والمكتبة والمجتمع. وهذه نبذة عن كل منها.

١ ـ الأسرة

الأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى في حياة الإنسان ، فأول ما يفتح عينيه يجد نفسه في حضن أمه وأبيه بين إخوته وأخواته.

وفيها يحصل على الطعام الذي يؤدي إلى نمو جسمه ، ويتعلم اللغة التي تمكنه من التعلم بخطوات سريعة ، ويتلقى أصول العقيدة والأخلاق ، ويقوم بالعبادات المفروضة ، ويتحلى بالآداب الرفيعة ، ويكتسب العادات الحسنة ، وتنشأ بينه وبين أفراد أسرته علاقات تجعله سعيدا أو كئيبا. ومنفتحا علي الناس أو منزويا على نفسه وتحدد معالم شخصيته ، وترسم ملامح صورته.

وقد بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدور الخطير الذي تقوم به الأسرة ، وتأثيرها العظيم على عقيدة الطفل ونظرته إلى الحياة بقوله :

كل مولود يولد على الفطرة ، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (١)

فالطفل يولد سويا ، لديه القابلية ليكون مسلما موحدا لله ، لكن أبويه يجعلانه يهوديا إذا كانا يهوديين ، أو نصرانيا إذا كانا نصرانيين ، أو مجوسيا إذا كانا مجوسيين يعبدان النار. وهما يتحملان عاقبة فعلهما ، فيثابان إذا جعلا ألادهما مؤمنين صالحين ، ويعذبان إذا حالا بينهم وبين الإيمان ، وجعلاهم كافرين فاسقين.

ولا إثم عليهما إن فعلا غاية وسعهما لتنشئة الأولاد على الإيمان والعبادة والخلق الحميد ، وصار الولد طاغيا فاجرا.

__________________

(*) نشر هذا الفصل في مجلة الثقافة الإسلامية عدد ٤٠ تاريخ جمادى الأولى ١٤١٢ ه‍ ـ تشرين الثاني ١٩٩١ ص ١٦٠ ـ ١٧٣.

وقد جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأديب الولد وحسن تربيته أفضل من مساعدة الآخرين والإحسان إلى المحتاجين ؛ وذلك لأن التربية أعظم أثرا وأكثر نفعا من الصدقة.

عن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع» (٢).

ولا أريد الخوض في المشكلات الناشئة عن تربية الولد البكر والوحيد ، والذكر بين أخواته الإناث ، والأنثى بين إخوتها الذكور ، مما هو مذكور في علم نفس الطفل. فالله هو الذي خلق الذكر والأنثى ، ومن الواجب الرضى بعطائه والعمل على مرضاته ، قال تعالى :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٣)

وقد اعتبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تربية البنات أعظم أجرا لما هن عليه من رقة الجانب وشدة الانفعال ، ولأن الناس في الجاهلية كانوا يكرهون البنات ويفضلون البنين.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من بلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار» (٤)

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو اختان فأحسن صحبتهن ، واتقى الله فيهن فله الجنة» (٥)

ولا يقتصر دور الأسرة في التربية على مرحلة الطفولة ، بل يستمر طيلة مراحل العمر ، وإن كان يعظم أثره في تلك المرحلة. ثم إن الوالدين هما أول من يجني ثمرات التربية الصالحة لأولادهم ، وذلك حين يكبرون ويصبحون بارين بهم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله والدا أعان ولده على بره» (٦)

٢ ـ المدارس

نشأت الحاجة إلى المدارس مع رقي المجتمع وازدهاره وتعقد سبل الحياة وعجز الوالدين عن تعليم أولادهم ما يحتاجون إليه ، وزادت أهميتها مع تعلم الإنسان القراءة والكتابة. وازدادت المدارس زيادة ملموسة مع انتشار الإسلام الذي فرض على أبنائه طلب العلم.

وكانت تسمى في العصور السابقة بالكتاتيب.

ومما يدل على عناية المسلمين بالمدارس وإقبال الناس عليها في ظل الإسلام قول العلامة" حسن حسني عبد الوهاب" عن ظهور الكتاتيب في افريقية : «لا مراء أن الغزاة العرب من الصحابة وتابعيهم لما فتحوا افريقية أواسط القرن الأول للهجرة ، كان الكثير منهم في عيالهم وذراريهم ، فعند ما أناخوا بعسكرهم وخطوا" قيروانهم" أول ما أنشؤوا الدور والمساجد ، ثم التفتوا إلى تعليم صبيانهم ، فاتخذوا لهم محلا" كتابا" بسيط البناء يجتمعون فيه لقراءة كلام الله العزيز ، لما كان لأولئك الأفاضل من العناية الكبرى بأمر دينهم القويم ، وهم القائمون بنشر دعوته ، المكلفون بركز دعامته سواء بين الأقارب أو الأباعد من أبناء الشعوب المغلوبة على أمرها أو المؤلفة قلوبها .. ولم يزل شأن الكتاتيب في نمو ، وعددها في ازدياد وتكاثر في العاصمة وفي المدائن الإفريقية الكبيرة" كتونس وصفاقس وسوسة" حتى لم يخل منها درب من الدروب أو حي من الأحياء. وربما تعددت الكتاتيب في الحارة الواحدة مثلما تعددت المساجد في الحارات» (٧)

ولم يكن الكتاب غير غرفة يجلس فيها التلاميذ على الحصر والجلود. ويجلس أمامهم شيخ جليل يعلمهم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة ، وقد يعلمهم الحساب والشعر والنحو والخطابة. قال" سحنون" :

" ويلزمه أن يعلمهم الوضوء والصلاة ، لأن ذلك دينهم"(٨)

وكان أهل المشرق يبدؤون بتعليم الطفل الخط والحساب والعربية ، فإذا حذق كله أو حذق منه ما قدر له خرج إلى المقرئ ، فلقنه كتاب الله فحفظ منه كل يوم ربع حزب أو نصفه أو حزبا ، حتى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليم أو تركه وكان عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة (٩).

أما أهل الأندلس فكانوا إذا عقل الصبي علموه كتاب الله ، فإذا حذقه نقلوه إلى الادب ، فإذا نهض منه حفظوه الموطأ ، فإذا لقنه نقلوه إلى المدونة (١٠).

ذكر ابن خلدون أن مذهب أهل الأندلس تعليم القرآن والكتاب من حيث هو ،

ولا يقتصرون عليه ، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر والترسل ، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها ، وتجويد الخط والكتاب.

وكذلك كان أهل افريقية يخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم ، وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ، ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه ، وعنايتهم بالخط تبع لذلك.

وأما أهل المغرب فكان مذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط ، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه ، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم ، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب ، إلا أن يحذق فيه أو ينقطع دونه (١١).

وكان عدد التلاميذ قليلا ، وفيهم الكبير والصغير الذي لم يتجاوز الخامسة أو السادسة من العمر. وكان الشيخ يتقاضى أجرا منهم ، وكان متعففا يقنع بالقليل الذي يكفي لسد رمقه ، ويبتغي بعمله وجه الله تعالى. وكانت مدة الدراسة قصيرة لا تزيد على سنة أو سنتين إن لم تنقص عن ذلك ، وكانت تغلق أبواب الكتاب يوم الجمعة وأيام الأعياد الشرعية : يوما أو ثلاثة في عيد الفطر ، وثلاثة أيام أو خمسة في عيد الأضحى (١٢).

وكان التلميذ يترك الكتاب غالبا حين يختم القرآن الكريم ، ثم يعمل في الزراعة أو التجارة ، أو يمتهن إحدى المهن ، ويتابع تعليمه بين يدي العلماء الكبار إن كان من النابهين ، دون أن يمنعه طلب العلم من كسب العيش.

وتطورت المدارس ، فاتسعت وزاد عدد طلابها ، وزادت مدة الدراسة فيها مع اتساع المعرفة التي حصلت عليها البشرية خلال العصور المتتابعة ، حتى أصبحت مدة الدراسة تزيد على العشرين سنة ؛ وأصبحت منقسمة إلى درجات وأنواع مختلفة ، وأصبحت الواحدة منها تضم ما يزيد عن الألف من الطلبة.

وأصبح الآباء ملزمين بإرسال أبنائهم إلى المدارس الابتدائية في سن السادسة أو السابعة ، ليقضوا فيها نحوست سنوات.

وهناك رياض الأطفال أو دور الحضانة قبل المرحلة الابتدائية. ثم يتابع التلاميذ الذين تخرجوا من المدرسة الابتدائية الدراسة في المرحلة الإعدادية والثانوية ، ليقضوا نحو ثلاث سنوات في كل منهما. وأصبحت المدارس الثانوية متعددة الاختصاصات ،

تشمل التعليم العام في فرع الآداب أو العلوم ، والتعليم الشرعي والمهني في الصناعة أو التجارة أو الزراعة ، وغير ذلك مما يطول شرحه. وينتقل الطالب الذي حصل على شهادة الدراسة الثانوية إلى المعاهد المتوسطة أو كليات الجامعة بأقسامها العديدة ، ويقضي نحو سنتين في الأولى وأربع سنين في الأخرى. ثم يكمل تخصصه في الدراسة الجامعية العليا خلال مثل ذلك من السنين.

وبعد هذا العناء الكبير الذي يستغرق نحو نصف أو ثلث عمر الإنسان ، ويكلف الأموال الكثيرة يحق لنا أن نسأل : هل استطاعت هذه المدارس أن تحقق أهداف التربية وهل تقدم المجتمع وقضى على الفساد والجهل وسائر أسباب التخلف؟ وهل أصبح الحائز على أعلى الشهادات الجامعية مختلفا في تفكيره ونظرته إلى الوجود وسلوكه وخلقه عن الذي لم يتلق تعليما قط؟ أم إن المجتمع تتعقد مشاكله ، وتتسع عوامل فساده! والمتخرج من أرقى الجامعات لا يتميز في سلوكه وجشعه وأنانيته عن غيره!

ألسنا نعاني من الغش وعدم الإتقان لشيء ، ومن الفوضى والاضطراب ، ومن الظلم والفساد ، ومن الأثرة والجشع ، ومن الرشوة والاحتكار ومن ضياع الأمانة وانتشار الخيانة ومن الكذب ونقض العهود ، وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية ، والخلقية!

وما فائدة المدارس إن لم تكن وسيلة لرقي المجتمع ، وما قيمة العلم إذا لم يؤد إلى سمو الإنسان! وما السبيل إلى هذا؟

إن السبيل إلى إصلاح الفرد والمجتمع هو صياغة التربية وفق منهج القرآن والسنة. ولا يعني هذا الاقتصار عليهما في التعليم ، بل جعلهما أساسا في التربية ، والانطلاق مما فيهما من الأحكام والأسس. ويجب أن تكون مناهج المواد المختلفة منبثقة من منهج القرآن والسنة ، وموافقة لهما ، وملائمة للطلاب الذين يدرسونها ، وللمجتمع الذي يعيشون فيه. ولا يتمكن من وضع هذه المناهج غير العلماء المؤمنين الذي نهلوا من معين القرآن ، واقتبسوا من نوره ، فتخلصوا من رواسب المجتمعات الجاهلية ، وطرحوا الأفكار الدخيلة على هذا الدين.

ولا يحسبن أحد أن مناهج الدول الغربية التي سبقتنا في مضمار الرقي والتقدم صالحة لبلادنا ، لأن المناهج يجب أن تكون متفقة مع عقيدة الذين وضعت لهم وملائمة لواقعهم. ثم إنا لا نريد تقدما في الناحية المادية وحدها كما حدث في تلك الدول الغربية ، إذ تقدمت صناعاتها ، واخترعت أجهزة لرفاهية الإنسان ، ولكنها اخترعت

أيضا أسلحة فتاكة تعرض البشرية للفناء ، وعجزت عن النهوض بالجانب الاجتماعي والروحي للناس ، فبقي المرء يعيش في عزلة عن غيره ، وبقي المجتمع متفككا ، يعاني من سلب الأموال وسفك الدماء ، وانتهاك الأعراض ، ولم يذق الإنسان طعم السعادة ؛ فانصرف إلى تناول الخمر والمسكرات والمخدرات ، وأصبح يئن مما أصابته به تلك الحضارة المادية من أمراض نفسية وعصبية وعقلية وجسمية ، وأقدم على الانتحار ليضع حدا لبؤسه وشقائه.

أما المناهج المستمدة من القرآن والسنة فإنها تصلح للفرد والجماعة ، وتتلاءم مع فطرة الإنسان ، وتحقق سعادته ، وتشمل كيانه كله ، وتنهض بكل جانب من جوانبه الجسمية والنفسية والاجتماعية والخلقية ، وتؤدي إلى التقدم والتفوق على أمم الأرض كلها.

ولتحقيق ذلك يجب إعداد معلمين ومدرسين يربون تلاميذهم وطلابهم وفق هذا المنهج ، يخلصون في عملهم ، ويبذلون أقصى جهودهم للنهوض بأمتهم. ويجب إقصاء من يعمل في حقل التربية ، ولا توجد لديه الرغبة في هذا العمل الخطير ، أو لا يوجد لديه الاستعداد للقيام بهذا العمل الجليل. ويجب إنصاف هؤلاء المربين ، وجعلهم في مستوى لا يقل عن مستوى الأطباء والمهندسين وكبار الموظفين. فالذي يهذب النفوس ، وينمي العقول ، ويصنع الأبطال ، أعظم من الذي يداوي الأجسام وينشئ الأبنية والمصانع. ولو لا المعلم ما تخرج طبيب ولا مهندس ، ولا وجد عالم أو مخترع. وكلما زادت الأموال التي ننفقها في مجال التربية ، زاد المردود الذي يعود على الفرد والأمة بالنفع العظيم. فالتربية هي الأساس في كل إصلاح وهي السبب في كل تقدم.

ولإنجاز ذلك يجب اختيار الطالب على أسس نفسية وعلمية سليمة ؛ فزيادة طلاب الصف عن عدد معين يمنع من تأثرهم بالتربية بالشكل المثمر. ووجود طلاب في الصف لا يستطيعون فهم دروسهم ولا يبذلون جهدا لتعلمها ، يعرقل تعلم الأذكياء والمجتهدين.

ولا يجوز أن يبقى بين الطلاب من يزعجهم بالثرثرة والحركات الطائشة ، ولا أن يقبل في المدارس من يتعمد تكسير ما فيها من المقاعد والأدوات ، ولا يحافظ على النظافة والهدوء ، ولا ينصاع للنظام ، ولا يحترم المربين.

وإذا أصبح التعليم الابتدائي إلزاميا للتلاميذ الأسوياء في عقولهم وحواسهم ، فلا ينبغي أن يقبل في المرحلة الإعدادية من لم يتقن القراءة والكتابة! ولا يناسب أن

يكون الطالب في المرحلة الثانوية والجامعية في فرع لا يميل إليه ، وليست لديه القدرة على تحصيل الدروس المقررة فيه : فمثل هذا يؤدي إلى ضياع المال والوقت والجهد ، وتنشأ عنه خسارة كبيرة.

وإذا كنا عاجزين عن توفير التربية الرفيعة لكل أبناء الأمة ، فمن الأفضل اختيار من يستجيب لها أكثر من غيره. ومن غير الجائز أن تستوعب المدرسة أعدادا كبيرة لا تتمكن من الإشراف عليها ، ولا تستطيع توجيهها وقياس قدراتها وتنميتها.

وما مصير الذين أبعدوا عن المدارس ، وحرموا من التربية فيها؟ هل يتركون للعبث والفوضى في الشوارع والحدائق والملاعب والملاهي ...؟

لا ، وإنما يجب أن يعهد بتربيتهم إلى مؤسسات ومعاهد خاصة ، تتناسب مناهجها مع ميولهم واستعداداتهم. أو يجب أن يكلفوا بأعمال تناسبهم وتنفع أمتهم.

ولا بأس في توفير عمل مناسب للكبار الذين يكملون تعليمهم ، ليحصلوا على دخل يكفيهم. فالعمل ينشط الجسم ، ويشحذ الذهن ، ويقوي الشخصية. وهو أسلوب هام من أساليب التربية. والتربية النظرية وحدها تجعل الإنسان خاملا والجسم ضعيفا ، والعقل كالا ، وتؤدي إلى الضجر والملل. ولذا يجب ألا تزيد ساعات التدريس النظري عن حد معين في اليوم. وأن يدرب الطلاب على القيام بالخدمات التي يحتاجون إليها ، وإصلاح الأدوات التي يستخدمونها. وأن تتاح لهم الأعمال المناسبة لاختصاصهم ، مما يجعلهم يعتمدون على أنفسهم ، ويسهمون في تقدم أمتهم قال الله تعالى :

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (١٣)

٣ ـ المساجد

المساجد بيوت الله ورياض الجنة وأقدس الأماكن وأطهرها في هذه الأرض. ولها دور عظيم في التربية. وتبدأ صلة المسلم بالمسجد من سن التمييز حين يؤمر بالصلاة ، وتستمر حتى وفاته ، وهو أخر مكان يعرج عليه في دنياه حين يسجى في نعشه ، ويصلى عليه.

ولهذا فإن الأثر التربوي للمساجد كبير وفعال. وينشأ هذا الأثر مما يلقى فيها من الخطب أيام الجمع والأعياد. والدروس الدينية التي تبين أركان الدين وأحكام العبادات ونظام المعاملات ، والمواعظ التي ترشد إلى محاسن الأخلاق وتحذر من سيئها ولقد كانت التربية في المساجد مرحلة أعلى من التربية في الكتاتيب والمدارس الأولية. وكانت تدرس فيها جميع أنواع العلوم قبل أن توجد الجامعات والمدارس النظامية ، ولم تكن تلك الدروس تقتصر على القرآن والسنة والفقه ونظام الإسلام ، وإنما تشمل اللغة العربية وآدابها وقواعدها ، والتاريخ والجغرافية والفلسفة والمنطق والرياضيات وغيرها مما هو نافع للناس يبتغى بتدريسه وجه الله عزوجل.

وإن أسلافنا الذين تعلموا في المساجد كانوا علماء أجلاء ، قضوا على الجهل ، وأناروا الدنيا بعلمهم. وإن الحائز على أعلى الشهادات التي تمنحها الجامعات اليوم ليحني رأسه إجلالا أمام أولئك العلماء الأفاضل ، لسعة علومهم وتنوع معارفهم وتعمقهم في البحث والدراسة ، ولعظم مؤلفاتهم التي كتبوها على ضوء الشمعة ، دون أن ينعموا بشيء من وسائل الترف وزينة الحياة.

وإن حصيلة المتعلم في جلسة واحدة تمتد من الفجر إلى الظهر ، يجلسها بين يدي عالم معتكف في أحد المساجد ، تفوق حصيلة المدارس في أيام عديدة ؛ لأنه كان يجلس باختياره ، ويصغي إلى كل كلمة تصدر عن العالم ، فتقع في قلبه ، وهو يشعر بالسكينة وتغشاه الرحمة ، وتحفه الملائكة.

كما إن المسجد يسهم في التربية الذاتية بما يحتويه من المصاحف والكتب القيمة في التفسير والحديث النبوي والفقه والأخلاق والأدب والنحو وسواها ؛ مما يؤدي إلى سعة المعرفة وزيادة الاطلاع ، ويفسح المجال للبحث والتحقيق العلمي.

وحين يراعي المصلي آداب المسجد كالمحافظة على الطهارة ، والامتناع عن اللغط ورفع الصوت ، والتحلي بالسكينة والوقار ؛ فإنه يكتسب الأدب والخلق ،

ويتعلم احترام الآخرين والمحافظة على حقوقهم وممتلكاتهم. وللمسجد آثار تربوية اجتماعية ، تنشأ من التقاء المسلمين بعضهم ببعض ، وقيامهم إلى الصلاة ووقوفهم في صفوف منتظمة. وقد أشرت إليها فيما سبق.

ولتحقيق هذه الآثار كانت صلاة الجماعة واجبة ، وهمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعقاب من يتخلف عنها :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم آمر رجلا فيؤم الناس ، ثم أخالف إلى رجال (١٤) فأحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا (١٥) أو مرماتين حسنتين (١٦) لشهد العشاء (١٧)».

ومشي المسلم إلى المسجد يعتبر عبادة يثاب عليها :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«من تطهر في بيته ، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ، ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة ، والأخرى ترفع درجة» (١٨).

وبشر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم محب المسجد ، الذي يذهب إليه كل صلاة بالأمن والظل يوم القيامة :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :

الإمام العادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (١٩)»

وقد أثنى الله ـ عزوجل ـ على الذين يبنون المساجد ، ويعمرونها بالصلاة والذكر والعلم ، فقال :

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٢٠)

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ (٢١) وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٢٢) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ

وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). (٢٣)

ولا يقتصر هذا الفضل على الرجال ، فالنساء أيضا كن يسعين إلى صلاة الجماعة في المسجد ، وقد سمح لهن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك :

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن» (٢٤)

واختصاص الليل بذلك لكونه استر. أو إنه إذا أذن لهن بالليل مع ظلمته ووحشته ، فالإذن لهن في النهار أولى. وقد جاء إطلاق الإذن للنساء في الذهاب إلى المسجد دون تخصيص بليل أو نهار :

عن ابن عمر وزيد بن خالد ـ رضي الله عنهم ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (٢٥)

ولذلك فمن الواجب الاهتمام بتشييد المساجد ، وجعلها عامرة بالصلاة وحلقات العلماء. وإذا ما أحسنا إعداد الأئمة والخطباء للمساجد ، وأحسنا إعداد المعلمين والمدرسين للمدارس ، أمكننا التعجيل في إصلاح المجتمع ، والنهوض به في وقت قصير.

٤ ـ المكتبات

لا تزال الكتب أفضل وسيلة للحصول على العلم والمعرفة ، ولا يستغني عنها طالب أو معلم أو مثقف. فالكتاب يطلعك على المادة العلمية بشكل مفصل مرتب مدعم بالأدلة. وبإمكانك أن تنهل من معينه كلما وجدت في نفسك رغبة في العلم ، وأن ترد حياضه كلما شعرت بظمأ إلى المعرفة ، دونما حاجة إلى إذن لدخول حماه ، ودون أن يكلفك بشيء من آداب الزيارة وحقوق الأصحاب. وهو لا يمتنع عن المثول بين يديك كلما أردت ذلك في ليل أو نهار ، ولا يبخل عليك بمنحك ما يحتويه من ذخائر وجواهر. ومهما قلبت أوراقه ونظرت في سطوره ازدت أدبا وفضلا ، ووجدت الأنس والمتعة والتسلية والبهجة.

وليس أدل على قيمة الكتاب في هذا الدين من أن أول ما نزل من القرآن الكريم يأمر بالقراءة ، ويبين فضل الله على الإنسان في تعليمه.

قال سبحانه وتعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٢٦)

ثم أقسم الله بالكتاب تنويها لرفعته وبيانا لأهميته فقال سبحانه :

(وَالطُّورِ (٢٧) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍ (٢٨) مَنْشُورٍ). (٢٩)

ولقد حذر الله من الإعراض عن الكتب القيمة ، وأمر بتدبرها وامتثال أحكامها وشبه المعرض عنها الذي لا ينتفع بها بالحمار الذي ينوء بحمل كتب كثيرة ، ولا يعقل منها شيئا. قال تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (٣٠) بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٣١)

وقد أنشد أبو عبد الله بن الأعرابي في فضل الكتب :

لنا جلساء ما نمل حديتهم

ألباء مأمونون غيبا ومشهدا

يفيدوننا في علمنا علم ما مضى

وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا

بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة

ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا.

وقال محمد بن بشير في شعر له :

لله من جلساء لا جليسهم

ولا خليطهم للسوء مرتقب

ولا بادرات الأذى يخشى رفيقهم

ولا يلاقيه منهم منطق ذرب (٣٢)

أبقوا لنا حكما تبقى منافعها

أخرى الليالي على الأيام وانشعبوا

إن شئت من محكم الآثار يرفعها

إلى النبي ثقاة خيرة نجب

أو شئت من عرب علما بأولهم

في الجاهلية تنبيني بها العرب

أو شئت من سير الملوك من عجم

تنبي وتخبر كيف الرأي والأدب

حتى كأني قد شاهدت عصرهم

وقد مضت دونهم من دهرنا حقب

ما مات قوم إذا أبقوا لنا أدبا

وعلم دين ولا بانوا ولا ذهبوا (٣٣)

ولقد كانت تنشأ مكتبات ضخمة بجانب المدارس والمعاهد العلمية ، يجد فيها روادها طرفا من كل علم وجانبا من كل فن ، ولم يكن هناك مانع من استعارة كتبها والنظر في مؤلفاتها ، أو الجلوس فيها ساعات طويلة للمطالعة في النسخ والتأليف ، وكانت الثقة والأمانة تغني عما استحدث من الوسائل المعقدة لاستعارة الكتب في العصر الحديث.

ولقد عني الخلفاء المسلمون منذ الأمويين بالكتاب ونشره بين الناس ، وإنشاء الخزائن التي تضم الكتب والدفاتر والسجلات. وكانوا يزودون المساجد الجامعة من كل إقليم بالخزائن التي تضم المصاحف وكتب العلم. وكان كثير من العلماء يقفون كتبهم وأوراقهم ومخطوطاتهم على خزائن المساجد ودور العلم ، يتقربون بذلك إلى الله ، ويرجون نشر العلم ومعونة أصحابه. ولعل أقدم الخزائن العربية التي عرفت بعض أخبارها هي خزانة الخليفة الأموي خالد بن يزيد بن معاوية ، وقد ظلت محفوظة في البلاط الأموي حتى فتحها عمر بن عبد العزيز للناس للإفادة منها والتعلم من نفائسها وروي أن الوليد بن عبد الملك جمع خزانة ، وجعل عليها خازنا اسمه سعد ، وأن يزيد ابن عبد الملك كان محبا للعلم ومنقبا عن كتبه ودواوين الشعر ، وأنه جمع خزانة كتب كبيرة في قصره ، رغم أن خلافته لم تزد على سنة وثلاثة أشهر.

أما العباسيون فقد اهتموا بالعلم وكتبه اهتماما كبيرا ، وانتشرت في عهدهم المكتبات العديدة. وعرف في العالم الإسلامي ثلاثة أنواع من المكتبات : عامة وخاصة بأصحابها ، ومفتوحة لطائفة معينة :

أما المكتبات العامة! فقد أنشئت بالمساجد لتكون في متناول الدارسين. وكانت

كثيرة جدا ، بحيث لا يكاد يخلو مسجد أو مدرسة منها. ومن أشهرها" بيت الحكمة" الذي أسسه هارون الرشيد ، وبلغ ذروته في عهد المأمون. وكان أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الإسلامي ، بل كان أول جامعة إسلامية اجتمع فيها العلماء والباحثون وطلاب العلم ، ومن المكتبات العامة الشهيرة أيضا" المكتبة الحيدرية" بالنجف ، وهي لا تزال موجودة إلى اليوم ، ومكتبة ابن سوار بالبصرة التي أسسها أبو علي ابن سوار الكاتب من رجال عضد الدولة ، وخزانة" سابور" التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير عام ٣٨٣ ه‍. وكانت مركزا ثقافيا ، يلتقي فيه العلماء والباحثون للقراءة والدرس ، وتعقد فيه المناظرات والمناقشات ، وكان يتردد إليها أبو العلاء المعري عند ما حل ببغداد أما المكتبات الخاصة! فقد أنشأها العلماء والأدباء لأنفسهم ، وكانت كثيرة جدا ومنتشرة بينهم ، وقلما يوجد عالم أو أديب دون أن تكون له مكتبة.

وأما المكتبات المفتوحة لطائفة معينة فقد أنشأها الخلفاء والملوك ، وأباحوا دخولها للوجهاء من الناس بإذن منهم (٣٤)

وكانت تنتشر دكاكين الوراقين في الأسواق لبيع الكتب وأدوات الكتابة. وكان العلماء يؤمونها في النهار ، ويبيتون فيها الليل ، ليطلعوا على ما تحتويه من آداب وعلوم وكان اللطف والزهد والرضى والقناعة أبرز ما يتصف به أصحابها فلم يكونوا يغالون في الثمن ، ولم يكونوا يحرصون على الربح مثل حرصهم على خدمة العلماء ومساعة طلاب العلم والإسهام في الحضارة.

فإذا ما أردنا النهضة العلمية والارتقاء إلى أعلى المراتب ، فإنه يجب إنشاء المكتبات العامة في كل الأحياء والبلدان ، وتسهيل سبل إعارة الكتب والمطالعة فيها ، كما يجب نشر الكتب الخاصة. في كل الأنحاء ، وتشجيع الكتاب والمؤلفين ، وتقديم الكتاب النافع بأقل التكاليف وأدنى الأرباح. فإن الحاجة إلى الكتب لا تقل عن الحاجة إلى الخبز والماء فهما أساس في غذاء الأجسام ، وهي أساس في غذء العقول ، وهي الوسيلة لتمكين كل متعلم من العلم الذي يرغب فيه ويتناسب مع قدراته ، وهي السبب في اتساع الثقافة والاستمرار في التربية.

٥ ـ المجتمع

تبدأ صلة الفرد بالمجتمع منذ نعومة أظفاره ، حين يقدم أقرباؤه وجيرانه لزيارة أهله ، أو يذهب لزيارتهم. وتزداد صلته به حين يذهب إلى المدرسة ،. ويلتقي بكثير من التلاميذ والمعلمين ، ثم يتخذ أصدقاء منهم ويبادلهم الزيارة ، ويتعرف على أهليهم وتعظم هذه الصلة حين يلتقي بالمصلين في بيوت الله ، وحين يصبح عاملا في أحد المصانع أو موظفا في إحدى الدوائر. وهو في كل ذلك يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه ، يتلقى منه العلم والمعرفة ، ويحصل على الأدب والخلق ، ويخضع لعاداته وأعرافه. فإذا كان المجتمع صالحا جعل أبناءه صالحين ، وإذا أصبح الفرد صالحا وصار عالما فاضلا فإنه يسهم في رقي مجتمعه ونهضته ، ويعمل لإصلاح أفراده وتربيتهم.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما دعامتان أساسيتان في القضاء على عوامل الفساد وتهيئة أسباب النجاح ، وفي محاربة الرذيلة ونشر الفضيلة ، ويقوم بهذه المهمة كل مؤمن ومؤمنة ، فيحرص الفرد على مصالح غيره كما يحرص على مصلحته ويحب الخير لأخيه كمن يحبه لنفسه فيصبح المجتمع متراحما متكافلا قال الله تعالى.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (٣٥)

ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا في هذا الدين ، فإذا أهمل هذا الغرض كانت العاقبة اللعنة والبوار كما حل ببني إسرائيل :

عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال :

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ). (٣٦)

ثم قال : كلا والله لتأمرون بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يدي الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا (٣٧) ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعننكم كما لعنهم (٣٨)».

وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» (٣٩).

وإذا ما قام الناس بهذا الغرض ، واستجابوا لهذه الدعوة كانت العاقبة الرحمة والفلاح قال الله تعالى :

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (٤٠)

وبهذا تصبح الأمة المهتدية بهذا الهدي والمتربية بهذا المنهج أفضل الأمم. قال الله تعالى :

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ). (٤١)

وهكذا يحصل التكافل بين الفرد والمجتمع ، فالفرد يشعر بانتمائه إلى المجتمع ، ويحرص على رفعته وعزته ، ويضحي بنفسه وماله للدفاع عنه ، ويقدم المصلحة العامة على مصلحته الخاصة ، والمجتمع يوفر لأفراده الحياة الكريمة ، ويلبي حاجياتهم ، ويتكون فيه رأي عام صالح ، بحيث يكرم الصالحون ، ويجزون بالحسنى ، ويردع المفسدون ، ويمنعون من العبث بحقوق الناس والعدوان عليهم ، فيصبح من دعا إلى الخير يجد الأعوان والمؤيدين ، ومن دعا إلى الشر يجد الأبواب موصدة في وجهه ، والناس واقفين في طريقه لمقاومته ومنعه.

هوامش الفصل السابع

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

(٢) رواه الترمذي

(٣) سورة الشورى : ٤٩ ـ ٥٠

(٤) رواه الشيخان والترمذي

(٥) رواه الترمذي وأبو داود

(٦) رواه ابن حبان

(٧) آداب المعلمين ص : ٣٣ ، ٣٧.

(٨) آداب المعلمين ص ١٠٢ ـ ١١٠

(٩) آداب المعلمين ص ١٤٠ نقلا عن كتاب الأحكام لابن العربي ج ٢ ص ٢٩١

(١٠) آداب المعلمين ص ١٤١ نقلا عن العواصم من القواصم لابن العربي. والموطأ والمدونة كتابان في الحديث والفقه للإمام مالك.

(١١) المقدمة لابن خلدون ص ٦٣٠ ـ ٦٣١ والمراد بالرسم كتابة المصحف.

(١٢) آداب المعلمين ص ٩٧

(١٣) سورة التوبة : ١٠٥

(١٤) أي آتيهم من خلفهم ، أو اتخلف عن الصلاة لأذهب إليهم

(١٥) العرق : العظم الذي عليه لحم رقيق

(١٦) المرماة : ما بين ظلفي الشاة من اللحم.

(١٧) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

(١٨) رواه مسلم والنسائي والترمذي

(١٩) رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي.

(٢٠) سورة التوبة : ١٨

(٢١) تعظم.

(٢٢) أي الصباح والمساء.

(٢٣) سورة النور : ٣٦ ـ ٣٨

(٢٤) متفق عليه.

(٢٥) رواه البخاري وأبو داود وابن حبان وابن خزيمة.

(٢٦) سورة العلق : ١ ـ ٥

__________________

(٢٧) الطور : هو الجبل الذي كلمه الله عليه موسى.

(٢٨) الرق : جلد رقيق يكتب فيه.

(٢٩) سورة الطور : ١ ـ ٣

(٣٠) الأسفار : جمع سفر وهو الكتاب.

(٣١) سورة الجمعة : ٥

(٣٢) حاد ، عنيف.

(٣٣) مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠

(٣٤) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص ١١٨ ـ ١٢٠

(٣٥) سورة التوبة : ٧١

(٣٦) سورة المائدة : ٧٨ ـ ٧٩

(٣٧) أي لتحملنه عليه.

(٣٨) رواه أبو داود والترمذي بسند حسن.

(٣٩) رواه الطبراني والترمذي بسند حسن.

(٤٠) سورة آل عمران : ١٠٤

(٤١) سورة آل عمران : ١١٠

الفصل الثامن

خصائص المنهج

نحاول في هذه الفصل الأخير أن نلقي ضوءا على منهج التربية في القرآن والسنة ، لنستخلص أبرز الخصائص التي يختص بها هذا المنهج الفريد في نوعه ، وأعظم المزايا التي تميزه عن غيره :

١ ـ فهو منهج رباني مستمد من كتاب عزيز (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (١)

ومستمد من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال الله فيه :

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). (٢)

وكل من عمل بهذا المنهج كان علي هدى وبصيرة :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (٣)

ولقد تخبط الناس طويلا في مناهج من صنع الإنسان ، تميل بهم ذات اليمن وذات الشمال. وكانوا لا يخرجون من متاهة حتى يضلوا في سواها ، تعصف بهم الأعاصير ، وتلقي بهم في ظلمات مدلهمة ، وهم حائرون ، لا يعلمون لماذا وجدوا فوق هذه الأرض ، وما مصيرهم بعد أن يعودوا فيها ، ولا يهتدون إلى ما ينظم علاقة بعضهم ببعض ، ولا إلى ما يحدد صلتهم بهذا الكون الذي يعيشون فيه وبالقوة العظمى التي أوجدته.

وما إن اهتدوا إلى هذا الدين حتى أيقنوا أن الله خلقهم وكلفهم بعبادته ، وأن عبادته ـ سبحانه ـ تجعلهم سعداء في هذه الحياة ، وأنهم سيبعثون بعد موتهم ليجازوا على أعمالهم. وعلموا أن الكون مسخر لهم ، وأن التفكير في آفاقه يهديهم إلى نظامه ويمكنهم من الاستفادة منه على أكمل وجه.

وهذا المنهج الرباني مبرأ من العيب والنقص ومن التحيز والهوى ، تلك العيوب

التي لا يخلو منها منهج وضعه واحد من البشر يجهل حقيقة نفسه فضلا عن جهله بحقيقة غيره. ومهما أوتي الإنسان من العلم يظل عاجزا عن الوصول إلى المنهج الذي ينعم في ظله ويهتدي بهديه إلا أن يهتدي بهدي الله سبحانه وتعالى :

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). (٤)

ولو حاول الإنسان وضع منهج للتربية بدون أن يقتبس من نور هذا المنهج الرباني لتأثر بجهله وهوى نفسه ، مما يجعل منهجه بعيدا عن الصواب وعن الحق ، ويجعله متحيزا غير ملائم للإنسان في جوانب حياته كلها ، وغير مناسب له في تكوينه الجسمي والنفسي ، وغير مستند إلى مبدأ المساواة والعدل بين الناس جميعا.

ومع أن الإنسان اكتشف الكثير من أسرار الكون ، وتمكن من التحليق في جو السماء والارتقاء إلى القمر ، ومن إطلاق السفن التي تخرق أجواز الفضاء لتصل إلى الكواكب البعيدة ، وتبث إليه صورها والمعلومات التي تسجلها آلاتها الدقيقة ، فإنه ما زال جاهلا بنفسه التي بين جنبيه ، وبعقله الذي يفكر فيه ، وكأنه غير مؤهل للخوض في هذا الغمار. ولا غرابة في ذلك ، فالعين تبصر ما حولها وتعجز عن إبصار نفسها ولا يستطيع أي عالم أن يجعل بني جنسه حقلا للتجارب ، ليخضعهم لمنهج وضعه ، ويقيس نتائج عمله ، ويعدل فيه حتى يصل إلى المنهج السوي ؛ لعدم قدرته على التحكم في العوامل التي تؤثر على الإنسان في حياته ، ولأن التنائج لا يمكن قياسها ومعرفة أبعادها قبل انقضاء حياة أولئك النفر الذين تربوا على ذلك المنهج ، وحينئذ تكون حياة العالم نفسه قد انقضت قبل أن يستكمل دراسته. ولو قدر بقاؤه أجيالا عديدة يجرب عليها ، لكان في تجاربه متأثرا بعقله القاصر وعلمه المحدود وهوى نفسه وسائر انفعالاته وعواطفه ، ولما تمكن من الوصول إلى الحقيقة ، وأنى له أن يتصورها ويضع المقاييس التي تحدد بعد طلابه أو اقترابهم منها ، وهو عاجر عن تصويب نظره إليها والإحاطة بها.

والإنسان أسمى من أن يجعل حقلا ليجرب عليه مناهج وأنظمة مختلفة. والمفاسد التي تنجم عن المناهج والنظم الفاسدة لا يمكن درؤها ، ومن الخير للناس أن يستمدوا نظام حياتهم ومنهجهم التربوي من الكتاب الذي أنزل لهدايتهم ، والذي وضعه العليم ببواطن النفوس الخبير بما يصلحهم.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (٥)

والعاملون لتحقيق هذا المنهج الرباني هم الذين يستحقون التمكين في الأرض وأن يجعلوا خلفاء فيها ، وأن يوجهوا دفة سفينة المجتمع نحو شاطئ الأمان ، وأن يمسكوا بحبل النجاة ليجنبوها المخاطر. وهم ورثة الأنبياء ، يقتفون أثرهم ويسلكون سبيلهم

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ). (٦)

والرباني منسوب إلى الرب ، وهو الكامل في العلم والعمل. وهو العالم المعلم الذي يغذو الناس بصغار العلم قبل كبارها ، أو العالي الدرجة في العلم ، والعالم الراسخ في العلم والدين والعارف بالله تعالى. وكونوا ربانيين : أي حكماء علماء (٧).

٢ ـ ومن أبرز خصائص هذا المنهج الشمول والتكامل : فهو لا يجعل التربية خاصة بطبقة من طبقات المجتمع دون غيرها كما كانت عند مختلف الأمم ، لا يتاح العلم سوى للأمراء والنبلاء وأبناء الأشراف والوجهاء. أما سائر الناس فكانوا هملا يساقون لخدمة الحكام الإقطاعيين ، أو يجبرون على العمل في زراعة الأرض والأعمال المهنية وتقديم الضرائب والأتاوات إلى أسيادهم ، وهم محرومون من العلم ، وممنوعون من دخول معاهد التربية :

ففي بلاد الهند كانت الدراسات العليا وقفا على طبقة الكهان وفي أثينا كان التعليم مقصورا على المواطنين الأثرياء أما الفقراء فكانوا ـ كما أراد لهم صولون ـ لا يتعلمون إلا القراءة والسباحة ومهنة من المهن. وكان هذا البون بين الأثرياء والفقراء يبدو أوضح في نوع آخر من التعليم شاع فيما بعد هو الخطابة والفلسفة. وأفلاطون قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات : طبقة الفلاحين والصناع ، وطبقة المحاربين ، وطبقة الحكام. وحرم الطبقة الأولى من كل تربية سوى تعلم مهنة من المهن ، وجعل ثقافة المحاربين تشتمل على الموسيقى والرياضة ، أما الحكام فكانوا يدرسون جميع العلوم ومعها المتيافيزياء ، ويحصلون على ثقافة فلسفية عالية.

والتربية التي كان يحلم بها" أرسطو" محصورة في أقلية ضئيلة ولم يكن للعبيد أي نصيب منها.

وكان الرومان يعدون أبناء الأشراف للحياة الحديثة أو لوظائف الدولة ، ويوجهون أبناء الفقراء توجيها مهنيا للعمل في الصناعة أو التجارة. ثم أصبحت التربية في القرون الأخيرة لعصر الإمبراطورية الرومانية مقصورة على الطبقة العليا وحدها. ولم تكن التربية حينئذ تقدر على أساس أنها تدريب للشعب عامة ، بل على أساس أنها حلية وشرف لطائفة معينة.

وبقيت التربية العالية وقفا على رجال الكنيسة وأبناء الطبقات العليا في أوربا طيلة العصر الوسيط ، واستمرت التفرقة بين الطبقات إلى عصر النهضة ، حتى إن جماعة اليسوعيين الذين انتشرت مدارسهم منذ منتصف القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر لم يعنوا بتربية الطبقة الدنيا من الناس ، وكان هدفهم أن يكونوا عددا من الزعماء ، والأشخاص اللبقين المحببين إلى المجتمع ،. وكانوا يعتبرون جهل الشعب خير حام لعقيدته ، ويقولون :

(ينبغي ألا يعلم القراءة والكتابة أحد ممن يستخدمون في الأعمال المنزلية لدى الجماعة ، وإذا علمهما فعليه ألا يزداد علما بهما. وينبغي ألا يعلم إلا بعد موافقة القائد ، إذا حسبه أن يخدم في بساطة وتواضع المسيح سيدنا).

وفي سنة ١٧٧٤ أسس" بزداو" في" دساو" بألمانية معهدا أطلق عليه اسم" المنشأة الإنسانية" كان غرضه تعليم الغني والفقير على السواء. ولكنه كان يهيء الأول للنشاط الاجتماعي وللزعامة الاجتماعية ، ويعد الثاني ليصبح معلما.

وكانت المرأة محرومة من أي ثقافة في بلاد الهند قديما ، وكانت مرتبطة بالرجل ارتباطا مطلقا.

وبقيت كذلك في أوربا إلى العصر الحديث ، حتى إن" مونتيني" رأى أن تبقى المرأة في الجهالة ، بحجة أن الثقافة تسيء إلى مفاتنها الطبيعية ، ومنعها من دراسة البلاغة لأنها تعني في نظره (أن نكسو جمالها جمالا غريبا مجلوبا). ورأى أن على النساء أن يقنعن بالمزايا التي يحققها لهن جنسهن ؛ فبالعلم الفطري الذي يملكنه يستطعن أن يدرن مديري المدارس ، وأن يقدنهم بالعصا.

وكذلك" فينيلون" الكاتب الفرنسي الذي ألف رسالة" تربية الفتيات" عام ١٦٨٠ لم يطالب المرأة بتعلم غير ما يتلاءم مع مهمتها المنزلية. ورأى أن الدراسات التي لا جدوى فيها تجعل منها عالمة مضحكة.

لكن الراهب سان بيير (١٦٥٨ ـ ١٧٤٣) رأى ضرورة تثقيف المرأة وأراد أن تنشأ للنساء معاهد قومية ومدارس تعليم ثانوي ، وأن تحبس الفتيات في مدارس داخلية ، لا تعرف أيام العطل ، ورجا الحكومة أن تهيء دروسا عامة لتلك النسوة اللائي يكون نصف الأسر (٨).

أما الإسلام قد أعلن مبدأ المساواة ، وجعل التربية حقا للناس أجمعين ، وجعل العلم فرضا على المسلمين. ولقد نص علماء التربية الذين تأثروا بهذا المنهج على وجوب المساواة بين الطلبة ، ونهوا عن تفضيل بعضهم على بعض ، قال الشيخ عبد الباسط العلموي : (ولا يظهر الشيخ للطلبة تفضيل بعضهم على بعض ، لا سيما إذا تساووا في الصفات من سن أو فضيلة أو تحصيل ديانة. فترجيح بعضهم على بعض مما يوغر الصدور. فإذا ظهرت فضيلته يثني عليه في حد ذاته من غير تصريح بأن فلانا أفضل من فلان) (٩).

وكان علماؤنا لا يخصون أحدا من الناس بعلم دون غيره لوجاهته وشرفه ؛ فقد طلب الأمير أبو أحمد الموفق من أبي داود السجستاني أن يروي لأولاده كتاب السنن ، وأن يفرد لهم مجلسا للرواية ، لأن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة! فقال أبو داود : " أما هذه فلا سبيل إليها ، لأن الناس شريفهم وو ضيعهم في العلم سواء"(١٠)

وفي هذا المعنى نظم الشاعر :

علم العلم من أتاك لعلم

واغتنم ما حييت منه الدعاء

وليكن عندك الغني إذا ما

طلب العلم والفقير سواء

ولم تكن عناية هذا المنهج قاصرة على العقل دون الجسم ، أو على الجانب الروحي دون المادي من حياة الإنسان ، بل هي شاملة لكل كيانه وجوانب حياته ، وهذا الشمول والتكامل ليس له وجود في غير هذا المنهج القويم.

ثم هو لا يسعى لتوجيه الناس وجهة تضيق عن استعداداتهم وتقصر عن تطلعاتهم ، ولا يصب الجميع في قوالب جامدة تجعلهم يشعرون بالضيق والحرج ؛ فالحرج مرفوع من هذا الدين : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). (١١)

وأحكامه سهلة لا عسر فيها : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١٢) ومنهجه التربوي يوجه الناس نحو ما يناسبهم ويتفق مع قدراتهم من الأعمال الفكرية والجسمية ويأخذ بيد الجميع نحو ما فيه صلاحهم وسعادتهم ، فيتحقق التكامل فيما بينهم. ، ويجعلهم يتسابقون لفعل الخير :

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (١٣)

٣ ـ وهو منهج متوازن معتدل :

يوفق بين جوانب الإنسان الجسدية والعقلية والروحية دون أن يسمح بطغيان جانب على غيره. ولقد كان اليونان القدماء في اسبارطة يضحون بالتربية الروحية في سبيل التربية الجسدية ؛ إذ كانت القوة الجسدية والقدرة الحربية هي الخصال المفضلة لدى الأسبارطيين الذين جعلوا هدفهم الأوحد تكوين أبطال وجنود ، فكانت نتيجة هذه التربية لديهم جهلا وغلظة في الطباع أما المشرع الأثيني" صولون" فقد جعل تمارين الجسد وتمارين الروح في مرتبة واحدة ، وقرر أن على الأطفال أن يتعلموا السباحة والقراءة قبل كل شيء.

وكانت التربية الجسدية موضع العناية في أول عهد الجمهورية الأثينية ، إلا أن التربية فيها ما لبثت بعد ذلك حتى غدت أميل إلى الثقافة الفكرية الأدبية ، ولا سيما في القرن السادس قبل الميلاد فأصبح اليونان يهتمون بالفكر والفلسفة ، وغلبت الناحية العقلية الفلسفية على التربية عندهم. ثم أعقبهم الرومان فأصبحوا على العكس منهم ، يعنون بقوة الأجسام ، ويدربون الأبطال على مصارعة بعضهم بعضا حينا ، وعلى مصارعة الثيران والوحوش حينا آخر ، وهم يمجدون القوي المنتصر ، ويسخرون من الضعيف الخاسر ؛ فغلبت الناحية المادية العملية على التربية الرومانية حتى سيطرت الكنيسة على أوربا في العصور الوسطى ، فأولت الناحية الروحية والخلقية اهتمامها ، وغلبت الناحية المثالية الخلقية على تربيتها ، فلم يعد للجسد عند القديس" جيروم" قيمة ، ولم يبق ثمة مجال للبحث في أمر تقويته والعناية به لنخلق منه أداة صالحة لنفس جميلة ، بل غدا عدوا يجب قهره بالصوم والامتناع عن الطعام. ومما قاله هذا القديس : (احرص على ألا تأكل بولا (١٤) أبدا أمام جمع ، وألا تحضر الموائد والحفلات العائلية ، خشية أن تصبو إلى ما يقدم فيها من صنوف اللحم ، ولتعتد الامتناع عن الخمرة ، فهي مصدر كل دنس ، ولتغتذ بالبقول غالبا وبالسمك نادرا ، ولتحاول إذا أكلت ألا تشبع) وذهب في احتقاره للجسد إلى أبعد من هذا فقال : (لو أن الرأي لي لمنعت الفتاة من الاغتسال منعا باتا). غير أنه أباح للأطفال الصغار الاغتسال وتناول الخمرة واللحم" عند ما تقضي الضرورة بذلك ، وخوفا من أن تخونهم أقدامهم قبل أن يصبحوا قادرين على المشي"(١٥) فكانت التربية المدرسية قبل عصر

النهضة الأوربية تدور حول أمور معنوية بحتة بينما تميل التربية الحديثة إلى نبذ المعنويات والاهتمام بالمحسوسات والماديات ، وأصحبت تهتم بالجسم والإعداد للحياة العملية ، وتعتني بالناحية الجمالية (١٦).

أما الإسلام فقد اهتم بتربية الإنسان في جميع جوانبه البدنية والعقلية والعاطفية والروحية بدون أن يطغى جانب على غيره ، أو يكون الاهتمام بناحية أكثر مما يناسبها ، وقد وازن بين جوانبه المختلفة توازنا دقيقا ، وأعطى كلا منها ما يستحقه من العناية والاهتمام.

كما وفق هذا المنهج بين الفرد والمجتمع حين عجزت المناهج البشرية عن التوفيق بينهما ، وجعلت الناس عبيدا بعضهم لبعض ؛ ما إن حررهم القائمون عليها من ربقة العبودية والإقطاع ، ومنحوهم حقوقا مطلقة ، وجعلوهم أحرارا في كل شيء ، وظنوا أنهم بذلك يحققون العدل والمساواة ، ويمنعون الظلم والاستغلال ؛ ما إن فعلوا ذلك حتى سيطر أصحاب المصانع والمصارف ، وتسلطوا على رقاب العمال والمحرومين. وما إن ثاروا على هذا الوضع الجائر ، وحدوا من حقوق الأفراد ، وزعموا أن الغالبية من الناس هم الذين يمثلون المجتمع ، ومصلحتهم هي التي يجب أن تراعى ؛ حتى سلب الفرد عزته وكرامته ، وشعر بالذل والهوان ، ورأى نفسه مرة أخرى خاضعا لفرد مستبد أو جماعة متعسفة.

والإسلام وحده هو الذي وفق بين الأفراد من جهة والمجتمع من جهة ثانية ؛ فالأفراد هم أعضاء المجتمع ، وعزتهم وقوتهم تؤدي إلى عزة الأمة ومنعتها. والمجتمع مكون من عدد من الأفراد ، وله شخصيته الاعتبارية وكيانه المستقل ، وإذا ما سمحنا له بالعدوان على حقوقهم ، فإنهم يهملون الدفاع عنه ، ويعرضونه للذل والانهيار ، كما إنا إذا سمحنا لفرد بتجاوز حده والحصول على أكثر من حقه ، نكون قد أخللنا بمبدأ التوازن ، وحرمنا الأخرين من حقوقهم. ولهذا أنصف هذا المنهج الفرد. ومنحه حقوقه كاملة ، وأشعره بعزته وكرامته ؛ ولكنه منعه من استغلال الضعفاء ، وحرم عليه الظلم والعدوان والتسلط على الآخرين ، وجعله مسؤولا عن نفسه وعن غيره ، وكلفه بأن يسهم في تحقيق التكافل الاجتماعي. أما إذا تعارضت مصلحة الفرد الخاصة مع مصلحة المجتمع العامة فإن الإسلام يرجح المصلحة العامة ، على أن يعوض على الفرد المتضرر التعويض العادل. وبذلك يتم التوفيق بين المصلحتين ، وتتم المحافظة على حقوق الأفراد والمجتمع.

وهذا المنهج لا يجعل الإنسان يعمل لدنياه ويهمل أخرته ، أو يعمل للآخرة ويهمل الدنيا ، كما هو شأن غيره من المناهج التي تغلب عليها النزعة المادية أو الروحية ، بل يجعله يعمل للدارين ويسعد فيهما ، لأن الآخرة امتداد للدنيا ، وما الموت إلا نقله من هذه الدار إلى تلك. وعلى الإنسان أن يبتغي الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا. ومن قصر اهتمامه على الدنيا كان فيها شقيا ، لا يدري كيف يقضي حياته ، يجري وراء السعادة وهي تفر منه ، والموت ينتظره حتى يبغته ، وهو لاهث منهوك القوى ، فيخسر الخسران المبين ، ومن عزف عن الدنيا وأهمل حظه منها ، فإنه يعجز عن حمل الزاد الذي يلزمه للدار الآخرة ، ولا يتمكن من الارتقاء إلى الدرجات العلى ، قال الله تعالى :

(وَابْتَغِ (١٧) فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ (١٨) الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). (١٩)

ولقد أباح الله الطيبات للمؤمنين ، ونهاهم عن تحريمها والعزوف عنها :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). (٢٠)

وأنكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النفر الذين أراد أحدهم أن يصوم الدهر ولا يفطر ، والثاني أن يصلي الليل أبدا ولا ينام ، والثالث أن يعتزل النساء ولا يتزوج أبدا ، ظانين أنهم بذلك يصبحون أكثر عبادة وأقرب إلى الله تعالى. وقال لهم : «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنني فليس مني» (٢١).

وبذلك يكون هذا المنهج ملائما للفطرة ، وملبيا لحاجات الإنسان المختلفة. أما المناهج الأخرى ، فكثيرا ما تتصادم مع الفطرة ، وتترك آثارا سيئة على النفس. مثل ذلك ما كان عليه الرهبان ، إذ كانت فضيلة الراهب تقاس بمهارته في ابتكار طرق جديدة وغريبة للتقشف ، وذلك عن طريق تعذيب الجسد بالجوع ، أو التغذية بغذاء غير مناسب ، وعدم النوم بما يكفيه ، وعن طريق ارتداء الملابس غير الكافية ، أو الوقوف وقفة غير طبيعية ، ومجهدة للغاية ، والبقاء على مثل هذا الوضع عدة شهور أو عن طريق عدم العناية بنظافة الجسد ، أو ربط الأطراف بالأربطة ، وبحمل السلاسل

والأثقال وغير ذلك من الطرق الأخرى التي تؤدي إلى التقليل من ملاذ الحياة أو القضاء على رغبات الإنسان الطبيعية ، أو التي يتسبب عنها الآلام لعدم العناية بتلك المطالب عناية كافية. وقد يودي هذا الأسلوب من أساليب الحياة بالقوى العقلية ، أو يؤدي إلى إضعافها. وفي كثير من الأحيان قد ينتهي بالراهب إلى الشذوذ العقلي ، أو يجعله نهبا للأحلام الشاذة (٢٢).

وهكذا غدت التربية المسيحية نظاما قاسيا يهيء لحياة مقبلة ، تنظر إلى كل ما يتصل بأمور هذه الحياة الدنيا نظرة احتقار وازدراء ، وإلى كل ما ينتسب إلى هذا العالم نظرها إلى شر كبير. وتعد كل عناية بنمو الشخصية الفردية ويتعهد الغرض البديعي أو النشاط الفكري خطيئة كبيرة. وكان المسيحي منفصلا عن العالم الإنساني ليدخل في ملكوت الله وكان عليه أن يعزف عن عالم فاسد مليء بالشرور ، وأن يتعهد نفسه بالحرمان والانصراف عن كل لذة (٢٣)

وميزة الوسطية والاعتدال أهلت الأمة الإسلامية لتولي قيادة البشرية وتوجيهها نحو الخير والهدى. قال الله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (٢٤)

٤ ـ الواقعية والمثالية :

لا ينكر هذا المنهج واقع الإنسان وبيئته ، ولا ما جبل عليه من ضعف ونقص ، ولا ما وضع فيه من غرائز وشهوات ، ولا ما يريد الحصول عليه من ملذات ومسرات. وهو إذ يعترف بواقعه البشري وبكيانه الجسمي والنفسي وبحاجاته المادية والمعنوية ، لم يتركه ملتصقا بالأرض وإنما حلق به في جو السماء ، ولم يدعه يتمرغ في الطين ، وإنما جعله يتضمخ بالطيب ، ولم يمنعه من اللذات والشهوات ، وإنما وفر له كل متعة جسمية وعقلية وروحية. ولم يفعل به ذلك قسرا ، ولم يفرض عليه ذلك فرضا. بحيث يرى نفسه مكلفا بما لا يستطيعه ، ومأمورا بما لا يقدر عليه ، مما يجعله لا يستقر على القمة التي رفع إليها ، بل ينتكص على عقبيه ، ويهوي إلى الحضيض ، ولكنه أخذ بيده برفق ، وسار به خطوات وئيدة ، وجعله يرفرف بجناحيه ، ويحلق شيئا فشيئا ، حتى يبلغ أعلى الدرجات ، ويسمو إلى أرفع المقامات ، وجعله رافع الرأس ، يتقدم نحو الأمام ، ويرتفع إلى الأعلى حتى تنتهي رحلة الحياة ، فيستقر في عليين.

ومثال ذلك أن هذا المنهج اعترف بحاجة الجسم إلى الطعام والشراب ، ولكنه لم يترك الإنسان يأكل كل ما يجده ، ويتجرع كل ما يصادفه ، بأي شكل وكيفما اتفق ؛ وإنما أحل له الطيبات وحرم عليه الخبائث ، وعلمه آداب تناول الطعام والشراب بما يتفق مع فضل الإنسان ومنزلته الرفيعة. ولم يدع الإنسان يلتهم الطعام كلما أحس بالجوع ، وينهل من الشراب كلما أحس بالعطش ، ولم يخل بينه وبينهما ، يملأ معدته بهما حتى يصاب بالتخمة ، ويصبح عبدا لبطنه ؛ وإنما جعله يمسك عن طعامه وشرابه طيلة اليوم حين يصوم ، ونهاه عن الإسراف في تناولهما حين يفطر. وجعلهما وسيلة لحياته ولم يجعلهما غاية له. فإباحة تناول المأكولات والمشروبات واقعية لا بد منها ، وتحريم الخبائث ، وتعليم الآداب في تناول الطعام والشراب ، والنهي عن الإسراف فيهما مثالية وقد جمع هذا المنهج بين الواقعية والمثالية.

ثم اعترف هذا المنهج بغريزة الإنسان وبرغبته في إشباع شهوته ، واقتران الرجل بالمرأة ، ولكنه لم يدع الرجل ينزو على أي امرأة تحلو له ، كما هو حال كثير من الحيوانات ، وإنما وضع لذلك حدودا وأحكاما ، فهناك محرمات لا يحل الزواج منهن ، ولعقد الزواج أحكام شرعية تكفل المحافظة على حقوق الزوجين والأولاد ، ولمعاشرة الزوجة آداب تتفق مع سمو الإنسان. ومباشرتها منهي عنها حين الصوم والاعتكاف في المساجد والإحرام بالحج أو العمرة ، وحين يعتريها الحيض والنفاس. قال الله تعالى :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (٢٥) هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ (٢٦) وَابْتَغُوا (٢٧) ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). (٢٩)

فالاعتراف بالغريزة وإباحة الزواج واقعية ، والتشريعات والأحكام التي تنظم الزواج وتجعله بالشكل الذي يتناسب مع قيمة الإنسان مثالية. وقد جمع المنهج الإسلامي بينهما.

واعترف هذا المنهج بحب الإنسان للحياة وحرصه على البقاء ورغبته في النساء والأولاد والأموال. ولكنه لم يرض بأن يصبح الإنسان عبدا لشهوته وأمواله ، بل ندبه إلى الترفع عن ذلك والاكتفاء بما يصلح حياته وإلى الرغبة في الدار الآخرة.

قال الله تعالى :

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٣٠)

وشرع الزواج لحفظ النسل ، والقصاص لحفظ الحياة وحرم القتل بدون حق ، وأباح كسب المال بالطرق المشروعة ، وحرم أكل الأموال بالباطل ، ووضع الأحكام التي تؤدي إلى المحافظة عليها.

ومع تشريع القصاص والدية حث ولي القتيل والمعتدى عليه على العفو عن المعتدي ومسامحته ببعض الحق ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). (٣١)

فالقصاص وأخذ الدية واقعية وحق لولي القتيل ، والعفو عن القاتل والتجاوز عنه مثالية يرغب الإسلام فيها.

ومكن الإسلام صاحب المال من المحافظة على ماله ، والدائن من الحصول على حقه ، وهذا واقعية. ولكنه رغب في انظار المعسر والحط عنه بعض الدين ، وهذا مثالية. قال الله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٣٢)

وكذلك جمع الله بين الأمر بالعدل ـ وهو واقعية ـ والأمر بالإحسان وهو مثالية. قال سبحانه :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ (٣٣) يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (٣٤)

وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الإحسان يشمل الأشياء كلها ، وحث الناس على الارتفاع إلى مقامه السامي ، فقال :

«إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته (٣٥) وليرح (٣٦) ذبيحته (٣٧)».

كما أمر بالرفق في كل الأشياء ، فقال :

«إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه ، ولا ينزع من شيء قط إلا شأنه (٣٨)».

«إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» (٣٩).

والأمر بالرفق والإحسان مثالية يتصف بها الفضلاء الذين تربوا في ظل هذا المنهج ، ويترفعون بذلك فوق مستوى غيرهم من البشر ، بدون التنكر للواقع الذي يعيشون فيه أو الشعور بالضيق في هذا الارتفاع.

وهكذا امتاز المنهج الإسلامي عن المناهج البشرية التي غلبت عليها الواقعية فتركت الإنسان يتخبط في مستنقع آسن ، ويعب من الشهوات بشكل يحط من شأنه ، كما في الأنظمة المادية المنتشرة في الشرق والغرب. وامتاز عن المناهج التي غلبت عليها المثالية فتنكرت لحاجات الإنسان ولدوافع النفس ، وفرضت على الناس أن يرتقوا إلى مستويات لا يمكنهم الارتقاء إليها ، وحملتهم ما لا طاقة لهم به. امتاز عنها بملائمة الواقع والانطلاق منه إلى معارج الخير والفضيلة ، والارتقاء إلى مقام الأخلاق والمثل العليا ، فكان صالحا للبشر كلهم ودافعا إلى صلاحهم ورقيهم.

٥ ـ الإيجابية السوية :

يرفع هذا المنهج من شأن الإنسان ، ويعده ليكون خليفة صالحة في الأرض ، ويجعله ينطلق في هذا الكون الفسيح بنظره وفكره ، ولا يمنعه من اكتشاف منطقة مجهولة ، ولا يحظر عليه ارتياد مكان قريب أو بعيد ، ولقد كرم الله الإنسان ، وركبه على أحسن صورة ، ومنحه العقل ليفكر فيه ، والإرادة ليتوجه بها والقدرة ليعمل بها. ولم يجعله كالحيوانات خاضعا لغرائزه ، لا يستطيع الانفلات من قيودها ولا الخروج عليها ، وسخر له ما في السموات والأرض ، وهداه للاستفادة مما فيهما من خيرات ، واطلق يديه وفكره لاستخراج ما فيهما من كنوز وأبعد عنه الوهم وحرره من الخرافات والأساطير.

ولقد كان الناس يخضعون للخرافات ويؤمنون بالأساطير ، ويخافون من قوى مجهوله فيعجزون عن الاستفادة مما خلقه الله لهم. وكانوا يقدمون أموالهم وأنعامهم قرابين للأصنام والكهان ، ويلقون الأنفس البريئة في الأنهار ليفيض ماؤها ، وفي البحار لتجنب أخطارها ، ويذبحونها إرضاء لآلهتهم ودفعا لغضبها.

وكانوا يتشاءمون من أشياء عديدة ، حتى حررهم الإسلام من ذلك كله.

قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» (٤٠).

وقد أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك من المسلمين قوة اليقين والتوكل ،

بحيث يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم الوسواس بالعدوى فيما لم تثبت فيه من الأمراض التي تنتقل من المريض إلى الصحيح بالمخالطة.

والطيرة هي التشاؤم. وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير ، فإذا خرج أحدهم لأمر ، فإن رأى طيرا طار يمنة تيمن به واستمر ، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع.

وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها فجاء الشرع بالنهي عن ذلك.

وكانت العرب في الجاهلية تقول : إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة ـ وهي دودة ـ فتدور حول قبره فتقول : اسقوني اسقوني ، فإن أدرك بثأره ذهب وإلا بقيت.

وقال القزاز : (الهامة طائر من طير الليل). كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي : (كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم فيقول : نعت إلى نفسي أو أحدا من أهل داري). فأبطل الإسلام ذلك ، ومنع الشؤم بالبومة ونحوها.

وكانت العرب تحرم شهر صفر وتستحل شهر المحرم ، فجاء الإسلام برد ما كانوا يفعلونه. والصفر أيضا داء يأخذ البطن ، أو حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس ، وهي أعدى من الجرب عند العرب فالمراد بنفي صفر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى (٤١).

ولقد احترم هذا المنهج إرادة الإنسان ، وجعله حرا في عقيدته وعبادته وتصرفاته ونظام حياته ، ولم يقسره على الإيمان بخالقه ، وإنما خاطبه بالدليل وأرسل إليه الرسل ليكون مؤمنا بدون اكراه ومهتديا بدون إجبار.

ولكن الإنسان يعجز عن التفكير في ذات الله سبحانه ، لأن فكره لا يستطيع أن يخرج من نطاق البيئة التي يعيش فيها ، وخياله يعجز عن تصور ما لا يراه. والله سبحانه يختلف عن الأشياء كلها :

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (٤٢)

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (٤٣)

ثم إن الإنسان مسؤول عن عمله ومجزي على فعله.

وهكذا يجمع هذا المنهج بين استعداد الإنسان للسلبية والإيجابية ، فيجعل السلبية في خضوعه لله تعالى ، والإيجابية في علاقته بالكون ، بدون أن يذل أو يطغى.

٦ ـ التطور والثبات

وهذا المنهج يتصف بالثبات في أهدافه ومبادئه وأسسه العامة ، والتطور في فروعه وأجزائه ووسائله ، ليس بالجامد الذي يصلح لأمة دون غيرها ولعصر دون سائر العصور ، وليس بالمائع الذي لا يعرف له شكل ولا يستقر على حال ، وإنما هو مرن يلائم الناس جميعا في كل أحوالهم مع المحافظة على خصائصه ومزاياه. وهو في هذا شبيه بالأرض وسائر الكواكب التي تدور وتسبح في الفضاء الرحب ، ولكنها لا تسير في كل اتجاه ، ولا تتجه حيثما بدا لها ، وإنما تدور حول محور ثابت ، وتسير في فلك معين لا تحيد عنه ، وكذلك يقبل هذا المنهج التطور حول محور ثابت وضمن إطار محدد.

فما يتعلق بكيان الإنسان الجسمي والنفسي ، وما ينظم صلته بربه هو ثابت ، لأن الإنسان لا يتغير في تكوينه وبنيته ، ولا في خصائصه وحاجاته الأساسية. أما ما يتعلق بكيفية حصول الإنسان على حاجاته ، وبطريقة استفادته من هذا الكون الذي يعيش فيه ، وبشكل مسكنه وملبسه ونوع طعامه وشرابه ، فهو متطور ليتناسب مع درجة الرقي ومستوى الحضارة التي وصل إليها. وهو في تطوره يبقى مقيدا بأحكام أساسية حتى لا يضل في رحلته الطويلة.

ولقد فصل هذا المنهج تفصيلا دقيقا لا يقبل الزيادة ولا التغير فيما هو ثابت كأركان الإيمان والإسلام ، وأحكام العبادات وكيفيتها ، والمحرمات من النساء ونصيب كل وارث من تركة المتوفى. واكتفى بالبيان المجمل والمبادئ العامة فيما هو متطور ، كنظام المال ونظرية الملكية ، ونظام المعاملات وأنواع العقود التجارية ، ونظام الحكم وطرق السياسة الشرعية.

ففي نظام الحكم مثلا أمر بالعدل والشورى وطاعة الحاكم المؤمن ما لم يأمر بمعصية. ولم يحدد ما وراء ذلك من التفصيل كشكل الشورى وكيفية اختيار الحاكم ، ودرجات المحاكم واختصاصها ، كما لم يحدد أعضاء الحكومة وواجبات كل منهم ، وإنما ترك تنظيم ذلك للأمة بما يتفق مع درجة التطور التي وصلت إليها.

وبإمكان هذا المنهج أن يستفيد من دراسات العلماء وأبحاثهم ، ومن اكتشافات المخترعين وتجاربهم ، بل إنه يدفع المؤمنين إلى مواصلة البحث ومتابعة الدراسة في المجالين العلمي والنفسي ، لتيسير سبل الحياة ، وتسهيل طرق التربية ، وخدمة البشر ورفع مستواهم ، ثم يعتمد على ما توصلوا إليه من نتائج ، ويدخل ذلك في مضمونه بدون أن يتخلى عن هويته ، وبذلك أصبح هذا المنهج صالحا لكل الأمم والشعوب في كل مكان وزمان.

هوامش الفصل الثامن

__________________

(١) سورة فصلت : ٤٢

(٢) سورة النجم : ٣ ـ ٤

(٣) سورة الأنعام : ١٢٢

(٤) سورة الأنعام : ١٢٥

(٥) سورة الأنعام : ١٥٣

(٦) سورة آل عمران : ٧٩

(٧) تفسير البيضاوي ، وتاج العروس.

(٨) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص : ١٤ ، ٣٣ ـ ٣٤ ، ٥١ ، ٩١ ، ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، ٢٨٥ ، ٣١٩ ـ ٣٢٠. والمرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ١ ص ١٨٦ ، ٢١٧ ، ج ٢ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥

(٩) المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٥١

(١٠) المصدر السابق ص ج نقلا عن مختصر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ص ١١٩

(١١) سورة الحج : ٧٨

(١٢) سورة البقرة : ١٨٥

(١٣) سورة البقرة : ١٤٨.

(١٤) بولا : اسم الفتاة التي كتب رسائل لتربيتها.

(١٥) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص ٢٣ ، ٧٢

(١٦) المرجع في تاريخ التربية ـ الدكتور بول منرو ج ١ ص ٣٠٥.

(١٧) اطلب

(١٨) لا تطلب

(١٩) سورة القصص ٧٧

(٢٠) سورة المائدة : ٨٧ ـ ٨٨

(٢١) رواه البخاري من حديث أنس في كتاب النكاح.

(٢٢) المرجع في تاريخ التربية ـ د. بول منرو ج ١ ص ٢٥٣

(٢٣) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص ٦٨ ، ٧٠

__________________

(٢٤) سورة البقرة : ١٤٣.

(٢٥) الإفضاء إليهن بالجماع.

(٢٦) جامعوهن.

(٢٧) اطلبوا.

(٢٨) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢٩) سورة البقرة : ٢٢٢

(٣٠) سورة آل عمران : ١٥.

(٣١) سورة البقرة : ١٧٨ ، ٢٨٠.

(٣٢) سورة البقرة : ١٧٨ ، ٢٨٠.

(٣٣) الظلم

(٣٤) سورة النحل : ٩٠

(٣٥) الشفرة : السكين العظيمة ، وقد أمر بجعلها حادة مرهفة.

(٣٦) من الإراحة ، وتكون باحداد السكين وتعجيل امرارها وحسن الصنيعة

(٣٧) رواه مسلم من حديث شداد بن أوس

(٣٨) رواه أبو داود عن عائشة في كتاب الأدب.

(٣٩) رواه أبو داود عن عبد الله بن المغفل ، وابن ماجه عن أبي هريرة.

(٤٠) رواه الشيخان عن أبي هريرة.

(٤١) فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج ١ ص ١٧١ ، ٢١٢ ، ٢٤١

(٤٢) سورة الشورى : ١١

(٤٣) سورة الأنعام : ١٠٣.

خاتمة

إن التربية أهم وأخطر عملية يخضع لها الإنسان ، فهي التي تجعله مهذبا لطيفا أو فظا غليظا ، وتجعله عالما صالحا أو جاهلا فاسدا. وهي التي تغير حال الأمة فتجعلها راقية قوية أو متخلفة ضعيفة. فمن الواجب الاهتمام بها والحرص عليها ، لتحقيق الخير والرخاء والعزة والكرامة. وقد أعلن" لوثر" منذ عام ١٥٢٤ م في كتاب خاص وجهه إلى السلطات العامة في" ألمانيا" سخطه على إهمال شؤون الثقافة. ومما قال فيه :

(إن كل مدينة تنفق في كل سنة أموالا طائلة لشق الطرق وبنائها وتحصين الحصون وشراء الأسلحة وتجهيز الجنود. فلم لا تصرف مثل هذه الأموال أجرا لمعلم أو معلمين! فازدهار المدينة لا يتبع ثرواتها الطبيعية فحسب ، ولا يتبع مناعة أسوارها وأناقة بيوتها أو غزارة الأسلحة في معسكراتها ، بل خلاص المدينة وقوتها في قوة التربية التي تقدم لها مواطنين مثقفين عاقلين شرفاء).

ورأى أن العالم في حاجة إلى رجال مثقفين ونساء مثقفات كي يحسن الرجال حكم بلادهم ، وكي تحسن النساء تربية أولادهن والعناية بخدمتهن وشؤون منزلهن (١).

وبالتربية القويمة تنهض الأمم وتتقدم الشعوب وتسعد البشرية. قال" كومنيوس" (أسلموا لي خلال بضع سنين قيادة التربية ، وأنا زعيم بأن أغير لكم وجه العالم) (٢).

والتربية هي سبيل القوة والمنعة ، وبدون التربية الجيدة لا يرجى للأمة أن تحمي كيانها وتحافظ على وجودها وتصد المعتدين عليها.

قال الفيليسوف" فيخته" بعد أن هزم" نابليون" الألمان هزيمة منكرة في موقعة" ينا" سنة ١٨٠٦ : (إن التربية وحدها هي التي تستطيع أن تغسل عار الهزيمة ، وهي التي تستطيع أن تنقذنا من أكثر الذي وقعنا فيه) (٣).

وإن منهج التربية المستمد من القرآن والسنة لهو خير منهج عرفته البشرية ، فهو منهج رباني أنزله اللطيف الخبير ، وهدف التربية فيه واضح محدد ، وجدير بالسعي لتحقيقه ، ومجاله رحب واسع يشمل الإنسان كله ، روحه وجسمه وعقله ونفسه ، ولا يفصل بين الروح والعقل والجسم ، وإنما يحقق التوازن بين جوانب الإنسان. ويتسع للواقع والخيال في تصور الكمال والجمال في العالم الآخر.

ويستغل الطاقة الحسية والطاقة المعنوية المتعلقة بالفضيلة والإيمان والقيم العليا والعدل والحق والجمال. ويقوم هذا المنهج على مقومات متينة فوق قاعدة صلبة تكفل له البقاء والسمو. ويعتمد على مبادئ وأساليب تحقق غايته بسهوله ويسر. ويصبح الجميع سائرين على طريقه في كل مراحل العمر.

ولا يقتصر هذا المنهج على دراسة القرآن والسنة ، وليس من الواجب حذف ما سواهما من الدروس ليكون المنهج إسلاميا ، بل من الواجب دراسة كل المواد والعلوم النافعة ، والاستفادة من كل البحوث والدراسات الحديثة. ولا مانع من الاستعانة بالأجهزة والمخترعات الجديدة. وإن هذا المنهج يدفع إلى الاختراع ويحث على الابتكار ما دام ذلك يستعمل لتحقيق النفع والخير العام. ولكن يجب أن تكون سائر العلوم والأبحاث متفقة مع مبادئ القرآن الكريم وأهدافه وروح الشريعة ومقاصدها ، وأن يكون القرآن مهيمنا على كل الفرضيات والنظريات ، ومصدرا لكل النظم والمناهج ، وألا نقبل ما يتعارض مع أحكامه ، حتى نضمن السلامة للبشر والسعادة للناس والهداية للعالمين.

ولقد عاش المسلمون حقبا من الزمن في ظل هذا المنهج ، فكانوا أعز الأمم وأقوى الدول ، وسبقوا العالم في العلم والحضارة.

ثم مالوا إلى حياة البذخ والترف ، وأخلدوا إلى الراحة ، ونهضت أقوام كانت متأخرة عنهم أشواطا طويلة ، بعد أن اقتبسوا من منهجهم واستفادوا من علومهم ومبادئهم. ومع أن أولئك الأقوام أصبحوا اليوم متفوقين في القوة والعلم وفي المادة والصناعة ، فإنهم متخلفون في المجال الاجتماعي والخلقي والروحي ، ولهذا لم يذق الإنسان في ظل حضارتهم طعم السعادة ، بل أصيب بالقلق والأرق ، وأصبح يعاني من الكبت والصرع ، ويئن من الأمراض الجسمية والنفسية ، ويشكو من العلل العقلية والعصبية.

وقد انعدم الأمن ، وسفكت الدماء وسلبت الأموال ، وأبيحت الحرمات وانتهكت الأعراض حتى أقدم الإنسان في تلك البلاد على الانتحار ليتخلص مما يعانيه ، وأدمن على المسكرات والمخدرات ليهرب من الواقع الذي لم يستطع أن يتكيف فيه. وأصبحت البشرية كلها معرضة للفناء بالأسلحة الفتاكة التي أنتجتها تلك الحضارة الزائفة.

وإن اقتباس أمتنا لمناهج ونظم أولئك الأقوام ينقل إلينا مشاكلهم ومفاسدهم ، ويجعلنا أبدا متأخرين عنهم. أما رجوعنا إلى منهج القرآن والسنة فهو الكفيل بصلاحنا ، وهو الضمان لرقينا وتقدمنا. وإن دراسة هذا المنهج تثبت صحة هذا الرأي ، وإن العمل بموجبه يثبت حقيقة ما نقول. ولن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، ولن يرجى لنا صلاح حتى نعمل بهذا المنهج :

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (٤)

ولقد ذكرت بجانب الآيات والأحاديث الدالة على هذا المنهج التربوي آراء وأقوال بعض المربين الكبار من المسلمين وغيرهم لزيادة التوضيح وبيان الفرق بين منهجنا المحكم ومنهج البشر المضطرب.

فالله أسأل أن يجعل هذا الجهد الذي بذلته خالصا لوجهه الكريم ، وأن يلهم كل من عمل في مجال التربية من أبناء هذه الأمة أن يقتبس من هذ المنهج ، وأن يسير على هداه ، وأن يجزل الثواب لي ولكل من ساهم في نشره ، وعمل على تحقيقه ، وسعى إلى غايته.

(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٥).

__________________

(١) ، (٢) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص ٢٥٣ ، ٢٦٩.

(٣) التربية الحديثة ـ صالح عبد العزيز ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) سورة الرعد : ١١

(٥) سورة الممتحنة : ٤

تراجم أشهر علماء التربية

الذين ذكرت آراؤهم التربوية في هذا الكتاب

أ ـ العلماء المسلمون

١ ـ ابن جماعة :

هو الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ المحدثين والمحققين ومفتي المسلمين ، ومتولي القضاء بينهم ، أقضى القضاة في مصر والشام ، أبو عبد الله ، بدر الدين محمد ابن الشيخ العارف قدوة الزهاد ، برهان الدين ، أبي اسحاق ، ابراهيم بن السيد العارف أبي الفضل سعد الله بن جماعة الكناني الشافعي.

ولد عام ٦٣٩ ، ١٢٤١ م ، ونشأ في حماه ، ودرس فيها علوم الرياضة والفلك والفقه. ثم أصبح خطيبا في المسجد الأقصى وقاضيا في الشام ومصر.

أشهر مؤلفاته : (رسالة في الأسطرلاب)

و (مختصر السيرة النبوية) و (مستند الأحفاد في آلات الجهاد).

توفي في مصر عام ٧٣٣ ، ١٣٣٣ م (١).

٢ ـ ابن خلدون :

هو أبو زيد ، عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر ، ابن خلدون الحضرمي. ولد بتونس عام ٧٣٢ ه‍ ، ١٣٣٢ م ، وحصل فيها علومه ، ثم غادرها وتنقل في بلدان كثيرة ، وحصل على حظ وافر من العلوم الدينية والعقلية والفلسفية. ثم استقدمه السلطان أبو عنان المريني إلى فاس عام ٧٥٥ ه‍ ، وقربه وجعله كاتبا ، فحسده أقرانه وأوشوا به ، فأعتقله ، وبقي معتقلا حتى مات السلطان ، فأطلقه الوزير الحسن بن عمر ثم رحل إلى ملوك بني الأحمر بالأندلس ، وأقام فيها حينا ، وتردد بين شمال افريقية والأندلس ، وعمل كاتبا ووزيرا لعدد من الملوك والحكام.

ثم استقر في مقاطعة وهران بالجزائر في قلعة ابن سلامة زهاء أربعة أعوام ، وبدأ بتدوين مؤلفه التاريخي المشهور ، وقدم له ببحث عام في شؤون الاجتماع

الإنساني وقوانينه ، وهو المعروف بمقدمة ابن خلدون ، وعاد إلى تونس سنة ٧٨٠ ه‍. ثم انتقل إلى القاهرة ، ودرس في الأزهر ، واتصل بالسلطان برقوق ، فجعله مدرسا للفقه المالكي ، وولاه قضاء المالكية عام ٧٨٦ ه‍. وعندئذ استدعى أفراد أسرته ، فغرقت بهم السفينة خارج ميناء الإسكندرية ، وحزن كثيرا وأعرض عن الدنيا واستقال من منصبه القضائي ، وانقطع للتدريس والتأليف ، فأتم تاريخه. وذهب للحج عام ٧٨٩ ه‍ ، وتوجه إلى دمشق عام ٨٠٣ ه‍ مع السلطان الناصر لصد تيمور لنك قائد التتر الذي كان قد استولى على حلب ، وقدم إلى دمشق ، وقام مع وفد من العلماء بمفاوضته فأعجب به ، ودعاه للعمل عنده ، فبقي عدة شهور ، وعاد إلى مصر عام ٨٠٤ ه‍. وبقي فيها حتى وافته المنية في القاهرة عام ٨٠٨ ه‍ ، ١٤٠٦ م وهو مؤسس علم الاجتماع ورائد من رواد العلوم السياسية.

حاول في مقدمته تفسير التاريخ على أساس دراسة الأوضاع الاقتصادية والجغرافية للجماعات البشرية بدوية أو حضرية.

ووضع مبادئ ، واستخلص نتائج ونظريات لم يسبقه إليها أحد من المؤرخين (٢).

٣ ـ إبن سحنون :

هو أبو عبد الله ، محمد بن أبي سعيد سحنون ، واسمه عبد السّلام ابن سعيد بن حبيب التنوخي. ولد بالقيروان سنة ٢٠٢ ه‍ ، وكان أبوه فقيه افريقية بلا مدافع ، فاعتنى بتربيته وتأديبه. وبعد أن أخذ حظه من القرآن والعلوم الضرورية تحول إلى مجالس الدروس العالية. وذهب للحج ٢٣٥ ه‍. والتقى بعلماء الفسطاط والمدينة المنورة ، وتعرف على الكثير من أئمة العلم ، وشاع ذكره بينهم. ثم عاد إلى القيروان ، وانكب على التأليف والتدريس ، وقصده الطلاب من كل حدب وصوب.

كان إماما بالفقه عالما بالآثار ، ثقة ، وكان كريما سمحا جوادا وجيها. له مؤلفات كثيرة في الفقه والعقيدة والحديث والتاريخ والأعلام. توفي سنة ٢٥٦ (٣)

٤ ـ ابن عبد الله البر :

هو الإمام المجتهد الفقيه الحافظ أبو عمر ، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري. ولد بقرطبة لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ٣٦٨ ه‍. ونشأ بها وتفقه ، وسمع من أكابر المحدثين بقرطبة وغيرها. ثم أجلي عن وطنه فأقام في المغرب مدة ، وبعد ذلك تحول إلى شرق الأندلس ، وتولى قضاء لشبونة. توفي في شاطبة سنة ٤٦٣ ه‍. وله مؤلفات كثيرة في السنة والسيرة والقراءات والأدب (٤).

٥ ـ ابن العربي :

هو أبو بكر محمد (٤٦٩ ـ ٥٤٣ ه‍ ، ١٠٧٦ ـ ١١٤٨ م)

وهو رحالة وفقيه أندلسي ، نشأ في اشبيلية ، ورحل وهو صبي مع أسرته إلى الشام ، وتتلمذ فيها على أبي بكر الطرطوشي. ثم رحل إلى العراق ، وتتلمذ على فقيه المدرسة النظامية التبريزي ، ثم حج. وقدم مصر وعاد إلى الأندلس ، وأصبح من أكبر فقهائها وكتب وصفا لرحلته أسماه (الرحلة) (٥).

٦ ـ العلموي :

هو الشيخ عبد الباسط بن محمد العلموي المتوفى بدمشق سنة ٩٨١ ه‍.

زعم أنه اختصر كتابه المعيد في أدب المفيد والمستفيد من كتاب الدر النضيد للبدر الغزي. وهو شبيه بكتاب تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة.

٧ ـ الغزالي :

هو الإمام الجليل محمد بن محمد بن أحمد ، أبو حامد ، حجة الإسلام. ولد بطوس سنة ٤٥٠ ه‍ ، ١٠٥٩ م. وكان والده يغزل الصوف ويبيعه ، ولما حضرته الوفاة وصىّ به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف ، ووصاه بتعليمهما.

قرأ طرفا من الفقه ببلده ، ثم سافر إلى جرجان وأخذ العلم عن أبي نصر الإسماعيلي ، ثم رجع إلى طوس وحفظ ما كتبه. وبعد ذلك قدم نيسابور ولازم الإمام الجويني ، وبرع في العلم ، وألف الكتب. وبعد وفاة الجويني قصد الغزالي الوزير نظام الملك ، وناظر العلماء في مجلسه ، واعترفوا بفضله ففوض إليه التدريس في المدرسة النظامية ببغداد ، فقدم إليها سنة ٤٨٤ ه‍ ، ودرس فيها أربع سنوات ، واشتهر بعلمه

وفضله ، والتف حوله طلاب كثيرون. ثم قصد البيت الحرام فحج ، وتوجه إلى الشام وانتقل إلى القدس والقاهرة والإسكندرية ، وهو يؤثر العزلة ومجاهدة النفس والقيام بالعبادات. ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجلس الوعظ ، وعاد إلى نيسابور ودرس فيها مدة يسيرة. وبعد ذلك رجع إلى طوس ، وأنشأ جانب داره مدرسة للفقهاء. ومأوى للصوفية. وبقي فيها حتى انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين ١٤ جمادى الآخر سنة ٥٠٥ ه‍ ، ١١١١ م.

له مؤلفات كثيرة في العقيدة والفقه وأصول الفقه ، والفلسفة والتربيه. أهمها : الاقتصاد في الاعتقاد والمنقذ من الضلال ، وتهافت الفلاسفة والمستصفى ، وإحياء علوم الدين.

وأشهر مؤلفاته التي تتضمن آراءه في التربية : رساله (أيها الولد) ، و (احياء علوم الدين) و (ميزان العمل) و (خاتمة العلوم) و (الرسالة اللدنية) (٦)

ايفردون. وعني بتطبيق مبادئ روسو وتوضيحها. وتعتبر مدرسة نويهوف تجربة في التربية الخلقية والمادية عن طريق العمل والنظام والتعليم.

ظهر له كتاب عام ١٧٨٠ بعنوان" تأملات راهب ساعة المساء" وهو طائفة من الحكم ترمي إلى نهضة الشعب بالاعتماد على التربية ، وهاجم فيه أسلوب التعليم المصطنع في عصره ، وأصر على ضرورة تنمية الروح بإثارتها من الداخل بالتربية الباطنية. وبعد عام نشر أول جزء من كتابه الشهير" ليونارد وجيرو ترود" وهو قصة لأسرة من العمال تمثل فيه" جيروترود" الآراء الخاصة ببستالوزي حول تربية الطفل.

ثم نشر أجزاء الكتاب الثلاثة الأخرى ، وهي تتحدث عن بعث إحدى القرى بالعمل المنسق في مجال التشريع والإدارة والدين بالتعاون مع المدرسة.

وغاية بستالوزي التي نذر لها نفسه هي بعث الإنسانية بالتعليم.

وهو يعتبر التربية أداة للإصلاح الاجتماعي ووسيلة إلى بعث اجتماعي جديد ، ويرى أنه لا يمكن تحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي بدونها. وقد حاز حب جميع العاملين في التربية وإعجابهم ، وكان أعظم ملهم في إصلاح التربية الشعبية في ألمانيا. وكان عظيما في حبه الشديد للشعب وفي تضحيته بذاته ، لم يفتر طيلة حياته عن العمل من أجل الأطفال ، ولم يقصر في بذل الجهد لتعليمهم. وكان يجمع اليتامى والمشردين من كل مكان ، ويعمل على متابعة تعليمهم.

وهو من أشهر المربين الحديثين ، ويمثل طائفة المصلحين العاطفيين.

والمفهوم العام الذي انطلق منه هو أن التربية الحقيقية عملية نمو وتفتيح حياة داخلية. وقد نبه إلى علاقة التربية بنمو عقلية الطفل.

ويرى أن قوى الإنسان الخيرة هي هبات طبيعية ، وأن الطبيعة تعمل على نموها بتمرينها ، لأن الاستعمال يزيدها قوة ومضاء ، كما يرى أن استخدام الإنسان لمواهبه يجب أن يتبع النظام الذي وضعته الطبيعة لتربية الإنسان.

مات في بروغ عام ١٨٢٨ (٧)

٥ ـ سان بيير (١٦٥٨ ـ ١٧٤٣)  Saint Pierre

راهب فرنسي اعتنى بالتربية الخلقية ، وطلب من الإنسان أربع خصال أساسية هي العدل والإحسان ومعرفة الفضيلة والثقافة. ويعتبر أول فرنسي عني بالتعليم المهني. وقد أوصى بإنشاء مكتب دائم للمعارف العامة. ورأى ضرورة تثقيف المرأة (٨).

ب ـ العلماء الأجانب

١ ـ أرسطو (٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م).

كان فيلسوفا غزير المعارف واقعي النظرة. وكان مريبا للاسكندر الأكبر. ويعتبر أحد واضعي نظريات التربية الذين كان لهم أثر عظيم في العصور التالية. وكان همه الأول إعداد المواطنين الصالحين.

وتوجد آراؤه في كتابي (السياسة) ، و (الأخلاق) (٩).

من هذا الكتاب.

٢ ـ أفلاطون : (٤٢٠ ـ ٣٤٨ ق. م).

فيلسوف يوناني ، اتسع نطاق الفلسفة لديه فأصبحت تبحث في الكون وفي الإنسان وغيرها من القضايا. أشهر كتبه (الجمهورية) و (القوانين) (١٠)

٣ ـ ايراسموس (١٤٦٧ ـ ١٥٣٦ م) sumsare

أديب وفيلسوف ومرب هولندي ، وهو أشهر ممثلي الحركة الإنسانية الواقعية. قضى سنوات قليلة في إحدى مدارس الرهبنة ، ثم انتقل إلى مدرسة الكنيسة المشهورة في (دافنتر) بهولندا.

وحذق آداب القدماء ولغاتهم بالدراسة في باريس واكسفورد وايطاليا. وبعد ذلك درّس في انجلترا وفرنسا والأراضي المنخفضة وسويسرا وايطاليا. ونشر كتبا عديدة في الأدب وقواعد اللغة اللاتينية والإغريقية وشرح الكتاب المقدس والأخلاق والتربية والأمثال (١١).

٤ ـ بستالوزي :

ولد في زوريخ عام ١٧٤٦ ، وعاش متأثرا بالتربية العاطفية التي ربته عليها أمه بعد أن ترملت وهو في الخامسة. وبرز بين طلاب الأكاديمية بمحاسنه وجرأته الثورية وتكون لديه شعور عميق ببؤس الشعب وحاجاته. وجعل هدفه مداواة أمراض المجتمع ونما لديه تذوق للحياة البسيطة الخشنة ، وكانت تستهويه الحياة في الهواء الطلق ، ويرى أن الحضر موطن الشر.

عمل مزارعا ، وافتتح في مزرعته في نويهوف ملجأ للأطفال الفقراء ، ثم أنشأ ملجأ الأيتام في ستانتز ومدرسة ابتدائية في بورغدورف ومعهدا فيها ومعهد

٦ ـ جيرسون (١٣٦٣ ـ ١٤٢٦) Gerson

كان حامل أختام جامعة باريس. وعرف بين أبناء عصره بحبه للشعب. كتب بلغة عامية رسائل صغيرة مبسطة ، جعلها في متناول العامة. وينم كتابه الذي كتبه باللاتينية بعنوان : " الأطفال الذين ينبغي أن نهديهم إلى المسيح" عن روح كبيرة فيها الكثير من الوداعة وحب الخير. وفيه كثير من الملاحظات الدقيقة حول التعليم ، وهو يطلب أن يجنح المعلمون إلى الصبر والشفقة ، ويحارب العقوبات الجسدية (١٢).

٧ ـ القديس جيروم Saint Jerrome

تعد رسائله حول تربية الفتيات من أثمن الوثائق التربوية عن العصور المسيحية الأولى في أوربا ، وقد حظيت بإعجاب كثير من الكتاب المتقدمين والمتأخرين. وهو يحتقر الجسد ويدعو إلى التقشف (١٣)

٨ ـ رابليه (١٤٨٣ ـ ١٥٥٣) Rabelais

هو خير معبر عن آراء الإنسانيين الواقعيين.

كان راهبا ثم طرد من الدبر. انتقد منهج التربية القائمة على دراسة الألفاظ والكتب بدلا من دراسة الحقائق الحيوية.

ونادى بالتربية المحتوية على العناصر الاجتماعية والفكرية والخلقية والدينية والجسمية التي تؤدي إلى الحرية في الفكر والعمل بدلا من الاعتماد على السلطة. ورأى أن تكون مواد الدراسة سارة وأن تكون وسائلها جذابة لا إجبارية (١٤)

٩ ـ جان جاك روسو :

ولد في جنيف سنة ١٧١٢ م. وكانت تربيته في سني حياته الأولى تخضع للانغماس في الشهوات. وعند ما تعلم القراءة عكف على قراءة روايات غرامية خلقت في أعماق شعوره احساسا عاطفيا شديدا. وفي الثانية عشرة امتهن مهنة قال عنها : إنه تعلم منها الغش وسوء الخلق والخيانة. وبعد أربع سنوات أصبح جوالا. وهذه الفترة التي امتدت بضع سنين حببت إليه الطبيعة وعرفته بأسرارها. ثم عمل خادما ومربيا.

وفي سنة ١٧٤٩ دخل في مسابقة أدبية نظمتها أكاديمية" ديجون" وكان موضوعها : هل عمل تقدم العلوم على تطهير الأخلاق أم على فسادها؟ وكان جوابه بالنفي. ورأى أن الحياة الصحيحة هي التي توافق القوانين الطبيعية. وفي سن

الأربعين تملكته فكرة كان لها أثر كبير ، وهي أن سعادة الإنسان ورفاهيته حقوق طبيعية لكل فرد ، وليست امتيازا لطبقة دون غيرها. وكتب مقالا عن أسباب عدم المساواة بين الناس ورسالة" العقد الاجتماعي" وفيها وضع أهم المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية.

ونشر كتاب : اميل" عام ١٧٦٢ م. وقد طرح فيه مشكلات التربية وحلها حلولا طريفة ، وضمنه كثيرا من المبادئ التربوية.

كان لكتاباته أثر في الثورة الفرنسية ، وكان مجددا في الأدب والاجتماع والتربية. ويعد من رواد الحركة الرومنطيقية الفرنسية.

توفي عام ١٧٧٨ (١٥)

١٠ ـ هربرت سبنسر (١٨٢٠ ـ ١٩٠٣)

فيلسوف إنكليزي ، له كتاب مشهور في" التربية الفكرية والخلقية والجسدية" يرى أن الأخلاق هي التي تحدد موضوعات الدراسة التي تكون الإنسان المثقف ثقافة صحيحة ، وأن علم النفس هو الذي يحدد الطرائق المثلى التي يجب أن تتبع في التعليم وتربية الفكر واكمال الخلق وتقوية الجسد ، ويرى أن النفع وما للشيء من أثر في سعادة الإنسان هو المعيار الحقيقي في تقدير موضوعات دراسة الطالب وعناصر تربيته ، وان الإعداد للحياة الكاملة هو وظيفة التربية ، وان العلم هو أساس التربية (١٦)

١١ ـ سقراط (٤٦٩ ـ ٣٩٩ ق. م)

فيلسوف يوناني جاء بعد السوفسطائيين ، وأراد أن يصلح ما أفسدوه ، وأن يعيد إلى العقول ثقتها بالحقيقة والمعرفة وإيمانها بالخير والفضيلة ، وجعل هدفه الأول أن يدعو إلى الفضيلة عن طريق العلم والمعرفة ، وجعل الفلسفة منحصرة في دائرة الأخلاق.

وتدور الأخلاق عنده حول محور واحد هو ماهية نفس الإنسان.

ورأى أن الإنسان روح وعقل يسيطر على الحس ويعقله ، وأن القوانين العادلة صادرة عن العقل ومطابقة للطبيعة الحقة.

قضى حياته في التعليم وتلقين المعرفة ، وكان يتوجه إلى مخاطبه ، ويطلب منه أن يعرض أفكاره ، ثم ينهال عليه بأسئلته الدقيقة حتى يجعله يعترف بالحقيقة التي

يريدها ، أو يدعه تائها في طريق لا يعرف الخلاص منها ، كي يكشف له بعد ذلك عن خطئه.

لم يسجل أفكاره وآراءه في كتب أو رسائل (١٧)

١٢ ـ صولون :

مشرع أثيني جعل تمارين الجسد وتمارين الروح في مرتبة واحدة وقرر أن على الأطفال أن يتعلموا السباحة والقراءة (١٨).

١٣ ـ فريدريك ولهلم أوجست فروبل Frobel

ولد في قرية" أوبر فايسباخ" من مقاطعة" تورنجيا" عام ١٧٨٢ من قس بروتستانتي ، وتوفيت أمه وهو في الشهر التاسع. وعند ما شب لم يستطع أبوه أن يرسله إلى الجامعة لعجزه عن توفير النفقات اللازمة له ، فأوكل أمره إلى صديق له صاحب غابات ليعلمه مهنته. فعاش في الطبيعة ، ولا حظ ما فيها من حيوانات ونباتات ، وقرأ كتبا في الهندسة والرياضيات. ثم انتسب إلى جامعة" يينا" وتابع فيها دراسة الرياضيات ، ولم يلبث أن سجن بسبب عجزه عن وفاء الديون المتراكمة عليه.

ثم ذهب إلى" فرانكفورت" عام ١٨٠٤ ليعمل في بناء البيوت ، وفيها تعرف على مدير المدرسة ، فعينه معلما للتلاميذ الذين تتراوح أعمارهم بين التاسعة والحادية عشرة. ثم زار" بستالوزي" في" إيفردون" واطلع على منهجه ، وعاد للتعليم في مدرسة" فرانكفورت".

ولمع اسمه منذ ذلك الحين ، واشتهرت دراسته في الطبيعة والجغرافيا.

وبعدئذ عمل مربيا لثلاثة أولاد ينتمون إلى أسرة غنية ، وذهب ثانية إلى" ايفردون" ومعه الأولاد الثلاثة ، وقضى فيها سنة ، وجلس طويلا إلى" بستالوزي" وأعجب بطريقته في تدريب الحواس ، وتوجه إلى الاهتمام بنمو الطفل ، وبعد أن عاد إلى" فرنكفورت" رحل إلى" غوتنغن" ليدرس في جامعتها اللغات الشرقية واليونانية ثم رحل إلى جامعة" برلين". واضطر في مستهل عام ١٨١٣ إلى قطع دراسته لينخرط في الحرب مع كثير من الطلبة لطرد" نابليون". ثم عاد بعد عام إلى" برلين" وحينئذ توفي أخوه مخلفا ثلاثة صبية في حاجة إلى الرعاية التربوية ، فافتتح من أجلهم مدرسة في قرية" جريسهايم" ثم نقلها إلى قرية قريبة منها هي" كايلهاو" حين تبرعت أرملة بمزرعتها لتكون مركزا لمعهده.

وقام بتعليم تلاميذه بالتماس المباشر مع الطبيعة ، وبتنمية طبيعتهم الإنسانية والفردية بالعمل التعاوني واللعب. وحينئذ كتب مؤلفه الشهير" تربية الإنسان" عام ١٨٦٢.

وبعد ذلك ذهب إلى" سويسرا" ، وبعد سنوات قضاها فيها أصبح مديرا لمدرسة المعلمين في" برجدورف" عام ١٨٣٥ ، وغادرها بعد عام إلى" بلا كنبورغ" في مقاطعة" تورنجيا" ، وأنشأ فيها مدرسة سماها" روضة الأطفال" وفي ذلك الحين طبع كتابه" آغاني الأمهات" عام ١٨٤٣ ، وتوفي عام ١٨٥٢ (١٩) م.

١٤ ـ فيخته (١٧٦٢ ـ ١٨١٤) Fichte

فيلسوف ألماني مثالي ، قرر في كتابه" خطب إلى الأمة الألمانية" ضرورة قيام تربية قومية تساعد على بعث الأمة الألمانية ، ودعا إلى تربية عامة مشتركة بين جميع أبناء الشعب ، وأسهم في احياء المجد الفكري والخلقي والمادي لألمانية. وكان قد ألقى خطبه في اليوم الثاني من معركة" يينا" خلال شتاء ١٨٠٧ ـ ١٨٠٨ م في قاعة أكاديمية" برلين" ، وكانت جيوش نابليون قد احتلت تلك المدينة (٢٠).

ذكر ص

١٥ ـ فينيلون (١٦٥١ ـ ١٧١٥): Fenelon

كاتب فرنسي وأحد قادة التربية الكبار فيها. ألف رسالة حول (تربية الفتيات) عام ١٦٨٠ وعددا من الكتب المدرسية والقصص والتاريخ. واختير مربيا لدوق بورغونيا (٢١).

١٦ ـ كانت (١٧٢٤ ـ ١٨٠٤ م)

فيلسوف فرنسي ، ألقى سلسلة محاضرات في التربية طبعت سنة ١٨٠٣ بعنوان" التربية". وهو يوافق" روسو" في الإصرار على مبدأ تربية الطفل لنفسه ، إلا أنه لا يجعل التربية للحاضر فحسب ، بل يعد الفرد للمستقبل وقد جعل الحرية أساسا للأخلاق (٢٢).

١٧ ـ جون أموس كومنيوس : (١٥٢٩ ـ ١٦١٧) Comenius

يعد من أهم ممثلي الحركة الواقعية في التربية ، ومن القادة العظام الذين برزوا في تاريخ التربية ، ومن أوسع الكتاب عقلا وأبعدهم نظرا وأكثرهم فهما وإحاطة بنواحي البحوث التربوية. وقد وجه جل اهتمامه إلى توطيد دعائم المسيحية

البروتستانية ، وكان أول الأمر راعيا لأكبر جماعات البروتستانت ، وهي جماعة الأخوان المورافيين ، ثم أصبح قسيسا أعظم للجماعة كلها. وقد دعاه البرلمان الانكليزي للإفادة من علومه ، وطلب إليه حامل أختام الملك في السويد أن يكتب مؤلفات في التربية ، وهو يرى أن الدين يجب أن يتحذ التربية وسيلة للتأثير في الناس والوصول بهم إلى الأهداف العليا ، وأن الهدف الأسمى للإنسان هو السعادة الأبدية بالاتصال بالله. ويرى أن معرفة الظواهر الطبيعية أهم موضوع للدراسة.

قام بالتعليم في أكثر من عشرين بلدا ، وكتب ما يزيد على عشرين مؤلفا باللاتينية والألمانية والتشيكية ، وأشهرها : كتاب" المرشد الأكبر" الذي ألفه سنة ١٦٣٠ وفيه يعرض آراءه ومبادئه ونظرياته العامة في التربية. وقد ضمن كتابه المسمى" باب اللغات المفتوح" المعارف المتعلقة بعالم اللغات ، وقد نشره عام ١٦٣١ ، وبعد عامين نشر كتاب" الدهليز" أو المدخل وجعله بمثالة مقدمة وتمهيد للكتاب السابق. ونشر كتاب" الطبيعة" سنة ١٦٣٣ ، وحوى ملخصا للمعارف المتعلقة بالكون الطبيعي. ونشر سنة ١٦٣٧ كتاب" السابق في شمول المعرفة". ثم وضع كتاب" باب الظواهر" الذي أودعه المعارف المتعلقة بعالم الأشياء. ونشر كتبا أخرى منها كتاب" الرواق" وكتاب" القصر" ويشمل ملخصا للأدب اللاتيني. ومن أنجح كتبه كتاب" عالم المحسوسات المصورة" الذي نشر عام ١٦٥٧ وهو مزدان بصور تعين على تصور الأشياء التي يتحدث عنها (٢٣).

١٨ ـ مارتن لوثر : (١٤٨٣ ـ ١٥٤٦ م)

هو من أكبر دعائم الإصلاح الديني ، وزعيم حركتها التربوية التي بدأت في ألمانيا ، وأكثر المصلحين البروتستانت حماسة لشؤون التعليم. وقد أعلن عام ١٥٢٤ في كتاب وجهه إلى السلطات العامة في ألمانية سخطه على إهمال شؤون الثقافة. ورأى أن التربية المنزلية غير كافية لتربية الأطفال ، وأنه لا بد من إنشاء المدارس العامة وانتقد المدارس التي كانت قائمة في عصره ومناهجها التعليمية ، وخلص إلى ضرورة تنظيم مدارس جديدة وجعل نفقاتها موكولة إلى السلطات العامة ، ووضع في المقام الأول دراسة الدين ثم اللغات ، وأوصى بدراسة الرياضيات والطبيعة ؛ وشمل منهجه التربوي الألعاب الرياضية والموسيقى. وأراد أن تشيع في المدرسة روح الحرية والمرح وعني بإعداد المعلمين ، ورفع من شأنهم (٢٤).

١٩ ـ جون لوك : (١٦٣٢ ـ ١٧٠٤)

هو عالم نفس وفيلسوف وأستاذ في التربية وكاتب انكليزي نال شهادته في الأدب من جامعة اكسفورد عام ١٦٥٦ وأصبح استاذا فيها. وهو رأس المدرسة التجريبية في علم النفس ، وممثل لحركة التهذيب الشكلي في التربية ، اذ يرى ان التربية ما هي إلا تهذيب ، وأن كل ما يهدف إليه المجهود الفكري هو حب الحق وأن العقل هو الذي يقود الإنسان للوصول إليه ، ولكنه لا يستطيع ذلك إلا إذا تمت تربيته وهذه لا تتحقق إلا بتهذيب العقل.

ألف كتابا سماه" مقالة في الفهم الإنساني" شرح فيه نظرية المعرفة أو النظرية التجريبية التي تتلخص في أن المعرفة جميعها تأتي بطريق الإدراك الحسي والإدراك العقلي ، أي من التجربة والخبرة. والعقل في رأيه صفحة بيضاء ، تأتيه قواه من الخارج بطريقة تكوينه العادات. ويرى أن مصدر النمو هو تكوين العادات بطريق التهذيب. ونشر عام ١٦٩٣ كتاب" آراء في التربية" وهو خلاصة تجربة طويلة مربها. وتتلخص مبادؤه الأساسية في :

١ ـ مبدأ الشظف والتقشف في التربية البدنية.

٢ ـ مبدأ النفع في التربية الفكرية.

٣ ـ مبدأ الشرف والفضيلة في التربية الخلقية.

هو أول مرب بحث بحثا منظما في الطعام والألبسة ونوم الطفل. وقد أوصى بالحياة في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس ، ودعا إلى الحياة الطبيعية. ويعتبر مبتدع المذهب الطبيعي في التربية. ويرى أن التربية الخلقية مقدمة على الثقافة ، فالمزايا الخلقية العملية تشغل المحل الأول لديه ، والفضيلة هي الهدف الأساسي القيم الذي يجب أن ترمي إليه التربية ، ويأتي اكتساب العلم بعد تكوين الصفات الخلقية. وما الثقافة في نظره إلا جزء يسير من التربية. وقد أراد أن يكون أناسا عمليين مزودين بالمعرفة التي يحتاجونها لتنظيم حياتهم والقيام بأعمالهم ، وهو يحتقر الدراسات التي لا تؤدي إلى إعداد صاحبها للحياة. ويرى أن تتسع مناهج الدراسة ، وأن تمرن عقول التلاميذ لتتكون عادة التفكير لديهم وتنمو مداركهم. ويحرص على تكوين العادات الحسنة ويقول : إن أهمية العادة في التربية تفوق أهمية الفكر.

وقد أوصى بأن يتعلم تلميذه احدى المهن ، وأوصى باستخدام طرق التشويق في القراءة وباحترام مزاج الطفل وذوقه الشخصي. وسخر من القسوة والعنف في التربية ونادى بابعادهما عن ميدانها (٢٥).

٢٠ ـ مالبرانش (١٦٧٨ ـ ١٧١٥ م)

مثالي متصوف ، يرى أن أول عمل واجب هو أن نغذي الطفل بالحقائق المجردة ، ويجب العزوف عن الثقافة الحسية. ونهى عن الاعتماد على اللذات والآلام والمكافآت الحسية في التربية. واستبقى مع ذلك العقاب بالدرة (٢٦).

٢١ ـ ريشتارد ملكاستر (١٥٣١ ـ ١٦١١ م) Richerd Mnlcoster

كان من قادة كتاب الحركة الحسية الواقعية ، ومن أشهر المدرسين ، الإنكليز ، عمل ناظرا لمدرسة" مرشافت تايلور" من سنة ١٥٦١ إلى ١٥٨٦ ، ولمدرسة" سانت بول" من سنة ١٥٨٦ إلى ١٦٠٨ م. ورأى أن دراسة اللغة القومية يجب أن تقدم على دراسة اللاتينية. وقد خصص أحد كتبه للحديث عن اللغة القومية وعنوانه : " البداية التي تبحث في كتابة اللغة الإنجليزية على الوجه الصحيح". وله كتاب طبع سنة ١٥٨١ عنوانه : " المواضع التي تختبر فيها الظروف اللازمة لتعليم الأطفال المهارة في استخدام كتبهم أو المحافظة على صحة أبدانهم".

ونادى بأن التربية يجب ألا تهدف إلى كبت الطفل بل إلى مساعدة الطبيعة على اتمام عملها ، وبأن تكون متمشية لطبيعته (٢٧).

٢٢ ـ ميشيل مونتيني : (١٥٣٣ ـ ١٥٩٢ م) Montaigne

يمثل مونتيني النزعة الواقعية الاجتماعية في التربية. وقد عاش في فرنسا في العصر الذي بلغت فيه الحركة الأدبية قمتها ، وبلغت فيه فكرة إحياء العلوم الأدبية القديمة الذروة العلياء ، رباه والده بلطف وحرية دون قسوة أو اكراه ، فكان يوقظه كل صباح بالموسيقى ، ويستخدم معه في كل شيء نظاما معتدلا. وعلمه اللاتينية حتى اتقنها وهو في السادسة من عمره ، ثم أرسله إلى كلية" غويين" التي قضى فيها سبع سنوات ، والتحق بالجامعة وهو في الثالثة عشرة.

وهو يرى أن التربية هي فن تكوين إنسان بالمعنى الكامل ، وأن غاية الثقافة أن يصبح التلميذ خيرا مما هو وأنفذ بصيرة وأسلم حكما وتفكيرا. وهو يخضع كل شيء للأخلاق والفضيلة ، وقد وجه العناية الكبرى للملكات العملية ، وهو لا يعتمد الكتب بقدر ما يعتمد التجربة وملاحظة الأشياء والأشخاص ، ويعتقد أن أحسن وسيلة للتربية هي الاحتكاك المباشر بالحياة ، فذلك كفيل بأن يهيئ المرء للحياة في المجتمع. وقد احتقر المرأة ، ورأى أن تبقى في الجهالة (٢٨).

٢٣ ـ يوحنا فريد ريك هربارت : Herbart

ولد في مدينة" الدنبرغ" عام ١٧٧٦ م. وكان الابن الوحيد لمستشار حكومي ، وكانت أمه ابنة لطبيب ، فعنيت بتوجيه دراساته حتى الجامعة. وكان مبكر المواهب والنبوغ ، درس بين الثانية عشرة والثامنة عشرة من عمره في مدرسة الآداب في بلده ثم انتسب إلى جامعة" يينا" وتأثر بالفيلسوف" فيخته". وفي الحادية والعشرين عمل مربيا لدى أسرة سويسرية في" برن" لمدة ثلاث سنوات ، وزار معهد" بستالوزي" في" برجدورف" وتأثر به. ثم أصبج محاضرا في جامعة" غوتنغن" ، وبقي فيها حتى عام ١٨٠٩ وكتب مؤلفاته الأولى في التربية والأخلاق والفلسفة ، وعني بشرح آراء" بستالوزي" وبعدئذ أصبح أستاذا للفلسفة في جامعة" كونجسبرغ" وبقي فيها نحو ربع قرن. وكان أيضا مديرا لمدرسة تجريبية ملحقة بالجامعة خاصة بالطلاب الذين كانوا يعدون للتدريس. وتزوج ابنة تاجر انكليزي عام ١٨١١ وكتب كتابه في" علم النفس" عام ١٨١٦ وكتابه" علم النفس كعلم" عام ١٨٢٤ وطائفة من الكتب الأخرى وبعد ذلك عاد إلى جامعة" غوتنغن" ودرس الفلسفة فيها حتى وفاته عام ١٨٤١ وفيها أكب على تهذيب مبادئه وخط كتابه" المختصر في مبادئ التربية". وقد بين اننا نتعلم عن طريق التداعي أو الترابط. وقرر أن العقل يعمل ككل وكوحدة متصلة وليس ثمة ملكات منفصلة ، والأفكار في نظره قوة حركية وفعالة نشيطة والتعليم فيما يرى هو التمثيل الفعال للأفكار. واعتبر الانفعال والإرادة مرتبطين بالعلائق التي تقوم بين الأفكار.

وجعل الهدف الأسمى للإنسان وللتربية هو الأخلاق والفضيلة. وقرر أن للتربية ثلاث مراحل هي : مرحلة القيادة ومرحلة التعليم ومرحلة التدريب. واقترح أربع خطوات لاكتساب المعرفة هي الوضوح والربط والنظام والطريقة (٢٩).

هوامش التراجم

__________________

(١) تذكرة السامع والمتكلم ص ١ ، ١ ، موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين ص ٧٥.

(٢) مقدمة ابن خلدون ـ تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي ج ١ ص ٢٨ ـ ٨٣. تاريخ التربية للدكتور عبد الدائم ص ١٩٧ ـ ٢٠٧ ، موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين ص ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) آداب المعلمين لمحمد بن سحنون ـ تحقيق حسن حسني عبد الوهاب ص ١٥ ـ ٣٠.

(٤) مختصر جامع بيان العلم وفضله ـ أحمد بن عمر المحمصاني ص ٤ ـ ٦

(٥) موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين ص ١٣٢.

(٦) احياء علوم الدين ج ١ ص ج ـ و ، تاريخ التربية ص ١٨٥ ـ ١٨٧.

(٧) تاريخ التربية ٣٤٥ ـ ٣٧٤ المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٢٨٠ ـ ٣٠٨.

(٨) تاريخ التربية ـ د. عبد الله عبد الدائم ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٩) ،

(١٠) تاريخ التربية ـ د. عبد الله عبد الدائم ٤٦ ـ ٥١ ، ٣٢ ـ ٤١ ، المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ١٥٣ ـ ١٦٦ ، ١٣٧ ـ ١٥٢.

(١١) تاريخ التربية ٢٢٧ ـ ٢٣١ ، المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ، ص ٣٥ ـ ٤٠ ، ١١١ ـ ١١٢ ، الفكر الألماني ٢١٤.

(١٢) تاريخ التربية ـ د. عبد الله عبد الدايم ص ٨٨ ، ٧١ ـ ٧٤.

(١٣) تاريخ التربية ـ د. عبد الله عبد الدايم ص ٨٨ ، ٧١ ـ ٧٤.

(١٤) تاريخ التربية ص ٢٣٢ ـ ٢٣٩ ، المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١١٢ ـ ١١٥

(١٥) تاريخ التربية ٣١٧ ـ ٣٤٠ ، المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٢٢٩ ـ ٢٦٢ ، الفكر الألماني ص ٦١.

(١٦) تاريخ التربية ص ٤٢٠ ـ ٤٣٤

(١٧) تاريخ التربية : ٢٧ ـ ٣٢ ، المرجع في تاريخ التربية ج ١ ص ١٣٠ ـ ١٣٦.

(١٨) تاريخ التربية ـ د. عبد الله عبد الدايم ص ٢٣

(١٩) تاريخ التربية ص ٣٧٥ ـ ٣٩٢ ، المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٣٣٣ ـ ٣٦٣

(٢٠) تاريخ التربية ص ٤١٩ ، الفكر الألماني ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢١) تاريخ التربية ـ د. عبد الله عبد الدايم ص ٢٨٢ ـ ٢٩٦

(٢٢) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، الفكر الألماني : ٤٩.

__________________

(٢٣) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١٥٦ ـ ١٧٦ ، تاريخ التربية ٢٥٩ ـ ٢٧٠

(٢٤) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٧١ ـ ٧٦ ، تاريخ التربية ٢٥٢ ـ ٢٥٨.

(٢٥) تاريخ التربية ٣٠٣ ـ ٣١٦ ، المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١٩١ ـ ٢٠٤

(٢٦) تاريخ التربية ـ د. عبد الله عبد الدايم ص ٣٠١ ـ ٣٠٣.

(٢٧) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ، ١٣٧ ـ ١٤٠.

(٢٨) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١٢٤ ـ ١٣٢ ، تاريخ التربية ٢٤٠ ـ ٢٤٧

(٢٩) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٣٠٩ ـ ٣٢٩ ، تاريخ التربية : ٣٩٣ ـ ٤١٧

المصادر الأساسية

أ ـ القرآن الكريم وتفاسيره

١ ـ الإمام البيضاوي : أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، طبع عام ١٣٠٥ ه‍.

٢ ـ تفسير الجلالين : مطبوعات دار مروان ـ دار العربية ، بيروت.

٣ ـ ابن كثير : الإمام أبو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي : تفسير القرآن العظيم ـ المكتبة التجارية الكبرى بمصر.

٤ ـ الواحدي النيسابوري : أبو الحسن ، علي بن أحمد : أسباب النزول ـ دار الكتب العلمية ببيروت ١٣٩٥ ه‍ ، ١٩٧٥ م.

ب ـ السنة النبوية وشروحها

١ ـ فتح الباري بشرح صحيح الإمام محمد بن اسماعيل البخاري ـ للامام الحافظ احمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، دار المعرفة بيروت.

٢ ـ صحيح الإمام مسلم بن حجاج القشيري ـ تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ـ دار احياء الكتب العربية.

٣ ـ سنن أبي داود ـ المكتبة التجارية الكبرى بمصر.

٤ ـ الجامع الصحيح (سنن الترمذي) مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة ١٣٥٦ ه

٥ ـ سنن النسائي ، المطبعة المصرية بالأزهر ، الطبعة الأولى ١٣٤٨ ه

٦ ـ سنن ابن ماجه ـ دار احياء الكتب العربية ١٣٧٢ ه‍ ، ١٩٥٢ م

٧ ـ المسند للإمام أحمد بن محمد بن حنبل ، دار المعارف بمصر ١٣٦٦ ه‍ ـ ١٩٤٧ م

٨ ـ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ـ محمد فؤاد عبد الباقي. المكتبة الاسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

٩ ـ التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ـ الشيخ منصور علي ناصيف ـ دار احياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي الطبعة الثالثة ، ١٣٨٢ ه‍ ـ ١٩٦٢ م.

١٠ ـ الترغيب والترهيب للحافظ المنذري ـ الطباعة المنيرية.

١١ ـ الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير للإمام الحافظ جلال الدين بن عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. وبهامشه كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق للإمام عبد الرؤوف المناوي ـ مطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر.

١٢ ـ كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للشيخ اسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي ـ نشر مكتبة القدسي سنة ١٣٥١ ه

١٣ ـ الأذكار ـ النووي ، مطبعة البابي الحلبي ، الطبعة الرابعة ١٣٧٥ ه‍ ، ١٩٥٥ م.

١٤ ـ سبل السّلام ـ تأليف الامام الصنعاني ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر ، الطبعة الرابعة ١٣٧٩ ه‍ ، ١٩٦٠ م.

١٥ ـ الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ، مؤسسة الرسالة ـ الطبعة الأولى ١٣٢٨ ه‍.

ج ـ المراجع التربوية

ـ الباني : عبد الرحمن : مدخل إلى التربية في ضوء الاسلام ـ المكتب الاسلامي.

١ ـ ابن جماعة : محمد بن ابراهيم بن سعد الله : تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ـ نشر محمد هاشم النووي ـ طبع حيدرآباد ١٣٥٣ ه‍.

٢ ـ الجيوشي : د. فاطمة : التربية العامة (١) مطابع مؤسسة الوحدة ١٤٠١ ه‍ ١٩٨١ م.

٣ ـ رحمة : د. انطون حبيب : التربية العامة (٢) مطبعة طربين ١٤٠٢ ه‍ ١٩٨٢ م

٤ ـ الزرنوجي : تعليم المتعلم ـ طبع ١٨٩٧ م.

٥ ـ ابن سحنون : محمد : آداب المعلمين ـ تحقيق حسن حسني عبد الوهاب ـ طبع دار الكتب الشرقية بتونس ، طبعة ثانية ١٣٩٢ ه‍ ـ ١٩٧٢ م.

٦ ـ ابن عبد البر : أبو عمر ، يوسف بن عبد البر القرطبي : جامع بيان العلم وفضله

ـ اختصار احمد بن عمر المحمصاني ، مطبعة الموسوعات بمصر ١٣٢١ ه‍.

٧ ـ عبد الدائم : د. عبد الله : تاريخ التربية ، المطبعة الجديدة ، دمشق ١٣٨٥ ه‍ ـ ١٩٦٥ م.

٨ ـ عبد العزيز : صالح : التربية الحديثة عام ١٩٥٦ م.

٩ ـ العلموي : عبد الباسط بن موسى بن محمد : المعيد في أدب المفيد والمستفيد ـ مطبعة الترقي.

١٠ ـ قطب : محمد : منهج التربية الاسلامية.

١١ ـ منرو : د. بول : المرجع في تاريخ التربية ـ ترجمة صالح عبد العزيز ، مكتبة النهضة المصرية ١٩٥٨ م.

١٢ ـ النحلاوي : عبد الرحمن : أصول التربية الاسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع ، دار الفكر ، دمشق ، الطبعة الثانية ١٤٠٣ ه‍ ـ ١٩٨٣ م.

د ـ المصادر التاريخية

١ ـ ابن الأثير : الكامل في التاريخ ، دار صادر ، دار بيروت للطباعة والنشر ١٣٨٥ ه‍ ١٩٦٥ م.

٢ ـ الثعلبي : أحمد بن محمد بن ابراهيم : قصص الأنبياء المسمى بعرائس المجالس طبعة سنة ١٢٩٢ ه‍.

٣ ـ ابن خلدون : المقدمة ـ المطبعة الشرفية.

٤ ـ ابن خلدون : المقدمة ـ تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي ، نشر لجنة البيان العربي ، الطبعة الأولى ١٣٧٦ ه‍ ـ ١٩٥٧ م.

٥ ـ الطبري محمد بن جرير : تاريخ الرسل والملوك ، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم ـ دار المعارف بمصر ١٩٦٠ م.

٦ ـ ابن كثير : البداية والنهاية ، الطبعة الأولى ١٩٦٦ م.

٧ ـ المسعودي : علي بن الحسين بن علي : مروج الذهب ومعادن الجوهر ـ تحقيق محمد محي الدين بن عبد الحميد ـ دار المعرفة بيروت ١٤٠٣ ه‍ ـ ١٩٨٢ م.

ه ـ المراجع المختلفة

ـ الغزالي : أبو حامد محمد : احياء علوم الدين وبهامشه كتاب المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء للحافظ العراقي ـ دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت.

ـ الغزالي : أبو حامد محمد : الاقتصاد في الاعتقاد الطبعة الأخيرة ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.

ـ ابن عبد ربه الأندلسي العقد الفريد : مطبعة لجنة التأليف والطبع والنشر بالقاهرة ١٣٥٩ ه‍ ـ ١٩٤٠ م.

ـ ابن عبد ربه العقد الفريد : مختارات اختارها ورتبها د. محمد يوسف زيد خياط ، بيروت ١٣٨٦ ه‍ ـ ١٩٦٧ م.

ـ الرضاعة الطبيعية ـ مراجعة د. علي التنير ـ مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ، مطابع الرسالة ، الكويت ، الطبعة الثانية ١٩٨٣ م.

ـ الفكر الألماني من لوثر إلى نيتشه ـ جان ادوار سبنله ـ ترجمة تيسير شيخ الأرض ـ نشر وزارة الثقافة ـ دمشق ١٩٦٨ م.

ـ موسوعة العلوم الاسلامية والعلماء المسلمين ـ مكتبة المعارف ، بيروت

ـ مجلة الدوحة ـ قطر العدد ١١٤.

محتوى الكتاب

مقدمة.......................................................................... ٧

الفصل الأول

معنى التربية والحاجة إليها واهدافها............................................... ٩

١ ـ معنى التربية............................................................. ٩

٢ ـ الحاجة إلى التربية...................................................... ١١

٣ ـ أهداف التربية......................................................... ١٩

الفصل الثاني

مجالات التربية............................................................... ٣١

١ ـ التربية البدنية.......................................................... ٣١

٢ ـ التربية العقلية.......................................................... ٣٥

٣ ـ التربية الاجتماعية...................................................... ٤١

٤ ـ التربية الجمالية......................................................... ٤٦

٥ ـ التربية الإنفعالية....................................................... ٥٠

٦ ـ التربية الروحية......................................................... ٥٤

الفصل الثالث

مقومات التربية.............................................................. ٦٣

أولا العقيدة................................................................. ٦٣

١ ـ الإيمان بالله........................................................... ٦٤

ـ دلائل وجود الله.......................................................... ٦٤

ـ وحدانية الله تعالى......................................................... ٦٤

ـ الآثار التربوية لعقيدة التوحيد............................................... ٧١

٢ ـ الإيمان بالملائكة....................................................... ٧٥

ـ الجن.................................................................... ٨٤

٣ ـ الإيمان بالكتب السماوية............................................... ٨٥

٤ ـ الإيمان بالرسل......................................................... ٩٤

٥ ـ الإيمان باليوم الآخر.................................................... ٩٨

٦ ـ الإيمان بالقضاء والقدر................................................ ١٠٦

ثانيا العبادات.............................................................. ١١٣

١ ـ الصلاة............................................................. ١١٥

٢ ـ الزكاة............................................................... ١١٩

٣ ـ الصوم.............................................................. ١٢٢

٤ ـ حج البيت الحرام..................................................... ١٢٥

ثالثا) الأخلاق............................................................. ١٢٩

١ ـ الصدق............................................................. ١٣٢

٢ ـ الوفاء بالعهد........................................................ ١٣٤

٣ ـ الأمانة.............................................................. ١٣٦

٤ ـ الحلم والعفو......................................................... ١٣٨

٥ ـ الصبر.............................................................. ١٤٠

٦ ـ الشكر............................................................. ١٤٢

٧ ـ الكبر............................................................... ١٤٤

٨ ـ السخرية............................................................ ١٤٦

٩ ـ الغيبة............................................................... ١٤٧

١٠ ـ النميمة........................................................... ١٤٨

الفصل الرابع

مبادئ التربية.............................................................. ١٧١

١ ـ القابلية والإعداد للتربية............................................... ١٧١

٢ ـ التدرج في التربية..................................................... ١٧٧

٣ ـ مراعاة الفروق الفردية................................................. ١٨١

٤ ـ وسائل المعرفة........................................................ ١٨٣

٥ ـ الزامية التعليم........................................................ ١٨٧

٦ ـ مجانية التعليم........................................................ ١٩٢

٧ ـ خطوات الدرس...................................................... ١٩٥

الفصل الخامس

طرق وأساليب التربية....................................................... ٢٠٩

١ ـ التربية بالوعظ والإشاد................................................ ٢١٠

٢ ـ التربية بالقصة....................................................... ٢١٢

قصة يوسف

حديث الغار.............................................................. ٢٢٥

٣ ـ أسلوب الجدل والحوار................................................. ٢٢٧

٤ ـ أسلوب التشبيه

وضرب الأمثال.......................................................... ٢٣٢

٥ ـ التربية بالعمل والعادة................................................. ٢٣٦

٦ ـ التربية بالقدوة........................................................ ٢٤١

٧ ـ التربية باللعب....................................................... ٢٤٢

٨ ـ التربية بالترغيب والترهيب............................................. ٢٤٤

الفصل السادس

مراحل التربية.............................................................. ٢٦٣

١ ـ مرحلة ما قبل الولادة................................................. ٢٦٣

٢ ـ مرحلة الطفولة....................................................... ٢٦٤

٣ ـ مرحلة التمييز........................................................ ٢٦٨

٤ ـ مرحلة البلوغ والرشد.................................................. ٢٧٠

٥ ـ مرحلة الكبر والشيخوخة.............................................. ٢٧٢

الفصل السابع

المؤسسات التربوية.......................................................... ٢٧٦

١ ـ الأسرة.............................................................. ٢٧٦

٢ ـ المدارس............................................................. ٢٧٨

٣ ـ المساجد............................................................ ٢٨٣

٤ ـ المكتبات............................................................ ٢٨٦

٥ ـ المجتمع.............................................................. ٢٨٩

الفصل الثامن

خصائص المنهج............................................................ ٢٩٣

١ ـ منهج رباني.......................................................... ٢٩٣

٢ ـ الشمول والتكامل.................................................... ٢٩٥

٣ ـ متوازن معتدل........................................................ ٢٩٨

٤ ـ الواقعية والمثالية....................................................... ٣٠١

٥ ـ الإيجابية السوية...................................................... ٣٠٤

٦ ـ التطور والثبات....................................................... ٣٠٦

خاتمة..................................................................... ٣٠٩

تراجم أشهر علماء التربية................................................. ٣١٢

المصادر الأساسية........................................................ ٣٢٨

محتوى الكتاب.......................................................... ٣٣٣

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف: عمر أحمد عمر
الصفحات: 336
  • مقدمة 7
  • الفصل الأول
  • معنى التربية والحاجة إليها واهدافها 9
  • 1 ـ معنى التربية 9
  • 2 ـ الحاجة إلى التربية 11
  • 3 ـ أهداف التربية 19
  • الفصل الثاني
  • مجالات التربية 31
  • 1 ـ التربية البدنية 31
  • 2 ـ التربية العقلية 35
  • 3 ـ التربية الاجتماعية 41
  • 4 ـ التربية الجمالية 46
  • 5 ـ التربية الإنفعالية 50
  • 6 ـ التربية الروحية 54
  • الفصل الثالث
  • مقومات التربية 63
  • أولا العقيدة 63
  • 1 ـ الإيمان بالله 64
  • ـ دلائل وجود الله 64
  • ـ وحدانية الله تعالى 64
  • ـ الآثار التربوية لعقيدة التوحيد 71
  • 2 ـ الإيمان بالملائكة 75
  • ـ الجن 84
  • 3 ـ الإيمان بالكتب السماوية 85
  • 4 ـ الإيمان بالرسل 94
  • 5 ـ الإيمان باليوم الآخر 98
  • 6 ـ الإيمان بالقضاء والقدر 106
  • ثانيا العبادات 113
  • 1 ـ الصلاة 115
  • 2 ـ الزكاة 119
  • 3 ـ الصوم 122
  • 4 ـ حج البيت الحرام 125
  • ثالثا) الأخلاق 129
  • 1 ـ الصدق 132
  • 2 ـ الوفاء بالعهد 134
  • 3 ـ الأمانة 136
  • 4 ـ الحلم والعفو 138
  • 5 ـ الصبر 140
  • 6 ـ الشكر 142
  • 7 ـ الكبر 144
  • 8 ـ السخرية 146
  • 9 ـ الغيبة 147
  • 10 ـ النميمة 148
  • الفصل الرابع
  • مبادئ التربية 171
  • 1 ـ القابلية والإعداد للتربية 171
  • 2 ـ التدرج في التربية 177
  • 3 ـ مراعاة الفروق الفردية 181
  • 4 ـ وسائل المعرفة 183
  • 5 ـ الزامية التعليم 187
  • 6 ـ مجانية التعليم 192
  • 7 ـ خطوات الدرس 195
  • الفصل الخامس
  • طرق وأساليب التربية 209
  • 1 ـ التربية بالوعظ والإشاد 210
  • 2 ـ التربية بالقصة 212
  • قصة يوسف
  • حديث الغار 225
  • 3 ـ أسلوب الجدل والحوار 227
  • 4 ـ أسلوب التشبيه
  • وضرب الأمثال 232
  • 5 ـ التربية بالعمل والعادة 236
  • 6 ـ التربية بالقدوة 241
  • 7 ـ التربية باللعب 242
  • 8 ـ التربية بالترغيب والترهيب 244
  • الفصل السادس
  • مراحل التربية 263
  • 1 ـ مرحلة ما قبل الولادة 263
  • 2 ـ مرحلة الطفولة 264
  • 3 ـ مرحلة التمييز 268
  • 4 ـ مرحلة البلوغ والرشد 270
  • 5 ـ مرحلة الكبر والشيخوخة 272
  • الفصل السابع
  • المؤسسات التربوية 276
  • 1 ـ الأسرة 276
  • 2 ـ المدارس 278
  • 3 ـ المساجد 283
  • 4 ـ المكتبات 286
  • 5 ـ المجتمع 289
  • الفصل الثامن
  • خصائص المنهج 293
  • 1 ـ منهج رباني 293
  • 2 ـ الشمول والتكامل 295
  • 3 ـ متوازن معتدل 298
  • 4 ـ الواقعية والمثالية 301
  • 5 ـ الإيجابية السوية 304
  • 6 ـ التطور والثبات 306
  • خاتمة 309
  • تراجم أشهر علماء التربية 312
  • المصادر الأساسية 328
  • محتوى الكتاب 333