بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم الى
يوم الدين.
وبعد :
فهذا بحث متواضع
في مسألة (الترتب) ، وأسأل الله سبحانه التوفيق والقبول ، انه الموفق والمستعان.
٧ ـ صفر ـ ١٤٠٨ ه
هل المسألة اصولية؟
الظاهر من بعض
العبارات : أن موضوع المسألة وجود الامر بالضد المهم معلقا على عصيان الامر بالاهم
ونحوه ، وعدم وجوده.
وظاهر بعض آخر :
كون الموضوع صحة الضد المهم ، وفساده.
وقد يورد عليهما :
ـ بناء على استقلالية المسألة وعدم تبعيتها لغيرها لوجود ملاكها فيها ـ بأن البحث
عن حكم فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير ، والصحة والبطلان ونحوهما من المباحث
الفقهية ، اذ موضوع المسألة الفقهية هو فعل المكلف ، ومحمولها هو عوارضه الحكمية ،
ومن الواضح : أن الضد المهم فعل من أفعال المكلف ، وكونه مأمورا به وصحيحا أو
باطلا عارض حكمي فتكون المسألة فقهية.
وفيه :
أولا : ما ذكره
المحقق النائيني (قده) ـ كما في أجود التقريرات ـ وهو : أن علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة كالصلاة
والصوم
__________________
ونحوها ، وأما
الكليات التي لا ينحصر صدقها بموضوع خاص فلا يتكفله علم الفقه أصلا.
ويرد عليه :
عدم اختصاص
المباحث الفقهية بما يبحث فيه عن حكم موضوع من الموضوعات الخاصة ، نان جملة من
المباحث الفقهية كمباحث وجوب الوفاء بالنذر وأخويه ووجوب اطاعة الوالدين ووجوب
الوفاء بالشرط ونحوها يبحث فيها عن أحكام العناوين العامة القابلة للصدق على
الافعال المختلفة في الماهية والعنوان ـ كما ذكره بعض الاعلام ـ.
(هذا) مضافا الى
أن سعة حدود العلم وضيقها تابعان لسعة حدود الغرض وضيقها ، فان العمل تابع للغرض ،
وهو وان كان آخر ما يتحقق في الخارج ، إلّا أنه أول ما ينقدح في الذهن ، ولذا
ذكروا ان الغاية علة فاعلية الفاعل بماهيتها ، وان كانت معلولة له بانيتها ومن هنا
يعلم أنه وان كان التشابه الذي يقع ـ في غالب الاحيان ـ بين مسائل العلم أمرا تكوينيا
ذاتيا ، إلّا أن افراد مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر وجعله علما برأسه ، وجعل
محوره موضوعا معينا دون آخر مع كونه أعم منه أو أخص أو بينهما العموم من وجه ـ مما
يتبعه سعة العلم وضيقه ـ انما يتبع تمايز الغرض ، ولذا قد لا تذكر بعض الامور
المتشابهة في العلم لانها لا تخدم الغرض ، وقد تذكر امور فيها شيء من التباعد
لدخلها جميعا في الغرض ، فالواضع غير مقيد بالتشابه التكويني ، وانما هو تابع
لغرضه.
ومن المقرر : أن
الغرض من المسألة الفقهية ـ قاعدة كانت أو حكما ـ هو معرفة الاحكام الشرعية
اللاحقة لفعل المكلف ـ تكليفا ووضعا ـ لاجل أن لا يشذ عمل المكلف عما أراده له
الشارع.
وعلى هذا فلا فرق
في موضوع المسألة الفقهية بين العموم والخصوص
وانحصار الصدق
وعدمه ، وذلك لان الموضوع العام ـ كالخاص ـ مما له مدخلية في غرض الفقيه.
ولعل ما ذكره
السيد الوالد ـ دام ظله ـ من أنه لا يشترط البحث عن أحوال موضوعات خاصة في كون
المسألة فقهية ، بعد كون الوجوب من عوارض فعل المكلف ، اشارة الى ذلك.
(مع) أنه لا ضابط
لانحصار الصدق بموضوع خاص ، اذ الانحصار قد يكون صنفيا وقد يكون نوعيا ، وقد يكون
جنسيا ، كما أن لكل واحد منها مراتب مختلفة في القرب والبعد ، وجعل الضابط أحدها
دون الآخر مفتقر الى الدليل ، وهو مفقود في المقام.
ثم : ان المحقق
العراقي (قده) في مقام الذب عن نظير الاشكال الوارد في المقام اشترط في كون
المسألة فقهية مضافا الى وحدة الموضوع : وحدة المحمول ووحدة الملاك فما لم يكن
واجدا للوحدات الثلاث لا يعد من المسائل الفقهية.
قال (ره) : ان
الملاك في المسألة الفرعية على ما يقتضيه الاستقراء في مواردها انما هو وحدة
الملاك والحكم والموضوع ، فكان المحمول فيها دائما حكما شخصيا متعلقا بموضوع
وحداني بملاك خاص ، كما في مثل (الصلاة واجبة) في قبال (الصوم واجب) و (الحج واجب)
، ومثل هذا الملاك غير موجود في المقام ... الى آخر كلامه (ره).
ولعل ما ذكره (ره)
هنا ينافي ما سبق منه من تبعية العلوم للاغراض قال (قده) : (ان كل من قنن قانونا
أو أسس فنا من الفنون لا بد أن يلاحظ في نظره أولا غرضا ومقصدا خاصا ثم يجمع شتاتا
من القواعد والمسائل الخاصة التي هي عبارة عن مجموع القضية من الموضوع والمحمول أو
المحمولات المنتسبة الى الموضوعات مما كانت وافية بذلك الغرض والمقصد المخصوص ،
كما عليه أيضا
قد جرى ديدن أرباب
الفنون من الصدر الاول .. ومن المعلوم أنه لا يكاد يجمع من القضايا والقواعد في كل
فن الا ما كانت منها محصلة لذلك الغرض ، دون غيرها من القضايا التي لا يكون لها
دخل في ذلك الغرض ، فمن كان غرضه مثلا هو صيانة الفكر عن الخطأ لا بد له من تدوين
القضايا التي لها دخل في الغرض المزبور دون غيرها من القضايا غير المرتبطة به ..).
(مع) أنه لم ينقدح
المراد بالوحدة التي جعلها ملاكا لكون المسألة فقهية ، اذ الوحدة الحقيقية الحقة ـ
وهي ما لم تكن الذات فيها مأخوذة في مفهوم الصفة المشتقة من الوحدة ـ منتفية في
المقام مطلقا ، والوحدة الحقيقية غير الحقة ـ وهي التي أخذت الذات فيها لكن كانت
الوحدة وصفا لها بحال نفسها في مقابل الوحدة غير الحقيقية التي تكون الوحدة وصفا
لها بحال متعلقها كالوحدة بالجنس أو النوع ـ سارية في كل أقسام الواحد بالعموم
المفهومي دون فرق بين كون الوحدة صنفية أو نوعية أو جنسية وبين كونها قريبة أو
بعيدة ، وتكثر المصاديق الخارجية مشترك بين الجميع ، وصرف سعة حيطة مفهوم وضيق آخر
لا يكون مائزا فيما نحن بصدده ، وإلّا لزم الاقتصار في كون المسألة فقهية على ما
يكون موضوعه هو الصنف القريب ، وهو مقطوع الانتفاء.
(ثم) على ما ذكره (قده)
تخرج كثير من المسائل والقواعد الفقهية عن دائرة البحث الفقهي مثل (العبادات
مشروطة بالنية) و (العقود تابعة للقصود) و (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) و (ما لا
يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) و (أوفوا بالعقود) و (انما يحلل الكلام ويحرم الكلام)
و (الاستصحاب) و (البراءة) الجاريتين في الشبهات الموضوعية ـ على مبنى القوم فيهما
ـ ونحوها ، لعدم وحدة الموضوع والمحمول فيها.
(مضافا) الى أنه
لم يثبت كون الخطابات الوحدانية الموضوع والمحمول ـ ـ مثل قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)
ذات ملاك واحد ،
اذ يحتمل ـ ثبوتا ـ وجود ملاكات متعددة يختص كل منها بصنف من أصناف موضوع الخطاب
مثلا : يكون ملاك تغسيل عامة الناس هو التطهير ، وملاك تغسيل المعصوم (عليهالسلام)
جريان السنة ، الى غير ذلك ، وتوحيد كل الاصناف في موضوع واحد وحمل محمول واحد
عليها لا يدل على وحدة الملاك ، كما يظهر بملاحظة القوانين العرفية والقواعد
المذكورة في العلوم كالطب ونحوه.
ثانيا : أن ملاك
كون المسألة اصولية لا ينحصر في وقوعها في طريق استنباط الاحكام الكلية من أدلتها
وإلّا لزم اختلال الطرد والعكس ، وذلك لوقوع كثير من القواعد في طريق استنباط
الاحكام الكلية مع عدم ادراج القوم لها في المسائل الاصولية كاصالة الطهارة ـ بناء
على عمومها للشبهات الحكمية كعمومها للشبهات الموضوعية ـ وكقاعدة نفي الحرج ، التي
بها ينفى ـ مثلا ـ وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه على ما ذكره الشيخ الاعظم
(ره) في الاستصحاب ، وكقاعدة الفراغ ، على ما ذكره المشكيني (قده) في مسألة النهي
في العبادة ، وكقاعدة نفي الضرر بناء على جريانها في الشبهات الحكمية ، كما هو أحد
القولين في المسألة ـ كما في المحاضرات والمصباح ـ وكالقياس والاستحسان والمصالح
المرسلة ورأي الصحابي ونحوها ، اذ لا يشترط في اصولية المسألة ثبوت الدليلية أو
الدلالة أو الاستلزام ، اذ قد يثبت في الاصول عدم دليلية شيء كالشهرة الفتوائية
وقول اللغوي أو عدم دلالة شيء على شيء كما يقال لا دلالة للامر على الوجوب ولا
للنهي على الحرمة ، أو عدم استلزام شيء لشيء كعدم استلزام وجوب الشيء لوجوب
مقدماته ، وعدم استلزام حرمة الشيء لفساد ضده ، والتزام الاستطراد في ذلك كله فيه
ما لا يخفى.
ومن هنا أبدل صاحب
الفصول (قده) تعريف صاحب القوانين (قده) لموضوع الاصول بأنه : (ما يبحث فيه عن حال
الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلا) بقوله :
(ان موضوع الاصول
ذوات الادلة من حيث يبحث عن دليليتها أو عما يعرض لها بعد الدليلية).
وأيضا : نجد هنالك
مسائل لا تقع في طريق استنباط الاحكام الكلية وقد أدرجها القوم في ضمن المباحث
الاصولية ، كوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية وكسريان اجمال المخصص الى العام في
الشبهات المصداقية ، وكمبحث مخالفة العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية ، وكمسائل
دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب مع الشك في الواقعة الجزئية ، ودوران الامر
بين الوجوب وغير الحرمة من جهة الاشتباه في موضوع الحكم ، ودوران الامر بين الوجوب
والحرمة من جهة اشتباه الموضوع ـ كل هذه الثلاثة في صورة كون الشك في نفس التكليف
، ويجري نظيرها في كون الشك في المكلف به مما يشمل شطرا من مباحث الشبهة المحصورة
والشبهة غير المحصورة والاقل والاكثر ، والمتباينين ـ وكاستصحاب الكلي في باب
الموضوعات ، الى غير ذلك.
والتزام الاستطراد
في ذلك كله لا وجه له ، بعد امكان عدها من المسائل الاصولية. فانقدح بذلك عدم
انحصار الملاك في وقوع المسألة في طريق استنباط الاحكام الكلية من ادلتها ، بل
الملاك يتكون من امور مختلفة.
منها : ما ذكر.
ومنها : عمومها
لجميع الابواب أو اكثرها أو كثير منها.
ومنها : عدم البحث
عنها في فن آخر.
ومنها : احتياج
المسألة الى مزيد نقض وابرام.
ومنها : قرب
مدخليتها في عملية الاستنباط.
ومنها : شرائط
الزمان والمكان.
ومنها : غير ذلك
...
فالمزيج من هذه
الامور ـ كلا أو بعضا ـ هو الملاك في أصولية المسألة .. ويؤيد ذلك ـ ولو في الجملة
ـ : ما ذكره صاحب الكفاية (قده) في مبحث الاصول العملية قال :
(والمهم منها
أربعة فان مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وان كان مما ينتهي
اليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته إلّا أن البحث عنها ليس بمهم حيث
أنها ثابتة بلا كلام من دون حاجة الى نقض وابرام ، بخلاف الاربعة وهي البراءة
والاحتياط والتخيير والاستصحاب فانها محل الخلاف بين الاصحاب ويحتاج تنقيح مجاريها
وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها الى مزيد بحث وبيان ومئونة حجة
وبرهان ، هذا مع جريانها في كل الابواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها).
وما في (المحاضرات)
في تقسيم القواعد الاصولية حيث قال :
(الضرب الاول ما
يكون البحث فيه عن الصغرى بعد احراز الكبرى والفراغ عنها ، وهي مباحث الالفاظ
بأجمعها ، فان كبرى هذه المباحث وهي مسألة حجية الظهور محرزة ومفروغ عنها وثابتة
من جهة بناء العقلاء وقيام السيرة القطعية عليها ، ولم يختلف فيها اثنان ، ولم يقع
البحث عنها في أي علم ، ومن هنا قلنا انها خارجة عن المسائل الاصولية).
وقريب منه ما في (مصباح
الاصول) وهو وان كان محل تأمل ، إلّا انه لا يخلو من تأييد لما ذكرنا.
ويؤيده أيضا :
اختلاف كتب الاصول في المسائل المبحوثة فيها ، فهنالك مسائل كثيرة أدرجت في كتب
الاصول السابقة ، ثم هجرت في كتب الاصول الحديثة ، خصوصا بعد الشيخ الاعظم (قده).
ويكفي : أن يعلم
أن قسما من مباحث الدراية كانت ضمن الاصول ثم فصلت
عنه وكذا ملاحظة
تاريخ تطور علم الاصول والتفاعل المتبادل بين علم الاصول وعلم الفقه.
ثالثا : مع التسليم
يمكن القول :
ان البحث في هذه
المسألة ليس عن نفس الوجوب ، بل عن الملازمة العقلية بين الامر بالاهم وانتفاء
الامر بالمهم ، أو بين وجوبه وانتفاء وجوبه ومن المعلوم ان الملازمة من عوارض نفس
الطلب ، لا من عوارض فعل المكلف ، وان كان العلم بالملازمة مستلزما للعلم بحكم فعل
المكلف وهو وجوب الاتيان بالضد المهم أو عدم وجوبه ، وبذلك ينطبق ما ذكروه في ضابط
المسألة الاصولية من وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي على محل البحث ، فانه على
الملازمة يستنبط عدم وجوب المهم ، وعلى عدمها يستنبط الوجوب ، ولا يعنى بالمسألة الاصولية
الا ما يصح أن تقع كبرى لقياس ينتج الحكم الكلي ، ومع انطباق ضابط المسألة
الاصولية على مبحث (الترتب) لا وجه للالتزام بكون البحث فيها استطراديا ، ولا
بجعلها مسألة فقهية ، وان كانت فيها جهتها ، وذلك لما تقرر في محله من امكان تداخل
علمين أو أزيد في بعض المسائل ، وكون التمايز بينها بالاغراض أو نحوها.
وعلى ذلك فتندرج
المسألة في الملازمات العقلية غير المستقلة ، نظير مسئلة الضد والمقدمة والاجزاء
ونحوها ، فلا تكون حينئذ من المسائل الفرعية. فتأمل
شرائط تحقق الموضوع
يشترط في تحقق
موضوع (الترتب) امور :
وجود التضاد بين الامرين
(الأول) : وجود
التضاد بين الامرين ، وإلّا لم يكن محذور في الجمع بينهما.
ولا يخفى أنه ليس
المراد (التضاد بالذات) ، اذ لا يجري في الاحكام الشرعية لكونها أمورا اعتبارية ،
على ما تقرر في محله.
ولا (التضاد
بالتبع) ـ بأن يكون الموصوف بالتضاد بالذات واسطة في ثبوت التضاد لها ، كوسطية
النار في ثبوت الحرارة للماء ـ اذ الوجدان قاض بأنه لا تضاد بين انشاء الوجوب
وانشاء الحرمة على شيء معين لو قصر النظر عليهما ، ولو بعد وسطية غيرهما.
بل المراد (التضاد
بالعرض) ـ بأن يكون الموصوف به بالذات واسطة في العروض وهي ما كانت الواسطة مناطا
، لاتصاف ذيها بشيء بالعرض والمجاز ، لعلاقة ، كما في حركة السفينة وحركة جالسها ـ
أما الاصالة فهي للتضاد الحاصل
في (المنتهى) ـ أي
ما يرتبط بمرحلة امتثال المكلف للحكم وجريه العملي على مقتضاه ـ وأما التضاد
الحاصل في (المبدأ) ـ أي مبدأ الحكم من الارادة ومقدماتها ـ فهو تضاد بالتبع على
ما سيأتي ان شاء الله تعالى.
ثم لا يخفى ان
المراد من التضاد هنا لا ينحصر في (الحقيقي منه) ، وهو ما كان بين الذاتين
المتضادتين غاية البعد والخلاف ، كما في طرفي الافراط والتفريط من الصفات ، مثل
الجبن والتهور ، بل يعم التضاد المشهوري أيضا ، وهو ما يشمل غير ما كان كذلك
كعمومه له ، كالتضاد بين الجبن والشجاعة.
وما ذكر من
التعميم انما هو لعموم الملاك ، فما يساق من الادلة لاثبات امكان الترتب أو
امتناعه يشمل التضاد مطلقا ، حقيقيا كان أو مشهوريا.
نعم يستثنى من ذلك
: التضاد بين الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله
تعالى.
ثم : ان تخصيص (الضدين)
بالذكر ـ من بين اقسام التقابل الاربعة ـ انما هو لعدم امكان جريان الترتب في
البواقي ، أما (النقيضان) فلان عصيان احدهما مساوق لتحقق الآخر ، لاستحالة ارتفاع
النقيضين ، فيكون طلبه طلبا للحاصل ، وأما (العدم والملكة) فلرجوعهما الى (النقيضين)
لكن مع لحاظ المحل القابل ، سواء لوحظ المحل القابل مقيدا بالوقت والشخص وهو (المشهوري)
أو مطلقا وهو (الحقيقي) ، وأما (المتضايفان) فلوجوب وجود كل واحد منهما بالقياس
الى وجود الآخر ، وامتناعه بالقياس الى عدمه ، فلا يعقل اناطة وجوب ايجاد احدهما
بعصيان ايجاد الآخر لانه يؤول الى ايجاب ايجاد الشيء في ظرف عدمه وهو تهافت.
هذا ، ولكن يمكن
أن يقال بعدم اختصاص الجريان بالضدين ، اذ يمكن جريانه ـ ولو بملاكه ـ في الخلافين
أيضا ، بأن يكون متعلق الامر الاول : التطهير
ـ مثلا ـ ومتعلق
الثاني : التعطير ، معلقا على عصيان الامر الاول ، وانما لم يأمر المولى بهما معا
بأن يكون الامران عرضيين مع قابلية المحل وقدرة المكلف على الجمع ـ بمقتضى كونها
خلافين ـ لمفسدة في الامر بالجمع أو نحو ذلك ، وانما لم يكن الامر ان تخييريين
لكون الاول أهم.
ومنشأ هذا التعميم
استلزام الامر كذلك لطلب الجمع ـ لعدم سقوط الامر بالاهم بعصيانه ما لم يفت
الموضوع ـ وقد فرضنا المحذور فيه ، هذا على مبنى الامتناع ، فتأمل.
وعليه : ينبغي أخذ
(الغيرية) ـ التي هي مقسم للتماثل والتخالف والتقابل ـ في عنوان البحث لا تخصيصه
بالتضاد ـ الذي هو أحد أنواع التقابل ـ ولعل التخصيص ب (التضاد) في كلمات
الاصوليين لمكان كونه محل الحاجة ، وتعدد أمثلته في الاوامر الشرعية ـ على ما
سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.
وهل يختص الامر في
العنوان بالشرعي؟ أم يعم العقلي أيضا؟
قد يقال :
بالاختصاص ، بناء على انكار وجود الاحكام العقلية أصلا ، فالعقل يرى الحسن والقبيح
، وليست له باعثية نحو الحسن ، ولا زاجرية عن القبيح.
وفيه : ان باعثية
العقل وزاجريته من «الوجدانيات» ـ وهي من أقسام اليقينيات ، كما ذكر في بحث «الصناعات
الخمس» ـ والانسان يحس من وجدانه الفرق بين «الرؤية المجردة للعقل» ـ كادراكه بأن
الواحد نصف الاثنين ، أو قبح المنظر المشوه ـ وبين «الرؤية المصحوبة بالتحريك» كما
في البعث نحو العدل والزجر عن الظلم.
وتؤيده بعض
الظواهر كقوله تعالى (وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوى) وقوله سبحانه (أَمْ تَأْمُرُهُمْ
أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ).
لا يقال : الادراك
سنخ مغاير للبعث والزجر ، إذ يشبه ان يكون من قبيل الانفعال
وهما من قبيل
الفعل ، والواحد لا يصدر منه الا الواحد.
فانه يقال : ان في
كون الادراك من قبيل الانفعال نظرا ، فقد ذهب جمع الى كونه من مقولة «الفعل» ،
فالنفس تنشئ الصور الذهنية في صقع نفسها ، لا انها تنطبع فيها انطباع الصورة في
المرآة ، فلا يكون ثمة تعدد في السنخ ، مع ان موضوع القاعدة ـ على فرض تسليمها ـ هو
الواحد الحقيقي ، لان مناطها هو أن كل علة لا بد أن يكون لها خصوصية بحسبها يصدر
عنها المعلول المعين ، فلو تعدد تعددت وانثلمت وحدة البسيط ، وهذا المناط كما ترى
مختص بالبسيط الحقيقي ، ولذا ذكروا ان القاعدة لا تجري في المركب ولو كانت كثرته
اعتبارية ، وهذا الشرط مفقود في المقام.
وتمام الكلام
موكول الى محله.
لا يقال : ان الحكم
عبارة عن نسبة انشائية متقومة بطرفين ـ الحاكم والمحكوم عليه ـ ولا اثنينية في
المقام.
فانه يقال : يكفي
في الاثنينية التعدد الاعتباري ، ولا يفتقر الى التعدد الخارجي ومثاله في
الاعتباريات : تولي الولي والوصي والوكيل طرفي المعاملة كأن يبيع مال المولى عليه
لنفسه ، وماله له ، كما ذكر في كتاب البيع والوكالة والنكاح ، ومثاله في الامور
الخارجية : علم النفس بذاتها. هذا مضافا الى تحقق الاثنينية خارجا ، اذ النفس ـ على
المعروف ـ حقيقة ذات مراتب فيمكن أن تكون مرتبة منها حاكمة على مرتبة اخرى منها
فتأمل.
ثم انه لو فرض انكار
جريان الترتب في مرحلة (الحكم العقلي) أمكن تصور الجريان في مرحلة (الرؤية العقلية)
بأن يرى العقل أحد الشيئين حسنا على كل تقدير ، والآخر حسنا على تقدير ترك الاول ،
نعم يمكن أن يقال :
بان ذلك خروج عن
المولوية الى الارشادية ، وقد أخذت الاولى في موضوع
الترتب.
وبه أيضا يمكن أن
يورد على الترتب في مرحلة (الحكم العقلي) ـ على فرض تسليمه ـ بأن يقال : بأن الحكم
ارشادي ، فلا يتحقق موضوع (الترتب) اذ لا اشكال في جواز الامر الترتبي الارشادي
حتى عند القائل بامتناع الترتب وما وقع محلا للخلاف هو الامر المولوي.
ثم انه لا وجه
لتخصيص موضوع الترتب ب (الامرين) ، اذ الترتب كما يجري في الامرين كذلك يجري في
النهيين والمختلفين ، فتكون الاقسام أربعة ، وتعلم الامثلة بقلب أحد الامرين أو
كليهما الى النهي عن الضد العام للمتعلق كقول الامر (لا تترك الدرس فان عصيت فلا
تترك التجارة).
ودعوى : كون النهي
حينئذ صوريا ، وواقع الامر هو الامر مدفوعة نقضا : بامكان ادعاء العكس ، ولا
أولوية لها عليه.
وحلا : بأنه كما
يمكن كون المصلحة في الفعل كذلك يمكن كون المفسدة في الترك فللمولى ان يصب الحكم
في قالب الامر بالفعل في الاول ، والنهي عن النقيض في الثاني.
ويمكن أن يمثل
لذلك أيضا بقلب الامر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما الى النهي عن ضده الخاص ،
فالامر لوجود المصلحة في الفعل ، والنهي لقيام المفسدة بالضد الخاص ..
ولا يرد هنا ما قد
يرد على سابقه من استحالة قيام الوصف الوجودي بالترك العدمي ، لكون الضدين وجوديين.
هذا كله لو بني
على ان الاختلاف بين الامر والنهي اختلاف في السنخ والطبيعة ، واما لو قيل بامكان
كون الاختلاف بينهما في اللفظ والصياغة ـ ولو في الجملة ـ فالامر أوضح ، اذ عليه
يكون للمولى أن يصوغ طلبه في قالب الامر أو النهي بلا
فرق بينهما ..
وذلك لتحقق الغرض
في كلتا الصورتين .. ونظير ذلك يجري في الوجوب النفسي والغيري ، اذ يكون للمولى
تحديد مركز حق الطاعة في الشيء سواء كانت المصلحة قائمة به أو قائمة بما يؤدي
اليه.
كون التكليفين الزاميين
(الثاني) كون
التكليفين الزاميين.
وفيه نظر : لجريان
(الترتب) أيضا في غير هذه الصورة.
وتقريبه : ان
الواجب والمستحب ـ وكذا الحرام والمكروه ـ وان كانا حقيقتين متباينتين بلحاظ مرتبة
(الحكم) ، فانهما أمران انتزاعيان ، والتفاوت التشكيكي لا مجرى له في الامور
الانتزاعية ، لا عقلا ، ولا عرفا ، لكنهما بلحاظ المبادي حقيقة واحدة ذات مراتب ،
تختلف من حيث الغنى والفقر والشدة والضعف ، كالمرتبة الضعيفة والشديدة من السواد
مثلا ، فتكون مبادئ الحكم غير الالزامي مسانخة لمبادئ الحكم الالزامي وان اختلفت
في الشدة والضعف.
ومن الواضح ان
البحث في امكان الترتب وامتناعه ليس بلحاظ مرحلة (الحكم) ليقال باختلاف الحقيقتين
، لما قد سبق من عدم التضاد بين الاحكام لا بالذات ولا بالتبع ، وانما هو بلحاظ
مرحلة (المبادي) التي قد عرفت انها متماثلة في الاحكام الالزامية وغير الالزامية.
ثم لو فرض ان
المبادي حقائق متباينة بتمام الذات لم يضر في المقام ، وذلك لتوقف الحكم غير الالزامي
ـ كالالزامي ـ على الملاك والارادة ونحوهما من المبادي ـ وان فرض تحقق الاختلاف
فيما بينها ـ فيجري بلحاظها بحث الامكان
والامتناع.
هذا ولكن في
المسألة احتمالان آخران :
أحدهما :
الجواز مطلقا ،
وذلك لان مجرد اشتراك غير الالزامي مع الالزامي في وجود المبادي لا يكفي ، بعد
وجود الاختلاف السنخي بينهما فيها ، اذ الارادة في الالزامي من الاحكام قوية الى
حد لا يرضى المولى فيه بالترك ، ومع بلوغ الارادة الى هذه الدرجة من الشدة لا يبقى
هناك مجال لارادة شيء آخر ـ بناء على الامتناع ـ اما الارادة في غير الالزامي
فليست بتلك المثابة ، فيمكن وجود ارادة اخرى متعلقة بشيء آخر في عرضها ، فيكون
وزان الارادة الالزامية ـ من بعض الوجوه ـ وزان العلم الذي لا يدع مجالا للاحتمال
المعاكس ، ووزان الارادة غير الالزامية وزان الظن الذي يكون معه للاحتمال المعاكس
مجال ، وعليه :
فيصح الامر بالمهم
في عرض الامر بالاهم ولو على مبنى الامتناع.
وعليه : فتختص
أدلة الامتناع بالالزاميين.
ثانيهما :
التفصيل بين ما
كان الاهم الزاميا والمهم غير الزامي وبين ما كانا غير الزاميين فيجري بحث الترتب
بلحاظ الاول ، فالقائل بالامكان يرى الجواز ، لما سيأتي ، والقائل بالامتناع يرى
عدمه لان ارادة الالزامي لا تدع مجالا لارادة غيره بل المنع هنا اولى ، اذ لو كانت
ارادة الاهم لا تدع مجالا للمهم الالزامي فكيف تدع مجالا للمهم غير الالزامي؟
وهذا بخلاف ما لو
كانا غير الزاميين اذ لا ينبغي ان يختلف في جواز الامر بهما ، على نحو الترتب لعدم
وصول الارادة في الاهم الى حد المنع من النقيض ولعدم جريان المحاذير المتصورة في
الترتب فيه ، وسيأتي بعض ما يناسب المقام في الشرط السابع
ان شاء الله
تعالى.
كون المهم عباديا
(الثالث) كون
المتعلقين عباديين ، أو كون المهم عباديا.
ولعل اشتراط ذلك
من أجل ان تكون المسألة ذات اثر عملي ، اذ على الامكان تترتب صحة العبادة المأمور
بها على نحو الامر الترتبي ، وعلى الامتناع الفساد ـ لو لم تصحح بالملاك ـ اما في
غير العباديات : فلا اثر لوجود الامر وعدمه ، لكونها توصلية يترتب عليها اثرها ولو
مع عدم وجود الامر.
وهذا الشرط محل
تأمل ، اذ المأخوذ في تعريف المسألة الاصولية يشمل ما يعرف به نفس وجود الامر
وعدمه ، ولو لم تترتب عليه ثمرة عملية أصلا.
قال صاحب الكفاية (قده)
:
الاصول صناعة يعرف
بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام او التي ينتهى اليها في
مقام العمل.
وقال المحقق
الاصفهاني (قده) في (الاصول على النهج الحديث) :
علم الاصول فن
يعرف به ما يفيد في اقامة الحجة على حكم العمل.
وقال في (النهاية)
:
علم الاصول ما
يبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي.
وقال المحقق
النائيني (قده) :
علم الاصول عبارة
عن العلم بالكبريات التي لو انضمت اليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي.
وقال المحقق
العراقي (قده) :
انه القواعد
الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية العملية شرعية كانت ام عقلية.
وعن الشيخ الاعظم (قده)
تعريف المسألة الاصولية بما يكون أمر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا يشترك فيه
المقلد.
وعن الحائري (قده)
:
انه العلم
بالقواعد الممهدة لكشف حال الاحكام الواقعية المتعلقة بأفعال المكلفين سواء وقعت
في طريق العلم بها أو كانت موجبة للعلم بتنجزها على تقدير الثبوت ، او كانت موجبة
للعلم بسقوط العقاب.
وعرفه السيد
الوالد ـ دام ظله ـ في (الاصول) :
بأنه العلم بكيفية
الاستنباط مما يستنبط منه العلم.
وفي (المحاضرات) :
انه العلم
بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الاحكام الشرعية الكلية الالهية من دون
حاجة الى ضميمة كبرى او صغرى اصولية اخرى اليها.
وفي (التهذيب) :
انه هو القواعد
الالية التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الاحكام الكلية الفرعية الالهية او
الوظيفة العملية.
الى غيرها من
العبارات التي تشعر بعدم اشتراط وجود ثمرة عملية للمسألة الاصولية.
ومن هنا أدرج
المحقق النائيني (قده) مبحث المقدمة ضمن المباحث الاصولية مع اعترافه بعدم وجود
ثمرة عملية لها حيث قال (قده) :
انه لا يترتب على
البحث في وجوب المقدمة ثمرة عملية اصلا ، بل كان البحث
علميا صرفا.
وقال السيد الوالد
ـ دام ظله ـ في مبحث المقدمة :
(ان ثمرة هذا
البحث هو الوجوب وعدمه بالنسبة الى مقدمات الواجب ، لما تقدم من انها ـ اي المسائل
الاصولية ـ تجعل كبرى لصغريات وجدانية).
نعم : يمكن أن
يقال : بأن العلم تابع للغرض ، ولا فائدة في ما لا تترتب عليه ثمرة عملية اصلا ،
فيكون كالبحث في زمان انكشاف تمام الاحكام عن جريان البراءة في الشبهات الحكمية.
اللهم إلّا أن
يقال : ان نفس العلم بالحكم فائدة ، وقد تعارف لدى الفقهاء العظام ـ قدس الله
اسرارهم ـ تدوين الاحكام الشرعية ولو لم تكن محل الابتلاء فعلا لئلا تندرس الاحكام
، فتأمل.
ثم انه لو فرض
اشتراط وجود ثمرة عملية للمسألة الاصولية لم يقدح فيما ذكر ، اذ يترتب على وجوب
المهم غير التعبدي وعدمه ـ المستنبط من نتيجة البحث في هذه المسألة وهي امكان
الامر الترتبي وامتناعه ـ امور تتعلق بالجري العملي :
منها : بر النذر
باتيانه ، لو نذر أن يأتي بواجب ، مع قصده مطلق ما يكون واجبا شرعا حقيقة ، فلا
يرد كون النذر تابعا للقصد او الارتكاز.
ومثله : ما لو نذر
التصدق على من أتى بواجب ، فتصدق عليه.
ومنها : حرمة اخذ
الاجرة عليه ، على تفصيل مقرر في المكاسب المحرمة.
ومنها : جواز
الاسناد الى الشارع.
ومنها : جواز
الاستناد والاتيان به بداعي الامر ، وعدم استلزام ذلك التشريع.
ومنها : حصول
الفسق بترك الاهم والمهم معا ، مع كونهما من الصغائر ، بناء على تحقق الاصرار
بذلك.
وهذه وان لم تكن
ثمرات للمسألة الاصولية ـ لما قرر في محله ـ إلّا أنها مصححة للثمرة لو فرض اشتراط
وجود نتيجة عملية للمسألة الاصولية ، فكما ان صحة الضد العبادي وفساده مترتبة على
وجود الامر بالمهم وعدمه المترتب على امكان الترتب وامتناعه كذلك الآثار المذكورة
مترتبة على وجود الامر بالمهم وعدمه المترتب على امكان الترتب وامتناعه وكما ان
تلك النتيجة مصححة للثمرة كذلك هذه الآثار مصححة لها فتأمل.
ثم انه قد يجعل من
الثمرة : فساد الضد العبادي للمهم ـ ولو كان توصليا ـ بناء على اقتضاء الامر
بالشيء : النهي عن ضده الخاص واقتضاء النهي عن العبادة للفساد. فلو قيل بوجوب
المهم واقتضاء الامر النهي عن الضد واقتضاء النهي الفساد أنتج ذلك فساد الضد ،
وإلّا فلا.
أن لا يكون المهم مشروطا بالقدرة الشرعية
(الرابع) أن لا
يكون المهم مشروطا بالقدرة الشرعية.
قال المحقق
النائيني (قده) :
(ان الخطاب
المترتب على عصيان خطاب الاهم يتوقف على كون متعلقه حال المزاحمة واجدا للملاك ،
والكاشف عن ذلك هو اطلاق المتعلق ، فاذا كان المتعلق مقيدا بالقدرة شرعا ـ سواء
كان التقييد مستفادا من القرينة المتصلة أو المنفصلة ـ لم يبق للخطاب بالمهم محل
أصلا.
ومنه يظهر انه لا
يمكن تصحيح الامر بالوضوء في موارد الامر بالتيمم بالملاك أو بالخطاب الترتبي ،
فان الامر بالوضوء مقيد شرعا بحال التمكن من استعمال الماء بقرينة تقييد وجوب
التيمم بحال عدمه ففي حال عدم التمكن لا ملاك للوضوء كي يمكن القول بصحته ، ولاجل
ذلك لم يذهب العلامة المحقق الشيخ الانصاري
ولا العلامة
المحقق تلميذه استاذ أساتيذنا (قدهما) الى الصحة في الفرض المزبور ، مع ان الاول
منهما يرى كفاية الملاك في صحة العبادة ، والثاني يرى جواز الخطاب الترتبي)
وما ذكره (قده)
وان كان متينا بلحاظ الكبرى ، اذ اشتراط الشيء بالقدرة الشرعية معناه تقييد الملاك
بحال أو وقت خاصين ، كما صرح به (قده) حيث قال في بحث المقدمات المفوتة (ان القدرة
قد تكون شرطا عقليا للتكليف وغير دخيلة في ملاك الفعل أصلا فيكون اعتبارها في
فعلية التكليف من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز ، وقد تكون شرطا شرعيا ودخيلة في
ملاكه ..) فانتفاء القيد ـ في هذه الصورة ـ مساوق لانتفاء الملاك المستلزم لانتفاء
الامر ، اذ الامر معلول له ، وكما يستحيل وجود الامر بلا ملاك ابتداء كذلك يستحيل
بقاؤه بعد ارتفاعه لارتهان وجود المعلول بوجود علته في الحدوث والبقاء ، تبعا للا
اقتضاء والليسية الذاتية الكامنة في وجود المعلول .. إلّا أنه ينبغي البحث في
الصغرى وان صرف تقييد الامر الشرعي بقيد هل يكشف عن كون القدرة الشرعية مأخوذة فيه
أم لا؟
يمكن أن يقال :
ان القيد على
ثلاثة أقسام :
الاول : ان لا
يكون مأخوذا في أصل الحكم ولا في الملاك والمراد بهذا التعبير أن تكون في الدليل عناية خاصة تدل
على أنه بعد ارتفاع الحصة المعينة من الطلب ـ كالطلب اللزومي ـ لا يرتفع طبيعي
الطلب بل يظل ضمن حصة أخرى ـ كالطلب غير اللزومي ـ.
الثاني : أن يكون
مأخوذا في الحكم لا في الملاك.
الثالث : أن يكون
مأخوذا في الحكم والملاك معا.
__________________
وأما اخذ القيد في
الملاك دون الحكم ـ أي عكس الصورة الثانية ـ فهو غير معقول لاستلزامه وجود الحكم
بلا ملاك ، المساوق لوجود المعلول بدون وجود علته.
أما (القسم الاول)
فهو كالقيد المسوق في مقام الامتنان ونحوه فانتفاؤه لا يكشف عن انتفاء الملاك ، بل
ولا طبيعي الطلب ، اذ الامتنان ظاهر في رفع الالزام فقط.
وقد يمثل له
بالوضوء في مورد الاضرار المسوغة للتيمم شرعا مع عدم وصولها الى حد الحرمة ، وهكذا
في موارد الحرج ونحوه.
قال السيد الوالد
ـ دام ظله ـ في الفقه :
(ان ظاهر أدلة نفي
الحرج والضرر أنها رافعة للالزام لا لاصل الحكم ، وهذا الظاهر انما استفيد من
كونها في بيان الامتنان ، والامتنان يقتضي ان لا يكون حرج في كل من الفعل والترك ،
اذ لو كان الترك الزاما كان حرجا في الترك ، فهي كما اذا قال المولى :
لا أشقّ عليك ،
حيث يفهم منه جواز تكلف العبد المشقة ، لا حرمتها ، ولذا اذا قبل طرف المعاملة
الضرر صحت المعاملة ولم يكن له حق الفسخ مع انه مشمول للاضرر ، حسب النظر البدائي
، وسره ان لا ضرر في مقام الامتنان لا في مقام العزيمة ...).
وعلى كل : فهذا
القسم خارج ـ موضوعا ـ عن الترتب.
وأما (القسم
الثاني) فهو كالقيد المأخوذ في الشيء من باب حصول التزاحم بين الشيئين وترجيح
أحدهما على الآخر ـ كما في صورة الامر بالانفاق على الوالدين ان فضلت النفقة عن
الزوجة فان الاتفاق عليهما ذو ملاك إلّا انه مزاحم بالملاك الاهم ـ ولا اشكال هنا
في ثبوت الملاك في المهم ، وعليه يمكن تصحيح
العمل العبادي
بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة كما ذهب اليه الشيخ الاعظم (قده) خلافا
لصاحب الجواهر (قده) حيث ذهب الى توقف الصحة على الامر وعدم كفاية الملاك على ما
هو المحكي عنهما. وأما الامر فلا اشكال في أخذ القيد في اطلاقه ، اذ لا يشمل صورة
الطاعة قطعا ، وأما أخذه فيه مطلقا فمبني على امكان الترتب وعدمه ، فعلى الاول
يثبت الامر في الفاقد للقيد معلقا على العصيان ونحوه ، وعلى الثاني : لا أمر مطلقا.
وأما (القسم
الثالث) وهو ما كان القيد مأخوذا في الحكم وملاكه معا فينبغي ان ينظر : في ان
التقييد مطلق شامل لصورتي طاعة الاهم وعصيانه ، او مقيد بصورة طاعته فقط ، بحيث
ينتفي التقييد عند العصيان ، ويتم عنده فيه الملاك والحكم لو الملاك وحده فان من
الممكن عقلا : ان يكون الفعل فاقدا للملاك في حال الطاعة للاهم ، وواجدا له في
صورة العصيان ، كما لو فرض كون الامر به حينئذ واجدا لملاك التأديب مثلا. فان كان
التقييد مطلقا فلا اشكال في انتفاء الامر والملاك في حالة انتفاء القيد.
واما لو كان
التقييد مقيدا بحيث يكون عدم الامر او عدم الملاك مقيدا بعدم العصيان بحيث يرتفع
التقييد عنده ، فلا يصح هنا نفي الامر ـ في الاول ـ ونفي الملاك ـ في الثاني ـ فتأمل.
هذا كله بلحاظ عالم الثبوت.
واما بلحاظ عالم
الاثبات :
فظاهر القيد ـ ان
لم تكن هناك قرينة خارجية ككونه في مقام الامتنان ونحوه ـ هو تقييد الحكم مطلقا ـ اي
بلا فرق بين صورة طاعة الامر بالاهم وعصيانه ـ ولكن تقييد الامر لا يستلزم تقييد
الملاك ، لامكان ارتفاع الامر مع بقاء الملاك ـ لمزاحم اهم مثلا ـ فان الامر وان
كان كاشفا ـ انا ـ عن ثبوت الملاك ، إلّا ان انتفاءه غير مستلزم لانتفائه اذ ليس
الكلام في العلة التامة فهو نظير ما ذكر في استصحاب
الحكم الشرعي
المستكشف بالحكم العقلي.
إلّا ان عدم
استلزام الانتفاء للانتفاء لا يعني : ثبوت الملاك ، بل يكون ـ بعد انتفاء الحكم ـ محتملا
للامرين.
لكن : قد يستكشف
بقاء الملاك بطرق :
منها : اطلاق
الدلالة الالتزامية للامر ، اذ الامر دال بالمطابقة على الحكم ، وعلى الملاك
بالالتزام ، وارتفاع الحكم غير ملازم لارتفاع الملاك ـ المدلول عليه بالامر ـ لعدم
تبعية الدلالة الالتزامية المطابقية ، واستقلال كل منهما في الحجية.
ويرد عليه : عدم
تسليم المبنى ، مع أن الامر مسوق لبيان الحكم ، لا لبيان الملاك ، ومن الواضح :
توقف ثبوت الاطلاق على تحقق مقدمات الحكمة ، التي منها : كون المتكلم في مقام
البيان من تلك الجهة ، وهي مفقودة في المقام ، فلا يكون ثمة اطلاق في دلالة الامر
على الملاك ، كي يتمسك به في الاستدلال على ثبوته بعد ارتفاع القيد.
ومنها : استصحاب
وجود الملاك بعد سقوط الامر ، وما اشترط في جريانه من ترتب الاثر الشرعي على
المستصحب حاصل فان بقاء الملاك مؤثر في صحة العبادة ونحوها ـ بناء على كفاية وجود
الملاك في امثال ذلك ـ لكن هذا الطريق لا يخلو من تأمل. وتفصيل الكلام في مباحث
الاستصحاب.
ومنها : حكم العقل
، كما في انقاذ غريقين احرزت أهمية احدهما على الآخر.
ومنها : دلالة
دليل خاص على ذلك ولعل منه قوله صلىاللهعليهوآله : (لو لا ان أشقّ على امتي لامرتهم بالسواك).
ومنها : غير ذلك
..
أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقيا
(الخامس) ان يكون
التضاد بين المتعلقين اتفاقيا. وذلك لان التضاد بين المتعلقين انما يوجب التزاحم
بين الخطابين فيما اذا كان حاصلا من باب الاتفاق واما اذا كان دائميا كان دليل
وجوب كل منهما معارضا لدليل وجوب الآخر ، لان التصادم حينئذ انما يكون في مقام
الجعل والانشاء لا في مقام الطاعة والامتثال ضرورة انه لا معنى لجعل حكمين لفعلين
متضادين دائما ، فيخرج الدليلان بذلك عن موضوع الترتب لا محالة.
هذا ما افاده
المحقق النائيني (قده) وفرع عليه بطلان ما ذهب اليه كاشف الغطاء (قده) من ان صحة
الجهر في موضع الاخفات جهلا وبالعكس انما هي من باب الخطاب الترتبي ، وبه دفع
الاشكال المعروف وهو ان صحة العبادة المأتي بها جهرا او اخفاتا كيف تجتمع مع
استحقاق العقاب على ترك الآخر؟
ووجه البطلان :
ان التضاد بين
الجهر والاخفات دائمي وليس اتفاقيا فلا يجري فيه الخطاب الترتبي.
ويمكن المناقشة في
هذا الشرط : ببيان مقتضى مرحلتي الثبوت والاثبات.
أما في مرحلة
الثبوت : فكما يحتمل أن يكون الامران بالضدين اللذين يكون التضاد بينهما دائميا
متعارضين بأن لا يكون الواجد للملاك إلّا أحدهما ، كذلك يحتمل أن يكونا متزاحمين ،
بأن يكونا واجدين للملاك معا ، ويكون التعاند بينهما في مقام الفعلية لا في مقام
الجعل والتشريع.
ودوام التضاد لا
يستلزم لغوية أحدهما ، ما دام كل منهما واجدا للملاك ، والاثر العملي وإلّا لزم
ذلك في موارد التضاد الاتفاقي ، اذ لا فرق في قبح القبيح واستحالة المستحيل
بين وجودهما دائما
ووجودهما اتفاقا.
وما يذكر من
الوجوه لاثبات امكان الترتب في التضاد الاتفاقي ـ وهو ما امكن الجري العملي وفق
أحدهما دون مخالفة الآخر ، في الجملة ، كما لو كان بين عنواني المتعلقين عموم من
وجه ـ ينهض ـ بعينه ـ لاثبات الامكان في التضاد الدائمي ـ وهو ما لم يمكن الجري
العملي وفق احدهما دون مخالفة الآخر ـ.
ولذا لا يمتنع
عقلا ان يأمر المولى بتلوين الجدار ـ مثلا ـ بأحد اللونين ، معلقا وجوب كل منهما
على ترك الآخر ، على نحو الوجوب التخييري ، في صورة تساويهما في الملاك ، ومعلقا
وجوب أحدهما على ترك الآخر ، على نحو الوجوب الترتبي ، في صورة اهمية احدهما من
الآخر ، وكذا في الامر بالذهاب الى المدرسة او المتجر ، تخييرا او ترتبا.
هذا في الضدين
اللذين لهما ثالث ـ واما في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ، بناء
على بعض المباني فيهما ، فالمحذور فيه انما هو من جهة اخرى ، وليس من جهة كون
التضاد بينهما دائميا ، وإلّا لعم ، لان العلة معممة ، كما هي مخصصة.
واما في مرحلة
الاثبات : فقد يقال بأن التعارض ليس بين اصل وجود الدليلين بل هو : بين اطلاق كل
منهما مع نفس الآخر فلا موجب لرفع اليد عن احدهما بل اما ان يقيد الاطلاق فيهما
معا ، فيكون الوجوب تخييريا او يقيد اطلاق احدهما ـ وهو المهم ـ ويعلق وجوبه على
عصيان الآخر ـ وهو الاهم ـ فيكون الوجوب ترتبيا.
والاول انما يكون
في صورة احراز عدم اهمية احدهما على الآخر ، أو عدم احراز الاهمية ـ وفي كون الظن
والاحتمال احرازا كلام مذكور في محله ـ والثاني انما يكون في صورة احراز الاهمية
وذلك كله حسب ما تقتضيه قواعد
الجمع بين
الدليلين ، فان الضرورات تقدر بقدرها ، ولا ضرورة تقتضي الغاء احد الدليلين بالمرة
، فاما يلغى اطلاق احدهما ـ لو احرزت اهمية الآخر ـ او يلغى اطلاق كل منهما ـ لو
لم يكن كذلك ـ.
والاول : لقبح
تفويت الاهم ، أو ترجيح المرجوح على الراجح.
والثاني : لقبح
ترجيح احد المتساويين على الآخر من غير مرجح ، بل استحالته لرجوعه الى الترجح بلا
مرجح ، وهو مساوق لوجود المعلول بدون وجود علته على ما قرر في محله.
نعم يمكن ان يقال
:
بأن الجمع بين
الدليلين يجب ان يكون عرفيا ، بحيث يكون احد الدليلين ـ او كلاهما ـ قرينة عرفية
لتفسير الآخر وكشف المراد منه ، فلا يشمل دليل الحجية الظهور الآخر ، ولا يسري
التعارض ـ لذلك ـ الى دليل الحجية.
وهذا الشرط مفقود
في المقام ، اذ العرف يرى التعارض المستقر بين الدليلين الدالين على وجوب ما كان
التعارض بينهما دائميا ـ ولو كان لهما ثالث ـ بحيث يسري التعارض الى دليل الحجية
فيكون المرجع في ذلك : هو ترجيح احدهما بالمرجحات المنصوصة او مطلق المرجحات او
التخيير على الخلاف المذكور في مسألة التعادل والتراجيح ـ وهذا بخلاف ما كان
التعارض فيه اتفاقيا ، اذ الجمع فيه على نحو الوجوب التخييري او الترتبي عرفي ،
فتأمل!
ولعل ما اشترطه
المحقق النائيني (قده) ناظر الى ذلك ، لكن. ينافيه قوله : (ضرورة انه لا معنى لجعل
حكمين لفعلين متضادين دائما) ، إلّا ان يريد به عدم الظهور العرفي في عالم الاثبات
، لا عدم الامكان العقلي في عالم الثبوت ، فتأمل.
هذا كله في صورة
عدم التنصيص على التعليق ، واما لو علق وجوب احدهما على عصيان الآخر كما لو أمره
باستيجار الدار معلقا الوجوب على عصيان الامر
بشرائها فلا يكون
ثمة تعارض بين الدليلين في نظر العرف كما لا يخفى.
أن لا يكون المهم ضرورى الوجود عند العصيان
(السادس) أن لا
يكون المهم ضروري الوجود عند عصيان الامر بالاهم ، فلا يجري الترتب في الضدين
اللذين لا ثالث لهما.
قال المحقق
النائيني (قده) : في رده الثاني على كاشف الغطاء (قده) الذي صحح الجهر في موضع
الاخفات وبالعكس بالخطاب الترتبي :
(ان مورد الخطاب
الترتبي هو ما اذا كان خطاب المهم مترتبا على عصيان الامر بالاهم ، وهذا لا يكون
إلّا فيما اذا لم يكن المهم ضروري الوجود عند عصيان الامر بالاهم ، كما هو الحال
في الضدين اللذين لهما ثالث ، وأما الضدان اللذان لا ثالث لهما ففرض عصيان الامر
بأحدهما هو فرض وجود الآخر ، فيكون البعث نحوه طلبا للحاصل. وبالجملة : لو كان
وجود الشيء على تقدير وجود موضوع الخطاب وشرطه ضروريا لامتنع طلبه ، لانه قبل وجود
موضوعه يستحيل كونه فعليا وبعد وجوده يكون طلبا للحاصل ، فتحصل : ان كل ما فرض
وجوده في الخارج يستحيل طلبه في ظرف فرض وجوده سواء كان فرض وجوده مدلولا مطابقيا
للكلام كما اذا أمر بترك الشيء على تقدير عصيان الامر المتعلق به أم كان مدلولا
التزاميا له كما في ما نحن فيه ، فان ترك أحد الضدين خارجا ملازم لوجود الآخر لفرض
عدم الثالث فيكون الامر بأحدهما على تقدير ترك الآخر أمرا بما هو مفروض الوجود وهو
مستحيل).
أقول : ينبغي هنا
ذكر امور :
(أحدها) ان
البرهان المذكور ـ كما ترى ـ انما يجري فيما لو أخذ نفس
العصيان شرطا
للامر بالمهم ، وأما لو أخذ العزم على العصيان ـ أو عدم العزم على الامتثال ـ شرطا
فلا ، اذ لا يلزم منهما حصول الشيء فعلا حتى يكون الامر به طلبا للحاصل.
نعم : قد يفرض فيه
محذور آخر وهو لزوم اللغوية .. اذ العزم على عصيان الاهم اما ان لا يكون موصلا الى
فعل المهم ، أو يكون موصلا اليه.
فعلى الاول : يكون
المكلف ـ لا محالة ـ مشتغلا بالاهم في ظرفه ـ لفرض عدم الثالث ـ فيكون الامر
بالمهم ـ حينئذ ـ أمرا بالمرجوح في ظرف تلبس المكلف بالراجح ، وهو قبيح.
وعلى الثاني :
يكون الامر به لغوا ، اذ لا يكون للامر أي تأثير في حصول المهم ، وما لا يترتب
عليه أثر لا مبرر لوجوده.
(ثانيها) في
الضدين اللذين لا ثالث لهما قد يلحظ قيد الدوام في المتعلق ، فيخرجان بذلك ـ بلحاظ
الزمان الممتد ، وان لم يخرجا بلحاظ كل آن من آنات الزمان ـ عن الضدين اللذين لا
ثالث لهما ، لوجود الثالث وهو التبعيض ، ومن الممكن ترتب محاذير على التبعيض
الواقع في عمود الزمان بين الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فيأمر المولى بالاهم
منهما مطلقا على سبيل الدوام ، وبالمهم منهما معلقا على عصيان الامر بالاهم على
ذلك النحو ، في قبال الثالث الذي هو التبعيض وهذا لا مانع من جريان الترتب فيه.
(ثالثها) قد يكون
هنالك ضدان لهما ثالث (أي حالة ثالثة) ، لكن لحاظ موضوع خاص يجعلهما بالاضافة اليه
من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فالجهر والاخفات مثلا بلحاظ ذاتهما ضدان
لهما ثالث وهو السكوت مثلا .. لكن بلحاظ حال القراءة لا ثالث لهما ـ فى الآن
الواحد من الزمان ـ وحينئذ يكون امكان الترتب واستحالته منوطين بما يؤخذ في الدليل
، فان أخذ المتعلق بلا لحاظ
الموضوع الخاص لم
يكن بالامر الترتبي بأس بأن يقول : (تجب عليك القراءة الجهرية ، فان عصيت فتجب
عليك القراءة الاخفاتية) في قبال الثالث وهو الترك المطلق ، وان أخذ موضوع خاص في
الدليل كان الامر الترتبي محالا كأن يقول : (القارئ ان لم يجهر بالقراءة فيجب عليه
الاخفات) اذ يكون ذلك الامر طلبا للحاصل وهكذا الامر بالنسبة الى القصر والاتمام
في الصلاة.
ومنه يعلم : ان
النزاع في مثل ذلك تابع لكيفية الاستظهار من الدليل.
(رابعها) انه قد
يظهر مما سبق عدم انحصار المحذور المذكور في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، بل يجري
أيضا في الامر بمجموع الاضداد الوجودية على سبيل الترتب ، اذ يكون أحد هذه
الخطابات لغوا ، وان امكن كون الباقي مأمورا بها على سبيل الترتب وكذا في الامر
بالنقيضين ، أو العدم والملكة ، على نحو الترتب كما سبقت الاشارة اليه.
وأما الامر بايجاد
(المتضايفين) على نحو الترتب فقد سبقت الاشارة ـ في الشرط الاول من شرائط تحقق
الموضوع ـ الى انه يستلزم التهافت في الدليل ، فراجع.
(خامسها) انه تظهر
نتيجة هذا الشرط في انه لو ورد خطابان يثبتان الوجوب للضدين اللذين لا ثالث لهما ـ
ونحوهما ـ فانه لا يمكن ادراجهما في باب التزاحم وتصحيحهما بالخطاب الترتبي وذلك
لحصول التنافي بين الدليلين في مرحلة الجعل ، لا في مرحلة الطاعة ، فيكونان
متعارضين ، وتجري عليهما قوانين باب التعارض.
ثم لا يخفى ان
الشرط السابق اعم ـ موردا ـ من هذا الشرط ، لتحقق التضاد الدائمي في المقام ايضا ،
نعم : في المقام يلزم محذوران في الامر الترتبي وهما (عدم امكان الجمع العرفي بين
الدليلين) و (لزوم طلب الحاصل) بخلاف المقام
السابق ، فلاحظ.
تنجز خطاب الأهم على المكلف
(السابع) أن يكون
الخطاب بالاهم منجزا على المكلف فلو لم يتنجز الخطاب بالاهم ـ كما في الموارد التي
تجري فيها البراءة عن التكليف المجهول ـ لم يعقل الامر بالمهم على نحو الترتب ،
لانتفاء موضوعه ، وهو عصيان الامر بالاهم بمقتضى جريان البراءة عنه ، ومن المعلوم
ان ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع واذ ليس فليس.
هذا هو المستفاد
من كلام المحقق النائيني (قده) وأورد عليه في (المحاضرات) : (بأن الالتزام بلزوم
تقييد فعلية الخطاب المترتب بعنوان عصيان الخطاب المترتب عليه بلا ملزم ، بل لا بد
من الالتزام بالتقييد بغيره ، فهنا دعويان ، أما الدعوى الاولى فلان الترتب كما
يمكن تصحيحه بتقييد الامر بالمهم بعصيان الامر بالاهم كذلك يمكن تقييده بعدم
الاتيان بمتعلقه ، فان مناط امكان الترتب هو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين من
اجتماع الامرين في زمان واحد ، ومن الواضح انه لا يفرق في ذلك بين أن يكون الامر
بالمهم مشروطا بعصيان الامر بالاهم او بترك متعلقه في الخارج.
وأما الدعوى
الثانية : فلان الملاك الرئيسي لا مكان الترتب هو ان فعل الواجب المهم في ظرف عدم
الاتيان بالواجب الاهم وتركه في الخارج مقدور للمكلف عقلا وشرعا ، فلا يكون تعلق
الامر به على هذا التقدير قبيحا ، اذ ليس بغير المقدور فيكون شرط تعلق الامر
بالمهم هو عدم الاتيان بالاهم خارجا ، لا عصيانه ، ضرورة ان امكان الترتب ينبثق من
هذا الاشتراط سواء أكان ترك الاهم معصية ام لم يكن ،
وسواء علم المكلف
بانطباق عنوان العصيان عليه ام لم يعلم ، فان كل ذلك لا دخل له في امكان الامر
بالمهم مع فعلية الامر بالاهم اصلا ، ولذا لو فرضنا في مورد لم يكن ترك الاهم
معصية لعدم كون الامر وجوبيا لم يكن مانع من الالتزام بالترتب فيه).
اقول : (الترتب)
قد يطلق ويراد به (مطلق التعليق) ـ وان لم يلزم منه محذور ـ وقد يطلق ويراد به نوع
خاص من التعليق ، وهو الذي وقع ـ من حيث الامكان والاستحالة ـ محلا للخلاف بين
الاعلام.
والمعنى الاول أعم
من الثاني : لامكان تعليق حكم على ترك امتثال حكم آخر دون وقوع الخلاف فيه ،
لاطباق الكل على الجواز.
فان اريد في
المقام (الترتب) بالمعنى الاول امكن أن يقال : بجواز تعليق الامر بالمهم على مجرد
ترك الامر بالاهم بأن يكلف المولى عبيده بالاهم مطلقا ، وبالمهم في صورة عدم وصول
التكليف بالاهم اليهم ـ مثلا ـ ولعله لا يمانع في وقوع هذا الفرض حتى القائل
باستحالة الترتب اذ التنافي بين الحكمين المتعلقين بأمرين متضادين انما يتحقق ـ عنده
ـ في صورة نشوئهما عن داعيين متماثلين ، أما لو كان كل واحد منهما بداع غير الآخر
فلا تنافي بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في أدلة القول بالامكان.
والامر في المقام
كذلك ، اذ الامر بالمهم انما سيق بداعي ايجاد الداعي للمكلف نحو المطلوب ، وأما
الامر بالاهم فقد سيق بدواع أخر.
أما الدعوى الاولى
فواضحة ، وسيأتي بعض الكلام فيها.
وأما الدعوى
الثانية : فلان صدور الاهم بداعي الانبعاث عن الامر المولوي عمن لم يتنجز عليه
التكليف ـ لجهل أو نسيان ونحوهما ـ محال لفرض الجهل بوجود الامر ونحوه ، فيمتنع
تعلق التكليف به بداعي جعل الداعي ، اذ ما يعلم
عدم ترتبه على
الشيء لا يمكن أن يكون غرضا منه. مضافا الى أنه كثيرا ما يمتنع صدور نفس الاهم ولو
بدواع أخر من المكلف ، خاصة اذا كان من الامور التعبدية لعدم حصول مبادئ الاختيار
ـ من التصور والتصديق بالفائدة ونحوهما ـ في نفس المكلف ـ فيستحيل صدوره منه على
نحو الاختيار ، لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علته ، وما يمتنع صدوره عن المكلف
يمتنع تعلق التكليف به بداعي جعل الداعي.
وهذا بخلاف ما لو
تنجز التكليف بالاهم ـ كالمهم ـ على المكلف ، اذ يمكن منع الامر الترتبي بالمهم في
هذه الصورة ، لاستحالة اجتماع حكمين بعثيين على المكلف ـ عند القائل بامتناع
الترتب ـ ومنه ينقدح عدم جريان بحث (الترتب) بالمعنى الثاني في المقام ، لاطباق
الكل على الجواز.
وعلى هذا يمكن أن
يقال بكون الخلاف لفظيا في المقام ، فالقائل بالجريان نظر الى انه لا مانع من
تعليق الامر بالمهم على مجرد ترك الاهم.
والقائل بعدمه نظر
الى أن هذا النوع من التعليق خارج عن محل الخلاف.
ويؤيده كلام
المحقق النائيني (قده) حيث علل خروج الفرض عن مسألة الترتب بعدم التزاحم بين
الحكمين فتأمل.
وصول التكليف بنفسه
(الثامن) وصول
التكليف بالاهم بنفسه الى المكلف ، اذ لو لم يصل بنفسه لم يتحقق العصيان بالنسبة
اليه ، ولو فرض وصوله اليه بطريقه ، ومع عدم تحقق العصيان ينتفي موضوع الامر
بالمهم ، فلا يعقل الامر به على نحو الترتب.
ويرد عليه :
أولا : انه لا فرق
في تحقق عصيان التكليف الواقعي بين وصوله بنفسه أو
بطريقه ، كما في
موارد الشبهات الحكمية قبل الفحص والشبهات الموضوعية المهمة التي أمر فيها بالفحص
والاحتياط ، اذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
ثانيا : مع
التسليم يمكن تعميم العصيان المأخوذ موضوعا للامر بالمهم لعصيان الامر النفسي
الواقعي وعصيان الامر المقدمي الطريقي ، والثاني متحقق في المقام ، لعصيان المكلف
أوامر التعلم والاحتياط ونحوهما.
هذا ـ مضافا الى
بعض ما مر في الشرط السابع.
عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتبى
(التاسع) عدم أخذ
الجهل في موضوع الامر الترتبي.
قال المحقق
النائيني (قده): ـ في بيان عدم جريان الترتب في مسألة الجهر والاخفات ـ :
(المكلف بالاخفات
في الواقع اذا جهر بالقراءة فاما أن يكون عالما بوجوب الاخفات عليه أولا ، أما
الاول فهو خارج عن محل الكلام ، اذ المفروض فيه توقف صحة الجهر على الجهل بوجوب
الاخفات ، وأما الثاني فعصيان وجوب الاخفات وان كان متحققا في الواقع إلّا انه
يستحيل جعله موضوعا لوجوب الجهر في ظرف الجهل لاستحالة جعل حكم يمتنع احرازه
فيستحيل تصحيح عبادة الجاهل حينئذ بنحو الترتب.
الى أن قال :
وبالجملة : ان لم يكن المكلف محرزا للعصيان المترتب عليه خطاب آخر لم يتنجز عليه
ذلك الخطاب لعدم احراز موضوعه وشرطه. وان كان محرزا له فجعل الخطاب المترتب في
مورده وان كان صحيحا إلّا انه خارج عن محل الكلام من جعل الخطاب مرتبا على العصيان
الواقعي في ظرف جهل
المكلف به. فتحصل
ان كل خطاب يستحيل وصوله الى المكلف يستحيل جعله من المولى الحكيم) ـ الى آخر
كلامه (قده) حسبما ورد في «أجود التقريرات» ـ.
وعلله في (فوائد
الاصول) : بأنه لا يصح التكليف الا فيما اذا امكن الانبعاث عنه ، ولا يمكن
الانبعاث عن التكليف الا بعد الالتفات الى ما هو موضوع التكليف والعنوان الذي رتب
التكليف عليه. وفي المقام لا يعقل الالتفات الى ما هو موضوع التكليف بالاخفات الذي
هو كون الشخص عاصيا للتكليف الجهري ـ انتهى.
ويرد عليه :
انه انما يتم لو
سيق الامر بالمهم بداعي التحريك ، وأما لو سيق بلحاظ آخر ـ كسقوط القضاء ونحوه
لاتيانه بما هو مأمور به ـ فلا.
وبتقرير آخر :
التحريك الذي أخذ في التكليف أعم من أن يكون تحريكا نحو الشيء نفسه أو نحو آثاره ،
فلا موجب لاختصاصه بالاول.
هذا مضافا الى
جريان بعض ما ذكر في الجواب عن استحالة أخذ النسيان في موضوع الحكم في المقام أيضا
، وقد فصل الكلام فيه في أواخر مباحث البراءة والاشتغال فراجع.
كون المتزاحمين عرضيين
(العاشر) كون
المتزاحمين عرضيين ـ أي متعاصرين بلحاظ الزمان ـ فلا يجري الترتب في الواجبين
الطوليين اذا فرض عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما من باب الاتفاق ، كما لو فرض
عدم قدرة المكلف على القيام في صلاتين
كصلاة الظهر
والعصر مثلا.
ولهذه المسألة
صورتان :
(الصورة الاولى)
أن يكون الواجب الاهم متأخرا ، والمهم متقدما بلحاظ الزمان. وقد علل عدم جريان
الترتب في هذه الصورة بأن الخطاب الترتبي اما أن يلاحظ بالنسبة الى نفس الخطاب
المتأخر وأخذ عصيانه شرطا للامر بالمتقدم ، واما أن يلاحظ بالنسبة الى الخطاب
المتولد منه ، وهو وجوب حفظ القدرة له ، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطا للامر بصرف
القدرة الى المتقدم فان كان الاول فيرد عليه : ـ مضافا الى استلزامه للشرط المتأخر
ـ ان ذلك لا يجدي في رفع المزاحمة فان المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ،
لعدم اجتماعهما في الزمان ، بل المزاحم هو الخطاب المتولد منه ، ومعلوم ان فرض
عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة ، لعدم سقوط خطاب المتأخر
بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب احفظ
قدرتك ، فاذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها ، وخطاب (احفظ قدرتك) موجب للتعجيز
عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر.
وان كان الثاني
فيرد عليه : ان عدم حفظ القدرة للمتأخر لا يكون إلّا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة
اليه ، وهو اما نفس المتقدم أو فعل آخر ، فان كان الاول يلزم طلب الحاصل. وان كان
الثاني يلزم تعلق الطلب بالممتنع. وان كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخر
المعنى الجامع بين صرف القدرة الى المتقدم أو فعل وجودي آخر مضاد لذلك يلزم كلا
المحذورين.
أقول : البحث تارة
يدور حول (شرط وجوب المهم) واخرى في (ظرف وجوب الاهم) وثالثة في (وجوب حفظ القدرة)
أما بالنسبة الى البحث الاول
فيرد على ما ذكره (قده)
:
أولا : معقولية
الشرط المتأخر على ما قرر في محله.
وثانيا : جواز
استبدال (العزم على عصيان الاهم) أو (عدم العزم على الامتثال) بالعصيان فيكون
الشرط مقارنا.
وثالثا : امكان
أخذ (التعقب) بالعصيان شرطا ، فلا يكون متأخرا. ولا يرد عليه بأن الالتزام بكون
عنوان التعقب شرطا يدور مدار قيام الدليل عليه وهو مفقود في المقام لما ذكره بعض
الاعلام من ان ملاك القول بالترتب في الواجبين الفعليين هو امكان الامر بكل منهما
على نحو الترتب واشتراط أحدهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر بلا موجب لرفع اليد عن
الاطلاق بالاضافة الى هذا الحال بعد ارتفاع محذور التزاحم برفع اليد عن اطلاق خطاب
المهم بالاضافة الى حال امتثال الاهم بعينه موجود في الواجبين التدريجيين أيضا ،
ضرورة انه اذا أمكن طلب المهم مشروطا بتعقبه بترك الواجب المتأخر الاهم فلا موجب
لرفع اليد عن اطلاق دليله بالاضافة الى هذا الحال. وانما اللازم هو رفع اليد عن
اطلاقه بمقدار يرتفع به محذور التزاحم أي اطلاقه بالاضافة الى حال امتثال الواجب
المتأخر في ظرفه ، وبتقريب آخر : المفروض في المقام هو اشتمال الواجب المهم على
الملاك الملزم في نفسه وأنه لا مانع من طلبه مشروطا بتعقبه بالعصيان المتأخر فلا
موجب لرفع المولى يده عن طلبه كذلك وتفويته الملاك الملزم ، وعليه فلا حاجة الى
دليل بالخصوص على كون عنوان التعقب بالعصيان شرطا لوجوب الواجب المتقدم أصلا.
وأما بالنسبة الى
البحث الثاني فيرد عليه امكان تعاصر الامرين ، وذلك بكون وجوب الاهم معلقا ، أو
مشروطا بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر ، لكن هذا الايراد مبنائي كما لا
يخفى.
وأما بالنسبة الى
البحث الثالث فيرد عليه :
أولا : امكان أخذ (العزم)
على عصيان خطاب حفظ القدرة شرطا فلا يلزم طلب الحاصل أو الممتنع أو كلاهما معا.
ثانيا : جواز
اشتراط وجوب المهم بعصيان خطاب حفظ القدرة على نحو الشرط المتأخر أو كون وجوبه
معلقا فلا يرد المحذور المذكور.
ثالثا : النقض
بجميع الاوامر الترتبية التي تعلق وجوب المهم فيها بترك الاهم ، كما في قوله (ان
تركت الازالة فصل) حيث لا يصح ان يقال (ان تركت الازالة واشتغلت بالصلاة فصل)
لاستلزامه طلب الحاصل ولا (ان تركتها واشتغلت بغيرها) لاستلزامه طلب الممتنع ، ولا
الاعم لاستلزامه كلا المحذورين.
فان قيل : لا يصح
القياس ، لان ترك الازالة لا يلازم الصلاة ، ولا فعلا آخر مضادا لها ، بل كل فعل
وجودي يفرض فانما هو مقارن لترك الازالة لا عينه ولا يلازمه لتمكن المكلف من عصيان
الامر بالازالة مع عدم اشتغاله بفعل وجودي أصلا ، وليست الافعال الوجودية من
مصاديق ترك الازالة اذ الوجود لا يكون مصداقا للعدم ، فمع فرض تركه للازالة يمكنه
أن لا يشتغل بفعل وجودي ـ فلا مانع من أمره بالصلاة حينئذ عند ترك الازالة ولا
يكون من طلب الحاصل أو الطلب للممتنع ولو فرض انه اشتغل بفعل وجودي آخر ، لانه لم
يقيد الامر الصلاتي بصورة الاشتغال بالصلاة أو صورة الاشتغال بفعل وجودي آخر حتى
يلزم ذلك ، بل الامر الصلاتي كان مقيدا بترك الازالة فقط ـ وهذا بخلاف المقام فان
ترك حفظ قدرته للمتأخر لا يكون إلّا بالاشتغال بفعل وجودي يوجب سلب القدرة عن
المتأخر ، وإلّا لكانت قدرته الى المتأخر محفوظة ، فالفعل الوجودي يكون ملازما
لعدم انحفاظ القدرة ولا يكون مقارنا ، وحينئذ يرد المحذور.
قيل : انه لا محيص
عن ملازمة (المهم) أو (فعل وجودي آخر مضاد للمهم) أو (عدم الاشتغال بفعل وجودي
أصلا) ـ لو فرض امكانه ـ ل (ترك الاهم) فان
علق وجوب المهم
على ترك الاهم الحاصل بالاول لزم طلب الحاصل ، أو الثاني لزم طلب الممتنع ـ لاستحالة
الاتيان بالمهم حال الاشتغال بضده ـ وكذا الثالث ـ لاستحالة الاتيان به حال عدم
الاشتغال بفعل وجودي أصلا ـ وان أريد المعنى الجامع بين الثلاثة ترتب المحذوران معا.
وعليه فلا فرق بين
المقامين من هذه الجهة.
رابعا : ان
المحذور ليس مترتبا على ثبوت الحكم على المقيد ، لعدم محذور في وجوب الشيء حال عدم
الاشتغال بفعل وجودي أصلا أو حال الاشتغال بضده والامتناع في المقام ليس ذاتيا ولا
وقوعيا ، بل هو امتناع بالغير ، وهو لا ينافي الامكان الذاتي والوقوعي ، ولا جواز
التكليف ، بل المحذور مترتب على التقييد وهو يرتفع بالاطلاق ، فلا يكون محالا ، بل
يكون ضروريا ـ وسيأتي توضيحه في أدلة القول بالامكان إن شاء الله تعالى ـ.
ثم انه لا دليل
على وجود خطاب شرعي متعلق بحفظ القدرة ، لعدم وجوب مقدمة الواجب ، اللهم إلّا أن
يراد الخطاب العقلي ، فتأمل.
(الصورة الثانية)
أن يكون الواجب الاهم متقدما ، والمهم متأخرا بلحاظ الزمان.
وقد يعلل عدم
جريان الترتب في هذه الصورة بأن الامر بأحد الضدين ـ كالطهارة الترابية ـ بعد سقوط
الامر بالضد الآخر ـ كالطهارة المائية ـ لا محذور فيه ، لعدم اجتماع الفعليتين ،
فلا يجري فيه بحث الاستحالة والامكان.
ويرد عليه : امكان
تعاصر الفعليتين ـ بتعليق وجوب المهم أو كونه مشروطا بالوقت المتأخر على نحو الشرط
المتأخر ، وذلك بغرض التحريك نحو مقدماته المفوتة ـ مثلا ـ فيجتمع في وقت واحد تحريكان
متضادان نحو الاهم والمهم ـ ولو بالتحريك نحو مقدماتهما ـ ويتحقق بذلك موضوع
الترتب ، فتأمل.
... هذه بعض
الشروط المأخوذة في (الترتب) وهنالك شروط اخرى تطلب من المفصلات ، والله الموفق.
ما أورد به على الترتب
وقد أورد على (الترتب)
بوجوه .
الوجه الاول : تطارد الطلبين
الوجه الاول : ما
ذكره صاحب الكفاية (قده) وهو : جريان محذور طلب الضدين في عرض واحد في المقام ،
فانه وان لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما ، إلّا أنه كان في مرتبة الامر
بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الامر بالاهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بمجرد
المعصية فيما بعد ـ ما لم يعص ـ أو العزم عليها ، مع فعلية الامر بغيره أيضا ،
لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا.
(والتفريق) بين
الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك ، بأن الطلب في كل منهما في الاول يطارد
الآخر ، بخلافه في الثاني ، فان الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم ، فانه يكون
على تقدير عدم الاتيان بالاهم فلا يكاد يريد غيره على تقدير اتيانه وعدم عصيان
أمره (مندفع) بأن عدم ارادة غير الاهم على تقدير الاتيان به
__________________
لا يوجب عدم
التطارد على تقدير العصيان فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من
المطاردة من جهة المضادة بين المتعلقين ، مع انه يكفي الطرد من طرف الامر بالاهم ،
فانه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد ، كما كان في غير هذا الحال ـ انتهى.
وهذا الوجه يمكن
أن يتلخص في نقاط : الاولى : فعلية الطلبين على تقدير عصيان الامر بالاهم.
أما فعلية طلب
الاهم : فلان الامر لا يسقط بالعصيان أو العزم عليه ، اذ ذلك لا يوجب فوات الموضوع
المسقط للتكليف.
وأما فعلية طلب
المهم : فلفعلية موضوعه.
الثانية : تضاد
متعلقي الطلبين ، وإلّا خرج الفرض عن موضوع المسألة ، وأمكن اجتماع الامرين بلا
اشكال.
الثالثة : سراية
التضاد من المتعلقين الى نفس الطلبين.
الرابعة : ان تضاد
الطلبين محال ، اما لاستلزامه اللغوية ، أو لاستحالة انقداح الطلب الحقيقي المتعلق
بالمحال في نفس المولى ـ على اختلاف الوجهين في طلب المحال ـ.
الخامسة : انه لا
فرق في استحالة التضاد بين كون التضاد مطلقا ـ كما في الطلبين العرضيين المتعلقين
بالضدين ـ أو على تقدير دون تقدير ـ كما في الطلبين الطوليين المسوقين على نحو
الترتب ـ ، اذ يكفي في بطلان الملزوم ترتب لازم باطل عليه ولو في بعض الاحيان.
السادسة : لو فرض
عدم التطارد بين الامرين في صورة تحقق موضوع الامر بالمهم كفى في الاستحالة طرد
أحد الجانبين للآخر ، فان الامر بالمهم ولو لم يقتض طرد الامر بالاهم فرضا لكن
الامر بالاهم لا محالة يقتضي طرد الامر بالمهم ، ومعنى طرده له حينئذ انه يكون
مانعا عن حدوث الامر بالمهم ـ كما في
«الوصول» ـ وسيأتي
بعض البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
الايراد الاول
ويرد على هذا
الوجه امور :
(أحدها) : ما في
نهاية الدراية وهو :
(ان اقتضاء كل أمر
لاطاعة نفسه في رتبة سابقة على اطاعته ، لانها مرتبة تأثيره وأثره ، ومن البديهي
ان كل علة منعزلة ـ في مرتبة الاثر ـ عن التأثير .. فيكون تمام اقتضاء الامر لاثره
في مرتبة ذاته المقدمة على تأثيره واثره ، ولازم ذلك كون عصيانه في مرتبة متأخرة
عن الامر واقتضاءه لكون النقيضين في مرتبة واحدة ، وعليه : فاذا انيط أمر بعصيان
مثل هذا الامر فلا شبهة في ان هذه الاناطة تخرج الامرين عن المزاحمة في التأثير ،
اذ في رتبة الامر بالاهم وتأثيره في صرف القدرة نحوه لا وجود للامر بالمهم ، وفي
رتبة وجود الامر بالمهم لا يكون اقتضاء للامر بالاهم .. فلا مطاردة بين الامرين).
وحاصل هذا الايراد
دفع محذور التطارد بين الامرين بالطولية والاختلاف الرتبي فيما بين الطلبين.
وهذا الايراد يمكن
تقريره في ضمن مقدمات :
الاولى : ان
اقتضاء كل علة لمعلولها في مرتبة ذاتها ، لان علية العلة مرتهنة بنحو وجودها الخاص
، ونحو الوجود ليس خارجا عن نفس الوجود ، فان كل مرتبة من الوجود بسيطة ، وليس
الشديد مركبا من أصل الحقيقة والشدة ولا الضعيف مؤلفا من أصل الحقيقة والضعف ،
فليست المرتبة القوية من النور ـ مثلا ـ نورا وشيئا زائدا على النورية ، ولا
المرتبة الضعيفة بفاقدة من حقيقة
الصحيح منها غير
مجد في المقام ، والمجدي فيه منها غير صحيح ، وهي :
الاول : تساوي
نسبة الماهية الى الوجود والعدم ، وعدم كون أحد الطرفين أولى بها من الآخر ، وكذا
كل معروض بالنسبة الى عوارضه المفارقة ، فانه لا يقتضي بذاته أحد طرفي السلب أو
الاثبات ، لا على نحو الوجوب ولا على نحو الاولوبة ، ومثلهما العلل الاختيارية ـ ما
لم تبلغ مرحلة الفعلية ـ بالنسبة الى النقيضين ، كالارادة منسوبة الى طرفي المراد.
والمراد بتساوي
النسبة : تكافؤ الاحتمالين عند قصر النظر على ذات المعروض أو العلة ـ بما هي هي ـ وان
لم يخل الشيء عن الوجوب بالغير أو الامتناع كذلك بلحاظ علله أو محمولاته وجودا
وعدما ، فان الامكان الذاتي لا ينافي الوجوب أو الامتناع الطارئ من قبل الغير ـ المعبر
عنه بالوجوب السابق ـ والوجوب بشرط المحمول ـ المعبر عنه بالوجوب اللاحق ـ بل لا
يخلو الممكن منهما أبدا.
الثاني : ان نقيض
وجود الشيء في مرتبة من مراتب الواقع ليس إلّا عدم وجوده في تلك المرتبة ، وكذا
العكس ، بداهة عدم تحقق التعاند في غير هذه الصورة ، فوجود الناطقية في مرتبة ذات
الانسان يناقضه عدم وجودها فيها ، لا عدمه في مرتبة اخرى ، ووجود المعلول في
المرتبة المعلولية يناقضه عدم وجوده فيها لا عدم وجوده في رتبة العلة ، ومن هنا
كان عدم الشيء في الحقيقة هو العدم المجامع ، أما العدم السابق أو اللاحق فليس
عدما له في الحقيقة للبداهة ، واشتراط وحدة الزمان في التناقض.
وقد يؤيد ذلك :
بأن عدم الوجود في تلك المرتبة مناقض للوجود فيها ، فلو كان عدم الوجود في غيرها
مناقضا للوجود فيها لزم تعدد النقائض ، مع ان نقيض الواحد لا يكون إلّا واحدا ،
وإلّا لزم عند صدق أحد طرفي المتعدد دون الآخر ارتفاع النقيضين ـ ان لم يصدق
الواحد ـ واجتماع النقيضين ـ ان صدق الواحد ـ.
وكون عدم وجود
الشيء ـ مطلقا وبلا تقييده بقيد مكاني أو زماني أو نحوهما ـ مناقضا لوجوده المقيد
بقيد خاص ، مع كون عدم (ذلك الوجود المقيد) مناقضا له أيضا لا يستلزم تعدد النقائض
، اذ تناقض الاول مع (الوجود المقيد بالقيد الخاص) انما هو باعتبار تضمنه للاخير ،
فتناقض السلب الكلي معه تناقض بالتبع وبلحاظ احتواءه على الحصة ـ وهي سلب «الوجود
المقيد المزبور» ـ وإلّا فسائر حصص السلب لا تتناقض مع الحصة الوجودية الخاصة ،
لعدم وحدة المصب ، ولذا لا يكون ثمة تناف بين القضيتين المحتويتين عليهما ، ويكون
من الممكن صدقهما معا.
وهذا الوجه (الثاني)
ان اريد به ضرورة اتحاد الرتبة المأخوذة في متعلق النفي والاثبات ولزوم صبهما عليه
بلحاظ تلك المرتبة فصحيح ، ومرجعه الى اعتبار وحدة الموضوع في التناقض ، وان اريد
به ان المرتبة التي تكون قيدا لذات أحد النقيضين تكون قيدا لذات الآخر فغير صحيح.
اذ ان قولنا : (نقيض
الوجود في مرتبة من مراتب الواقع ليس إلّا عدم الوجود في تلك المرتبة) ليس بمعنى (ان
نقيض الوجود المقيد بالكون في المرتبة كائن معه في تلك المرتبة) ، فان المرتبة في
النقيض يجب أن تكون قيدا للمسلوب لا للسلب ، فان نقيض (الوجود المرتبي) هو (عدم
الوجود المرتبي) بجعل القيد قيدا للمنفي لا للنفي ، ونقيض (المقيد) هو (انتفاء
المقيد) ـ على نحو الاضافة ـ لا (الانتفاء المقيد) ـ على نحو التوصيف ـ وإلّا
اختلت الوحدة الموضوعية المعتبرة في التناقض ، وذلك لانحفاظ وحدة موضوع القضيتين
المتناقضتين في قولنا (الوجود المرتبي متحقق) و (ليس الوجود المرتبي متحققا) ـ بجعل
القيد قيدا للمسلوب ـ وعدم انحفاظ الوحدة لو كان القيد للسلب ، اذ يصبح الموضوع
مقيدا في القضية الموجبة ، ومطلقا في القضية السالبة ، مضافا الى ان
العدم لا ذات له
حتى يشغل مرتبة من مراتب الواقع فلا بد ـ اذا ـ من كون المرتبة ظرفا للمنفي لا
للنفي ، وكون الرفع رفعا للمقيد لا رفعا مقيدا ، ومن هنا ذكروا ان انتفاء الوجود
والعدم عن الماهية ، وسائر المعاني المتقابلة عن المعروضات ـ وان كانت من لوازمها
التي لا تنفك ـ ليس من ارتفاع النقيضين ، اذ ليس العدم المرتبي نقيضا للوجود
المرتبي حتى لا يمكن ارتفاعهما معا ، بل نقيض (الوجود المرتبي) عدم (الوجود
المرتبي) ، وهو صادق في الماهية ، لعدم أخذ الوجود في مرتبة ذات الماهية ، ولا
اللوازم في حد ذات المعروضات ، فما هما نقيضان لم يرتفعا ، لصدق (عدم الوجود
المرتبي) ـ بجعل الرتبة قيدا للمنفي ـ ، وما ارتفعا ليسا بنقيضين.
وهذا هو الذي ينبغي
أن يكون المراد بقولهم (ان ارتفاع النقيضين عن المرتبة ليس بمستحيل ، وانما
المستحيل ارتفاعهما عن الواقع مطلقا وبجميع مراتبه) فيكون اطلاق النقيضين على
الوجود والعدم المقيدين من باب المسامحة وباعتبار حالهما لو أخذا مطلقين ، لا ما
هو ظاهره ، اذ القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص.
الثالث : انه لا
تقدم ولا تأخر ـ بلحاظ الرتبة ـ بين ذاتي النقيضين فلا يكون وجود الشيء علة لعدمه
، ولا عدمه علة لوجوده ببديهة العقل.
الرابع : ان
النقيض في نفس رتبة البديل مضافا لثالث ـ يكون علة أو معلولا أو نحوهما ـ ، بأن
يكون التأخر الرتبي للثالث عن أحدهما ملازما لتأخره عن البديل ، ويكون التقدم
الرتبي له عليه ملازما لتقدمه على البديل.
وما عدا الوجه
الاخير لا يجدي في المقام ـ وان سلم بلحاظ الكبرى ـ وأما الوجه الاخير فيمكن
الجواب عنه بأجوبة ثلاثة :
الجواب الاول :
ان الوجود هو
المصحح للسبق واللحوق ، فلا سبق الا في الوجودات ، كما
لا مسبوقية الا
فيها ، فلا يكون العدم علة لعدم آخر ، ولا الوجود علة للعدم ، ولا العدم علة
للوجود ، لان العدم باطل الذات ، وهالك الذات ، ولا شيئية محضة ، فكيف يؤثر في
غيره ، أو يتأثر عن غيره ، أو يكون سابقا أو لاحقا ، مع أن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت
المثبت له ، وما يرى من تخلل الفاء بين الاعدام ، أو بينها وبين الوجودات ـ على
غرار تخللها بين نفس الوجودات ـ فانما هو بنوع من التقريب والمجاز على ما قرر في
محله.
ثم انه اما أن
يقال بعدم امكان تعلق الاوامر بالاعدام ـ باعتبار أنها لا تؤثر ولا تتأثر ، فيكون
المطلوب ومتعلق الارادة النفسانية في الاوامر : الفعل ، كما ان المكروه ومتعلق
الكراهة في النواهي : الفعل ، كما ذهب اليه السيد الوالد دام ظله في «الاصول» ـ.
أو يقال : بامكان
تعلقها بالاعدام كامكان تعلقها بالوجودات ـ باعتباران الامر ناشئ عن قيام مصلحة
الزامية في متعلقه ، كما أن النهي ناشئ عن قيام مفسدة الزامية في متعلقه ، ولا فرق
في ذلك بين أن يكون المتعلق فعل الشيء أو تركه : كالامر بالصوم الناشئ عن قيام
مصلحة ملزمة في التروك المعهودة ، ولذا يقال الصوم واجب ولا يقال ان فعل المفطرات
محرم ، على ما في «المحاضرات» ـ.
(فعلى الاول) يقرر
الجواب :
بأن تقدم الامر
المتعلق بالمهم على طاعته ـ التي يجب أن تكون حيثية وجودية حسب هذا المبنى ـ لا
يستلزم تقدمه على نقيضها العدمي ، لما ذكر من أن السبق واللحوق لا مسرح له الا في
الوجودات. مع أن اطلاق كون الطاعة في رتبة متأخرة عن ذات الامر محل تأمل ، فان
الوجود الامكاني تابع ـ في حدوثه وبقاءه ـ لعلله الخاصة التي بها وجوده يجب ،
والامر وان أمكن أن يكون علة ـ على ما في النهاية ـ أو جزء علة ـ على ما هو الاصح
ـ للطاعة إلّا أنه يمكن أن تكون العلة غيره
أيضا ، فلا يتم
الاطلاق المزبور بلحاظ الكبرى ، وعليه ينبغي تقييد التأخر بوقوع الامر في سلسلة
عللها الوجودية.
(وعلى الثاني)
يقرر الجواب :
بأن الطاعة لا
تخلو من أن تكون حيثية وجودية أو عدمية ، فان كانت حيثية وجودية فقد ظهر الحكم
فيها مما سبق ، وان كانت حيثية عدمية فلا تقدم للامر عليها كي يستدل بذلك على
تقدمه على نقيضها الوجودي ـ وهو العصيان ـ باعتبار اتحاد رتبة النقيضين.
الجواب الثاني :
ان انتزاع مفهوم
معين من شيء خاص لا يكون اعتباطا ، بل لا بد من أن يكون في منشأ الانتزاع خصوصية
معينة بها صح الانتزاع ، وإلّا لانتزع كل شيء من كل شىء ، فانتزاع مفهوم العلية من
العلة لا يكون إلّا لوجود خصوصية فيها ـ وهي كون وجوب المعلول قائما بها مستندا
اليها ودورانه مدارها وجودا وعدما ـ وهكذا سائر المفاهيم الانتزاعية كالفوقية
والتحتية والمحاذاة ونحوها. والمعية والسبق واللحوق مفاهيم انتزاعية يحتاج
انتزاعها الى مصحح ، هو تلك الخصوصية الكامنة في منشأ الانتزاع ، فمجرد كون الشيء
بديلا للنقيض لا يصحح تسرية ما اتصف به اليه ما دام فاقدا للخصوصية المصححة
للانتزاع.
نعم لو كان البديل
واجدا ـ كالنقيض ـ لتلك الخصوصية صح الانتزاع منه ـ كما صح الانتزاع من النقيض ـ لا
لكونه بديلا للنقيض ، بل لكونه واجدا للملاك كالنقيض.
والى هذا أشار
المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية بقوله (ان تأخر الاطاعة ـ بمعنى الفعل ـ عن
الامر لكونه معلولا له لا يقتضي تأخر العصيان النقيض لها عن الامر ، اذ ليس فيه
هذا الملاك ، والتقدم والتأخر لا يكونان إلّا لملاك يوجبهما
فلا يسري الى ما
ليس فيه الملاك).
واستشهد على ذلك
في موضع آخر (بأن الشرط وجوده متقدم بالطبع على مشروطه قضاء لحق الشرطية ، وعدمه
لا تقدم له بالطبع على مشروطه ، لان التقدم بالطبع لشيء على شيء بملاك يختص بوجوده
أو عدمه لا أن ذلك جزاف بخلاف التقدم الزماني والمعية الزمانية فان نقيض المتقدم
زمانا اذا فرض قيامه مقامه لا محالة يكون متقدما بالزمان. ولذا قيل : ان ما مع
العلة ليس له تقدم على المعلول ، اذ التقدم بالعلية شأن العلة دون غيره ، بخلاف ما
مع المتقدم بالزمان فانه أيضا متقدم لانه في الزمان المتقدم. وبالجملة : التقدم
بالعلية أو بالطبع الثابت لشيء لا يسري الى نقيضه ، ولذا لا شبهة في تقدم العلة
على المعلول ، لا على عدمه كما أن المعلولين لعلة واحدة لهما المعية في الرتبة
وليس لنقيض أحدهما المعية مع الآخر كما ليس له التأخر عن العلة) انتهى.
ويلاحظ عليه :
١ ـ عدم معقولية
اشتراك الملاك وما يتبعه من الوصف الانتزاعي بين النقيضين ـ ولو في الزمانيات ـ لما
سبق من أنه لا مسرح للسبق واللحوق الا في الوجودات إلّا أن يكون الكلام مسوقا على
نحو التقريب والمجاز.
٢ ـ لو سلم
الاشتراك فهو لا يختص بالسبق الزماني ، بل يشمل أيضا السبق بالرتب الحسية ، ولعل
المراد التمثيل لا الحصر.
٣ ـ ان تقدم مفاد
ليس التامة على الناقصة يصير التعليل بفقدان الذات أولى من التعليل بفقدان الوصف
فيما نحن فيه ف (ليس النقيض العدمي) ـ كما هو مفاد الجواب الاول ـ مقدم على (ليس
ذا ملاك) ـ كما هو مفاد الجواب الثاني ـ ولذا يعلل عدم العارض عند عدم المعروض به
، لا يفقد المقتضي أو وجود المانع عن العروض ـ اللذين هما مفاد كان الناقصة ـ لانه
لا يكون إلّا بعد الفراغ عن ثبوت
أصل الشيء ـ الذي
هو مفاد كان التامة ـ ومن هنا ذكروا : أن (هل البسيطة) مقدمة على (ما الحقيقة)
لتقدم منشأ الانتزاع على العنوان الانتزاعي ، وعلى (هل المركبة) لان ثبوت شيء لشيء
فرع ثبوت المثبت له.
نعم : يصح هذا
الجواب (الثاني) لو سيق على نحو الترتب على الجواب الاول ، بأن يقال : لا ذات
للنقيض العدمي ، ومع التسليم : فليس ذا ملاك ، كما لا يخفى.
الجواب الثالث :
ان المعية بين
النقيضين كما تقتضي اتحادهما في الرتبة كذلك تقتضي وحدة سنخ الملاك الذي بكون فيه
التقدم والتأخر الرتبيان ، وحينئذ ينتقض ذلك بالتقدم بالعلية ، فان العلة متقدمة
على المعلول ، وملاك هذا التقدم : اشتراكهما في وجوب الوجود مع كون وجوب العلة
بالذات ووجوب المعلول بالغير ، فلو كان نقيض المعلول متأخرا عنها بالعلية لزم
اجتماع النقيضين لفرض تحقق العلة التي تفيض الوجوب عليهما ، وهو محال ، مضافا الى
انه لا بد أن يكون لكل علة طبيعية خصوصية بحسبها يصدر عنها المعلول المعين ، ولا يمكن
فرض خصوصية في العلة تكون مصدرا للعدم كما هي مصدر للوجود ـ وكذا ينتقض بالتقدم
بالتجوهر ، وهو تقدم أجزاء الماهية ـ من الجنس والفصل ـ عليها ، وملاكه اشتراك
المتقدم والمتأخر في تقرر الماهية مع توقف تقرر المتأخر على المتقدم ، فلو كانت
نقائض أجزاء الماهية متقدمة عليها بالتجوهر لزم دخول النقائض في قوام الماهية ،
وهو بديهي البطلان ـ فتأمل.
هذا كله (ان) اريد
بالطاعة : نفس الفعل ، وبالعصيان : نقيضه كما هو مقتضى الاستدلال على اتحاد
رتبتهما بمقولة (النقيضان في رتبة واحدة) ـ اذ النقيضان هما نفس الفعل والترك بما
هما هما ، لا بما أنهما موصوفان بوصف زائد على ذاتهما ، وان كان في اطلاق الطاعة
والمعصية حينئذ عليهما نوع مسامحة ، اذ ليس مطلق
الفعل والترك :
طاعة ومعصية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.
وقد تحصل من ذلك :
ان تأخر الطاعة عن الامر ـ لكونه علة لها أو جزء العلة ، على ما تقدم من الوجهين ـ
لا يقتضي تأخر العصيان عنه.
وأما (ان) اريد
الطاعة والمعصية اللتان تنتزعان من موافقة المأتي به للمأمور به وعدمها ـ سواء كان
العدم على نحو السالبة بانتفاء الموضوع بأن لا يكون هناك مأتي به ، أو السالبة
بانتفاء المحمول ، بأن يكون المأتي به غير موافق للمأمور به ـ فمع أنهما ليسا
بنقيضين ، اذ هما من قبيل العدم والملكة ، ومع ان كون النقيضين في رتبة واحدة
ممنوع ، لكن مع ذلك يصح القول بتأخرهما عن الامر ، كما قال المحقق الاصفهاني في (النهاية)
:
(الاطاعة والمعصية
الانتزاعيتان لهما التأخر الطبعي عن الامر ، لوجود الملاك لا لكون أحدهما نقيض ما
فيه الملاك ، فان ملاك التأخر والتقدم الطبعيين هو انه يمكن أن يكون للمتقدم وجود
ولا وجود للمتأخر ، ولا يمكن أن يكون للمتأخر وجود الا والمتقدم موجود ، وهنا كذلك
اذ يستحيل تحقق عنوان الاطاعة الا مع تحقق الامر ، ولكن يمكن أن يتحقق الامر ولا
اطاعة ، وكذلك يستحيل تحقق العصيان للامر بلا تحقق للامر ، ويمكن تحقق الامر ولا
عصيان) انتهى.
وما ذكره من تقدم
الامر على طاعته وعصيانه ـ بما هما كذلك ـ متين ، وذلك لتقومهما (بتحقق) التكليف
المولوي ـ أولا ـ فمع عدم تحققه لا يكون الفعل أو الترك طاعة أو عصيانا ، بل تجريا
أو انقيادا ، وحرمة التجري ـ لو سلمت ـ ليست بلحاظ التكليف المتجرى عليه ، اذ لا
واقعية له ، بل باعتبار المخالفة الحقيقية للتكليف الواقعي بعدم هتك حرمة المولى
والطغيان عليه.
(وبالالتفات) الى
التكليف ـ ثانيا ـ ، فمع عدمه لا طاعة ولا عصيان ـ مع عدم التقصير ، فان الامتناع
بالاختيار لا ينافيه ـ.
وكون التكليف
الواقعي ثابتا في حق غير الملتفت ـ لما تقرر من قاعدة الاشتراك ـ لا ينافي عدم
صدقهما فى حقه.
(وبالانبعاث) عن
بعث المولى. والانزجار عن زجره ـ في الطاعة ـ ـ ثالثا ـ أما لو كانا بدافع آخر فقط
أو مشتركا بأقسامه ، فلا تصدق الطاعة ، وسقوط التكليف بالانبعاث ـ لا عن بعثه ـ أو
الانزجار ـ لا عن زجره ـ في غير التعبديات ليس لصدق الطاعة ، بل لتحقق الغرض.
فتحصل من ذلك :
تأخر الطاعة والعصيان عن الامر ، بأكثر من مرتبة واحدة ومن هنا قد يستبدل بتعليق (الامر
بالمهم على العصيان بمعنى مجرد الترك) تعليقه على (العصيان الانتزاعي) المتأخر عن
الامر طبعا ، ويستغنى عن مقولة كون النقيضين في رتبة واحدة ، في ايراد النهاية على
ما ذكره صاحب الكفاية (قده) ، فلا يتم ما ذكر في رد الايراد لثبوت تأخر العصيان عن
الامر بالاهم ، لا لاتحاد رتبة النقيضين ، بل لما سبق.
فتحصل من كل ما
سبق :
ان مقولة كون
النقيضين في مرتبة واحدة تحتمل عدة معان والثلاثة الاول منها لا تجدي في المقام ،
ولو سلمت في حد ذاتها والرابع هو المجدي فيه.
وحينئذ فاما أن
يراد بالطاعة والمعصية : نفس الفعل والترك أو يراد الطاعة والمعصية الانتزاعيتان.
فان أريد الاول :
ورد على مقولة (النقيضان في رتبة واحدة) ـ التي استند المستدل اليها لاثبات اتحاد
رتبة الطاعة والمعصية ـ :
١ ـ ان مسرح السبق
واللحوق يختص بالامور الوجودية والطاعة ان كانت حيثية وجودية فتقدم الامر عليها لا
يستلزم تقدمه على نقيضها العدمي ـ أي العصيان ـ مع أن تقدمه عليها ليس مطلقا ، اذ
لا يتم إلّا في صورة وقوع الامر في سلسلة عللها
الوجودية وان كانت
حيثية عدمية فلا تقدم للامر عليها كي يسري هذا الوصف الى نقيضها الوجودي ـ أي
العصيان ـ.
٢ ـ ان التقدم والتأخر
لا يكونان إلّا بملاك يقتضيهما ، فلا يسريان الى النقيض الفاقد للملاك.
٣ ـ وان الكلية
المذكورة تنتقض بالتقدم بالعلية وبالتجوهر.
(وان أريد) الطاعة
والمعصية الانتزاعيتان صح ما ذكر من تقدم الامر ـ تقدما بالطبع ـ عليهما.
تزاحم الاقتضاءين فى فرض التعليق
(ثانيا) : ان ما
ذكر من خروج الامرين ـ بالتقييد ـ عن التزاحم في التأثير للاختلاف الرتبي بينهما
انما يتم لو كان الامر بالمهم مشروطا ، أما لو فرض كونه معلقا ـ بأن يكون التقييد
للمادة ، لا للهيئة ـ وسبق الامر العصيان فيتزاحم الاقتضاء ان من دون تقدم وتأخر
بلحاظ الرتب ، اذ المتأخر عن العصيان حينئذ هو المطلوب لا الطلب.
ولا يقدح في كونه
معلقا اناطته بأمر مقدور بذاته ـ وان كان غير مقدور بقيده لتقيده بالزمان المتأخر
ـ اذ لا فرق في المعلق بين اناطته بأمر غير مقدور بذاته ـ كالوقت ـ أو بأمر مقدور
بذاته ـ كالعصيان ـ ، لوحدة الملاك ، خلافا لما نسب الى بعضهم من اشتراط المقدورية
بالذات وسيأتي تمام الكلام في ذلك في أدلة القول بالامكان إن شاء الله تعالى.
ملاك التزاحم المعية الوجودية
(ثالثا) : ما في
نهاية الدراية وهو :
(ان ملاك التزاحم
والتضاد في مورد ليس المعية الرتبية بل المعية الوجودية الزمانية ، فمجرد عدم كون
أحد المقتضيين في رتبة المقتضي الآخر لا يرفع المزاحمة بعد المعية الوجودية
الزمانية ، بل اللازم بيان عدم منافاة أحد الاقتضائين للآخر لمكان الترتب ، لا عدم
المنافاة ، للتقدم والتأخر الرتبيين ، وما ذكر من عدم اقتضاء الامر بالاهم في رتبة
وجود الامر بالمهم معناه عدم معية الاقتضائين رتبة ، لا سقوط أحد الاقتضائين عن
الاقتضاء والتأثير مع وجود الاقتضاء الآخر ، والفرض ان مجرد تأخر الامر بالمهم عن
الامر بالاهم بحسب الرتبة مع المعية في الاقتضاء وجودا زمانيا لا يدفع الاستحالة ،
اذ مناطها هي المعية الكونية الزمانية في المتزاحمات والمتضادات ، وليست الرتبة من
المراتب الوجودية).
وهذا الجواب وان
تم بلحاظ الكبرى ، لكن لا يخفى عدم تحقق الموضوع ـ وهو التضاد ـ في المقام (لا)
لما في التهذيب من خروج الاحكام عن تقابل التضاد بأخذ قيد التعاقب على موضوع واحد
فيه ، اذ المراد من الموضوع هو الموضوع الشخصي لا الماهية النوعية ، ومتعلقات
الاحكام لا يمكن أن تكون هي الموجود الخارجي فلا معنى للتعاقب وعدم الاجتماع فيها.
انتهى.
(وذلك) لعدم دخل
طبيعة المعروض في تحقق التضاد وعدمه ، بل طبيعة العارض هي الملاك ، فالمعروض
المتصف بوصف خاص يستحيل أن يعرض عليه ما يضاده من الاوصاف وان كان المعروض كليا ،
لعدم حصول ميز له بذلك من هذه الجهة في نظر العقل ، ولان الصفة لا تحمل على الشيء
إلّا اذا كانت فيه خصوصية بها يصح الحمل ، وإلّا لحمل كل شيء على كل شيء ، ومع
وجود تلك الخصوصية يستحيل وجود ما يضادها فيه ، فلا يمكن حمل الضد عليه ، ولا فرق
في ذلك بين كون المعروض ذهنيا أو خارجيا ، اذ الذهن مرتبة من مراتب الخارج ، وكونه
ذهنيا انما هو بالقياس ، فكما أن السواد والبياض صفات للوجودات العينية ، كذلك
الكلية والجزئية
والمعرفية ونحوها صفات للوجودات الذهنية التي هي مرتبة من مراتب الخارج.
وعلى هذا فالتضاد
يعم :
(ما) كان ذا وجود
محمولي في العين ـ كالسواد والبياض ـ
و (ما) كان ذا
وجود رابط فيه ـ كالزوجية والامكان مما كان من المعقولات الثانية الفلسفية التي
يتحقق عروضها في الذهن والاتصاف بها في الخارج ، وان لم تنحصر فيه ، لشمولها
للمنطقية.
و (ما) كان ذا
وجود ذهني ـ كالكلية والجزئية (بناء على كونهما ضدين) ونحوهما من المعقولات
الثانية المنطقية التي يكون الاتصاف بها ـ كعروضها ـ في الذهن.
(نعم) يصح ما في
التهذيب لو أريد به : أن وجود الشيء رهين بتشخصه ، فان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد
، ومع عدم وجوده يستحيل أن يكون معروضا للعوارض ، فلا تجري عليه أحكام التضاد ـ من
باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ وبعبارة أخرى : الماهية بما هي هي أمر اعتباري فلا
يتعاقب عليها الضدان ، بل المعروض الماهية بما هي موجودة فتأمل.
هذا ويمكن
الاستدلال على عدم التضاد في المقام بأن الاحكام الخمسة وما تنطوي عليه من بعث
وزجر واقتضاء وتحريك أمور اعتبارية لا تحقق لها الا في وعاء الاعتبار لكون حدوثها
منوطا بحدوث الاعتبار ، وبقائها منوطا بدوام الاعتبار ، ولا شيء من الحقائق
التكوينية ـ متأصلة كانت أو انتزاعية ـ كذلك.
ومن الواضح : عدم
تحقق التضاد في الامور الاعتبارية ـ بالمعنى الاخص للاعتبار ، لا بالاعم الشامل
للانتزاعيات ـ لكون مسرحه ـ كالتماثل غيرها ، لشهادة الوجدان بعدم التضاد بين
الاحكام ـ بلحاظ ذاتها ـ لو جردت عما يكتنفها في طرفي
المبدا والمنتهى
من الملاك ، والارادة ، ومقدماتها ، والجري العملي.
وعليه فيكون فرض
المعية الوجودية غير قادح في جواز الاجتماع ـ ان قصر النظر على الامر واقتضائه ـ فلا
بد أن يراد ـ مما في النهاية من أن المعية الوجودية بين الامرين تستلزم التضاد
بينهما ـ التضاد بالعرض ، فان التضاد قد يكون بالذات ـ وهو ما كان التضاد فيه
ذاتيا ناشئا من ذات المتضادين وقد يكون بالتبع ـ وهو ما كان التضاد فيه غيريا
معلولا لعلة خارجة عن الذات ، وقد يكون بالعرض وهو ما وصف بالتضاد تجوزا لملابسة
بينه وبين ما اتصف ـ حقيقة ـ به.
والاول : كالتضاد
بين المتعلقين.
والثاني : كالتضاد
بين الارادتين المتعلقتين بهما.
والثالث : كالتضاد
بين الامرين المنصبين عليهما.
وحينئذ فيقرر
الايراد : بأن التعدد الرتبي بين المتعلقين أو الارادتين لا يدفع محذور التضاد بعد
المعية الوجودية المفروضة بينهما.
ثم ان ما اعتبره
في النهاية من (المعية الزمانية) في التضاد لعله باعتبار المورد ، أو يراد به مطلق
المعية الوجودية وان لم تكن في افق الزمان ـ تجوزا ـ وإلّا فالتجرد لا يسوغ التضاد
ـ كما ألمع اليه السيد الوالد دام ظله في الاصول ـ ، ولذا يستحيل اتصاف المجرد
بالاوصاف المتضادة كاستحالة اتصاف المادي بها.
النقض بأخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم ضده
(رابعا) : لو كان
الاختلاف الرتبي مجديا في دفع التطارد لاجدى في أخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم ضده
لتأخره عنه برتبتين ـ لتأخر العلم فيما نحن فيه عن معلومه والمحمول عن موضوعه ـ فيخرج
الحكمان عن المزاحمة في
التأثير بنفس
التقريب المتقدم.
ووحدة سنخ الحكم ،
وتعدد المتعلق في الامر الترتبي بخلاف مورد النقض لا تصلح فارقا ـ على فرض التسليم
ـ ، بعد وحدة الملاك ، اذ كما ان الحكمين في مورد النقض متضادان كذلك الحكمان في
مورد الترتب ـ لسراية التضاد من المتعلقين الى الحكمين ـ فالتعدد الرتبي ان أجدى
في دفع التضاد بين الحكمين أجدى في مورد النقض أيضا ، وان لم يجد لم يجد في الامر
الترتبي أيضا.
ويرد عليه :
عدم تسليم
الملازمة ، لعدم انحصار محذور الاخذ المذكور في تزاحم الاقتضائين كي ينظر به
المقام ، بل يمكن أن يكون استلزامه للغوية ـ مثلا ـ ، لامتناع تصديق المكلف به ،
لفرض علمه بالضد فلا يمكن جعله بداعي جعل الداعي الامتثالي ، لعدم ترتبه عليه ،
وما لا يترتب على الشيء في علم الجاعل لا يمكن أن يكون غرضا للجعل.
نعم لا بأس بجعله
بدواع أخر ، على ما حرر في محله ، فما نحن فيه من صغريات الردع عن العمل بالقطع ،
واستحالته نابعة من استحالته.
(اللهم) إلّا أن
يقال بجريان محذور اللغوية في المقام أيضا ، لامتناع تصديق المكلف بأمرين متواردين
على متعلقين متضادين ، لمكان التضاد القائم بينهما ، فيلزم من منع تسويغ أحدهما ـ وهو
أخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم ضده ـ منع تسويغ الآخر ، وبعبارة اخرى : كلا
المقامين من مصاديق توجيه حكمين متضادين الى المكلف فتكون المحاذير مشتركة بينهما
، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.
(لكن) هذا الكلام
لا يخلو من نظر على ما سيأتي في أدلة القول بامكان الترتب إن شاء الله تعالى.
النقض بتقييد الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم
(خامسا) : ما في (مباحث
الدليل اللفظي) من النقض بما اذا قيد الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم ، فانه فيه
تتعدد رتبة الامرين واقتضائهما ، مع عدم ارتفاع غائلة تعلق الامر بالضدين بذلك.
ويرد عليه نظير ما
ورد على سابقه بتقريب :
ان سد باب العدم
على (تقييد الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم) من ناحية تطارد الامرين ، بتعدد
الرتبة لا يجدي في جوازه ، وان أجدى في (التقييد بالعصيان) فرضا لان وجود الشيء
مشروط بسد جميع أبواب العدم عليه ـ فان تحقق الشيء ـ مرهون بوجود علته التامة ،
ولا تحصل إلّا بسد جميعها عليه بخلاف عدمه الذي يكفي فيه انفتاح باب واحد من أبواب
العدم ، ولو مع سد جميع الابواب الأخر فسد باب العدم على (التقييد بالفعلية) من
ناحية تزاحم الاقتضائين بتعدد الرتبة لا يجدي ما لم ينسد باب العدم من النواحي
الأخر ، كلزوم اللغوية ، اذ يكون الامر بالاهم لغوا ، لعدم صلاحيته للمحركية
والباعثية ، فيلغو جعله ، بل يستحيل انقداح الداعي لجعله في نفس المولى لوجود
المانع عن الانبعاث نحوه عند فعليته ـ وهو الامر بضده ـ والمانع الشرعي كالعقلي
فكما يستحيل انقداح الداعي الحقيقي للامر الجدي بالمحال العقلي ، كذلك يستحيل
انقداح الداعي للامر بالمحال الشرعي.
وعليه : فلا يصح
النقض على (الامر الترتبي المنوط بالعصيان) ب (الامر الترتبي المنوط بالفعلية)
لامكان التفريق بينهما بامكان الاول ـ لاجداء تعدد الرتب وعدم اللغوية ـ واستحالة
الاخير ـ للغوية ـ.
وسوق باقي الكلام
فيه كسوقه فيما تقدمه.
النقض بتقييد الامر بالمهم بامتثال الامر بالاهم
(سادسا) : ما في
المباحث ـ أيضا ـ من النقض بما اذا قيد الامر بالمهم بامتثال الامر بالاهم لا
بعصيانه ، فان تعدد الرتبة لا يجدي حتى عند القائل بالترتب.
وأجاب عنه : بأنه
على تقدير الامتثال يكون فعل المهم غير مقدور في نفسه ، اذ الضد المقيد بوجود ضده
ممتنع ، فيكون الامر به أمرا بالممتنع في نفسه ، بخلاف الامر بالضد حال ترك ضده ،
اذ هو مقدور في نفسه.
وفيه : ان مقدورية
(فعل الشيء) ـ أي المهم ـ حال (ترك الضد) ـ أي الاهم ـ انما تتم لو أخذ مطلقا وبما
هو هو ، أما لو أخذ بما انه مأمور بضده ـ الاهم ـ فلا فرق بين الحالين في استحالة
الشيء ـ أي المهم ـ لوجود المانع عنه ـ وهو الامر بضده الاهم ـ.
نعم : عدم قدرة
المكلف على اتيان المهم ـ حين ترك الاهم ـ شرعي أما عدم قدرته عليه ـ حين الاتيان
بالاهم ـ فهو عقلي لكن ذلك لا يكون فارقا لان المانع الشرعي كالعقلي ، وليس عدم
القدرة شرعا باعتبار اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، بل باعتبار داعوية الامر
بالاهم الى امتثاله وصرفه قدرة المكلف نحوه ، فلا يبقى للمكلف قدرة شرعية لصرفها
في الاتيان بالمهم.
وبعبارة اخرى :
داعوية الامر بالاهم الى امتثاله مساوقة لا فناء موضوع الامر بالمهم ـ شرعا ـ فيكون
تقريب الامر بالاهم للمكلف نحو امتثاله مساوقا للتبعيد عن امتثال الامر بالمهم.
هذا ولكن سيأتي في
أدلة الامكان عدم مانعية الامر بالاهم عن المهم فالكبرى ـ وهي ان المانع الشرعي
كالعقلي ـ وان كانت مسلمة ، إلّا ان صغروية المقام
لها واندراجها تحت
موضوع (المانع) ممنوعة فتأمل.
نزول الامر بالاهم الى مرتبة الامر بالمهم
(سابعا) : ما في
المباحث أيضا من (ان الامر بالمهم وان لم يصعد الى مرتبة الامر بالاهم ، ولكن
الامر بالاهم ينزل الى مرتبة الامر بالمهم ، فان العلة وان كانت أقدم من المعلول
رتبة ، لكن معنى ذلك عدم تقيد العلة بالرتبة المتأخرة ، لا انها متقيدة بالرتبة
المتقدمة ، بل لها اطلاق ، فيلزم فعلية الاقتضاءين في الرتبة المتأخرة) انتهى.
وفيه : انه لا
يعقل تجافي المتقدم عن رتبته ، ليكون في المرتبة المتأخرة ـ كما هو في المرتبة
المتقدمة ـ بداهة انه لا يكون التقدم والتأخر الا لملاك يقتضيهما ، ومع حصول ملاك
التقدم في الشيء لا يعقل أن يحصل فيه ملاك التأخر أيضا ، اذ هو جمع بين المتنافيين
، كيف لا ..؟ والرتبة هي نحو وجود الشيء ـ على ما سبق ـ فما اتصف بنحو من الوجود
كيف يكون موصوفا بنحو آخر منه؟
فمثلا : ملاك
التقدم بالطبع أن لا يكون للمتأخر وجود الا وللمتقدم وجود ، ولا عكس ، فانه يمكن
أن يكون للمتقدم وجود وليس للمتأخر وجود ، كالواحد والكثير ، فانه لا يمكن أن يكون
للكثير وجود الا والواحد موجود ، ويمكن أن يكون الواحد موجودا والكثير غير موجود ،
فوجود المتقدم بالطبع في الرتبة المتأخرة مساوق لتوقف الوجود عليه ، ـ بمقتضى كونه
في الرتبة المتقدمة ـ وعدم توقفه عليه ـ بمقتضى كونه في الرتبة المتأخرة ـ كما ان
وجود المتقدم بالعلية في الرتبة المتأخرة مساوق لاستناد الوجوب اليه وعدم استناده
اليه وهو تهافت.
نعم : لو لم يرد
بالرتبة : الرتبة العقلية ، بل المعية الوجودية الخارجية أمكن اجتماع المتقدم مع
المتأخر ، كالعكس لكنه لا يجدي في دفع كلام النهاية لكون مفاده : ان اجتماع
الامرين في الوجود غير ضائر بعد التعدد الرتبي العقلي فيما بينهما.
والحاصل : انه ان
اريد الرتبة العقلية الاصطلاحية فلا محصل له ، وان اريد الرتبة الوجودية الزمانية
فلا يجدي ، اذ المحقق الاصفهاني لم ينكر ـ فيما نقله ـ اجتماع المتقدم مع المتأخر
في الزمان بل تمسك باختلاف رتبة الامرين لدفع محذور التطارد بينهما.
ومن هنا يعلم :
أنه لا بد من أن يراد بالمرتبة في كلام صاحب الكفاية (قده) : (التقدير) لا (الرتبة
الاصطلاحية) ، فيكون مفاد كلامه : أنه على تقدير امتثال الامر بالاهم لا يتحقق
التطارد بين الامرين ، لعدم وجود الامر بالمهم ، لانتفاء موضوعه أما على تقدير
العصيان فيتطارد الامران لاجتماعهما في مرتبة وجودية واحدة.
الايراد الثانى
(ثانيها) :
ما نقله في (المباحث) من (ان الامر
بالمهم معلول لعصيان الاهم ، وسقوط الاهم أيضا معلول لعصيان الاهم ـ أو ما هو لازمه وهو انتفاء الموضوع ولو
بنحو الشرط المتأخر ـ لان العصيان كالامتثال سبب للسقوط ، فالامر بالمهم مع سقوط
الاهم في رتبة واحدة لانهما معلولان لشيء واحد ، ففي رتبة الامر بالمهم لا أمر
بالاهم كي يقتضي الامتثال ، فلا يتنافى الامران).
ولا يخفى أن هذا
الايراد (ليس) مسوقا بلحاظ الزمان ليورد عليه بأن تحقق
موضوع الترتب منوط
بتعاصر فعلية الامرين ، فسقوط الامر بالاهم حين فعلية الامر بالمهم خروج عن موضوع
الترتب (بل) هو مسوق بلحاظ الرتب التحليلية العقلية مع تعاصر فعلية الامرين خارجا.
ولكن يرد عليه :
أولا : ما سبق من
أن ملاك التضاد هو المعية الوجودية ، فالاختلاف الرتبي لا يدفع التضاد ـ بعد تحقق
المعية الوجودية الخارجية ـ.
ثانيا : ان سقوط
الاهم ليس معلولا لعصيان الاهم ، كما أنه ليس معلولا لفوات الموضوع.
أما الدعوى الاولى
: فلما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ من عدم علية العصيان لسقوط الامر.
وأما الدعوى
الثانية : فلعدم العلية في الاعدام ، وواقع الامر هو انتفاء العلقة العلية بين
وجود الموضوع ـ بالمعنى الاعم ـ وثبوت الامر بالاهم ، فالتعبير بكون انتفاء
الموضوع علة لسقوط الامر بالاهم ليس حقيقيا ، بل هو مسوق على سبيل التقريب
والمجاز.
ثالثا : سلمنا كون
سقوط الاهم معلولا لفوات الموضوع ، لكن انتفاء الموضوع ليس لازما للعصيان ، بل
العصيان مصاحب اتفاقي لفوات الموضوع ، وقد تقرر ـ في محله ـ ان الرتب لا تقتنص
بالملازمة الدائمية ، فكيف بالصحابة الاتفاقية؟ فعلية الفوات للسقوط لا تقتضي علية
العصيان ـ الملازم له ـ للسقوط.
اللهم إلّا أن
يقال : بكفاية اتحاد المعاليل في طبيعي الرتبة ، وان لم تتحد في شخصها ، فالامر
بالمهم وسقوط الامر بالاهم وان لم يكونا معلولي علة واحدة ليكونا في رتبة شخصية
واحدة ، إلّا أن كونهما معلولين ـ ولو لعلتين مختلفتين ـ يسبغ عليهما وحدة الرتبة
، اذ كلاهما في رتبة معلولية لاحقة ، كما أن علتيهما في
رتبة متقدمة سابقة
، فتأمل ـ.
رابعا : لو سلم
كون سقوط الاهم معلولا لانتفاء الموضوع اللازم للعصيان لم يجد في المقام ، ضرورة
تأخر المعلول عن علته واللازم عن ملزومه ، فيكون سقوط الاهم متأخرا عن عصيان الاهم
برتبتين ، والمفروض أن وجود المهم متأخر عن عصيان الاهم برتبة واحدة ـ لمكان أخذه
فيه ـ فيجتمع الامران في الرتبة السابقة على سقوط الامر بالاهم.
الايراد الثالث
(ثالثها) : ما نقله في المباحث من (أن
ترتب الامر بالمهم على عصيان الامر بالاهم المترتب على الامر بالاهم مانع عن
مزاحمته له ، اذ ما يكون وجوده
في طول وجود شيء آخر يستحيل أن يكون مانعا عنه ، لانه ان كان مانعا في ظرف عدمه
لزم مانعية المعدوم وان كان مانعا في ظرف وجوده فظرف وجوده هو ظرف ثبوت الاول في
رتبة سابقة فمانعيته عنه خلف ، بل تستلزم أن يكون مانعا لنفسه ، واذا لم يكن الامر
بالمهم طاردا للامر بالاهم فلا وجه لفرض العكس لان ملاك المطاردة هو التضاد ، ولو
كان لتحققت المطاردة من الطرفين).
ويرد عليه أمور :
(الاول) عدم تسليم
الطولية بين (الامر بالاهم) و (عصيان الامر بالاهم) لان العصيان معلول لعلله
التكوينية الخاصة ، ولا يقع (الامر بالاهم) في سلسلة تلك العلل عادة.
وهذا الجواب يصح
فيما لو أريد بالعصيان : مجرد الترك ، وأما لو أريد به الترك بما هو موصوف بكونه
عصيانا ومخالفة لامر المولى فلا ، اذ المعصية الانتزاعية
في طول الامر
بالاهم ، باعتبار تقدمه عليها بالطبع ، اذ لا تحقق لها بدونه ، مع امكان تحققه
بدونها ، وقد سبق ذلك.
(الثاني) ان وجود
نسبة التضاد بين شيئين يمنع العلية بينهما ، لان رابطة العلية مستلزمة للتعاصر
الزمني بين العلة والمعلول فيلزم منها فيهما اجتماع الضدين في آن واحد ، وهو محال.
هذا في العلة التامة ..
وأما في غيرها
فكذلك مع وجود ما رتب عليه غيره ـ كما هو كذلك في المقام ـ والامر بالاهم وان لم
يضاد الامر بالمهم بالذات ، لكنه يضاده بالعرض لكونه معلولا لعلة مضادة لعلة الامر
بالمهم ـ وهي ارادة الاهم التي تضاد ارادة المهم ـ ولا يعقل أن يكون معلول علة
مضادة لعلة معلول آخر واقعا في سلسلة علل ذلك المعلول الآخر لانه يستلزم اجتماع
الضدين بالنتيجة ، بمقتضى ارتهان وجود كل معلول بوجود علته.
وبعبارة أخرى :
تضاد الارادتين (تبعا لتضاد المتعلقين) يستتبع تضاد الحكمين بالعرض ، فكيف يقع
أحدهما في سلسلة علل الآخر؟
ومنه ينقدح عدم
خلو هذا الوجه ـ المنقول في المباحث ـ عن المصادرة اذ مدعى صاحب الكفاية (قده) هو
: مانعية التضاد في المقام عن الترتب ، فرده برافعية الترتب للتضاد مصادرة ،
واختبر ذلك فيما لو أريد رفع التضاد بين السواد والبياض مثلا بترتب أحدهما على
الآخر ، اذ مدعي التضاد يمنع وقوع الترتب ومع عدم وقوع الرافع لا يعقل الرفع
بمقتضى قاعدة الفرعية.
هذا ولكن سيأتي
عدم تحقق التضاد بين الامرين في أدلة القول بالامكان ، إن شاء الله تعالى.
وأما الايراد على
هذا الوجه ـ المنقول في المباحث ـ باستلزامه للدور بتقريب : أن الترتب موقوف على
عدم التضاد فتوقف عدم التضاد عليه دوري ففيه :
أن نحوي التوقف
مختلفان فأحدهما ثبوتي والآخر اثباتي ، ولا مانع منه ، نظير توقف الدخان على النار
ـ ثبوتا ـ مع توقفها عليه اثباتا ونحوه جميع البراهين الإنّية التي ينتقل فيها من
المعلول الى العلة.
(الثالث) انه كما
يصح نعت كل من الضدين ب (المطاردة) لو لوحظا بما هما كذلك يصح نعت أحدهما المعين ب
(الطرد) للآخر لو لوحظ سبقه في الوجود ـ لاهمية أو غيرها ـ اذ الضد السابق في
الوجود يمنع ضده من التحقق ما دام موجودا. نعم يمكن أن يرتفع ـ بارتفاع علته ـ فيحل
محله بديله.
والامر كذلك فيما
نحن فيه ، اذ انقداح ارادة الاهم في نفس المولى مانع عن انقداح ارادة المهم في
نفسه ـ لسراية التضاد من المتعلقين الى الارادتين ـ فلا يكون معه له مجال أصلا.
وعلى هذا : ففرض (التطارد)
بين الارادتين مبني على ملاحظتهما بما هما هما وفرض (الطرد) مبني على ملاحظة
انقداح ارادة الاهم المانعة عن انقداح ارادة المهم وهذا الامر مطرد في جميع
الاضداد ، فقولنا (السواد والبياض ـ مثلا ـ متطاردان) مبني على ملاحظتهما بما هما
هما وقولنا (السواد طارد للبياض) مبني على ملاحظة وجوده المانع من تحقق ضده ـ ما
دام موجودا ـ.
ولعل المشكيني (رحمهالله) نظر الى الفرض الاول حيث منع الطرد من جانب واحد بقوله : (ان
عدم طرد طلب المهم لطلب الاهم مع طرده له فرض غير متحقق ، لانه اذا فرض طرد طلب
الآخر فلا محالة يحصل الطرد من الآخر أيضا) فتأمل.
وأما ما نقله
المحقق الاصفهاني (قده) في تصوير الطرد من طرف الامر بالاهم فقط من (ان تمامية
اقتضاء الامر بالمهم حيث أنها بعد سقوط مقتضي الاهم عن التأثير فلا يعقل أن يزاحمه
في التأثير ، لكن الامر بالاهم لم يسقط بعدم التأثير عن
اقتضاءه للتأثير ،
ولذا لا يسقط الامر بالاهم بمقارنة عصيانه بل بمضي زمانه ، فحيث أنه بعد يقتضي
التأثير فيزاحم المقتضي الآخر في التأثير).
ففيه : أنه ان
اريد بالبعدية في قوله (ان تمامية اقتضاء الامر بالمهم بعد سقوط مقتضى الاهم عن
التأثير) البعدية الزمانية فهو خروج عن موضوع الترتب ، لاشتراط تعاصر الفعليتين
فيه ، وان اريد البعدية الرتبية فلا يجدي في ما رامه ، اذ الامران ان كانا ضدين كان
التطارد بينهما من الجانبين وان لم يكونا ضدين لم يكن طرد أصلا ـ ولو من قبل
أحدهما للآخر ـ فلا وجه لفرض الطرد من جانب الاهم فقط.
وبتقرير آخر : انه
ان اريد اناطة اقتضاء الامر بالمهم بسقوط الامر بالاهم عن اقتضاء التأثير فهو
ممنوع لخروجه بذلك عن موضوع الترتب ، وان اريد اناطته بسقوطه عن فعلية التأثير فهو
مسلم لكنه يستلزم تعاصر الامرين فاما ان يكون التطارد من الجانبين ، واما ان لا
يكون ثمة طرد أصلا.
هذا مضافا الى ما
ذكره المحقق الاصفهاني (قده) بقوله :
(ان المقتضي وان
كان في طرف الاهم موجودا ، لكنه لا يترقب منه فعلية التأثير بعدم مقارنته لعدم
التأثير ، وإلّا لزم الخلف أو الانقلاب أو اجتماع النقيضين ، وما لا يترقب منه
فعلية التأثير لا يزاحم ما له امكان فعلية التأثير بحيث لا يمتنع تأثيره ذاتا
ووقوعا وبالغير) فتأمل.
ثم ان كلية ما ذكر
في هذا الجواب ـ المنقول في المباحث ـ من استحالة مانعية ما يكون وجوده في طول
وجود شيء آخر عنه لا تخلو من نظر ، وذلك لان الطولية بين شيئين أعم من العلية
بينهما ، اذ ما يكون في طوله آخر ان كان بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم
فهو علة والآخر معلول ، وان كان بحيث يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود
فالآخر في طوله بلا علية ومعلولية فما يكون في طوله آخر ـ بدون وجود العلقة العلية
بينهما ـ يمكن ـ في الجملة ـ
وبتعبير آخر : ان
عدم المعلول مع وحدته يتصور له حصص حيث انه تارة يستند الى عدم المقتضي وأخرى الى
عدم الشرط وثالثة الى وجود الضد ، فربما يكون العدم المطلق بجميع حصصه مأمورا
بطرده وربما يكون ببعض حصصه ووجود كل ماهية وان لم يعقد إلّا بسد باب عدمه بجميع
حصصه لان الوجود الواحد ليس له حيث وحيث لتكون الماهية الواحدة موجودة من حيثية
ومعدومة من حيثية ، لكنه ربما يكون باب عدمه من حيثية منسدا من باب الاتفاق او يفرض
سده فيؤمر بسد عدمه بسائر حصصه ، فاذا كانت الحصة الملازمة لوجود الضد مأمورا
بطردها من الطرفين كان مرجع الامرين الى الامر بطرد الحصتين المتقابلتين وهو محال
، واما لو كان الامر في أحد الطرفين بسد باب العدم وطرده بسائر حصصه في ظرف انفتاح
باب عدم الحصة الملازمة لوجوده فلا أمر بطرد الحصتين المتقابلتين).
وقال المحقق
العراقي (قدسسره) في نهاية الافكار ـ ضمن كلام له ـ :
(ان عمدة المحذور
في عدم جواز الامر بالضدين هو لزوم ايقاع المكلف فيما لا يطاق بلحاظ اقتضاء كل
واحد من الامرين لصرف القدرة نحو متعلقة ومن المعلوم ان هذا المحذور انما يكون اذا
كان كل واحد من الامرين تاما بنحو يقتضي حفظ متعلقه على الاطلاق حتى من ناحية ضده
، اما لو كانا ناقصين أو كان أحدهما تاما والآخر ناقصا بنحو لا يقتضي إلّا حفظ
متعلقه من قبل مقدماته وأضداده غير هذا الضد فلا محذور اصلا ، حيث لا يكون مطاردة
بين الامرين في مرحلة اقتضائهما حتى يكون منشئا لتحير العقل ويصدق أن المولى من
جهة أمره اوقع المكلف فيما لا يطاق ، وذلك لان الامر بالاهم حسب كونه تاما وان
اقتضى حفظ متعلقه على الاطلاق حتى من ناحية ضده فيقتضي حينئذ افناء المهم أيضا ،
ولكن اقتضائه لافناء المهم انما هو بالقياس الى حده الذي يضاق عدمه اليه لا مطلقا
حتى بالقياس الى حدوده الأخر التي لا تضاد وجود الاهم.
وحينئذ فاذا لم
يكن الامر بالمهم ـ حسب نقصه ـ مقتضيا لحفظ متعلقه على الاطلاق حتى من الجهة
المضافة الى الاهم بل كان اقتضاؤه للحفظ مختصا بسائر الجهات والحدود الأخر غير
المنافية مع الاهم في ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قبل الاهم فلا جرم ترتفع
المطاردة بينهما ، حيث أن الذي يقتضيه الامر بالاهم من افناء المهم بالقياس الى
الحد المضاف عدمه اليه لا يقتضي الامر بالمهم خلافه ، وما اقتضاه الامر بالمهم من ايجاب
حفظ متعلقه من سائر الجهات الأخر لا يقتضي الامر بالاهم افنائه من تلك الجهات
فأمكن حينئذ الجمع بين الامرين ..).
ويرد على التقرير
الاول ـ الذي أفاده المحقق الاصفهاني ـ امور :
(الاول).
ان وجود الشيء وان
كان طاردا لجميع اعدامه المضافة الى اعدام مقدماته أو وجود اضداده ، إلّا أن طلب
مثل هذا الوجود لا يقتضي طلب طرد تلك الاعدام لان الامر الشرعي ـ المتعلق بايجاد
الاهم أو المهم ـ شيء وحداني لا تكثر فيه ، حسب ما قرر في مسألتي (الضد) و (مقدمة
الواجب) فقياس الطلب الاعتباري بالوجودات التكوينية لا يخلو من نظر.
اللهم إلّا أن
يراد بالاقتضاء : العقلي ـ لا الشرعي ـ ويساق البرهان المزبور بلحاظه ، لا بلحاظ
الاقتضاء الشرعي.
(الثاني).
ان محذور الامر
بطرد الحصتين المتقابلتين جار في الامر الترتبي أيضا ، وذلك لعدم سقوط الامر
بالاهم بعصيانه ـ ما لم يفت الموضوع بعد كما هو المفروض في المقام ـ ففي ظرف
العصيان يكون طلب الاهم مستلزما لسد باب عدمه بجميع حصصه ومنها الحصة الملازمة
لوجود الضد المهم ، ومن الواضح ان طرد عدم الشيء لا يتحقق إلّا بطرد ضد ذلك الشيء
، فيكون المهم مأمورا بطرده ، وهكذا الامر في طرف المهم
فيكون كل منهما
مأمورا بطرده ، لكن لا مطلقا ، بل في هذه الحالة.
ولا فرق في
استحالة الشيء ـ أو قبحه ـ بين لزومهما على كل تقدير ـ كما في الامر بالضدين مطلقا
ـ أو على تقدير دون تقدير ـ كما في الامر المسوق على سبيل الترتب ـ اذ المحالية
وصف لازم للمحال فلا ينفك عنه أبدا ، فلا يعقل ان يتحقق ولو على بعض التقادير كما
لا يخفى.
وعلى هذا فقول
المحقق الاصفهاني (لا منافاة بين قيام المولى .... الخ) أن أريد به عدم المنافاة
مطلقا ففيه : ان الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية ، والمنافاة متحققة على
تقدير العصيان ، وان أريد به عدم المنافاة المطلقة ففيه : ان عدمها لا يكفي في
الحكم بالامكان ، اذ لزوم المحذور أحيانا كاف في الحكم بالاستحالة.
وفيه : ان الامر
بطرد عدم المهم مشروط بعصيان الاهم ، ففي ظرف انعدام الاهم يكون المهم مأمورا بطرد
عدمه ، ومن المقرر ان المشروط لا ينقلب مطلقا ، مطلقا ولو بعد تحقق شرطه ، وعلى
هذا يكون الامر بطرد الاهم ـ الذي هو باب من أبواب عدم المهم ـ تحصيلا للحاصل ، اذ
أخذ وجوب المهم في ظرف عدمه ، فلا يعقل الامر بطرده ، فلا يكون ثمة أمر بطرد
الحصتين المتقابلتين ولو في تقدير العصيان.
اللهم إلّا أن
يقال : انه وان صح ذلك بلحاظ الامر الشرعي ، إلّا أنه لا يصح بلحاظ الامر العقلي
الواقع في سلسلة معاليل الامر الشرعي ، اذ العقل بعد تحقق شرط الواجب المشروط يأمر
به منجزا بلا تعليق ، فيلزم من الامر الترتبي الشرعي أمر العقل بطرد الحصتين
المتقابلتين ، وهو محال ، فتأمل.
(الثالث) :
لو فرض عدم
استلزام الامر الترتبي للامر بطرد الحصتين المتقابلتين ، لكن يلزم منه حصول
التناقض بين الامر بالمهم ـ عند تحقق مقدم شرطية وجوب المهم ـ والامر بطرد عدم
الاهم مطلقا ، ولو كان عدمه معلولا لوجود المهم ،
فعند تحقق مقدم
الشرطية يكون المهم مأمورا به ـ لمكان تحقق شرطه ـ ومنهيا عنه لان الامر بالاهم (المفروض
عدم سقوطه بمجرد العصيان) يقتضي حفظ متعلقه من جميع الجهات حتى من قبل وجود ضده
المهم ، فيكون المهم منهيا عنه ، لانه باب من أبواب عدم الاهم ، فيكون المهم مصبا
لاجتماع الحكمين المتضادين ، وهو محال.
(الرابع):
استحالة الامر
بطرد الحصتين المتقابلتين المتحقق في مورد الامر بطرد عدم الاهم مطلقا ولو كان
معلولا لوجود المهم ، وعدم المهم مطلقا ولو مع نشوه من وجود الاهم ، وبعبارة اخرى
: الامر بالضدين مطلقا المستلزم بناء على الاقتضاء للامر بطرد عدمهما مطلقا ـ ليست
بالذات ، بل هي استحالة عرضية تنشأ من انه تكليف بالمحال لعدم قدرة المكلف على
الجمع بين الضدين ، وهذا محذور في المنتهى ، ومن انه تكليف محال لعدم تعلق الارادة
ومبادئها بالمتضادين ، بسبب سراية التضاد من المراد الى الارادة ، وهذا محذور في
المبدا ، ولا فرق في ترتب هذا المحذور في نظر العقل بين الامر بالضدين مطلقا ، أو
على سبيل الترتب لوحدة الملاك في الاثنين فتأمل.
(الخامس) :
ان ملازمة وجود
المهم لعدم الاهم ـ المنهي عنه حسب الفرض ـ مقتضية ـ على الاقل ـ لكون وجود المهم
غير محكوم بحكم أصلا لاستحالة اختلاف المتلازمين في الحكم على ما قرر في محله ،
فلا يمكن أن يكون وجود المهم متعلقا للوجوب الترتبي ـ فتأمل.
ويرد على التقرير
الثاني ـ الذي أفاده المحقق العراقي ـ مضافا الى بعض ما تقدم :
انه وان كان للعقل
أن ينتزع من المتعلق حيثيات وجهات متعددة ، وان يحلل
الامر الشرعي
الواحد الى أوامر متعددة ـ بمقتضى استلزام ارادة العقل للشيء مجموعة من الارادات
الجزئية المتعلقة بطرد اعدامه المضافة الى اعدام مقدماته أو وجود أضداده ـ إلّا ان
التكثير العقلي ـ للمتعلق أو الامر ـ لا يستلزم تكثر الشيء خارجا ، فان تعدد
الجهات التحليلية العقلية لا يثلم الوحدة الخارجية للشيء ، بداهة امكان انتزاع
عناوين متعددة من موجود واحد خارجي دون أن تنثلم بذلك وحدته الخارجية ، كما في
مفاهيم صفات الجمال والجلال في الواجب ، وعناوين المعلوم والمقدور ونحوها في
الممكن ، ومع انحفاظ الوحدة الخارجية للمتعلقين لا يجدي تعدد الجهات الانتزاعية في
دفع التضاد القائم بينهما ، فيسري التضاد من المتعلقين الى الطلبين ، فلا يصح
الامر بهما ولو على سبيل الترتب ، فما يظهر من المحقق العراقي (قده) من تكثير جهات
المهم ، ودفع التنافي بين الامرين بذلك لا يخلو من تأمل.
مع انه لو فرض
استلزام تعدد العناوين والحيثيات لتعدد المعنون لم يجد ذلك أيضا ، لمكان التركيب
الانضمامي بين المعنونات ، وهو مانع عن الامر الترتبي بالضدين ، كيف لا؟ وقد ذكروا
استحالة اختلاف المتلازمين في الحكم ، مع عدم وجود التركيب بينهما ، فكيف
بالمتحدين؟
الايراد الخامس
(خامسها) ما أورده صاحب الكفاية (قدسسره)
على نفسه قال :
«لا يقال : نعم
ولكنه بسوء اختيار المكلف ، حيث يعصي فيما بعد بالاختيار فلولاه لما كان متوجها
اليه الا الطلب بالاهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع اذا كان بسوء الاختيار ...».
وفي (الوصول) :
التمثيل للفقرة الاخيرة من كلام صاحب الكفاية (قدسسره) بما لو توسط الدار المغصوبة ، اذ حينئذ يتوجه اليه خطابا «لا
تغصب بالخروج عن الدار» و «لا تغصب بالبقاء في الدار» فيكون كل من بقاءه وخروجه
محرما مع انه لا يتمكن الا من أحدهما ، فتحريم كليهما تحريم للضدين اللذين لا ثالث
لهما ، مما لا يخلو المكلف منهما على سبيل منع الخلو ، فكما ان تحريم الضدين
الناشئ من سوء الاختيار غير مستحيل كذلك طلب الضدين الناشئ منه ـ انتهى.
ونحوه من أوقع
نفسه في الاضطرار فدار أمره بين الموت جوعا وأكل الحرام.
وفيه :
(أولا) ان طلب
المحال قبيح على الحكيم مطلقا ، ولو كان بسوء الاختيار.
والسبب في ذلك ان
الامر انما يساق بداعي ايجاد الداعي في نفس العبد ، ويستحيل ايجاد الداعي نحو
المحال في نفس المكلف ، اذ الداعي انما يمكن وجوده في ظرف الاختيار ، ولا يمكن ذلك
بالنسبة الى المحال ، فتأمل ـ.
ويشهد له قبح خطاب
المولى عبده بالمحال ولو كان ذلك بسوء اختياره ، فلو سقط العبد من شاهق لم يصح
للمولى نهيه حال السقوط عن الارتطام بالارض ـ اذا لم يكن ذلك داخلا تحت قدرته ـ ولو
نهاه والحال هذه عد عابثا عند العقلاء.
نعم لا مانع من
نهيه عن ذلك من قبل ، اذ المقدور بالواسطة مقدور.
ولا فرق في ذلك
بين كون الخطاب جزئيا شخصيا أو كليا قانونيا ، اذ المحال ـ أو القبيح ـ لا ينقلب
عما هو عليه بمجرد تبديل صياغته اللفظية ، فخطاب العاجز ـ مثلا ـ حال عجزه قبيح
مطلقا ، سواء كان بتوجيه الخطاب الشخصي نحوه ، أو بادراجه تحت كلي يستوعبه ويعمه.
لا يقال :
الامتناع بالاختيار لا ينافيه.
فانه يقال :
أولا : لا موضوع
للقاعدة في المقام ، لارتهان تحققه بعدم وجود المندوحة ، وهي حاصلة في المقام ، اذ
يمكن للمكلف أن يمتثل الامر بالاهم مما ينتفي به موضوع الامر بالمهم ، فلا يكون
ثمة عصيان أبدا ، وعلي ذلك فلا (امتناع) في المقام.
وثانيا : ان
الامتناع بالاختيار ـ وكذا الايجاب به ـ وان لم يناف الاختيار عقابا ، إلّا انه
ينافيه خطابا ، ولا ملازمة بين استحقاق العقاب وجواز الخطاب فيمكن ثبوت الاول
وانتفاء الثاني.
ولا ينافيه ما دل
على عدم العقاب عند عدم بعث الرسول اذ انتفاء الفعلية أعم من انتفاء الاستحقاق ،
ولفرض وجود الخطاب قبل طرو العجز ، ولان الرسول يعم الحجة الظاهرة والباطنة فتأمل.
هذا فيما كان
الامتناع بالاختيار التسبيبي بأن كان الامتناع معلولا لعلله التكوينية الخارجة عن
ارادة المكلف ـ وان انتهى بالاخرة اليها ، كما في صورة تعجيز المكلف نفسه عن
امتثال الامر ـ أما لو كان الامتناع بالاختيار المباشري بأن كان الامتناع بسبب
اختيار العصيان فلا ينافيه عقابا ولا خطابا ، بداهة جواز تكليف الكفار والعصاة ـ بل
وقوعه ـ مع امتناع الاطاعة لعدم وجود عللها الارادية ، ومن المعلوم استحالة وجود
المعلول بدون وجود علته التامة ، إلّا أن هذه الاستحالة لا تنفي استحقاق العقاب ،
ولا جواز الخطاب ، كما هو واضح.
ولا يخفى ان
المقام من قبيل الاول ، اذ الجمع بين الضدين محال تكويني ، فتأمل.
(ثانيا) : النقض
بما ذكره صاحب الكفاية (قدسسره) من أنه لو صح
طلب الضدين في
صورة سوء اختيار العبد لصح طلب ذلك فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة
في تصحيحه الى الترتب مع أنه محال بلا ريب ولا اشكال.
مثاله : ما لو قال
المولى للعبد : ان زرت زيدا وجب عليك القيام والقعود في آن واحد. ونظيره ـ في غير
طلب الضدين من سائر أنواع المحال ـ أن يقول : ان طلقت زوجتك وجب عليك الطيران في
السماء.
(ثالثا) : ما ذكره
المشكيني (قدسسره) من :
(ان الطلب المتعلق
بالمحال محال فى نفسه ، لانه لا تنقدح ارادة الضدين في النفس مع العلم بالضدية ..
فطلب المحال من المستحيلات الذاتية مثل اجتماع النقيضين ، لا لقبحه حتى يقال :
بعدمه اذا كان بسوء الاختيار أو من غير الحكيم).
وأما التمثيل بمن
توسط الدار المغصوبة ونحوه ففيه بحث طويل ، محله باب اجتماع الامر والنهي فراجع.
.. هذه بعض
الاشكالات التي أوردت على الوجه الاول مما أفاده صاحب الكفاية (قدسسره) في استحالة الترتب ، وقد انقدح عدم نهوضها بدفع ما أفاده (قدسسره) ، وسيأتي تمام الكلام حول ذلك في أدلة القول بالامكان إن
شاء الله تعالى.
الوجه الثاني : تعدد الاستحقاق
(الوجه الثاني) ـ مما
أورد به على الترتب ـ :
ان استحقاق
العقوبة على مخالفة الامر المولوي لازم عقلي للمخالفة ، وهو غير قابل للوضع
بالذات. ولا للرفع كذلك.
أما الاول فلانه
تحصيل للحاصل.
وأما الثاني فلانه
تفكيك بين اللازم وملزومه.
نعم للشارع وضع
الاستحقاق بالعرض بوضع منشأ انتزاعه وله رفعه كذلك برفع منشأ انتزاعه ، كما في كل
أمر انتزاعي.
وعليه نقول :
لو كان هناك أمران
فعليان مولويان فيما نحن فيه لزم استحقاق المكلف عقابين لو خالف الامرين ، وهو
بمعنى استحقاق العقاب على ترك ما لا يكون داخلا تحت قدرة المكلف ـ أعني أحد
الفعلين ـ مع ان مناط حسن العقوبة هو : القدرة على الامتثال ، بل يلزم منه استحقاق
عقوبات غير محصورة للمكلف التارك لمجموع الاوامر الترتبية المتكثرة مع عدم القدرة
الا على امتثال أحدها.
فعدم تعدد
الاستحقاق كاشف اني عن عدم تعدد الامر.
وقد قرر هذا الوجه
المحقق النائيني (قدسسره) على نحو مانعة الجمع بقوله :
(القائل بالترتب
لا يخلو من أحد أمرين اما الالتزام بتعدد العقاب على تقدير عصيانهما معا والاشتغال
بفعل آخر ، أو الالتزام بعدم استحقاق العقاب على ترك الواجب المهم.
أما الاول فلا
سبيل له اليه ، فانه كما لا يمكن تعلق التكليف بغير المقدور كذلك لا يمكن العقاب
عليه أيضا ، وبما ان المفروض هو استحالة الجمع بين المتعلقين يستحيل العقاب على
تركهما معا.
وأما الثاني فهو
يستلزم انكار الترتب وانحصار الامر المولوي بخطاب
الاهم وكون الامر
بالمهم ارشادا محضا الى كونه واجدا للملاك حينئذ ، ضرورة انه لا معنى لوجود الامر
المولوي الالزامي وعدم ترتب استحقاق العقاب على مخالفته).
النقض بموارد الواجبات الكفائية
ويرد على هذا
الوجه أمور :
(الاول) : ما ذكره المحقق النائيني (قدسسره)
من النقض بموارد الاوامر الكفائية التي لا يمكن صدور الواجب فيها الا من بعض المكلفين على البدل ، مع ان جميع
المخاطبين يستحقون العقاب على مخالفته ، فكما ان استحالة صدور الواجب عن جميع
المخاطبين دفعة واحدة ـ لفرض امتناع الواجب بطبعه عن الاشتراك فيه ـ وتدريجا ـ لفرض
سقوط الامر بامتثال بعض المكلفين وعدم بقاء الموضوع لامتثال الباقين ـ لا تنافي
توجه الخطاب الى الجميع وصحة عقابهم على تقدير العصيان كذلك الحال في المقام ، فلو
كان تعدد العقاب عند تعدد العصيان مع عدم امكان ازيد من الاطاعة الواحدة مستلزما
لان يكون العقاب على غير المقدور لامتنع تعدد العقاب في التكاليف الكفائية أيضا.
وقد يورد عليه :
أولا : بما في (المباحث)
من ابراز الفرق بين المقامين فانه توجد قدرات متعددة بعدد المكلفين في الواجب
الكفائي ، اذ القدرة عرض متقوم بالمحل ، فمحلها ان كان أحد المكلفين تعيينا فهو
ترجيح بلا مرجح ، وان كان الجامع فلا وجود له بحده الجامعي في الخارج ، ومثله
الفرد المردد ، فلا محيص من أن يقال بقيام القدرة بكل واحد منهم غاية الامر ان
اعمال كل منهم لقدرته فرع عدم
المزاحم الخارجي الذي
منه سبق غيره الى الامتثال ، وهذا بخلاف المقام اذا ادعي وجود قدرة واحدة قائمة
بالمكلف الواحد على الجامع بين الضدين أي أحدهما.
وفيه : جريان
نظيره ـ لو سلم ـ في المقام أيضا ، اذ المفروض توفر القدرة لدى المكلف الموجه اليه
الخطاب الترتبي ، فمصب القدرة ان كان واحدا من متعلقي الخطابين تعيينا فهو ترجيح
بلا مرجح ـ وهو آيل الى الترجح بلا مرجح المساوق لوجود المعلول بدون وجود علته ـ وان
كان الجامع فلا تحقق له في الاعيان ، وان كان الفرد المردد فلا وجود له لا خارجا ،
لان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فكل شيء هو هو ، لا هو أو غيره ، ولا ذهنا لان
الذهن مرتبة من مراتب الخارج ، والتقابل بين الذهن والخارج انما يحصل بقياس أحدهما
الى الآخر وإلّا فالوجود مساوق للخارجية والموجود في الذهن انما هو المردد بالحمل
الاولي ، لا المردد بالحمل الشائع ، ولذا لا يوجب صدقه عليه واندراجه فيه ، لان
ملاكهما الشائع لا الاولي كما لا يخفى. فلا محيص عن تعلق القدرة بالاثنين.
وبتقرير آخر :
القدرة يمكن أن تطلق على معنيين :
أحدهما : صرف
المقتضي ـ كوجود القوة العضلية على العمل ، في قبال من أصيب بالشلل مثلا ـ.
وثانيهما :
المقتضي منضما الى عدم المانع.
وعلى كل تقدير فلا
فرق بين الوجوب الكفائي والترتبي ، اذ لو أريد المعنى الاول فالقدرة متوفرة في
المقامين ، لوجود القوة العضلية عند كل واحد من المكلفين في الواجب الكفائي ، وعند
المكلف على كل واحد من المتعلقين فى الواجب الترتبي ، ولو أريد المعنى الثاني
فالقدرة مشروطة في كلا المقامين ، اذ قدرة كل مكلف على أداء الواجب الكفائي الذي
لا يتحمل التكرار مشروطة بعدم
سبق غيره اليه ،
كما ان قدرة المكلف على أحد الضدين مشروطة بعدم تلبسه بالضد الآخر واشتغاله به.
وكأن المجيب لاحظ
القدرة بمعناها الاول في الواجب الكفائي ، وبمعناها الثاني في الواجب الترتبي ، مع
ان الامور لا تقاس بميزانين.
وثانيا : بعدم
تسليم تعدد العقاب في الواجبات الكفائية ، بتقريب :
ان التكليف واحد
في الواجبات الكفائية ـ لوحدة الملاك أو الغرض ، على اختلاف المبنيين ـ وليس في
مخالفة التكليف الواحد الا عقاب واحد.
فوحدة الملاك ـ أو
الغرض ـ تستلزم وحدة التكليف ، ووحدته تستلزم وحدة الطاعة أو العصيان ، ووحدتهما
تستلزم وحدة الثواب أو العقاب.
وعليه : فلم يعص
للمولى الا تكليف واحد ، ولم يفوت عليه الا غرض فارد ، فلا يستحق المكلفون الا
عقوبة واحدة تتوزع عليهم ، بمعنى انه لو كان للعاصي الواحد عقوبة معينة فانها
تتوزع على مجموع العصاة في الواجب الكفائي.
وهذا بخلاف مقام
الترتب ، اذ تتعدد فيه الاوامر ، تبعا لتعدد المبادي ، فقياس أحدهما على الآخر
قياس مع الفارق.
ويرد عليه :
أولا ـ عدم تسليم
وحدة الملاك في الواجب الكفائي ، اذ يحتمل ـ ثبوتا ـ كون الملاك بسيطا لا جزء له ،
وكونه مركبا من جزءين ـ أو أجزاء ـ على نحو الاستقلال في الباعثية ـ بأن كان كل
واحد منهما ذا باعثية تامة لو فرض منفردا ـ أو الانضمام ـ بأن كان كل واحد منهما
علة ناقصة ـ أو الاختلاف.
ثانيا ـ عدم تسليم
وحدة التكليف في الواجب الكفائي ، ولو مع تسليم وحدة الملاك ، لامكان تعدده فيه
اما بأن يقال بوجود وجوبات عينية بعدد المكلفين ولكنها مشروطة بعدم اتيان الآخرين
به.
أو يقال : بأن
الفعل واجب على جميع المكلفين ، إلّا ان هناك ترخيصا في الترك لكل منهم ، مشروطا
بفعل الآخر.
أو يقال : بتحريم
ترك الفعل المنضم الى ترك الآخرين ، لا مطلق الترك ، على كل واحد من المكلفين.
أو يقال : بوجود
وجوبات كثيرة بعدد المكلفين ، ولكن الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كل
واحد منهم ، وانما هو الجامع بين الفعل الصادر منه أو من غيره ، فالواجب هو حصول
الفعل خارجا ـ بناء على أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ـ.
وتفصيل الكلام في
ذلك موكول الى مباحث الوجوب الكفائي.
ثالثا ـ عدم تسليم
الملازمة بين وحدة التكليف ووحدة العقاب ، اذ للمولى أن يعاقب العبد عقابا واحدا ،
وله أن يعاقبه عقوبات متعددة ـ مع اتحاد سنخ العقوبة أو اختلافه ـ ما لم يخرج عن
دائرة العدل ، كما قد يدعى ذلك في بعض العقوبات الاخروية ، وفي بعض عقوبات الموالي
العرفية ، فتأمل.
لنقض بالتكليفين الطوليين
(الثاني) ما في (المباحث)
من النقض بتكليفين في زمانين يتضاد متعلقاهما في القدرة ، مع كون المتأخر منوطا
بعدم امتثال المتقدم ، وذلك أمر سائغ حتى عند القائل باستحالة الترتب لعدم تعاصر
الفعليتين كي تحصل المطاردة بينهما ، فلو فرض عصيان المكلف للامرين لاستحق
العقابين ، مع عدم القدرة على الفعلين ـ انتهى.
ويمكن التمثيل له
بالامر بصوم اليوم الثاني من شهر رمضان معلقا على عصيان
الامر بصوم اليوم
الاول ، في صورة عجز المكلف عن صوم اليومين معا ، فانه يجب على المكلف صوم اليوم
الاول بناء على ما قرر في باب التزاحم من الاصول وفي كتاب الصلاة من الفقه من لزوم
تقديم ما هو أسبق زمانا ، فلا يجب الصوم في اليوم الثاني الا معلقا على عصيان
الامر بالصوم في اليوم الاول. وكذا فيما لو فرضت هنالك أهمية اخرى غير مجرد السبق
الزماني ، كما لو دار الامر بين الدفاع عن بلاد الاسلام ليلا أو الصوم نهارا ـ مثلا
ـ.
ويرد عليه :
أولا : عدم تسليم
اشتراط (العرضية) في تحقق موضوع الترتب ، بل يجري بحث الاستحالة والامكان وان كان
التكليفان طوليين ، على ما سبق في الشرط العاشر من (شرائط تحقق الموضوع) ، فجواز
التعدد في المثال مبني على جوازه في كلي مسألة الترتب ، فبناؤه عليه مستلزم للدور.
ثانيا : مع تسليم
الخروج الموضوعي لمورد النقض عن الترتب نقول :
ان تعدد الاستحقاق
في المقيس عليه غير مسلم لدى المستدل اذ أنه يرى مناط الاستحقاق (ترك الفعل
المقدور) وليس المقدور من الامرين إلّا أحدهما في المقيس عليه ـ كالمقيس ـ فليس
فيه إلّا استحقاق واحد.
ثالثا : عدم تسليم
القياس لوجود الفارق بين المقامين بتقريب :
انه ليس المطلوب
في المقيس عليه : كلاهما على نحو الوجوب التعييني لكونه تكليفا بغير المقدور ، ولا
كلاهما على نحو الوجوب التخييري وإلّا لكانا عدلين متكافئين يتخير المكلف بينهما ،
وليس المطلوب المتقدم وحده بحيث يكون التوقيت ركنا في المطلوبية مطلقا ، وإلّا لما
أمر بالفاقد ، فان الامر به يكون حينئذ بلا ملاك ، فمن نفس تعلق الامر بالفاقد
يستكشف عدم كون الوصف ركنا في أصل الغرض فلا يبقى في المقام سوى تعدد المطلوب ،
ووجود طلبين يتعلق أحدهما بالجامع
ويتعلق الآخر
بايجاد الجامع في الحصة المعينة ، وعليه يكون تعدد الاستحقاق عند عصيان الامرين
بسبب مقدورية المطلوبين ، فان الجامع مقدور ، والحصة مقدورة أيضا فيكون العقاب على
تركهما عقابا على ترك أمرين مقدورين ، بخلاف الامر في الترتب.
وفيه :
أولا ـ ان هذا
انما يتم بناء على كون الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدورا ـ كما عليه المجيب
وقد ذهب اليه المحقق الثاني (رحمهالله) وجماعة من الاعلام ـ وأما بناء على كون
الجامع غير مقدور ـ كما ذهب اليه المحقق النائيني (قدسسره) وغيره ـ فلا يتم الفرق بين المقامين.
وثانيا ـ لا ينحصر
تفسير الامرين ـ ثبوتا ـ بتعدد المطلوب ، بل يمكن أن يكون المتقدم واجبا ارتباطيا
واحدا والتوقيت ركن فيه ، والمتأخر واجبا آخر مغايرا للواجب الاول في الملاك
والهوية ، لكن وجوده مشروط بعدم امتثال الواجب المتقدم.
وثالثا ـ انه اما
أن يراد بالجامع : الجامع المنصوص أو الجامع المنتزع ، وعلى كل تقدير يمكن فرض
وجوده وعدمه في كل من المقامين ، فلا يتم الفرق المذكور بينهما.
وقد تحصل من هذه
الاجوبة امكان أن لا يكون هناك جامع ، وعلى فرض وجوده فهو غير مقدور ، وعلى فرض
كونه مقدورا فهو مشترك بين المقامين فالايراد الثالث لا يخلو من نظر ، فتدبر.
ملاحظة كل خطاب منفردا
(الثالث) ما ذكره
المحقق النائيني (قدسسره) بقوله :
ان العبرة في
استحقاق العقاب : ملاحظة كل خطاب بالنسبة الى كل مكلف في حد نفسه ، بمعنى أنه
يلاحظ الخطاب وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر ، ويلاحظ كل مكلف وحده مع
قطع النظر عن اجتماعه مع مكلف آخر ، فان كان متعلق ذلك الخطاب الملحوظ وحده مقدورا
بالنسبة الى ذلك المكلف الملحوظ وحده فعند العصيان يستحق العقاب وإلّا فلا. ومن
المعلوم تحقق القدرة في كل من متعلقي الخطابين المترتبين في حد نفسه ، وكذا كل
مكلف في الواجب الكفائي فعند ترك كلا المتعلقين يستحق عقابين ، وعند ترك الكل
للكفائي يستحق الجميع للعقاب لتحقق شرط الاستحقاق انتهى.
ويرد عليه :
أنه مستلزم لجواز
الامر بالضدين مطلقا والعقوبة على تركهما ، كأن يأمره بالسير الى المشرق والمغرب
في زمان واحد بلا ترتب بينهما ـ لفرض تعلق القدرة بكل واحد منهما ، لو قطع النظر
عن اجتماعه مع الآخر فلا يقبح الخطاب بهما ، ولا العقوبة عليهما.
اللهم إلّا أن
يفرق بينهما بأن الامر بالضدين مطلقا محال في نفسه ، أو قبيح على الحكيم ، فلا
يعقل صدوره ليبحث في استحقاق العقاب على تركه ، بخلاف الامر الترتبي ، فان الوجدان
شاهد على امكان وقوعه ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ والضابط المذكور في كلامه (قدسسره) لاستحقاق العقاب انما هو بعد مفروغية امكان التكليف.
لكن هذا الجواب لا
يخلو من شائبة الدور ، اذ محل الكلام والنقض والابرام هو الامكان ، فلو أخذ فيه
دار.
إلّا أن يقال :
ليس المراد اثبات الامكان ، بل دفع الاشكال عن التعدد بعد الفراغ عن الامكان بحكم
الوجدان ، ولا برهان على كون القدرة المأخوذة شرطا
في استحقاق العقاب
مصححة لتوجيه الخطاب ، ليورد بالامر بالضدين مطلقا ، فتأمل.
وأما ما في (المباحث)
من الايراد على ما ذكره المحقق النائيني (قدسسره) باستلزامه لتعدد العقوبة فيما اذا فرض أمر المولى بالضدين
مطلقا بنحو القضية الخارجية غفلة عن التضاد بينهما مع عصيان العبد لكليهما ، لكون
كل منهما مقدورا في نفسه ، مع حكم الوجدان بخلافه ـ ففيه :
ان الامر الناشئ
من الغفلة ليس بأمر حقيقة ، اذ الامر بما هو أمر لا موضوعية له بل هو طريق لكشف
الملاكات الواقعية ـ أو أغراض المولى ـ ، فاذا علم بعدم ذي الطريق لم يكن الامر
منجزا ، ولم يستحق العبد العقاب على مخالفة مثل هذا الامر ، كما يشهد له بناء
العقلاء.
كما انه في صورة
العكس ـ أي صورة وجود الملاك الملزم بلا أمر ـ يمكن أن يقال بوجوب تحصيل ذلك
الملاك أو الغرض ، اذ الامر طريق ، فاذا حصل ما كان الامر طريقا اليه لم يكن حصول
الطريق بمهم ، كما هو الشأن في كل طريق وذي الطريق لدى العرف.
ونظير المقام ما
ذكره الفقهاء في بحث الغصب من أنه اذا أذن المالك في التصرف ولكن كانت هناك قرائن
تدل على عدم رضاه لم يجز التصرف ، كما ان العكس بالعكس ، وقد علله السيد الوالد ـ دام
ظله ـ في المسألة السادسة عشرة وفي المسألة الثانية والعشرين من بحث مكان المصلي
من كتاب الصلاة من (الفقه) بنظير ما ذكرناه في المقام ، فراجع.
العقاب على ترك كل حال ترك الآخر
(الرابع) : ما
ذكره (قدسسره) أيضا بقوله :
ان العقاب ليس على
ترك الجمع ـ ليكون على غير المقدور ـ ضرورة أن الطلب لم يتعلق إلّا بذات كل من
الواجبين فكيف يعاقب على ترك الجمع الذي لم يطالب المكلف به أصلا ، بل العقاب انما
هو على ترك كل منهما حال ترك الآخر ولا ريب في مقدوريته ، وهكذا الحال في الواجبات
الكفائية فان العقاب هناك على عصيان كل واحد منهم حال عصيان الباقين ، انتهى.
ويرد عليه :
أولا : النقض
بالامر بالضدين مطلقا ، لمقدورية ترك كل منهما حال ترك الآخر وهي شرط حسن الخطاب
والعقاب.
وسوق الكلام فيه
كسوقه في الثالث.
ثانيا : ان
القيدين المأخوذين في سبب استحقاق العقاب ـ اعني قوله (حال ترك المهم) و (حال ترك
الاهم) ـ وان اختلفا بلحاظ المفهوم والعنوان إلّا انهما متحدان بلحاظ المصداق
والزمان ، اذ زمان ترك كل منهما هو زمان الاشتغال بالثالث ، ومن الواضح ان ملاك
رفع التضاد ليس هو التعدد العنواني بل التعدد الزماني ، فتكون العقوبة على ترك كل
من الاهم والمهم في هذه الحالة مستلزمة لفعلية الامر بهما معا فيها مع ان فعلهما
معا غير مقدور ، فيكون ترك أحدهما مضطرا اليه ، فتكون العقوبة عليه عقوبة على ما
لا يدخل تحت الاختيار.
نعم : لو لوحظ كل
من التركين في حد نفسه كان مقدورا ، لكنه يرجع حينئذ الى الجواب الثالث ، فتأمل.
ثم لا يخفى ان
متعلق العقاب تابع في اطلاقه واشتراطه لمصب التكليف ، والمفروض ان التكليف بالاهم
مطلق شامل لحالتي فعل المهم وتركه ، فكون العقاب على (ترك المأمور به حال ترك
الآخر) وان صح في المهم ـ لكونه مشروطا ـ لكنه لا يصح في الاهم ـ لكونه مطلقا ـ.
ثم لا يخفى ان
التكليف بالجمع لا يجب ان يكون بعنوانه ، لامكان انتزاعه من تكليف العبد بشيئين
متزامنين ، ولو بأمرين منفصلين ويكفي في صدق العنوان الانتزاعي صدق منشأ انتزاعه ،
فانه مجعول بجعله ، ومطلوب بطلبه ، منتهى الامر ان أحدهما مجعول بالذات ، والآخر
مجعول بالعرض ، كما لا يجب أن يكون التكليف بالجمع مطلقا ، بل يمكن ـ أيضا ـ كونه
تكليفا بالجمع مشروطا.
وعليه : فلا يشترط
في كون التكليف تكليفا بالجمع : الاطلاق ، ولا عدم تعلقه بذات كل من الواجبين
فالتفكيك بينهما لا يخلو من نظر ، فتأمل.
ويؤيده ما ذكره
المحقق النائيني (قدسسره) في طي ما استدل به لامكان الترتب حيث قال :
(والحاصل انه لا
اشكال في أن الموجب لايجاب الجمع في غير باب الضدين انما هو اطلاق الخطابين لحالتي
فعل متعلق الآخر وعدمه ، كالصلاة والصوم ، فان الموجب لايجاب الجمع بينهما انما هو
اطلاق خطاب الصلاة وشموله لحالتي فعل الصوم وعدمه ، واطلاق خطاب الصوم وشموله
لحالتي فعل الصلاة وعدمه. ونتيجة الاطلاقين ايجاب الجمع بين الصلاة والصوم على
المكلف ...).
العقاب على الجمع فى الترك
(الخامس) : ما في
منتهى الدراية من أن مناط استحقاق تعدد العقوبة ليس مخالفة الامر بالجمع بين
المتعلقين ، ليورد بعدم القدرة ، بل مناطه (الجمع في الترك) ، وهو أمر مقدور للعبد
، فالمؤاخذة على الجمع في الترك حينئذ لا قبح فيها عقلا.
ويرد عليه :
أولا : انه ليس
للهيئة المجموعية وجود متأصل وراء وجود الافراد ، بل هي أمر ينتزع من فعل هذا وفعل
ذاك أو من ترك هذا وترك ذاك ، وإلّا لزم التسلسل ، بتقريب انه لو كان هناك أمران ،
وكانت الهيئة الاجتماعية أمرا ثالثا متأصلا في الاعيان ، لكانت الهيئة الاجتماعية
للثلاثة أمرا عينيا أيضا لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فتصبح الثلاثة
أربعة ، ولهذه الاربعة هيئة اجتماعية عينية .. وهكذا .. فيلزم التسلسل.
ففي المقام : ليس (الجمع
في الترك) الا عنوانا منتزعا من هذا الترك وذاك الترك ، وليس له وجود مستقل في
قبالهما ، وحيث ان (الفعلين) معا غير مقدورين لذا يكون أحد التركين هو المقدور ، وأما
الترك الآخر فهو ضروري ، والقدرة لا تجامع الضرورة ، فيكون العنوان المنتزع منهما
غير مقدور ، لان النتيجة تابعة لاخس المقدمتين ، وهذا نظير ما ذكروه في ان الجامع
بين المقدور وغير المقدور غير مقدور ، فتأمل.
ثانيا : لو فرض ان
الهيئة المنتزعة مقدورة لم يجد ذلك فيما رامه من التعدد ، لكونها أمرا واحدا بسيطا
، فلا تستتبع أكثر من استحقاق واحد.
هذا مع ورود بعض
ما تقدم عليه أيضا.
المناط امكان التخلص من المخالفة
(السادس) ما في (المباحث)
من ان الميزان في صحة العقاب أن يكون التخلص من المخالفة مقدورا للمكلف ـ لا أن
يكون الامتثال مقدورا ـ وفي المقام يمكن التخلص من مخالفة التكليفين وان لم يمكن
امتثالهما معا فيكون تعدد العقاب في محله.
وهذا بخلاف ما لو
أمر المولى بالضدين مطلقا ـ غفلة ـ فان لا يستحق عقوبتين مما يبرهن على أن ميزان
صحة العقاب : امكان التخلص ، والمكلف في المثال لا يمكنه التخلص الا عن احدى
المعصيتين فلا يستحق الا عقابا واحدا.
ويرد عليه :
أنه مستلزم لجواز
الامر بجميع المحالات الوقوعية ، بل الذاتية معلقا على عصيان تكليف مولوي أو
ارتكاب فعل اختياري ـ وان كان مباحا ـ وجواز العقاب على تركها كقوله (ان ظاهرت
زوجتك فطر في السماء) أو (ان دخلت دار زيد فاجمع بين النقيضين) وذلك لوجود الملاك
المذكور وهو امكان التخلص من المخالفة فيها ، بعدم ايجاد مقدم الشرطية ، فلا يقبح
الخطاب بها ولا العقاب عليها ، وهو خلاف الوجدان.
وكون الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ـ وان نافاه خطابا ـ لا ينافيه لكون مجراه
الممكنات بالامكان الذاتي والوقوعي التي طرأ عليها (الامتناع الغيري) بسوء
الاختيار لا (الممتنعات الذاتية) ولا (الوقوعية) ولا (الغيرية)
__________________
التي لم يكن لسوء
الاختيار دخل في امتناعها ، لخروج هذه القاعدة على نحو الخروج الموضوعي اذ ليس
الامتناع فيها ناشئا من سوء الاختيار ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فتدبر.
وأما ما ذكره من
الامر بالضدين غفلة فقد سبق الكلام فيه في (الثالث) فراجع.
لا قبح فى العقاب على غير المقدور
(السابع) : ما في (حقائق
الاصول) من ان قبح العقاب على ما لا يقدر عليه لا أصل له ما لم يرجع الى قبح
العقاب على ما لا تكليف به ، فلا يكون العقاب عليه عقابا على المعصية ، وقد عرفت
سابقا امكان التكليف بكل من الاهم والمهم انتهى.
وهذا الجواب كما
ترى متفرع على ثبوت الامكان ، فلا يرد عليه اشكال الدور المتقدم.
الهتك هو الملاك
(الثامن) : انه
يمكن أن يتخذ (الهتك) ملاكا للاستحقاق ، لا (الترك) وعليه يبنى استحقاق المتجري
للعقاب ، لهتكه حرمة مولاه ، وجرأته عليه ، وخروجه عن رسوم العبودية ، وخلعه لزي
الرقية ولا شك في تحقق الانتهاكين في عصيان الامرين ، لخروج العبد عن رسوم
العبودية مرتين ، ومن الواضح قدرة العبد على ترك الانتهاكين فيكون ارتكابه لهما
ارتكابا لما هو داخل في حيز القدرة ، فيستحق العقابين.
ويرد عليه :
انه ان اريد
بالهتك العنوان المتحد مع الترك الخارجي فقد مر أن أحد التركين هو المقدور.
وان أريد به العنوان
المنتزع منه ففيه : ان العنوان الانتزاعي متحد الحكم مع منشأ الانتزاع.
وقد يناقش فيه :
بأنه انما يتم لو قيل بكون استحقاق العقاب على نفس الاتيان بالفعل ـ أو الترك ـ المتجرى
به ، كما اختاره في (النهاية) و (مصباح الاصول) ـ وأما لو قيل بكونه على قصد العصيان
والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان ـ كما اختاره في (الكفاية)
ـ فلا ، لتعدد القصد.
وفيه : أنه لا
مناص من أحد القصدين (قصد ترك الاهم أو المهم) لسراية اللابدية من المقصود الى
القصد فما دام ترك أحدهما مضطرا اليه ـ على ما سبق ـ يكون قصد ذلك الترك كذلك ،
فتأمل.
تفويت الملاك
(التاسع) : ان
تفويت الملاك المولوي سبب لاستحقاق العقوبة .. وحيث أن العبد في المقام فوت على
المولى ملاكين لذا يستحق عقوبتين.
وقد يقرب هذا
الوجه بأن الملاك في طرف الاهم مركب من جزءين (أصل الوجود) ـ المشترك بين الاهم
والمهم ـ و (شدة الوجود) ـ المختصة بالاهم ـ فيكون في مقدور المكلف الحصول على كلا
الملاكين ، بفعل الاهم ، كما يمكنه تفويت أحدهما ، بفعل المهم ، وتفويت كليهما ،
بترك الاثنين.
مثلا : لو أمر
المولى عبده بسقي الزرع بالماء الاجاج معلقا على عصيانه الامر بسقيه بالماء العذب
فسقى الزرع بالماء العذب حصل ملاكين : ملاك أصل
السقي ، وملاك
السقي بالماء العذب ، ولو سقاه بالماء الاجاج فاتته الحصة وان لم يفته الطبيعي ،
ولو ترك الاثنين فاته الملاكان.
ولكن هذا المبنى
لا يخلو من نظر ، اذ ليست المرتبة القوية من الوجود مركبة من (أصل الوجود) و (شدة
الوجود) ولا المرتبة الضعيفة تفقد من حقيقة الوجود شيئا أو تختلط بالعدم ، بل لا
تزيد كل واحدة من مراتب الوجود المختلفة على حقيقة الوجود المشتركة شيئا ، ولا
تفقد منها شيئا ، وانما هي الوجود في مرتبة خاصة بسيطة ، لم تتألف من أجزاء ولم
تنضم اليها ضميمة ، وتمتاز عن غيرها بنفس ذاتها التي هي الوجود المشترك ـ على ما
قرر في محله ـ.
فالملاك القوى
والضعيف حقيقتان بسيطتان ، وأحدهما فائت لا محالة ، لان المكلف ان فعل الاهم فات
عليه ملاك المهم (لو كان ذا ملاك فعلي في عرض الاهم أما لو كانت فعلية ملاكه
مترتبة على عصيان الامر بالاهم فالسالبة بانتفاء الموضوع) ولو فعل المهم فات عليه
ملاك الاهم ، وعلى هذا فلم يفوت المكلف بعصيانه للامرين إلّا أحد الملاكين.
ولو سلم التركيب
لم يقدح في المرام أيضا ، اذ ليست نسبة الطبيعي الى أفراده نسبة الاب الواحد الى
الابناء المتعددين ، بل نسبة الآباء المتعددين الى الابناء المتعددين ، بل الطبيعي
وجوده عين وجود أشخاصه ، ففرض عدم مقدورية الفردين معا مساوق لفرض عدم مقدورية
الطبيعيين ، فأحد الطبيعيين فائت على المكلف لا محالة ، اذ يدور أمره بين تفويت
الطبيعي الكائن في ضمن الاهم ، أو تفويت الطبيعي الكائن في ضمن المهم ، فيكون
العقاب اما على تفويت الاهم أو المهم ، لا على تفويت الاثنين.
الوقوع
ثم انه لو فرض عدم
وفاء هذه الاجوبة بحل اشكال عدم المقدورية لم يقدح
ذلك في تعدد
الاستحقاق ، بعد رؤية العقل ثبوت الاستحقاق المتعدد في الخارج فان الوقوع أدل دليل
على الامكان .. اذ الشيء ما لم (يتقرر) لم (يمكن) وما لم يمكن لم (يحتج) وما لم
يحتج لم (يوجب) وما لم يوجب لم (يجب) وما لم يجب لم (يعط الوجود) وما لم يعط
الوجود لم (يوجد) ومن هنا قالوا (الشيء قرر ، فأمكن فاحتاج ، فأوجب ، فوجب ، فأوجد
، فوجد) .. فالوجود يقع في مرحلة متأخرة عن الامكان ، وما لم يمر الشيء بمرحلة (الامكان)
لا يمكن أن يصل الى مرحلة (الوجود) لاستحالة (الطفرة) في المراتب ، كاستحالتها في
الزمان والمكان ، فالوجود اللاحق كاشف عن الامكان السابق.
ومما يؤيد ما
ذكرناه من تعدد الاستحقاق عقلا أن المولى لو أمر عبده بانقاذ جمع من الغرقى على
سبيل الترتب ، فلم يمتثل ، فعاقبه المولى أضعاف ما يعاقب به العبد المأمور بانقاذ
غريق واحد ، لما كان عند العقلاء ملوما ، وكان العبد عندهم به جديرا.
قلب الاشكال
ثم انه يمكن أن
يقلب هذا الاشكال (أي اشكال تعدد الاستحقاق الذي أورد به على القائل بامكان الترتب)
على القائل بعدم الامكان ، اذ تعدد الاستحقاق ـ في صورة عصيان الامرين ـ لا شك فيه
عند العقلاء ، وإلّا لزم تساوي العاصي للامر المولوي الواحد ، والعاصي للامرين
المسوقين على نحو الترتب ، في العقوبة ، وهو خلاف حكم العقل بالتعدد ، وخلاف ما
جرت عليه سيرة العقلاء ، ومن المعلوم أن العقوبة على الهيئة لا تصح في مخالفة
الامر الارشادي ، فيتعين كون الامر بالمهم ـ كالاهم ـ مولويا ، وهو المطلوب ،
فتأمل.
الالتزام بوحدة الاستحقاق
ثم انه قد يلتزم
بوحدة الاستحقاق في صورة عصيان الامرين ـ مع كونهما مولويين ـ بتقريب أن ملاك
الاستحقاق تفويت الغرض الداعي للامر ، فلو فرض اشتمال المهم على بعض مصلحة الاهم
فالمكلف اما ان يأتي بالاهم فيدرك تمامها أو بالمهم فيتدارك بعضها فلا عقوبة الا
بقدر البعض الآخر ، واذا تركهما فلا يستحق من العقوبة إلّا بمقدار مصلحة الاهم ،
لان مصلحة المهم انما أمر بتحصيلها لتدارك مصلحة الاهم لا لنفسها ، فالعقوبة على
تقدير ترك كليهما مثلها لو لم يؤمر بالمهم وعصى الاهم.
ويرد عليه :
أولا : ان استحقاق
العقوبة لازم لا ينفك بالنسبة الى مخالفة الامر المولوي.
(لا) لما ذكره
المحقق النائيني (قدسسره) بقوله : (لا يصح الخطاب المولوي الشرعي إلّا اذا أمكن أن
يكون داعيا نحو الفعل ، وباعثا اليه ، وداعوية الخطاب بالنسبة الى غالب نفوس البشر
انما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب ، اذ قل ما يكون نفس الخطاب بما هو
خطاب داعيا نحو الامتثال إلّا بالنسبة للاوحدي فلا بد أن يكون كل خطاب الزامي
مولوي مستتبعا لاستحقاق العقاب ليصلح أن يكون داعيا ، وإلّا خرج عن المولوية الى
الارشادية).
(بل) لما سبق في
تقرير الوجه الثاني مما أورد به على الترتب.
(وذلك) لرجوع ما
ذكره (قدسسره) الى لغوية الامر المولوي لو جرى تفكيك الاستحقاق عنه ، مع
أن مجرى صدق اللغوية متحد مع مجرى الجعل التأليفي ، وهو لا يعقل بين الشيء ونفسه ،
ولا بينه وبين ذاتياته ، ولا بينه وبين عوارضه اللازمة وذلك لان مناط الحاجة هو
الامكان ، والضرورة ملاك الاستغناء ، والنسبة بين الذات
ونفسها وذاتياتها
واعراضها اللازمة من سنخ النسب الضرورية فلا تقبل الوضع ولا الرفع ، وقد سبق أن
النسبة بين الامر المولوي والاستحقاق نسبة ضرورية فلا مجرى فيها للجعل التأليفي ،
فلا مجال فيها للقول : بان تفكيك هذا اللازم عن ملزومه سبب للغوية الملزوم ، وذلك
لكون هذا التفكيك محالا ، ولا معنى لتعليل عدم التسبيب للمحال باللغوية.
وعليه : كيف يمكن
افتراض كون الامر بالمهم مولويا مع عدم استحقاق العقوبة على تركه ـ في حالة عصيان
الامرين ـ وفرضه ارشاديا خروج عن موضوع الترتب واندكاك العقوبتين مستلزم لتوارد
علتين مستقلتين على معلول واحد ـ ان أريد به الاندكاك الحقيقي ـ وللخلف ـ ان أريد
به غيره ـ.
ثانيا : ما ذكره
المشكيني (رحمهالله) من (منع كون ملاك الاستحقاق هو التفويت ، بل هو الهتك) ،
انتهى ـ.
ويرد عليه :
ان العقل هو
الحاكم على الاطلاق في باب الاستحقاق ، وهو كما يرى الهتك سببا ، كذلك يرى التفويت
سببا.
لا يقال : انه
يلزم منه تعدد الاستحقاق عند اجتماع السببين ، وإلّا لزم توارد العلتين المستقلتين
على معلول شخصي واحد ، وهو محال (للزوم احتياجه الى كل واحدة منهما ـ لكونهما علة
له ـ واستغناءه عن كل واحدة منهما ـ لاستقلال الاخرى في العلية ـ فيكون حال حاجته
اليهما مستغنيا عنهما ، وللزوم تحصيل الحاصل) مع انه ليس في المعصية الواحدة إلّا
عقوبة واحدة ، فوحدة المسبب كاشفة ـ انا ـ عن وحدة السبب.
لانه يقال :
بجريان الكسر والانكسار في تأثير العلتين اذا اجتمعتا ، اذ لا يخلو الامر عند
اجتماعهما من (عدم تأثيرهما أصلا) أو (تأثير أحدهما المعين) ، أو
(المردد) ، أو (كليهما
على نحو الاستقلال في العلية) ، أو (التشارك غير المتكافئ) أو (المتكافئ).
والاول خلاف وجدان
المعلول خارجا.
والثاني ترجيح بلا
مرجح.
والفرد المردد لا
وجود له ، فكيف يكون علة للوجود مع ان فاقد الشيء لا يعطيه.
والرابع مستلزم
للتوارد.
والخامس كالثاني.
فيتعين الاخير.
وهذا يجري فيما
نحن فيه من تعدد سبب الاستحقاق.
مع امكان أن يقال
: انه لا استحالة في تعدد الاستحقاق عند انطباق عناوين مختلفة على الفعل ، بل
مطلقا على ما مر فتأمل.
لا يقال : ليس
تفويت غرض المولى بما هو هو سببا للاستحقاق ، بل لانطباق عنوان الهتك عليه ، بدليل
الدوران والترديد ، فالتفويت بلا هتك ـ كما في صورة الجهل القصوري ـ ليس سببا
للاستحقاق ، والهتك بلا تفويت ـ كما في صورة التجري ـ سبب لذلك ... فينحصر الامر ـ
بالنتيجة ـ في سببية الهتك.
وهذا نظير ما أورد
على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله ان المعصية سبب للعقاب ، فلو كان التجري
سببا أيضا لزم التعدد أو التداخل ، في المعصية الحقيقية.
وفيه : عدم تسليم
كونها سببا ، بالدليل المزبور ، بل انطباق عنوان الهتك يمنحها السببية.
فانه يقال : لا
ملازمة بين العنوانين اذ ان من الممكن صدق التفويت دون
انطباق عنوان
الهتك عليه .. كما لو سقط ابن المولى في البئر في حال غيبته ـ مثلا ـ فانه ان لم
ينقذ الابن استحق العقوبة ـ على ما بيناه في موضع آخر ـ مع عدم انطباق عنوان الهتك
عليه ، مع أنه لا مانع في مورد التصادق من استحقاق العبد عقوبتين ـ كما سبقت
الاشارة اليه ـ فتأمل.
ثالثا : مع تسليم
كون ملاك الاستحقاق هو تفويت غرض المولى نقول :
ان المستدل ان
أراد نفي كلية الملازمة بين تعدد الامر وتعدد العقوبة لا نفي الملازمة كلية ، ففيه
ان ذلك لا يجديه لعدم توقف استدلال نافي الترتب على كلية تعدد العقاب ، لينقض من
قبل المثبت بالسالبة الجزئية ، وانما تكفيه الموجبة الجزئية التي لا يمكن نقضها
بالسالبة الجزئية ، بل لا يتوقف استدلال النافي على اثبات وجود الموجبة الجزئية ،
وانما يكفيه احتمال وجودها ، لان احتمال استلزام الشيء للازم الباطل كاف في اثبات
بطلان الملزوم ، وذلك لان اللازم المحال أو الباطل مقطوع العدم ، فلا يمكن احراز
وجود شيء إلّا مع القطع بعدم استلزامه له ، لان الشيء لا يحرز وجوده الا مع القطع
بسد جميع أبواب العدم عليه ، ومن هنا قيل في العقليات «اذا جاء الاحتمال بطل
الاستدلال».
وان أراد نفي
الملازمة كلية ففيه :
ان الامر بالمهم
كاشف عن انية الملاك لا مهيته ، فلا معين لافتراض كون ملاك الامر بالمهم هو
التدارك لينفى به تعدد العقاب ، وذلك لما ذكره المشكيني (رحمهالله) من انه يتجه
اذا كانت المصلحة في المهم من سنخ مصلحة الاهم ، وفي غيره لا معنى لتداركها لها ،
وعلى فرض السنخية فانما يتم لو كان الغرض المترتب على المهم مطلوبا لتدارك الغرض
الاهم لا في عرضه ، كما في انقاذ العالم والجاهل ـ مثلا ـ.
الوجه الثالث
(الوجه الثالث) ـ مما
اورد به على الترتب ـ ما نسب الى المحقق التقي الشيرازي (قدسسره) وهو :
ان الترك المحرم
من المهم اما أن يكون الترك المطلق حتى الى فعل الاهم ، أو خصوص الترك المقارن
لترك الاهم ، وهو الترك غير الموصل الى فعل الاهم.
فان كان الاول فهو
مناف لفرض الاهمية فان مقتضاها جواز ترك المهم الى فعل الاهم ، ومناف لفرض طلب
المهم على تقدير ترك الاهم ومعه كيف يعقل حرمة ترك المهم الموصل الى فعل الاهم؟
وان كان الثاني
فنقيض ترك المهم المحرم حينئذ هو ترك الترك غير الموصل فهو المعروض للوجوب لا فعل
المهم ، نعم : له لا زمان أحدهما : الترك الموصل الى فعل الاهم والآخر فعل المهم
لكن الحكم ـ وهو الوجوب ـ لا يسري الى لازم النقيض ـ ليكون المهم واجبا.
ومع فرض السريان
أو فرض مصداقية الفعل لترك الترك يكون فعل المهم ـ حيث أنه له البدل ـ واجبا
تخييريا مع أن وجوب المهم تعييني ـ بناء على ثبوته ـ انتهى.
ويرد عليه :
أولا : ما في (النهاية)
وهو : ان ايجاب المهم ليس من ناحية ترك المهم ، بل لدليله المقتضي لحرمة نقيضه
عرضا.
ثانيا : سلمنا لكن
نقيض (ترك المهم) هو (فعل المهم) لا (ترك ترك المهم).
وقولهم (نقيض كل
شيء رفعه) تخصيص بلا مخصص ، ولذا أبدله بعضهم
بقوله (رفع كل شيء
نقيضه) ، وان لم يصلح معرفا ، لكونه تعريفا للرفع ، لا للنقيض ، فلا يدل على كونه
أعم أو اخص أو مساويا.
أو يراد بالمصدر
القدر المشترك بين المبني للفاعل والمبني للمفعول فيراد بالرفع في السلب الرافع
وفي الايجاب المرفوع.
أو يراد بالرفع :
الطرد الذاتي ، حيث أن كل واحد من المتناقضين يطرد ما يقابله ، بذاته.
وأما تفسير الرفع
بالنفي والسلب ، فيكون نقيض الانسان هو اللاإنسان ، ونقيض اللاإنسان هو اللالاوجود
، وأما الانسان فهو لازم النقيض وليس بنقيض فهو يستلزم عدم تحقق التناقض بين شيئين
أبدا ، لعدم كون الايجاب رفعا للسلب ، وان كان السلب رفعا للايجاب ، والمناقضة
انما تكون بين طرفين.
وعلى هذا يكون (فعل
المهم) هو المعروض للوجوب ـ بناء على اقتضاء حرمة الشيء وجوب ضده ـ لا (ترك ترك
المهم) ليرد الاشكال المذكور في كلامه (قده).
ثالثا : مع
التسليم نقول : لم ترد كلمة (النقيض) في النصوص الشرعية لتكون هي محور الكلام في
المقام ، بل المحور هو (الملاك) الذي على اساسه بنيت دعوى (الاقتضاء) ، والملاك
كما يشمل (ترك ترك المهم) كذلك يشمل (فعل المهم) وان فرض عدم كونه نقيضا للترك في
الاصطلاح.
رابعا : ما في (النهاية)
من أنه لو فرض قيام الدليل على حرمة ترك المهم على تقدير ترك الاهم ـ كما هو معنى
الترتب ـ فنقيضه الواجب هو ترك الترك على هذا التقدير أيضا ، وليس لترك الترك في
هذا التقدير الا لازم واحد أو مصداق واحد وهو الفعل ، اذ لا يعقل فرض الترك الموصل
في تقدير ترك الاهم للزوم الخلف ، فليس للفعل حينئذ عدل وبدل حتى يكون وجوبه
تخييريا ـ انتهى.
وهذا الجواب لا
يخلو من تأمل ، وذلك لان القيد المأخوذ في القضية يجب أن يؤخذ قيدا للمنفي في
القضية المناقضة لها ، لا قيدا للنفي ، وذلك لاشتراط وحدة موضوع القضيتين ، في
تحقق التناقض ، ولا تتم الوحدة المذكورة إلّا بذلك كي يتوارد النفي والاثبات على
مصب واحد.
ومن هنا ذكروا
جواز ارتفاع النقيضين عن المرتبة الماهوية ، لعدم استلزامه ارتفاع النقيضين ، اذ
نقيض الوجود ـ المطلق أو المقيد ـ في المرتبة عدم الوجود في المرتبة على أن يكون
الظرف قيدا للمنفي لا للنفي ، فنقيض وجود الكتابة المرتبية هو : عدم الكتابة
المرتبية لا عدم الكتابة المرتبي ، فكذب الاولى لا يستلزم صدق الاخيرة لعدم كونها
نقيضا لها ، فما هما نقيضان لم يرتفعا ـ لصدق عدم الكتابة المرتبية ـ وما ارتفعا ـ
وهما الاولى والاخيرة ـ ليسا بنقيضين.
وعليه : يكون نقيض
(ترك المهم حال ترك الاهم) ـ المعروض للحرمة ـ هو ترك (ترك المهم حال ترك الاهم) ـ
بجعل الظرف قيدا للترك المدخول لا الداخل ـ فيكون واجبا ـ بناء على اقتضاء حرمة
الشيء وجوب ضده ـ ومن الواضح أن (ترك المهم حال ترك الاهم) مفاده الجمع بين
التركين ، فيكون مفاد ترك (ترك المهم حال ترك الاهم) ترك الجمع بين التركين ، وهو
كما يتم بفعل المهم كذلك يتم بفعل الاهم ، فيكون لترك (ترك المهم حال ترك الاهم)
لا زمان كما ذكره المحقق التقي (قدسسره).
والاقرب في رد
اشكال تخييرية الوجوب ما سيأتي في الجهة الثالثة ، من الفرض الخامس من (ما يناط به
الامر بالمهم) إن شاء الله تعالى.
ثم ان مصداقية
الفعل لترك الترك غير تامة لما ذكره السيد الوالد ـ دام ظله ـ في مبحث (ثمرة
المقدمة الموصلة) من (الاصول) وهو استحالة اتحاد الحيثية الوجودية مع الحيثية
العدمية ، فلا تكون إحداهما فردا للاخرى.
الوجه الرابع
(الوجه الرابع) ـ مما
أورد به على الترتب ـ أن الامر بالشيء يقتضي حرمة ضده العام ، فالامر بالاهم يقتضي
حرمة نقيضه ، والمهم ان لم يكن مصداقا للنقيض فهو ملازم له ـ ولو في الجملة ـ ولا
يعقل اختلاف المتلازمين في الحكم وان لم نقل بسراية حكم أحدهما الى الآخر.
والجواب : أما عن
مسلك (المصداقية) فبما مر من عدم معقولية مصداقية الوجود للعدم والعدم للوجود ،
لاختلاف مزاج الحيثيتين ، فان الوجود عين منشئية الآثار وحيثية ذاته حيثية طرد
العدم والإباء عن العدم ، ومن المعلوم أن فردية شيء لشيء متوقفة على الاتحاد
بينهما ، فان الفرد هو مصداق الطبيعة بالحمل الشائع ، وكل طبيعة تؤخذ ـ لا محالة ـ
في فردها ، فكيف يكون أحدهما فردا للآخر؟
وأما عن مسلك (السراية)
فبأنه اما أن يراد السراية في مرحلة الملاك ، أو السراية في مرحلة الارادة ، أو
السراية في مرحلة الجعل والاعتبار.
أما الملاك فهو
صفة تكوينية في الشيء فلا يسري الى غيره وان كان ملازما له ، فاذا فرض قيام
المصلحة بشرب المريض للدواء مثلا فلا يستلزم ذلك سرايتها الى الملازمات التكوينية
للشرب ، التي لا تدخل ـ لكثرتها ـ تحت العد والاحصاء.
ومن هنا يمكن أن
يقال بتعلق الملاكات ـ كالاوامر ـ بالطبائع لا بالافراد ، حتى أنها لو فرضت مجردة
عن الخصوصيات لكانت واجدة للملاك ، وكفى الاتيان بها كذلك ، اذ ما دام الملاك
قائما بالطبيعي فلا يسري منه الى الخصوصيات الفردية ، وان لم يكن التفكيك بينه
وبينها بمقتضى ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.
ونظير ما نحن فيه
ما ذكروه من أن مصاحب العلة ليس بعلة ، ومصاحب المعلول ليس بمعلول ، اذ لا تكون
العلية والمعلولية الا بملاك يقتضيهما ، والمصاحبة الوجودية لا تستلزم المشاركة
الملاكية.
ومنه ينقدح النظر
في السراية في مرحلة الارادة ومبادئها اذ الارادة تابعة للملاك ، فاختصاصه يستلزم
اختصاصها.
وكذا السراية في
مرحلة الجعل والاعتبار ، وذلك لتبعية الجعل للارادة ، كما لا يخفى.
اللهم إلّا أن
يقال : بكفاية نفس (الملازمة) وعدم الحاجة الى ملاك كامن في ذات الملازم. لكن هذا
القدر يثبت امكان تعلق الارادة ومبادئها بالملازم ، ولا يثبت كلية الملازمة ،
فتدبر.
وقد يقرر النظر في
السراية في مرحلة الجعل بأنه ان اريد بها (الاستتباع القهري) ـ المتحقق بين جعل
الحكم على أحد المتلازمين وجعله على الآخر ـ فهو غير معقول ، اذ لا يكون الاستتباع
الا في الاعمال غير الاختيارية ، أو الاختيارية غير المباشرية ، أما الافعال
الاختيارية المباشرية فانها لا تكون معلولة لافعال مباشرية أخر ، لتبعيتها في
وجودها لمبادئ الاختيار ـ من التصور والتصديق ونحوهما ـ وإلّا لم تكن اختيارية ،
والانشاء فعل اختياري مباشري للجاعل ، فلا يكون انشاء الحرمة على النقيض مستتبعا
لانشاء حكم مماثل على الملازمات.
وان أريد بها (الداعوية
الاختيارية) ففيه : ان العمل الاختياري لا يكون إلّا لغاية يراد تحقيقها به ، فان
وجود الشيء رهين بوجود علله الاربع : المادية والصورية والفاعلية والغائية ، فمن
دون وجود العلة الغائية لا يمكن وجود الشيء ، اذ العلة الغائية علة فاعلية العلة
الفاعلية ، وانشاء الحكم على الشيء ان كان كافيا في التحريك اليه أو الزجر عنه فلا
تبقى حاجة الى الامر بالملازمات أو النهي عنها ، لكونهما
لغوا وعبثا ، وان
لم يكن كافيا في التحريك أو الردع فالامر بالملازمات أو النهي عنها لا يكون مؤثرا
في التحريك أو الردع ، فيكون الامر والنهي بلا غاية يقتضيانها ، وهو محال.
وفيه : انه يكفي
في دفع اللغوية : التأكيد ، لامكان توقف الباعثية على تعدد الامر ، وعدم كفاية
الامر الواحد في ذلك ، ونظيره ـ من بعض الوجوه ما ذكروه من امكان كون العمل مستحبا
وتركه مكروها ، كصلاة الليل ، والسواك والزواج ، والرداء للامام ، والتحنك للمصلي
، وتزين المرأة في الصلاة ، ونحو ذلك ، ونظيره الحكم على الضدين اللذين لا ثالث
لهما ونحوهما كتعدد الثياب التي ترتديها المرأة في الصلاة وموازاة العنق للظهر في
الركوع ، وكون الكفن قطعة واحدة غير مخيطة ، وكبعض الفضائل الاخلاقية الى غير ذلك.
هذا ولكن لا يخفى
أن (الامكان) أعم من (الوقوع) فلا يدل امكان تعدد الحكم في أطراف التلازم على
وقوعه ، ومع احتمال الجعل وعدمه يكون الاصل العدم.
ثم انه يرد أيضا
على مسلك (السراية) استلزامه لانحصار الاحكام في الواجب والحرام وانتفاء الثلاثة
الأخر ، وهذا نظير ما قرر في شبهة الكعبي ، فتأمل.
وأما مسلك (عدم
اختلاف المتلازمين في الحكم) فقد أجاب عنه المحقق الاصفهاني في (النهاية) بقوله :
(ان الكلام في
الضدين اللذين لهما ثالث ، وإلّا فوجود أحدهما ملازم قهرا لعدم الآخر ، وبالعكس ،
فلا معنى للحكم على ملازمه رأسا ، وفيما كان لهما ثالث وان سلمنا التلازم إلّا أن
المانع من اختلاف المتلازمين في الحكم اللزومي : لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهذا
المحذور غير جار هنا ، لان الاتيان بالاهم رافع لموضوع امتثال الامر بالمهم ، وبعد
اختيار عصيان الامر بالاهم وثبوت العصيان
ليس الحكم اللزومي
بالمهم إلقاء له فيما لا يطاق ، فاختلاف المتلازمين انما يضر فيما اذا لم يكن هناك
ترتب).
هذا ولكن للقائل
بامتناع الترتب أن يقول : انه لا فرق في تحقق محذور (التكليف بما لا يطاق) بين
كونه مطلقا أو على تقدير دون تقدير ، وبين تعليقه على ما لا يستطيع المكلف هدمه
وما يستطيع ، فاذا كلف المولى عبده بالجمع بين الانتصاب والانتكاس ـ مثلا ـ في
حالة عصيان الامر عد لاغيا وموقعا للمكلف فيما لا يطاق ، وان كان ذلك على تقدير
اختياري ، وقد مضى طرف من الكلام في ذلك في الدليل الاول مما استدل به للامتناع ،
فراجع.
مع أن ما ذكر في (النهاية)
وان فرض كونه وافيا بدفع هذا الاشكال إلّا أنه لا يفي بدفع الاشكال في مرحلة (الارادة)
اذ لا يمكن تخالف ارادتين منتهيتين الى الحكم بالنسبة الى أمرين متلازمين ، بأن
يكون أحدهما مراد الوجود والآخر مراد العدم ، لاستحالة تحقيق مراد المولى في هذه
الصورة ، وما يستحيل مراده تستحيل ارادته ، للتلازم بين المراد والارادة في
الاستحالة والامكان وسراية حكم أحدهما الى الآخر ـ عند الالتفات ـ فاذا فرض ان
استقبال الجنوب كان مراد العدم ومبغوضا للمولى في بعض الحالات بحيث انشأ الحكم
بالحرمة عليه فلازمه ـ وهو استدبار الشمال ـ لا يخلو من أن يكون مبغوضا له أيضا ،
أو لا تتعلق به ارادة ولا كراهة أبدا .. أما أن يكون اللازم مرادا للمولى بحيث
يحكم عليه بالوجوب فهو غير معقول ..
وعليه : فاذا كان (عدم
الاهم) مبغوضا للمولى ـ باعتبار أن الامر بالشيء يقتضي النهي عن نقيضه ـ فكيف يكون
ملازمه وهو (وجود المهم) محبوبا لديه ومرادا عنده ، وتكون تلك الارادة مبعثا
لانشاء الحكم اللزومي الوجوبي على (وجود المهم)؟! فتأمل.
ونظير ذلك يجري في
مرحلة (الملاك) ، اذ أنه وان أمكن أن توجد المصلحة
في أحد المتلازمين
والمفسدة في الآخر ـ كما يمكن أن توجدا في أمر واحد ـ إلّا أن مآل ذلك الى اباحة
الفعل ، ان تساوى الملاكان بعد الكسر والانكسار ، وإلّا كان الحكم مع الغالب منهما
، على نحو الوجوب والتحريم ، أو على نحو الاستحباب والكراهة ، فلا يعقل أن يكون
أحدهما ذا مفسدة مؤثرة في التحريم الفعلي ـ كالنقيض في المقام ـ والآخر ذا مصلحة
مؤثرة في الوجوب الفعلي ـ كلازم النقيض فيما نحن فيه ـ.
وسيأتي تمام
الكلام في ذلك في طي ما استدل به لجواز الترتب باذن الله تعالى.
ثم انه يرد على
جميع ما تقدم من المسالك ـ من (المصداقية) و (السراية) و (عدم اختلاف المتلازمين
في الحكم) ـ عدم تسليم المبنى ، اذ الامر لا يقتضي النهي عن ضده ـ ولو كان عاما ـ على
ما قرر في محله.
(الوجه الخامس)
(الوجه الخامس) ـ مما أورد به على
الترتب ـ قياس الارادة التشريعية بالارادة التكوينية ، فكما لا يمكن وجود ارادتين تكوينيتين مترتبتين ، كذلك لا
يمكن وجود ارادتين تشريعيتين مترتبتين.
وهذا الوجه مبنى
على كون الارادة التكوينية هي الجزء الاخير من العلة التامة للفعل ، فلا محالة
تنتهي اليه ، لاستحالة تخلف المعلول عن العلة التامة ، ومعه ينتفي شرط تعلق
الارادة بالمهم ، فلا تعقل ارادته على نحو الترتب مع ان وجودهما معا يستلزم تلبس
المكلف بالضدين في وقت واحد ، وهو محال ، لكن سيأتي في مبحث (ما يناط به الامر
بالمهم) المناقشة في المبنى إن شاء الله تعالى.
ويؤيده ما نجده من
أنفسنا من تعلق الارادة بشيء مستقبلي ، وبغيره على تقدير
عدم تيسر الوصول
اليه ، فتأمل.
وعلى فرض تسليم
الحكم في المقيس عليه يرد على هذا الوجه ما ذكره المحقق الاصفهاني (قده) في (النهاية)
حيث قال :
(انه قياس مع
الفارق ، فان الارادة التكوينية هي الجزء الاخير من العلة التامة للفعل ، فلا يعقل
اناطة ارادة أخرى بعدم متعلق الاولى مع ثبوتها ، بخلاف الارادة التشريعية فانها
ليست كذلك ، بل الجزء الاخير لعلة الفعل ارادة المكلف فهي من قبيل المقتضي ، وثبوت
المقتضي مع عدم مقتضاه لا مانع منه ، وخلو الزمان وان كان شرطا في تأثير المقتضي
اثره إلّا ان خلوه عن المزاحم في التأثير شرط ، لا خلوه عن المقتضي المقرون بعدم
التأثير ، فاما لا اقتضاء لاحدهما ، وأما لا مزاحمة للمقتضي) فتأمل.
ولا يخفى عليك ان
اختلاف مزاج الارادتين غير خاص بالمقام بل يجري في مواطن أخرى ، مما يجعل قياس
إحداهما بالاخرى قياسا فاقدا للجامع المشترك.
(الوجه السادس)
(الوجه السادس) ـ مما أورد به على
الترتب ـ اجتماع الوجوب والحرمة في (ترك المهم) ، أما الوجوب فلان ترك الضد مقدمة لوجود ضده ، فيكون ترك
المهم واجبا ، وأما الحرمة فلانه نقيض الواجب ـ أي المهم ـ فيكون حراما.
والجواب :
أولا : عدم تسليم
الاقتضاء ـ كما مر ـ فلا حرمة.
ثانيا : عدم تسليم
المقدمية ـ على ما قرر في مسألة (الضد) ـ فلا وجوب.
ثالثا : عدم تسليم
الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، على ما قرر في مبحث (مقدمة الواجب) ، فلا
وجوب أيضا.
وقد يورد عليه بان
عدم التلازم بلحاظ عالم الحكم لا يجدي بعد الملازمة في عالم (الارادة) وما يسبقها
من (المبادي) اذ ارادة الشيء تشريعا كارادته تكوينا مستلزمة لارادة مقدماته فاذا
تعلقت الارادة بعدم المهم ـ لمكان مقدميته ـ استحال ان تتعلق الكراهة به ـ كما هو
مقتضى الوجوب والاقتضاء ـ.
لكن قد يجاب ـ كما
ذكره بعضهم ـ بان ارادة المقدمة ليست بمعنى تعلق الشوق بها ، بل بمعنى التحرك
اليها واعمال القدرة نحوها ، لحكم الوجدان بان لا شوق الا نحو المطلوب النفسي فقط
، فان الحب والبغض ينشآن من ملائمة الشيء مع النفس أو منافرته معها ، وحيثية
المقدمية وتوقف المطلوب النفسي على المقدمة حيثية عقلائية تستوجب اعمال القدرة نحوها
، وليست موجبة لملاءمة أخرى مع الذات.
وينبه عليه :
امكان بغض المقدمة وحب ذيها فيما لو توقف انقاذ النفس على بتر عضو من الاعضاء مثلا
، فانه لا يخرج ـ بسبب مقدميته ـ عن كونه مبغوضا.
وكذا لو اضطر
الانسان لارتكاب حرام يكرهه لتخليص نفسه من الهلكة.
وأيضا : قد يبتهج
الانسان بالاثر المترتب على قتل ولي من الاولياء ـ من الهداية والارشاد ونحوهما ـ مع
حزنه على ما أصابه ، وهكذا.
وعليه : فاعمال
القدرة نحو المقدمة في الارادة التكوينية لمكان الاضطرار اليها غير مستلزم للشوق
اليها في الارادة التشريعية.
ولا يخفى ان نظير
ما ذكرناه في هذا الجواب ـ الثالث ـ يرد في الجواب الاول ، فتدبر.
رابعا : ان حرمة
ترك المهم ـ باعتبار كونه نقيضا للواجب ـ انما هي على
تقدير ترك الاهم
لا مطلقا ، وأما وجوبه فهو ـ لكونه مقدميا ـ يتبع الوجوب المتعلق بالاهم اطلاقا
وتقييدا واهمالا ، وتقييد وجوب الاهم بتركه واطلاقه لتركه محال ، فترك المهم من
حيث نفسه واجب ، ومبنيا على تقدير ترك الاهم حرام ، فليس في مرتبة ترك الاهم وعلى
هذا التقدير الا الحرمة لاستحالة وجوبه المقدمي في هذه المرتبة.
(وفيه) : جواز
اطلاق وجوب الاهم لحالة تركه وإلّا لورد نظيره في كل موطن استحال فيه تقييد الحكم
بتقدير من التقادير ، كما في تقييد الحكم بتقدير العلم به أو كان التقييد فيه لغوا
، كما في تقييد عدم الابصار في حالة النوم بتقدير كون الانسان أبيض ـ مثلا ـ ،
ولان المحذور ليس في ثبوت الحكم على المقيد كي يثبت المحذور في الاطلاق أيضا ، بل
هو في التقييد ، فلا يجري في المطلق ، اذ مركزه نفس التقييد ، والمفروض عدمه في
المطلق وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى في مناقشة المقدمة الثانية من مقدمات
المحقق النائيني (قده).
(مضافا) الى ما
ذكره المحقق الاصفهاني في (النهاية) من انه بعد ما كانت الذات واحدة ، وهي محفوظة
في هذه المرتبة ، لا يعقل ان تكون من حيث نفسها واجبة ومن حيث مرتبتها المتأخرة عن
مرتبة الذات محرمة ، لان مناط رفع التضاد ليس اختلاف الموضوع بالرتب ، بل بالوجود.
انتهى.
وقد سبق البحث في
ذلك في الوجه الاول من ما اورد به على الترتب.
خامسا : ان الواجب
هو المقدمة الموصلة ، لا مطلق المقدمة ، فيكون الواجب هو ترك المهم الموصل ومع
الايصال ينتفي موضوع الامر بالمهم ، فلا يكون المهم واجبا ، ليكون تركه حراما. ومع
عدم الايصال لا وجوب للمقدمة فلا يجتمع الوجوب والحرمة على أي واحد من التقديرين.
ثم انه يمكن تقرير
هذا الوجه ـ السادس ـ بان ترك المهم واجب ـ لمكان
المقدمية ـ فلا
يعقل أن يكون فعله أيضا واجبا ومأمورا به بالامر الترتبي.
وبهذا يستغنى في
الدليل عن الاقتضاء.
لكن لا يخفى ان
المحذور على هذا التقرير ليس هو الاجتماع ، بل الحكم على طرفي الايجاب والسلب لامر
واحد بحكمين لزوميين متماثلين ، وهو محال.
ويرد على هذا
التقرير بعض ما تقدم.
ثم انه يمكن جعل
مصب اجتماع الوجوب والحرمة (فعل المهم) بتقريب : ان الامر بالشيء يقتضي النهي عن
ضده الخاص ، فيكون المهم منهيا عنه ـ لكونه ضدا للاهم ـ ومأمورا به ـ لانه المفروض
عند القائل بالترتب ـ.
ويرد عليه :
أولا : عدم تسليم
الاقتضاء.
ثانيا : عدم تسليم
المنافاة ، فان مبغوضية (فعل المهم) غيرية ، فلا تنافي تعلق المحبوبية النفسية به
، فان مبغوضية الفعل ليست لملاك فيه يقتضيها ، بل لمجرد المزاحمة للواجب الاهم.
فيكون الفعل على ما هو عليه من الملاك المقتضي لمحبوبيته ، لكن هذا الجواب لا يخلو
من نظر ، لان الكلام في الامر لا في المحبوبية فتأمل.
ثم انه يمكن جعل
مصب الاجتماع (فعل المهم) بتقريب آخر وهو :
ان ترك المهم واجب
ـ لمكان مقدميته لفعل الاهم ـ فيكون نقيضه ـ وهو فعل المهم ـ حراما ، فاذا فرض كون
فعل المهم مأمورا به بالامر الترتبي لزم الاجتماع.
وقد يجاب عنه ـ مضافا
الى ما تقدم ـ بأن مانعية الضد لكل واحد من أضداده غير مانعيته للآخر ، فسد باب
عدم الضد من ناحيته غير سد باب عدم ضد آخر من ناحيته ، ومقدميته للضد الاهم تقتضي
تفويته من هذه الجهة لا من سائر الجهات
ونقيضه حفظه من
هذه الجهة لا من سائر الجهات ، فهو المبغوض ، دون حفظه وسد باب عدمه من جميع
الجهات ، فلا مانع من محبوبية حفظه وسد باب عدمه من سائر الجهات.
وأورد عليه : بان
وجود المهم بوحدته مضاد لجميع أضداده ومانع عنها ، وتركه مقدمة لكل واحد واحد منها
، ولا يتعدد هذا الواحد باضافته الى أضداده وبكثرة اعتباراته ، فان مطابق طرد جميع
أعدامه المضافة الى أضداده شخص هذا الوجود.
أدلة جواز الترتب
وقد استدل لجواز
الترتب بأدلة :
(الدليل الاول)
ما ذكره المحقق النائيني (قدسسره)
وهو يتألف من مقدمات ، والعمدة منها ثلاث
:
(المقدمة الاولى)
ان الواجب المشروط لا يخرج عما هو عليه
بعد تحقق شرطه ، لان شرائط التكليف ترجع الى قيود الموضوع ، والموضوع لا ينسلخ عن
الموضوعية بعد وجوده خارجا ، والسبب في ذلك أن الاحكام الشرعية مجعولة على نهج
القضايا الحقيقية لا الخارجية.
ولعل القول
بالانقلاب نشأ من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل
بتوهم أن شرط
التكليف خارج عن موضوعه ومن قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه فبعد وجوده يتعلق
الحكم بموضوعه ولا يبقى للاشتراط مجال ، وذلك مبتن على أن تكون القضايا المتكفلة
لبيان الاحكام الشرعية من قبيل الاخبار عن انشاء تكاليف عديدة يتعلق كل واحد منها
بمكلف خاص عند تحقق شرطه وقد بينا بطلانه.
وهذا الخلط وقع في
جملة من المباحث منها ما نحن فيه فانه توهم أن الامر بالمهم يصير مطلقا أيضا بعد
عصيان الامر بالاهم فيقع التزاحم بين الخطابين. انتهى.
هذه المقدمة أسست
لبيان : عدم المطاردة بين الامر بالمهم والامر بالاهم .. باعتبار تأخره عنه في
الرتبة ، لا قبل تحقق الشرط فقط ، بل بعده أيضا ..
أما الاول فلأخذ
عصيان الامر بالاهم في موضوع الامر بالمهم ، والعصيان متأخر عن الامر بالاهم ، كما
أن المحمول متأخر عن الموضوع ، فيتأخر الامر بالمهم في الرتبة عن الامر بالاهم.
وأما الثاني ـ وهو
مصب البحث في هذه المقدمة ـ فلان شرط الواجب المشروط يرجع للموضوع ، وهو لا يتبدل
بتحقق الشرط في الخارج وعدمه ، فيظل الامر بالمهم مشروطا بعصيان الامر بالاهم ،
فيظل التأخر الرتبي بين الامرين ، فتنتفي المطاردة من البين.
وفي هذه المقدمة
مواقع للنظر :
أولا : ان حديث
الاحتفاظ بالهوية وعدم الانقلاب لا يختص بالموضوع ، بل يعم كل ما يتعلق بالقضية
الحكمية ، فالموضوع يبقى على ما هو عليه ، والحكم لا يتبدل ، والشرط لا يخرج عن
كونه شرطا ـ ولو فرض القول بعدم رجوعه الى الموضوع ـ (الا في حالات طرو النسخ
ونحوه).
والسبب في ذلك :
أن (القضية الحكمية) يتحقق لها وجود فعلي بانشاء المولى الحكم على الموضوع المقدر
الوجود ، دون أن تكون لها حالة انتظارية ، أو تبدل ، أما الاول فلانه يستحيل
انفكاك (المنشأ) عن (الانشاء) ، استحالة انفكاك الانكسار عن الكسر ، والوجود عن
الايجاد ، وأما الثاني فلانه يستحيل انقلاب المعلول عما هو عليه بدون تبدل في
ناحية علله الوجودية ـ والمفروض في المقام عدمه.
وبتقرير آخر :
الحكم المشروط له مراحل أربع : الملاك ، والارادة ، والجعل ، والمجعول ...
أما المجعول فلا
يوجد الا بوجود موضوعه ، وإلّا لزم انفكاك المعلول عن علته.
وأما الجعل فتبدله
من الاشتراط الى الاطلاق يحتاج الى علة ، وليست إلّا تبدل الملاك والارادة ، أو
الارادة وحدها ـ ولا يتصور الفرض الثاني الا في المولى العرفي ـ والمفروض عدم
التبدل فيما نحن فيه ، فيبقى الحكم على ما كان عليه ، لبقاء علته على ما كانت
عليه.
ومنه يظهر عدم
الفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية ، والقضايا الخارجية التي ينشأ الحكم فيها
معلقا على تحقق الشرط في الخارج ، اذ جانب (الجعل) يمثل الثبات في كلنا القضيتين ،
وجانب (المجعول) و (الخارج) يمثل التغير في كلتيهما دون فرق بينهما أصلا.
وعليه : فلا ملزم
لارجاع الشرط الى الموضوع ـ لاشتراك الامرين في الثبات وعدم الانسلاخ عما هما عليه
ـ.
ثانيا : ان «رجوع
شرائط التكليف الى قيود الموضوع» :
(ان) أريد به «رجوع
شرائط الجعل ـ أي علله ودواعيه التي يتوخى الحصول عليها ـ اليها» ففيه أنه يستحيل
كون الداعي قيدا للموضوع لانه يلزم منه خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا أو
تحصيل الحاصل أو الامر بالشيء بلا ملاك
يقتضيه ، كما في
قوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) فانه لو جعل الموضوع (المكلف المتذكر) فقبل أداء الصلاة لا
يكون لها وجوب ضرورة أن الحكم لا يدعو الى موضوعه اذ أن وجوده متفرع على وجود
موضوعه ، فدعوته اليه تستلزم تقدم الشيء على نفسه ، بل على علته ، وحين أداء
الصلاة يكون الامر بأدائها تحصيلا للحاصل ، وبعد الاداء يكون الامر بلا ملاك
يقتضيه ، لفرض استيفاء الملاك من قبل.
و (ان) أريد به «رجوع
شرائط المجعول اليها» ففيه ما في (التهذيب) من أن القيود بحسب نفس الامر على قسمين
:
(قسم) يرجع الى
المادة والمتعلق بحيث لا يعقل ارجاعه الى الحكم والارادة كما اذا تعلق بالصلاة في
المسجد غرض مطلق ، فالوجوب المطلق توجه الى الصلاة في المسجد ، فيجب على العبد
بناء المسجد والصلاة فيه.
و (قسم) يرجع الى
الوجوب والحكم ولا يعقل عكسه كما اذا لم يتعلق باكرام الضيف غرض معتد به إلّا أنه
اذا ألم به ونزل في بيته يتعلق به الغرض ويحكم على عبيده بأن يكرموه اذا نزل
فالقيد حينئذ قيد لنفس التكليف لا يعقل ارجاعه الى المادة لانه يستلزم أن يتعلق
باكرامه ارادة مطلقة فيجب عليهم تحصيل الضيف وانزاله في بيته.
فارجاع جميع
الشروط الى الموضوع يستلزم الغاء ما هو الدائر بين العقلاء من انشاء الحكم على
قسمين بل ظهور الارادة على ضربين ، وقد عرفت أن اختلاف الواجب المشروط والمطلق لبي
واقعي ، فلا يجوز الارجاع بعد كون كل واحد معتبرا لدى العرف ، بل بينهما اختلاف في
الآثار المطلوبة منهما في باب الاحكام ـ انتهى.
وهذا الاشكال
بشقيه لا يرد على ما ذكره المحقق النائيني (قدسسره).
أما الاول :
فلانصراف كلامه عن شرائط الجعل.
وأما الثاني :
فلان المراد ب (الموضوع) في الاصطلاح هو (المكلف) ـ كما صرح به المحقق النائيني في
مواضع من كلامه وكما ذكره المورد نفسه ـ ورجوع شرائط التكليف الى الموضوع لا يلغي
الواجب المشروط فقولنا (المكلف يجب عليه الحج اذا استطاع) لو رجع الى (المكلف
المستطيع يجب عليه الحج) لم يضر بكون وجوبه مشروطا لبا ، وان اختلف التعبيران لفظا
، لعدم داعوية الحكم الى ايجاد موضوعه ، فيبقى الوجوب مشروطا ومنوطا بتحقق الموضوع
، وأما قيد المادة وحدها فليس من شرائط التكليف ، بل هو من شرائط المتعلق ، فهو
أجنبي عن كلامه ، فلا يرد عليه : أن رجوعه الى الموضوع يخرج الواجب المطلق عن كونه
كذلك كما في قولنا (صل عن طهارة) اذا رجع الى (المكلف المتطهر يجب عليه الصلاة) اذ
يكون وجوبها ـ حينئذ ـ ثابتا على تقدير اتفاق التطهر ، وهو خلف.
ثالثا : لو رجعت
الشرائط الى القيود ـ في الموضوع أو المتعلق لم يصح الاستصحاب في مثل (الماء نجس
اذا تغير) ـ فيما لم يعلم كون المناط التلبس بالتغير ولو آناً ما ليشمل الحكم حالة
انقضاء التلبس ، أو أن المناط هو التلبس بالفعل ـ وذلك لعدم احراز وحدة موضوع
القضيتين ، وهي شرط جريانه.
وفيه : أنه ليس
المناط في بقاء الموضوع : البقاء الحقيقي العقلي ، ولا بقاء ما أخذ موضوعا في لسان
الدليل ، بل البقاء العرفي ـ على ما فصل في مباحث الاستصحاب ـ ولا فرق فيه بين كون
الوصف مأخوذا في الشرط أو الموضوع ، فرجوعه اليه ليس بضائر.
رابعا : ان ما
ذكره (قدسسره) انما يتم لو كان الامر بالمهم مشروطا ، وأما لو كان معلقا
فلا ـ على ما سبق في أدلة القول بالامتناع ـ.
لا يقال : لو لم
تقيد الهيئة كان الوجوب فعليا ، فيترشح على المقدمة من ذيها ـ ولو عقلا ـ لتبعيتها
له في الاطلاق والاشتراط ، وخصوصية الشرط في المقام تمنع عن وجوبه ، وإلّا لزم
اجتماع الضدين.
لانه يقال : ينتفي
الترشح في حالات ثلاث :
أحدها : كون
المصلحة مقتضية لاخذ الشرط بوجوده الاتفاقي مناطا للتنجز كالاستطاعة بالنسبة الى
الحج مثلا.
ثانيها : وجود
المانع العقلي كخروج المقدمة عن حيز القدرة مثل شرطية الدلوك لوجوب الصلاة.
ثالثها : وجود
المانع الشرعي فانه كالعقلي ، مثل ما نحن فيه حيث أخذ الوجوب فيه على نحو لا يترشح
على هذه المقدمة ، حذرا من اجتماع الضدين ، ولذا يترشح على غيرها من المقدمات ـ ولو
عقلا ـ لو فرض معلقا. فتأمل.
هذا ولا يخفى أن
ذلك لا يرد على مسلك من أنكر وجود الواجب المعلق ، بل امكانه ، كما هو مسلك المحقق
النائيني (قدسسره).
خامسا : ما في (آراء
الاصول) من أن الشرائط غالبا تصرمية ، وبوجودها التصرمي تكون عللا لتعلق الحكم
بالموضوع ، فكيف ترجع للموضوع.
ويرد عليه : انه
لو فرض رجوع الشرط الى الموضوع فانما يؤخذ فيه بنفس مفهومه حين كان شرطا ، فلا
يكون هناك فرق بين أخذه في الشرط أو الموضوع من هذه الجهة ، وهكذا الامر بالنسبة
الى المتعلق ، ففي قولنا (الماء اذا تغير ينجس) ان كان التلبس بالتغير فعلا ، شرطا
، أخذ في المتعلق كذلك ، فلا محالة ينتفي بانتفاء التلبس الفعلي ، وان كان التلبس
آناً ما شرطا فلا محالة يستمر الحكم ولو بعد انتفاء التلبس ، وفي كلتا الحالتين لا
فرق بين أخذ التغير شرطا خارجا عن المتعلق أو شطرا داخلا فيه.
سادسا : ان التأخر
الرتبي لا ينافي التقارن الزمني ، بل قد يجب معه ، فان المعلول وأن تأخر بلحاظ
الرتبة عن العلة إلّا أنه يقارنها في الزمان ـ وإلّا لزم انفكاك العلة التامة عن
معلولها ، وجواز الانفكاك في كل آن لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد
، وهو مساوق لانكار العلية رأسا ـ.
وعليه : فان الامر
بالمهم وأن تأخر عن الامر بالاهم في الرتبة ـ لاخذ عصيانه في موضوعه ـ إلّا أنهما
يتقارنان في الزمان بعد تحقق شرط الامر بالمهم ، فيلزم منه اجتماع الحكمين ، ويعود
المحذور ، وقد سبق الكلام في ذلك في أدلة القول بالامتناع.
سابعا : انه لو
فرض انتفاء التضاد بين الخطابين بافتراض طوليتهما إلّا أنه سيظل التضاد في الحكم
العقلي بعد تحقق شرط الامر بالمهم.
وبعبارة أخرى :
سيكون هناك تنجيزان عقليان يتعلق أحدهما بالامر بالاهم لمكان اطلاقه والآخر بالامر
بالمهم لتحقق شرطه فيلزم التهافت في حكم العقل وهو كاف في المحذور.
اللهم إلّا أن
يقال : ان التنجيز في حالاته فرع الامر في طواريه قضاء لحق الظلية فلو تكفلت
الطولية برفع التضاد عنه لتكفلت برفعه عنه أيضا.
وفيه أنه يصح في
الحكم الكلي العقلي الذي يتبع الامر الشرعي لا في الحكم الجزئي المتعلق بالجري
العملي. فتأمل.
المقدمة الثانية
انحفاظ الخطاب في تقدير ما يكون بوجوه :
الاول : أن يكون
الخطاب مشروطا بوجوده أو مطلقا بالنسبة اليه وهذا انما
يكون في موارد
الانقسامات السابقة على الخطاب ، كانحفاظ خطاب الحج والصلاة في ظرف الاستطاعة
لاشتراطه واطلاقها ، ولا بد من لحاظ أحدهما عند الالتفات للانقسامات ، والاطلاق
فيه كالتقييد يكون لحاظيا.
الثاني : أن يكون
مطلقا أو مقيدا بالنسبة اليه بنتيجة الاطلاق أو التقييد وانما يكون في الانقسامات
اللاحقة للخطاب ، والموجب لكل منهما تقيد الغرض به أو اطلاقه والكاشف عنهما متمم
الجعل كما في مسألة اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل واختصاص وجوب الجهر أو
الاخفات بالعالم ، والاطلاق فيه ـ كالتقييد ـ يكون ملاكيا لاستحالة اللحاظي.
الثالث : أن يكون
مقتضيا بنفسه لوضع ذلك التقدير أو رفعه ، وهو مختص بباب الطاعة والمعصية ، ويستحيل
فيه الاطلاق والتقييد بقسميهما ، لان وجوب فعل لو كان مشروطا بوجوده لزم طلب
الحاصل ، ولو كان مشروطا بعدمه لزم طلب الجمع بين النقيضين ، ومنه يظهر استحالة
الاطلاق لانه في قوة التصريح بكلا التقديرين ، فيلزم منه كلا المحذورين مضافا الى
ان تقابل الاطلاق والتقييد انما هو تقابل العدم والملكة فامتناع التقييد يساوق
امتناع الاطلاق.
وكون انقسام
المكلف الى المطيع والعاصي لاحقا للخطاب فيكون انحفاظ الخطاب فيهما بنتيجة الاطلاق
مدفوع بكون محل الكلام منشأ انتزاع هذين العنوانين وهو الفعل والترك ، ولا بد من
ملاحظتهما حين الخطاب عند الحاكم ليكون خطابه بعثا الى أحدهما وزجرا عن الآخر.
فظهر ان حال
الخطاب بالاضافة الى تقديري الفعل والترك كحال حمل الوجود أو العدم على الماهية ، اذ
ليست المقيدة بالوجود أو بالعدم أو المطلقة موضوعا بل نفس الماهية المعراة عن لحاظ
الاطلاق والتقييد.
وفرق هذا القسم عن
سابقيه : كون انحفاظ الخطاب من لوازم ذاته فيه لان
تعلق الخطاب بشيء
يقتضي وضع تقدير وهدم آخر ، بخلافه فيهما فانه من جهة التقييد بذلك التقدير أو
الاطلاق ، ويترتب على هذا الفرق أمران :
(الاول) : ان نسبة
التقدير المحفوظ فيه الخطاب في الاولين بالاضافة اليه نسبة العلة الى معلولها ،
أما في موارد التقييد فلرجوع الشرائط الى الموضوع المتقدم رتبة على الحكم ، واما
في موارد الاطلاق فلاتحاد مرتبة الاطلاق والتقييد ، وهذا عكس الاخير لان للخطاب
نحو علية للامتثال ، وكذا العصيان لكون مرتبته عين مرتبة الامتثال.
(الثاني) : ان
الخطاب في الاولين لا يكون متعرضا لحال التقدير المحفوظ فيه الخطاب ، لعدم تعرض
الحكم لموضوعه ، فلا يقتضي وجوده ولا عدمه ، بخلاف الاخير فانه بنفسه متعرض لحال
ذلك التقدير وضعا ورفعا اذ المفروض انه المقتضي لوضع أحد التقديرين ورفع الآخر.
ومنه يظهر ان
انحفاظ خطاب الاهم حال العصيان من جهة اقتضاءه لرفع هذا التقدير ، بخلاف خطاب
المهم فانه لا نظر له الى وضع هذا التقدير ورفعه لانه موضوعه ، وانما يقتضي ايجاد
متعلقه على تقدير العصيان ، فلا خطاب المهم يرتفع لمرتبة الاهم ليقتضي موضوع نفسه
، ولا خطاب المهم يتنزل ويقتضي شيئا غير رفع موضوع خطاب المهم ، فالخطابان في
مرتبتين طوليتين وان اتحدا زمانا ـ انتهى.
وهذه المقدمة
منظور فيها من وجوه :
الاول : ان ما ذكر
من خروج الامرين عن التزاحم ، للطولية والاختلاف الرتبي فيما بينهما انما يتم لو
كان الامر بالمهم مشروطا ، اما لو فرض كونه معلقا فلا.
الثاني : ان ملاك
التزاحم والتضاد ليس المعية الرتبية بل المعية الوجودية
الزمانية ،
فانتفاء الاولى لا يرفع المزاحمة بعد وجود الثانية.
الثالث : لو كان
الاختلاف الرتبي مجديا في دفع التطارد لاجدى في أخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم ضده.
الرابع : النقض
بما اذا قيد الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم.
الخامس : النقض
بما اذا قيد الامر بالمهم بامتثال الامر بالاهم.
السادس : ان عدم
صعود الامر بالمهم الى مرتبة الامر بالاهم لا يكفي بعد نزوله الى مرتبته.
وقد مضى الكلام في
هذه الوجوه في أدلة القول بالامتناع.
السابع : ان اتصاف
أحد المتلازمين أو البديلين بالتقدم الرتبي على شيء لا يستلزم اتصاف ملازمه أو
بديله بالتقدم الرتبي عليه .. وكذا التأخر .. فان مصاحب العلة ليس بعلة ، ومصاحب
المعلول ليس بمعلول فلا يكون متقدما في الاول ، ولا متأخرا في الثاني ، لعدم توفر
ملاك التأخر الرتبي فيهما.
فحمرة النار ليست
علة للاحراق وان صاحبت العلة ، بالبداهة ، وامكان الممكن ليس معلولا وان لازم
المعلول وإلّا لزم الانقلاب ـ لو فرض واجبا أو ممتنعا في حد ذاته ـ أو التسلسل ـ لو
فرض ممكنا بامكان آخر ـ أو تقدم الشيء على نفسه ـ لو فرض ممكنا بنفس الامكان
المعلول ـ أو خلو الشيء عن المواد الثلاث ـ لو فرض عدم كونه كذلك ـ والتوالي
بأسرها باطلة.
ومنه ينقدح : ان
كون الامتثال والعصيان بديلين لا ينهض دليلا على تأخر العصيان عما تأخر عنه
الامتثال ـ لو سلم ـ فلا يمكن اثبات الطولية بذلك.
نعم : لو لم يرد
بالامتثال أو العصيان مجرد الفعل أو الترك ، بل أريد بهما العنوان الانتزاعي امكن
اثبات تأخرهما عن الخطاب ، ـ على ما سبق الكلام فيه ـ ، لكن كلامه (قده) في منشأ
الانتزاع لا في العنوان المنتزع كما صرح هو بذلك.
وكذا الامر في
الاطلاق والتقييد فان كونهما بديلين لا يستلزم تقدم الاطلاق على ما تقدم عليه
التقييد.
الثامن : ان ما
ذكره المحقق النائيني (قدسسره) من استحالة الاطلاق في بابي الطاعة والمعصية فلا يكون
للامر بالاهم اطلاق يعم حال عصيانه حتى يرد الامران على تقدير واحد ولو بالاطلاق ،
مستدلا عليه بانه يلزم منه الجمع بين كلا المحذورين منظور فيه.
اما نقضا : فبورود
نظيره في كل موطن استحال فيه تقييد الحكم بأحد التقديرين أو كان التقييد فيه لغوا
، فمثلا : في مسألة اشتراك الاحكام يقال : بأن تخصيص الحكم بتقدير العلم يستلزم
الدور ، وتخصيصه بتقدير الجهل يستلزم اللغوية ، فاشتراك الاحكام بينهما ـ ولو
بنتيجة الاطلاق ـ في قوة التصريح بكلا التقديرين ، فيلزم منه كلا المحذورين.
وهكذا فيما لو كان
تعيين احدى الحصتين مستلزما للترجيح بلا مرجح ـ فان الترجيح كذلك لغو على المعروف
، وان كان محالا على التحقيق ، لاوله الى الترجح بلا مرجح ، وهو مساوق لوجود
المعلول بدون وجود علته ـ.
واما حلا : فبما
في (المباحث) من (ان المحذور تارة يكون في ثبوت الحكم على المقيد ، واخرى في
التقييد ، فالنحو الاول من المحذور يثبت في الاطلاق أيضا ، اذ المحذور قائم في
ثبوت الحكم على الحصة المعينة سواء كان الثبوت باطلاق أو بتخصيص ، واما النحو
الثاني من المحذور فهو غير جار في المطلق ، اذ مركزه نفس التقيد ، والمفروض عدمه
في المطلق ، ومقامنا من الثاني لا الاول ، اذ لا محذور في ثبوت الحكم في حالتي
الامتثال والعصيان ، وانما المحذور في نفس تقييد الحكم بحالة العصيان أو حالة
الامتثال فيرتفع بالاطلاق) انتهى. فتأمل.
واما ما تمسك به
من ان امتناع التقييد مساوق لامتناع الاطلاق فيرد عليه :
ان الاطلاق يمكن
ان يطلق على معنيين :
أحدهما : عدم
التقييد ، في مورد امكان التقييد ، فيكون العدم فيه عدم ملكة.
وثانيهما : عدم
التقييد ، مطلقا ، بلا لحاظ امكان التقييد أو عدمه ، فيكون العدم فيه سلبا في قبال
الايجاب.
والاطلاق والتقييد
بالمعنى الثاني متعاقبان لا يمكن ارتفاعهما معا ، لكونهما نقيضين ، ففرض ارتفاع
احدهما فرض ثبوت الآخر ، بخلاف المعنى الاول حيث يمكن فيه ارتفاعهما ، وذلك في
المحل غير القابل.
وحينئذ نقول : ان
الاثر تارة يكون مرتبا على الاطلاق بالمعنى الاول ، وفي هذه الحالة لا يمكن
الاطلاق اذا لم يمكن التقييد ، لانتفاء قابلية المحل.
وتارة يكون مرتبا
على نفس عدم التقييد ، ـ أي الاطلاق بالمعنى الثاني ـ وفي هذه الحالة يكون الاطلاق
ضروريا اذا لم يمكن التقييد.
والاثر فيما نحن
فيه مرتب على الاطلاق بالمعنى الثاني ، اذ يكفي فيه نفس عدم الاختصاص باحدى
الحالتين المستفاد من عدم معقولية التقييد ، فما دام اختصاص الحكم باحدى الحصتين
محالا يكون عمومه لهما ضروريا ، وهو المطلوب.
ومنه ينقدح عدم
الحاجة الى متمم الجعل في مثل مسألة اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل ، لعدم
توقف اثباته على الاطلاق الملكي الممتنع حسب الفرض بل يكفي فيه : نفس عدم الاختصاص
بالعالم المستفاد من نفس عدم معقولية التقييد فيكون التقابل تقابل السلب والايجاب (أي
الاختصاص وعدمه) واستحالة أحد النقيضين كافية في اتصاف البديل بالوجوب.
هذا كله مضافا (الى)
أن الانقسامات اللاحقة للخطاب انما تكون لاحقة في الوجود العيني ، ولا مانع من
لحاظها موضوعا في الوجود الذهني.
فمثلا : في مسألة (قصد
امتثال الامر) : المتأخر عن الامر وما يأتي من قبله هو القصد الخارجي ، وأخذ القصد
في موضوع الامر لا يستلزم تقدم الشيء على نفسه بمرحلتين ـ اذ كيف يؤخذ ما يأتي من
قبل الامر في متعلقه؟ ـ لان كون فرد مصداقا للطبيعي منوط بأمرين :
أحدهما : أخذ
الطبيعي في حد الفرد كأخذ الهيئة القارة التي لا تقبل القسمة والنسبة لذاتها في
تعريف الكيف.
وثانيهما : ترتب
الآثار المترقبة من الطبيعي على الفرد ، كترتب تفريق نور البصر على البياض.
ومجرد تحقق الامر
الاول لا يجدي في اندراج الفرد تحت الطبيعي ما لم ينضم اليه الامر الثاني ، نعم
يكون هو هو بالحمل الاولي الذاتي ، لا بالحمل الشائع الصناعي.
ومن هنا كان
انسلاخ معظم المفاهيم عن نفسها في مرحلة الحمل الشائع ، وان احتفظت بالهوهوية في
مرحلة الحمل الاولي ، فالجزئي جزئي بالحمل الاولي لصدق تعريفه عليه ، وليس بجزئي
بالحمل الشائع لامكان فرض صدقه على كثيرين فليست فيه خاصية مصاديقه وهكذا سائر
المفاهيم ، نعم يستثنى من التخالف في الحملين مفهوم (الكلي) ، فانه كلي بالحمل
الاولي وبالشائع معا ، لاخذ تعريفه في حده ، ولا مكان فرض صدقه على كثيرين ـ من
المفاهيم الكلية ـ ففيه خاصية مصاديقه وكذا مفهوم (الموجود) و (الشيء) ونحوهما.
ففيما نحن فيه :
القصد المتأخر هو القصد بالحمل الشائع ، واما المأخوذ في موضوع الخطاب ـ فهو القصد
بالحمل الاولي ، أي أنه مفهوم القصد والصورة الذهنية له ، وليس مفهوم الشيء فردا
له ولا هو هو بالحمل الشائع ، فالمتقدم هو المفهوم الذهني ، والمتأخر هو المصداق
الخارجي ، فلا يلزم تقدم الشيء
على نفسه وعلى هذا
فلا استحالة في أخذ مثل ذلك في موضوع الخطاب ، بل قد يقال بأنه يستحيل عدم أخذه
كذلك ، لعدم قيام غرض المولى بالطبيعي ، بل بالحصة ، فكيف يكون موضوع الخطاب هو
الطبيعي؟ فتأمل.
(الى) غير ذلك مما
لا نطيل المقام بذكره.
المقدمة الثالثة
ان الخطاب الترتبي لا يقتضي ايجاب الجمع
، فلا وجه لاستحالته
، لان الجمع عبارة عن اجتماع كل منهما في زمن امتثال الآخر ، بحيث يكون امتثال أحد
الخطابين مجامعا في الزمان لامتثال الآخر. والذي يوجبه : اما تقييد كل من
المتعلقين ـ أو أحدهما ـ بحال فعل الآخر ، واما اطلاق كل من الخطابين لحال فعل
الآخر والخطاب الترتبي لا يقتضي ايجاب الجمع ، بل يقتضي نقيضه بحيث لا يكون الجمع
مطلوبا لو فرض امكانه ، وإلّا لزم المحال في كل من طرفي المطلوب والطلب.
أما الاول : فلان
مطلوبية المهم انما تكون في ظرف عصيان الاهم ، فلو وقع على صفة المطلوبية في حال
امتثال الاهم كما هو لازم ايجاب الجمع يلزم الجمع بين النقيضين اذ يلزم أن يعتبر
في مطلوبية المهم وقوعه بعد العصيان ، ويعتبر أيضا في مطلوبيته وقوعه في حال عدم
العصيان ، بحيث يكون كل من حالتي وجود العصيان وعدمه قيدا في المهم ، وهذا يستلزم
الجمع بين النقيضين.
وأما الثاني :
فلان خطاب الاهم يكون من علل عدم خطاب المهم ، لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمعا ـ
كما هو لازم ايجاب الجمع ـ لكان من اجتماع الشيء مع علة عدمه. وحينئذ اما أن نقول
بخروج العلة عن كونها علة للعدم ،
أو بخروج العدم عن
كونه عدما ، أو باجتماعهما مع بقاءهما على ما كانا عليه ، والتوالي بأسرها باطلة.
مضافا الى أن
البرهان المنطقي يقتضي أيضا عدم ايجاب الجمع فان الخطاب الترتبي بمنزلة منفصلة
مانعة جمع صورتها هكذا (اما أن يكون الشخص فاعلا للاهم واما أن يجب عليه المهم)
فهناك تناف بين وجوب المهم وفعل الاهم ، ومع هذا التنافي كيف يعقل ايجاب الجمع؟ مع
أن ايجاب الجمع يقتضي عدم التنافي بين كون الشخص فاعلا للاهم وبين وجوب المهم
عليه. انتهى.
ويرد عليه :
أولا : ان المفروض
محال ـ وان لم يكن الفرض محالا ، لان فرض المحال ليس بمحال ـ اذ يستحيل أن يجمع (العاصي
للاهم) بين (المهم والاهم) ، لانه يؤول الى اجتماع النقيضين ، حيث يكون المكلف
تاركا للاهم ـ باعتبار كونه عاصيا له ـ وفاعلا له ـ باعتبار كونه جامعا بينه وبين
ضده ـ.
وعلى فرض صدورهما
معا من المكلف فهما يقعان حينئذ معا على صفة المطلوبية ، اذ الامر بالمهم انما رتب
على عصيان الامر بالاهم لعدم قدرة المكلف على الجمع ، ففي ظرف فرض امكان صدورهما
عن المكلف لا يكون هنالك تعليق ، ويخرج الامران عن كونهما ترتبيين الى أمرين
عرضيين.
وبعبارة أخرى :
تقييد خطاب المهم ـ مع اطلاقه في حد نفسه ـ انما كان بحكم العقل حذرا من الامر بما
لا يطاق ، فاذا فرض امكان صدورهما معا عن المكلف ارتفع المحذور ، ولم يكن هناك داع
لتقييد المهم ، وكان الامران فعليين معا.
ويؤيده ما ذكره
المحقق النائيني (قدسسره) بقوله :
(ان مورد البحث في
الامر الترتبي انما هو فيما اذا كان الملاك لكل من الامرين ـ من المترتب والمترتب
عليه ـ ثابتا متحققا عند التزاحم ، بحيث لو منعنا
عن الامر الترتبي
أمكن تصحيح العبادة بالملاك ، بناء على كفاية ذلك في صحة العبادة ...) وقال أيضا :
(ان مسألة الترتب من فروع باب التزاحم) ...
وقد يورد عليه :
بأن هذا انما يتم في صورة كون المهم واجدا للملاك في عرض الاهم ، لا في صورة ترتبه
عليه ملاكا كترتبه عليه حكما.
وفيه : أن نفس
الاطلاق كاشف اني عن ثبوت الملاك ، والمفروض حصوله لوجود المقتضي وعدم المانع في
ظرف هذا الفرض.
ومنه ينقدح النظر
فيما رتبه (قده) من المحذور في طرفي الطلب والمطلوب.
وأما ما استدل به
في (التهذيب) على وقوع كل من الاهم والمهم حينئذ على صفة المطلوبية بقوله : (ان
الذي يعصي مع كونه عاصيا في ظرفه : يطلب منه الاتيان بالاهم ، لعدم سقوط أمره
بالضرورة ما لم يتحقق العصيان خارجا ، والفرض أن شرط المهم حاصل أيضا فيكون مطلوبا)
ففيه : انه ان أراد ترتب (مطلوبية المهم) على (مقدم الجمع) على نحو (بشرط شيء) ـ أي
مع ضميمة
ترتب (عدم
المطلوبية) على (المقدم) ـ أو على نحو (لا بشرط) فهو صحيح إلّا أنه لا يجديه ، وان
أراد ترتيبها عليه على نحو (بشرط لا) ـ أي بشرط عدم ضميمة ترتب النقيض على المقدم
ـ فهو غير صحيح ، وذلك لانه لا يصح ترتيب كل تال على كل مقدم ، بل ما يكون بينهما
علاقة ذاتية ، بحيث لو قدر وجودهما يكون بينهما تعلق سببي ومسببي أو يكونان
معلولين لعلة ثالثة ـ على التفصيل المقرر في محله ـ ومن هنا كانت انسانية الجدار ـ
لو فرضت ـ مستلزمة لناطقيته ، لا لناهقيته ، اذ التلازم هو كون الشيئين بحيث لا
يمكن فى نظر العقل وقوع الانفكاك فيما بينهما وهذا انما يتحقق فى الاول لا في
الثاني ، ولا فرق في ذلك بين كون المقدم واجبا أو ممكنا أو ممتنعا.
ففي المقام : لو
أخذ في المقدم اجتماع وجود الاهم وعدمه فلا محالة يؤخذ
في التالي اجتماع
مطلوبية المهم وعدمها ، أما المطلوبية فلتحقق شرطها ـ وهو انتفاء الاهم بمقتضى كون
المكلف عاصيا له ـ وأما عدمها فلانتفاء الشرط بتحقق الاهم ـ بمقتضى كونه جامعا
بينه وبين ضده ـ
وعلى كل : فالذي
ينفع المجيب هو (اثبات المطلوبية) فقط ، وهو غير حاصل في المقام.
ومنه ينقدح : عدم
استقامة الاستدلال المذكور في المقدمة الثالثة أيضا ، اذ الذي يجدي هو (اثبات عدم
المطلوبية) محضا ، ولا يمكن اثباته بهذا البرهان.
ثانيا : ان ترتيب (بطلان
كون الامر الترتبي أمرا بالجمع) على ترتب هذه المحاذير ليس بأولى من ترتيب (بطلان
وجود الامر الترتبي) عليه ، بل هو متعين اذ لا يلزم في الامر بالجمع ان يكون
بعنوانه ـ لكونه معنى انتزاعيا منوطا بوجود منشأ انتزاعه ـ كما لا يلزم كونه أمرا
بالجمع مطلقا ، بل يمكن كونه أمرا بالجمع مشروطا ، وذلك حاصل في المقام عند تحقق
مقدم شرطية الامر بالمهم.
وعليه يقال : لو
كان هناك أمران ترتبيان لزم الامر بالجمع بين المتعلقين ، لكن التالي باطل ـ لعدم
معقولية الامر بالجمع باعتبار فرض ترتب المحاذير المذكورة في هذه المقدمة عليه ـ فالمقدم
مثله ، فتأمل.
ثالثا : ان
المحذور المتصور في الامر بالترتب منوط ب (معية الطلب) لا (طلب المعية). وذلك
لاداء الطلبين المتزامنين كذلك الى اجتماع ارادتين فعليتين في نفس المولى وهو محال
بمقتضى سراية التضاد من المراد الى الارادة ولعدم وفاء قدرة المكلف على الجمع بين
الضدين. فلا ينفع الدفع بارتفاع (طلب المعية) بالترتب.
وسيأتي الكلام في
ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.
(الدليل الثاني)
(الدليل الثاني) ـ مما استدل به لجواز
الترتب ـ الوقوع ، فانه أدل دليل على
الامكان.
ولهذا الدليل شقان
:
الشق الاول :
الوقوع في الشرعيات.
وقد ذكر المحقق
النائيني (قدسسره) وغيره ان في الفقه فروعا لا محيص للفقيه عن الالتزام بها
مع كونها من الخطاب الترتبي.
(منها) ما لو فرض
حرمة الاقامة على المسافر من أول الفجر الى الزوال ، فعصى وأقام ، فلا اشكال في
وجوب الصوم عليه ، فيكون قد توجه اليه في الآن الاول الحقيقي من الفجر كل من حرمة
الاقامة ووجوب الصوم ، لكن مترتبا ، بمعنى ان وجوب الصوم يكون مترتبا على عصيان
حرمة الاقامة ، ففي حال الاقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الاقامة.
و (منها) ما لو
فرض وجوب الاقامة على المسافر من أول الزوال ، اذ يكون وجوب القصر عليه مترتبا على
عصيان وجوب الاقامة ، وكذا لو فرض حرمة الاقامة فان وجوب التمام يكون مترتبا على
عصيان حرمة الاقامة.
و (منها) وجوب
الخمس المترتب على عصيان خطاب أداء الدين اذا لم يكن الدين من عام الربح.
ولا فرق بين هذه
الفروع وما نحن فيه سوى كون التضاد فيها شرعيا ، وفيه ذاتيا ولكن امكان الجمع بحسب
ذاته وعدمه لا يوجب فرقا فيما هو ملاك الاستحالة.
ويرد عليه :
ان دلالة الوقوع
على الامكان ـ باعتبار عدم وقوع المحال في الخارج ـ
متوقفة على احراز
صغروية (الواقع) للكبرى المطلوبة ، ولا يتم هذا الاحراز الا ينفي جميع الاحتمالات
الأخر ، اذ مجيء الاحتمال مبطل للاستدلال في باب الامور العقلية ، وان لم يكن
مبطلا له في باب الظواهر اللفظية ، لابتناءها على الظنون النوعية ، بخلاف الاولى
فانها تبتني على القطع ، وهو لا يجامع احتمال الخلاف مطلقا .. وما سيق من الامثلة
في هذا الباب لا يتعين كونه من الامر الترتبي لاحتمال كونه من غيره ، وتوضيح ذلك
يتوقف على بيان مقدمات :
(الاولى) :
ان الملاك القائم
بالشيء لا يزول بحصول التضاد بينه وبين ضده ، اذ الملاك عبارة عن المصلحة ـ أو
المفسدة ـ التكوينية الحاصلة في الشيء ، ولا ينقلب الموصوف بصفة تكوينية عما هو
عليه لعدم قدرة المكلف على الجمع بينه وبين ضده .. ولو نوقش في الكلية المزبورة
كفت الموجبة الجزئية في اثبات المطلوب.
نعم قد لا يلحظ
الملاك القائم بالشيء في مقام جعل الحكم بحيث يكون مؤثرا فيه ، لحصول الكسر
والانكسار بين المقتضيات المتزاحمة وترجيح الاهم منها.
لكن عدم لحاظه في
مقام التشريع لا يستلزم عدم ثبوته في الخارج ، كما في انقاذ الغريقين ، فان التضاد
بينهما ـ بالنظر لقدرة المكلف ـ لا يمنع عن اتصاف كل منهما بالمصلحة في حد ذاته ـ وان
فرض عدم كونها محركة لجعل الحكم على طبق أحدهما لكون الآخر أهم ـ.
(الثانية) :
ان محبوبية الشيء
لا تستلزم مبغوضية ضده الخاص لتوقف مبغوضية الشيء على وجود المفسدة فيه ، وهي اما
نفسية أو غيرية ، ولا مفسدة نفسية في الضد على ما هو المفروض ، كما لا مفسدة غيرية
فيه اذ انها اما ان تنشأ من (المقدمية) ـ بتقريب
(ان وجود الشيء
موقوف على عدم ضده ـ باعتبار كون الضد مانعا ، مع أن عدم المانع من المقدمات) و (ان
مقدمة المحبوب محبوبة) و (ان محبوبية عدم الضد مستلزمة لمبغوضية وجود الضد).
أو من (التلازم) ـ
بتقريب (ان وجود كل شيء ملازم مع عدم ضده) و (ان المتلازمين في الوجود متلازمان في
المحبوبية والمبغوضية) و (ان محبوبية عدم الضد مستلزمة لمبغوضية وجود الضد).
وكلتاهما منتفيتان
في المقام.
اما الاولى فلعدم
حيلولة الضد ، عن وجود المحبوب ، اذ الحائل هو (الصارف) ـ أي ارادة الضد أو عدم
ارادة الشيء وبعبارة أخرى : وجود المقتضي للضد أو عدم وجود المقتضي للشيء ـ فلو
فرضت ثمة مبغوضية لكانت متعلقة به لا بالضد ، مع امكان المناقشة في مبغوضية ما
يحول دون وجود المحبوب على ما قرر نظيره في مباحث استلزام ارادة الشيء لارادة
مقدماته الوجودية.
واما الثانية :
فلدلالة الوجدان على عدم التلازم عند تعلق الحب أو البغض بشيء ، حيث يمكن ان يقفا
على نفس المتعلق دون سراية الى ملازماته الوجودية أو العدمية ـ على ما سبق في أدلة
القول بالامتناع ـ.
ثم انه لو فرض
اقتضاء محبوبية الشيء : مبغوضية ضده إلّا انها مبغوضية غيرية ـ لمكان الملازمة أو
المقدمية ـ فلا تقتضي فساد العبادة بناء على ما ذكره بعضهم من ان الغيري لا حكم له
في نفسه اذ ان مبغوضية الضد ليست عن ملاك يقتضيها ـ كما في النهي عن العبادة ـ بل
لمجرد المزاحمة لواجب أهم ، فتكون العبادة على ما هي عليه من المحبوبية المقتضية
لصحتها فتأمل.
ومما ذكرنا يظهر
الكلام في الاستدلال على المدعى عن طريق الضد العام ، وتفصيل الكلام في مباحث (الضد)
فراجع.
(الثالثة) :
ان وجود الخطاب
الشرعي كاشف عن وجود الملاك الواقعي ، ـ وان وقع الخلاف في انحصار الكشف عنه به ،
وعدمه ، على ما فصل في مباحث (الضد) ـ.
وكشفه عنه اما ان
يكون على نحو (الدلالة الالتزامية) بتقريب ان الخطاب معلول للملاك ، فوجوده كاشف ـ
انا ـ عن وجوده ، واما أن يكون على نحو (الظهور السياقي) بدعوى ان الخطاب يتكفل
الدلالة على مطلبين : أحدهما طلب المادة والآخر وجود الملاك غاية الامر ان الاول
مدلول لفظي لصيغة الامر والثاني مدلول سياقي للخطاب ، فتكون دلالته على الملاك في
عرض الدلالة على الحكم لا مدلولا التزاميا طوليا للخطاب على ما نسب الى المحقق
النائيني (قدسسره) ـ.
ولا فرق في ذلك
بين كون الامر مولويا أو ارشاديا اذ على كلا التقديرين لا بد من وجود الملاك لكي
يصح الامر.
نعم : الفرق
بينهما هو انه يتعين في الامر الارشادي كون الملاك في المتعلق اما في الامر
المولوي فكما يمكن أن يكون فيه كذلك يمكن أن يكون في نفس الامر ـ خلافا لما في (المحاضرات)
من تعين كون ملاكه في المتعلق ـ.
(الرابعة) :
ان الامر وان كان
ظاهرا في المولوية ـ كما يشهد له حكم العقل ، وبناء العقلاء بالنسبة الى أوامر الموالي
على ما قرر في مبحث دلالة الامر ـ مادة وصيغة ـ على الوجوب ـ إلّا انه يتعين صرفه
الى (الارشاد) عند قيام المحذور العقلي من كونه مولويا كما في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ونحوه من الاوامر المتعلقة بالطاعة.
ومما ذكر يظهر :
ان وجود الامر
بالمهم فيما سيق من الامثلة لا ينهض دليلا على امكان (الترتب)
في قبال القائلين
بالاستحالة لجواز كون الامر بالمهم ارشادا الى ما في المادة في الملاك والمحبوبية
اللذين لا يزولان بوقوع التضاد بينه وبين الاهم.
ثم انه قد تقرر في
مباحث (التعبدي والتوصلي) عدم تقوم عبادية العبادة بقصد (الامر المولوي) بل يكفي
قصد الملاك المضاف الى المولى ـ سبحانه ـ وان لم يكف قصد مطلقه ، خلافا لصاحب
الجواهر (قدسسره) حيث اشترط قصد امتثال الامر في العبادة وجعل سائر الدواعي
في طول داعي امتثال الامر بحيث لا بد أن يأتي بالعبادة بداعي امتثال أمرها ويكون
داعيه الى ذلك هو دخول الجنة أو تجنب النار أو كونه سبحانه أهلا للعبادة. وعلى فرض
الاشتراط يمكن القول بأن الامر الذي يجب قصد امتثاله في العبادة يعم المولوي
والارشادي ، فلا اشكال من هذه الجهة.
هذا كله ان كان
متعلق الامر تعبديا.
وأما ان كان
توصليا فالامر فيه أوضح.
ومن هنا قال صاحب
الكفاية (قدسسره) ـ بعد ان أورد على نفسه : الاشكال الإنّي ـ (لا يخلو اما
أن يكون الامر بغير الاهم بعد التجاوز عن الامر به وطلبه حقيقة ، واما أن يكون
الامر به ارشادا الى محبوبيته وبقاءه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا
المزاحمة وان الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة ، لا انه أمر مولوي فعلي كالامر به).
هذا مضافا الى
المناقشات الفقهية فيما سيق من الامثلة كما يظهر من مراجعة المطولات.
الشق الثاني :
الوقوع في العرفيات.
والامثلة عليه
كثيرة ، وقد مثل له السيد الحكيم (رحمهالله) في (الحقائق) بقول الاب لولده : اذهب هذا اليوم الى
المعلم ، فان عصيت فاكتب في الدار
ولا تلعب مع
الصبيان.
ودعوى كون الامر
بالمهم ارشاديا يردها : الوجدان ، اذ لا نجد من أنفسنا حين توجيه الامر الترتبي
الا ما نجده منها حين توجيه الامر المولوي.
وبعبارة اخرى :
الحاكم هنا هو الشاهد فلا مساغ فيه لاحتمال الارشادية. بخلاف الوقوع في الشرعيات
فتدبر.
ويدل عليه ما
ذكرناه سابقا من تعدد الاستحقاق في صورة عصيان الامرين.
وقد مر بعض ما
يرتبط بالمقام من الكلام في أواخر الوجه الثاني مما أورد به على الترتب ، فراجع.
(الدليل الثالث)
(الدليل الثالث): ما في (المباحث) من ان
الارادة المشروطة مرجعها لبا الى ارادة مطلقة متعلقة بالجامع بين الجزاء على تقدير
الشرط ، وعدم الشرط فارادة
الماء على تقدير العطش مرجعها الى ارادة فعلية للجامع بين ان لا يعطش وأن يشرب
الماء على تقدير العطش.
وعليه : يبتني رفع
الاستحالة في المقام ، لان الامر بالمهم المشروط بترك الاهم يرجع الى ارادة الجامع
بين اتيان المهم على تقدير عدم الاهم أو إتيان الاهم ، ومن الواضح ان الامر الجامع
بين المهم والاهم ليس مضادا أصلا مع الامر بالاهم وانما التضاد بين الاهم تعيينا
والمهم تعيينا.
وأورد عليه :
بأن ارادة الجامع
تتولد منها ارادة تعيينية للجزاء على تقدير تحقق الشرط ، فيحصل التضاد بينها وبين
الارادة التعيينية المتعلقة بالاهم.
هذا مضافا الى أن
احدى حصتي الجامع ـ وهي الاتيان بالجزاء على تقدير تحقق الشرط ـ غير مقدورة ـ لمضادتها
للاهم المقتضي لاستنفاذ قدرة المكلف في صرفها نحوه ـ وقد سبق ان الجامع بين
المقدور وغير المقدور غير مقدور ، فلا يعقل أن يكون متعلقا للارادة ، فتأمل.
(الدليل الرابع)
(الدليل الرابع) : ان المحذور المترتب
على الامر الترتبي اما أن يفرض في (نفس الحكم) أو في (مبدئه) أو في (منتهاه).
اما (نفس الحكم) :
فقد مر ان لا تضاد في نفس الاحكام عند قصر النظر على ذاتها ، لا بالذات ، ولا
بالتبع ، فالتضاد فيها انما يكون بعرض غيرها.
وأما (المبدا) ـ أي
الارادة ومقدماتها ـ فتوضيح انتفاء المحذور فيه يتوقف على بيان امور : أحدها : ان
التكليف كما يمكن أن يساق بداعي ايجاد الداعي في المكلف نحو المطلوب ، كذلك يمكن
أن يساق بداع آخر ـ كما في الاوامر الاختبارية والاعتذارية ونحوها ـ.
ثانيها : ان حق
الطاعة للمولى على العبد كما يشمل ما يساق بداعي البعث والتحريك كذلك يشمل ما يساق
بداع آخر .. ويدل عليه بناء العقلاء.
ثالثها : ما يعلم
عدم ترتبه على الشيء لا يعقل أن يكون غرضا منه ، وتستوي في ذلك الامور التكوينية
والتشريعية ، فاذا علم الشخص بأن هذه النار لا يمكن أن تحرق الخشب ـ لعدم المحاذاة
أو لرطوبة الخشب أو غيرهما ـ فلا يعقل أن يكون الغرض من ايقادها هو الاحراق ، وكذا
لو علم المولى علما يقينيا بعدم انبعاث
العبد نحو المطلوب
فلا يعقل أن يكون طلبه منه بغرض تحريكه نحوه.
رابعها : انه
يستحيل تعلق ارادتين حقيقيتين بغرض التحريك بأمرين متضادين لعدم امكان ترتب أحدهما
عليه ، وقد سبق ان ما لا يمكن ترتبه على الشيء لا يعقل أن يكون غرضا منه أما لو
كانت الارادتان بداع آخر ، أو كانت احداهما بداعي التحريك والاخرى بداع آخر ـ كالاختبار
أو التعذير ـ فلا استحالة.
وبناء على ذلك
نقول : ان الامر بالاهم ـ بالنسبة الى من يعلم المولى عصيانه ـ لم يسق بداعي جعل
الداعي ـ بمقتضى الامر الثالث ـ لكن هذا لا يخرجه من دائرة حق الطاعة ـ بمقتضى
الامر الثاني ولكونه ممتنعا بالغير ، لا ممتنعا ذاتيا أو وقوعيا وهو لا ينافي
الامكان الذاتي والوقوعي للمتعلق وإلّا لم يكن ممكن أبدا اذ الشيء لا يخلو من
الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير فمتى يكون ممكنا؟ كما لا ينافي امكان التكليف ،
وإلّا لزم انتفاء التكليف في حق الكفار والعصاة.
والامر بالمهم
انما سيق بداعي التحريك ـ في حق من يمتثله ـ وبداع آخر ـ في حق من لا يمتثله ويعدل
منه الى الثالث ـ وقد قرر في الامر الرابع ان لا استحالة في اجتماع مثل هاتين الارادتين
فتأمل.
وأما (المنتهى)
فالمحذور انما يتولد في صورة استلزام الامر المولوي لتحير المكلف ، وان فرض كونه
منقادا للمولى ، كما في الامر بالضدين مطلقا ، وأما الامران المسوقان على نحو
الترتب فلا يوجبان وقوع المكلف في الحيرة ، فلا يكون هناك محذور في مرحلة الجري
العملي. فتأمل.
ثم ان هنالك أدلة
اخرى على الامكان تعلم مما قرر في أدلة الامتناع فراجع.
ما يناط به الامر بالمهم
لقد وقع البحث في
ما يناط به الامر بالمهم ، وجعله بعضهم من أدلة استحالة الترتب ، فلا بأس يعطف
عنان الكلام الى ذلك ، فنقول :
ان ما يناط به
الامر بالمهم لا يخلو من فروض :
الفرض الاول
أن يناط بنفس العصيان على نحو الشرط
المقارن.
وقد قيل باستحالته
لامور :
الأمر الأول
ما ذكره صاحب الكفاية (قدسسره)
من (لزوم تقدم البعث على الانبعاث ، ضرورة ان البعث انما يكون لاحداث الداعي
للمكلف نحو المكلف به ، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من
العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا
الا بعد البعث
بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان).
وعليه : فلو كان
العصيان مأخوذا على نحو الشرط المقارن للامر بالمهم ـ والحال ان عصيان الاهم مقارن
لطاعة الامر بالمهم ـ لزم تقارن البعث والانبعاث لان المقارن للمقارن مقارن.
وتقريبه : ان زمان
الامر بالمهم مقارن لزمان عصيان الاهم ، وزمان عصيان الاهم مقارن لزمان امتثال
المهم ، فزمان الامر بالمهم مقارن لزمان امتثال المهم.
أما الصغرى فلانها
هي المدعى.
وأما الكبرى فلان
زمان امتثال أحد الواجبين المضيقين هو بعينه زمان عصيان الآخر ، ومحل الكلام هو
وقوع التزاحم بين واجبين مضيقين ، وإلّا لخرج عن موضوع الترتب ، فتأمل.
وأما بطلان التالي
فلما ذكر من استحالة تقارن البعث والانبعاث.
وهذا المبنى ـ لزوم
تقدم البعث على الانبعاث ـ يمكن المناقشة فيه من وجوه :
(الاول) ما ذكره
المحقق النائيني (قدسسره) من ان تقدم البعث على الانبعاث ولو آناً ما يستلزم فعلية
الخطاب قبل وجود شرطه ، وهو التزام بالواجب المعلق وكون الفعل المقيد بالزمان
المتأخر متعلقا للخطاب المتقدم ، وقد قرر استحالته في محله.
وفيه : (أولا) :
ان الالتزام بفعلية الخطاب قبل وجود الشرط لا يساوق الالتزام بالواجب المعلق ، بل
يمكن معه الالتزام بكون الوجوب مشروطا بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر ـ وان
أحال (قده) كليهما ـ.
والفرق بينه وبين
المعلق اناطة وجوبه بالشرط ، بخلاف المعلق. وعلى هذا الفرق يبتني امكان القول
بامكانه واستحالة المعلق ، اذا كان وجه الاستحالة (ان
فعلية وجوب المعلق
تستدعي التحريك نحو المتعلق ، والتحريك نحو المتعلق مساوق للتحريك نحو قيده ، لان
التحريك نحو المقيد تحريك نحو قيده لا محالة ، والمفروض كون القيد ـ وهو الزمان ـ غير
اختياري ، فيلزم التكليف بالمحال) اما لو فرض كون الزمان قيدا للوجوب ولو على نحو
الشرط المتأخر ـ كما هو قيد للواجب ـ لم يلزم المحذور ، لعدم وجوب تحصيل قيود
الوجوب.
ومنه ينقدح النظر
في اطلاق كلام المحقق الاصفهاني (قده) حيث أناط امكان الواجب المشروط بالوقت المتأخر
على نحو الشرط المتأخر بامكان الواجب المعلق ، وقال ـ في بحث المقدمات المفوتة ـ :
(لا يخفى عليك ان
الكلام في المقدمات الواجبة قبل زمان ذيها ، فوجوب ذيها وان كان حاليا لتحقق شرطه
في ظرفه لكنه لا يصح هذا النحو من الايجاب إلّا بناء على القول بالمعلق ، اذ المفروض
تأخر زمان الواجب عن زمن وجوبه ، لما عرفت من ان مورد الاشكال لزوم الاتيان
بالمقدمات قبل زمان ذيها ، فلو اراد (قده) ان اشتراط الوجوب لا يستدعي عدم حالية
الوجوب فهو كما افاده (قده) وان أراد الاكتفاء بذلك عن الالتزام بالواجب المعلق
فهو غير تام).
(ثانيا) : ما في (آراء
الاصول) من الاشكال مبني : بوجود الواجب التعليقي بحسب الجعل وبحسب مصحح الجعل.
اما الثاني :
فلانه مع اتحاد آن الجعل مع ان الامتثال في المضيقات المفتقرة لتهيئة المقدمات لا
مصحح للجعل ، وسبق العلم بالتكليف لا يجدي في التنجيز لو لم يكن له معلوم بالفعل ،
وحكم العقل والعقلاء بلزوم الامتثال متفرع على وجود الحكم ، ووجوب المقدمات
المفوتة بمتمم الجعل موقوف على كوننا مكلفين بالملاكات مع انه لا امتثال الا
للتكليف.
واما الاول :
فلوجود الاوامر المعلقة فوق حد الاحصاء في الشرعيات
والعرفيات.
وفيه : انه لا ملزم
للتعلق بالتعليق ، بل يمكن تصحيح الجعل بوجوه أخر :
منها : الالتزام
بكون الوجوب مشروطا بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر ، فيكون الوجوب فعليا
قبل حلول زمان
الواجب ، وبفعليته يكون باعثا نحو المقدمات التي لا يمكن تهيئتها في ظرف حلوله.
منها : الالتزام
بوجوب حفظ اغراض المولى وحرمة تفويت الملاكات الواقعية الملزمة ، لحكم العقل
باستحقاق العبد العقاب على تفويته اغراض مولاه ولو لم يكن هنالك تكليف فعلي ، فلو
سقط ابن المولى في البئر فلم ينقذه العبد محتجا بعدم الامر لما قبل العقلاء
اعتذاره ، ولحكم العقل باستحقاقه للعقاب ، وكذا لو اوقع العبد نفسه في العجز قبل
ان يوجد الملاك المولوي الملزم فرارا من الطاعة والامتثال فانه يستحق العقاب ايضا
لان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وان نافاه خطابا. والعقل هو
الحاكم في باب الاستحقاق ، دون منازع له على الاطلاق وهذا الحكم العقلي يكون سببا
للتحريك نحو المقدمات المفوتة ، كما لا يخفى.
هذا من حيث
الكبرى.
واما الصغرى ـ أي
كشف وجود الملاك الملزم ـ فيمكن ان يكون باطلاق الخطاب ، بناء على عدم تبعية
الدلالة المطابقية للدلالة الالتزامية ، حيث ان الخطاب يدل بالمطابقة على الحكم
وبالالتزام على الملاك ، فعدم شمول الخطاب لحالة العجز لقبح تكليف العاجز ، بل
لعدم امكان تكليفه ، ولو كان عجزه بسوء اختياره ـ لا يستلزم عدم شمول الملاك لتلك
الحالة ، وهذا الملاك الكائن في ظرفه يكون سببا لحكم العقل بوجوب تهيئة المقدمات
المفوتة ، كي تحفظ الاغراض الواقعية
للمولى حين حصولها
، ولا تفوت بالتعجيز.
لكن قد يناقش فيه
بعدم تسليم المبنى ـ اولا ـ وبعدم تمامية مقدمات الحكمة فلا يكون ثمة اطلاق في
المقام ـ ثانيا ـ فتأمل.
او يكون باستلزام
سقوط الملاك بالعجز للغوية الخطاب ، لتوقف الواجب على تهيئة المقدمات دائما او
غالبا قبل حلول الوقت ، فيكون الدليل الدال على وجوب المتعلق دالا على وجوب
تهيئتها قبله بدلالة الاقتضاء.
او يكون باخبار
المولى عن فعلية الملاك الملزم والارادة الحتمية ـ ولو بطريق الامر بالمقدمات
المفوتة ـ بعد فرض استحالة الخطاب فعلا ، وذلك كاف في حكم العقل بوجوب تلك
المقدمات ..
ومنها : غير ذلك
مما يطلب تفصيله من بحث المقدمات المفوتة.
ثم ان وجود
الاوامر المعلقة في الشرعيات والعرفيات لا يجدي بعد فرض الاستحالة العقلية ،
ودلالة الوقوع على الامكان خاصة بموارد كون الواقع غير محتمل للوجوه الأخر ،
فتأمل.
(ثالثا) : النقض
بالقضايا الخارجية التي ذهب المحقق النائيني (قدسسره) الى عدم انفكاك زمان الجعل فيها عن زمان ثبوت الحكم
وفعليته ، حيث قال (قدسسره) :
(ان القضية
الخارجية لا يتخلف فيها زمان الجعل والانشاء عن زمان ثبوت الحكم وفعليته ، بل
فعليته تكون بعين تشريعه وانشاءه ، فبمجرد قوله (أكرم زيدا) يتحقق وجوب الاكرام ،
فلا يعقل تخلف الانشاء عن فعلية الحكم زمانا ، وان كان متخلفا رتبة نحو تخلف
الانفعال عن الفعل. وأما في القضية الحقيقية فالجعل والانشاء انما يكون أزليا ،
والفعلية انما تكون بتحقق الموضوع خارجا ، فان انشاءه انما كان على الموضوع المقدر
وجوده ، فلا يعقل تقدم الحكم على الموضوع
لانه انما أنشأ
حكم ذلك الموضوع ، وليس للحكم نحو وجود قبل وجود الموضوع ...).
وهذا التزام بسبق
الخطاب على زمن الامتثال وبفعلية الخطاب قبل وجود شرطه ، فان كل خطاب مشروط
بالقدرة ، والقدرة على الامتثال ـ بوصف انه امتثال ـ منوطة بحصول الداعي في نفس
المكلف ، وحصوله موقوف على حصول مباديه ـ من التصور والتصديق ونحوهما ـ توقف كل
معلول على حصول علته ، وهي امور زمانية لا بد في تحققها من الزمان ، فيتأخر بذلك
الانبعاث عن البعث ولا يتفاوت طول الزمان وقصره في ما هو ملاك الاستحالة والامكان.
نعم : يمكن
الالتزام بانفكاك الجعل عن المجعول في القضايا الخارجية ، وبان فعليته فيها تتوقف
على مضي زمان ما تتحقق فيه شروطه ، فلا يبقى مجال للنقض المذكور.
(رابعا) : ما قرر
في مباحث (مقدمة الواجب) من امكان وجود الواجب المعلق فلا يبقى موضوع لما أورده
المحقق النائيني (قده) فراجع.
(الثاني) ما ذكره (قدسسره) أيضا وهو : انه لو فرض علم المكلف قبل الوقت بتوجه الخطاب
اليه في وقته كفى ذلك في امكان تحقق الامتثال ، فوجوده قبله لغو ، اذ المحرك له
حينئذ هو الخطاب المقارن لصدور متعلقه ، لا الخطاب المفروض وجوده قبله ، اذ لا
يترتب عليه أثر في تحقق الامتثال أصلا ، وان فرض عدم علمه قبل الوقت فوجود الخطاب
في نفس الامر لا أثر له في تحقق الامتثال ، فيكون وجوده لغوا أيضا ، فالقائل بلزوم
تقدم الخطاب على الامتثال قد التبس عليه لزوم تقدم العلم على الامتثال بلزوم تقدم
الخطاب عليه.
ويرد عليه :
(أولا) : النقض
بالقضايا الخارجية التي يتعاصر فيها الجعل والمجعول ،
ويسبق زمن المجعول
فيها زمن الامتثال.
وفيه ما تقدم.
(ثانيا) : النقض
بالبعث نحو الواجب المنجز قبل حصول مقدماته الوجودية فانه لو فرض علم المكلف بتوجه
الخطاب اليه بعد الاتيان بها كفى ذلك في امكان تحقق الامتثال ، فوجوده قبله لغو ،
وان فرض عدم علمه بذلك كان الخطاب لغوا أيضا ، لعدم استتباعه لتحريك المكلف نحو
المطلوب ، ضرورة ان المحرك للمكلف هو الامر بوجوده العلمي لا بوجوده الواقعي النفس
الامري.
ودفع اللغوية الاولى
باستتباع التنجز للتحريك نحو المقدمات الوجودية (وان أمكن استتباع غيره له أيضا
كما سبق) دافع لها في المقام أيضا ، لاستتباع التنجز فيه للتحريك نحو المقدمات
المفوتة على ما سيأتي في الجواب الرابع ، فهذا الجواب بمفرده غير واف بالمطلوب.
(ثالثا) : النقض
بالوجوب المنصب على الفعل المركب من امور تدريجية الوجود ، فان الكل مبعوث اليه
ببعث واحد في أول الوقت ، مع لغوية ما يتعلق بغير الجزء الاول من الفعل ، لعدم
صلاحيته للباعثية حينئذ ، وكفاية وجوب كل جزء على نحو التدريج في التحريك نحوه.
إلّا أن يقال ـ كما
في النهاية ـ : (الانشاء بداعي البعث وان كان واحدا ، وهو موجود من أول الوقت ،
لكن بلحاظ تعلقه بأمر مستمر أو بأمر تدريجي الحصول كأنه منبسط على ذلك المستمر أو
التدريجي ، فله اقتضاءات متعاقبة ، بكل اقتضاء يكون بالحقيقة بعثا الى ذلك الجزء
من الامر المستمر أو المركب التدريجي ، فهو ليس مقتضيا بالفعل لتمام ذلك المستمر
أو المركب. بل يقتضي شيئا فشيئا).
لكنه خلاف ما
يفهمه العرف من الدليل ، من وحدة الامر ، وكونه موجودا اعتباريا قارا مستجمعا
لجميع أجزائه في الآن الاول ، وكون الوجوب السيال غير
القار وجوبا عقليا
مستندا الى الوجوب الشرعي الواحد.
وقد يناقش فيه بأن
الظاهر يدفع بالقاطع ، فالظهور العرفي لا يجدي بعد فرض الاستحالة العقلية ، لكن
الكلام في المبنى المفروض ، فتأمل.
(رابعا) : ان
فعلية المجعول قبل حلول وقت امكان الامتثال ليست لغوا ، اذ يكفي في دفع اللغوية
محركيته نحو (المقدمات المفوتة) التي لا يمكن ايجادها داخل الوقت ـ مطلقا أو في
الجملة ـ وكذا محركيته نحو (المقدمات العلمية) التي يتوقف عليها العلم باداء
الواجب في ظرفه (والتفكيك بينهما مبني على ما ذهب اليه المحقق النائيني (قدسسره) من عدم رجوعها الى المقدمات المفوتة كما ذكره في مبحث
الواجب المطلق والمشروط ، وان كان يظهر من الشيخ الاعظم (قدسسره) عند تعرضه لشرائط العمل بالاصول ادراجها فيها).
وامكان التحريك
نحو المقدمات المفوتة والعلمية عن غير طريق (سبق زمن فعلية المجعول على زمان
الامتثال) لا يلغي ما يتصف به من الطريقية ـ وان لم تكن منحصرة ـ وهي كافية في دفع
تلك اللغوية.
نعم لو قيل بأن
الامر الحقيقي هو (ما كان بداعي جعل الداعي) لكن لا مطلقا بل مع تقييده بكونه (نحو
نفس المتعلق) ـ لا غيره وان انيط به وجود المتعلق ـ لم يكن هذا الوجوب السابق على
زمن الامتثال حقيقيا ، بل طريقيا.
لكن هذا المبنى لا
يخلو من اشكال ، اذ الامر الاعتباري يتقوم بالاعتبار ، وهو خفيف المئونة فكما يمكن
للمولى أن يجعل مصب ارادته متعلقا للتكليف كذلك يمكن ان يجعل مقدمته أو لازمه أو
ملازمه في عهدة المكلف دون نفس الشيء ، فيكون حق الطاعة منصبا على المقدمة ابتداء
وان كان الشوق المولوي غير متعلق بها الا تبعا .. وذلك لحصول الغرض في الحالتين ،
وقد حرر بعض الكلام في نظير ذلك في مسئلة الوجوب النفسي والغيري فراجع.
كما يكفي في دفع
اللغوية : ترتب وجوب القضاء في صورة تفويت بعض المقدمات الوجودية ذات البدل
الاضطراري قبل حلول الوقت ، وذلك على بعض الوجوه ، كما ذكر في مسألة من أراق الماء
قبل الوقت ، واضطر الى الصلاة بالطهارة الترابية.
(خامسا) : ما في (أجود
التقريرات) ـ في بحث الواجب المطلق والمشروط من (ان في لزوم كون المجعول موجودا
حال وجود الاعتبار وعدمه تفصيلا ، فان القيد المزبور ـ سواء كان اختياريا أو غير
اختياري ـ اذا كان دخيلا في تمامية مصلحة الواجب ولزوم استيفاءها فلا موجب لا
يجابه قبل حصوله ، ولو كان متعلق الايجاب الفعل المقيد بما هو مقيد ، بناء على ما
هو الصحيح من تبعية الاحكام للملاكات الثابتة لمتعلقاتها .. واما اذا كان القيد
دخيلا في حصول المصلحة في الخارج بعد فرض تماميتها ولزوم استيفاءها فلا مناص فيه
عن الالتزام بفعلية الطلب وان كان المطلوب أمرا متأخرا).
وتوضيحه ـ على ما
في (الدروس) ـ :
ان للوجوب ثلاث
مراحل وهي الملاك والارادة والجعل.
فان كان القيد
دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ـ كالمرض في اتصاف شرب الدواء بالمصلحة ـ سمي ب (شرط
الاتصاف).
وان لم يكن دخيلا
فيه ، بل كان دخيلا في ترتب تلك المصلحة وشرطا في استيفاءها بعد اتصاف الفعل بها ـ
كتعقب شرب الدواء للطعام الدخيل في ترتب الاثر عليه ، فان المصلحة القائمة بالدواء
لا تستوفى الا بحصة خاصة من الاستعمال وهي الاستعمال بعد الطعام ، وان لم تكن شرطا
في اتصاف الفعل بالمصلحة ، اذ ان المريض مصلحته في استعمال الدواء منذ يمرض ـ سمي
ب (شرط الترتب).
هذا بالنسبة الى
الملاك.
وأما بالنسبة الى
الارادة والجعل فان شروط الاتصاف شروط للارادة ، خلافا لشروط الترتب فانها شروط
للمراد.
كما ان شروط
الاتصاف شروط للمجعول ، واما شروط الترتب فانها قيود للمتعلق.
وعليه : يبتني
الجواب عن اشكال (اللغوية) وذلك لان فعلية الوجوب تابعة لفعلية الملاك ـ اي لاتصاف
الفعل بكونه ذا مصلحة ـ فمتى اتصف الفعل بذلك استحق الوجوب الفعلي ، بالضرورة
بمقتضى تبعية الاحكام للملاكات ، فاذا افترض ان القيد من شروط الترتب لا من شروط
الاتصاف كان الفعل واجدا للملاك قبل تحقق القيد ، فيكون الوجوب فعليا حينئذ
بالضرورة ، وان كان زمان الواجب مرهونا بتحقق القيد ، لان تحققه دخيل في ترتب
المصلحة ـ ومن المعلوم انه لا معنى للغوية مع فرض الضرورة.
ويرد عليه :
ان ما استجمع (شروط
الاتصاف) ـ ولم يستجمع بعد (شروط الترتب) ـ وان باين ما لم يستجمع (شروط الاتصاف)
في كون الفعل فيه ذا مصلحة فعلية ، بخلاف الاخير ، إلّا ان صرف تمامية الملاك لا
يحتم الامر الفعلى ، اذ المهم عدم فوات الغرض المتوخى ، وهو كما يتحقق بثبوت
الوجوب قبل وجود (شروط الترتب) كذلك يتحقق بثبوته عند وجودها ، والتحريك نحو
المقدمات المفوتة يمكن عن غير طريق سبق الوجوب أيضا ، فتعيينه دون غيره الزام بلا
ملزم.
وتبعية الحكم
للملاك يراد بها عدم نشوه عن الارادة الجزافية ، لا انه عند حصوله يجب وجوده وان
لم يحن وقت الامتثال بعد ، لما سبق.
مضافا الى ان في
الفرق بين شروط الاتصاف وشروط الترتب كلاما مذكورا
في بحث الواجب
المطلق والمشروط فراجع ـ.
(الثالث) : ما في (النهاية)
وهو ان تأخر الانبعاث عن البعث مع انهما متضايفان متكافئان في القوة والفعلية غير
معقول ، فان البعث التشريعي هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا وباعثا ، فمضايفه
الانبعاث امكانا ، فما لم يمكن الانبعاث لا يمكن البعث وبالعكس.
ويرد عليه :
أولا) : النقض
بالبعث نحو الواجب المنجز قبل حصول مقدماته الوجودية مع عدم امكان الانبعاث نحو ذي
المقدمة الا بعد وجود مقدماته ـ كما سبق ـ.
وقد تفصى عنه
المحقق الاصفهاني (قده) بقوله :
(حيث ان تحصيل
المقدمات ممكن فالبعث والانبعاث الى ذيها متصفان بصفة الامكان ، بخلاف البعث الى
الشيء قبل حضور وقته ، فان فعل المتقيد بالزمان المتأخر في الزمان المتقدم مستحيل
من حيث لزوم الخلف أو الانقلاب ، فهو ممتنع بالامتناع الوقوعي ، بخلاف فعل ما له
مقدمات غير حاصلة ، فان الفعل لا يكون بسبب عدم حصول علته ممتنعا بالامتناع
الوقوعي ، بل هو ممتنع بالغير ، والامكان الذاتي والوقوعي محفوظ مع عدم العلة ،
وإلّا لم يكن ممكن أصلا ، لان العلة ان كانت موجودة فالمعلول واجب ، وان كانت
معدومة فالمعلول ممتنع فمتى يكون ممكنا؟ وملاك امكان البعث وقوعيا : امكان
الانبعاث وقوعيا بامكان علته لا بوجود علته ، وعدم وجود العلة لا ينافي امكانها
وامكان معلولها فعلا).
وفيه : انه لا فرق
بين توقف الشيء على تصرم الزمان ، بالذات ، وتوقفه على تصرمه ، بالتبع ، بلحاظ
الاستحالة والامكان ، فالاستحالة في أحدهما ـ وقوعا ـ تستلزم الاستحالة في الآخر ـ
كذلك ـ ، والامكان فيه يستلزم الامكان فيه.
فمثلا : الصلاة
متوقفة على الطهور ـ أو على ما يتوقف على الطهور ـ ، وحيث
ان الطهور امر
زماني لا يخرج عن حيطة الزمان لذا يتوقف تحققه على تصرم زمان ما ـ ولو تناهى في
القلة ـ فتوقفها عليه يساوق التوقف على تصرم زمانه ـ بمعنى عدم امكان وقوع المطلوب
(أي الصلاة) ـ قبل تصرمه ، وإلّا لزم الخلف ـ لو انتفى وجوده في الزمان الثاني ، وتحقق
في الزمان الاول فقط ـ أو الانقلاب ـ لو كان وجوده في الزمان الثاني عين وجوده في
الزمان الاول ـ أو صدق المتقابلان عليه دفعة ـ لو كان موجودا في الزمان المتقدم في
عين وجوده في الزمان المتأخر ـ والتوالي باسرها باطلة.
وعليه : فيستحيل ـ
بالاستحالة الوقوعية ، وهي كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل والمحال ، وان لم
يستحل بالاستحالة الذاتية ، وهي كون الشيء بحيث يقتضي بذاته العدم اقتضاء حتميا ،
ويحكم العقل بمجرد تصوره بانه ممتنع الوجود ـ وقوع المطلوب في الزمان الاول ، فلا
يمكن الانبعاث عنه ، فلا يمكن البعث نحوه ، بحسب مقتضى التضايف المذكور بين البعث
والانبعاث.
وبالجملة : فظرف
المقدمة سابق على ظريف ذيها ، بالسبق الزماني ـ على اصطلاح الحكيم ـ فيستحيل ـ بالاستحالة
الوقوعية ـ تحققه في ظرفها ، وإلّا لزم طرو التقدم على ما ذاتيه التأخر ، ـ أعني
ظرف ذيها ـ وتعاصر جزءين من أجزاء الممتد غير القار ، وهو محال.
ومنه يظهر ان
امكان أداء الواجب في ظرفه وعدم امكانه قبله مشترك بين الموردين ، فلا فرق بينهما
من هذه الجهة أصلا ، فكما أن المكلف يمكنه أن يؤدي الواجب المقيد بالزمان المتأخر
في ظرفه ولا يمكنه أن يؤديه في الزمان المتقدم كذلك المكلف الفاقد لمقدمات الواجب
المنجز يمكنه أن يؤديه بعد أداء تلك المقدمات ولا يمكنه أن يؤديه قبلها ، وإلّا
لزم التهافت في الزمان ، أو خروج الشرط عن كونه شرطا وهو خلف.
وكون الممكن
بالواسطة ممكنا يراد به الامكان في ظرفه لا مطلقا ـ على ما تقدم ـ أو يكون في مورد
ما لا يتوقف على تقضي الزمان ويمكن أن يتعاصر فيه العلة والمعلول كحركة اليد وحركة
المفتاح ، أو يكون مع قطع النظر عن لحاظ الزمان والخصوصيات المكتنفة ، كما هو كذلك
في كل حكم بالامكان ، اذ (عروض الامكان بتحليل وقع) ، لكن ذلك بعنوان عدم الاعتبار
لا اعتبار العدم ، وتفصيل الكلام موكول الى مباحث المواد الثلاث من الحكمة.
نعم : الفرق بين
الموردين ان مقدمة أحدهما مقدورة بخلاف الآخر ، وعلى ذلك يتفرع استحقاق العقاب
وعدمه ، لكن ذلك لا يكون فارقا فيما نحن بصدده بعد توقف كل منهما على انقضاء
الزمان.
وأما فرض تحقق
البعث في الزمان الثاني فهو خلاف المفروض أولا ، ومستلزم لعدم وجوب تحصيل مقدماته
ـ ثانيا ـ اذ البعث نحوها موقوف على البعث نحوه فلو تأخر عنها انقلب مشروطا ، لكن
قد مضى ما في الاخير فراجع.
ثانيا : النقض
بالوجوب المتعلق بالفعل المركب من امور تدريجية الوجود وقد سبق البحث فيه.
ثالثا : النقض
بالغافل والجاهل والناسي والنائم ونحوهم ، فان التكليف فعلي في حقهم ، مع أن
انبعاثهم نحو المطلوب ـ فيما اذا كان من الامور التعبدية ، بل مطلق الامور القصدية
ولو لم تكن تعبدية ، بل مطلق الواجبات ولو كانت توصلية ـ محال.
ووجه الاستحالة ـ مع
وضوحها في البعض بالنسبة الى البعض ـ انه ليس المراد بالانبعاث مطلق صدور العمل كي
يقال بامكان وقوعه منهم ، بل صدوره عن البعث ، وعلى نحو المطاوعة للتحريك المولوي
لكونه مقوما للطاعة التي سبق الامر الشرعي لتحقيقها ـ على ما قرر في موضع آخر ـ وهو
مستحيل في
حقهم ، وذلك لتوقف
صدور الفعل كذلك على الالتفات للبعث وهو مفقود في هذه الطوائف.
واستبدال الضد
بالوصف المانع متوقف ـ عادة ـ على مقدمة غير اختيارية ـ كالاستيقاظ في النائم ،
والالتفات في الناسي ـ فيكون غير اختياري ، لان الموقوف على أمر غير اختياري غير
اختياري (وكون الافعال مستندة الى الاختيار غير الاختياري يوكل بحثه الى محله وعلى
فرض تسليمه فلا يقدح فيما نحن فيه لبداهة عدم كونه اختياريا ، وان قدح في القاعدة
المذكورة) وما هو غير اختياري لا يمكن صدوره بالاختيار عن المكلف ، لاستحالة وجود
المعلول بدون وجود علته.
ثم انه لو بني على
تعميم الانبعاث لمطلق صدور العمل كفت الجزئية في الجواب لكونها نقيضا للكلية.
وأما كون الامر
فعليا فيدل عليه ـ ولو في الجملة ـ اطلاق أدلة الاحكام ـ أولا ـ.
والاخبار المدعى
استفاضتها الدالة على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل بل ذكر الشيخ الاعظم (قده)
تواتر تلك الاخبار ، في مبحث (امكان التعبد بالامارة غير العلمية) ـ ثانيا ـ.
وما قرر في مبحث
أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم من استحالة اختصاص الاحكام بالعالمين بها
ـ ثالثا ـ.
كما يدل عليه :
ثبوت القضاء بعد زوال الوصف المانع ، فيكشف ـ بطريق الإنّ ـ عن كون المجعول فعليا
، وإلّا لم يصدق عنوان (الفوت) المأخوذ في قوله صلوات الله وسلامه عليه (من فاتته
فريضة) موضوعا لوجوب القضاء ، كما لا يصدق في الصبي والمجنون ونحوهما فتأمل.
رابعا : ان
التضايف وان تحقق بين (البعث) و (الانبعاث) مفهوما ومصداقا
قوة وفعلية ، إلّا
أن ذلك لا مجرى له في الحكم ـ الذي هو محل الكلام في المقام ـ لانه [أن أريد] وقوع
التضايف بين (ذات الحكم) و (الانبعاث الامكاني) من دون أخذ قيد (امكان الباعثية)
في حد الحكم ـ بمعنى عدم اعتباره فيه ـ ففيه :
عدم وجود بعض ما
أخذ في التضايف ـ من الخصائص ـ بين ذات الحكم والانبعاث الامكاني ، مما يكشف ـ بطريق
الإنّ ـ عن عدم كونهما متضايفين مثل ان المتضايفين متلازمان تعقلا ولا تلازم بين
تصور (الحكم الفعلي) و (الانبعاث الامكاني). ومثل ان المتضايفين متكافئان في القوة
والفعل ، فاذا كان أحدهما بالفعل كان الآخر بالفعل ، واذا كان أحدهما بالقوة كان
الآخر بالقوة ، ولا تكافؤ في المقام اذ يمكن أن يكون أحد طرفي التضايف ـ وهو الحكم
ـ بالفعل ، والآخر ـ وهو الانبعاث ـ فيمن لم يحركه البعث المولوي بالامكان. وفعلية
القوة لا تكفي في تحقق التضايف ، اذ هو خلاف ما قرر من الاستفصال في قاعدة (التكافؤ)
وتفصيل الكلام موكول الى محله.
و [ان أريد] وقوع
التضايف بين الحكم والانبعاث الامكاني بعد أخذ قيد (امكان الباعثية) في قوام الحكم
ـ كما هو الظاهر من كلامه (قده) ـ بأن يقال بأن الحكم الحقيقي هو ما أمكنت فيه
الباعثية وليس غيره حكما. ففيه :
ان الحكم اعتبار
معين مجعول في عهدة المكلف ينشأ من ملاك خاص أو ارادة خاصة ولا يؤخذ في صحته لدى
العقلاء (امكان الانبعاث) ـ كما بالنسبة الى الجاهل والنائم ونحوهما ، اذا استمر
العذر طيلة الوقت المحدد ـ نعم لا بد من أن يكون هناك أثر مصحح للجعل ، دفعا
للغوية.
ولو فرض أخذ
الامكان قيدا فانما هو الامكان في قطعة ما من امتداد عمود الزمان ولو كانت
مستقبلية ، لا الامكان بالفعل.
ولو فرض أخذ (الامكان
بالفعل) قيدا أمكن القول بكونه أعم من امكان الانبعاث
نحوه أو نحو طريقه
، فيكون نظير الحكم المتعلق بالافعال التوليدية ، فانه حكم عليها حقيقة ، مع عدم
امكان الانبعاث نحو المتعلق على نحو المباشرة ، وما يمكن الانبعاث نحوه فعلا هو
المقدمات ، وأما متعلق الامر فهو يحصل بعد وجود مقدماته قهرا ، ولا فرق في ذلك بين
القول ب (التوليد) أو (الاعداد) أو (التوافي) فان الجامع بين المباني الثلاثة هو
عدم كون مصب الامر فعل نفس المكلف بل فعل غيره.
وأما صرف الامر عن
التعلق بذي المقدمة بصبه عليها وجعلها واسطة في عروض الطلب عليه مع انصبابه لبا
عليها فهو خلاف متعارف الموالي ، وخلاف التلقي العرفي للاوامر المولوية ، وأيضا :
المصلحة المقصودة قائمة بذي المقدمة ، والامر به ـ كالامر بها ـ محقق لتلك المصلحة
، فلا مانع من الامر به ، كما لا مانع من الامر بها.
وعلى كل فكما يصح
لدى العقلاء : التكليف الذي يتحد فيه زمان الوجوب والواجب ، كذلك يصح عندهم ما
ينفك فيه أحدهما عن الآخر ، سواء كان على نحو الواجب المعلق ، أو الواجب المشروط
بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر.
وقد سبق شطر من
الكلام حول ذلك فراجع.
(الرابع) : ان
وزان الارادة التشريعية وزان الارادة التكوينية ، فكما لا يمكن انفكاك الارادة عن
المراد في الارادة التكوينية كذلك لا يمكن انفكاكها عنه في الارادة التشريعية ، بل
يجب فيها تقارن البعث والانبعاث بلحاظ الزمان.
قال المشكيني (رحمهالله)
: انه لا فرق بين الارادة التشريعية والارادة التكوينية الا في كون الاولى متعلقة
بفعل الغير والثانية بفعل نفس المريد ، وإلّا فهما ـ فيما تتوقفان عليه من العلم
والتصديق بالفائدة والميل ـ مشتركتان ، وكذا فيما يترتب
عليهما من تحريك
العضلات وحصول الفعل بعده ، فكما لا ينفك المراد التكويني عن زمان التحريك الغير
المنفك عن زمان الارادة ، فكذلك المراد التشريعي لا ينفك عن زمان الامر الغير
المنفك عن زمان الارادة التشريعية ـ انتهى.
وفيه :
أولا عدم تسليم
الحكم في المقيس عليه ، فانه يمكن انفكاك الارادة التكوينية عن المراد. اذ كما
يمكن تعلق الارادة بأمر حالي ، كذلك يمكن أن تكون الارادة حالية والمراد
استقباليا.
نعم : الصورة
العلمية للمراد لا بد من حصولها حين وجود الارادة ، لكونها من الصفات الحقيقية ذات
الاضافة ، لكن الكلام في (المراد) بوجوده الخارجي لا بوجوده العلمي كما هو واضح.
ويشهد لما ذكرنا ـ
من امكان الانفكاك ـ أن ما نجده في أنفسنا من الاجماع والتصميم والعزم حال تعلق
الارادة بمراد حالي نجده أيضا حين تعلقها بمراد مستقبلي ، بل كثيرا ما تكون الارادة
في الثاني أقوى منها في الاول.
وأما ما قيل من ان
ما يتعلق بالامر المستقبلي هو الشوق دون الارادة ففيه :
عدم الاستفصال في
حكم الوجدان بين الحالتين ، فتخصيص احداهما باسم الارادة ترجيح بلا مرجح وحمل
لمحمولين متخالفين على موضوعين متماثلين مع أن حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا
يجوز واحد.
ويؤيده ما في
التهذيب من (أن الشوق يشبه أن يكون من مقولة الانفعال ، اذ النفس بعد الجزم
بالفائدة تجد في ذاتها ميلا وحبا اليه فلا محالة تنفعل عنه ، ولكن الارادة التي هي
عبارة عن اجماع النفس وتصميم الجزم من صفاتها الفعالة) انتهى.
بضميمة : أن ما
يوجد في النفس حين ارادة الامر المستقبلي يشبه أن يكون
من أفعال النفس ،
مع عدم معقولية الاتحاد في المقام.
مع أنه قد تتعلق
الارادة بشيء دون حصول الشوق اليه ، فان المريض قد يريد شرب الدواء ولا يشتاق اليه
، كما ان العكس حاصل أيضا ، فان من منع عن طعام ما ـ لمرض ـ ربما يشتاق اليه ولا
يريده ، والمتقي قد يشتهي العلو لكن لا يريده كما قال الله سبحانه (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ).
وعلى هذا فما
يتعلق بالامر المستقبلي غير المرغوب فيه لا يعقل أن يكون هو الشوق بل هو الارادة.
اللهم إلّا أن
يقال بتعميم الشوق للرغبة في الشيء الحاصلة بعد الكسر والانكسار عمومها للرغبة
الملاءمة للطبيعة الاولية.
ثم ان صاحب
الكفاية (قدسسره) استشهد على امكان الانفكاك بقوله :
(ان الارادة تتعلق
بأمر متأخر استقبالي ، كما تتعلق بأمر حالي ، ضرورة أن تحمل المشتاق في تحصيل
المقدمات ـ فيما اذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المئونة ـ ليس إلّا لاجل تعلق
ارادته به ، وكونه مريدا له قاصدا اياه ، لا يكاد يحمله على التحمل الا ذلك).
وهو لا يخلو من تأمل
، اذ المعلول انما يكشف عن انية العلة لا ماهيتها ، فوجود ارادة المقدمات يدل على
وجود ما تترشح منه هذه الارادة ، ولا يعينه في ارادة ذيها ، اذ يمكن أن يكون
المترشح منه هو الشوق الى ذي المقدمة ، لا الارادة المتعلقة به ، ودعوى أن الشوق
لا يمكن أن يستتبع ذلك مصادرة ، اذ للخصم أن يدعي امكان ذلك ... فما ذكره (قدسسره) يشبه الاستدلال بالاعم على الاخص ، كالاستدلال بوجود
الطرق على وجود الطارق المعين ..
وعليه فالاولى
الاستدلال بما ذكرناه أولا.
ثم ان المحقق
الاصفهاني (قده) أورد على انفكاك الارادة عن المراد بأنه ان كان مرد ذلك (الى)
حصول الارادة التي هي علة تامة لحركة العضلات أو الجزء الاخير من العلة التامة ،
في الظرف السابق ، إلّا ان معلولها حصول الحركة في ظرف لاحق ، ورد عليه : انه من
انفكاك المعلول عن علته التامة ، أو الجزء الاخير من العلة التامة ، وهو محال.
أو (الى) جعله بما
هو متأخر معلولا كي لا يكون له تأخر ، ففيه : انه مستلزم لصيرورة تأخره عن علته
كالذاتي له ، فهو كاعتبار أمر محال في مرتبة ذات الشيء ، فيكون أولى بالاستحالة.
أو (الى) ان حضور
الوقت شرط في بلوغ الشوق حد النصاب وخروجه من النقص الى الكمال ، أشكل عليه بأنه
عين ما رامه الخصم ، من ان حقيقة الارادة لا توجد الا حين امكان انبعاث القوة
المحركة للعضلات نحو المطلوب.
أو (الى) ان حضور
الوقت مصحح لفاعلية الفاعل ـ وهو الارادة ـ كما ان المماسة مصححة لفاعلية النار
للاحراق مثلا ، رد : بأن دخول الوقت خارجا ليس من خصوصيات الارادة النفسانية حتى
يقال : هذه الارادة فاعلة دون غيرها وكذا وجوده العلمي ، فلا معنى لان يكون دخول
الوقت مصححا لفاعلية الارادة.
وفيه : ان الحصر
غير حاصر ، بل يمكن أن يكون مرد ذلك الى امور :
(منها) أن يكون
دخول الوقت متمما لقابلية الفعل ، بحيث يكون قيدا في المراد لا في الارادة ، فكما
ان الخصوصيات الاينية والكيفية والكمية ونحوها مؤثرة في تعلق الارادة بالشيء كذلك
الخصوصيات الزمانية.
(ومنها) أن يكون
حضور الوقت متمما لقابلية الفاعل ـ وهي العضلات التي تتحرك بما فيها من القوة نحو
المطلوب ـ فان العضلات تستجيب ـ بالحركة نحو المطلوب ـ للارادة عند خروجها من حد
النقصان الى حد الكمال ، فربما
لم تكن العضلات في
مستوى الاستجابة الحالية للارادة النفسانية لانعدام قوة التحرك نحو المطلوب أو
ضعفها ، فتتعلق الارادة الفعلية بالتحريك المستقبلي مع تماميتها فعلا.
(ومنها) أن يكون
دخول الوقت مقارنا لارتفاع العوائق الخارجية المانعة من تحصيل المراد.
(ومنها) غير ذلك.
وبناء على ما سبق
تكون الارادة جزء العلة في التحرك نحو المطلوب ، لا تمام العلة ، ولا الجزء الاخير
منها.
ومن جميع ما سبق
انقدح النظر في دعوى استلزام الارادة لتحريك العضلات في قولهم (الارادة هي الشوق
المؤكد المستتبع لتحريك العضلات) إلّا ان يكون المراد شأنية التحريك ـ بمعنى كونه
مقتضيا له ـ لا فعليته ، أو يكون المراد : التحريك حسب نوعية تعلق الارادة وبلحاظ
ظرف تعلقها.
ثم : ان هذا كله
مبني على مغايرة الارادة للعلم في الانسان ـ كما هو المختار ـ واما بناء على
اتحادهما ـ كما ذهب اليه بعض ـ فامكان انفكاكها عن المراد يكون أوضح ، لامكان تعلق
العلم فعلا بأمر استقبالي.
والتضايف انما هو
بين العلم والمعلوم بالذات ـ لا بينه وبين المعلوم بالعرض ـ فلا اشكال من ناحية
التضايف.
ثم انه يمكن النقض
ـ مضافا الى الارادة الانسانية المتعلقة بالمراد المستقبلي ـ بالارادة الذاتية في
الله سبحانه ، اذ ارجاعها الى غيرها ـ مع كونه خلاف ظواهر الآيات والروايات ـ مستلزم
لسلب صفة من صفات الكمال عنه تعالى ، وحدوثها مستلزم لطرو التغير على ذاته سبحانه
، فيتعين قدمها فيه تعالى ، مع حدوث ما تعلقت به ارادته بالحدوث الزماني ، وتفصيل
الكلام والنقض والابرام يحتاج
الى بسط لا يسعه
المقام.
ثانيا : لو فرض
تسليم الحكم في المقيس عليه (الاصل) إلّا انه لا يسلم في المقيس (الفرع) ، وذلك
لان الامور العينية تختلف عن الامور الاعتبارية في كون الاولى حقائق متأصلة في
عالم التكوين غير منوطة باعتبار المعتبر أو فرض الفارض ـ الا فيما ندر كالعلم
بالعناية المستتبع لتحقق المعلوم ، كتوهم المرض الذي يتعقبه المرض ـ بخلاف الثانية
فانها منوطة بالاعتبار ولا واقع لها وراء اعتبار المعتبر وجعل الجاعل.
ولذا لا تسري
عليها أحكام الامور التكوينية على ما قرر في موضوع تضاد الاحكام الخمسة في مباحث
اجتماع الامر والنهي وغيره.
وعليه : فاذا
اعتبر من بيده الاعتبار وجود المجعول في ظرف سابق على زمن امتثاله فكيف يتخلف عن
ظرف اعتباره؟
لكن هذا الجواب لا
يخلو من نظر ، لانه وان دفع الايراد بلحاظ نفس (الحكم) إلّا انه لا يدفعه بلحاظ (مبادئه)
اذ يرد بهذا اللحاظ اشكال انفكاك الارادة التكوينية عن المراد ـ فان الارادة
التشريعية كالتكوينية من حيث المبادي ، وانما الاختلاف بينهما في المتعلق ـ فلا
يتم هذا الجواب منفردا ما لم يضم اليه ما سبق في الجواب الاول.
ثم انه يمكن تقرير
هذا الجواب بنحو آخر وهو : بداهة انفكاك الارادة التشريعية عن المراد في العاصي
والناسي ونحوهما ، اذ تكون الارادة فعلية مع عدم تحقق المراد خارجا.
نعم : يمكن ان
يقال انه ليس المراد (فعلية الانبعاث) بل (امكان الانبعاث) ـ بما يترتب عليه من
الآثار كصحة المؤاخذة ولزوم القضاء ونحوهما ـ اذ لا يكاد يكون الغرض الا ما يترتب
عليه من فائدته وأثره ولا يترتب عليه الا ذلك ـ لكن قد سبق
ان الانفكاك حاصل
ولو اريد الامكان فراجع.
(الخامس) : ان
الالتزام بلزوم تقدم البعث على الانبعاث :
١ ـ ان كان لاجل
ان الامر انما ينشأ بداعي جعل الداعي في نفس المكلف نحو الامتثال ، وهو موقوف على
حصول مباديه من التصور والتصديق ونحوهما وهي أمور زمانية لا بد في تحققها من تصرم
الزمان ، فلا بد من تأخر الانبعاث عن تحقق الداعي المتأخر عن وجود الامر.
ففيه : ان من الممكن
حصول هذه المبادي قبل زمان تحقق المجعول ـ أي الحكم المنجز الموضوع في عهدة المكلف
ـ وذلك بسبب العلم بالجعل ـ أي تشريع القانون وانشاء الحكم ـ من قبل وما ذكر في
الاستدلال انما يصح لو لم تحصل مبادئ الاختيار قبل زمان تحقق المجعول ، أما اذا
حصلت قبله فيمكن تقارن البعث والانبعاث ، فان حصول مبادئ الاختيار غير موقوف على
فعلية الامر.
بل يمكن أن يقال
بأن حصول هذه المبادي غير موقوف على وجود أصل الامر اذ يمكن العزم على الطاعة ـ أو
المعصية ـ في ظرفهما قبل وجود الامر أو النهي. ففي الاستدلال خلط بين لزوم تقدم
الامر على الامتثال ، وتقدم العلم بالامر عليه.
وأما مقولة عدم
الانفكاك بين الايجاد والوجود التي قد يستشكل بها على انفكاك الجعل عن المجعول فهي
انما تصح في القضايا التكوينية الخارجية ، دون القضايا الاعتبارية. أما الاول :
فلان الامر المطاوعي التكويني ليس زمامه بيد الموجد كي يشاء تارة وجوده فعلا وأخرى
مستقبلا ، بل هو انفعال طبيعي عن الايجاد ، بل الوجود والايجاد متحدان بالذات
مختلفان بالاعتبار على ما قرر في محله ، وهذا بخلاف الثاني : فان زمام الاعتبار
بيد المعتبر ، ووجود الامر الاعتباري تابع لكيفية الاعتبار ، فان اعتبر من بيده
الاعتبار وجوده حالا كان موجودا
حالا ، وإلّا كان
موجودا حسب كيفية اعتباره.
نعم : (المنشأ) ـ بمعنى
الحكم المشرع بما هو هو مع قطع النظر عن تنجزه على المكلف ـ لا ينفك عن (الانشاء)
والجعل ، لكن الكلام في (المجعول) بمعنى الحكم المنجز الموضوع في عهدة المكلف كما
لا يخفى.
٢ ـ وان كان لاجل
ان مقارنة الخطاب للامتثال يستلزم تحصيل الحاصل ـ ان فرض تلبس المكلف بالمطلوب حين
توجه الخطاب ـ أو طلب الجمع بين النقيضين ـ ان فرض العدم ـ.
ففيه : ما ذكره
المحقق النائيني (قدسسره) :
(نقضا) : بأنه لو
صح ذلك لصح في العلة والمعلول التكوينيين بتقريب : ان المعلول لو كان موجودا حين
وجود علته لزم عليتها للحاصل ، وإلّا لزم عليتها للمستحيل ، فالقول بلزوم تقدم
الخطاب على الامتثال زمانا يستلزم القول بلزوم تقدم العلة التكوينية على معلولها
زمانا وهو باطل.
(وحلا) : بأن
المعلول ـ أو الامتثال ـ اذا كان مفروض الوجود في نفسه حين وجود العلة ـ أو الخطاب
ـ لزم ما ذكر من المحذور ، وأما اذا كان فرض وجوده لا مع قطع النظر عنهما ، بل
لفرض وجود علته أو لتحريك الخطاب اليه فلا يلزم من المقارنة الزمانية محذور أصلا.
(مضافا) الى ما في
المباحث من ان المحذور يرد على تقدير القول بتقدم الامر على الامتثال زمانا ـ أيضا
ـ اذ لو بقي الطلب الى الزمن الثاني ـ الذي هو زمن الامتثال ـ كان بقاؤه تحصيلا
للحاصل ، وان ارتفع لم يلزم امتثال أصلا ، فيكون كما اذا بدا للمولى فرفع الوجوب.
٣ ـ وان كان لاجل
كون الطلب علة لوقوع الامتثال ، فلا بدّ أن يكون متقدما عليه.
ففيه : ان الطلب (ان)
كان علة تامة لوقوع الامتثال فتقدم العلة على المعلول رتبي لا زماني ، لاستحالة
الزماني ، مع عدم تمامية المبنى في نفسه ، وذلك لعدم كفاية الخطاب منفردا للتحريك
نحو المطلوب ما لم تنضم اليه مشاركات أخر من الخوف والرجاء ونحوهما ، وإلّا لزم
استحالة تحقق العصيان في الخارج ، ولكان التكليف جبرا وإلجاء لا أمرا وطلبا.
و (ان) كان علة
ناقصة فتقدمها بالطبع وان كان محرزا ، إلّا ان التقدم الزماني ليس شرطا فيه ، كما
في كل المركبات التي توجد دفعة ، فان أجزاءها وان تقدمت عليها بالطبع ، إلّا انها
تقارنها بلحاظ الزمان.
٤ ـ وان كان لاجل
غير ما ذكر فقد سبق الجواب عنه.
(السادس) : ان
الوجدان أصدق شاهد على امكان تقارن البعث والانبعاث ، وعدم استحالته لا بالاستحالة
الذاتية ولا بالاستحالة الوقوعية ، فان فرض تعاصر فعلية وجوب الصوم وبدء امتثاله ،
وتقارنهما عند الفجر ليس محالا ، ولا يلزم منه محال لدى العقل.
كما ان الوقوع ـ في
الاوامر العرفية ولو في الجملة ـ أدل دليل على الامكان ، وان احتملت الاوامر
الشرعية : كلا من التقارن ـ وذلك بكون الخطاب مشروطا بالوقت المعين على نحو الشرط
المقارن ـ والتقدم ـ وذلك بكون الخطاب معلقا ، أو مشروطا بالوقت المتأخر على نحو
الشرط المتأخر ـ.
مضافا لما سبق من
ان الامور الاعتبارية ـ بالمعنى الاخص للاعتبار ـ منوطة باعتبار المعتبر ، بخلاف
الامور التكوينية والامور الانتزاعية المنوط وجودها بوجود منشأ انتزاعها ، دون توقفها
على اعتبار المعتبر أو فرض الفارض ، فاذا فرض كون زمن الامتثال أول الدلوك ،
واعتبر المعتبر الوجوب أول الدلوك فكيف يتقدم ما اعتبر على زمن اعتباره ، مع تبعية
المعتبر لنحو اعتباره ، فتخلفه عنه محال.
فراجع وتأمل.
الامر الثانى
ـ مما يرد على
اناطة الامر بالمهم بعصيان الامر بالاهم على نحو الشرط المقارن ـ ما في (التهذيب)
من انه قبل وجود الشرط لا يمكن تحقق المشروط ، فلا بد من تحققه في زمانه حتى يتحقق
مشروطه ، والعصيان عبارة عن ترك المأمور به في مقدار من الوقت يتعذر عليه الاتيان
به بعد ، ولا محالة يكون ذلك في زمان ، ففوت الاهم المحقق لشرط المهم لا يتحقق
إلّا بمضي زمان لا يتمكن المكلف من اطاعة أمره ، ومضي هذا الزمان كما انه محقق فوت
الاهم محقق فوت المهم أيضا ، ولا يعقل تعلق الامر بالمهم في ظرف فوته ، ولو فرض
الاتيان به قبل العصيان يكون بلا أمر ، هذا في المضيقين ومنه ينقدح حال المختلفين
أيضا ، فظهر ان سقوط أمر الاهم ، وثبوت أمر المهم في آن واحد فأين اجتماعهما؟ وان
شئت قلت : ان اجتماعهما مستلزم لتقدم المشروط على شرطه أو بقاء فعلية الامر بعد
عصيانه ومضي وقته.
ويرد عليه :
ان ما يتوقف على
انقضاء أمد ما هو (انتزاع العصيان) لا (نفس العصيان) فلو قال المولى (صم من الفجر
الى المغرب) لم يمكن انتزاع العصيان في الآن الاول ـ أي آن شروق الفجر الحقيقي ـ ،
أما لو انقضى ذلك الآن ولم يتلبس المكلف بالصوم فانه يمكن انتزاع العصيان ، لكن
العصيان كان متحققا في نفس آن الامر حقيقة ، لان العصيان عبارة عن عدم الاتيان
بالمأمور به ـ في المحل القابل ، وهو غير مثل الغافل ـ وهو ثابت منذ ذلك الآن.
والحاصل : ان تحقق
العصيان منوط بانقضاء الاجل اثباتا لا ثبوتا.
(مع) ان تعليق
حصول العصيان بمضي زمان امكان الامتثال مستلزم للخلف ، اذ الامر المتحقق بالفعل يمكن
امتثاله وعصيانه ، وأما الامر الذي انقضى وقته ولزم أجله فلا باعثية له ، بل لا
وجود له فلا يتصور بالنسبة اليه امتثال ولا عصيان ، ففرض انقضاء أمد الامر في آن
مساوق لعدم تحقق العصيان في ذلك الآن.
(مضافا) الى ان
انتفاء النقيض ـ أي عدم العصيان ـ في الآن الاول مستلزم لثبوت البديل ـ وهو
العصيان ـ فيه ، اذ لا يخلو من النقيضين شيء.
(ثم) انه يمكن
اجتماع الامرين ولو فرض كون العصيان متوقفا على مضي الزمان اذا أخذ العصيان على
نحو (الشرط المتأخر) للامر بالمهم .. إلّا أن يقال : ان كلام التهذيب مسوق طبق
مبنى المحقق النائيني (قده) القائل باستحالة الشرط المتأخر .. لكنه لا يجدي في
اثبات استحالة الترتب على نحو مطلق.
إلّا ان هذا الفرض
خروج عن موضوع البحث ـ وهو أخذ العصيان على نحو الشرط المقارن ـ كما لا يخفى.
الامر الثالث
مما يرد على اناطة
الامر بالمهم بالعصيان على نحو الشرط المقارن ، هو فلا ثبوت له في ظرف العصيان ـ لتعاصر
العلة والمعلول زمانا ـ فيلزم من ثبوته فيه اجتماع ثبوته وسقوطه ، فلا يجتمع مع
الامر بالمهم في ذلك الآن ، وذلك مخرج له عن موضوع الترتب المتقوم بتعاصر الامرين
الفعليين في زمان واحد.
ويرد عليه : عدم
تسليم كون العصيان علة لسقوط التكليف.
أما أولا : فلان
العصيان اما ان يكون حيثية عدمية ـ كما في عصيان الامر بالصلاة ـ واما أن يكون
حيثية وجودية ـ كما في عصيان النهي عن الغيبة ـ.
فان كان حيثية
عدمية فليس دخيلا في سقوط الامر ، اذ ليس في الاعدام من علية ـ ولو لعدم في عدم ـ وان
بها فاهوا فتقريبية.
مع أن سقوط الامر
عبارة عن انعدامه ، والاعدام لا تتأثر ـ كما انها لا تؤثر ـ لتبعية تحقق مفاد كان
الناقصة لمفاد كان التامة اذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، ولا ذات للعدم كي
يطرأ عليها التأثير أو التأثر.
ومنه ينقدح الجواب
عما اذا كان العصيان حيثية وجودية.
مضافا الى لزوم
تحقق السنخية ـ ولو في الجملة ـ بين العلة والمعلول ، ولا سنخية بين الحيثية
الوجودية والسقوط العدمي.
ثم انه لو قيل
بكون العصيان حيثية عدمية دائما لكونه عبارة عن عدم موافقة المأمور به تمحض الجواب
في الشق الاول.
وأما ثانيا : فلان
وجود الشيء مرهون بوجود علته ، وعدمه بعدم علته ، لا بمعنى علية العدم للعدم وثبوت
العلقة العلية بين العدمين ، لما سبق من أن العدم لا يكون مؤثرا ولا متأثرا ، بل
بمعنى انتفاء العلقة العلية بين الوجودين ، ولذا كان ما اشتهر بينهم من أن عدم
العلة علة لعدم المعلول مقولا على ضرب من التقريب والعناية ، وعليه : يكون انتفاء
علة ثبوت الامر علة لسقوطه.
ومن الواضح : ان
وجود الموضوع ـ بالمعنى الاعم للموضوع المتقوم بمجموع الملابسات المكتنفة بالمأمور
والمتعلق والشرائط والخصوصيات ونحوها ـ هو علة وجود الامر ، فيكون انتفاؤه علة
لسقوطه (سواء كان انتفاء الموضوع معلولا لانعدام جميع مقومات وجوده أو بعضها ،
وذلك لارتهان وجود الشيء بانسداد جميع أبواب العدم عليه ، وكفاية انفتاح باب واحد
منها في عدم وجوده ، بل
في امتناع وجوده ،
لان الشيء ما لم يمتنع لم يعدم).
وعلى هذا : يكون
دخل العصيان في سقوط الامر مستلزما للخلف أو تحصيل الحاصل أو توارد علتين مستقلتين
على معلول واحد بتقريب : ان اسقاطه له ان كان قبل فوات الموضوع لزم الاول لعدم
تحقق العصيان بعد ، وان كان بعد فواته لزم الثاني لسقوط الامر بانعدام موضوعه ،
فلا يمكن سقوطه مرة أخرى ، وان كان معه لزم الثالث ، لعلية الفوات للسقوط ـ بالمعنى
الذي تقدم لذلك ـ فلا يعقل علية غيره له أيضا.
(هذا) كله مضافا
الى بعض ما تقدم في الامر الثاني فراجع.
الفرض الثانى
ان يناط الامر بالمهم بالعصيان على نحو
الشرط المتقدم.
وهو مستحيل بناء
على استحالة اناطة الشيء مطلقا بما يتقدم عليه كاستحالة اناطته بما يتأخر عنه ـ للزوم
تأثير المعدوم في الموجود كما ذهب اليه صاحب الكفاية (قدسسره) ـ.
وذلك لاندراج
المقام في الكلي المذكور.
وأما بناء على
الامكان فهو وان لم يكن مستحيلا في حد ذاته ، لجواز طلب أحد الضدين ـ كالطهارة
الترابية ـ بعد سقوط طلب الضد الآخر ـ كالطهارة المائية ـ ، وذلك لعدم جريان
المحاذير المذكورة في المقام فيه ، إلّا أنه خروج عن موضوع الترتب ، لاشتراط تعاصر
الامرين الفعليين فيه ـ أو ما بحكم التعاصر على ما سيأتي ـ ومع تحقق العصيان
وانتهاء أمده ينتهي أمد الامر بالاهم فلا تتعاصر فيه الفعليتان ولا تترتب عليه
المحذورات المتصورة للترتب.
تقريره : أن
امتداد العصيان مطابق لامتداد الامر ، فاذا كان الامر بالمهم متعقبا لعصيان الامر
بالاهم كان الامر بالمهم في طول الامر بالاهم بلحاظ الزمان ، ففي ظرف العصيان لا
وجود للامر بالمهم المتعقب له ، اذ يلزم من وجوده فيه مقارنة المشروط لشرطه السابق
عليه ، وهو خلف ، لفرض تأخره عنه ، وكذا في الظرف الذي يسبق العصيان ، اذ يلزم من
وجوده فيه سبق المشروط على شرطه السابق عليه وفي الظرف الذي يلي العصيان لا وجود
للامر بالاهم ، اذ فيه : ان تحقق موضوع الامر بالاهم لزم عدم كون العصيان عصيانا ،
اذ مع بقاء الموضوع لا عصيان ، وان انتفى الموضوع فبقاء الامر بالاهم مساوق لبقاء
المعلول بعد انتفاء علته ، مع احتياج المعلول الى علته في البقاء ، كاحتياجه اليها
في الحدوث ، تبعا للااقتضاء والليسية الذاتية اللازمين لماهية الممكن. والتوالي
بأسرها باطلة ، فالمقدم مثلها.
ومما تقدم يظهر
أنه لا بد في هذا الفرض من انفكاك زمان الواجبين ، بأن يكون زمان الاهم سابقا على
زمان المهم واما تقارن الزمانين فهو مستلزم للخلف وذلك لاتحاد زمان الامرين
وامتثالهما وعصيانهما فلا يكون ثمة سبق للعصيان على الامر بالمهم ليكون شرطا
متقدما بالنسبة اليه ، وعلى مبنى سبق الامر على امتثاله وعصيانه يكون عصيان الاهم
لاحقا للامر بالمهم ـ لفرض وحدة زمان الامرين ـ فيكون شرطا متأخرا بالنسبة اليه لا
متقدما كما هو المفروض.
هذا ولكن سبق في
الشرط العاشر من شرائط تحقق الموضوع التنظر في ذلك فراجع.
الفرض الثالث
أن يناط الامر بالمهم بالعصيان على نحو
الشرط المتأخر ، قال المحقق
النائيني (قده) ـ بصدد نقل كلام بعضهم ـ : (ان عصيان الامر بالاهم متحد مع زمان
امتثال
خطاب المهم ، فلا
بد من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله ، وهو يستلزم الالتزام بالشرط المتأخر
والواجب المعلق ، وكلاهما باطل).
وفي (المباحث) : (وأما
أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر فلانه يستلزم القول بامكان الشرط المتأخر والواجب
المعلق ، اذ يستلزم أن يكون الامر بالمهم متقدما زمانا على زمان عصيان الاهم ـ الذي
هو زمان امتثال المهم أيضا ـ فيكون كل من الشرط والواجب في الامر بالمهم متأخرا
عنه ، وهو مستحيل).
أقول : محذور (الشرط
المتأخر) يرد بلحاظ اناطة الوجوب ب (العصيان المتأخر) ومحذور (الواجب المعلق) يرد
بلحاظ سبق زمان وجوب المهم على زمان امتثال المهم ، بتقريب : ان عصيان الاهم متأخر
عن وجوب المهم ـ لفرض كونه شرطا متأخرا ـ فيكون زمان امتثال الاهم متأخرا ـ اذ لا
يعقل انفكاك زمان الامتثال عن زمان العصيان ـ واذا كان زمان امتثال الاهم متأخرا
كان زمان امتثال المهم متأخرا أيضا ، للزوم تعاصر الزمانين في الترتب ، فيلزم كل
من الشرط المتأخر ـ لتأخر زمان عصيان الاهم عن زمان وجوب المهم المشروط به ـ والواجب
المعلق ـ لتقدم زمان وجوب المهم على زمان امتثاله ـ.
ولكن يرد عليه :
أولا : ما قرر في
محله من معقولية كل من (الشرط المتأخر) و (الواجب المعلق).
ثانيا : عدم كلية
ما ذكروه من (لزوم التعليق) في اناطة الامر بالمهم بالشرط المتأخر اذ يمكن فرض
وقوع التزاحم بين واجبين ـ أحدهما مهم والآخر أهم ـ في زمانين بحيث لا تفي قدرة
المكلف بالجمع بينهما ، مع سبق زمان المهم على زمان الاهم ، ومقارنة زمان امتثال
المهم لزمان وجوبه ، فيأمر المولى باتيان الاهم في الزمان اللاحق ، معلقا الامر
بالمهم في الزمان السابق على عصيان الامر بالاهم
في الزمان اللاحق
، فلا يكون ثمة تعليق في الواجب لتقارن زمني الوجوب والواجب.
لكن لا يخفى ان
تحقق العصيان خارجا في هذا الفرض يتوقف على مضي الزمان ، اذ لا عصيان قبل زمان
الامتثال ـ وان كان تحققه فيما بعد منكشفا من حين فعل المهم ، لما فرضناه من عدم
وفاء القدرة بالجمع ، فلا قدرة على فعل الاهم في حينه ، لاستنفاذ المهم قدرة
المكلف من قبل ، لكن عدم القدرة هنا غير مناف لكون الترك عصيانا ، لان الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار.
و (أما) ما ذكره
المحقق الاصفهاني (قده) من اناطة امكان المشروط بالشرط المتأخر بامكان المعلق
لاتحاد ملاك الاستحالة والامكان فيهما ، فيتوقف تصحيح جريانه في الفرض المذكور على
امكان المعلق (فقد) سبق التأمل في اطلاقه ، وانه لا يتم إلّا بناء على بعض الوجوه
في تقرير استحالة المعلق ، أما على بعض الوجوه الأخر فيمكن القول باستحالة المعلق
، مع الذهاب الى امكان المشروط بالشرط المتأخر ، وعليه يمكن تصحيح جريان الترتب في
الصورة المفروضة دون حاجة الى القول بامكان المعلق (مع) ان الكلام في فعلية
التعليق لا في امكانه.
ثم انه قد انقدح
مما ذكر عدم لزوم التعاصر بين الامرين في تحقق موضوع الترتب ، بل يكفي كونهما بحكم
المتعاصرين وان لم يتعاصرا اطلاقا كما في الفرض المذكور في صورة تأخر وجوب الاهم ـ
كنفس الاهم ـ عن زمان المهم وعدم تقارنهما ، فتأمل.
الفرض الرابع
ان يناط الامر بالمهم بالعزم على
العصيان أو عدم العزم على الامتثال وقد أورد على هذا الفرض بأمرين :
الاول : ما ذكره
المحقق الاصفهاني (قده) من :
(انه مبني على
معقولية الواجب المعلق وجواز انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب ، ويزيد شرطيتهما
بنحو الشرط المتقدم على الاشكال المتقدم بلزوم تعقل الشرط المتقدم أيضا اذا كان
شرطا لوجوب المهم بعد العزم وقبل زمان الفعل ، وإلّا فأحد المحذورين لازم على كل
حال).
وتوضيحه : ان أخذ
العزم على العصيان شرطا لفعلية الامر بالمهم يؤدي الى محذور الواجب المعلق أو
الشرط المتقدم أو كليهما معا وذلك لما في (المباحث) من : (ان الامر بالمهم ان كان
في زمن العزم على العصيان ـ المتقدم على زمان العصيان ـ كان فيه محذور الواجب
المعلق ، لان زمان الواجب المهم انما هو زمان العصيان المتأخر ـ بحسب الفرض ـ عن
زمان العزم على العصيان ، فاذا كان زمان العزم هو زمان الامر بالمهم كان من الواجب
المعلق لا محالة ، وان فرض ان زمانه زمان العصيان المتأخر عن زمان العزم كان فيه
محذور الشرط المتقدم لان العزم متقدم زمانا على الوجوب المشروط ، وان فرض ان زمان
الوجوب متخلل بين زمان العزم وزمان العصيان لزم المحذوران معا).
أقول : ما ذكره (قده)
مبني على حصر غير حاصر في محتملات أخذ العزم على العصيان شرطا ، مع ان للمسألة
صورا متعددة.
اذ يمكن أخذ العزم
شرطا متقدما دون تعليق الواجب ، كما في صورة أخذ (العزم السابق على زمن وجوب المهم)
شرطا مع مقارنة زمن وجوب المهم لزمن الواجب ـ أي المهم ـ.
وأخذه شرطا متقدما
مع تعليق الواجب ، كما في الصورة السابقة ، مع تخلل وجوب المهم بين زمن الشرط وزمن
الواجب.
وأخذه شرطا مقارنا
دون تعليق الواجب ، كما في صورة أخذ (العزم المقارن
لزمن وجوب المهم
شرطا) ، مع مقارنة زمن وجوب المهم لزمن الواجب ، وبعبارة أخرى تقارن أزمان الثلاثة
(الشرط ، والوجوب ، والواجب).
وأخذه شرطا مقارنا
مع تعليق الواجب ، كما في الصورة السابقة ، مع تأخر زمن الواجب عن زمني الشرط
والوجوب.
وأخذه شرطا متأخرا
دون تعليق الواجب كما في صورة انفكاك زمان الواجبين وسبق زمان المهم على زمان
الاهم ، واناطة وجوب المهم بالعزم المتأخر ، مع مقارنة وجوب المهم لنفس المهم.
وأخذه شرطا متأخرا
مع تعليق الواجب ، كما في الصورة السابقة مع سبق زمن وجوب المهم على نفس المهم.
ثم انه يمكن فرض
كون العزم شرطا متأخرا مع تعاصر زمن الواجبين كما في قول المولى : (ان عزمت فيما
بعد على عصيان الامر بالاهم ـ المقارن لزمن المهم ـ وجب عليك المهم من الآن) ..
وأثر تقدم الوجوب يظهر في المقدمات المفوتة ونحوها فلا يرد فيه اشكال اللغوية.
ولا يخفى ان
للمسألة صورا كثيرة إلّا ان كلياتها هي ما ذكرناه ، وقد أضربنا عن ذكر تلك الصور
روما للاختصار.
الثاني : ما ذكره
المحقق النائيني (قده) وهو : (ان خطابي الاهم والمهم وان كانا فعليين حال العصيان
معا ، إلّا ان اختلافهما في الرتبة أوجب عدم لزوم طلب الجمع ، من فعليتهما ، لما
عرفت من ان الامر بالاهم انما يقتضي هدم موضوع الامر بالمهم ، وأما هو فلا يقتضي
وضع موضوعه ، وانما يقتضي شيئا آخر على تقدير وجوده ، وما لم يكن هناك اتحاد في
الرتبة يستحيل أن تقتضي فعلية الخطابين طلب الجمع بين متعلقيهما. ومن هنا يظهر ان
ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قده) من ان الامر بالمهم مشروط بالعزم على
عصيان الامر بالاهم
غير صحيح ، فانه
عليه لا يكون الامر بالاهم رافعا لموضوع الامر بالمهم وهادما له تشريعا ، فان
الامر بالاهم انما يقتضي عدم عصيانه ، لا عدم العزم على عصيانه).
ومحصله ـ كما في
المباحث ـ ان النكتة التي بها تعقلنا امكان الترتب تقتضي أن يكون المترتب عليه
الامر بالمهم هو العصيان لا العزم عليه ، فان تلك النكتة هي أن يكون ما يترتب عليه
الامر بالمهم مما يقتضي الامر بالاهم هدمه أولا وبالذات ، فانه عليه سوف ترتفع
غائلة المطاردة بين الامرين ، ومن الواضح ان الامر بالاهم يقتضي بذاته هدم عصيان
الاهم لا هدم العزم على عصيانه.
ويرد عليه ـ مع ما
سبق من المناقشة مبني ، بعدم اجداء تعدد الرتبة في دفع محذور طلب الضدين ـ :
أولا : ما في (المباحث)
وهو (ان ما يقتضي الامر بالاهم هدمه أولا وبالذات ليس هو العصيان وترك الاهم ،
وانما هو العزم عليه وعدم العزم على الامتثال ، لان التكليف انما يجعل من أجل أن
يكون داعيا في نفس العبد ، فمقتضاه الاولي ايجاد الداعي والعزم في نفس العبد على
الامتثال ، فهو يهدم عدم العزم على الامتثال والعزم على العصيان أولا وبالذات.
وفيه : ان هنالك
فرقا بين (مصب الارادة) و (شرط المصب) بتقريب :
ان ما يجعل لاجله
التكليف لا يخلو من أن يكون : العزم مطلقا ، أو العزم الموصل الى الفعل ، أو الفعل
الصادر من المكلف مطلقا ولو لم يكن صدوره عن اختيار ، أو كل من الفعل والعزم بحيث
يكون كل منهما جزءا من المطلوب ، أو الفعل لكن بشرط العزم على نحو يكون التقيد
داخلا والقيد خارجا.
والاربعة الاول
خلاف التلقي العرفي للاوامر المولوية ، وخلاف ما نجده في أنفسنا ـ عادة ـ عند
تكليف من يتلونا في الرتبة ، مع ما يرد على الاول من استلزامه تحقق مراد المولى
وسقوط القضاء بمجرد حصول العزم على الفعل ،
ولو لم ينته الى
الفعل ، وعلى الثالث مما سيأتي .. فلا يبقى سوى ان يكون المراد هو (الفعل الصادر
عن عزم واختيار) ، ومرجعه الى ارادة الحصة من الفعل لا طبيعي الفعل.
ومن هنا قالوا في
تحديد الامر انه (طلب الفعل من العالي على سبيل الاستعلاء) لا طلب العزم على الفعل
وقال المحقق الاصفهاني (قده) ـ في مبحث المقدمة ـ (الارادة التشريعية هي ارادة فعل
الغير منه اختيارا ، وحيث ان المشتاق اليه فعل الغير الصادر باختياره فلا محالة
ليس بنفسه تحت اختياره بل بالتسبب اليه بجعل الداعي اليه وهو البعث نحوه ، فلا
محالة ينبعث من الشوق الى فعل الغير اختيار الشوق الى البعث نحوه ، فيتحرك القوة
العاملة نحو تحريك العضلات بالبعث اليه ، فالشوق المتعلق بفعل الغير اذا بلغ مبلغا
ينبعث منه الشوق نحو البعث الفعلي كان ارادة تشريعية).
نعم : في الوجود
الخارجي يتعلق الهدم بالعزم اولا وبالفعل ثانيا ، إلّا ان الكلام ليس فيه بل في
مقتضى الامر ، فتأمل.
(مع) ان دخل العزم
ـ ولو بنحو الشرطية ـ غير مطردة فان غير القصدي من التوصليات ـ كالتطهير الخبثي ـ غير
منوط بالقصد ، بل يتعلق الغرض بصرف وقوع الفعل في الخارج ، ولو عن غير قصد.
(نعم) يمكن ان
يدعى الفرق بين كون الشيء محققا لغرض المولى ، وكونه محققا للغرض من الامر ، فحصول
الطهارة من الخبث لا يعقل ان يكون غرضا من الامر بالطهارة ، وان تحقق به غرض
المولى ، لعدم ترتبه على الامر وعدم استناده اليه ، وما لا يترتب على شيء لا يعقل
ان يكون غرضا من ذلك الشيء ، اذ الغرض المتوخى من الشيء ما يكون حاصلا بسببه ، لا
مطلقا ، وإلّا لم يكن غرضا له ، وأما سقوط الامر بالتطهير بعد حصول الطهارة
فلانتفاء الموضوع المستتبع لانتفاء
الامر ـ لاستحالة
بقاء المعلول بعد ارتفاع علته ـ لا لتحقق غرض الامر.
(اللهم) إلّا أن
يقال ـ كما في هوامش اجود التقريرات ـ : (التكليف ليس إلّا عبارة عن اعتبار كون
الفعل على ذمة المكلف ، والانشاء لا شأن له إلّا انه ابراز لذلك الاعتبار القائم
بالنفس فلا مقتضي لاختصاص متعلق الحكم بالحصة الارادية والاختيارية ، بل الفعل على
اطلاقه متعلق الحكم).
(لكنه) لا يخلو من
نظر ، وتفصيل الكلام في مباحث (التوصلي والتعبدي) و (الضد).
(مضافا) الى انه
لو صحح (التعليق على العزم) لم يصحح (التعليق على العصيان) لعدم جريان النكتة
المذكورة فيه ، فما في المباحث تبديل لمركز الاشكال ، لا حل له.
ثانيا : ان النكتة
التي يبتني عليها امكان الترتب ـ لدى المحقق النائيني (قده) ـ مشتركة بين اخذ (العصيان)
شرطا ، واخذ (العزم على العصيان) او (عدم العزم على الامتثال) شرطا بتقريب :
ان اقتضاء شيء
لشيء مساوق لاقتضائه علته ، وطرده له مساوق لطرده علته فارادة ايجاد المعلول
المبرزة بصيغة الامر ـ على ما هو مبنى صاحب الكفاية (قدسسره) ـ أو الشوق الى ايجاده ـ على ما هو مبنى المحقق الاصفهاني
(قده) ـ تقتضي ايجاد علته ، وارادة رفعه ـ بعد وجوده ـ تقتضي رفع علته ، كما أن
ارادة دفعه ـ قبل تحققه ـ والحيلولة دون وجوده مقتضية للحيلولة دون وجود علته.
وما نحن فيه من
قبيل الاخير فان الامر بالاهم يقتضي دفع العصيان ـ على ما هو مبنى المحقق النائيني
(قدسسره) ـ وهو لذلك يقتضي ـ ولو عقلا ـ دفع العزم على العصيان
لكونه علة للعصيان ، منتهى الامر ان اقتضاء دفع احدهما بالذات واقتضاء دفع الآخر
بالتبع ، لكن ذلك لا ينافي اتصاف الشيء بالوصف
حقيقة.
وكما أن الامر
المنوط بالعصيان مقيد بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ويستحيل وقوعه على صفة المطلوبية
في عرض الاتيان بمتعلق الآخر ـ على مبناه (قده) ـ كذلك الامر المنوط بالعزم على
العصيان فانه مقيد بوجود علة العصيان ـ وهو العزم على العصيان ـ فيستحيل وقوعه على
صفة المطلوبية مع الاتيان بمتعلق الاهم المستلزم لانتفاء شرطه ، وانحفاظ الخطابين
في ظرف العصيان لا يوجب طلب الجمع لانهما ليسا في مرتبة واحدة وذلك لاقتضاء الامر
بالاهم هدم العزم على عصيانه ـ ولو بالتبع ـ مع عدم اقتضاء الامر بالمهم وضع هذا
التقدير ، لعدم محركية الشيء نحو مقدماته الوجوبية.
ونظير ذلك يقال في
شرطية (عدم العزم على الامتثال) فان الامر بالاهم يقتضي الامتثال ، وما يقتضي
المعلول يقتضي ـ ولو بالتبع ـ وجود علته ـ وهي هنا العزم على الامتثال ـ ووجود
علته مقتض لطرد نقيض نفسه ـ وهو عدم العزم على الامتثال ـ لاستحالة اجتماع
النقيضين فيكون الامر بالاهم مقتضيا ـ ولو عقلا ـ لطرد عدم العزم على الامتثال ،
بمقتضى أن (مقتضى المقتضى مقتضى).
ثالثا : ما عن (المحاضرات)
: من عدم تمامية ذلك ـ لو تم في حد نفسه ـ في الواجبات العبادية التي يكون الداعي
والعزم فيها مأخوذا في الواجب ، بل حتى في الواجبات التوصلية فيما اذا قلنا بأن
التكليف يقتضي تخصيص متعلقه بالحصة الاختيارية كما هو مسلك المحقق النائيني (قده)
انتهى.
وهو ـ مع عدم
اختصاصه بالواجبات العبادية ، لشموله لمطلق الامور القصدية وان لم تكن عبادية ،
كالعقود والايقاعات ، لكون العزم مأخوذا فيها أيضا حتى على مسلك من لا يرى ان
التكليف يقتضي التخصيص ـ آيل الى الثاني ، لعدم كون هدم الاهم للعزم بالذات وعلى
نحو المباشرة ، بل بالتبع وعلى نحو التسبيب ،
وذلك لعدم كون
العزم جزءا من العبادات ، بل هو خارج عن حريمها ، وان كان التقيد داخلا ، فيؤول
الى أنه لا فرق بين كون الهدم مباشريا أو تسبيبيا ، فلا ينهض جوابا في عرض الثاني
، فلو تم الاشكال في حد نفسه لم يكن هذا الجواب واردا نعم : لو فرض اخذ العزم جزءا
امكن انتهاضه في عرضه.
رابعا : ما سبق من
أن نكتة امكان الترتب هي غير ما ذكره المحقق النائيني (قدسسره) وهي مشتركة بين اخذ (العصيان) و (العزم) شرطا فراجع.
بقي شيء وهو أنه
ذكر في (المباحث) :
(ان العزم على
العصيان لو اخذ شرطا فلا بد وأن يؤخذ العزم الثابت حين العصيان شرطا للامر بالمهم
لا مطلق العزم ، اذ لو لا ذلك لما امكن الامر بالمهم ، فان البداء امر ممكن في حق
المكلفين ، فلو كان مطلق العزم على عصيان الاهم شرطا كان التكليف بالمهم فعليا حتى
مع البداء وتبدل العزم ، فيلزم المطاردة بين الامرين بالضدين).
ويرد عليه : ـ مع
ما ظهر مما تقدم ـ أنه يمكن سبق زمن العزم على زمن العصيان دون ثبوته في ظرف
العصيان ، لا باستبدال المكلف العزم على ضده به ، بل بانقطاع امتداده ولزوم أجله ،
مع ترتب عصيان الخطاب بالاهم في حينه عليه ، بأن يكون العزم على العصيان السابق
على زمان العصيان علة لتفويت اطاعة الاهم في ظرفه ، كما في صورة تأديته لتفويت بعض
المقدمات الوجودية أو العلمية التي يتوقف عليها وجود الاهم ، فانه فيهما لا يمكن
حصول العزم على العصيان في حينه ، لاضطرار المكلف اليه.
ولا يكون العزم
عزما الا مع تعلق القدرة بطرفي النقيض على حد سواء ، وعدم مقدورية التخلص من
المخالفة في ظرف الاهم لا يخرج الترك عن كونه عصيانا اذا كان وجوب الاهم فعليا قبل
زمان الواجب المستلزم لوجوب تحصيل مقدماته
الوجودية والعلمية
ـ ولو عقلا ـ او كان الاهم من الاهمية بحيث علم من الشارع ارادة عدم وقوع خلافه في
الخارج مطلقا ـ كما في الدماء والفروج والاموال على تفصيل مذكور في الفقه ـ او كان
تحصيل أغراض المولى مطلقا ، حتى ما لم يحضر أجلها لازما في نظرنا ـ كما سبقت
الاشارة اليه ـ.
ففي جميع هذه
الصور لا ينافي عدم المقدورية تحقق العصيان واستحقاق العقاب على الترك ، وذلك لان
الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
والخطاب بالاهم
وان اصبح ساقطا حين العجز ، لان مجرى قاعدة (ما بالاختيار لا ينافيه) ـ الشاملة
لكل من الوجوب والامتناع ـ هو العقاب ، لا الخطاب ، إلّا ان اجتماع الخطابين قبل
ظرف العجز ـ لو فرض سبق الوجوب على الواجب ـ كاف في تحقق موضوع الترتب.
وعليه ليس المناط (العزم
الثابت) بل (العزم المفوت) وان لم يكن ثابتا حين العصيان.
ثم انه لو فرض
لزوم أخذ (العزم الثابت) شرطا لم يجب كون الشرط هو المجموع بل يمكن كونه الجزء المتقدم
منه فقط لكن بشرط ثباته الى حينه وذلك لان دخل شيء في شيء ـ على نحو الشرطية ـ تابع
للملاكات والمصالح الواقعية ، فربما كان الدخل للجزء المتقدم من العزم لا للمقارن
، وحينئذ يكون الشرط هو (العزم الذي يتعقبه العصيان) بجعل عنوان (التعقب) شرطا
مقارنا للشرط ، وهو يرجع الى عدم كون الشرط طبيعي العزم ، بل خصوص الحصة التي
يعقبها العصيان وتفصيل الكلام موكول الى مباحث (الشرط المتأخر).
الفرض الخامس
أن يناط الامر بالمهم بكون المكلف ممن
يصدر عنه العصيان في المستقبل
أو كونه ملحوقا
بالعصيان ، وحيث ان الالفاظ
موضوعة للمعاني الواقعية ـ لا المتصورة ـ فالعلم بصدور العصيان في المستقبل أو عدم
صدوره لا يؤثر في وجود الامر بالمهم وعدمه الا مع مطابقته ، للواقع ، كما لا يخفى.
والاشكال في هذا
الفرض من جهات :
(الاولى) : من جهة
التضايف ، حيث ان اللاحق والملحوق متضايفان ، ، وهما متكافئان قوة وفعلا ، فكيف
يكون الملحوق ـ وهو المكلف الذي سيعصي ـ بالفعل ، واللاحق ـ وهو نفس العصيان ـ بالقوة.
وفيه : ان ما ليسا
بمتكافئين غير متضايفين ، وما هما متضايفان متكافئان ، بتقريب :
ان ذات الملحوق
واللاحق ليسا بمتضايفين ، ولذا يمكن تصور أحدهما منفكا عن تصور الآخر ، مع تلازم
المتضايفين تحققا وتعقلا ، كما ان ذات العلة والمعلول ليسا بمتضايفين ، ولذا يمكن
تصور ذات أحدهما بدون تصور الآخر.
نعم اللاحق
والملحوق ـ بما هما كذلك ـ متضايفان لكنهما متكافئان في الوجود الذهني ، لاستحالة
تصور أحدهما بدون تصور الآخر ، والامر هنا كذلك لتلازم تصور كون المكلف ملحوقا
بالوصف مع تصور اللاحق.
(الثانية) : من
جهة اناطة الوجوب بالشرط المتأخر. قال المحقق الاصفهاني (قده) :
(ان كون المكلف
ممن يعصي ليس من أكوان المكلف المنتزعة عنه بلحاظ العصيان المتأخر ، بل اخبار
بتحقق العصيان منه في المستقبل ، فلا كون ثبوتي بالفعل ليكون شرطا مقارنا للوجوب)
انتهى.
وفيه : انه لا
يشترط في صدق العنوان الانتزاعي على المنتزع منه واتصافه به حقيقة وجود صفة عينية
فيه ، بل يكفي في الصدق : كونه لو عقل عقل معه ذلك العنوان ، سواء كان ذاتيا له
بذاتي كتاب الكليات ، كما في الاجناس والفصول
المنتزعة من
الوجود الخاص ـ بناء على اصالة الوجود واعتبارية الماهية ـ أو ذاتيا له بذاتي كتاب
البرهان ، بأن لم يكن مقوما للذات ، ولكن كان لحاظه بنفسه كافيا في انتزاع ذلك
العنوان ، دون توقف ذلك على لحاظ الغرائب والمنضمات ، كما في انتزاع الزوجية من
الاربعة ، أو لم يكن كذلك بأن توقف انتزاعه على لحاظ أمر خارج عنه ، كما في انتزاع
عنوان الاب والابن والمتقدم والمتأخر والمتيامن والمتياسر ونحوها .. وما نحن فيه
من هذا القبيل ، فان تصور الذات مع لحاظ وصف تلبسها بالمبدإ في المستقبل كاف في
انتزاع عنوان (الملحوق بالعصيان) وصدقه عليها حقيقة الآن ، فيكون الشرط مقارنا لا
متأخرا ، كما في نظائره مما سبق التمثيل به.
(مع) امكان فرض
وجود كون ثبوتي عيني في المكلف بالفعل ، وذلك فيما اذا أخذت مبادئ العصيان موضوعا
، فان العصيان المستقبلي مقتضى لمقدمات ومقتضيات موجودة بالفعل في نفس العاصي ،
فيؤخذ من توجد فيه هذه المقتضيات المنتهية لذلك المقتضى موضوعا لوجوب الضد المهم ،
لكنه خروج عن مورد البحث كما لا يخفى.
(الثالثة) : من
جهة الخلف ، حيث ان المكلف مع هذا الكون ـ أي كونه ممن يعصي ـ يجوز له ترك المهم
الى فعل الاهم لفرض الاهمية واطلاق وجوبه ، ولا شيء من الواجب التعييني بحيث يجوز
تركه الى فعل غيره ، والمفروض وجوب كل من الاهم والمهم تعيينا لا تخييرا ، وهذا
بخلاف ما اذا كان العصيان بنفسه شرطا مقارنا فانه لا مجال لتركه الى فعل الاهم في
فرض ترك الاهم.
ويرد عليه :
أولا : عدم ظهور
الفرق بين أخذ (العصيان) شرطا وأخذ (كون المكلف ممن يعصي) شرطا ، فان المحمولات
غير الضرورية وان لم تكن حتمية الثبوت
للموضوع لو لوحظ
الموضوع بذاته وبما هو هو ، إلّا انها تصبح ضرورية الثبوت لو أخذ بشرط المحمول ،
وإلّا لزم اجتماع النقيضين ، وكذا لو أخذ الموضوع بشرط وجود العلة ، وإلّا لزم
تخلف المعلول عن علته وعليه : فكما لا يمكن للمكلف العاصي ـ بقيد انه عاصي ـ ترك
العصيان الى نقيضه ، كذلك لا يمكن للمكلف الذي يعصي ـ بقيد انه يعصي ـ استبدال
النقيض بالعصيان ، وإلّا لزم أن ينقلب المكلف الذي سوف يصدر منه العصيان الى
المكلف الذي سوف لا يصدر عنه العصيان ، وهو جمع بين المتناقضين ، فان لم تكن
الضرورة الاولى مخلة بكون وجوب المهم تعيينيا فلتكن الثانية كذلك ، وان كانت مخلة
فلتكن الاولى مثلها.
وعلى كل : فلا فرق
بين الماضي والحاضر والمستقبل في ضرورية ثبوت المحمول للموضوع وعدمها ، بلحاظ ذات
الموضوع مجردا ، أو بشرط المحمول ، أو بشرط العلة ، كما قرر في مبحث (الامكان
الاستقبالي) في محله.
ثانيا : ان انحفاظ
الموضوع شرط في تحقق التخيير في الوجوب ، فجواز ترك الواجب الى غيره بهدم موضوعه
ليس من التخيير في شيء ، فالحاضر مثلا يجوز له ترك الاتمام الى القصر بالسفر ولا
ينافي ذلك كون وجوب كل منهما تعيينيا. والامر في المقام كذلك حيث ان ترك المهم الى
فعل الاهم انما يكون بتبديل الموضوع ـ بل هو مستبطن فيه ـ فلا ينافي وجوبه
التعييني.
ومنه ينقدح النظر
في ما قد يجاب به عن الاشكال من : (انه لا مانع من الالتزام بجواز ترك المهم الى
الاهم ، بأن يكون وجوب المهم سنخا آخر من الوجوب لا يماثله غيره ، والحصر في
التعييني والتخييري ـ المتقوم بجواز ترك كل من الطرفين الى الآخر ـ ليس عقليا ،
فلا مانع من وجود قسم آخر. نعم : لا يجوز العدول من المهم الى ثالث ، بمعنى
استحقاق العقاب عليه ، مضافا الى استحقاق العقاب على ترك الاهم).
ثم لا يخفى ان
الامتناع بالغير لا يكون سببا لانقلاب الحكم عما هو عليه ، وإلّا لزم عدم ثبوت
الاحكام في شأن العصاة ، لامتناع الطاعة في حقهم فان الشيء ما لم يمتنع لم يعدم ،
اذ لا يخلو الشيء من وجود علته التامة أو عدم الوجود ، والاول ينفيه انتفاء الشيء
في الخارج ، والثاني مستلزم لامتناع الوجود لامتناع وجود المعلول بدون وجود علته
التامة ، ففي المقام :
وان امتنع ترك
المهم الى فعل الاهم لو لوحظ كون المكلف ممن يعصي بما هو كذلك إلّا انه امتناع
بالغير ، فلا يقلب جواز الترك عما هو عليه ، بمعنى الترخيص في ذلك وعدم العقاب
عليه.
هذه بعض الفروض
التي يمكن أن يناط بها الامر بالمهم ، وهنالك فروض أخر قد يظهر حكمها مما سبق.
سبحان ربك رب
العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد
وآله الطيبين الطاهرين.
خاتمة
يذكر فيها بعض الفروع الفقهية التي ادعي ـ أو يمكن أن يدعى ـ ابتناؤها على مسئلة الترتب ،
على نحو الاختصار والايجاز.
الفرع الاول
قال في (العروة) :
(اذا رأى نجاسة في المسجد وقد دخل وقت الصلاة يجب المبادرة الى ازالتها مقدما على
الصلاة مع سعة وقتها ، ومع الضيق قدمها ، ولو ترك الازالة مع السعة واشتغل بالصلاة
عصى لترك الازالة ، لكن في بطلان صلاته اشكال والاقوى الصحة) .
وعلله في (الفقه)
بان الامرين بالضدين على نحو الترتب لا مانع منه ، فالامر بالازالة لا يقتضي عدم
الامر بالصلاة ، بل يمكن أن يكون قد أمر بالازالة وانه لو عصى لكان مأمورا بالصلاة
فان الامر بالمهم لا يطارد الامر بالاهم لانهما ليسا في
__________________
عرض واحد ، بل
أحدهما في طول الآخر ، فتأمل .
وفي (التنقيح) :
قالوا ان الوجه في صحتها منحصر بالترتب .. الى آخر كلامه .. .
وفي (المهذب) :
واما صحة الصلاة فلما استقر عليه المذهب في هذه الاعصار وما قاربها من ان الامر
بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده .. فيكون المقتضي لصحة الصلاة موجودا وهو فعلية
الامر بها ـ بناء على الترتب الذي اثبتنا امكانه ووقوعه في العرفيات ـ والمانع
عنها مفقودا ، فتصح لا محالة ونحو ذلك ما في (المستمسك) و (المصباح) .
ثم ان صاحب (العروة)
(قدسسره) عمم المسألة لكل مزاحم مضيق وقال : (وأيضا يجب التأخير (أي
تأخير الصلاة) اذا زاحمها واجب آخر مضيق كازالة النجاسة عن المسجد ، أو اداء الدين
المطالب به مع القدرة على ادائه ، أو حفظ النفس المحترمة ، أو نحو ذلك ، واذا خالف
واشتغل بالصلاة عصى في ترك ذلك الواجب ، لكن صلاته صحيحة على الاقوى) .
وعلله في (الفقه)
ـ في ذيل المسألة ـ : بما حقق في الاصول من ان الامر بالشيء لا يقتضي النهي عن
ضده. ثم لو قلنا بالترتب فالامر واضح ، وان لم نقل به كفى في صحة المهم الملاك .
__________________
وفي (المستمسك) :
بعدم الدليل على ان الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ولا على بطلان الترتب .
وبنى المحقق
النائيني (قدسسره) صحة الضد العبادي في المسألة على الامر الترتبي .
الفرع الثانى
قال صاحب العروة (قدسسره) : (اذا عارض استعمال الماء في الوضوء أو الغسل واجب أهم
كما اذا كان بدنه أو ثوبه نجسا ولم يكن عنده من الماء الا بقدر أحد الامرين من رفع
الحدث أو الخبث ففي هذه الصورة يجب استعماله في رفع الخبث ويتيمم ، لان الوضوء له
بدل وهو التيمم ، بخلاف رفع الخبث .. واذا توضأ أو اغتسل حينئذ بطل لانه مأمور
بالتيمم ولا أمر بالوضوء أو الغسل) وذهب أيضا الى البطلان السيد الوالد ـ دام ظله ـ في (الفقه)
وصاحب (المصباح) .
لكن ذكر السيد
الحكيم ـ رحمهالله ـ ان المقام من صغريات مسألة الضد فيمكن الالتزام فيه
بالامر بالوضوء على نحو الترتب .
ونحوه ما في (المهذب)
.
__________________
وأيضا قال صاحب
العروة (قدسسره) في عداد شرائط الوضوء : ان لا يكون مانع من استعمال الماء
من مرض أو خوف عطش أو نحو ذلك ، وإلّا فهو مأمور بالتيمم ، ولو توضأ والحال هذه
بطل) .
ولكن ذكر في
التنقيح ـ في ضمن كلام له ـ : (.. وقد يستند الحكم بجواز التيمم الى حكم العقل به
كما في موارد المزاحمة بين وجوب الوضوء وواجب آخر أهم كانقاذ الغريق ونحوه .. ففي
هذه الموارد اذا عصى المكلف للامر بالتيمم فصرفه في الوضوء امكننا الحكم بصحة
وضوءه بالترتب ، وحيث ان المخصص للامر بالوضوء عقلي وليس دليلا شرعيا كي يتمسك
باطلاقه حتى في صورة عصيان الامر بالاهم فلا مناص من الاكتفاء فيه بمقدار الضرورة
، كما هو الحال فى موارد التخصيصات العقلية ..) .
الفرع الثالث
من كانت وظيفته
التيمم من جهة ضيق الوقت عن استعمال الماء اذا خالف وتوضأ أو اغتسل بطل لانه ليس
مأمورا بالوضوء لاجل تلك الصلاة ، هذا اذا قصد الوضوء لاجل تلك الصلاة ، وأما اذا
توضأ بقصد غاية اخرى من غاياته أو بقصد الكون على الطهارة صح .
وفي (الفقه) : ان
عدم الامر بهذا الوضوء من باب التزاحم وتقدم ملاك غيره
__________________
عليه مع وجود ملاك
هذا الوضوء في نفسه ومثله يكفي في الصحة .. بل يمكن القول بالامر على نحو الترتب
لمن يرى صحة الترتب .
وفي (المصباح) :
لو أتى بالطهارة المائية في ضيق الوقت بقصد غاية اخرى من غاياتها أو بقصد الكون
على الطهارة ففي صحتها وبطلانها وجهان مبنيان على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن
ضده الخاص وعدمه ، فعلى القول بالاقتضاء تبطل لكونها منهيا عنها بالنهي الناشئ عن
الامر بضدها ، وعلى القول بعدم الاقتضاء فالاقوى الصحة ، وذلك اما لرجحانها الذي
هو ملاك الامر بها وان لم تكن مأمورا بها بواسطة تعلق الامر بضدها مع استحالة
الامر بالضدين بناء على كفاية الاتيان بملاك الامر في صحة العبادة ، واما
بالالتزام بكونها مأمورا بها بالامر الترتبي المشروط بعصيان الامر المتعلق بضدها
بناء على صحة الامر الترتبي .
ونظير هذه المسألة
ما لو توضأ باعتقاد سعة الوقت فبان ضيقه .
الفرع الرابع
قال صاحب العروة (قدسسره) : اذا نهى الزوج زوجته عن الوضوء في سعة الوقت وكان مفوتا
لحقه يشكل الحكم بالصحة .
هذا ولكن قال في
التنقيح : الصحيح الحكم بالصحة لان المحرم على الزوجة حينئذ تفويت حق زوجها واما
عملها فهو مملوك لها ، ولا يحرم من جهة استلزامه
__________________
التفويت ، لان
الامر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده ، بل هذه العبادة ضد عبادي محكوم بالصحة
بالترتب .
ونحوه الاجير
الخاص اذا كان وضوءه مفوتا لحق المستأجر بل كل وضوء كان مفوتا لحق الغير ـ على ما ذكره بعضهم ـ.
الفرع الخامس
اذا جهر المصلي في
موضع الاخفات ، أو أخفت في موضع الجهر ناسيا أو جاهلا ـ ولو بالحكم ـ صحت صلاته ،
سواء كان الجاهل متنبها للسؤال ولم يسأل أم لا بشرط حصول قصد القربة منه .
وقد أورد عليه :
بأن أصل الحكم بالصحة في هذه الموارد مما لا اشكال فيه نصا وفتوى ، انما الاشكال
في الجمع بين الحكم بالصحة واستحقاق العقاب في الجاهل المقصر ، فانه كيف يعقل
الحكم بصحة المأتي به والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب ، ولا سيما مع بقاء
الوقت .
وأجاب عنه كاشف
الغطاء (قدسسره) بتصحيح الامر بالضد على نحو الترتب ـ حيث قال (قده) : ان
انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة وان استلزم المعصية ، وأي
مانع من أن يقول الامر المطاع لمأموره : اذا
__________________
عزمت على معصيتي
في ترك كذا فافعل كذا كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والاخفات والقصر
والاتمام .
وتقريبه : ان
الواجب على المكلف ابتداء هو صلاة القصر مثلا ، وعلى تقدير تركه واستحقاق العقاب
على تركه فالواجب هو التمام ، فلا منافاة بين الحكم بصحة المأتي به واستحقاق
العقاب على ترك الواجب الاول .
الفرع السادس
في موارد وجوب قطع
الصلاة ـ كما في صورة توقف حفظ نفس محترمة أو حفظ مال يجب حفظه عليه ، وكذا لو
توقف اداء الدين المطالب به على قطعها في سعة الوقت ـ اذا تركه واشتغل بالصلاة
فالظاهر الصحة ، وان كان آثما في ترك الواجب .
ويمكن ابتناء
الحكم في ذلك على عدم استلزام الامر بالشيء للنهي عن ضده ، مع وجود الامر بالصلاة
على نحو الترتب ، فالمقتضي موجود والمانع مفقود ، فتصح الصلاة لا محالة.
الفرع السابع
يجب رد سلام
التحية في أثناء الصلاة ، ولو عصى ولم يرد الجواب واشتغل
__________________
بالصلاة قبل فوات
وقت الرد لم تبطل على الاقوى .
والحكم بالصحة هو
المشهور بين المتأخرين واختاره في الذكرى .
وذكر بعضي محشي
العروة : ان هذا مبني على قاعدة الترتب .
الفرع الثامن
لو شرع المصلي في
اليومية ثم ظهر له ضيق وقت صلاة الآيات وجب عليه قطعها مع سعة وقتها ، واشتغل
بصلاة الآيات .
قال السيد الوالد
ـ دام ظله ـ : ولو لم يقطع الفريضة لم تبطل .
ويحتمل ابتناء
الحكم في ذلك على مسألة الترتب.
الفرع التاسع
لو صلى النافلة في
وقت تضيق الفريضة فالظاهر الصحة ، وان كان آثما بتفويت الفريضة .
__________________
ويمكن بناء الحكم
فيه على الترتب.
ونظير ذلك ما لو
صلى النافلة وعليه قضاء فائتة ـ بناء على المضايقة في القضاء ـ فان الامر به لا
يمنع الامر بها على نحو الترتب.
قال في التنقيح :
لو التزمنا بالضيق في الفوائت وقلنا بالضيق التحقيقي العقلي المنافي للاشتغال
بالنافلة ونحوها لم يترتب على ذلك عدم مشروعية النافلة أبدا ، فليكن المقام من باب
التزاحم ، فاذا عصى الامر بالفورية في القضاء جاز له التنفل ويحكم بصحته بالترتب ،
وان كان قد عصى بتأخير القضاء .
الفرع العاشر
لو صلى المسافر
بعد تحقق شرائط القصر تماما جاهلا بان حكم المسافر القصر لم يجب عليه القضاء ولا
الاعادة .
وهذا الحكم هو
المشهور ، بل عن بعض دعوى الاجماع عليه وقد وردت به بعض النصوص الصحيحة وحكم الصوم فيما ذكر حكم الصلاة وبه نصوص صحيحة .
وقد أورد عليه
بنظير ما أورد على مسألة الجهر والاخفات.
__________________
وأجاب عنه كاشف
الغطاء (قدسسره) بتصحيحه بالخطاب الترتبي .
الفرع الحادى عشر
لو توقف على ترك
الصوم حفظ عرض أو مال محترم يجب حفظه ، أو توقف حفظ نفسه أو نفس غيره عليه ونحو
ذلك مما كانت مراعاته أهم في نظر الشارع من الصوم فصام فقد ذهب صاحب العروة (قدسسره) الى بطلان الصوم حينئذ .
لكن في (مستند
العروة) : (.. واما بناء على المختار من صحة الترتب وامكانه بل لزومه ووقوعه وان تصوره
مساوق لتصديقه .. فلا مناص من الحكم بالصحة بمقتضى القاعدة ، اذ المزاحمة في
الحقيقة انما هي بين الاطلاقين لا بين ذاتي الخطابين ، فلا مانع من تعلق الامر
بأحدهما مطلقا ، وبالآخر على تقدير عصيان الاول ومترتبا عليه ، فالساقط انما هو
اطلاق الامر بالمهم وهو الصوم ، واما أصله فهو باق على حاله ، اذ المعجز ليس نفس
الامر بالاهم بل امتثاله) .
وفي المصباح :
وكذا يسقط (الصوم) عند التزاحم مع واجب آخر يكون أهم منه في نظر الشارع كحفظ مال
ونحوه مما احرز أهميته عنده فيجب عليه تركه والاتيان بما هو أهم ، لكن لو خالف
وأتى بالصوم يصح صومه ، اما بالخطاب الترتبي ، واما بالملاك .
__________________
الفرع الثانى عشر
يشترط في صحة
الاعتكاف اذن المستأجر بالنسبة الى أجيره الخاص ـ كما ذهب اليه صاحب العروة (قدسسره) .
قال في المستند :
ـ ضمن كلام له ـ (.. من كان أجيرا لعمل معين كالسفر في وقت خاص فخالف واشتغل
بالاعتكاف فالظاهر هو الصحة وان كان آثما في المخالفة ، لوضوح ان الامر بالشيء لا
يقتضي النهي عن ضده ، فيمكن تصحيح العبادة بالخطاب الترتبي ، بأن يؤمر أولا
بالوفاء بعقد الايجار ، ثم على تقدير العصيان يؤمر بالاعتكاف .
وأيضا يشترط اذن
الزوج بالنسبة الى زوجته اذا كان منافيا لحقه .
لكن ذكر السيد
الوالد ـ دام ظله ـ : ان ذلك وحده ـ ما لم ينضم اليه محذور خارجي ـ لا يكفي في
بطلان الاعتكاف ، لانه من باب الضد .
ويمكن بناء
المسألة على الترتب أو الملاك.
الفرع الثالث عشر
لو نذر ضدا على
الاطلاق ، وضدا آخر على تقدير تركه انعقد النذران على تقدير خلوه عن فعل الاول
واقعا ـ على ما ذهب اليه بعضهم معللين ذلك بالترتب ـ .
__________________
الفرع الرابع عشر
لو فرض حرمة
الاقامة على المسافر من أول الفجر الى الزوال ، فعصى هذا الخطاب وأقام فلا اشكال
في أنه يجب عليه الصوم ويكون مخاطبا به ، فيكون في الآن الاول الحقيقي من الفجر قد
توجه اليه كل من حرمة الاقامة ووجوب الصوم ولكن مترتبا ، يعني ان وجوب الصوم يكون
مترتبا على عصيان حرمة الاقامة ، ففي حال الاقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الاقامة
أيضا ، لان المفروض حرمة الاقامة عليه الى الزوال ، فيكون الخطاب الترتبي محفوظا
من الفجر الى الزوال .
ونحوه ما لو وجب
السفر في شهر رمضان بايجاب أهم من صوم شهر رمضان كسفر حج ونحوه فانه لا اشكال في
توجه الامر السفري على الاطلاق ، وتوجه الامر الصومي على تقدير تركه بحيث لو أفطر
وجب عليه الكفارة فلو لم يكن واجبا لما وجبت عليه .
وحكم الصلاة في
ذلك حكم الصوم .
الفرع الخامس عشر
لو فرض وجوب
الاقامة على المسافر من أول الزوال ، فعصى ، كان وجوب القصر عليه مترتبا على عصيان
وجوب الاقامة ، حيث انه لو عصى ولم يقصد الاقامة توجه عليه خطاب القصر ، وكذا لو
فرضنا حرمة الاقامة ، فان وجوب التمام يكون
__________________
مترتبا على عصيان
حرمة الاقامة .
ونظيره ما لو نذر
أن يتم الصلاة في يوم معين فسافر فانه يجب عليه القصر .
الفرع السادس عشر
لو عصى خطاب اداء
الدين وجب عليه الخمس مترتبا على العصيان ، هذا اذا لم يكن الدين من عام الربح ،
وأما اذا كان من عام الربح فيكون خطاب اداء الدين بنفس وجوده رافعا لخطاب الخمس لا
بامتثاله .
الفرع السابع عشر
لو انحصر ماء
الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة على نحو يحرم عليه الاغتراف منها للوضوء ،
وذلك فيما اذا لم يكن بقصد التخليص ، فان اغترف منها ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة
فهذا مما لا اشكال في وجوب الوضوء عليه بعد اغترافه ، وان عصى في أصل الاغتراف ،
إلّا أنه بعد العصيان والاغتراف يكون واجدا للماء ، فيجب عليه الوضوء ، وأما اذا
لم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة بل كان بناؤه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما
يكفيه لغسل الوجه فقط فالمحكي عن صاحب الفصول : أنه لا مانع من صحة وضوئه حينئذ
بالامر الترتبي ، فانه يكون واجدا للماء بعد ما كان يعصي في الغرفة الثانية
والثالثة التي تتم بها الغسلات
__________________
الثلاث للوضوء ،
فيكون أمره بالوضوء نظير أمره بالصلاة اذا كان مما يستمر عصيانه للازالة الى آخر
الصلاة ، فان المصحح للامر بالصلاة انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء منها
حال وجوده ، لمكان عصيان الامر بالازالة في ذلك الحال وتعقبه بالعصيان بالنسبة الى
الاجزاء اللاحقة ، وفي الوضوء يأتي هذا البيان أيضا ، فان القدرة على كل غسلة من
غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة ، لمكان العصيان بالتصرف في الآنية
المغصوبة ، والعصيان في الغرفة الاولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة
الثانية والثالثة لغسل اليدين فيجري في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة .
وفي التنقيح : (..
اذا لم نقل باعتبار القدرة الفعلية على مجموع العمل قبل الشروع فيه واكتفينا
بالقدرة التدريجية في الامر بالواجب المركب ولو على نحو الشرط المتأخر بأن تكون
القدرة على الاجزاء التالية شرطا في وجوب الاجزاء السابقة ... فلا بأس بالتوضؤ من
الاواني المغصوبة لامكان تصحيحه بالترتب ..) .
ونظير هذه المسألة
: الاغتراف من آنية الذهب أو الفضة.
قال في التنقيح : (صحة
الغسل أو الوضوء في صورة الاغتراف مبتنية على القول بالترتب ولا نرى أي مانع من
الالتزام به في المقام لان المعتبر في الواجبات المركبة انما هي القدرة التدريجية
ولا تعتبر القدرة الفعلية على جميع أجزائها من الابتداء .
وقد نسب القول
بالصحة في صورة الاغتراف الى المشهور .
__________________
.. هذه بعض الفروع
الفقهية التي ادعي ابتناؤها على الترتب.
ولا يخفى أنه كما
يمكن بناؤها عليه يمكن بناؤها على غيره كالملاك ونحوه.
ثم انه كما يمكن
بناء هذه الفروع على الترتب يمكن بناء الترتب عليها كما صنعه المحقق النائيني (قدسسره) لكن مر في أدلة القول بالامكان التأمل في ذلك فراجع.
ثم ان هنالك
مناقشات مفصلة في هذه الفروع مذكورة في محلها ، وقد تركنا التعرض لها خوفا من
الاطالة.
سبحان ربك رب
العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على
محمد وآله الطاهرين.
فهرس الكتاب
هل
المسألة اصولية؟.............................................................. ٤
شرائط تحقق
الموضوع............................................................ ١٢
وجود التضاد بين
الامرين........................................................ ١٢
كون التكليفين
الزاميين.......................................................... ١٧
كون المهم عباديا............................................................... ١٩
أن لا يكون المهم
مشروطا بالقدرة الشرعية......................................... ٢٢
أن يكون التضاد
بين المتعلقين اتفاقيا.............................................. ٢٧
أن لا يكون المهم
ضروري الوجود عند العصيان..................................... ٣٠
تنجز خطاب الاهم
على المكلف................................................. ٣٣
وصول التكليف
بالاهم بنفسه.................................................... ٣٥
عدم أخذ الجهل في
موضوع الامر الترتبي........................................... ٣٦
كون المتزاحمين
عرضيين.......................................................... ٣٧
ما أورد به على
الترتب.......................................................... ٤٢
الوجه الاول :
تطارد الطلبين..................................................... ٤٢
الايراد الاول................................................................... ٤٤
النقيضان في مرتبة
واحدة........................................................ ٤٥
تزاحم الاقتضاءين
في فرض التعليق................................................ ٥٥
ملاك التزاحم
المعية الوجودية..................................................... ٥٥
النقض بأخذ العلم
بالحكم موضوعا لحكم ضده..................................... ٥٨
النقض بتقييد
الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم...................................... ٦٠
النقض بتقييد
الامر بالمهم بامتثال الامر بالاهم..................................... ٦١
نزول الامر بالاهم
الى مرتبة الامر بالمهم............................................ ٦٢
الايراد الثاني................................................................... ٦٣
الايراد الثالث.................................................................. ٦٥
الايراد الرابع................................................................... ٦٩
الايراد الخامس................................................................. ٧٤
الوجه الثاني :
تعدد الاستحقاق.................................................. ٧٧
النقض بموارد
الواجبات الكفائية.................................................. ٧٩
النقض بالتكليفين
الطوليين...................................................... ٨٢
ملاحظة كل خطاب
منفردا...................................................... ٨٤
العقاب على ترك كل
حال ترك الآخر............................................. ٨٦
العقاب على الجمع
في الترك...................................................... ٨٨
المناط امكان
التخلص من المخالفة................................................ ٨٩
لا قبح في العقاب
على غير المقدور................................................ ٩١
الهتك هو الملاك................................................................ ٩١
تفويت الملاك.................................................................. ٩٢
الوقوع........................................................................ ٩٣
قلب الاشكال................................................................. ٩٤
الالتزام بوحدة
الاستحقاق....................................................... ٩٥
الوجه الثالث................................................................... ٩٩
الوجه الرابع.................................................................. ١٠٢
الوجه الخامس................................................................ ١٠٦
الوجه السادس................................................................ ١٠٧
أدلة جواز الترتب............................................................. ١١٢
الدليل الاول................................................................. ١١٢
المقدمة الاولى................................................................. ١١٢
المقدمة الثانية................................................................. ١١٨
المقدمة الثالثة................................................................. ١٢٥
الدليل الثاني.................................................................. ١٢٩
الدليل الثالث................................................................ ١٣٤
الدليل الرابع.................................................................. ١٣٥
ما يناط به الامر
بالمهم......................................................... ١٣٧
الفرض الاول................................................................. ١٣٧
الامر الاول.................................................................. ١٣٧
الامر الثاني................................................................... ١٦١
الامر الثالث................................................................. ١٦٢
الفرض الثاني................................................................. ١٦٤
الفرض الثالث................................................................ ١٦٥
الفرض الرابع................................................................. ١٦٧
الفرض الخامس............................................................... ١٧٥
خاتمة........................................................................ ١٨٠
الفرع الاول.................................................................. ١٨٠
الفرع الثاني................................................................... ١٨٢
الفرع الثالث................................................................. ١٨٣
الفرع الرابع................................................................... ١٨٤
الفرع الخامس................................................................. ١٨٥
الفرع السادس................................................................ ١٨٦
الفرع السابع................................................................. ١٨٦
الفرع الثامن.................................................................. ١٨٧
الفرع التاسع.................................................................. ١٨٧
الفرع العاشر................................................................. ١٨٨
الفرع الحادي عشر............................................................ ١٨٩
الفرع الثاني عشر.............................................................. ١٩٠
الفرع الثالث عشر............................................................ ١٩٠
الفرع الرابع عشر.............................................................. ١٩١
الفرع الخامس عشر............................................................ ١٩١
الفرع السادس عشر........................................................... ١٩٢
الفرع السابع عشر............................................................ ١٩٢
فهرس الكتاب................................................................ ١٩٥
|