


تقريب القرآن إلى
الأذهان
الجزء التاسع عشر
من آية (٢٢) سورة الفرقان
إلى آیة (٥٦) سورة النمل
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته
الطاهرين
وَقالَ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ
نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
يَوْمَ
يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ
حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)
____________________________________
[٢٢](وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) وهم الكفار المنكرون للبعث ، الذين ليس لهم حتى الأمل
والرجاء في لقاء جزاء الله وحسابه (لَوْ لا) أي هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْمَلائِكَةُ) ليخبرونا بأن محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم نبي (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك ، ويأمرنا بإطاعة الرسول واتّباعه ، فرد
عليهم الله سبحانه بقوله (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا ، وكان الإتيان من باب الاستفعال لإفادة أنهم
إنما طلبوا الكبر ، مع أن نفوسهم كانت مذعنة ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ) (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في أمر أنفسهم حيث دفعوها إلى مستوى أن تنزل عليهم
الملائكة أو يرون الله (وَعَتَوْا) أي طغوا (عُتُوًّا كَبِيراً) أي طغيانا عظيما وتمردوا غاية التمرد.
[٢٣] إنهم لا
بد وأن يروا الملائكة لكن في وقت لا فائدة في إيمانهم حينذاك (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) عند قبض أرواحهم (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ
لِلْمُجْرِمِينَ) إنما يبشرون بالجنة والثواب في هذه الدنيا ، قبل أن
ينكشف لهم العالم الآخر ، أما يوم الانكشاف عند قبض الروح ، لا بشارة لهم ، وإنما
عذاب ونكال ، وذلك كناية عن رفع التكليف (وَيَقُولُونَ) أي يقول الكفار في ذلك اليوم (حِجْراً مَحْجُوراً) كانت
__________________
وَقَدِمْنا
إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)
أَصْحابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ
____________________________________
العرب إذا رأى أحدهم من يريد قتله يقول حجرا محجورا دماءنا ، أي حراما
محرما ، وهم حين يرون الملائكة يظنون إن هذا القول ينفع ، ولقد كانت هذه الكلمة
كالاستعاذة عندنا حين نرى مكروها ، فنقول «نعوذ بالله».
[٢٤](وَقَدِمْنا) أي قصدنا وتعمدنا ، من باب استعمال المسبب في السبب ،
فإن القاصد إلى عمل يتقدم إليه (إِلى ما عَمِلُوا
مِنْ عَمَلٍ) كانوا يظنون إنه عمل خيري (فَجَعَلْناهُ) أي ذلك العمل الخيري للكفار (هَباءً) وهو الغبار الذي يرى إذا أشرقت الشمس من الكوّة ،
ومفرده هباءه (مَنْثُوراً) أي منتشرا ، فكما أن الهباء لا ينتفع به ولا يمكن
التحصيل عليه كذلك أعمال هؤلاء الكفار التي ظنوها حسنات لم ينتفعوا بها ، إذ شرط
القبول الإيمان ، الذي فقدوه.
[٢٥](أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وهم المؤمنون (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) أي أفضل منزلا في الجنة ، من أصحاب النار (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي موضع قائلة ، وهي من القيلولة ، وهو النوم قبل الظهر
والاستراحة فيه في وقت الحر ، وقد كان هذا من فعل كبرائهم ، واستحب في الشريعة لما
فيه من التنشيط للعمل بعده ، وقوله «خير» و «أحسن» يراد بهما الفضل لا الأفضلية ،
إذ لا خير في مكان أهل النار.
[٢٦](وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ
بِالْغَمامِ) يأتي متعلقه في قوله «الملك يومئذ» والمراد بتشقق
السماء انقلاب أوضاعها ، ففي يوم القيامة تنقلب أحوال
وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥)
الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ
سَبِيلاً (٢٧)
____________________________________
الأرض والسماء ، ولعلّ معنى التشقق أن الإنسان يرى كأنّ شقّا كبيرا أحدث في
السماء ، بأن ظهر لون غير اللون المرئي الآن ، ولعل المراد بالغمام السحب التي
تتراكم من الدخان والأبخرة الحادثة من جراء الانقلابات الكونية ، أو يأتي غمام
يحمل الملائكة ، وهو الذي يشقق السماء ، ويكوّن لونا غير لون السماء ، حتى يرى
الإنسان فيها شقا (وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) كما قال سبحانه (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ) وهذا حال يوجب الدهشة والاضطراب لأهل الأرض ، فقد عرفوا
أن القيامة قد قامت ، وأن الملائكة عمال الله سبحانه وتعالى للحساب والتنظيم
والسيطرة على الموقف نزلوا.
[٢٧](الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي يوم تشقق السماء (الْحَقُ) أي الملك الذي هو الملك حقا ، لا كملك ملوك الدنيا الذي
يكون زائلا (لِلرَّحْمنِ) وإنما خص الملك به في ذلك اليوم ، لأن في الدنيا يرى
بعض أقسام الملك للناس ، أما هناك فلا أحد يملك شيئا حتى ملكا ظاهريا (وَكانَ) ذلك اليوم (يَوْماً عَلَى
الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي صعبا لشدته وهوله ومشقته.
[٢٨](وَيَوْمَ) عطف على «يوم تشقق» (يَعَضُّ الظَّالِمُ
عَلى يَدَيْهِ) أسفا وندما لما سبق منه من الظلم ، والعض هو الأخذ
بالأسنان ، وكأن النادم إنما يفعل ذلك لإرادة إيلام جسمه انتقاما لما صدر منه مما
ألقاه في هذا النادم ، والعض على اليدين في الندم الشديد (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي ليتني اتبعت محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم واتخذت معه
يا
وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨)
لَقَدْ
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ
خَذُولاً (٢٩)
____________________________________
في سبيل الهداية حتى لا أبتلي بهذا اليوم العصيب.
[٢٩](يا وَيْلَتى) أي يا هلاكي احضر ، أو يا قوم اطلبوا هلاكي (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً) أي الكافر الفلاني الذي أضلني (خَلِيلاً) أي صديقا حتى يقرأ في أذني ويضلني عن الرشاد ، والمراد كل
صديق يفسد الإنسان ويضله.
[٣٠](لَقَدْ أَضَلَّنِي) وأغواني وصرفني خليلي (عَنِ الذِّكْرِ) القرآن ، أو الرسول (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) وحال بيني وبين الإيمان (وَكانَ الشَّيْطانُ
لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي كثير الخذلان ، يقال خذله إذا تركه في الشدة ، ولم
ينصره ، وهذا أما من تتمة كلام الظالم ، متحير لماذا تبع الشيطان حتى يخذله في
القيامة ، أو ابتداء من الله سبحانه للإلفات إلى وجوب عدم اتباع الشيطان ، فإنه
يخذل في أحرج الساعات.
قال ابن عباس :
نزل قوله (وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ) في عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف ، وكانا متخالين وذلك
أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعى إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما ودعا الناس ، فدعا
رسول الله إلى طعامه فلما قرب الطعام قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله
وأني رسوله ، فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ،
فبلغ ذلك أبيّ بن
وَقالَ
الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)
____________________________________
خلف ، فقال صبأت يا عقبة؟ قال : لا والله ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبى أن
يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم.
فقال أبي : ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبصق في وجهه ، ففعل ذلك عقبة وارتد
وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فضرب
عنقه يوم بدر صبرا ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم أحد بيده في المبارزة .
أقول : وبناء
على هذا النزول يكون مصداق قوله «فلانا» «أبيّ» لأنه الذي كان خليلا مع عقبة ، وقد
ورد في حديث آخر أن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حين بصق في وجهه احمرّ وجهه المبارك ، ومسح البصاق بيده
، كما ورد أن الرسول جاء شاكيا إلى أبي طالب ، فأمر أبو طالب بعض خدمه أن يأخذ رحم
دابة ، وجاء بها حتى رأى عقبة فأفرغها في رأسه ، كما صنع بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[٣١] وقال
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في ذلك الموقف الهائل ، شاكيا إلى قومه (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا
الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي هجروا القرآن وابتعدوا عنه ، والمراد بالقوم ، إما
قريش أو مطلق الناس ، لأن المراد بقوم الأنبياء ، من أرسلوا إليهم وهذا يناسب قول
الظالم (لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ) والآية وإن كانت ظاهرة في الكفّار إلا أنها أعم ، قال
الإمام
__________________
وَكَذلِكَ
جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً
وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً
____________________________________
الصادق عليهالسلام : ليس رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده
إلى جنة أو تسوقه إلى نار ، تجري فيمن بعده إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وعلى هذا فهجر القرآن ـ في هذا الزمان ـ ترك العمل
بأحكامه واتخاذ مناهج الكفار نظاما للحكم ، دون دساتير القرآن.
[٣٢] ويسلي
الله الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن ترك الأقوام للهدى إنما هو شيء قديم ، فقد كان
للأنبياء أعداء يهجرونهم ، ويعادونهم (وَ) كما لك أعداء يهجرون كتابك وينصبون لك العداء (كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا) ومعنى جعل الله سبحانه أنه لا يأخذهم حيث يعادون
الأنبياء ، وإنما يتركهم وشأنهم ، ليبلغوا أجلهم ، وليرفع مقام النبي بالصبر على
المكاره. يقال : جعل الملك اللص في الطريق ، إذا لم يضرب على يده وتركه يفعل ما
يشاء (مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي من الذين يأتون بالجرائم ، وهي المعاصي (وَكَفى بِرَبِّكَ) يا رسول الله (هادِياً) فإنه سبحانه يهدي الناس (وَنَصِيراً) ينصر المؤمنين بالآخرة فلا يهمك أن يقف المجرم في طريق
الدعوة ويكون له الغلب المؤقت.
[٣٣] وبعد أن
بين الله تعالى بعض كلمات الكفار حول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والقرآن مثل «قالوا لو لا أنزل علينا الملائكة» ذكر بعض
مناقشاتهم الأخر (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ) أي على الرسول (الْقُرْآنُ جُمْلَةً
واحِدَةً)
__________________
كَذلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢)
وَلا
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)
____________________________________
لا منجما ، فلو كان من عند الله كان قادرا على أن ينزله مرة واحدة كما
أنزلت التوراة والإنجيل من قبل جملة واحدة؟ ولعلهم كانوا يريدون بذلك تقوية
افترائهم. أن الرسول إنما يتعلم القرآن من «عداس» وأضرابه ، كما سبق منهم هذا
الافتراء.
لكن جواب هذا
أن القرآن إنما يأتي بالمناسبات ، والتدرج خير لذلك من الإنزال جملة ، ولذا يكون
لكل آية شأن نزول ، لا يجمل لو نزلت قبل ذلك ، أو بعده بزمان (كَذلِكَ) أنزلناه متفرقا (لِنُثَبِّتَ) ونقوّي (بِهِ) أي بالقرآن (فُؤادَكَ) أي قلبك ، فإن الوحي إذا جاء متدرجا في كل حادثة وكل
أمر كان ذلك موجبا لتقوية قلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من أن ينزل جملة واحدة ، وهذا ضروري بالنسبة إلى البشر
، وإن كان رسولا معصوما ، أرأيت أن المؤمن كامل الإيمان ليزداد قوة كلما مرّ عليه
آي الكتاب (وَرَتَّلْناهُ) أي رتلنا القرآن (تَرْتِيلاً) وهو التبيين من تثبيت وترسّل.
[٣٤](وَلا يَأْتُونَكَ) يا رسول الله ، المشركون (بِمَثَلٍ) سيئ لك لإبطال أمرك ، إذا أرادوا بذلك تشبيه الرسول بمن
لا اتصال له بالوحي ، حيث لا بد له أن يصنع الكلام تدريجا (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) في جواب ذلك المثل ودحضه (وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً) لعملك من تفسيرهم ، فإنا نبيّن وجه عملك بما هو عليه ،
وذلك أحسن من بيانهم الذين يريدون به إبطال أمرك.
[٣٥] إن تفسير
هؤلاء المقلوب ، لأعمال الرسول ، سيودي بهم إلى أن
الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ
سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥)
فَقُلْنَا
اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ
تَدْمِيراً (٣٦)
____________________________________
يحشروا مقلوبين على وجوههم (الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ) ويساقون (عَلى وُجُوهِهِمْ) سحبا على الوجوه (إِلى جَهَنَّمَ) ليلاقوا جزاء أعمالهم الكافرة في الدنيا (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي منزلا من غيرهم (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فإن سبيلهم يؤدي إلى الهلاك ، بينما سبيل المؤمنين يؤدي
إلى الجنان ، وهذا في مقابل قولهم في المؤمنين «أنهم لضالون». و «شر» و «أضل» لا
يراد بهما التفضيل حقيقة.
[٣٦] ثم ذكر
سبحانه قصص بعض الأنبياء عليهمالسلام الذين كذبهم الأقوام فكانت لهم العاقبة السيئة بسبب
تكذيبهم ، وهذا تسلية للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنذار للمشركين (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَجَعَلْنا مَعَهُ
أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) له يساعده في التبليغ والإرشاد.
[٣٧](فَقُلْنَا) لهما (اذْهَبا إِلَى
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهم فرعون وقومه ، والمراد بتكذيبهم ، إما بعد إتيانهما
إليهم ، وإما قبل ذلك حيث لم يقبل فرعون وقومه ما بقي من علوم الأنبياء عليهمالسلام وآثار المرسلين ، وجاء موسى وأخوه إليهم ودعياهم إلى
الله فلم يقبلوا (فَدَمَّرْناهُمْ) أي أهلكنا فرعون وقومه بالغرق (تَدْمِيراً) أي إهلاكا عظيما.
وَقَوْمَ
نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً
وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧)
وَعاداً
وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا
لَهُ الْأَمْثالَ
____________________________________
[٣٨](وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ) فإن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع رسل الله تعالى (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان (وَجَعَلْناهُمْ
لِلنَّاسِ آيَةً) أي عبرة وموعظة (وَأَعْتَدْنا) أي هيأنا (لِلظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي (عَذاباً أَلِيماً) سوى ما حل بهم في دار الدنيا ، أو المراد العموم أي أن
كل ظالم قد هيئ له عذاب مؤلم موجع.
[٣٩](وَ) أهلكنا (عاداً) قوم هود عليهالسلام (وَثَمُودَ) قوم صالح (وَأَصْحابَ الرَّسِ) ورد أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها «شاه
درخت» وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوا بينهم في الأرض وذلك بعد سليمان بن داود عليهالسلام فأهلكوا بريح عاصفة شديدة الحمرة تحيروا فيها وذعروا
منها وتضام بعضهم إلى بعض ، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد سحابة سوداء
فألقت عليهم كالقبة جمرا يلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار (وَ) أهلكنا (قُرُوناً بَيْنَ
ذلِكَ كَثِيراً) أي بين هذه الأقوام الذين ذكروا من عاد وثمود وقوم نوح
وأصحاب الرس ، والقرن هو الجيل ، يقال لهم قرن لتقارن أعمارهم.
[٤٠](وَكُلًّا) من تلك القرون والأقوام التي أهلكناها بسبب كفرهم
وفسادهم (ضَرَبْنا لَهُ
الْأَمْثالَ) أي ذكرنا لهم أنهم إن لم يؤمنوا عذبوا
وَكُلاًّ
تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا
عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً
(٤١)
____________________________________
كما عذب من سبقهم ـ وهذا كما نمثل لقوم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ (وَكُلًّا) من أولئك القرون والأقوام (تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي أهلكناهم إهلاكا ، يقال : تبره بمعنى أهلكه.
[٤١](وَلَقَدْ أَتَوْا) أي مضوا ورأوا ، والمراد كفار مكة (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ
مَطَرَ السَّوْءِ) يعني قرية لوط التي أمطرت عليها الحجارة ، فإن قريته
بين مكة والشام ، وقد كان أهل مكة يمرون عليها عند ذهابهم إلى الشام ولدى إيابهم (أَفَلَمْ يَكُونُوا) هؤلاء الكفار (يَرَوْنَها) أي يرون تلك القرية؟ فلما ذا لا يخافون أن يصيبهم
بتكذيبهم مثل ما أصاب تلك القرية؟ (بَلْ) رأوها ، ولكنهم (كانُوا لا يَرْجُونَ
نُشُوراً) أي أنهم إنما لم يعتبروا بها لأنهم لا يقرون بالبعث
والحساب ، ومن أنكر الآخرة وأنكر المبدأ ، حمل كل شيء على غير وجهه ولعلهم كانوا
ينسبون قصة قوم لوط إلى الصدفة ، كما نشاهد أمثالهم في أيامنا هذه.
[٤٢](وَإِذا رَأَوْكَ) الكفار ، يا رسول الله (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أي لا يحسبونك (إِلَّا هُزُواً) أي مهزوا به ، كأنه أداة للسخرية والاستهزاء ، فيقولون
على وجه السخرية (أَهذَا) الرسول هو (الَّذِي بَعَثَ اللهُ) إياه (رَسُولاً) أي كيف يمكن أن يكون هذا رسولا ، ولم يكن استهزاءهم إلا
عنادا وحسدا وكبرا ، وإلا لم يكن لهم دليل ومنطق على عدم رسالة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
إِنْ
كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)
أَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً
(٤٣)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ
____________________________________
[٤٣](إِنْ كادَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، يعني إنه كاد (لَيُضِلُّنا عَنْ
آلِهَتِنا) فقد قارب أن يأخذنا إلى طريق إلهه ، فنضل طريق عبادة
آلهتنا (لَوْ لا أَنْ
صَبَرْنا عَلَيْها) أي لو لم يكن صبرنا على عبادتها ، فإنه أزالنا عنها ،
بما يأتي به من الأدلة والحجج ، إنهم سموا طريق الله سبحانه ضلالا (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في الآخرة (حِينَ يَرَوْنَ
الْعَذابَ) الذي يحل بهم جزاء على شركهم وكفرهم (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) هل هم الضالون ، أم الرسول والمؤمنون؟ والمعنى أنهم
هناك يعرفون ضلال سبيلهم في الدنيا ، حيث لا منجى ولا مهرب.
[٤٤](أَرَأَيْتَ) يا رسول الله ، استفهام للتهكم بالمشركين (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) فهو يعبد ما تشتهيه نفسه ، لا ما أرشده العقل والدليل ،
وقد كان الرجل منهم يعبد حجرا ثم إذا رأى حجرا أحسن منه رماه واتخذ الثاني إلها ،
وهكذا (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تَكُونُ عَلَيْهِ
وَكِيلاً) كفيلا تحفظه عن الضلال ، والمعنى أنك لست عليه بوكيل
حتى تحزن وتغتم لأجل انحرافه وضلاله وإنما أنت مبلغ مرشد وقد بلغت وأرشدت.
[٤٥](أَمْ تَحْسَبُ) يا رسول الله ، أي تظن (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ) سماع تفهم وتعلم (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما تقوله وتقرأه عليهم؟ وهذا وإن كان بصورة الاستفهام
لكنه بمعنى النفي ، أي أن أكثر هؤلاء لا يستمعون
إِنْ
هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)
____________________________________
إليك للتفهم ولا يعطون ألبابهم وعقولهم للتدبير وإنما هم معاندون يريدون
الإنكار (إِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي البهائم التي لا تسمع سماع تفهم ، ولا عقل لها ،
وإنما تسمع النداء والصوت فقط (بَلْ هُمْ) أي هؤلاء الكفار (أَضَلُّ سَبِيلاً) فإن الأنعام تهتدي إلى مصالحها أما هؤلاء فلا يعقلون
صالحهم عن غير الصالح لهم ولذا يعرضون عن الحق.
[٤٦] ثم يأتي
السياق للتذكير بجملة من الآيات الكونية التي توقظ الضمائر ، وتلفت العقول إلى
الله سبحانه (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الروية (إِلى رَبِّكَ) أي ألم تعلم أن هذا الذي نذكره هو من فعل الله سبحانه
لا مدخلية للغير في ذلك (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) فإن الشمس إذا طلعت امتد لكل شيء ظل طويل نحو المغرب ،
فمن يا ترى جعل للأجسام ظلال عند إشراق النور والظل يوحي بالهدوء والبرد والراحة ،
إنه الله الذي جعل هذه الظلال (وَلَوْ شاءَ
لَجَعَلَهُ ساكِناً) لا يتحرك بأن يوقف الشمس في مكانها حتى يبقى الظل في
مكانه ، لكنه سبحانه حسب الحكمة العليا جعل الظل متحركا بحركة الشمس فمن يا ترى
جعل الشمس متحركة حتى يتبعها في الحركة الظل؟ (ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي على الظل (دَلِيلاً) فإنها هي التي تحدده وتعيّنه وتدل على ماهيته ، إذ لو
لا الشمس وإشراقها ، لم يعرف الظل ، والأشياء تعرف بأضدادها.
ثُمَّ
قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦)
وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ
نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ
بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)
____________________________________
[٤٧](ثُمَّ قَبَضْناهُ) أي قبضنا الظل ، بمعنى أخذناه (إِلَيْنا) تشبيه بالذي يقبض الشيء إلى نفسه (قَبْضاً يَسِيراً) في يسر وسهولة ، فإن الشمس كلما ارتفعت انتقص الظل حتى
يعدم ولا يبقى منه شيء ، والقبض تدريجي كمن يقبض الشيء بيسر لا عنف فيه ولا
اندفاع.
[٤٨](وَهُوَ) الله (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ) أيها البشر (اللَّيْلَ لِباساً) فإنه يشتمل على الإنسان حتى يستره مثل اللباس يشتمل على
الإنسان ، وفي الليل يقضي الإنسان من الأمور التي يحب سترها ما لا يقضي في النهار (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم ، والسبات قطع العمل ،
ومنه سبت رأسه إذا حلقه ويوم السبت لأنه كان يوم قطع العمل (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) لانتشاء الروح في البدن فلا نوم ، ولانتشاء الناس في
حوائجهم.
[٤٩](وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ
بُشْراً) مبشرات ، فإن المصدر يستعمل للمفرد والتثنية والجمع
بلفظ واحد (بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ) أي أمام رحمته التي هي المطر ، فإن الرياح تثير السحاب
، فإذا جاءت الرياح في فصل المطر استبشر الناس بأن وراءها الأمطار ، فيفرحون
للمنافع المترتبة على المطر (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ) أي جهة العلو (ماءً) أي المطر (طَهُوراً) طاهرا في ذاته مطهرا لغيره.
لِنُحْيِيَ
بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ
كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ
لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠)
وَلَوْ
شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١)
____________________________________
[٥٠](لِنُحْيِيَ بِهِ) أي بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً) قد ماتت بالجدب وعدم الماء ، وإحيائها بالماء ، حيث
ينبت بالمطر الزرع ، ويسمن الحيوان ، ويكون وسيلة لنمو حياة الإنسان وازدهارها ،
وذكر البلدة إنما هو لأن فائدة المطر تعود إليها ، وإن كانت الحياة تظهر مظاهرها ـ
غالبا ـ في الصحاري (وَنُسْقِيَهُ) أي نسقي بذلك الماء (مِمَّا خَلَقْنا
أَنْعاماً) أي الحيوانات التي خلقناها (وَأَناسِيَ) جمع إنسان جعل الياء عوضا عن النون (كَثِيراً) أي كثير من أفراد الناس ، ولعل تأخير الإنسان لأن
احتياج الأنعام إلى ماء المطر أكثر ، فإن الإنسان يستخرج الماء إن لم يجده على
ظاهر الأرض ، وهكذا بالنسبة إلى النبات والحيوان ، فإن احتياج النبات أكثر.
[٥١](وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) أي صرفنا المطر (بَيْنَهُمْ) بأن أدرناه في جهات الأرض لانتفاع الكل ، فلا يمطر
مكانا دون مكان (لِيَذَّكَّرُوا) نعم الله سبحانه ، بما أودع فيهم من الفطرة ، أصله «تذكر»
أدغمت التاء في الذال ـ على القاعدة ـ ثم جيء بهمزة الوصل لئلا يمتنع الابتداء
بالساكن (فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا لله سبحانه ولفضله وإحسانه ، ويحتمل أن يكون
الضمير في صرفناه عائدا إلى القرآن.
[٥٢](وَلَوْ شِئْنا) بأن كانت المصلحة تقتضي ذلك (لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)
فَلا
تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ
____________________________________
ينذرهم ولكن توحيد الناس تحت لواء واحد بما في ذلك من فوائد التعاون اقتضى
أن يرسل رسولا واحدا ، ثم ينتشر البلاغ منه إلى سائر الناس ، وهذا بالنسبة إلى وقت
إرسال محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا ينافي قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) وهذه الآية أنسب إلى كون الضمير في «صرفناه» للقرآن لا
للمطر.
[٥٣](فَلا تُطِعِ) يا رسول الله (الْكافِرِينَ) فيما يدعونك من المداهنة والإجابة إلى بعض رغباتهم وترك
التبليغ مدة من الزمان (وَجاهِدْهُمْ) والمراد الكفاح معهم (بِهِ) أي بالقرآن (جِهاداً كَبِيراً) فإن صبر الأعزل على الأذى أكبر من قتال المسلح مع
الكفار في ميدان الحرب.
[٥٤] ثم يرجع
السياق إلى عدّ الآيات الكونية (وَهُوَ) الله (الَّذِي مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ) بحر المياه المالحة ، وبحر المياه الحلوة فإن مياه
البحار مالحة ، والمياه التي تنزل من السماء فتسكن في أجواف الأرض كالبحار حلوة
حتى تخرج من النفق الموجودة في الجبال ، والله سبحانه حيث جعل بحيث يتلاقى هذين
البحرين إذ مياه الأنهر تصبّ في البحار المالحة ، في جميع أطراف الأرض ، حتى كان
بعضها مختلط ببعض ومع ذلك لا يطغى البحر المالح على البحر العذب ، حتى يفسده
ويسقطه عن الانتفاع في الزرع والشرب.
(هذا) يعني أحد البحرين (عَذْبٌ فُراتٌ) أي طيب شديد الطيب
__________________
وَهذا
مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً
(٥٣) وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً (٥٤)
____________________________________
سائغ شرابه (وَهذا) أي البحر الثاني (مِلْحٌ) أي كالملح في الملوحة ، وإنما قيل ملح مبالغة ، مثل زيد
عدل (أُجاجٌ) شديد الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما) بين البحرين (بَرْزَخاً) أي حجابا أو حاجزا من قدرة الله (وَحِجْراً) أي منعا (مَحْجُوراً) ممنوعا دخول بعض المياه إلى بعض ، حتى يفسد العذب
بالمالح ، وهذا لتأكيد المبالغة في عدم اختلاطهما اختلاطا مفسدا ، وإن «مرج» أخيرا
بعد أخذ الأرض والناس حاجتهما منه ، وهذا من بديع القدرة حيث جعل قرار المياه العذبة
فوق سطح البحر.
[٥٥](وَهُوَ) الله (الَّذِي خَلَقَ) وأوجد (مِنَ الْماءِ) أي المنى ، أو الماء المكون للنبات والحيوان ، حتى
يأكلهما الإنسان ، فيتحول في بدنه منيا (بَشَراً) أي إنسانا ، قيل سمي بشرا ، لظهور بشرته ، بخلاف غالب
الحيوانات المكسي جلدها بالريش أو الشعر أو ما أشبه (فَجَعَلَهُ) أي جعل البشر بكيفية يتلاقى بعضهم مع بعض بسببها (نَسَباً وَصِهْراً) فالأولاد والأحفاد يتلاقون بالمصاهرة والزواج ،
والتقدير «جعله ذا نسب وصهر» والصهر من صهر بمعنى قرب ، ومنه يقال للشيء المذاب
منصهر ، لأنه يقترب بعضه إلى بعض (وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً) أي قادرا على كل شيء ، ولذا خلق هذه المخلوقات المدهشة
، بهذا النظام والكيفية العجيبين.
[٥٦] إن الله
سبحانه هو الذي خلق كل شيء ، كما نشاهد في الآيات الكونية
وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى
رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً (٥٧)
____________________________________
(وَ) مع ذلك (يَعْبُدُونَ) أي هؤلاء المشركون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سواه سبحانه (ما لا يَنْفَعُهُمْ) بذاته (وَلا يَضُرُّهُمْ) فإن الأصنام أشياء جامدة لا تقدر على النفع ولا الضرر
والمراد لا ينفعهم إن عبدوها ، ولا يضرهم إن لم يعبدوها (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الظهير العون ، أي أن الكافر يعين الشيطان على ضد ربه
وإلهه بينما اللازم على الإنسان العاقل أن يعين ربه على عدوه لا أن يعين عدوه ضد
ربه.
[٥٧](وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (إِلَّا مُبَشِّراً) لمن آمن وأطاع بالثواب (وَنَذِيراً) لمن كفر أو عصى بالعقاب ، فليس عليك انحراف هؤلاء ،
وإنما أنت مبلغ ومرشد فمن قبل فلنفسه ومن أبى فعليها.
[٥٨](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على التبليغ والإرشاد (مِنْ أَجْرٍ) وثمن تعطونه لي عوض تبليغي وأتعابي (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى
رَبِّهِ سَبِيلاً) إما أن الاستثناء منقطع بمعنى أنه ما أسألكم إلا أن
تتخذوا سبيلا إلى ربكم ، وقد ذكرنا سابقا أن المستثنى منه لأنه مشتمل على أصل شيء
وقيده ، فقد يستثني من الأصل ويكون الاستثناء حينئذ منقطعا وقد يستثني من مجموع
القيد والمقيد فيكون الاستثناء متصلا ، وإما أن الاستثناء متصل ، والمراد أني لا
أسألكم أجرا ولكني لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضات الله سبحانه ،
وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ
عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
____________________________________
ولا يخفى أن الخمس ليس أجرا ، بل هو تعيين قسم من المال لقسم من الفقراء.
[٥٩](وَتَوَكَّلْ) يا رسول الله ، ومعنى التوكل إيكال الأمر إلى الغير (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) فإنه خير من وكله الإنسان ، إذ هو لا يموت فيضطرب أمر
الوكالة ، وقيد «الذي لا يموت» للتخصيص ، إذ سائر الأحياء يموتون ، توكل عليه ، في
أمر التبليغ وما تلاقيه من العنت والإرهاق في سبيل الدعوة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي نزهه تنزيها بالثناء ، فإن التنزيه يكون بنفي
النقائص وقد يكون بإثبات الكمالات المستلزمة لنفي النقائص (وَكَفى بِهِ) الضمير فاعل كفى ، وأدخل حرف الجر على الفاعل ، لأنه
بمعنى اكتفى به (بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً) أي عالما ، فإنه يعلم ما يذنب العباد وسيجازيهم عليه ،
فلا تهتم بكفر الكافرين فإن حسابهم على الله ، وإنما أنت مبلغ تسبح بحمد الله ،
وتتوكل في أمرك عليه.
[٦٠] ثم يبين
السياق وصف الإله ليوقظ في الناس ما فطر فيهم من أنّ الكون لا بد له من خالق
فرجعوا إلى ما غفلوا عنه (الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أنواع الملائكة والبشر والحيوان وسائر المخلوقات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وخصوصية ستة أيام لأجل أنه أحد أفراد التحديد ، كما في
خصوصية الإبطاء ، مع أنه تعالى كان قادرا على أن يخلقها في لمح البصر لما عليه
سنّة الله من تدريجية تكوينه في هذا
ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ
____________________________________
الكون ، كما نشاهد أن الزرع والجنين وغيرهما بحاجة إلى زمان حتى وقت
الإكمال (ثُمَّ اسْتَوى) أي استولى (عَلَى الْعَرْشِ) بمعنى الإحاطة على الكون ، وهذا كما يقال : بنى الملك
المدينة ثم استقر على السرير ، يراد أنه أحاط بالسلطة ، لا أن هناك سريرا جلس عليه
، والإتيان ب «ثم» مع أن الاستيلاء كان من الأول ، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس
، وكأن الإتيان بهذا الكلام لإفادة أن مثل هذا الإله يلزم التوكل عليه ، فإنه لا
يخيب من فوض أمره إليه (الرَّحْمنُ) قالوا : بأنه خبر ، ل «الذي» أي أنه هو الرحمن الذي
يتفضل بالرحم على كل شيء فما أجدر بالإنسان أن يكل أموره إليه (فَسْئَلْ) يا رسول الله (بِهِ) أي بواسطته (خَبِيراً) والمعنى إن تسأله عن شيء فإنه خبير بذلك الشيء ، وهذا
كناية عن أنه عالم بكل شيء فإخباره عن أي شيء كان ، مطابق للواقع ، وقد ذكر أهل
الأدب إن من البلاغة أن يتوهم الإنسان شيئا على وصفين ، وصف الأصالة ووصف التوسط ،
ثم يقصد الأصيل بواسطة المتوسط ، كما يقال : شربت به ماء ، والضمير للماء ، أو
قتلت به كافرا ، أو وجدت به عالما متحدثا ، وهكذا ، وهذه الجملة لإفادة إن أخباره
في أصل الخلقة هو الحق.
[٦١](وَ) بعد هذه الآيات الكونية ، والإلفاتات الجمّة (إِذا قِيلَ لَهُمُ) أي للكفّار (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) واخضعوا له ، فإنه الخالق الراحم (قالُوا) على طريق الكبر والاستعلاء (وَمَا الرَّحْمنُ) وقد أتوا بلفظ «ما» الذي هو لما لا يعقل استهزاء ، فقد
كانوا لا يعترفون بهذا «اللفظ» من جملة
أَنَسْجُدُ
لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
تَبارَكَ
الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً
(٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
____________________________________
سخافاتهم الكثيرة (أَنَسْجُدُ لِما
تَأْمُرُنا) استفهام إنكار ، أي نترك آلهتنا ونسجد لمن لا نعترف به (وَزادَهُمْ) ذكر الرحمن (نُفُوراً) أي تنافرا عن الحق والإيمان.
[٦٢] وارتد
السياق ليبين جملة أخرى من الآيات الكونية (تَبارَكَ) أي تعالى وتقدس الإله (الَّذِي جَعَلَ فِي
السَّماءِ بُرُوجاً) من برج إذا ظهر ، وهي البروج المعروفة الإثنى عشر ، وهي
منازل للكواكب السبع السيارة ، أو يراد هنا بالبروج نفس الكواكب ، لظهورها (وَجَعَلَ فِيها) أي في السماء ، وهي سماعي (سِراجاً) أي مصباحا هي الشمس (وَقَمَراً مُنِيراً) أي مضيئا.
[٦٣](وَهُوَ) الإله (الَّذِي جَعَلَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف أحدهما الآخر ، فإن «خلفة» هي كل شيء بعد شيء ،
وتقديم الليل ـ في الكلام ـ لأنه أشبه بالأصل ، إذ النور يشقه ويمحيه (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أي يتفكر ويستدل بذلك على الإله ، فإن الغاية من خلق
الأشياء هو الإنسان ، والغاية من خلق الإنسان العبادة ، وهي لا تتحقق إلا بالمعرفة
، فصح أن يقال : خلقهما للتذكر ، وسمي تذكرا لما أودع في فطرة الإنسان من الاعتراف
، وإنما الأشياء مذكرات (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي أراد شكر النعمة فإنهما نعمتان عظيمتان ومن أهم ما
يوجب الشكر.
وَعِبادُ
الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ
____________________________________
[٦٤] وبعد
الإلفات إلى هذه الآيات نرى عباد الله العقلاء يخضعون لله سبحانه ، ويعتدلون في
سلوكهم ، وينتهجون المنهج المقرر لهم (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) في مقابل الذين كانوا ينفرون من اسم الرحمن (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْناً) هذا خبر «عباد الرحمن» والمعنى مشيهم مشية المتواضع ،
فيمشون هينا بسكينة ووقار ، ولا يمشون بكبرياء وتجبّر ، فإن «هون» مصدر «هين» (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بخطاب يكره ويثقل على الإنسان (قالُوا) في جواب الجهال (سَلاماً) أي سدادا من القول ، وما يوجب السلامة ، لا ما يوجب
الخصام والنزاع ، فليس المراد هذه اللفظة بالذات ، بل المعنى الدفع بالتي هي أحسن
، كما قال سبحانه (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) .
[٦٥](وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ) من بات بمعنى أوصل الليل بالصباح (لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) جمع ساجد وقائم ، وإنما خص الليل ، لأن العبادة فيه أشق
وأبعد من الرياء وأقرب إلى فراغ القلب ، ولعلّ تخصيص هذين الأمرين ، لأنهما الأكثر
في العبادة دون الركوع والجلوس.
[٦٦](وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) بمعنى عدم الوقوع
__________________
إِنَّ
عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
وَالَّذِينَ
إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
وَالَّذِينَ
لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ
____________________________________
فيها ، وكأن التعبير بلفظ الصرف ، لأجل استحقاق الناس للنار بأعمالهم ،
فالمطلوب صرفها (إِنَّ عَذابَها) أي عذاب جهنم ، فإنها مؤنثة سماعية (كانَ غَراماً) أي غرامة تلحق الإنسان أو لازما دائما ، وإنما سمي
الغريم غريما لملازمته وإلحاحه ، وفلان مغرم بفلان أي ملازم له عاشق.
[٦٧](إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي أن جهنم بئس موضع قرار وإقامة.
[٦٨](وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا) في سبيل الله (لَمْ يُسْرِفُوا) بأن يكون إنفاقهم في غير محله ، أو زيادة لا يعترف بها
الشرع (وَلَمْ يَقْتُرُوا) من القتر ، بمعنى البخس وعدم الإعطاء بقدر الحق الذي
أمر به الشرع (وَكانَ) إنفاقهم (بَيْنَ ذلِكَ) الذي ذكر من الإسراف والإقتار (قَواماً) وهو ما أقام الإنسان ، أي إنفاقا يقيم الإنسان ، فلا
يدخله في المبذرين ولا في البخلاء ، أو كان إنفاقا ذا قوام ، وسطا بدون إسراف
وتقتير.
[٦٩](وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ) أي لا يجعلون له سبحانه شريكا ، بل يوحّدونه ، ويوجهون
عبارتهم إليه (وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ) أي الإنسان (الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ) قتلها ، وإتيان الضمير المؤنث ، لأن النفس مؤنث سماعي (إِلَّا بِالْحَقِ) لأجل كونه كافرا حربيا ، أو لأجل
وَلَا
يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا
(٦٨) يُضَاعَفْ
لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا
(٦٩) إِلَّا
مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
____________________________________
القصاص ، أو الحد ، أو ما أشبه ذلك ، والاستثناء من الأصل ، وقوله «حرم
الله» تلميح إلى وجه عدم إقدامهم على القتل (وَلا يَزْنُونَ) وهو الفجور بالمرأة (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) الذي ذكره من الشرك والقتل والزنى ، وإنما خص هذه الأمور
، ليشرعها عند الجاهليين ، بل وحتى الآن ، وكونها من أعظم المعاصي الموجبة للفساد
، في العقيدة ، أو في الحياة (يَلْقَ أَثاماً) أي عقوبة وجزاء على ما عمل يقال : أثمه الله أي جازاه
جزاء الإثم.
[٧٠](يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) ولعلّ المراد المضاعفة بالنسبة إلى سائر المعاصي ، يعني
إن عذاب هؤلاء أكثر من عذاب غيرهم ، وإن كان بقدر استحقاقهم (وَيَخْلُدْ) أي يبقى دائما (فِيهِ) أي في العذاب (مُهاناً) في حال كون ذاك العذاب على وجه الإهانة ، ومن المعلوم
أنّ الخلود بالنسبة إلى الكفار لا بالنسبة إلى المؤمن فإنه تدركه الشفاعة.
[٧١](إِلَّا مَنْ تابَ) أي رجع إلى الله سبحانه عما اقترفه من الآثام (وَآمَنَ) فإن الإيمان في أثر التوبة؟ ولذا ذكر بعقبها (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) المراد به الجنس ، أي أتى بجنس العمل الصالح ، الذي
يصلح لإسعاد الإنسان (فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي يمحي عنهم السيئات ويكتب مكانها حسنات ، ومن المحتمل
أن يراد إعطاء
وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١)
وَالَّذِينَ
لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
____________________________________
الثواب على نفس السيئة التي ارتكبها ، بعد أن آمن وعمل صالحا وتاب ، فمثلا
كان قد زنى ، فإنه إذا تاب توبة نصوحا ، أعطاه سبحانه ثواب النكاح لزناه ذلك ـ كما
قال بذلك بعض ـ (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) يغفر الذنب لمن أذنب (رَحِيماً) يتفضّل عليهم ، فليس غفرانا مجردا ، بل مغفرة وفضلا.
[٧٢](وَمَنْ تابَ) مما سلف عنه من المعاصي (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) بأن صحت عقيدته وعمله (فَإِنَّهُ يَتُوبُ
إِلَى اللهِ) أي أنه هو الذي يرجع إلى الله (مَتاباً) أي رجوعا حقيقيا ، أما من آمن ولم يعمل صالحا ، أو عمل
صالحا ولم يؤمن فإنه لم يرجع إليه حقيقة ، إذ لو اعترف الإنسان بالله اعترافا
عميقا لا بد وأن يؤمن ويعمل صالحا أو المراد أنه يرجع إليه مرجعا عظيما من قبيل (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما
غَشِيَهُمْ) و «المتاب» مصدر ميمي ، من تاب بمعنى رجع.
[٧٣](وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ) شهادة (الزُّورَ) أي الكذب ، وأصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حق ،
من «زوّره تزويرا» (وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ) أي الباطل ، أو الشامل له ولما لا فائدة فيه ـ كما هو
الظاهر ـ (مَرُّوا كِراماً) جمع كريم ، أي يفعلون عند مشاهدة الباطل ، ما يفعله
الإنسان الكريم الرفيع النفس ، ففي مقام النهي ينهون ، وفي مقام السكوت
__________________
وَالَّذِينَ
إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
____________________________________
يسكتون ، وفي مقام التأديب يتأدبون ، وهكذا ، يقال : تكرم فلان عما يشينه
أي تنزه ، وأكرم فلان نفسه ، أي لم يهو بها في مهوى المهانة والانحطاط.
[٧٤](وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا) أي ذكرهم الناس ، أو ذكرتهم الحياة ، بأن رأوا صاعقة
تلفت الأنظار ، أو زرعا جميلا يذكّر خالقه ، وهكذا (بِآياتِ رَبِّهِمْ) الدالة على وجوده وصفاته وسائر الشؤون المتعلقة به (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) أي لم يقعوا على تلك الآيات (صُمًّا) جمع أصم (وَعُمْياناً) جمع أعمى ، أي لم يطلعوا عليها اطلاع الأصم الأعمى الذي
لا يرتب الأثر إذ لا يسمع ولا يبصر ، فإن الإنسان إنما يرتب الأثر على الأشياء من
جهة السماع أو الإبصار ، وكأن الإنسان الأصم الأعمى يقع على الشيء المرغوب فيه بلا
استفادة منه ، أو المنفور منه بلا فرار عنه ، يخر على الأوراد ، وعلى الكنيف ،
وهذا كناية عن عدم الاستفادة ، بخلاف السميع البصير ، فإن السميع يجلبه الترغيب
وينفّره الإنذار ، والبصير يرى فيقدم أو يحجم ، والمؤمن يسمع الآيات ، ويشاهد
الآثار ، فيرتب الأثر ، بخلاف الكافر.
[٧٥](وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) من دعائهم ، يا (رَبَّنا هَبْ لَنا) أي أعطنا (مِنْ أَزْواجِنا
وَذُرِّيَّاتِنا) أي أولادنا (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي أولاد تقرّ بهم العين ، وهو كناية عن الولد الصالح ،
فإن الإنسان إذا صلح ولده أو سرّ بشيء آخر ، قرّت عينه ، بخلاف الإنسان المحزون
الذي أصيب ببؤس أو ولد
وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥)
خالِدِينَ
فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا
____________________________________
سيئ ، فإنه يقلّب طرفه هنا وهناك ليجد ملجأ أو حيلة للتخلص ، وقوله (مِنْ أَزْواجِنا) يراد الأولاد الصلبيين ، و «ذرياتنا» الأحفاد (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي نكون أئمة أهل التقى ، وذلك لا للاستعلاء ، بل لأن
ينالوا تلك الدرجات الرفيعة التي يحصل عليها الإنسان في الآخرة ، إذا أرشد وأفاد
إرشاده التقوى ، إذ معنى الإمامة للمتقي أن يكون مصدرا للتقوى.
[٧٦](أُوْلئِكَ) الذين هذه صفاتهم (يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ) أي يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة ، فاللام في الغرفة
، للعهد الذهني (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على طاعة الله سبحانه ، وثباتهم على
أوامره ونواهيه (وَيُلَقَّوْنَ فِيها
تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي تتلقاهم الملائكة فيها بالتحية والسلام ، كأن يقال
لهم «حياكم الله حياة طيبة ، وسلام عليكم» أو كناية عن الترحيب بهم.
[٧٧] في حال
كونهم (خالِدِينَ فِيها) أي في الغرفة ـ أي الجنة ـ فهم دائمون لا يزالون هناك
في نعيم جسمي وروحي (حَسُنَتْ) تلك الغرفة (مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً) أي محل استقرار وإقامة ، فالإنسان فيها مستقر غير
متزلزل ، باق غير متحول.
[٧٨] وإذ بيّن
سبحانه أدعية المؤمنين ، بعد ما بين أنهم آمنوا وعملوا صالحا ، قال (قُلْ) يا رسول الله ، للناس (ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ
رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
____________________________________
بِكُمْ
رَبِّي) أي ما يبالي بكم الله ، يقال لم يعبأ به أي لم يبال به
، فكان وجوده وعدمه سواء (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي توجّهكم إلى الله سبحانه فإن البشر هيّن في جنب الله
لا شأن له لو لا أن يتوجه إليه سبحانه فتكون له قيمة بهذا الترفع الذي يحصّله من
جراء توجهه إلى الله تعالى (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أيها الكفار ما أخبرتكم به من المبدأ والعقيدة والمعاد (فَسَوْفَ يَكُونُ) التكذيب ، أي جزائه المترتب عليه من النار والنكال (لِزاماً) أي ملازما لكم لا يفارقكم ، ولا يخفى أن من مصاديق «دعاؤكم»
هو الدعاء المعتاد الذي ندعو الله به لقضاء حوائجنا ، ولذا جيء بهذه الآية هنا ،
حيث تقدم دعاء المؤمنين ، وإن كان الظاهر أن قوله : «لو لا دعاؤكم» يراد به التوجه
إلى الله سبحانه بالإيمان والعمل الصالح والدعاء وغيرها ـ بصورة عامة ـ كما يناسب
ذلك «فقد كذبتم» ، ومن هذا يعرف ما للدعاء من الأهمية ، فقول بعض المنحرفين : إن
الدعاء لا ثمره له إذ لو قدّر شيء يكون ، ولو لم يقدّر لا يفيد الدّعاء ، هو غلط ،
إذ التقدير : أن يكون ذلك الشيء بالدعاء كما أن التقدير أن يأكل الإنسان الشيء
ويحصّل على الشيء بالعمل والطلب ، والله الهادي.
(٢٦)
سورة الشعراء
مكية / آياتها (٢٢٨)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «الشعراء» وما يتعلق بهم. وهي كسائر السور المكية
تعالج قضايا العقيدة ، قالوا : إنها مكية إلا من قوله «والشعراء .. إلى آخر السورة».
وحيث ختمت سورة الفرقان بقصة تكذيب الكفار للرسول ، جاء مفتتح هذه السورة تسلية
للرسول أن لا يهتم بهم بعد الإنذار.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) شروع بذكر اسم الإله الذي له كل شيء ، ومن أبرز صفاته
الرحم ، مما يحتاج إليه الإنسان في كل خطوة من خطى الحياة ، فإن الإنسان مجموعة
نواقص ، فلو لا رحمه سبحانه لتكميله من آنات الحياة ، لذهب عاطلا لا ينتفع ولا
ينتفع به.
طسم
(١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)
لَعَلَّكَ
باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
إِنْ
نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها
خاضِعِينَ (٤)
____________________________________
[٢](طسم) «طاء» و «سين» و «ميم».
[٣](تِلْكَ) الحروف وما يجانسها من حروف الهجاء (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الواضح الظاهر الذي لا ريب فيه ولا غموض ، فإن كان
مكذوبا ، فأتوا بمثله إذ هو مركب من لغتكم وحروفكم التي تلهجون بها طيلة أعماركم ،
وقد ذكرنا سابقا ، إن الإتيان بحروف خاصة ك «طاء» ونحوها من باب الإشارة إلى حروف
الهجاء وإن «تلك» وما أشبه مما يقع بعد هذه «المقطعات» خبر لمبتدأ هو تلك الحروف
المقطعة ، هذا على أحد الأقوال في معنى «الحروف المقطعة» وفي إعرابها ، وهناك
أقوال أخر.
[٤](لَعَلَّكَ) يا رسول الله (باخِعٌ نَفْسَكَ) من بخع بمعنى أهلك ، أي مهلك نفسك حزنا وأسفا ، ب (أَلَّا يَكُونُوا) هؤلاء الكفار (مُؤْمِنِينَ) فقد كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحزن حزنا شديدا على عدم إيمانهم ، فسلّاه الله سبحانه
بذلك و «لعل» بمعنى «الاحتمال» وإنما يستعمل للترجّي ، لأنه «احتمال المطلوب»
والجملة يراد بها النهي الإرشادي الإشفاقي ، كما لا يخفى.
[٥](إِنْ نَشَأْ) جبر الناس على الهدى (نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ
مِنَ السَّماءِ آيَةً) أي معجزة مجبرة لهم على الإيمان (فَظَلَّتْ) أي صارت (أَعْناقُهُمْ) أي أعناق هؤلاء الكفار (لَها) لتلك الآية (خاضِعِينَ) وإنما نسب
وَما
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ
مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
أَوَلَمْ
يَرَوْا
____________________________________
الخضوع إلى الأعناق لأنها أول ما يظهر عليها الخضوع تميل نحو الأرض ، لكن
الله سبحانه لا يشاء ذلك لأنه مخالف لكون الدنيا دار اختبار وامتحان ، نعم وردت
بعض الروايات الدالة على أنها تكون في زمان المهدي عليهالسلام .
[٦](وَما يَأْتِيهِمْ) أي البشر (مِنْ ذِكْرٍ مِنَ
الرَّحْمنِ) «من» زائد لتأكيد العموم ، ولعل الإتيان بلفظة «الرحمن» للدلالة على أن
المراد بذلك الذكر ما يسبب لهم الرحمة (مُحْدَثٍ) أي جديد ، كالقرآن (إِلَّا كانُوا عَنْهُ
مُعْرِضِينَ) يعرضون عنه ، فقد اعتاد الناس على أن لا يخضعوا إلا
للتقاليد وإن رأوا الحق والصدق في الشيء الجديد ، فقد كانوا يتعاملون مع كل كتاب
جديد هذه المعاملة ، من غير فرق بين التوراة والإنجيل والقرآن ، وسائر الكتب.
[٧](فَقَدْ كَذَّبُوا) بالقرآن ، والمراد كفار مكة ، (فَسَيَأْتِيهِمْ) أي عند الموت ، أو في يوم القيامة (أَنْبؤُا) أخبار (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) والمراد عاقبة أعمالهم ، وهذا كما تقول لمن تريد تهديده
، سأخبرك بما كنت تعمل.
[٨](أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم ينظر هؤلاء الكفار إلى الآيات الكونية؟ فلينظروا
__________________
إِلَى
الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧)
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) وَإِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا
يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي
أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢)
____________________________________
(إِلَى الْأَرْضِ) ليروا (كَمْ أَنْبَتْنا
فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي كل صنف من أصناف النبات (كَرِيمٍ) حسن نافع جميل ، والمعنى ذي كرامة ورفعة.
[٩](إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنبات (لَآيَةً) دلالة على الإله وعلى صفاته (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وبما يجب الإيمان به ، عنادا وتقليدا لآبائهم.
[١٠](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله لا يضره إعراض هؤلاء فإنه (لَهُوَ الْعَزِيزُ) له العزة والغلبة (الرَّحِيمُ) فإنه يرحمهم مع قدرته كيما يندموا ويعودوا عن غيهم.
[١١] ثم بدأ
السياق ليذكر فصلا من قصة موسى عليهالسلام فيها العبرة والذكر والتسلية للرسول والتبشير للمؤمنين
بغلبتهم على أعدائهم ولو بعد حين (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي اذهب إليهم.
[١٢] ثم بين
المراد بالقوم الظالمين بقوله (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) والمراد هو وقومه ، كما هو الشائع في مثل هذا التعبير (أَلا يَتَّقُونَ) أي أما آن لهم أن يتقوا الكفر والعصيان؟ وهذا تعجب في
لفظ الاستفهام ، حكاية لما قاله سبحانه لموسى عليهالسلام.
[١٣](قالَ) موسى عليهالسلام يا (رَبِّ إِنِّي أَخافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي يكذبني
وَيَضِيقُ
صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ
كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
____________________________________
فرعون وقومه فيما أدعوهم إليه ، وقد قال موسى ذلك تمهيدا لطلبه مؤازرته
هارون له ، وإلا لم يكن موسى عليهالسلام يريد بذلك الفرار عن حمل التبليغ.
[١٤](وَيَضِيقُ صَدْرِي) بتكذيبهم المتوقع ، والسبب أن الإنسان إذا كذب ، هاج ،
وغلبته الحرارة فتنتفخ الرئة لجذب الهواء المبرّد للقلب ، وبذلك يضيق الصدر الذي
هو مكان الرئة (وَلا يَنْطَلِقُ
لِسانِي) بالكلام ، فقد كان في لسان موسى عليهالسلام عقدة قبل أن يرسله الله تعالى ثم حل العقدة من لسانه (فَأَرْسِلْ) يا رب (إِلى هارُونَ) أخي ليكون رسولا معي يؤازرني في الرسالة.
[١٥](وَلَهُمْ) أي لقوم فرعون (عَلَيَّ ذَنْبٌ) هم يعتبرونه ذنبا ، وإن لم يكن ذنب حقيقي ، فقد سبق أن
قتل موسى قبطيا حين تشاجر مع إسرائيلي ، فعده آل فرعون ذنبا ، وإن كان قتل موسى له
بحق (فَأَخافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ) أي يقتلني آل فرعون بمجرد ما يروني ، قصاصا على قتيلهم.
[١٦](قالَ) الله تعالى في جواب موسى (كَلَّا) لا تخف ، فإنهم لا يتمكنون من إيذائك وقتلك ، أما دعاءك
بإطلاق لسانك فقد استجيب ، وأما دعاءك أن نجعل هارون نبيا لك فقد قبلناه (فَاذْهَبا) أنت وأخوك إلى فرعون وملأه (بِآياتِنا) أي الأدلة والمعاجز الدالة على التوحيد والرسالة
والمعاد (إِنَّا مَعَكُمْ) أي مع الجميع ، أنتما وآل فرعون (مُسْتَمِعُونَ) فيكون ما يدار بينكم من الحديث بمسمع منّا ،
فَأْتِيا
فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ
مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧)
قالَ
أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ
____________________________________
وهذا تشجيع لهما ، إذ الإنسان إذا علم أنه بمنظر ومسمع الملك كان أربط جأشا
وأقوى احتجاجا.
[١٧](فَأْتِيا فِرْعَوْنَ) أي اذهبا إليه (فَقُولا إِنَّا
رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إفراد لفظ «الرسول» باعتبار كل واحد واحد ، أرسلنا الله
إليك لندعوك إلى عبادته وطاعته والإيمان بنا.
[١٨] وقد أمرك
الله ب (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ) فإن فرعون كان قد سجن جمعا من بني إسرائيل وهم أحفاد
يعقوب عليهالسلام ، كما قد استعبد جماعة آخرين منهم ، وكان هؤلاء لهم
صبغة التوحيد ، وعدم عبادة فرعون ، ولذا أمر الله موسى عليهالسلام أن يقول لفرعون ، بإطلاق سراح بني إسرائيل ، ليقودهم
موسى عليهالسلام إلى حيث خيرهم وصلاحهم ، بعد ما كانوا قلة مضطهدة.
[١٩] فأتى موسى
وهارون فرعون ، وبعد اللقاء ، وبيان أنهما رسولان إليه ، وأنّ الله يأمره بإطلاق
سراح بني إسرائيل (قالَ) فرعون لموسى عليهالسلام (أَلَمْ نُرَبِّكَ) يا موسى (فِينا) في منزلنا ومحلنا (وَلِيداً) أي في حال كونك طفلا صغيرا أخذناك من البحر وربيناك حتى
صرت فتى قويا؟ (وَلَبِثْتَ فِينا
مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) أي كنت في بلاطنا سنوات متعددة من عمرك ، وهي اثنتي
عشرة سنة ، عل حديث ، أو ثمانية عشر على قول؟
[٢٠](وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) أي قتلت ذلك القبطي (وَأَنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ
(١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ
لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١)
____________________________________
الْكافِرِينَ) بنا وبما أنعمنا عليك ، فقد خالفت طريقتنا بعد تلك
النعم وذلك الاجرام.
[٢١](قالَ) موسى عليهالسلام في جواب فرعون : (فَعَلْتُها) أي فعلت تلك الفعلة وهي القتل (إِذاً) في ذلك الزمان (وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) ، يقال يضل لمن انحرف عن الطريق ، سواء أريد بالطريق
طريق الحق ، أم طريق الباطل ، كما قال سبحانه (وَإِذا رَأَوْهُمْ
قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) يريدون : ضالون عن طريقنا الذي هو كفر ، ولعل مراد موسى
عليهالسلام ذلك ، أي أني ضال عن طريقتك يا فرعون ، فلم يكن القتل
إجراما كما تزعم أنت ، وإنما كان ضلالا عن منهجك ، وإلا فقد كان في موقعه حيث إنه
قتل كافرا مهاجما على مسلم.
[٢٢](فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) فإن موسى عليهالسلام لما قتل ذلك القبطي ، قرر فرعون وملأه أن يقتصوا من
موسى ، فجاءه رجل قائلا (إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) فخرج منها خائفا يترقب (لَمَّا خِفْتُكُمْ) على نفسي من القتل (فَوَهَبَ لِي رَبِّي
حُكْماً) بأن جعلني حاكما في الأرض فإن الحكومة ليست إلا لله
ولمن وهبها له (وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) فقد أرسلني إليكم لأهديكم سبيل الرشاد.
__________________
وَتِلْكَ
نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ
وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ
حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)
____________________________________
[٢٣] قدّم موسى
عليهالسلام جواب قول فرعون «فعلت فعلتك» لأنه كان إلصاق تهمة القتل
، ومن البلاغة أن يقدم الإنسان جواب الأهم من كلمات الخصم ، لئلا يبقى ولو لمدة
تعمل أثر الكلمات في أدمغة السامعين فيذهب بالموقف عن يد المتهم ، ثم رجع عليهالسلام ليجيب عن كلامه الأول وهو امتنانه عليه بأنه ربّاه في
قصره ، فقال (وَ) هل (تِلْكَ) التربية (نِعْمَةٌ تَمُنُّها
عَلَيَ)؟ فإن تربيتك كانت من جهة (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) أي جعلتهم عبيدا مضطهدين ، حتى اضطرت أمي لإلقائي في
البحر لنجاتي من السفاكين الذين جعلتهم لقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل ، إنها ،
بالأحرى ، عليك لا لك ، فلو لم تكن عبّدت بني إسرائيل لكفّلوني ، ولم يكون لك سبيل
إليّ.
[٢٤](قالَ فِرْعَوْنُ) بعد أن انقطع عن المحاورة مع موسى حول التربية والجريمة
(وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ) أيّ شيء هذا الذي تدعوني إلى عبادته ، وكأنه لم يقل «من»
استخفافا.
[٢٥](قالَ) موسى عليهالسلام في جواب فرعون : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما (وَما بَيْنَهُمَا) من الإنسان والملك والحيوان والجماد وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم أصحاب يقين لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا ،
وكأن في مقابل ذلك ، من لا يبالي ولا يهتم حتى لا يعلم الارتباط وأن لكل شيء مؤثرا
، ككثير من الجهال.
[٢٦](قالَ) فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ) من الوزراء والحكام (أَلا تَسْتَمِعُونَ)
قالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦)
قالَ
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
____________________________________
إلى مقالة موسى؟ إني أسأله ما جنس الإله؟ وهو يجيب بما فعل وأبدع ، وهذا
الجواب ليس مرتبطا بالسؤال ، لكن موسى عليهالسلام أراد بذلك أن يلقم فرعون الحجة ، فهل يتمكن أحد أن ينكر
أن للكون إلها؟ أما جنسه فهو غير مرتبط بهذا المقام.
[٢٧] لكن موسى عليهالسلام لم يأبه لاستخفاف فرعون ، وأخذ يسرد الحجج الدالة على
وجوده سبحانه ، كي يركّز الألوهية في الأذهان ، ويتم الحجة ف (قالَ) ثانيا إن الله الذي أدعوا إليه (رَبُّكُمْ) أيها الملأ (وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ) وفي هذا كان ردا على فرعون إذ كان يدعي أنه الرب ، فمن
كان رب آبائكم هل هو فرعون؟ وهذا ما لا يقول به ، أم غيره؟ إذا ثبت بطلان ربوبية
فرعون.
[٢٨] ولما رأى
فرعون أن موسى غلبه في الحجة ، رماه بما يرمى به كل مصلح حين لا يقدر خصمه من
إقامة المنطق ف (قالَ) فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ) والإضافة للاستهزاء (الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) وما يدعيه من الرسالة دعوى جنونية.
[٢٩] لكن موسى عليهالسلام لم يهتم باتهام فرعون ، بل أخذ يفيض في الكلام ، مستدلا
بالآيات الكونية على الله ، موجها أنظار الملأ إليها ف (قالَ) موسى إن الله هو (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) من أصناف الخلق (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ) أي إن أعملتم عقولكم لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا
وخالقا.
قالَ
لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
فَأَلْقى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢)
وَنَزَعَ
يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
قالَ
لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
____________________________________
[٣٠] وهنا
التجأ فرعون إلى التهديد ف (قالَ) مهددا لموسى عليهالسلام (لَئِنِ اتَّخَذْتَ
إِلهَاً غَيْرِي) بأن اعتقدت بإله آخر ودعوت إلى ذلك الإله (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي أسجنك جزاء لهذه العقيدة.
[٣١](قالَ) موسى عليهالسلام (أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي هل تحبسني حتى إذا جئتك بدليل واضح دال على نبوّتي؟.
[٣٢](قالَ) فرعون (فَأْتِ بِهِ) أي جيء بما تدعيه من الحجة والمعجزة (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك النبوة.
[٣٣](فَأَلْقى) حينئذ موسى عليهالسلام على الأرض (عَصاهُ فَإِذا هِيَ
ثُعْبانٌ) أي حية عظيمة (مُبِينٌ) ظاهر واضح أنه ثعبان وليس شعوذة وسحرا.
[٣٤](وَ) أدخل يده في جيبه ، أو تحت إبطه ثم (نَزَعَ يَدَهُ) أي أخرجها من ذلك المكان (فَإِذا هِيَ) اليد (بَيْضاءُ) منيرة كنور الشمس (لِلنَّاظِرِينَ) إليها ، ولم يكن حديثا يسمع ، وإنما رأوها رأي العين.
[٣٥](قالَ) فرعون (لِلْمَلَإِ) أي الأشراف وسموا ملأ لأنهم يملئون العيون هيبة (حَوْلَهُ) أي الذين كانوا حوله (إِنَّ هذا) الرجل ، يعني موسى عليهالسلام (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بالسحر والحيلة.
يُرِيدُ
أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥)
قالُوا
أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨)
____________________________________
[٣٦] وإنه إنما
يدعي النبوة ويظهر السحر (يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي مصر ، لأنه لو سيطر ، اضطر فرعون والملأ أن يفروا
منه ، كما هي عادة الملوك لدى الانهزام بسبب سحره وهنا أراد فرعون أن يجلب انتباه
الأشراف لئلا يميلوا إلى موسى ، أليس يريد إخراجهم من أرضهم؟ فاللازم أن يقفوا صفا
واحدا ضده (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أيها الأشراف ، أن نفعل ضد موسى؟
[٣٧](قالُوا) وقد خانوا موسى ، وصدقوا مقالة فرعون (أَرْجِهْ) أخره ، (وَأَخاهُ) أي أبقهما عندك (وَابْعَثْ) أرسل (فِي الْمَدائِنِ) أي المدن المرتبطة بك جماعة (حاشِرِينَ) يحشرون ويجمعون لك السحرة ، من «حشر» بمعنى جمع.
[٣٨](يَأْتُوكَ) أي الرسل الذين أرسلتهم لجمع السحرة ، يأتون إليك (بِكُلِّ سَحَّارٍ) أي كثير السحر (عَلِيمٍ) في علم السحر ، حتى يقابلوا موسى في سحره فإذا جاءوا
وأظهروا تفوقا عليه بطل سحر موسى ، وانفضح أمام الناس ، وبطلت حجته ، فلم يتبعه
أحد حتى يخشى منه.
[٣٩] وذهبت
الرسل إلى البلاد وأخبروا السحرة بأن فرعون يطلبهم ويدعوهم إلى أن يحضروا أرض مصر (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ) جمع ساحر (لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي لوقت يوم خاص ، فإن «ميقات» اسم للزمان
وَقِيلَ
لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠)
فَلَمَّا
جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
____________________________________
وللمكان ، والمراد باليوم المعلوم ، يوم الزينة ، فقد كان لهم يوم عيد يخرج
فيه الجميع خارج المدينة ، للمعايدة.
[٤٠](وَقِيلَ) أي قال فرعون وملأه (لِلنَّاسِ) وهم أهل مصر (هَلْ أَنْتُمْ
مُجْتَمِعُونَ) هذا طلب بصورة الاستفهام؟ نحو قوله (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) .
[٤١](لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) أي السحرة المعارضين لموسى ، والمراد باتباعهم عدم ترك
دينهم إلى دين موسى ، فكنى عن ذلك باتباع السحرة ، لتقابله مع أتباع موسى عليهالسلام (إِنْ كانُوا هُمُ
الْغالِبِينَ) على موسى وهارون.
[٤٢](فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) وحضروا بين يدي فرعون (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ
لَنا لَأَجْراً) ، هل لنا أجر وجزاء عندك (إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ) على موسى وهارون؟
[٤٣](قالَ) فرعون (نَعَمْ) لكم الأجر والجزاء (وَإِنَّكُمْ) بالإضافة إلى ما تعطون من الجزاء (إِذاً) أي إذا غلبتم عليهم (لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) عندي أقربكم إلى نفسي ، حتى تكونوا من خواصي ، فلكم
المال والجاه معا.
__________________
قالَ
لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا
حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ
الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥)
فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦)
____________________________________
[٤٤] واجتمع
الجميع في يوم الزينة ، واصطف الطرفان ، فهنا موسى وهارون ، وهناك فرعون بملئه
والسحرة وسائر النظارة (قالَ لَهُمْ) أي للسحرة (مُوسى أَلْقُوا ما
أَنْتُمْ مُلْقُونَ) تحداهم عليهالسلام بذلك ، بأن يأتوا بما عندهم من أنواع السحر حتى يبطلها
، وليس هذا طلبا حتى يقال : كيف يطلب النبي السحر وهو حرام؟
[٤٥](فَأَلْقَوْا) أي السحرة (حِبالَهُمْ) جمع حبل (وَعِصِيَّهُمْ) جمع عصا ، فقد صوروا الحبال والعصي بصورة الحيّات
ولونوها وطلوها بالزئبق وغيره ، بحيث تتحرك فيظن الناس أنها حيات وثعابين (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) حلفوا بذلك ، وأصل الحلف أن الإنسان يبدي ما في ضميره
مبينا أنه مؤكد عنده بسبب ربط كلامه بشيء عظيم واقعا ، أو عند الاجتماع ، وكأنه
يريد أن يبين أن مسلمية ما يقول كمسلمية ذلك الشيء العظيم ، والعزة هي القوة
والغلبة (إِنَّا لَنَحْنُ
الْغالِبُونَ) زعما منهم أن موسى لا يقدر على ما قدروا عليه.
[٤٦](فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) أي ألقاها من يده (فَإِذا هِيَ) تنقلب حية عظيمة (تَلْقَفُ) أي تأكل بالتهام (ما يَأْفِكُونَ) أي إفكهم وهو الكذب ، لأن حياتهم كانت مكذوبة لا حقيقة لها.
[٤٧](فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) فإنهم قد رأوا الحق في موسى عليهالسلام
قالُوا
آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧)
رَبِّ
مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
____________________________________
وعصاه ، إذ هم أهل خبرة بالسحر ، وعلموا أن عصاه ليست بسحر ، فاندهشوا بحيث
ملكهم الأمر وألقوا أنفسهم للسجود لله سبحانه إظهارا لاستسلامهم وخضوعهم ،
والإتيان ب «ألقي» مجهولا ، للدلالة على دهشتهم حتى كأنهم لم يسجدوا اختيارا ،
وإنما اضطرارا من أنفسهم ، فقد حدث في حالة ألقتهم إلى السجود.
[٤٨](قالُوا) أي السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ
الْعالَمِينَ) صدقنا بأنه الإله ، لا فرعون والأصنام.
[٤٩](رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) وإنما عطفوا بذلك ، لئلا يتوهم أن مرادهم برب العالمين
هو «فرعون» إذ فرعون كان يقول أنا ربكم الأعلى.
[٥٠] وعند ذلك
سقط فرعون في يده ، إذ ظهرت غلبة موسى أمام الجماهير فتوجه إلى السحرة مهددا لهم (قالَ) كيف (آمَنْتُمْ لَهُ) أي لرب العالمين ، أو لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) وقد كان فرعون يرى نفسه فوق الكل حتى أنه لو أراد أحد
الإيمان كان اللازم أن يستأذنه ، ثم أراد أن يموه الأمر على السذج فقال (إِنَّهُ) أي موسى (لَكَبِيرُكُمُ
الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فهو أستاذكم ومعلمكم وقد تواطأتم أنتم وموسى على هذا
الأمر ، بأن يأتي هو بسحر فوق سحركم حتى تظهروا للناس أنه نبي وتسيطروا على الأمر (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) العقاب الذي يحل عليكم ، ثم فسر ما هدده بقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
مِنْ خِلافٍ) أي اليد من جانب والرجل من جانب ، وهذا أبلغ في التنكيل
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ
إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠)
إِنَّا
نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ
(٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
____________________________________
من قطعها من طرف واحد (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ) والصلب هو أن يعلق الجسم بعمود طويل إما بدق الجسم عليه
بالأوتاد ، أو بربطه بالحبل ونحوه ، فيموت فورا أو بعد زمان.
[٥١](قالُوا) أي قالت السحرة المؤمنون في جواب فرعون (لا ضَيْرَ) أي لا ضرر علينا مما تفعله بنا ، يقال : ضاره يضيره
ضيرا ، بمعنى يضره ضررا ، ف (إِنَّا إِلى رَبِّنا) الله (مُنْقَلِبُونَ) راجعون إلى ثوابه ولطفه فيجازينا على إيماننا وصبرنا
بما هو خير لنا من الدنيا ، ومن المعلوم أن الإنسان لا يعد الألم القليل لفوائد
كثيرة ضررا ، قال بعض المفسرين : إن فرعون لم يقدر على قتل أحد من السحرة ، وقد
ورد أن جمعا آمنوا بموسى فحبسهم مع السحرة ، حتى أرسل الله على آل فرعون الجراد والقمل
والضفادع ، فأطلق سراحهم.
[٥٢](إِنَّا نَطْمَعُ) أي نرجو (أَنْ يَغْفِرَ لَنا
رَبُّنا خَطايانا) السالفة من الكفر والسحر والعصيان ، حيث (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) بموسى عليهالسلام وبما دعانا إليه ، فإن أول الناس إيمانا أعظم أجرا ،
لما يتوجه إليه من الخطر والضرر الذين لا يتوجهان إلى سائر المؤمنين من بعده.
[٥٣](وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) بعد ما أطلق فرعون عن بني إسرائيل وسائر المؤمنين (أَنْ أَسْرِ) أي سر ليلا إلى خارج مصر (بِعِبادِي) أي مع عبادي المؤمنين (إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) أي أن وجه الأمر بالسير ليلا ، إنكم
فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣)
إِنَّ
هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا
لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حاذِرُونَ (٥٦)
____________________________________
إن سرتم نهارا يتبعكم الطلب ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر ، أو هذا
إخبار بأن فرعون يتبعهم فليعلموا ذلك سلفا.
[٥٤] وحيث
تقابل قومي موسى وفرعون من حيث المؤمنين بالطرفين ، تفكر فرعون لصد الناس عن
الإيمان بجمع الجيش لمحاربة موسى (فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ) جمع مدينة ، أي البلاد التي كانت تحت سلطته (حاشِرِينَ) أي أناسا حاشرين ، من حشر بمعنى جمع ، أي جماعة يجمعون
المال والعسكر ، لتهيئة حرب تبيد موسى والمؤمنين به معا.
[٥٥] قال فرعون
لمن حوله (إِنَّ هؤُلاءِ) أي موسى والمؤمنين به (لَشِرْذِمَةٌ
قَلِيلُونَ) أي عصابة من الناس قليلة ، فإن شرذمة كل شيء بقيته
القليلة ، وفي بعض التفاسير أنهم كانوا ستمائة ألف ، فقد أراد التقليل لهم
والتنقيص من شأنهم.
[٥٦](وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) يقال غاظه أي أغضبه ، أي أغضبونا حيث خالفوا معنا في
الطريقة ، وهكذا يقول المتكبرون دائما وكأنهم هم المحور حتى أن إغضابهم يوجب
النكال والتدمير.
[٥٧](وَإِنَّا لَجَمِيعٌ) أي جماعة (حاذِرُونَ) أي خائفون شرهم ، من «حذر» بمعنى خاف واستعمل الحزم في
الأمور.
[٥٨] وخرج موسى
عليهالسلام وقومه ليلا من مصر ، واتبعهم فرعون بعد ما عرف خروجهم
بجيشه الجرار ، يريد حربهم أو إرجاعهم ، وهكذا أخرج الله
فَأَخْرَجْناهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
____________________________________
فرعون من البلاد كما قال (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي فرعون وآله (مِنْ جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَعُيُونٍ) جمع عين ، أي : العيون الجارية في أراضيهم وبساتينهم.
[٥٩](وَكُنُوزٍ) جمع كنز ، وهو المال المخبأ ، أي عن أموالهم الثمينة
التي اختزنوها (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) مقامهم المتصف بالكرامة ، لأنهم كانوا يكرمون في ذلك
المقام.
[٦٠](كَذلِكَ) الأمر قد كان (وَأَوْرَثْناها) أي تلك النعم من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم
(بَنِي إِسْرائِيلَ) المؤمنين بالله ، فإن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر وصاروا
فيها سادة.
[٦١] وبعد بيان
تلك الخاتمة ـ فورا ـ يأتي السياق لبيان القص ة كيف صار الطرفان ، وهل تلاقيا (فَأَتْبَعُوهُمْ) أي أتبع فرعون وآله ، لموسى والمؤمنين (مُشْرِقِينَ) أي حين شروق الشمس وظهور ضوئها ، بعد أن خرج موسى
والمؤمنون ، ليلا ، وساروا مسافة طويلة ، ووصل موسى والمؤمنون إلى البحر ، وها هم
يرون فرعون بجيشه يتبعهم ، فما ذا يصنعون؟
[٦٢](فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي تقابل جمع موسى مع جمع فرعون ، بحيث رأى كلّ صاحبه (قالَ أَصْحابُ مُوسى) في خوف واضطراب (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي سيدركنا جماعة فرعون ولا طاقة لنا بهم ، فإنهم لم
قالَ
كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ
الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى
وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)
____________________________________
يكونوا حملوا السلاح للمقاتلة.
[٦٣](قالَ) موسى عليهالسلام (كَلَّا) لا يدركونا ، ثقة منه عليهالسلام بنصر الله تعالى (إِنَّ مَعِي رَبِّي) أي معي نصرته ولطفه (سَيَهْدِينِ) أي سيرشدني إلى طريق النجاة.
[٦٤](فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ) وهو البحر الأحمر الذي وصلوا إليه ، فضرب موسى عصاه على
البحر كما أمر الله سبحانه (فَانْفَلَقَ) البحر أي انشق ، وظهر فيه اثني عشر طريقا بين كل طريقين
حاجز من الماء ، وظهر القعر يابسا (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) أي كل قطعة من البحر ، التي كانت حاجزة بين طريق وطريق (كَالطَّوْدِ) أي الجبل (الْعَظِيمِ) جبل من الماء ممتد عبر البحر ، وطريق ، ثم جبل وطريق ،
وهكذا إلى اثني عشر طريقا وسيعا جافا في قلب البحر.
[٦٥](وَأَزْلَفْنا) أي قربنا ، من زلف بمعنى قرب (ثَمَ) أي هناك ، نحو البحر (الْآخَرِينَ) أي فرعون وقومه ، قربناهم إلى البحر ، فإنهم اقتربوا
ليحاربوا موسى ومن معه ، ونسبة الإزلاف إليه سبحانه ، لأنه هو الذي أمر موسى
بالخروج ، فهو السبب الأول لإخراج فرعون.
[٦٦] ولما وصل
فرعون إلى البحر ، ورأى أن موسى وأصحابه في وسطه ، دخل البحر ليدرك موسى (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ
أَجْمَعِينَ) حيث
ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(٦٧) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
____________________________________
وصلوا إلى ساحل البحر سالمين ، حين وصل فرعون بجيشه منتصف البحر.
[٦٧](ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) بأن أمرنا ماء البحر أن يرجع إلى محله ، فتلاطم الماء
وانصبّ على فرعون وجيشه فغرقوا.
[٦٨](إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من نصرة موسى على فرعون (لَآيَةً) أي دلالة على نصرة الله للمؤمنين على الكافرين ، أو
دلالة على الله وصفاته وسائر شؤونه (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر الناس (مُؤْمِنِينَ) مصدقين بهذه الآيات ، أو أن آل فرعون رأوا تلك الآية
فما آمنوا ، فلا تستوحش يا رسول الله من عدم إيمان قومك.
[٦٩](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه الغالب ، كما غلب على فرعون وقومه (الرَّحِيمُ) بخلقه ، ومن رحمته سبحانه أنه ، يمهلهم ، مع كفرهم
ومعاصيهم ، حتى إذا لم يبق أمل في إيمانهم أهلكهم ، أو المراد أنه عزيز غالب على
الأعداء ، رحيم عطوف بالمؤمنين.
[٧٠](وَاتْلُ) يا رسول الله ، أي اقرأ (عَلَيْهِمْ) أي على الناس (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) أي خبره ، وفيه تسلية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعظة للعرب الذين كانوا من نسله ، حتى ينظروا إلى
جدهم ، ويتبعوا طريقته.
[٧١](إِذْ قالَ) أي في زمان ، والمراد تلاوة هذه القطعة من قصته (لِأَبِيهِ) آزر ، والمراد عمه ، فإن العرب تسمي العمّ أبا ، لأنه
بمنزلة الأب
وَقَوْمِهِ
ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ
أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١)
قالَ
هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا
بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)
____________________________________
(وَقَوْمِهِ ما
تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ قال ذلك على
وجه الإنكار.
[٧٢](قالُوا) في جواب إبراهيم عليهالسلام (نَعْبُدُ أَصْناماً) جمع صنم (فَنَظَلُّ لَها) لتلك الأصنام (عاكِفِينَ) نعكف عليها ونقيم في عبادتها.
[٧٣](قالَ) إبراهيم عليهالسلام يريد إبطال عملهم ، وأن عبادتهم لها في غير موقعها (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) أي هل تسمع هذه الأصنام كلامكم ودعاءكم؟ (إِذْ تَدْعُونَ) إياهم.
[٧٤](أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) بجلب خير لكم؟ (أَوْ يَضُرُّونَ) بإيقاع ضرر عليكم؟
وإذ كان الجواب
على ذلك بالسلب والنفي ، فلما ذا تعبدون ما لا يسمع ولا يضر ولا ينفع؟.
أقول : ولم يكن
للقوم أن يقولوا : نعم ، في الجواب ، إذ ذلك يحتاج إلى دليل ، كما أنه ليس للقوم
النقض على إبراهيم بأن الله أيضا كذلك ويطلبوا الدليل ، إذ الآثار تدل على المؤثر
فهناك ما لا يحصى من الأدلّة على أن في الكون قوة خارقة تضر وتنفع وتخلق وتميت
وتعطي وتمنع ، وما ذاك إلا الله سبحانه.
[٧٥](قالُوا) في جواب إبراهيم ، إنما ليس لنا دليل على ألوهية هؤلاء
، وإنما نعبدها تقليدا (بَلْ وَجَدْنا
آباءَنا) وأجدادنا (كَذلِكَ) الذي نفعل من عبادة الأصنام (يَفْعَلُونَ) فقلدناهم الأمر.
قالَ
أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥)
أَنْتُمْ
وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي
____________________________________
[٧٦](قالَ) إبراهيم عليهالسلام معلنا براءته من الأصنام بعد أن اعترف القوم بأنهم لا
دليل لهم (أَفَرَأَيْتُمْ ما
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) من الأصنام.
[٧٧](أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) المقدمون عليكم ، «وأنتم» للماضي ، أي الأصنام التي
تعبدونها أنتم وكان آباؤكم يعبدونها.
[٧٨](فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) فقد جعل الأصنام كالأعداء ، لأنه كما يضر العدو ، تضر
الأصنام ، فإن عبادتها تورث النار والخزي ، والإتيان بضمير العاقل للأصنام بقوله «فإنهم»
جريا على ما يراه القوم من عقلها ، وتنسيقا للكلام الدائر بينه وبينهم (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) حيث إن قوله «ما كنتم» عام يشمل جميع معبوداتهم ، وقد
كانوا يعترفون بالإله ، استثنى عليهالسلام عن قوله «عدو» الله سبحانه ، فإنه الرحيم الخليل
لإبراهيم دون سائر الأصنام.
[٧٩] ثم أخذ عليهالسلام يصف الله سبحانه بالصفات التي هي له ، وفيه تعريض
بالقوم ، بأنّ أصنامكم لا تضر ولا تنفع (الَّذِي خَلَقَنِي) أخرجني من العدم إلى الوجود (فَهُوَ يَهْدِينِ) أي يهديني طريق السعادة ، كما خلقني ، كما قال سبحانه (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدى) .
[٨٠](وَالَّذِي هُوَ) لا غيره (يُطْعِمُنِي) أي يعطيني الطعام ، وسائر الناس
__________________
وَيَسْقِينِ
(٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)
وَالَّذِي
يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
____________________________________
وسائط ، وإلا فالمطعم الحقيقي هو الله الذي خلق الطعام (وَيَسْقِينِ) الماء إذا عطشت.
[٨١](وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي يشفيني من المرض فهو الشافي حقيقة ، وإنما الطبيب
وسيلة.
[٨٢](وَالَّذِي يُمِيتُنِي) إذا انقضى أجلي (ثُمَّ يُحْيِينِ) يوم القيامة للبعث والحساب وسقوط ياء المتكلم في هذه
الأفعال تخفيفا ، لوضوحها بالإضافة إلى حصول التناسق بحذفها.
[٨٣](وَالَّذِي أَطْمَعُ) أي أوجد (أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي) والأنبياء معصومون ، إلا أنهم يعدون حتى عملهم
بالمباحات خطايا ، إذا ما يعرفون من مقام الله وعظمته يقتضي أن يكونوا دائما في
خدمته ، حتى لا يشتغلوا بنوم أو أكل أو مباشرة ، أرأيت لو جاءك إنسان كبير ، وأنت
وسخ الثياب تعتذر منه وتخجل ، وإن لم يكن ذلك سيئة ، وكنت مضطرا إلى هذه الثياب؟ (يَوْمَ الدِّينِ) أي في يوم الجزاء.
[٨٤] ثم توجه
إبراهيم عليهالسلام إلى الله بالدعاء قائلا (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً) فإن كون الإنسان حاكما في الأرض حكومة مشروعة لا يكون
إلّا لله سبحانه ، فإذا منحه لأحد كان حاكما شرعيا ، وإن لم يمنحه كان غاصبا لا حق
له فيه (وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) أي اجعلني في زمرتهم ومعهم.
وَاجْعَلْ
لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)
وَاجْعَلْنِي
مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي
يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
____________________________________
[٨٥](وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) أي ثناء جميلا صادقا (فِي الْآخِرِينَ) أي الأمم التي تأتي من بعدي ، فيثنون عليّ ثناء صادقا ،
بأن أكون قدوة لهم ، فالمراد باللسان الثناء ، بعلاقة الحال والمحل ، والمراد
بالصدق أن يكون الثناء صدقا ، في مقابل الثناء الكاذب وقد أجاب الله سبحانه دعاء
إبراهيم ، فقد مرت عشرات القرون ، والأمم كلهم يثنون على إبراهيم ، ويذكرونه بتجلة
وإكبار.
[٨٦](وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ
النَّعِيمِ) أي الذين يرثونها كالإرث الذي ينتقل إلى الإنسان.
[٨٧](وَاغْفِرْ لِأَبِي) بأن تهديه إلى الحق حتى يستحق الغفران (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) المنحرفين الذي ضلوا الطريق ، والمراد «بأبي» عمه آزر ،
وإلّا فقد كان أبوه عليهالسلام مؤمنا راشدا.
[٨٨](وَلا تُخْزِنِي) من الخزي ، وهو أن يترك الإنسان لشأنه حتى يذل (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة ، وهذا أيضا كما تقدم في قوله عليهالسلام «خطيئتي».
[٨٩](يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ) لإنجاء الإنسان من الهلكة ، وإسعاده بالجنة (وَلا بَنُونَ) يدافعون عن الإنسان ، ويهيئون له المكان الحسن الوثير.
[٩٠](إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ) أي لا ينفع شيء إلا القلب السليم ،
وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠)
وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ
هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)
فَكُبْكِبُوا
____________________________________
وهذا استثناء منقطع ، وقد ذكرنا وجهه سابقا ، وأنه استثناء عن أصل المطلب ،
لا عن المطلب بقيوده ، والمراد بالقلب السليم ، القلب السالم عن المعاصي والآثام ،
وإنما نسب إلى القلب لأنه مبعث الخيرات والشرور.
[٩١](وَ) يوم (أُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ) أي قربت ، إما قربا زمانيا ، لأن أيام الدنيا انقضت ،
وجاء دور الآخرة ، وإما قربا مكانيا ، فإنّ الأرض تكون ساحة الحشر ، والجحيم تظهر
في أطباقها ، والجنة ـ التي لا تبعد أن تكون في أعالي الفضاء ـ تقرّب إلى الأرض
ليراها المؤمنون (لِلْمُتَّقِينَ) الذين كانوا يتقون المحارم في الدنيا.
[٩٢](وَبُرِّزَتِ) أي أظهرت ، والمظهر هو الله سبحانه (الْجَحِيمُ) وهي جهنم ـ مؤنثة سماعا ـ (لِلْغاوِينَ) من غوى ، بمعنى ضل ، أي الضالين الذين أغواهم الشيطان ،
فعملوا الكفر والعصيان.
[٩٣](وَقِيلَ لَهُمْ) أي للغاوين (أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ) أي أين ذهبت الأصنام التي كنتم تعبدونها؟
[٩٤](مِنْ دُونِ اللهِ) أي عوض عبادة الله (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم ، في هذا اليوم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) هم لأنفسهم بأن لا يكونوا حصب جهنم.
[٩٥](فَكُبْكِبُوا) أي جمعوا ، بمعنى دفعوا وطرح فيها بعضهم فوق بعض
فِيها
هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ
أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها
يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا
إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ (١٠٠)
____________________________________
(فِيها) أي في الجحيم (هُمْ) أي الآلهة (وَالْغاوُونَ) أي الكفار الضالون الذين كانوا يعبدونها ، أو المراد ب «هم»
هؤلاء عبدة الأصنام وسائر الغاوين كالطبيعيين ومن إليهم.
[٩٦](وَ) كبكب فيها (جُنُودُ إِبْلِيسَ) من اتبعه من ولده وولد آدم وعصاة الجن (أَجْمَعُونَ) حتى لا يبقى منهم أحد خارج النار.
[٩٧](قالُوا) أي قال هؤلاء الذين في النار (وَ) الحال أن (هُمْ فِيها
يَخْتَصِمُونَ) يخاصم بعضهم بعضا.
[٩٨](تَاللهِ) قسم بالله ، والتاء تأتي غالبا لأمر مستنكر أو غريب (إِنْ) أي إنه ، ف «إن» مخففة حذف اسمها (كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي واضح ظاهر.
[٩٩](إِذْ نُسَوِّيكُمْ) الخطاب للأصنام ، والإتيان بضمير العاقل ، باعتبار
جعلهم مخاطبين (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمعنى إذ سويناكم بالله ، وجعلناكم عدلا له ، فعبدناكم
من دونه ، وهكذا يتبرّأ المشركون هناك من الأصنام.
[١٠٠](وَما أَضَلَّنا) عن طريق الحق ، إلى عبادتكم (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي كبرائنا الذين أجرموا فأغرونا عن الحق.
[١٠١] ثم يتضرع
المشركون إلى الناس كي ينقذوهم من العذاب قائلين في صورة استفهام واستعطاف (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) يشفعون لنا كي
وَلا
صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢)
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
كَذَّبَتْ
قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥)
____________________________________
ننجو من العذاب؟
[١٠٢](وَلا صَدِيقٍ) أي ولا من صديق (حَمِيمٍ) أي ذي قرابة فإن الحميم هو القريب الذي ترده ويردك؟
والمعنى هل ليس لنا شافع من الأباعد أو صديق من الأقارب؟
[١٠٣](فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) يتمنون أن يكون لهم رجوع إلى الدنيا ، من «كرّ» إذا رجع
(فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) حتى إذا متنا ثانيا فزنا بالنعيم وتخلصنا من الجحيم.
[١٠٤](إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرناه من قصة إبراهيم عليهالسلام (لَآيَةً) أي دلالة على وحدة الله سبحانه وسائر صفاته وشؤونه
والمعاد ، أو حجة على هؤلاء القوم الذين يتمسكون بإبراهيم ويعتبرونه نبيا وجدا لهم
(وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر هؤلاء الذين عاصروك يا رسول الله ، أو أكثر
أولئك الكفار في زمن إبراهيم (مُؤْمِنِينَ) مصدقين ، وإنما راكبون رؤوسهم يعاندون في الأمر.
[١٠٥](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه الغالب على أمره ، وبعزته يأخذ الكفّار
وينتقم منهم (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين فينصرهم ، أو رحيم بالكفار فلا يعاجلهم
بالعقوبة.
[١٠٦] ثم انتقل
السياق من قصة إبراهيم عليهالسلام إلى قصة نوح شيخ المرسلين فقال سبحانه : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) وإنما دخلت التاء في
إِذْ
قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا
اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠)
____________________________________
كذبت ، باعتبار الجماعة ، كما قال ابن مالك :
والتاء مع
جمع سوى السالم من
|
|
مذكر كالتاء
مع إحدى اللبن
|
ففي غير الجمع
السالم يجوز إدخال التاء باعتبار الجماعة ، وإنما قال «المرسلين» لأنّ تكذيب رسول
واحد تكذيب لجميع الأنبياء.
[١٠٧](إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) وسماه أخا ، لأنه كان من قبيلتهم (أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله؟ أي أفلا تخافون من العذاب في تكذيبي
وإصراركم على الكفر والعصيان؟
[١٠٨](إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من قبل الله سبحانه (أَمِينٌ) على الرسالة فيما أقول لكم.
[١٠٩](فَاتَّقُوا اللهَ) بتوحيده ، وإطاعته (وَأَطِيعُونِ) أي أطيعوني فيما آمركم وأنهاكم.
[١١٠](وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على البلاغ والإرشاد (مِنْ أَجْرٍ) «من» زائدة دخلت لتعميم النفي أي لا أطلب منكم أجرا وجزاء على الرسالة (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري (إِلَّا عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ) فهو الذي يعطيني جزائي وأجري.
[١١١](فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرّر تأكيدا.
قالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ
إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ
نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)
____________________________________
[١١٢](قالُوا) أي قال الكفار في جواب نوح عليهالسلام (أَنُؤْمِنُ لَكَ) أي كيف نصدقك (وَ) الحال أنه (اتَّبَعَكَ
الْأَرْذَلُونَ)؟ أي سفلة الناس ، وهو الحقير السافل ، والمعنى أنا لا
نستعد أن نردف أنفسنا بهؤلاء السفلة.
[١١٣](قالَ) نوح عليهالسلام في جوابهم (وَما عِلْمِي بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا أعلم أعمالهم ما يصنعون ، وهذا كناية عن عدم
الارتباط بين إيمانهم وبين صنائعهم وأعمالهم ، يقال : لا أعلم ماذا يقول فلان ،
ويراد لا أرتبط بقوله ، فقد كان الأنبياء مكلّفين بالبلاغ والإرشاد ، أما أعمال
الناس وما كانوا في زمان كفرهم ، فليس ذلك من مهمة الأنبياء.
[١١٤](إِنْ حِسابُهُمْ) أي ما حساب هؤلاء (إِلَّا عَلى رَبِّي) فهو الذي يحاسبهم على مهنهم وأعمالهم (لَوْ تَشْعُرُونَ) أي لو كنتم تشعرون ذلك وتعلمون إن حساب الناس على الله
، لما عبتموني بأن أتباعي أراذل.
[١١٥](وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا أطردهم لإرضائكم ، وقد كان دأب الكبراء دائما ذلك
، حيث يأنفون أن يكونوا في صف الضعفاء ، ولذا كانوا يشترطون على الأنبياء طرد
أولئك حتى يؤمنوا ، وهكذا قالوا للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[١١٦](إِنْ أَنَا) أي ما أنا (إِلَّا نَذِيرٌ
مُبِينٌ) أي منذر لكم عن عذاب الله ونكاله ، واضح الإنذار
والتخويف وهذا شأني أما أن أطرد بعضا لأقبل
قالُوا
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦)
قالَ
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧)
فَافْتَحْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا
بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠)
____________________________________
آخرين فلست بعامل ذلك.
[١١٧](قالُوا) أي القوم ، لما انقطعوا عن الحجة (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عن هذه الدعوة التي تدعونا بها (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي الذين يرجمون بالحجارة.
[١١٨] هناك دعا
نوح ربّه (قالَ) يا (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي
كَذَّبُونِ) أي كذبوني فيما دعوتهم إليه.
[١١٩](فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) والمراد النصر له عليهم ، وقيل للنصر فتح ، لأنه يفتح
الطريق المسدود أمام الإنسان (وَنَجِّنِي وَمَنْ
مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من هؤلاء الكفار ، الذين لا يفيد فيهم النصح.
[١٢٠](فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ) أي السفينة (الْمَشْحُونِ) من شحنه إذا ملأه ، أي السفينة المملوءة من الإنسان
والحيوان ، فقد أمر عليهالسلام بصنع سفينة وركوبها وسائر المؤمنين ومن كل حيوان يحمل
زوجين اثنين ـ كما تقدم ـ.
[١٢١](ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) أي بعد أن ركب نوح وسائر المؤمنين السفينة (الْباقِينَ) الذين بقوا على الأرض ولم يركبوا السفينة ، وهم الكفار
الذين لم يؤمنوا ، فقد أخذ الماء وجه الأرض حتى غرق كل شيء.
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
كَذَّبَتْ
عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ
____________________________________
[١٢٢](إِنَّ فِي ذلِكَ) الحوار بين نوح وقومه حول التوحيد وسائر المعارف (لَآيَةً) دلالة واضحة على وجوده سبحانه ، أو في ذلك الغرق دلالة
على نكال الله بالكافر (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله ، أو المراد ما كان أكثر الكفار المعاصرين للرسول
مؤمنين بهذه الآية التي هي غرق أعداء نوح عليهالسلام.
[١٢٣](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه القاهر ، وبعزته أخذ أولئك بالغرق (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين ينصرهم على أعدائهم بالآخرة أو يمهلهم رحمة
منه حتى إذا سدوا أبواب الهدى على أنفسهم فلا رجاء فيهم أخذهم.
[١٢٤] وبعد
تمام قصة نوح يأتي السياق لينقل قصة عاد قوم هود النبي عليهالسلام (كَذَّبَتْ عادٌ) أي قبيلة عاد (الْمُرْسَلِينَ) فإن تكذيب هؤلاء كان تكذيب لسائر الأنبياء عليهمالسلام ، فمن لم يقبل نبيا فكأنه لم يقبل جميع الأنبياء.
[١٢٥](إِذْ قالَ) أي كان التكذيب في زمان قال (لَهُمْ أَخُوهُمْ) في النسب (هُودٌ) النبي (أَلا تَتَّقُونَ) الله باجتناب المعاصي ، وهل تخافون عقابه ونكاله؟
[١٢٦](إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من قبل الله (أَمِينٌ) على تبليغ الرسالة.
[١٢٧](فَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه ونكاله
وَأَطِيعُونِ
(١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ
مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)
____________________________________
(وَأَطِيعُونِ) أي أطيعوني فيما آتيتكم به من قبل الله سبحانه.
[١٢٨](وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على البلاغ والإرشاد (مِنْ أَجْرٍ) فإني لا أريد الأجرة منكم حتى تخافون ذلك ، فتعرضون عن
رسالتي (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري وجزائي (إِلَّا عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ) فإنّه يجازيني على أتعابي وما تحملته في سبيل الرسالة
من المشاق.
[١٢٩] ثم ذكر
المعصية البارزة من معاصيهم ، كما هو عادة الأنبياء ، أن يكثر من النهي عن المعصية
البارزة من المعاصي ، فقال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ) الريع هو الارتفاع من الأرض ، وجمعه أرياع وريعة أي
تبنون في المحلات المرتفعة من الصحراء (آيَةً) أي ما يبدوا كأنها علامة للمارة ، ولكنها ليست بعلامة ،
أو ما من شأنها أن تكون علامة لهداية المارة ، ولكنكم لا تبنونها لذلك وإنما (تَعْبَثُونَ) أي عبثا وترفا ، فإن من عادة المترفين أن يصرفوا المال
فيما هو مستغنى عنه وكذلك الحكومات المترفة.
[١٣٠](وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) وهي جمع مصنع ، وكأنّ المراد مواضع صنع الآلات والأسباب
للأبنية والقصور ، وسائر مرافق الحياة ، فإن القوم يكونون دائما هكذا ، لهم مصانع
، وليسوا كالبدائيين الذين يكون بناؤهم بسيطا ، فلا يحتاج إلى معامل ومصانع (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي تظنون خلودكم بهذه الاستحكامات والتصنيعات ، ولم يكن
القوم يرجون البقاء الأبدي ، وإنما كان حالهم حال من يرجو البقاء ، لأنّهم
وَإِذا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي
أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
____________________________________
كانوا يعملون أعمال الباقين إلى الأبد.
[١٣١](وَإِذا بَطَشْتُمْ) أصل البطش هو الأخذ الأليم باليد ، ثم استعمل في كل
إنزال عقوبة ، يعني إذا عاقبتم أحدا (بَطَشْتُمْ
جَبَّارِينَ) أي عاقبتم عقوبة الجبابرة الذين يتعدون عن الحدّ ، بلا
رأفة وحساب ، وكل هذه الثلاثة من مظاهر البذخ والكبر ونسيان الآخرة ، وإذا رقت
الحضارة ولم يرافقها الإيمان كانت كذلك ، كما نرى هذه الأمور الثلاثة في زماننا
جلية ، وكانت عاد تسكن الأحقاف ، وهي الجبال قرب حضرموت ، من ناحية اليمن ، وكانت
ذات حضارة قديمة.
[١٣٢](فَاتَّقُوا اللهَ) ولا ترتكبوا معاصيه (وَأَطِيعُونِ) أي أطيعوني فيما آمركم به ، وحذفت الياء تخفيفا.
[١٣٣](وَاتَّقُوا الَّذِي) أي الله الذي (أَمَدَّكُمْ بِما
تَعْلَمُونَ) أي أعطاكم مددا ، باستمرار ، ما تعملون من أنواع الخير
والرفاه ومرافق العيش.
[١٣٤](أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) فأكثر لكم من الأولاد والأنعام ، وهي جمع نعم هو الحيوان ذو الأربع.
[١٣٥](وَجَنَّاتٍ) أي بساتين (وَعُيُونٍ) جمع عين.
[١٣٦](إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن تماديتم في الغي والطغيان (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
قالُوا
سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦)
إِنْ
هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْناهُمْ
____________________________________
والمراد إما العذاب الذي يأخذهم في الدنيا إن استمروا على كفرهم وشقاقهم ،
وإما عذاب يوم القيامة.
[١٣٧](قالُوا) أي قالت عاد في جواب نبيهم هود (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ
تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فإنّ وعظك وعدم الوعظ متساويان عندنا ، لا يؤثر الوعظ
فينا شيئا.
[١٣٨](إِنْ هذا) أي ما هذا الذي تقول (إِلَّا خُلُقُ
الْأَوَّلِينَ) أي كذب السابقين أو عادة السابقين ، فإن خلق يأتي بمعنى
الكذب وبمعنى العادة ، وهكذا المجرمون في كل زمان ينسبون المصلحين إلى القدم ، ففي
زماننا يقولون «رجعية» و «ارتجاع» وبالفارسية «كهنه پرستى» ، وفي زمان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا يقولون «أساطير الأولين» وفي زمان هود قالوا «خلق
الأولين» ، ولعلّ المراد أن ما نبينه ونفعله عادة آبائنا ، فلا نتركه لأجلك.
[١٣٩](وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) فمن يقدر على عذابنا؟ أما ما تقولون من عذاب الله ، فهو
يحبنا ، أليس قد أنعم علينا بهذه النعم؟ كما قال ذلك الكافر (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي
لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) .
[١٤٠](فَكَذَّبُوهُ) أي كذب عاد هودا (فَأَهْلَكْناهُمْ) بريح سخرت عليهم
__________________
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
كَذَّبَتْ
ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١)
إِذْ
قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢)
إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ
____________________________________
فأماتهم جميعا (إِنَّ فِي ذلِكَ) التبليغ لهم ، أو الإهلاك (لَآيَةً) لأولئك ، أو لقوم الرسول (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) بذلك البلاغ ، بالنسبة إلى أولئك ، أو بذلك الإهلاك
بالنسبة إلى هؤلاء.
[١٤١](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على الكفّار (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين ، وقد تقدم تفصيله.
[١٤٢](كَذَّبَتْ ثَمُودُ) أي قبيلة ثمود (الْمُرْسَلِينَ) فإنهم بتكذيبهم صالحا ، كأنهم كذبوا جميع الأنبياء.
[١٤٣](إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ) أي أن التكذيب كان في زمان قال لهم أخوهم في النسب صالح
النبي عليهالسلام (أَلا تَتَّقُونَ) الله باجتناب الكفر والمعاصي.
[١٤٤](إِنِّي لَكُمْ) أيها القوم (رَسُولٌ) من قبل الله (أَمِينٌ) على أداء الرسالة.
[١٤٥](فَاتَّقُوا اللهَ) وخافوا عقابه ، واتركوا معاصيه (وَأَطِيعُونِ) أي أطيعوني فيما آمركم به.
[١٤٦](وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على الإرشاد والتبليغ (مِنْ أَجْرٍ) وجزاء ، و «من» لتعميم النفي (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري
إِلاَّ
عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ
فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦)
فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ
طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
____________________________________
(إِلَّا عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ) فإنه هو الذي يجزيني.
[١٤٧](أَتُتْرَكُونَ) أي هل تظنون أنتم أنكم تتركون (فِي ما هاهُنا) أي في الأرض ، وفي هذه النعم الموجودة لديكم (آمِنِينَ) من الموت ، والتغير؟ وهو استفهام استنكاري إلفاتي.
[١٤٨](فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) في بساتينكم وقرب عيون الماء الجارية.
[١٤٩](وَزُرُوعٍ) جمع زرع ، وكأنّه النبات الذي لا ساق له (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) الطلع هو الشيء الذي يخرج من النخل ، وفي وسطه صغار
التمر ، سمي طلعا لطلوعه ، و «هضيم» بمعنى اللطيف الناضج الحسن.
[١٥٠](وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) في حال كونكم (فارِهِينَ) بسهولة ، ويسر ، من فره ، أي هل تظنون أنكم تبقون في
هذه النعم ، فالجنات ملتفة ، والعيون جارية ، والنخيل في ثمر وطلع ، والبيوت
الفارهة المنحوتة ، وكل الحياة تنحو نحو الخير والتقدم لكم ، وأنتم آمنون؟ كلا! لا
يكون هذا.
[١٥١](فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تخالفوا أوامره (وَأَطِيعُونِ) أي أطيعوني في رسالتي.
وَلا
تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
قالُوا
إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ
بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
قالَ
هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
____________________________________
[١٥٢](وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) الذين يسرفون في أعمالهم وحركاتهم ، فإن لكل عمل مقياس
وحد إذا جاوزه كان سرفا ، وكان فاعله مسرفا.
[١٥٣](الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
وَلا يُصْلِحُونَ) وكأنه جيء بهذا العطف لإفادة أنهم لا يأتي منهم إلا
الفساد في العقيدة والمنهج والأخلاق ، لا كمن يأتي منه الصلاح والفساد معا.
[١٥٤](قالُوا) أي قالت ثمود في جواب صالح (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) فقد سحروك وذهب عقلك ـ فإنّ الإنسان المسحور يختل عقله
وإدراكه ـ ولذا تدعي النبوة وتقول هذه الكلمات ، ولعلّ المراد أنك قد سحرت مرة بعد
أخرى ، ولذا جيء من باب التفعيل الدال على التكثير.
[١٥٥](ما أَنْتَ) يا صالح (إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا) فكيف تدعي النبوة؟ (فَأْتِ بِآيَةٍ) أي معجزة دالة على صدقك في دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنك نبي مبعوث من قبل الله تعالى.
[١٥٦](قالَ) صالح عليهالسلام آتي بالآية ، فما ذا تريدون؟ قالوا نريد أن تخرج من هذا
الجبل ناقة كبيرة ، فسأل الله صالح ذلك ، فأخرج لهم من الجبل ناقة كبيرة فقال لهم (هذِهِ ناقَةٌ) كما طلبتم (لَها شِرْبٌ) أي حصة من الماء (وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ) فليس لكم شرب كل يوم ،
وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦)
فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧)
فَأَخَذَهُمُ
الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
____________________________________
وإنما تشرب هذه الناقة ماء النهر كاملا ، في يوم ، وتعطيكم الحليب عوض
الماء ، ولكم ماء النهر في اليوم الآخر ، لا تزاحمكم الناقة في الشرب.
[١٥٧](وَلا تَمَسُّوها) أي لا تمسوا الناقة (بِسُوءٍ) بشيء سيئ كأن تؤذوها ، أو تضربوها ، أو تنحروها فإنكم
إذا فعلتم ذلك (فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عليكم ، وإنما كان اليوم عظيما بعلاقة الحال والمحل ،
وإلا فإن العذاب الذي يحل فيه هو العظيم.
[١٥٨] لكن
القوم عتوا ، وقالوا لا نريد أن تشرب الناقة كل ماء النهر يوما بين كل يومين ولا
نريد لبنها ، فاللازم أن نقتلها لكي نتخلص منها (فَعَقَرُوها) أي أهلكوها ، بالنحر ، أو ضرب القوائم ، وقسموا لحمها
بينهم وإنما أسند العقر إليهم مع أن عاقرها كان واحدا لرضى كلهم بذلك (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) حين شاهدوا العذاب ، فقد ندموا على كفرهم ومعاصيهم
وعقرهم للناقة.
[١٥٩](فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) الذي خوفهم صالح عليهالسلام منه فقد خسفت أرضهم ـ كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) البلاغ ، أو العذاب (لَآيَةً) لهم ، أو لقوم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ) من أولئك ، أو هؤلاء ـ على تفصيل مضى ـ (مُؤْمِنِينَ).
[١٦٠](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه القاهر
الرَّحِيمُ
(١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى
____________________________________
للأعداء (الرَّحِيمُ) بهم يمهلهم ، لعلهم يرجعون ، أو الرحيم بالمؤمنين
ينصرهم على أعدائهم.
[١٦١](كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) النبي عليهالسلام (الْمُرْسَلِينَ) فإن تكذيب لوط كان تكذيبا لجميع الأنبياء عليهمالسلام ، أو المراد بالجمع الجنس ـ فقد ذكرنا سابقا ـ إن كلّا
من الجمع والجنس يحل محل الآخر ، تقول : هكذا قال المفسرون ، وتريد أن هذا الجنس
قالوا كذلك ، ولا تريد الجمع ، بل الكلام صادق وإن كان واحد منهم تكلم بذلك الكلام
، فإنه في قبال قال النحويون ، وقال المتكلمون ، لا في قبال قال مفسر واحد.
[١٦٢](إِذْ قالَ لَهُمْ) أي كان التكذيب في زمان قال للقوم (أَخُوهُمْ) في النسب (لُوطٌ أَلا
تَتَّقُونَ) الله باجتناب الكفر والعصيان.
[١٦٣](إِنِّي لَكُمْ) أيها القوم (رَسُولٌ) من عند الله (أَمِينٌ) على أداء الرسالة لا أزيد فيها ولا أنقص.
[١٦٤](فَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب الكفر والمعاصي (وَأَطِيعُونِ) أطيعوا أوامري ، أو أطيعوا أوامر الله ، فالمراد
بالتقوى عدم الإتيان بالمنكرات وبالإطاعة الإتيان بالواجبات.
[١٦٥](وَما أَسْئَلُكُمْ) أيها القوم (عَلَيْهِ) أي على الإرشاد والبلاغ (مِنْ أَجْرٍ) وجزاء ، فلا تخافون إن آمنتم بي أن أرهقكم بالضرائب
والجزاء ، (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري (إِلَّا عَلى
رَبِّ
الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥)
وَتَذَرُونَ
ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧)
____________________________________
رَبِّ
الْعالَمِينَ) فهو يعطيني الجزاء.
[١٦٦] ثم بين
المعصية الظاهرة فيهم ، ناهيا لهم عنها فقال (أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ) على نحو الاستفهام الإنكاري أي كيف تصيبون الذكر ،
باللواط معهم (مِنَ الْعالَمِينَ) أي من جملة خلائق العالم ، ولعلّ هذا التعبير لأنهم
كانوا يفعلون الفاحشة بكل من وجدوه من أهل المدينة أو المسافرين.
[١٦٧](وَتَذَرُونَ) أي تتركون (ما خَلَقَ لَكُمْ
رَبُّكُمْ) لأجل قضاء الوطر (مِنْ أَزْواجِكُمْ) ونسائكم ، فقد عطلوا إتيان الأزواج ، وتعاطوا إتيان
الذكور ، حتى اضطرت النساء إلى المساحقة لقضاء وطرهن ، فإذن فليس ذلك لأجل أنكم
تريدون قضاء الشهوة (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عادُونَ) ظالمون تتعدون الحلال إلى الحرام ، وإلا فلو كنتم
تريدون قضاء الوطر كانت أزواجكم حاضرة ، والإنسان المعتدي يكون هكذا ، يضرب عن
الحق الذي يكفيه الى الباطل ، تجاوزا واعتداء.
[١٦٨](قالُوا) أي قال القوم في جواب لوط عليهالسلام (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
يا لُوطُ) وذلك بأن لا تستمر في تبليغك ونصحك (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي نخرجك من بلادنا ، كما في آية اخرى (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) .
__________________
قالَ
إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨)
رَبِّ
نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي
الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ
____________________________________
[١٦٩](قالَ) لهم لوط عليهالسلام (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ) هذا ، والمراد به اللواط (مِنَ الْقالِينَ) يقال «قلى» أي كره وأبغض ، أي فإني أعلمكم أني أكره
وأبغض عملكم ، فإن إظهار التنفر من الحرام ، مرتبة من مراتب النهي عن المنكر.
[١٧٠] ولما
استيأس منهم دعا الله سبحانه فقال ، يا (رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي) أي ونجّ أهلي ، والمراد بناته (مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي من عاقبة عملهم ، أي العذاب الذي يحل بهم ، أو
المراد أن يبعده عنهم حتى لا يرى عملهم ، فوضع «مما يعملون» مكان «منهم» لإفادة
العلة في الدعاء.
[١٧١](فَنَجَّيْناهُ) أي نجينا لوطا (وَأَهْلَهُ
أَجْمَعِينَ) بأجمعهم بحيث لم يبق منهم أحد.
[١٧٢](إِلَّا عَجُوزاً) هي زوجته السيئة (فِي الْغابِرِينَ) كانت مع الباقين في المدينة ليأخذها العذاب معهم ، فقد
أمر لوط أن يسرى في المدينة بأهله ليلا ، حتى لا يشمله العذاب الذي ينزل بالقوم.
[١٧٣](ثُمَ) من بعد خروج لوط وآله عن القرية (دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أهلكناهم بالخسف وتقليب الأرض ، بأن رفع أرضهم جبرائيل
ثم قلبها.
[١٧٤](وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) من الحجارة ، ولعلّه كان قبل تقليبهم (فَساءَ
مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
كَذَّبَ
أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦)
إِذْ
قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧)
إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨)
____________________________________
مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ) أي بئس مطر الحجارة الذي أمطر على الأشخاص الذين أنذروا
فلم يقبلوا.
[١٧٥](إِنَّ فِي ذلِكَ) البلاغ لهم (لَآيَةً) دالة على صدق لوط (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) بلوط وما جاء به من عند الله ، أو المراد أن في ذلك
التعذيب لهم لدلالة على مصير الكفّار ، ولكن أكثر كفّار مكة لا يؤمنون ولا ينفع
فيهم النذر.
[١٧٦](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) القاهر للكفّار (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين.
[١٧٧](كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هي الغيظة ، مجتمع الشجر في مفيض ماء (الْمُرْسَلِينَ) والمراد به شعيب عليهالسلام ، فقد أرسل إلى قبيلة «مدين» ولعلّ أنّ هناك بالقرب من
مدينتهم كانت أيكة ذات أشجار فكانوا يعرفون بها ، أو كما ورد أن شعيبا أرسل إلى
أصحاب الأيكة ، وإلى مدين.
[١٧٨](إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) قال بعض المفسرين : لم يقل «أخوهم شعيب» كالسياق السابق
، لأنّ شعيبا لم يكن من قبيلتهم ، وإنما كان من قبيلة مدين (أَلا تَتَّقُونَ) الله بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه؟
[١٧٩](إِنِّي لَكُمْ) أيها القوم (رَسُولٌ) من قبل الله سبحانه (أَمِينٌ) على
فَاتَّقُوا
اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا
الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١)
وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢)
وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ
____________________________________
أداء الرسالة.
[١٨٠](فَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه في مخالفته (وَأَطِيعُونِ) أي : أطيعوني فيما أبلغكم.
[١٨١](وَما أَسْئَلُكُمْ) أيها القوم (عَلَيْهِ) أي على البلاغ والإرشاد (مِنْ أَجْرٍ) أطلبه منكم (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري وجزائي (إِلَّا عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ) فإنه يتفضّل عليّ بالجزاء على تحمل المشاق ، في سبيل
التبليغ والإرشاد.
[١٨٢] ثم أخذ
ينبههم على العصيان الشائع بينهم ، فقد كان من دأب الأنبياء ـ كما مرّ بنا جملة من
ذلك ـ أن يركزوا اهتمامهم على نقطة الضعف في المجتمع (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي أعطوا الكيل ـ في المعاملات ـ وافيا غير ناقص (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي ممن ينقص الكيل ، ويدخل في الكيل جميع ما يحسب
كالوزن والعدد والزرع.
[١٨٣](وَزِنُوا) أمر من «وزن» حذف واوه بالإعلال ، فالأمر منه «زن»
والواو عاطفة (بِالْقِسْطاسِ) أي الميزان (الْمُسْتَقِيمِ) العدل الذي لا حيف فيه ، لا بالميزان الناقص.
[١٨٤](وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) البخس هو النقص فيما يجب على
وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
وَاتَّقُوا
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
قالُوا
إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ
بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا
كِسَفاً مِنَ السَّماءِ
____________________________________
الإنسان إعطائه ، والمراد لا تعطوا للناس ناقصا ، وإنما قال «أشياءهم» لأن
المقدار المسروق لدى الكيل والوزن ، للغير وهو المشتري ـ مثلا ـ (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ) أي لا تسعوا في الأرض بالفساد ، فإن العثي أشد الفساد ،
والإتيان بالمفسدين إما للتأكيد ، وإما بمعنى عازمين الفساد قاصدين له.
[١٨٥](وَاتَّقُوا) أي خافوا الله (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ) خلق (الْجِبِلَّةَ) أي الخليقة (الْأَوَّلِينَ) فلا تخالفوا أوامره ، ولا تأتوا بنواهيه.
[١٨٦](قالُوا) في جواب شعيب (إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ) فقد سحروك مرة بعد مرة ، حتى ذهب عقلك ، فما دعواك
النبوة إلا من جراء ذهاب عقلك ونقص إدراكك.
[١٨٧](وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) في جميع المزايا فكيف تدّعي النبوة؟
(وَإِنْ) مخففة من الثقيلة ، أي أنّا (نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فتكذب في دعواك النبوة ، والمعنى أنّا نظنك كاذبا ، في
جملة من يكذب ، والإتيان بالظن ، لعله لأن القوم أرادوا أن يظهروا أنفسهم بمظهر
المنصف البريء عن الكذب ، حتى أنهم لا يقولون «نتيقن» بل «نظن».
[١٨٨] فإن كنت
صادقا فيما تقول (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا
كِسَفاً) أي قطعا ، جمع كسفة بمعنى القطعة (مِنَ السَّماءِ) فإن النبي بيده أزمة الكون
إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧)
قالَ
رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
____________________________________
(إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) في ادعائك.
[١٨٩](قالَ) شعيب عليهالسلام في جوابهم (رَبِّي أَعْلَمُ بِما
تَعْمَلُونَ) فقد كان عليّ البلاغ ، فعملت بما هو تكليفي ، أما أنتم ـ
بعد ذلك ـ فحسابكم على من يعلم أعمالكم ، وفي هذا القول تهديد لهم ، وتخويف من
عذاب الله.
[١٩٠](فَكَذَّبُوهُ) أخيرا ، ولم ينجح فيهم الإرشاد والنصح (فَأَخَذَهُمْ) جزاء لتكذيبهم (عَذابُ يَوْمِ
الظُّلَّةِ) سمي بذلك ، لأنه جللتهم سحابة ، وأظلتهم ، وفي المجمع :
أصابهم حرّ شديد سبعة أيام وحبس عنهم الريح ثم غشيتهم سحابة فلما خرجوا إليها طلبا
للبرد من شدة الحر الذي أصابهم ، أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم فكان من أعظم الأيام
في الدنيا عذابا ، ذلك (إِنَّهُ كانَ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ) وصف للعذاب ، أو لليوم باعتبار علاقة الحال والمحل.
[١٩١](إِنَّ فِي ذلِكَ) العذاب (لَآيَةً) لكفار مكة (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إذ لا يتدبرون الآيات ، أو أن في بلاغ شعيب كان آية ولم
يكن أكثر قومه مؤمنين به.
__________________
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
____________________________________
[١٩٢](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القاهر المنتقم من الأعداء (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين.
[١٩٣](وَإِنَّهُ) أي أن هذا القرآن (لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ) كما أنزل على من قبلك من الرسل.
[١٩٤](نَزَلَ بِهِ) أي بالقرآن (الرُّوحُ) أي جبرائيل ، ولعلّه إنما سمي روحا ، لعدم وجود آثار
الجسم فيه (الْأَمِينُ) في تبليغ الرسالة والوحي.
[١٩٥](عَلى قَلْبِكَ) يا رسول الله ، وإنما جيء بهذا اللفظ ، لأن الشيء يدخل
القلب عن طريق الحواس (لِتَكُونَ) يا رسول الله (مِنَ) جملة الأنبياء (الْمُنْذِرِينَ) للكفار والعصاة المنحرفين الذين لهم بأس الله وعذابه.
[١٩٦] وقد نزل (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) أي بلغة عربية هي لغة الجزيرة (مُبِينٍ) أي موضح للناس المعارف ، أو ظاهر واضح ، ليس فيه عجمة
وغلط.
[١٩٧](وَإِنَّهُ) أي ذكر القرآن النازل عليك (لَفِي زُبُرِ) جمع زبور ، وهو الكتاب ، من «زبر» بمعنى كتب (الْأَوَّلِينَ) أي أن البشارة بالقرآن مذكورة في كتب الأنبياء
السابقين.
أَوَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ
عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
كَذلِكَ
سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠)
____________________________________
[١٩٨](أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (آيَةً) ودليل على صدق القرآن ، متصفة (أَنْ يَعْلَمَهُ) أي يعلم القرآن (عُلَماءُ بَنِي
إِسْرائِيلَ)؟ أليس التبشير بالقرآن موجودا في كتب بني إسرائيل حتى
يعلموه ويصدقوا به؟ وفي هذا تعريض بهم ، أنهم كيف أنكروا والحال أن الأدلة موجودة
في كتبهم ، وهي تدل على صدق القرآن.
[١٩٩] ثم سلا
الله سبحانه نبيه بأن لا يغتم لإعراض هؤلاء فإنهم معاندون حتى لو أنزل الله القرآن
على رجل أعجمي فقرأه عليهم لم يؤمنوا ، لما في قلوبهم من الكبر والعناد (وَلَوْ نَزَّلْناهُ) أي القرآن (عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ) جمع أعجم ، والمراد به إما البهيمة ، لأنها تسمى
بالأعجم ، وإما الرجل الأعجمي الذي لا يعرف التكلم بالعربية إطلاقا.
[٢٠٠](فَقَرَأَهُ) أي قرأ القرآن (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار (ما كانُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ) مع ما في قراءة البهيمة أو الأعجمي من دلالة واضحة على
أنه خارق ، إن أناسا مثل هؤلاء معاندون ، فلا يحزن الإنسان إذا رأى إعراضهم عن
الحق.
[٢٠١](كَذلِكَ) الذي ذكر من أن القرآن بلسان عربي مبين (سَلَكْناهُ) وأدخلناه (فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ) العاصين حتى تتم عليهم الحجة ولكنهم.
لا
يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢)
فَيَقُولُوا
هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)
أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما
كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
____________________________________
[٢٠٢](لا يُؤْمِنُونَ) ولا يصدقون (بِهِ) بالقرآن (حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم الموجع ، بالموت ، أو المراد عذاب الآخرة.
[٢٠٣](فَيَأْتِيَهُمْ) العذاب (بَغْتَةً) فجأة فلا مجال لهم للإيمان والعمل الصالح (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا يدركون وقت نزول العذاب.
[٢٠٤](فَيَقُولُوا) حينذاك في طلب واستعطاف (هَلْ نَحْنُ
مُنْظَرُونَ)؟ أي مؤخرون لنؤمن ونصدق ونعمل صالحا ، لكنهم يجابون (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) .
[٢٠٥] وقد كان
الكفار يطلبون من الرسول أن يأتيهم بالعذاب إن كان صادقا ، فيأتي إليهم الاستفهام
الإنكاري بقوله سبحانه (أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ) أي كيف يستعجل هؤلاء عذابنا؟ أفلا يعلمون أن العذاب
أليم شديد؟
[٢٠٦](أَفَرَأَيْتَ) يا رسول الله (إِنْ مَتَّعْناهُمْ) في الدنيا (سِنِينَ) أي سنوات متعددة طويلة.
[٢٠٧](ثُمَّ جاءَهُمْ) لدى انقضاء مدتهم (ما كانُوا يُوعَدُونَ) من العذاب.
__________________
ما
أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)
وَما
أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا
ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)
____________________________________
[٢٠٨](ما أَغْنى عَنْهُمْ) أي ما أفادهم (ما كانُوا
يُمَتَّعُونَ) أي مدة متعتهم وبقائهم في الحياة ، وفي هذا تنبيه على
أنهم وإن أخّر عنهم العذاب لكن إذا أتاهم ، لم يكونوا يأبهون بما متعوا به في
الحياة ، فإن النعيم إذا زال ، كان كأن لم يكن ، ولم تنفع تلك المدة الطويلة من
التنعم في التخفيف من العذاب.
[٢٠٩](وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) «من» لزيادة التعميم (إِلَّا) و (لَها مُنْذِرُونَ) فليخف هؤلاء أن يهلكهم الله سبحانه ، إذ أرسلت إليهم
النذر فلم يؤمنوا.
[٢١٠] فقد
أرسلنا المنذرين (ذِكْرى) أي لأجل تذكرهم بفساد عقيدتهم وعصيانهم فلما أبوا
الإطاعة أهلكناهم (وَما كُنَّا
ظالِمِينَ) لهم في عقابهم ، بل لقوا جزاء كفرهم وظلمهم.
[٢١١] وقد كان
المشركون يجعلون القرآن من قسم الكهانة التي تنزل بها الشياطين ، فجاءت الآية في
مقام ردّهم ، إذ لو كانت كهانة لقدر على مثلها سائر الكهان (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) أي بالقرآن (الشَّياطِينُ) يقال تنزل به إذا نزل معه.
[٢١٢](وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي إنزال القرآن ، إذ الشيطان يأمر بالفساد والكفر
والمنكر ، فلا يلائمه الإصلاح والإيمان والمعروف (وَما يَسْتَطِيعُونَ) لأنه خارج عن قدرة المخلوق ، والله سبحانه يحرس الإعجاز
عن قدرة
إِنَّهُمْ
عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
____________________________________
غيره تعالى ، نعم يتمكن الشيطان أن يأتي بالخارقة المفضوحة كونها ليست آية
، كما تفل مسيلمة في بئر ـ لينبع الماء ـ فجف.
[٢١٣](إِنَّهُمْ) إن الشياطين (عَنِ السَّمْعِ) أي استماع القرآن وتلقيه من قبل الله سبحانه (لَمَعْزُولُونَ) فلا يتمكنون أن يتلقوه من الله ليأتوا به إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بل الذي يسمعه هو جبرائيل ، أو المراد أن الشيطان لا
يسمح له باستماع ما في الملأ الأعلى ، إذ يرصد هناك بالشهب ، فكيف يتمكنون من تلقي
القرآن والإتيان به.
[٢١٤] وإذ قد
تبين لك الحق (فَلا تَدْعُ) يا رسول الله ، ولا بدع في توجه هذا الكلام إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن جميع الأوامر والنواهي متوجهة إليه بلا إشكال وفي
جملتها هذا النهي (مَعَ اللهِ إِلهاً
آخَرَ) كما يفعله المشركون (فَتَكُونَ مِنَ
الْمُعَذَّبِينَ) أي تعذب بهذا العمل ، وتكون في جملة من عذبوا.
[٢١٥](وَأَنْذِرْ) يا رسول الله (عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ) إليك ، وإنما خصوا بالذكر ، لأجل لزوم الاهتمام
بالعشيرة أكثر من سائر الناس ، فإنهم إن آمنوا كانوا عونا ومساعدين ، وإن لم
يؤمنوا كانوا أقوى الأعداء ، وأشد الألداء ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت بمكة فجمع
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بني هاشم وهم أربعون رجلا كل واحد منهم يأكل كثيرا
ويشرب القربة فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال : ادنوا بسم الله فدنى القوم عشرة
عشرة فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا
باسم الله ، فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال هذا
وَاخْفِضْ
جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(٢١٥)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ
تَقُومُ (٢١٨)
____________________________________
ما سحركم به الرجل فسكت صلىاللهعليهوآلهوسلم يومئذ ولم يتكلم ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام
والشراب ، ثم أنذرهم رسول الله فقال : يا بني عبد المطلب إني نذير إليكم من الله عزوجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ، ثم قال : من يؤازرني
ويكون وصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا؟ كل ذلك
يسكت القوم ، ويقول عليّ عليهالسلام أنا ، فقال في المرة الثالثة : أنت ، فقام القوم وهم
يقولون لأبي طالب أطع ابنك ، فقد أمّر عليك .
[٢١٦](وَاخْفِضْ جَناحَكَ) أصل خفض الجناح ، أن يسفل الطائر جناحه أمام والديه
تواضعا واستعطافا. ثم استعمل بمعنى التواضع واللين وحسن الخلق (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فتواضع لهم ، وألن جانبك نحوهم.
[٢١٧](فَإِنْ عَصَوْكَ) أي خالفوك أقاربك ولم يؤمنوا (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ) من عبادة الأصنام وإتيانكم لسائر المعاصي والآثام.
[٢١٨](وَتَوَكَّلْ) يا رسول الله ، أي فوض أمرك (عَلَى الْعَزِيزِ) الغالب بعزته على الكفار (الرَّحِيمِ) بالمؤمنين ، فلا يهونك إعراض قومك وعشيرتك عن الإيمان.
[٢١٩](الَّذِي يَراكَ) أي يحيط علمه بك ، أو ينظر إليك (حِينَ تَقُومُ)
__________________
وَتَقَلُّبَكَ
فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١)
تَنَزَّلُ
عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ
____________________________________
بالدعوة وتصدع بالبلاغ ، فإنك على عينه ، ومن رعته عين الله سبحانه لا بد
وأن ينجح في مرامه.
[٢٢٠](وَ) يرى (تَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ) أي تصرفك بالذهاب والمجيء ، والتنظيم والتحريض والتعليم
في جماعة المؤمنين الذين يسجدون لله ، وأتى بالسجود لأنه غاية الخضوع ، وهو من
سمات المؤمنين ، وقد روي في تفسير هذه الآية عن الباقر عليهالسلام : الذي يراك حتى تقوم بالنبوة وتقلبك في الساجدين أي في
أصلاب النبيين .
وروي عن الباقر
والصادق عليهماالسلام قالا : في أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب
أبيه نكاح غير سفاح من لدن آدم عليهالسلام
.
[٢٢١](إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالك (الْعَلِيمُ) بأحوالك فتوكل عليه يكفيك كل مهمة.
[٢٢٢] وحيث نفى
سبحانه أن ينزل على الرسول الشيطان ، أراد إثبات ذلك بالنسبة إلى الكفار المفترين
عليه (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي هل أخبركم أيها الناس (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّياطِينُ)؟ للوسوسة وإلقاء الباطل.
[٢٢٣](تَنَزَّلُ) أصله «تتنزل» حذفت إحدى تاءيه للقاعدة في باب المضارع
إذا اجتمع عليه تاءان (عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) مبالغة من الإفك ، وهو
__________________
أَثِيمٍ
(٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ
كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ
فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
____________________________________
الكذب ، أي كل إنسان يكذب كثيرا (أَثِيمٍ) آثم آت بالمعصية.
[٢٢٤](يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي أن الشياطين يلقون ما يسمعونه من هنا وهناك إلى
الكهنة والأفاكين (وَأَكْثَرُهُمْ) أي أكثر الشياطين (كاذِبُونَ) لأنهم يكذبون عمدا ، بالإضافة إلى أنهم يتلقون كلما وصل
إليهم من صدق الأخبار وكذبها ، فمثلا يسمع الشيطان من قصّاص في الروم قصة حول خلقة
آدم ، فيلقيها على الكاهن ، وهكذا.
[٢٢٥] وقد كان
بعض الكفار يرمون الرسول بأنه شاعر ، ولما أبطل السياق كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم كاهنا ـ كما كان يقول بعض ـ جاء لإبطال كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم شاعرا (وَ) الرسول ليس بشاعر إذ (الشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) من غوى بمعنى ضل ، أي أن المنحرفين هم الذين يتبعون
الشعراء ، ولا يتبع الرسول إلا كل مؤمن مهتدي ، فكيف يمكن أن يقال عنه : إنه شاعر؟
وهذا أبلغ من أن يقال : إن الشعراء أهل الغواية والفساد والهوى ، إذ تبعية الغاوي
لأحد ، يدل على شدة الغواية في المتبوع.
[٢٢٦](أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الرؤية (أَنَّهُمْ) أي الشعراء (فِي كُلِّ وادٍ) أي في كل طريق من طرق الضلال والهوى والفسق والفحش (يَهِيمُونَ) أي يذهبون هائمين ، كالهائم الحيران في الصحراء الذي لا
يعلم أين يذهب وماذا يريد؟ وهكذا الشعراء ، فمرة يمدحون ، ومرة يذمون ، ومرة
يشببون ، ومرة يكذبون في بطولاتهم ،
وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
____________________________________
وفسقهم ومجونهم وهكذا.
[٢٢٧](وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ) حول بطولات وفسوق وترغيب وتحريض وتنقير وإنذار (ما لا يَفْعَلُونَ) من تلك الأمور التي ينسبونها إلى أنفسهم ، والرسول
بالعكس من ذلك كله فهو يمشي وفق منهج مستقيم ذي فضيلة وعدل وإحسان ، وإنه لا يكذب
وإنما يفعل ما يؤمر به ، وينتهي عما يزجر عنه.
[٢٢٨] ثم
استثنى سبحانه عن هذا العموم الشاعر الذي ليس كذلك ، فإن الشعر ليس مذموما لذاته ،
وإنما هو مذموم لهذه الاعتبارات المذكورة في الآية السابقة ، ولذا قال سبحانه (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) من الشعراء (وَذَكَرُوا اللهَ
كَثِيراً) حتى لم يشغلهم الشعر إلى نسيان الله سبحانه ، حتى
يكذبوا ويفعلوا ما لا يليق بالمؤمنين (وَانْتَصَرُوا) من المشركين ، للرسول والمؤمنين (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي ظلمهم الكفار بسبهم وهجائهم في الشعر ونحوه (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) عند الموت ، أو في القيامة (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) أي مرجع ويسمى المرجع والمصير المنقلب ، لانقلاب
الإنسان من حاله إلى ذلك المحل (يَنْقَلِبُونَ) ويصيرون إليه ، وهذا تهديد لهم ، ولذا كان أمير
المؤمنين عليهالسلام وكثير من أولاد المعصومين عليهمالسلام يقولون الشعر ، كما وردت بذلك متواتر الروايات.
(٢٧)
سورة النمل
مكيّة / آياتها (٩٤)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «النمل» وقصة منهم ، وهي كسائر السور المكية تعالج
قضايا العقيدة ، وإذ كان موضوع القرآن ، من أخريات مواضيع سورة الشعراء ، افتتحت
هذه السورة بذكر القرآن.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أستعين ، أو نستعين باسم الإله ، وتخصيص «الله» بالذكر
، بأنه علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال ، وما أجدر أن يجعله الإنسان أول
عمله ، وأن يستعين به في أموره ، فإنه هو الرحمن الرحيم ، المتفضل بالرحم ، وقد
ذكر أهل المعنى أن التكرار في ذكر اسم من أسماء الله سبحانه ، ليستعطف فضله في
توصفه الإنسان بذلك القبيل من الوصف ، فالمكرر لاسم «الغنيّ» يثرى ، ولاسم العطوف
يعطف ، وهكذا ، وهذا صحيح فإن علم النفس يقر إن للتكرار إيحاء على النفس.
طس
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)
إِنَّ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
____________________________________
[٢](طس) «طاء» و «سين» وهما نموذج من حروف الهجاء (تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ) ف «طس» مبتدأ ، و «تلك» خبره ، وهذا أحد الأقوال في
المسألة ، أو هي رموز بين الله وبين خاتم الأنبياء ، كما ورد على قول آخر ، أو غير
ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعضها (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي واضح ظاهر لا غموض فيه ولا التواء ، وإنما أتى
بوصفين للدلالة على أنه يقرأ ويكتب ، ولعلّه إشارة إلى لزوم الاحتفاء بالقرآن من
جميع النواحي ، فإنه للكتابة والقراءة.
[٣](هُدىً) أي في حال كونه هداية إلى طريق الحق (وَبُشْرى) أي بشارة بالثواب والسعادة (لِلْمُؤْمِنِينَ) به فإنهم هم الهادون المبشرون أما غيرهم فإنهم ضالون
منذرون.
[٤](الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بإتيانها في أوقاتها مع شرائطها وآدابها ويداومون عليها
(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يعطونها ، والمراد الزكاة المستحبة أي الصلاة والصدقات
، لأن السورة مكية ولم تفرض هناك الزكاة ، أو المراد الأعم باعتبار التشريع
مستقبلا (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالنشأة الآخرة من سؤال القبر والبعث والجزاء وغيرها
(هُمْ يُوقِنُونَ) أي لا يشكون ، فهم معترفون بالمعاد ، وتكرار «هم» لعلّه
لإفادة أن غير مقيم الصلاة ومؤتي الزكاة لا يوقن بالآخرة ، وإن اعترف لسانا بها.
[٥](إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ) وأعرضوا عن قبول الإيمان ، فإن الإيمان
زَيَّنَّا
لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)
أُوْلئِكَ
الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ
____________________________________
بالآخرة يلازم الإيمان بسائر أصول الاعتقاد (زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمالَهُمْ) بأن جعلنا الإنسان بحيث إذا تكرر منه شيء زيّن في نظره
للملكة الحاصلة له من التكرار ، فإنهم لما وقفوا في الصف المقابل للمؤمنين وعملوا
بالكفر والمعاصي وتمادوا فيها ، حصلت لهم ملكة حسب أعمالهم تدريجيا ، حتى ترسخت
الرغبة قلوبهم ، ومن المعلوم أنّ الله خلق البشر هكذا ، فيصبح نسبة التزيين إليه
تعالى ، باعتبار أنه الخالق والسبب الأول ، أو باعتبار عدم الضرب على أيديهم ، كما
يقال أفسد الملك اللص الفلاني ، بمعنى أنّه لم يضرب على يده ولم ينتقم منه ، ومن
المعلوم أن التزين لأعمالهم في نظرهم لا ينافي أنهم يعلمون بطلان طريقتهم ، كما
نشاهد الفساق المنصفين يعترفون بأن أعمالهم باطلة ، مع أن العمل مزين في نظرهم ،
حتى لا يتمكنون بسهولة من مفارقتها (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) العمه عمى القلب ، أي يمشون في المعاصي ، كما يمشي
الإنسان الأعمى في الطريق ، لا يهتدي سبيلا.
[٦](أُوْلئِكَ الَّذِينَ) لم يؤمنوا بالآخرة (لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي العذاب السيئ وهو عذاب النار (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي في الدار الآخرة (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) إذ لم يربحوا شيئا وقد خسروا أنفسهم ، حيث ألقوها في
العذاب والنار الأبدية ، والمراد ب «الأخسر» إما التفضيل باعتبار أنهم أكثر خسارة
من العصاة ، وإما منسلخ عن معنى التفضيل في مقابل أهل الجنة ، فالمعنى هم
الخاسرون.
[٧](وَإِنَّكَ) يا رسول الله ، لست كما يقولون إن قرآنك شعر أو كهانة ،
بل
لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
إِذْ
قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ
آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
(٧)
____________________________________
(لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ) أي لتعطى القرآن ، والتلقي الأخذ (مِنْ لَدُنْ) أي من طرف إله (حَكِيمٍ) في أمره يفعل الأشياء حسب المصالح ويضع الأمور في
مواضعها (عَلِيمٍ) عالم بالأشياء ، ولا تلازم بين الوصفين خارجا ، ولذا
جيء بهما ، إذ رب عالم لا حكمة له ، أو رب حكيم لا علم له.
[٨] ثم يأتي
السياق لينقل طرفا من قصة موسى عليهالسلام تسلية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتنبيها للكفّار على عاقبة المجرمين ، وقد تكررت هذه
القصة في القرآن الحكيم ، لكن بمزايا وخصوصيات وملامح مختلفة ، فاذكر يا رسول الله
(إِذْ قالَ مُوسى
لِأَهْلِهِ) أي زوجته بنت شعيب لما رجع من بلاده يقصد مصر ، وقد كان
وحيدا في الصحراء في ليلة مظلمة ، وأخذ زوجته الطلق ، وضل الطريق (إِنِّي آنَسْتُ) أي أبصرت ، ما يؤنس ويفرح فقد رأيت (ناراً) فقد رأى من بعيد ما يشبه النار في شجرة (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) فالزموا مكانكم ، حتى أذهب وأجيء بخبر النار هل يمكن
الاستفادة منها أم لا؟ وإنها لمن؟ لعلنا نتمكن أن نذهب إلى أصحابها ليعاونونا في
مشكلتنا (أَوْ آتِيكُمْ
بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي بشعلة منها ، والشهاب قطعة منها وقبس بمعنى الشيء
الذي يؤخذ ويقتبس (لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ) والاصطلاء الاستدفاء بالنار ، من صلّى ، وأصله «اصتلى»
بالتاء ، قلبت «طاء» على قاعدة باب التفعيل وإنما أتى بالضمائر جمعا ، مع أن
المراد زوجته فقط ، إما تعظيما ، أو لما سبق ،
فَلَمَّا
جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ
أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
____________________________________
من أن كلا من الجمع والجنس يقوم مقام الآخر ، فيراد من الجمع الواحد فما
فوق ، ومن الجنس ، الجمع.
[٩](فَلَمَّا جاءَها) أي جاء موسى عليهالسلام نحو النار ووصل إليها (نُودِيَ) من قبل الله سبحانه ، والمنادي إما هو الله سبحانه ،
بأن خلق صوتا سمعه موسى عليهالسلام ، أو بعض الملائكة بإذنه سبحانه (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ
حَوْلَها) ولم يكن ما رآه موسى عليهالسلام نارا ، وإنما هو نور يتراءى كالنار ، والذين كانوا فيها
هم الملائكة والأرواح الطاهرة ، والذين كانوا حولها هم موسى والملائكة الحافين بها
وبه عليهالسلام ، والمراد بالبركة هي الخير الكثير ، والمعنى أن موسى
والملائكة أنعموا ـ بتفضيل الله لهم ـ ومنحوا الخير الكثير الدائم ، ولعلّ ظهور
النار لأجل الإشارة إلى الهداية ، فكما يهدي الضياء الحائر إلى الطريق ، كذلك تهدي
الرسالة الناس إلى السعادة ، والظاهر أن قوله «أن بورك» دعاء بهذا اللفظ ، وهو
تبريك بالرسالة ، كما يبارك الإنسان من يظفر بمنصب أو نعمة (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) سبحان منصوب على تقدير فعل محذوف أي أسبح وأنزه الله
تنزيها ، ولعل الإتيان بهذه الجملة هنا ، لإفادة أن أول الإيمان هو تنزيه الله من
الشرك ، أو لأجل دفع أن يتوهم أن الله جسم موجود في تلك النار ، وهو الذي يتكلم
بفمه ولسانه.
[١٠](يا مُوسى إِنَّهُ) أي المتكلم (أَنَا اللهُ
الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه القاهر لأعدائه (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء بالحكمة والصلاح.
وَأَلْقِ
عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ
يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ
ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ
____________________________________
[١١](وَأَلْقِ) أي اطرح من يدك (عَصاكَ) فلقد كانت في يده عليهالسلام عصا ، فألقاها فصارت حية (فَلَمَّا رَآها) موسى عليهالسلام ، وإتيان الضمير مؤنثا ، لكون العصي مؤنث سماعي (تَهْتَزُّ) أي تتحرك بشدة ، (كَأَنَّها جَانٌ) وهي الحية الصغيرة ، والمراد أنها في خفة حركتها ـ مع
عظم جثتها ـ كالحيّة الصغيرة التي تتحرك بكل سرعة وخفّة (وَلَّى) موسى عليهالسلام (مُدْبِراً) فجعل يركض إلى الوراء خوفا منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع ولم يلتفت ، فكأنّ الراجع والملتفت يعقب
الأمر السابق ، بخلاف الماشي في طريقه الذي لا يلتفت ، ولعلّ إلقاء هذا الخوف في
قلب موسى عليهالسلام كان لحكمة التدريب على تحمل المشاق فإن الإنسان ينضج
بسبب المخاوف والأتعاب ، فيكون أصلح لإدارة دفة الحياة.
وهناك خوطب
بقوله سبحانه (يا مُوسى لا تَخَفْ) من هذه الحية (إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فإنهم بعين الله سبحانه ، ومعنى «لديّ» لدى لطفي بهم
وعنايتي لهم وهذا الكلام كان تمهيدا لتقوية قلب موسى حتى يلاقي المكذبين والمهددين
برباطة جأش وقلب قويّ غير وجل.
[١٢](إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) استثناء منقطع ، وقد ذكرن ا أن مثل هذا الاستثناء إنما
يؤتى به بملاحظة انسلاخ المستثنى منه عن القيد ، فكأنه قال «إني لا يخاف لدي أحد» «إلّا
من ظلم» «أما المرسلون فلا يخافون» (ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي تاب ـ وهو حسن ـ بعد العصيان ـ وهو سوء ـ
فَإِنِّي
غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ
فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢)
____________________________________
فإنه يخاف أن لا يغفر ذنبه ، وخصص الخوف بهؤلاء ، لأن من لم يسيء ، ومن
أساء ولم يتب ، لا يخافان فإن الأول لا موجب لخوفه ، والثاني لا يعترف وإلّا تاب ،
وغير المعترف لا يخاف ، وفي الكلام انتقال من الخوف من الأسباب الخارجية ـ كالحيّة
ـ إلى الخوف من عذاب الله وانتقامه ومن تاب بعد العصيان (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أغفر ذنبه ، وأتفضل عليه وهو فوق الغفران ، فإنك قد
تغفر للمذنب ثم تعطيه فوق ذلك دينارا ، وكان هذا الكلام «إلا من ظلم ... إلى آخره»
تمهيد لحال الكفار والعصاة الذين يرسل إليهم موسى عليهالسلام وتعليم لموسى بأنّ الله غفّار لمن تاب.
[١٣](وَأَدْخِلْ) يا موسى (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) وهو شق الثوب الأعلى طرف الحلق ، فكان يدخل يده من الشق
، ويجعلها تحت إبطه (تَخْرُجْ) اليد حين تخرجها (بَيْضاءَ) مشرقة كالشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير أن يكون البياض من أجل المرض والبرص ، وهي
آية أخرى زوّد بها موسى عليهالسلام حجة على نبوته (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي إنا أرسلناك في تسع معجزات ، والإتيان ب «في» لتشبيه الإنسان الحائز لها
، بالّذي في وسط الشيء ، لأنها تحيط بها وتحرسها وكأنّها مشتملة عليه كما يقال جاء
فلان في جلالة (إِلى فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ) القبط الكافرين بالله وباليوم الآخر (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله سبحانه ، وأمره ، من فسق بمعنى
خرج.
فَلَمَّا
جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
____________________________________
[١٤] فذهب موسى
إلى فرعون بتلك الآيات ، وأظهرها له (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) أي جاءت فرعون وقومه (آياتُنا) معاجزنا التي زودنا بها موسى عليهالسلام (مُبْصِرَةً) أي في حال كون تلك الآيات تبصّر عن العمى ، وتهدي السبيل
(قالُوا هذا) الذي جئت به يا موسى (سِحْرٌ مُبِينٌ) واضح ظاهر ، فليس ما جئت به إعجازا ، وإنما هو سحر.
[١٥](وَجَحَدُوا) أي أنكر آل فرعون (بِها) أي بالآيات والباء في «بها» من قبيل «الباء» في (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) كما تقدم في تفسير الآية (وَاسْتَيْقَنَتْها) أي علموا أنها معاجز علم يقين (أَنْفُسُهُمْ) فاعل استيقنتها أي تيقنت نفوسهم بالآيات ، وإنما جيء
بلفظ «أنفسهم» للدلالة على رسوخ اليقين والاطمئنان في النفوس ، وإنّما جحدوا بعد
اليقين (ظُلْماً) على أنفسهم بالكفر ، وعلى بني إسرائيل الذين اضطهدوهم (وَعُلُوًّا) أي طلبا للعلو والرفعة وتكبرا (فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتّى منه الرؤية ، والمراد
رؤية القلب (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ) أي فرعون وقومه الذين أفسدوا بالكفر والعصيان فقد كانت
عاقبتهم أن أغرقهم الله سبحانه في البحر ، حتى لم تبق منهم باقية ، وأورث أرض مصر
بني إسرائيل ، وجعل كلمته هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى.
__________________
وَلَقَدْ
آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا
عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ
____________________________________
[١٦] ثم يأتي
السياق لبيان قصة داود وسليمان وهما من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليهالسلام ، وإذ شاهدنا بعض قصص موسى فلنشاهد بعض قصص هذين
النبيين العظيمين ، مع الارتباط لما ذكر هنا بموضوع العقيدة ارتباطا وثيقا (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) وهو ابن داود عليهماالسلام (عِلْماً) أي علما عظيما ، ومن جملة علومهم كان علم الحكومة
والفصل في القضايا (وَقالا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بالرسالة والعلم وسائر الأمور (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ) وإنما قالوا «على كثير» لأن جملة من عباد الله المؤمنين
ـ وهم جماعة من الأنبياء ـ مساوون لهما أو أفضل منهما.
[١٧](وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) في الأمور المعنوية والمادية ، وبهذه الآية استدلت
الصديقة الطاهرة عليهاالسلام ، على أن الأنبياء عليهمالسلام يورثون في مقابل الحديث المختلف الذي نسبوه إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كذبا وزورا ب «إنا ٢ معاشر الأنبياء لا نورث ، ما
تركناه صدقة» (وَقالَ) سليمان عليهالسلام على وجه الشكر والاعلام (يا أَيُّهَا النَّاسُ
عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي نطقها ، فإن الطيور تتكلم بعضها مع بعض ، وقد منح
الله سبحانه فهم نطقها لسليمان عليهالسلام والمنطق مصدر ميمي بمعنى النطق (وَأُوتِينا) أي أعطينا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ما يحتاج إليه الأنبياء عليهمالسلام والملوك ، من العلم والقدرة والمال والجاه وغيرها (إِنَّ هذا) الذي منحنا الله سبحانه (لَهُوَ الْفَضْلُ
الْمُبِينُ
(١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
حَتَّى
إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً
مِنْ قَوْلِها
____________________________________
الْمُبِينُ) الظاهر الذي تفضل علينا به.
[١٨](وَحُشِرَ) أي جمع (لِسُلَيْمانَ) عليهالسلام ، في ذات يوم (جُنُودُهُ) فقد أحضر الجميع بخدمته (مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) فقد كان الجميع مسخرين له بأمر الله سبحانه وقدرته (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يمنعون ، ويحبس أولهم عن المضي ليلحقه الأخير من
الجيش فيجتمعون ، من وزع بمعنى منع ، يقال ليس لفلان وازع ، أي مانع يمنعه عن
العمل الفاسد.
[١٩](حَتَّى إِذا أَتَوْا) سليمان مع الجنود (عَلى وادِ النَّمْلِ) إضافة إلى النمل لكثرة النمل في ذلك الوادي (قالَتْ نَمْلَةٌ) والتاء للوحدة كتمرة وتمر ، وشجرة وشجر (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ) وجحوركم (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) التحطيم التكسير والتهشيم أي لا يكسرنكم ولا يدوسكم بالأقدام
(سُلَيْمانُ
وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ولا يلتفتون إلى تحطمكم فإن الإنسان لا يبالي بتحطيم
النمل وصغار الحيوان ، ويظهر من هذا أنهم كانوا ركبانا ومشاة ، لا محمولين على
الريح في الهواء.
[٢٠] وشاء الله
سبحانه أن يسمع سليمان كلام النملة (فَتَبَسَّمَ) سليمان (ضاحِكاً مِنْ
قَوْلِها) التبسم هو مقدمة الضحك ، فإنه ضحك خفيف ، والإتيان
بضاحكا ، لإفادة أنه عليهالسلام ضحك ضحكا كثيرا لكن على نحو
وَقالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى
والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ
____________________________________
التبسم لا على نحو القهقهة ، وإنما ضحك عليهالسلام أن الإنسان إذا سمع أو رأى ما لا عهد له به أخذه التعجب
ثم الضحك ، ثم توجه إلى الله سبحانه شاكرا لهذه النعمة التي أنعمها عليه بتعريفه
منطق الحيوانات (وَقالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي) أي ألهمني من وزع بمعنى كفّ والمعنى اجعلني أزع شكر
نعمتك أي أكفّه وامنعه أن يذهب عني فلا أنفك عنه (أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) والمراد بالنعمة الجنس فإن سماع كلام النملة ذكّره بنعم
الله عليه ، كما إن الإنسان إذا رأى نعمة تذكر سائر النعم (وَعَلى والِدَيَ) فقد أكرمت أبي بالنبوة والحكمة وفصل الخطاب وأن الحديد
كان يلان في يده وأكرمت أمي بأن جعلتها زوجة نبي ووالدة نبي بما كان لها من
الطهارة والنزاهة (وَ) ألهمني (أَنْ أَعْمَلَ
صالِحاً) أي عملا صالحا ، والمراد به الجنس ، نحو ربنا آتنا في
الدنيا حسنة ، والسرّ في ذلك أن لفظ المفرد له جهتان جهة المادة وجهة الأفراد ،
فقد يراد الأولى فيفيد الجنس ، وقد يراد الثانية مع الأولى فيفيد الفرد (تَرْضاهُ) بأن يكون صلاحه من هذا النوع الذي أنت ترضاه ، لا صلاحا
ـ بنظر الناس ـ ولكنك لا ترضاه (وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ) يا رب (فِي عِبادِكَ) أي في جملة (الصَّالِحِينَ) بأن أكون في جملتهم في الدنيا والآخرة.
[٢١] ثم ينتقل
السياق إلى قصة أخرى من قصص سليمان عليهالسلام (وَ) في ذات يوم (تَفَقَّدَ) سليمان عليهالسلام (الطَّيْرَ) أي تعرّف على أحوال
فَقالَ
ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠)
لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ
____________________________________
الطيور ليرى أيها حاضر وأيها مفقود ، فلم يجد الهدهد من بينها (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي ما للهدهد لا أراه ، وكان هذا تعبير مؤدّب ، حتى كأن
الإنسان أصابه شيء ـ كغفلة أو ذهول أو جهل ـ حتى لا يرى ما يطلبه ، وإن كان
المطلوب حاضرا (أَمْ كانَ مِنَ
الْغائِبِينَ) فهو غائب حتى لم أره ، والمعنى أني لا أراه مع حضوره ،
أم إنه غائب ولذا لا أراه؟
[٢٢](لَأُعَذِّبَنَّهُ) أي أعذبن الهدهد (عَذاباً شَدِيداً) كنتف ريشة (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) جزاء لغيبته بدون رخصة ، فيعتبر بذلك أبناء جنسه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي) أي يجيء إليّ (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة ظاهرة تبين عذره في غيبته بدون رخصة ،
وإنما تسمى الحجة ، سلطانا ، لأنها تسيطر على الخصم فلا مفلت له منها.
[٢٣](فَمَكَثَ) أي لبث سليمان مكثا (غَيْرَ بَعِيدٍ) في المدة ، أي انتظر زمانا يسيرا قليلا ، وقد رأى
الهدهد راجعا ، (فَقالَ) لسليمان (أَحَطْتُ) أي علمت ، ويقال للعلم إحاطة ، لأنه يحيط بالمعلوم ،
ونسبة الإحاطة إلى الشخص من باب علاقة الحال والمحل ، إذ الإنسان وعاء العلم (بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أنت يا سليمان ، وكأنّه أراد بذلك أن يبدي عذره في
غيبته وأنه لم يشتغل بأمر نفسه ، وإنما كانت غيبته لأجل الفحص والبحث في أطراف ملك
سليمان ، كجولة استطلاعية يريد بها خير سليمان عليهالسلام لا خير نفسه
وَجِئْتُكَ
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)
إِنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ
يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ
____________________________________
(وَجِئْتُكَ مِنْ
سَبَإٍ) وهي مدينة في اليمن ، سميت باسم رجل كان يسمى «سبأ»
لسكونة أولاده فيها «بنبإ» أي بخبر ـ متعلق ب «جئتك» (يَقِينٍ) لا كذب فيه.
[٢٤](إِنِّي وَجَدْتُ) في ذلك البلد (امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ) أي أنها ملكة عليهم ، ومراده بالمرأة «بلقيس» ومعنى
تملكهم تتصرف فيهم تصرف الملّاك في أملاكهم (وَأُوتِيَتْ) أي أعطيت (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك ، من المال والجلال والجاه ونفوذ
الكلمة وما أشبهها (وَلَها عَرْشٌ) أي كرسي تجلس عليه (عَظِيمٌ) وبعد ما ذكر الهدهد ملكها بين دينها.
[٢٥] قال (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) أي أتباعها (يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) فلا يسجدون لله سبحانه ، وإنما سجدتهم للشمس (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ) حيث أن الشيطان هو الذي يوحي ويوسوس إلى الكفار والعصاة
بكفرهم وعصيانهم (فَصَدَّهُمْ) أي منعهم (عَنِ السَّبِيلِ) الحق ، وهو سبيل الدين ، وسبيل الله سبحانه (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إلى السبيل حيث إن الشيطان منعهم عنه.
[٢٦] فقد منعهم
عن السبيل لكي (أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ)
فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥)
اللهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧)
اذْهَبْ
بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ
____________________________________
أي المخفي من الأشياء (فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فإن المخلوقات كلها مخفية في كتم العدم وإنما يخرجها
الله سبحانه إلى الوجود ، ولعلّ توصيف الهدهد ، لله سبحانه بهذا الوصف ، لأجل أنه
سبحانه زوده بنظر حادّ يرى به الماء تحت الأرض كما يرى الإنسان الماء في القارورة (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) في أنفسكم ، وفي أسراركم ، ومن مخابئ في الأرض (وَما تُعْلِنُونَ) من الكلام ومن سائر الأشياء.
[٢٧](اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له ، من شمس أو غيرها (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي الملك العظيم ، الذي وسع كرسيّه السماوات والأرض ،
فما ذكرته من كون عرش بلقيس عظيم ، إنما هو عظيم بالنسبة إلى عروش الدنيا ، أما
العرش العظيم الذي هو أعظم من كل شيء فهو عرش الله سبحانه ، وقد يحتمل أن يكون هذا
من كلام سليمان ، أو من كلامه تعالى في القرآن.
[٢٨] ولما أخبر
الهدهد سليمان عليهالسلام بهذا الخبر (قالَ) سليمان (سَنَنْظُرُ) في قولك ونبحث عن خبرك لنرى (أَصَدَقْتَ) في مقالك (أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْكاذِبِينَ)؟ أي في جملتهم ومنهم.
[٢٩] ثم كتب
سليمان عليهالسلام كتابا يأمر فيه بلقيس بالإيمان وبأن تسافر إليه وأعطاه
إلى الهدهد ليوصله إليها وقال له (اذْهَبْ) يا هدهد (بِكِتابِي هذا) الذي كتبته (فَأَلْقِهْ) أي اطرحه
إِلَيْهِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨)
قالَتْ
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩)
إِنَّهُ
مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠)
أَلاَّ
تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا
____________________________________
(إِلَيْهِمْ) أي إلى أهل سبأ ، والمراد إلى الملكة وقومها (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض كأنك راجع ، واستتر في محل تسمع كلامهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي ماذا يردون في جواب الكتاب ، ويقولون بينهم عنه؟
[٣٠] فمضى
الهدهد بالكتاب وألقاه في مجلس بلقيس ، فأخذته وفضته وقرأته ثم (قالَتْ) لمن حضرها من الوزراء والأشراف (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ويسمى الأشراف ملأ لأنهم يملئون العيون جلالا والصدور
هيبة (إِنِّي أُلْقِيَ
إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي رفيع ، فإن الكتاب الرفيع يكرم ويحترم.
[٣١](إِنَّهُ) أي الكتاب (مِنْ سُلَيْمانَ) النبي (وَإِنَّهُ) أي الشيء المكتوب فيه (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
[٣٢](أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ) هاتان الجملتان كانتا كل ما في الكتاب الذي أرسله سليمان
إلى بلقيس ، ومعناها ، آمركم أن لا تظهروا الكبر والعلو عليّ ، بعدم إطاعة أمري ،
وآمركم أن تسيروا ـ أي الملكة ومن في حاشيتها ـ نحوي في حال كونكم مسلمين منقادين
لي ، أو مسلمين لله تعالى.
[٣٣] ولما قرأت
بلقيس الكتاب عليهم (قالَتْ) للأشراف والوزراء (يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ
أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢)
قالُوا
نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي
ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها
أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
____________________________________
الْمَلَأُ) أي الجماعة (أَفْتُونِي) أي أشيروا عليّ (فِي أَمْرِي) أي الأمر المرتبط بي من التسليم لسليمان أو الحرب معه ،
والفتوى الحكم بالصواب أي احكموا بالصواب في هذه القضية (ما كُنْتُ) أنا (قاطِعَةً أَمْراً) أجزم فيه برأيي وحدي (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي تحضرون وتشيرون فعن رأيكم ومشورتكم أمضى في الأمر.
[٣٤](قالُوا) في جوابها (نَحْنُ أُولُوا
قُوَّةٍ) أي أصحاب قوة وقدرة وسلاح وجيش (وَأُولُوا بَأْسٍ) أي شجاعة (شَدِيدٍ) لا يغالبنا أحد فإن شئت أن لا تسلمي حاربنا وإن شئت أن
تسلمي صالحنا (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي مفوض إليك في القتال وعدمه (فَانْظُرِي) وفكري في أمرك (ما ذا تَأْمُرِينَ) أي ما الذي تأمريننا به لنمتثله؟
[٣٥](قالَتْ) في جوابهم ، إن الأصلح أن لا نحاربهم ، فإنا إذا
حاربناهم وغلبوا علينا أذلّونا ف (إِنَّ الْمُلُوكَ
إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) أي مدينة ، والمراد دخلوها بالعنوة والغلبة (أَفْسَدُوها) بالإهلاك والتدمير والسلب والنهب (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها
أَذِلَّةً) أي أهانوا أشرافها وكبراءها ، لأن الأشراف لا يخضعون
لهم ، فلا بدّ لهم أن يذلوهم حتى يستقيم لهم الأمر (وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ) الظاهر إن هذا من تتمة كلام بلقيس ، فإن الإنسان غالبا
يؤكد الكلام بالتصديق الإجمالي ، فإنك بعد أن تقص قصة تقول
وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ
سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ
بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
____________________________________
«هكذا كان» وبعد أن تأمر أمرا «هكذا فأفعل».
وقد أراد بعض
الذين بهرتهم الديمقراطية الغربية أن يطبق هذه الآية عليها ، بتقريب أن اللازم أن
يكون للرئيس مجلس يراجعهم في شؤون الدول ، وهم يظهرون ما لديهم من قوة ومال وفكر
ويكون المرجع الأخير هو الرئيس ، ولكن لا ربط لهذه الآية بذلك ، إذ إنما استشارت
بلقيس الوزراء والأشراف ، وهذا هو المعتاد في كل حكومة ملكية وإن لم يكن لهم مجلس
وبرلمان بالإضافة إلى ذلك حكاية عن عمل جماعة من عبّاد الشمس الكافرين ، ولا يدل
على تقرير الله لهم.
[٣٦](وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) أي إلى سليمان وقومه (بِهَدِيَّةٍ) لأصانعهم وأليّن جانبهم حتى لا يطمعوا في ملكي (فَناظِرَةٌ) أي أنظر وأنتظر (بِمَ يَرْجِعُ
الْمُرْسَلُونَ) أي بقبول أو ردّ ـ من جانب سليمان ـ يرجعون رسلي الذين
أرسلهم مع الهدية.
[٣٧] ثم أرسلت
رسولا بهدية (فَلَمَّا جاءَ) الرسول (سُلَيْمانَ) عليهالسلام (قالَ) سليمان للرسول (أَتُمِدُّونَنِ
بِمالٍ) على نحو الاستفهام الإنكاري؟ فإني لا أحتاج إلى مالكم ،
و «تمدون» جمع المخاطب من فعل المضارع ، من باب الأفعال والهمزة للاستفهام والنون
الثانية للوقاية ، وقد حذفت ياء المتكلم تخفيفا (فَما آتانِيَ اللهُ) أي أعطانيه من أنواع النبوة والملك والجاه (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي أعطاكم من أموال الدنيا (بَلْ أَنْتُمْ) أي من لا حظ له كحظي (بِهَدِيَّتِكُمْ) أي هدية
تَفْرَحُونَ
(٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ
بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ
صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِّ
____________________________________
بعضكم إلى بعض (تَفْرَحُونَ) أما مثلي فلا يفرح بالهدية.
[٣٨](ارْجِعْ) أيها الرسول (إِلَيْهِمْ) إلى بلقيس وقومها فقل لهم إن لم يسلموا (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا
قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة لهم ولا قدرة لهم على دفعها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) من مدينتهم ، إن بقوا مصرين على الكفر (أَذِلَّةً) جمع ذليل ، أي في حال كونهم أذلاء (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي صغيروا القدر.
[٣٩] ورجع
الرسول إلى بلقيس يخبرها بأمر سليمان عليهالسلام ، وقد ذكر لها علائم كونه نبيّا ، لا ملكا فقط ولذا
تجهزت بلقيس للمسير إليه حسب أمره «وأتوني مسلمين» ، وأخبر سليمان بأنها خرجت من
اليمن مستعدة للسفر إليه حينذاك (قالَ) سليمان عليهالسلام (يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا) لمن حضر عنده من الأشراف والعظماء (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) أي كرسي بلقيس ، فلقد كان لها كرسي عظيم تجلس عليه (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي) أي تأتي بلقيس وأشراف قومها إليّ ، لأنها سافرت في
عدّتها (مُسْلِمِينَ) أي في حال كونهم مسلمين ، ولعلّ وجه طلب سليمان عرشها
أنه أراد أن يريها مقدرته على مثل ذلك الأمر الخارق ، حتى تذعن بنبوته ، وتصدق
دعوته ، فكان من قبيل معاجز الأنبياء لإثبات الرسالة.
[٤٠](قالَ) في جواب سليمان عليهالسلام (عِفْرِيتٌ) أي قوّي (مِنَ الْجِنِ)
أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ
أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ
الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا
رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا
____________________________________
الذين كانوا بحضرة سليمان (أَنَا آتِيكَ بِهِ) أي أجيء إليك بالعرش (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ
مِنْ مَقامِكَ) أي مجلسك ، فإنه من الطبيعي أن يمتد جلوس الملوك إلى
وقت الظهر ثم يقومون من محلهم للصلاة والراحة والغذاء ـ مثلا ـ.
ولقد كان ذلك
العفريت يريد أن يطير فيأتي بالعرش بالطريق العادي لدى الجن (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي على إتيان العرش (لَقَوِيٌ) قادر على حمله (أَمِينٌ) آتيك به بدون خيانة.
[٤١] قال
سليمان عليهالسلام أريد أسرع من ذلك (قالَ) آصف بن برخيا وكان وزير سليمان وابن أخته ويعرف الاسم
الأعظم لله سبحانه الذي إذا دعا به أجاب (الَّذِي عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) والمراد الكتاب المخزون المكنون عند الله سبحانه ، الذي
لا يطلع عليه إلا من شاء من الأنبياء والأئمة والصالحين (أَنَا آتِيكَ بِهِ) بالطلب من الله سبحانه باسمه الأعظم (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ) ارتداد الطرف رجوعه بعد النظر إلى مكان ما ، فإن
الإنسان إذا نظر إلى مكان ثم أراد أن يأخذ نظره منه إلى أمام رجله ، يقال ارتد
إليه طرفه ، لأن الطرف رجع إلى نفسه بعد أن كان إلى محل آخر ، قال آصف هذا الكلام
ودعا باسم الله الأعظم ، وإذا يرى سليمان أن عرش بلقيس حاضر أمامه.
(فَلَمَّا رَآهُ) أي رأى سليمان العرش (مُسْتَقِرًّا) في حال استقرار وثبات (عِنْدَهُ) بعد أن ارتد طرفه إلى قرب محلّه (قالَ هذا) الإحضار
مِنْ
فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ
قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ
____________________________________
(مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ونعمه إليّ حيث وهب لي خليفة كآصف يتمكن من هذا العمل
العجيب وقد كان سليمان قادرا على أن يحضره هو بالذات ، لكنه أراد إظهار فضل آصف
على قومه ، وقد فضلني بهذا (لِيَبْلُوَنِي) البلاء الامتحان والاختبار ، أي ليمتحنني (أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أي هل أشكره سبحانه على النعمة ، أم أكفر نعمته ولا
أشكره؟ فإن الله سبحانه إذا منح أحدا نعمة كان اختبارا ليظهر هل أنه يشكر أم يكفر
بالنعمة ـ لا ليعلم الله ، فإنه عالم ، بل ـ ليستحق المحسن الثواب والمسيء العقاب (وَمَنْ شَكَرَ) لله تعالى (فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ) إذ فائدة الشكر تعود إليه بالذات (وَمَنْ كَفَرَ) ولم يشكر النعمة (فَإِنَّ رَبِّي
غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (كَرِيمٌ) متفضل على عباده شاكرهم وكافرهم.
[٤٢](قالَ) سليمان عليهالسلام (نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها) أي غيروا سريرها إلى حالة تنكرها ولا تعرفها ، إذا رأته
، وقد قيل أنه عليهالسلام أراد بذلك اختبار عقلها وإنها هل تعرف أم لا ، ل (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى معرفة عرشها بفطنتها (أَمْ تَكُونُ مِنَ
الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) قيل فنزع ما كان على العرش من الفصوص والجوهر وغيرت
ألوان مواضعه الملونة ، فجعل ما كان أحمر أخضر وهكذا.
[٤٣](فَلَمَّا جاءَتْ) بلقيس إلى محلّ سليمان (قِيلَ) لها (أَهكَذا عَرْشُكِ)
قالَتْ
كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ
تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣)
____________________________________
أي هل أن عرشك مثل هذا العرش الموضوع ها هنا؟ (قالَتْ) وقد أدركت بفطنتها الحقيقة (كَأَنَّهُ) أي كأن هذا العرش الموضوع (هُوَ) العرش الذي لي وخلفته ورائي جئتم به إلى هنا ثم قالت (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) بقدرة الله سبحانه ، وصحبة نبوة سليمان (مِنْ قَبْلِها) أي من قبل هذه الخارقة التي نشاهدها بالنسبة إلى العرش (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) بسليمان ، فلا نعجب من إتيان العرش إلى هنا.
[٤٤] ثم ذكر
سبحانه ، إنها إنما أسلمت بعد كتاب سليمان ، وإلا فإنها كانت تعبد الشمس ، كما قال
«الهدهد» (وَصَدَّها) أي منعها ـ سابقا ـ عن الإسلام (ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي عبادتها للشمس ، وإنما عبدت الشمس ل (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي نشأت فيهم وكانت منهم ، ولذا اعتقدت كما كان يعتقد
قومها ، فإن للمحيط أثرا قاهرا على النساء.
[٤٥] وقد أمر
سليمان عليهالسلام أن يبني لها «صرح» أي موضع منبسط من قوارير كالقصر ،
وقد أجرى الماء تحت أرض الصرح بحيث كان يبدو أنه ماء واقف على الأرض ، ولعلّه أراد
بذلك اختبار عقلها أيضا ، هل تعرف إنه صرح أم تظن أنه ماء ، وقيل أن الشياطين خافت
أن يكون لها ولد منه ، فنفروا سليمان منها ، قائلين إن رجلها كرجل حمار ، فأراد
سليمان أن يعرف صدق ذلك ، أقول : وإن صدق هذا ، لم يكن فيه دليل على إن سليمان أو
بعض الرجال نظروا إلى ساقها ، فلعلّ سليمان كان قد أحضر نساء للنظر إلى ساقيها ،
بدون أن يقلن لها اكشفي عن ساقك ، كما أنه ليس دليل على إن قول الشياطين أثّر في
سليمان ، إذ هو عليهالسلام أعلم منهم ، وإنما أراد الكشف للناس عن كذبهم بما تشهده
النساء.
قِيلَ
لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ
ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ
____________________________________
ولما جاءت بلقيس (قِيلَ لَهَا) والقائل بعض الخدم (ادْخُلِي الصَّرْحَ) وهو المحلّ المعدّ لاستقبالها (فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي رأت بلقيس الصرح (حَسِبَتْهُ) أي ظنته (لُجَّةً) من الماء ، واللجة معظم الماء ، فاستعدت لخوضها بأرجلها
(وَكَشَفَتْ عَنْ
ساقَيْها) أي رفعت ثوبها عن رجليها ، لتدخل الماء ، ولا يبلل
ثوبها (قالَ) سليمان ، أو بعض الخدم (إِنَّهُ) أي ما ترين ليس ماء ، ولعلهم أعلموا سليمان بأنها أخذت
في كشف قدميها لخوض الماء ـ بظنها ـ (صَرْحٌ) أي قصر (مُمَرَّدٌ) قد مرّد وملّس ، ومنه يقال لمن لا شعر له ، أي هو مملّس
(مِنْ قَوارِيرَ) جمع قارورة ، والمراد بها الزجاج ، وإذ دهشت الملكة من
هذا الحادث جعلت تستغفر عن ذنبها ، فإن من عادة الإنسان طلب الغفران حين يدهش
ويصاب بكارثة ، إذ يزول الكبرياء ، حينذاك (قالَتْ) مناجية ، يا (رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادتي للشمس في سالف الزمان (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) فالإسلام لله تعالى ، لكنه مع سليمان النبي ، ولعلّ
الإتيان بهذه اللفظة ، للاعتراف برسالته ، وأرادت أن تبدي اعترافها بالمبدأ
والرسالة.
[٤٦] وبعد تمام
قصة سليمان ، يأتي السياق ليبين طرفا من قصص سائر الأنبياء (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ) أي قبيلة ثمود (أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً) فقال لهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (فَإِذا هُمْ)
فَرِيقانِ
يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا
بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ
____________________________________
أي ثمود (فَرِيقانِ
يَخْتَصِمُونَ) مؤمنون ، وكافرون ، وكل يخاصم الفريق الآخر يقول أنت
على باطل وأنا على حق.
[٤٧](قالَ) صالح عليهالسلام لمن بقي في الكفر (يا قَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) فقد كانوا يقولون لصالح عجّل علينا بالعذاب الذي وعدتنا
إن بقينا على الكفر ، ـ على وجه الاستهزاء ـ فقال لهم صالح لم تطلبون عجلة العذاب (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي قبل التوبة ، وسمي العذاب سيئة لأنه يسيء إلى
الإنسان ، والمراد ب «قبل الحسنة» ، عوض طلبكم الحسنة ، فإنه كثير ما يأتي قبل لا
بمعنى الزمان ، بل بمعنى العوض (لَوْ لا) أي هلّا (تَسْتَغْفِرُونَ
اللهَ) تطلبون غفرانه بسبب الإيمان والعمل الصالح؟ (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لكي ترحموا بسبب الاستغفار.
[٤٨](قالُوا) في جواب صالح عليهالسلام (اطَّيَّرْنا بِكَ
وَبِمَنْ مَعَكَ) أي تشأمنا بك وبمن على دينك من المؤمنين فأنتم شؤم
علينا تجلبون لنا الفقر والقحط والمشاكل ، وأصل «اطير» تطير ، أدغمت التاء في
الطاء ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن (قالَ) لهم صالح (طائِرُكُمْ عِنْدَ
اللهِ) أي أن الشؤم أتاكم من عند الله حيث كفرتم وللكفر نكبة
ومشاكل كما قال سبحانه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) وقد كانت الأمم تتشاءم بالطائر الخاص ، كالبوم ،
والغراب ، لما كان عندهم
__________________
بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)
وَكانَ
فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨)
قالُوا
تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ
ما شَهِدْنا مَهْلِكَ
____________________________________
مشهورا أن الإنسان إذا وقع نظره على الطائر الفلاني عند حاجة له فإنها لا
تقتضي تأثّرا من ذلك الطائر ، ثم سمى كل تشاؤم بالشر طائرا ، وإن كان تشاؤما من
الشخص أو حيوان بري ، واشتق منه «التطير» (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تُفْتَنُونَ) أي تختبرون بالخير والشر ، فإن الفتنة بمعنى الاختبار ،
كما قال تعالى (أَنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) يعني ليس هذا الذي يصيبكم من المشاكل بسببي وإنما هي
فتنة وامتحان لكم.
[٤٩](وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) التي بها صالح ، وهي «الحجر» (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي تسعة أشخاص (يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) بإلقاء الفتن وتدبير المكر (وَلا يُصْلِحُونَ) لعلّ الإتيان بهذه الجملة لإفادة أنه لم يكن في عملهم
إصلاح ، وإنما فساد محض.
[٥٠](قالُوا) أي قال بعض هؤلاء الرهط المفسدون لبعضهم الآخر (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي ليحلف بعضكم لبعض ، ف «تقاسموا» فعل أمر ، من باب
التفاعل (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي لنقتلن صالحا (وَأَهْلَهُ) بياتا أي بالليل (ثُمَّ لَنَقُولَنَ) صباحا إذا ظهر قتله ورمينا بذلك ـ وإنما قالوا هذا
لأنهم كانوا معروفين بالفساد فإذا حدث حادث رموا به فلا بد لهم من إحضار الجواب ـ (لِوَلِيِّهِ) أي ولي صالح الذي يطالب بدمه ، والمراد إما الحكومة أو
ذووا رحمه أو من أشبههما (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ
__________________
أَهْلِهِ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً
وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً
____________________________________
أَهْلِهِ)
أي هلاك أهل
صالح ، ويطلق الأهل على العائلة حتى الرئيس ، ومهلك مصدر ميمي ، أو اسم زمان أي
زمان هلاكهم أو اسم مكان أي مكان الهلاك (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقول ، هكذا دبروا حيلة أن يفعلوا الفعلة ثم
يقولوا لوليه هذه الجملة ليبرّءوا ساحتهم من القتل.
[٥١](وَمَكَرُوا) هؤلاء (مَكْراً) بتدبير هذه الخطة (وَمَكَرْنا مَكْراً) أي دبّرنا تدبيرا خفيا بحيث لم يعلموا به ـ فإن المكر
هو التدبير الخفي لإلقاء الخصم إلى الهلاك ـ فقد أمر الله سبحانه بعذاب ثمود (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمكر الله لهم ، فقد روي أنهم لمّا أرادوا قتل صالح
وقعت عليهم قطعة من الجبل فهلكوا جميعا وأنجى الله صالح من أيديهم .
[٥٢](فَانْظُرْ) يا رسول الله أو كل من يتأتى منه النظر ، والمراد اعلم
واعتبر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ)؟ فهل مكرهم نفذ أم ردّ إلى نحرهم؟ (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أي أهلكناهم (وَقَوْمَهُمْ) بأن صاح عليهم جبرائيل صيحة صاروا كهشيم المحتضر (أَجْمَعِينَ) حتى لم ينجح منهم أحد ، وبقي صالح ، والمؤمنون في سلامة
وعافية.
[٥٣](فَتِلْكَ) التي يراها الرائي في طريقه من الحجاز إلى الشام وقد
مرّ بها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، في غزوة تبوك (بُيُوتُهُمْ) وآثارها الباقية (خاوِيَةً) أي في
__________________
بِما
ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ (٥٥)
____________________________________
حال كونها خاوية ، أي خالية منهدمة (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر والعصيان (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك (لَآيَةً) على بأس الله سبحانه (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون الأمور ، أما الجهّال فإنّهم لا يدركون العبر
والعظات.
[٥٤] أهلكنا
الكفار (وَأَنْجَيْنَا) من العذاب (الَّذِينَ آمَنُوا) بصالح (وَكانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي والآثام.
[٥٥] ثم يأتي
السياق لبيان قصة لوط (وَ) اذكر يا رسول الله (لُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ) منكرا عليهم العصيان (أَتَأْتُونَ
الْفاحِشَةَ) والمراد بها اللواط؟ أي كيف تلوطون ، والفاحشة ، صفة
لمقدر ، أي الفعلة الفاحشة وسميت فاحشة لأنها تفحش وتتجاوز الحد ، من فحش بمعنى
تجاوز الحد (وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ) أي والحال أنكم تعلمون أنها فاحشة.
[٥٦](أَإِنَّكُمْ) أيها القوم (لَتَأْتُونَ
الرِّجالَ) أي تعملون مع الرجال (شَهْوَةً) إما مفعول أو تمييز ، وأصلها ما تشتهيه النفس (مِنْ دُونِ النِّساءِ) فقد تركوا نساءهم ، واشتغلوا بالرجال ، إن ذلك ليس
لقضاء الشهوة ، وإلا كانت النساء أحسن (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) ما في هذا العمل من الإثم والعقاب.
تقريب القران الى الأذهان
الجزء العشرون
من آية (٥٧) سورة النمل
إلى آية (٤٦) سورة العنكبوت
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته
الطاهرين
فَما
كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى
____________________________________
[٥٧](فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) للوط (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أي لوط وآله ـ وقد مرّ إن «آل فلان» يطلق عليه وعلى آله
، تغليبا ـ (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي مدينتكم (إِنَّهُمْ أُناسٌ) أي جماعة (يَتَطَهَّرُونَ) عن إتيان أعمالنا ، وكان هذا على وجه السخرية.
[٥٨](فَأَنْجَيْناهُ) أي أنجينا لوطا (وَأَهْلَهُ) بناته اللاتي كنّ معه (إِلَّا امْرَأَتَهُ) التي كانت تساعد القوم على أعمالهم الفاسدة (قَدَّرْناها) أي هكذا جرى تقديرنا بالنسبة إليها إنها (مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في القرية لتعذب بعذابها.
[٥٩](وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على أهل القرية (مَطَراً) من الحجارة (فَساءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ) أي بئس المطر مطر الذين أنذروا فلم ينفع فيهم الإنذار.
[٦٠] وبعد ذكر
جملة من أحوال الأمم السالفة وكيف أن الله عذبهم لما تمردوا عن الأوامر يرجع
السياق إلى الرسول وحاله مع قومه وكيفية تبليغهم (قُلِ) يا رسول الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي وفقنا للإيمان ، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ
اصْطَفى) أي تحية
آللهُ
خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ
حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ
اللهِ
____________________________________
على الرسل المتقدمين الذين اصطفاهم الله سبحانه واختارهم لوحيه ، ومعنى «السلام»
أن يكونوا سالمين في تلك الدار من الأخطار ، وإن غلب معنى التحية عليه ، عند العرف
(آللهُ خَيْرٌ) هنا همزتان ، أحدهما للاستفهام ، والثانية همزة «أل»
وإذا اجتمعت همزتان جاز أن تخفف أحدهما في صورة مدّ ، أي : هل الله خير (أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي الأصنام التي يشركونها بالله تعالى؟ وقد تقدم أن
الله كيف نجى المؤمنين ، وأهلك من كان يعبد الأصنام ، وعلى هذا فالجواب ـ الطبيعي ـ
بعد تلك المشاهدات : أنّ الله خير.
[٦١](أَمَّنْ) أصله «أم» «من» فأدغمت إحدى الميمين في الثانية (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي ما تشركون خير أم خالق السماوات والأرض (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ) أي جهة العلو (ماءً) وهو المطر (فَأَنْبَتْنا بِهِ) بذلك الماء ، وهذا من الالتفات من الغيبة إلى التكلم
وهو فن من فنون البلاغة (حَدائِقَ) جمع حديقة ، وهي مجتمع الورود والأشجار (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي منظر حسن يبتهج به من رآه ويسر ويفرح (ما كانَ لَكُمْ) أيها الناس (أَنْ تُنْبِتُوا
شَجَرَها) أي أنتم لا تتمكنون من إنبات أشجارها ، لو لا أن الله
أنبتها فلا يزعم زاعم أنه هو الذي ينبت حيث يحرث ويكدّ ويسقي ، إنه سبب ضعيف ،
وإنما الذي ينبت هو الله سبحانه (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي هل هنا لك في الكون إله آخر مع الله سبحانه؟ وهذا
استفهام إنكاري ، يأتي بعد الإلفات إلى صنع الله
بَلْ
هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
(٦٠) أَمَّنْ
جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ
وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ
____________________________________
سبحانه (بَلْ) ليس معه إله وإنما هؤلاء المشركون (هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) يجعلون غير الله عدلا لله تعالى.
[٦٢](أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي مستقرا لا تميل ولا تضطرب وتصلح للسكنى لما هيّئ
فيها من الوسائل (وَجَعَلَ خِلالَها) أي وسطها وفي مسالكها (أَنْهاراً) من الماء تجري لسقي الأرض والإنسان والحيوان (وَجَعَلَ لَها) أي للأرض (رَواسِيَ) جمع راسية ، وهي الجبال التي حفظت الأرض من التفكك
والاضطراب ، فإن الأرض كرة تسبح في الجو ، ولو لا الجبال التي هي كالأوتاد الحافظة
للخشبات المتعددة من التفكك ، لتفككت الأرض وانتشرت في الفضاء (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي بحر الملح والمراد به بحار الدنيا ، وبحر العذب
المراد به المياه الجارية العذبة (حاجِزاً) أي مانعا من شقوق الأرض حتى لا يختلط بعضها ببعض ـ كما
تقدم في سورة الفرقان ـ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ صنع ذلك أو بعض ذلك ، أم هو الله وحده؟ فلما ذا تشركون؟
(بَلْ) ليس إله مع الله وإنما (أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَعْلَمُونَ) إنه ليس إله مع الله ولذا يشركون به.
[٦٣](أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) اضطرّ فعل متعد ، يقال اضطر زيد خالدا ، فخالد مضطر
بصيغة المفعول (إِذا دَعاهُ) وإنما جيء باسم «المضطر»
وَيَكْشِفُ
السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
____________________________________
مع إنه سبحانه يجيب كل من دعاه ، لأن إجابة المضطر أوقع وألزم حيث إنه لا
علاج له ولا ملجأ يلجأ إليه ، والمراد إجابة دعائه وكشف ضره وحاجته (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) النازل بالشخص من فقر ومرض وسجن وغيرها ، ثم إما المراد
كشف سوء المضطر ، فيكون كعطف بيان ، أو كشف مطلق الأسواء ، فيكون تأسيسا لا تأكيدا
، وهنا نكتة لا بأس بالتنبيه عليها ، وهي أن بعض الأخيار ، سلكوا هذه الجملة من
الآية سلك الختوم تفؤلا ، واتباعا لما ورد من «خذ القرآن ما شئت لما شئت» فقراءتها
من باب التعريض ، لا من باب الطلب ، حتى يقال ، إنها عدل لما يشركون ، ولا دعائية
لها ، فليست مثل (رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً) فهذا من قبيل ما لو قال أحد الكرماء : أنا الذي أطعم
الجائع ، فجاء جائع يريد إشباعه ، فإنه يقول : «أنا الذي أطعم الجائع» يريد
التعريض به حيث إن هذا الكلام صدر منه (وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي تخلفون آباءكم في ديارهم وأعمالهم ، فمن غير الله
سبحانه يهلك قرنا ويخلف قرنا آخر مكانه ، ويفني جيلا ويجعل جيلا آخر خلفا له؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك؟ كلا! ولكن (قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) أي قليل تذكركم واتعاظكم ، لأنكم لا تتفكرون ولا
تعتبرون ، و «ما» زائدة ، لتأكيد القلة.
[٦٤](أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) أي يرشدكم إلى طرقكم ومقاصدكم (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) حيث تقطعون الصحراء أو البحار في الليالي المظلمة. إنه
__________________
وَمَنْ
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى
اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ
مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
____________________________________
هو الله الذي يهديكم بما جعل للطرق من علائم بالكواكب ، والقمر ، ومهب
الرياح ، ومعالم الجبال ، وغيرها ، وإنما خصّ الظلمات بالذكر ، مع أن الهادي في
النهار هو الله أيضا ، لشدة الحاجة في الليل المظلم إلى الهادي ، وهناك يدرك
الإنسان حاجته إلى الاهتداء أكثر من إدراكه في النهار (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ) الجامعة للسحاب والمثيرة له من أطراف السماء (بُشْراً) أي لأجل البشارة (بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ) أي أمام رحمته التي هي المطر؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك بالاستقلال أو بالإشراك؟ كلا! (تَعالَى اللهُ) أي أن الله أعلى ـ وليس في الفعل معنى الماضوية ، وإنما
يفيد معنى المادة فقط ـ (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الأصنام التي يشركونها بالله ، أو تنزّه عن شركهم
، على أن «ما» مصدرية.
[٦٥](أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي ينشأ الخلق ويوجده من كتم العدم (ثُمَ) يميته ثم (يُعِيدُهُ) حيّا يوم القيامة للحساب والجزاء؟ وقسم من الكفار وإن
لم يكونوا يعترفون بالإعادة ، لكن قسما آخر منهم كاليهود والنصارى يعترفون بذلك مع
أنهم مشركون (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّماءِ) بإدرار المطر (وَالْأَرْضِ) بإنبات النبات؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك؟ (قُلْ) يا رسول الله للمشركين (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي هاتوا حجتكم على الشرك ، وإن هناك إلها مع الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
قُلْ
لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ
____________________________________
في دعواكم تعدد الآلهة وإن الأصنام شريكة لله سبحانه في الألوهية.
[٦٦](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء ، إن كان هناك شريك مع الله لزم أن
يعلم الغيب إذ لا يكون الإله جاهلا ، لكن (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي
السَّماواتِ) من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من البشر (الْغَيْبَ) الذي غاب عن الحواس (إِلَّا اللهُ) وحده ، وإنما يعلم الأنبياء والأئمة ومن إليهم بعض
الغيب بإرادة الله وتعليم الله لهم ، كما قال سبحانه (فَلا يُظْهِرُ عَلى
غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ولا منافاة بين الأمرين بأن لا يعلم الغيب أحد إلا الله
، وأن يعلم غير الله الغيب بدلالة الله ، أو يقال : إن المراد بالغيب في الآية
مطلق الغيب ـ كما هو مقتضى كون «الغيب» جنسا محلى باللام ـ وهذا لا يعلمه أحد (وَما يَشْعُرُونَ) هذه المعبودات (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أيّ وقت بعثهم ، فكيف يمكن أن يكون إلها ما لا يعلم
الغيب ، وما لا يعلم وقت بعثه؟
[٦٧] وبمناسبة
الحديث عن عدم شعور المعبودات بالآخرة ووقت بعثها يأتي الكلام حول إنكار الكفار
لها ، كما ينكرون التوحيد ، والرسالة (بَلِ) إضراب عن الكلام الماضي الذي كان يدور حول الشرك وتعدد
الآلهة إلى كلام مستأنف حول القيامة (ادَّارَكَ) أصله «تدارك» من باب «التفاعل» أدغمت «التاء» في «الدال»
وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ، والتدارك هو متابعة الشيء للشيء ، يقال
: تدارك
__________________
عِلْمُهُمْ
فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
وَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧)
لَقَدْ
وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (٦٨)
____________________________________
القوم أي تلاحقوا وجاء بعضهم إثر بعض ، والمعنى تلاحق (عِلْمُهُمْ) وتتابع (فِي) باب (الْآخِرَةِ) فانتهى علو حدودها ، وقصر عن الوصول إليها يقال هذا ما
أدركه علمي أي بلغه ولم يلج فيه فهو منتهى العلم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْها) أي من الآخرة ، فكيف يعرفوا موعدها وخصوصياتها؟ (بَلْ هُمْ مِنْها) أي من الآخرة ومعرفتها (عَمُونَ) جمع عمى ، وهو أعمى القلب لتركه التدبر والنظر ، وهذه
مراتب ثلاث متدرجة في الشدة ، فالأولى أن لا يعلمها إطلاقا ، والثانية أن يشك فيها
، والثالثة أن يكون أعمى عنها حتى لا يكون قابلا لتعلمها ، وحيث إن كل مرتبة أشد
من سابقتها صحت الرتبة والإضراب ـ وهذا هو الذي نستظهره من الآية ، والله العالم ـ.
[٦٨](وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله واليوم الآخر (أَإِذا كُنَّا
تُراباً) بأن متنا وتحولنا إلى التراب (وَآباؤُنا) كانوا ترابا (أَإِنَّا
لَمُخْرَجُونَ) من القبور للبعث والحساب؟ قالوا ذلك على وجه التعجب
والإنكار ، لأنهم أنكروا أن يتحول التراب إنسانا كما كان.
[٦٩](لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي البعث (نَحْنُ وَآباؤُنا
مِنْ قَبْلُ) فيما مضى على لسانك ولسان الأنبياء ، ولم يظهر أثر لذلك
(إِنْ هذا) أي ما هذا الوعد والإخبار بالبعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إخباراتهم الخالية
قُلْ
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ
____________________________________
عن الصحة ، جمع أسطورة ، وهي القصة الخيالية.
[٧٠](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المكذبين ، إن تماديتم في تكذيبكم
وإنكاركم أصابكم مثل ما أصاب المكذبون السابقون و (سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ) حتى تصلوا إلى بلاد الأقوام الذين أهلكوا بتكذيبهم
الأنبياء (فَانْظُرُوا) بأعينكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا وعصوا ، فإنكم ستشاهدون آثارهم الدراسة
وبلادهم الخربة ولا ترون من نسلهم أحدا.
[٧١](وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يا رسول الله كيف أنهم يعصون حتى تكون النار مصيرهم (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ) نفسي (مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي يدبرون في أمرك ، لإبطال دينك وقتلك ، فإن مكرهم
سيرد إلى نحورهم ، والحزن على المعاند مما لا ينبغي.
[٧٢](وَيَقُولُونَ) أي هؤلاء الكفار المنكرون للبعث (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي في أي زمان يكون العذاب أو بعث الأموات؟ (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون القائلون به (صادِقِينَ) بأنه يكون.
[٧٣](قُلْ) يا رسول الله (عَسى) أي لعل (أَنْ يَكُونَ) هذا الوعد بالبعث أو العذاب (رَدِفَ لَكُمْ) أي وراءكم رديفا لكم يلحقكم عن قريب ، من الرديف الذي
هو الإنسان الراكب على دابة ردف الآخر وخلفه
بَعْضُ
الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ
____________________________________
(بَعْضُ الَّذِي
تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب والبعث.
[٧٤](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ) ومن فضله أنه يؤخّر عذاب هؤلاء ، لعلهم يرجعون ويندمون
فلا يلاقوا العذاب والمهانة (وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَشْكُرُونَ) نعمه وفضله.
[٧٥](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَيَعْلَمُ ما
تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي ما تخفيه صدورهم من الكفر والمكر والرذيلة (وَما يُعْلِنُونَ) من أنواع الشرك والمعاصي ، ومع ذلك يتفضل عليهم
ويمهلهم.
[٧٦] وليس علمه
سبحانه خاصا بما يفعله هؤلاء من الأسرار والإعلان بل (وَما مِنْ غائِبَةٍ) أي خصلة ، أو عين غائبة عن الحواس (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي
كِتابٍ مُبِينٍ) أي كتاب ظاهر لدينا ، فإنّا نعلم كل شيء غاب عن الحواس.
[٧٧] ثم عطف السياق
ـ بعد الألوهية والمعاد ـ إلى ذكر القرآن فقال سبحانه (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى
بَنِي إِسْرائِيلَ) وتخصيصهم بالذكر هنا ، لأن هذه السورة تعرضت إلى ذكر
جملة من قصصهم كقصة سليمان
أَكْثَرَ
الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ
____________________________________
وموسى وداود عليهمالسلام ومعنى القصة نقل الخبر (أَكْثَرَ الَّذِي
هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من القصص والأحكام ، فقد حرفت كتبهم ولذا اختلفوا في
القصص ، والقرآن يبين الحق الواقع ، ولذا ورد في وصفه قوله (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).
[٧٨](وَإِنَّهُ)
أي القرآن (لَهُدىً)
هداية ترشد الطريق الذي يوجب سعادة الإنسان في دنياه وعقباه (وَرَحْمَةٌ)
أي سببا لتفضل الله على البشر ورحمته بهم (لِلْمُؤْمِنِينَ)
وإنما خصتهم ، لأنهم هم المنتفعون به الفائزون بجزاء عمله على طبقه.
[٧٩](إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين المختلفين من بني إسرائيل في قصص الأنبياء عليهمالسلام وجهات المبدأ ومزايا المعاد (بِحُكْمِهِ) أي على طبق حكمه الواقعي ، لا على ما في كتبهم المحرفة
، والمراد القضاء بينهم يوم القيامة ليجزي كلّا حسب ما عمل ، كما يقول الحاكم :
سأفصل بينكم ، يريد الفصل مع الجزاء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره فيفعل ما يشاء (الْعَلِيمُ) بما فعل كل أحد ، فيكون الجزاء طبق العمل بلا زيادة أو
نقصان.
[٨٠] وإذ كان
الله سبحانه عزيزا عليما (فَتَوَكَّلْ) يا رسول الله (عَلَى اللهِ) وفوض أمورك إليه ، فإنه غالب عالم (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ
__________________
الْمُبِينِ
(٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا
تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ (٨١)
____________________________________
الْمُبِينِ) أي الواضح ، إنك على الحق ، وتحت سيطرة إله غالب فلا
يتمكن أحد من السوء بك ، عالم فيجازيك بما لقيت من الأتعاب في سبيل التبليغ.
[٨١] أما هؤلاء
الذين يعاندون ، فلا تغتم لهم ، ولا يلقون اليأس في نفسك ، فإنهم كالأموات وكالأصم
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى) أي سماعا نافعا ، فإن الميت لا يتحرك ولا يتجه حسب ما
وجهه الإنسان وهؤلاء المعاندون كالأموات في عدم تأثير الكلام فيهم و «موتى» جمع
ميت (وَلا تُسْمِعُ
الصُّمَ) جمع «أصم» وهو الفاقد لحاسة السمع (الدُّعاءَ) أي الدعوة والكلام الذي تناديه به (إِذا وَلَّوْا) أي أعرضوا عنك (مُدْبِرِينَ) أي بحيث كان دبرهم نحو الإنسان ، وهذا للمبالغة في عدم
السماع ، فإنه لا مطمع في إفهام الأصم المدبر ، وإن كان كل أصم لا يسمع الكلام
وإنما لو كان وجهه مقابلا أمكن إفهامه وإلّا لم يمكن.
[٨٢](وَما أَنْتَ) يا رسول الله (بِهادِي الْعُمْيِ) أي لا يمكنك يا رسول الله أن تهدي الأعمى من هؤلاء
والمراد المعاند الأعمى القلب ، شبّه بالأعمى بصرا الذي لا يهتدي إلى الطريق ، إذ
درك المعارف يتوقف على بصر القلب ، كما أن درك الطريق يتوقف على بصر العين (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) بأن تصرفهم عن ضلالتهم وانحرافهم إلى طريق الرشاد ، (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما تسمع سماعا مفيدا (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ
بِآياتِنا) أي ليس معاندا إذا سمع الحق قلبه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي يسلمون أنفسهم لله
وَإِذا
وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
____________________________________
والدين وينقادون لأوامرك.
[٨٣] ومن
علامات الساعة التي كان الكفار يكذبون بها إن الله سبحانه يظهر للناس «دابة» أي
حيوانا مهولا يكلم الناس بلسان يفهمونه ولعل هذا من أهوال الساعة (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وجب العذاب لهم ، وثبت وقت ما قلنا من أنهم يعذبون (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ
الْأَرْضِ) ، وهل المراد بالإخراج أنها تخرج من الأرض كما يخرج النبات
منها ، أو المراد به ظهورها؟ ولفظة «من الأرض» في مقابل من السماء ، وقد ورد في
بعض الروايات ، إن المراد بدابة الأرض حيوان مدهش ، كما ورد في روايات أخرى إن المراد بها الإمام المرتضى
عليهالسلام ـ والدابة تطلق على كل ما يدب على وجه الأرض ـ كما أن خروج الدابة في بعض
الروايات من أشراط الساعة ، وفي بعضها من علائم ظهور المهدي عليهالسلام ولا منافاة بين الأمرين ، في الموضعين ، لتعدد الدابة
وكون كل واحدة مصداقا ، ولكون ظهور المهدي «عجل الله فرجه الشريف» أيضا من أشراط
الساعة ، بل بعثة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أيضا ، من علائم الساعة (تُكَلِّمُهُمْ) أي تتكلم تلك الدابة مع الناس ، ومن كلامها معهم (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا
يُوقِنُونَ) أي بأدلتنا الدالة على وجودنا وسائر شؤوننا ، وقد لاءمت
هذه الآية جو السورة التي تعالج العقيدة ، كما لاءمت مع تكلم الحيوانات والجن مع
البشر ، في قصة الهدهد ،
__________________
وَيَوْمَ
نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ
(٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ
بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
____________________________________
والنملة ، وعفريت الجن ، وهاهنا دابة تتكلم.
[٨٤](وَ) اذكر يا رسول الله لهؤلاء (يَوْمَ نَحْشُرُ) أي نجمع (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) ، وإذ تقدم بعض علائم القيامة من خروج دابة الأرض ، جاء
السياق ليتم مشهد القيامة ، وجاء ذكر المكذبين فقط لأنهم محل الكلام ومحور البحث
في تكذيب المعاد ، فلننظر ماذا يكون مصيرهم؟ وقوله «ممن» بيان «فوجا» أي نجمع من
كل أمة فوجا هم من الذين يكذبون بالآيات (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبسون ، حتى يجتمعوا جميعا من «وزع» بمعنى «حبس»
فإن أول الفوج يحبسون لآخر الفوج ، حتى يجتمع الجميع.
[٨٥](حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف الحساب (قالَ) الله تعالى لهم (أَكَذَّبْتُمْ
بِآياتِي وَ) الحال أنكم (لَمْ تُحِيطُوا بِها
عِلْماً)؟ أي كيف كذبتم وليس لكم علم بكذبها؟ وحيث إن المقام
مقام أن يكذب الكفار قائلين لم نكذب بها ، يأتي السياق ليقول لهم ثانيا ـ سادّا
عليهم طريق الإنكار ـ (أَمَّا ذا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ)؟ إن لم تكونوا كذبتم بالآيات فما ذا كان عملكم؟ لكنهم
لا يقدرون أن يقولوا كنا نعمل صالحا ، وبهذا ينقطعوا عن الجواب ، ولا يتمكنون من
الإنكار.
[٨٦](وَوَقَعَ الْقَوْلُ) أي ثبت القول الذي قلنا : إنهم يعذبون جزاء كفرهم (عَلَيْهِمْ) فالعذاب يأخذهم بعد ذلك الحوار
بِما
ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥)
أَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي
____________________________________
(بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم (فَهُمْ لا
يَنْطِقُونَ) في هذا الموقف ، وإن نطقوا في المواقف الأخر ، وفي جملة
من الأحاديث تفسير «يوم نحشر» ـ إلى آخره ـ بزمان ظهور المهدي عليهالسلام ، وذلك من باب المصداق ، فإن اللفظ عام مستعمل في
الأمرين ، القيامة ، وظهور الإمام عليهالسلام وإن لم نقل بالعموم والمصداق ، نقول إنه من باب البطن ،
أو من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى وذلك جائز لدى وجود القرينة ، والقرينة
هي الروايات المفسرة.
[٨٧](أَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء المنكرون للمبدأ والمعاد ، آياتنا الدالة على
وجودنا ، والتي تدل على إله عليم حكيم ، وتدل على القدرة الكاملة ، التي لا يمتنع
لديها إحياء الأموات؟ (أَنَّا جَعَلْنَا
اللَّيْلَ) أي أوجدناه (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) عن الحركة والتعب (وَ) جعلنا (النَّهارَ مُبْصِراً) أي موجبا لبصر الإنسان ، وهو من المجاز بنسبة ما للحال
إلى الزمان ، نحو «يا سارق الليلة» ، كما أن جري النهر ، من نسبة ما للحال إلى
المكان (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر (لَآياتٍ) دلالات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم يستدلون منها على وجود الله العليم القدير ،
والاختصاص بهم لأنهم هم الذي يستدلون ، أما غيرهم ، فإنهم معرضون غافلون.
[٨٨](وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ) هو البوق الذي يشبه قرن الحيوان ينفخ فيه إسرافيل عليهالسلام لإحياء الأموات (فَفَزِعَ مَنْ فِي
السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)
وَتَرَى
الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها
____________________________________
السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي خافوا جميعا من هول قيام الساعة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أن لا يفزع وهم بعض الأنبياء وبعض الملائكة (وَكُلٌ) من الأموات الذين أحيوا من النفخ (أَتَوْهُ) أي يأتون المحشر ، أو يأتون الله سبحانه ـ والمراد من
إتيان الله الإتيان إلى الموضع المعد لهم ، نحو إني ذاهب إلى ربي ـ (داخِرِينَ) أي أذلاء صاغرين ، من دخر بمعنى ذل.
[٨٩](وَتَرَى الْجِبالَ) أيها الرائي ، في ذلك اليوم ، في حال كونك (تَحْسَبُها) وتظنها (جامِدَةً) في مكانها ، كالسابق ، واقفة غير متحركة ، والحال أنها (وَهِيَ تَمُرُّ) وتسير (مَرَّ السَّحابِ) أي مثل مرور السحاب سيرا حثيثا سريعا ، وقد صار الكل
كالقطن المندوف ، إن قلع الجبال وتسييرها إنما هو (صُنْعَ اللهِ) منصوب على المصدر أي صنع الله ذلك صنعا (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فأتقن أهوال المعاد بقلع الجبال وتسييرها ، كما أحيى
الأموات وجعلهم هائمين يسيرون في فزع وخوف (إِنَّهُ خَبِيرٌ) أي عالم (بِما تَفْعَلُونَ) فيجازيكم عليها.
[٩٠](مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) المراد بها الجنس وهو الإيمان والعمل الصالح ، نحو (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) فإن المراد بهما الجنس أيضا (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي يضاعف ثوابها عشرة أضعاف أو أكثر
وَهُمْ
مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩)
وَمَنْ
جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ
____________________________________
(وَهُمْ) أي الذين جاءوا بالحسنة (مِنْ فَزَعٍ) وخوف (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (آمِنُونَ) فلا يفزع المؤمن حيث يفزع الناس.
[٩١](وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) والمراد السيئة الكاملة التي لا حسنة معها ، وهي الكفر
والمعاصي ، حتى صحّ أن يقال : إنه جاء بالسيئة (فَكُبَّتْ) الكب هو الإلقاء منكوسا (وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ) أي ألقوا على وجوههم في النار ، ويقال لهم (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ)؟ استفهام في معنى النفي ، أي ليس هذا إلا جزاء أعمالكم
من الكفر والعصيان.
[٩٢] قل يا
رسول الله لهؤلاء الكفار بعد تهديدهم بالعذاب (إِنَّما أُمِرْتُ) أنا بأمر الله سبحانه (أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ
هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي رب مكة ، لا الأصنام التي نحتّموها بأيديكم (الَّذِي حَرَّمَها) أي الله الذي حرم هذه البلدة بأن جعلها محترمة لا يحل
فيها القتال ، أو الدخول بدون الإحرام ، أو الإتيان ببعض الأعمال كتنفير الصيد
وقلع الشجر ونحوهما (وَلَهُ) أي لله (كُلُّ شَيْءٍ) بيده (وَأُمِرْتُ) من قبله سبحانه (أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) وهذا لا يدل على عدم كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم مسلما فيما قبل ، إذ الأمر قد يكون للابتداء ، وقد يكون
للاستدامة نحو : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ).
[٩٣](وَ) أمرت (أَنْ أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ) أقرأه على مسامعكم وأدعوكم لما فيه
فَمَنِ
اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (٩٣)
____________________________________
(فَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق وعمل بما فيه (فَإِنَّما يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ) فإن فائدة هدايته تعود إلى نفسه حيث تسعد في الدنيا
والآخرة (وَمَنْ ضَلَ) عن القرآن وانحرف عن أحكامه وأوامره (فَقُلْ) له يا رسول الله إن ضلالك لا يعود إليّ ف (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الذين يخوّفون من عذاب الله ، وقد خوفتك ، فعدم عملك
إنما يعود سيئه عليك.
[٩٤](وَقُلِ) يا رسول الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي هداني وجعلني منذرا (سَيُرِيكُمْ) أيها الناس (آياتِهِ) بإلفاتكم إليها ، أو إيجادها لترونها (فَتَعْرِفُونَها) بأنها آيات الله والأدلة على وجوده وسائر شؤونه (وَما رَبُّكَ) يا رسول الله (بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) أيها الناس ، وفي هذا التفات من المخاطب إلى غيره من
سائر الناس لأن «كاف» تعود إلى الرسول و «تعملون» إلى الناس.
(٢٨)
سورة القصص
مكيّة / آياتها (٨٩)
سميت السورة
بهذا لاسم لاشتمالها على قصص موسى عليهالسلام مع فرعون ، وشعيب عليهالسلام وقارون وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة
ولما ختمت سورة النمل بتلاوة الرسول للقرآن ، جاءت هذه السورة مفتتحة بتلاوة بعض
قصص القرآن ، وهي قصة موسى وفرعون.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الذي يستعان به في كل حاجة ، وهو
الرحمن المتفضل بالرحم ، الرحيم الذي يرحم العباد ، بل كل شيء ، كما قال سبحانه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فإن الرحم هو التفضل ، وقد تفضل سبحانه على الأشياء حيث
خلقها من غير استحقاق وإن كان فضله على الإنسان أكثر حيث إنه كلما زيدت النعم زيد
الفضل.
__________________
طسم
(١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ
مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)
إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ
____________________________________
[٢](طسم) «طاء» و «سين» و «ميم».
[٣](تِلْكَ) أي من هذه الحروف الهجائية التي تركبون منها كلماتكم
أيها العرب العاجزون عن الإتيان بمثل القرآن (آياتُ الْكِتابِ
الْمُبِينِ) أي الظاهر الواضح الذي لا غموض فيه ، فإن الكتاب قد
يكون سريا ، غير واضح ، وقد يكون غامضا غير ظاهر المعنى والمراد ، وقد يكون غير
معلوم الانتساب ، وكل ذلك مفقود في القرآن الحكيم ، وفي مقطعات السور ، وإعرابها
أقوال أخر تقدم بعضها.
[٤](نَتْلُوا) أي نقرأ (عَلَيْكَ) يا رسول الله (مِنْ نَبَإِ) أي خبر (مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي بعض أطراف خبرهما ، ولذا دخلت «من» (بِالْحَقِ) أي بالصدق ، فإن خبر الله سبحانه عنهما حق لا كذب فيه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي أن ما نتلو عليك إنما هو لقوم مؤمنين أما غيرهم فلا
يعتبرون بالقرآن ، ولا يصدقون ما فيه من القصص والأحكام.
[٥](إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا) أي ترفع وتكبر (فِي الْأَرْضِ) والمراد بها أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها) أهل أرض مصر (شِيَعاً) أي طوائف ، جمع شيعة ، وهي الطائفة التي تتبع مسلكا
خاصا ، من شايعه إذا تابعه ، وهذا دأب الطغاة دائما ، إذ لو لم يجعلوا الناس طوائف
متناحرة ، حتى يشتغل بعضهم ببعض ، خافوا من أن يتحدوا ضدهم في حال كونه (يَسْتَضْعِفُ
طائِفَةً
مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ
____________________________________
طائِفَةً
مِنْهُمْ) والمراد بهم بني إسرائيل ، فقد كان بعضهم ضعيفا في مصر
، ولذا يؤذيهم ويسخرهم في الأعمال الشاقة ، ويفعل بهم ما ذكره سبحانه (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) إنما جيء من باب التفعيل للدلالة على التكثير ، فإن هذا
الباب يدل على ذلك ، فإن فرعون كان يكثر القتل في أبناء إسرائيل ، حينما سمع بأن
زوال ملكه على يد رجل منهم يولد في ملكه ، فقد وكّل بكل حامل إسرائيلية قابلة حتى
إذا ولدت أخبرت الجلادين فيأتون ويقتلون الولد (وَيَسْتَحْيِي
نِساءَهُمْ) أي يبقيهن أحياء ، كأنه يطلب حياتهن لاستخدامهن في
البيوت (إِنَّهُ) أي فرعون (كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ) الذين يفسدون في الأرض بالكفر والمعاصي والظلم.
[٦] إن فرعون
كان يريد إهلاك بني إسرائيل وإفنائهم (وَنُرِيدُ) نحن بعكس ذلك ، وجيء بفعل المضارع لأنه حكاية عن ذلك
الوقت (أَنْ نَمُنَّ عَلَى
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي نمن على بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) في الحق ، بأن يكونوا مقتدى الناس وملوكهم (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لفرعون بأن يرثوا الأرض ، ويكونوا خلفا لهم.
[٧](وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي نجعل بني إسرائيل قادرين على أن
وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
وَأَوْحَيْنا
إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ
____________________________________
يتصرفوا في أرضي كيفما شاءوا (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ) وزيره (وَجُنُودَهُما) من سائر الذين تعاونوا معهما على إيذاء بني إسرائيل (مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي من طرف بني إسرائيل وعلى أيديهم ، ما كانوا يخافون
من الإفناء والإبادة ، وقد أصدق الله وعده فأهلك فرعون وهامان وجنودهما ، وجعل بني
إسرائيل ملوك الدنيا وسادتها ، وبعث فيهم الأنبياء.
وقد ورد في
جملة من الأحاديث تطبيق الآيتين الكريمتين على الشيعة والأئمة عليهمالسلام ، وأعدائهم ، وهذا مما لا مجال للشك فيه ، فإن آيات القرآن الحكيم
دائما مدى الدهر ، تجري في اللاحقين كما جرت في السابقين ، كما دل على ذلك العقل ،
وورد به روايات كثيرة.
[٨] ثم بين
سبحانه كيف نصر بني إسرائيل وكيف أهلك فرعون وجنوده (وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى) والإيحاء هو الإلقاء في القلب ، ونحوه قوله سبحانه (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً) وقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) (أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي أعطيه اللبن في الفترة التي لم تخافي على موسى (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من القتل ، وفي بعض التفاسير ، المراد بذلك أن ذلك إذا
أظهر الصوت (فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِ) أي اطرحيه في البحر ، بجعله في
__________________
وَلا
تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨)
____________________________________
صندوق وإلقائه فيه (وَلا تَخافِي) عليه الغرق والهلاك (وَلا تَحْزَنِي) لمفارقته (إِنَّا رَادُّوهُ) أي نرد موسى (إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ) أي نجعله فيما بعد (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال في المجمع : وفي هذه الآية أمران ونهيان وخبران
وبشارتان ، وحكي إن بعضهم سمع بدرية تنشد أبياتا فقال لها ما أفصحك؟ فقالت الفصاحة
لله تعالى وذكرت هذه الآية وما فيها .
[٩] فولدت أم
موسى بموسى عليهالسلام ، وجعلته في صندوق وألقته في البحر ، وقالت لأخت موسى
اذهبي في أثره حتى ترين ماذا يصنع به ، وجاء الصندوق تحمله الأمواج حتى ألقته في
شط يمر بدار فرعون ، (فَالْتَقَطَهُ) أي أخذه (آلُ فِرْعَوْنَ) أي حاشيته (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً) هذه «اللام» تسمى لام العاقبة ، لأنها بمعنى «كي تكون
العاقبة» وليست للعلة ، نحو قوله «للقتل ما ولدوا للنهب ما جمعوا» أي كانت عاقبة
الالتقاط أن يكون موسى لهم عدوا ، وموجبا للحزن ، لما كان الكلام موهما تعدي موسى
عليهم ، قال سبحانه (إِنَّ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما) الذين تصافقوا على إذلال بني إسرائيل (كانُوا خاطِئِينَ) قد أخطئوا حيث اختاروا الكفر والعصيان ، على الإطاعة
والإيمان ، ولهذه الخطأ صار موسى عدوا لهم ، وأهلكهم الله سبحانه.
__________________
وَقالَتِ
امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ
يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ
____________________________________
[١٠] ولما جيء
بموسى من الصندوق إلى فرعون وكان جالسا مع زوجته «آسية» أمر بفتح الصندوق ، وإذ ما
رأيا فيه غلاما ألقى الله محبته في قلبهما ، كما قال سبحانه (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) ثم أراد فرعون قتله لأنه علم أنه إسرائيلي ، ولكن «آسية»
حالت دون ذلك (وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ) أيها الملك إنه (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي
وَلَكَ) أي يوجب هذا الولد قرار عيوننا ، فإن الإنسان المسرور
تقر عينه في مكانها ، فلا تطير هنا وهناك طالبة المفزع والملجأ ، بخلاف الإنسان
الواله والخائف ، ولم يكن لهما ولد ولذا طمعت في أن يكون موسى كالولد لهما. (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي لعله ينفعنا في المستقبل ، بأن نستخدمه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نجعله بمنزلة ولدنا (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) إن هلاكهم على يده ، وقد روي عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إنه لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته
لهداه الله به كما هداها.
[١١] فلنرجع
إلى أم موسى كيف صنعت بعد ما ألقت طفلها في البحر (وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي خاليا من الاتزان كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ،
لما دهمتهما من المصيبة والغم بفقد ولدها ، كيف ألقت به في اليم؟ وكيف صنعت به هذا
الصنع العجيب؟ وهل الولد في حضن الأم يخشى عليه ، أما في اليم فلا يخشى عليه؟ (إِنْ كادَتْ
__________________
لَتُبْدِي
بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ
قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
____________________________________
لَتُبْدِي
بِهِ)
و «إن» مخففة ،
واسمها محذوف ، أي أنها ـ والمراد أم موسى ـ كادت وقربت أن تظهر للمجتمع قصة ابنها
، كما هو شأن النساء ، إذا فجعن بفقد عزيز ينقلن الأمر للناس ، ليجدن من يساعدهن
في الغم والمصيبة (لَوْ لا أَنْ
رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بأن حفظناه حتى لا يظهر ما فيه من الهم والألم ، ولا
تنتقل القصة إلى اللسان لتذيعه في الناس ، وقد شبه قلبها بشيء لا يستقر ، فإذا ربط
عليه برباط ، استقر ولم يتحرك (لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) فإن إخبارها كان خلاف تصديقها بوعد الله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) فربطنا على قلبها ، لتكون من المصدقين بوعدنا ، فإن ربط
القلب بالثبات والصبر كان سببا لإيمانها ، وإلا فلو اضطرب قلبها وأبدى ما فيه لم
تكون مصدقة بالوعد.
[١٢](وَقالَتْ) الأم (لِأُخْتِهِ) أي أخت موسى ، وكانت صغيرة (قُصِّيهِ) أي اتبعي أثر موسى لنرى ماذا يصنع به البحر؟ من قص إذا
اتبع الأثر ، ومنه سميت القصة قصة ، لأنها تتبع المقصوص عنهم ، وجاءت الأخت حتى
دخلت دار فرعون ، وكان كبلاط الملوك في السابق يدخل فيها كل أحد (فَبَصُرَتْ) الأخت (بِهِ) أي بموسى (عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد ، فإنها لم تدن ، لئلا تعرف (وَهُمْ) أي فرعون وأهله (لا يَشْعُرُونَ) بأنها أخت موسى ، وجاءت لاستقاء الأخبار.
[١٣] ولما كان
موسى طفلا ، لم يصبر عن الثدي ، وأخذ يطلب اللبن ، فأمر فرعون بأن تؤجر له مرضعة ،
وجاءت النساء لتحوز هذا الفخر ولكن
وَحَرَّمْنا
عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢)
فَرَدَدْناهُ
إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ
اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
____________________________________
موسى أبى أن يقبل ثدي امرأة إطلاقا (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ) جمع مرضعة ، أي منعنا موسى عن الارتضاع من ثديهن ، فلم
يكن يميل إليهن ، بل تأبى نفسه من الارتضاع منهن (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن يؤتى بهن ، وذلك بجعل نفسه أبيّة عنها.
(فَقالَتْ) الأخت وكانت تشاهد القصة (هَلْ أَدُلُّكُمْ) أرشدكم (عَلى أَهْلِ بَيْتٍ) عائلة (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) يقبلون أن يرضعوا موسى ويقوموا بخدماته لأجلكم (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي تلك العائلة ناصحة لموسى لا تدّخر جهدا في القيام
بخدماته؟
[١٤] وقد قبل
فرعون ذلك وذهبت الأخت إلى الأم وحكت لها القصة وجاءت الأم إلى بيت فرعون ولما
أرضعت موسى قبل موسى الثدي بكل إصرار وشوق وسر فرعون وأهله بقبول موسى (فَرَدَدْناهُ) أي أرجعنا موسى (إِلى أُمِّهِ) حسب ما وعدناها (إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ)(كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُها) أي لأجل أن تسر وتفرح فتقر عينها عن الحركة والاضطراب ـ
كما تقدم ـ (وَلا تَحْزَنَ) عليه في مقابل ما سبق منها حيث قال سبحانه (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً)(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فقد وفي سبحانه بوعده حيث أرجع إليها ابنها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَعْلَمُونَ) أن وعد الله حق ، ويظنون أن مواعيده تخلف ، وليس
وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ
____________________________________
هكذا ، فإن الله سبحانه لا يخلف الميعاد.
[١٥] وكبر موسى
عليهالسلام في بيت فرعون يختلف إلى أمه فتفرح به (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وقد ورد عن الصادق عليهالسلام : إن المراد بلوغه ثمانية عشر سنة (وَاسْتَوى) أي اعتدل قوامه (آتَيْناهُ) أي أعطيناه (حُكْماً) بأن يحكم الناس ، فإن منصب الحكم خاص بالله سبحانه لا
يجوز لأحد أن يستقل به إلا بإذنه سبحانه (وَعِلْماً) أي علمناه علم الأشياء مما يليق بمقام النبوة (وَكَذلِكَ) أي وكما جازينا موسى لصلاحه بهذا المنصب الخطير كذلك (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في عقيدتهم وعملهم ، بإعطائهم أجورهم.
[١٦](وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي مدينة من مدائن مصر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ
مِنْ أَهْلِها) أي في وقت غفلة الناس عن تتبع الأمور وقد ورد أنه كان
بين المغرب والعشاء ، فإن في هذه الساعة حيث يسدل الظلام ستاره والناس من حال إلى
حال يكونون غافلين ، غير ملتفتين إلى ما يقع (فَوَجَدَ) موسى عليهالسلام (فِيها) أي في تلك المدينة (رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ) أي يختصمان ، ولعل المراد القسم الخاص من الاختصام ،
وهو ما يؤدي إلى القتل (هذا) أي أحدهما (مِنْ شِيعَتِهِ) شيعة موسى ، وقد كان إسرائيليا (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي من جملة أعدائه ـ والمراد بالعدو
__________________
فَاسْتَغاثَهُ
الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى
عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ
____________________________________
الجنس ـ فإنه كان قبطيا (فَاسْتَغاثَهُ) أي استغاث واستجار بموسى (الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ) وهو الإسرائيلي (عَلَى الَّذِي مِنْ
عَدُوِّهِ) بأن ينصره عليه ويعينه (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي دفع القبطي بالوكز وهو اللكم ، بجمع الكف (فَقَضى) موسى (عَلَيْهِ) أي أهلكه وأماته ، ثم (قالَ) موسى عليهالسلام غاضبا على القبطي المقتول (هذا) الاختصام منه للإسرائيلي (مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ) فإنه هو الذي أمره بالاختصام فيما لم يكن له الحق ، حتى
يؤدي به إلى هذه الحالة (إِنَّهُ) أي الشيطان (عَدُوٌّ) للإنسان (مُضِلٌّ مُبِينٌ) واضح العداء والإضلال ، وقد أضل القبطي حتى سبب له
القتل.
[١٧] ولما قتل
القبطي خاف من مكر فرعون وأن يقتص منه ، ولذا تضرع إلى الله سبحانه في أن يستر له
هذا الأمر حتى لا يؤخذ به عند فرعون (قالَ) موسى عليهالسلام ، مناجيا ، يا (رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي) والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، ومنه يسمى التعدي
ظلما ، إذ هو أن يعمل الإنسان ما لا ينبغي ، والمعنى إني وضعت نفسي في غير موضعها
حيث جئت إلى هذه المدينة التي سببت لي هذه المشكلة (فَاغْفِرْ لِي) الغفران هو الستر ، ومنه تسمى المغفرة مغفرة لأنها تستر
الذنب ، والمعنى فاسترني من كيد فرعون (فَغَفَرَ) الله (لَهُ) بأن ستره عن كيد فرعون ، وإن اطلع عليه ، لكنه لم يتمكن
أن يقتص منه (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ
الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
____________________________________
الْغَفُورُ) الساتر كثيرا (الرَّحِيمُ) الذي يرحم الناس ويتفضل عليهم.
[١٨] وهناك شكى
موسى ربه و (قالَ) يا (رَبِّ بِما
أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي بما تفضلت علي من القوة حتى تمكنت من قتل بعض أعدائك
(فَلَنْ أَكُونَ
ظَهِيراً) وناصرا (لِلْمُجْرِمِينَ) وإنما سمي الناصر ظهيرا لأنه يأخذ ظهره في مقابل الأعداء
والمعنى أني أشكر نعمة قوتك لي بأن لا أصرفها في مناصرة المجرمين.
[١٩] وشاع قتل
موسى للقبطي (فَأَصْبَحَ) موسى (فِي الْمَدِينَةِ) التي قتل فيها القبطي (خائِفاً) من كيد فرعون (يَتَرَقَّبُ) أي ينتظر الأخبار حتى يعرف إلى أي مدى أثر هذا القتل ،
وماذا يفعله القوم من عقاب موسى ، ومرّ على مكان في المدينة (فَإِذَا) به يرى (الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ) أي الاسرائيلي الذي طلب نصرة موسى (بِالْأَمْسِ) في حين كان يختصم مع القبطي (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يطلب من موسى أن ينصره على قبطي آخر تخاصم معه ،
والمعنى أن الاسرائيلي يختصم مع شخص آخر ويطلب من موسى أن ينصره على عدوه كما نصره
بالأمس على ذلك القبطي المقتول (قالَ لَهُ) أي للاسرائيلي (مُوسى) عليهالسلام محذرا له عن المخاصمة مع القبط الذين هم من الكثرة
بمكان (إِنَّكَ) أيها الاسرائيلي (لَغَوِيٌ) أي ظاهر الغواية والخسران إذ من يقاتل كل يوم قبطيا في
حكومتهم يخسر ـ بالآخرة ـ ويقع في كيدهم ، والغواية كما تطلق على العاصي لأنه خسر
الآخرة ، كذلك تطلق على من يأتي بما
مُبِينٌ
(١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ
بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما
قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي
الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ
____________________________________
لا يحمد عقباه ، لأنه يخسر الدنيا (مُبِينٌ) أي ظاهر الغواية.
[٢٠] واستعد
موسى لتلبية الطلب وأن ينصر الاسرائيلي على القبطي (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ) موسى عليهالسلام (أَنْ يَبْطِشَ) بالضرب (بِالَّذِي هُوَ
عَدُوٌّ لَهُما) أي بالقبطي الذي هو عدو لموسى وللاسرائيلي ، ظن الاسرائيلي
أن موسى يريد أن يبطش به ، لا بالقبطي ، حيث سبق منه أن قال «إنك لغوي» (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) حيث قتلت ذلك القبطي؟ قاله على نحو الاستفهام الإنكاري
، ومن المحتمل إن هذا قول القبطي حيث اشتهر الخبر وعرف أن موسى هو قاتل القبطي (إِنْ تُرِيدُ) أي ما تريد (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً) وهو الظالم ، وسمي جبارا ، لأنه يجبر الناس على المكروه
(فِي الْأَرْضِ) كأن الإتيان بهذا اللفظ هنا لزيادة التشنيع ، فليس
جبارا في مدينة ، أو محل خاص ، وإنما جبارا في الأرض (وَما تُرِيدُ أَنْ
تَكُونَ) يا موسى (مِنَ الْمُصْلِحِينَ) الذين يصلحون بين الناس ، وهذا تأكيد للجملة السابقة ،
فتلك عقد إيجابي وهذا عقد سلبي.
[٢١] وإذ قد
انتشر خبر قتل موسى رجلا من القبط ائتمر فرعون برجاله وقرروا قتل موسى قصاصا لما
فعل (وَجاءَ رَجُلٌ)
قد ورد أنه كان
خازن فرعون وكان مؤمنا بموسى يكتم إيمانه تقية (مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ)
يَسْعى
قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي
لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
فَخَرَجَ
مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)
____________________________________
أي آخرها (يَسْعى) أي يسرع ليصل إلى موسى لئلّا يلحقه القبض قبل إعلامه
بالواقعة (قالَ يا مُوسى إِنَّ
الْمَلَأَ) أي الأشراف ، وهم فرعون وحاشيته (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي يتشاورون فيك ، ويأمر بعضهم بعضا (لِيَقْتُلُوكَ) قصاصا (فَاخْرُجْ) من هذه المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ) وكأن الله سبحانه شاء ذلك لموسى حتى ينضج ، فإن الرئيس
يحتاج إلى أكبر قدر من النضج حتى يتمكن من إدارة الأمة.
[٢٢](فَخَرَجَ) موسى عليهالسلام (مِنْها) من مصر (خائِفاً) عن أن يلحقه الطلب (يَتَرَقَّبُ) خلفه هل يأتي ورائه أحد أم لا ، من المراقبة وهي ملاحظة
الأمر لئلا يقع ما يحذره الإنسان (قالَ) ضارعا إلى الله سبحانه يا (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، وهم فرعون وآله.
[٢٣](وَلَمَّا تَوَجَّهَ) موسى عليهالسلام (تِلْقاءَ) أي حذاء ومقابل (مَدْيَنَ) أي صرف وجهه نحو «مدين» شعيب وهي مدينة سميت باسم أول
من مدّنها وهو «مدين بن إبراهيم» ولم تكن تلك المدينة تحت سلطان فرعون وكان بينها
وبين مصر ثلاثة أيام ـ كما ورد ـ (قالَ عَسى رَبِّي) أي لعل الله سبحانه (أَنْ يَهْدِيَنِي) ويرشدني (سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق المستوي الموصل إلى المقصد ، بأن لا أضل حيث
المتاهة
وَلَمَّا
وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ
مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣)
فَسَقى
لَهُما
____________________________________
والهلاك ، وكان هذا دعاء منه بلفظ الخبر.
[٢٤] وطوي
الليل والنهار حتى اقترب من المدينة (وَلَمَّا وَرَدَ) وصل موسى عليهالسلام (ماءَ مَدْيَنَ) بئر كانت لهم يستقون منها أنعامهم ومواشيهم (وَجَدَ عَلَيْهِ) أي على الماء (أُمَّةً) جماعة (مِنَ النَّاسِ
يَسْقُونَ) أنعامهم ومواشيهم ، وحذف مفعول السقي لأنه لا حاجة إليه
في موضوع الكلام (وَوَجَدَ) موسى عليهالسلام (مِنْ دُونِهِمُ) أي من خلفهم (امْرَأَتَيْنِ
تَذُودانِ) ذاد بمعنى منع ، أي تمنعان أغنامهما عن الورود على
الحوض فقد كرهتا الاشتراك مع الرجال ، وأن تختلط مواشيهما بمواشي القوم ، فكانتا
تنتظران أن يذهب القوم ثم تسقيان الأغنام (قالَ) موسى عليهالسلام لهما (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما وما العلة في عدم إسقاء أغنامكما مع القوم؟
(قالَتا لا نَسْقِي) عند المزاحمة مع الرجال (حَتَّى يُصْدِرَ) من أصدر إذا رجعت عن الماء ماشيتهم (الرِّعاءُ) جمع راع ، وهو الذي يرعى الماشية ، أي ننتظر حتى يرجع
الرعاة مواشيهم ، فيبقى فضول الماء في الحوض ، فنسقي أغنامنا ، ثم اعتذرتا عن
إتيانهما وهما امرأتان قائلتين (وَأَبُونا شَيْخٌ
كَبِيرٌ) لا يطيق أن يخرج ويتولى السقي بنفسه ، ولذا نحن نقوم
مقامه.
[٢٥](فَسَقى) موسى عليهالسلام الغنم (لَهُما) أي لأجلهما ، بأن ساق الغنم
ثُمَّ
تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى
اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ
الْقَوْمِ
____________________________________
حتى شربت من الحوض ، مع مواشي الناس (ثُمَّ تَوَلَّى) أي أعرض ورجع (إِلَى الظِّلِ) من حر الشمس ، وجلس تحته وهو متعب جائع (فَقالَ) يا (رَبِّ إِنِّي لِما
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي إني فقير محتاج لما تنزله إلي من أقسام الخير ،
الطعام والمأوى والكنف المطمئن ، فقوله ، «لما» متعلق بقوله «فقير» و «من خير»
للعموم ، لأن الإنسان الغريب الفقير الخائف يريد كل شيء ليهنأ ويستريح.
[٢٦] وقد كانت
البنتان ترجعان كل يوم بعد مدة ، وقد رجعتا اليوم قبل الموعد المقرر ، فتعجب
أبوهما من ذلك وسأل السبب؟ فأخبرتاه بقصة موسى عليهالسلام فقال لإحداهما علي به (فَجاءَتْهُ) أي جاءت إلى موسى (إِحْداهُما) وفي بعض التفاسير أنها الكبرى (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي مستحية كما هي عادة النساء الخفرات إذا أردن الذهاب
إلى رجل أجنبي للتكلم معه أو معاملته أو نحوهما ، ولما وصلت إلى موسى (قالَتْ) له (إِنَّ أَبِي) شعيب (يَدْعُوكَ) أن تأتي إليه (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ
ما سَقَيْتَ لَنا) أي ليعطيك جزاء سقيك لأغنامنا ، وذهب موسى معهما (فَلَمَّا جاءَهُ) أي جاء موسى إلى شعيب (وَقَصَ) موسى عليهالسلام (عَلَيْهِ) أي على شعيب (الْقَصَصَ) التي سبقت له من قتل القبطي وفراره من القوم لما أرادوا
قتله وسائر أحواله في مصر (قالَ) شعيب له (لا تَخَفْ) بعد هذا ، فقد (نَجَوْتَ) وتخلصت (مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ
(٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ
____________________________________
الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، يريد فرعون وآله.
[٢٧](قالَتْ إِحْداهُما) أي أحدى البنتين ، وقد ورد إن اسمهما «صفوراء» (يا أَبَتِ) التاء عوض عن الياء ، كما قال ابن مالك :
وفي النداء
أبت أمت عرض
|
|
بعد النداء
ومن اليا ، التاء عوض
|
(اسْتَأْجِرْهُ) أي اتخذه أجيرا ، ولعلها أرادت إيجاره ليكفي عنهما شأن
السقي (إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي أن خير الأجراء الذي يكون قويا يتمكن من العمل ،
أمينا لا يخون المستأجر ، وهذا تعريض بأن موسى قوي أمين ، كقولك : قبّل يد زيد إن
خير يد تقبل يد العالم الورع ، تريد العريض بأن زيدا عالم ورع ، قال الإمام الكاظم
عليهالسلام : قال لها شعيب يا بنية هذا قوي قد عرفته برفع الصخرة ،
والأمين من أين عرفتيه؟ قالت : يا أبت إني مشيت قدامه فقال : امشي من خلفي فإن
ضللت فأرشديني إلى الطريق فإنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء .
[٢٨](قالَ) شعيب عليهالسلام لما عرف موسى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ) أي أزوجك (إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هاتَيْنِ) اللتين رأيت سوادهما (عَلى أَنْ
__________________
تَأْجُرَنِي
ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ
أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ
____________________________________
تَأْجُرَنِي)
أي تكون أجيري
، فإن الأجير يؤجر نفسه للمستأجر في مقابل ثمن يأخذه ، والثمن هنا كان تزويج البنت
، فقد جعل شعيب عليهالسلام مهر بنته عمل موسى عليهالسلام له (ثَمانِيَ حِجَجٍ) جمع حجة ، وهي العام أي تعمل لي ثمان سنوات ، وثمان حجج
ظرف زمان ، أي تكون أجيري في هذه المدة (فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً) بأن عملت لي عشر سنوات ، مقابل تزويجي لك ابنتي (فَمِنْ عِنْدِكَ) أي أن السنتين الزائدتين تفضل من عندك ، لا واجب عليك ،
وإن كنت راغبا في ذلك ، والمعنى من عندك تفضلا لا من عندي إلزاما (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) في هذه السنوات الثمان ، بأن أكلفك ما يشق عليك من
الخدمة (سَتَجِدُنِي) يا موسى لدى معاشرتك لي (إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ) في السيرة والمعاشرة ، وقيل للصالح صالح ، لأنه يصلح
للدنيا والآخرة ، ثم إن الظاهر من الآية كون ذلك كان جائزا في شريعة شعيب ، بأن
يكون المهر للأب ، ويحتمل أن يكون «على» بمعنى الشرط ، وإنما كان المهر شيئا آخر ،
وعلى أي حال فقد كان ذلك لموسى عليهالسلام نعمة كبري حيث يجد الزوجة ، والأهل والمأوى ، والمعيشة
، وقد ورد أن موسى وفي بأبعد الأجلين ، وإنها كانت هي التي ذهبت تدعوه إلى أبيها .
[٢٩](قالَ) موسى عليهالسلام في جواب شعيب (ذلِكَ) التزويج ، بمقابل عشر
__________________
بَيْنِي
وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى
ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا
____________________________________
سنوات (بَيْنِي) بأن أعمل أنّا (وَبَيْنَكَ) بأن تزوج أنت ، وكأن هذه الجملة لإبرام العهد ، بمعنى
أنّا لا نخرج عن ذلك الذي قلنا ، إذ لو خرج أحدهما عن الشرط فكأنه لم يصر بين
الطرفين ، وإنما طرف مربوط بالموفى ، وطرف آخر مقطوع لا يرتبط بأحد (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) أي المدتين وهما ثمان ، وعشر سنوات (قَضَيْتُ) وعملت بطبقه (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي ليس ظلم علي بأن أكلف أكثر من ذلك الذي أريد ، ولا
أطالب بالزيادة (وَاللهُ عَلى ما
نَقُولُ وَكِيلٌ) أي نكله في أن يشهد المعاقدة بيننا ، حتى نعلم أنه وسط
وشاهد ، فمن أراد الخلف كان خلفا مع الله ، إذ هو الموكّل في الأمر ، حسب توكيلنا
له.
[٣٠] وتزوج
موسى عليهالسلام بالبنت ، وخدم شعيب عشر سنوات (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) ووفى بما وعد من خدمة شعيب ، هاجت به العاطفة نحو أمه
التي خلفها في مصر ، فاستأذن شعيبا أن يزور أمه ، فأذن له ، فخرج من «مدين» (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي مع زوجته ، ولعلهما كانا يسيران في اختفاء لئلا يظفر
بهما فرعون ، وفي ذات ليلة إذ الهواء بارد ، والليلة مظلمة ، أخذ زوجته الطلق ،
فاحتاج إلى الغذاء والتدفئة وحينذاك (آنَسَ) أي رأى ما يوجب الأنس ، وهو اطمئنان النفس وفرحها (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) وهو صحراء في الشام (ناراً) تشتعل ، فسر بذلك لأنه قصد أن يذهب إليها ، ظانا إن لها
أهلا ، فيستعين بهم في حل مشكلته (قالَ) موسى عليهالسلام (لِأَهْلِهِ) أي لزوجته (امْكُثُوا) أي الزموا
إِنِّي
آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ
الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ
عَصاكَ
____________________________________
مكانكم لا تسيروا منه ، حتى إذا رجعت لا أضل محلكم ، والإتيان بضمير الجمع
لقصد الاحترام ، كما هو الشائع في كلام المتأدبين. (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أرى هناك نارا تشتعل ، أذهب إليها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها) أي من النار (بِخَبَرٍ) لنذهب إلى أهلها ، ونستعين بهم في أمرنا ، أو نسترشدهم
الطريق (أَوْ) آتيكم ب (جَذْوَةٍ) أي قطعة (مِنَ النَّارِ) إذا لم يمكن السير إليها ، لمحذور كعدم حسن الطريق أو
ما أشبه (لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون بها.
[٣١](فَلَمَّا أَتاها) أي وصل موسى قرب النار (نُودِيَ) والمنادي هو الله سبحانه ، بأن خلق الصوت فسمعه موسى عليهالسلام (مِنْ شاطِئِ) أي جانب (الْوادِ الْأَيْمَنِ) صفة للشاطئ ، أي الجانب الأيمن من وادي سيناء (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) أي القطعة من الأرض التي بوركت بنزول الوحي فيها (مِنَ الشَّجَرَةِ) التي كانت ثابتة هناك (أَنْ يا مُوسى) بيان ل «نودي» أي كان النداء هو ؛ يا موسى (إِنِّي) المتكلم معك (أَنَا اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ) أي خالقهم ومربيهم.
[٣٢](وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) أي اطرحها على الأرض من يدك ، وقد ورد أن عصاه كانت من
الجنة ، وأعطاها شعيب له حينما أراد السفر ، فألقاها موسى من يده ، وإذا بها
انقلبت حية عظيمة تسرع في الحركة والقفز
فَلَمَّا
رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى
أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ
الرَّهْبِ
____________________________________
(فَلَمَّا رَآها) موسى عليهالسلام (تَهْتَزُّ) وتتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) وهي الحية السريعة الحركة ، وقد كان التشبيه بها ـ مع
إنها كانت كبيرة ـ لأجل سرعة حركتها ، فإن الحية الصغيرة أسرع حركة من الكبيرة ـ كما
قالوا ـ (وَلَّى) أي أعرض عن الحية ، وأخذ يسرع في الهرب منها (مُدْبِراً) فقد أعطاها قفاه ووجهه إلى جانب الصحراء ، راكضا للفرار
منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع إليها ، ولم ينظر ، كما هو شأن الخائف الفار ،
إنه لا يرجع ولا ينظر عقبه ، لئلا يلحقه ـ في هذه الفترة ـ الطلب وحينذاك نودي (يا مُوسى أَقْبِلْ) إلى نحو الحية (وَلا تَخَفْ) من ضررها (إِنَّكَ مِنَ
الْآمِنِينَ) من شرها ، فإنها معجزة لك وليست حية تؤذي.
[٣٣] ثم نودي
ثانيا (اسْلُكْ) أي أدخل يا موسى (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في شق ثوبك الأعلى من طرف النحر (تَخْرُجْ) اليد حين تخرجها (بَيْضاءَ) مشرقة كالشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي بدون أن يكون ذلك البياض من قبيل بياض البرص ، وإنما
قيد بهذا القيد لاعتياد أن بياض اليد ، أو سائر الجسم إنما هو من البرص ، وقد ورد
إنه إذا أراد إرجاع الحية عصا ، أخذها ، وإذا أراد إرجاع اليد إلى حالتها السابقة
، أدخلها ثانيا في جيبه ، فإذا أخرجها صارت كالسابق (وَاضْمُمْ) يا موسى (إِلَيْكَ جَناحَكَ
مِنَ الرَّهْبِ) وقد أخذ يرتعد ويرتعش من خوف
فَذانِكَ
بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً
فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ
هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً
____________________________________
الموقف ، فنودي أن يضم يديه إلى نفسه كالطائر الذي يضم جناحيه ، فإن ذلك
موجب لشدة الأعصاب فلا يرتعش الإنسان فالمراد من «جناحك» يدك ، ومعنى «من الرهب»
لأجل الخوف الذي عرض عليك.
(فَذانِكَ) أي العصا ، واليد البيضاء ، وإنما جيء بالمذكر باعتبار
المشار إليه ، وهو «برهان» (بُرْهانانِ) اثنان ، وخارقتان تدلان على نبوتك ، والكاف في «ذانك»
للخطاب (مِنْ رَبِّكَ) أي من طرفه سبحانه (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي جماعته (إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله ، ولذا احتيج إلى بعث الرسول إليهم
، وتزويده بالخارقة ليكون أقرب إلى التصديق.
[٣٤](قالَ) موسى عليهالسلام يا (رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) وهو القبطي الذي قتله حينما تخاصم مع الإسرائيلي (فَأَخافُ) إن ذهبت إليهم لأدعوهم (أَنْ يَقْتُلُونِ) أي يقتلونني قصاصا.
[٣٥](وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِساناً) فقد كانت في لسان موسى عقدة ، من جراء أن جعل الجمر على
لسانه في صغره ـ في قصة تقدمت ـ وقد دعا موسى عليهالسلام أن يزيلها بقوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي) فأزالها سبحانه (فَأَرْسِلْهُ مَعِي) رسولا (رِدْءاً) أي معينا لي
يُصَدِّقُنِي
إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)
قالَ
سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ
مُوسى بِآياتِنا
____________________________________
على تبليغ رسالتك ، يقال فلان ردء فلان ، أي ظهره ومعينه وناصره (يُصَدِّقُنِي) فيما أؤديه من الرسالة (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُكَذِّبُونِ) أي يكذبونني فيما أدعيه من الرسالة ، والخوف يطلق على
المقطوع ، كما يطلق على المشكوك والمظنون.
[٣٦](قالَ) الله سبحانه ، في جواب طلبه (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) أي نقويك (بِأَخِيكَ) فنجعله نبيا معك ، وهذه استعارة تشبيها بشد بعض الأشياء
إلى بعض الموجب لتقوية الجمع حتى لا يؤثر فيها الكسر ، ونسبة الشدّ إلى العضد لأن
الإنسان يعمل بيده ، والعضد مظهر القوة في اليد ، ولو قيل سنشد يدك ، كان بعيدا عن
الذوق (وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً) أي سلطة وسيطرة على فرعون وقومه ، بالحجة والبرهان ، (فَلا يَصِلُونَ) أي فرعون وقومه (إِلَيْكُما) بالإيذاء بسبب ما تزودان به من آياتنا الخارقة كالعصا ،
واليد ، وغيرهما ، وهذا في جواب قول موسى (فَأَخافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ)(أَنْتُما) يا موسى وهارون (وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا) من المؤمنين (الْغالِبُونَ) على فرعون وأتباعه.
[٣٧] ورجع موسى
عليهالسلام إلى أهله يخبرهم بما كان من أمر النار ، وقد سهل الله
لهم الأمر ، حتى سارا ووصلا إلى مصر ، وأخبر هارون بقدوم موسى ، إذ كان في ذلك
الوقت في مصر ، فأوحى الله إليه وجعله نبيّا ، ثم جاءا إلى فرعون (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أي فرعون وقومه (مُوسى) وأخوه (بِآياتِنا)
بَيِّناتٍ
قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ
الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
وَقالَ
فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا
____________________________________
الدالة على نبوته (بَيِّناتٍ) أي واضحات ظاهرات (قالُوا) عن الآيات ما هذا الذي أتيت به من أنواع الخارقة (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي أنت اختلقته ونسبته إلى الله سبحانه ، وليس هناك إله
أعطاك هذه الأمور (وَما سَمِعْنا بِهذا) الذي تقوله من وجود الإله ، وما أعطيته دليلا على نبوتك
(فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ) أي لم يظهر فيهم بمثل هذا ، حتى ينقل إلينا ، ونسمعه ،
فهو أمر جديد مختلق.
[٣٨](وَقالَ مُوسى) في جواب تكذيبهم (رَبِّي أَعْلَمُ
بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) فإن هذا من عند الله ، وليس افتراء ، وهو هداية لا سحر
، والله يعلم ذلك ، ولو كان افتراء وضلالا حال بيني وبينه حتى لا أكون سببا
للإضلال (وَ) ربي أعلم ب (مَنْ تَكُونُ لَهُ
عاقِبَةُ الدَّارِ) وهذا تعريض بهم بأن العاقبة الحسنة لنا لا لكم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوزوا بعاقبة الدار ، وقوله عليهالسلام «ومن تكون» تهديد ، يعني إنكم إن لم تؤمنوا تكون عاقبتكم سيئة ، ونسبة
العاقبة إلى الدار من باب النسبة إلى المكان مجازا ، والمراد عاقبة الإنسان في
الدار ، أو المراد آخر الدار ، فالنسبة حقيقة.
[٣٩] ولما
انقطع فرعون عن الاحتجاج مع موسى التفت إلى قومه يحفظهم عن السير مع موسى ويقويهم
ليبقوا على باطلهم (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
أَيُّهَا
الْمَلَأُ
ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ
فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ
وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا
يُرْجَعُونَ (٣٩)
____________________________________
الْمَلَأُ)
الأشراف من
قومي (ما عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فلا إله إلا أنا ، ثم توجه إلى وزيره هامان فقال (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى
الطِّينِ) أي أجج النار واصنع الآجر ، فإن الطين سواء أو قد تحته
أو فوقه طبخ وصار أقوى في البنيان (فَاجْعَلْ لِي) أي ابن لي (صَرْحاً) أي قصرا عظيما مشيدا من الآجر ، ليكون أقوى استحكاما (لَعَلِّي) اصعد عليه و (أَطَّلِعُ) أي أشرف من فوق القصر (إِلى إِلهِ مُوسى) فقد أراد أن يلبس على العوام أن إله موسى في الأرض فإذا
صعد الإنسان السطح العالي أشرف عليه حتى يراه ويعرف مزاياه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي أظن موسى (مِنَ الْكاذِبِينَ) في مقاله أن للكون إلها ، وأنه رسوله ، والإتيان بلفظ «لأظنه»
، للتلبيس على الناس بأنه منصف حتى أنه لا يقول الكلام الخشن ، بل الكلام المنصف
المريد العثور على الواقع.
[٤٠](وَاسْتَكْبَرَ هُوَ) أي فرعون (وَجُنُودُهُ فِي
الْأَرْضِ) أي ترفعوا أنفسهم فوق مقدارها (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي ترفعا بالباطل ، في مقابل ترفع الإنسان عن الدنايا ،
فإنه ترفع بالحق (وَظَنُّوا) بأن لم يكونوا متيقنين بل ظانين (أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) في الحشر حتى نحاسبهم على أعمالهم.
فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١)
____________________________________
[٤١](فَأَخَذْناهُ) تعظيم للعذاب ، وتحقير له حتى كأنه يؤخذ باليد (وَجُنُودَهُ) الذين ظاهروه على الكفر والطغيان (فَنَبَذْناهُمْ) أي طرحناهم ـ بكل مهانة كمن يأخذ جرادة ويطرحها في
مهلكة ـ (فِي الْيَمِ) أي في البحر ، وهو البحر الأحمر في مصر الموجود إلى
الآن (فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه النظر ، والمراد
بالنظر الاعتبار والعلم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، وهذا تصديق لقوله
تعالى : (مَنْ تَكُونُ لَهُ
عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .
[٤٢](وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) جمع إمام ، أي مقتدون للناس ، ونسبة الجعل إليه سبحانه
باعتبار أنه خلقهم وهيئ الأشياء والأسباب لهم ، ولم يمنعهم منعا تكوينا عن أعمالهم
(يَدْعُونَ) الناس (إِلَى النَّارِ) فإن الدعوة إلى الكفر والمعاصي دعوة إلى النار ، وهذا
كما يقول الملك «جعلت فلانا مثالا للعصيان ومحلا للمتمردين» يريد أنه لم يضرب على
يده ولم يأخذه (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
لا يُنْصَرُونَ) عن النار ، فإنهم يدخلونها أذلاء ، كما لم ينصروا هنا
عن الغرق ، بل أغرقوا في اليم ، فليعلم أتباعهم إنهم معذبون في الدنيا والآخرة.
__________________
وَأَتْبَعْناهُمْ
فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
____________________________________
[٤٣](وَأَتْبَعْناهُمْ) أي أردفنا بعقبهم (فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً) بأن أمرنا المؤمنين بلعنهم والبراءة منهم ، وجعلناهم
بعداء عن الخير والسعادة طرداء عن الرحمة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) فهنا لك لهم القبح والخزي والعار والمقت والنار.
[٤٤] ثم يأتي
السياق ليؤكد سنّة الله في إهلاك الكافرين ، كما أهلك فرعون ومن قبله (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (مِنْ بَعْدِ ما
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) حيث كذبوا أنبياءهم ، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم
والمراد بإتيان الكتاب : الإرسال ، أي كان إرسال موسى بعد إهلاك المجموع المكذبين (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي في حال كون الكتاب براهين تبصر الناس أمور دينهم
ودنياهم ، وإنما أوتي بلفظ الجمع ، باعتبار الجمل التي في الكتاب (وَهُدىً) يهدي إلى الحق (وَرَحْمَةً) موجبا لرحمة الناس ، فإن من عمل بالكتاب يرحمهالله سبحانه (لَعَلَّهُمْ) أي لعل قوم موسى (يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع فيهم من الفطرة حول الأصول والآداب ، فقد أودع
في فطرة الإنسان المبدأ والمعاد والرسالة ـ إجمالا ـ كما أودع فيه حسن الأشياء
الحسنة وقبح الأشياء القبيحة.
[٤٥] وإنك يا
رسول الله إنما تنقل هذه القصص بوحي من الله ، وإلا لم
وَما
كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ
مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا
أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي
أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا
____________________________________
تكن حاضرا في تلك الأزمنة حتى تشاهدها بعينك ، ثم تحكيها ، وإنما هي دالة
على أنك نبي ، وإلا فمن أين يعلم من لم يقرأ ولم يكتب ولم يشهد وقت القصة ،
التفاصيل والمزايا؟ (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي بجانب الجبل الواقع في طرف الغرب وهو جبل طور الذي
كلم الله فيه موسى وأعطاه التوراة (إِذْ قَضَيْنا) أي أرسلنا وعهدنا (إِلى مُوسَى
الْأَمْرَ) بإعطائه الكتاب والشريعة (وَما كُنْتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ) الحاضرين في ذلك الزمان مع بني إسرائيل لتعرف عن مشاهدة
قضايا موسى عليهالسلام التي تنقلها في القرآن.
[٤٦] ولكن
إخبارك إنما هو عن الوحي ، وإنما أوحينا إليك لأن الرسل قد انقطعوا ، ورجعت الناس
إلى الضلالة ، فأرسلناك وأوحينا إليك بهذه الأخبار (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا
قُرُوناً) وأجيالا جديدة بعد عهد النبوات السابقة (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ابتعد عنهم قضايا تلك الأزمنة السابقة ، لأن تطاول
عمر الأجيال يستلزم نسيان الأنباء القديمة التي تدل على نصرة الله للأنبياء
وإهلاكه للظالمين ، فقوله «تطاول» من باب إقامة السبب مقام المسبب ، لأن المراد به
«نسيان الأمور السابقة».
وحيث أن هذا
الجيل المعاصر لك ، لا يعلمون الأمور ، وينكرون الألوهية الصحيحة والمعاد وأرسلناك
إليهم لتذكرهم ، وتذكرتك عن الوحي ، وإلا لم تكن أنت مع موسى ، ولا مع قومه (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (ثاوِياً) أي مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) شعيب ، حتى (تَتْلُوا
عَلَيْهِمْ
آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما
أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
____________________________________
عَلَيْهِمْ) على أهل مكة (آياتِنا) التي سبقت في أهل مدين ، حتى تكون أخبارك عن قضايا مدين
لأنك شاهدتها بعينك وكنت مقيما في تلك المدينة في زمان شعيب (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك وبالوحي نعلمك تلك القضايا حتى تقرأها على قومك حجة
على صدقك ، ولقائل أن يقول فمن أين يعلم أهل مكة صدق الرسول؟ والجواب إنهم يعلمون
ذلك باستحضار الأخبار من أهل الكتاب ، كما قال (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) .
[٤٧](وَما كُنْتَ) يا رسول الله (بِجانِبِ الطُّورِ) الذي صار موسى فيه نبيا (إِذْ نادَيْنا) موسى فقد كان لموسى ميقاتان ، الأول حين أرسل رسولا إلى
فرعون والثاني حين أرسل إليه الكتاب بعد إهلاك فرعون وخروجهم من مصر (وَلكِنْ) كان إخبارك عن تلك الأحوال (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) تفضل بها عليك حيث جعلك رسولا ، وعلى أمتك حيث أرسلك
إليهم (لِتُنْذِرَ قَوْماً) هم أهل مكة ، تخوفهم من الكفر والمعاصي (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإن جيل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يبعث فيهم نبي قبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع فيهم من الفطرة فيرجعوا عن غيّهم وضلالهم ،
بسبب القرآن الهادي لهم إلى ما
__________________
وَلَوْ
لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا
لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى
____________________________________
أودع في فطرتهم.
[٤٨] ثم قال
سبحانه إنه لو لا عدم إتمام الحجة على هؤلاء من قومك لما أرسلناك إليهم ، أما حيث
إنهم ابتعدوا عن النبوات السابقة ، وغمرهم الجهل ، أرسلناك إليهم (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) أي تصيب قومك (مُصِيبَةٌ) من العقاب بسبب ما (قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعاصي (فَيَقُولُوا) محتجين على الله في أن عاقبهم بدون إتمام الحجة : يا (رَبَّنا لَوْ لا) أي هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
رَسُولاً) يدعونا إلى الحق حتى لا نعصي فنستحق العقاب (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) وما أنزلت وأمرت (وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) وجواب «لو لا» محذوف أي لو لا عدم تمام الحجة عليهم ،
لم نرسلك ، أما وإنهم لم تتم الحجة عليهم لبعدهم عن الأنبياء ، فقد أرسلناك وها هم
يعاندون ولا يؤمنون ، وهناك قول آخر بأن جواب «لو لا» «لجعلنا لهم العقاب» إنهم
كانوا يقولون هكذا لو لم نرسل ، وعذبناهم ، فها نحن قد أرسلنا ، ولم يؤمنوا.
[٤٩](فَلَمَّا جاءَهُمُ) أي جاء أهل مكة (الْحَقُ) الذي هو الرسول والقرآن (مِنْ عِنْدِنا) حيث أرسلنا الرسول وأنزلنا القرآن (قالُوا) تبريرا لموقفهم ضد الرسول (لَوْ لا) أي هلا (أُوتِيَ) محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (مِثْلَ ما أُوتِيَ
مُوسى)؟ لو كان هذا نبيا لأتى بمثل معاجز موسى من فلق البحر
أَوَلَمْ
يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨)
قُلْ
فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩)
____________________________________
والعصا واليد وغيرها.
فهل إنا لو
أعطيناك مثل ما أعطينا موسى أكانوا يقبلون؟ كلا! والشاهد على ذلك إن الناس الذين
هم من جنس هؤلاء كفروا بمعاجز موسى (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا
بِما أُوتِيَ مُوسى) من الخوارق والمعاجز؟ (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إرسالك (قالُوا سِحْرانِ) مبالغة في كونهما ساحرين ، مثل زيد عدل ، أي قالوا إن
موسى وهارون ساحران (تَظاهَرا) صار أحدهما ظهر الآخر وعونه (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) منهما (كافِرُونَ) ولو فرض أن النبي جاء بمثل تلك المعاجز قالوا فيها ما
قالوا لموسى وهارون ، بالإضافة إلى أنهم لم يدركوا أن المعجزة يجب أن تلائم أهل
الزمان ، ولذا جاء موسى بتلك المعاجز حيث كثر في زمانه السحر ، وجاء عيسى بالإحياء
والإبراء ، حيث كثر في زمانه الطب ، وجاء الرسول بالقرآن حيث كثر في زمانه الفصاحة
والبلاغة ـ كما ذكر مفصلا في علم الكلام ـ.
[٥٠](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين لا يقبلون منك القرآن
ويريدون إعجازا مثل عصا موسى (فَأْتُوا) أي هاتوا (بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ
اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) أي أكثر هداية من التوراة والقرآن حتى (أَتَّبِعْهُ) وآخذ بأحكامه (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في أن القرآن لا يكفي للهداية ، وإنما يجب أن يكون خارق
حتى نهتدي بك.
فَإِنْ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
____________________________________
[٥١](فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) أي هؤلاء الكفار (لَكَ) يا رسول الله ، بأن لم يتمكنوا من إتيان كتاب هو أهدى
من القرآن (فَاعْلَمْ أَنَّما
يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) فإنهم يكفرون بالقرآن عن هوى وميل نفس لا عن حجة وبرهان
، فقد انسد عليهم باب البرهان (وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي لا أحد أكثر ضلالا منه ، حيث يترك أحكام الإله ويتبع
الهوى ، وقوله «بغير هدى» تأكيد ، فهو جانب السلب من القصة وإذا أريد بالتأكيد جيء
بالجانبين ، فيقال : زيد يسمع كلام الشيطان ولا يسمع كلام الرحمن ـ مثلا ـ واعلم :
(إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي) إلى الإيمان (الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) الذين عاندوا الحق بعد ما رأوه ، فإنه لا يلطف بهم
الألطاف الخفية بل يتركهم وشأنهم.
[٥٢](وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي جئنا بآية بعد أخرى ، متصلة الآيات (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع فيهم من الفطرة ، فإن لدوام الوعظ والإنذار
أثرا في التذكير والإيقاظ.
[٥٣](الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) إعطاء بسبب الأنبياء عليهمالسلام ، وقد أخذوه حق الأخذ (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل الرسول ، أو من قبل القرآن (هُمْ بِهِ) أي بالرسول أو بالقرآن (يُؤْمِنُونَ) لأنهم يعرفون
وَإِذا
يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا
كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)
____________________________________
الرسول ، وقد تهيأت نفوسهم للإيمان حيث لا يتبعون الأهواء ، أما من لا يؤمن
من أهل الكتاب فكأنه لم يعط الكتاب ، إذ غير العامل به والذي لم يعط على حد سواء ،
وقد ورد أن الآية نزلت في جماعة من مؤمني أهل الكتاب .
[٥٤](وَإِذا يُتْلى) القرآن (عَلَيْهِمْ) أي على أهل الكتاب المؤمنين (قالُوا آمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن (إِنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّنا) ليس باطلا اختلقه الرسول كما يقول المشركون (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل نزوله (مُسْلِمِينَ) حيث رأينا صفات النبي في التوراة والإنجيل.
[٥٥](أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ) أي يعطيهم الله (أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ) مرة لتمسكهم بدينهم حتى جاء الرسول ، ومرة لإيمانهم
بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على الإيمان بالكتاب الأول ، وبالقرآن (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بالأعمال الحسنة السيئات ، إن هذا فوق الصبر
فإنهم إذا رأوا سيئة ، لم يصبروا عليها فحسب ، بل دفعوها بالحسنة ، كما قال سبحانه
(ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الله سبحانه ، والرزق أعم من المال والعلم
والجاه وسائر ما أعطى الله الإنسان ـ وإن كان المنصرف هو المال ـ.
__________________
وَإِذا
سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
____________________________________
[٥٦](وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) أي الهزء والسفه من الكلام واللغو الذي لا فائدة منه (أَعْرَضُوا عَنْهُ) أي عن ذلك الكلام ، ولم يقابلوه بالمثل ، ولم يخوضوا مع
اللاغين في اللغو (وَقالُوا) لأولئك اللاغين (لَنا أَعْمالُنا) وديننا (وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ) ودينكم فكل منا يجازى على أعماله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فأنتم في سلام وأمن من ناحيتنا لا نقابلكم بالمثل ولا
نقصد لكم سوء (لا نَبْتَغِي
الْجاهِلِينَ) أي لا نطلب مجالستهم ومعاونتهم والتخاصم معهم ، وإنما
هم فئة ، ونحن فئة.
[٥٧] وبعد ما
بين السياق إن أهل الكتاب يؤمنون بهذا القرآن ، بين إن الكفار الذين لا يؤمنون ليس
على الرسول حسابهم ، حتى يجهد نفسه لكي يهديهم ، بل إنما عليه البلاغ (إِنَّكَ) يا رسول الله (لا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ) أي لا تتمكن من هداية من تحب أن يهتدي من الناس ، فإن
الرسول كان يحب هداية عمه أبي لهب وغيره من أشراف قريش ، بل الناس أجمعين ، ولكنه
لم يكن يتمكن من ذلك ، والمراد بالهداية العمل الذي يجبرهم على الإسلام ، لا مجرد
إرائة الطريق ، (وَلكِنَّ اللهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بأن يلطف به الألطاف الخفية حيث يراه مستعدا للإيمان
مهيأ نفسه للإذعان ، فإرائة الطريق من الله والرسول ، عامة لكل أحد أما الألطاف
الخفية فالرسول لا يقدر عليها ، والله قادر عليها لكنه إنما يلطف بها على من أعد
نفسه وأخذ يأتي في الطريق. وممن تنطبق هذه الآية الكريمة عليه هو «سيد قطب» صاحب
كتاب «في ظلال
وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
____________________________________
القرآن» الذي لم يهتد بنور الإيمان إذ ملأ قلبه بالحقد والغل للرسول وآله
وذويه ، فتراه في عرض تفسير وطوله ، ينتقص من الرسول وعمه وسائر ذوي قرابته ، في
لفائف من الكلام المزيف ، بالتقليد الأعمى عن الأمويين أعداء الله والرسول ،
والشجرة الملعونة في القرآن ، فقد أخذ يطبق هذه الآية الكريمة على أبي طالب ، مع
أنه قد ورد من طرق العامة والخاصة أن أبي طالب من أول المؤمنين بالرسول ، وهو
القائل :
ولقد علمت
بأن دين محمد
|
|
من خير أديان
البرية دينا
|
ولو كان أبو
طالب أبا لأحد كبرائهم لأهالوه بمقام الملائكة المكرمين ، لكن ذنبه الوحيد أنه أبو
علي أمير المؤمنين ، وماذا يقال في من يطبق آية «عبس وتولى» على رسول الله ، ليبرئ
ساحة عثمان الذي وردت فيه الآية عن التولي؟ وهكذا وهلم جرا ، وقد صدق الله سبحانه
حيث يقول (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) وهل من محمل لعمل من يخوض دقائق الأمور ، فيعرف الشعرة
في الليل المظلم ، ثم لا يرى الشمس الضاحية في وسط السماء ، إلا العناد ، وانه
استحق عليه كلمة العذاب؟. وقد كنت أريد أن أنزه هذا السفر عن مثل هذه الأمور لكن
غلو «قطب» جرني إلى ذلك فإنه أتى بكل ما لفقته الأموية النكراء ، ولكن في لفائف
حريرية ، وقفازات براقة ، فيظن الغير أنه برئ عن العصبية الجاهلية (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) أي القابلين للهداية ، أو الذين
__________________
وَقالُوا
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ
____________________________________
اهتدوا فيجازيهم حسب علمه.
[٥٨] ولقد كان
من أعذار كفار مكة ، في عدم إيمانهم ، أنهم إن آمنوا بالرسول ، يسلب مقامهم ، لأن
القبائل المجاورة ، لا تخضع لهم بعد ذلك ، فيكونون مجبورين أن يخرجوا من هناك إلى
حيث يتمكنون من العيش ، وهذا هو الخطف ، فإن الخاطف قد يكون إنسانا ، وقد يكون
تقديرا ، كذا ذكر بعضهم ، وذكر بعض أنهم خافوا أن يختطفهم فارس والروم إن علموا
باختراع العرب دينا جديدا ومنهجا جديدا ، وقد روي عن السجاد عليهالسلام إن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : والذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض
والأسود ومن على رؤوس الجبال ، ولجج البحار ولأدعون إليه فارس والروم ، فتجبّرت
قريش واستكبرت وقالت لأبي طالب : أما تسمع إلى ابن أخيك ما يقول؟ والله لو سمعت
بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجرا حجرا فأنزل الله تعالى
هذه الآية (وَقالُوا إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ) يا رسول الله بأن نؤمن كما تقول (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي نستلب من أرض مكة ، فيأخذوننا الناس أسراء ولا طاقة
لنا بهم (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً)؟ أي ألم نجعل لهم مكانا آمنا هو الحرم ، وهم كافرون ،
فمن يقدر على هذا يقدر على ان يأمنهم إذا أسلموا (يُجْبى إِلَيْهِ) أي يؤتى إليه ويجلب نحو محلهم (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من الفواكه ، والصنائع ، وأنواع الأقمشة ، وغيرها ، فإن
مكة حيث كانت مطافا للعرب ، كانت تروج
__________________
رِزْقاً
مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَكَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ
تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً
____________________________________
أسواقها بثمرات الجزيرة ، وثمرات الشام واليمن ، التي كانت ثمارها أيضا
تجبى ـ بدورها ـ من الهند والصين والروم وغيرها (رِزْقاً مِنْ
لَدُنَّا) نرزق به أهل مكة (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنا قدّرنا لهم هذا التقدير بأن جعلنا محلهم أمنا ،
ورزقهم وفرا. فإذا آمنوا كانوا أحق بذلك ، وقد صدق الله سبحانه ، فقد دل التاريخ ـ
والذي نشاهده الآن ـ إن أهل مكة منذ أن آمنوا قويت مكانتهم أكثر وصار الأمن والرزق
فيهم أوفر.
[٥٩] أما إن
بقوا على هذه الحالة ففي ذلك الوقت يختطفون بالهلاك والعذاب ، وتقل أرزاقهم ، كما
كان كذلك القرى التي لم تؤمن ، وانحرفت عن جادة الصواب (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية ، بعلاقة الحالة والمحل ، ولأن إهلاك الأهل
مستلزم لإهلاك نفس القرية بخرابها (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) البطر هو الطغيان عند النعمة ، أي طغت في المعيشة ،
فالمعيشة منصوبة بنزع الخفض والمعنى أعطيناهم المعيشة الواسعة ، فجرتهم تلك إلى أن
يكفروا من باب (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (فَتِلْكَ
مَساكِنُهُمْ) التي يمر عليها المارة في طرف الشام ، وطرف اليمن ،
كأراضي لوط ، وشعيب ، وصالح (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) فقد انقرضوا بالهلاك ، وباءت قراهم بالخراب ، فلم يسكن
في بلادهم إلا نفر قليل من الناس الذين جاءوا من بعدهم
__________________
وَكُنَّا
نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ
الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما
كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ
وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
____________________________________
(وَكُنَّا نَحْنُ
الْوارِثِينَ) لديارهم فلم يكن وارث يرث الأرض منهم ، ولذا بقيت كسائر
الأراضي لا مالك لها إلا الله سبحانه.
[٦٠](وَما كانَ رَبُّكَ) يا رسول الله (مُهْلِكَ الْقُرى) التي تكفر وتعصي الله (حَتَّى يَبْعَثَ فِي
أُمِّها) المركز لها (رَسُولاً) يقيم الحجة عليهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا) الدالة على المعارف وأصول الدين ، فإذا أعرضوا عن
الرسول ، ولم يؤمنوا استحقوا الهلاك والنكال (وَما كُنَّا
مُهْلِكِي الْقُرى) أصله «مهلكين» حذف النون للإضافة (إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أنفسهم بالكفر والعصيان فالهلاك معلول لأمرين ، الأول
ظلم أهل القرية ، والثاني إتمام الحجة عليهم ببعث الرسول.
[٦١] فلا
تغترّوا أيها الناس بالحياة الدنيا التي تصدكم عن الإيمان ، لأجل المال والمنصب
والتقليد وما أشبه (وَ) ذلك لأن (ما أُوتِيتُمْ) أي أعطيتم (مِنْ شَيْءٍ) من الزخارف فهو متاع (الْحَياةِ الدُّنْيا
وَزِينَتُها) أي هو شيء تتمتعون به في هذه الحياة القريبة وتتزينون
به (وَما عِنْدَ اللهِ) أي الجنة ، والمراد بكونها عند الله ، إن الله هيّأها
للصالحين (خَيْرٌ) من هذه النعم (وَأَبْقى) أي هي أكثر بقاء (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تتفكرون بعقولكم حتى تميزوا بين الآخرة الباقية ،
والدنيا الفانية؟.
أَفَمَنْ
وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
____________________________________
[٦٢](أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) أي الذي وعدناه بالجنة ، وهو المؤمن (فَهُوَ لاقِيهِ) أي نفي له بالوعد ، فيلاقي الشيء الحسن الموعود به (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) أي كالذي متع بمتاع هذه الحياة فقط (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ) أي يحضر للعقاب والجزاء ، فهل هذا وذاك متساويان؟ فكما
أن متع الحياة لا تتساوى مع ما عند الله كذلك لا يتساوى المؤمن الذي وعد بالخير ،
وغيره الذي يحضر لأجل العذاب ، وإنما يطلق «المحضر» على من حاله سيء إذ الذي علم
أن حاله حسن لا يحتاج إلى الإحضار ، بل يحضر هو بنفسه.
[٦٣](وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي ينادي الله الكفار والمراد يوم القيامة (فَيَقُولُ) الله لهم على نحو استفهام تقريعي (أَيْنَ شُرَكائِيَ) أي من جعلتموهم شركاء لي (الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ) إنهم شركاء لي؟ لقد ذهب الشركاء ، فلا شريك هناك ، وعنت
الوجوه للحي القيوم.
[٦٤] وإذ يرى
قادة الكفار إن ذنب أتباعهم يلقى على عواتقهم ، يتبرءون منهم ، قائلين إنهم لم
يقسروهم على الكفر ، وإنما هم تبعوهم في الغواية (قالَ) الكفار (الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي ثبت عليهم قول الله سبحانه الذي وعد الكفار بالنار ،
والمراد ب «الذين» الرؤساء ، يا
رَبَّنا
هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ
ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣)
وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥)
____________________________________
(رَبَّنا هؤُلاءِ) أتباعنا (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) هم عن الطريق وأضللناهم (أَغْوَيْناهُمْ) لا بقسر منا ، بل (كَما غَوَيْنا) نحن بلا قسر أحد فليس تبعة أعمالهم علينا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومن أفعالهم (ما كانُوا إِيَّانا
يَعْبُدُونَ) فهؤلاء ليسوا عبّادا لنا ، وعلينا تبعتهم ، بل عبدوا
الشياطين وأطاعوهم فلا قسرناهم ، ولا عبدونا ، ولذا لا نتحمل تبعة أعمالهم.
[٦٥](وَقِيلَ) والقائل من جانب الله سبحانه (ادْعُوا) أيها الأتباع (شُرَكاءَكُمْ) أي الأصنام والقادة الذين جعلتموهم لله سبحانه شركاء ،
حتى ينجوكم من العذاب ، وإنما أضيف الشركاء إليهم ، لما تقرر من أنه يكفي في
الإضافة أدنى ملابسة (فَدَعَوْهُمْ) وتضرعوا إليهم حتى ينجوهم من العذاب (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا) أي المتبوعين (لَهُمْ) أي للأتباع (وَرَأَوُا الْعَذابَ) بعد ما لم يجدوا ناصرا وشافعا (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) في الدنيا ، لم يروا العذاب ، أو هو حكاية كلامهم هناك
، فإن المستلزم من عمل وقد فات الأوان يقول : لو إني فعلت كذا ، أي لم أقع في هذا
المحذور.
[٦٦](وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي ينادي الله الكفار (فَيَقُولُ) لهم (ما ذا أَجَبْتُمُ
الْمُرْسَلِينَ) أي ما كان جوابكم للذين أرسلوا إليكم من النبيين؟.
فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ
(٦٦)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ
الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ
____________________________________
[٦٧](فَعَمِيَتْ) أي اختفت كالأعمى الذي يختفي عليه الطريق (عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أي الأخبار ، يعني صارت الأخبار كالعميان الذين لا
يهتدون (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة ، حتى أنهم لا يدرون ماذا يقولون في
جوابه سبحانه إن قالوا الصدق عوقبوا ، وإن قالوا الكذب فضحوا؟ (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب المنجي ، إذ الإنسان
المحسن يأتي بالجواب ، والشاك يتساءل ، أما المجرم الذي يعلم أن جرمه لا يخفى ،
وأن إقراره فضيحة ، فهو لا يجيب ولا يتساءل عن زملائه كيف يجيب؟.
[٦٨] هكذا حال
المكذبين ، رؤساء وأتباعا (فَأَمَّا) غيرهم ف (مَنْ تابَ) عن الكفر والعصيان (وَآمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً) أي عملا صالحا ، بأن أطاع (فَعَسى أَنْ يَكُونَ
مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي لعله يكون فائزا ، وإنما جيء ب «عسى» لأن المؤمن
العامل بالصالحات ، لا يدري هل يبقى على الإيمان ، أم تكون عاقبة أمره خسرا.
[٦٩] وقد تقدم
أن الكفار كانوا يقولون إن نتبع الهدى نتخطف من أرضنا ، فهل لهم أن يختاروا طريق
الأمن والسعادة ، في الدنيا أو في الآخرة؟ كلا! إن الاختيار لله وحده ، كما أنه
ليس للكفار أن يختاروا قادة ضلّالا ، فإن اختيار القادة بيد الله ، وبأمره تنصب
الرؤساء للدين والدنيا ، كما أن جميع النعم منه ، فله كل حمد (وَرَبُّكَ) يا رسول الله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وهذا تمهيد لقوله (وَيَخْتارُ) فإن من له الخلق هو
ما
كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)
وَرَبُّكَ
يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
____________________________________
الذي له الاختيار ، إذ كيف يمكن أن يخلق ويملك شخص ، ويكون الاختيار بيد
غيره؟ (ما كانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ) أي ليس للكفار أن يختاروا لأنفسهم ، كما كانوا يختارون
الكفر خوفا من الاختطاف ، والخيرة ، اسم من الاختيار ، أقيم مقام المصدر (سُبْحانَ اللهِ) أي أنزه الله تنزيها عن أن يكون أعطى الاختيار بيد الناس
، حتى يعملوا كيفما يشاءون (وَتَعالى) أي ترفع ، والمعنى أنه أرفع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) فليست الأصنام شركاء له سبحانه ، وليس لهم أن يختاروها
آلهة.
[٧٠](وَرَبُّكَ) يا رسول الله (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ) فهو الخالق الذي يختار العالم بالضمائر (وَما يُعْلِنُونَ) أي ما يخفون وما يعلنون.
[٧١](وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له في خلق أو اختيار أو علم بما في الكون (لَهُ الْحَمْدُ) أي أنه هو المستحق الوحيد للحمد ، إذ جميع النعم منه (فِي الْأُولى) أي الدنيا (وَالْآخِرَةِ) لأن خيراتهما بيده لا بيد من سواه فيستحق بعض الحمد (وَلَهُ الْحُكْمُ) أن يحكم ويشرع ما يشاء (وَإِلَيْهِ) أي إلى جزائه (تُرْجَعُونَ) أيها البشر ، بعد الموت ، فكيف يتخذ غيره مما لا ميزة
من هذه الميزات له إلها يعبد ، وشريكا له في الألوهية؟.
[٧٢] ثم ألفت
السياق إلى جملة من الآيات الكونية التي يذعن الكفار أنها
قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١)
قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا
تُبْصِرُونَ (٧٢)
____________________________________
ليست مربوطة بالأصنام ، ليبرهن بذلك لزوم التوحيد في العبادة ، وبطلان
الشرك (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار المشركين (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) أي دائما أبدا ، بحيث لم تطلع الشمس أبدا (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بأن وقفت الأفلاك عن الحركة (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ
بِضِياءٍ)؟ أي بنور يضيء لكم الأرض كضوء الشمس (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أيها الكفار إلى هذا الأمر؟ وماذا جوابكم؟ وبالطبع
يقولون لا إله سواه يأتي بالنهار ، فلما ذا يجعلون غيره شريكا له؟.
[٧٣] ثم (قُلْ) يا رسول الله لهم (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ
عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً) أي باقيا دائما (إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ) بأن بقيت الشمس على أفقكم فلم تزل (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ
بِلَيْلٍ) بأن يزحزح الشمس حتى يأتي الليل (تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي تستريحون فيه وتجعلونه وقتا لمنامكم وراحتكم (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أيها الكفار المشركون إلى هذه الآية العظيمة ، ليل
ونهار وكلاهما بيد الله؟ وهل من شركائكم من يقدر على ذلك؟ وإذ كان الجواب الطبيعي
عدم قدرة أحد على ذلك فلما ذا اتخذتم شركاء لله ، وهم لا يقدرون على شيء؟.
وَمِنْ
رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤)
____________________________________
[٧٤] ثم من جعل
الليل والنهار؟ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ) تعالى ، لا من أثر غيره من الآلهة الباطلة (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بأن خلقهما ، فإن الظلمة كسائر الأشياء مخلوقة ، إلا أن
يقال أنها عدم والعدم غير مخلوق ، وإنما جعله بجعل ضده وهو النهار ـ بأن يكونا من
باب العدم والملكة ـ (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا) أي تطلبوا الرزق والمعاش (مِنْ فَضْلِهِ) تعالى ، في النهار ، أو أن «فيه» يرجع إليهما باعتبار
كل واحد ، وكذلك «لتبتغوا» ، فإن الإنسان ينام بعض النهار ، كما يكتسب في بعض
الليل (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) نعم الله سبحانه التي أعطاها لكم منّا وفضلا ، ولا يخفى
أن جعل الليل والنهار ، غير تصريفهما بهذا الشكل المنظم ، ففي الآية الأولى تذكير
بالأمر الثاني ، وفي هذه تذكير بالأمر الأول.
[٧٥] وإذ ذكر
السياق جملة من النعم التي لا مناص للكفار من الإذعان بأنها من الله وحده ، رجع
إلى الكلام السابق حول شركهم (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) الله تعالى ، والمراد به يوم القيامة (فَيَقُولُ) لهم (أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء معي؟ لكن الشركاء هناك لا أثر لهم ولا عين ،
وهذا الاستفهام إنما هو للتقريع والتبكيت.
[٧٦] وليس لهم
أن يقولوا إنا لم نكن نعلم وحدة الإله فهناك الشهداء ـ من
وَنَزَعْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ
الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
إِنَّ
قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى
____________________________________
الأنبياء والأئمة والمرشدين ـ الذين يشهدون عليهم بأنهم بلّغوا لكنهم عصوا
إلا الشرك والكفر (وَنَزَعْنا) أي أخرجنا وأظهرنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (شَهِيداً) يشهد عليكم بالتبليغ والإرشاد (فَقُلْنا) للكفار (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي ائتوا بحجتكم التي تدل على تعدد الآلهة (فَعَلِمُوا) هناك (أَنَّ الْحَقَّ
لِلَّهِ) وحده لا لشركائهم ، لكن حيث لم ينفعهم العلم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ذهب وتاه (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب على الله حيث كانوا يقولون إن الله اتخذ لنفسه
شريكا ، إن آلهتهم بطلت ، ولا برهان لهم ، والشهداء ، شهدوا عليهم بالإنذار وعلموا
صحة قولهم ، فما هو جزاؤهم؟ ليس إلا النار والخزي ، حيث لا منجى ولا مهرب.
[٧٧] وبعد
إتمام قصة موسى مع فرعون ، وتعقيب القصة بجملة من المشاهد في القيامة وبعض تعقيبات
القصة ، يأتي السياق لينقل حلقة أخرى من حياة موسى عليهالسلام ، وهي حياته مع قارون الذي كان قريبا لموسى عليهالسلام وكان عالما حافظا للتوراة كثير المال ، لكنه لما ظلم لم
ينفعه علمه وماله وقرابته وحفظه للكتاب ، وفيه تنبيه لأهل الكتاب ، كما في الآيات
السابقة وتنبيه للكفار كي يعتبروا بما أصاب فرعون حيث قابل موسى بالكفر (إِنَّ قارُونَ)
وهو ابن خالة
موسى عليهالسلام ، كما ورد عن الصادق عليهالسلام
(كانَ مِنْ قَوْمِ
مُوسى) من بني إسرائيل المؤمنين به
__________________
فَبَغى
عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)
____________________________________
(فَبَغى) أي استطال وتكبر (عَلَيْهِمْ) أي على قوم موسى حيث اغتر بماله وكماله وقرابته (وَآتَيْناهُ) أي أعطيناه (مِنَ الْكُنُوزِ) جمع كنز وهو المال المدخور في خابية أو صندوق أو نحوهما
(ما) أي مقدارا كثيرا حتى (إِنَّ مَفاتِحَهُ) جمع مفتح ، بمعنى المفتاح ، يعني مفاتيح بيوت أمواله
وصناديق ذهبه وفضته (لَتَنُوأُ) أي تثقل (بِالْعُصْبَةِ) أي جماعة الرجال (أُولِي الْقُوَّةِ) فما كانوا يتمكنون أن يحملوها إلا بمشقة ، يقال : ناء
بحمله إذا نهض به مع ثقله ، وقد ورد أن العصبة ما بين العشرة إلى تسعة عشر ، وكان يحمل مفاتيح خزائنه بين هذين العددين من الرجال
الأقوياء إذا أراد نقل المفاتيح من مكان إلى مكان ، ولا بعد في ذلك ، فإن المفتاح
غالبا يصنع من الحديد ولو قدرنا أن عشرة مفاتيح تعادل ال «كيلو» وإن عشرة كيلوات
تثقل الإنسان ، وإن الأموال كانت في صندوق ثم في غرفة ، ثم في بيت ، ولكلّ مفتاح
خاص ، لم يتجاوز المال من بضع ملايين ، وفي عصرنا في العراق من قدر ماله ب «ملايين
الدنانير» (إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ) المؤمنون من بني إسرائيل ، (لا تَفْرَحْ) بهذا المال فرحا يؤدّي إلى البطر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) جمع «فرح» وهو الذي يفرح من البطر والكبرياء ، والمراد
ب «لا يحب» إنه يكرههم ، إذا لا وساطة بين حب الله وكراهته ، فإن الإنسان إذا كان
طائعا أحبه الله ، وإن كان عاصيا كرهه ،
__________________
وَابْتَغِ
فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ
إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي
____________________________________
ولعل الإتيان بـ «لا يحب» للتأدب.
[٧٨](وَابْتَغِ) أي اطلب يا قارون (فِيما آتاكَ اللهُ) أي ما أعطاك من الأموال (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تنفق منها في الخيرات وعلى الفقراء حتى تشتري
الآخرة بها (وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) إما بمعنى أطلب الدنيا بمالك كما تطلب الآخرة ، وكان
ذلك نهيا عن بذل جميع الأموال ، كما قال سبحانه (وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ) أو المراد لا تنس نصيبك من الدنيا التي أقبلت عليك
لتحصّل بها الآخرة ، فتكون الجملة تأكيدا للجملة السابقة ، وإنما الفرق أنها
للجانب السلبي ، والجملة الأولى للجانب الإيجابي (وَأَحْسِنْ) إلى الناس ، أو إلى نفسك بفعل الطاعات (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) بإعطائك المال والجاه وسائر النعم (وَلا تَبْغِ) أي لا تطلب (الْفَسادَ فِي
الْأَرْضِ) إما بمنع الحقوق والإنفاق ، فإنه فساد وموجب لحرمان
جماعة من الناس ، وإما بصرف المال في المصارف المحرمة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الذين يفسدون في الأرض ، بمنع الحقوق ، أو بتعاطي
الفساد.
[٧٩](قالَ) قارون في جواب نصيحة القوم (إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي أعطيت هذا المال (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فما للناس يتحكمون بي فأنا حصّلته
__________________
أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
(٧٨)
____________________________________
بعلمي؟ ، وهو إما بمعنى إن الله أعطاني ذلك بسبب علمي وفضلي ، وإما بمعنى
إن ذكائي وفطنتي هما ورّثاني هذا المال ، فلا حق لأحد فيه ، وحيث إني قد جمعته
بفضلي فلي أن أعمل فيه بما أشاء ، وإما بمعنى علمي بالكيمياء ، كما قيل إنه كان
يعلم بالكيمياء ، وقد جمع ماله من تبديل الصفر ذهبا (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) قارون (أَنَّ اللهَ قَدْ
أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) وسمي القرن قرنا ، لتقارن أعمار الأشخاص فيه بعضهم مع
بعض (مَنْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُ) أي من قارون (قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعاً) للمال ، فليس المعيار أن يكون الإنسان جمع المال لعلمه
وفضله وإنما المعيار كيفية التصرف في المال ، فإن تصرف الإنسان في المال تصرفا
حسنا بقي له ، وإن تصرف تصرفا سيئا ، فنى المال وأهلكه معه. إن قارون كان ينبغي أن
يعلم هذا ، لا ما تكبر به حيث قال (أُوتِيتُهُ عَلى
عِلْمٍ عِنْدِي).
فمن تكبر وعتى
، وتصرف في المال تصرفا سيئا ، فإنه مجرم ، مصيره الهلاك ، والمجرم يؤخذ بغتة (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ) فلا يقال لهم ماذا فعلتم؟ إذا أريد إهلاكهم في الدنيا ،
وإن كان في الآخرة يسألون عن ذنوبهم لزيادة التقريع والتأنيب كما قال سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ) وقال (وَقِفُوهُمْ
__________________
فَخَرَجَ
عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا
لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)
وَقالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)
____________________________________
إِنَّهُمْ
مَسْؤُلُونَ) .
[٨٠] إن قارون
لم ينفع فيه النصح ، بل بقي على تطاوله وكبريائه (فَخَرَجَ) ذات يوم (عَلى قَوْمِهِ) مستعرضا ماله وترفه (فِي زِينَتِهِ) وفي أبّهة وجلال ، يريد أن يري بني إسرائيل ثروته وعزته
(قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة ، من ضعفاء الإيمان ـ وهم كثيرون في
المؤمنين دائما ـ (يا لَيْتَ لَنا
مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) من الأموال والثروة والزينة (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي نصيب وافر من الدنيا ، فقد تمنوا مثل ماله ومنزلته.
[٨١](وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) علم الآخرة وما أعد الله فيها من الثواب للمؤمنين
المتقين (وَيْلَكُمْ) أيها المتمنون ثروة قارون وجلاله ، و «ويل» كلمة تستعمل
بمعنى الدعاء على المقصود به ، يعني «الهلاك لكم» أو «سوء الحال لكم» (ثَوابُ اللهِ) المعد للأخيار (خَيْرٌ) مما أوتي قارون (لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) فلا تتمنوا مثل أمواله ، كي تبتلون بطغيانه ويفوتكم
الثواب (وَلا يُلَقَّاها) أي لا تعطى الجنة ـ المشار إليها بقوله «ثواب الله» ـ (إِلَّا الصَّابِرُونَ) الذين
__________________
فَخَسَفْنا
بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ
____________________________________
يصبرون في الحياة الدنيا عن الثروة إذا لم يجدوها فلا يحصلون عليها من
الحرام.
[٨٢] وقد صار
مال قارون وبالا عليه (فَخَسَفْنا بِهِ) أي بقارون (وَبِدارِهِ) التي فيها الأموال (الْأَرْضَ) أي انخسفت الأرض معهما ، فذهب قارون هالكا ، وذهبت
أمواله ضياعا. قال القمي : وكان سبب هلاك قارون أنه لما أخرج موسى بني إسرائيل من
مصر وأنزلهم البادية أنزل الله عليهم المن والسلوى ففرض الله عليهم دخول مصر
وحرمها عليهم أربعين سنة وكانوا يقومون من أول الليل ويأخذون في قراءة التوراة
والدعاء والبكاء وكان قارون منهم وكان يقرأ التوراة ولم يكن فيهم أحسن صوتا منه
وكان يسمى «المنون» لحسن قراءته وكان يعمل الكيمياء ، فلما طال الأمر على بني
إسرائيل في التيه والتوبة وكان قارون قد امتنع من الدخول معهم في التوبة وكان موسى
عليهالسلام يحبه فدخل عليه موسى فقال له : يا قارون قومك في التوبة
وأنت قاعد هاهنا؟ ادخل معهم وإلا ينزل بك العذاب فاستهان به واستهزأ بقوله فخرج
موسى من عنده مغتما فجلس في فناء قصره وعليه جبة شعر وفي رجله نعلان من جلد حمار
شراكهما من خيوط شعر وبيده العصا فأمر قارون أن يصب عليه رماد قد خلط بالماء فصب
عليه فغضب موسى غضبا شديدا وكان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه وقطر
منها الدم فناجى موسى ربه فأوحى الله عزوجل إليه قد أمرت الأرض أن تعطيك فمرها بما شئت وقد كان
قارون قد أمر أن يغلق باب القصر فأقبل موسى فأومأ إلى الأبواب فانفرجت ودخل عليه
فلما نظر إليه قارون علم أنه قد أوتي بالعذاب فقال : يا موسى أسألك بالرحم الذي
بيني وبينك فقال له موسى : يا بن لاوى
فَما
كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ
المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ
الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ
____________________________________
لا تزدني من كلامك. وقال عليهالسلام : يا أرض خذيه فدخل القصر بما فيه في الأرض ، ودخل
قارون في الأرض إلى ركبتيه فبكى وحلفه بالرحم فقال له موسى : يا بن لاوي لا تزدني
من كلامك يا أرض خذيه فابتلعته بقصره وخزائنه ، أقول : لقد كان موسى عليهالسلام في منتهى الحلم والرقة ولكن انحراف بني إسرائيل الشديد
، كان يسبب له في بعض الأحيان أن يغضب لله سبحانه ، والغضب لله تعالى من أفضل صفات
الأنبياء ، كما قال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) .
(فَما كانَ لَهُ) أي لقارون (مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة ، وسميت الجماعة فئة ، لأن الإنسان يعود ويرجع
إليها كلما دهمه أمر ، من «فاء» بمعنى : رجع (يَنْصُرُونَهُ) أي ينصرون قارون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله ، يعني أن الله وحده كان قادرا على دفع
العذاب عنه أما غيره فلا أحد كان يقدر على ذلك. وهذا من قبيل الاستثناء المنقطع
الذي مرّ الكلام في وجهه مكررا (وَما كانَ) قارون بنفسه (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي يقدر على أن ينصر نفسه.
[٨٣](وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) حين خرج عليهم في زينته فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي
قارون (يَقُولُونَ) متعجبين مما نزل بقارون من
__________________
وَيْكَأَنَّ
اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ
مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً
____________________________________
العذاب وي اسم فعل بمعنى «عجب» (وَيْكَأَنَّ اللهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بأن يوسعه عليه (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق على من يشاء من عباده ، فإنهما تابعان
لمصالح خفية لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب النقص (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) حيث لم يوسع علينا حتى نطغى (لَخَسَفَ) الأرض (بِنا) كما خسف بقارون وي أعجب من هذه القصة كأنه (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فلا يفوزوا بثواب الله ولا ينجوا من عقابه ، فالحمد لله
الذي لم يعطنا ما أعطاه حتى نبتلي بما ابتلى به. وقارون لم يظهر الكفر ، وإنما
قالوا ذلك لأن فعله كان فعل الكافرين ولذا جوزي بجزائهم ، والإتيان ب «كأن» تعبير
عرفي لمن يريد أن يتراجع عن كلامه السابق ، فإذا قلت : إن فلانا زيد ، ثم أردت أن
ترجع عن كلامك بعد ما تبينته فرأيته عمروا تقول : كأنه عمرو ، وذلك للتدرج الحاصل
للنفس من أحد الطرفين إلى الطرف الآخر.
[٨٤] ثم بين
سبحانه أن الآخرة إنما هي لمن لا يريد الاستكبار والفساد ، في مقابل قارون الذي
استكبر وطلب الفساد في الأرض ، حتى يعلم المؤمن ، أن الاستكبار والفساد يباينان
الإيمان بالعالم الآخر (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ) يعني الجنة (نَجْعَلُها) ونقدرها (لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي استكبارا وتجبرا (وَلا فَساداً) أي لا يريدون عملا
وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى
الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ
____________________________________
بالمعاصي (وَالْعاقِبَةُ) الجميلة المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون عقاب الله ، فلا يعصونه.
[٨٥](مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي بالصفة الحسنة ، من الإيمان ، والعمل الصالح (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) عند الله ، فإنه يعطي عشرة أضعاف جزائه ، فمثلا من تصدق
بدينار أعطي عشرة دنانير (وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ) وتسمى سيئة لأنها تسيء إلى الإنسان (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بمقدار السيئة لا أزيد منها ، وإنما أعد العذاب
الشديد للسيئات لأنه بقدر جزائها حسب العقل والمنطق كما يجزي الساب للملك ـ مثلا ـ
بالقتل.
[٨٦] وإذ انتهت
قصص موسى مع فرعون وبني إسرائيل وقارون ، يتوجه السياق إلى الرسول ، الذي كانت تلك
القصص تسلية له ، بقدر ما كانت تهديدا لكفار قريش فيقول (إِنَ) الله (الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أوجب عليك العمل بأحكامه (لَرادُّكَ) أي يردك ويرجعك (إِلى مَعادٍ) أي محل العود والمراد به مكة ، فلا تشرّد عن بلادك بدون
أن ترجع إليها ظافرا منتصرا ، كما رجع موسى إلى أرض مصر ـ التي خرج منها خائفا
يترقب ـ ظافرا منتصرا ، وقد قالوا : إنها نزلت حين خروج الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة ، حينما أراد الكفار
قُلْ
رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ
تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦)
وَلا
يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ
____________________________________
قتله (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ
جاءَ بِالْهُدى) منا ، ومنكم ، فقد كان الكفار يرون أنفسهم على حق وهدى
، ويرون الرسول على باطل (وَمَنْ هُوَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) إنه يعلم ذلك وسينصر الهادي ، ويخذل الضال ، وهذا كلام
من يرى أن لا أثر في الجدال مع المعاند يسلى نفسه ويهدد طرفه ، بالعاقبة.
[٨٧] إنك لا بد
وأن ترجع إلى مدينتك ، وإنك لا بد وأن تنتصر على الكفار ، فإن رحمة الله لم تزل
معك ، ألم يلقي إليك الكتاب ، وما كنت ترجو ذلك لو لا رحمته؟ فإن رحمته التي أوجبت
إلقاء الكتاب عليك هي التي تنصرك وتردك إلى وطنك (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (تَرْجُوا أَنْ يُلْقى
إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) يعني إنه لم يكن رجاء لو لا الرحمة ، وهذا صحيح ، فلا
يقال كيف لم يرج الرسول إلقاء الكتاب ، وقد كان نبيا وآدم بين الماء والطين؟ (فَلا تَكُونَنَ) يا رسول الله (ظَهِيراً
لِلْكافِرِينَ) أي معينا لهم ، بل جانبهم وباعدهم وحاربهم ، فإن الذي
رحمك في إلقاء الكتاب إليك ، سيرحمك بنصرتك عليهم وإرجاعك إلى بلادك سيدا منتصرا.
[٨٨](وَلا يَصُدُّنَّكَ) أي لا يمنعنك الكفار (عَنْ آياتِ اللهِ) أي اتباع آيات الله ، وإبلاغها للناس (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) لا يمنعنّك عن تنفيذ
وَادْعُ
إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ
لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
____________________________________
رسالتك خوفك منهم ، فإن الله ناصرك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) بالإيمان به واتباع أوامره (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يجعلون لله شريكا.
[٨٩](وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وكان الفرق بين (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) وبين هذا أن الأول نهي عن مجرد الشرك ولو القلبي منه ،
والثاني نهي عن الدعوة والدعاء إلى إله آخر ، والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كان منتهيا عن ذلك بدون نهي ، وإنما جيء تعريضا على
المشركين ، كما تقول لولدك المطيع : بني أطعني ، تريد التعريض بخادمك الذي لا
يطيعك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الله وحده لا شريك له ، فهو الإله الأزلي (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فهو الإله الأبدي ، والمراد بالوجه «الذات» يقال هذا
وجه الرأي أو وجه الطريق ، ويراد الرأي والطريق ، ولعل التعبير بالوجه للتنبيه على
بقاء جهة الاتجاه إليه سبحانه ، فليتوجه الإنسان إليه تعالى لأن وجهه باق أبدي ،
كلما أراد الإنسان أن يتجه إليه ويطلب منه الحاجة ، قابله تعالى بوجهه ، وهذا مجاز
، وإلا فليس لله سبحانه وجه وسائر الأمور الجسمية والعرضية ، من باب تشبيه المعقول
بالمحسوس (لَهُ الْحُكْمُ) فهو الحاكم في الكون ، ولا يصدر شيء إلّا عن حكمه
وإرادته (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أيها البشر ، في القيامة ليجزي كل إنسان بما عمل من شر
أو خير ، فهو واحد أزلي أبدي ، بيده الحكم وإليه المرجع.
(٢٩)
سورة العنكبوت
مكية أو مدنية /
آياتها (٧٠)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «عنكبوت» وهي كسائر السور المكية تبين موضوع
العقيدة الدائرة بين المبدأ والمعاد والرسالة ، ولما ختمت سورة القصص بالوعد
والوعيد ، افتتحت هذه السورة بذكر الامتحان الذي من خرج منه ناجحا نال الوعد ، ومن
خرج منه ساقطا نال الوعيد.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي هو بدأ التكوين والتشريع ، فمن
الجدير أن يجعل اسمه الكريم بدء كل حركة وسكون ، والتوصيف له بالرحم ـ مكررا ـ للنيل
من فيض رحمته الواسعة الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فلو لا رحمة الله سبحانه
لهلك الإنسان جسدا وروحا ، وبعد فإنه لو لا رحمته ابتداء لم يوجد.
الم
(١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)
____________________________________
[٢](الم) «ألف» و «لام» و «ميم» من أمثالها تركّب سور القرآن ، تركيبا يوجب الإعجاز
حتى لا يتمكن البشر من الإتيان بمثلها ، أو التقدير : هذه «الم» فهو خبر مبتدأ
محذوف ، وقد تقدم التلميح إلى بعض الأقوال في «مقطعات السور» معنى ، وإعرابا.
[٣](أَحَسِبَ النَّاسُ) أي هل ظن الناس (أَنْ يُتْرَكُوا) في أمن وراحة ، مجرد (أَنْ يَقُولُوا :
آمَنَّا) ثم تدرّ عليهم الخيرات والبركات ويسعدوا في الآخرة
والأولى (وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ) أي لا يمتحنون بأنواع الشدائد ، في طريق الإيمان ، حتى
يميز بين الصادق والكاذب ، والمجاهد والقاعد؟ هل ظنوا ذلك؟ إنهم أخطئوا إن ظنوا إن
مجرد التلفظ بالإيمان كاف في نيل السعادة.
[٤] وكيف يقتنع
عنهم بمجرد التلفظ بالإيمان (وَ) الحال إنا (لَقَدْ فَتَنَّا) وامتحنا (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) من المؤمنين الذين أظهروا الإيمان ، في الأمم السابقة ،
امتحانهم بأنواع الشدائد والمحن ، فكيف نترك هؤلاء بلا امتحان؟ (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) أي يمتحن ليعلم بالتأكيد (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم حتى أنه لا يزول بالمصائب والمحن (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) الذين كذبوا في دعوى الإيمان ، بل كان لقلقة لسان ،
والمراد بالعلم تعلق العلم بالمعلوم بوقوعه في الخارج ، فإنه يقال «علم» لمن جهل
ثم علم ، كما يقال : «علم» لمن علم ولكن لم يكن معلومه خارجيا ثم أوجد المعلوم في
الخارج ، فإنّ العلم الفعلي إنما
أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ
____________________________________
يتحقق بتحقق المعلوم الفعلي.
[٥] لقد كان
ذلك للمؤمنين ، أما الكافرون ، فإن موقفنا معهم أشدّ (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) «أم» منقطعة ، أي : هل حسب وظن العاملون بالمحرمات (أَنْ يَسْبِقُونا) أي يفوتوننا ، فلا نلحقهم تشبيه بمن يلحق المجرم الذي
فرّ ، وقد سبقه في الفرار حتى لم يلحق به ، إن من أجرم بالنسبة إلى أوامر الله ،
لا يفوت الله ، بل يدركه الطلب وإن فرّ إلى كهوف الجبال (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء الحكم حكمهم ، الذي حكموا حسب ظنهم بأنّا لا
ندركهم ولا ننتقم منهم ، فالله سبحانه يمتحن ، ومن رسب في الامتحان يدركه وينتقم
منه ، فليخش الناس مؤمنهم وكافرهم ، وبرهم وفاجرهم من عقاب الله سبحانه.
[٦] أما من آمن
ونجح في الامتحان فليطمئن بنصر الله (مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ) أي يأمل ثوابه سبحانه ، بأن آمن وعمل صالحا ، فإنه هو
الذي يرجو ، أما غيره فقوله أنا راج ، كذب ، لأنه من قبيل من لم يبذر ويقول أنا
راج ريع زرعي (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الوقت الذي وقّته الله للقائه وثوابه ـ والإضافة
لأدنى مناسبة ـ (لَآتٍ) أي يأتي قطعا ، فلا خلف في وعده (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأعمالهم ونياتهم ، فيكون جزائه عادلا لا ظلم فيه.
[٧](وَمَنْ جاهَدَ) الشيطان ونفسه والأعداء ، وهو مشتق من «جهد» بمعنى
فَإِنَّما
يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ
____________________________________
أتعب نفسه في دفاعه لأجل الإيمان (فَإِنَّما يُجاهِدُ
لِنَفْسِهِ) إذ فائدة الجهاد تعود إليه (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ) فهو لا يحتاج إلى جهاد المؤمنين ، وإنما المؤمنون
يحتاجون إلى الجهاد لنيل السعادة لأنفسهم.
[٨](وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر وما جاء به الرسول (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) الملازم لعدم السيئات (لَنُكَفِّرَنَ) أي نبطلنّ ونمحون (عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ) التي اقترفوها حتى يبقون بلا سيئة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي نعطيهم الجزاء ب (أَحْسَنَ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ) إما المراد أحسن جزاء أعمالهم ، كأن يكون الجزاء مثلا
للعمل الفلاني درجة واحدة فنعطيهم درجتين ، وإما المراد يعطون جزاء أحسن أعمالهم ،
أما الأعمال السيئة التي توجب النكال ، والأعمال التي توجب خفة الإنسان ونزول
رتبته في أعين الناس ، فلا نجزيهم عليها.
[٩] وحيث ذكر
سبحانه جزاء من عمل الصالحات أشار إلى ما هو من أهمّ الأعمال الصالحة ، الذي هو بر
الوالدين فقال (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي أمرناه أن يعاشر والديه (حُسْناً) بإطاعتهما ، والنزول عند رغبتهما.
(وَإِنْ جاهَداكَ) أيها الإنسان ، وألزماك (لِتُشْرِكَ بِي) بأن تجعل لي شريكا ، حيث كانا مشركين (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) «ما» مفعول
فَلا
تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذابِ اللهِ
____________________________________
«تشرك» أي تجعل شيئا شريكا لي ، وليس لك بذلك الشريك علم ، من باب السالبة
بانتفاء الموضوع ، إذ تعلم إنه ليس لي شريك ، فلا شريك حتى تعلمه ، كما يقال : لا
يعلم الله لنفسه شريكا ، يعني إنه لا شريك له حتى يعلمه (فَلا تُطِعْهُما) في الإشراك بي (إِلَيَ) أي إلى حسابي وجزائي (مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعكم أيها البشر ، و «مرجع» مصدر ميمي فلا تخالفوا
أوامره حتى تبتلوا بالعقاب والنكال (فَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) والمراد بالإخبار الجزاء على العمل ، كما تقول لمن تريد
وعده أو إيعاده : سأخبرك بعملك.
[١٠](وَالَّذِينَ آمَنُوا) بما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) رجوع إلى ما سبق ليرتب عليه قوله (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في جملتهم وزمرتهم.
[١١] وإذ قد
سبق امتحان الله للمؤمنين ولزوم الجهاد في سبيله ذكر السياق من ليس كذلك ممن يظهر
الإيمان ولا يجاهد ويرسب عند الامتحان (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) بمجرد قولة اللسان (فَإِذا أُوذِيَ) آذاه الكفار (فِي اللهِ) أي في جهة علاقته بالله وإيمانه به (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) ويظن أنه إن ترك الإيمان لا يعذّب بعذاب الله أكثر من
هذا العذاب الذي يلقاه بواسطة إيمانه ، ولذا يفكر في الرجوع عن
وَلَئِنْ
جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠)
وَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ
____________________________________
الدين ، لأنّ عذاب الله آجل ، وعذاب الناس له ـ المساوي في زعمه لعذاب الله
ـ عاجل ، ولم يعذّب نفسه عاجلا خوفا من عذاب آجل؟ هذا هو مقدار إيمانه في البلاء ،
فإنه لا يطيق ويسقط عند الامتحان ، وإذ ذهب الإيذاء وجاء النصر ، بسط ادعائه في
وجه المؤمنين قائلا أنه كان معهم في ساعة الشدة ليجعل نفسه في مقدمة القافلة فيحوز
الجاه العريض ، بعد تلك الانتكاسة (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ
مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله ، لك وللمؤمنين ، وذهب أذى الكفار (لَيَقُولُنَ) ذلك الساقط في الامتحان المتراجع عند الإيذاء (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أيها المؤمنون في ساعة العسرة (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي
صُدُورِ الْعالَمِينَ)؟ من الإيمان والنفاق ، وألم يعلم سبحانه أن هذا كيف
انتكس عند البلاء؟ فهيهات أن يجعل كالصابرين القانتين الصامدين أمام الإغراء
والإيذاء.
[١٢](وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا) بحقيقة الإيمان فدخل الإيمان قلوبهم حتى أن الافتتان لا
يصرفهم عن حقيقة إيمانهم (وَلَيَعْلَمَنَ) الله (الْمُنافِقِينَ) الذين آمنوا ظاهرا ، فإذا فتنوا جعلوا فتنة الناس كعذاب
الله.
[١٣](وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بحقيقة الإيمان (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) في الكفر والطغيان (وَلْنَحْمِلْ
خَطاياكُمْ) فنحن نحمل
وَما
هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ
____________________________________
آثامكم عنكم ، ومرادهم بذلك أن لا إثم حقيقي في اتباع الكفر والعصيان ،
وإنما هو إثم خيالي ، إذ لا بعث ولا نشور ، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ) إن كفروا وكذبوا (مِنْ شَيْءٍ) قليل أو كثير ، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا بذنب آخر
، نعم إن على هؤلاء عقاب الإضلال ، لكن ذلك لا يخفف من عقاب الأتباع شيئا ، بل
للمضل عقاب إضلاله ، ولمن ضل عقاب ضلاله (إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.
[١٤](وَلَيَحْمِلُنَ) هؤلاء الذين أضلوا (أَثْقالَهُمْ) أي أوزار أعمال أنفسهم (وَأَثْقالاً مَعَ
أَثْقالِهِمْ) أي أوزار إضلالهم للناس (وَلَيُسْئَلُنَ) يسألهم الله سبحانه (يَوْمَ الْقِيامَةِ
عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنه لا ذنب للكفر والعصيان كما يقولون للمؤمنين
يريدون إغواءهم ، والمراد بسؤالهم منهم أنهم يسألون مقدمة للعقاب ، فإن المجرم
يسأل عنه سؤال تقرير ليعذّب حسب جوابه.
[١٥] ثم ينتقل
السياق إلى بعض قصص الأنبياء لإنذار كفار مكة بأنهم إن لم يؤمنوا كان مصيرهم مصير
الأقوام من قبلهم حيث كذبوا الرسل فأخذهم الله بعقاب كفرهم وعصيانهم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى
قَوْمِهِ) ليدعوهم إلى الإيمان والطاعة (فَلَبِثَ فِيهِمْ) أي مكث داعيا لهم إلى
أَلْفَ
سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤)
فَأَنْجَيْناهُ
وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
____________________________________
الإيمان (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عاماً) أي تسعمائة وخمسين سنة فلم يجيبوه ، ولم يؤمن إلا نفر
قليل منهم ، ومثل هذا العمر ممكن فقد وصل العلم الحديث إلى إمكان تمديد العمر
بواسطة الأغذية والأدوية (فَأَخَذَهُمُ
الطُّوفانُ) وهو أن نزل من السماء المطر وتفجرت الأرض عيونا ، حتى
علا الماء وأغرق الكل ، والطوفان الماء الكثير الغامر سمي طوفانا لأنه يطوف ـ بكثرته
ـ في نواحي الأرض ، أو في النواحي التي يقع الكلام فيها (وَهُمْ ظالِمُونَ) قد ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان.
[١٦](فَأَنْجَيْناهُ) أي خلصنا نوحا منهم ومن الطوفان (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) فقد أمر نوح أن يصنع سفينة ويركبها هو والمؤمنون وركبها
ونجا من الغرق (وَجَعَلْناها) أي السفينة ، أو هذه القصة بكاملها (آيَةً) دالة على التوحيد ، أو على عذاب المكذبين (لِلْعالَمِينَ) أي الخلائق الذين يأتون بعد ذلك.
[١٧](وَ) لقد أرسلنا (إِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) ولا تعبدوا سائر الآلهة الباطلة (وَاتَّقُوهُ) بإتيان أوامره واجتناب نواهيه (ذلِكُمْ) «ذلك» إشارة إلى ما ذكره من العبادة لله والتقوى و «كم» خطاب (خَيْرٌ لَكُمْ) من الكفر والعصيان ، والتفصيل هنا منسلخ عن معنى الفضل
، أو المراد
إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ
الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ
____________________________________
بالنسبة إلى الخير الذي هم فيه مع الكفر (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي إن كان لكم علم بالواقع لعلمتم أنّ الإيمان والتقوى
خير.
[١٨](إِنَّما تَعْبُدُونَ) أنتم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير الله (أَوْثاناً) جمع «وثن» والمراد به الصنم أي أنكم تعبدون حجارة لا
تضر ولا تنفع (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) أي تقولون كذبا ، في قولكم إنّ هذه الأوثان آلهة ،
والكذب يسمى خلقا باعتبار أن الكاذب يخلقه ويأتي به من العدم إلى الوجود مع أنه لا
حقيقة له ، بخلاف الصدق الذي هو حكاية من الواقع والخارج (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ) أي الأصنام ، وإنما أتى بضمير العاقل ، جريا على كلام
القوم عند الحوار ، كما قال الشاعر :
قالوا اقترح
شيئا نجد لك طبخة
|
|
قلت اطبخوا
لي جبة وقميصا
|
(لا
يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) فليست أرزاقكم التي ترزقونها مملوكة لهذه الأصنام حتى
تقولوا إنا نعبدها لما تهيئ لنا من الرزق ، أو تقولوا إنما نعبدها لتدر علينا
الأرزاق (فَابْتَغُوا) واطلبوا (عِنْدَ اللهِ
الرِّزْقَ) فإنه هو المالك للرزق والمعطي له. وكم يقبح أن يتصرف
الإنسان في رزق الله ، ويعبد غيره ، ويطلب من لا يكون بيده الرزق ويترك الطلب ممن
بيده الرزق؟ (وَاعْبُدُوهُ) وحده (وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم
إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا
فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ
(١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
____________________________________
عليكم ، فهو الإله وهو المتنعم (إِلَيْهِ) تعالى (تُرْجَعُونَ) أي إلى حسابه وجزائه مرجعكم إذا متم وإذا قامت القيامة
، فهو المبدئ ، وهو المعيد ، وهو المعطي لكم الرزق الآن.
[١٩] ثم قال
لهم إبراهيم عليهالسلام (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) قولي ولم تؤمنوا بي (فَقَدْ كَذَّبَ
أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أنبياءهم ، فلم يضر التكذيب الأنبياء (وَ) إنما ضر المكذبين إذ (ما عَلَى الرَّسُولِ) أي ليس عليه شيء (إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) أي أن يبلغ بلاغا ظاهرا واضحا ، فإذا أنجز عمله فقد ترى
من عهدة ما كلف ويلقى جزائه الحسن.
[٢٠](أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار ، وهذا إما من تتمة كلام إبراهيم ، أو هذه
الآية والسابقة واللواحق ، معترضة بين أثناء الكلام ، جيء بها للإيقاظ والتنبيه (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) من العدم إلى الوجود (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الإماتة ، كما أنشأه من العدم ، فإن من يقدر على
الابتداء قادر على الإعادة (إِنَّ ذلِكَ) الإرجاع والإعادة بعد الموت (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل هيّن ، فكيف ينكرون البعث وهم يرون النشأة الأولى؟
كما أنهم كيف ينكرون وجود الله وهم يرون آثاره؟ وكيف ينكرون الرسالة وقد رأوا
المكذبين كيف أهلكوا؟.
[٢١](قُلْ) يا رسول الله ، للكفار (سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ) بالسفر إلى البلاد ،
فَانْظُرُوا
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١)
وَما
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ
____________________________________
والمرور على الصحاري والقفار (فَانْظُرُوا كَيْفَ
بَدَأَ) الله (الْخَلْقَ) فإنّ الإنسان يألف الجو الذي ينشأ فيه ولذا يتفتح قلبه
إلى مشاهد الخلقة الخارجية التي تظهر في الأولاد إذا ولدوا ، والنبات إذا نبت ،
وهكذا أما إذا سار لفت نظره إلى رؤية البلاد ، وتقلب الأحوال (ثُمَّ اللهُ) بعد إهلاك الناس أجمع (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ) فإنه كما أنشأها ابتداء ينشأوها ثانيا ، ومعنى الإنشاء
الإيجاد (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإنه سبحانه على الإنشاء والإفناء والإعادة قادر ، فكيف
ينكر هؤلاء المعاد؟.
[٢٢] إنه يعيد
الخلق ليجازيهم حسب أعمالهم ف (يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) ممن كفر وعصى ، فإنّ الله سبحانه حكيم لا يفعل عبثا أو
خلاف العدل (وَيَرْحَمُ مَنْ
يَشاءُ) من آمن وأطاع (وَإِلَيْهِ) أي إلى جزائه وحسابه (تُقْلَبُونَ) أيها البشر ، ومعنى تقلبون : ترجعون ، لأن الرجوع هو
انقلاب الإنسان من حال إلى حال.
[٢٣] وإنكم
أيّها الكفار لا تقدرون على الإفلات من عقاب الله سبحانه ، فإن الإنسان تحت قدرة
الله ، يقلبه كيف يشاء ، ويفعل به ما يشاء ، سواء كان في الأرض أو في السماء (وَما أَنْتُمْ) أيّها الكفار (بِمُعْجِزِينَ) الله تعالى بأن تصنعوا صنعا يمنع من أخذكم والعذاب على
أعمالكم ، سواء كنتم (فِي الْأَرْضِ وَلا
فِي السَّماءِ) على تقدير إن
وَما
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي
____________________________________
تمكنتم من الذهاب إليها ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام :
باتوا على
قلل الأجبال تحرسهم
|
|
غلب الرجال
فلم تنفعهم القلل
|
(وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ) أي سواه (مِنْ وَلِيٍ) يلي أموركم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ، فلا أحد يتولى شؤونكم ، ولا أحذ ينصركم ، فما
تظنون من أن الأصنام تنفع فهو ظن باطل ، إذن فأنتم بذاتكم لا تتمكنون من إعجازه
سبحانه ، ولا ناصر لكم حتى يقف ذلك الناصر دون بأس الله.
[٢٤](وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بأن كذبوا الآيات التكوينية ولم يعترفوا بدلالتها على
وجود الله ، وكذبوا بآيات الله المنزلة بأن قالوا إنّها ليست من قبل الله تعالى (وَلِقائِهِ) فقالوا أن لا بعث ولا نشور ، والمراد لقاء ثوابه وجزائه
(أُولئِكَ يَئِسُوا
مِنْ رَحْمَتِي) فإنه لا عمل لهم حتى يستحقّوا الثواب ، فيكون لهم رجاء
، والمعنى إنهم يائسون حقيقة ، وإن كان فيهم من لا يأس له ، وهذا كقوله (لا رَيْبَ فِيهِ) حيث يراد فيه أنه ليس محلا للريب ، وإن ارتاب فيه
المبطلون ، وهذا من تتمة قوله (وَيَرْحَمُ مَنْ
يَشاءُ) حتى لا يزعم الكفار أنهم يدخلون في زمرة من يرحمهمالله ، كما قال ذلك الكافر : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ
__________________
وَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ
أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ
____________________________________
خَيْراً
مِنْها مُنْقَلَباً) (وَأُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع في النار ، وهذا بالتأكيد ، فهو طرف الإيجاب
، ويئسوا ، طرف السلب.
[٢٥] لقد كان
إبراهيم عليهالسلام يحتج على قوله بأنواع الاحتجاج ، كما سبق بعضه (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي قوم إبراهيم عليهالسلام وهم نمرود وسائر الكفار المعاصرون له (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ) أي اقتلوا إبراهيم جزاء على دعوته إلى التوحيد وتعييبه
الأصنام (أَوْ حَرِّقُوهُ) بالنار وأخيرا استقر رأيهم على إحراقه ، وألقوه في
النار (فَأَنْجاهُ اللهُ
مِنَ النَّارِ) إذ قال سبحانه للنار : كوني بردا وسلاما على إبراهيم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من قصة إبراهيم : دعوته ، وكيد الأعداء ،
وإنجائه (لَآياتٍ) دالة على أنه كيف ينصر الله أوليائه ، ويخذل أعدائه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أن الله ينصر أولياءه ، ويخذل أعداءه أما غيرهم فلا
يعتبرون بهذه القصص ، ولذا لا ينتفعون بهذه الآيات.
[٢٦](وَقالَ) إبراهيم عليهالسلام لقومه ، إما بعد نجاته من النار ، وإما قبل إلقائه في
النار ، وآخر السياق هذه الجملة ، لاستعجال المخاطب أن يعرف كيف صارت النتيجة ـ كما
هو الطبيعي في أمثال هذه القصص ـ (إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ) أيها القوم (مِنْ دُونِ اللهِ
أَوْثاناً) أي أصناما ، لأجل (مَوَدَّةَ
__________________
بَيْنِكُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
فَآمَنَ
لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٢٦)
____________________________________
بَيْنِكُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإنّ الأصنام كانت تجمعهم على العقيدة الواحدة ، فإذا
أراد أحدهم الخروج عن عبادتها انفصمت مودته عن سائر أقربائه وأصدقائه ، ولذا كان
يحافظ على هذه المودة بالاستمرار في عبادتها ، فاتخاذكم للأصنام للمجاملة لا
للعقيدة ، لكن هذه المودة تنقلب عداوة يوم القيامة (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي يتبرأ بعض الكفار من بعض ، القادة من الأتباع
والأتباع من القادة (وَيَلْعَنُ) ويسب (بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فيلعن الأتباع القادة الذين أضلوهم ، ويلعن القادة
الأتباع لئلّا يحملوا إثم الأتباع (وَمَأْواكُمُ) أي مرجعكم ومصيركم (النَّارُ) جزاء لشرككم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونكم ويدفعون العذاب عنكم.
[٢٧] إنّ القوم
لم يؤمنوا بإبراهيم ، (فَآمَنَ لَهُ) أي لإبراهيم (لُوطٌ) النبي عليهالسلام ، وهو ابن أخت إبراهيم ومعنى آمن أنه صدقه في دعوته ،
وإن كان هو أيضا نبيا (وَ) لما أن رأي إبراهيم أنهم لا تنفع فيهم الدعوة (قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) من بلادكم وقد كان قرب الكوفة (إِلى رَبِّي) أي إلى المكان الذي يختاره ربّي (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب سلطانه ، فلا يذل من نصره (الْحَكِيمُ) الذي يفعل الأشياء بالحكمة والصواب.
وَوَهَبْنا
لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ
وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨)
____________________________________
[٢٨](وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم (إِسْحاقَ) من سارة زوجته العقيمة ، فقد كان إعطائه الولد منها
خارقا ، أما إسماعيل عليهالسلام ، فقد كان من الطريق المألوف (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق ، جد بني إسرائيل (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ) أي في ذرية إبراهيم عليهالسلام (النُّبُوَّةَ
وَالْكِتابَ) فقد بعث الله منهم أنبياء كثيرين وما موسى وعيسى ومحمد «صلوات
الله عليهم أجمعين» إلا من ذريته عليهالسلام ، وقد أعطي التوراة والإنجيل والقرآن (وَآتَيْناهُ) أي أعطينا إبراهيم (أَجْرَهُ) أي جزاء بلاغه وصموده في الدعوة (فِي الدُّنْيا) حيث رفعنا مقامه ، وجعلنا له الذكر الحسن ، وجعلنا
السيادة والملك والنبوة في أولاده وأحفاده (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) بأن يكون في زمرة الأنبياء العظام.
[٢٩](وَ) أرسلنا (لُوطاً) إلى قومه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ويجوز أن يكون التقدير ، واذكر لوطا حين تكلمه مع قومه (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي لتعملون الخلة الفاحشة في الإثم ، فإن فحش بمعنى
تجاوز الحدّ ، واللواط إذ كان كبيرة جدا ، يسمى بالفاحشة (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بهذه الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ) فإنكم اخترعتموها ، ومن المعلوم أن البادئ في العمل
القبيح أظلم ، لأنه يعلّم غيره ويمهد السبيل لغيره.
أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩)
قالَ
رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠)
____________________________________
[٣٠](أَإِنَّكُمْ) أيها القوم (لَتَأْتُونَ
الرِّجالَ) أي تفعلون معهم (وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ) فقد اشتهر عملهم الفاحش في القرى المجاورة ، وإن من يمر
بهم يفعلون به ، ولذا ترك الناس المرور بمدنهم ، خوف الفضيحة (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)؟ النادي هو محل الاجتماع ، مشتق من النداء ، لأن بعض
الناس ينادي بعضا آخر للاجتماع والذهاب إليه ، فقد كانوا يتحابقون في النادي بغير
حشمة واحترام ، ولعلّ أن نواديهم كانت مركزا لأنواع الفسوق ، كما هو الطبيعي في
مثل تلك الأمة ، ونشاهد مثلها في زماننا هذا ، ومن المعلوم أن الاستفهام إنكاري (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي قوم لوط (إِلَّا أَنْ قالُوا
ائْتِنا) وجيء إلينا (بِعَذابِ اللهِ) الذي تعدنا على كفرنا ومنكرنا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك وما تقول بأن البقاء على الكفر والعصيان موجب
للعذاب.
[٣١] عند ذاك (قالَ) لوط عليهالسلام مناجيا ربه ، يا (رَبِّ انْصُرْنِي
عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بتعذيبهم ، ونجاتي منهم ، وقد دعا بذلك بعد ما يأس من
اهتدائهم.
[٣٢] وقد
استجاب الله دعاء لوط ، فأرسل جبرائيل ومعه ملكين آخرين لتعذيب أهل القرية ، وفي
طريقهم إلى بلاد لوط مرت الملائكة على
وَلَمَّا
جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها
لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ
امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ
جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ
____________________________________
إبراهيم عليهالسلام (وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) جلسوا عنده في زيّ لم يعرفهم ، ثم عرفهم ، وزفّوا إليه (بِالْبُشْرى) أي البشارة بإسحاق ، وإن الله يرزقه ولدا من زوجته «سارة»
بعد ذلك (قالُوا) أي الملائكة (إِنَّا مُهْلِكُوا
أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي قرية قوم لوط ، وقد كانت قريبة من محل إبراهيم عليهالسلام (إِنَّ أَهْلَها
كانُوا ظالِمِينَ) كافرين مرتكبين للفواحش والمنكرات.
[٣٣](قالَ) إبراهيم عليهالسلام للرسل (إِنَّ فِيها) أي في القرية (لُوطاً) وهو عبد صالح ، فكيف تهلكون القرية وهو فيها؟ (قالُوا) أي قالت الملائكة في جواب إبراهيم (نَحْنُ أَعْلَمُ) من غيرنا (بِمَنْ فِيها) فلا نريد إهلاك الجميع حتى لوط عليهالسلام (لَنُنَجِّيَنَّهُ) أي نخلص لوط (وَأَهْلَهُ) المؤمنين بإخراجهم من القرية (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإنها تبقى لتعذب فيمن يعذّب لأنها فاسدة ظالمة كسائر
القوم (كانَتْ) المرأة (مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين لتعذب مع القوم ، من «غبر» بمعنى مضى ،
كأنها تمضي فيمن يمضي.
[٣٤](وَ) تحركت الملائكة من عند إبراهيم قاصدين قرى لوط و (لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا) أي الملائكة (لُوطاً) عليهالسلام (سِيءَ بِهِمْ) أي ساء لوط
وَضاقَ
بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣)
إِنَّا
مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا
مِنْها آيَةً بَيِّنَةً
____________________________________
مجيء الرسل ، فإنه لم يعرفهم ابتداء وظنهم ضيوفا آدميين ، وقد كانوا أصحاب
جمال ، فخاف لوط إن اطلع القوم أن يعملوا معهم الفاحشة (وَضاقَ) لوط (بِهِمْ) أي بسبب الرسل (ذَرْعاً) هذا تمييز ل «ضاق» أي ضاق من حيث الذرع ، وهو الطاقة ،
وقد عرف القوم بمكان الضيوف ، وجاءوا لأخذهم وعمل الفاحشة ، فخاف لوط من الفضيحة ،
وهناك أظهر الرسل حقيقة أمرهم (وَقالُوا) للوط (لا تَخَفْ) علينا ولا على نفسك (وَلا تَحْزَنْ) بما نفعله بالقوم من العذاب ، أو لا تحزن علينا ، فإنهم
لن يصلوا إلينا ولا إليك (إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ) أي ننجيك من العذاب الذي يشملهم (إِلَّا امْرَأَتَكَ) الكافرة فإنا لا ننجيها بل نذرها مع القوم (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) من جملة الباقين لتعذب بعذابهم.
[٣٥](إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ) التي أنت بها ، وهي «سدوم» (رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما
كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله بالكفر والعصيان.
[٣٦] ثم خرج
لوط والمؤمنون ليلا ، ونزل العذاب على أهل القرية (وَلَقَدْ تَرَكْنا
مِنْها) أي أبقينا من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) أي علامة واضحة ، وهي آثار منازلهم الخربة ، وأرضهم
التي لا تنبت
لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً
____________________________________
(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإذا ذهب الإنسان من الحجاز إلى الشام ، أو رجع رأى
أرضهم اليباب في الطريق.
[٣٧](وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) اسم قبيلة سميت باسم جدهم الأعلى «مدين» (أَخاهُمْ شُعَيْباً) فإن شعيب كان من نفس تلك القبيلة (فَقالَ) لهم (يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ) وحده لا شريك له ولا تتخذوا الأصنام آلهة شركاء مع الله
(وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ) أي اعتقدوا به ، راجين لثوابه ، وذلك كناية عن طلبه لهم
ـ فوق الاعتقاد بالقيامة ـ العمل الصالح لأجل لقائه (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يقال «عثى» إذا أفسد فسادا كثيرا ، ولعل التأكيد ب «مفسدين»
لإفادة أن لا يكون فسادهم عن قصد وتعمد ، أي لا تفسدوا في الأرض عامدين.
[٣٨](فَكَذَّبُوهُ) وقالوا له أنت تكذب في وحدة الإله ، ووجود اليوم الآخر
، وإنك رسول من قبل الله (فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ) صاح بهم جبرائيل صيحة رجفت واضطربت منها أجسامهم (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) التي ينبغي أن يكونوا في أمن وسلام فيها ، فإن الإنسان
يصاب بالمكروه في الأسفار لا في الديار (جاثِمِينَ) من جثم ، بمعنى بقي بدون حركة ، وهو كناية عن موتهم من
تلك الصيحة.
[٣٩](وَ) أهلكنا أيضا (عاداً) بعد ما أنذرهم النبي هود عليهالسلام ، فلم يقبلوا
وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ
وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩)
____________________________________
قوله (وَثَمُودَ) بعد ما أنذرهم النبي صالح فكذبوه (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) يا كفار قريش ، بعض (مِنْ مَساكِنِهِمْ) الباقية في أطراف بلادكم ، فكان «حجر» بلاد ثمود في طرف
الشام ، والأحقاف بالقرب من حضرموت يمن بلاد عاد (وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فكانت أعمالهم العصيانية مزينة في أعينهم ، والمزين هو
الشيطان ، لأنه الذي يوسوس بالقبائح إلى الإنسان (فَصَدَّهُمْ) أي منعهم (عَنِ السَّبِيلِ) أي سبيل الله (وَكانُوا
مُسْتَبْصِرِينَ) يبصرون الأمور ويميزون بين الحق والباطل ، ومع ذلك
ارتكبوا المعاصي فأهلكوا ، والمراد بهذا أنهم ، قد تمت عليهم الحجة.
[٤٠](وَ) أهلكنا (قارُونَ) الذي كان من قوم موسى ، ومرت قصته في السورة السابقة (وَفِرْعَوْنَ) الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى (وَهامانَ) وزير فرعون (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أي جاء إلى هؤلاء الثلاثة (مُوسى) النبي عليهالسلام (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات من العصا واليد ، وفلق البحر وغيرها
(فَاسْتَكْبَرُوا) أي طلبوا الكبرياء (فِي الْأَرْضِ) ولم يخضعوا لأوامر موسى ، لما قد ظنوا أن في ذلك منافاة
لمقامهم وعظمتهم (وَما كانُوا
سابِقِينَ) أي لم يفوتنا ، تشبيه بمن يسبق الطالب في الفرار ، فلا
يتمكن من اللحاق به ليعاقبه.
فَكُلاًّ
أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ
____________________________________
[٤١](فَكُلًّا) من تلك الأقوام ، وأولئك الأفراد الذين عتوا عن الحق ،
ولم يطيعوا الأنبياء (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي عذبناه حسب معصيته (فَمِنْهُمْ مَنْ
أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) وهي الحجارة ، وهم قوم لوط الذين أمطروا بالحجارة (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم ثمود ، وأهل مدين ، حيث صاح بهم جبرائيل فأهلكوا من
شدة وقع الصيحة في قلوبهم وعلى أرواحهم (وَمِنْهُمْ مَنْ
خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) فذهب في الأعماق ، وهو قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) في البحر ، وهو فرعون وهامان وقومهما (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبهم بهذه الأنواع من العذاب من غير ذنب ، وبدون
إتمام الحجة (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان فرأوا جزاء أعمالهم.
[٤٢] ألا
فليعتبر كفار قريش بهذه العبر ، وإلا أصابهم ما أصاب أولئك ، وماذا يتخذ الكفار من
الآلهة؟ فهل هؤلاء الأولياء يقاسون بالله؟ كلا إنها أوهن من بيت العنكبوت ، ومثل
هؤلاء الذين يتخذون الأصنام آلهة كمثل العنكبوت التي تبقى وتحرز نفسها بالبيت
الضعيف الذي صنعته من خيوط واهية لا بقاء له ، ولا يقيها من شر الأعداء (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللهِ أَوْلِياءَ) وهي الأصنام التي كان المشركون
كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ
يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ
____________________________________
يتولونها ، ويجعلونها أولياء لهم عوض أن يتخذوا الله وليا (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً) لنفسها لتأوي إليه ، ويقيها الكوارث ، فكما أن بيت
العنكبوت لا يفيدها شيئا ، كذلك أولياء هؤلاء لا يفيدونهم شيئا ولا يضرونهم في
الدنيا ، ولا في الآخرة (وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ) التي تصنعها الحيوانات (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) فإن بيتها يطير بنفح من وهنه وضعفه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان هؤلاء يدركون الواقع ، لعلموا أن أولياءهم
كبيت العنكبوت الذي لا يغني شيئا.
[٤٣] فليعملوا
ما شاءوا ، وليتخذوا من شاءوا أولياء ، فهم بعلم الله ، وسيجزيهم بما اقترفوا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي أنه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار من الأصنام ، فهو
يعلم دعوتهم ، كما يعلم معبوداتهم ، وهذا تهديد لهم ، كما تقول : أنا أعلم من
تجالس ، تريد تهديده في هذه المجالسة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) سلطانه ، فإذا أراد شيئا تمكن عليه (الْحَكِيمُ) لا يفعل شيئا إلا حسب المصلحة ، فتأخير إهلاك هؤلاء ،
ليس عجزا ، بل عن حكمة وصلاح.
[٤٤](وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) الأشباه والنظائر التي نشبه بها بعض الأمور ، كتشبيه
أولياء الكفار ببيت العنكبوت (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي نذكرها لهم ، وقد سبق أنه يسمى «ضربا» باعتبار أنه
يوجد اصطداما في الذهن ، مما
وَما
يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
اتْلُ
ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى
عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
____________________________________
يسبب تركيز المطلب وبقائه (وَما يَعْقِلُها) أي ما يفهم الأمثال (إِلَّا الْعالِمُونَ) فإن العلماء هم الذين تهز مشاعرهم الأمثال ، أما من
سواهم ، مما لا فكر له ولا تدبير ، فيبقى جامدا لا حراك لذهنه.
[٤٥] إن كل ما
يذكره سبحانه للحق لا للهو ، ومنه ضرب المثل ، فقد (خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فلم يكن خلقهما لأجل اللعب واللهو ، فكيف من يخلق
الأشياء بالحق يأتي بالمثل لعبا؟ إذ فعل الواحد بعضه يشبه بعضا؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلق الكون (لَآيَةً) دالة على وجود الله وصفاته (لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم المنتفعون بهذه الآية ، وإن كان كونه علامة عامة
لجميع العقلاء ، فكيف يتخذ الكفار من دونه أولياء؟
[٤٦](اتْلُ) أي أقرأ يا رسول الله (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ
مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدّها بحدودها وآدابها (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الفحشاء صفة للمعصية المقدرة ، وهي أعظم من المنكر
لاعتبار كونها فاحشة في الحرمة متعدية للحدود تعديا كثيرا ، من فحش بمعنى تعدى ،
والمنكر كل عصيان ينكره العقل والشرع ، وإنما كانت الصلاة ناهية عن المنكرات ،
لأنها ـ باستمرارها ـ تولد في الإنسان ملكة الخوف من الله الموجب لاجتناب المعاصي (وَلَذِكْرُ
اللهِ
أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)
____________________________________
اللهِ) بأن يكون الإنسان متذكر لله سبحانه دائم الأوقات ، حتى
لا يصدر منه عصيان إطلاقا ، لخوفه منه تعالى (أَكْبَرُ) من الصلاة ، لأن الصلاة من إحدى مصاديق الذكر ولوازمه (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) أيها البشر ، فاعملوا الطاعات ، ولا تعملوا المعاصي ،
فإنكم تحت اطلاعه وعلمه ، لا يفوته شيء من أعمالكم ، ولعل المراد بهذه الآية ،
إعلام النبي ، بأنه يستمر في عمله ودعوته ، فلا يهتم بما يفعله المشركون والعصاة ،
إنه مأمور بالسير فمن شاء تبعه ، ومن لم يشأ بقي في كفره وضلاله.
تقريب القران الى الأذهان
الجزء الحادي والعشرون
من آية (٤٧) سورة العنكبوت
إلى آية (٣١) سورة الأحزاب
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته
الطاهرين
وَلا
تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)
____________________________________
[٤٧] ولما ذكر
سبحانه لزوم الدعوة إليه سبحانه ، وتقدم قسم من الاحتجاجات مع المشركين ، بين
كيفية دعوة أهل الكتاب ، وخصهم بالذكر لأنهم أكثر خطرا على الدعوة الإسلامية من
المشركين ، فإنهم إن ثارت حفيظتهم عملوا عملهم في هدم الإسلام ، فقال سبحانه (وَلا تُجادِلُوا) أيها المسلمون ، والجدال الاحتجاج مع الخصم في مطلب
مختلف فيه (أَهْلَ الْكِتابِ) وهم اليهود والنصارى والمجوس (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالطريقة التي هي أحسن الطرق ، بأن تكون بعيدة عن
آثار الغضب ، قريبة إلى النصفة ، قوية في الحجة ، برفق ولين (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالاعتداء في البحث والإفراط ، فإن أخذ طرف اللين ،
وجانب الرفق ، يوجب تقوية جانبهم ، فإنه مباح أن تكون المجادلة حينئذ بالمثل (وَقُولُوا) لهم عند الجدل (آمَنَّا) نحن المسلمين (بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنا) وهو القرآن (وَأُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ) وهو التوراة أو الإنجيل ـ مثلا ـ (وَإِلهُنا) نحن المسلمين (وَإِلهُكُمْ) أنتم أهل الكتاب (واحِدٌ) فلا نعبد إلها لا تعبدونه (وَنَحْنُ لَهُ) لذلك الإله (مُسْلِمُونَ) قد خضعنا وأنقذنا ، وإذ كان لنا ولكم أمور مشتركة ،
فلنجتمع عليها ، وندع الأمور المفرقة ، ككون البشر الفلاني ابن الله ، ونحو ذلك
وهذا مثل قوله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ)
__________________
وَكَذلِكَ
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ
الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ
تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ
____________________________________
[٤٨](وَكَذلِكَ) أي كما أنزلنا على موسى وعيسى عليهماالسلام الكتاب (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) الذي هو القرآن ، فالكتب كلها منزلة من عند إله واحد ،
لغاية واحدة ، وإنما التحريف حصل من أهواء قوم قد ضلوا أو أضلوا (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) بأن كانوا حقيقة من أهل الكتاب لا من أهل الأهواء
والتعصب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بهذا الكتاب الذي أنزل إليك (وَمِنْ هؤُلاءِ) الكفار الذين في مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالقرآن (وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا) ينكرها ، ولا يعترف بها (إِلَّا الْكافِرُونَ) الذين كفروا بالله ، ولا يريدون الحق ، سواء كانوا في
زي أهل الكتاب ، أو في زي المشركين وإلا فالأدلة الدالة على صدق هذا الكتاب متوفرة
، فما يمنعهم عن الإيمان ، إلا بالكفر والجحود؟
[٤٩] وقد حفظنا
هذا القرآن عن كل شبهة ، لمن أراد الحق والإنصاف ، فقد جعلنا الرسول أميّا لم
يختلف إلى معلم قط ، فلم يكن القرآن محل شبهة أن يكون الرسول تعلم قبلا ثم جاء به (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (تَتْلُوا) وتقرأ (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن (مِنْ كِتابٍ) فلم يكن الرسول قارئ حسب الموازين الاجتماعية ، وإن كان
يعرف القراءة بإلهام الله تعالى (وَلا تَخُطُّهُ) أي لم تكن تكتب الكتاب (بِيَمِينِكَ)
إِذاً
لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا
إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا
____________________________________
أي بيدك ، وإنما خصّ اليمين ، لأنه الغالب في الكتابة (إِذاً) أي لو كنت تقرأ أو تكتب (لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ) أي لوجد المبطلون طريقا للتشكيك في القرآن ، ولقالوا
إنما جمعه مما تعلمه سابقا ، وإنما قال «المبطلون» لأن الارتياب أيضا في ذلك الوقت
كان في غير محله إذ إن الكاتب القارئ ، لا يتمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن.
[٥٠] إذن لم
يكن القرآن مجموعا من علوم سابقة تعلمها الرسول ، ثم جاء بها بهذه الصورة (بَلْ هُوَ) أي القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ) واضحات في كونها خارقة من عند الله سبحانه ، لا من صنع بشر ، وتأليف إنسان (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) فمن كان عالما ، يعلم أن هذا القرآن ، لا يمكن أن يأتي
به بشر ، فقوله «في صدور» متعلق ب «بينات» أي أنها واضحة عند أهل العلم ، أما
الجهّال ، فإنهم لا يميزون بين المعجز ، وبين المؤلف ، كما لم يميزوا بين عصا موسى
، وسحر السحرة ، وبين إحياء عيسى وطب الأطباء (وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا) وينكرها ، بل يقول إنها مختلقة اختلقها الرسول (إِلَّا الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن منهج الحق ، فتمسكوا
بالافتراء لإطفاء نور الإسلام.
[٥١](وَقالُوا) أي الكفار (لَوْ لا) أي هلّا ، ولماذا ما (أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) خارقة ، كخارقة العصا ، واليد البيضاء؟ فإنه لو كان
نبيا لأتى بمثل ما أتى موسى ، فقد أعرضوا عن القرآن المعجز الباقي ، إلى طلب معجزة
مادية مؤقتة (قُلْ) يا رسول الله ، في جوابهم (إِنَّمَا
الْآياتُ
عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)
____________________________________
الْآياتُ
عِنْدَ اللهِ) فإذا شاء أنزلها ، وإن لم يشأ لم ينزلها ، أما ما يكفي
للحجة ، فقد أتيتكم به ، وأما للمعاند ، فلا تكفي حتى تلك الآيات المادية (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي منذر واضح إني من قبل الله تعالى ، أما كيفية
المعجزة ، فهو سبحانه أعلم بمصالح العباد ، وقد كان هؤلاء معاندون ، وإلا ألم يكفر
الناس بموسى (قالُوا سِحْرانِ
تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) ثم إن الله خصّ كل نبي بآية تناسب زمانه ، وزمان الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث كان زمن الفصاحة والبلاغة ، كان المناسب له الإتيان
بهذا الجنس من الإعجاز ـ كما قرر ذلك في علم الكلام مفصلا ـ.
[٥٢](أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) أي ألا يكفي هؤلاء الكفار ، دليلا على صدقك ونبوتك (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) الذي هو القرآن (يُتْلى عَلَيْهِمْ) ويقرأ لديهم ، فلا يتمكنون من الإتيان بأقصر سورة منه ،
مع أنهم فصحاء بلغاء؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنزال للكتاب (لَرَحْمَةً) حيث يقرر القرآن مناهج السعادة للبشر (وَذِكْرى) تذكر البشر ، بما أودع فيهم من الفطرة بالنسبة إلى
المعارف والآداب ، وأصول الاجتماع (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وإنما خصهم ، لأنهم هم المنتفعون بالقرآن ، وإلا
فالقرآن ذكرى لجميع البشر ، وهل بعد هذا الكتاب العظيم ، يطلب
__________________
قُلْ
كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ
____________________________________
منك الكفار أن تأتيهم بآية مادية ، لا تقرر للحياة منهجا ، ولا تذكر الإنسان
تذكيرا؟
[٥٣](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يناقشون في نبوتك ويطلبون
الخوارق المادية للإيمان برسالتك (كَفى بِاللهِ) أي كفى الله ، وإنما جيء بالباء ، لأنه بمعنى اكتفى
فلان بالله (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
شَهِيداً) فالنزاع الذي بيني وبينكم حول رسالتي ، يشهد الله لي ،
وذلك لأنه أجرى هذه الخارقة ـ وهو القرآن ـ على لساني ، ولو كنت كاذبا لتمكن كل
فصيح أن يأتي بمثله ، ولا مجال ، لأن تقولوا إن الله لا يعلم بادعائك هذا ، حتى
يرد عليك ويمنعك ، فإنه (يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكيف لا يعلم بي ، وبادعائي (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) بأن عبدوا الأصنام ، وجعلوها آلهة (وَكَفَرُوا بِاللهِ) بأن أنكروه أو أشركوا به (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم ، فعوض أن يعطوا النفوس ، ليحصلوا
على الجنة ، أعطوا النفوس فحصلوا على النار ، حتى ابتليت نفوسهم ، كالخاسر الذي
يذهب رأس ماله ، وحيث إن طرف كلام الرسول كان المشركين الذين ينكرون التوحيد ،
والرسالة ، والمعاد ، جاءت الآيات معترضة لكل ذلك ، فلا يقال أي ربط بإنكارهم
للرسالة التي كان التعرض عليها في أول الآية ، مع الذين آمنوا بالباطل؟
[٥٤](وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا رسول الله (بِالْعَذابِ) أي يطلبون عجلة العذاب
وَلَوْ
لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ
الْعَذابُ
____________________________________
لأنفسهم ، فإنهم كانوا يقولون للرسول ، إن كان حقا ، فادع ربك أن ينزل
علينا العذاب ـ استهزاء ـ لأن يقولوا ، حيث لم تقدر على إنزال العذاب ، فأنت كاذب
، لا اتصال لك بالله (وَلَوْ لا أَجَلٌ) ووقت قدّره الله لهم (مُسَمًّى) قد سمّي ذلك الوقت في اللوح المحفوظ (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) الذي استحقوه ، فإنه سبحانه قدّر لهم أجلا ، للامتحان ،
ولإيمان بعض الكافرين ، لذا ترى أنه لو عجل على كفار مكة العقاب ، فات إيمان جماعة
منهم آمنوا بعد ذلك (وَ) لا يستبطئ الكفار العذاب ، فإنهم إن بقوا على كفرهم (لَيَأْتِيَنَّهُمْ) العذاب (بَغْتَةً) أي فجأة بدون سابق إنذار ، وذلك عند مماتهم ، أو عند
حرب الرسول لهم ، وقتلهم وأسرهم ، أو ما أشبه ، كما ابتلى جماعة منهم بأنواع
الأمراض المهلكة (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) بوقت إتيان العذاب حتى يأخذوا حذرهم.
[٥٥](يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي إن هؤلاء ، إنما يطلبونك يا رسول الله ، بأن تجعل
لهم العذاب في الدنيا ، فلنأخذ أنهم لم يعذبوا هنا ـ لبعض المصالح ـ فهل لهم إفلات
عن عذاب جهنم؟ كلا (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) مشتملة عليهم بحيث لا مفرّ لأحد منهم ، منها ،
وسيلاقونها ويعذبون فيها بأنواع العذاب.
[٥٦] إن عذاب
جهنم ليحيط بهم في (يَوْمَ يَغْشاهُمُ
الْعَذابُ) ويسترهم
مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)
كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧)
____________________________________
(مِنْ فَوْقِهِمْ
وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) فهم في وسط النار المحيطة بهم (وَيَقُولُ) الله لهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم فقد أسند ما للمسبب إلى السبب ، إذ
العمل سبب العذاب.
[٥٧] وإذ رأينا
جزاء الكافرين فلننظر إلى المؤمنين كيف يجازون ، وقد كان الكفار يؤذونهم وهم في
مكة ، ويخاف المؤمنون إن بقوا هناك أن يقتلوهم ـ كما قتلوا ياسرا وسمية ـ وإن
خرجوا أن يقتلوهم ، لئلا ينشروا الدعوة خارج البلاد ، ولذا عقّبوا جعفرا حين ذهب
إلى الحبشة ، فخاطبهم سبحانه بقوله (يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فأنتم عبادي ، وهذه أرضي واسعة أمامكم (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ولا تشركوا بي شيئا ، فإن تمكنتم من عبادتي في بلادكم ،
فهو ، وإلا فاخرجوا منها إلى حيث تتمكنون من عبادتي فيها.
[٥٨] وإن خفتم
من القتل والموت عند الهجرة؟ فهوّنوا على أنفسكم ذلك ، أليس مصير كل إنسان إلى
الفناء؟ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ
الْمَوْتِ) أي تذوق الموت حتما «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا»
فلا تخافوا من الموت ، إن احتملتم لقائه في هجرتكم (ثُمَّ إِلَيْنا
تُرْجَعُونَ) فنجازيكم على حسن أعمالكم ، وهذان سببان محفّزان لعدم
مبالاة المؤمن بالموت ، الأول ، أن الموت يدرك الإنسان لا محالة ، والثاني ، أنه
يرجع إلى الله الذي أعد له كل ثواب وجزاء حسن.
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨)
الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ
دَابَّةٍ
____________________________________
[٥٩] وهناك
الجنة التي فيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وما جاء به (وَعَمِلُوا)
الأعمال (الصَّالِحاتِ) بأن عملوا بالأوامر ، واجتنبوا النواهي (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ
غُرَفاً) يتخذونها مبوّء ، ومحلّا لسكناهم ، وغرف جمع غرفة ، وهي
العالية من البناء المشرفة على الأرض (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فإنها جارية على الأرض ، فهم فوقها (خالِدِينَ فِيها) أي في حال كونهم دائمين في تلك الجنة والنعمة (نِعْمَ) ذلك (أَجْرُ الْعامِلِينَ) الذين عملوا بالطاعة ، واجتنبوا المعصية ، أي أنه أجر
حسن.
[٦٠] ثم وصف
العاملين بأهم الصفات التي يحتاج إليها الإنسان الذي وقع في فتنة واختبار (الَّذِينَ صَبَرُوا) على دينهم ، وإن لاقوا صنوف الأذى (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون أمورهم إليه ، ويوكلونه في مهامهم.
[٦١] وإذ أمر
المسلمين بالهجرة ، وذكر لهم أن خوفهم من الموت ـ المحتمل للمهاجر ـ لا ينبغي أن
يعبأ به ، بيّن أن ما يخافه المهاجر ، من اختلال أمر معيشته ـ حيث إن الإنسان في
غربته عن وطنه ، لا يتمكن من تحصيل المعاش ـ أيضا مما لا ينبغي أن يعتنى به ، أليس
الله هو الرازق للدواب التي لا تعرف تحصيل الرزق؟ فهو قادر على أن يرزق المهاجرين
، حينما ينقطعون عن موارد أرزاقهم ، التي كانت مهيأة في أوطانهم (وَكَأَيِّنْ) هي بمعنى «كم» الخبرية ، أي وكم (مِنْ دَابَّةٍ)
لا
تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ
____________________________________
تدب على وجه الأرض (لا تَحْمِلُ
رِزْقَهَا) أي لا تقدر على حمل وتحصيل رزقها لضعفها ، وعدم شعورها
على التحمل والطلب (اللهُ يَرْزُقُها
وَإِيَّاكُمْ) أي يرزق تلك الدابة الضعيفة ويرزقكم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بنياتكم ، فلا تقولوا ولا تنووا شيئا ينافي إيمانكم.
[٦٢] ثم يرجع
السياق إلى المحاورة مع الكفار المنكرين للتوحيد والرسالة والمعاد ، فيقول سبحانه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي سألت الكفار ، يا رسول الله ، أو أيها السائل (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بأن أنشأها وأخرجهما من العدم إلى الوجود (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما حتى يسيران بهذا السير المنظّم لمنافع العباد (لَيَقُولُنَ) في جواب ذلك (اللهُ) هو الخالق المسخّر ، إذ لا يتمكنون أن يقولوا صنع كل
ذلك الصنم (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟ أي بعد هذا الاعتراف ، كيف يصرفون من عبادة الإله ،
إلى عبادة الأصنام؟ من أفك بمعنى صرف ، ويسمى الكذب إفكا ، لأنه صرف الكلام عن
الحقيقة نحو خلاف الواقع.
[٦٣](اللهُ) هو الخالق المسخر ، وهو الرازق المقدر ، فلما ذا يعبدون
الأصنام؟ الله (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ) أن يوسّع عليه (وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يضيق الرزق لمن يشاء من عباده ، من
إِنَّ
اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ
____________________________________
«قدر» بمعنى ضيق ، والظاهر أن لفظ «له» عائد إلى لفظ «من يشاء» لا إلى
معناه حتى يستلزم التناقص ، ويحتاج في جوابه إلى التزام تعدد الوقت (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم مصالح العباد ، وطبق ذلك العلم الواسع يوسع في
الرزق لبعض ، ويضيق فيه لبعض.
[٦٤](وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي سألت الكفار العابدين للأصنام (مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر (فَأَحْيا بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ) بأن أوجد فيها حركة تقتضي إنبات النبات (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) حيث لا حركة لها ولا إنماء ـ أو إن الإحياء للنبات ،
ونسب إلى الأرض بعلاقة الحال والمحل ـ (لَيَقُولُنَ) في الجواب (اللهُ) يحيي الأرض بعد موتها (قُلِ) يا رسول الله ، بعد ما سمعت هذا الاعتراف منهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فقد اعترفتم بأن الله هو الوحيد في إدارة الكون ، كما
اعترفتم من قبل بأنه هو الوحيد في الخلق والرزق (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) توحيد الإله مع إقرارهم بأنه الخالق الرازق المصرف.
[٦٥] إنهم بعد
أن اعترفوا بالإله ، يلفتهم السياق إلى المعاد (وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ) موجبة لأن يلهو الإنسان ، وينسى الحقائق والغرض الأصلي
من الخلقة (وَلَعِبٌ) كلعب الأطفال يشغل الإنسان مدة ثم يزول وينصرم (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ) أي الحياة الحقيقية
لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)
لِيَكْفُرُوا
بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
____________________________________
التي يصح أن يقال لها حياة ، وحياة وحيوان ، بمعنى واحد ، يقال حيي حياة
وحيوانا (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) أي لو علموا الفرق بين الحياتين لرغبوا في تلك ، وزهدوا
في هذه.
[٦٦] إن هؤلاء
الذين يشركون بالله ، قد دلت فطرتهم على وحدة الإله ، حتى أنهم ليتوسلون في
المشاكل إليه وحده ، أما إذا انحلت المشكلة ، رجعوا إلى كفرهم ، جريا حسب المألوف
عندهم ، والتقليد (فَإِذا رَكِبُوا) أي هؤلاء الكفار (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة ، واضطربت بهم الأمواج (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي توسلوا إليه في حال كونهم يخلصون له الطريقة والدعوة
، فلم يدعوا الشركاء لأنهم يعلمون أن لا منجي إلا الله سبحانه (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) بأن لم يهلكوا وأتوا إلى البر سالمين بفضله سبحانه (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي عادوا إلى شركهم ، كما كانوا سابقا ، وكان الإتيان
بلفظة «إذا» لإفادة المبالغة ، فإنه كان من التوقع منهم أن يبقوا موحدين بعد تلك
الكارثة ، فإذا بهم يفاجئون الناس بالشرك.
[٦٧](لِيَكْفُرُوا) لعل اللام لام الأمر ، جيء للتهديد نحو «افعل ما شئت»
أي فليكفر هؤلاء (بِما آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم من الحياة ، والصحة والغنى وسائر الخيرات (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بمتاع الحياة من مأكل ومشرب ، وملبس ومنكح ومركب (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم ، وهي النار والعذاب.
أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
____________________________________
[٦٨] ومن عجيب
أمر هؤلاء ، أن الله قد أنعم عليهم ، وهم يبدلون نعمة الله كفرا ، فقد أعطاهم حرما
آمنا ، ثم هم يجعلون الحرم مركزا للأصنام ، فمن يا ترى جعل الحرم آمنا غير الله؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (أَنَّا جَعَلْنا) لهم (حَرَماً آمِناً) يحترم فيه دماءهم وأموالهم من القتل والغارة (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) يختطفهم أعداءهم ، فالقبائل تغير بعضها على بعض ،
فيقتلوا ويأسروا ، أليس هذا يقتضي أن يشكروا الله على هذه النعمة ويوحدوه؟ (أَفَبِالْباطِلِ) وهي الأصنام (يُؤْمِنُونَ) فيجعلونها آلهة؟ (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) التي أنعمها عليهم (يَكْفُرُونَ) فيجعلون الحرم الذي هو نعمة الله عليهم ، محلا للأصنام
والأوثان ، فإن كفران النعمة أن تصرف في معصية الله.
[٦٩](وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أظلم من هكذا إنسان ـ والحصر إضافي ـ (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ككفار مكة الذين جعلوا لله شركاء افتراء وكذبا (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) أي كذّب بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والقرآن (لَمَّا جاءَهُ) يريد إرشاده وهدايته (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي محل ثوى وإقامة (لِلْكافِرِينَ) فليعملوا ما يشاءون ، فإن مصيرهم إلى النار ، وهل هناك
كفر أعظم من الشرك وتكذيب الرسل؟
[٧٠] إن في وسط
هذا الزحام الخانق ، والجو الكافر ، من يجاهد في الله
وَالَّذِينَ
جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
____________________________________
بالإيمان ، والأعمال الصالحة ، فإنه يهتدي إلى طريق الحق ، الموصل له إلى
سعادة الدنيا والآخرة (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا) أي من أجلنا ، وابتغاء مرضاتنا وطاعتنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) جمع سبيل وهو الطريق الذي قررنا لأجل الرشاد والصلاح
والخير والسعادة ، وهذا عام ، فكل من جاهد في طريق فتح أمامه باب الحق والصدق (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم ، فإنه تعالى
معهم بالنصرة والغلبة والسعادة في الدارين.
(٣٠)
سورة الروم
مكيّة / آياتها (٦١)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الروم» وإشارة إلى قصة لهم مع الفرس ، وهي كسائر
السور المكية ، تطرق طرفا من العقيدة والتوحيد والرسالة والمعاد ، قال في المجمع :
أجمل في آخر العنكبوت ذكر المجاهدين ، ثم فصل في هذه السورة ، فقال.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شيء ، كان الشيء
مطبوعا بطابع الإيمان ، فله سمة المؤمنين في الظاهر ، وعليه رعاية الله في الباطن
، فإن من هتف باسم شخص جعله ظهيرا لنفسه ، أليس أبدى إنه من جمعه وحزبه؟ واستمداد
من الرحمة المطلقة والفيض العميم الذي وسع كل شيء ، لتشمله الرحمة الخاصة ، واللطف
المخصوص.
الم
(١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)
فِي
بِضْعِ سِنِينَ
____________________________________
[٢](الم) رمز بين الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو المراد ، إن هذا الكتاب من جنس «ألف» «لام» «ميم»
أو غير ذلك من الأقوال البالغة نيفا وعشرين ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي «هذا : الم»
حذف خبره ، أي «الم : هذا الكتاب».
[٣](غُلِبَتِ الرُّومُ) فقد كان بين الروم ، وهم المسيحيون ، وكانوا في طرف غرب
الجزيرة ، تقريبا ، وبين الفرس ، وهم المجوس ، وكانوا في شرق الجزيرة ، تقريبا
حروب دامية على طول الخط ، فتارة يغلب هؤلاء على هؤلاء ، وأخرى بالعكس ، واتفقت
إحدى حروبهم في بدء الإسلام حين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كان بمكة ، فغلبت الفرس على الروم ، حتى أخذت الفرس
مركز المسيحيين «بيت المقدس» وفرح الكفار بذلك ، لأن الفرس كانت مثلهم في عدم
الاعتقاد بالإله ، كما حزن المسلمون ، لأن الروم كانت ذات دين وكتاب واعتقاد ،
وكانت بينهم وبين المسلمين جهات مشتركة ، ولذا سلّى الله سبحانه المسلمين ، بأن
مغلوبية الروم لا تدوم ، وإنما هم يغلبون بعد سنوات قلائل.
[٤](فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أقرب أرضهم من أرض الجزيرة في بيت المقدس (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ) أي غلبة الفرس عليهم ، في هذه الحادثة (سَيَغْلِبُونَ) وينتصرون عليهم بإرجاع بلادهم منهم.
[٥] وإنما يغلب
الروم الفرس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) بضع القطعة من العدد ما بين الثلاثة إلى العشرة ، يقال
بضع وعشرون ، أي أن فوق عشرين عدد ، هو ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وهذا من أخبار
القرآن الغيبية ، وما
لِلَّهِ
الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ
يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا
يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
____________________________________
أكثرها ، فقد كان كذلك ، إذ وقعت حرب أخرى بين الطرفين ، فغلبت روم الفرس ،
واستردت ما أخذوا منها من البلاد (لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل الغلب ، ومن بعد الغلب ، فلا يقع شيء إلا
بإذنه ، وفي هذا تسلية للمؤمنين ، بأنه إن غلبت فارس ، فليس ذلك موجبا لحزنهم ، إذ
الأمور بيد الله الذي هو وليهم وناصرهم ، كما تقول لابنك : إن رأيت غلبة بعض
أعدائك ، فلا يهمك ، إني أريد ذلك ، والحاصل أن غلبة الفرس ، ليست انتصار للكفر
على الإيمان ، وإنما شيء مؤقت بقضاء الله وقدره ، والله لا يترك الإيمان حتى يغلبه
الكفر (وَيَوْمَئِذٍ) أي يوم غلبة الروم على الفرس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) المعتقدون بالرسول.
[٦](بِنَصْرِ اللهِ) للإيمان على الكفر ـ وإن كان نصر الله إنما هو للإيمان
المسيحي ـ فإن كل مرتبة من مراتب الإيمان خير مما يقابلها من الكفر (يَنْصُرُ) الله (مَنْ يَشاءُ) فيمن توفرت فيه شروط النصرة ، كما أمر ، وكما أجرى
أسباب الكون (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب سلطانه ، فلا يغلبه أحد (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين ، فلا يتركهم نهب الكفار يفعلون بهم ما
يشاءون.
[٧](وَعْدَ اللهِ) أي وعد الله ذلك وعدا ، فهو مصدر تأكيدي (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) الذي وعد بغلبة الروم على الفرس (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ
____________________________________
النَّاسِ) الذين لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون كلامه (لا يَعْلَمُونَ) صحة وعد الله ، وإنه لا خلف فيه ، فإن الذي يخلف وعده
إما لعجز أو لجهل أو لخبث ، والله سبحانه منزه عن ذلك كله.
[٨] إنهم لا
يقدرون الأشياء حق قدرها ، فيزعمون أن لا قوة خارقة غيبية تسير الكون ، بل يظنون
أن كل الأمر كائن فيما يشاهد من القوى الظاهرة (يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) من قواها وأسبابها ومسبباتها ، وسائر الخصوصيات الظاهرة
(وَهُمْ عَنِ
الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) وبهذه الغفلة تختل مقاييسهم للأمور ، فلا يصدقون بوعد
الله ولا يرقبون جزاءه ، ولا يقدرون قوته الغيبية ، الخاضعة لها الأشياء ، وكان
إقامة هذه الجملة مقام «وهم عن الله غافلون» لأجل إفادة ، أن منكر المعاد ، منكر
الله سبحانه ، فهو من إقامة المسبب مقام السبب ، فإن سبب الغفلة عن المعاد ، هو
الغفلة عن الله تعالى ، والإتيان بلفظ «هم» مكررا ، للتأكيد في غفلة هؤلاء.
[٩](أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أي هؤلاء الغافلون عن الآخرة ، الذين يعلمون ظاهرا من
الحياة الدنيا (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حالة خلوتهم بأنفسهم حيث لا جدال ولا إنكار ـ لو
ظهر الحق ـ فإن الإنسان بينه ، وبين نفسه يعترف ، بما لا يعترف به عند الملأ خوفا
، أو استكبارا (ما خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من الإنسان والحيوان والنبات والهواء وغيرها (إِلَّا بِالْحَقِ) فلو لم يكن هناك إله ، كما يزعمون ، فمن يا ترى
وَأَجَلٍ
مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
____________________________________
خلق كل هذه الأمور؟ ومعنى «بالحق» إن الخلق لغاية وغرض ، مما يدل على الإله
العليم الحكيم القدير المريد (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولمدة محدودة ، قد سميت تلك المدة عنده ، فليست
الأشياء بقاؤها اعتباطا ، بل تبقى بمقدار قدر الله لها من المدة ، فإن الإنسان إذا
علم إن جملة من الأشياء ، لغاية ومقصود علم بذلك إن سائر الأشياء كذلك ، ألا ترى
إنك إذا نظرت إلى «الساعة» فعلمت إن بعض آلاتها لماذا ، تعتقد إن كل الآلات لها
إنما حكمت وصنعت عن قصد ، وإن كنت لا تعلم الحكمة فيها ، وإما عرفان الأجل المسمى
، فلما يرى الإنسان أن الأشياء تحدد بحدود معنية ، حتى أن كل محاولة لنفيها قبل
المدة عبث ، كما أن كل محاولة لإبقائها بعد المدة لغو (وَ) مع ذلك (إِنَّ كَثِيراً مِنَ
النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي لقاء جزائه وحسابه (لَكافِرُونَ) غير معترفين ، مع أن إحكام الصنع ، يدل على أنه ، لا بد
أن يكون هناك حساب وجزاء ، وإلا كان الخلق لغوا ، وتمكين الظالم من الظلم خلاف
الحكمة.
[١٠](أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء المكذبون (فِي الْأَرْضِ) فإن السير يوجب اطلاع الإنسان على مساكن الذين ظلموا ،
فأهلكوا ، كمدائن عاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم نوح (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي يعلموا ذلك بالاستخبار عمن في أطراف تلك البلاد ،
فإن كل أمة تحفظ أطراف تلك البلاد ، وإن كل أمة تحفظ أخبار أسلافها
كانُوا
أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
ثُمَّ
كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا
بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
____________________________________
(كانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً) فقد وصلت حضارتهم إلى حدود مدهشة ، كما يحدث التاريخ
بذلك (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) من الإثارة بمعنى التقليب ، لأجل الزرع والإنبات (وَعَمَرُوها) بالبيوت وما أشبه (أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوها) هؤلاء ، فقد كانت وسائلهم ، أكثر ، ولذا كانت عمارتهم
أجمل وأكثر (وَجاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة البينة الواضحة ، فجحدوا الرسل ، وكذبوا بما
قالوا ، فأهلكهم الله سبحانه (فَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ) حين أهلكهم (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والعصيان ، فأخذهم وبال أعمالهم ، وهؤلاء الكفار
المعاصرون للرسول ، إن كذبوا أهلكوا ، فإنهم أقل قوة ، وأقل عمارة وزراعة من
أولئك.
[١١](ثُمَ) بعد تلك الحضارة والعمار (كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ أَساؤُا) بالكفر والعصيان (السُّواى) اسم كان ، أي كانت الخلة ، والعاقبة السوء ـ أي السيئة ـ
عاقبة الذين أساءوا ، فإنهم بالكفر ، فعوقبوا بما أساءهم من الهلاك والدمار : على (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) فلم يقبلوها (وَكانُوا بِها
يَسْتَهْزِؤُنَ) ومنها يضحكون ، ويحتمل أن يكون «أن كذبوا» اسم «كان»
ومعنى أساءوا السّوءى ، عملوا السّوءى من باب
اللهُ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)
____________________________________
المصدر التأكيدي ، نحو ضرب الضرب ، فيكون المعنى : كان التكذيب بآيات الله
عاقبة الذين عملوا بالمعاصي ، فإن الإنسان يتدرج من المعاصي إلى الكفر ، وعلى هذا
المعنى ، ف «ثم» للعطف لفظا ، لا معنى.
[١٢] وكيف يكذب
الكافر بآيات الله ، وبالمعاد ، وهو يرى أن الخلق كيف يبتدأ مما يدل على إله عليم
قدير ، قادر على الإعادة ، كما قدر على الإنشاء (اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ) أي يخلقهم ابتداء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت ، ليحيي من جديد للحساب والجزاء (ثُمَّ إِلَيْهِ) أي إلى جزائه وحسابه (تُرْجَعُونَ) أيها البشر.
[١٣](وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة (يُبْلِسُ
الْمُجْرِمُونَ) من بلس بمعنى يئس من الخير ، فإنهم ييأسون من الرحمة ،
وينقطعون من الجواب.
[١٤](وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ
شُفَعاءُ) أي لا يشفع لهم الأصنام ، التي جعلوها شركاء الله
سبحانه ، وأضيف الشركاء إليهم ، لأنهم اخترعوها (وَكانُوا
بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) إذ يظهر الحق هناك ، وقد كانوا عبدوها في الدنيا قائلين
(ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، وهناك يتبين إنها لا تنقذ أنفسها ، فإنها تصبح حصب
جهنم ، فكيف تتمكن من شفاعتهم.
__________________
وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ
مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ
____________________________________
[١٥](وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) وتأتي القيامة (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم (يَتَفَرَّقُونَ) أي يتميز المؤمنون عن الكفار ، فالمؤمنون واقفون في طرف
اليمين ، بالبشر والسرور ، والكفار في طرف الشمال بالحزن والتقطيب.
[١٦](فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بما يجب الإيمان به من التوحيد والرسالة والمعاد ،
وسائر ما جاء به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) الملازم لترك السيئات (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) وهي الجنة (يُحْبَرُونَ) الحبرة المسرة ، أي يسرون سرورا يظهر أثره على وجوههم ،
من النعيم الذي هم فيه.
[١٧](وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بما يجب الإيمان به (وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) أي بدلائلنا التي نصبناها للدلالة علينا ، وعلى الرسالة
(وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) بأن ينكروا البعث والمعاد (فَأُولئِكَ فِي
الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي يحضرون إلى العذاب ، كالمجرم الذي يحضر إلى السجن
والتعذيب ، ولا يأتي هو برجله.
[١٨] ثم ينتقل
السياق من العالم الآخر إلى هذا العالم ليشهد الإنسان ، دلائل الكون ، التي كان
الكفار بها يكذبون حتى صاروا إلى ذلك المصير الهائل (فَسُبْحانَ اللهِ) مصدر منصوب بفعل مقدر من سبّح ، أي أنزه الله تنزيها ،
والفاء للتعقيب على تلك الخاتمة ، أي وإذا كان لله
حِينَ
تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
____________________________________
تلك الخاتمة أسبحه تسبيحا (حِينَ تُمْسُونَ) أي تدخلون المساء ، وهو الليل (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي تدخلون الصباح ، فهو منزه دائم الأوقات ، لا كالملوك
الذين لا يستحقون الحمد والثناء ، في بعض أحوالهم لعدم رعايتهم الأمور في تلك
الأوقات.
[١٩](وَلَهُ الْحَمْدُ) الثناء الجميل ، لما عمله من الجميل (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المستحق للحمد في جميع الكون (وَعَشِيًّا) أي له الحمد في وقت العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي تدخلون في الظهيرة ، وهي وقت الظهر ، فإنه المحمود
المنزّه في جميع الأكوان ، وكافة الأوقات ، وهذا من بلاغة القرآن العجيب ، حيث ذكر
هذا الموضوع ، في هذه الجملات الحية النديّة ، التي تفتح الذهن ، وتسير بالنفس إلى
الآثار الكونية ، والأوقات الزمنية.
[٢٠](يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالنبات من النوات الميتة ، والطير من البيضة الميتة ،
والإنسان من الأرض الميتة ، بواسطة النبات (وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالفضلات الميتة من الإنسان والحيوان الحي ، والبيضة
الميتة من الطير الحيّ وهكذا (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بنمو النبت (بَعْدَ مَوْتِها) حيث تكون غبراء قاحلة لا نمو فيها ولا نبات (وَكَذلِكَ) أي تحيى الأرض (تُخْرَجُونَ) أنتم أيها البشر من قبوركم
وَمِنْ
آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(٢١)
____________________________________
بعد الموت للحساب والجزاء.
[٢١](وَمِنْ آياتِهِ) أي أدلته الدالة على وجوده ، وسائر صفاته (أَنْ خَلَقَكُمْ) أيها البشر (مِنْ تُرابٍ) فالتراب ينقلب نباتا ، وحيوانا ، يأكلهما الإنسان ،
فيصيران منيا ، ثم جنينا إنسانا (ثُمَ) بعد أن كنتم ترابا (إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ
تَنْتَشِرُونَ) في الأرض تسيرون وتتّجرون ، وتعملون ، وإذا للمفاجات ،
فكيف صار التراب اليابس الراكد ، بشرا سميعا بصيرا ، ينتشر ويتصرف في مختلف الشؤون؟
[٢٢](وَمِنْ آياتِهِ) أي أدلة الله سبحانه الدالة على وجوده ، وسائر أوصافه (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أيها البشر (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من هذا الجنس (أَزْواجاً) للرجال نساء ، وللنساء رجالا ، فإن كون الزوجين من جنس
واحد أكثر هنأة ولطفا (لِتَسْكُنُوا) أي لتطمئنوا ، ولتألفوا (إِلَيْها) أي إلى تلك الأزواج ـ وهذه قرينة ـ على أن المراد
بالأزواج : الزوجات. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أيها البشر ، أي بين الرجال والنساء (مَوَدَّةً) يود بها بعضكم بعضا ، ويحب أحدكم الآخر (وَرَحْمَةً) فيرحم بها أحدكم الآخر ، مما يهنئ العيش ويسعد الحياة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الخلق للأزواج ، وجعل المودة والرقة (لَآياتٍ) أي أدلة على وجود الله تعالى ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في هذه الأمور ، وإنما
وَمِنْ
آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ
____________________________________
خصهم ، لأنهم هم الذين يدركون هذه الآيات ، وإلا فهي آيات لكل أحد ، وقد
يزعم البعض ، إن الصفات النفسية ، من قبيل المودة والرحمة ، والشجاعة والجبن
والسخاء ، وما إليها ، ليست أمورا مخلوقة ، لكنها نظر سطحي ، وإلا فمن أين هذه
الظواهر؟ إنها ألوان للنفس ، لا تدرك إلا بآثارها ، وإلا فكيف هذا يكون مقداما
سخيا ، وكيف ذاك الذي على شكله يكون جبانا بخيلا؟ وقد ذكر في أول كتاب «البحار»
جنود العقل والجهل ، وإنها مخلوقات له سبحانه.
[٢٣](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده ، وسائر صفاته (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فمن خلق المدارات والكواكب؟ ومن خلق الأرض ، وما فيها؟
إن الخالق هو الله العليم القدير الحكيم (وَاخْتِلافُ
أَلْسِنَتِكُمْ) جمع لسان ، والمراد به اللغة فإنه تعالى ، لو لم يفعل
ذلك ، من كان يقدر على منح هذا الاختلاف من عربي ، وفارسي ، وتركي ، وهندي ،
وغيرها؟ بالإضافة إلى الاختلاف ، في النغمة والصوت والخشونة والنعومة وغيرها (وَ) اختلاف (أَلْوانِكُمْ) من أبيض وأحمر وأسود ، وبنّي وحنطي ، وغيرها ، فمن يا
ترى جعل كل ذلك؟ بالإضافة إلى مزايا كل إنسان في لونه وشكله ، حتى يعرف كل أحد من
غيره (إِنَّ فِي ذلِكَ) الاختلاف (لَآياتٍ) لأن كل لون ، وكل نعمة آية (لِلْعالِمِينَ) أي العلماء ، فإنهم هم الذين يتدبرون في هذه الآيات ،
وينشغلون منها ، إلى من أوجدها وصنعها.
[٢٤](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على توحيده ، وسائر أوصافه تعالى
مَنامُكُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي
بِهِ الْأَرْضَ
____________________________________
(مَنامُكُمْ) مصدر ميمي ، بمعنى نومكم (بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) فما هو النوم؟ ومن خلفه؟ إنه من خلق الله سبحانه ، سواء
كان عدما بإخراج بعض الأرواح عن الإنسان موقتا ، أم وجودا بإضافة شيء على بدنه
يوجب له هذه الحالة (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) فقد جعل فيكم صفات أوجبت ، أن تطلبوا الرزق فمن يا ترى
جعل هذه الصفات في الإنسان؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) المنام والابتغاء (لَآياتٍ) أي أدلة دالة على الله سبحانه ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) والمراد أنهم يسمعون الآيات ، فيتدبرونها ، ويتفكرون
فيها ، لا أن يعرضوا عنها ، كما قال سبحانه (وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) .
[٢٥](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده ، وسائر صفاته ، أن (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) في خلال السحاب ، وهو كما قالوا : يحدث من اصطكاك السحب
بعضها ببعض ، فيتولد فيها الكهرباء ، ولا ينافي هذا كونه ، صوت ملك ، كما لا يخفى (خَوْفاً) من الصاعقة ، وإنزال المطر المضر (وَطَمَعاً) في إنزال المطر المفيد ، ونصب هذين ، بتقدير اللام ، أي
لتخافوا خوفا ، ولتطمعوا طمعا (وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ) أي جهة العلو (ماءً) هو المطر (فَيُحْيِي بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ
__________________
بَعْدَ
مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ
الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦)
____________________________________
بَعْدَ
مَوْتِها)
بالجدب ، وعدم
النبات (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور سابقا (لَآياتٍ) لأن كل واحد من الأمور المذكورة ، آية دالة على الله
وعلى صفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يعملون عقولهم ، فينتقلون من الأثر إلى المؤثر.
[٢٦](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده تعالى ، وسائر أوصافه (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
بِأَمْرِهِ) فإن بقاء السماء بهذه الكيفية المنظمة ، وبقاء الأرض
بهذا الترتيب العجيب الدائم ، لا يكون إلا بقدرة الله سبحانه ، وأمره التكويني ،
وإلا فمن يدير الكون ، بهذا النحو المنظم المدهش؟ (ثُمَ) إن الله سبحانه الذي رأيتم قدرته وآياته (إِذا) متم ثم (دَعاكُمْ دَعْوَةً) وطلبكم طلبا (مِنَ الْأَرْضِ) التي دفنتم فيها (إِذا أَنْتُمْ
تَخْرُجُونَ) أحياء كما كنتم سابقا ، وذكر هذا للتركيز على المعاد ،
بعد بيان آياته الدالة على عمله وقدرته ، ونفوذ إرادته ، فمن يقدر على تلك ، يقدر
على هذا.
[٢٧](وَلَهُ) أي لله سبحانه بالملكية المطلقة (مَنْ فِي السَّماواتِ وَ) من في (الْأَرْضِ) من العقلاء ، وغيرهم ، وغلب العقلاء ، ولذا ، جيء ب «من»
(كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي خاضعون مطيعون ، فهل يتمكن أعظم الملوك ، أن يخالف
أوامر الله التكوينية ، بأن لا يموت ، أو لا يشيب أو
وَهُوَ
الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ
الْمَثَلُ الْأَعْلى
____________________________________
يبقى إلى أمد يحبه؟ كلا ، نعم قد أعطى الله سبحانه ، زمام الإرادة بيد
الإنسان ليختبره ، أما الأزمة التكوينية ، حتى دورة الدم ، في بدن الإنسان ، وحركة
الأجهزة الباطنية ، والقوى الظاهرة ، فهي كلها تحت قدرته وإرادته.
[٢٨](وَهُوَ) الله سبحانه (الَّذِي يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ) بإنشائه بعد العدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) إلى الحياة ـ بعد الموت ـ للجزاء والحساب (وَهُوَ) أي «أن يعيد» (أَهْوَنُ) وأسهل في قياس البشر (عَلَيْهِ) أي على الله سبحانه ، فإن الإنسان في مقاييسه ، يرى إن
إعادة الشيء ، أسهل من ابتدائه ، ومع ذلك فكيف يظن ، إن الإعادة عسيرة عليه تعالى
، وإنما قلنا «في قياس البشر» لأن الله سبحانه كل شيء لديه سواء ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) لا يقال : كلا! إن الإعادة ليست أهون ، فإن من يصنع
شيئا ، قد يكون لا يقدر على إعادته إذا هدم ، قلنا : إن عدم القدرة منه ، لعدم
علمه ، أو لتعبه ، أو أشباه ذلك ، أما من توفرت فيه الشروط ، فالإعادة عليه أيسر
من جهة أن في ذهنه مثالا لذلك المصنوع ، مما يسهل صنعه ثانيا (وَلَهُ) سبحانه (الْمَثَلُ الْأَعْلى) المثل هو الشبيه للشيء الذي يؤتى به لمعرفة ذلك الشيء ،
والله سبحانه لا يمثل له ، فلا مثل له ، من جميع الجهات ، كما قال : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) ، وإنما قد يمثل له بأمثلة تقريبية ، لاستيناس
__________________
فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
ضَرَبَ
لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
____________________________________
الذهن ، كما قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) وإذا أريد المثل ، فله أعلى الأمثلة وأحسنها ، كأن يمثل
لنوره بالمصباح النيّر ، أو يمثل بملكه بملك أعظم الملوك ، وهكذا (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ففي كل مكان أريد أن يضرب له المثل ، لا بد وأن يكون له
المثل الأعلى ، وليس كالملك ، في قطر خاص ، الذي له أعلى الأمثلة في قطره ، أما في
خارج قطره ، فليس له أعلى الأمثلة ، ففي قطره يقال إن مثله ، كمثل أعظم الناس ملكا
، أما في خارج قطره يقال ، إنه كمثل الملك الآخر ، أو المالك الكذائي (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على كل شيء لا يغلبه أحد (الْحَكِيمُ) فكل ما يفعل ، إنما هو بالحكمة والصواب.
[٢٩] ثم ضرب
سبحانه مثلا لعدم الشريك له ، وذلك بالاستفهام ، عن هؤلاء المشركين ، أنهم هل
يقارنون بين السيد والعبد ، وإذا قالوا : لا قبل لهم ، فلم تقارنون ـ في الألوهية ـ
بين الله ، وبين الأصنام؟ مع أن البون بينهما أبعد من البون بين السادة والعبيد (ضَرَبَ لَكُمْ) أيها المشركون ، والذي ضرب المثل هو الله سبحانه (مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) بيّن لكم شبها في حال كونه من أنفسكم ، فليس مثلا ، من
الملائكة ، أو الجن ، والنبات ، والحيوان ، والجماد (هَلْ لَكُمْ) أيها المشركون (مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) أي عبيدكم ، وإمائكم ، وإنما نسبت الملكية إلى اليد ،
لأنها العاملة المحصلة للمال الذي به يشتري العبد (مِنْ
__________________
شُرَكاءَ
فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(٢٨)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
____________________________________
شُرَكاءَ
فِي ما رَزَقْناكُمْ) بأن يشترك العبيد معكم في أموالكم التي هي لكم ، ورزقكم
الله إياها فتكونون أنتم والعبيد (فِيهِ) أي فيما رزقناكم (سَواءٌ) بأن تكون الأموال لكم ولهم على حد سواء (تَخافُونَهُمْ) أي تخافون عبيدكم ، إذا أردتم التصرف في أموالكم ،
لأنهم شركاؤكم ، والشريك يخاف من شريكه ، إذا أراد أن يستقل في التصرف بالمال
المشترك (كَخِيفَتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ) أي كما تخافون سائر شركاؤكم الأحرار ، هل عبيدكم شركاء
لكم؟ وإذا أجبتم بالنفي ، وإن العبيد لا يشتركون معنا في أموالنا ، حتى نخافهم خوف
الحر شريكه الحر ، قيل لكم ، فكيف جعلتم الأصنام التي هي مملوكة لله ، ومخلوقة له
شركاء لله في الألوهية؟ (كَذلِكَ) أي كما بينا هذا المثل ، لأن يردعكم عن عبادة الأصنام (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نذكرها مفصلة حتى تظهر ، لا مجملة حتى تكون غامضة ، لا
تعرف (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يعملون عقولهم ، ليدركوا ، وإنما خص هؤلاء بالذكر ،
لأنهم المنتفعون بالمثل والآية ، أما من لا يعتني فهو لا يدرك ، ولا يعلم.
[٣٠] إن إشراك
هؤلاء ، ليس لأنهم لا يعلمون (بَلِ) لأنهم يتبعون الهوى وإن علموا ببطلان أعمالهم ، فقد (اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالشرك بالله ، وأتى بهذا الوصف مكان الضمير ، لبيان
أنهم بشركهم ، قد ظلموا أنفسهم (أَهْواءَهُمْ) التقليدية (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فليس عملهم مستندا إلى العلم ، وإنما هو مستند إلى
الهوى ، ولذا ابتعدوا عن الهدى
فَمَنْ
يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
____________________________________
(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ
أَضَلَّ اللهُ) أي تركه يعمل ما يشاء ، بعد أن رأى الهدى ، فأعرض عنه ،
وقد ذكرنا سابقا إن نسبة الإضلال إليه سبحانه ، باعتبار ، أنه تركه حتى يضل ، ولم
يلطف به اللطف الخفي (وَما لَهُمْ) أي لهؤلاء المشركين الضالين (مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من عذاب الله ونكاله في يوم القيامة ، وهذا في
مقابل زعمهم إن الأصنام تنصرهم وتشفع لهم.
[٣١] وإذ
انحرفت نفوس عن هذا الدين (فَأَقِمْ) أنت يا رسول الله ، أو أيها الإنسان العاقل (وَجْهَكَ) ونسبة الإقامة إلى الوجه ، لأنه العضو الذي يبين اتجاه
الإنسان ، وميله الكامن في نفسه (لِلدِّينِ) فتوجه نحو دين الإسلام ، لا إلى سائر المبادئ والأديان (حَنِيفاً) في حال كونك مستقيما ، غير مائلا إلى هنا أو هناك ، أو
في حال كون الدين مستقيما ، لا يزيغ نحو الباطل والانحراف ، واتبع (فِطْرَتَ اللهِ) أي الكيفية التي خلقها الله سبحانه ، فإنه خلق الإنسان
بحيث لا يصلحه ، إلّا الدين (الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْها) أي خلق الناس على تلك الفطرة ، فالدين ، كالمنهاج للبشر
الذين خلقوا على نحو لا تستقيم أمورهم ، إلا إذا ساروا على هذا المنهاج ، وهكذا
كما لو صنع شخص «جهازا» ثم كتب «كتابا» فيه كيفية عمل الجهاز ، فإنه يقول : اتبع
هذا الكتاب ، فإن الجهاز ركبّ هكذا (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) أي لا يتغير الخلق عن تلك الفطرة ، حتى يلائمهم منهاج
آخر ، غير منهاج الإسلام والدين (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) أي
وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠)
مُنِيبِينَ
إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً
____________________________________
إن الدين الذي يلائم الفطرة ، هو الدين صاحب القوام ، الذي به قوام البشر
وسعادتهم ، أما سائر الأديان ، فإنها لا تلائم الفطرة ، مثلا إن الإنسان ركب بحيث
، إذا اغتسل من الجنابة ، سلم بدنه من الأمراض ، أما إذا لم يغتسل ، ابتلى بمختلف
العاهات ، فالدين الذي يأمر به ، هو الدين الذي به قوام الإنسان ، وسواه لا يتمكن
من التحفظ على صحة الإنسان ، وهكذا سائر التشريعات (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة ذلك ، ويظنون الدين ، إنما هو منهج من بين مئات
المناهج ، فأيها اتبعها الإنسان ، كان كافيا في إقامة الحياة.
[٣٢] وحيث إن
قوله «أقم» عام لكل المكلفين ، إما من باب الأسوة بالرسول المخاطب ب «أقم» وإما من
باب كون الخطاب عاما ـ ابتداء ـ جاء الحال لفاعل «أقم» بلفظ الجمع ، فقال سبحانه (مُنِيبِينَ) أناب ، بمعنى رجع ، أي في حال كونكم أيها البشر راجعين (إِلَيْهِ) أي إلى الله ، عن الطرق التي كنتم تسيرون فيها ، مما
تخالف الدين (وَاتَّقُوهُ) أي خافوا عقابه (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) بالاستمرار في إتيانها بآدابها وشرائطها ، فإنها توجب
التقوى والاستقامة (وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) الذي يجعلون لله سبحانه شريكا.
[٣٣](مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) فلم يتبعوا دينا واحدا ، أنزله الله سبحانه ، بل اتبع
كل فئة دينا ، وهكذا تكون التفرقة ، إذا عملت الأهواء في الناس (وَكانُوا شِيَعاً) جمع شيعة ، وهي الفئة التابعة لمسلك خاص ، أي
كُلُّ
حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
وَإِذا
مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا
أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
(٣٤)
____________________________________
كان كل طائفة منهم ، شيعة لمسلك ومبدأ (كُلُّ حِزْبٍ) وشيعة (بِما لَدَيْهِمْ) من الدين والمسلك (فَرِحُونَ) إذ يعتبرون دينهم ، أحسن الأديان ، وطريقتهم خير الطرق.
[٣٤] ومن
متناقضات المشركين ما بينه سبحانه بقوله (وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ) أي لامسهم ونزل بهم ضرر مالي أو جسمي ، أو ما أشبه (دَعَوْا رَبَّهُمْ) لكشف ذلك الضر ، ولا يدعون الشركاء ، لأنهم يعلمون إن
الكاشف للضر ، هو الله وحده دون شركائهم (مُنِيبِينَ) أي راجعين (إِلَيْهِ) وحده ، بدون الرجوع إلى الشركاء معه (ثُمَّ إِذا) لبّى دعاءهم ، وكشف ضرّهم و (أَذاقَهُمْ مِنْهُ) أي من قبله تعالى (رَحْمَةً) وفضلا كأن يغنيهم من فقرهم ، أو يأمنهم من خوفهم ، أو
ما أشبه ذلك (إِذا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ) أي جماعة من أولئك الذين مسهم الضرّ ، فأنابوا إلى ربهم
، فأذاقهم منه رحمة (بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ) فيجعلون له شريكا ، والإتيان ب «إذا» لبيان المفاجآت ،
وإن هذا الإشراك لم يكن مترقبا ، بعد تلك الأمور.
[٣٥] فقد
أشركوا بقصد الكفران لنعم الله (لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم من النعم ، أو أن اللام للعاقبة ، أي كانت
عاقبة إذاقة هؤلاء الرحمة ، كفرانهم ، أو كفرهم (فَتَمَتَّعُوا) أيها المشركون ، وهذا أمر للتهديد ، أي تلذذوا ، وخذوا
متع الحياة مدة يسيرة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)
أَمْ
أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ
(٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً
فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ
يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
____________________________________
عاقبة كفركم ، وهذا تهديد لهم ، بأنهم سيجازون بالعذاب ، والنكال.
[٣٦] ثم يأتي
السياق للتفهيم منهم استفهام عارف ، ليعرفهم خطأهم ، فهل كفر هؤلاء بلا حجة وبرهان
(أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي حجة ، ودليلا ، يدل على تعدد الآلهة؟ (فَهُوَ) أي فذلك البرهان (يَتَكَلَّمُ) المراد يظهر ويبين ذلك البرهان (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)؟ كلا : لم ينزل سلطان عليهم ، وإنما كفروا وأشركوا ،
بلا حجة وبرهان.
[٣٧] إن المؤمن
لا ييأس عند الشدة ، ولا يبطر عند النعمة ، أما الكافر ، ومن ضعف إيمانه ، فإنه ـ لخفة
نفسه وعدم اتزان روحه ـ إن أعطي بطر ، وإن منع يئس (وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً) أي أتيناهم نعمة وفضلا (فَرِحُوا بِها) أي بتلك الرحمة بطروا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ) أي بلاء ومصيبة ، وسمي ذلك سيئة لأنها تسيء إلى الإنسان
(بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) أي بسبب بعض أعمالهم التي عملوها ، وإنما نسب التقديم
إلى اليد ، لأنها الغالبة في مزاولة الأعمال (إِذا هُمْ
يَقْنَطُونَ) وييأسون عن روح الله المفرّج لهذه السيئة.
[٣٨](أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الذين يبطرون بالنعمة ، ويقنطون بالسيئة (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) مما اقتضت المصلحة توسعته (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق لمن يشاء من «قدر» بمعنى «ضيّق» فليست
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
فَآتِ
ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ
____________________________________
التوسعة دليلا على إكرام الله ، حتى تسبب البطر ، ولا التضييق دليلا على
إذلال الله ، حتى يسبب اليأس ، كما أنهم إن وسّع عليهم لزم أن يشكروا ، وإن ضيق
عليهم ، وجب أن يصبروا ، ويدعوا ، لا أن يقنطوا ، ف (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (إِنَّ فِي ذلِكَ) البسط والتضييق (لَآياتٍ) دلالات على أن ذلك من الله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله إذ :
كم عاقل عاقل
أعيت مذاهبه
|
|
وجاهل جاهل
تلقاه مرزوقا.
|
[٣٩] وإذ تقدم الكلام ، في أن
توسعة الرزق منه سبحانه ، كما أن تضييقه منه تعالى ، فلينفق الإنسان حسب المستطاع
، فإن الإنفاق لا يضر ، كما أن الإمساك لا ينفع ، كما قال :
إذا قبل
الدنيا عليك فجد بها
|
|
على الناس
طرا قبل أن تتفلت
|
فلا الجود
مفنيها إذا هي أقبلت
|
|
ولا البخل
مبقيها إذا هي ولت
|
(فَآتِ) أي أعط يا رسول الله (ذَا الْقُرْبى) أي صاحب القرابة (حَقَّهُ) أي حقه الذي قرره الله له ، من الصلة والإنفاق وغيرها ،
وهذه الآية ، وإن كانت عامة تشمل إعطاء كل أحد قرابته ، ما جعل الله له من حق ،
إما بأن يكون «آت» خطابا لكل مسلم ، أو خطابا للرسول
__________________
وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي
____________________________________
وعمومه من باب الأسوة إلا أنه وردت روايات خاصة صحيحة في أنها نزلت بالنسبة
إلى إعطاء فاطمة عليهاالسلام «فدكا» ولا منافاة ، فإن ذلك من باب المصداق (وَ) آت (الْمِسْكِينَ) وهو الفقير (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو الذي سافر ، ثم لا نفقة له لمصرفه ، أو لعوده ،
وذلك بأن يعطيهما الإنسان حقهما الواجب من الزكاة والخمس ، أو الأعم حتى يشمل كل
مساعدة لهما ، ولو من غير الزكاة والخمس (ذلِكَ) الإعطاء لهؤلاء حقوقهم (خَيْرٌ) من عدم الإعطاء (لِلَّذِينَ
يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يعطون قربة إلى الله ، لا رياء وسمعة ، فإن المنع
يوفر على الإنسان المال ، والإعطاء يوفر على الإنسان السعادة في الدارين ،
والسعادة خير من ذلك المال القليل (وَأُولئِكَ) الذين يعطون هذه الحقوق (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بثواب الله تعالى ، في الدنيا والآخرة ، فإنهم
يقوّمون بذلك الاجتماع ، وتقوية الاجتماع عائدة إلى تقوية نفس الشخص أيضا ، كما أن
ذلك موجب لجزيل الأجر في الآخرة.
[٤٠] وقد كان
بعض أصحاب الأموال يعطي الهدية أو نحوها لغيره ، ليعوض عنها بالأزيد ، فبين سبحانه
، أن هذه الكيفية لا تسبب الزيادة والنمو ، وإنما تسبب الزيادة والنمو ، الزكاة
والصلاة (وَما آتَيْتُمْ) أي أعطيتم (مِنْ رِباً) «الربا» هو الزيادة من «ربي» بمعنى زاد ، ومنه «الرابية» بمعنى الأرض
العالية ، وسمي ما يعطي الإنسان «ربا» لأنه زيادة في الإعطاء ، وليس حقا واجبا (لِيَرْبُوَا) ذلك الربا (فِي
__________________
أَمْوالِ
النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ
وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ
(٣٩)
____________________________________
أَمْوالِ
النَّاسِ)
أي ينمو ذلك
الذي أعطيتموه في أموال المهدي إليهم ، والمعنى يجعل عليه ، ويردّ إليكم ، فكأنه
زاد في أموالهم ، حيث إنه إنما ضوعف ، حين اختلط بمالهم ، وهذا النحو من الإعطاء
ليس حراما ، ولكنه لا أجر له (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ
اللهِ) ولا يعطي الله أجرا على هذه الهدية المراد بها أن تزاد
وترد ، هكذا وردت الروايات في تفسير الآية ، وهناك احتمال آخر ، وهو أن يكون هذا
منعا لإعطاء المقترض الربا ، والمعنى إن الربا الذي تعطونه بزعم إنه يزاد ، في
أموال المقترضين ، إنما هو مجرد زعم ، وإلا فالله سبحانه لا يجعله سببا للزيادة ،
من قبيل (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) وإنما توجه النهي نحو المقترض ، لأنه إن أبى لم يجد
المقرض وسيلة لاقتراف هذا الحرام ، من قبيل قوله عليهالسلام : لا تكن عبد غيرك ، وقد جعلك الله حرا ، وعلى هذا ، فلام «ليربوا» لام العاقبة (وَما آتَيْتُمْ) أي أعطيتم (مِنْ زَكاةٍ) واجبة أو مندوبة ، وإن كان الأنسب ـ بكون السورة مكية ـ
إرادة المندوبة (تُرِيدُونَ) بإعطائها (وَجْهَ اللهِ) لا الرياء والسمعة ، وإنما قال «وجه الله» لأن إرضاء
شخص يوجب أن يوجّه وجهه إلى المرضي ، فالمعنى من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ،
للتقريب إلى الذهن (فَأُولئِكَ) المزكون (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي الذين يضعفون أموالهم ، كما قال سبحانه (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) وقد دلّ العلم ، على أن إعطاء الصدقات ،
__________________
اللهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ
مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
____________________________________
توجب زيادة المال ، بالإضافة إلى دلالة العقل على ذلك.
[٤١] وبعد ذكر
بعض الأمور المرتبطة بالإنفاق ، وما إليه ـ بالمناسبة ـ يرتد السياق إلى ذكر ما
صيغ لأجله الكلام ، وهو نفي الشرك (اللهُ) هو (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم من العدم (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أعطاكم أنواع الرزق (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) لدى انقضاء أجلكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) لأجل الحساب والجزاء (هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ) أيها المشركون أي الذين جعلتموهم شركاء لله (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ) الأمور ، و «كم» للخطاب (مِنْ شَيْءٍ)؟ وطبعا يكون جوابهم بالنفي (سُبْحانَهُ) أي أن الله منزه عن الشريك (وَتَعالى) أي أنه أرفع من أن يمكن أن يكون له شريك (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن الأصنام التي يشركونها مع الله.
[٤٢] إن شرك
هؤلاء لم يسبب انحرافا في عقيدتهم فحسب ، بل انحرافا في جميع مرافق الحياة إذ إنّ
الشرك لا يتخذ المنهج من الله سبحانه ، وإنما يسير على نهج منحرف ، وذلك يوجب
الفساد (ظَهَرَ الْفَسادُ) من القتل ، وهتك الأعراض ، ونهب الأموال ، وسائر
المشاكل (فِي الْبَرِّ) والمراد به الأعمّ من البلد والصحراء (وَالْبَحْرِ) فإن السفن السائرة في البحر ، يظهر عليها أثر الفساد ،
بالحروب فيما بينها والخوف الناشئ من الاضطراب في البلاد إلى غير ذلك (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)
لِيُذِيقَهُمْ
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ
____________________________________
فليس ذلك ظلما منه سبحانه ، بل تابعا لما عملته الناس بأنفسهم ، والنسبة
إلى اليد من باب علاقة الكل بالجزء ، لأنها العنصر الفعال في الحياة والاكتساب ،
وإنما ترك الله سبحانه الناس حتى يظهر فيهم الفساد (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا) أي جزاء بعض أعمالهم ، من باب علاقة السبب والمسبب ،
فإن الذي عملوا سبب للعقوبة (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن غيهم وضلالهم ويتخذوا ، منهج الله
سبحانه ، الملازم للتوحيد ، وعدم الشرك.
[٤٣](قُلْ) يا رسول الله ، مهددا لهؤلاء المشركين ، بأنهم إن بقوا
على شركهم وانحرافهم ، أصابهم مثل ما أصاب المشركين من قبل (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) لتصلوا إلى بلاد الأمم الهالكة ، التي ترون آثارها في
مسيركم إلى الشام ، وإلى اليمن (فَانْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ) العصاة (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلُ) أي كانوا من قبلكم (كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُشْرِكِينَ) فجوزوا على شركهم بالنكال والدمار ، فإن ذلك يسبب
لهؤلاء الإقلاع عن الشرك والانحراف.
[٤٤] وإذ تبين
لك ما يسببه الشرك والانحراف من المآسي ، والويلات (فَأَقِمْ) يا رسول الله ، أو خطاب عام ، إما لفظا ، أو للأسوة ،
بأن يكون من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة» (وَجْهَكَ لِلدِّينِ
الْقَيِّمِ) فلا تنحرف عنه ، وقد سبق معنى الآية (مِنْ قَبْلِ
أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ
____________________________________
أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) المرد مصدر ميمي ، أي لا رد له ، والمراد بذلك اليوم
وهو يوم نزول العذاب ، أو الموت ، أو القيامة ، فإن الأمر بالاستقامة ، إنما هو
لأجل أن لا يقع الإنسان في مشكلة لا دفع لها (مِنَ اللهِ) إي إن ذلك اليوم ، من قبل الله ، أو إنه لا رد لما يكون
فيه ، مما يأتى من قبل الله تعالى (يَوْمَئِذٍ) في ذلك (يَصَّدَّعُونَ) أي يتفرقون ، فالمؤمنون في الجنة والكفار في النار ، من
«اصدّع» أصله «تصدع» من باب «التفعل» أدغمت التاء في الصاد ، فجيء بهمزة الوصل
لتعذر الابتداء بالساكن ، ومعنى الصدع ، هو الكسر والتفريق ، كما قال (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) .
[٤٥] وهل يضر
كفر أحد إلّا نفسه؟ فمن كفر ليعلم إنه يضر بذلك نفسه (مَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي أن ضرر كفره ، ليعود عليه ، ولا يعاقب أحد بسبب كفره
(وَمَنْ عَمِلَ) عملا (صالِحاً
فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) من مهد ، بمعنى وطئ منزله ، ليكون مريحا ، أي أنهم
يجعلون أنفسهم حسنا.
[٤٦] وإنما قرر
سبحانه الجزاء الحسن للمؤمن ، والجزاء السيئ للكافر (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا) بالأصول (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) فإنما قرر للإنجاز ، كما تقول : قررت دينارا لزيد
لأعطيه (مِنْ فَضْلِهِ) فليس الجزاء استحقاقا ، بل فضلا وإحسانا ، وإلا فما
أعطاه الله
__________________
إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ
____________________________________
للإنسان في دار الدنيا هو أكثر من استحقاقه بسبب أعماله ، ول (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فقد قرر (مَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) والمراد بعدم الحب الكراهة ، لأنه لا واسطة بينهما ،
بالنسبة إليه سبحانه ، ويحتمل أن يكون ، لام «ليجزي» للعاقبة ، أي أن عاقبة الكفر
عدم الحب وعاقبة الايمان الجزاء الحسن.
[٤٧] ثم يعطف
السياق إلى الأدلة ، الدالة على وجوده سبحانه ، بعد ما أخذ شوطا حول المعاد ،
وهكذا عادة القرآن ، أن يفنن في الكلام ، لئلا يورث الضجر والكسل من المطلب الرتيب
الواحد ، (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده وسائر صفاته (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) فإن الرياح في موسم المطر ، تبشر بالسحاب والمطر ،
لأنها تجمع السحب من هنا ، وهناك ، حتى إذا اغتمت السماء أمطرت (وَلِيُذِيقَكُمْ) الله (مِنْ رَحْمَتِهِ) فإنه يرسل الرياح للبشارة والتفضل (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي السفينة في البحار بسبب الرياح (بِأَمْرِهِ) تعالى ، فإن جريان الفلك ، يحتاج إلى أمر الله تعالى ،
بالإضافة إلى الرياح (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) بالتجارة في السفن وبالزراعة ، وباستعمال المياه في
الحوائج (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا فضله عليكم.
[٤٨](وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) بالهداية والإرشاد
فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا
نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ
بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
____________________________________
(فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) إي الأدلة الواضحات الباهرات ، وإذ لم يؤمن بهم
المجرمون المعاندون (فَانْتَقَمْنا مِنَ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالبقاء على الكفر والعصيان ، والمعنى عاقبتهم بتكذيبهم
وكفرهم بالعذاب والنكال ، وفيه تهديد لمعاصري الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنهم إن بقوا على إجرامهم كان مصيرهم مصير أولئك (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ) بدفع أعدائهم ، وإعلاء كلمتهم.
[٤٩] وبمناسبة
ما تقدم من إرسال الرياح ، وإنزال المطر ، يأتي السياق ليفصّل الأمر في صورة أخرى (اللهُ) هو (الَّذِي يُرْسِلُ
الرِّياحَ) وإرسالها ، إما بخلقها ، وإما بتحريكها من مكان إلى
مكان ، وقد ذكر علماء الفلك تفصيلا ، في كيفية خلق الرياح (فَتُثِيرُ) أي تهيج الرياح (سَحاباً) المراد بالسحاب الجنس ، فإن الرياح تأتي بالسحب ، من
هنا وهناك (فَيَبْسُطُهُ) أي يبسط الله السحاب (فِي السَّماءِ) أي جهة العلو (كَيْفَ يَشاءُ) عرضا وطولا وارتفاعا ، وفي أي موضع شاء ، (وَيَجْعَلُهُ) يجعل الله السحاب (كِسَفاً) قطعا متراكبة بعضها على بعض ، حتى يغلظ ، ويثخن (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر ، والخطاب إما للرسول ، وإما لكل من يرى (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي خلال السحاب وثناياه (فَإِذا أَصابَ) الله (بِهِ) أي بالودق (مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ) بأن
إِذا
هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
(٤٩)
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
____________________________________
نزل المطر في أرضهم (إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون ويبشر بعضهم بعضا ، حيث يوجب الرخص بكثرة النبات
وتسمين الأنعام.
[٥٠](وَإِنْ كانُوا) أولئك الذين أصاب المطر أرضهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ) المطر (عَلَيْهِمْ) وعلى بلادهم (مِنْ قَبْلِهِ) للتأكيد ، أو المراد به ، من قبل إثارة الرياح للسحاب (لَمُبْلِسِينَ) أي قانطين آيسين متحيرين ، لا يدرون ماذا يصنعون بزرعهم
وضرعهم.
[٥١](فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو أيها الناظر (إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) والمراد بها النبات المتنوع ، والأنهار الجارية ،
والأشجار النظرة ، التي غسلها المطر ، فإنها آثار المطر الذي هو رحمة الله (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها) أي بعد أن كانت مواتا يابسة ، لا حركة فيها ، ولا نبات
، ولا ماء (إِنَّ ذلِكَ) الله الذي أحيى الأرض بعد موتها لهو محيي (الْمَوْتى) يحييهم ، بعد أن ماتوا ، للحساب والجزاء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكما قدر على إحياء الأرض ، يقدر على إحياء الأموات ،
وهذا ردّ على منكري البعث ، كيف ينكرون ذلك ، وقد رأوا إحياء الأرض.
[٥٢] لكن هل
هذا الإنسان الذي يستبشر بالرحمة ، هو مؤمن بالله من أعماق نفسه ، وراض بقضائه حتى
أنه يصبر على بلائه كما يشكر على
وَلَئِنْ
أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
فَإِنَّكَ
لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ (٥٢)
____________________________________
نعمائه؟ كلا! إنهم قد عبدوه على حرف ، فإن أصابهم خيرا اطمئنوا به وإن
أصابتهم فتنة ، انقلبوا على أعقابهم (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا) عوض الريح المثيرة للسحاب (رِيحاً) هوجاء (فَرَأَوْهُ) أي رأوا النبت (مُصْفَرًّا لَظَلُّوا
مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد إرسال الريح الهوجاء الموجبة لاصفرار النبات ،
وهلاكه (يَكْفُرُونَ) بقضاء الله وقدره ، قائلين : لماذا فعل الله بزرعنا هذا؟
[٥٣] وليس كون
هؤلاء الناس ، هكذا لا يصبرون عند البلاء ، لعدم كمال البلاغ ، وإنما لعدم لياقة
أنفسهم (فَإِنَّكَ) يا رسول الله (لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى) فكما أن الميت ، لا يسمع سماعا مفيدا يرتب الأثر عليه
كذلك ، إن هؤلاء الذين هم بمنزلة الأموات ، في عدم حصول الخير منهم ، لا يسمعون
العظة سماعا مفيدا ، حتى إذا رأوا بلاء صبروا ولم يكفروا (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) جمع أصم ، وهو الفاقد لحاسة السمع (الدُّعاءَ) أي إذا ما دعوته ليقبل إليك (إِذا وَلَّوْا) أولئك الصم ، بأن كانوا (مُدْبِرِينَ) فإن الأصم ، وإن كان لا يسمع ، وإن كان وجهه في طرف
الداعي ، إلا أنه يفهم الإشارة ، فيرتب الأثر ، أما إذا أدبر ، فلا يسمع ، ولا
يرتب الأثر ، وهو للمبالغة ، في عدم إمكان إفهامه ، وهذا تشبيه إثر تشبيه لحال
الكفار الذين لا يؤثر فيهم البلاغ والإرشاد ، وكأنه للترقي نزولا عند رغبة المخاطب
، إيهاما بأن هناك مخاطبا ، يستبعد أن يكونوا كالأموات فإنهم أحياء؟ فيأتي السياق
ليقول : سلمنا إنهم ليسوا
وَما
أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ
بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً
____________________________________
بأحداث ، إلا أنهم كالأصم الذي ولى دبره ، حيث لا ينتفع بالعظة والإرشاد.
[٥٤](وَما أَنْتَ) يا رسول الله (بِهادِ الْعُمْيِ) أي بقادر على أن تهدي إلى الطريق الذين هم عميان
البصيرة (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) متعلق ب «هادي» أي لا تقدر على هدايتهم عن ضلالتهم ،
لأن مثلهم مثل الأعمى الذي كلما أراد الإنسان أن يريه الطريق ، لا يهتدي ولا يعرف (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما تسمع إسماعا مفيدا أحد من الناس (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي بأدلتنا الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا ، فإن من سلك طريق الهداية ،
سمع أقوالك سماعا نافعا (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) لك منقادون لأوامرك.
[٥٥] وكيف يكفر
هؤلاء بالله ، وقد علموا أنه هو الذي خلقهم ، ويقلبهم من حال إلى حال (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) من نطف ضعيفة ، أو أطفالا ضعافا ، وهذا من باب المجاز ،
إذ جعل ذو الضعف ، وكأنه قطعة من الضعف ، مثل زيد عدل ، و (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (ثُمَّ جَعَلَ) لكم (مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) كان فيكم (قُوَّةً) الحياة ، وقوّة الشباب (ثُمَّ جَعَلَ) لكم (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
ضَعْفاً وَشَيْبَةً) حتى يرتد الإنسان إلى
__________________
يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ
____________________________________
حالته الأولية ، والمراد الشيبة ، حالة الشيخوخة (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من قوي وضعيف ، وقوة وضعف ، فهما خلقان من خلقه (وَهُوَ الْعَلِيمُ) عليم بمصالح عباده ، ولذا يصرفهم من حال إلى حال (الْقَدِيرُ) على ما يريد.
[٥٦] إن هذا
الإتقان في الخلق والتقليب في الخلقة ، من عليم قدير ، لا بد وأن تكون له نهاية
متقنة ، وغرض مقصود ، هي القيامة ، فليستعد الإنسان لها ، أما من أجرم ، فيذهب
عمره هباء ، وكأنه لم يلبث في الدنيا ، إلّا يسيرا (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ) أي القيامة (يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ) يحلف الذين أجرموا في الدنيا بأنهم (ما لَبِثُوا) ولم يبقوا في الدنيا (غَيْرَ ساعَةٍ) واحدة ، حيث يستضئلون أيام الدنيا ، كما قال (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (كَذلِكَ) أي كما صرفوا هناك عن الصدق ، في مدة بقائهم كذلك (كانُوا) في الدنيا (يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصدق ، بالنسبة إلى الألوهية ، والرسالة
والمعاد.
[٥٧] وكان هذا
الكلام من الكفار ، إنما هو بحضور المؤمنين ، فيقول لهم المؤمنون ، وأية فائدة في
هذا الكلام : هل طويل كان عمر الدنيا أم قصير ، وإنما المقصود ، كان العمل لأجل
هذا اليوم ، وقد فاتكم (وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) أي أعطوا علما بالمعارف ، وإيمانا
__________________
لَقَدْ
لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ
وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦)
فَيَوْمَئِذٍ
لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ
____________________________________
بالألوهية والرسالة والمعاد ـ فهم كما كانوا في الدنيا علماء مؤمنين ، لا
يفارقهم هذان هناك ـ (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) وبقيتم (فِي كِتابِ اللهِ) أي في علم الله وقضائه ، وما كتبه لكم (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) وهذا كما يقول الإنسان لمن ينازع في مدة بقائه في سفر
سافره : إنك في ما سجلت ، أنا بقيت عشرة أيام ، فإن بقاءكم إلى يوم البعث ، هو
المهم ، أما أنه طويل أو قصير ، فليس بمهم ، فقد أبقاكم الله في الدنيا للعمل
الصالح ، ولم تعملوا (فَهذا يَوْمُ
الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه (وَلكِنَّكُمْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك في الدنيا ، ولذا وقعتم في العذاب هنا.
[٥٨](فَيَوْمَئِذٍ) أي في القيامة (لا يَنْفَعُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والعصيان (مَعْذِرَتُهُمْ) أي اعتذارهم ، بما يظهرون من أنواع العذر ، بأنهم ما
علموا ، أو أضلهم الرؤساء ، أو أرجعونا نعمل صالحا ، أو ما أشبه (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم الإعتاب والرجوع إلى الحق ، كما كان
يطلب منهم في الدنيا.
[٥٩](وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ينفع في إيقاظ الناس عن جهلهم وغيهم ، كتمثيلهم
بالأموات ، والصم ، وتمثيل آلهتهم ببيت العنكبوت ، إلى غير ذلك (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) يا رسول الله (بِآيَةٍ) لإرشادهم ، مشتملة على مثل أو غير مثل
لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨)
كَذلِكَ
يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
____________________________________
(لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا) للذين آمنوا (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم (إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي أصحاب أباطيل ، يقال أبطل ، إذا جاء بالباطل.
[٦٠](كَذلِكَ) أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء الكفار ، بعد أن أعرضوا
عن الحق ، وقد سبق ، أن معنى الطبع ، هو أن يترك الله الإنسان حتى ينحرف ويقسو
قلبه ، بعد أن أرشده إلى الطريق فلم يقبل ، وإنما نسب الطبع إليه ، كما ينسب
الإفساد إلى الوالد ، فيقال أفسد فلان ابنه ، إذا تركه «بعد أن أرشده ، فلم يقبل»
حتى فسد (يَطْبَعُ اللهُ عَلى
قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) التوحيد والرسالة والمعاد ، بأن تركوا التعلم حتى
جهلوها.
[٦١](فَاصْبِرْ) يا رسول الله ، على أذى هؤلاء الكفار ، وكفرهم وعنادهم
، فسيأتيك المدد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌ) فسينصرك ويخذلهم (وَلا
يَسْتَخِفَّنَّكَ) أي لا يستفزنك ، يقال استخفه ، إذا طلب خفته ، بأن
يستعتبه لنفسه (الَّذِينَ لا
يُوقِنُونَ) بالله واليوم الآخر ، بأن تترك مهمتك ، أو تداهنهم.
(٣١)
سورة لقمان
مكية / آياتها (٣٥)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر «لقمان» الحكيم ، وبعض وصاياه ، وهي كسائر السور
المكية تعالج قضايا العقيدة بأصولها المختلفة ، من توحيد ، ورسالة ، ومعاد ،
ولوازمها ، وبعض الأمور الأخلاقية ، ولما اختتمت سورة الروم ، بذكر القرآن ،
ابتدأت هذه السورة بذلك.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله ، ولا منافاة بين تقدير الابتداء
والاستعانة معا ، بإشراب أحد الفعلين معنى الفعل الآخر ، كما إن الاستعانة باسم
الإله ، تنافي التعظيم ، كما قال بعض متوهما لزوم أن يكون اسم الإله آلة من قبيل
كتبت بالقلم ، فقد قال سبحانه (وَاللهُ
الْمُسْتَعانُ) وهو الرحمن الرحيم ، الذي يتفضل بالرحمة المكثرة ، لمن
استعان به ، وطلب رحمته.
__________________
الم
(١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً
لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(٤)
____________________________________
[٢](الم) من جنس «ألف» و «لام» و «ميم» هذا القرآن المعجز الذي
لا يتمكن الجن والإنس على الإتيان بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أو إنها
رموز بين الله ورسوله ، وفائدته لنا ، إن الرسول يسر به إلى من يعلمه أهلا لذلك.
[٣](تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) خبر لقوله «الم» وكون الكتاب حكيما ، بمعنى أنه قرر
منهجا محكما ، لا يدخله زيغ وفساد ، فإن الحكمة ، وضع الأشياء موضعها اللائق بها.
[٤] في حال كون
هذا الكتاب (هُدىً) أي هداية وإرشادا (وَرَحْمَةً) موجبة للرحم والتفضل ، فإن الله سبحانه ، لم ينزل هذا
القرآن ، إلا لأن يرحم العباد (لِلْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في عقيدتهم وعملهم ، وتخصيصهم بالذكر ،
لأنهم هم المنتفعون به ، وإن كان في القرآن صلاحية الهداية والرحمة للجميع.
[٥] ثم وصف
سبحانه المؤمنين بقوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) بإتيانها دائما حسب آدابها وشرائطها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يعطون الأموال الموجبة لطهارة الأموال وتزكيتها ،
والظاهر أن المراد بها ، الصدقة المستحبة ، إذ لم تجب الزكاة المفروضة في مكة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يعتقدون ، والإتيان ب «هم» مكررا للتأكيد ، ولإفادة
، إن المصلي المزكي ، هو المعتقد بالآخرة ، أما غيره ممن يدعي ذلك ، ولا يقوم
أُولئِكَ
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
____________________________________
بهذين الأمرين ، فإنما كلامه لقلقة لسان ، لا خارج من أعماق الجنان.
[٦](أُولئِكَ) المتصفون بتلك الأوصاف (عَلى هُدىً مِنْ
رَبِّهِمْ) كأنّ الهدى جادة ، والضلال جادة ، فمن عمل بما ذكر ،
كان سائرا على تلك الجادة المسماة بالهدى ، وأن الهدى من ناحية إلههم وخالقهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدنيا والآخرة.
[٧] ثم ذكر
سبحانه من يقابل طائفة المؤمنين ، وهم طائفة الكفار والمنافقين (وَمِنَ النَّاسِ) أي بعضهم (مَنْ يَشْتَرِي
لَهْوَ الْحَدِيثِ) فإنه ينفق عمره في سبيل الأحاديث الملهية الباطلة ،
وهذا عام ليشمل كل الأحاديث الملهية ومن جملة ذلك «الغناء» ولذا ورد تفسير الآية
به (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) أي يضل الناس عن طريق الهداية فإنه يحدثهم ليجمعهم حوله
، فلا يجتمعوا حول الهدى ، وقد ورد ، أنها نزلت في النضر بن حارث ، كان يتّجر
فيخرج إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم ، ويحدث بها قريشا ، ويقول لهم : إن محمدا
يحدثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار ، وأخبار الأكاسرة ،
فيستمعون حديثه ، ويتركون استماع القرآن (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فإن العاصي جاهل ، وإن كان عالما حسب الظاهر ، إذ لو
علم بحقيقة العلم ما يجره إلى نفسه من النار والنكال لم يقترب إلى المعصية أبدا ،
كما قال : (مَنْ
__________________
وَيَتَّخِذَها
هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧)
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
____________________________________
عَمِلَ
مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) (وَيَتَّخِذَها) أي يتخذ سبيل الله ـ فإن السبيل مؤنث مجازي ـ (هُزُواً) آلة استهزاء وسخرية ، فإن الإنسان ، إذا أراد الاستهزاء
، جعل شيئا محور استهزائه (أُولئِكَ) الذين صفتهم ما تقدم (لَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ) أي يهينهم ذلك العذاب ، ويذلهم في مقابل ما كانوا
يستكبرون ويتعاظمون في الدنيا.
[٨](وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي تقرأ عليه آيات القرآن الحكيم (وَلَّى) وأعرض (مُسْتَكْبِراً) أي في حالة كبر واستعلاء يرى نفسه أكبر من أن يخضع
لآيات القرآن (كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها) وإلا فالإنسان العاقل إذا سمع الهدى والرشاد اتبعه
واقترب منه وخضع له (كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً) «الوقر» الحمل الثقيل ، أي كان في مسامعه حمل ثقيل يمنعه عن الاستماع ، حتى
يهتدي (فَبَشِّرْهُ) يا رسول الله ، وتسميته التخويف بشارة ، استهزاء ، كما
كان يستهزأ بآيات القرآن (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم موجع في القيامة.
[٩] وفي
مقابلهم المؤمنون (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) بما يجب الإيمان به من المعارف والاعتقادات (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) بأن أتوا
__________________
لَهُمْ
جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها
وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
____________________________________
بالواجبات ، وتركوا المحرمات ، فإنه لا يقال ، فلان يعمل صالحا ، إلا إذا
كان آتيا بالواجب تاركا للمحرم (لَهُمْ جَنَّاتُ
النَّعِيمِ) أي بساتين يتنعمون فيها في الآخرة ، في مقابل العذاب
الأليم الذي للكفار.
[١٠] في حال
كونهم (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين لا زوال لهم عنها (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا حقا يتحقق في الخارج ، لا خلف فيه
(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره ، فما أراده ، من تعذيب الكفار ،
وتنعيم المؤمنين عمله (الْحَكِيمُ) يفعل الأشياء بالحكمة والمصلحة.
[١١] إن الكفار
الذين لا يعترفون بالإله لينظروا إلى آثاره ، والمشركون الذين يجعلون له شريكا ،
فليأتوا بدليل من الخلق ، يدل على شريكهم (خَلَقَ السَّماواتِ) وهي مدارات الكواكب ، أو أجسام هنالك ، لم يصل إليها
العلم ، وسير البشر المحدود في الفضاء (بِغَيْرِ عَمَدٍ) جمع عمود ، أي لا عماد للسماوات (تَرَوْنَها) أي ترون أن لا عماد للسماوات ، وإنما تدور الكواكب ،
وتسير بقدرته سبحانه ، أو المراد ، إن السماوات ثابتة بدون أعمدة مرئية ، وإنما
عمادها الجاذبية ، التي خلقها الله فيها ، مما لا يراها الإنسان (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا راسية ثابتة تمنع الأرض عن التحرك والاضطراب
والتفكك ، فهي كأوتاد الأخشاب ، وإلا جذبتها جاذبية النيران ، كما تجذب ماء البحار
ـ فيحدث المد والجزر ـ أو تفككت في سيرها السريع ، وانتثرت في الفضاء ، وإنما ألقى
في الأرض رواسي : كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) من «ماد» بمعنى
وَبَثَّ
فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠)
هذا
خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ
____________________________________
اضطرب ، أي لئلا تضطرب الأرض معكم أيها البشر (وَبَثَ) أي نشر ، وفرق (فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) من جميع أنواع الدواب المختلفة الأشكال ، والألوان
والحجوم والمزايا (وَأَنْزَلْنا) على قاعدة الالتفات من الغيبة إلى التكلم الذي هو من
أقسام البلاغة (مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو (ماءً) هو المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض بسبب ذلك الماء (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل صنف من أصناف النبات (كَرِيمٍ) أي مكرّم محترم ، لما فيه من الفوائد والخواص.
[١٢](هذا) الذي ذكر من صنوف الخلق (خَلْقُ اللهِ) فإنه سبحانه ، هو الموجد لهذا كله (فَأَرُونِي) أيها المشركون القائلون بأن لله شريكا (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي الآلهة الذين هم غير الله ، والإتيان ب «الذين»
للمجاراة مع عبّاد تلك الأصنام ، في المكالمة والمخاطبة ليتناسق التعبير أخذا
وعطاء ، وليس لأحد من المشركين ، أن ينسب بعض تلك المخلوقات إلى آلهتهم ، كما نسب
الثنوية المضار إلى إله الشر ، إذ توحيد النظام ، والتنسيق دال على توحيد الخالق ،
فإن النظام الواحد لا يصدر ، إلا من المنظم الواحد ، ثم ماذا يقيمون من الأدلة ،
على أن الشيء الفلاني من الله ، والشيء الفلاني من الشركاء؟ إلا الادعاء ، وإن شئت
قلت : إن هناك مخلوقات ، تدل على خالق واحد ، فمن يقول بالأكثر ، فعليه الدليل (بَلِ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم
فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ
____________________________________
بالكفر والشرك والعصيان ، لا دليل لهم على تعدد الآلهة ، وإنما هم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح.
[١٣] وإذ كان
الكلام حول التوحيد والشرك ، ينتقل السياق إلى قصة «لقمان» الحكيم الذي كان يأمر
بالتوحيد ، وينهى عن الشرك (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) وهو معرفة مواضع الأشياء ، وعلم الارتباط بين الأسباب
والمسببات ، بحيث يعلم كيف ينهج الإنسان ، حتى يسعد في الحياة ، عن الصادق عليهالسلام إنه سئل عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عزوجل فقال : أما والله ، ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال
ولا أهل ، ولا بسط في جسم ، ولا جمال ، ولكنه ، كان رجلا قويا في أمر الله متورعا
في الله ساكتا سكّيتا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغني بالعبر ، لم ينم
نهارا قط ، ولم يتك في مجلس قط ، ولم يتفل في مجلس قط ، ولم يعبث بشيء قط ، ولم
يره أحد من الناس على بول ولا غائط ، ولا اغتسال لشدة تستره ، وعمق نظره ، وتحفظه
في أمره ، ولم يضحك من شيء قط ، مخافة الإثم في دينه ، ولم يغضب قط ، ولم يمازح
إنسانا قط ، ولم يفرح بشيء ، بما أتاه من الدينا ، إن أتاه من أمرها ، ولا حزن
منها على شيء قط ، وقد نكح من النساء ، وولد له الأولاد الكثير ، وقدم أكثرهم
إفراطا ، فما بكى على موت أحد منهم ، ولم يمر برجلين يختصمان ، أو يقتتلان إلا
أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحابا ، ولم يسمع قولا قط عن أحد استحسنه إلا
سأله عن تفسيره ، وعن من أخذه فكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء ، وكان يغشي
للقضاة والملوك ، والسلاطين ، فيرثي القضاة مما ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين
، لعزتهم بالله
أَنِ
اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما
____________________________________
وطمأنينتهم في ذلك ، فيعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ، ويجاهد به هواه ،
ويحترز به من الشيطان ، وكان يداوي قلبه بالتفكر ، ويداوي نفسه بالعبر ، وكان لا
يصغي إلا فيما ينفعه ، ولا ينظر إلا فيما يعنيه ، فبذلك أوتي الحكمة ، ومنح العصمة
ـ أي الاعتصام من الزلل ـ وإن الله تبارك وتعالى ، أمر طوائف من الملائكة ، حين
انتصف النهار ، وهدأت العيون بالقائلة ، فنادوا لقمان حيث يسمع ، ولا يراهم ،
فقالوا : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض ، تحكم بين الناس؟ فقال
لقمان : إن أمرني ربي بذلك ، فالسمع والطاعة ، لأنه إن فعل بي ذلك ، أعانني عليه ،
وعلّمني وعصمني ، وإن هو خيّرني قبلت العافية ، فقالت الملائكة : يا لقمان لم قلت
ذلك ، قال : لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل من الدين ، وأكثر فتنا وبلاء ما
يخذل ، ولا يعان ، ويغشاه الظلم من كل مكان ، وصاحبه منه بين أمرين ، إن أصاب فيه
الحق ، فبالحري أن يسلم ، وإن أخطأ أخطأه طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا
ضعيفا كان أهون عليه في المعاد ، من أن يكون فيها حكما سريا شريفا ، ومن اختار
الدنيا على تلك الآخرة يخسرهما كلتيهما ، تزول هذه ، ولا يدرك تلك ، قال : فعجبت
الملائكة من حكمته ، واستحسن الرحمن منطقه ، فلما أمسى ، وأخذ مضجعه من الليل ،
أنزل الله عليه الحكمة ، فغشاه بها من قرنه ، إلى قدمه ، وهو نائم ، وغطاه بالحكمة
غطاء فاستيقظ ، وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس ، ينطق بالحكمة ويبثها
فيهم ، وقلنا له (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) فيما أعطاك ، والشكر هو صرف النعمة ، فيما أمر الله
سبحانه (وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّما
__________________
يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)
وَإِذْ
قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
____________________________________
يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ)
فإن فائدة شكره
تعود على نفسه ، فإن الشكر يوجب الزيادة في النعم والثواب في الآخرة (وَمَنْ كَفَرَ) بأن لم يشكر ، وصرف النعم في معصية الله ، كأن يصرف
نفسه وماله في الكفر والشرك والفسوق والعصيان (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين ، والتقدير ، ومن كفر فليعلم إنه لا
يضر الله ، لأنه سبحانه غني (حَمِيدٌ) محمود على أفعاله ، فإن ترك هذا الإنسان للحمد والشكر ،
لا يخرج الله عن كونه محمودا في السماوات والأرض.
[١٤] ثم ذكر
سبحانه جملة من حكمة لقمان ، وما كان يبثه بين الناس ، من المواعظ والنصائح (وَ) أذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَ) والحال إنه كان (هُوَ يَعِظُهُ) أي يؤدبه بالأخلاق الحسنة ويعلمه الخير والرشد (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) أي لا تجعل له شريكا ف (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وهل هناك ظلم أعظم ، من أن يربط الإنسان أعمال الإله ،
بمخلوق له ، ما يسبب فساد دينه ودنياه ، وفساد دنيا ودين من اتبعه؟
[١٥] وبهذه
المناسبة ، يأتي السياق ليبين جملة من كلام الله سبحانه حول الإنسان ، من جهة
أبويه ، فإن احترام الوالدين في طول إطاعة الله ، فكما يجب امتثال أوامر الله ،
لأنه الخالق ، كذلك يلزم الإحسان إليهما ، لما تعباه في تكوين الأولاد وتربيتهما (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي أمرناه ، بإطاعة الوالدين وشكرهما ، والإحسان إليهما
، ثم
حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)
وَإِنْ
جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
____________________________________
ألمع السياق إلى بعض أسباب لزوم الاحترام للأم ، فقد (حَمَلَتْهُ) أي حملت الإنسان (أُمُّهُ وَهْناً عَلى
وَهْنٍ) أي في حال كون الإنسان الجنين ، يوجب لها ضعفا فوق ضعف
، فلم تزل تضعف كل يوم أكثر من الضعف في اليوم السابق ، حتى تلد ، فقد أطلق «وهن»
على «الموهن» كأنه قطعة ، من قبيل «زيد عدل» (وَفِصالُهُ) أي أن مدة فصال الإنسان عن الرضاع ، بعد الولادة (فِي عامَيْنِ) فإن الرضاع الكامل ، إنما هو عامان ، ويفصل عن اللبن
عند تمامها ، كما قال سبحانه ، (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ) (أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ) هذا تفسير قوله «ووصينا» مع الزيادة ، وهو لفظة «لي» أي
كانت وصيّنا للإنسان ، أن يشكر لله ولوالديه ، وكان الإتيان ب «لي» لإفادة كون شكر
الوالدين ، في عرض شكره سبحانه (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فمن تكاسل في الشكر ، عوقب بالنكال ، كما أن من عمل
بالأمر جوزي بالجنة.
[١٦](وَإِنْ جاهَداكَ) أي جاهد معك الأبوان ، بأن أتعبا أنفسهما مع الولد (عَلى أَنْ تُشْرِكَ) أيها الإنسان (بِي) بأن تجعل لي شريكا ، فيما كان هما مشركين ، وأرادا جرّ
الأولاد إلى دينهما وطريقتهما (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) أي تجعل الصنم الذي ليس علم لك بكون ذلك الصنم شريكا
__________________
فَلا
تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ
إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
يا
بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
____________________________________
لي ، وهذا لأجل أن ما لا يكون ، لا يتعلق به علم ، وإن تعلق به القطع ، فهو
جهل مركب (فَلا تُطِعْهُما) في الإشراك بي (وَ) لكن (صاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي أحسن إليهما ، وأرفق بهما ، في سائر الأمور ما دامت
في الدنيا ، فإن شركهما لا يسبب قطع الصلة عنهما ، ومعروفا منصوب لكونه صفة ،
لمصدر محذوف ، أي مصاحبة معروفة ، مقابل المصاحبة المنكرة (وَ) أما في الأمور الدينية ، ف (اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي رجع إليّ بالإطاعة والامتثال ، وإنما سمي الامتثال
إنابة ، باعتبار أنّ الكفار قد أعرضوا عن الله ، فإذا جاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رجع جماعة منهم ، ومن أولادهم إلى الله بعد الإعراض
منهم ، أو من آبائهم (ثُمَّ إِلَيَ) أي إلى جزائي وحسابي (مَرْجِعُكُمْ) جميعا الأبوين المشركين ، والأولاد المؤمنين ، والمرجع
مصدر ميمي ، بمعنى الرجوع (فَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا ، لأجازيكم عليه ، والإخبار إنما هو
للتذكير ، حيث لا يحسب الإنسان الجزاء ظلما أو عبثا.
[١٧] ثم رجع
السياق إلى كلام لقمان مع أبيه ، وقد كان من دأب القرآن الحكيم ، أن يأتي بالجمل
المعترضة ، في أواسط الكلام ، مما لها ربط به ، لتنشيط الذهن بالتفنن في الكلام (يا بُنَيَّ إِنَّها) أي فعلة الإنسان المفهوم من قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ) أي كان ثقل النمل في عالم المعنويات ، مقدار ثقل حبة
خردل من عالم
فَتَكُنْ
فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ
اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
____________________________________
الماديات (فَتَكُنْ) تلك الخردلة ، أو تلك الفعلة (فِي صَخْرَةٍ) حيث إن الحبة المخفية في صخرة صماء صعب الاطلاع عليها
واستخراجها من الصخرة (أَوْ فِي السَّماواتِ) ، فإن الحبة إذا أضيفت في السماوات الوسيعة ، لا يقدر على
العثور عليها أحد لسعة السماوات (أَوْ فِي الْأَرْضِ) وهل توجد حبة ضاعت في الأرض ، فهل يعلم أنها في أي مكان
منها؟ (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي بتلك الفعلة ، وهذا لإيقاظ الإنسان ، أن لا يترك
خيرا صغيرا بعيدا عن الأنظار بزعم أنه لا يطلع عليه أحد ، فلما ذا يعمله؟ أو يفعل
شرا صغيرا بعيدا عن الأنظار ، بزعم أنه لا يراه أحد ، فيجتنب عنه؟ إن العمل مهما
كان صغيرا ، في أرض كان أو سماء ، أو في كهف جبل ، أو في أعماق البحار ، فإن الله
مطلع عليه ، ويأتي بحسابه يوم القيامة ، أو يأتي بنفسه ـ إن قيل بتجسيم الأعمال ـ (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) فيعلم الأشياء اللطيفة الدقيقة (خَبِيرٌ) عالم بالأشياء ، واللطيف أخص من الخبير ، وجيء به هنا
للمناسبة مع كون العمل صغيرا مضاعا في السماوات أو الأرض ، أو مخفيا في جوف صخرة
صماء.
[١٨](يا بُنَيَ) هو تصغير «ابن» وقد أضيف إلى ياء المتكلم ، وجيء
بالتصغير لطفا وشفقة ، لا تحقيرا وإهانة (أَقِمِ الصَّلاةَ) بآدابها وأركانها (وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ) وهو كل شيء حسن عقلا ، أو شرعا ، وسمي معروفا ، لأنهم
يعرفونه ، ولا ينكرونه (وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) وهو كل قبيح
وَاصْبِرْ
عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
وَلا
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ
____________________________________
يستقل به عقل أو شرع ، وسمي منكرا لأن الناس ينكرونه (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الأذى في سبيل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ،
أو كل ما أصابك من مكاره الدنيا ، فلا تجزع ولا تخرج عن نطاق الأدب والشريعة في
المكاره (إِنَّ ذلِكَ) الصبر على ما أصابك ، أو كل ما سبق (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) العزم ، هو عقد القلب على شيء ، أصله بمعنى القطع ، كأن
من نوى شيئا ، فقد قطع هذا الطرف من الأمر ليسير عليه ، ومن يتصف ، بأنه يتمكن أن
يقطع الأمور ، ويبنى على الطرف منها ، فقد اتصف بصفة كبري ، حيث لم يعط للشك مجالا
لتهديم استقامته ، وصبره وصموده فيما يريد.
[١٩](وَلا تُصَعِّرْ) من «صعر» بمعنى أمال (خَدَّكَ) أي صفحة وجهك (لِلنَّاسِ) بأن تتكبّر عليهم ، فتعرض عنهم بوجهك حين يطلبون منك
حاجة ، أو يواجهونك بكلام (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً) أي مشيا مرحا ، وهو مشي الكبر والخيلاء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) من اختال بمعنى تكبر (فَخُورٍ) يفخر على الناس ، ومعنى لا يحب يكره ، لما سبق من
التلازم بين عدم حب الله لشيء ، وكراهته له ، ولعل التعبير ب «لا يحب» لإفادة أن
مجرد عدم محبة الله ، كاف في ترك الإنسان لشيء ، فكيف إذا كرهه؟.
[٢٠](وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) القصد في كل شيء هو حد الوسط فيه بدون إفراط أو تفريط ،
أي ليكن مشيا متوسطا ، لا بسرعة تذهب بالبهاء ،
وَاغْضُضْ
مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا
أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً
____________________________________
ولا ببطء من الخيلاء ، أو المراد من المشي الأعم من الحركة ، يقال فلان حسن
المشي ، فيما كانت سيرته حسنة ، فيكون المراد بالآية ، القصد في كل شيء من إنفاق ،
ومأكل ، وسيرة ، وعشرة ، وغيرها (وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ) أي اخفض بعض صوتك ، بأن لا تظهر كل الصوت عند التكلم ،
بل تنقّص بعضه ، فإن الأدب في التكلم ، أن يتكلم الإنسان كلاما هادئا ، بدون جهر
شديد ، وصياح ، ثم استدل لقمان لقبح الصوت الرفيع ، بقوله (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ) حين ينهق ، فإن صوته يزعج السامع ، وليس ذلك إلا لأجل
رفعه ، والجهر الشديد به ، فإذا أزعج الإنسان صوت الحمار ، فليتأدب عند إخراج صوت
نفسه ، كما روي إنه قيل لأحد الحكماء : ممن تعلمت الأدب؟ قال : ممن لا أدب له ،
حيث رأيت قبح عمله ، فتركته.
[٢١] ثم انتقل
السياق للحوار مع المنكرين لله ، والجاعلين له شريكا ، الذين من أجلهم سيق قصة
لقمان (أَلَمْ تَرَوْا) أيها المنكرون له ، أو المعترفون به الجاعلون معه شريكا
(أَنَّ اللهَ سَخَّرَ
لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من الشمس والقمر والنجوم ، فإنها تسير لمصالحكم ،
ومنافعكم ، وكذلك الهواء والحساب وغيرها (وَما فِي الْأَرْضِ) من الحيوان ، والنبات ، والمياه ، والمعادن ، وغيرها
فقد جعلها تحت اختياركم ، ولمنافعكم (وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ) أي أوسع عليكم (نِعَمَهُ) جمع نعمة كالغنى ، والصحة ، والأمن ، وغيرها (ظاهِرَةً وَباطِنَةً)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ
(٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا
____________________________________
فالظاهرة كالخلق والحياة ، وما ينتفع منها الإنسان ، في حياته وعيشه ،
والباطنة ، ما وهب الله للإنسان من الإدراك ، والعقل ، الذي به يسيّر حياته حسب
المصلحة والخير ، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ ومن النعم الباطنة ، الرسل ، والأئمة
والإسلام ، ومن الناس من ينسب كل هذه النعم إلى الصدفة أو الطبيعة ، فلنسأل : هل
لهاتين من عقل وتدبير؟ فإن قال : نعم ، قلنا : ما تسميه الصدفة والطبيعة مما له
إدراك وتدبير ، وتقدير ، وعلم ، وحكمة ـ إلى غيرها مما يستلزمها هذه المخلوقات ـ هو
ما نسميه نحن «الله» إذن فالنزاع في اللفظ ، وإن قال : لا ، قلنا من ذلك يلزم ، ما
لا عقل له عقل ، فكيف لا يقدر جميع الأقوياء من الأطباء أن يصنعوا عينا لأعمى ، أو
عقلا لمجنون ، والطبيعة الجاهلة العاجزة ، تصنع ملايين العيون والعقول؟ (وَ) بعد هذه الأدلة القاطعة (مِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في أصل وجوده سبحانه ، أو وحدته ، بأن يعطل الكون عن
الإله ، أو يجعل له شريكا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فلا علم له قطعي بما يقول ، وإنما هو ظن وتقليد (وَلا هُدىً) أدلة قطعية عقلية (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي كتاب واضح ، ظاهر يوجب تنوير الفكر بالبراهين ،
والحجج ، والحاصل إنه لا دليل عقلي لهم ، ولا دليل نقلي ، ولا لهم علم ، بما
يقولون ، وإنما ظنون وأهواء وتقاليد.
[٢٢](وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ) فهذا كتاب منير عوض العلم ، والدليل العقلي ، الذين
يفقدونهما في باب المبدأ والمعاد (قالُوا) في
بَلْ
نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ
إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى
وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ
(٢٢)
____________________________________
جواب ذلك (بَلْ نَتَّبِعُ ما
وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فإنا نقلدهم ، فيما كانوا يقولون من أمر المبدأ والإله
، والمعاد ، وسائر هذه الشؤون الأصولية (أَوَلَوْ كانَ
الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) بسبب هذا التقليد (إِلى عَذابِ
السَّعِيرِ) الهمزة للاستفهام ، والواو للعطف ، والاستفهام إنكاري ،
أي إنهم يقلدون آباءهم ، حتى إذا كان التقليد من دعوة الشيطان الموجبة ، لأن يدخل
الإنسان النار في خاتمة المطاف ، والسعير اسم من أسامي جهنم ، سميت به لاستعارها
واشتعالها.
[٢٣] هذا حال
الكفار المجادلون المقلدون لآبائهم ، أما (وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) بأن يخضع له ، ونسبة التسليم إلى الوجه ، باعتبار أن
الإنسان الخاضع نفسه ، يظهر آثار الخضوع على وجهه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله ، بأن كانت عقيدته ، وعمله صحيحتين (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي تمسك وأخذ (بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقى) فقد شبهت الحياة ، بمحل مهول لا ينجو منه ، إلا من تمسك
بشيء ، كالعروة ، فمن الناس من يتمسك بعروة واهية تنقطع ، وتنفصل ، ومنهم من تمسك
بعروة وثقى ـ مؤنث أوثق ـ التي لا تنفصم ، حتى ينجو الإنسان عن الأهوال (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) فهو في الحياة مستمسك بأقوى العرى ، ومصيره إلى الله ،
الذي عمل لأجله ، وحسب أمره في الحياة ، ولا بد أن تكون
وَمَنْ
كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ
____________________________________
عاقبته حسنة ، فأواخر الأمور وهي جزاؤها مربوطة بالله ، فمن أحسن ، جزاه
بالخير ، ومن أساء أخزاه بالشر ، فكان كل أمر له ابتداء هو ما يعمله الإنسان ،
وانتهاء هو جزاءه الذي يحصّله من جزاء عمله.
[٢٤] وإذ تبين
الحق ، فلا يحزن الإنسان لمن عاند ، حتى وصل إلى العذاب (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ) يا رسول الله (كُفْرُهُ) فإن الإنسان لا يحزن للمعاند (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي إلى جزائنا رجوعهم ، وهناك (فَنُنَبِّئُهُمْ) أي نخبرهم (بِما عَمِلُوا) من الكفر والعصيان ، ومعنى الإخبار ، بيان ما عملوا ،
حتى يعرفوا ، أنهم استحقوا العذاب ، الذي يراد بهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يجول فيها من الكفر والعصيان ، فلا يفوته شيء ،
ويكون إخباره إخبار عالم ، وجزائه جزاء عادل ، لا ينقص من عذابهم شيئا ، ولا يزيد
فيه شيئا.
[٢٥] وإنما
نمهلهم في الدنيا للاختبار والامتحان (نُمَتِّعُهُمْ) أي نعطيهم من متع الحياة الدنيا (قَلِيلاً) فإن أيام الدنيا قليلة ، وإن طالت عشرات السنوات ،
بالنسبة إلى الآخرة الباقية ، التي لا فناء لها (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) أي ندخلهم في الآخرة بكره منهم واضطرار ، واضطر فعل
متعد ، ولذا يأخذ المفعول بلا واسطة ، أصله «اضتر» من باب الافتعال ، قلبت التاء «طاء»
على القاعدة (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي شديد ، يغلظ عليهم ويصعب.
[٢٦](وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي سألت هؤلاء المشركين الذين يشركون بالله
مَنْ
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ
____________________________________
الأصنام (مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟ هل الله خلقها ، أم الأصنام ، (لَيَقُولُنَّ اللهُ) خلقها ، إذ لا يتجرأ أحدهم ، أن ينسب هذا الخلق العظيم
، إلى أصنام من الطين والحجارة ، أو سائر المعادن والأشجار (قُلِ) يا رسول الله ، إذا قالوا ذلك ، وتمت عليهم الحجة ، في
أصنام هي باطلة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذ اعترفوا بوحدة الخالق ، وأقروا بما يلزم بطلان
آلهتهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) إن اعترافهم بوحدة الخالق ، موجب لوحدة الإله ، إذ لو
لم يكن لأصنامهم شراكة في الخلق ، فما ذا أوجب أن تكون آلهة؟
[٢٧] وإذن
فباعتراف الطرفين (لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المتفرد بالخلق والملك ، إذ الخالق هو المالك (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عما سواه من الشركاء ، إذ له كل شيء إلى من ليس له شيء؟
(الْحَمِيدُ) المستحق للحمد ، وحده بدون شريك ، إذ من يعطي كل شيء ،
هو المستحق للحمد دون من لا يعطي.
[٢٨] ولا يظن
ظان ، أن ما في السماوات والأرض ، أمور معدودة تحيط بها الكتابة والتسجيل ، ليستدل
بذلك على محدودية خلق الله ، إن ما خلقه الله سبحانه ، لا يحيط به كتاب ، وإن كانت
الأشجار أقلاما ، والبحار وأصفافها مدادا ، وهذا هو الإله الحق ، أما الأصنام ،
فمن المضحك أن يتفوه الإنسان ، بأنها في عداد الإله؟ (وَلَوْ أَنَّما فِي
الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ
أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ
كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ
____________________________________
شَجَرَةٍ)
على كثرتها
المدهشة (أَقْلامٌ) للكتابة ، والبحار كلها مداد وحبر ـ لا هذه البحار فحسب
ـ بل (وَالْبَحْرُ) والمراد به الجنس (يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ) أي سواه (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) أخرى ، والإتيان بلفظ السبعة ، لا للخصوصية ، بل هذا
العدد ، كان كناية عن الكثرة ، نحو «السبعين» كما قال (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً) ثم أخذ الكتّاب ، يكتبون بتلك الأقلام ، وذلك المداد
الهائلين ـ كثرة ـ نعم الله سبحانه ومخلوقاته (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ
اللهِ) أي لم تخلص بحيث تحيط بها الكتابة ، والكلمة تطلق على
المخلوق ، باعتبار ، أنه يخرج ، بالإرادة الأزلية من العدم إلى الوجود ، كما يخرج
اللفظ من الفم إلى الخارج ، فإن الله سبحانه ، حيث كان لا يتناهى ، كانت مخلوقاته
الطويلة أيضا ، لا تتناهى ، فلا يحيط ما يتناهى بما لا يتناهى ، وهذا لا يدل على
أن الكلمات المخلوقة فعلا ، لا تتناهى ، حتى يقال : قد دلت الأدلة على استحالة ما
لا يتناهى في عالم الماديات؟ (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره ، يفعل ما يشاء (حَكِيمٌ) فكل ما يخلق ، إنما هو حسب الحكمة والمصلحة.
[٢٩] ولا يظن
ظان أن هذه الخلقة المدهشة ، توجب تعبا على الخالق ، فإن الله يخلق ملايين العوالم
بالإرادة ، ولا فرق لديه بين خلق شيء واحد وملايين العوالم (ما خَلْقُكُمْ) أيها البشر
__________________
وَلا
بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي
اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩)
____________________________________
(وَلا بَعْثُكُمْ) بعد الموت (إِلَّا) كخلق وبعث نفس (واحِدَةٍ) فالأمران : خلق الواحد ، أو الجميع ، وبعثه ، عنده
سبحانه سيّان (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (بَصِيرٌ) بنياتكم ، فقد كانت قريش تقول : إن الله خلقنا أطوارا
نطفة فعلقة فمضغة ، فلحما ، فكيف يعيدنا جميعا ، في ساعة واحدة؟ وكانت هذه الآية
تدمغهم.
[٣٠](أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو كل من منه الرؤية ، قدرة الله
العظيمة ، فكيف يقول أناس : إنه لا يقدر على البعث ، أو ينكرون وجوده؟ (أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهارِ) بأن ينقص من النهار ، ليزيد على الليل ، أو يدخل ليلة
كل يوم نهارها ، حتى إن غابت الشمس ، توجه جند الليل من ناحية المشرق ، ليغزوا
النهار المنتشر في السماء ، والإيلاج هو الإدخال (وَيُولِجُ النَّهارَ
فِي اللَّيْلِ) على أحد المعنيين السابقين (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما حتى أنهما يسيران طوع أمره وإرادته (كُلٌّ يَجْرِي) في فلكه بصورة مستمرة دائمة لينتهي (إِلى أَجَلٍ) ومدة (مُسَمًّى) قد سمي ذلك عنده سبحانه ، فليس سيرهما اعتباطا ، بلا تحديد وتقدير (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وقد أدرج هذا الأمر المعنوي إلى ذينك الأمرين الحسيين
لإفادة من يخلق ويتصرف بما تقدم ، لا بد وأن يعلم أعمال الخلائق ، ولذا صح عطفه
على قوله «أن
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ
اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ
____________________________________
الله يولج» وعلى هذا ، فالمراد بالرؤية المعنى الجامع بين البصر والبصيرة.
[٣١](ذلِكَ) الذي تقدم من التصرف في الليل والنهار ، والشمس والقمر
، والعلم بأعمال العباد ، إنما كان من شأن الله بسبب أن (اللهَ هُوَ) الإله (الْحَقُ) والإله الحق يتأتى منه كل ذلك (وَ) لازم كون الله حقا (أَنَّ ما يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ) من الأصنام (الْباطِلُ) فليست تلك بآلهة (وَأَنَّ اللهَ هُوَ
الْعَلِيُ) الرفيع (الْكَبِيرُ) العظيم ، وإن التصرفات الكونية ، والعلم الشامل ، إنما
هي من شأن الإله العلي الكبير ، فهل يتمكن أحد ، أن ينسب إلى الأصنام هذه الصفات ،
أو تلك الأمور التكوينية؟
[٣٢] ثم ينتقل
السياق إلى إلفات هؤلاء نحو خارقة كونية أخرى ، لا محيص لهم عن الاعتراف ، بأنها
لله ، لا لأصنامهم (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو لكل من يتأتى منه الرؤية (أَنَّ الْفُلْكَ) أي السفينة (تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) فقد أنعم على البشر بإجراء السفينة في البحار لنقلهم من
هنا إلى هناك ، وتسهيل تجارتهم بسببها ، و (لِيُرِيَكُمْ) الله في هذا المسير (مِنْ آياتِهِ) أي بعض آياته الدالة على عظم قدره ، وجلالة شأنه ، فإن
في البحار عجائب صنع الله سبحانه ، مما يراها من ركب البحر ، وقوله «ليريكم» بيان
لإحدى علل إجراء السفينة في البحر ،
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ
خَتَّارٍ
____________________________________
فإن إجراءها للسفر والتجارة ، ورؤية الآيات (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإجراء في البحر (لَآياتٍ) دالة على الله وصفاته (لِكُلِّ صَبَّارٍ) يصبر عند البلاء (شَكُورٍ) يشكر عند الرخاء ، وكان الإتيان بهاتين الصفتين هنا ،
لما يطرأ على الإنسان ، من هاتين الحالتين ، عند ركوب البحر من الأهوال المحتاجة
إلى الصبر ، والإنجاء المحتاج إلى الشكر ، فإن الصابر الشاكر ـ وهو المعترف بالله ـ
هو الذي يدرك الآيات ، أما الجاهل المضطرب النفس ، فلا يدرك الآيات ، ولا يعيرها
أهمية.
[٣٣](وَإِذا) ركب الناس السفينة و (غَشِيَهُمْ مَوْجٌ
كَالظُّلَلِ) فإن الموج أحيانا يركب على السفينة ، كالظلة التي تلقى
عليها ، فيدخل فيها قسم من ماء الموج ، وإنما جاء بالجمع في قوله «كالظلل» وهو جمع
ظلة ، لأن للموج طبقات ، تعلو طبقة على طبقة (دَعَوُا اللهَ) أي الركاب ، في حال خوفهم من الموج أن يغرق السفينة بمن
فيها ، في حال كونهم (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي قد أخلصوا له الطريقة ، بأن صار توجههم إليه وحده ،
وانصرف المشركون من الراكبين عن آلهتهم (فَلَمَّا) ذهب الموج ، وأمنوا الخطر ، و (نَجَّاهُمْ) الله (إِلَى الْبَرِّ) بأن خرجوا من السفينة بسلام (فَمِنْهُمْ) أي بعض أولئك الراكبين (مُقْتَصِدٌ) ، أخذ طريق القصد والعدل ، فيبقى على إيمانه بالله (وَ) منهم راجع إلى كفره وشركه ، و (ما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا ، ومن تلك الآيات
الإنجاء ، من أهوال البحر (إِلَّا كُلُّ
خَتَّارٍ)
كَفُورٍ
(٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ
____________________________________
من ختر ، بمعنى غدر بالعهد (كَفُورٍ) لله سبحانه ، في المجمع : قيل إن هذا كان سبب إسلام
عكرمة بن أبي جهل ، وهو إخلاصهم الدعاء في البحر ، فقد روي السدّي عن مصعب بن سعد
عن أبيه ، قال لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله ، الناس ، إلا أربعة نفر ، قال
: اقتلوهم ، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ، عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله
بن أخطل ، وقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فأما عكرمة ، فركب البحر
، فأصابته ريح عاصفة ، فقال أهل السفينة أخلصوا ، فإن آلهتكم ، لا تغني عنكم شيئا
هاهنا ، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر ، إلا الإخلاص ، ما ينجيني في البر
غيره؟ اللهم إن لك علي عهدا ، إن أنت عافيتني مما أنا فيه ، أن آتي محمدا حتى أضع
يدي في يده ، فلأجدنه عفوا كريما ، فجاء فأسلم ... وقد قبل النبي إسلامه ، ومن طريف الأمر إن الإنسان
كلما وقع في مشكلة ، لا بد وأن يعرف ما ينجيه ، وما لا ينجيه ، ثم إذا ارتفعت
المشكلة ، رجع إلى تقاليده البالية ، وما يفرضه العرف والاجتماع عليه.
[٣٤] وإذا أتم
الاحتجاج مع الناس حول الألوهية والمعاد ، جاء السياق لتخويفهم عاقبة أمرهم ،
بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي خافوا عقابه (وَاخْشَوْا يَوْماً) هو يوم القيامة (لا يَجْزِي والِدٌ
عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يغني أحد أحدا ، حتى أن الأب الرؤوف بأولاده لا
يتمكن من
__________________
وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ
الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ
وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ
____________________________________
خلاصهم (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ
جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) والابن لا يغني عن أباه ، حتى الشيء القليل (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌ) آت لا ريب فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا) بأن تصرفكم زهرتها عن الإيمان حتى تذوقوا العذاب يوم
القيامة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللهِ) أي لا يجرأنكم على عصيان الله ، الشيطان (الْغَرُورُ) الذي يغر كثيرا.
[٣٥](إِنَّ اللهَ) هو العالم القادر ، هو عالم بما تعملون ، وقادر على
البعث والجزاء ، ألا ترون إلى آثار علمه وقدرته عندكم ، فإنه سبحانه (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) بمعنى ، في أي وقت تقوم القيامة (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي المطر الدال على كمال قدرته (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أي أرحام النساء ، من ذكر وأنثى ، صحيح أو سقيم ، جميل
أو قبيح ، وهكذا ، ولو لم يعلم ذلك لم يتمكن من صنعه بهذه الدقة المدهشة ، أما
أنتم أيها البشر ، فأسرعوا في التوبة والرجوع ، إلى هذا الإله العالم القادر ،
والعمل الصالح (وَما تَدْرِي نَفْسٌ
ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، فلا تسوّفوا التوبة والعمل لغد ، فلعلّ
ما أردتم فيه ، لم تتمكنوا من إنجازه (وَما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) فلعله مات في نفس مكانه ، لم يقدر على الجري ، ليصلح
شأنه ، إن سوّف التوبة ، والعمل
إِنَّ
اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
____________________________________
الصالح ، فيبادر الإنسان في زمانه ، ومكانه إلى الرجوع إليه سبحانه ، قبل
أن يتحسر ويندم ، ولات ساعة مندم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأعمالكم وضمائركم (خَبِيرٌ) ولعل الفرق بين الوصفين ، إن الثاني أدق من الأول ، في
إفادة المراد ، لدى اجتماعهما ، فالخبير ، من يعلم كنه الأشياء ، وجميع مزاياها.
(٣٢)
سورة السجدة
مكيّة / آياتها (٣١)
سميت السورة
بهذا الاسم ، لاشتمالها على مادة السجدة ، في قوله «خروا سجدا» وهي كسائر السور
المكية ، تعالج قضايا العقيدة بشعبها المختلفة ، قال في المجمع : ختم الله سبحانه
السورة التي قبلها بدلائل الربوبية ، وافتتح هذه السورة أيضا بها.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) باسم الإله الذي يرحم العباد ، نبتدئ السورة ، لكي
نجعله عنوانا لنا ، وشعارا لأمورنا ، ونسترحم لطفه ، وعنايته ، بتذكر اسمه الرحمن
الرحيم.
الم
(١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ
____________________________________
[٢](الم) «ألف» و «لام» و «ميم» جنس لحروف هذه السور ، التي عجز البشر من الإتيان
بمثلها ، أو إنها رموز بين الله والرسول ، أو لأن المشركين ، كانوا يصيحون حين
يبدأ الرسول بالقرآن ، ليمنعوا الناس عن سماع صوته وإيقاعه في الغلط ، فكانت تنزل
المقطعات لتوجب الدهشة فيهم فينصتوا استغرابا وهناك يلقّنوا القرآن ، أو غيرها من
الأقوال.
[٣](تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبر ، ل «الم» واللام في «الكتاب» للعهد ، أي أن «الم»
أو هذه الآيات ، تنزيل الكتاب الذي وعدتم به من قبل ، على لسان الأنبياء ، أو لسان
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد وضع المصدر ، وهو «تنزيل» موضع المفعول ، فهذه
الآيات ، هو الكتاب المنزل ، أو «الم» هو الكتاب المنزل ، كما وضع المصدر موضع
الفاعل في «زيد عدل» أي عادل (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس الكتاب محل ارتياب ، وإن ارتاب فيه المبطلون ،
كما تقول : لا ريب في أن وقت طلوع الشمس أو الصبح ، يعني ليس محل ارتياب ، وإن كان
هناك «سوفسطائيون» ينكرون ذلك ، أو يشكون فيه (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) ، وإلا فلو لم يكن من رب العالمين ، فلما ذا لا يتمكن
البشر من الإتيان كمثله.
[٤](أَمْ يَقُولُونَ) أي بل يقول هؤلاء الكفار (افْتَراهُ) أي نسب الرسول القرآن إلى الله كذبا ، وليس الأمر كما
يقولون (بَلْ هُوَ الْحَقُ) المطابق للواقع (مِنْ رَبِّكَ) أي من طرفه سبحانه ، وليس مفترى على الله تعالى ، كما
زعموا ، وقد أنزله سبحانه (لِتُنْذِرَ) يا رسول الله
قَوْماً
ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)
اللهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ
____________________________________
(قَوْماً) بأنهم إن بقوا على الكفر ، وعملوا بالمعاصي ، كان
مصيرهم إلى النار (ما أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإن كفار مكة ، لم يأتهم رسول ينذرهم قبل بعثة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) أي لكي يهتدوا إلى طريق الله سبحانه.
[٥] ثم بين
سبحانه «رب العالمين» بقوله أنه هو (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أنواع الحيوان ، والإنسان والنبات ، والهواء ،
والملائكة ، وغيرها (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد جرت عادته سبحانه على التدريج في الخلق ، كما نشاهد
في خلق الإنسان ، والنبات ، والحيوان ، وعلى هذا الناموس العام ، كان خلق الكون
تدريجيا في ستة أيام والسر في هذا العدد الخاص ، هو السر ، في أي عدد كان ، وهو
السر في تسعة أشهر للحمل ، والمدة الفلانية في النبات ، والحيوان ، وهكذا ، فهو
أحد مصاديق التدريج ، والظاهر ، أن المراد مقدار ستة أيام ، وإلا فقبل الشمس ، لم
يكن نهار وليل (ثُمَّ اسْتَوى) سبحانه (عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه ، وهذا معنى كنائي ، كما يقال : استوى
الملك على سرير الملك ، يراد أنه ، أخذ زمام السلطة بيده ، وإن لم يكن هناك سرير ،
والإتيان بثم مع أنه سبحانه ، كان قائما على كل شيء ، لأنه لم يكن قبل خلق الكون
شيء ، حتى يقال : استولى عليه ، فتحقق الاستيلاء ، إنما هو بتحقق المستولى عليه (ما لَكُمْ) أي ليس لكم أيها البشر (مِنْ دُونِهِ) أي سواه سبحانه (مِنْ وَلِيٍ) يلي
وَلا
شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ
____________________________________
أموركم ، ويقدر ويدبر شؤونكم ، فإن الأصنام مخلوقة ، لا تملك لنفسها شيئا ،
فكيف تملك لكم؟ (وَلا شَفِيعٍ) في إنجائكم من الهلكات الدنيوية ، والأخروية ، فإن
الخلق ، والولاية ، والشفاعة ، كلها له وحده ، فإن أراد إنقاذ أحد أشار هو بشفاعة
نبي أو عظيم ليشفع له ، كما قال (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ) أيها البشر ، ما أودع فيكم من الفطرة الدالة على أن
للكون إلها قويا يسيّره ، وليس ذلك لهذه الأصنام ، أو ما أشبهها؟
[٦] وهو سبحانه
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي جنس الأمر المرتبط بهذا العالم ، فيأتي (مِنَ السَّماءِ) وإنما جعل سبحانه تدبير أمر الأرض في السماء ، حسب
حكمته البالغة ، كما قال (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) وإلا لم يكن له حاجة إلى ذلك ، وليس ذلك ، لأنه تعالى
أقرب إلى السماء منه إلى الأرض ، بل الجميع لدى عظمته سواء ، ولا مكان له ولا
جسمية ، حتى يكون أقرب إلى بعض من بعض (إِلَى الْأَرْضِ) أي تدبيرا ينتهي إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ) أي يصعد الأمر (إِلَيْهِ) تعالى ، والظاهر ، أن التعبير ، ب «يعرج» باعتبار
ارتفاع مقام الله سبحانه ، كما إذا سألت أحدا من أعضاء الحكومة أمرا ، يقول : «أراجع
فوقي» يريد فوقه في الرتبة ، لا في المكان ، ومعنى صعود الأمر إليه ، أن النتائج
والآثار التي ظهرت من الأمر ، يكون بنظره سبحانه ، أو أن العروج ،
__________________
فِي
يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)
الَّذِي
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧)
____________________________________
والنزول ، باعتبار ، أن تقديرات الأرض تكون في السماء ، ثم تصعد الآثار إلى
السماء (فِي يَوْمٍ) أي أن النزول والعروج منسوبان إلى يوم ، فإن «في» بمعنى
النسبة (كانَ مِقْدارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فهما في زمان يسير ، لكن المسافة الحقيقة ، هي تقطع في
ألف سنة ، خمسمائة سنة نزولا ، وخمسمائة سنة صعودا ، أو أن المراد ، أن نتائج
الأعمال ، إنما ترفع إلى مقام جلال الله سبحانه ، في يوم القيامة ، الذي يعادل ألف
سنة.
[٧](ذلِكَ) الذي خلق السماوات والأرض بتلك الأوصاف (عالِمُ الْغَيْبِ) أي يعلم ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) الأشياء ، التي يشاهدها الإنسان بإحدى حواسه (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الرَّحِيمُ) الذي يرحم الخلق ، ويتفضل عليهم بأنواع النعم.
[٨](الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بأن أتى بأحسن المزايا والخصوصيات ، التي يمكن أن يكون
الخلق عليها ، على نحو يقتضي الحكمة والصلاح ، فحتى الإنسان الأعمى أحسن الله في
خلقه غاية الإحسان ، فإن العمى ، وإن كان نقصا في ذاته ، إلا أنه جعله عبرة وعظة ،
وما أعدّ له من الثواب ، إن صبر وعمل صالحا ، يردفه في جملة ما حسّن خلقه (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) فإن آدم خلق من الطين ، الذي هو تراب مخلوط بالماء.
ثُمَّ
جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨)
ثُمَّ
سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا
فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
____________________________________
[٩](ثُمَّ جَعَلَ) الله سبحانه (نَسْلَهُ) أي ولده وذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي صفوة ، قد سلّت من غيرها ، ويسمى ماء الرجل سلالة ،
لانسلاله من صلبه (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي حقير ، من هان ، بمعنى حقر ، والمراد به «المني»
فإنه حقير مهان لرائحته وقذارته.
[١٠](ثُمَّ سَوَّاهُ) أي جعله بشرا سويا ، بإعطائه الآلات والحواس والأعضاء (وَنَفَخَ فِيهِ) أي في ذلك الماء الذي سواه (مِنْ رُوحِهِ) أي الروح الذي خلقه ، والإضافة تشريفية ، كإضافة البيت
إلى الله سبحانه في قولنا «بيت الله» للكعبة والمسجد ، وحيث أن الروح جوهر لطيف
عبر بالنفخ ، كما ينفخ الهواء في الزق (وَجَعَلَ) الله (لَكُمُ) أيها البشر (السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد ، وهو القلب ، وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر ،
لما يشاهد لها من الفوائد الجمة ، كما أن الإتيان بالسمع مفردا مرادا به الجنس ،
بخلاف الأبصار والأفئدة ، جمعا للتفنن في الكلام ، الذي هو من أبواب البلاغة (قَلِيلاً ما) «ما» زائدة لتأكيد «قليلا» (تَشْكُرُونَ) نعم الله سبحانه.
[١١] وبعد ذكر
المبدأ ، أتى السياق ، لذكر المعاد (وَقالُوا) أي من أنكروا البعث (أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ) بأن صرنا ترابا ، وتفرقت أجزاؤنا ، بحيث لا يقدر على
تميزها من غيرها ، من أراد التمييز (أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟
بَلْ
هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)
وَلَوْ
تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا
أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا
____________________________________
بأن نرجع إلى الحياة؟ إن هذا لا يمكن أبدا ، فإن تمييز أجزائنا عن غيرها ،
لا يمكن ، فكيف بجمعها وصنعها إنسانا من جديد (بَلْ هُمْ) أي هؤلاء الكفار (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي لقاء جزائه وحسابه (كافِرُونَ) وإلا فلم يدل دليل على امتناع ذلك ، والمعنى أن قولهم
هذا ناشئ من كفرهم ، لا عن دليل دلّهم على استحالة الإعادة.
[١٢](قُلْ) يا رسول الله لهم (يَتَوَفَّاكُمْ) أي يميتكم (مَلَكُ الْمَوْتِ) أي الملك الموكل بإماتة الناس ، وهو عزرائيل عليهالسلام (الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ) وكله الله سبحانه ، لوفاتكم ، فالوفاة هكذا ، وليست
اعتباطا ، كما يزعم الجاهلون ، فإنهم حيث لا يرون أحدا يظنون أن الأسباب الظاهرة ،
هي العلة التامة للوفاة (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ) إلى حسابه وجزائه رجوعكم.
[١٣] وهناك
يأتي المجرمون نادمين على ما فرطوا في دار الدنيا من الكفر والعصيان (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الرؤية ، وجواب «لو»
محذوف ، والتقدير «لرأيت أمرا فظيعا» (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) الذين أذنبوا (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) قد طأطؤوها حياء ، وندما ، وذلا (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في موقف الحساب ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس
، وعند ذلك يقولون : يا (رَبَّنا أَبْصَرْنا) ما كنا نعمى عنه ، في دار الدنيا (وَسَمِعْنا) ما كنا نصم عنه في الحياة (فَارْجِعْنا) إلى
نَعْمَلْ
صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما
نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ
____________________________________
الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) كما تأمر (إِنَّا مُوقِنُونَ) قد تيقنا صدق كلامك ووعدك ، ولكن هل يرجعون؟ كلا! وهل
يصدقون في أنهم لو رجعوا عملوا صالحا؟ كلا! إنها كلمة هو قائلها.
[١٤](وَلَوْ شِئْنا) أن نجبر الناس على الهداية (لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي أعطيناهم الهداية بالجبر ، بأن نلجأهم إلى الإيمان ،
والعمل الصالح ، ولكن ذلك يبطل التكليف ، كما يبطل الثواب والعقاب ، ويكون الناس
حينئذ ، كالحجارة ، التي لا مدح لها ولا ذم ، فإنما تفعل ، ما تفعل بالطبع والقسوة
لا بالاختيار والرغبة (وَلكِنْ) لأن شاء ذلك ، وقد (حَقَّ الْقَوْلُ
مِنِّي) أي ثبت ولزم ما قلته سابقا ، من إعطاء الاختيار للناس ،
حتى يذهب بعض إلى الجنة ، ممن أطاع وآمن ، و (لَأَمْلَأَنَ) من ملأ بمعنى الإكثار من المظروف حتى يمتلئ الظرف ، ولا
يكون له بعد مجال لأخذ الزائد (جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ) أي الجن (وَالنَّاسِ) الكفار والعصاة (أَجْمَعِينَ) وإنما ذكر هذا الشق ، من شقي الناس والجان ، لأنه محل
الكلام ، فإن الحديث بالنسبة إلى المجرمين.
[١٥] وإذ يدخل
النار الكفار ، من الصنفين يخاطبون من قبل الله سبحانه (فَذُوقُوا) العذاب ، والمذوق هو الإدراك بحاسة اللسان ، أو حاسة
اللمس ، أو مطلق الحواس (بِما نَسِيتُمْ) أي بسبب نسيانكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ
هذا
إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)
____________________________________
هذا)
والتعبير
بالنسيان ، باعتبار جعل الإنذار مهملا غير معتنى به ، كالناسي للشيء ، والمراد
باليوم القيامة (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي أهملناكم ، ولم نعتن بكم ، لننقذكم من العذاب ،
وإنما استعمل النسيان في الإهمال ، لعلاقة المشابهة (وَذُوقُوا عَذابَ
الْخُلْدِ) أي العذاب الذي هو خالد ، لا زوال له بسبب ما (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من أنواع الكفر والعصيان.
[١٦] لقد رأينا
الكفار ، وما صاروا إليه من العذاب الدائم ، فلنعطف النظر إلى المؤمنين ومصيرهم
الكريم ، فمن هو المؤمن ، وما مصيره؟ (إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا) يصدق بها ، ويتفكّر فيها ، ليستدل بها على الصانع
وصفاته (الَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِها) بأن ذكرهم الرسول ، أو بعض المؤمنين بتلك الآيات ، بأن
أروهم الآيات الكونية ، أو الآيات القرآنية ، ثارت فيهم غريزة الإيمان ف (خَرُّوا سُجَّداً) جمع ساجد ، أي ألقوا بأنفسهم على الأرض ، في هيئة
الساجد بوضع جباههم على التراب تعظيما لله سبحانه ، وشكرا لنعمه (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي نزهوه عن النقائص ، بنحو الحمد والثناء الجميل ، فإن
التنزيه ، قد يؤدى بالنحو السلبي ، كأن يقال : «فلان ليس بجبان» ، وقد يؤدى بالنحو
الإيجابي ، كأن يقال : «فلان شجاع» فإنه تنزيه وحمد ، والأول ، لا يلازم الثاني ،
بخلاف الثاني ، فإنه حمد وتسبيح (وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) عن التواضع لله ، عملا بالسجود ، ولسانا بالحمد
والثناء.
تَتَجافى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)
فَلا
تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (١٧)
____________________________________
[١٧] ومن
صفاتهم أنهم (تَتَجافى) من التجافي ، وهو الابتعاد ، أي تبتعد وترتفع (جُنُوبُهُمْ) جمع جنب (عَنِ الْمَضاجِعِ) جمع مضجع ، وهو محل النوم ، أي أنهم يقومون بالليل
لأداء الصلاة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ويناجونه (خَوْفاً) أي لأجل الخوف من عذابه (وَطَمَعاً) في ثوابه (وَ) هم (مِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ) في سبيل الله ، و «مما رزقنا» عام يشمل العلم ، والمال
، والجاه ، وغيرها. وهاتان الآيتان ، مشتملتان على السجدة الواجبة ، فإذا تلاهما
الإنسان ، أو سمعها ، وجب أن يسجد.
[١٨] إن
المؤمنين هم أولئك الذين ذكرت أوصافهم ، فلننظر إلى مصيرهم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) مؤمنة بالله ، عاملة للصالحات (ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ) أي ما خبأ الله لهم من النعيم ، الذي يسبب قرة أعينهم ،
الموجب لاستقرار العين ، رضا وطمأنينة ، في مقابل الإنسان الخائف الذي تتحرك عينه
هنا وهناك ، ليجد ملجأ وملاذا ، وقد ورد أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : إن الله يقول أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا
عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وإنما أخفي للمؤمنين هذا النعيم
العظيم (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) من الإيمان بالأصول ، والصالحات فإن الإيمان أيضا عمل ،
أو على تغليب العمل على العقيدة ، لأنه أكثر منها عددا.
[١٩] ثم بين
سبحانه ، إن التفاوت في الجزاء ، إنما هو للتفاوت بين الأعمال
أَفَمَنْ
كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨)
أَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)
وَأَمَّا
الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)
____________________________________
(أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟) وهذا استفهام للتقرير ، أي ليس المؤمن كالفاسق ،
والمراد به أعم من الفسق في العقيدة ، أو في العمل (لا يَسْتَوُونَ) أي لا يعادل أحدهما مع الآخر ، ولذا اختلف جزاءهما.
[٢٠](أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبرسوله ، وبما جاء به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي هي الإتيان بالفرائض ، واجتناب الرذائل (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) «ومأوى» اسم مكان من آوى ، بمعنى اتخذ المنزل ، والمسكن ، والمراد الجنات ،
التي هي مسكن للمؤمنين (نُزُلاً) هو ما يعد للضيف ، أو ينزلهم الله فيها نزلا (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم ، التي عملوها في دار الدنيا.
[٢١](وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي خرجوا عن طاعة الله ، إما بالكفر أو العصيان (فَمَأْواهُمُ) ، أي مصيرهم ، الذي يأوون إليه (النَّارُ) في جهنم (كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي كلما هموا بالخروج من شدة العذاب وألم النار (أُعِيدُوا) أي ردتهم الملائكة الموكلة بهم (فِيها) فلا مخلص لهم من العذاب (وَقِيلَ لَهُمْ) إهانة وازدراء بهم (ذُوقُوا عَذابَ
النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فقد كانوا يكذبون بالنار تكذيبا عقيديا كالكفار ،
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)
وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)
____________________________________
أو عمليا كالفساق.
[٢٢](وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) أي الفساق (مِنَ الْعَذابِ
الْأَدْنى)
وهو ضنك العيش
في الدنيا ، وعذاب القبر ، ومن مصاديق العذاب الأدنى ، ما يلاقيه المجرمون زمن
ظهور الإمام الثاني عشر ، كما ورد في الحديث (دُونَ الْعَذابِ
الْأَكْبَرِ) أي قبل أن نذيقهم من العذاب الأكبر في الآخرة ، وهي
جهنم (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن كفرهم وعصيانهم ، فإن الإنسان ، إذا
رأى الأذى ، والعذاب جاش في نفسه حب الخير ، والعمل الصالح.
[٢٣](وَمَنْ أَظْلَمُ) أي أيّ شخص أكثر ظلما (مِمَّنْ ذُكِّرَ
بِآياتِ رَبِّهِ) أي ذكره الأنبياء والأوصياء والمرشدون (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) ولم يقبلها؟ والمعنى لا أحد أظلم من هذا الشخص ـ وذلك
إضافي ، كما مر غير مرة ـ ولا يظن مثل هذا الشخص ، إنه لا يرى وبال إعراضه ، ف (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بالكفر والعصيان (مُنْتَقِمُونَ) بإحلال العقاب بهم.
[٢٤] ثم يأتي
السياق ليسلّي الرسول فيما يتحمله من الأذى ، ويسلي المؤمنين بأن لهم العاقبة
المحمودة ، فإن حال الرسول حال موسى ـ
__________________
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ
هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)
____________________________________
فإنهما يتلاقيان في الأصول والفروع ، إلا في اختلافات ، لا ترجع إلى جوهر
الدين ـ وحال المؤمنين بالرسول ، حال بني إسرائيل ، فكما نصرنا موسى عليهالسلام وبني إسرائيل على أعدائهم ، ننصر الرسول والمؤمنين به
على أعدائهم (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة ، وهذا كناية عن إرساله إلى القوم لهدايتهم (فَلا تَكُنْ) يا رسول الله (فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْ لِقائِهِ) أي من الالتقاء بموسى في العقيدة والشريعة. وهذا كما
يقال يتلاقى فلان وفلان في العقيدة ، وهذه الجملة كناية عن أول طريق الرسول طريق
موسى ، فمصيره كمصيره ، في النصرة والغلبة على الأعداء (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً) أي هداية وإرشادا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) فإنهم اهتدوا بالتوراة عن الضلالة والانحراف.
[٢٥](وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (أَئِمَّةً) جمع إمام ، وهو المقدم في الدين (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وإذننا لهم في الهداية ، فإنه لا يحق لأحد أن ينصب نفسه
علما للهداية ، إلّا بإذن (لَمَّا صَبَرُوا) أي أن جعلهم أئمة ، بسبب صبرهم على المكاره وأذى الجهال
، وصمودهم في تطبيق أوامرنا (وَكانُوا بِآياتِنا
يُوقِنُونَ) لا يشكون فيها ، اللازم لو أن يعملوا على طبقها ، فإن
صاحب اليقين يعمل صالحا ، ويترك السيئ ، وهذا تعريض بالمؤمنين بالرسول ، بأنهم إن
صبروا وجعلناهم أئمة ، كما تقول لأحد ولدك : لقد أمرت ابني فلانا بكذا ، وأنت في
نفس طريقه ،
إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦)
____________________________________
وأعطيته المال وجعلت جماعة يتبعونه ، تريد التعريض بهذا الولد المخاطب ،
بأن عاقبته كعاقبة ذلك الابن الأول.
[٢٦] وحيث
ينتهي الكلام إلى هنا يختلج في ذهن السامع ، أن يسأل ، فما بال هؤلاء اليهود الذين
نراهم ليسوا كذلك؟ ويأتي الجواب ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي بين بني إسرائيل الصالحين منهم ، والطالحين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فصلا يؤدي إلى إعطاء كلّ ما يستحق من النعيم أو الجحيم (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فإن بعضهم غيّروا شريعة موسى ، ولعبت أهواؤهم بها ،
وبعضهم بقوا على الشريعة ، بلا تغيير أو تحوير.
[٢٧] ثم يرجع
السياق إلى قصة الكفار (أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ) استفهام إنكاري ، أي كيف لم يبصرهم (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
الْقُرُونِ) والأجيال ، التي كانت تكذب بآيات الله ، وتعصي أحكام
الله (يَمْشُونَ) أي هؤلاء الكفار (فِي مَساكِنِهِمْ) أي في مساكن أولئك ، فإنهم في رحلتهم الشتائية ، إلى
اليمن ، والصيفية إلى الشام ، كانوا يمرون بمساكن عاد وثمود ، وقوم لوط ، وغيرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك لأولئك الكفار (لَآياتٍ) دلالات دالة على وجود الله ، وعلمه وقدرته ، وانتقامه
من الظالمين (أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي ألا يسمع هؤلاء الكفار تلك الآيات سماعا يؤدي إلى
رجوعهم ، عن غيّهم إلى الحق.
أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ
____________________________________
[٢٨] وكيف يكفر
هؤلاء الكفار بالله ، مع أنهم يرون آياته ، وآثاره؟ وحيث هددهم في الآية السابقة
بالعذاب ، ذكر لهم نعم الله عليهم ، لعلهم يشكرونه ، فالعذاب والرحمة ، كلاهما
ماثلان أمام أعينهم ، ليؤمنوا رهبة أو رغبة (أَوَلَمْ يَرَوْا) استفهام إنكاري ، أي كيف لا يرون هذه النعمة ، ليؤدوا
شكرها؟ (أَنَّا نَسُوقُ
الْماءَ) بواسطة المطر أو الأنهار (إِلَى الْأَرْضِ
الْجُرُزِ) وهي الأرض اليابسة ، التي ليس فيها نبات ، من قولهم سيف
جراز ، أي قطاع لا يبقي شيئا إلا قطعة ، فالأرض قد جرز نباتها ، أي قطع وأزيل ،
فلا نبات لها (فَنُخْرِجُ بِهِ) أي بالماء (زَرْعاً تَأْكُلُ
مِنْهُ) أي من ذلك الزرع (أَنْعامُهُمْ
وَأَنْفُسُهُمْ) مما يعود بالخير إليهم (أَفَلا يُبْصِرُونَ) نعم الله عليهم؟ ليشكرون.
[٢٩](وَيَقُولُونَ) أي يقول الكفار (مَتى هذَا الْفَتْحُ) الذي تقول يا محمد ، أنت تفتح البلاد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أيها المسلمون في ادعائكم ، إنكم ستفتحون البلاد؟ ففي
أي وقت يكون؟ ولماذا لم يتحقق إلى الآن؟.
[٣٠](قُلْ) يا رسول الله لهم (يَوْمَ الْفَتْحِ) الذي نفتح فيه (لا يَنْفَعُ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) بعد الفتح ، ووقوعهم أسرى في أيدي المسلمين ، فإن ذلك
لا يفك أسرهم ، أو المراد بالفتح ، يوم مدتهم ، حيث يقولون للملائكة ، أمهلونا ،
حتى نؤمن ، فلا يمهلونهم ، كما قال سبحانه
وَلا
هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
____________________________________
(وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) أي يمهلون.
[٣١](فَأَعْرِضْ) يا رسول الله (عَنْهُمْ) اتركهم وشأنهم بعد ما لم يؤثر النصح ، والتهديد ،
والترغيب فيهم (وَانْتَظِرْ) موعد الفتح (إِنَّهُمْ
مُنْتَظِرُونَ) وهذا تسلية للرسول ووعيد لهم ، والمراد ينتظر الفريقان
، حتى يرون الجميع لمن العاقبة الحسنة؟ ولمن العاقبة السيئة؟ وقد كان كما أخبر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد انتصر المسلمون ، وفتح الله لهم.
__________________
(٣٣)
سورة الأحزاب
مدنيّة / آياتها (٧٤)
سميت السورة
بهذا الاسم ، لاشتمالها على لفظة «الأحزاب» وطرفا من قصتهم ، وهي كسائر السور
المدنية ، تشتمل على الأحكام والنظام ، والحرب ، وغيرها ، وإذا ختمت تلك السورة ،
بانتظار الرسول يوم الفتح ، جاءت السورة مفتتحة لسير النبي في طريقه المرسوم له ،
بلا أن يحرفه الكفار والمنافقين ، حتى يصل العاقبة المحمودة؟
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شيء باركه وأتمه ،
كما ورد كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله ، فهو أبتر ـ المفهوم منه ، إنه إن
بدأ بالبسملة كان غير أبتر ـ وهو الرحمن الرحيم ، المتصف بالرحمة المتزائدة ، فإن
تكثير الوصف يوجب تكثير الصفة ، كيف لا ، ولو لم تدرك الرحمة الإنسان (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ)
__________________
يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١)
____________________________________
[٢](يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) بإطاعة أوامره ، واجتناب نواهيه ، والرسول ، إنما كان
مؤدبا بتعليم الله ، الذي منه هذا الأمر ، فلا يقال إنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان متقيا ، فكان الأمر لغوا؟ وبالإضافة إلى أن معنى
ذلك أدم على تقواك نحو اهدنا الصراط المستقيم (وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) والمنافق هو الذي يظهر الإيمان ، ويبطن الكفر (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالحكم والمصالح (حَكِيماً) فلا يأمر إلا بالصالح ، ولا ينهى إلا عن الضار ، فإن
بين العلم والحكمة عموما وجه ، كما هو واضح ، فمن الممكن أن يكون العالم غير حكيم
، أو الحكيم غير عالم ، قال في مجمع البيان : إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب ،
وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور السلمي ، قدموا المدينة ، فنزلوا على عبد الله بن
أبيّ بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليكلموه ، فقاموا ، وقام معهم عبد الله ابن أبيّ ، وعبد
الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فدخلوا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقالوا يا محمد ، أرفض ذكر آلهتنا ، اللات ، والعزى ،
ومنات ، وقل أن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشق ذلك على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال عمر بن الخطاب : ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم
، فقال : إني أعطيتهم الأمان ، وأصر صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخرجوا من المدينة ، ونزلت الآية ، (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكة ، أبا سفيان ، وأبا الأعور ، وعكرمة ،
والمنافقين ، ابن أبيّ ، وابن سعد ، وطعمة ، وقيل : نزلت في أناس من ثقيف ، قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فطلبوا
__________________
وَاتَّبِعْ
ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣)
____________________________________
منه أن يمتعهم باللات ، والعزى سنة ، قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك.
[٣](وَاتَّبِعْ) يا رسول الله (ما يُوحى إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ) من الأحكام والشرائع (إِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ) أي أنت وأمتك ، ويأتي خطاب الرجل العظيم بالجمع ،
باعتبار أتباعه معه (خَبِيراً) فيعلم من اتبع أمره ليجازيه عليه.
[٤](وَتَوَكَّلْ) يا رسول الله (عَلَى اللهِ) أي فوض أمرك إليه ، حتى لا يتمكن الأعداء من الوصول إليك
، ولا تخاف أحدا ، ولا ترجو أحدا (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) فإنه قائم بأمرك وحفظك ، وحيث إن معنى «كفى» «اكتف» جاء
متعديا إلى الفاعل بالباء.
[٥] وبمناسبة
لزوم اتباع الوحي ، وعدم اتباع الكفار ، يأتي السياق ليقرر ، أنه لا يمكن للإنسان
اتجاهان ، فليس له قلبان حتى يتجه بكل قلب إلى وجهة مضادة للوجهة الأخرى ، ولهذه
العلة التي تقرر عدم إمكان اتجاهين يقرر السياق ، أن لا يمكن الجمع بين كون امرأة
زوجة وأما ، أو كون رجل أجنبيا وولدا ، وبهذا يبطل أقوال وعادات جاهلية ، قال في
المجمع : وقوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ
مِنْ قَلْبَيْنِ) نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب النهري ، وكان
لبيبا حافظا لما يسمع ، وكان يقول : إن في جوفي لقلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل
من عقل محمد ، وكانت قريش تسميه ذا القلبين ، فلما كان يوم بدر ، وهزم المشركون ،
وفيهم أبو معمر ، وتلقاه أبو سفيان بن حرث ، وهو آخذ بيده إحدى نعليه ، والأخرى في
رجله ، فقال له يا أبا معمر : ما حال
ما
جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ
اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ
أَبْناءَكُمْ
____________________________________
الناس؟ قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك
، فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنها في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنه لم يكن له إلا قلب
واحد ، لما نسي نعله في يده (ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) فإن كل إنسان له قلب واحد ، وذكر الرجل من باب المثال ،
وإلا فالمرأة والطفل كذلك فلا يمكن أن يكون للإنسان اتجاهان ، اتجاه نحو الإيمان ،
واتجاه نحو الكفر ، فيطيع الكفار ويطيع الله في آن واحد (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي) جمع التي ، والمراد بالأزواج الزوجات ، فإن زوج يطلق
على الرجل ، والمرأة (تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ) أي تقولون لهن «أنت عليّ كظهر أمي» فقد كانت العرب تطلق
نساءها بهذا اللفظ ، فلما جاء الإسلام أبطل الطلاق به ، وإنما جعله موجبا للكفارة
كما سيأتي تفصيله ، وكأنهم كانوا يقصدون أن الزوجة صارت كالأم ، فكما تحرم الأم
تحرم الزوجة ، التي قيل لها هذا اللفظ (أُمَّهاتِكُمْ) فالزوجة لا تكون أما ، وإن قيل لها ألف لفظ (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) جمع دعي ، وهو ما كان مرسوما عند العرب ، أن يتخذ الرجل
الرجل ابنا له فكان له ما للأب والابن في جميع المزايا الاجتماعية (أَبْناءَكُمْ) فإن التبني لا يجعل الأجنبي ابنا ، وإن تعارف الاجتماع
على ذلك ، وقد أبطلت هذه الآية الكريمة عادتين ، كانتا عند العرب لم يرتض بهما
الإسلام ، في أنظمته
__________________
ذلِكُمْ
قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ
____________________________________
وتشريعاته ، قال في المجمع : نزلت في زيد بن شراحيل الكلبي من بني عبد ود ،
تبناه النبي قبل الوحي ، وكان قد وقع عليه السبي ، فاشتراه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بسوق عكاظ ، فلما نبيء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دعاه إلى الإسلام ، فأسلم وقدم أبو حارثة مكة ، وأتى
أبا طالب ، وقال سل ابن أخيك ، فإما أن يبيعه ، وإما أن يعتقه ، فلما قال ذلك أبو
طالب ، لرسول الله. قال : هو حر ، فليذهب حيث شاء ، فأبى زيد أن يفارق رسول الله ،
فقال حارثة : يا معشر قريش اشهدوا إنه ليس ابني ، فقال رسول الله : اشهدوا إنه
ابني فكان يدعى زيدا بن محمد ، فلما تزوج النبي زينب بنت جحش ، وكانت تحت زيد بن
حارثة ، قالت اليهود والمنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه ، وهو ينهي الناس عنها؟
فقال رسول الله : ما جعل الله من تدعونه ولدا ، وهو ثابت النسب من غيركم ولدا لكم.
(ذلِكُمْ) «كم» خطاب ، و «ذلك» إما إشارة إلى كل واحد من الأمرين «الظهار» و «التبني»
أو إلى الأمر الثاني فقط (قَوْلُكُمْ
بِأَفْواهِكُمْ) فهو لفظ تقولونه ، لا يوجب حقيقة وواقعا (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) في أنه لا تصبح الزوجة أمّا ، والأجنبي ولدا بمجرد هذا
اللفظ ، ولم يكن تبني الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لزيد بمعناه الجاهلي ، حتى يقال : كيف يمكن أن يعمل
الرسول شيئا غير ممضي من قبل الله سبحانه؟ بل للتشريف ، كما قال الإمام المرتضى : «محمد
ابني من صلب أبي بكر» وهذا كان في مقابل طرد أبيه ، وسلبه شرفه الانتسابي ،
فشرفه الرسول بالنسبة إلى نفسه من قبيل «سلمان منا أهل البيت» (وَهُوَ)
__________________
يَهْدِي
السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً
رَحِيماً (٥)
____________________________________
سبحانه (يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يرشد إلى الطريق الحق ، ويدل عليه.
[٦](ادْعُوهُمْ) أي ادعوا الأولاد (لِآبائِهِمْ) فقولوا «زيد بن حارثة» لا «زيد ابن محمد» (هُوَ أَقْسَطُ) أي أقرب إلى العدل ، وأفعل منسلخ عن معنى التفضيل ،
وإنما يأتي بهذه الصورة ، لما يزعم البعض من أن طرفه الثاني ، عدل أيضا (عِنْدَ اللهِ) وإن كان عندكم لا قسط فيه ، أو العكس هو الأقسط (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا) أي تعرفوا (آباءَهُمْ) بأعيانهم وأسمائهم ، حتى تنسبوهم إليهم ، فقولوا يا أخ
فإنهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) إذ الآخرة هي العلقة الحاصلة بين طرفين ، بقرابة ، أو
لسان ، أو وطن ، أو دين ، أو ما أشبه (وَمَوالِيكُمْ) أي عبيدكم ، إذا كانوا في الرق ، فقولوا يا مولاي ،
وهذا مولى فلان (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) وحرج ، إذا قلتم «فلان ابني» للدعي (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) سهوا وخطأ ، بعد النهي عن ذلك (وَلكِنْ) الجناح إنما يكون في (ما تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ) بأن قصدتم هذا القول قصدا ، بعد أن نهى الله سبحانه عنه
(وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) لمن عصى ، ثم ندم وتاب (رَحِيماً) بكم يتفضل عليكم بالرحم مضافا إلى الغفران.
[٧] ثم يأتي
السياق ليقرر الولاية العامة للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويحيط أزواجه بهالة من الأمومة الروحية ومن ثم يقرر
ولاية بعض الأقرباء لبعض ، بمناسبة
النَّبِيُّ
أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ
____________________________________
ما تقدم من ذكر بعض الروابط الاجتماعية ، التي كانت قبل الإسلام بالنسبة
إلى بنوّة الدعي ، وأمومة المظاهر منها ، فالدعي ليس ابنا ، وإنما الأمة أبناء
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمظاهر منها ليست أمّا ، وإنّما زوجات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أمهات (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فكما يحق للإنسان أن يتصرف في شؤون نفسه المباحة ، كأن
يبقى ، ويذهب ، ويعمل ، وغيرها ، كذلك للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا الحق ، بل أن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أولى فإذا أمر الرسول بشيء ، وأراد الإنسان شيئا آخر
لزم تنفيذ أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن هذه الآية الكريمة ، استنبط الفقهاء القاعدة
الفقهية «الناس مسلطون على أنفسهم» (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) فما للأم من الاحترام والإكرام ثابت لزوجات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن تلك حرمة نكاحهن بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن المعلوم أن هذه الشرافة تتبع طاعة الله سبحانه فإذا
خرجت بعضهن إلى معصيته تعالى لم يبق لها ذلك الشرف ، ولذا ورد إن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لعلي عليهالسلام : يا أبا الحسن ، إن هذا الشرف باق ما دمن على الطاعة ،
فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك ، فأطلقها في الأزواج ، وأسقطها من تشريف الأمهات
، ومن شرف أمومة المؤمنين .. ثم إن من المعلوم ، إن ذلك شرف خاص ، فلا يتعدى إلى
أقربائهن ، حتى يكون هناك جد المؤمنين وعم المؤمنين ، وخال المؤمنين ، وخالة
المؤمنين ، وهكذا (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي أن فيما كتبه الله سبحانه على المؤمنين ، أن أصحاب
الرحم ، وهم الأقرباء بعضهم أولى ببعض ، في الإرث والولاية ، وسائر الأمور ، فلا
توارث ، ولا ولاية ، إلا للأرحام ،
مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ
مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ
____________________________________
إلا بقدر ما بيّنه الشارع ، كولاية السادة ، والإمام ، وضامن الجريرة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) فلا ولاية غير النصرة الإسلامية ، بين المؤمنين ، بأن
يرث بعضهم بعضا ، سواء كانوا مهاجرين أم لا ، قال بعض المفسرين : إن المهاجرين لما
ذهبوا إلى المدينة ، كان بعضهم ، إذا مات قسمت تركته بين سائر المؤمنين وهذه الآية
جاءت لتمنع عن ذلك ، أقول : لم يعلم أن ذلك كان من باب الإرث ، بل يحتمل أنه كان
من باب ولاية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم العامة ، وإلا فلم يدل دليل ، على أن الوارث المسلم ، لم يكن يرث ليرث
المهاجر المسلم ، حتى تكون هذه الآية ناسخة قوله «من المؤمنين» والله العالم ، (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) أيها المؤمنين (إِلى أَوْلِيائِكُمْ
مَعْرُوفاً) وهذا استثناء منقطع ، والمعنى ، إن الولاية للأقرباء ،
إلا أن يفعل بعض المؤمنين بأصدقائه المؤمنين معروفا ، بأن يوصي لهم بشيء من ماله ،
أو يوصي إلى أحدهم بأيتامه ، فإنه تنفذ هذه الوصية في الحدود المقررة في الشريعة (كانَ ذلِكَ) الحكم بأن أولي الأرحام ، أولى إلا أن يفعل الإنسان إلى
أوليائه معروفا (فِي الْكِتابِ) المحفوظ عند الله سبحانه (مَسْطُوراً) قد كتب وقرر.
[٨] وبمناسبة
ما كتب في الكتاب من حكم الولاية بين أولي الأرحام ، يأتي ما سطر فيه من أخذ
الميثاق عن النبيين ، وعن المؤمنين ، فإن هذا الحكم ـ وهو أولوية أولي الأرحام ـ من
مصاديق ذلك الميثاق العام ، فمن أعطى ذلك الميثاق العام ، لزم عليه الوفاء بهذا
الميثاق (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ
أَخَذْنا
مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)
لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ
____________________________________
أَخَذْنا
مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) والمراد به العهد الأكيد بالقيام بالدعوة والتبليغ ،
وبعد ذكر هذا العموم يأتي ذكر بعض الأنبياء المعروفين (وَمِنْكَ) يا رسول الله (وَمِنْ نُوحٍ
وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم من الأنبياء الذين بعثوا
إلى شرق الأرض وغربها ، وقد خصصوا بالذكر ، ليعلم أنهم مع جلالة قدرهم وعظم شأنهم
، قد أخذ منهم الميثاق في العمل بما يأمر الله سبحانه ، وأخذ الميثاق ، إنما كان
قبل تحميلهم حمل الرسالة في عالم الذر (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) شديدا بالوفاء والقيام ، وذلك لأهمية هذا المنصب الخطير
، الذي لا يساويه منصب مهما عظم.
[٩] وقد فعل
الله ذلك ، ليكون الناس مقطوعي العذر ، قد تمت عليهم الحجة ، حتى يكون الصادق من
الناس ، معرضا للثواب ، والكافر معرضا للعقاب ، وهذا كما تقول : قد أخذت من
المعاون العهد الأكيد بالقيام على مهمة المدرسة ، لأنجح الطلاب العاملين ، وأطرد
الخاملين منهم ، تريد أن هذا العهد ، إنما كان ليقوم المعاون بالمهمة ، فتم الحجة
على الطلاب (لِيَسْئَلَ) الله (الصَّادِقِينَ) في الإيمان والمنهج ، فإن المؤمن صادق ، والمطيع صادق
إذ من يجعل مع الله شريكا ، أو يكفر به ، فقد كذب في عقيدته ، وقوله ، كما أن من
يعصي ، قد كذب في عمله ـ فإن الكذب هو الخروج عن الحقيقة ، في قول أو عمل ـ (عَنْ صِدْقِهِمْ) أي عن عقيدتهم ، وقولهم وعملهم ، فيجازيهم
وَأَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
____________________________________
بالجنات ، فإن السؤال ، إنما هو للجزاء (وَأَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ) بعد أن يسأل عنهم (عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما موجعا ، وقد تفنن السياق ، بذكر السؤال عن المؤمن
والعقاب للكافر ، وحذف في الأول النتيجة ، وفي الثاني السؤال.
[١٠] ثم يذكّر
الله سبحانه المؤمنين ببعض نعمه عليهم ، مما يقوي فيهم روح الإيمان ويستمروا على
الصدق (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) إما خاص بمن كان في الواقعة ، وإما عام شامل لكل
المؤمنين باعتبار ، أن ذلك النصر عاد على الجميع بالخير (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) في قصة غزوة الأحزاب (إِذْ جاءَتْكُمْ) أيها المؤمنون (جُنُودٌ) من الكفار لتدميرهم (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً) هبت عليهم حتى أكفأت قدورهم ، ونزعت فساطيطهم ، ورمت بالرمل
والحصباء في وجوههم (وَ) أرسلنا (جُنُوداً) من الملائكة لإلقاء الرعب في قلوبهم (لَمْ تَرَوْها) بأعينكم (وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً) فإنه سبحانه أبصر أتعابكم وأعمالكم في حفر الخندق ،
وتنظيم الجيش والعمل لأجل إنجاح المؤمنين ، وغير ذلك.
[١١] واذكروا (إِذْ جاؤُكُمْ) أي جاءكم جنود الكافرين (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي فوق الوادي قبل المشرق ، وهم قريظة ونضير وغطفان (وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)
____________________________________
مِنْكُمْ) من قبل المغرب من ناحية مكة ، أبو سفيان في قريش ، ومن
تبعه (وَإِذْ زاغَتِ
الْأَبْصارُ) من المؤمنين خوفا ، وزيغ البصر ميله عن كل اتجاه نحو اتجاه
العدو ، فلا يكون كالبصر العادي يتحرك هنا وهناك (وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) جمع حنجرة ، وهي منتهى الحلق ، وذلك لأن الإنسان الخائف
تنفتح رئته فتضغط على قلبه ، فيصعد قلبه نحو الحنجرة (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا) أي الظنون السيئة ، أو المراد الظنون المختلفة ، فظن
المؤمنون النصر ، والمنافقون الهزيمة.
[١٢] (هُنالِكَ) في تلك الوقعة (ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ) امتحنوا واختبروا ليظهر الصادق منهم من الكاذب ،
والصابر والجازع (وَزُلْزِلُوا
زِلْزالاً شَدِيداً) أي حركوا بسبب الخوف تحريكا عنيفا ، في معتقدهم
وأقوالهم ، وأعمالهم ، فكما أن الزلزلة تحرك الأجسام ، فالحوادث تحرك الأشخاص ،
ومختصر القصة
في غزوة
الأحزاب وتسمى الخندق يئس المشركون واليهود والقبائل من إمكان القضاء على الإسلام
بانفرادهم فتفكروا في تجميع قواهم لضرب الإسلام فتجمعت عشرة آلاف مقاتل من قريش ،
وبني سليم وأسد ، وفزارة ، وأشجع ، وغطفان ، عدا يهود بني قريظة ، ولما علم الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم بالأمر استشار أصحابه في الأمر؟ فإن هذه القوة الهائلة
، لا يمكن الصمود أمامها ،
__________________
____________________________________
وأخيرا قرر الرسول عدم الخروج من المدينة ـ بإشارة سلمان الفارسي ـ بأن
يحفر خندق حولها ، ويجعل للخندق جهة خاصة للقتال ، لئلا يحيط العسكر بالمسلمين ،
فيبيدوهم عن آخرهم ، وقد كان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عهد بحسن الجوار ، مع بني قريضة ، وهم يهود قرب
المدينة ، لكن «الأحزاب» تمكنت من استمالة بني قريظة ، لنقض العهد ، وبذلك دخل في
قلوب المسلمين رعب عظيم ، وبعد أن فرغ المسلمين من حفر الخندق ، أتتهم الجيوش
كالسيل ، كما وصفها الله سبحانه «إذ جاءوكم .. إلى آخره» وبعد ما تم حفر الخندق ،
خرج الرسول في ثلاثة آلاف من المسلمين ، ليواجهون الأحزاب وبينهما الخندق ، وطال
الأمر بين الطرفين بضعا وعشرين ليلة ، لم يكن بينهما إلا الرمي ، فإن الأحزاب لم
يقدروا على العبور ، والمسلمين لم يشاءوا ذلك وبعدها ، جاء عمرو بن عبد ود ،
وعكرمة بن أبي جهل ، وجماعة آخرون ، من أقوى شجعان الأحزاب ، فعبروا الخندق من
مضيق كان فيه ، ثم أخذوا يجولون ، ويصولون ، يطلبون المبارزة من المسلمين ، لكن
المسلمين قد أخذتهم الرهبة فلم يجرأ أحد منهم على الإقدام ، فأنشأ عمرو بن عبد ود
،
ولقد بححت من
النداء
|
|
بجمعكم هل من
مبارز
|
إلى آخر
الأبيات ، وهنا قام الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، يستأذن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لمبارزته ، ولكن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يأذن له ليمتحن بعض المسلمين ، وأخيرا أذن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للإمام ، فخرج الإمام من معسكر المسلمين ، يريد مبارزة
عمرو وأنشد يقول في جوابه :
____________________________________
لا تعجلن فقد
أتاك مجيب صوتك غير عاجز
|
|
ذو نية
وبصيرة ، والصدق منجي كل فائز
|
إني لأرجو أن
أقيم عليك نائحة الجنائز
|
|
من ضربة
نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز
|
ولما تقابل
الإمام ، وعمرو ، قال له الإمام : إنك كنت تقول في الجاهلية ، لا يدعوني أحد إلى
ثلاث ، إلا قبلت واحدة منها؟ قال عمرو : أجل ، قال الإمام ، فإني أدعوك إلى
الشهادتين ، قال عمرو : يا ابن أخي أخر هذه عني ، قال الإمام : والثاني ، أن ترجع
من حيث أتيت «أي تترك الحرب وترجع إلى أهلك» قال عمرو : ولا تحدث قريش بهذا أبدا ،
قال الإمام : والثالثة أن تنزل من على فرسك ، فتقاتلني ، فقبل عمرو ذلك ، لكن
امتلأ عمرو رعبا من الإمام وتبادلا السيف ، فأصاب سيف عمرو رأس الإمام فشجه ، فغضب
الإمام ، وضرب عمرو ضربة أسقط رجليه ، فخر على الأرض ، وعلت الغبرة ، ومدّ الطرفان
أعناقهما ، ليروا الغالب من المغلوب ولما انجلت الغبرة ، رأوا الإمام جالسا على
صدر عمرو ، وكبّر الإمام تكبيرة عالية ، وبهذا المنظر والتكبير ، قويت قلوب
المسلمين ، وتزلزلت قلوب الكافرين ، ثم قطع الإمام رأس عمرو ، وأقبل به إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقتل بعض آخر ممن اقتحم الخندق ، وفرّ الباقون ،
وتشتت كلمة الأحزاب ، وألقي الرعب في قلوبهم ، ولم يطيقوا إدامة الحصار ، وتخلت
عنهم الأعراب ، وبنو قريظة ، ولذا تفرقوا من أطراف المدينة إلى مكة ، وسائر محالهم
، وقد كان قتلى المسلمين ستة ، وقتلى الكفار دون العشرة ، ومرّ الأمر بسلام ،
وزادت قوة المسلمين المعنوية ، إلى حد هائل ممّا يئس
وَإِذْ
يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ
____________________________________
الكفار ، من النيل منهم بعد ذلك.
[١٣](وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الذين أظهروا الإسلام ، وأبطنوا الكفر (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) والمراد بهم ضعاف الإيمان ، وإن لم يصلوا إلى حد النفاق
، والمراد بالقلوب «النفوس» فإن الأخلاق المنحرفة ، ضعف ومرض في القلب ، كما أن
أنواع العاهات ضعف ومرض في البدن (ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ) من النصرة على الأعداء (إِلَّا غُرُوراً) من «غار» وإنما سمي غرورا مبالغة ، كأن الوعد قطعة من
الغرور ، من قبيل «زيد عدل» ، قال ابن عباس : إن المنافقين قالوا : يعدنا محمد أن
يفتح مدائن كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء هذا والله الغرور .
[١٤] وإذ قد
اشتد الخوف بالمسلمين ، قال عبد الله بن أبيّ المنافق لأصحابه : ليس لكم هنا محل ،
فقوموا نرجع إلى المدينة ، وجاء بعضهم إلى الرسول يستأذنوه معتذرين ، بأن بيوتهم
في المدينة ، ليست بحريزة ، فيخافون عليها اللصوص (وَإِذْ قالَتْ
طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) أي من المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) فقد كانت المدينة تسمى «يثربا» قبل هجرة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم سميت بمدينة الرسول ، ثم «المدينة» (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لا محل لإقامتكم هنا
__________________
فَارْجِعُوا
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ
وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَلَوْ
دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ
____________________________________
خارج المدينة بتوقع الظفر على الكفار (فَارْجِعُوا) إلى المدينة ، حتى لا يصيبكم ما يصيب محمدا والمسلمين
من الكفار ، فقد زعموا أن الكفار يغلبون المسلمين لا محالة (وَيَسْتَأْذِنُ) أي يطلب الإذن ، في الرجوع إلى المدينة (فَرِيقٌ مِنْهُمُ) أي من أولئك المنافقين (النَّبِيَ) صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهم بنو حارثة ، وبنو سلمة (يَقُولُونَ) للرسول في عذرهم للانصراف (إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ) أي ليست حصينة ، من عور إذا نقص ، ومنه الأعور ، ويقول
الله سبحانه في تكذيب عذرهم (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي كذبوا في عذرهم ، إن بيوتهم لم تكن عورة يخشى عليها
من اللصوص والأعداء ، فقد كانت حريزة حصينة (إِنْ يُرِيدُونَ) أي ما يريد هؤلاء المستأذنون (إِلَّا فِراراً) من الحرب وهربا من القتال وأتعابه.
[١٥] ثم يمثل
الله سبحانه نفسية هؤلاء المنافقين ، بأنهم كانوا بحيث إذا دخل الأعداء المدينة ثم
طلبوا من هؤلاء الشرك ، وأن يكونوا معهم في صف واحد مقابل المسلمين ، لأسرعوا في
إجابتهم ، فكيف لم تكن بيوتهم عورة ، حينذاك ، وبيوتهم عورة ، حين كانوا مع
المسلمين؟ (وَلَوْ دُخِلَتْ) المدينة ، أو البيوت (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المنافقين (مِنْ أَقْطارِها) أي من جوانبها ، بأن ظفر الكفار ، ودخلوا بيوت هؤلاء من
جوانبها (ثُمَّ سُئِلُوا
الْفِتْنَةَ) أي سأل الكفار الغازون هؤلاء المنافقين ، أن يشركوا
ويكونوا معهم في صف قبال الرسول وأصحابه
لَآتَوْها
وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦)
____________________________________
(لَآتَوْها) أي لأعطوا هؤلاء المنافقون الكفار ما أرادوا من الفتنة
، وانضموا تحت لوائهم (وَما تَلَبَّثُوا
بِها) أي ما مكثوا وتريثوا في قبول الفتنة ، كأنهم باقون فيها
، لم يرفضوا ولم يقبلوا كالإنسان الماكث بالمدينة ، في مقابل من خرج من الفتنة
بالجزم ، إما بالقبول أو الرفض (إِلَّا يَسِيراً) فإنهم لم يكونوا يترددون في قبول الفتنة ، إلا في زمان
قليل ، ثم يفتتنون بقبول الشرك والدخول في صف الأحزاب المشركة.
[١٦] وكيف يولي
هؤلاء الدبر ، ويرون الفرار من الجهاد (وَ) الحال أنهم (لَقَدْ كانُوا
عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الخندق (لا يُوَلُّونَ
الْأَدْبارَ) فإنهم لما بايعوا النبي حلفوا أن ينصروه وأن يقفوا في
صفه ، وأن لا يسلموه لعدوه (وَكانَ عَهْدُ اللهِ
مَسْؤُلاً) أي يسأل عنه يوم القيامة ، ماذا فعلوا بعهده ، هل وفوا
أم نقضوا؟
[١٧](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين الذين يريدون الفرار خوف
القتل (لَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْفِرارُ) في تأخير آجالكم (إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ
الْمَوْتِ) بأن خفتم الموت خوفا (أَوِ الْقَتْلِ) بأن يغلب الأعداء فيقتلوكم ، فإن آجالكم إن حضرتم
أخذتكم ولو في غير ساحة القتال ، وإن لم تحضر لم يأخذكم الأجل ، ولو في ساحة
القتال (وَإِذاً) أي إذا فررتم من الموت أو القتل (لا تُمَتَّعُونَ) في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) فإن مدة الحياة
قُلْ
مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ
بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧)
قَدْ
يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ
إِلَيْنا
____________________________________
قليلة تنقضي وتنصرم بسرعة.
[١٨](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يريدون الفرار إن فراركم غير
مفيد ، فإن أراد الله بكم سوءا جاءكم ، ولو في بيوتكم ، وإن أراد بكم رحمة جاءتكم
الرحمة ، ولو في ساحة القتال ، فما فائدة الفرار؟ (مَنْ ذَا الَّذِي
يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي يحفظكم من أمره وبأسه (إِنْ أَرادَ بِكُمْ
سُوءاً) موتا أو قتلا أو عذابا؟ (أَوْ أَرادَ بِكُمْ
رَحْمَةً) من ذا الذي يتمكن أن يحول بينكم وبين الرحمة ، التي
يريدها الله بكم؟ فكل شيء من طرفه سبحانه ، ولا يتمكن أحد من تغيير أمره (وَلا يَجِدُونَ) أي هؤلاء الذين يريدون الفرار (لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي سواه (وَلِيًّا) يلي أمورهم ويتولى شؤونهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم ، ويغلبهم على أعدائهم.
[١٩] ثم هدد
الله سبحانه الذين يثبطون غيرهم عن الجهاد بقوله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) وقد ، إما للتحقيق ، قالوا فإنها تدخل ـ أحيانا ـ على
المضارع ، بمعنى التحقيق ، لا التقليل الذي هو الأصل فيه ، وإما للتقليل للإشارة
إلى أن احتمال علم الله بتعويقهم كاف ، في أن ينتهوا ، كما تقول لمن تريد تهديده :
يمكن أن أعلم عملك ، تريد أن الإمكان كاف في انقلاعه عن عمله السيئ (الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) والمعوق هو المثبط غيره عن الجهاد بتخويفه من الأعداء (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) أحزابهم من المنافقين (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي أقبلوا إلينا نتنحى عن القتال ناحية ، ولا نوقع
وَلا
يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)
أَشِحَّةً
عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ
____________________________________
أنفسنا في التهلكة (وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ) أي يحضرون القتال (إِلَّا قَلِيلاً) فيما إذا أجبروا وخافوا على سمعتهم ، أو حضروه ، رياء ،
بخلاف المؤمنين ، فإنهم أسرع شيء إلى القتال ، وكيف لا يحضرون ، وهم يعلمون إن
قتلوا أو قتلوا كان جزاءهم الجنة؟
[٢٠] وإن هؤلاء
المنافقين الذين يعوقون الناس ، ولا يحضرون الحرب ، يكونون (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون الصادقون ، وأشحة جمع شحيح ، بمعنى
البخيل ، أي أنهم بالنسبة إليكم بخلاء ، لا يبذلون مالا ولا نفسا (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) بأن تجمعت الأعداء ، ووجب الجهاد (رَأَيْتَهُمْ) أيها الرسول ، أو أيها الرائي (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ) أي تتقلب من هنا وهناك كما هي عادة الخائف ، يدور بعينه
ليجد ملجأ وملاذا ، وإنما يكفي النظر إلى الرسول ، أو إلى المؤمنين ، ليرى ماذا
يأمر ، ويقولون : هل ما ينفعهم حتى يستريحوا؟ أم ما يزيد خوفهم؟ حتى يفكروا في
النجاة والخلاص ، فيكثرون النظر ، لئلا يفوتهم شيء (كَالَّذِي يُغْشى
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وهو الذي قرب موته وغشيته أسبابه ، فإنه يكثر النظر هنا
وهناك يتطلب علاجا ومناصا (فَإِذا ذَهَبَ
الْخَوْفُ) وجاء الأمن والغنيمة (سَلَقُوكُمْ) أيها المؤمنون ، وسلق ، بمعنى صاح ورفع صوته (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي أنهم تكلموا معكم حول جهادهم المزعوم ، وحول حصتهم
من الغنائم ، وحديد ضد الكليل أي ألسنة ذرية بليغة ، في جهر وصياح وجرأة ، كأنهم
كانوا كل شيء ، وهكذا
أَشِحَّةً
عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ
ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩)
يَحْسَبُونَ
الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ
بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ
____________________________________
دائما الجبناء يعملون قليلا ويقولون كثيرا (أَشِحَّةً عَلَى
الْخَيْرِ) أي الغنيمة ، فهم بخلاء غاية البخل ، أن يذهب ويفوتهم
شيء من الغنيمة ، التي ما اشتركوا فيها (أُولئِكَ) الذين تلك صفاتهم ، وهم المنافقون في كل زمان (لَمْ يُؤْمِنُوا) إيمانا من الأعماق ، وإنما تظاهروا بالإيمان نفاقا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطل ما عملوا من الأعمال الظاهرية ، لأنها لم تصدر
من الإيمان (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط لأعمالهم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) فإنه لا يجازيهم ، لا يتمكن أحد منهم من معارضته ، كما
كانوا يتمكنون من معارضة المؤمنين في الدنيا.
[٢١] إن هؤلاء
المنافقين (يَحْسَبُونَ) أي يظنون (الْأَحْزابَ) التي جاءت لقتال المسلمين (لَمْ يَذْهَبُوا) ولم يرجعوا ، وقد ظنوا ذلك لجبنهم ، فإن الإنسان الجبان
يخيل إليه أن الخوف بعد باق لم ينكشف (وَإِنْ يَأْتِ
الْأَحْزابُ) مرة ثانية ، بأن يرجعوا إلى القتال (يَوَدُّوا) أي هؤلاء المنافقون (لَوْ أَنَّهُمْ
بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي يكونون في البادية مع الأعراب ، ومعنى «بادون»
ظاهرون ، فكأن الإنسان الذي في المدينة مستور أما في الصحراء ، فهو ظاهر باد (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي أخباركم هل غلب المؤمنون أم الكفار؟ وهكذا يكون
الأناس الجبناء يحبون أن يكونوا بمعزل عن الحوادث ، وإنما يجترون بالأخبار ، لقتل
وَلَوْ
كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ
____________________________________
الوقت ، وإملاء فراغ حياتهم ، بعكس الشجعان والعاملين الذين لا يحبون إلا
المعارك والمقام (وَلَوْ كانُوا
فِيكُمْ) حين رجوع الأحزاب ، ويكونون هم ـ حسب رغبتهم ـ في
البادية (ما قاتَلُوا إِلَّا
قَلِيلاً) أي قتالا قليلا لمجرد الرياء والسمعة ، لا عن إيمان
وعقيدة.
[٢٢] واللازم
على المؤمن أن يقتدي بالرسول ، كيف يجاهد ويصبر في المعارك (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المسلمون (فِي رَسُولِ اللهِ) أي في سيرة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وصبره وعنائه في الله (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) مقتدى صالحا ، بحيث يراه الناس فيعملون كما يعمل ،
والأسوة من الاتساء «كما أن القدوة من الاقتداء» بمعنى الاقتداء ، والمتابعة (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) أي يرجو ثواب الله ونعيمه ، ويرجو أن يكون في اليوم
الآخر من الفائزين ، و «لمن» بدل من «لكم» والرسول أسوة حسنة لمطلق الناس ، وإنما
من كان يرجو الله يتأسى ، فكان أسوة له ، إذ الانتفاع بهذا المقتدى عائدا إليه (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) فإن من ذكره سبحانه ترسخ في كيانه ، الخوف من الله سبحانه
، فيطيع أوامره ، ويقتدي برسوله ، فيما عمل وسار.
[٢٣](وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ
الْأَحْزابَ) الذين تحزبوا لقتال الرسول ، وإبادة الإسلام (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ)
فقد روي إن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وَصَدَقَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
____________________________________
قال : سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم ، والعاقبة لكم عليهم ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنما سائرون إليكم بعد تسع أو عشر ، ولذا لما رآهم
المؤمنون ، قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله (وَصَدَقَ اللهُ
وَرَسُولُهُ) فيما أخبرنا من المبدأ والعاقبة ، والإتيان باسم الله ،
لأن الرسول كان ينقل ما يقول عن الله سبحانه (وَما زادَهُمْ) لقاء عدوهم (إِلَّا إِيماناً) فإن الإنسان كلما كثر عنده شواهد الإيمان قويت ملكته ،
واشتدت حالته النفسية في العلاقة والانقياد (وَتَسْلِيماً) لأوامر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[٢٤](مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما
عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) صدقوا في كلامهم وعهدهم مع الله ، إن يصبروا ويثبتوا
أمام الأعداء (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ) النحب النذر ، ويقال للموت ، نحب ، لأنه كنذر ثابت لازم
في ذمة الإنسان وعلى رقبته ، والمراد منهم من قد قتل واستشهد في سبيل إنجاز عهده (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الاستشهاد (وَما بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً) أي ما غيروا العهد الذي عاهدوا الله عليه ، بأن يفروا
من الميدان ، كالمنافقين الذين ورد فيهم (وَلَقَدْ كانُوا
عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) وقد ورد أن من قضى نحبه ، حمزة وجعفر بن أبي طالب ، ومن ينتظر علي عليهالسلام
، وهذا من باب أظهر المصاديق ، وإلا فالآية عامة ، كما لا يخفى.
__________________
لِيَجْزِيَ
اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
(٢٤)
وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى
اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ
____________________________________
[٢٥] وإنما
ابتلى الله المؤمنين بهذا الابتلاء الذي زلزلوا فيه زلزالا شديدا ، لإظهار كوامن
المسلمين (لِيَجْزِيَ اللهُ
الصَّادِقِينَ) من المؤمنين ، في عهدهم بسبب صدقهم في الثبات والصبر (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) بنقض عهدهم وفرارهم وخذلانهم (إِنْ شاءَ) إن بقوا على النفاق ، فإن مشيئته سبحانه معلقة على ذلك (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إن تابوا ، وهذا ليس مما دخله «اللام» المقدر في «ليعذب»
وإنما بيان لأمر خارجي (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً) لمن استغفر وأناب (رَحِيماً) فيتفضل على التائب فوق الغفران بالفضل والإحسان.
[٢٦](وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أرجع الأحزاب ، لما ألقى في قلوبهم من الرعب (بِغَيْظِهِمْ) أي بدون أن ينالوا من المسلمين ، ويستشفوا غيظ قلوبهم
الكامن على المسلمين والإسلام ، والباء بمعنى «مع» (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي مالا ، بأن يقتلوا المسلمين ، وينهبوا أموالهم ،
والمال يسمى خيرا ، لأنه سبب للخير والإحسان والضيافة ، وغيرهما ، كما قال سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وقال (وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) فلم يقع قتال يؤذي المسلمين وإنما كفاهم الله
__________________
وَكانَ
اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)
____________________________________
سبحانه بواسطة الإمام أمير المؤمنين الذي قتل «عمروهم» ، وبدد جمعهم بما
ألقى في قلوبهم من الرعب (وَكانَ اللهُ
قَوِيًّا) قادرا على ما يشاء من نصر المؤمنين ، وهزيمة الكفار (عَزِيزاً) غالبا في سلطانه لا يغلبه أحد.
[٢٧] وقد كانت
بين المسلمين وبين بني قريظة معاهدة حسن الجوار ، ولما جاء الأحزاب ذهب بعضهم إلى
بني قريظة ، يستميلهم في حرب الرسول ، حتى نقضوا العهد ، وجاءوا مع الأحزاب للقتال
، مما أوسع المجال للرسول ، أن يعاقبهم بعد الفراغ من غزوة الأحزاب ، حيث ابتدءوا
بالاعتداء على المؤمنين ، في أحرج الساعات ، وقصتهم ، كما في «قادة الإسلام» إن هؤلاء اليهود غدروا بالمسلمين في أشد أحوالهم ، في
حال حرب الأحزاب ، ولو فرض أن غدرهم كان ينجح ، لكان معناه إبادة المسلمين جميعا ،
ولذا نزل جبرائيل عليهالسلام على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلا : وضعت السلاح ، ولم يضعه أهل السماء؟ انهض إلى
إخوانهم من أهل الكتاب ، فو الله لأدقهم دق البيضة على الصخرة ، فأمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يصلي الناس العصر ، إلا عند بني قريظة ، وأعطى
اللواء الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، ومعه المهاجرون ، وانهالت قطعات الجيش الإسلامي صوب
قريظة ، حتى اكتملت ثلاثة آلاف ، ولم يظلم ليل ذلك اليوم ، إلا والمسلمون قد طوقوا
الحصون ، وانهارت أعصاب اليهود رعبا وخوفا ، فها هم المسلمون الذين انتصروا يوم
أمس على الأحزاب بكثرة عددها وعددها ، ولذا استشاروا فيما
__________________
وَأَنْزَلَ
الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦)
____________________________________
بينهم حول الأمر؟ قال قائل منهم : أسلموا ، لكنهم أبوا ، ولم يرضخوا
للإسلام ، فقالوا انزلوا للحرب ، لكنهم خافوا بأس المسلمين مع توفر السلاح والعتاد
والمال والطعام والماء لديهم ، وأخيرا أرسلوا إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يستأذنونه الخروج ، إلى «أذرعات» الشام؟ لكن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أبى ، وبعد فكر واستشارة ، وتداول رأى ، أرسلوا إلى
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يطلبون منه أن يفوض أمرهم إلى «سعد» فما شاء فعل فيهم ،
وقبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقام «سعد» بالتحكيم ، بعد ما أخذ العهود على
الجانبين ، ثم أمر أن ينزل قريظة عن حصونهم ، وأن يضعوا السلاح ... ، ولما نزلوا ، حكم بقتل رجالهم الذين تآمروا على
سلالة الإسلام والمسلمين ، جزاء وفاقا ، وقسمت الغنائم بين المسلمين (وَأَنْزَلَ) الله (الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ) أي اليهود الذين صاروا عونا وظهرا للأحزاب (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيان الذين ـ وهم اليهود قبيلة بني قريظة ـ (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي من حصونهم ، فقد أمر سعد أن ينزلوا من الحصون ،
والصياصي جمع «صيصية» وهو الحصن الممتنع (وَقَذَفَ) أي ألقى (فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ) أي الخوف من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى لم يتمكنوا من المحاربة (فَرِيقاً) منهم (تَقْتُلُونَ) أنتم أيها المسلمون ، وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم الأطفال والنساء.
__________________
وَأَوْرَثَكُمْ
أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ
____________________________________
[٢٨](وَأَوْرَثَكُمْ) أي أعطاكم الله إرثا (أَرْضَهُمْ
وَدِيارَهُمْ) أي حصونهم (وَأَمْوالَهُمْ وَ) أورثكم (أَرْضاً لَمْ
تَطَؤُها) أي لم تأخذونها بالقتال ، فإن الوطء هو الذهاب في الأرض
، ولعلها كانت أرضا لبني قريظة خارج حصونهم ، أو المراد أرض خيبر ، أو مكة ، أو
غيرها ، مما صارت بعد ذلك للمسلمين ولم يطأها بعد في هذا الحادث (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً) وبقدرته أظفركم على هؤلاء اليهود بهذه السهولة واليسر.
[٢٩] وبمناسبة
قصة الفتح والغنيمة يأتي السياق ليشير إلى قصة وقعت بعد فتح خيبر ، قالوا لما رجع
رسول الله من غزوة خيبر ، أصاب كنز آل أبي الحقيق ، فقلن أزواجه : أعطينا ما أصبت
، فقال لهن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : قسمة بين المسلمين على ما أمر الله عزوجل ، فغضبن من ذلك ، وقالت بعضهن : لعلك ترى ، إنك إن
طلقتنا ، أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا؟ فلم يقع هذا الكلام من الرسول
موقعا حسنا ، فاعتزلهن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مشربة أم إبراهيم تسعة وعشرين يوما ، ثم أنزل الله
هذه الآية ـ وهي آية التخيير ـ.
فقامت أم سلمة
أول من قامت ، فقالت : قد اخترت الله ورسوله ، فقمن كلهن ، وقلن كما قالت أم سلمة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْواجِكَ)
__________________
إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)
يا
نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا
الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ
____________________________________
أي نساءك (إِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي سعة العيش ، وكثر المال ، وسائر زينة الدنيا (فَتَعالَيْنَ) أي هلمن إلي ، لـ (أُمَتِّعْكُنَ) وهي ما يعطى للمرأة عند طلاقها جبرا لكسر خاطرها
بالطلاق (وَأُسَرِّحْكُنَ) أي أطلقكن ، فإن الطلاق تسريح للمرأة عن قيد الزواج (سَراحاً جَمِيلاً) والسراح الجميل ، هو الطلاق من غير خصومة ، ولا أكل حق
لها.
[٣٠](وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ) ثواب (اللهَ وَ) تردن عشرة (رَسُولَهُ) بدون إرادتكن زينة الحياة الدنيا ، زائدة على القدر
اللائق بالرسول (وَالدَّارَ
الْآخِرَةَ) وإرادتها عبارة عن العمل الصالح لأجلها (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ
مِنْكُنَ) وإنما جاء بهذا ، لأن مجرد الإرادة ، لا تكفي للثواب ،
وإنما تحتاج إلى العمل (أَجْراً عَظِيماً) يعطيه لكنّ في الآخرة.
[٣١](يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ
مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي معصية ظاهرة (يُضاعَفْ لَهَا
الْعَذابُ) في الآخرة (ضِعْفَيْنِ) ضعف للعصيان ، وضعف لأنها أسوة للنساء ، ولمكانها من
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمراد
وَكانَ
ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠)
____________________________________
بالضعف المثل (وَكانَ ذلِكَ) التعذيب ضعفين (عَلَى اللهِ يَسِيراً) فإن الأمر بيده ، ويفعل كيفما يشاء مما تقتضيه الحكمة
والصلاح ، وتقديم «الفاحشة» على «القنوت» لأن الكلام كان حول معصيتهن ، بمخاشنة
الكلام مع الرسول ، كما أن الإتيان بلفظ «الفاحشة» التي هي المعصية المجاوزة للحد
، وتأكيدها ب «المبينة» بمناسبة الموضوع ، فإن عصيان النساء للرسول ، كان من أعظم
المعاصي ، وإلا فكل معصية ، أتين بها ظاهرة تكون كذلك ، أما المعصية الخفية ، فهل
عذابها مضاعف أم لا ، احتمالان.
تقريب القرآن الى الأذهان
الجزء الثاني والعشرون
من آية (٣٢) سورة الأحزاب
إلى آية (٢٨) سورة يس
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته
الطاهرين
وَمَنْ
يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها
مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١)
يا
نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً
مَعْرُوفاً (٣٢)
____________________________________
[٣٢](وَمَنْ يَقْنُتْ) والقنوت هو الطاعة والخضوع (مِنْكُنَ) يا نساء النبي (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن تطع أوامرهما (وَتَعْمَلْ صالِحاً) أي تأتي بهذا النوع من العمل ، وهو الصالح دون الطالح ،
وكأن القنوت مقدمة على العمل ، إذ هو الخضوع (نُؤْتِها أَجْرَها
مَرَّتَيْنِ) مرة في الدنيا بالإعظام والإكرام ، ومرة بالآخرة بجنات
النعيم ، أو المراد نعطيها أجرين وثوابين في الآخرة بمقابلة (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ)
(وَأَعْتَدْنا) أي هيئنا في الآخرة (لَها رِزْقاً
كَرِيماً) نرزقها بإكرام وإعظام ، وقيل الكريم ما سلم من كل آفة
ونقص.
[٣٣](يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَ) أنتنّ (كَأَحَدٍ مِنَ
النِّساءِ) أي كسائر النساء ، فإنكن أعظم شأنا ، وأعلى منزلة
لمكانكن من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) أي إن كنتن متقيات خائفات من الله سبحانه (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي إذا أردتنّ الكلام في محضر حضره الأجنبي ، فلا ترققن
الكلام ولا تلن في الحديث ، والخضوع عبارة عن الكيفية ، وإن كان مفهوم الآية شامل
لمادة الكلام أيضا ، بأن لا يكون مثيرا مهيجا (فَيَطْمَعَ الَّذِي
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) وهو من انحرفت نفسه عن الجادة ، حتى إذا سمع الكلام
الرقيق ، هاجت نفسه طمعا ، وإن لم يكن يريد شيئا (وَقُلْنَ قَوْلاً
مَعْرُوفاً) جميلا حسنا ، لا غزلا وتشبيبا ، بريئا من كل
وَقَرْنَ
فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ
الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
____________________________________
التواء وانحراف.
ولا يخفى أن
نساء النبي ، حيث أنهن كن أسوة للنساء ـ أسوة طبيعية ـ كانت الآيات موجهة إليهن ،
وإلا فما اشتملت عليه هذه الآيات ، عامة لكل النساء ، وإن كان في حقهن أكثر إلا ما
خرج بالدليل ككون نسائه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمهات المؤمنين ، أما قوله (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) فإنما هو للترغيب والتحريض ، وبيان أن منزلتهن تقتضي
التحفظ بهذه الوصايا أكثر ، كما يقول العالم لولده : إنك لست كسائر الناس ، فلا
تقامر ، ولا تشرب الخمر ، وهكذا.
[٣٤](وَقَرْنَ) أي أقررن واستقررن (فِي بُيُوتِكُنَ) أي منازلكن ، فلا تخرجن للحرب وما أشبه (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي لا تخرجن من البيوت باديات الزينة ، كما كانت نساء
الجاهلية تفعل ، فإنّ برج ، بمعنى ظهر ، ومنه تسمى البارجة ، وبرج السور ، وبروج
الكواكب ، لبروجها أي ظهورها ، ومن مصاديق التبرج ، إلقاء المرأة عباءتها بين
الرجال ، كما كانت تفعله نساء الجاهلية (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) بالمداومة عليها بآدابها وشرائطها (وَآتِينَ الزَّكاةَ) أي أعطين الزكاة المفروضة ، أو مطلق الصلة (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمران به (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) هذا من قبيل الالتفات المذكور في علم البلاغة ، الذي هو
من محاسن الكلام ، فإن المراد بأهل البيت «الرسول وعلي وفاطمة والحسن والحسين» عليهمالسلام ، بإجماع المفسرين
وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما
يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ
____________________________________
المنصفين من العامة والخاصة ، كما وردت بذلك روايات متواترة ، وقد مر بنا غير مرة ، إن من فنون البلاغة في القرآن
الكريم ، أن يوسّط كلاما جديدا ، بين الجمل المتناسقة ، اتقاء عن ملالة السامع من
كلام رتيب ، والمراد بأهل البيت عليهمالسلام ، بيت الرسول ، والذي يشهد أن المراد بالآية ، ليست
النساء ، تغيير الأسلوب ، فإن الخطاب كان بلفظ الجمع المؤنث «لستن» «اتقيتن» «لا
تبرجن» وهكذا ، وكذلك ما بعد الآية «واذكرن» «في بيوتكن» حتى إذا وصل إلى هذا قال «عنكم»
«يطهركم» ولا يخفى أن الأئمة عليهمالسلام داخلون في أهل البيت بالنصوص المتواترة (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ومعنى الإرادة ، الإرادة التكوينية ، وهي الموجبة
للعصمة ، وهي المراد بالطهارة ، وإلا فالإرادة التشريعية عامة للجميع ، كما أن
الطهارة عن القذارة الظاهرية عامة لا تختص حتى المسلمين ، ولذا استدل علماؤنا بهذه
الآية على عصمة الرسول والصديقة والأئمة الاثنى عشر (صلوات الله عليهم أجمعين) ،
ومعنى العصمة أن يكون في الإنسان ـ بلطف الله سبحانه ـ وازع يمنعه عن العصيان
مطلقا بدون أن ينافي ذلك اختياره ، كالأم الحنون التي فيها وازع يمنعها عن قتل
ولدها ، وهذا الوازع من قبله سبحانه ، ولا ينافي اختيارها ومحل تفصيل الكلام في
علم الكلام.
[٣٥](وَاذْكُرْنَ) يا نساء النبي (ما يُتْلى فِي
بُيُوتِكُنَ) أي ما يقرأ ، والقارئ هو الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والإتيان بلفظ في «بيوتكن» لعله للحث والتحريض ، فإن
ما يتلى في بيت الإنسان من القرآن يزيده شرفا وعزا ،
__________________
مِنْ
آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ
____________________________________
فمن الجدير أن يستمسك بعزه وفخره (مِنْ آياتِ اللهِ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةِ) لعل المراد بها كلمات الرسول وحكمه ، والمراد بالذكر ،
إما التحفظ والقراءة ، وإما التذكر (إِنَّ اللهَ كانَ
لَطِيفاً) ذا فضل ومن لطفه وفضله ، خصكن بهذه الكرامة (خَبِيراً) يعلم ما تصنعن من الأمور ، فيجازيكن على أعمالكن.
[٣٦] ثم ذكر
الله سبحانه استواء الرجال والنساء في أحكام الإيمان ـ إلا ما خرج بالدليل.
روي في المجمع عن
مقاتل بن حيان ، أنه قال : لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن
أبي طالب دخلت على نساء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن : لا ، فأتت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار ،
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ومم ذلك؟ فقالت : لأنهن لا يذكرن بخير ، كما يذكر
الرجال ، فانزل الله هذه الآية (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ) والمسلم هو الذي سلّم لأوامر الله والرسول ، سواء دخل
الإيمان قلبه أم لا ، كما قال سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) والمؤمن هو الذي دخل التصديق قلبه ، والتزم بأحكام
الإسلام (وَالْقانِتِينَ
__________________
وَالْقانِتاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ
وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
____________________________________
وَالْقانِتاتِ)
والقنوت ، هو
الخضوع لله سبحانه ، فإن الخضوع رتبة فوق الإيمان أو المراد بالقانت المداوم على
الطاعة ، أو الداعي (وَالصَّادِقِينَ
وَالصَّادِقاتِ) والصادق هو الذي يصدق في عقيدة وقول وعمل ، فالشرك كذب
وقول لا إله للكون كذب ، والعمل الريائي كذب (وَالصَّابِرِينَ
وَالصَّابِراتِ) والصبر إما على الطاعة ، وإما عن المعصية ، وإما في
المصيبة ، بأن يحفظ الإنسان نفسه ، فلا يترك الطاعة ، أو يعمل بالمعصية أو يلقي
نفسه في الجزع (وَالْخاشِعِينَ
وَالْخاشِعاتِ) الخشوع هو الخضوع أو الخوف (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) التصدق هو إخراج الصدقات والزكوات (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) بالإمساك عن المفطرات ، قربة إلى الله تعالى ، بشرائطه
وآدابه ، ولعل عدم ذكر الصلاة والزكاة ، لأنهما داخلات في الإسلام (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحافِظاتِ) عن الزنا واللواط والسحق والاستمناء ، وما أشبه ، (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) بدوام تذكر الله سبحانه حتى لا يصدر من الإنسان ما
يخالف رضاه (وَالذَّاكِراتِ) لله كثيرا ، وقد حذف المتعلق لدلالة الكلام عليه ، وكذا
في «والحافظات» (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) أي للمتصفين بهذه الصفات (مَغْفِرَةً) مصدر ميمي بمعنى الغفران ، أي غفرانا لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) وثوابا جزيلا في الآخرة.
وَما
كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦)
____________________________________
[٣٧] وإذ تقدمت
قصة زوجات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حين أردن منه أموال خيبر ، وامتنع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن إعطائهن ، جاء السياق ليذكر الناس عامة ، بأنه ليس
لأحد أن يحكم بخلاف حكم الرسول (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) بأن أمرا بشيء ، أو نهيا عن شيء (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي الاختيار (مِنْ أَمْرِهِمْ) أي من جهة أمر أنفسهم ، بعد أوامر الله والرسول (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بمخالفة أوامرهما ، (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
مُبِيناً) أي انحرف عن طريق الهدى انحرافا واضحا ، قال في المجمع
: «نزلت في زينب بنت جحش الأسدية ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب ، عمة رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فخطبها رسول الله على مولاه ، زيد بن حارثة ، ورأت أنه
يخطبها على نفسه ، فلما علمت أنه يخطبها على زيد ، أبت وأنكرت ، وقالت : أنا ابنة
عمتك ، فلم أكن لأفعل ، وكذلك قال أخوها ، عبد الله بن جحش ، فنزل ، وما كان لمؤمن
ولا مؤمنة .. الآية ، يعني عبد الله بن جحش وأخته زينب ، فلما نزلت الآية ، قالت :
رضيت يا رسول الله ، وجعلت أمرها بيد رسول الله ، وكذلك أخوها ، فأنكحها رسول الله
زيدا ، فدخل بها ، وساق إليها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عشرة دنانير وستين درهما مهرا ، وخمارا ملحفة ، ودرعا ،
وإزارا ، وخمسين مدّا من الطعام ، وثلاثين صاعا من تمر» ، أقول وقد هدم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ
____________________________________
بذلك ، ما كان مرسوما في الجاهلية من تكافؤ الدماء القبلي.
[٣٨] لقد تزوج
زيد زينب ، ثم أراد الله سبحانه ، أن يزيل العقبة التي كانت بعد أمام المسلمين في
أمر التزوج بنساء أدعيائهم ، فقد كانوا يرون أن ذلك من قبيل نكاح الأب زوجة ابنه ،
ولذا لما طلق زيد زينبا ـ ولعله كان لما نقل أنها كانت حادة المزاج ، فلم يتلاءم
الزوجان ـ نكحها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تتميما للتشريع الذي سبق في أول السورة (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ
أَبْناءَكُمْ) ومن غريب الأمر ، أن جماعة من الناس اختلقوا حول هذه
القصة روايات تنافي أصول الإسلام والعقيدة ، حتى أن علي بن إبراهيم القمي ، على
جلالته لم يسلم من الوقوع ضحية ذلك الاختلاف ، كما لم يسلم من الوقوع ضحية قول
المعاندين في أن آية (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) نزلت في أبي طالب عم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فسبحان من لم يخلق الإنسان معصوما إلا الأنبياء
والأئمة ، ومن إليهم (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ تَقُولُ) لزيد بن حارثة الذي دعوته ابنا لك قبل نزول آية (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ
أَبْناءَكُمْ)(لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِ) بالإسلام والإيمان ، ومصاحبة الرسول (وَأَنْعَمْتَ) أنت (عَلَيْهِ) بالكفاية والتربية والتحرير والتعليم ، وتزويجه بزينب
الشريفة الهاشمية (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ) ولا تطلقها ، فقد وقعت بينهما المشاجرة ، فأراد زيد
طلاقها ـ وقد تقدم أنها كانت ذات حدة في أخلاقها ، كما ذكروا ـ والإتيان بلفظ عليك
، لما في الإمساك من الثقل ، حتى كأنه
__________________
وَاتَّقِ
اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ
____________________________________
حمل على الإنسان (وَاتَّقِ اللهَ) يا زيد في مفارقتها ومضارتها ، ومعاشرتها ، فلا تعاشرها
إلا حسنا جميلا (وَ) قد كان الله سبحانه أخبر الرسول أنه سيطلق زينبا ، وأن
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يتزوجها لرفع قاعدة «البنوة» الجاهلية ، ولما كان
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلم ما يحدثه هذا العمل من الضجة ، في ذلك المجتمع
الجديد العهد بالإسلام ، خشي إظهاره ، ولذا قال سبحانه له صلىاللهعليهوآلهوسلم و (تُخْفِي فِي نَفْسِكَ) يا رسول الله ، إرادتك زواجها بأمر الله بعد طلاقها (مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي الشيء الذي يظهره الله بعد ذلك (وَتَخْشَى النَّاسَ) وقد قال بعض : كيف يخشى النبي الناس؟ فلنقل : هل كان
النبي يخشى من العقرب أن تلدغه ، أو السبع أن يفترسه؟ فإن قالوا نعم ، قلنا : ما
الفرق حتى أجزتم تلك الخشية ، ولم تجوزوا هذه الخشية ، من كلام الناس وطعنهم؟ وإن
قالوا : لا ، قلنا : فأيّ دليل على أن الخشية من المضر أو المؤذي ينافي مقام
العصمة ، فإن ما ثبت ، أن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم معصوم ، لا إنه مسلوب عنه صفات البشرية من خشية واضطراب
، وجوع وعطش ، كما في قصة موسى عليهالسلام (إِنَّنا نَخافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنا) (فَخَرَجَ مِنْها
خائِفاً) ، وفي قصة يعقوب (وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ) ، وأما قوله (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشاهُ) فهو من باب الجناس المليح ، نحو قوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) وقول الرضا عليهالسلام : «إن كنت باكيا لشيء ، فابك للحسين عليه
__________________
فَلَمَّا
قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ
اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ
____________________________________
السلام» فإن الإنسان إذا هاج به وصف نفسي ، قيل له ، وجّه هذا
الوصف إلى جهة أصلح ، فمن هاجت به العاطفة نحو جاره ، قلنا له : اعطف على ولدك ،
أو نقول : إن ولدك أحق بالعطف ، ولا نريد بذلك ، أن العاطفة نحو الجار غير حسنة ،
وإنما نريد توجيهه نحو ما هو الأصلح بحاله (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها) أي من زوجته زينب (وَطَراً) أي حاجة ، بأن تم حاجته فيها ، وطلقها ، حيث لم يتلاءما
(زَوَّجْناكَها) أي أمرنا بتزويج زينب (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أي لتكون أنت أول من ينقض هذه العادة الجاهلية عملا حتى
لا يتحرج المؤمنون بعدك من الزواج بزوجة المتبنى لهم (إِذا قَضَوْا) أولئك الأدعياء (مِنْهُنَ) أي من زوجاتهم (وَطَراً) أي حاجة ، بأن طلقوهن ، فإن الطلاق لا يكون إلا بعد عدم
الرغبة ، والحاجة في الزوجة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) أي أن الشيء الذي يريده الله ، لا بد وأن يفعل ويؤتى في
الخارج ، فتزوجها رسول الله وضمها إلى نسائه.
[٣٩] وإذ أثار
هذا الأمر ضجة كبري بين الناس ، جاء السياق ليردها ، فقال سبحانه (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) أي عسر وضيق وغضاضة (فِيما فَرَضَ اللهُ
لَهُ) أي في الحكم الذي أثبته الله للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
__________________
سُنَّةَ
اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨)
الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ
____________________________________
والإتيان بلفظ «له» لأنه كان لنفع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا مثل سائر الواجبات ، التي هي «عليه» فيها مشقة
وكلفة (سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر ، أي سنّ الله ذلك سنة ، أي إن هذا
التحليل ، كان كسائر سنن الله في الأنبياء عليهمالسلام ، والأمم الماضين (فِي الَّذِينَ خَلَوْا) أي مضوا (مِنْ قَبْلُ) قبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد كان سبحانه ، يرفع الحرج عنهم ، ويحل لهم ما فيه
الصلاح (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
قَدَراً) أي بقدر وقضاء (مَقْدُوراً) قد قدّر وحكم به ان ينفذ ، فليس اعتباطا وارتجالا ، روى
عن الإمام الباقر عليهالسلام ، أن زينب مكثت عند زيد ما شاء الله ، ثم أنهما تشاجرا
في شيء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فاستأذن زيد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في طلاقها ، وقال أن فيها كبرا ، وأنها لتؤذيني بلسانها
، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اتق الله ، وأمسك عليك زوجك ، وأحسن إليها ، ثم أن
زيدا طلقها ، وانقضت عدتها ، فأنزل الله سبحانه نكاحها على رسوله» .
[٤٠] ومن هم
الذين خلوا من قبل؟ هم (الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) أي يؤدّونها إلى الناس كاملة ، وباعتبار أن كل حكم
رسالة ، سميت الشريعة رسالات (وَيَخْشَوْنَهُ) سبحانه ، فيما أمر ونهى (وَلا يَخْشَوْنَ
أَحَداً إِلَّا اللهَ) أي لا يتركون حكما من أحكام الله خشية أحد ، فإنهم لا
يخشون إلا الله وحده ، نعم من الممكن ، أن يخشون الناس في أمر
__________________
وَكَفى
بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ
اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا
____________________________________
آخر ، كما قال (وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) أي حافظا لأعمال خلقه ، ومحاسبا ومجازيا عليها.
[٤١] ولما تزوج
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم زينب ، جعلت الألسنة المنافقة تلوك ، بأن الرسول تزوج
زوجة ابنه ، فقال سبحانه (ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) فهو ليس أبا لزيد حتى يكون التزويج بزوجته تزويجا بزوجة
الابن ، وفي الآية أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ليس أبا لرجالهم ـ وزيد من رجالهم ـ وليس فيها أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس أبا لأحد ، فإن القاسم والطيب والطاهر ، وإبراهيم ،
كانوا أبناءه الصلبيين ، والإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام ، كانوا أبناءه بواسطة سيدة نساء العالمين (وَلكِنْ) كان صلىاللهعليهوآلهوسلم (رَسُولَ اللهِ) فينفّذ ما أمره الله سبحانه (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي آخرهم ، قد ختمت به النبوة ، ولذا يلزم عليه أن يبطل
كل ما يخالف الصلاح العام ، وليس كالأنبياء الذين تقدموا ، إن لم يمكن لهم إبطال
أمر ، جاء بعدهم نبي أخر ليبطله ، ولذا كانت شرائعهم تتناسخ (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) لا يخفى عليه المصالح والمفاسد ، فلذا يأمر بالصالح ،
ولا يخفى عليه قول المنافقين في الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[٤٢] ويأتي
السياق بعد ذلك يربط القلوب بالله سبحانه ، حتى لا يتحرجوا من حكم يفرضه مهما كان
خلاف المألوف لديهم (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا
__________________
اذْكُرُوا
اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١)
وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ
يَوْمَ
____________________________________
هو تذكرة عند الأعمال ، حتى لا يزيغ الإنسان في قول ، أو عمل ، أو نيّة ، (ذِكْراً كَثِيراً) في مختلف أحوالكم وشؤونكم.
[٤٣](وَسَبِّحُوهُ) والتسبيح هو التنزيه له سبحانه لفظا أو قلبا أو عملا (بُكْرَةً) صباحا (وَأَصِيلاً) عصرا ، ولعل ذلك كناية عن دوام التسبيح واستمراره.
[٤٤] إن الله
سبحانه يلطف بكم ويهديكم السبيل ، فمن اللازم أن تقابلوه بالمثل ، تذكروه وتسبحوه (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) والصلاة في اللغة العطف والميل ، كما قال الشاعر «صلّى
على جسم الحسين سيوفهم» ومن المعلوم ، أن صلاته سبحانه ، الرحمة بالناس ، والمغفرة
لهم (وَمَلائِكَتُهُ) أي تصلي ملائكته عليكم ـ ولا يكون ذلك إلا بإذنه ـ فالفضل
يعود إليه تعالى أيضا ، وصلاة الملائكة عطفهم نحو البشر بطلب المغفرة والرحمة لهم
وحفظهم عن الأخطار ، بقدر ما يأذن الله لهم (لِيُخْرِجَكُمْ) الله ، أيها المؤمنون (مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ) فإن دروب الحياة مظلمة لا يراها الإنسان حتى يسير فيها
بسلام ، وإنما يقع في المشاكل والاضطرابات كالإنسان الذي يسير في الظلمة يقع في
الحفيرة ، ويصطدم بالجدران ، وصلاته سبحانه ، وصلاة ملائكته ، توجب إنارة الطريق ،
لأنه يرحم وبرحمته يحفظ الإنسان من الزلّة (وَكانَ) الله (بِالْمُؤْمِنِينَ
رَحِيماً) يرحمهم ويلطف بهم.
[٤٥] هذا
للمؤمنين في الدنيا أما (تَحِيَّتُهُمْ) إذ يحييهم الله سبحانه (يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ
سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥)
وَداعِياً
إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦)
وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)
____________________________________
يَلْقَوْنَهُ) أي يلقون جزاءه وثوابه ، فهو (سَلامٌ) لفظي إذ يسلم الملائكة عليهم ، ويبعث الله من يقول
للمؤمن ، إن ربك يقرؤك السلام ، ومعنوي فإن لهم السلامة من جميع الآفات والأخطاء ،
إلى الأبد (وَأَعَدَّ لَهُمْ
أَجْراً كَرِيماً) أي ثوابا جزيلا يكرمهم.
[٤٦] ثم يخاطب
القرآن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلطف به في مقابل ذلك العمل الشاق الذي قام به من زواج
زينب (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ) على الناس (شاهِداً) تشهد عليهم ، ماذا صنعوا ، وماذا يصنعون؟ فإن الإنسان
المعتدل يمكن أن يكون شاهدا ، لا الإنسان المنحرف (وَمُبَشِّراً) بالجنة والثواب ، لمن آمن وأطاع (وَنَذِيراً) بالنار والعقاب لمن كفر أو عصى.
[٤٧](وَداعِياً إِلَى اللهِ) فأنت تدعو إلى الإذعان بالله ، وإطاعته (بِإِذْنِهِ) فإن كل عمل يرتبط به سبحانه يحتاج إلى إذنه ، حتى
الدعوة إليه (وَسِراجاً) أي مصباحا (مُنِيراً) يهتدى بك في الحياة ، كما يهتدى بالمصباح في ظلمة
الليل.
[٤٨](وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الْمُؤْمِنِينَ) الذين آمنوا وأطاعوا (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ
اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) فإنه يتفضل عليهم بفضل عظيم ، هو إعطائهم خير الدنيا
وسعادة الآخرة.
وَلا
تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
____________________________________
[٤٩](وَلا تُطِعِ) يا رسول الله (الْكافِرِينَ
وَالْمُنافِقِينَ) بأن تسمع بعض كلامهم ـ الذي يزعمون أنه في صالحك ، أو
صالح المؤمنين ـ (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي اترك أن تؤذيهم فيما يفعلون ضدك ، فإن كيدهم ضعيف
يضمحل ، أو المراد لا تعتن بأذيتهم لك ، فإن أذاهم لا يضرك ، فلا ينبغي أن تعير له
أهمية ، ولا يخفى أن هذا غير القتال ، فإن ذلك بالنسبة إلى الأمور العادية ،
كالبذىء من القول ، لا بالنسبة إلى المناهج والخطوط والأنظمة (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) اجعله وكيلك في الأمور يجلب إليك الخير ، ويدافع عنك
الضر والشر (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) أي كافيا ومتكفلا وحافظا ، وحيث أن الأصل «اكتف» جاء
الباء في فاعل «كفى».
[٥٠] وبمناسبة
قصة نكاح زينب وطلاق زيد لها ، يأتي السياق ليبين بعض أحكام الطلاق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي زوجتموهن (ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي من قبل الدخول بهن ، فإن المس كناية عن ذلك ، لا إنه
بمعنى الإحساس (فَما لَكُمْ) أيها المؤمنون (عَلَيْهِنَ) أي على تلك المطلقات (مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَها) أي تستوفونها بالعدد ، فإذا طلقت المرأة قبل الدخول جاز
لها أن تتزوج من ساعتها ، لعدم وجود حكمة العدة فيها ، فإن الحكمة ـ كما ذكروا ـ
فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
____________________________________
استبراء رحمها ـ وإن كان هذا حكمة ، لا علة تامة ـ (فَمَتِّعُوهُنَ) بما لهن عليكم من الحقوق الواجبة والمستحبة ، ومنها
إعطائها المتعة ، فيما إذا لم يفرض لها فريضة ، وقد ورد عن الإمام الباقر عليهالسلام ، أنه قال : في هذه الآية (فَمَتِّعُوهُنَّ) أي جملوهنّ بما قدرتم عليه من معروف ، فإنهن يرجعن
بكآبة ووحشة ، وهمّ عظيم وشماتة من أعدائهن ، فإن الله كريم يستحي «أي يفعل فعل
المستحي» ويحب أهل الحياء ، إن أكرمكم ، أشدكم إكراما لحلائله» (وَسَرِّحُوهُنَ) أي أطلقوهن وأخرجوهن من حبالتكم بعد الطلاق (سَراحاً جَمِيلاً) بلا إيذاء ، وذكر معايب وإهانة ومنع حق ـ مما يعتاده
الجهّال ـ وقد ذكروا ، إن رجلا أراد طلاق زوجته ، فقيل له : لماذا ، قال : هي
زوجتي وإن الرجل لا يذكر معايب زوجته ، ثم طلقها ، فقيل له : الآن ، قل ما كان
فيها من العيب ، فقد خرجت عن زوجيتك ، فقال : هي أجنبية ، وإن الرجل لا يذكر معايب
النساء الأجنبيات.
[٥١](يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي) جمع التي (آتَيْتَ) أي أعطيت (أُجُورَهُنَ) أي مهورهن ، فإن المهر أجر على البضع ، ولقد كان الرسول
أعطى نساءه الموجودات عنده وقت نزول الآية ، مهورهن ، فليس القيد احترازيا ، بل
توضيحيا ، والآية ، في مقام بيان النساء المحللات للرسول ، فالمعنى أنه يحل لك
طوائف من النساء ، هؤلاء النسوة ، الموجودات عندك والوصيفات ، وبنات العم والعمة ،
__________________
وَما
مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ
عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
____________________________________
وبنات الخال والخالة ، والمرأة التي تهب نفسها للنبي ، ثم بيّن سبحانه أن
للرسول الخيار في حفظ بعض زوجاته ، وطلاقها ، كما بيّن سبحانه ، أن لا يحل له أن
يأخذ فوق هذا العدد الموجود عنده من سائر النساء ، أو تبدل بعضا ببعض ، بأن تطلق
من زوجاته ، ليأخذ مكانها امرأة أخرى ، وقد خصه الله سبحانه بجواز التسع ، حين كف
عنده ، ونزلت آية (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) فتفضل الله سبحانه بإحلاله للرسول ، إبقاء جميع النسوة (وَ) أحللنا لك (ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) أي الأمة ، وإنما سميت ملك اليمين ، لأن اليد اليمنى هي
أكثر الأعضاء اكتسابا ، فيكون الثمن عليها والملك لها ـ مجازا ـ (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) أي أعطاك الله من الغنيمة والأنفال ، وسمي فيئا لأنه
يرجع إلى صاحبه الأصلي ، وهو الرسول ، وكأن المال في يد الكفار مغصوب ، فإذا رجع
بأمر الله إلى المؤمنين كان فيئا ورجوعا إلى أصحابه الأصليين ، وقد كانت زوجة
النبي ، مما ملكت يمينه مارية القبطية أم إبراهيم (وَبَناتِ عَمِّكَ) والمراد مطلق الأعمام (وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) والاختلاف بين العم والعمة بالإفراد والجمع للتفنن في
الكلام ، الذي هو من أبواب البلاغة (وَبَناتِ خالِكَ
وَبَناتِ خالاتِكَ) في اختلاف اللفظين ما تقدم (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قال في المجمع : «إن المراد ببنات العمة ، نساء قريش ،
وببنات الخالة نساء بني زهرة» ، ولعل التخصيص بهؤلاء النسوة ،
__________________
وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ
يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ
عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً
____________________________________
لعدم وجود غيرهن عند الهجرة ، حتى تحل ، كما إن تخصيصهن يهاجرن معك ،
لإفادة تحريم غير المهاجرات ـ ولم يعلم أن الحكم نسخ بعد ذلك ـ (وَ) أحللنا لك (امْرَأَةً مُؤْمِنَةً
إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) بأن قالت ، وهبت نفسي لك يا رسول الله ، فإنه يجوز له
نكاحها ، والحلية بلفظ الهبة ، تخلص (إِنْ أَرادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ) يا رسول الله (مِنْ دُونِ) سائر (الْمُؤْمِنِينَ) فلا يحل لهم النساء ، بلفظ الهبة (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ
فِي) أمر (أَزْواجِهِمْ) فإن المفروض للمؤمنين أن لا يتزوجوا فوق الأربع ، ولا
أن ينكحوا بلفظ الهبة ، تمشيا مع نظام الصالح العام ، أما الرسول فقد استثنى له
بعض الأحكام لظروف خاصة ، أحاطت به ، كما أنه وجب عليه أمور لتلك الظروف أيضا (وَ) قد علمنا ما فرضنا في (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) حيث أبحنا لك الصفوة من الغنائم ، إذا كانت جارية ، ولم
تبحها للمؤمنين ، ومعنى قد علمنا ، أن هذا الحكم ليس اعتباطا ، وإنما صادر عن علم
وحكمة بالمصالح والمفاسد العامة والخاصة ، ثم بيّن ذلك بقوله (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) وضيق في أمر الأزواج ، فإن الرسول أكثر شغلا من أن يحرج
عليه بعض الأمور الخاصة ، كما أنه يقع في ضيق ، إن أمر بطلاق ، أو فك بعض نسائه
التسع (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) لمن
رَحِيماً
(٥٠)
____________________________________
خالف الأوامر ، ثم تاب ، كما وقع العصيان من بعض الأزواج ، في قصة غنائم
خيبر (رَحِيماً) يتفضل بالرحم والنعمة على رسوله والمؤمنين ، روى عن
الإمام الباقر عليهالسلام ، أنه قال : جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو في منزل حفصة ، والمرأة متلبسة متمشطة فدخلت على
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن المرأة لا تخطب الزوج ،
وأنا امرأة لا زوج لي منذ دهر ، ولا ولد ، فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي
لك ، إن قبلتني ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : خيرا ، ودعا لها ، ثم قال : يا أخت الأنصار جزاكم
الله عن رسول الله خيرا ، فقد نصرني رجالكم ، ورغبت فيّ نساؤكم ، فقالت لها حفصة :
ما أقل حياءك وأجرأك وأنهمك للرجال؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كفي عنها يا حفصة ، فإنها خير منك ، رغبت في رسول
الله ، فلمتيها وعبتيها ، ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم للمرأة : انصرفي رحمك الله ، فقد أوجب الله لك الجنة
لرغبتك فيّ ، وتعرضك لمحبتي وسروري ، وسيأتيك أمري إن شاء الله ، فأنزل الله عزوجل ، (وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً)
، وعن الصادق عليهالسلام ، قال : «تزوج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بخمسة عشر امرأة ، ودخل بثلاثة عشر منهن ، وقبض عن تسع
، فأما اللتان لم يدخل بهما ، ف «عمرة» و «السناة» وأما الثلاثة عشر اللواتي دخل
فيهن ، فأولهن «خديجة» بنت خويلد ، ثم «سودة» بنت زمعة ، ثم «أم سلمة» واسمها هند
بنت أبي أمية ، ثم «أم عبد الله» ثم «عائشة» بنت أبي بكر ، ثم «حفصة» بنت عمر ، ثم
«زينب» بنت خزيمة بن
__________________
تُرْجِي
مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ
عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ
____________________________________
الحارث أم المساكين ، ثم «زينب» بنت جحش ، ثم «أم حبيب» أرملة بنت أبي
سفيان ، ثم «ميمونة» بنت الحارث ، ثم «زينب» بنت عميس ، ثم «جويرية» بنت الحارث ،
ثم «صفية» بنت حيّ بن أخطب ، والتي وهبت نفسها للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، و «خويلة» بنت حكيم السلمي ، وكان له سريّتان يقسم
لهما مع أزواجه «مارية القبطية» و «ريحانة الخندقية» ، والتسع اللواتي قبض عنهن ،
عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث ، وأم حبيب بنت
أبي سفيان ، وصفية ، وجويرية ، وسودة ، وأفضلهن خديجة بنت خويلد ، ثم أم سلمة ، ثم
ميمونة» .
[٥٢](تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) الإرجاء ، هو التأخير ، والمراد تبعد عن نفسك من تشاء
من أزواجك (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ
مَنْ تَشاءُ) أي تجعل لها الإيواء ، بأن تقربها إلى نفسك ، قالوا : «وقد
نزلت هذه الآية ، إثر إعراض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عنهن لما طالبن بغنائم خيبر ، وأغلظن له في القول ، فقد
خيره الله سبحانه ، بين الابتعاد عن بعضهن والاقتراب منهن» (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن ـ حسب
اختيارك ـ وتضمها إليك فلا جناح عليك في ذلك (ذلِكَ) التفويض إلى مشيئتك في الإرجاء والإيواء (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) أي يفرحن ، فإن من فرح ، قرت عينه ،
__________________
وَلا
يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١)
لا
يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ
____________________________________
ولم تضطرب هنا وهناك ، ليجد ملجأ ومستقرا (وَلا يَحْزَنَ) تأكيد لتقر أعينهن (وَيَرْضَيْنَ بِما
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) أي بالحكم الذي ساويت فيه جميعهن ، لأنك إن رجحت بعضا
على بعض ، كان ذلك مثار سخط المرجوحة ، أما إذا سويت بينهن كلهن ، في ذلك ، وعلمن
أنك تنظر إليهن بنظرة واحدة رضين جميعهن (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي قُلُوبِكُمْ) خطاب عام ، لكنه يراد به هنا الرسول وأزواجه ، إذا وقع
بينهما غضاضة ، يوسوس الشيطان في قلوبهن (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) بما في قلوبكم ، لأنه يعلم كل شيء (حَلِيماً) يحلم عنكم فيما تنوون وتعملون مما لا يرضاه.
[٥٣](لا يَحِلُّ لَكَ) يا رسول الله (النِّساءُ مِنْ
بَعْدُ) هذه الأصناف المذكورة في الآيات المتقدمة (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) أي بهذه النساء (مِنْ أَزْواجٍ) بأن تطلق بعضهن ، وتأخذ مكانها امرأة أخرى ـ كما هو
ظاهر السياق ، وقاله المفسرون ـ ووردت في بعض الروايات أن المراد أن يأخذ مما
حرمته الآية في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) وعلى هذا فالمراد تبديل نوع المحلل بنوع المحرم ، لا
تبديل الشخص بشخص آخر ، وهناك قول آخر ذكره جوامع الجامع ، قال : قيل أن
__________________
وَلَوْ
أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
____________________________________
التبدل المحرم ، هو ما كان يفعل في الجاهلية ، يقول الرجل للرجل بادلني
بامرأتك ، وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه ، ويحكى «أن
عيينة بن حصين ، دخل على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعنده عائشة من غير استئذان ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا عيينة أين الاستئذان؟ قال : يا رسول الله ما
استأذنت على رجل قط منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : هذه عائشة بنت أبي بكر «ولعله قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك خوفا ، من أن يظن به الظنون» قال عيينة : أفلا أنزل
لك من أحسن الخلق ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : قد حرم ذلك ، فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول
الله؟ فقال أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه» ! (وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَ) بأن توصف المرأة للرسول ، فتقع في قلبه لما وصف له من
حسنها ، وهذا ليس غريبا ، فقد جرت العادة أن الآباء ، أو من إليهم ، يصفون بناتهم
أمام العظماء للمشاورة في أمر نكاحهن ، أو نحو ذلك (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) بأن كانت أمة ، فإنها تحل لك ، ولعل إتيان هذه الجملة ،
مع أنها كانت مذكورة سابقا ، لئلا يتوهم ، أن «لا يحل لك النساء» قد نسخ ذلك الحكم
السابق (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) مراقبا محافظا ، فمن خالف له أمرا عاقبه وجازاه بما
عمل.
[٥٤] وبمناسبة
ذكر الرسول ، وبعض أحكامه العائلية ، يأتي السياق ليبين بعض الأحكام الخاصة به ،
وإن كان ذلك أدبا عاما بالنسبة إلى سائر
__________________
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ
فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ
____________________________________
الناس (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ولعل هذا كان بمناسبة دخول عيينة دار الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بدون الاستئذان ، وعلى أي ، فدخول دار الرسول بحاجة إلى
أن يأذن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لكم (إِلى طَعامٍ) أي دخولا لطعام أضافكم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم له (غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ) يقال أنى الطعام يأني إذا بلغ النضج في الطبخ ، أي غير
منتظرين نضجه وطبخه ، والمعنى لا تدخلوا بيت الرسول بغير إذن وقبل نضج الطعام
انتظارا لنضجه ، فيطول لبثكم ومقامكم عنده (وَلكِنْ إِذا
دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) في وقت الدعوة ، لا قبل الوقت ، كأن يذهبوا من الصباح
انتظارا لطعام الظهر (فَإِذا طَعِمْتُمْ) أي أكلتم الطعام (فَانْتَشِرُوا) أي اخرجوا وتفرقوا ، فلا تبقوا بعد الطعام في البيت
اعتباطا (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ) عطف على (غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ) أي في حال كونكم لا تبقون بعد الطعام تحدثون ليؤنس
بعضكم بعضا بحديثه (إِنَّ ذلِكُمْ) إشارة إلى ما نهى عنه في هذه الآية ، من الدخول بغير
استئذان ، أو الإسراع في الذهاب قبل نضج الطعام ، والجلوس بعد ذلك متحدثين ، و «كم»
للخطاب (كانَ يُؤْذِي
النَّبِيَ) لأن له أعمالا تنافي جلوسكم فيتأذى بجلوسكم ، كما يتأذى
بدخولكم داره بدون الإذن (فَيَسْتَحْيِي
مِنْكُمْ) في أن يجابهكم بالإخراج ، أو الزجر والنهي (وَاللهُ
لا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ
وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ
____________________________________
لا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي أنه سبحانه لا يترك إظهار الحق حياء ، نقل في المجمع
في سبب نزول الآية : «أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بنى بزينب بنت جحش وأولم عليها ، قال أنس : أو لم عليها
بتمر وسويق ، وذبح شاتا ، وبعث إلى أمي أم سليم بحيس في تور من حجارة ، فأمرني
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أن أدعوا أصحابه إلى الطعام ، فدعوتهم فجعل القوم
يجيئون ويأكلون ويخرجون ، ثم يأتي القوم ، فيأكلون ويخرجون ، قلت : يا نبي الله قد
دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه ، فقال ارفعوا طعامكم ، فرفعوا طعامهم ، وخرج القوم
وبقي ثلاث نفر يتحدثون في البيت ، فأطالوا المكث ، فقام صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقمت معه لكي يخرجوا ، فمشى حتى بلغ حجرة عائشة ، ثم
ظن أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، فإذا هم جلوس مكانهم ، فنزلت الآية» . أقول : وإن كانت الآية خاصة ، إلا أنها عامة المفاد ،
إذ ما اشتملت عليه أدب رفيع ، بالنسبة إلى عدم الدخول بلا استئذان ، وعدم الدخول
قبل الوقت ، وعدم المكث بعد الطعام ، ولذا قال بعض العلماء : هذا أدب أدّب الله به
الثقلاء (وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَ) أي سألتم نساء النبي (مَتاعاً) أي شيئا تحتاجون إليه (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ
وَراءِ حِجابٍ) بأن يكون فاصلا بين الرجل ، وبين المرأة المسؤولة ،
وهذه الآية تفيد وجوب الحجاب ، لعدم الخصوصية لنساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعدم الخصوصية في سؤال المتاع (ذلِكُمْ) أي السؤال من وراء الحجاب (أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) إذ الرؤية مثار الخواطر الشيطانية
__________________
وَما
كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ
بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣)
إِنْ
تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)
____________________________________
والوساوس النفسية ، والمراد الطهارة من الريبة والشك والوسوسة (وَما كانَ لَكُمْ) ايها المسلمون (أَنْ تُؤْذُوا
رَسُولَ اللهِ) أي لا يحق لكم أذاه بمخالفته أوامره ، أو قصد سوء
بالنسبة إلى نسائه بعد وفاته ، وهذا توطئة وتمهيد لقوله تعالى (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ) أي زوجات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد وفاته (أَبَداً) إلى آخر العمر ، فلسن كسائر النساء ، إذا انقضت العدة
جاز نكاحهن (إِنَّ ذلِكُمْ) أي الإيذاء ونكاح الأزواج بعد وفاته (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) في الإثم والعصيان ، فقد ورد أنه لما نزل قوله تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) غضب طلحة ، فقال يحرم محمد علينا نساءه ، ويتزوج هو
بنسائنا ، لئن أمات الله محمدا لنركضن ـ أي نتحركن ـ بين خلاخيل نسائه ، كما ركض
بين خلاخيل نسائنا ، فأنزل الله عزوجل (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ).
[٥٥](إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا أيها المسلمون (شَيْئاً) من هذه المنهيات على لسانكم ، بأن تقولوا نتزوج نساء
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن تقصدوه في صدوركم بدون إظهار (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيماً) يعلم ظواهركم وبواطنكم ، وسيجازيكم على ما اقترفتم من
الآثام ، وقد
__________________
لا
جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا
أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيداً (٥٥)
____________________________________
روي أن حكم تحريم زوجات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، جرى بعده فيمن لم يمسها الرسول ، ولم يدخل بها.
[٥٦] ولما نزل
قوله تعالى ، (إِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) قال الآباء والأبناء والأقارب ، ونحن أيضا نكلمهن من
وراء حجاب ـ يا رسول الله؟ ـ فأنزل الله سبحانه (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) أي لا حرج على نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (فِي) عدم التستر من (آبائِهِنَّ وَلا
أَبْنائِهِنَ) ويشملان الأجداد والأحفاد (وَلا إِخْوانِهِنَ) ولعله أعم من الأعمام والأخوال ، لأنهم إخوان الآباء
والأمهات (وَلا أَبْناءِ
إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) فلا بأس لهن أن يراهن هؤلاء الرجال ، فيما تعارف رؤيته (وَلا نِسائِهِنَ) أي النساء المؤمنات ، في قبال اليهودية والنصرانية ،
والمجوسية ، والمشركة ، فقد قالوا أنه لا يجوز التكشف لديهن ، لأنهن يصفن لأزواجهن
(وَلا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) أي الوصائف المملوكات لهن ، وإن كن غير مسلمات ، فإنهن
تحت السيطرة ، ولا مجال لهن لينقلن للكفار محاسن نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَاتَّقِينَ) يا نساء النبي (اللهَ) بترك معاصيه ، والإتيان بطاعته (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيداً) أي شاهد لا يغيب عنه شيء ، فمن أطاع أو عصى علم بما
فعل.
إِنَّ
اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ
____________________________________
[٥٧] ولما كان
الكلام حول تعظيم النبي وتوقيره ، وبعض أحكامه يأتي السياق ليبين تعظيم الله
سبحانه له والذي هو فوق كل تعظيم (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) والصلاة بمعنى العطف واللطف ، ومن المعلوم أن صلاة الله
على الرسول ، رحمته ولطفه به ، كما أن صلاة الملائكة عطفها وطلب رحمتها من الله له
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) باللفظ والعمل (وَسَلِّمُوا) عليه (تَسْلِيماً) بلفظ السلام ، والتسليم لأوامره ، سئل الكاظم عليهالسلام ، ما معنى صلاة الله ، وصلاة ملائكته ، وصلاة المؤمن؟
قال : «صلاة الله رحمة من الله ، وصلاة الملائكة تزكية منهم له ، وصلاة المؤمنين
دعاء منهم له» ، وسئل الصادق عليهالسلام كيف نصلي على محمد وآله؟ قال : «تقولون صلوات الله
وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمد وآل محمد والسلام عليه ورحمة
الله وبركاته» ، أقول : والظاهر كفاية الصيغ المعهودة اللهم صل على
محمد وآل محمد وسلم عليهم أو صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو الصلاة والسلام عليك يا رسول الله ، وعلى آلك
الطاهرين ، وأمثالها.
[٥٨] الناس
مأمورون بالصلاة والسلام على الرسول ، فما هو حال من يؤذي الرسول؟ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) بترك أوامره ، والسعي في إطفاء نوره ، وهدم أحكامه ، وإيذاء
أوليائه ، فإن الله سبحانه منزه عن أن
__________________
وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتاناً
____________________________________
يؤذى ولكن هذا من باب التشبيه (وَرَسُولَهُ) وأذية الرسول ، إما في جهة التشريع ، كما لو سعى شخص في
إبطال أحكام الرسول ، وإما في جهته الشخصية كما يؤذي بعض الناس بعضا (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) بأن بعّدهم عن الخير ، وعذّبهم ؛ أما في الدنيا فإنه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) وأما في الآخرة ، فإنه سبحانه يظهر لعنهم والبراءة منهم
(وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (عَذاباً مُهِيناً) يهينه ويذله عوض ما كان يؤذي ، وقد ورد في علي وفاطمة عليهماالسلام «إن من آذاهما فقد آذى الرسول ، ومن آذى الرسول ، فقد آذى الله» .
[٥٩](وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) باعتبار كل واحد ، كما قالوا في البلاغة : إذا قيل باع
القوم أمتعتهم بالقوم أريد به أن كل واحد باع متاعه بواحد منهم ، والأذية أعم من
اللسانية والعملية (بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا) أي من غير أن يعمل المؤمنون والمؤمنات عملا يستحقون به
الأذى ، كما لو عملوا ما يستحق الجلد ، أو الاغتياب ، أو الإرداع (فَقَدِ احْتَمَلُوا) أي الذين يؤذون (بُهْتاناً) البهتان هو الكذب على الغير ، ولعل تسمية الإيذاء
بهتانا باعتبار ، أن الإيذاء يظهر منه
__________________
وَإِثْماً
مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
____________________________________
الاستحقاق لمن يؤذي ، والحال أنه غير مستحق (وَإِثْماً مُبِيناً) أي عصيانا ظاهرا ، ومن هذا يظهر أنه كان في المدينة من
يفعل ذلك بالنسبة إلى المؤمنين ، وهذا غالبا في كل أمة نامية ، فإن هناك أفراد
يتولون أذاهم منهم ومن غيرهم.
[٦٠] وبمناسبة
تقدم الحديث عن النساء والتنصيص على حجاب زوجات الرسول في قوله (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً
فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) يأتي السياق لنص عام على وجوب التحجب على كل امرأة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْواجِكَ) أي نسائك (وَبَناتِكَ) فقد كانت للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فاطمة عليهاالسلام ولعل بعض بناته الأخر ، كانت في الحياة (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) جمع جلباب ، وهو ما كانت المرأة تجعل على رأسها ، فقد
أمرن ، بأن يقرّبن الجلبات نحو أنفسهن ، وهو الوجه والرقبة والصدر ، فإن الجلباب ،
يدنى من هذه المواضع (ذلِكَ) الإدناء للجلباب ليكون لهن زيّ خاص (أَدْنى) أي أقرب إلى (أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن عفائف نجيبات (فَلا يُؤْذَيْنَ) فإن عادة الفساق ، دائما ، حتى في زماننا هذا أن
يتعرضوا إلى المرأة المتبذلة بظهور وجهها وشعرها ، أما إذا كانت متسترة عرفت
بالستر والنجابة ، ولم يتعرض لها الفساق (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) يغفر ما يصدر منهن ، بدون تعهد وقصد ، فإن المرأة مهما
كانت محجبة ، لا بد وأن يظهر بعض مفاتنها في نادر الأوقات (رَحِيماً) يتفضل بالرحمة ـ فوق
لَئِنْ
لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ
____________________________________
الغفران ـ على المطيعات ، وإنما قال «من جلابيبهن» لأن المرأة ترخي بعض
جلبابها ، أقول : قد ذكر بعض المفسرين كلاما حول كون الآية ، إنما هي بالنسبة إلى
الحرائر ، لا الإماء ، لكن إطلاقها ، وحكمة الإسلام في الحجاب ، بأن لا تمازح
المرأة مهما كانت ، ينفيان هذا التفصيل الذي لم يعلم وجهه ، ثم أن الظاهر من
الآيات والروايات ، لزوم الحجاب بستر الوجه ، وقد كانت سيرة المسلمات ، منذ زمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم على هذا ، ولذا استثنى وجه المرأة حالة الإحرام ، إلى
غير ذلك من الشواهد ، حتى جاء الغربيون وانهزم أمامهم بعض المسلمين الأغراء ،
فقالوا : بأن الحجاب موجب لخنق المرأة ، وعدم ازدهار الحياة ، كل ذلك لإشباع
الشهوات الدنيوية ، وهناك وجدوا عملاء ينفذون الأوامر بالحديد والنار ، حتى وقعت
المرأة المسلمة ضحية هذه الأهواء ، ولم تنج من هذه الكوارث ، إلا زمرة قليلة من
الصالحات ، والله غالب على أمره.
[٦١] ثم هدد
سبحانه الذين يؤذون الرسول والمؤمنين ، والذين كانوا يتعرضون للمؤمنات بأنهم إن لم
يتركوا أعمالهم ، أمر الرسول بتأديبهم (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنافِقُونَ) أي لئن لم يمتنع المنافقون عن الإيذاء والتعرض (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهو ضعف إيمان ، يسبب أن يخالف بعض الأوامر ، وإن لم
يكن منافقا ، فمثلا قد يكون الشخص يشرب الخمر ، لأنه منافق ، لا يعتقد بالرسول
إطلاقا ، وقد يكون معتقدا بالرسول ، لكنه يجد الشرب ، فيشرب لا النفاق ، بل لعدم
مبالاة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ) يقال أرجف إذا دبّر المكائد ، ونشر
لَنُغْرِيَنَّكَ
بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠)
مَلْعُونِينَ
أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
____________________________________
الأكاذيب ، لأنه يوجب بعمله تزلزل الناس ورجفهم ، والمرجف يمكن أن يكون غير
الأولين ، باعتبار أنه يحب نشر الأخبار ، وتتبع الآثار ، كما يشاهد الإنسان في كل
مجتمع هذه الألوان الثلاثة من الناس (لَنُغْرِيَنَّكَ) يا رسول الله (بِهِمْ) والإغراء تسليط الشخص على غيره ليؤذيه ويهينه ويعاقبه ،
يقال أغرت الحكومة الشرطة على فلان وبفلان ، إذا أمرتهم بمعاقبته ومطاردته ،
والمراد نسلطك يا رسول الله عليهم ، ونأذن لك في عقابهم (ثُمَ) إذا أغريناك بهم ، لم يطيقوا العقاب ، وصاروا مضطرين
للهروب من المدينة (لا يُجاوِرُونَكَ
فِيها) أي لا يبقون بجوارك في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمانا قليلا.
[٦٢] ثم بيّن
بعض أنواع الإغراء بقوله (مَلْعُونِينَ) أي في حال كونهم يلعنون ويطردون (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي في كل مكان وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا
تَقْتِيلاً) فلا يبقى أحد منهم سالما من الطرد والقتل ، والإتيان
بباب التفصيل ـ الدال على التكثير ـ باعتبار قتلهم جميعا ، وإبادتهم كل فرد فرد.
[٦٣](سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر أي سن الله ذلك سنة ، والمراد أن أخذ
المنافقين المرجفين وأمثالهم من سنن الله وطرائقه (فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي مضوا سابقا فقد كان سبحانه يأمر الأنبياء بمطاردة
المنافقين والمرجفين (وَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لِسُنَّةِ اللهِ
تَبْدِيلاً) فإنه سبحانه
يَسْئَلُكَ
النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً
(٦٣) إِنَّ
اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً
لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥)
____________________________________
يسنّ الطريقة الصالحة للناس ، ويستمر عليها فلا يغيرها ، ولا يبدلها.
[٦٤] وإذ بيّن
سبحانه ، ما أعد للكافرين والمنافقين ، الذين يؤذون الله ورسوله والمؤمنين في
الدنيا من اللعنة والطرد والقتل ، عطف السياق ، نحو ما أعدّ لهم في الآخرة ، مع
ذكر ما يرتبط بذلك من وقت القيامة ، فإنها لما كانت بعيدة عن الأذهان ، كانوا
يكثرون السؤال عنها ، فقال سبحانه (يَسْئَلُكَ) يا رسول الله (النَّاسُ عَنِ
السَّاعَةِ) أي القيامة؟ (قُلْ) يا رسول الله لهم (إِنَّما عِلْمُها) أي العلم بوقت وقوعها (عِنْدَ اللهِ) سبحانه ، فهو وحده يعلم وقتها (وَما يُدْرِيكَ) أيّ شيء يدريك ويعلمك يا رسول الله عن وقت قيامها ،
وهذا كناية عن أنك لا تدري (لَعَلَّ السَّاعَةَ
تَكُونُ قَرِيباً) فإن الشيء المجهول وقته يحتمل قربه وبعده ، وهذا تسلية
للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كما هو تهديد للكفار.
[٦٥](إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) أي بعدهم عن الخير ، فإن اللعن بمعنى الطرد ، والتبعيد
عن الخير (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (سَعِيراً) نارا تسعر وتلتهب.
[٦٦] في حال
كونهم (خالِدِينَ فِيها) أي في النار ، فلا يزولون عنها ، ولا تزول عنهم (أَبَداً) دائم الزمان (لا يَجِدُونَ
وَلِيًّا) يلي أمورهم حتى يخلّصهم من النار (وَلا نَصِيراً) ينصرهم على الله سبحانه وعلى عذابه.
يَوْمَ
تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا
إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧)
رَبَّنا
آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
____________________________________
[٦٧] ذلك
الإعداد والخلود إنما هو ، في (يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) التقليب ، تصريف الشيء في الجهات ، فإن أهل النار
ينقلون وجوههم في الجهات الست ، تخلصا من الحرّ وتطلبا للنجاة ، كالذي يقع في
مشكلة كيف يقلب وجهه هنا وهناك ليجد ملاذا ومعاذا (يَقُولُونَ) بتأسف وتمني (يا لَيْتَنا
أَطَعْنَا اللهَ) فيما أمرنا (وَأَطَعْنَا
الرَّسُولَا) في الدنيا حتى لا نبتلي بهذا العذاب المقيم.
[٦٨](وَقالُوا) أي الأتباع الذين اتبعوا رؤساءهم الكافرين ، يا (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا) في الكفر والعصيان (سادَتَنا) جمع سيد ، وهو كبير القوم (وَكُبَراءَنا) جمع كبير ، وكأن السيّد أجلّ قدرا من الكبير ، أو
المراد بالكبير ، الأكبر سنا ، وبالسيد الأعلى رتبة (فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلَا) أي حرّفوا بنا عن الطريق.
[٦٩](رَبَّنا آتِهِمْ) أي اجعل لهم (ضِعْفَيْنِ مِنَ
الْعَذابِ) أي نصيبين نصيبا لضلالهم ، ونصيبا لإضلالهم إيانا ، وهم
يريدون بذلك الانتقام منهم ، حيث أوقعوهم في هذه المشكلة العظيمة (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي اطردهم من رحمتك طردا كبيرا حتى يبتعدوا عن رضاك
بعدا زائدا ، وهذا بالنسبة إلى العذاب الروحي ، والأول بالنسبة إلى العذاب الجسمي.
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ
اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
____________________________________
[٧٠] وحيث تقدم
أذى بعض المسلمين للرسول كما قال سبحانه (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ) صلىاللهعليهوآلهوسلم عطف السياق عليهم ناهيا ومؤدّبا في مثال وقصة عن الأمم
السابقة ، ليكون أدخل في الذهن (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا) في إيذائكم للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (كَالَّذِينَ آذَوْا
مُوسى) النبي عليهالسلام (فَبَرَّأَهُ اللهُ
مِمَّا قالُوا) أي أظهر الله براءته عليهالسلام ، مما قال فيه بنو إسرائيل على وجه الإيذاء له (وَكانَ) موسى (عِنْدَ اللهِ
وَجِيهاً) أي ذا جاه وعظمة ، فلم يكن يتركه نهب أذى بني إسرائيل ،
فقد ورد عن علي عليهالسلام «أن موسى وهارون صعدا الجبل ، فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل أنت قتلته ،
فأمر الله الملائكة فحملته ، حتى مروا به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بموته
، حتى عرفوا أنه قد مات ، وبرأه الله من ذلك» .
[٧١](يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ) خافوا عقابه ، وامتثلوا أوامره ونواهيه (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي تكلموا بالصواب ، لا بالإيذاء ، والإفساد.
[٧٢] فإنكم إن
فعلتم ذلك (يُصْلِحْ لَكُمْ) الله (أَعْمالَكُمْ) باللطف عليكم حتى تستقيموا ، فإن الإنسان إذا واظب مدة
على الطاعة ، وضبط النفس ، استقامت أعماله عن الانحراف والزيغ والفساد (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)
__________________
وَمَنْ
يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)
إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً
جَهُولاً (٧٢)
____________________________________
السابقة ، فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) فيما يأمران به وينهيان عنه (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي أفلح أعظم أقسام الفلاح ، فإنه يفوز بخير الدنيا
وسعادة الآخرة.
[٧٣] إن
الإيمان أمانة في عنق الإنسان ، يجب عليه أن يردّ هذه الأمانة سالمة ، بلا أن
يشوبها ، بخيانة الكفر والعصيان ، ولقد كانت هذه الأمانة ثقيلة ، بحيث أن أضخم
المخلوقات لا تتحمل أن تقبلها ، أما الإنسان الضعيف ، فقد قبلها ، لكنه يخون بها
لظلمه وجهله (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ) أمانة الإيمان (عَلَى السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) ليقبلوها ، بأن توضع عندها أمانة الإيمان فيتحفظون
عليها (فَأَبَيْنَ) هذه الأشياء وامتنعن (أَنْ يَحْمِلْنَها) أي يحملن الأمانة ويقبلنها (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن إن قبلوا الأمانة أن يخونوا فيها (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) قبلها لما عرضت عليه لكنه هل يؤدي الأمانة كما قبل؟ كلا
(إِنَّهُ) أي أن الإنسان (كانَ ظَلُوماً) كثير الظلم (جَهُولاً) كثير الجهل ، فتارة يخون فيها لجهله ، وأخرى يخون فيها
لعصيانه ، وهذه الآية كناية عن صعوبة التحفظ على الإيمان ، فقد اعتاد البلغاء أن
يشبهوا الأشياء المعنوية بالأمور الحسية ، للتقريب من الذهن ، قالت فاطمة عليهاالسلام.
صبت عليّ
مصائب لو أنها
|
|
صبت على
الأيام صرن لياليا
|
__________________
لِيُعَذِّبَ
اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
____________________________________
وقال الشاعر :
ولو أن ما بي
من شديد رزية
|
|
على جبل قد
ساخ في الأرض ذاهبا
|
وقال :
لو كان في
الجبل الأصم سروره
|
|
رقصت له
أحجاره البرش
|
ويحتمل بعيدا
أن يكون الكلام على الحقيقة ـ لا المجاز ـ بأن عرضت الأمانة على هذه الأشياء ، هل
يقبلنها؟ فأبين ، قال في الصافي : المراد بالأمانة التكليف ، وبعرضها عليهن النظر
إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل
الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا ، لما غلب عليه من القوة الغضبية
والشهوية ، وهو وصف للجنس باعتبار الأغلب ، أقول : وعلى هذا المعنى ، فما ورد في الأحاديث من
كونها ولاية علي عليهالسلام ، أو نحوها ، فالمراد بيان بعض المصاديق.
[٧٤] وإنما عرض
سبحانه على الإنسان ليقبلها ـ فإن حمل الإنسان لها ـ لم يكن إلا بعد العرض والقبول
، وليجري الامتحان ، ويصح الثواب والعقاب ، كما يقول مدير المدرسة : إنما جعلت
الامتحان لأرفع الناجحين وأطرد الراسبين (لِيُعَذِّبَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) وإنما قدمهم على المشركين ، لأن الكلام فيهم ، حيث
كانوا يؤذون
__________________
وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
____________________________________
الرسول ويرجفون (وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكاتِ) الذين ضيعوا الأمانة بالكفر والعصيان (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) فإنهم حين كانوا كفارا ـ قبل الإسلام ـ كان الله معرضا
عنهم ، فإذا قبلوا الإيمان ، وقاموا بشرائطه تاب الله ـ أي رجع سبحانه بلطفه ـ عليهم
(وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) للذنوب (رَحِيماً) يتفضل على المؤمنين بسابغ نعمه ، علاوة على غفرانه
ذنوبهم.
(٣٤)
سورة سبأ
مكيّة / آياتها (٥٥)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «سبأ» وقصة القوم الذين كانوا ساكنين فيها ، وهي
بلدة في يمن ، وهي كسائر السور المكية ـ غالبا ـ مشتملة على أصول العقيدة ، وبعض
القصص التي تقوي هذا الجانب ، ولما ختم الله سبحانه سورة الأحزاب بعاقبة الكافر
والمؤمن ، بدأ هذه السورة ، بأن له تعالى ، ما في الكون ابتداء وإعادة.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله سبحانه المتجمع لجميع الكمالات ، فإن
الله علم للذات الواجب وجوده المتجمع لجميع الكمالات ، وهذا هو سر تخصيص اسم الله
بالتقديم ، والاستعانة باسمه ، لا به ، تعظيما وتأدبا ، كأن الله سبحانه أجل من أن
يستعان به ، بل اللازم أن يستعان باسمه ، وذكر صفة الرحمة لأنها أكثر الصفات
احتياجا ، كما قال سبحانه «ولذلك ـ أي للرحم ـ خلقهم».
الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ
فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ
فِيها وَهُوَ
____________________________________
[٢](الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي أن جنس الحمد له سبحانه ، إذ جميع المحامد راجعة
إليه (الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) «له» بالخلق ، والملك والتربية ، وغيرها ، والمراد الظرف والمظروف ، وإنما
يذكر أحدهما تغليبا واختصارا (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ) كما له الحمد في الأولى ، والمعنى أنه يستحق الحمد هنا
وهناك ، لما يولي عباده من الجميل في الدارين ، ولذا يقول أهل الجنة «الحمد لله
الذي هدانا لهذا» و «الحمد لله الذي صدقنا وعده» (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله ، والحكمة هي وضع الأشياء مواضعها
اللائقة بها تكوينا وتشريعا ، فمن يصنع عبثا أو يأمر عبثا لم يكن حكيما (الْخَبِيرُ) العالم المطلع على الأشياء ، فكل ما يعمل إنما هو عن
علم وحكمة.
[٣](يَعْلَمُ) سبحانه (ما يَلِجُ فِي
الْأَرْضِ) الولوج الدخول ، أي يعلم ما يدخل في الأرض ، من مطر ،
أو كنز أو ميت ، أو حبة ، أو ماء ، أو مائع ، أو غيرها (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من زرع ، أو عين ، أو نبات ، أو جواهر ، أو حيوان ، أو
غيرها (وَما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ) من مطر أو رزق ، أو ملك أو شيطان ، أو جسم كالنيازك أو
طير ، أو غيرها (وَما يَعْرُجُ) أي يصعد (فِيها) أي في السماء من ملك ، أو شيطان ، أو طير ، أو عمل ، أو
نحوها ، فإن المراد بالسماء جهة العلو (وَهُوَ
__________________
الرَّحِيمُ
الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ
الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي
الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)
____________________________________
الرَّحِيمُ) بعباده ، وسائر خلقه (الْغَفُورُ) يغفر ذنوبهم ويستر عيوبهم.
[٤] فالكون إذن
كله بيده ، ورهن إشارته ، وبقدرته سبحانه ، جعل المعاد ، كما بقدرته خلق الخلق (وَ) مع ذلك يرى الناس من ابتداء الخلقة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وأنكروا البعث (لا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ) من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، يعني لا قيامة أصلا
حتى تأتينا (قُلْ) لهم يا رسول الله (بَلى) تأتيكم (وَرَبِّي) أي وحق الله الذي أوجدني وخلقني (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) القيامة بكل تأكيد ، وليس الحاكم هناك كالحكام هنا
أناسا لا يعلمون ما صدر من المحكومين ، بل الحاكم هناك (عالِمِ الْغَيْبِ) يعلم كل ما غاب عن الحواس ، فكيف بالأشياء الظاهرة
البارزة؟ (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) الغروب ، كالغروب لفظا ومعنى ، أي لا يفوته (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي ما كان في الثقل بقدر الذرة ، وهي الهباءة ، التي
ترى إذا دخلت الشمس في مكان مظلم من كوّة صغيرة (فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ) فإنه عالم بكل ذلك (وَلا أَصْغَرُ مِنْ
ذلِكَ) من مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ
مُبِينٍ) أي كتاب واضح لديه سبحانه ، وهذا كناية عن علمه بذلك
كله مع تفنن في تعبير العلم ب ـ لا يغرب ـ مرة ، وب ـ في كتاب ـ أخرى ، والمراد
بالكتاب إما اللوح ، أو علمه سبحانه تشبيها ، أو ما يكتبه الملائكة الحفظة.
لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
وَيَرَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ
____________________________________
[٥] وإنما تأتي
الساعة ، وتقوم القيامة (لِيَجْزِيَ) الله (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بما يستحقونه من الإيمان بالله ، والعمل الصالح حسب
أمره (أُولئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، و «مغفرة» مصدر ميمي بمعنى الغفران (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) والمراد بالرزق كل نعمة ينعم الإنسان بها من جنة ،
ومأكل وغيرها ، والمراد بالكريم كونه خاليا عن الفساد ، والأذية ، أو أنه مع كرامة
وتعظيم.
[٦] وليجزي
الذين كفروا وعملوا السيئات بما يستحقونه من العذاب (وَالَّذِينَ سَعَوْا
فِي آياتِنا) أي عملوا بجهدهم في إبطال آياتنا وحججنا (مُعاجِزِينَ) في حال كونهم مريدين أن يعجزونا ، فلا نتمكن من إظهار
الدين ونشره في الآفاق ، وإنما جيء من باب المفاعلة ، لأن كلّا من الطرفين ، يريد
تعجيز الآخر عن تنفيذ مبدئه ومرامه (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) وهو العذاب السيئ (أَلِيمٌ) مؤلم موجع.
[٧] إن الكفار
يرون أن القرآن باطل وأن الرسول ليس بحق ، ولذا يسعون لإحباط عمله وتعجيزه عن
القيام بمهمته (وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أعطوا العلم بالله ، وبالحقائق ، والمراد العلماء
الذين يدركون الأشياء (الَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) مفعول «يرى» والمراد به «القرآن» (مِنْ رَبِّكَ) متعلق بالذي ، ومن تتمة المفعول الأول (هُوَ الْحَقَ) مفعول
وَيَهْدِي
إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
(٧)
أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ
____________________________________
ثان ، ليرى أي أنهم يرون ويعلمون ، أن القرآن حق من جانب الله سبحانه ،
وليس مختلفا ، كما يقول الكفار (وَ) يرون أنه (يَهْدِي) ويرشد (إِلى صِراطِ) الله (الْعَزِيزِ) الغالب سلطانه (الْحَمِيدِ) الذي هو محمود في جميع أفعاله ، فهو من قبل مالك
السماوات والأرض ، وإنه للصلاح والرشاد ، إذ منزله الله الحميد الذي يستحق الحمد
بكل ما يفعل ـ لحسنه وكونه صلاحا ـ.
[٨] لقد ألمع
إلى التوحيد والرسالة والقرآن ، ثم جاء دور المعاد (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بالله وأنكروا المعاد ، قال بعضهم لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ) ونرشدكم ونريكم (عَلى رَجُلٍ) يعنون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (يُنَبِّئُكُمْ) ويخبركم أنه (إِذا مُزِّقْتُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي متم وصرتم أجزاء ممزقة مقطعة بعضها عن بعض ، بجميع
أنواع التمزيق (إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يقول لكم إنكم تخلقون بهذه الصورة من جديد ، حتى
تكونوا كما كنتم؟ وقد كان هذا استفهاما استهزائيا ، يريدون بذلك استبعاد الأمر.
[٩] ثم أخذوا
يرددون بين أنفسهم ، وينسبون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هذه الأمور (أَفْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً) أي هل أنه في كلامه هذا مفتري على الله ، فالله سبحانه
لم يبعثه ، ولم يقل له ذلك ، وإنما هو ينسب إلى الله ذلك كذبا؟ (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون ، ويسمى زوال العقل جنونا لأن المرض يستر العقل؟
ومرادهم أنه لا يخلو أن يكون إما عاقل كاذب ، أو مجنون
بَلِ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ
نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ
السَّماءِ
____________________________________
لا يشعر ما يقول ، ثم رد الله سبحانه عليهم بأنه صادق عاقل ، فليس الأمر
كما قالوا (بَلِ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) المتعجبون من قول الرسول (فِي الْعَذابِ) هناك (وَالضَّلالِ
الْبَعِيدِ) هنا ، فقد أثبت لهم أمرين ، كما أنهم أثبتوا للرسول أحد
أمرين ، والمراد أن ضلالهم وانحرافهم عن الطريق بعيدا جدا ، لا كالعاصي الذي هو
ضال ، ولكنه قريب إلى الطريق.
[١٠] إنهم كيف
يستبعدون المعاد ، وهم يرون الخلق العظيم أمامهم من قدرة الله ، وهم يعلمون أنه
سبحانه إن يشأ أن يعذبهم لتمكن من ذلك؟ فمن له قدرة على ذلك ، كيف لا يكون له
اقتدار على إعادة الأجساد؟ (أَفَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار ، والاستفهام إنكاري (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما في قدامهم (وَما خَلْفَهُمْ مِنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ) المحيطة بهم ، والإتيان بهذين الجانبين كناية عن
الإحاطة ، فإن الإنسان مهما نظر أمامه ، أو خلفه رأى السماء الرفيعة ، والأرض
المنبسطة (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ
بِهِمُ الْأَرْضَ) بأن تفور الأرض ، وهم عليها في الأعماق (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) أي قطعا ، جمع كسفة بمعنى القطعة ، أي نسقط عليهم قطعات
(مِنَ السَّماءِ) لتهلكهم ، فإن الأنجم أراضي كبيرة وسيعة ربما بلغت
بعضها أكثر من مليون مرة
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ (١٠)
____________________________________
كبرا من الأرض ، فإذا شاء سبحانه أسقط على البشر قطعا منها حتى تهلكهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي يرون من السماء والأرض ، وما يعلمون من قدرتنا على
إهلاكهم بالخسف أو الإسقاط (لَآيَةً) دليلا واضحا على قدرة الله سبحانه على بعث الإنسان بعد
موته (لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ) قد أناب ـ أي رجع ـ إلى الله سبحانه عن كفره وعصيانه ،
فإنه هو الذي يستفيد بهذه الآية ، أما الكافر العاصي ، فلا يستفيد منها ، بل يزداد
عنادا وعتوا.
[١١] وكيف ينكر
هؤلاء قدرتنا ، وقد كان لبعض عبيدنا قدرة هائلة ، فداود كان يتصرف في الجبال
والحديد ، وسليمان كان يتصرف في الهواء ويسخر الجن؟ ولعل الأمر كان معروفا لدى
كفار مكة ، بواسطة إخبار أهل الكتاب لهم ، فكان من الممكن الاستدلال لعظيم القدرة
، بما يصدر من هؤلاء الأنبياء العظام (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (داوُدَ) النبي عليهالسلام (مِنَّا) من طرفنا ، لا بكسب كسبه أو علم يعلمه (فَضْلاً) زيادة على سائر الناس من الإنعام والإكرام ، فقد قلنا
للجبال (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) «آب» بمعنى رجع ، أي ارجّعي صوت التسبيح مع داود ، فكان إذا سبّح عليهالسلام ، سبّحت الجبال معه (وَالطَّيْرَ) أي يا طير أرجع مع داود في التسبيح ، فقد كان داود عليهالسلام ، إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور ، وتسبح الجبال والطير معه ، والوحوش ،
وإنما قال «أوّبي» لأنها كانت كالطفل الذي يرجع الصوت بعد سماعه (وَأَلَنَّا) من ألانه (لَهُ الْحَدِيدَ) أي كان الحديد ليّنا في يده كالشمع ، فكان يعمل منه
الدروع.
أَنِ
اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ
____________________________________
[١٢] وقد قلنا
لداود عليهالسلام (أَنِ اعْمَلْ) بالحديد دروعا (سابِغاتٍ) جمع سابغة ، بمعنى التامة الوسيعة ، ومنه سبوغ النعمة
بمعنى وسعتها (وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) أي عدّل في نسج الدروع ، فإن السرد هو نسج الدرع مأخوذ
من سرد في الكلام إذا تابع بعض جمله بعضا ، والمراد بالتقدير جعل حلق الدرع
متناسبة بقدر وشبه ، فلا تكون بعضها وسيعة ، وبعضها ضيقة ، روي عن الصادق عليهالسلام : «أن الله أوحى إلى داود ، نعم العبد أنت ، إلا أنك
تأكل من بيت المال ، فبكى داود أربعين صباحا ، فألان الله له الحديد ، وكان يعمل
كل يوم درعا ، فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستين درعا ، فباعها بثلاثمائة
وستين ألفا ، فاستغنى عن بيت المال» (وَاعْمَلُوا) خطاب لداود وآله (صالِحاً) أي عملا صالحا ، والمراد به الجنس (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أرى أعمالكم فأجازيكم عليها.
[١٣](وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ) بن داود عليهالسلام (الرِّيحَ) فكان يجلس على بساط ، فتحمله الريح ، فإن الشيء إنما
يسقط ، لأن الهواء والريح تنخرق من تحته ، أما كبت الهواء بعضه في بعض كالهواء
المكبوس في الزق ، لم تنخرق حتى يسقط ما يعلوها (غُدُوُّها) أي حركة الريح في الغدوة ، وهو الصباح (شَهْرٌ) فإذا تحركت بسليمان صباحا ، سارت به مقدار ما يسير
الإنسان في مدة شهر هلالي (وَرَواحُها شَهْرٌ) أي
__________________
وَأَسَلْنا
لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ
رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ
(١٢) يَعْمَلُونَ
لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ
____________________________________
وكانت تسير بسليمان عصرا ، مقدار شهر من الزمان ، فكانت في كل يوم تسير
مقدار شهرين (وَأَسَلْنا) من الإسالة بمعنى الإذابة ، حتى يكون للشيء سيلان
كالمائعات (لَهُ) أي لسليمان عليهالسلام (عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أذبنا له عين النحاس ، والمراد بالعين معدنه حتى
يتمكن من استعماله في الظروف والأواني ، وما أشبه من الأشياء النحاسية (وَ) سخرنا لسليمان عليهالسلام (مِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) كالعبد المطيع (بِإِذْنِ رَبِّهِ) فقد أمر الله سبحانه الجن ، أن تكون مسخرة بأمر سليمان
تعمل في حوائجه (وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ) من زاغ إذا انحرف وعصى ، أي من كان يعصي من الجن (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناهم به من إطاعة سليمان ، فلم يكن يطيعه فيما
يأمر (نُذِقْهُ) أي نذق ذلك الجن العاصي (مِنْ عَذابِ
السَّعِيرِ) أي عذاب الدنيا ، بأن كان سليمان يؤدبه ، وسمي سعيرا
تشبيها ، أو من عذاب النار في الآخرة ، وسمي سعيرا ، لاستعار النار واشتعالها.
[١٤](يَعْمَلُونَ) أي الجن (لَهُ) أي لسليمان عليهالسلام (ما يَشاءُ) صنعه وعمله (مِنْ مَحارِيبَ) جمع محراب ، ولعل المراد بها المساجد ، وإنما سمي
محرابا ، لأنه محل المحاربة مع الشيطان والنفس (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال ، وهو الشيء المصنوع ، من معدن ، أو طين ، أو
حجر ، أو خشب ، شبه شيء آخر ، كتماثيل القصور والأشجار والأنهار وغيرها ، قال
الصادق عليهالسلام : «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها
وَجِفانٍ
كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
____________________________________
الشجر وشبهه» (وَجِفانٍ) جمع جفنة ، وهي جفنة الطعام (كَالْجَوابِ) أصله «الجوابي» جمع «جابية» كالروابي جمع رابية ،
والمراد بها الحياض الكبار ، وسمى الحوض جابية لأنها تجمع فيها الماء ، ومنه يسمى
الذي يجمع الضرائب والأموال «جابي» وإنما كانوا يصنعون له مثل هذه الظروف الكبار ،
حتى تصلح لطعام جيش سليمان عليهالسلام ، وقد قال بعض : أنه كان يجتمع حول كل جفنة ألف رجل
يأكلون منها (وَقُدُورٍ) جمع قدر ، وهو ما يطبخ فيه الطعام (راسِياتٍ) جمع راسية بمعنى الثابتة في الأرض ، فإن القدر الكبير ،
الذي يراد دوام الطبخ فيه ، يبنى في الأرض ، حتى لا يزول ، ولا يتحرك ، وقلنا
لسليمان ، وسائر أهل بيته (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) أي يا آل داود (شُكْراً) فإن الشكر قد يكون بالقلب ، وهو أن يعترف الإنسان في
قلبه ، بأن الإحسان من الله سبحانه ، وقد يكون باللسان ؛ كأن يقول «الشكر لله» وقد
يكون بالعمل بأن يصلي ويصوم ، ويأتي ، بسائر الواجبات ، ويترك سائر المحرمات ، فإن
الشكر هو المظهر للجميل الاختياري ، الذي يأتي به أحد تجاه الإنسان (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) «الشكور» صفة مشبهة ، بمعنى من تكرر منه الشكر ، أي أن العباد الشاكرين لله
، فيما أنعم عليهم قليلون ، وكأن الإتيان بهذه الجملة لتأكيد أن يشكروا ، فإن
الإنسان إذا علم قلة من على شاكلته في أمر قوي عزمه للعمل أكثر ممن يعلم كثرة
أعوانه وأمثاله.
__________________
فَلَمَّا
قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
____________________________________
[١٥] وقد استمر
سليمان في ذلك الجلال والملك ، حتى جاءه الموت (فَلَمَّا قَضَيْنا) أي حكمنا (عَلَيْهِ) أي على سليمان عليهالسلام (الْمَوْتَ) كان قد اتكى على عصاه في قبة ، وهو ينظر إلى الجن كيف
يصنعون له ، إذ حانت منه التفاتة ، فإذا هو برجل معه في القبة ، ففزع منه ، فقال
له : من أنت؟ قال : أنا الذي لا أقبل الرشا ، ولا أهاب الملوك ، أنا ملك الموت ،
فقبض روحه ، وهو متكئ على عصاه ، فمكثت الجن ، تدأب في العمل ، ولما كانوا رأوا من
سليمان العجائب ، ظنوا أنه واقف ، ولكنه لا يتحرك لحكمة وعلة ، حتى بعث الله عزوجل الأرضة ، ف (ما دَلَّهُمْ) أي أرشدهم وأعلمهم (عَلى مَوْتِهِ) أي موت سليمان عليهالسلام (إِلَّا دَابَّةُ
الْأَرْضِ) أي الأرضة ، فأخذت (تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ) وتنخر فيها ، فوقع سليمان على الأرض ، وقد كان آصف وصيه
يدبّر أمر الملك في مدة موته واتكائه (فَلَمَّا خَرَّ) أي فلما سقط سليمان ، بعد ما وهت عصاه ، بفعل الأرضة
فتكسرت ، لثقل جسم سليمان عليها (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي علمت الأجنة ، وإنما أوتى بالفعل مؤنثا ، باعتبار أن
المراد ب «الجن» الجنس ، فهي بمعنى الجماعة (أَنْ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) أي ما غاب عن الحواس ـ فقد كانت الجن تزعم ، أنها تعلم
الغيب ، لما كانت تعلم بعض ما لا يعلمه الإنس من الأشياء البعيدة الخفية ـ (ما لَبِثُوا) وبقوا تلك المدة التي مات فيها سليمان متكئا على عصاه (فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي في شدة العمل وتعبه الذي يهينهم ويذلّهم فإن العمل
كان عذابا عليهم ، وشدة لهم.
لَقَدْ
كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا
مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)
فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ
____________________________________
[١٦] وإذ تمت
قصة داود وسليمان عليما السّلام أتى السياق ، لبيان قصة قوم سبأ ، وما وصلت إليه
حالتهم لأجل كفرانهم للنعمة ، في مقابل ما سبق من قصة داود وسليمان ، وآلهما ، وما
وصلت إليه حالتهم لأجل شكرهم للنعمة (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) أي لتلك القبيلة المسماة باسم سبأ ، التي كانت تسكن في
جنوبي اليمن ، كان لهم في محل سكناهم آية دالة على لطف الله وفضله ، فقد ارتقى
القوم ، في مراقي الحضارة ، حتى تمكنوا أن يصنعوا من بعض الجبال ، خزانا كبيرا من
الماء ، بإقامة سدّ ، يسمى «سد مأرب» أمام الماء ، فكان يسقي أراضيهم ، حتى أن
المار إليهم ، يرى في الطريق بساتين متصلة ، وقد فسر سبحانه «آية» بقوله (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي يمين الماء وشماله ، وقيل لهم (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) الأمر للإباحة ، أي أبحنا لكم هذا الرزق الطيب العميم (وَاشْكُرُوا لَهُ) أي لله سبحانه ، فبلدتكم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) كثيرة الفواكه والأرزاق طيبة الماء والهواء (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي أن إلهكم إله يغفر الذنوب ، ويستر العيوب.
[١٧](فَأَعْرَضُوا) عن الدين ، وانحرفوا في طرق الضلال (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ) واحدهما عرمة مأخوذة من عرامة الماء ، وهي ذهابه كل
مذهب ، أي السيل العظيم الشديد ، وقد قال بعض المفسرين : «إن الماء كان يأتي أرض
سبأ ، من أودية اليمن ، وكان هناك جبلان ، يجتمع ماء المطر والسيول بينهما ، فسدوا
ما بين الجبلين ، فإذا احتاجوا إلى الماء
وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ
سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)
____________________________________
نقبوا السدّ ، بقدر الحاجة ، فكانوا يسقون زروعهم وبساتينهم ، فلما كذبوا
رسلهم ، وتركوا أمر الله ، بعث الله جرذا نقب ذلك الردم ، وفاض الماء عليهم ،
فأغرقهم» (وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ) أي عوضا عن الخصب الذي كان لهم المكنى عنه بالجنتين عن
اليمين والشمال (جَنَّتَيْنِ) من شكل آخر ، وهذا من باب الازدواج في الكلام نحو ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (ذَواتَيْ) تثنية ذات (أُكُلٍ خَمْطٍ) «أكل» اسم للثمرة مهما كانت ، و «خمط» كل شجر له شوك ، والمراد مرّ بشع ،
وذلك شجرة أم غيلان ، التي تنبت في الصحاري القاحلة (وَأَثْلٍ) الطرفاء (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ) هو النبق (قَلِيلٍ) فقد كان الخمط والأثل ، أكثر منه ، وهذا دليل على عدم
الماء والزرع والحضارة ، حتى بقيت الصحاري يباسا ، لا تنبت ، إلا نباتات الصحراء ،
التي لا ينتفع بها إلا قليلا.
[١٨](ذلِكَ) السيل العرم والتبديل (جَزَيْناهُمْ بِما
كَفَرُوا) أي بسبب كفرهم (وَهَلْ نُجازِي) بمثل هذا الجزاء السيئ (إِلَّا الْكَفُورَ) استفهام معناه النفي ، أي لا نجازي بمثل هذا الجزاء إلا
لمن كفر النعمة ، ولم يشكر.
__________________
وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا
فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨)
فَقالُوا
رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا
____________________________________
[١٩](وَ) قد كان من قصة قوم سبأ ، قبل أن يكفروا النعم ، أن (جَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي بين بلادهم في اليمن (وَبَيْنَ الْقُرَى
الَّتِي بارَكْنا) أي الشام التي باركنا (فِيها) مبعث الأنبياء عليهمالسلام ، وطيب الهواء وكثرة الزراعة والفواكه (قُرىً ظاهِرَةً) أي متظاهرة متواصلة في عرض الطريق ، فقد كان متجرهم من
أرض اليمن إلى الشام ، وكانوا يبيتون بقرية ، ويقيلون بأخرى ، حتى يرجعوا في أمن
ودعة وسلام ، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبأ إلى الشام ، وكانت القرية ترى
من القرية التي قبلها لظهور بعضها على بعض وقرب أحدها من الأخرى (وَقَدَّرْنا فِيهَا) أي في تلك القرى (السَّيْرَ) أي جعلناه مقدرا ممكنا للأمن والسلامة ، وسهولة الطريق
، أو المعنى كان بين كل قرية وقرية بقدر مسير نصف يوم ، وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها) أي في هذه الطريق أو في تلك القرى (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) فلا خوف ، ولا صعوبة سواء سرتم ليلا أو نهارا (آمِنِينَ) من كل خطر ونصب ، وجوع وعطش.
[٢٠] ولكنهم لم
يشكروا هذه النعم العظيمة ، ولم يسمعوا كلام الله وأوامره ، بل بغوا وبطروا (فَقالُوا) يا (رَبَّنا باعِدْ
بَيْنَ أَسْفارِنا) فقد مللنا من الأسفار القصيرة بين القرى المتقاربة التي
لا يرى فيها الصحراء ، ولا نتمكن من ركوب الرواحل ، وتجهيز القوافل ، فإنا نريد
الصحاري القاحلة «لنلتذ لذة السفر» ، وهذا كما بطرت اليهود النعمة فقالوا : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها
وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)
____________________________________
وَعَدَسِها
وَبَصَلِها) (وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب الكفر والمعاصي ، فأخذناهم بكفرهم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ويضربون بهم المثل ،
فيقولون «تفرقوا أيادي سبأ» إذا أرادوا أن يبينوا تشتت جماعة أكبر تشتت (وَمَزَّقْناهُمْ) أي فرقناهم (كُلَّ مُمَزَّقٍ) كل تفريق ، وذلك تشبيه بالثوب الذي يمزق في مختلف
جوانبه ، فقد تفرق أهل سبأ في مختلف البلاد ، وذهبت نعمهم جميعا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من قصة قوم نعمتهم وكفرهم ونقمتهم (لَآياتٍ) دالة على الأسباب والعلل ، لترقي الأمم وانحطاطها (لِكُلِّ صَبَّارٍ) كثير الصبر (شَكُورٍ) كثير الشكر ، فإن من يصبر عند البلاء ويشكر عند الرخاء
، يعرف سبب النعمة والنقمة ، ويعرف كيف يعالج النعم للبقاء ، وكيف يواجه بالصبر
البلاء ، أما غيره ، فإنه يرى الآيات حتى يعرف المسببات من الأسباب.
[٢١](وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) أي على قوم سبأ (إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي جعلهم موردا لظنه ، الذي قال (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ) فصدّق الظن عليهم ، حيث أغواهم وأبعدهم عن الطريق (فَاتَّبَعُوهُ) أي اتبع قوم سبأ إبليس فيما أمرهم من الكفر والعصيان (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) «من» للتبين أي جماعة منهم فقط لم يتبعوه ، وإلّا فالباقون اتبعوا الشيطان.
__________________
وَما
كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ
مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
____________________________________
[٢٢](وَ) الحال أن الشيطان (ما كانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ) أي على قوم سبأ (مِنْ سُلْطانٍ) أي سلطة ، وولاية يتمكن من جبرهم ، وإنما كان يلقي
إليهم ، ويوسوس في صدورهم ، وبهذا فقط باعوا دينهم ودنياهم ، وحيث أن هنا يختلج
سؤال أنه كيف مكّن الله إبليس عليهم؟ قال سبحانه (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي لم يكن تمكينه منهم ، إلا لأجل أن يقع معلومنا في
الخارج ، فقد سبق ، أن العلم إنما يتحقق بكماله ، إذا كان هناك معلوم خارجي ،
فقولنا : علم الله ، بمعنى أن معلومه صار خارجيا ، وإن كان يعلم الأشياء من الأزل (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) عبّر عن المؤمن بذلك ، للتلازم بين الإيمان بالله
والرسول ، وبين الإيمان باليوم الآخر (مِمَّنْ هُوَ مِنْها) أي من الآخرة (فِي شَكٍ) فلا يؤمن بالآخرة ، والحاصل أن يتمكن الشيطان منهم ،
كان لأجل الاختبار والامتحان ، ليستحق المؤمن الثواب ، والكافر العقاب (وَرَبُّكَ) يا رسول الله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ) يحفظ ما عملوا ليجازيهم بأعمالهم.
[٢٣] وإذ تمت
قصة سبأ ، يأتي السياق إلى المقصد الذي سيقت له تلك القصص من الإيمان بالله ،
وجاءت القصص لبيان عاقبة المؤمن والكافر (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (ادْعُوا) الأصنام (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) فانظروا ، هل يستجيبون لكم ، وهل يكشفون ضركم؟ كلا :
إنهم (لا يَمْلِكُونَ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي مقدار
فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ
____________________________________
ثقل هباءة (فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ) فمن لا يملك شيئا كيف يتمكن أن يضر أو ينفع؟ والإتيان
بضمير الجمع العاقل ، مماشاة مع القوم ، وتوحيدا للسياق في الرد والنقض ، إذ كان
الكفار يعتبرون الأصنام عاقلة عاملة (وَما لَهُمْ) أي للأصنام (فِيهِما) أي في السماوات والأرض (مِنْ شِرْكٍ) أي من اشتراك ، بأن خلق الله بعضهما ، وخلقت الأصنام
بعضهما (وَما لَهُ) أي لله سبحانه (مِنْهُمْ) أي من الأصنام (مِنْ ظَهِيرٍ) عاونه وعاضده على أمر ، فهي ليست مالكة لشيء ، ولا
شريكة في خلق ، ولا معاونة في أمر ، ومن هذا شأنه ، كيف يتمكن من دفع ضرّ ، أو جلب
نفع للمشركين الذين يعبدونه؟
[٢٤] وأما ما
يزعم هؤلاء ، بأن الأصنام تشفع يوم القيام لهم ، قائلين (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) فإنه كذب ، ووهم (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) تعالى (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ) فمن أذن الله له في الشفاعة ، شفع وقبلت شفاعته ، ومن
لم يأذن له لم يتمكن من الشفاعة أصلا كما قال سبحانه (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) فالأصنام ، لا تشفع ، والكفار ليسوا قابلين لأن يشفعهم
أحد ، فكلّا وهم المشركين ، في الشافع والمشفوع
__________________
حَتَّى
إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
____________________________________
له هباء باطل ، وقد ظن هؤلاء الكفار ، أن الشفاعة ، وموقف القيامة ، أمر
هيّن ، حتى أن الأصنام لتشفع ، كلا! إنهم يحشرون في موقف رهيب ، ويأخذ الفزع منهم
كل مأخذ ، حتى إذ أسماعهم لا تسمع ـ كما يكون الإنسان عند الخوف الرهيب ـ إذ تعطل
حواسه ـ وكلهم منتظرون لإصدار الأوامر حتى يعرفوا ماذا مصيرهم؟ ويبقون في تلك
الحالة (حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي كشف الله الفزع عن قلوبهم ورجعوا إلى حالتهم الأولية
، من الوعي والإدراك «ويقال فزع عنه» أي كشف عنه الفزع ، وهناك يسأل بعضهم بعضا إذ
(قالُوا ما ذا قالَ
رَبُّكُمْ) حول مصير الناس ، كما يتساءل بعض المجرمين من بعضهم
الآخر عن قرار المحكمة في حقهم ـ إذا لم يفهمه ـ؟ (قالُوا) أما الملائكة ، أو المسؤولون من أمثالهم (الْحَقَ) فإنه سبحانه لا ينطق إلا بالحق ، وهذا ـ على الاحتمال
الثاني ـ مثل ما إذا سأل بعض من بعض عن قرار المحكمة ، فإنه يجيب بقوله «على طبق
القانون» (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ) أي الرفيع العظيم ، لا ينازع فيما قال ، وهذا جواب يائس
يستسلم للقضاء ، فإن موقف القيامة ، هكذا ، فكيف تشفع الأصنام ، في مثل ذلك الموقف
المهول المدهش.
[٢٥](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين احتجاجا عليهم لإبطال
شركهم (مَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّماواتِ) بإنزال المطر (وَالْأَرْضِ) بإنبات النبات؟ فهل الرازق هو الله ، أم آلهتكم؟.
وطبيعي أن يسكت
قُلِ
اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
قُلْ
لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)
____________________________________
المشركون عن الجواب إذ لو قالوا هو الله ، كان حجة عليهم ، ولا يملكون أن
يقولوا هو الصنم ، لوضوح كذب هذه المقالة وإذا فليرد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الجواب (قُلْ) لهم إذا سكتوا (اللهُ) هو الذي يرزقكم ، لا الأصنام (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) أيها المشركون (لَعَلى هُدىً) في طريقتنا (أَوْ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) أي ضلال واضح ، وهذا على وجه الإنصاف ، وإلا فالرسول
كان يعلم أنه على هدى ، وإنهم على ضلالة ، كما قال الإمام عليهالسلام في الأبيات المنسوبة إليه :
قال المنجم
والطبيب كلاهما
|
|
لن يحشر
الأموات ، قلت إليكما
|
إن كان
قولكما ، فلست بخاسر
|
|
أو كان قولي
، فالخسار عليكما
|
[٢٦](قُلْ) يا رسول الله ، لهؤلاء الكفار (لا تُسْئَلُونَ) أيها الكفار ، أنتم (عَمَّا أَجْرَمْنا) أي اقترفنا من الذنوب ـ بنظركم ـ أو المراد مجموع
المؤمنين ، فلا ينافي عصمة الرسول (وَلا نُسْئَلُ) نحن يوم القيامة (عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنتم أيها الكفار ، وهذا كقوله (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فإن لم تقبلوا مقالي ، فذنبكم عليكم ، لا يرتبط بنا ،
وجيء بقوله (لا تُسْئَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنا) توطئة وتمهيدا.
__________________
قُلْ
يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ
____________________________________
[٢٧](قُلْ) يا رسول الله لهم (يَجْمَعُ بَيْنَنا) نحن وأنتم (رَبُّنا) يوم القيامة لنحاسب ، فيعلم من المحق ، ومن المبطل؟ (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) أي يحكم بيننا حكما حقا ، وكأن الأمر مسدود بين الخصمين
، والحاكم يفتح بينهما ، حين يعطي لكل حصته ، لئلا يبقى الأمر بينهما مختلطا متصلا
(وَهُوَ) سبحانه (الْفَتَّاحُ) كثير الفتح ، والحكم بين المتخاصمين (الْعَلِيمُ) العالم ، بما صدر عن كل ، وبما يستحق كل واحد ، فيكون
حكمه حقا عدلا.
[٢٨](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين (أَرُونِيَ) الأصنام (الَّذِينَ
أَلْحَقْتُمْ) لهم (بِهِ) أي بالله (شُرَكاءَ) أي في حال كونهم شركاء لله ، في زعمكم؟ وهذا استفهام
توضيحي ، كما تقول لمن يساوي جاهلا بعالم : أرني من هو المساوي لهذا العالم ، تريد
أن تبين له أن من تزعم مساواته ، لا يتمكن الإنسان ، حتى من التفوه بمساواته له ،
وإتيان اسمه عند ذكر اسم العالم (كَلَّا) ليس كما تزعمون في كون الأصنام شركاء لله تعالى (بَلْ) الإله واحد لا شريك له ، و (هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ) الغالب سلطانه (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء بحكمة وصواب ، فهل للأصنام سلطان؟ أم
هل لها من حكمة؟
[٢٩](وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ) أي للناس عامة ،
بَشِيراً
وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)
وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩)
قُلْ
لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ
____________________________________
وكان تقديم «كافة» لإفادة أن الغرض المسوق له الكلام ، هو عموم الرسالة ،
وإنما كان كافة بمعنى عامة ، لأنها إذا عمّتهم ، فقد كفتهم ـ وصفتهم ـ أن يخرج
منها أحد منهم (بَشِيراً) تبشر المؤمنين المطيعين بالجنة والثواب (وَنَذِيراً) تنذر الكفار والعصاة ، بالنار والنكال (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) رسالتك لإعراضهم عن الحق.
[٣٠] وإذ تقدم
الكلام عن التوحيد والرسالة ، جاء دور المعاد (وَيَقُولُونَ) أي الكفار المنكرون للبعث (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي في أي زمان تقوم القيامة التي تعدوننا بها؟ (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون (صادِقِينَ) في دعواكم وجود القيامة ، وحشر الأجساد بعد الموت؟
[٣١](قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (لَكُمْ) أيها الكفار (مِيعادُ يَوْمٍ) أي ميقات يوم ينزل بكم ما وعدتم من العذاب والنكال ،
والمراد وقت وفاتهم ، أو يوم القيامة عند بعثهم (لا تَسْتَأْخِرُونَ
عَنْهُ ساعَةً) أي لا تتأخرون عن ذلك اليوم مقدار ساعة ـ التي هي جزء
الزمن ـ (وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي لا تتقدمون عليه مقدار ساعة ، وكان الإتيان من باب
الاستفعال ، لبيان ، أن طلب التقديم والتأخير ، لا ينفع فلكلّ أجل وكتاب.
[٣٢](وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) الذي نزل على
وَلا
بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى
بَعْدَ
____________________________________
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَلا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي بالكتب التي أنزلت قبل القرآن ، كالتوراة والإنجيل ،
فإن أهل الكتاب ، كانوا يصدقون ، بتلك الكتب ، أما الكفار ، فإنهم كانوا يفكرون
بكل شيء (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله ، أو كل من يأتي منه الرؤية (إِذِ الظَّالِمُونَ) في يوم القيامة (مَوْقُوفُونَ) للحساب (عِنْدَ رَبِّهِمْ) جزاء لإنكارهم ، وكفرهم (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) إما المراد ما سيأتي من المحاورة بينهم ، وإما أنهم ،
كالمجرمين في الدنيا ، إذا أحضروا للمحاكمة ، فإن هذا يرد القول إلى ذاك ، وذاك
إلى هذا ، كل يريد أن يتخلص من تبعة الجواب ، ويؤمّن على نفسه فلا يجيب ، حتى وإن
علم بالأمر (يَقُولُ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) أي طلب ضعفهم الرؤساء ، فاستغلوهم لضعف أفكارهم ، وضعف
إمكانياتهم (لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) من الأشراف والكبار المستكبرين عن قبول الحق (لَوْ لا أَنْتُمْ) تضلونا عن السبيل (لَكُنَّا) نحن الأتباع (مُؤْمِنِينَ) بالله واليوم الآخر ، في دار الدنيا ، وإنما أنتم
أضللتمونا عن طريق الهداية والإيمان.
[٣٣](قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في جواب المستضعفين (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) أي هل نحن منعناكم (عَنِ الْهُدى) والإيمان (بَعْدَ
إِذْ
جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
وَقالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً
وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي
أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا
____________________________________
إِذْ
جاءَكُمْ)؟ يقولون ذلك ، على نحو الاستفهام الإنكاري ، أي إنّا لم
نصدكم ، ولم نمنعكم ، إذ لم تكن سلطة لنا عليكم (بَلْ كُنْتُمْ) أنتم بأنفسكم (مُجْرِمِينَ) تبتّون الباطل ، وترغبون عن الهدى والحق ، فليس علينا
تبعة ذنبكم ، وإنما على أنفسكم.
[٣٤](وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي الأتباع (لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) أي المتبوعين من الأشراف إنا لم نك بأنفسنا ، وإنما
أنتم صددتمونا عن الهدى (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي ما كنتم تمكرونه ، ليلا ونهارا هو الذي منعنا عن
قبول الحق ، أي تدبيراتكم الخفية ، وإلقاءاتكم علينا هي التي وقفت دون إيماننا (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ
بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) جمع ند ، وهو المثل والضد ، أي كنتم تقولون لنا ،
اجعلوا لله شركاء (وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ) أي أخفوا ندمهم عن أعمالهم السابقة ، فلم يظهروا أنهم
نادمين خوف الفضيحة (لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ) فإن الإنسان في حال الحزن الشديد ، لا يتكلم ، وإنما تظهر
عليه ملامح الندم ، ساعة مندم (وَ) بعد ذلك ، يقدمون للعذاب ، ف (جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) بأن يغلّون في النيران ، كما قال سبحانه (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها
سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) وهنا يأتي الاستفهام ليبين أن ذلك جزاء
__________________
هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
____________________________________
أعمالهم ، وليس ظلما عليهم (هَلْ يُجْزَوْنَ) هؤلاء الكفار (إِلَّا ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي لا يجزون إلا جزاء أعمالهم.
[٣٥] وقد كان
الانحراف عن الهداية ، عادة عامة لجميع الأشراف ، لدى مواجهة الرسل ، فإن شرفهم
المزعوم ، كان يصدهم عن قبول الحق ، وانخراطهم في سلك المؤمنين (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ) ينذر الناس من عاقبة أعمالهم ، ووبال كفرهم وعصيانهم (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي الأغنياء المتنعمون بالترف ، والرفاه (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أيها الأنبياء (كافِرُونَ) لا نصدق به ، ولا نقبله.
[٣٦](وَقالُوا) للأنبياء عليهمالسلام على وجه الكبر والتجبر (نَحْنُ أَكْثَرُ
أَمْوالاً وَأَوْلاداً) نحن أكرم منكم على الله ، إذ لو لا كرامتنا لم يتفضل
الله علينا ، بهذا المال الكثير ، والأولاد العديدين (وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ) يوم القيامة فإن الله سبحانه لا يعذبنا ، كما تقولون
أنتم الأنبياء ، إن الله يعذب الكافر العاصي.
[٣٧] وهكذا كان
يقول أشراف مكة في مقابل الرسول (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم ، إن كثرة الأموال والأولاد ،
ليست دليلا على حب الله للشخص ، وإنما التوسعة والتضييق حسب المصلحة والحكمة ، ف (إِنَّ رَبِّي) الذي خلقني وأرسلني (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ) من عبيده
وَيَقْدِرُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
وَما
أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ
مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا
وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)
____________________________________
(وَيَقْدِرُ) أي يضيق حسب ما يراه حكمة وصلاحا فالتوسعة على المؤمن
للثواب والجزاء ، وعلى الكافر للإملاء (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، فيظنون أن كثرة المال والأولاد ، لكرامة الشخص
على الله تعالى.
[٣٨](وَما أَمْوالُكُمْ) أيها البشر (وَلا أَوْلادُكُمْ) التي منحتموها بالمكانة التي (تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) مصدر زلف بمعنى قرب ، وهو منصوب على المصدرية أي تقربكم
تقربا (إِلَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً) فإن الإيمان والعمل الصالح مقربا لله سبحانه ،
والاستثناء منقطع ، والأصل لا تقرب إلا الإيمان ، والعمل الصالح ، لا الأموال
والأولاد ـ كما سبق ، في وجه الاستثناءات المنقطعة ـ (فَأُولئِكَ) الذين آمنوا وعملوا الصالحات (لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي إن جزاءهم مضاعف ، فهو
أضعاف أعمالهم ، كما قال سبحانه (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) بسبب ما (عَمِلُوا) من الإيمان والصالحات (وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ) جمع غرفة وهي البيت فوق البناء ، أي في غرف الجنة (آمِنُونَ) من الأهوال ، والأحزان ، والمصائب.
__________________
وَالَّذِينَ
يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ
(٣٨) قُلْ
إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
____________________________________
[٣٩](وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) أي لإبطال آياتنا وأدلتنا (مُعاجِزِينَ) يريدون تعجيز الأنبياء عليهمالسلام بأعمالهم ، حتى لا يتمكنوا من الإرشاد والتبليغ ،
والإتيان من باب «المفاعلة» لأن كلا من الطرفين يريد تعجيز الآخر عن تنفيذ مبدئه
وصد الآخر عن التنفيذ ، فالنبي يريد عجز الكفار ، وهم يريدون عجز النبي (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي يحضرهم الله سبحانه في العذاب ، بالقوة والقهر ، كما
يحضر المجرم في السجن.
[٤٠] وإذ كان
الرزق بتقدير الله سبحانه ، فالذي يبقى منه ، هو المنفق في سبيله ، فليس سعة الرزق
دليل حب الله سبحانه ـ كما زعم الكفار ـ وإنما الإنفاق منه ، موجب لحب الله تعالى (قُلْ) يا رسول الله (إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يعطيه الرزق الواسع المبسوط (وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يقدر لمن يشاء ، فالضمير يعود ، إلى لفظ «من» لا إلى
معناه ، فالمبسوط له غير المقتر عليه ، قال في المجمع : «وإنما كرره سبحانه
لاختلاف الفائدة ، فالأول توبيخ للكافرين ، وهم المخاطبون به ، والثاني ، وعظ
للمؤمنين» (وَما أَنْفَقْتُمْ) أيها الناس (مِنْ شَيْءٍ) قليل أو كثير ، من مختلف أنواع الرزق (فَهُوَ) سبحانه (يُخْلِفُهُ) أي يعطيكم خلفه وعوضه ، في الدنيا بزيادة الرزق ، وفي
الآخرة بالأجر والثواب
__________________
وَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ
بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
____________________________________
(وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) لأنه يعطي بلا منّ ، ولا توقع جزاء ، ولا لغاية أخرى ،
بخلاف سائر الرازقين من الناس ، الذين يقصدون بإنفاقهم غاية ومقصدا ، أما الشكر
فإنه سبحانه يطلبه لنفع الخلق ، لا لنفعه.
[٤١](وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي نحشر الكفار الذين كانوا يعبدون الملائكة (جَمِيعاً) العابدين والمعبودين ، والمراد بذلك اليوم ، هو يوم
القيامة (ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلائِكَةِ) بقصد فضح العابدين لهم (أَهؤُلاءِ) الكفار (إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ)؟ والقصد من هذا السؤال تبرؤ الملائكة منهم ، حتى يبقوا
بلا ناصر حتى من معبوديهم.
[٤٢](قالُوا) أي قالت الملائكة (سُبْحانَكَ) أي ننزهك يا رب تنزيها عن الشريك ، وسبحان منصوب على
المصدر ، أي نسبح سبحانا (أَنْتَ وَلِيُّنا
مِنْ دُونِهِمْ) أي من دون هؤلاء الكفار ، والمعنى أنه لا ولاية بيننا
وبينهم (بَلْ كانُوا) أي كان هؤلاء (يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي الشياطين ، حيث أنهم أطاعوا الشياطين الذين يوحون
إليهم بعبادة الملائكة ، فإن الشياطين من الجن ، كما قال سبحانه (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ) (أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر هؤلاء (بِهِمْ) أي بالجن (مُؤْمِنُونَ) مصدقون لما
__________________
فَالْيَوْمَ
لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ
عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ
____________________________________
يوسوسون إليهم ، وكأن الملائكة يريدون بذلك التكثير من تبكيت الكفار بأن
مرجع عبادتهم للملائكة كان إلى عبادتهم للشياطين ، والإتيان بلفظ «الجن» لتسمية
الشيطان في الجاهلية ، بـ «الجن».
[٤٣](فَالْيَوْمَ) يعني يوم القيامة الذي يقع فيه ذلك المشهد والحوار (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) أي لا يملك المعبودين للعابدين (نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لا ثوابا ولا عقابا ، وإنما الثواب والعقاب بيد الله
وحده ، وهكذا يخسر العابدون ، حتى من نصر المعبودين (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا) أنفسهم ، بعبادة غير الله (ذُوقُوا عَذابَ
النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها) أي بتلك النار (تُكَذِّبُونَ) في الحياة الدنيا ، حين أنكرتم البعث والنشور.
[٤٤] ثم يرجع
السياق إلى حال الكفار في الدنيا ، بعد أن بين لهم ، أن حالهم هناك الخزي والعذاب
، أن تمادوا في ضلالهم (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي يقرأ الرسول والمؤمنون على الكفار آيات القرآن ، في
حال كونها واضحات (قالُوا) أي قال الكفار بعضهم لبعض ما هذا الذي يدعي الرسالة ،
ويأتي بهذه الآيات (إِلَّا رَجُلٌ
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) أي يمنعكم (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ
آباؤُكُمْ) من الأصنام ، والملائكة ، والجن ، وغيرها ، فقد رأوا أن
في عبادة الله هدما
وَقالُوا
ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣)
وَما
آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ
نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
____________________________________
لتقاليدهم (وَقالُوا) بعضهم لبعض ما هذا القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) كذب (مُفْتَرىً) نسبه الرسول إلى الله افتراء ، فإنه لم ينزل من عنده ،
وإنما اختلقه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ونسبه إليه سبحانه (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي للقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) لهدايتهم (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ) واضح ، إذ يؤثّر في الناس ، فيجلب الأتباع ، ولا يمكن
للفصحاء الإتيان ، بمثله ، فالرسول كاذب مفتري ، والقرآن سحر ـ في منطق الكفار
الأعوج ـ.
[٤٥] إن هؤلاء
الكفار الذين يقولون ، إن القرآن كذب وسحر أميّون ، لم يأتيهم قبل هذا كتاب ورسول
حتى يميزوا بين الوحي وغيره ، وبين الرسول والمفتري ، فقولهم حول القرآن والرسول ،
قول الجاهل المأفون (وَما آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم ، وأنزلنا إليهم (مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي يقرءونها درسا حتى يعرفوا ما هو الوحي؟ ويميزوا بين
المنزل والمفترى (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ) أي إلى هؤلاء الكفار (قَبْلَكَ) يا رسول الله (مِنْ نَذِيرٍ) حتى يميزوا بين الرسول والساحر ، فقولهم ، فيك وفي
كتابك قول جاهل أمي ، فهم معاندون متبعون للهوى في أقوالهم ، لا إنها عن علم
ودراية وخبرة.
[٤٦](وَكَذَّبَ) الأمم (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل كفار قومك ، رسلهم ،
وَما
بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ
____________________________________
وما أتاهم الله من الكتب (وَما بَلَغُوا) أي ما بلغ هؤلاء الكفار (مِعْشارَ ما
آتَيْناهُمْ) أي معشار القوة والمال ، وطول العمر التي أعطيناها إلى
تلك الأمم ، ومعشار بمعنى عشر (فَكَذَّبُوا) أولئك الأمم (رُسُلِي) الذين أرسلوا إليهم (فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ)؟ أي إنكاري وعقوبتي على المكذبين ، فقد عاقبتهم ، بأشد
العقوبات مع تلك القوة والمال ، فليحذر هؤلاء الضعفاء ـ من قوم الرسول ـ عقوبتي إن
تمادوا في غيّهم وكفرهم؟.
[٤٧](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنَّما أَعِظُكُمْ) الوعظ هو النصيحة (بِواحِدَةٍ) أي أنصحكم بجملة واحدة ، وهي (أَنْ تَقُومُوا) بهذا العمل ، لا من القيام مقابل القعود (لِلَّهِ) بأن كان عملكم له ، خالصا عن التقليد والعصبية والأهواء
(مَثْنى وَفُرادى) اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، فمن كان له قدرة في
التفكر حول الرسول بنفسه بلا معين ، فليفكر في نفسه ، ومن لا قدرة له في التفكر
منفردا ، فليتخذ صديقا ليداول معه الحديث حول الرسول ، والقرآن والإسلام (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ) أي ليس بالرسول الذي هو صاحبكم (مِنْ جِنَّةٍ) أي شيئا وأثرا من الجنون فإنكم إذا فعلتم ذلك ، وخرجتم
عن ضوضاء الجماعات إلى الانفراد والتثنية في تفكير هادئ «لله» لعلمتم ذلك (إِنْ هُوَ) أي ليس الرسول (إِلَّا نَذِيرٌ
لَكُمْ) ينذركم عن التمادي في الكفر
بَيْنَ
يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨)
قُلْ
جاءَ الْحَقُّ وَما
____________________________________
والعصيان (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ
شَدِيدٍ) فإنه يأتي من ورائه عذاب القيامة ، إن بقيتم في الكفر
والضلالة ، فهو يريد إنقاذكم.
[٤٨](قُلْ) لهؤلاء الكفار يا رسول الله (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي كل أجر أسأله منكم على أدائي للرسالة (فَهُوَ لَكُمْ) وهذا تعبير آخر عن عدم سؤاله للأجر ، فإن تزعمون أني
أدعي الرسالة لتحصيل المال ، فإني لا أريد منكم المال ، وقيل إن معناه ، أن كلّ ما
سألته من أجر ـ من المودة في القربى ـ فإنما ذلك عائد إليكم ، فإن قرباي يرشدونكم
إلى الحق ، فهذا ليس عائدا لي ، بل عائد لكم ، كمن يجمع المال من الناس ، ليبني
لهم دورا وقصورا ، فإن ما يأخذه يعود إليهم (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري على البلاغ والرشاد (إِلَّا عَلَى اللهِ) فهو يعطيني جزاء عملي وأتعابي (وَهُوَ) سبحانه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ) حاضر ، فيعلم مقدار أجري ، ويعطيني كاملا غير منقوص.
[٤٩](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي يلقيه إلى أنبيائه ، فهذا الإسلام والقرآن حق ، قذفه
الله إليّ ، وليس سحرا أو إفكا ، كما تزعمون (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي الله سبحانه كثير العلم بالغيب ، فلا يلقي إلا ما
يعلم أنه صالح للبشر ، كما لا يلقي إلا إلى من يصلح للقيام به.
[٥٠](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (جاءَ الْحَقُ) وهو الإسلام (وَما
يُبْدِئُ
الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي
إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ
____________________________________
يُبْدِئُ
الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي زهق الباطل ، وذهب بحيث لم يبق له أثر فلا مبدئ له ،
ولا معيد ، فلا يأتي أحد يجدد الباطل من الابتداء أو يعيده بعد الاندثار ، كما لو
كتب إنسان كتابا راقيا في بطلان عبادة الأصنام ، يقول لا يأتي أحد يستدل بصحة
عبادة سائر المعبودات الباطلة من جديد ، ولا أحد يستدل بصحة عبادة الأصنام ،
والمراد عدم وجود باطل يتمكن أن يقوم مقابل هذا الحق الذي هو الإسلام ، سواء كانت
أباطيل تخترع جديدة ، أو أباطيل سابقة ، يراد إعادة جدتها ورونقها ، وهذا كقوله
تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) .
[٥١](قُلْ)
يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يقولون عنك ، إن محمدا قد ضل عن طريقة قومه (إِنْ ضَلَلْتُ)
عن الحق كما تدعون (فَإِنَّما أَضِلُّ
عَلى نَفْسِي)
أي يرجع وبال ضرري عليّ ، فإن رأيتم أني ضال ، فلا تؤمنوا بي ، ولماذا تتعرضون لي
بالمنع والإيذاء؟ (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ)
إلى الحق (فَبِما يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي)
أي بفضل الله سبحانه ، تكون هدايتي ، حيث أوحى إليّ ، وأرشدني إلى الطريق (إِنَّهُ)
سبحانه (سَمِيعٌ)
لأقوالنا (قَرِيبٌ)
منا ، فلا يخفى عليه المحق من المبطل.
[٥٢](وَلَوْ تَرى) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (إِذْ فَزِعُوا) أي خاف هؤلاء الكفار من أهوال القيامة (فَلا فَوْتَ) أي فلا يفوت من عذاب
__________________
وَأُخِذُوا
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا
بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ
(٥٢)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣)
____________________________________
الله منهم أحد ، ولا ينجو من بأسه كافر (وَأُخِذُوا مِنْ
مَكانٍ قَرِيبٍ) وهو القبر ، فمكانهم ليس بعيدا على الله يحتاج في أخذهم
إلى صعوبة ، وطول مدة ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى حكام العالم ، حيث يبتعد منهم
المجرمون ، فيكون في أخذهم لهم صعوبة وطول مدة ، وجواب «لو» محذوف ، أي لو رأيت
ذلك لرأيت أمرا فظيعا مهولا.
[٥٣](وَقالُوا) أي قال الكفار حين ذاك (آمَنَّا بِهِ) أي آمنا بالله والرسول وما جاء به (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أي من أين يكون لهم الانتفاع بإيمانهم هناك ، والتناوش
بمعنى التناول ، أي لا يتمكنون من تناول الإيمان المفيد لحالهم (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فالدنيا قد ابتعدت عنهم ، والإيمان المفيد كان في
الدنيا لا في الآخرة ، ومن أين لهؤلاء أن يتناولوا الإيمان النافع الذي خلّفوه
وراءهم في الدنيا؟ وهذا على ضرب من الاستعارة اللطيفة.
[٥٤](وَقَدْ كَفَرُوا) أي هؤلاء الكفار (بِهِ) أي بالإسلام والدين (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي أنهم يقولون لا جنة ولا نار ، وذلك غيب بعيد ، وإنما
قولهم ظن ، والمعنى أنهم يرجمون الظن بالمكان الغائب عن حواسهم ، وهم بعيدون عنه ـ
والمراد بذلك المكان الآخرة ـ فكما أن الحجارة إذا رجمت من البعيد في مكان غائب لا
يراه الراجم ، لا تصيب الهدف ، كذلك ظن هؤلاء بالنسبة إلى الآخرة.
وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
____________________________________
[٥٥](وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) أي فرق بين هؤلاء الكفار ـ يوم القيامة ـ (وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من النعيم والكرامة ، فلا يرون نعيما ، ولا كرامة ، بعد
ذلك (كَما فُعِلَ) مثل ذلك (بِأَشْياعِهِمْ) أي بأمثالهم من الكفار السابقين ، والأشياع هم المقتدون
، مقابل الأتباع (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء (إِنَّهُمْ) إنما فعل ذلك بهم لأنهم (كانُوا) في الدنيا (فِي شَكٍ) من البعث والنشور (مُرِيبٍ) موجب للريب والانعزال عن الحق ، فإن الإنسان إذا شك ،
ولم يظهر أثرا ، قيل له شك ، فإذا أظهر أثر الشك ، قيل له ريب وهذا إشارة إلى أنهم
لم يكونوا يقطعون بعدم المعاد ، ولكنهم كانوا شاكين ، وإنما قادهم إلى الإنكار
تقليدهم.
(٣٥)
سورة فاطر
مكية / آياتها (٤٦)
وتسمى بسورة
الملائكة أيضا لاشتمالها على كلا اللفظين ، وهي كسائر السور المكية ـ غالبا ـ تعالج
قضايا العقيدة ، وأصول الدين ، وإذ ختمت سورة «سبأ» بالمحاورة مع الكفار والمنكرين
للألوهية والمعاد ، ابتدأت هذه السورة بشؤون الله تعالى ، الدالة على توحيده ،
وتصرفه في الكون.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله ، ليكون شعارا لفظيا للمسلم ، فإن
لكل أمة واعية شعارات لفظية ، عند القراءة وكتابية عند الكتابة ، وإشارية عند
الإشارة ، واسم الله ، أعظم من جميع الشعارات المتصورة ، فإنه اسم من يرتبط به
الخلق والأمر ، والإتيان بوصفي الرحمن الرحيم ، للإشارة إلى أن ما اتخذناه شعارا
متصف بالرحمة المكررة ، وهو من أجلب الصفات للإنسان ، فإن كل خير له مرتبط بالرحمة
والفضل.
الْحَمْدُ
لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
ما
يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها
____________________________________
[٢](الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي أن جنس الحمد ، راجع إلى الله سبحانه ، إذ جميع
النعم منه ، حتى ما يصل إلى الإنسان بواسطة أحد ، فإنه منه سبحانه ابتداء ، وإنما
يأتي بالواسطة (فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي خالقهما من «فطر» بمعنى خلق (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) جمع رسول ، وهو الآتي بالكلام من قبل شخص إلى غيره ،
فإن الملائكة يأتون بالرسالات من الله سبحانه إلى الأنبياء ، في حال كونهم (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أي أصحاب أجنحة ، كأجنحة الطير ، ليتمكنوا بها من
الهبوط والعروج ، وإن كان جناحهم من شكل غير مدرك ـ إلا إذا شاء الله ذلك ـ (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) فمنهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ومنهم من
له أربعة أجنحة ، وهذا صفة لأجنحة ، معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ،
وأربعة أربعة (يَزِيدُ) الله سبحانه (فِي الْخَلْقِ ما
يَشاءُ) أي أن الخلق بيد الله سبحانه ، فلم يعجز تعالى عن خلق
ما زاد عن السماوات والأرض والملائكة ، بل إنه كلما شاء خلقا خلقه (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يمتنع عليه شيء.
[٣] إن الله هو
الخالق القادر ، وإنه هو المعطي المانع ف (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) أي ما يفيضه عليهم من النعم والخير ، لا أحد هناك يتمكن
من المنع عنها ، والإمساك لها حتى لا تصل إلى
وَما
يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
يا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ
اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
____________________________________
الناس (وَما يُمْسِكْ) الله من رحمة (فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد الله سبحانه ، فإنه إذا لم يرد إعطاء أحد
شيئا لم يكن هناك من يقدر على إعطائه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) في أفعاله يفعلها حسب الحكمة والصلاح ، فكل شيء صنعه
بحكمته ومصلحته ، كما أن كل شيء أراده صار لأنه العزيز القادر.
[٤] وإذ تقدم
التذكير ببعض نعم الله على البشر ، وبعض آثار عظمته وجلاله ، يتوجه السياق إلى
المشركين ليوقظهم من غفلتهم (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وكأنّ الإنسان يعلم في باطنه نعم الله لكنه ينسى ،
فاللازم أن يتذكر (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) والجواب كلا لا خالق إلا الله سبحانه ، ثم هل من أحد
غير الله (يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّماءِ) بإنزال المطر (وَ) من (الْأَرْضِ) بإنبات النبات؟ والجواب كلا ، فلا رازق إلا الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وإذ ثبت أن لا خالق ولا رازق إلا الله ، ثبت أنه لا إله
إلا هو (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن طريق الحق إلى الضلال؟ من أفك بمعنى
انصرف ، ومنه يسمى الإفك إفكا ، لأنه صرف للكلام عن الحقيقة إلى خلاف الواقع.
[٥] وإذ تقدم
الكلام حول التوحيد ، يأتي الكلام حول الرسالة (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) هؤلاء الكفار ، يا رسول الله ، فيقولون ، لست أنت ،
بنبي
فَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)
____________________________________
(فَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) هذا تسلية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنه ليس الوحيد الذي كذبه قومه ، وإنما الرسل هكذا ،
فإن أقوامهم يكذبونهم (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أمر تكذيب هؤلاء يعرض على الله سبحانه ، فيجازيهم
على تكذيبهم ، وأمرك يعرض عليه ، فيجازيك على صبرك ، وصمودك.
[٦] ثم يأتي
السياق لبيان المعاد ـ الذي هو الأصل الثالث من الأصول ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ
اللهِ) بالبعث والحساب والجزاء (حَقٌ) لا كذب فيه ، فكلكم تحشرون للجزاء (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ
الدُّنْيا) فتغترون بملاذها ورئاستها ، فتعصون الله لأجلها حتى
يكون مصيركم إلى النار (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللهِ) أي بالنسبة إلى الله سبحانه (الْغَرُورُ) الشيطان الكثير الخداع ، فترون سكوته سبحانه ، وعدم تعجيله
العقاب ، فتمادون في الغي والطغيان ، فيأتيكم العذاب بغتة ، وأنتم في غفلة.
[٧](إِنَّ الشَّيْطانَ) الذي يدعوكم إلى الكفر والعصيان (لَكُمْ) أيها البشر (عَدُوٌّ) يريد لكم الهلاك والعذاب (فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا) أي اعملوا معه ، عمل العدو مع عدوه ، بأن لا تطيعوه
واجتنبوا عن مكره وخدعه (إِنَّما يَدْعُوا) الشيطان (حِزْبَهُ) أي أنصاره وأعوانه من العصاة (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي النار المستعرة الملتهبة ، فلا تتبعوه ليوردكم النار
الَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي مَنْ
____________________________________
ذات اللهب والاشتعال.
[٨](الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، لاتباع الشيطان ، وامتثال أمره (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) في الآخرة (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وبما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) وذلك يلازم ترك السيئات ـ كما سبق ـ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي غفران لذنوبهم ، فإن «مغفرة» مصدر ميمي (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) جزاء على إيمانهم وأعمالهم الصالحة.
[٩](أَفَمَنْ) الهمزة للاستفهام الانكاري ، والفاء عاطفة ، أي هل الذي
(زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ) أي زين الشيطان في عينه عمله السيئ كالكفار والعصاة ،
الذين يبرّرون أعمالهم السيئة بألف مبرّر موهوم (فَرَآهُ حَسَناً) أي رأى عمله السيء حسنا وهذا بطبيعة الحال في سطح الذهن
، أما في أعماقه ، فإنه يعلم بقبح عمله ، ولذا لو خلى بنفسه وتفكر ، أو ذكّره بعض
الناس ، وكان منصفا ، اعترف بقبح عمله ، وقد حذف عدل الهمزة ، أي أفمن كان كذلك ،
كمن ليس هكذا؟ والجواب الطبيعي أنهما لا يتساويان ، وإنما جيء بهذا العدل فقط لأن
سوق الكلام كان حول الكفار ، ثم يأتي السياق ليسلّي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يأسف على هؤلاء الذين انحرفوا عن علم ودراية (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ممن أرشده للطريق ، وبلّغه فلم يقبل ، فإنه سبحانه
يتركه يضلّ وينحرف ، ولا يلطف به الألطاف الخفية ، وهذا كما يقال أفسد الملك شعبه
، إذا تركهم يفسدون ، ولم يجبرهم على الاستقامة (وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاء
فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ
فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ
(٩)
____________________________________
يَشاءُ) ممن قبل البلاغ والرشاد ، فإنه سبحانه يلطف به الألطاف
الخفية (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ) يا رسول الله ، ومعنى ذهاب النفس هلاكها ، أو شدة حزنها
وغمها ، حتى تكون كالهالكة (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار (حَسَراتٍ) منصوب على المصدر ، أي لا تذهب نفسك تتحسر عليهم حسرات
، والحسرة شدة الحزن على ما فات ، أو يفوت من الأمر المرغوب فيه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) من الكفر والعصيان ، ومثل هذا الإنسان المعاند ، لا
يستحق أن يتحسر الرسول عليه.
[١٠] ثم يرجع
السياق إلى أدلة الألوهية والتوحيد ، في قبال الكفار والمشركين (وَاللهُ) هو (الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّياحَ) بخلقها ، أو تصريفها من هنا إلى هناك (فَتُثِيرُ) أي تهيج الرياح (سَحاباً) المراد به الجنس ، لا الفرد (فَسُقْناهُ) أي سقنا السحاب (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) مات زرعه ، وجفّت أنهاره (فَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بسبب ذلك السحاب الماطر (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بالجدب ، وعدم النبت ، بأن أنبتنا فيها الكلأ ، بعد أن
لم يمكن (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كما حييت هذه الأرض الجدبة الميتة كذلك نشور البشر
وحياتهم بعد الموت ، فإن الله القادر على إحياء الأرض ، قادر على بعث الإنسان ،
ونشوره بعد أن مات.
[١١] إن الكفار
لا يؤمنون خوفا من ذهاب عزتهم الدنيوية ، حيث يطردهم المجتمع الكافر ، لكن اللازم
أن لا يمنع الإنسان هذا عن الإيمان ، فإن العزة لله سبحانه ، وإذا أراد الإنسان
ببقائه على الكفر ، أن تسمع له
مَنْ
كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئاتِ
____________________________________
الكلمة ، ويقبل له العمل عند أصدقائه الكفار ، فإن الكلام الإسلامي ،
والعمل الصالح ، يقبلان عند الله سبحانه ، الذي هو أعظم من مجتمع هؤلاء الكفار (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) الدنيوية ، بأن يكون عزيزا عند الناس ، نافذا الكلمة
لديهم (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
جَمِيعاً) أي فليطلبها من عند الله تعالى ، إذ جميع أنواع العزة
له ، حتى أن العزة الموجودة لدى الكفار ، هي منحة الله لهم ، كما منحهم الرزق
والحياة ، وسائر الخيرات للامتحان والاختبار (إِلَيْهِ) تعالى (يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ) الكلم جمع كلمة ، والطيب صفة مشبهة ، أي أن الكلمات
الطيبة ، من كلمة الإيمان والإرشاد والنصيحة وغيرها ، كلها تصعد إليه سبحانه ،
نافذة لديه ، فإذا آمن الإنسان ، كان مسموع الكلمة لديه تعالى ، وهو خير من كونه
مسموع الكلمة عند الكفار (وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ) الذي هو الخير المأمور به في الشريعة كالصلاة والزكاة ،
وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وغيرها (يَرْفَعُهُ) سبحانه إلى نفسه ، فمن يريد الكفر ، ليكون عمله مقبولا
عند الكفار ، فإن من آمن ، رفع عمله إلى الله سبحانه خالق الكون ، وهل تقاس
المقبولية ، عند الله بالمقبولية عند الناس؟ والمراد بالصعود والرفع الرتبي ،
باعتبار رفعة الله سبحانه ، وسموه المعنوي ، أو المراد الخارجي ، فإن الأقوال
والأعمال ترفع إلى السماء ، حيث محل الملائكة ، ومأوى أرواح الصالحين (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يدبرون دفّة الأعمال السيئة في خفية ، فإن المجرمين
دائما يدبرون الاجرام والمعاصي في الليالي ، وفي بعد عن
لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
وَاللهُ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما
تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ
____________________________________
عيون الناس (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) في الآخرة (وَمَكْرُ أُولئِكَ
هُوَ يَبُورُ) من «بار» إذا فسد ، أي أن مكرهم يفسد ، ولا ينفّذ ،
فنهاية العمل والقول الصالحين ، الرفعة والعزة ، ونهاية عمل السيئات ومكرها لتحقيق
العزة هي البوار والهلاك.
[١٢](وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أيها البشر (مِنْ تُرابٍ) فإن التراب ينقلب نباتا ، ويأكله الإنسان ، أو يأكل
الحيوان الذي تكون من النبات ، فيصير مبدأ النطفة (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) هي القطعة المائعة من المني ، وأصل النطفة الماء القليل
(ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْواجاً) ذكرا وأنثى ، أو المراد أصنافا وأشكالا (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) «من» زائدة لتأكيد النفي ، أي لا تحمل أيّ أثر (وَلا تَضَعُ)
حملها (إِلَّا بِعِلْمِهِ) فالله خالق الإنسان ، والعالم بأطواره ، حين حمله ،
ووضعه (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ) المعمّر ـ بصيغة المفعول من باب التفعيل ـ هو الإنسان ،
الطويل العمر ، أي لا يمدّ في عمر واحد ، وعبّر عنه بالمعمّر ، باعتبار الأول ، من
باب «من قتل قتيلا فله سلبه» (وَلا يُنْقَصُ مِنْ
عُمُرِهِ) أي من عمر ذلك المعمّر ، والمراد به كل أحد ، والنقص ،
إنما هو باعتبار الأعمار العادية ، فالعمر العادي إذا كان خمسين سنة ، كان الموت
قبل ذلك تنقيصا بالنظر العرفي (إِلَّا فِي كِتابٍ) عند الله سبحانه ، فقد كتب كل ذلك ، وقدر الأعمال ، كما
إِنَّ
ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى
الْفُلْكَ
____________________________________
قدر سائر الأشياء ، ولا يتصور الإنسان كيف يمكن أن يحيط كتاب بهذا القدر
الكبير من الأعمار المختلفة للأفراد المتشتتة في مشارق الأرض ومغاربها ف (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) هيّن ، فهو محيط بجميع الأشياء ، أو المراد ب «ذلك» كل
ما تقدم من التقديرات ، والعلم بها.
[١٣] ثم ينتقل
السياق إلى بعض آخر من الآثار الكونية ، الدالة على وجود الإله ، وصفاته العظيمة (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) بحر المياه المالحة ، وبحر المياه العذبة ، فإن الأنهر
غالبا تتصل بعضها ببعض ، حتى أنها لتكون تحت الأرض ، وفوقها بحارا من المياه
المتصلة ، ثم أن المراد بالبحر الجنس ، لا الشخص (هذا) أي أحدهما (عَذْبٌ) أي طيب (فُراتٌ) صاف (سائِغٌ شَرابُهُ) إذا شربه الإنسان ، لا يلتوي في الحلق ، ولا يؤذي
اللهات (وَهذا) الآخر (مِلْحٌ) كأنه من كثرة ملوحته ، قطعة ملح ، نحو زيد عدل (أُجاجٌ) من ينشب في الحلق ، فمن خلق هذين البحرين يا ترى؟ (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ) أنتم أيها البشر (لَحْماً طَرِيًّا) جديدا ، هو السمك ، فمع اختلاف البحرين يأتيان بشيء
متماثل لمنفعة الإنسان ، وإنما سمي السمك ، لحما طريا ، لما اعتادوا ـ في زمن
الجاهليين ـ من أكل القديد ، بتجفيف لحوم الأنعام (وَتَسْتَخْرِجُونَ) أي تخرجون بالطلب والغوص ، من البحر (حِلْيَةً) أي زينة ، هي اللؤلؤ (تَلْبَسُونَها) للتزين (وَتَرَى) أيها الرائي (الْفُلْكَ) بالضم على وزن أسد ، جمع فلك على وزن قفل ـ
فِيهِ
مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ
____________________________________
فالمفرد والجمع متساويان وزنا ، مختلفان ميزانا ـ (فِيهِ) أي في البحر (مَواخِرَ) جمع ماخرة ، يقال مخرت السفينة الماء إذا شقته لتسير ،
فمن يا ترى أقدر السفينة على ذلك ، وجعل الماء سهلا ، يقبل السير فيه؟ إنه هو الله
تعالى ، وإنما جعل ذلك (لِتَبْتَغُوا) أي لتطلبوا أنتم أيها البشر (مِنْ فَضْلِهِ) سبحانه بالتجارة ، والانتقال من هنا إلى هناك للاكتساب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه عليكم فتسحتقون بذلك الثواب.
[١٤](يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخل الليل في النهار ، إما بزيادة طول الليل وقصر
طول النهار ، حتى كأن الليل دخل فيه ، وإما بإتيان الليل مكان النهار ، فهو يدخل
في محل النهار ، من طرف المشرق ، ويطرده رويدا رويدا ، حتى يأخذ مكانه (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بأحد المعنيين السابقين (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) فهما يجريان حسب تدبيره منظما ، بلا تفاوت أو اختلال (كُلٌ) منهما (يَجْرِي) باستمرار (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي لوقت معلوم ، هو يوم القيامة ، كما قال سبحانه (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وقال (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) (ذلِكُمُ اللهُ) ذلك إشارة إليه سبحانه ، و ، «كم» خطاب ، أي ذلك
المتّصف بتلك الصفات ، هو ، أيها البشر (رَبُّكُمْ) الذي لا إله إلا
__________________
لَهُ
الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)
إِنْ
تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
____________________________________
هو (لَهُ الْمُلْكُ) فالمملكة الكونية كلها له بلا شريك (وَ) الأصنام (الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تدعونهم أيها المشركون (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله تعالى (ما يَمْلِكُونَ) من الكون (مِنْ قِطْمِيرٍ) هو قشر النواة ، أي اللفافة التي فوقها ، والمعنى أن
الأصنام لا تملك من الكون ، بهذا القدر ، فكيف تجعلونها شركاء الله؟
[١٥](إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي تدعون تلك الأصنام ، والإتيان بضمير العاقل ، لتوحيد
السياق ، بين كلام المشركين وردّهم ، فإنهم كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء مدركين (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) في كشف ضر ، أو جلب نفع ، فإن قالوا : يسمعون ، قلنا :
ما الدليل؟ (وَلَوْ سَمِعُوا) دعاءكم على فرض محال (مَا اسْتَجابُوا
لَكُمْ) أي لا يمكنهم أن يجلبوا نفعا ، أو يدفعوا ضرا ، إذ لا
يقدرون على ذلك (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) حين ترجون شفاعتهم لكم ، حيث كانوا يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ) أي يتبرءون منكم ، ومن أنكم اشركتموهم مع الله في
العبادة ، فيقولون لم عبدتمونا؟ ونحن لا نستحق العبادة؟ وذلك بإنطاق الله تعالى ،
للأصنام ، لأن يفضحوا عبدتهم (وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يخبرك أيها المستفهم الجاهل أحد مثل ما يخبرك
__________________
يا
أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧)
____________________________________
الخبير المطلع ، فالله مطلع على أحوال الأصنام ، فهو خير من يخبركم عن
أحوالها ، فاقبلوا كلامه ، واتركوا عبادتها ، لئلا تقعوا في العذاب والنكال.
[١٦](يا أَيُّهَا النَّاسُ) كيف تنحرفون عن إطاعة الله ، أو تكفرون به؟ والحال (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) المحتاجون (إِلَى اللهِ) سبحانه ، في جميع شؤونكم (وَاللهُ هُوَ
الْغَنِيُ) عنكم ، والذي بإمكانه أن يسد جميع حوائجكم (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد ، بما له من الإنعام والإفضال ، فكيف
تتركون الله ، لتأخذوا الأصنام الفقيرة التي لا تستحق حمدا ولا شكرا ، إذ لا شيء
لها إطلاقا؟
[١٧] وهو
القادر على أن يعاقبكم بأعمالكم ـ فهو الذي بيده العطية والعقوبة ، فاعبدوه رغبة
أو رهبة ـ (إِنْ يَشَأْ) الله (يُذْهِبْكُمْ) أي يفنيكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ) يخلقه من العدم ، ويأتي به إلى الوجود ، كما خلقكم بعد
أن لم تكونوا.
[١٨](وَما ذلِكَ) الإفناء لكم ، والإتيان بخلق جديد (عَلَى اللهِ) سبحانه (بِعَزِيزٍ) أي بممتنع ، بل هو الغالب على أمره ، إن شاء شيئا كوّنه
وأوجده.
[١٩] إن
الإنسان إلى جنب فقره إلى الله تعالى ، وإنه تحت سلطة الله سبحانه ، حامل لتبعة
أعماله بنفسه ، فلا صديق يحمل من الإنسان
وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨)
____________________________________
ذنبه ، ولا قريب يفيد الإنسان قربه في التخفيف من آثامه ، فليعدل الإنسان
سلوكه ، نحو الله ، الذي كان الإنسان بحاجة دائمة إليه ، وإن عصى جازاه بنفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس حاملة إثم نفس أخرى ، بل كل امرء بما
كسب رهين ، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، ولا يلقى ذنب أحد على أحد (وَإِنْ تَدْعُ) نفس (مُثْقَلَةٌ) بالآثام ، غيرها (إِلى حِمْلِها) أي حمل آثامها ، كأن يدعو العاصي صديقه ، ليحمل بعض
آثامه وخطاياه (لا يُحْمَلْ) أي لا يحمل ذلك الغير (مِنْهُ) أي من ذلك الحمل (شَيْءٌ) قليل (وَلَوْ كانَ) ذلك الغير المدعو (ذا قُرْبى) أي صاحب قرابة مع هذا العاصي الحامل لأوزار نفسه ، قال
ابن عباس : يقول الأب والأم ، يا بني احمل عني ، فيقول حسبي عملي ، ولا تيأس يا
رسول الله ، من عدم تأثير بلاغك في هؤلاء الكفار ، فإن بلاغك يؤثر في المؤمنين ،
وذلك كاف لك (إِنَّما تُنْذِرُ) يا رسول الله الإنذار المؤثر (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ) أي أنهم يخافون من الله سبحانه ، وهو غائب عن حواسهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بإتيانها كاملة بشروطها وآدابها (وَمَنْ تَزَكَّى) أي تطهّر بعمل الطاعة ، والاجتناب عن المعصية (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي أن فائدة طهارته ، تعود إلى نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فمن آمن وتزكى ، جزاه
وَما
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا
الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠)
وَلا
الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي
الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ
____________________________________
بجنات النعيم ، ومن كفر وتولى ، عاقبه بالنار والجحيم ، ومعنى إلى الله :
إلى ثواب الله وعقابه ، تشبيها للصيرورة المعنوية ، بالصيرورة الحسية.
[٢٠](وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) فالكافر كالأعمى لأنه تعامى عن الحق ، والمؤمن كالبصير
، لأنه أبصر ، ورأى الحق والحقيقة.
[٢١](وَلَا) يستوي (الظُّلُماتُ وَلَا
النُّورُ) «لا» زائدة للتأكيد ، والشرك كالظلمة ، إذ لا يرى الإنسان الذي فيه الحقائق
والإيمان ، كالنور الذي يرى فيه الإنسان الأشياء ، والإتيان بظلمات جمعا ، لأن
الشرك مستلزم لأنواع المعاصي ، وكل واحد منها ظلمة وحلوك.
[٢٢](وَلَا) يستوي (الظِّلُ) الذي يستريح فيه الإنسان (وَلَا الْحَرُورُ) وهي الريح الحارة السامة ، التي تهب في الشمس ، وتوجب
الهلاك ، أو المرض والأذية ، وهما مثل الجنة والنار ، أو الإيمان والكفر.
[٢٣](وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا
الْأَمْواتُ) فالكافر كالميت ، إذ لا يأتي منه الخير ، كما لا يأتي
من الميت خير ، والمؤمن كالحي ، إذ يتأتى منه جميع صنوف الخير لنفسه ولغيره ، ولا
تغتم يا رسول الله ، إذا رأيت إعراض الكفار ، فإنهم ، حيث أعرضوا عن الهدى ، لم
يلطف الله بهم ألطافه الخفية ، ولذا تاهوا في ظلمات الكفر والضلالة (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إسماعا نافعا ، وإنما يشاء سبحانه إسماع من إذا رأى
وَما
أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢)
إِنْ
أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
____________________________________
الحق تبعه ، أما من إذا رأى الحق ابتعد عنه وأعرض ، فلا يسمعه الله ـ فوق
أصل الإبلاغ ـ شيئا آخر من قبيل الألطاف الخفية الموجبة للسعادة (وَما أَنْتَ) يا رسول الله (بِمُسْمِعٍ) أي بقادر على أن تسمع إسماعا نافعا (مَنْ فِي الْقُبُورِ) فإن هؤلاء الكفار كالأموات في المقابر ، الذين لا يتمكن
الرسول من إسماعهم ، فكما حال الموت بين أولئك ، وبين السماع النافع ، كذلك حال
موت القلوب ، وانحراف النفوس بين هؤلاء ، وبين أن يسمعوا إنذار الرسول وإرشاده.
[٢٤](إِنْ أَنْتَ) أي ما أنت يا رسول الله (إِلَّا نَذِيرٌ) تنذر وقد أنذرت هؤلاء ، أما هدايتهم ، فليست عليك ، فلا
تحزن عليهم.
[٢٥](إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (بِالْحَقِ) أي إرسالا بالحق ، لا بالباطل ، لأجل اللهو واللعب ،
والإفساد ، وما أشبه ، من الإرسالات الباطلة ، فإذا أرسل أحد آخر للإفساد ، كان
إرسالا باطلا ، وإذا أرسل أحد آخر للإصلاح ، كان إرسالا بالحق ، في حال كونك (بَشِيراً) تبشر المؤمنين المطيعين بالجنان (وَنَذِيراً) تنذر الكفار والعاصين بالنيران ، فشأنك البشارة
والإنذار ، ولا يرتبط بك ، من آمن ، ومن لم يؤمن (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) ما من أمة من الأمم السابقة (إِلَّا خَلا) أي مضى (فِيها) في تلك الأمة (نَذِيرٌ) ينذرهم إذا كفروا وعصوا ، قوبلوا بالعقاب والنكال ،
فأنت مثل أولئك المنذرين ، وكما أنه لم يضرهم عدم استجابة الأمم كذلك لا يضرك عدم
استجابة الناس لك.
وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥)
ثُمَّ
أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ
____________________________________
[٢٦](وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا رسول الله ، هؤلاء الكفار ، بأن يقولوا ، أنت كاذب ،
لست من قبل الله سبحانه فليس شيئا جديدا ، إذ قد (كَذَّبَ) الأمم (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) أنبياءهم ، حين (جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ) جمع رسول ، ويجوز الإتيان بالفعل ، مذكرا ومؤنثا ، إذا
كان الفاعل ، جمع غير مذكر سالم ، قال ابن مالك :
والتاء مع
جمع سوى السالم
|
|
مذكر كالتاء
مع إحدى اللبن
|
(بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج الواضحة الدالة على كونهم مرسلين ، كالمعجزات
، والخوارق (وَبِالزُّبُرِ) كالكتب المتفرقة التي فيها الحكم والنصائح ، كما جاء
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بالأحاديث القدسية ، وقطعا من حكم موسى وعيسى عليهماالسلام (وَبِالْكِتابِ
الْمُنِيرِ) أي النيّر الذي فيه تعاليم السماء ، كان الأنبياء يأتون
إلى الأمم بكل ذلك ، ومع ذلك كانت الأمم تكذبهم.
[٢٧](ثُمَّ أَخَذْتُ) بالعذاب والنكال (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وأنبيائه ، بعد إتمام الحجة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري ، للمكذبين؟ وهذا استفهام استشفائي ، فيه
تسلية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنذار لكفار مكة.
[٢٨] ثم يرتد
السياق ليذكّر الكفار ، بجملة من الآيات الكونية (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، والخطاب ، وإن كان له لكن المراد به
العموم ، أو ألم تر
أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها
وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ
____________________________________
أيها الرائي (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر (فَأَخْرَجْنا) على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم الذي هو فن من
فنون البلاغة (بِهِ) أي بذلك المطر (ثَمَراتٍ) جمع ثمرة ، وهي فاكهة الشجر التي تجتنى منها (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أي ألوان تلك الثمرات ، فأحمر ، وأخضر ، وأبيض ، وأصفر
، وأزرق ، وغيرها ، من سائر الألوان ، وذو لونين ، وذو ألوان ، وهكذا ، ويحتمل أن
يراد باللون الأعم من جميع ما يدرك بسائر الحواس ، من الأشكال والحجوم والطعوم ،
والروائح وغيرها ، فإن اللون قد يطلق توسعا على الجميع (وَ) كما أن الثمار ، مختلفة الألوان كذلك (مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) مفردها جدة ، كغرف ، وغرفة ، والمراد بها الطرق (بِيضٌ وَحُمْرٌ) أي طرق في الجبال ـ إما المراد طرق السير ، وإما
الامتدادات ، فإن الإنسان يرى الجبل فيه قطعة ممتدة حمراء ، وقطعة ممتدة بيضاء ،
وسميت طريقا تشبيها ـ وبيض جمع أبيض ، كما أن حمر جمع أحمر (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) أي ألوان تلك الطرق الموجودة في الجبال (وَغَرابِيبُ سُودٌ) جمع غربيب ، وهو الشديد السواد ، الذي يشبه لون الغراب
، وسود جمع أسود ، أي ومن تلك الطرق مثل لون الغراب أسود ، فسود عطف بيان لغرابيب.
[٢٩](وَ) كما أن الثمار ، والجبال مختلف ألوانها ، كذلك (مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِ) جمع دابة ، وهي الحيوانات التي تدب في الأرض (وَالْأَنْعامِ) جمع نعم ، وهي الإبل والبقر ، والغنم ، خلق (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ
كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ
اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ
____________________________________
أَلْوانُهُ
كَذلِكَ) أي كالذي تقدم من الثمار والجبال ، فهذا إنسان حبشي
أسود ، وهذا صيني أصفر ، وهذا آسيوي أبيض وأحمر ، وهذه هرة بيضاء ، وهذه هرة سوداء
، وهذه نعجة حمراء ، وتلك صفراء ، وهكذا ، فمن يا ترى خلق هذه الألوان؟ ومن يا ترى
خلط هذه الألوان ، بأجسام هذه المخلوقات؟ وقد تقرر في العلم الحديث ، أن أقسام
الألوان «ثلاثمائة ألف» إنه هو الله الخالق المبدع المنشئ العظيم (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) مفعول يخشى (مِنْ عِبادِهِ
الْعُلَماءُ) فاعل يخشى ، أي يخشى من الله ، العلماء من أقسام عباده
، فإن الإنسان ، إنما يخاف من الأسد ـ مثلا ـ إذا عرفه ، أما الجاهل بوجوده ، أو
ببأسه ، فإنه لا يخاف منه ، وكذلك الجاهل ، بأصل وجود الله أو ببأسه وبطشه لا
يخشاه ، وإنما العالم به وبعذابه ، لمن عصاه يخشاه تعالى ، ويخافه (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب في سلطانه ، فاللازم أن يخشاه العصاة (غَفُورٌ) لمن آب وأناب ، فلا ييأس من عفوه ، وغفرانه ، العاصون.
[٣٠](إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يقرءون حق قراءته للعمل والاتباع ، والمراد بكتاب
الله هو القرآن (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بآدابها ، وشرائطها ، والاهتمام بالصلاة ، في كل مكان ،
لأجل أنها خير وسيلة لتركيز الإيمان في القلب ، بسبب استمرارها ، وإيحائها بعظمة
الله وارتفاعه ، في النفوس ، ولذا كان المصلون أقل الناس شرا وإثما ، وأكثرهم رحمة
، وخيرا ونزاهة (وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ) عام يشمل جميع أنواع
سِرًّا
وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ
____________________________________
الرزق ، من مال وجاه ، وغيرهما (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي في جميع أحوالهم ، فلا يفرق عندهم ، السر والعلانية
، في البذل والإنفاق (يَرْجُونَ) بهذه الأعمال (تِجارَةً لَنْ
تَبُورَ) أي لن تفسد ، ولن تهلك ، والمراد بالتجارة ، نتيجة
التجارة ، وهي الثواب العائد إليهم من جزاء أعمالهم الصالحة ، فلا يريدون بأعمالهم
الرياء والسمعة ، وإنما وجه الله سبحانه وثوابه.
[٣١] وإنما
يفعلون هذه الأعمال ، ويرجون الثواب ، لأن يوفيهم الله (أُجُورَهُمْ) ، كما تقول عملت لزيد ، ورجوته ، ليعطيني أجري ، ومعنى
وفاء الأجور ، إعطائها كاملة ، غير منقوصة (وَيَزِيدَهُمْ) على ما يستحقون (مِنْ فَضْلِهِ) وإحسانه ، كما قال تعالى ، (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها) ... وخبر «إنّ» محذوف ، أي إن الذين يعملون تلك الأعمال
، للأجر والثواب ، يعطيهم الله ما يترقبونه ، وإنما حذف لدلالة قوله (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) عليه ، فمن عمل ذلك ، غفر الله ذنبه ، وشكر عمله ، وشكر
الله للعمل : إعطاء جزائه وثوابه لمن عمل.
[٣٢] وبمناسبة
الحديث ، عن الذين يتلون الكتاب ، يأتي السياق ، لبيان حال الكتاب (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن (هُوَ الْحَقُ) الصحيح لا يشوبه فساد ، وباطل ، كأن تكون قصصه
__________________
مُصَدِّقاً
لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)
ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ
____________________________________
كاذبة ، أو أحكامه موجبة للفساد ، في حال كونه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي يصدق الكتب السابقة عليه من التوراة والإنجيل ،
وغيرهما ، من سائر كتب الأنبياء (إِنَّ اللهَ
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) مطلع على أحوالهم ، يعلم ما يصلحهم ، وما يفسدهم ، كما
يعلم من يؤمن ، ممن لا يؤمن (بَصِيرٌ) ناظر إلى أعمالهم.
[٣٣](ثُمَ) بعد إنزال الكتاب عليك ، يا رسول الله (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أي القرآن (الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) أي أعطيناه للمسلمين بالإرث ، والمراد بالإرث ، انتقاله
إليهم ، كما ينتقل المال من المورث إلى الوارث ، فقد انتقل القرآن من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المسلمين ، وقد اصطفى الله المسلمين ، لحمل هذه
الرسالة ، كما قال (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ثم بين سبحانه ، إن هؤلاء العباد ، على ثلاثة أقسام (فَمِنْهُمْ) أي بعضهم ، وهم الأغلب (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) يرتكب بعض المعاصي ، وهذا لا ينافي الاصطفاء ، فإن
المراد ، اصطفاء المجموع ، من حيث المجموع ، في مقابل الكفار والمشركين ، وأهل
الكتاب (وَمِنْهُمْ) أي بعضهم ، وهم الأقل (مُقْتَصِدٌ) متوسط ، بين الطاعة والمعصية فليس من الظالمين ، ولا من
الصلحاء الأخيار (وَمِنْهُمْ) وهم الأقل (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) أي ليسبق الناس في عمل الأعمال
__________________
بِإِذْنِ
اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)
جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
____________________________________
الخيرية (بِإِذْنِ اللهِ) ومشيئته ، وهذا من أظهر مصاديقه الأئمة الطاهرين ، ثم
الأصلح فالأصلح من الأمة ، ولذا قال الباقر عليهالسلام : «أما السابق بالخيرات ، فعلي بن أبي طالب ، والحسن
والحسين عليهمالسلام والشهيد منا ، وأما المقتصد فصائم بالنهار وقائم بالليل
، وأما الظالم لنفسه ، ففيه ما في الناس ، وهو مغفور له» (ذلِكَ) التوريث ، للكتاب لهذه الأمة (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إذ قد رآهم الله سبحانه ، أهلا لحمل هذه الأمانة
الرفيعة ، وإبلاغها للناس.
[٣٤] ولهؤلاء (جَنَّاتُ عَدْنٍ) عدن بالمكان ، بمعنى أقام فيه ، أي البساتين التي يخلو
فيها من يدخل (يَدْخُلُونَها) أي يدخلون تلك الجنات «عبادنا» حتى الظالم منهم ، بعد
أن يكون من ورثة الكتاب بالإيمان الكامل ، وإنما عصى جهلا ، كسائر العصاة ، الذين
صحت عقيدتهم ، وإنما خلطوا عملا صالحا ، وآخر سيئا ، أما من اختل إيمانه ، فليس
بمسلم مؤمن ، حتى يشمل في عموم «عبادنا» (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسهم الله الحلو (مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة ، ومفردها سوار ، وهو ما يجعل في اليد بين
المرفق ، والزند (مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤاً) أي ويحلون فيها لؤلؤا ، وقد كان مرسوم الملوك والكبراء
لبس الأساور (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (حَرِيرٌ) وهو الإبريسم المحض.
__________________
وَقالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ
مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ
مِنْ عَذابِها
____________________________________
[٣٥] وبالإضافة
إلى هذه النعم الجسمية ، يتنعّم أهل الجنة بالنعم الروحية (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الأحزان ، التي تنتاب الإنسان في الدنيا ، فلا حزن هناك
ولا غم ، بل سرور وحبور (إِنَّ رَبَّنا
لَغَفُورٌ) لذنوبنا ومعاصينا (شَكُورٌ) لطاعاتنا وعبادتنا ، ومن شكره ، أنه تفضل علينا بهذه
النعم الجسام ، فإن الشخص إنما يعطي العامل الجزاء ، إذا شكر عمله ، وقبله بقبول
حسن.
[٣٦] الله (الَّذِي أَحَلَّنا) أي أنزلنا (دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الخلود ، التي نقيم فيها إلى الأبد (مِنْ فَضْلِهِ) وكرمه ، وإلا فليست أعمالنا بقدر تستحق به هذا الجزاء
العظيم (لا يَمَسُّنا فِيها
نَصَبٌ) أي لا يصيبنا في دار المقامة عناء ومشقة وتعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) وهو المشقة في طلب المعاش ، أو نحو ذلك.
[٣٧] وفي مقابل
هؤلاء ، الكفار الذين لم يقبلوا هذا الكتاب ، فلننظر ماذا لهم هناك؟ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله ، واليوم الآخر ، وما يلزم الإيمان به (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) جزاء على كفرهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) بالموت أي لا يحكم الله عليهم بالموت (فَيَمُوتُوا) ويستريحوا من العذاب (وَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي لا يقلل عذاب جهنم
كَذلِكَ
نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ
يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
إِنَّ
اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
____________________________________
(كَذلِكَ) الذي ذكرنا من تعذيب هؤلاء الكفار بالنار (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كثير الكفر المستمر عليه.
[٣٨](وَهُمْ) أي الكفار (يَصْطَرِخُونَ) أي يتصايحون من شدة العذاب ، أصله «صرخ» بمعنى صاح ،
وهذا من باب الافتعال ، قلبت تائه طاء على القاعدة (فِيها) أي في جهنم ، يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا) من جهنم (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) ، بعد إخراجنا (غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ) من الكفر والمعاصي ، لكن يأتيهم التوبيخ والتقريع (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) أي نعطيكم العمر الكثير في الدنيا ، بقدر (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) أي في ذلك العمر (مَنْ تَذَكَّرَ) فلو كنتم تريدون التذكر والتوبة ، كان لكم من العمر ما
يكفي ذلك (وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ) وهو الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ ومع ذلك لم تؤمنوا ، ولم تطيعوا ، وقد أخبر سبحانه في
آية أخرى بقوله (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (فَذُوقُوا) العذاب (فَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم ، ويدفع عنهم العذاب.
[٣٩](إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فالله سبحانه ، كما أنه
__________________
إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ
____________________________________
خالقهما ، عالم بما غاب عن الحواس ، في السماوات والأرض (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بالأشياء ، التي تدور في صدور الناس ، ولعل الإتيان
بهذه الجملة هنا ، باعتبار أنه يعلم ما في صدور الكفار ، من أنهم ، لا ينوون
الإقلاع ، صدقا ، إن رجعوا إلى الدنيا ، كما هو شأن المعاند دائما ، ولذا قال
سبحانه (وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ).
[٤٠](هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ) أي خلفاء للسابقين (فِي الْأَرْضِ) تخلفونهم ، في مكانهم ، لتعتبروا بهم ، وأنهم حين عصوا
أهلكوا (فَمَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي أن عاقبة كفره السيئة على نفسه ، فإنه يتضرر بجزاء كفره
(وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) وهو أشد الغضب ، فكلما بقوا في الكفر إزداد غضب الله
عليهم (وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) خسارة لخير الدنيا ، وسعادة الآخرة ، فلهم عذاب نفسي ،
هو مقت الله لهم ، وعذاب جسمي هو الخسارة.
[٤١](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أخبروني عن هؤلاء الشركاء (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فهل خلقوا بعض الأشياء الموجودة في الأرض؟ (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أم هل اشتركوا في خلق بعض الأمور
أَمْ
آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)
إِنَّ
اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ
أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ
____________________________________
الكائنة في السماء؟ حتى تقولون أنهم شركاء لله سبحانه ، في العبادة ، لأنهم
اشتركوا معه ، في خلق بعض الأشياء ، في الكون (أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً) أي أنزلنا على هؤلاء المشركين كتابا يصدق عقيدتهم ، بأن
ينصر ذلك الكتاب على وجود شركاء لله سبحانه (فَهُمْ) أي هؤلاء الكفار (عَلى بَيِّنَةٍ) أي على حجة ظاهرة (مِنْهُ) أي من الشرك ، فلهم حجة ظاهرة عليه ، أو من ذلك الكتاب؟
لكن لم يكن مستند شركهم ، لا هذا ، ولا ذاك ، ولا ذلك (بَلْ إِنْ يَعِدُ) أي ما يعد (الظَّالِمُونَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) فيقول بعضهم لبعض أن طريقتنا أحسن وأن النصر لنا
بالآخرة ، والغرور هو الذي يطمع فيه ، ولكن لا حقيقة له.
[٤٢] إن
السماوات والأرض ، كلها مخلوقة لله سبحانه ، وكما خلقهما يحفظهما عن الزوال ،
والتفكك ، وليس لصنم شرك في خلقهما أو إبقائهما (إِنَّ اللهَ) تعالى (يُمْسِكُ) أي يحفظ (السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) بمن فيهما (أَنْ تَزُولا) أي كراهية أن تزولا عن مواضعهما ، فلو انقطعت عناية
الله عنهما ، وعن هذا النظام ، لاضطربت أوضاع الكون ، فزالت المدارات والأنجم من
مواضعها ، وهلك كثير من السكان ، واضطربت الأرض ، كما أنه لو انقطعت العناية ، عن
أصل وجودهما عدمتا في اللحظة والآن (وَلَئِنْ زالَتا) أي قدّر زوالهما (إِنْ أَمْسَكَهُما) أي ما أمسكهما ، وما قدر على حفظهما (مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا
بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ
إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي
الْأَرْضِ
____________________________________
بَعْدِهِ) أي من بعد الله سبحانه ، فليس هناك أحد يتمكن أن يحفظ
شيئا منهما (إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً) ومن حلمه ، لا يعجل بالعقوبة على الذين يجعلون لله
شركاء (غَفُوراً) يغفر الذنب لمن أناب ، وفي هذا فتح التوبة على المشركين
، كي لا ييأسوا من روح الله ، فإنه تعالى يقبلهم إن رجعوا عن شركهم.
[٤٣] إن الكفار
بالإضافة إلى رذيلة الكفر ، ارتكبوا رذيلة خلف الحلف والعهد (وَ) ذلك لأنهم (أَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي بأيمان غليظة ، حسب غاية قدرتهم وطاقتهم ، و «جهد»
مصدر ، أي جهدوا في القسم جهدا ، أو أقسموا هنا النوع من القسم (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي رسول ينذرهم (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) أي أقبل للهداية (مِنْ إِحْدَى
الْأُمَمِ) الماضية ، فقد كانوا يسمعون أنباء الأنبياء مع قومهم ـ من
أهل الكتاب ـ فيقولون ، إن جاءنا رسول ، نقبل قوله فورا ، بلا معارضة ، أو مناقشة
، ويحلفون على ذلك بالأيمان المغلطة (فَلَمَّا جاءَهُمْ
نَذِيرٌ) هو الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الحق ، فقد كان قلبهم ، يلين للحق سابقا ،
أما إذا رأوه فقد ابتعدوا عنه ، ابتعادا كبيرا.
[٤٤] وإنما
نفروا نفورا (اسْتِكْباراً فِي
الْأَرْضِ) أي لأنهم استكبروا وتجبروا عن أن يكونوا تبعا للرسول ،
فقد طلبوا الكبرياء في الأرض لأنفسهم
وَمَكْرَ
السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ
تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
____________________________________
(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي قصدوا أن يمكروا المكر السيئ بالمؤمنين والمكر حيث
كان بمعنى التدبير الخفي ضد العدو ، صح إضافته إلى السيئ ، لأن من المكر ، ما هو
حسن ، إذا كان ضد عدو الدين ، كما قال «ومكر الله» (وَ) لكنهم غفلوا من أنه (لا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ) صفة مكر ، وفي ما تقدم ، كان مضافا إلى السيئ ، والمعنى
لا يحيط جزاء المكر السيئ (إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي بأهل المكر ، كما قالوا : «من حفر بئرا لأخيه ، وقع فيه» فقد قرر سبحانه
، أن يرجع المكر السيئ إلى من مكر ، كما قال : (وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الكفار المستكبرين الماكرون (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) بأن تجري فيهم ، عادة الله في الأمم السابقة ، التي
كانت تكذب أنبياءها عليهمالسلام ، والعادة هي أن يعمهم الله بعقاب يهلكهم أي هل ينتظر
هؤلاء عقاب الله؟ وإلا فلما ذا لا يؤمنون ، بعد أن رأوا الحق ظاهرا ، فإن كانوا
ينتظرون ذلك (فَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لِسُنَّتِ اللهِ
تَبْدِيلاً) والمعنى ، فسيأتيهم العذاب ، إذ لا تبدّل سنة الله ،
التي سنّها للمكذبين ، من أنه لما تمت عليهم الحجة ، ولم يرتدعوا عمهم بالعقاب ،
والنكال (وَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لِسُنَّتِ اللهِ
تَحْوِيلاً) فالتبديل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض ، فيبدّله الله
سبحانه ، بأن
__________________
أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ
شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)
____________________________________
يجعل جزاء المكذب الصحة ، والتحويل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض في
الدنيا ، فيحوله إلى المرض في الآخرة ، أو أن يكون المرض في المكذبين ، فيحوله إلى
المرض في المؤمنين ، وإنما جيء ، ب «ينظرون» مكان «ينتظرون» لأن المنتظر لشيء ،
ينظر ليرى ، هل صار أم لا ، وهذا لا يكون ، إلا قرب وقت الشيء الذي ينتظره ، فكأنه
قرب العذاب إليهم ، فهم ينظرون ليروه ، بخلاف «ينتظرون» فإنه يلائم الأمر البعيد
المرتقب.
[٤٥](أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ) التي أهلك أهلها ، كأرض عاد وثمود ، وأرض سدوم ، وغيرها
(فَيَنْظُرُوا) بأعينهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الذين كذبوا أنبياءهم ، فأخذهم الله بالعقاب (وَكانُوا) أولئك الذين أهلكوا (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار (قُوَّةً) في أبدانهم ، وفي سائر مرافق حياتهم (وَ) إذ صار وقت هلاكهم ، لم يقف دون إرادة الله قواهم
الكثيرة ، إذ (ما كانَ اللهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) بأن تكون القوة سببا لعجز الله عن تنفيذ إرادته في هلاك
القوم (فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ) أي ليس ، في السماء ولا في الأرض ، شيء يقف أمام إرادة
الله ، فإذ قد أهلك أولئك الذين كانوا أشد من هؤلاء قوة ، فهل يتمكن هؤلاء
الأضعفون ، إن يقفوا أمام العذاب؟ (إِنَّهُ) تعالى (كانَ عَلِيماً) بجميع الأشياء يعلم ما يفعل كل إنسان (قَدِيراً) بأن يجازيه حسب عمله ، فليقلع هؤلاء
وَلَوْ
يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ
كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
____________________________________
الكفار ، عن غيهم وكفرهم ، وإلا كان مصيرهم ، مصير الأمم الماضية.
[٤٦](وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما
كَسَبُوا) من الكفر والعصيان (ما تَرَكَ عَلى
ظَهْرِها) أي ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) تدب على وجه الأرض ، إذ قد خلقت الأشياء لأجل الإنسان ،
فإذا أهلك الإنسان لكفره وعصيانه لزم فناء سائر الحيوانات ، لأنه قد فنى ما لأجله
خلقت ، أو أن المراد ، أن العذاب ، لو نزل لعمّ الكل ، فلا تبقى دابة في الأرض ،
فإنه إذا كان هناك جماعة بعضهم مجرم ، وبعضهم صالح ، وجاء السيل لأخذ المجرم ، أخذ
البريء معه ، وهذا لا ينافي العدل ، إذ يكون ذلك سببا لرفع درجات البريء ـ كما قرر
في علم الكلام ـ بأن الآفات إما للتأديب أو للتعذيب ، أو لرفع الدرجة (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) الله سبحانه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي قد سماه في اللوح المحفوظ ، فقد علّم على مدة بقاء
زيد بسنة كذا ولبقاء عمرو بسنة كذا ، وهكذا ، والاسم في اللغة بمعنى العلامة ،
ومنه سمي علم الأشخاص اسما (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) عارفا بأحوالهم ، فيجازيهم حسب ما عملوا ، كما يقول
الحاكم ، مهددا للمجرمين إذا جاء يوم المحاكمة ، أنا أعرف الناس ، أي لا أشتبه في
الحكم على المجرم بالعقاب ، وأميزه على الصالح البريء.
(٣٦)
سورة يس
مكيّة / آياتها (٨٤)
سميت السورة
بهذا الاسم ، لابتدائها ، ب «يس» وهو كما ورد من أسماء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كما لا ينافي في أن يكون «رمزا» أيضا ، وينطبق عليه بعض
الأقوال الأخر ، في المقطعات ، وهي كسائر السور المكية ، تعالج قضية العقيدة ، في
أسلوب جذّاب ، وإذ كان في أواخر سورة فاطر ، أنهم لم يؤمنوا بالرسول ، بعد إذ
جاءهم ، افتتحت هذه السورة ، بالحلف الأكيد ، على كون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مرسلا من قبل الله سبحانه.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي من ابتدأ باسمه في أعماله ، كان
العمل قريبا بالخير ، والتمام ، وإن لم يبتدأ به ، كان أبعد عن الخير ، وإن تمّ في
الظاهر ، فإن طابع الله سبحانه ، إذا لم يوضع على شيء فنى فيما يفني من زهرة
الحياة الدنيا ، والإتيان بوصفي الرحمن والرحيم ، للتأكيد على هاتين الصفتين في
الإله سبحانه ، مقابل آلهة الكفار الذين يتصفون بالقساوة والغلظة.
يس
(١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)
إِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ
____________________________________
[٢](يس) اسم للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما ورد عن الباقر عليهالسلام ، قال : «إن لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خمسة أسماء في القرآن ، محمد ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس
، ونون» ، أو رمز بين الله وبين الرسول والأئمة عليهمالسلام ، أو غير ذلك من الأقوال ، وعلى الأول يكون «منادى» أي «يا
رسول الله».
[٣](وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حلف بالقرآن وإنما سمي القرآن حكيما ، لما فيه من
الأحكام الحكيمة ، التي جاءت حسب الصلاح ، والحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.
[٤](إِنَّكَ) يا رسول الله (لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) ، فلست كاذبا ، كما يزعم هؤلاء بل قد أرسلك الله إلى
الناس بشيرا ونذيرا.
[٥] في حال
كونك (عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي تسلك الطريق الذي لا انحراف له ، في العقيدة والعمل
، وإنما جيء ب «على» تشبيها بمن كان يمشي على الطريق ، لاستعلائه عليه.
[٦] في حال كون
القرآن (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ) العزيز في سلطانه ، فلا يريد شيئا ، إلا عمله ، الرحيم
بعباده.
[٧](لِتُنْذِرَ قَوْماً) وهم كفار مكة (ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ) أي لم ينذر آباؤهم ، لأنهم كانوا ، بلا أنبياء ، في زمن
فترة بين المسيح والرسول عليهماالسلام ، أو
__________________
فَهُمْ
غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ
____________________________________
أن «ما» موصولة ، أي تنذرهم ، كما أنذر آباؤهم ، لكن ظاهر «الفاء» تفيد
الأول (فَهُمْ غافِلُونَ) عن الأصول والآداب ، والنظام ، وإنما عبّر بالغفلة ،
لأن الإنسان يكمن في نفسه الأصول والآداب (فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وإنما يغفل عنها ، بسبب الأهواء ، والشهوات ،
والتقاليد.
[٨](لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى
أَكْثَرِهِمْ) ثبت القول بالعذاب ، على أكثر هؤلاء القوم ، لعنادهم
ولجاجهم في الأمر ، بعد تبين الحق ، ووضوح الحجة (فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) فقد علم الله عدم إيمانهم ، أو أن المراد ، أنه ثبت
القول ، بعدم الإيمان عليهم ، بما علم الله فيهم من العناد واللجاج ، فهم لا
يؤمنون.
[٩] إن هؤلاء
الكفار في إعراضهم كالإنسان الذي غلّت يديه مع عنقه ، وغشي على بصره ، فكيف أنه لا
يتمكن أن يشرئب عنقه ليرى ، ولا أن يلمس بيده ليعلم ، ولا أن ينظر ببصره ليرى ،
فإن هذه الأعضاء الثلاثة تتعاون في فهم الشيء ، وحيث أن الله سبحانه ، يرى من
إنسان الإعراض عن الحق واللجاج ، يتركه حتى يضل ويتيه في أودية العماية ، فكأنّه
أضلّه لأنه تركه ، كما يقال : الملك أفسد الناس إذ تركهم حتى فسدوا (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ) أي أعناق هؤلاء الكفار المعاندين (أَغْلالاً) جمع غل ، وهو السلسلة التي يربط بها المجرم في عنقه أو
يده أو رجله (فَهِيَ) أي تلك الأغلال (إِلَى الْأَذْقانِ) بأن
__________________
فَهُمْ
مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ (٩)
____________________________________
كانت كبيرة ، حتى وصلت إلى أذقانهم ، ليرفعها نحو الفوق ، فلا يتمكنون من
النظر بعيونهم أمامهم ، فإن رؤوسهم بسبب تلك الأغلال مرفوعة نحو السماء ، وقيل أن
المراد أيديهم مغلولة إلى الأعناق ، ف «هي» عائدة إلى الأيدي المفهومة من السياق ،
وأذقان جمع ذقن ، وهو النتو وسط الفك السفلي (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) من قمح ، بمعنى رفع رأسه إلى فوق ، فإن الأغلال ، لما
امتدت إلى تحت أذقانهم ، رفعت رؤوسهم إلى السماء ، حتى لا يتمكنون من النظر
أمامهم.
[١٠](وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا) أي أمامهم سدّ عن قبول الحق (وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) فكما أن الإنسان الذي حصر بين سدين ، لا يتمكن من السير
والحركة ، كذلك هؤلاء لا يتمكنون من السير مع الحق ، وإنما هم جامدون في مكانهم (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي جعلنا على أبصارهم غشاوة ، تمنعهم عن الإبصار (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحق ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام ،
ونفر من أهل بيته ، وذلك «أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قام يصلي ، وقد حلف أبو جهل لعنه الله ، لئن رآه يصلي
ليدمغنّه فجاءه ومعه حجر والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قائم يصلي ، فجعل كلما رفع الحجر ليرميه ، أثبت الله عزوجل يده إلى عنقه ، ولا يدور الحجر بيده ، فلما رجع إلى
أصحابه ، سقط الحجر من يده ، ثم قام رجل آخر ، وهو من رهطه أيضا ، فقال : أنا
أقتله ، فلما دنا منه جعل يستمع قراءة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأرعب ، ورأى كأن فحلا حائلا بينه وبين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : حال بيني وبينه ، كهيئة
الفحل يخطر بذنبه ـ أي يحرك ذنبه
وَسَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(١٠) إِنَّما
تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا
____________________________________
غضبا ـ فخفت أن أتقدم» .
[١١](وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار (أَأَنْذَرْتَهُمْ) يا رسول الله (أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ) عن العقاب والنار (لا يُؤْمِنُونَ) إذ قد عاندوا الحق ، والمعاند يتساوى عند الإنذار
وعدمه.
[١٢](إِنَّما تُنْذِرُ) أي ينفع إنذارك ، في (مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ) أي القرآن ، فقد أنذر الرسول الجميع لكن الذين انتفعوا
به هم المؤمنون (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ
بِالْغَيْبِ) أي في حال كون الرحمن غائبا عن الحواس ، والمعنى آمن
بالله ، وإن لم يره (فَبَشِّرْهُ) يا رسول الله (بِمَغْفِرَةٍ) أي غفران لذنبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) لما أتي به من الإيمان والعمل الصالح ، وإنما كان الأجر
الكريم ، لعدم شوبه بما يفسده وينقصه ، أو لأنه يقدم إلى المؤمن مع الإكرام
والاحترام.
[١٣] ثم بعد
الكلام ، حول الألوهية والرسالة ، يأتي دور المعاد ، فقال سبحانه (إِنَّا نَحْنُ) التكرار للتأكيد والإلفات إلى أن المتكلم ذو مقام عظيم (نُحْيِ الْمَوْتى) جمع ميت ، أي ليوم القيامة ، لنجازيهم (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي قدم الناس لآخرتهم من الأعمال الصالحة ، أو
__________________
وَآثارَهُمْ
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ
____________________________________
الفاسدة (وَآثارَهُمْ) أي الأعمال التي أبقوها بعدهم ، كمن عمر مسجدا ومخمرا ،
فإنه يكتب له الثواب والعقاب ، وهو في القبر (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأعمال الصالحة والطالحة ، وسائر الأشياء (أَحْصَيْناهُ) من الإحصاء ، وهو التعداد بالإثبات والكتابة (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي كتاب ظاهر ، وإنما سمي الكتاب إماما ، لأنه يجعل
مصدر الأخذ ، كما أن الإمام ، مصدر الاقتداء والأخذ ، ولعل المراد بذلك اللوح
المحفوظ ، وفي جملة من الأحاديث ، «أن الإمام المبين ، هو الإمام أمير المؤمنين» عليهالسلام ، وذلك ، إما تأويل أو مصداق ، فإن الأعمال تعرض على
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والأئمة عليهمالسلام ، حتى يكونوا شهداء عليها ، فيعلمون أعمال الناس ، ولا
تنافي ، بين أن يكون هناك كتاب صامت ، وكتاب ناطق.
[١٤](وَاضْرِبْ لَهُمْ) يا رسول الله (مَثَلاً) أي بيّن لهم مثالا (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي قرية أنطاكية ، روي عن الباقر عليهالسلام ، أنه سئل عن تفسير هذه الآية ، فقال : «بعث الله رجلين
إلى أهل مدينة أنطاكية ، فجاءهم بما لا يعرفون ، فغلظوا عليهما ، فأخذوهما
وحبسوهما في بيت الأصنام ، فبعث الله الثالث ، فدخل المدينة ، فقال : أرشدوني إلى
باب الملك ، فلما وقف على الباب ، قال : أنا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض ، وقد
أحببت أن أعبد إله الملك ، فأبلغوا كلامه الملك ، فقال : أدخلوه إلى بيت الألهة ،
فأدخلوه ، فمكث سنة مع صاحبيه ، فقال
__________________
____________________________________
لهما : بهذا ينقل قوم من دين إلى دين؟ بالخرق ، أفلا رفقتما؟ ثم قال لهما :
لا تقرّان بمعرفتي ، ثم أدخل على الملك ، فقال له الملك : بلغني أنك كنت تعبد إلهي
، فلم أزل وأنت أخي؟ فسلني حاجتك ، فقال : ما لي من حاجة أيها الملك ، ولكن رأيت
رجلين في بيت الألهة فما حالهما؟ قال الملك : هذان رجلان أتياني ببطلان ديني ،
ويدعواني إلى إله سماوي ، فقال : أيها الملك ، فمناظرة جميلة ، فإن يكن الحق لهما
اتبعناهما ، وإن يكن الحق لنا دخلا معا في ديننا ، وكان لهما ما لنا وعليهما ما
علينا؟ فبعث الملك إليهما ، فلما دخلا عليه ، قال لهما صاحبهما : ما الذي جئتما به؟
قالا : جئنا ندعوه إلى عبادة الله الذي خلق السماوات والأرض ، ويخلق في الأرحام ما
يشاء ، ويصور كيف يشاء وأنبت الأشجار والثمار ، وأنزل القطر من السماء ، فقال لهما
: إلهكما هذا الذي تدعوان إليه ، وإلى عبادته ، إن جئنا بأعمى أيقدر أن يرده صحيحا؟
قالا : إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء ، قال أيها الملك : عليّ بأعمى لم يبصر شيئا
قط؟ فأتى به ، فقال لهما : ادعوا إلهكما أن يرد بصر هذا ، فقاما وصليا ركعتين ،
فإذا عيناه مفتوحتان ، وهو ينظر إلى السماء ، فقال : أيها الملك ، عليّ بأعمى آخر؟
فأتى به ، فسجد سجدة ، ثم رفع رأسه ، فإذا الأعمى يبصر ، فقال أيها الملك : حجة
بحجة ، عليّ بمقعد ، فأتي به ، فقال لهما مثل ذلك ، فصليا ، ودعوا الله ، فإذا
المقعد ، قد أطلقت رجلاه ، وقام يمشي ، فقال : أيها الملك علي بمقعد آخر فأتي به
فصنع به كما صنع أول مرة ، فانطلق المقعد ، فقال : أيها الملك قد أتيا بحجة آتينا
بمثلها ، ولكن بقي شيء واحد ، فإن كانا هما فعلاه دخلت معهما في دينهما؟ ثم قال
أيها الملك بلغني أنه كان للملك ابن واحد ، ومات ، فإن أحياه إلههما ، دخلت معهما
في
إِذْ
جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)
إِذْ
أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
____________________________________
دينهما فقال له الملك : وأنا أيضا معك ، ثم قال لهما : قد بقيت هذه الخصلة
الواحدة ، قد مات ابن الملك ، فادعوا إلهكما أن يحييه ، فخرا ساجدين لله عزوجل ، وأطالا السجود ، ثم رفعا رأسهما ، وقالا للملك : ابعث
إلى قبر ابنك تجده ، قد قام من قبره إن شاء الله ، فخرج الناس ينظرون ، فوجدوه ،
قد خرج من قبره ينفض رأسه من التراب ، قال : فأتى به الملك ، فعرف أنه ابنه ، فقال
له : ما حالك يا بني ، قال : كنت ميتا ، فرأيت رجلين بين يدي ربي الساعة ساجدين ،
يسألانه أن يحييني ، فأحياني قال : يا بني تعرفهما إذا رأيتهما ، قال : نعم ،
فأخرج الناس جملة إلى الصحراء ، يمرّ عليه رجل رجل ، فيقول له أبوه انظر ، فيقول
لا ، ثم مروا عليه بأحدهما بعد جمع كثير ، فقال هذا أحدهما ، وأشار بيده إليه ، ثم
مروا أيضا بقوم كثيرين ، حتى رأى صاحبه الآخر ، فقال وهذا الآخر ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، صاحب الرجلين : أما أنا فقد آمنت بإلهكما ، وعلمت أن
ما جئتما به هو الحق ، فقال الملك : وأنا أيضا آمنت بإلهكما ، وآمن أهل مملكته
كلهم» ، وفي بعض الروايات «أن عيسى عليهالسلام ، كان هو الذي بعث بالرسولين ، أولا ثم بعث وصيه شمعون
ثانيا»
، كأنّ الإتيان
بهذا المثل للدلالة على قدرة الله على الإحياء ، إرشادا للمنكرين للبعث (إِذْ جاءَهَا) أي جاء إلى أهل تلك القرية (الْمُرْسَلُونَ) الذين أرسلوا من قبلنا بتوسط عيسى المسيح عليهالسلام.
[١٥](إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ) أي إلى أهل تلك القرية (اثْنَيْنِ) أي رسولين
__________________
فَكَذَّبُوهُما
فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ
إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا
يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)
وَما
عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا
____________________________________
(فَكَذَّبُوهُما) أهل القرية ، وقالوا لستم أنتم رسلا من قبله سبحانه ، وإنما
رجلين كاذبين (فَعَزَّزْنا) أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون (فَقالُوا) جميعا لأهل القرية (إِنَّا إِلَيْكُمْ) أيها القوم (مُرْسَلُونَ) فقد كانوا هم أنبياء بأنفسهم ورسل عيسى عليهالسلام.
[١٦](قالُوا) لهم أهل القرية (ما أَنْتُمْ) أي لستم أنتم (إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا) فلا تصلحون للرسالة من قبل الله ، كما لسنا نحن رسلا ،
فكانوا يظنون أن الرسول يجب أن لا يكون بشرا (وَما أَنْزَلَ
الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) تدعوننا إليه (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها المدعون للرسالة (إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي كاذبون ، فيما تدعون من أنكم أنبياء لله تعالى.
[١٧](قالُوا) أي قالت الرسل الثلاثة في جواب القوم (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ) والدليل على أن ربنا يعلم أنه أجرى الخوارق على أيدينا.
[١٨](وَما عَلَيْنا) أي لا يجب علينا (إِلَّا الْبَلاغُ) أي إبلاغ الدين (الْمُبِينُ) بأن نبلغكم بكل جلاء ووضوح ، بلا اختفاء والتواء ، فإن
آمنتم نفعكم إيمانكم ، وإن لم تؤمنوا ضركم ، أما نحن ، فقد أدينا الأمانة ، وبلغنا
الرسالة.
[١٩](قالُوا) أي قال أهل القرية للرسل ـ بعد أن لم يتمكنوا من
إِنَّا
تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ
مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
____________________________________
رد حجتهم ـ (إِنَّا تَطَيَّرْنا
بِكُمْ) أي تشاءمنا بواسطتكم ، فنخاف أن يصيبنا شؤمكم ، فنقع في
البلاء من طالعكم السيئ (لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا) عن دعوتكم هذه (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) من الرجم ، وهو الرمي بالحجارة ، أي نرميكم بالحجارة ،
حتى نقتلكم ، فقد كان الرجم ، من أبشع أنواع القتل ، يعاقبون به أخطر أنواع
المجرمين (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا) أي من طرفنا (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.
[٢٠](قالُوا) أي قالت الرسل ، في جواب الكفار وتهديدهم (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي إن شؤمكم معكم ، حيث أقمتم على الكفر والعصيان ،
والإقامة على الكفر ، موجب للشؤم ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) فليس بلاؤكم منا ، بل من أنفسكم (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي هل تذكيرنا لكم بالله ، واليوم الآخر ، موجب لهذا
القول لنا؟ وهذا استفهام إنكاري ، كما تقول لمن هددك ، حيث نصحته : هل نصيحتي توجب
التهديد؟ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ) فلا تهددونا ، لأنكم وجدتمونا كاذبين ، وأسباب شؤم
وبلاء ، بل لأنكم قوم تجاوزون الحق تجاوزا كثيرا ، ولذا مع علمكم بصدقنا ، وإننا
أسباب خير ويمن تقولون لنا هذه الأقوال ، وتهددونا بالرجم والعذاب.
__________________
وَجاءَ
مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا
يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
____________________________________
[٢١] وقد كان
رجل يسمى حبيب النجار آمن بالرسل عند ورودهم المدينة ، وكان له بيت في آخر المدينة
، فلما سمع بمحاورة القوم مع الرسل ، أتى إلى القوم لينصحهم (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) أي آخرها (رَجُلٌ يَسْعى) أي يركض ويسرع في المشي ، لئلا يفوته الموقف ، وقد قيل
إن القوم أرادوا قتل الرسل ، فجاء حبيب لإنقاذهم من القتل ، فلما وصل إلى المجتمع (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلهم الله إليكم لهدايتكم وإنقاذكم من الكفر
والعصيان.
[٢٢](اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ
أَجْراً) فهم ، لا يريدون جزاء وثمنا على تبليغهم ، وإنما يقصدون
بذلك الثواب ، عند الله سبحانه ، فما لكم لا تتبعون الناصحين الذين ينصحون ، بلا
ثمن وجزاء؟ (وَهُمْ) في كلامهم (مُهْتَدُونَ) قد هداهم الله سبحانه ، فليسوا ضلالا ، ولا كاذبين ،
ولا طالبين للأجر.
[٢٣] ثم التفت
حبيب من الخطاب إلى التكلم ، فقال (وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي أيّ شيء لي في عدم عبادتي لله الذي خلقني؟ فإن «فطر»
بمعنى خلق ، وكان هذا الكلام للقوم ، بصورة مؤدبة لا تثيرهم ، ولا تزعجهم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أيها القوم ، في يوم القيامة ، فهو المبدئ والمعيد ،
فكونه خالقا موجب للشكر والعبادة وكونه مرجعا موجب للخوف والعبادة ، فإن الإنسان
إنما يطيع أحدا ، إذا تفضل عليه ، أو خاف عقابه ، والأمران مجتمعان فيه سبحانه.
أَأَتَّخِذُ
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي
شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)
____________________________________
[٢٤](أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (آلِهَةً) بأن أعبد الأصنام ، عوض عبادة الله تعالى؟ وهذا استفهام
إنكاري ، أراد التعريض بالقوم ، كيف يعصون الخالق ، ويعبدون الأصنام؟ (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) أصله «يردني» ، فعل مضارع من «أراد» والنون للوقاية ،
وياء التكلم ، محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، أي إن إرادة الله أن يضرني (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ) أي شفاعة الأصنام ـ الآلهة ـ (شَيْئاً) فإنها لا تشفع ، ولو شفعت لم تفد شفاعتها ، أو المعنى
لا شفاعة لهم ، فتغني وتفيد ، على طريق السالبة بانتفاء الموضوع (وَلا يُنْقِذُونِ) أي لا ينقذونني عن الضرّ الذي أراده الله بي ، وقد أراد
بهذا تنبيه القوم على ما هم كانوا يعترفون به في قرارة أنفسهم ، من أن الأصنام ،
لا شأن لها إطلاقا ، حتى إن أقل شيء لا يصدر منها ، والإتيان بالجمع العاقل
للأصنام ، لملاحظة وحدة السياق ، مع كلام القوم ، واعتقادهم بأنها تسمع وتعقل.
[٢٥](إِنِّي إِذاً) أي إذا عبدت الأصنام ، مع أنها لا تنفع (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح لا شك فيه.
[٢٦](إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) أيها الرسل ، أو أيها القوم (فَاسْمَعُونِ) سماعا يفيدكم ، بأن تفعلوا مثل فعلي ، أو المراد ،
فاشهدوا لي بهذه الشهادة ، فإني مؤمن بربكم الذي أوجدكم من العدم ، لا الأصنام.
قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي
رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
____________________________________
[٢٧] قالوا ، فاجتمع
القوم ، وقتلوا حبيبا ، فنودي ، حين أن قتل من قبله تعالى ، و (قِيلَ) له (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) المعدة لك بسبب إيمانك (قالَ) وهو ميت بعد استشهاده ، كما ورد (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
[٢٨](بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي بغفران ذنوبي ، ليرغبوا في ثوابه ، ويدخلوا في الدين
، بترك الكفر والعصيان (وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ) الذين أكرمهم ، بالإضافة إلى الغفران بالثواب والجنة.
تقريب القران إلى الأذهان
الجزء الثّالث والعشرون
من آية (٢٩) سورة يس
إلى آية (٣٢) سورة الزمر
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته
الطاهرين
وَما
أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ
____________________________________
[٢٩] ثم إن
الكفار يجب أن يعلموا أن الله سبحانه إذا أراد إهلاكهم ، لا يرسل إليهم جنودا حتى
يقاتلونهم ، فيرجون احتمال غلبهم على جنود الله ، حتى يقولوا إذا جاءت الجنود
نتهيأ لها ، بل إن الله إذا أراد الإهلاك ، أرسل إليهم ملكا يصيح بهم صيحة واحدة
تدمرهم ، حتى إنه ليس لهم مجال لحركة أو عمل ، فليعتبروا من قوم حبيب النجار ، فإن
جماعة منهم بقوا على الكفر ، بعد إيمان الملك وحاشيته ، وأرسلنا عليهم جبرئيل ، أو
ملكا آخر صاح بهم صيحة واحدة أو خلقنا صيحة في الفضاء ، أهلكتهم جميعا ، حتى لم
يبق منهم حيّ (وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ) أي قوم الرجل الذي جاء ، من أقصى المدينة يسعى (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد قتلهم له (مِنْ جُنْدٍ مِنَ
السَّماءِ) من الملائكة ، يحاربونهم ، حتى تكون لهم فرصة المقاتلة
، واحتمال الغلبة (وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ) أي ليس شأننا ، إنزال الجند ، إذا أردنا إهلاك قوم ، أو
كما ننزل فيما سبق ، لا ننزل في المستقبل ـ وهذا تهديد لكفار مكة ـ.
[٣٠](إِنْ كانَتْ) أي ما كانت كيفية إهلاك أولئك القوم (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بهم الملك ، أو بخلق الصيحة في الفضاء (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ساكنون ، قد ماتوا ، من الخمود ضد الاشتعال ، كأنهم
قد أطفئوا في أثر الصيحة.
[٣١](يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) الحسرة هي الندامة ، فالمعنى أيتها الندامة على العباد
، احضري فهذا وقتك ، كما قالوا في مثل «يا ويله» و «يا عجبا» أو
ما
يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
____________________________________
المعنى ، يا قوم أتحسر حسرة ، ومن المعلوم إن الله سبحانه لا يتحسر بمعناها
في البشر ، وإنما المراد نتيجة الحسرة ، كما في سائر الصفات ، كالغضب والرضى ، وما
أشبه ، ولذا قالوا خذ الغايات ، واترك المبادئ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
رَسُولٍ) «من» «لتعميم» النفي (إِلَّا كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) يضحكون منه ، ويجعلونه محلا للسخرية ، وحيث كان الكلام
في السابق ، حول مواجهة الأقوام للأنبياء ، بالأذى والتكذيب ، جاء السياق لبيان
عموم الأذى ، وإنه كان من شعبة السخرية.
[٣٢](أَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار المعاصرون للرسول ، ومعنى الرؤية العلم ،
على نحو الاستفهام التقريري ، أي ألم يصل علمهم (كَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء (مِنَ الْقُرُونِ) كعاد وثمود ، وقوم لوط ، والقرن يسمى الجيل والأمة ،
باعتبار تقارن أعمارهم (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ) أي أن تلك القرون إلى هؤلاء (لا يَرْجِعُونَ) فقد أخذهم العذاب ، فلم تبق منهم باقية؟ فليعتبروا
بأولئك ، وليعلموا أن مصير هؤلاء إن بقوا على كفرهم وتكذيبهم مصير أولئك.
[٣٣](وَإِنْ كُلٌ) أي ما كل تلك الأقوام (لَمَّا جَمِيعٌ
لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) «لما» بمعنى إلّا ، أي إلا أن الجميع يحضرون لدينا يوم القيامة للحساب
والجزاء ، ولعل «كل» باعتبار كل قوم ، و «جميع» باعتبار كل فرد من كل قوم.
[٣٤] ثم كيف
يكفر هؤلاء بالله سبحانه ، وأمام أعينهم ، آثاره الظاهرة ،
وَآيَةٌ
لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا
فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا
جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ
(٣٤) لِيَأْكُلُوا
مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ
____________________________________
وأعلامه الباهرة؟ (وَآيَةٌ) أي علامة دالة على وجود الله (لَهُمُ) أي لهؤلاء المنكرين وجود الله سبحانه (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) التي لا نبات فيها ، ولا حركة (أَحْيَيْناها) بالإنبات بواسطة المطر ، أو سائر المياه (وَأَخْرَجْنا مِنْها) من تلك الأرض الحبوب ، فإن (حَبًّا) يراد به الجنس ، والحب ، كالحنطة ، والشعير ، والأرز ،
وغيرها (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي من ذلك الحب ، والمراد بعضه ، لأن بعضه الآخر ، يكون
نصيب الحيوانات والطيور.
[٣٥](وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ) جمع نخل ، وهو ما يعطي التمر (وَأَعْنابٍ) جمع عنب ، وأطلق العنب على شجرته باعتبار السبب والمسبب
، وإنما خصّا بالذكر لكثرة أقسامهما خصوصا في تلك البلاد (وَفَجَّرْنا) أي أخرجنا (فِيها) في تلك الأرض الميتة ، أو في تلك الجنات (مِنَ الْعُيُونِ) جمع عين ، وهي محل خروج الماء العذب من الأرض.
[٣٦] وإنما
فعلنا ذلك (لِيَأْكُلُوا) أي ليأكل البشر (مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر النخل وما أشبه ، وتوحيد الضمير باعتبار كل
واحد واحد (وَما عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ) أي لم تعمل كل عمل ، من تلك الأعمال أيدي هؤلاء ، فإنهم
، وإن عملوا ، ولكنهم أسباب ضعيفة ظاهرية ، وإنما الخالق
أَفَلا
يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها
____________________________________
المكون هو الله تعالى : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله ، بإعطائهم هذه النعم المتواترة؟
[٣٧](سُبْحانَ الَّذِي) منصوب بفعل مقدر أي أنزهه تنزيها ، وأسبحه تسبيحا (خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) المراد بالأزواج الأصناف ، أي أن من خلق هذه الأصناف
الكثيرة الموجودة في العالم ، منزه عن الشريك والنقص ، بل هو الواحد الذي لا نقص
فيه (مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ) بيان «الأزواج» أي خلق أزواج النبات وأصنافه (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) خلق الأزواج ، ذكرا وأنثى (وَمِمَّا لا
يَعْلَمُونَ) من الجن والملائكة ، وما في بطون الأرض ، وقعر البحر ،
وأجواء السماء ، وأصناف النجوم وغيرها.
وستأتي الإشارة
إلى خلق الأنعام ، ولعله لذا لم يذكر هنا.
[٣٨](وَآيَةٌ لَهُمُ) أي دلالة على وجود الله ، وسائر صفاته ، لهؤلاء
المنكرين لله سبحانه (اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ) فكأنّ النهار كان جلدا على جسم الليل ، فإذا جاء الليل
، كأنّه سلخ النهار من الليل ، حتى يبدو الليل ، كما يسلخ جلد الشاة منها ، فيبدو
جسمها ، فهو كقولنا «لحم الشاة نسلخ منه الجلد» (فَإِذا هُمْ
مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام.
[٣٩](وَالشَّمْسُ تَجْرِي) كل يوم ، لأن يأتيهم بالنهار (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي
ذلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)
وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
____________________________________
إلى محل قرار لها ـ عند الناس ـ وهو تحت الأرض ، أو إلى وقت قرار لها ، وهو
يوم القيامة (ذلِكَ) الإجراء (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في سلطانه ، فما أراد كان (الْعَلِيمِ) بالمصالح ، فيعمل ما فيه صلاح البشر والكون.
[٤٠](وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) أي قدرنا له (مَنازِلَ) ففي كل يوم في منزل ، فإن للقمر ثمانية عشر منزلا ، كما
ذكر علماء الفلك ، أو المراد المنازل المرئية من هلال وقمر وبدر ، في أحوالها
المختلفة زيادة ونقيصة (حَتَّى عادَ) القمر في آخر الشهر (كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ) العرجون هو العذق اليابس المقوّس ، فإن القمر في آخر
الشهر يعود كما بدأ هلالا ضعيفا مقوسا.
[٤١](لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) أي لا تتمكن (أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ) في سيرها فإن الشمس تقطع دورة الفلك في سنة كاملة ،
والتي يقطعها في شهر ، أو أن حركاتهما في أفلاكهما نظّمتا بحيث لا يصطدم أحدهما
بالآخر ، وهذا بيان لحكمة الله سبحانه ، في أنه نظمهما ، بحيث لا يتلاقيان ،
ويسببا فساد الأنظمة الكونية (وَلَا اللَّيْلُ
سابِقُ النَّهارِ) بأن يأتي الليل قبل تقضي وقت النهار ، كالإنسان الذي
يسبق الآخر الذي يأتي حتى يلحقه ، ثم يترادفان في المسير حتى يتقدم ذلك المتأخر ،
فإن الليل لا يزاحم النهار في أفق واحد ، حتى يرى الإنسان ليلا ونهارا في حال واحد
، ثم يتقدم الليل ، ويتأخر النهار ، وهذا كناية عن دقة التنظيم الذي لا يتزلزل (وَكُلٌ) من الشمس والقمر (فِي فَلَكٍ) ومدار خاص (يَسْبَحُونَ)
وَآيَةٌ
لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ
فَلا صَرِيخَ لَهُمْ
____________________________________
كالذي يسبح في الماء بكل سهولة ويسر ، والإتيان بضمير العاقل ، إما من باب
أن لهما عقلا ـ وذلك غير بعيد ـ ويؤيده ما ورد في الدعاء من خطاب القمر ، ب «أيها
الخلق المطيع» وإما من جهة أنه حيث نسب إليهما السباحة ، وهي من فعل العاقل ، ناسب
الإتيان بضمير العاقل.
[٤٢](وَآيَةٌ) أي دلالة دالة على وجود الله سبحانه ، وسائر صفاته (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار ، أو البشر عامة (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أي نسلهم ، ولعل نسبه الحمل إلى الذرية ، مع أن الحمل
عام للآباء والأبناء ، إن الذرية أحوج إلى الحمل فإن الإنسان الكبير ، يمكن أن
يعبر مضايق البحار بالسباحة ، وما أشبه ، أما الذرية فلا علاج لسيرهم إلا بالسفينة
(فِي الْفُلْكِ) أي السفينة (الْمَشْحُونِ) من «شحن» إذا ملأ ، بمعنى السفينة المليئة بالناس
والأثاث ، ومعنى «حملنا» جعلنا الماء بحيث يمكن أن يحمّل عليه ، بمثل السفينة
المملوءة ، فمن جعل ذلك يا ترى؟ إنه هو الله تعالى القادر على كل شيء ، فبينما
القطعة الصغيرة من الحجر تعوم في الماء ، لتسير على ظهره السفينة المحمّلة
بالأثقال.
[٤٣](وَخَلَقْنا لَهُمْ) أي للبشر ، أو للذرية (مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل الفلك (ما يَرْكَبُونَ) عليه في البر من الأنعام التي تحمل أثقالهم إلى البلاد
النائية.
[٤٤](وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) في البحر ، حين كانوا راكبين في السفينة ، وذلك بتهييج
الرياح والعواصف ، أو ما أشبه (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي فلا أحد
وَلا
هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ
____________________________________
يغيثهم ، إن أردنا إغراقهم (وَلا هُمْ
يُنْقَذُونَ) أي لا يخلصون من الغرق ، إذا أردناه ، ولعل الفرق بين
الأمرين ، أن الصريخ أعم من المنقذ ، فالصريخ من يترحم عليهم ، سواء قدر على إنقاذهم
أم لا.
[٤٥](إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) أي لا منقذ لهم ، إلا رحمنا بهم وفضلنا عليهم ، فإنه هو
الذي بنجيهم من مخاطر البحر (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي ولأجل أن يبقوا أحياء مدة عمرهم حسب تقديرنا ، إلى
حين يوافيهم الأجل ، أي أنقذناهم رحمة وإمتاعا.
[٤٦](وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) لهؤلاء الكفار الذين يشاهدون هذه الآيات الدالة على
قدرتنا ، وسائر صفاتنا (اتَّقُوا ما بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ) أي ما أمامكم من الآخرة ، فلا تعصوا حتى يحل عليكم عذاب
ذلك اليوم (وَما خَلْفَكُمْ) فإن الإنسان العاصي يعاقب في الدنيا في مستقبل عمره
بالعيش الضنك ، كما قد يبتلي أولاده بما صنع ، وهذا هو «ما خلف الإنسان» لأن
الإنسان يخلف الدنيا وراءه (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) أي لكي يرحمكم الله تعالى ، فلا يؤاخذكم بسيئات أعمالكم
، وجواب «إذا» محذوف تقديره «أعرضوا» ولم يقبلوا ، وقد استدل لذلك بقوله.
[٤٧](وَما تَأْتِيهِمْ) أي تأتي هؤلاء الكفار (مِنْ آيَةٍ مِنْ
آياتِ رَبِّهِمْ) كالمعجزات التي يأتي بها الأنبياء ، والآيات التي تظهر
في الكون ،
إِلاَّ
كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ
مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)
ما
يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً
____________________________________
وكالآيات المنزلة بقصد التشريع ، وما أشبه (إِلَّا كانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ) يعرضون عن تدبرها ، والعمل بموجبها ، وإنما هم قد ركبوا
أهواءهم ، وعملوا بما توحي إليهم أنفسهم وتقاليدهم ، وبهذا يخسرون الدنيا والآخرة
، ويلقون في العذاب.
[٤٨](وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ) من المال (قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الذين يأمرونهم بالإنفاق (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ
يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ)؟ على نحو الاستفهام الاستنكاري ، أي لماذا نطعم من لا
يشاء الله إطعامه ، إذ لو شاء إطعامه ، تمكن من إطعامه؟ وقد أرادوا بذلك الفرار ،
عن بذل بعض أموالهم ، ثم يقولون للمؤمنين مستهزئين (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها المؤمنون (إِلَّا فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) أي انحراف واضح ، حيث تأمروننا بالإنفاق لمن لا يريد
الله إطعامه.
[٤٩] وقد كان
المؤمنون ينذرون الكفار ، بأنهم إن لم يؤمنوا ، عاقبهم الله إما في الدنيا أو في
الآخرة (وَ) لذا كان الكفار (يَقُولُونَ) منكرين قولة المؤمنين (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدوننا به من نزول العذاب بنا إن بقينا على الكفر
(إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون (صادِقِينَ) فيما تقولون؟
[٥٠](ما يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظر هؤلاء الكفار (إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) تصاح
تَأْخُذُهُمْ
وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
____________________________________
بهم بإذن الله ، كما صيحت بالأقوام السابقين (تَأْخُذُهُمْ) وتهلكهم ، فهل يريد هؤلاء تلك الصيحة؟ وهذا الكلام من
باب الإهانة لهم ، وبيان أن أمرهم يسير جدا ، حتى أن صيحة واحدة تكفي لإبادتهم (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي تأخذهم الصيحة في حال كونهم ، يختصمون في أمورهم ،
فتأخذهم على غرّة وغفلة من أمرهم ، من «خصّم» أصله «اختصم».
[٥١](فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) فإذا أخذتهم الصيحة بغتة ، لم يقدروا على الإيصاء (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) إذا أخذتهم الصيحة خارج بيوتهم ، فإن اختصامهم معناه
أنهم في الأسواق ، وفي محل أعمالهم وأشغالهم ، ويحتمل ، أن يراد ب «الصيحة» النفخة
الأولى ، فإن إسرافيل ينفخ في الصور ، فيهلك جميع البشر ، دفعة واحدة ، كما ورد في
الأحاديث ، أي أنهم لا يؤمنون ، حتى تأخذهم الصيحة على نحو الاستفهام الإنكاري.
[٥٢] وبهذه
المناسبة ، يأتي السياق ، لبيان بعثهم بعد موتهم ، فقد رأينا ، كيف ماتوا ، بصيحة
خارقة ، أو بقبض روحهم ، بواسطة عزرائيل ، الذي هو شبيه بالصيحة ، أو بنفخ إسرافيل
، فلننظر إلى حشرهم (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) هو شبيه بالبوق ، ينفخ فيه إسرافيل ، حين يريد الله
إحياء الناس للقيامة والمعاد (فَإِذا هُمْ) أي فإذا بالكفار بغتة وفجأة (مِنَ الْأَجْداثِ) جمع جدث ، وهو القبر (إِلى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ) والمراد
قالُوا
يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣)
فَالْيَوْمَ
لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً
____________________________________
الموضع الذي قرره الله سبحانه للحشر والحساب ، وإلا فلا مكان له سبحانه ،
فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، لتقريب الذهن ، ومعنى ينسلون ، يخرجون سراعا
إلى الموقف ، فإن النسول هو الإسراع في الخروج.
[٥٣](قالُوا) لما رأوا أهوال القيامة (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا ، احضر فهذا وقتك ، أو يا قوم ، ندعو على
أنفسنا بالويل (مَنْ بَعَثَنا) أي أقامنا (مِنْ مَرْقَدِنا) محل رقدتنا ، والرقدة هي النوم ، والمراد من قبورنا ،
ثم يقولون (هذا) البعث هو (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) في دار الدنيا ، فلم نك نصدّقه (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي الأنبياء عليهمالسلام ، الذين أخبروا بذلك ، فلم نك نصدقهم ، فالآن نشاهد
صدقهم ، وهم في القبر ، لم يكونوا نياما ، وإنما قالوا ذلك ، باعتبار ، أن قبرهم
قد خلص ، وصاروا إلى حال آخر ، إذ حيوا كما كانوا في الدنيا.
[٥٤] وليس أمر
البعث صعبا على الله سبحانه (إِنْ كانَتْ) أي ما كانت بعثتهم (إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) صاح بها إسرافيل في الصور النفخة الثانية (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ) ترد أرواحهم إلى أجسادهم ، ويحضرون في موقف الحشر
للحساب والجزاء.
[٥٥](فَالْيَوْمَ) أي يوم القيامة (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً) بأن يزاد في سيئاته ،
وَلا
تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
إِنَّ
أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ
فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها
فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧)
سَلامٌ
قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
____________________________________
أو ينقص من حسناته (وَلا تُجْزَوْنَ) أيها البشر (إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) فجزاء كل حسب عمله ، أو المراد إن الأعمال تجسّم فكل
يرى عمله.
[٥٦] قد رأينا
أحوال أصحاب النار ، وأنهم يدعون بالويل ، فلننظر إلى أحوال أهل الجنة (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) الذين صدقوا بالله ، وبالرسول ، وبالمعاد (الْيَوْمَ) أي في ذلك اليوم (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) قد شغلهم النعيم ، الذي لا عين رأت مثله ، ولا أذن سمعت
، ولا خطر على قلب بشر ، ومعنى فاكهون ، فرحون ، ناعمون ، متنعمون.
[٥٧](هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) من حور العين ، أو حلائلهم الدنيوية ، أو أشكالهم من
سائر صنوف المؤمنين (فِي ظِلالٍ) هي ظلال أشجار الجنة وقصورها (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة ، وهي السرير الذي يصنع للعروس (مُتَّكِؤُنَ) فهم في كمال راحة ، فإن الاتكاء أفضل أحوال الجالس.
[٥٨](لَهُمْ فِيها) أي في الجنة (فاكِهَةٌ) هي ثمر أشجار الجنة (وَلَهُمْ ما
يَدَّعُونَ) أي يتمنون ويشتهون ، يقال ادّع عليّ ما شئت أي تمنّ.
[٥٩] ولهم
بالإضافة إلى كل ذلك النعيم الجسماني نعيم روحي ، وهو (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي يقول الرب الرحيم لهم قولا ، هو
وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠)
وَأَنِ
اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)
____________________________________
سلام ، فإنه سبحانه يحيّيهم بالسلام.
[٦٠](وَ) في القيامة يقال للكفار (امْتازُوا) أي انفصلوا عن جماعة المؤمنين (الْيَوْمَ) أي في هذا اليوم (أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ) فكونوا على حدة ، وذلك لإهانتهم ، فإن المجرم إذا كان
بين أناس آخرين لا تزدريه العيون ، بخلاف ما إذا انفصل عنهم.
[٦١] ثم يقال
لهم من قبله سبحانه (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) أي ألم آمركم وأعاهدكم على لسان الأنبياء (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي لا تطيعوه فيما يأمركم (إِنَّهُ) أي الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ) ظاهر العداوة ، فلما ذا عبدتموه ، وأطعتموه ، حتى تردوا
هذا المورد؟.
[٦٢](وَ) ألم أقل لكم (أَنِ اعْبُدُونِي) وحدي (هذا) أي عبادتي (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف فيه ، ولا عوج ، يوصلكم إلى خير الدنيا
وسعادة الآخرة ، فلما ذا تركتم عبادتي؟.
[٦٣](وَلَقَدْ) رأيتم في الدنيا ، أن الشيطان قد (أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) أي خلقا (كَثِيراً) دعاهم إلى الضلالة ، فقبلوا منه وانحرفوا (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) إن الشيطان يضلكم إن اتبعتموه ، كما أضل جماعات كثيرة
من جنسكم؟ وهذا استفهام إنكاري ، يعني أنكم بعد ما رأيتم إضلال الشيطان ، لجماعات
منكم ، كيف اتبعتموه؟.
هذِهِ
جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا
الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
(٦٤)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ
أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
____________________________________
[٦٤] وإذ قد
انحرفتم ، ولم تسمعوا العظة ، والنصيحة ، ف (هذِهِ) التي تشاهدونها (جَهَنَّمُ الَّتِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا ، فلم تكونوا تصدقون بها.
[٦٥](اصْلَوْهَا) أي ادخلوها ، لا زمين لها ، من صلى ، بمعنى لزم الشيء (الْيَوْمَ) أي في هذا اليوم (بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم.
[٦٦] وهناك
يشرع الكفار في الجدال والكذب ظانين أن ذلك ينجيهم ، كما كانوا يفعلون في الدنيا ،
فيحلفون بالله كذبا ، قائلين (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) ولكن كذبهم لا ينطلي هناك (الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ) أي نضع الختم على فمهم ، لئلا يتمكنون من النطق (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ) بأن نقدر أيديهم على الكلام ، فتشهد الأيدي بأعمالها
التي اقترفتها جرما وعصيانا (وَتَشْهَدُ
أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما كان يعمل هؤلاء المجرمون ، فمثلا تقول اليد «إني
سرقت» ، وتقول الرجل «إني مشيت إلى الزنى» وهكذا يفضحون هناك ، حيث لا مخلص لهم ،
عن مثل هذه الشهادة الدامغة ، وفي آية أخرى (وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) .
[٦٧] ولا يظنن
هؤلاء الكفار ، أنا لا نتمكن من النكال بهم في الدنيا ، فإنا
__________________
وَلَوْ
نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى
يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ
لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)
وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ
____________________________________
إنما نمهلهم هنا ، وإلا فنقدر على مسخهم ، وإنزال مختلف صنوف العقاب بهم
جزاء على أعمالهم (وَلَوْ نَشاءُ
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) أي لأعميانهم ، يقال طمس على عينه إذا محاها حتى لم يبق
منها أثر (فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ) تسابقوا على الصراط ، أي الطريق ، فإن العميان حين
يتسابقون لسلوك الطريق ، يرى الإنسان منظرا مضحكا (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي كيف يبصرون الطريق بعد العمى ، حتى لا يصطدم بعضهم
ببعض ، ولا يسقط بعضهم بعضا؟
[٦٨](وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) والمسخ تبديل الإنسان حيوانا ، كما مسخ اليهود قردة (عَلى مَكانَتِهِمْ) التي هم فيها ، في ذلك الطريق الذي تسابقوا فيه (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) أي يمضون إلى مقصدهم (وَلا يَرْجِعُونَ) أي لا يتمكنون من الرجوع ، فهم في قبضتنا ، حتى إنّا
نتمكن أن نعميهم أو نمسخهم في لحظة ، ومع ذلك لا نفعل بهم ذلك رحمة وإمهالا لهم
لعلهم يرجعون.
[٦٩] وهل يظن
هؤلاء أنّا لا نقدر على مسخهم ، أو طمس عيونهم؟ فلينظروا إلى الشباب كيف نبدلهم
إلى شيوخ لا يقدرون على شيء ، بعد القوة والنضارة ، فمن يقدر على ذلك ، وهم يرونه
كل يوم يقدر على المسخ والطمس (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) أي نعطيه عمرا كثيرا (نُنَكِّسْهُ فِي
الْخَلْقِ) أي
أَفَلا
يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
لِيُنْذِرَ
مَنْ كانَ
____________________________________
ننكس قواه وخلقته ، فيصير بعد القوة ضعيفا ، وبعد العقل خرفا ، وبعد
النضارة ذابلا ، وبعد العلم جاهلا ، وهكذا ، فهو راجع إلى حالة الطفولة (أَفَلا يَعْقِلُونَ) هؤلاء الكفار إن من يقدر على هذا التنكيس ، قادر على
ذلك التنكيس ، بالطمس والمسخ؟
[٧٠] وقد كان
الكفار يقولون ، إن محمدا شاعر ، وإن القرآن شعر ، فرجع السياق إلى ما بدأ : حيث
قال (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) قائلا (وَما عَلَّمْناهُ) أي ما علمنا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (الشِّعْرَ) فليس القرآن شعرا (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أن يقول الشعر من عند نفسه ، ثم ينسبه إلى الله سبحانه
، وقد رووا إنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان لا ينشد الشعر إطلاقا ، حتى أنه إذا أراد أن يقرأ
شعرا ، بدّله حتى يخرج عن كونه شعرا ، فقال ذات يوم بدل «كفى الشيب والإسلام للمرء
ناهيا» ب «كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا» أما ما ورد من أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : «أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب» ، فلم يثبت أنه قرأه على طريقة الشعر ، فلعله لم يقف
على «كذب» (إِنْ هُوَ) أي هذا الذي يقرأه من قبله تعالى (إِلَّا ذِكْرٌ) للناس (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) واضح ، وليس بشعر ، والمراد بالذكر ، إنه يذكّر الناس
خالقهم الذي نسوه ، بعد ما أودع في فطرتهم ، ولعل الإتيان ، ب «الذكر» لأن الشعر
كان في الغالب لهوا وتشبيبا ، فالذكر مقابل له.
[٧١](لِيُنْذِرَ) الله بواسطته ، أو لينذر الرسول ، أو لينذر القرآن (مَنْ كانَ
__________________
حَيًّا
وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)
أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها
مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ
فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢)
وَلَهُمْ
فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ
____________________________________
حَيًّا)
في أنه يسمع
ويعقل ، مقابل الإنسان الميت ، الذي لا ينفعه الإنذار ، وإنما شبّه بالميت ، لأنه
والميت سواء ، في عدم الاجتناب عن الشيء المخوف (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي يثبت القول بالعذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) بأن يتم عليهم الحجة ، ففائدة القرآن ، هداية العقلاء ،
وإتمام الحجة على الكفار.
[٧٢](أَوَلَمْ يَرَوْا) أي هؤلاء الكفار المنكرون لله تعالى (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي لمنافعهم (مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا) كناية عن تفرده سبحانه بالخلق ، والنسبة إلى «اليد»
للتشبيه بالمحسوس تأكيدا لعدم الاشتراك في خلقها (أَنْعاماً) جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) فهم أنها ملكوها ، بفضلنا وإحساننا؟ فمن يا ترى خلق لهم
هذه الأنعام غيرنا؟
[٧٣](وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي سخرناها لهم ، حتى صارت منقادة ذليلة تطيعهم ، فلو
كانت الأنعام ، كسائر السباع ، أو الحشرات ـ حتى مثل الفأر ـ فمن يا ترى كان يمكنه
تسخيرها وتذليلها؟ (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي من تلك الأنعام لفائدة الركوب كالإبل (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي ومنها لفائدة الأكل ، كالبقر والغنم.
[٧٤](وَلَهُمْ) للبشر (فِيها) في تلك الأنعام (مَنافِعُ) كلبس أصوافها وأوبارها ، وإشعال فضلاتها ، وما أشبه ذلك
(وَمَشارِبُ) جمع
أَفَلا
يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
____________________________________
مشرب ، وهو مصدر ميمي ، والمراد لبنها (أَفَلا يَشْكُرُونَ)؟ هذه النعم ، التي منحناها لهم ، بترك الكفر ، والدخول
في زمرة المؤمنين والمطيعين.
[٧٥] إنهم بعد
أن علموا بجزيل إحساننا ، وفضلنا عليهم ، اتبعوا طريق الكفر والعصيان (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) المراد الجنس ، فيشمل الواحد أيضا ، فإن الجنس والجمع يقومان
مقام الآخر (لَعَلَّهُمْ
يُنْصَرُونَ) أي لكي تنصرهم تلك الآلهة ، من بأس الله سبحانه ، كما
قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وقالوا (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ) .
[٧٦] ولكنهم
أخطئوا في انتظار النصرة من الآلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي تلك الآلهة ، والإتيان بضمير العاقل ، لتوحيد السياق
في الحوار ، بين المؤمنين ، والكفار ، فإن الكفار كانوا يعبرون عن الأصنام ،
بألفاظ العقلاء زعما منهم ، إنها تعقل وتدرك (نَصْرَهُمْ) أن تنصر هؤلاء الكفار (وَهُمْ) أي الكفار (لَهُمْ) أي لتلك الآلهة (جُنْدٌ) كالجند ، لأن الأتباع ، كالجند (مُحْضَرُونَ) جميعا في النار ، أو المراد إن هؤلاء هم جنود الآلهة
المحامون عنها ، فكيف يمكن أن تكون الآلهة هي المحامية عنهم؟
__________________
فَلا
يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
أَوَلَمْ
يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)
وَضَرَبَ
لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)
____________________________________
[٧٧](فَلا يَحْزُنْكَ) يا رسول الله (قَوْلُهُمْ) قول هؤلاء الكفار فيك ، إنك شاعر ، أو ما أشبه ذلك (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في ضمائرهم ، وبينهم في مجالسهم الخاصة (وَما يُعْلِنُونَ) في الملأ حولك ، وحول رسالتك ، من الوقيعة فيك ، ونسبتك
إلى الجنون والكهانة والسحر ، وما أشبه.
[٧٨] وإذ ذكر
السياق جملة حول الرسالة ، رجع إلى الكلام حول المعاد ، وقد كان من بلاغة القرآن
الحكيم ، إنه لا يأتي بكلام واحد في تفصيل ، وإنما يقطع الكلام المختلف تقطيعا ،
ويذكر بعض نوع في خلال نوع آخر ، حذرا من الإسهاب ، وملالة السامع (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) المنكر للمعاد (أَنَّا خَلَقْناهُ
مِنْ نُطْفَةٍ) أي قطرة من المني؟ والمراد بالرؤية العلم (فَإِذا هُوَ) إنسان كبير (خَصِيمٌ) لنا ، أي يخاصمنا في أوامرنا وأخبارنا (مُبِينٌ) ظاهر الخصومة ، فإنه يخاصم في قدرتنا على البعث ، وقد
رأى كيف قدرنا على أن نصنع إنسانا ، من قطرة مني؟
[٧٩](وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي ضرب مثلا لإنكاره المعاد بالعظم البالي (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي ترك النظر في خلق نفسه ، حيث إن تصيير المني إنسانا
، أصعب في نظر العامة ، من تصيير العظم البالي إنسانا (قالَ) وهذا هو مثله (مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية؟ والاستفهام
قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
الَّذِي
جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً
____________________________________
إنكاري تعجبي ، أي لا يمكن أن تحيى العظام البالية ، فقد ذكروا إن أبي بن
خلف ، أو العاص بن وائل ، جاء إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعظم بال متفتت ، وقال : يا محمد أتزعم أن الله يبعث
هذا؟ فقال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : نعم ، ونزلت الآية .
[٨٠](قُلْ) يا رسول الله ، في جوابه (يُحْيِيهَا) أي العظام (الَّذِي أَنْشَأَها) وأبدعها وخلقها (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في ابتداء الأمر ، فمن كان قادرا على الإيجاد ، فهو
قادر على الإعادة (وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ) فليس لأحد أن يقول : هناك فرق بين الإيجاد والإعادة ،
فإن الإعادة بالإضافة إلى احتياجها إلى القدرة ، تحتاج إلى علم واسع ، لكي يعلم
الشخص إن أجزاء الميت الفلاني أين تفرقت وتناثرت ، حتى يجمعها بأعيانها ، ليكون
المعاد ، هو الأول ، لا غيره؟ فإن الجواب ، إن الله سبحانه ، كما هو قادر على كل
شيء ، عالم بكل شيء.
[٨١] ثم بيّن
سبحانه ، بعض آثار قدرته ، دليلا على قدرته على إحياء الأموات (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ) أي الرطب ، غير اليابس ، وإنما يسمى الرطب بالأخضر ،
لأن الماء إذا كان داخلا في الأعواد ، كان لون الشجر أخضر ، فإذا يبس ، مال لونه
إلى السواد والغبرة (ناراً) ، ف «المرخ» و «العفار» شجرتان ، إذا اصطكت بعض أحدهما
ببعض الآخر ، خرج النار من بينهما ، فمن قدر على إخراج النار من الشجر الرطب
المضاد للحرارة ، قادر على إيجاد الحياة
__________________
فَإِذا
أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى
وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما
أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)
فَسُبْحانَ
الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ
____________________________________
في العظم البالي (فَإِذا أَنْتُمْ) أيها البشر (مِنْهُ) أي من ذلك الشجر المخرج للنار (تُوقِدُونَ) أي تشعلون الحطب ، فمن يا ترى جعل النار في الشجر
الريان بالماء؟ ومن يا ترى جعل الشجر ، بحيث يختزن من شعاع الشمس ، مقدار يخرج
ويتقد بمجرد الحك والدلك؟ إنه هو الله القادر على كل شيء.
[٨٢] ثم (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) هذين المخلوقين العظيمين (بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) بأن يصبّ أجزاءهم البالية في القالب ، حتى يخرج إنسان
مثل الإنسان الأول؟ (بَلى) قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ) إذ هذه العملية ، تحتاج إلى قدرة وعلم ، وكلاهما
متوفران لديه سبحانه.
[٨٣](إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) وبمجرد هذه اللفظة ، أو معناها ـ وهي الإرادة ـ يبدع
ذلك الشيء ، المراد (فَيَكُونُ) أمرا موجودا في الخارج ، فلا يحتاج سبحانه ، إلى آلات
وأسباب وزمان ، حتى يوجد شيئا ، وقد ذكرنا سابقا إن «كن» إما حقيقة بأن يخلق
سبحانه صوتا ، أو إشارة إلى إرادته تعالى حدوث ذلك الشيء.
[٨٤](فَسُبْحانَ) منصوب بفعل مقدر ، أي أسبح سبحان (الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ) والمعنى أنزهه تعالى عن عدم القدرة ، أو عدم
وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٨٣)
____________________________________
العلم ، والمعنى إن تمت قدرته ملك كل شيء ، فهو قادر على الإيجاد والإعادة
، فإن «ملكوت» هو الملك ، وزيد فيه التاء للعظمة ، نحو «جبروت» وملكوت كل شيء ما
يقوم به ذلك الشيء ، ولفظة «بيده» للكناية ، فإن اليد هي الآخذة بالمملوكات ، فهو
من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، وإلا فليس لله سبحانه يد كأيدينا ، فإنه سبحانه
منزه عن الجسمية ، وعوارضها (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أي تردون إلى جزائه وحسابه ، حيث لا يملك أحد شيئا ،
إلا هو وحده فيجازيكم حسب أعمالكم الكافر والعاصي بالعقاب ، والمؤمن والمطيع
بالثواب.
(٣٧)
سورة الصافات
مكيّة / آياتها (١٨٣)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة في قوله «والصافات» وهي كغالب السور المكية ،
تعالج قضايا العقيدة ، بأصولها الثلاث ، التوحيد والرسالة والمعاد ، في أسلوب قصصي
رائع ، ولما ختمت سورة «يس» بشؤون الإله سبحانه ، ابتدأت هذه السورة بتلك ، مع فصل
آيات سيقت للحلف على ذلك.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الواحد ، الذي له كل شيء جميل ، وهو
منزه عن كل شيء قبيح ، فإن لفظ «الله» بما هو علم للذات المستجمع لجميع الكمالات ،
يوحي إلى هذا المعنى ، والرحمن الرحيم ، وصفان مشتقان من الرحمة ، يوحي مبدأ
اشتقاقهما بالفضل والرحم ، وتكرارهما ، بقوة هذه الصفة في ذاته سبحانه ، والرحمن
صفة الفعل ، وليس صفة الذات ، فالمعنى أنه سبحانه يفعل ما يفعله الرحيم ، لا إن له
حالة نفسية ، توجب ذلك ولذا قالوا في مثل هذه الصفات «خذ الغايات واترك المبادي».
وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
____________________________________
[٢](وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) «الصافات» جمع صافة ، وهي الملائكة التي تصف أقدامها للصلاة والإطاعة ، أو
أجنحتها حال الصعود والهبوط و «صفا» تأكيد له ، أي قسما بالملائكة الصافات ، الذين
يصطفون صفا ، وإنما جيء بالجمع المؤنث ، باعتبار الجماعة.
[٣](فَالزَّاجِراتِ) أي ثم قسما بالملائكة التي تزجر الكفار حين قبض أرواحهم
، أو تزجر من أمر الله ، بزجره (زَجْراً) مصدر تأكيدي لفعل محذوف.
[٤](فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أي ثم قسما بالملائكة التي تتلو القرآن ، أو سائر الكتب
المنزلة ، وحيث إن معنى التاليات يلازم الذكر جيء تأكيده بلفظ «ذكرا».
[٥] قسما
بهؤلاء الطوائف من الملائكة (إِنَّ إِلهَكُمْ) أيها الناس (لَواحِدٌ) لا شريك له ، وقد نرى في القرآن الحكيم القسم من الله
سبحانه ، بأصناف وأنواع مختلفة من الخلق ، دلالة لعظمتها في أنفسها ، وإن لا يصح
لنا أن نحلف إلا باسمه الكريم ، كما قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كان حالفا ، فليحلف بالله ، أو ليسكت .
[٦](رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومربيهما (وَما بَيْنَهُما) من الهواء ، والإنسان والملائكة ، وغيرها (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) جمع مشرق ،
__________________
إِنَّا
زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ
____________________________________
وهو موضع طلوع الشمس ، فإن الشمس في كل يوم تطلع من موضع جديد ، فلمن هذا
الموضع في كل يوم؟ إنه لله سبحانه.
[٧](إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي السماء القريبة إلى الأرض ، مؤنث «أدنى» وإنما خصها
بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة ، ولعل المراد بالسماء الدنيا مدار الأرض ـ كما يقوله
العلم الحديث ـ (بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ) فإن الكواكب تزين الأرض ، والإضافة للنوع ، أي بهذا
النوع من الزينة ، فإن السماء بجمالها تمتّع الإنسان ، مع ما فيها من الفوائد
الأخر.
[٨](وَ) حفظناها (حِفْظاً) فإن السماء محفوظة (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
مارِدٍ) متجرد خبيث خال من الخير ، فقد يظهر من الأحاديث ، أن
في أعالي الجو ، يقدر أمور الأرض ، وكأنها مراكز للملائكة المدبرة للأمور ـ بإذن
الله سبحانه ـ فالشياطين تريد الصعود إلى تلك المراكز ، لاستراق بعض الكلمات ،
لتعلم ماذا يحدث في الأرض ، لكن السماء محفوظة عن وصول الشياطين و «مارد» مشتق من «مرد»
وهو المنجرد ، ومنه يسمى بالأجرد ، من لا شعر له ، فكان الشيطان مجرد عن الخير لا
يتأتى منه عمل حسن.
[٩](لا يَسَّمَّعُونَ) من أسمع أصله من باب الافتعال «استمع» ثم قلبت التاء
سينا ، على القاعدة ، أي إنما حفظنا السماء من كل شيطان لكي لا يستمعون (إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) وهم أشرف الملائكة الذين وكّل إليهم بعض أمور الأرض
ولهم مراكز في تلك الطبقات الرفيعة في الفضاء (وَيُقْذَفُونَ) أي يقذف الشيطان الذي تجرأ وذهب إلى هناك
مِنْ
كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ
عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ
____________________________________
للاستماع (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء بالشهب ، كاللص الذي يرميه الإنسان ،
إذ رآه يريد سرقته ، فقد جعل الله سبحانه الكواكب محلات للإرصاد ، فهناك ملائكة
ينظرون إلى الملأ الأعلى ، فمهما اقترب منه شيطان رموه بالشهب ـ وهي النيازك ـ ينحونه
عن الاقتراب ، وهذا لا ينافي في تعليل النيازك ، بعلل ظاهرة ، فإنه سبحانه جعل
للأشياء عللا ظاهرة ، وعللا خفية ، كالميت الذي إنما يموت بالسم ظاهرا ، وبقبض ملك
الموت لروحه باطنا ، وكالكسوف الذي هو لكثرة المعاصي باطنا ، ولحيلولة القمر بين
الأرض والشمس ظاهرا.
[١٠](دُحُوراً) أي دفعا لهم بالعنف ، وطردا ، يقال دحره ، إذا طرده
بالعنف (وَلَهُمْ) أي لأولئك الشياطين (عَذابٌ واصِبٌ) أي عذاب دائم ثابت إلى يوم القيامة.
[١١](إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) الخطف هو سلب الشيء خلسة بسرعة ، والمعنى إن الشياطين
لا يسمعون إلى الملائكة ، إلا من اقترب خفية ، فاختلس بعض الكلمات ، التي تدار بين
الملائكة ، بأن لقفها بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ
ثاقِبٌ) أي لحقته وأصابته جمرة من نار مضيئة تثقب وتحرق الشيطان
من حرارتها وحدتها ، وهذه هي النيازك التي نراها في الليالي ، وذلك لا ينافي ما
يعلله علم الفلك لها من أنها قذائف جوية.
[١٢] وبعد
تذكير هؤلاء بما خلقنا من السماوات والكواكب ، وغيرها من المخلوقات العظيمة (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي اسألهم يا رسول الله (أَهُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً
أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا
يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا
آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا
____________________________________
خَلْقاً)
أي أحكم صنعا ،
وأصعب في نظرهم (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من الملائكة والسماوات والأجرام؟ فكيف أن هؤلاء مع
ضحالتهم يتكبرون عن الانقياد ، بينما إن ما هو أشد منهم خلقا خاضعون منقادون؟ (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي طين يلصق باليد ، وهو الطين الصافي ، وهذا بالنسبة
إلى كل أحد أحد ، فإن أصل كل فرد هو الطين ـ كما تقدم ـ فكيف أنهم مع وهن أصلهم
يستكبرون؟
[١٣](بَلْ عَجِبْتَ) يا رسول الله من كفر هؤلاء ، وشدة إنكارهم ، مع وضوح
الأمر (وَيَسْخَرُونَ) بينما أنت ـ مع عظمك ـ تعجب ، كيف غفلوا وتمردوا؟
وهؤلاء يسخرون بك ، وبما تقول من الحقائق الواضحة الظاهرة للعيان.
[١٤](وَإِذا ذُكِّرُوا) بآيات الله ، أي ذكرتهم بالله والمعاد ، مما هو كامن في
فطرة كل أحد (لا يَذْكُرُونَ) أي لا ينتفعون بالتذكير ، فقد أقيم عدم السبب مقام عدم
المسبب ، إذ التذكير علة الانتفاع ، فهم حيث لم ينتفعوا كأنهم لم يذكروا.
[١٥](وَإِذا رَأَوْا آيَةً) دالة على وجود الله ، وسائر صفاته ، أو على رسالتك ،
وصدق ما تقول (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يستهزئون بتلك الآية قائلين : إنها سحر ، والآتي بها ساحر ، وجعلوا
يضحكون منك ومنها.
[١٦](وَقالُوا) لتلك الآية (إِنْ هذا) أي ما هذا الذي عمله الرسول من
إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
وَقالُوا
يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
____________________________________
الإعجاز (إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ) واضح ظاهر.
[١٧] ثم أخذوا
يظهرون التعجب من قولك بأنهم يبعثون يوم القيامة قائلين (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً) بأن صارت لحومنا ترابا ، وبقيت عظامنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي محيون بعد الموت؟
[١٨](أَوَ) يبعث (آباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ) الذين ماتوا ، وصاروا ترابا ، والهمزة للاستفهام ،
والواو عاطفة.
[١٩](قُلْ) يا رسول الله ، في جواب استفهامهم الإنكاري (نَعَمْ) أنتم وآباؤكم تبعثون (وَ) الحال (أَنْتُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون أذلاء ، من دخر ، بمعنى صغر وذل.
[٢٠] وليس
بعثكم أمرا مشكلا (فَإِنَّما هِيَ) أي بعثتكم بعد الممات (زَجْرَةٌ) أي صيحة (واحِدَةٌ) ، هي نفخة إسرافيل في الصور ، وإنما سمي النفخ زجرا
لأنهم قد زجروا عن الحالة التي هم عليها إلى الحشر (فَإِذا هُمْ
يَنْظُرُونَ) إلى القيامة التي كذبوا بها.
[٢١](وَقالُوا) حين يرون القيامة (يا) قوم (وَيْلَنا) أو يا ويلنا احضر ، فهذا وقتك ، وويل كلمة يقولها
الإنسان عند توجه مصيبة إليه ، كأنه يتمنى الهلاك فرارا عن تلك المصيبة (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي يوم
هذا
يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
____________________________________
الحساب الذي كذّبنا به.
[٢٢] فيردّ
عليهم من قبل الله سبحانه ، أو الملائكة ، أو المؤمنين ، ب (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) الذي يفصل فيه بين المؤمن والكافر ، والمبطل والمحق (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فتقولون ـ وأنتم في الدنيا ـ لا حساب ولا جزاء.
[٢٣] ثم يقال
من قبل الله تعالى (احْشُرُوا) أي اجمعوا من ساحة المحشر (الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْواجَهُمْ) أي نساءهم الظالمات ، أو المراد أشكالهم ، فإن الزوج
بمعنى الشكل ، وكأنّ «الذين ظلموا» مراد به كبراء الظالمين ، ويراد ب «أزواجهم»
أشباههم من صغار الظالمين (وَما كانُوا
يَعْبُدُونَ) أي الأصنام التي كانوا يعبدونها.
[٢٤](مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله سبحانه ، وإنما الاستثناء باعتبار أن
المشركين ، كانوا يعبدون الله والأصنام ، فالاستثناء لتخصيص الأمر حتى في الصورة
واللفظ ـ بالأصنام (فَاهْدُوهُمْ) أي أرشدوهم وأروهم ـ بعد جمعهم جميعا ـ (إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي الطريق التي تنتهي إلى النار ، وإنما جيء بلفظ
الهداية لشباهة إراءتهم لطريق النار بإراءة المؤمنين طريق الجنة.
[٢٥](وَقِفُوهُمْ) من «وقف» أي أوقفوا هؤلاء الكفار ، قبل إلقائهم في
النار (إِنَّهُمْ
مَسْؤُلُونَ) أي يلزم أن يسأل عنهم ، عما فعلوا لزيادة التقريع ،
ما
لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧)
قالُوا
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨)
____________________________________
ثم يلقون في النار ، وقد ورد في بعض الأحاديث سؤالهم عن ولاية الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام ، وذلك من باب بعض المصاديق لما يسأل عنه هناك.
[٢٦] ثم يقال
لهم تقريعا وتبكيتا (ما لَكُمْ) أيها الكفار (لا تَناصَرُونَ) أي لا ينصر بعضكم بعضا ، لإنجائكم من أهوال القيامة؟
أصله «تتناصر» حذفت إحدى تائيه للقاعدة.
[٢٧](بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون ، لما يفعل بهم ، حيث لا يتمكنون من المعارضة ،
وليس هناك كالدنيا ، التي كان بعضهم ينصر بعضا ـ فيها ـ ضد الحق ، ولإخماد نوره.
[٢٨](وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي بعض أولئك الكفار (عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) فإن الأتباع يسألون القادة عن سبب إضلالهم؟ ويلقون
عليهم تبعة ضلالهم.
[٢٩](قالُوا) أي قالت الأتباع للقادة (إِنَّكُمْ) أيها القادة (كُنْتُمْ تَأْتُونَنا
عَنِ الْيَمِينِ) أي عن طريق اليمن والبركة ، فتقولون لنا إن كفرتم ، ولم
تؤمنوا بقيت لكم البركة والسعادة الدنيوية ، فلم كنتم تغوونا بهذه الغواية حتى
نلاقي هذا المصير السيئ؟ أو المراد كنتم تأتون عن طرف
__________________
قالُوا
بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠)
فَحَقَّ
عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ
إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ
____________________________________
يميننا للإسرار في آذاننا ، فإن الذي يريد أن يناجي ، يسر في الأذن اليمنى ،
لأنها أكثر احتراما واستماعا ، لأنها في طرف القلب.
[٣٠](قالُوا) أي القادة للأتباع ، يريدون بذلك تبرئة ساحتهم عن تبعة
كفر الأتباع (بَلْ لَمْ تَكُونُوا) أنتم بالذات (مُؤْمِنِينَ) فإنكم كنتم معرضين عن الله والرسول ، وإنا لم نسبب
ضلالكم ، حتى تكون التبعة علينا.
[٣١](وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ) أيها الأتباع (مِنْ سُلْطانٍ) أي سلطة وقهر نجبركم على الكفر ، لو لا أنكم كنتم تحبون
الكفر (بَلْ كُنْتُمْ) أيها الأتباع ، في أنفسكم ، وبدون إغوائنا (قَوْماً طاغِينَ) قد طغيتم ، وتجاوزتم حدود الإيمان فتبعتكم على أنفسكم ،
لا نحن معاشر القادة.
[٣٢](فَحَقَّ عَلَيْنا) جميعا التابع والمتبوع (قَوْلُ رَبِّنا) بأنا معذّبون ، فقد قال الله سبحانه : إن من كفر ،
سيعذب ، وقد ثبت ، وانطبق علينا هذا القول ، ف (إِنَّا لَذائِقُونَ) عذابنا على الكفر.
[٣٣] وإذ قد
ثبت علينا وانطبق العذاب (فَأَغْوَيْناكُمْ) حسب استعدادكم الذاتي ، حيث انزلقتم معنا في حضيض الكفر
(إِنَّا كُنَّا) بأنفسنا (غاوِينَ) والطيور على أشكالها تقع.
[٣٤] ثم يحكي
سبحانه حالتهم جميعا ، بقوله (فَإِنَّهُمْ) القادة والأتباع
يَوْمَئِذٍ
فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا
إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)
وَيَقُولُونَ
أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ
بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
____________________________________
(يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فِي الْعَذابِ
مُشْتَرِكُونَ) لكونهم جميعا ، كانوا كفارا مشتركين في الضلال ـ في
الدنيا ـ فاشتركوا في العذاب ، هناك.
[٣٥](إِنَّا كَذلِكَ) أي كما فعلنا بهؤلاء من التعذيب (نَفْعَلُ) بسائر المجرمين فهم معذبون بما صدر منهم من الكفر
والعصيان ، وكأنّ الآية ذكرت سابقا جماعة خاصة ، دار حولهم الكلام ـ وهم المشركون ـ
ثم أرادت تعميم الأمر على سائر من يجرم.
[٣٦] ثم بين
سبحانه علة تعذيبهم بقوله (إِنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (إِذا قِيلَ لَهُمْ) قولوا (لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ) واتركوا عبادة الأصنام (يَسْتَكْبِرُونَ) أي يطلبون الكبرياء ، ويرون أنفسهم فوق هذا الاعتراف ، أليسوا
هم أكبر قدرا من أتباع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ بزعمهم.
[٣٧](وَيَقُولُونَ) أي يقول بعضهم لبعض (أَإِنَّا لَتارِكُوا
آلِهَتِنا) أي هل إنّا نترك الأصنام لقول شاعر (مَجْنُونٍ)؟ يعنون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والاستفهام إنكاري ، أي لا نفعل ذلك.
[٣٨] فرد الله
عليهم ذلك بقوله ، إن الرسول ليس شاعرا ولا مجنونا (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) الذي هو التوحيد ، وسائر الشؤون الأصولية (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين كانوا من قبله ، وهل يقال لمثله شاعر ، أو يقال
له
إِنَّكُمْ
لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ
رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ
مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (٤٣)
____________________________________
مجنون؟ فهذا كلامه ، ليس بشعر ، وهذه حركاته ليست بحركات ذي جنون.
[٣٩](إِنَّكُمْ) أيها الكفار (لَذائِقُوا الْعَذابِ
الْأَلِيمِ) أي المؤلم الموجع ، فإن استمراركم في الكفر لا ينتج إلا
ذاك.
[٤٠](وَما تُجْزَوْنَ) يوم القيامة (إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي على قدر إجرامكم ، أو نفس جرائمكم ـ بناء على تجسيم
الأعمال ـ.
[٤١] ولما كان
الخطاب ، في «إنكم» يوهم العموم لكل الناس ، استثنى سبحانه عن ذلك بقوله (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لنفسه ، فلا يعملون ، إلا لله سبحانه
، فإن هؤلاء بمعزل عن العذاب الأليم.
[٤٢](أُولئِكَ لَهُمْ) في الجنة (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) قد علم وقدّر جزاء لأعمالهم ، والحصة المعلومة ، أقر
للعين من الحصة المجهولة ، التي لا يدري مقدارها.
[٤٣] ثم بين
سبحانه بعض ذلك الرزق المعلوم ، بقوله (فَواكِهُ) جمع فاكهة ، وهي ثمرة الأشجار ، يتفكهون بها ويتنعمون
فيها (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) فلهم النعمة الروحية ، ـ بالإكرام ـ إضافة على النعمة
الجسمية بالجنة والفواكه.
[٤٤] وذلك
الإكرام والفواكه (فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ) أي البساتين التي
عَلى
سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا
هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ
الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
____________________________________
يتنعم فيها الإنسان.
[٤٥] والمؤمنون
هناك (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير (مُتَقابِلِينَ) حال عن أولئك ، أي في حال كون بعضهم في مقابل بعض ليتم
السرور عليهم بالتنعم في المجالس مع الأصدقاء يرى بعضهم بعضا.
[٤٦](يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) وهي الإناء الذي فيه المائع اللذيذ ، ومعنى يطاف إن
الحور والولدان ، يدورون عليهم بالكأس المملوءة (مِنْ مَعِينٍ) والمعين الماء الجاري ، النابع من العين.
[٤٧](بَيْضاءَ) ومن ذلك يعرف ، إن ما في الكأس «خمر» لوصفه بالمؤنث ،
وبما سيأتي (لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ) فكأنها من كثرة اللذة قطعة منها ، نحو زيد عدل.
[٤٨](لا فِيها) أي في تلك الخمر (غَوْلٌ) هو فساد يلحق الشيء ، يعني ليس في ذلك الخمر فساد (وَلا هُمْ) أي الشاربين (عَنْها) أي عن تلك الخمر (يُنْزَفُونَ) أي يسكرون ، فليس في خمر الجنة سكر ، من نزف إذا ذهب
عقله ، أو بمعنى يطردون من نزف بمعنى طرد ، فالشرب لهم دائم لا ينقطع مهما أرادوا.
[٤٩](وَعِنْدَهُمْ) زوجات (قاصِراتُ الطَّرْفِ) «الطرف» العين ، والمعنى قصرن أعينهم على أزواجهن ، فلا يرغبن في غيرهم (عِينٌ) جمع «عيناء» وهي المرأة واسعة العين ـ مما يزيدها جمالا
ورونقا ـ يعني
كَأَنَّهُنَّ
بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ
مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١)
يَقُولُ
أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)
____________________________________
إنهن واسعات العيون.
[٥٠](كَأَنَّهُنَ) أي كأن أجسام تلك الزوجات من البياض (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) بيض قد حفظ في مكان ، فلم يذهب بياضه ، بواسطة الوسخ والغبار.
[٥١] وهناك لما
يستقرون ويتنعمون ، بأنواع النعم يذهب بهم الفكر إلى أحوال الدنيا ، وما كانوا
فيها ، ثم يتذكرون الكافرين الذين كانوا يستهزئون بهم ، حيث إنهم يصدقون بالمعاد (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي بعض أهل الجنة (عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) عن أحوالهم السابقة ، فقد التقوا هناك ، وكثيرا ما لم
يكن لأحدهم معرفة بالآخر.
[٥٢](قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من أهل الجنة لبعض أصدقائه (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) أي شخص مقارن معي في دار الدنيا ، بالجوار أو النسب أو
الصداقة.
[٥٣](يَقُولُ) لي على وجه الإنكار والاستهزاء (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي من جملة الذين يصدقون بالحساب والجزاء؟
[٥٤] ثم يستهزئ
قرينه بما اعتقده قائلا (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً) لحومنا (وَعِظاماً أَإِنَّا
لَمَدِينُونَ) أي مجزيون بأعمالنا من دانه ، بمعنى حاسبه وجازاه ، أي
كيف يمكن أن يجزي تراب وعظام؟ فإن هذا لا يكون أبدا.
قالَ
هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ
فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥)
قالَ
تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ
رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
أَفَما
نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨)
____________________________________
[٥٥](قالَ) هذا المتسائل ـ بعد أن يحكي قول قرينه ـ (هَلْ أَنْتُمْ) أيها الجلساء (مُطَّلِعُونَ)؟ أي تحبون الاطلاع ، والإشراف على النار ، لترون ذلك
القرين المكذب؟
[٥٦] فيقولون
نعم نحب الاطلاع ، فانظر أنت لتعرف مكانه ، حتى ترينا ، فإنّا لا نعرفه (فَاطَّلَعَ) هو بنفسه ، وأشرف على النار (فَرَآهُ) أي رأى قرينه (فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ) أي في وسط النار ، فإن «سواء الشيء» وسطه ، وطبيعي أنه
حين رآه ، أراه إخوانه الذين قال لهم «هل أنتم مطلعون».
[٥٧] وإذ قد
رأى قرينه الكافر في النار ، يتوجه إليه بالتكلم معه (قالَ) له المؤمن (تَاللهِ) التاء للقسم ، وتأتي غالبا لأمر غريب ، أو نحوه (إِنْ كِدْتَ) أي قد اقتربت ، (لَتُرْدِينِ) أي ترديني وتهلكني بوسوستك ، وحذف «ياء» المتكلم
تخفيفا.
[٥٨](وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) وفضله بي ، حيث عصمني من أن أسمع كلامك ، فأصير كما صرت
(لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ) الذين أحضروا إلى الحشر والحساب بالقهر ـ لا بالرضا ـ لأنهم
علموا بمصيرهم السّيء ، ولذا كرهوا الحضور ، حتى أجبروا عليه.
[٥٩] ثم يردّد
المؤمن ، ما كان يقوله الكافر في الدنيا ، ترديدا بإنكار وتقريع (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) أي كنت تقول في الدنيا ، ما نحن نموت.
إِلاَّ
مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا
فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
أَذلِكَ
خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢)
____________________________________
[٦٠](إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) فليس موت بعد الحياة في القبر ، فإن الإنسان إذا حوسب
في القبر مات ثانيا ، ثم يحيى يوم القيامة ، كما قال سبحانه (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ) يوم القيامة ، ألم تكن تقول ذلك؟ فهل كان صحيحا؟ أو إن
الكفار كانوا يقولون «ما وراءنا إلا موتة واحدة ، فلا عذاب» وحينئذ معنى «الأولى»
المتعارفة ، لا في مقابل الموتة الثانية.
[٦١] ثم يأتي
السياق ليبين فوز أهل الجنة ـ بعد إسدال الستار على قصة تلك المحاورة ـ (إِنَّ هذا) الذي ينعّم المؤمن في الجنة (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز ولا فلاح أعظم منه.
[٦٢](لِمِثْلِ هذا) الفوز والثواب (فَلْيَعْمَلِ
الْعامِلُونَ) أي الذين يريدون العمل ، فإنه أحسن نتيجة يحصل عليها
العامل.
[٦٣] وبعد أن
تقدم شطر من أحوال المؤمنين ، يأتي السياق ليقابل بهم أحوال الكفار (أَذلِكَ) الثواب في الجنان (خَيْرٌ نُزُلاً) «النزل» هو ما يعد للضيف ، ونصبه لكونه تمييزا (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) التي أعدت نزلا للكفار؟ قالوا ، وهي شجرة صغيرة الورق
زفرة مرة تكون بتهامة ، شبهت بها الشجرة التي تنبت في النار لتكون ثمرتها قوتا
لأهل النار.
__________________
إِنَّا
جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣)
إِنَّها
شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ
رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ
لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ
عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)
____________________________________
[٦٤](إِنَّا جَعَلْناها) أي جعلنا تلك الشجرة (فِتْنَةً) أي محنة وعذابا (لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان في الدنيا فابتلوا
بأكلها.
[٦٥](إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ) أي تنبت من هناك ، وتعلوا أوراقها وأغصانها إلى سائر
الدركات.
[٦٦](طَلْعُها) أي ثمرها وحملها ، ويقال للثمر الطلع ، لأنه يطلع ويظهر
(كَأَنَّهُ رُؤُسُ
الشَّياطِينِ) في بشاعة المنظر ، فإنها بالإضافة إلى طعمها السيئ لها
منظر مهول ، والإنسان ، وإن لم ير الشيطان ، ورأسه ، إلا أن تصويره جسما مهولا
بشعا كاف في التشبيه ، أو لأنها ثمرة تسمى بذلك.
[٦٧](فَإِنَّهُمْ) أي الظالمين (لَآكِلُونَ مِنْها) أي من تلك الشجرة ، اضطرارا من جوعهم الشديد الذي لا
يطاق (فَمالِؤُنَ مِنْهَا) أي من تلك الشجرة (الْبُطُونَ) أي بطونهم ، و «اللام» عوض الضمير.
[٦٨](ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي بعد أكل تلك الشجرة (لَشَوْباً) أي شرابا مشوبا ، ليس بصافي (مِنْ حَمِيمٍ) أي الماء الحار ، وهذا كما يقال : شرب الماء على
الطعام.
ثُمَّ
إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)
إِنَّهُمْ
أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى
آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢)
____________________________________
[٦٩](ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) أي مأواهم ومصيرهم ، بعد أكل الزقوم ، وشرب الحميم (لَإِلَى الْجَحِيمِ) وكأن محل طعامهم وشرابهم ، بعيد عن الجحيم فإذا أكلوا
وشربوا رجعوا إلى محلهم ، كما قال سبحانه (يَطُوفُونَ بَيْنَها
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) .
[٧٠](إِنَّهُمْ) أي هؤلاء الكفار ، إنما يصرون على الكفر والفساد تقليدا
فقط ، بلا حجة أو دليل ، فقد (أَلْفَوْا) أي وجدوا ، من ألفى يلفي بمعنى وجد (آباءَهُمْ ضالِّينَ) فقد رأوهم منحرفين عن طريق الهداية.
[٧١](فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي يسرعون في تقليدهم ، فإن الإهراع الإسراع.
[٧٢](وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار (أَكْثَرُ
الْأَوَّلِينَ) من الأمم السابقة.
[٧٣](وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ) أي في أولئك الأولين (مُنْذِرِينَ) أنبياء ينذرونهم من الضلال والكفر.
[٧٤](فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو أيها الناظر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)
__________________
إِلاَّ
عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
وَلَقَدْ
نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)
وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧)
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)
____________________________________
حيث إن الله سبحانه ، أهلكهم بعذابه لما انحرفوا ، وهذا تهديد لهؤلاء بأنهم
إن انحرفوا ، أخذهم العذاب ، كما أخذ السابقين.
[٧٥](إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) بصيغة اسم المفعول ، أي الذين أخلصهم الله سبحانه لنفسه
، فكانوا يعملون لله سبحانه ، لا لغيره ، وهذا استثناء من «المنذرين» يعني إن
المنذرين أهلكوا إلا عباد الله منهم.
[٧٦] ثم يأتي
السياق ليبين طرفا من أحوال الأمم وأنبيائهم تنبيها وإيقاظا وتبيانا لقوله «ولقد
أرسلنا» (وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ) بعد ما يئس من إيمان قومه ، لننصره عليهم (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) نحن لنوح ، فلقد أجبناه لما سئل من إنجائه من الكفار.
[٧٧](وَنَجَّيْناهُ) أي خلصناه (وَأَهْلَهُ) عائلته ـ إلا ولده ـ (مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ) أي المكروه الذي كان ينزل به من قومه ، بأن حملناه في
السفينة ، وأهلكنا الكفار.
[٧٨](وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ) أولاده وأحفاده (هُمُ الْباقِينَ) في الأرض ، فالناس كلهم ـ بعد نوح ـ من ولده ، إذ هلك
سائر الناس بالغرق.
[٧٩](وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) أي أبقينا له ذكرا جميلا (فِي الْآخِرِينَ) أي الأمم الآخرين الذي جاءوا بعده ، وهكذا عاقبة
المجاهد في سبيل الله ، نجاة ، وبقاء الذرية ، وذكر جميل.
سَلامٌ
عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣)
إِذْ
جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)
____________________________________
[٨٠](سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) إما جملة مستأنفة ، تحية لنوح من الله سبحانه ، ومعنى
هذا إنه سالم في جميع العوالم ، سالم الذكر ، سالم الشخص ، سالم المبدأ ، أو إنه
من تتمة الكلام السابق ، أي تركنا عليه أن يسلم الناس عليه إلى يوم القيامة ، فكل
جيل من الأجيال عالم يحيّي نوحا بالسلام.
[٨١](إِنَّا كَذلِكَ) أي كما أنجينا نوحا (نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) بإنجائهم من الأعداء.
[٨٢](إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وفي هذه الآية مدح للمؤمنين حيث جعل نوح عليهالسلام منهم.
[٨٣](ثُمَ) بعد إنجاء نوح عليهالسلام في السفينة (أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ) أي الكفار.
[٨٤](وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) أي شيعة نوح (لَإِبْراهِيمَ) والشيعة من المشايعة ، بمعنى المتابعة ، أي أن إبراهيم
كان من الذين شايعوا نوحا في منهاجه ودعوته إلى التوحيد والشريعة ، والإذعان
بالمعاد ، والانقياد لأوامر الله سبحانه.
[٨٥](إِذْ جاءَ) إبراهيم عليهالسلام (رَبَّهُ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ) سالم من الشرك والعصيان والرذائل ، ومعنى «جاء» توجه
إلى الله سبحانه ، مع قلب طاهر نظيف.
إِذْ
قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً
دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ (٨٩)
____________________________________
[٨٦](إِذْ قالَ) إبراهيم عليهالسلام (لِأَبِيهِ) آزر ، والمراد عمه ، فإن الاصطلاح على تسمية العم ، أبا
، احتراما (وَقَوْمِهِ ما ذا
تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء تعبدونه.
[٨٧](أَإِفْكاً) الإفك هو الكذب (آلِهَةً) بدل من إفكا (دُونَ اللهِ) أي غير الله (تُرِيدُونَ)؟ قال ذلك على نحو الاستفهام الإنكاري ، أي كيف تعبدون
آلهة دون الله بالكذب والإفك؟
[٨٨](فَما ظَنُّكُمْ) أيها المشركون (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي ما تظنون أن يفعل بكم إذا أشركتم؟ وهذا تهديد لهم في
عبادتهم دون الله.
[٨٩] ولما رأى
إبراهيم عليهالسلام ، إن الكلام لا يؤثر فيهم عزم على أن يحطّم الأصنام ،
ليحدث فيهم ضجة ، ودائما في الضجة ، تظهر القلوب النقية ، وتصطدم التقاليد ، فيولد
في الناس حب الاستطلاع والرجوع إلى مناهجهم ليروا أيها صحيحا ، وأيها فاسدا ، وقد
كان للقوم عيد يخرجون فيه إلى الصحراء ، ويضعون الطعام أمام الأصنام ، لتبارك عليه
، ثم إذا رجعوا أخذوه للتبرك والاستشفاء ، ولما أرادوا الخروج ، قالوا لإبراهيم ،
هلم معنا إلى العيد (فَنَظَرَ) إبراهيم عليهالسلام (نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ) ولعل نظره إليها ، كان لأجل التفكر ، فإن الإنسان إذا
أراد أن يفكر ـ سريعا ـ صرف نظره عمن يقابله ، إلى محل آخر ، لئلا يشغله المخاطب ،
فيفكر في أمره.
[٩٠](فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) فقد كان قلبه حزينا على إصرار القوم على الكفر ،
فَتَوَلَّوْا
عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى
آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١)
ما
لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ
____________________________________
والسقم كما يطلق على المرض الجسدي ، يطلق على ضجر النفس وعدم خلوها من
الهمّ والمعنى لا حالة لي على الخروج معكم ، فإن مشغول القلب بالهم ، لا حالة له
على التنزه والتفرج.
[٩١] ولما عرف
القوم ، بأنه لا يخرج معهم تركوه (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ) أي أعرضوا عن مصاحبته للعيد (مُدْبِرِينَ) أي ولوه الدبر ذاهبين إلى العيد.
[٩٢](فَراغَ) أي مال إبراهيم (إِلى آلِهَتِهِمْ) أي الأصنام ، فإنه حين رأى خلو المعبد من العباد ، مال
نحو الأصنام (فَقالَ) لها (أَلا تَأْكُلُونَ)؟ وقد كان هذا سؤال العارف يريد أن يسمع غيره ، لتتم
عليه الحجة ، والمراد بالأكل وجود الحس والحياة ، وإلا فإله الحق أيضا لا يأكل ،
وقد تقدم أن أمام الآلهة كانت أطعمة للقوم.
[٩٣](ما لَكُمْ) أيها الأصنام (لا تَنْطِقُونَ) ولا تتكلمون؟ والإتيان بالضمائر على غرار العاقل ،
توحيدا مع سياق كلام القوم.
[٩٤](فَراغَ) أي مال إبراهيم (عَلَيْهِمْ) أي على الأصنام (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) فقد أخذ فأسا بيمينه ، وشرع يحطمهم ويكسرهم ، وإنما أخذ
باليمين ، لأنها أقوى في العمل.
[٩٥] ولما رجع
القوم من العيد ، ودخلوا بيت الأصنام رأوها محطمة مكسرة ، وعلموا إن ذلك من فعل
إبراهيم ، لأنه هو الذي بقي في المدينة ، وإنه كان مخالفا للأصنام (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) أي إلى إبراهيم
يَزِفُّونَ
(٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا
بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
____________________________________
(يَزِفُّونَ) أي يسرعون في المشي ، فإن «زف» بمعنى الإسراع في المشي
لنيل مطلوب ، أو الانتقام من عدو ، أو ما أشبه.
[٩٦] وأخذوا
إبراهيم ، وأثبتوا التحطيم عليه ، ف (قالَ) لهم إبراهيم عليهالسلام (أَتَعْبُدُونَ) أيها القوم (ما تَنْحِتُونَ)؟ على نحو الاستفهام الإنكاري ، أي كيف تعبدون الأصنام ،
التي تنحتونها من الأحجار بأيديكم ، وهل يمكن أن يكون الإله مصنوعا للإنسان؟
[٩٧](وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أيها القوم (وَما تَعْمَلُونَ) من الأصنام ، فإن أصنامكم التي تعملونها وتنحتونها
مخلوقة له سبحانه.
[٩٨] ولما لم
يتمكن القوم من رد حجة إبراهيم ، وتفكروا في التخلص منه (قالُوا) قال بعضهم لبعض (ابْنُوا لَهُ) لإبراهيم (بُنْياناً) محلا ليلقى فيه الحطب ، فيشعل ، ثم يقذف فيه إبراهيم
ليحترق ، واحتراق الإنسان لا يحتاج إلى ذلك ، وإنما أراد القوم إظهار حقدهم على
إبراهيم بذلك (فَأَلْقُوهُ فِي
الْجَحِيمِ) أي النار ، وكل نار عظيمة ، تسمى جحيما.
[٩٩] وصنعوا
البنيان ، وجمعوا الحطب ، وأشعلوه ، وقذفوا فيه إبراهيم ، لكنه لم يحترق (فَأَرادُوا) أي القوم (بِهِ) بإبراهيم (كَيْداً) حيلة للخلاص منه فلم ينجحوا بل جعلناهم (الْأَسْفَلِينَ) وأعلينا إبراهيم عليهم ، إذ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً
وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) .
__________________
وَقالَ
إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
____________________________________
[١٠٠] وإذ خرج
إبراهيم من النار ظافرا ، ورأى أن القوم لا يؤثر فيهم الكلام ، وإنما هم مصرون على
عبادة الأصنام ، أراد هجر تلك الديار ، إلى مكان آخر ، لعله يجد آذانا واعية (وَقالَ) إبراهيم عليهالسلام (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي) أي إلى حيث أمرني ربي إلى الديار المقدسة ، وهذا كما
يسمى من يذهب إلى الحج ، إنه ذاهب إلى الله (سَيَهْدِينِ) أي يهديني ربي ـ فيما بعد ـ إلى المكان الذي يختاره لي
، فإني مهاجر من هذه البلاد ، منتظر أمر ربي لاختيار المكان الذي أقطن فيه.
[١٠١] ثم دعا
ربه أن يهب له ولدا ، ليكون خلفه في إقامة الدين ، فقال يا (رَبِّ هَبْ لِي) ولدا (مِنَ الصَّالِحِينَ) بأن يكون من جملتهم.
[١٠٢](فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ) أي ولد (حَلِيمٍ) ذو حلم وأناة ، وهذا من أعظم صفات المصلحين ، إذ
الإصلاح يحتاج إلى التحلّم من الجهال ، وتلقّي أذاهم بصبر وأناة ، والمراد بالغلام
«إسماعيل» جد نبينا عليهماالسلام.
[١٠٣] وأعطاه
الله سبحانه الولد ، وبقي معه حتى شبّ وكبر (فَلَمَّا بَلَغَ) الغلام (مَعَهُ السَّعْيَ) أن يسعى مع إبراهيم في أعماله ، فإن الولد ما دام طفلا
، لا يتمكن أن يشارك الأب في مهامه ، فإذا كبر وشب ، يبلغ مبلغا يتمكن أن يسعى مع
أبيه في حوائجه (قالَ) إبراهيم عليهالسلام له (يا بُنَيَّ إِنِّي
أَرى فِي الْمَنامِ) أي رأيت في النوم (أَنِّي أَذْبَحُكَ) وقد كان نومه وحيا من الله سبحانه ، وكان هذا امتحانا
آخر لإبراهيم عليهالسلام ، بعد تلك المصاعب والأحزان ، والطرد من الوطن ، وإسكان
الأهل في واد
فَانْظُرْ
ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ
يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥)
____________________________________
غير ذي زرع (فَانْظُرْ) يا بني (ما ذا تَرى)؟ أي ما رأيك في هذا الأمر؟ فهل تقبل أن أذبحك أم لا؟ (قالَ) إسماعيل عليهالسلام (يا أَبَتِ) أصله «أبي» والتاء عوض عن الياء (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) من ذبحي ، فإني مستعد لذلك (سَتَجِدُنِي) عند الذبح (إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ) أصبر على ألم الذبح ، ومفارقة الحياة.
[١٠٤](فَلَمَّا أَسْلَما) أي استسلم إبراهيم لذبح ولده ، وإسماعيل لأن يذبح (وَتَلَّهُ) أي أضجعه ، فإن التل هو الصرع ، ومنه يسمى تل التراب
تلا ، لأن التراب يصرع ويجمع هناك (لِلْجَبِينِ) الجبين ، ما عن يمين الجبهة وشمالها ، أي أنام إبراهيم
ولده إسماعيل على جنبه ليقتله.
[١٠٥] أظهرنا
له ما كنا نقصده من عدم الذبح ـ وإنما الامتحان ـ (وَنادَيْناهُ أَنْ يا
إِبْراهِيمُ) فإتيان «الواو» هنا للإشارة إلى وجهة في الكلام ، وذلك
من فنون البلاغة.
[١٠٦](قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي أتيت بما يصدقها ، والتصديق كما يكون بالعمل ، كذلك
يكون بالتهيؤ القريب مع النية الجازمة (إِنَّا) كما جازينا إبراهيم بالعفو عن ذبح ولده ، وإعطائه أجر
الذبح (كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في عملهم تجاه الله سبحانه بإطاعة أوامره
، واجتناب نواهيه.
إِنَّ
هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
____________________________________
[١٠٧](إِنَّ هذا) الذي امتحن به إبراهيم من ذبح ولده (لَهُوَ الْبَلاءُ) الامتحان (الْمُبِينُ) الظاهر ، فإن تهيؤ الإنسان لذبح ولده بعد كبره وشدة
علاقته معه ، لمن أعظم الامتحانات.
[١٠٨](وَفَدَيْناهُ) أي جعلنا عوض ذبح إسماعيل ، فإن الفدية هو العوض عن شيء
وجب على الإنسان (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الذبح هو المذبوح ، فقد جاء جبرئيل من الجنة بكبش ذبح
عوض إسماعيل ، ومن المعلوم أن ذبح كبش الجنة فدية أعظم أقسام الذبح قربة إلى الله
تعالى ، أو المراد إنه كان عظيما ، حيث أمر الناس بالاقتداء به ، والسير خلفه ،
وإلى هذا اليوم يذبحون الأغنام ، في الأضحية تجديدا لتلك الذكرى ، وقد ورد إن كل
ما يذبح بمنى ، فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة.
في حديث عن الباقر
والصادق عليهماالسلام ، يذكر قصة حج إبراهيم ، قال : ثم أفاض إلى المزدلفة ،
فسميت المزدلفة ، لأنه ازدلف إليها ، ثم قام على المشعر الحرام ، فأمره الله أن
يذبح ابنه ، وقد رأى فيه شمائله وأخلاقه وآنس مما كان إليه ، فلما أصبح أفاض من
المشعر إلى منى ، فقال لأمه : زوري البيت أنت ، واحتبس الغلام ، فقال يا بني هات
الحمار والسكين؟ حتى أقرّب القربان ، سأل الراوي : ما أراد بالحمار والسكين؟ قال :
أراد أن يذبحه ثم يحمله ، فيجهزه ويدفنه ، قال : فجاء الغلام بالحمار والسكين ،
فقال : يا أبت أين القربان؟ قال : ربك يعلم أين هو ، يا بني أنت والله هو ، إن
الله قد أمرني بذبحك ، فانظر ما ترى؟ قال : يا أبت افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء
الله من الصابرين ، قال : فلما عزم على الذبح ، قال : يا أبت خمّر وجهي ، وشد
وثاقي ، قال : يا بني الوثاق مع الذبح؟ والله لا أجمعهما عليك اليوم ، قال
____________________________________
الباقر عليهالسلام : ، فطرح له قرطان «برذعة» الحمار ، ثم أضجعه عليه ،
وأخذ المدية فوضعها على حلقه ، قال فأقبل شيخ ، فقال : ما تريد من هذا الغلام؟ قال
: أريد أن أذبحه ، فقال : سبحان الله ، غلام لم يعص الله طرفة عين تذبحه؟ فقال :
نعم إن الله قد أمرني بذبحه ، فقال : بل ربك ينهاك عن ذبحه ، وإنما أمرك بهذا
الشيطان في منامك ، قال : ويلك الكلام الذي سمعت ، هو الذي بلغ بي ما ترى ، لا
والله لا أكلمك ، ثم عزم على الذبح ، فقال الشيخ : يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك ،
فإن ذبحت ولدك ، ذبح الناس أولادهم فمهلا ، فأبى أن يكلمه ، ثم قال عليهالسلام : فأضجعه عند الجمرة الوسطى ، ثم أخذ المدية فوضعها على
حلقه ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، ثم انتحى عليه المدية ، فقلبها جبرئيل عليهالسلام عن حلقه ، فنظر إبراهيم ، فإذا هي مقلوبة ، فقلبها
إبراهيم عليهالسلام على حدها ، وقلبها جبرئيل عليهالسلام على قفاها ، ففعل ذلك مرارا ، ثم نودي من ميسرة مسجد
الخيف ، يا إبراهيم ، قد صدقت الرؤيا ، واجترّ الغلام من تحته ، وتناول جبرئيل
الكبش من قلّة ثبير ، فوضعه تحته ، وخرج الشيخ الخبيث ، حتى لحق بالعجوز حين نظرت
إلى البيت ، والبيت في وسط الوادي ، فقال : ما شيخ رأيته بمنى فنعت نعت إبراهيم عليهالسلام ، قالت : ذاك بعلي ، قال : فما وصيف رأيته معه؟ ونعت
نعته ، فقالت : ذاك ابني ، قال : فإني رأيته أضجعه ، وأخذ المدية ، ليذبحه؟ قالت :
كلا ما رأيته ، إبراهيم إلّا أرحم الناس ، وكيف رأيته يذبح ابنه؟ قال : ورب السماء
والأرض ، ورب هذه البنية ، لقد رأيته أضجعه؟ وأخذ المدية ليذبحه ، قالت : لم؟ قال
: زعم أن ربه أمره بذبحه ، قالت : فحق له أن يطيع ربه «الحديث» .
__________________
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ
____________________________________
[١٠٩](وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) أي على إبراهيم عليهالسلام ذكرا جميلا (فِي الْآخِرِينَ) في الأمم التي أتت من بعده ، فإن جميع الأمم ، يمدحون
إبراهيم عليهالسلام ، جزاء لجهاده ، وإطاعته لله سبحانه.
[١١٠](سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) إما جملة مستأنفة ، أي سلامة من الله على إبراهيم في
دنياه بالذكر الجميل ، وفي آخرته بالجنة والنعيم ، أو من تتمّة «وتركنا» أي أبقينا
له تسليم الناس له وتحيتهم إياه.
[١١١](كَذلِكَ) الذي جزينا إبراهيم عليهالسلام (نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) كل من أحسن عقيدة وعملا.
[١١٢](إِنَّهُ) أي إبراهيم عليهالسلام (مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ) الذين آمنوا بنا ، وفي هذا تلميح إلى رفعة درجة
الايمان.
[١١٣](وَبَشَّرْناهُ) أي بشرنا إبراهيم ، جزاء لخدماته وأتعابه (بِإِسْحاقَ) فقد كانت زوجته «سارة» لا تلد ، لكن الله سبحانه شاء أن
يتفضل عليهما بالولد فولدت له إسحاق في حال كونه (نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) أي من جملتهم ، وفي جماعتهم ، وهذا ترغيب في الصلاح ،
وحيث إن النبي مع عظم درجته يعدّ منهم.
[١١٤](وَبارَكْنا عَلَيْهِ) أي على إبراهيم (وَعَلى إِسْحاقَ) بأن جعلنا فيهما البركة والزيادة : زيادة النسل ،
وزيادة الذكر ، وزيادة الخير إلى غير
وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
وَلَقَدْ
مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤)
وَنَجَّيْناهُما
وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥)
وَنَصَرْناهُمْ
فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦)
____________________________________
ذلك ، ويحتمل بعيدا أن يكون ضمير «عليه» راجعا إلى «إسماعيل» المفهوم من
قوله «بنيّ» وقد صدق سبحانه ، فإن من نسل إسحاق «اليهود» ومن نسل إسماعيل كثرة من
المسلمين ، وقد بعث فيهم كثرة من الأنبياء ، وبقوا إلى هذا اليوم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) أي ذرية إبراهيم ـ وبالطبيعة يرجع ذلك إلى إسماعيل ـ وذرية
إسحاق (مُحْسِنٌ) بالإيمان والطاعة (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر أو العصيان (مُبِينٌ) صفة لكلا الأمرين ، باعتبار كل واحد منهما ، وكانت هذه
الجملة ، للتعريض بالظالم كيف يظلم ، وآبائه هؤلاء الأنبياء العظام المحسنون؟
[١١٥] وبعد
تمام قصة إبراهيم يعطف السياق إلى قصة موسى وهارون الذين هما من نسل إبراهيم عليهالسلام (وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي أنعمنا عليهما بنعم كثيرة لطفا ومنّة ، لا استحقاقا
، فقد جعلناهما ، نبيين عظيمين ، وملكناهما الأرض إلى غير ذلك من النعم ، التي
تفضل الله بها عليهما.
[١١٦](وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) أي خلصناهما وبني إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ) وهو إسار فرعون الذي كان يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
[١١٧](وَنَصَرْناهُمْ) على فرعون بإغراقه مع جيشه ، وغلبة هؤلاء عليهم (فَكانُوا هُمُ) أي موسى وهارون ، وبنو إسرائيل (الْغالِبِينَ) على فرعون وقومه.
وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
____________________________________
[١١٨](وَآتَيْناهُمَا) أي أعطينا موسى وهارون (الْكِتابَ
الْمُسْتَبِينَ) يقال استبان الأمر إذا أظهر ظهورا جليا ، والمراد
بالكتاب «التوراة» التي كانت ظاهرة جلية.
[١١٩](وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) أي دللناهما الطريق الذي يوصل إلى المطلوب بأقصر مسافة.
[١٢٠](وَتَرَكْنا عَلَيْهِما) أي أبقينا على موسى وهارون الذكر الجميل (فِي) الأقوام (الْآخِرِينَ) بأن عرّفناهما للناس ، حتى يثنون عليهما.
[١٢١](سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) إما جملة مستأنفة ، وإما من تتمة «تركنا» كما تقدم.
[١٢٢](إِنَّا كَذلِكَ) أي كما جزيناهما (نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في العقيدة والعمل.
[١٢٣](إِنَّهُما مِنْ) جملة (عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ) وفيه إشارة إلى مدح الإيمان ، حتى أن موسى وهارون
يستحقان ، آيتين عليهما بكونهما مؤمنين.
[١٢٤] وإذ فرغ
السياق من ذكر موسى وهارون ، يأتي لذكر «إلياس» النبي عليهالسلام (وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) في المجمع ، قالوا : إنه بعث بعد حزقيل ، لما عظمت
الأحداث في بني إسرائيل ، وكان يوشع لما
إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤)
أَتَدْعُونَ
بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)
____________________________________
فتح الشام ، بوأها بني إسرائيل وقسمها بينهم ، فأحل سبطا منهم ببعلبك وهم
سبط إلياس ، فبعث فيهم نبيا إليهم ، فأجابه الملك ، ثم إن امرأته حملته على أن
ارتد وخالف إلياس ، وطلبه ليقتله ، فهرب إلى الجبال والبراري ، إلى أن قال : وسلط
الله على الملك وقومه عدوا لهم ، فقتل الملك وامرأته.
[١٢٥](إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) المعاصي وتخافون الله؟ على وجه الاستفهام الإنكاري ، أي
لماذا لا تتقون.
[١٢٦](أَتَدْعُونَ بَعْلاً) اسم صنم لهم ، أي كيف تدعون بالألوهية «بعلا» (وَتَذَرُونَ) أي تتركون (أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ)؟ أي الله فلا تتخذونه إلها؟
[١٢٧] تذرون (اللهَ رَبَّكُمْ) بدل من (أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ)
(وَرَبَّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ) فإنه هو الخالق لكم جميعا ، فكيف يترك الإنسان خالقه
ليأخذ غيره؟
[١٢٨](فَكَذَّبُوهُ) في دعوته ولم يؤمنوا به ، بل قالوا إنك تكذب في ادعائك
بوجود الله ، وأنك رسوله ، (فَإِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ) يحضرون في القيامة بالعنف ، والكره منهم ، حيث يعلمون
شدة الحساب عليهم ، وسوء الجزاء ، بخلاف المؤمنين الذين يحضرون الموقف رغبة منهم ،
إذ يعلمون الجزاء الحسن.
[١٢٩](إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) من قوم «إلياس» فإنهم ليسوا بمحضرين ،
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
(١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
____________________________________
أو استثناء منقطع ، حيث إن المراد ، إن كل إنسان محضر ، إلا من أخلصه الله
سبحانه لنفسه ، من الصالحين ـ وقد ذكرنا سابقا وجه الاستثناء المنقطع ـ.
[١٣٠](وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) أي على إلياس ، ذكرا جميلا (فِي) الأقوام (الْآخِرِينَ) فإنهم يعظمونه.
[١٣١](سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) إما جملة مستأنفة ، بأن يكون السلام من الله عليه ، أو
مرتبطة بما قبلها ، أي تركنا عليه تسليم الأقوام عليه بالإضافة إلى الذكر الجميل ،
و «آل ياسين» لغة «في إلياس» أو باعتبار ما قالوا : من أن الكلمة إذا كانت عجمية ،
جاز التصرف فيها بكل وجه ، ولذا جاز في «جبرئيل» لغات ، وما ورد من أن المراد «آل
ياسين» يعني آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فذاك من باب التأويل ، أو باعتبار استعمال اللفظ في
أكثر من معنى ـ على المختار من جوازه بالقرينة ـ.
[١٣٢](إِنَّا) كما جزينا إلياس (كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في العقيدة والعمل.
[١٣٣](إِنَّهُ) أي إن إلياس (مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ) المصدقين بنا وبشريعتنا ، ومن المعلوم إن منتهى مفخرة
الأنبياء ، إنهم من المؤمنين ، ولذا قال (وَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وقال تعالى :
__________________
وَإِنَّ
لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي
الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ
____________________________________
(آمَنَ الرَّسُولُ) .
[١٣٤] وبعد
تمام قصة إلياس ، يأتي السياق للإشارة إلى قصة لوط (وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلهم الله إلى قومهم.
[١٣٥] فقد جاء
ليرشد قومه في ترك الكفر ، واجتناب الفاحشة ، التي كانوا يرتكبونها ، لكن وعظه لم
ينفع في قومه ، وأخيرا قدر الله سبحانه الهلاك على القوم ، وإنجاء لوط من براثنهم (إِذْ نَجَّيْناهُ) أي لوط (وَأَهْلَهُ
أَجْمَعِينَ) من تلك القرية التي كانت تعمل الخبائث ، بأن أمرناهم
بالخروج منها ليلا.
[١٣٦](إِلَّا عَجُوزاً) هي زوجة لوط المنافقة (فِي الْغابِرِينَ) أي كانت في الباقين الذين أهلكوا.
[١٣٧](ثُمَ) بعد خروج لوط وأهله من القرية (دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) التدمير هو الإهلاك ، أي أهلكنا القوم بتقليب أرضهم
ظهرا لبطن ، ورجمهم بالحجارة.
[١٣٨](وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ
عَلَيْهِمْ) أي على أراضي قوم لوط (مُصْبِحِينَ) أي صباحا ، من أصبح ، بمعنى دخل في الصباح.
[١٣٩](وَبِاللَّيْلِ) فإن أهل مكة كانوا إذا سافروا إلى الشام ، مروا بأراضي
__________________
أَفَلا
تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)
فَساهَمَ
فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١)
____________________________________
قوم لوط المدمرة ، ورأوا أماكنهم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أليس لكم عقل حتى تعتبروا بأولئك القوم ، وتعلموا أن
من تمادى في الكفر والطغيان ، كان مصيره ، مثل مصير أولئك؟
[١٤٠] ثم أتى
السياق للإشارة إلى قصة يونس عليهالسلام (وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلوا إلى أقوامهم لإرشادهم.
[١٤١] فقد جاء
إلى قومه ، وكانوا كفارا عصاتا ، وعددهم مائة ألف ، أو يزيدون ، فدعاهم إلى الله
مدة مديدة ، لكنهم لم يستجيبوا له ، فضاق بهم ذرعا ودعا عليهم بالعذاب ، لكن دعائه
عليهم ، كان خلاف الأولى ، ولذا شاءت إرادة الله سبحانه ، أن ينبهه على ذلك (إِذْ أَبَقَ) أي فرّ من قومه تضجرا ، لئلا يحضر وقت نزول العذاب بهم (إِلَى الْفُلْكِ) أي السفينة (الْمَشْحُونِ) أي المملوء بالناس والأحمال ، من شحنه إذا ملأه.
[١٤٢](فَساهَمَ) أي قارع ، وذلك لأن حوتا أخذ طريق السفينة ، فاستقر رأي
القوم على أن يقرعوا باسم الأشخاص الراكبين ، فمن خرج اسمه في القرعة ، ألقوه
للحوت ليأكله ، فيفتح عليهم الطريق ، وإنما قال «ساهم» لأن القوم كلهم ، ومنهم
يونس ، قبلوا القرعة ، فهو من باب إسناد الفعل إلى السبب (فَكانَ) يونس (مِنَ الْمُدْحَضِينَ) يقال أدحضه إذا أسقطه ، أي من الساقطين في البحر ، فقد
أسقطه القوم حسب خروج اسمه على القرعة ، والإتيان بالجمع «المدحضين» باعتبار
السياق ، وتوهم كلّي له أفراد في سائر السفن ، وتلك السفينة ، فلا
فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
فَلَوْ
لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
____________________________________
ينافي ذلك ، إن لم يكن أحد مدحضا سواه.
[١٤٣](فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) أي ابتلعه الحوت الذي كان سادا طريق السفينة ، وقد أمره
الله سبحانه أن لا يؤذي يونس ، كما أوقف أجهزة هضمه عن هضم يونس ، فكان عليهالسلام في بطنه حيّا ، وإن كان في صعوبة ومشقة (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي مستحق للوم ، يقال ألام الرجل ، بمعنى أتى بما يلام
عليه ، فهو مليم ، أو المراد أنه كان يلوم نفسه ، لإتيانه بذاك المخالف للأولى ،
ومعناه الشيء الذي يكون تركه أولى ، فإذا أضفت إنسانا ، كان الأولى أن تحضر له ماء
غسل اليد قبل الطعام مثلا فإن لم تحضر له ، كان ذلك خلاف الأولى ، فتلوم نفسك لم
ما أحضرت؟ وقد ثبت عقلا ونقلا ، إن الأنبياء منزهون عن العصيان ، فما يرى من هذا
القبيل ، يكون من باب «ترك الأولى» كما حقق في علم الكلام.
[١٤٤](فَلَوْ لا أَنَّهُ) أي يونس (كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ) فإنه عليهالسلام كان يقول في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) .
[١٤٥](لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) أي يبقى في بطن الحوت (إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة ، وإنما نجّاه من بطن الحوت لتسبيحه
وتنزيهه لله سبحانه ، وليس بدعا من قدرة الله سبحانه ، أن يبقي الإنسان حيا ، فإنه
على ما يشاء قدير ، وما يقال : إن عمل يونس ، كان تركا للأولى ، وترك الأولى ، لا
عقاب له ، فكيف عوقب يونس بحبسه في بطن الحوت؟ فالجواب إن مقام يونس
__________________
فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥)
وَأَنْبَتْنا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
____________________________________
الرفيع ، يقتضي أن يكون ترك الأولى منه كالعصيان من سائر الناس ، ألا ترى
إن رئيس الوزراء ، لو أتى عند الملك بما ينافي الآداب ، عدّ عاصيا ـ بلحاظ مقامه ـ
وإن كان الأكبر من مثل ذلك العمل ، لا يعدّ عصيانا من سائر الناس ، ومن هاهنا قيل «حسنات
الأبرار سيئات المقربين».
[١٤٦] وبعد
زمان من مكث يونس في بطن الحوت (فَنَبَذْناهُ) أي أمرنا الحوت بطرحه (بِالْعَراءِ) وهو المكان الخالي من الشجر (وَهُوَ سَقِيمٌ) ذو علّة من تعب بطن الحوت.
[١٤٧](وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) لظلاله (شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ) وهو القرع ، فكان يمصه ، ويستظل به وبورقه ، وقد كان
تساقط شعره عليهالسلام ، ورّق جلده.
[١٤٨](وَأَرْسَلْناهُ) إما بعد ذلك ، كما روى إنه رجع إلى أهل نينوى بعد خروجه
من البحر ، أو حكاية لما قبل ذهابه عنهم (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ) إما أن «أو» بمعنى الواو ، كما قال ابن مالك :
وربما عاقبت
الواو إذا
|
|
لم يلف ذو
النطق للبث منفذا
|
أو بمعنى
الترديد ، لأجل عدم الاهتمام بالخصوصية ، وقد روى عن الصادق عليهالسلام : إنهم زادوا ثلاثين ألفا ، ويمكن أن يكون الترديد باعتبارين ، فباعتبار المدينة
، كانوا مائة ألف ، وباعتبار أطرافها كانوا يزيدون.
__________________
فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
فَاسْتَفْتِهِمْ
أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١)
____________________________________
[١٤٩](فَآمَنُوا) به إما المراد أن القوم الجدد الذين أرسل إليهم آمنوا
به ، أو المراد القوم الأول ، وقد كانوا حين ذهب يونس آمنوا بالله وبما قاله يونس
حين رأوا العذاب ، فقد ورد عن الباقر عليهالسلام : إن يونس جاءه الوحي من قبله سبحانه ، يقول : إن أهل
نينوى قد آمنوا واتقوا ، فارجع إليهم (فَمَتَّعْناهُمْ) أي رفعنا عنهم العذاب ، وأبقيناهم يمتّعون بالحياة (إِلى حِينٍ) الموت ، حيث ماتوا بآجالهم المقدرة لهم.
[١٥٠] وبعد نقل
هذه القصص ، يعود السياق مع كفار مكة ، ليوقظهم من غفلتهم ، وينبههم على خرافاتهم
، فقال سبحانه (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سلهم يا رسول الله (أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ) أي هل لله أولادا إناثا (وَلَهُمُ الْبَنُونَ)؟ فقد كانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله ، فكانوا
يخصصون البنات ـ وهم يكرهونها ـ بالله ، أما البنون فلهم وحدهم.
[١٥١](أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) أي هل خلقنا الملائكة نساء؟ (وَهُمْ شاهِدُونَ) أي حاضرون وقت خلقنا لهم ، حتى رأوا أنهم نساء ، وهذا
على وجه الاستفهام الإنكاري.
[١٥٢](أَلا) فليتنبه السامع (إِنَّهُمْ) أي الكفار (مِنْ إِفْكِهِمْ) وكذبهم ، و «من» نشوية ، أي من منشأ الكذب (لَيَقُولُونَ).
__________________
وَلَدَ
اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢)
أَصْطَفَى
الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ
(١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ
____________________________________
[١٥٣](وَلَدَ اللهُ) حين زعموا إن الملائكة أولاد الله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم ، إن لله أولادا ، وإن الملائكة إناث.
[١٥٤](أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) أصله «أأصطفى» بهمزتين ، أحدهما للوصل ، والثانية
للاستفهام ، فحذفت همزة الوصل تخفيفا ، أي هل اختار الله سبحانه ، البنات على
البنين ، حين زعمتم إنه جعل ملائكته نساء؟ والمعنى الإنكار عليهم في أن يختار الله
، الأدنى ـ بنظرهم ـ على الأعلى ، وهو قادر على كل شيء.
[١٥٥](ما لَكُمْ) أيها الكفار (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بهذا الحكم الباطل؟ وأصل «مالك» أي شيء لك ، ثم استعمل
في الإنكار.
[١٥٦](أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون وترجعون عن غفلتكم.
[١٥٧](أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي هل تحكمون بذلك اعتباطا بدون دليل ، أم لكم على ذلك
دليل واضح؟ فإن السلطان بمعنى الدليل ، لأنه يسلط الإنسان على خصمه الخالي من
الدليل.
[١٥٨] فإن
تزعمون إن لكم دليلا على قولكم (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي فيه الحجة على أن الملائكة إناث (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم.
[١٥٩](وَ) أغرب من هذا ، أن (جَعَلُوا) أي الكفار (بَيْنَهُ) تعالى (وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ
نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ (١٦١)
____________________________________
الْجِنَّةِ
نَسَباً) إما هو حكاية ، لما كانوا يقولون : إن الله تزوج امرأة
من الجن فولدت له الملائكة ، أو لما كانوا يقولون : إن الله أخ لإبليس ـ وهو من
الجن ـ فالله خالق الخير وإبليس خالق الشر ، والله أعلم بمراده (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ) أي يحضرون بالكره لموقف القيامة ، ولو كانت الجنة قريبة
في النسب لله سبحانه ، كان تعالى يكرمهم ، وهذا كقوله (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ) ؟ والمعنى أن هؤلاء يزعمون إن الجن نسيب مع الله ،
والحال إن الجن هم يعلمون إنهم عباد له يحضرهم للحساب والجزاء كسائر العبيد.
[١٦٠](سُبْحانَ اللهِ) أي أنزه الله تنزيها (عَمَّا يَصِفُونَ) أي عن الشيء يصفون الله به من كونه صاحب الأولاد أو
البنات ، وإنه نسيب الجنة.
[١٦١] وإذ كان
في قوله سبحانه (إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ) عموم لفظي ، استثنى من «إنهم» المؤمنين بالرسول
المنزهين عن هذه الأقوال (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لنفسه ، فهم لا يقولون بهذه الأقوال
الفارغة والخرافات.
[١٦٢] ثم بين
سبحانه إن هؤلاء الكفار لا يتمكنون من إضلال كل أحد ، إلا الذين هم منحرفون ذاتا ،
وكأنه تسلية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وللمؤمنين ، بأن لا يخافوا على الدعوة أن تذهب سدى (فَإِنَّكُمْ) أيها الكفار (وَما
__________________
تَعْبُدُونَ
(١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ
صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ (١٦٥)
____________________________________
تَعْبُدُونَ) أي الأصنام التي تعبدونها ، أو المراد مطلق المعبودات
حتى الملائكة.
[١٦٣](ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي على الله سبحانه (بِفاتِنِينَ) يقال فتنة إذا أضلّه وحرّفه عن الطريق ، أي أنكم لا
تتمكنون من إضلال الناس ، على خلاف الله سبحانه.
[١٦٤](إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) وإنما تتمكنون على إضلال جماعة خاصة ، هم يصلون الجحيم
، ويلازمونها ، فإن «صلى» بمعنى دخل النار ملازما لها ، فمن سبق في علمه سبحانه
أنه منحرف ، يصلى النار لا محالة ، هو الذي يضل بإضلالكم ، لا كل أحد ، فالاستثناء
من المقدر ، أي «بفاتنين الناس ، إلا ..».
[١٦٥] ثم جاء السياق ليحكي جملة من
خطاب الملائكة للكفار ، في رد قولهم ، إن الملائكة بنات الله ، وإنها آلهة شركاء
لله ـ فقد كان بعض الكفار يعبد الملائكة ـ وقيل : إن كلام الملائكة يبتدأ من قوله «فإنكم»
(وَما مِنَّا) معاشر الملائكة ، وما ورد من إرادة أهل البيت عليهمالسلام ، بذلك ، فإنه من باب التأويل ، أو استعمال اللفظ
المشترك في أكثر من معنى ، أو نحو ذلك ، (إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ) لا يتمكن أن يتعدى ذلك المقام ، فكيف يمكن أن يكون من
بهذه الصفة إلها يعبد؟ فإن الإله لا حد له ، ولا محل خاص يكنفه.
[١٦٦](وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) صفوفا في الصلاة ، أو المصطفون كالخدم ، ننتظر الأوامر.
وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
وَإِنْ
كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا
ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ
اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)
____________________________________
[١٦٧](وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) المنزّهون لله عن الشريك ، وعن النقائص ، فكيف يمكن أن
يكون من هذا وصفه إلها ، يعبد من دون الله؟
[١٦٨](وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، أي أن الكفار ، كانوا يقولون قبل بعثة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[١٦٩](لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ
الْأَوَّلِينَ) أي كتابا ، من كتب الأنبياء السابقين ، بأن كان أرسل
إلينا رسول ، كما أرسل إلى تلك الأمم.
[١٧٠](لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي كنا من الذين يخلصهم الله لعبادته ، بأن كنا مطيعين
له غاية الإطاعة ، فإن كفار مكة ، حيث كانوا يرون أهل الكتاب منحرفين ، ويسمعون
قصص أسلافهم ، كانوا يتعجبون من انحراف أهل الكتاب ، ويقولون : لو كان أرسل إلينا
رسول لكنا مطيعين لله ، منقادين لأوامره ، فلما أتاهم الرسول ، صاروا مثل تلك
الأمم في إيذاء الرسول وتكذيبه.
[١٧١] فلما
جاءهم الرسول أو الكتاب (فَكَفَرُوا بِهِ) ولم يقبلوه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم ، وهذا تهديد لهم بالعقاب والنكال.
[١٧٢](وَ) لكن كفر هؤلاء لا يضر الأنبياء عليهمالسلام ، ف (لَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا) بالنصر ، أي إنّا قبل أن نبعث الأنبياء ، كنا نقول ـ والمراد
بالقول : التقدير ـ إنهم سينتصرون على أعدائهم (لِعِبادِنَا
الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلوا من قبلنا.
إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا
____________________________________
[١٧٣](إِنَّهُمْ) أي الأنبياء ـ وهذا تفسير «كلمتنا» ـ (لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) أي الغالبون على الكفار ، فإنا ننصرهم على أعدائهم ،
والإتيان ، ب «لهم» للتأكيد ، كما أنه كذلك في الآيات السابقة «وإنا لنحن» في قصة
الملائكة ، ثم أن الله سبحانه لم يخلف وعده ، فإن الأنبياء انتصروا في نهاية
المطاف ، وسادت مناهجهم الحياة ، والانتصار هو هذا ، وإن عذبوا وقتلوا ، ألا ترى
إنا نقول : انتصرت الدولة الفلانية ، إذا غلبت في نهاية المطاف ، وإن قتل أكثر
شبابها ، وخربت ديارها.
[١٧٤](وَإِنَّ جُنْدَنا) أي المؤمنين (لَهُمُ الْغالِبُونَ) على سائر الأعداء ، وكونهم جند الله ، باعتبار نصرهم
لدينه.
[١٧٥](فَتَوَلَ) يا رسول الله ، والمعنى : أعرض ، (عَنْهُمْ) عن هؤلاء ، بأن لا تقابلهم بالأذى (حَتَّى حِينٍ) نأمرك بقتالهم ، فقد كانت حكمة الله ، أن تشمل الدعوة
بالسلم التام ، حتى تنمو وتقوى ، ثم تصول بالقوة ، كما هو طريقة العقلاء.
[١٧٦](وَأَبْصِرْهُمْ) أي أنظرهم بدون أن تحاربهم ، فإن الإنسان الذي تقع عليه
الكوارث ، قد يقوم بالمدافعة ، وقد يجلس ينتظر وينظر ، (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) عاقبة أمرهم حين تؤمر بالجهاد ، كيف يتضاءلون أمام الحق
، وحين يؤخذون للعذاب ، كيف لا قوة لهم ولا ناصر؟
[١٧٧] إنهم من
جهلهم يقولون : لو كنت يا محمد صادقا ، أنزل علينا العذاب ، وهذا مستغرب جدا (أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ
(١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ
صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ
يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ (١٨١)
____________________________________
يَسْتَعْجِلُونَ)؟ أي كيف يطلب هؤلاء العذاب؟ أما يخافون منه؟
[١٧٨] وسيأتي
يوم العذاب (فَإِذا نَزَلَ) العذاب (بِساحَتِهِمْ) أي بأفنية دورهم (فَساءَ) الصباح وقت ذاك (صَباحُ
الْمُنْذَرِينَ) بصيغة اسم المفعول ، أي صباح هؤلاء الذين أنذرهم الرسول
، فلم ينفعهم الإنذار.
[١٧٩](وَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض يا رسول الله عن هؤلاء بعد أن دعوتهم ، فلم
تنفعهم الدعوة (حَتَّى حِينٍ) يأتي الأمر بقتالهم.
[١٨٠](وَأَبْصِرْ) أمرهم ناظرا إلى ما يصنعون فقط لتكون شاهدا عليهم (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) إنما كرر للتأكيد ، أو لأن المراد بأحدهما عذاب الدنيا
وبالآخر عذاب الآخرة.
[١٨١] وأخيرا
نزّه الله سبحانه نفسه ، عما ينسب إليه من الصاحبة والولد والشريك ، وسائر
الخرافات (سُبْحانَ رَبِّكَ) «سبحان» منصوب بفعل مقدّر ، أي أسبح ربك تسبيحا ، والمعنى أنزهه عما لا
يليق به (رَبِّ الْعِزَّةِ) أي مالك العزة وخالقها ، ومن لوازم العزة المطلقة ، أن
لا يكون له ولد وشريك ، وزوجة ليشاركوه العزة (عَمَّا يَصِفُونَ) هؤلاء ، أي يصفون الله به.
[١٨٢](وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) تحية عليهم منا ، أو سلامة وأمان لهم ، من
وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
____________________________________
أن ينصر عليهم أعدائهم.
[١٨٣](وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فجنس الحمد لله ، إذ جميع المحامد منه ، وهو رب العوالم
، خالقها ومربيها ، والعوالم باعتبار عالم الإنسان ، وعالم الحيوان ، وعالم الجن
والشياطين ، وعالم الملائكة ، وعالم الدنيا ، وعالم الآخرة ، إلى غير ذلك ، فإن
الله سبحانه ، هو رب الكل لا شريك له فيها.
(٣٨)
سورة ص
مكيّة / آياتها (٨٩)
سميت السورة
بهذا الاسم لابتدائها بهذه اللفظة «ص» وهي كسائر السور المكية تبين العقيدة
بأصولها الثلاثة ، في أساليب قصصية رائعة ، للتقريب إلى الذهن ، والتركيز على
الحقائق ، وإذ ختمت سورة الصافات ، بذكر المكذبين للرسل ، وللكافرين بالله ،
والجاحدين للقرآن ، ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) باسم الإله الرحمن الرحيم نبدأ السورة إعلانا على
الصبغة العامة للمسلم ، بأنه مربوط بالله ، وذكرا لله الذي لا ينسى من ذكره ،
ويبارك كل شيء ابتدأ به ، واستمطارا لشآبيب رحمته ، ليغمر القارئ بالفضل والرحم.
ص
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)
بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)
كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
____________________________________
[٢](ص) فيه أقوال : منها إنه رمز بين الله والرسول ، ومنها أن
المراد ، إن القرآن الذي لا تتمكنون ـ أيها الكفار ـ من الإتيان بأقصر سورة منه ،
من جنس حروف الهجاء ، ل «ص» وغيره ، ومنها إنه : اسم لعين تنبع من تحت العرش ، كما
ورد عن الصادق عليهالسلام، ومنها إنه اسم من أسماء الله تعالى إشارة إلى اسم
لكونه إشارة إلى «الصابر» أو «الصادق» إلى غيرها من الأقوال ، وفي إعرابه أيضا
خلاف تبع الخلاف الأول (وَالْقُرْآنِ) أي قسما بهذا القرآن الذي هو (ذِي الذِّكْرِ) أي صاحب الشرف ، كما يقال : لفلان ذكر أي شرف بسببه
يذكر في المجامع ، أو المراد أنه صاحب التذكير بالله واليوم الآخر ، ولا ينافي أن
يكون هو ذكر ـ باعتبار بعض آياته ـ وأن يكون صاحب الذكر ـ باعتبار مجموعة وجواب
القسم محذوف : أي أنه لحق ، دلّ عليه قوله «بل الذين».
[٣] فليس في
القرآن نقص ، يوجب عدم إيمانهم ، فإنه حق ظاهر لا مرية فيه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله واليوم الآخر (فِي عِزَّةٍ) أي تكبر عن قبول الحق ، فإن الإنسان العزيز يعرض عن
الرضوخ لغيره ـ سواء كانت عزة واقعية ، أو عزة مزعومة ـ (وَشِقاقٍ) أي مخالفة للرسول ، والعدو مهما يرى الحق في جانب خصمه
، لا يرضخ له ، ولا يقبل منه ، مشتق من شق ، كأنّه في شق وطرف ، والخصم في شق آخر.
[٤] ولكن هل
يبقون هؤلاء كذلك معرضين عن الحق ، أعداء للرسول؟ كلا ، فليعتبروا بالأمم المكذبة
، التي سبقتهم ، ف (كَمْ أَهْلَكْنا) «كم» للخبر يراد به التكثير (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل هؤلاء الكفار (مِنْ قَرْنٍ)
فَنادَوْا
وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
____________________________________
أي من أمة ، وتسمى الأمة قرنا ، باعتبار تقارن أعمار أفرادها (فَنادَوْا) عند إتيانهم العذاب بالاستغاثة والضراعة ، لكن لم
يفيدهم النداء ، في نجاتهم من العذاب (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أصل «لات» «لا» زيدت عليه التاء ، بمعنى «ليس» و «مناص»
من «النوص» وهو التأخر يقال : ناص ينوص إذا تأخر ، وقد حذف خبر «لات» أي ليس الوقت
الذي استغاثوا فيه ، وقت التأخر للعذاب والنجاة لهم ، فقد كانوا في مهلة ، ما دام
أجلهم باق ، أما إذا حقّت عليهم كلمة العذاب ، فلا تفيدهم الضراعة والاستغاثة.
[٥](وَعَجِبُوا) أي الكفار (أَنْ جاءَهُمْ
مُنْذِرٌ) أي رسول من قبل الله سبحانه لإنذارهم وتخويفهم عن بأس
الله ، بأنهم إن تمادوا على الكفر والعصيان ، أخذهم العذاب ، وأرجعوا إلى النار (مِنْهُمْ) أي من جنسهم ، فقد كانوا يقولون : لو لا يكون الرسول
علينا ملائكة (وَقالَ الْكافِرُونَ
هذا) الرسول (ساحِرٌ كَذَّابٌ) فإنه يسحرنا ، حين لا نتمكن من الإتيان ، بمثل القرآن ،
حين يأتي بخوارق ، وهو يكذب على الله ، بأنه رسوله ، وإن الله إله واحد لا شريك له
، ولا صاحبة ، ولا ولد.
[٦] ثم جعلوا
يستفهمون مستنكرين بقولهم (أَجَعَلَ) أي هل جعل هذا الرسول (الْآلِهَةَ) المتعددة التي نقول بها (إِلهاً واحِداً)؟ أي كيف يقول ، أن لا إله إلا إله واحد ، والحال أن لنا
آلهة متعددة؟ (إِنَّ هذا) الذي يقوله محمد من وحدة الإله (لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي لأمر عجيب
وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا
____________________________________
مفرط في العجب ، قال بعض : إن قبيلة ، كانت لها آلهة متعددة ، تبعا لتنازع
كان يقع بينهم ، وقد كانوا يقولون : إن هذه الكثرة من الآلهة ، لا تكفينا ، فيجب
صنع آلهة جديدة ، فلما قال لهم الرسل أن الإله واحد ، قالوا ، إنا لم نكتف بهذا
العدد العديد من الآلهة ، فهو يدعونا إلى إله واحد؟ وهناك ظريفة تحكى ، هي أن
الكفار اجتمعوا ، وقالوا إن في القرآن كلمات غير فصيحة ، وظنوها مأخذا على الرسول
، وجمعوا تلك الكلمات في ثلاث ، هي «كبار» و «يستهزئ» و «عجاب» وأتوا إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ناقدين للقرآن فقال الرسول : ائتوني بأفصحكم ، فذهبوا
، وجاءوا بشيخ كبير ، قالوا : إنه أفصحهم ، ولما حضر بين يدي الرسول أراد الجلوس ،
فقام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخذ في القيام ، فجلس الرسول ، فأخذ الشيخ في الجلوس
، فقام الرسول ، فاستشاط الشيخ غضبا من هذا العمل ، وقال : يا محمد أتستهزئ بي ،
وأنا شيخ كبار ، هذا أمر عجاب؟ وهناك نظر بعض القوم إلى بعض ، وقد أبطل الشيخ
دعواهم في جملة واحدة وانصرفوا خائبين ، ونقل إن المشركين ، اجتمعوا حول الرسول ،
ليفاوضوه في ترك الدعوة؟ فقال لهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : أتعطون كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟ فقال أبو
جهل : لله أبوك نعطيك ذلك وعشرة أمثالها؟ فقال : قولوا لا إله إلا الله ، فقاموا
وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا؟ فنزلت هذه الآيات .
[٧](وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) المراد بالانطلاق ، انطلاق الألسنة بالكلام ، فقد قال
الأشراف ـ وهم الملأ ـ بعضهم لبعض ، ولأتباعهم (أَنِ امْشُوا)
__________________
وَاصْبِرُوا
عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦)
ما
سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا
____________________________________
أي سيروا في طريقكم التقليدي الذي يقول : بتعدد الآلهة ، ولا تعيروا كلام
محمد بالا (وَاصْبِرُوا عَلى
آلِهَتِكُمْ) المتعددة ، وتحملوا المشاقّ في سبيلها ، لئلا يغلبكم
محمد (إِنَّ هذا) البقاء على ديننا ، والصبر على المشاق ، في سبيل الآلهة
(لَشَيْءٌ يُرادُ) منّا ، فنحن مطلوبون عند العرف الاجتماعي بالحماية عن
الشرك.
[٨](ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يقوله الرسول من وحدة الإله ، وعدم الشرك (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ملة أهل الكتاب ، التي هي خير الملل ، بعد الوثنية ،
وما أشبههما ، وكأنهم أرادوا بذلك التموية على العوام ، بأن أهل الكتاب أيضا ، لا
يقولون بوحدة الإله ، فكيف يدعي محمد ، إنه مثل موسى وعيسى ، يدعي ما لا يقولا به (إِنْ هذا) الذي يقوله الرسول من التوحيد (إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي الكذب ، فقد خلقه وصنعه محمد ، ولا نصيب له من
الواقع وقد رأى الكفار أهل الكتاب ، الذين انحرفوا عن منهاج التوحيد ، فجعلوهم حجة
في مقابل الرسول ، وإلا فالأنبياء جميعا لم يقولوا إلا بالتوحيد ، وهكذا أكد
التوراة والإنجيل على ذلك.
[٩] ثم جعلوا
يستغربون ، عن أن الرسول يكون موحى إليه من بينهم؟ ظانين إنهم مثل الرسول في المؤهلات
، إن لم يكونوا أفضل منه ، فاللازم أن يوحى إليهم دونه ، أو إليهم وإليه على حد
سواء (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على الرسول (الذِّكْرُ) أي القرآن (مِنْ بَيْنِنا)؟ كيف ذلك يكون ، وفينا
بَلْ
هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ
(٨)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
____________________________________
من هو أكبر منه سنا ، ومالا ، وجاها ، وأولادا؟ لكنهم غفلوا ، من أن مؤهلات
الرسالة ، غير مؤهلات العرف والعادة ، والرسول منفرد فيها ، فليس قولهم هذا لنقص
رأوه في الرسالة والرسول (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْ ذِكْرِي) الذي أنزلته على الرسول ، ولم يكن الشك بحق ، فإنهم ،
لو تفكروا علموا بصدق الرسول ، وإنما شك المقلد الجاهل ، الذي يرى الحق في طرف ،
والتقليد في طرف آخر (بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ) أي عذابي ، حذف «ياء المتكلم» تخفيفا ، وهذا تهديد لهم
، بمعنى أنهم ، إنما يقولون ما يقولون لا لعدم صحة الرسالة والدعوة ، بل لأنهم
منحرفون محتاجون إلى التأديب ، وسيذوقون العذاب.
[١٠] أمّا ما
يقولون من أن اللازم نزول الذكر عليهم ، دون الرسول ، وقولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى
رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فالجواب : إن ذلك فضل الله يعطيه من يشاء (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ) حتى يفتحون خزائن الرسالة ، فيهبونها لمن شاءوا ، دون
من يريده الله سبحانه؟ (الْعَزِيزِ) في سلطانه ، يفعل ما يشاء (الْوَهَّابِ) العطايا لمن يشاء ، ومن المعلوم ، إن الله سبحانه لا
يهب ، إلا حسب المصلحة والحكمة ، فإنما ينزل الرسالة لمن يؤهلها ، كما قال سبحانه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ) وقال (وَلَقَدِ
اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) .
__________________
أَمْ
لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)
____________________________________
[١١](أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) حتى إذا شاءوا ، أن لا يكون محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، رسولا ، سدّوا أبواب الوحي على وجهه ، لأنهم يملكون
طرق الوصول من السماء إلى الأرض؟ وإذا قالوا : إنهم يملكون ذلك (فَلْيَرْتَقُوا) أي يصعدوا (فِي الْأَسْبابِ) الموصلة لهم إلى السماوات ، ليمنعوا مسالك الرسالة ،
لئلا يوحى بالقرآن إلى الرسول.
[١٢] إنهم
ليسوا بمالكي خزائن الله ، ولا لهم ملك السماوات والأرض ، وإنما جماعة منبوذة
تجمعت من لفيف جنود للباطل ، في ابتعاد عن التصرف في الشؤون الكونية ، إنهم (جُنْدٌ ما) نكرة غير مربوطين بشأن من الشؤون (هُنالِكَ) منبوذة في زاوية من زوايا العالم ، لا يرتبط بأمر من
أمور الكون (مَهْزُومٌ) هزمهم المنطق والحق (مِنَ الْأَحْزابِ)
ملتفة من أحزاب
مختلفة ، ومذاهب متشتتة ، فلم يجمعهم الحق ، وإنما الحسد والعناء والكبر ، وإلا
فما يجمع بين اليهودي والمسيحي ، والمشرك تحت قيادة أبي سفيان لمحاربة الرسالة
الإلهية العظمى؟ و «جند» مبتدأ ، و «هنا لك» خبرة ، و «مهزوم» صفة جند.
[١٣] إن مصير
هؤلاء ، هو مصير من قبلهم من الكفار ، حيث كذبوا الأنبياء ، فأهلكهم الله سبحانه ،
بما كذبوا ، وإن بقي هؤلاء في كفرهم وغيهم ، سيلاقون ذلك المصير المهلك (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار (قَوْمُ نُوحٍ) نوحا عليهالسلام (وَعادٌ) كذبت هودا عليهالسلام (وَفِرْعَوْنُ) كذب موسى وهارون عليهالسلام (ذُو الْأَوْتادِ) صفة فرعون ، وقد سئل
وَثَمُودُ
وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
وَما
يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)
____________________________________
الصادق عليهالسلام ، لأي شيء سمي فرعون ذا الأوتاد؟ فقال : لأنه كان إذا
عذب رجلا ، بسطه على الأرض على وجهه ، ومدّ يديه ورجليه ، فأوتدوها بأربعة أوتاد في
الأرض وربما بسطه على خشب منبسط ، فوتد رجليه ويديه بأربعة أوتاد ، ثم تركه على
حاله حتى يموت .
[١٤](وَ) كذبت (ثَمُودُ) صالحا عليهالسلام (وَقَوْمُ لُوطٍ) لوطا عليهالسلام (وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب ، وقد كانت إلى جنبهم غيضة ذات أشجار ،
وهي الأيكة ، كذبوا شعيبا عليهالسلام (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) الذين كذبوا الرسل ، وكان قومك حزب من تلك ، فما كان
مصيرهم؟
[١٥](إِنْ كُلٌ) أي ما كل من أولئك الأقوام (إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) الذين أرسلوا إليهم (فَحَقَ) أي ثبت ولزم عليهم (عِقابِ) أي عقابي ، وحذف الياء تخفيفا ، والمراد بالعقاب أخذهم
بأنواع عذاب الاستئصال في الدنيا قبل الآخرة.
[١٦](وَ) إذ قد عرف قومك مصير أولئك المكذبين ، فما بقاؤهم في
الكذب والكفر ، إلا انتظارا لتلك العاقبة السيئة (ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) أي كفار مكة (إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) يصيح بهم جبرئيل ، أو ملك آخر ، حتى يهلكهم جميعا ، كما
حدث في بعض الأمم السابقة ، أو المراد النفخة الأولى (ما لَها) أي ليس لتلك الصيحة (مِنْ فَواقٍ) أي إفاقة ، بأن
__________________
وَقالُوا
رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ
(١٦)
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ
أَوَّابٌ (١٧)
____________________________________
تنقطع قبل هلاك القوم ، فيرجعوا عن غيهم ، وضلالهم ، يقال : أفاق من مرضه
إذا طاب ، وفواق الناقة ، هي المدة بين الحبستين ، لأن فيها يعود اللبن إلى الضرع.
[١٧] وإذ كان
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يهدد الكفار بالعذاب ، كانوا يقولون : ـ مستهزئين له صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ عجل لنا بالعذاب! (وَقالُوا) أي الكفار (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا
قِطَّنا) أي قدم لنا نصيبا من العذاب (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) و «القط» هو النصيب ، من «قطّ» بمعنى قطع ، لأن النصيب ، يقطع ويعين في
مقدار خاص.
[١٨] قال الله
سبحانه في جوابهم تسلية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، (اصْبِرْ) يا رسول الله (عَلى ما يَقُولُونَ) أي ما يقوله هؤلاء الكفار في تكذيبك ، والاستهزاء بك (وَاذْكُرْ) جماعة من الأنبياء عليهمالسلام الذين آذوهم قومهم ، فصبروا ، أو كانت لهم القوة
الدنيوية ، بالإضافة إلى الإيمان الذي هو قوة معنوية تقوية لقلوب المؤمنين ، ولئلا
يقول المرجفون : إن الإيمان ، لا يلائم الحياة الدنيا ، فاذكر يا رسول الله (عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي صاحب القوة ، فإن «أيد» جمع يد ، ثم استعملت في
النعمة والقوة ، لأن اليد من أسبابهما (إِنَّهُ) عليهالسلام ، مع كونه ، ذا قوة عظيمة دنيوية (أَوَّابٌ) أي تواب يستغفر ربه في دائم الأحوال ، من آب يئوب إذا
رجع ، وكأن الانشغال بأمور الدنيا ، كان انصرافا عن الله سبحانه ـ ولو انصرافا
مباحا ـ فكان يرجع إليه تعالى ، بصرفه نفسه كلها إليه كل صباح ومساء.
إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
____________________________________
[١٩](إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) أي جعلناها مسخرة مع داود في كونها (يُسَبِّحْنَ) بتسبيح داود (بِالْعَشِيِ) أي العصر (وَالْإِشْراقِ) أي عند شروق الشمس ، فإن داود كان إذا سبّح الله تعالى
في هذين الوقتين ، كانت الجبال تردد معه التسبيح ، وقوله «يسبّحن» بلفظ العاقل ،
لأن صدور محل العقلاء من الجبال يدخلها في جملتهم.
[٢٠](وَ) سخرنا لداود عليهالسلام (الطَّيْرَ) المراد به الجنس أي كل الطيور ، في حال كونها (مَحْشُورَةً) أي مجموعة له (كُلٌ) من الجبال والطير (لَهُ) أي لداود (أَوَّابٌ) أي رجّاع فكانت الطيور تردّد معه التسبيح ، كما تردد
الجبال ، وقيل إنها كانت تطيعه ، فيما يأمر به.
[٢١](وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملك داود بالحرس والمال ، وكثرة العدة والعدة (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) المراد بها ، إما النبوة ، أو أن يكون بحيث يعرف مواضع
الأشياء ، فإن الحكمة هي عبارة عن علم وضع الشيء في موضعه اللائق به (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل ، والمراد به علم
القضاء ، فإنه كان يعرف كيفية الحكم بين الناس ومعرفة تمييز المحق من المبطل ، وقد
كان من ذلك قاعدة «البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر».
[٢٢] ثم ينتقل
السياق لينقل قصة امتحن الله بها داود عليهالسلام ، فقد جاء خصمان إلى داود في شكوى ، ولما سمع داود من
المدعي كلامه حكم له ، بدون أن يستمع من المنكر ، وكان هذا الاستعجال تركا للأولى
،
وَهَلْ
أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
____________________________________
بالنسبة إليه ، ثم توجه وأناب إلى الله سبحانه ، وقد كان أمثال هذه
المخالفات ـ المسماة بترك الأولى ـ تصدر من الأنبياء أحيانا لإثارة النشاط في
نفوسهم ، لتقوى اتصالاتهم بالله سبحانه ، وهي لم تكن معصية ، كما لا يخفى ، كما أن
نقلها في القرآن لعلها ، بسبب أن لا يعتقد الناس فيهم الألوهية ، فإن من عادة
الناس ، أن يرفعوا الإنسان النزيه فوق مرتبته ، كما رفعوا المسيح وعلى بن أبي طالب
عليهماالسلام إلى مقام الألوهية ، أما إذا علموا بصدور ترك الأولى
منهم ، كان ذلك حاجزا دون الغلو ، ومن غريب الأمر إن جماعة اختلقوا حول هذه القصة
أكاذيب استنادا إلى «العهدين» المحرّف ، فذكروا قصة «أوريا» كما نسبوا إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أسطورة قصة «زينب» ، وقد روى في المجالس عن الصادق عليهالسلام ، أنه قال : رضى الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ،
ألم ينسبوا إلى داود ، إنه تبع الطير ، حتى نظر إلى امرأة «أوريّا» فهواها ، وإنه
قدم زوجها أمام التابوت ، حتى قتل ، ثم تزوج بها ، وقد روي عن الإمام المرتضى عليهالسلام ، إنه قال : لا أوتي برجل يزعم ، إن داود تزوج امرأة
أوريا ، إلا جلدته حدين حدا للنبوة ، وحدا للإسلام
(وَهَلْ أَتاكَ) يا رسول الله ، وهذا للتشويق نحو القصة ، التي ستذكر (نَبَأُ الْخَصْمِ) أي خبر الخصمين ، والمراد «بالخصم» الجنس ، ولذا يشمل
النفرين ، أي هل بلغك خبر الخصمين (إِذْ تَسَوَّرُوا) أي صعدوا على السور لينزلوا (الْمِحْرابَ) محل عبادة داود عليهالسلام؟ فقد كان في المحراب ، إذ رأى نفرين نزلا من سور
__________________
إِذْ
دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا
عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ
الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
____________________________________
المحراب ، أي جداره ، فهاله أمرهم ، إذ لم يدخلوا من الباب ، وإنما جيء
بلفظ الجمع ، فقال «تسوروا» لأن الخصم جنس ، والجنس عام ، ويتحمل أن يكونوا أكثر
من اثنين ، بأن أتياه مع بعض متعلقيهم ، كما هو العادة في المنازعات.
[٢٣](إِذْ دَخَلُوا) الخصوم (عَلى داوُدَ) من السور (فَفَزِعَ) وخاف (مِنْهُمْ) لأنهم دخلوا من غير الباب ، وبدون الإذن ، وفي غير
الأوان (قالُوا) لداود (لا تَخَفْ) فلسنا نريد إيذاءك ، فإن الإنسان قد اعتاد أن يخاف من
المفاجئ ، لأنه يظن كون المجيء للإيذاء ، وإلا كان يأتي على نحو المعتاد ، لا فجأة
... إنما نحن (خَصْمانِ) أي نفران ، أو طرفان (بَغى) وظلم (بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) فجئنا إليك لتحكم بيننا (فَاحْكُمْ) يا داود (بَيْنَنا بِالْحَقِ) والعدل (وَلا تُشْطِطْ) من الشطط ، بمعنى الميل عن الحق والكذب ، والالتواء ،
وهذا القول لم يكن لأجل احتمالهم ، إن داود يكذب ويجور ، بل هكذا يقول الإنسان
المخاصم ، ليري طرفه والسامعين ، إنه واضح للحق مائل إليه ، لا يريد جورا وظلما
وتعديا (وَاهْدِنا) أي أرشدنا في قضيتنا (إِلى سَواءِ
الصِّراطِ) أي وسط الطريق ، الذي لا جور فيه ، ولا انحراف.
[٢٤] ثم قال
أحدهما لداود عليهالسلام (إِنَّ هذا) الخصم (أَخِي) في النسب ، أو من باب الشفقة واللين في الخطاب (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أنثى
وَلِيَ
نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَقَلِيلٌ ما هُمْ
____________________________________
الشاة (وَلِيَ نَعْجَةٌ
واحِدَةٌ) فقط (فَقالَ) أخي لي ، يريد سلب شاتي ، لتكمل له مائة شاه (أَكْفِلْنِيها) أي ضم شاتك إلى نعاجي ، واجعلني كفيلها حتى تكون لي (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني في الكلام ومخاطبته معي ، بأن خاشنني في
الكلام بقصد أن يقهرني ويأخذ شاتي.
[٢٥] وبمجرد أن
سمع داود كلام المدعي ، بدون أن يطلب من خصمه الردّ (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ) أخوك ، وجار عليك في طلبه بنعجتك (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) ليضمها (إِلى نِعاجِهِ) ثم بين داود ، أن الظلم من عادة بعض الشركاء على بعض (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) جمع خليط ، وهو الشريك ، لأنه يخالط الإنسان ، لأجل
اشتراك أموالهما (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) حيث إن الأقوى منهم يريد أكل الأضعف ، ثم استثنى من هذا
العموم المؤمنين بقوله (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأن كانوا مستقيمين عقيدة وعملا ، فإنهم لا يظلمون أحدا
، ولم يكن حاجة إلى هذا الاستثناء ، لأنه نص أولا بقوله «كثيرا» وإنما جيء
بالاستثناء ، لئلا يوهم ، إن الكثير من المؤمنين ، للتنصيص على إن أحدا من المؤمنين
ليس بداخل في ذلك الكثير (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) «ما» لزيادة التقليل ، فإن المؤمن المستقيم في جميع شؤونه ، قليل جدا ، وإذ
حكم داود بهذا الحكم قبل أن يستفسر من المدعى عليه الحال ، تنبّه إلى
وَظَنَّ
داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا
لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ
(٢٥) يا
داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ
____________________________________
استعجاله الذي كان خلاف الأولى (وَظَنَ) حينذاك (داوُدُ أَنَّما
فَتَنَّاهُ) أي امتحناه بهذه الحكومة ، ويظهر من لفظ «ظن» إنه لم
يتيقن ، وإنما ترجح في نظره ذلك (فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ) أي طلب منه غفرانه ، فإن ترك الأولى موجب للتنقيص من
الثواب ، فاستزادته بحاجة إلى الستر والغفران ، وفرض أنه لم يكن (وَخَرَّ) أي سقط داود لوجهه (راكِعاً) معظما له سبحانه ، فإن الركوع يطلق على مطلق التعظيم ،
ولو بنحو السجود ، كما يدل عليه «خر» وهو الأنسب بمثل هذا المقام (وَأَنابَ) أي رجع إلى ربه ، بعد الانشغال بتلك القضية ، وقد ورد
في بعض الأحاديث إن الخصمين كانا ملكين.
[٢٦](فَغَفَرْنا لَهُ) أي لداود (ذلِكَ) الترك للأولى (وَإِنَّ لَهُ) أي لداود (عِنْدَنا) أي في المحل المعد المكرم بكرامتنا ـ تشبيها للمعقول
بالمحسوس ـ (لَزُلْفى) أي قربى وكرامة ، من زلف بمعنى اقترب (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي المرجع الحسن في الآخرة.
[٢٧] ثم خاطبه
الله سبحانه بقوله (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) الخليفة هو الذي يجلس مكان غيره خلفا له ، والأنبياء
خلفاء الله سبحانه ، حيث إنه قررهم للقيام بأمره ، وإنفاذ حكمه في الأرض ، وكأن
الإتيان ، بقوله «في الأرض» لإفادة العموم ، فليس خليفة له في بلدة أو قطر (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) المطابق للواقع
وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
وَما
خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما
____________________________________
(وَلا تَتَّبِعِ
الْهَوى) الذي يأمر بالانحراف ، حسب العواطف والميول (فَيُضِلَّكَ) اتباع الهوى (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وطريقه ، وهذا ليس معناه ، إن داود كان محتمل الانحراف
، وإنما الأوامر الصارمة ، توجّه إلى الأنبياء ، كما توجّه إلى غيرهم ، كما قال
سبحانه (وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) (إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ينحرفون عن طريق الله ، بالحكم أو الفتوى أو الدعوة
إلى الباطل (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي بسبب نسيانهم ، والمراد بالنسيان تركهم أحكام الله ،
وحيث إن النسيان غالبا سبب لترك الأوامر ، كان الإتيان بالنسيان ، وإرادة الترك
مجازا من علاقة السبب والمسبب ، ويوم الحساب ، إما متعلق ، ب «بما نسوا» أي بسبب
نسيانهم ليوم الحساب ، أو متعلق ل «عذاب شديد» أي لهم عذاب شديد ، يوم الحساب بسبب
نسيانهم أوامر الله.
[٢٨] وإذ وصلت
القصة إلى هذا الموضع ، ألفت السياق الأذهان إلى حقيقة كبري ، هي إن العالم لم
يخلق باطلا ، حتى يلائمه الحكم في القضايا بالباطل ، بل العالم خلق بالحق وللحق ،
فاللازم أن تكون الأمور العملية من حكم وفتوى ، وغيرهما على الحق ، وإلا كانت
العاقبة الانهيار والدمار (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من البشر
__________________
باطِلاً
ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
____________________________________
والملك والهواء ، وغيرها (باطِلاً) عبثا واعتباطا ، بلا غاية ، أو غرض ، حتى يكون الباطل
من القول والعمل والحكم ، ملائما للخلق ، ولا يكون له مصير مؤلم (ذلِكَ) أي كون الخلق باطلا (ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بالله وجحدوا حكمه ، وإنما قال «ظن» لأنهم يرجحون ذلك ،
ولا يستيقنونه (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) التي تحرقهم لكفرهم ، وظنهم ، أن الخلق عبث باطل.
[٢٩] ثم توجه
السياق إلى تنبيه الكفار ، بأنهم ليسوا سواء والمؤمنين ، لا في الدنيا ، ولا في
الآخرة ، بل المؤمنون فوقهم مقاما ومنزلة (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا) أي هل من الممكن أن نجعل المؤمنين (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اللازم منه عدم العمل بالمعاصي (كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) فإن كل كافر وعاصي مفسد ، أي عامل بالفساد مفسد لنفسه ،
أو غيره؟ كلا! لا نجعل المؤمن كالمفسد (أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا معاصي الله بعد الإيمان (كَالْفُجَّارِ) الذين عصوا وفجروا؟ من الفجر ، وهو الشق ، كأن الفاجر
يشق ستر الهدى ، وينفذ نحو الباطل ، ولعل المراد بالسؤال الثاني ، بيان عدم استواء
المطيع والعاصي من المؤمنين ، بعد بيان عدم استواء المؤمن والكافر.
[٣٠] ومن ثم
ياتي الكلام حول القرآن الحكيم ، ليلفت بعد بيان القصص والآداب ، إلى أنه كتاب
عظيم ، حيث اشتمل على مثل هذه الحقائق الرائعة ، وقد ذكر في علم القرآن إلقاء
المطلب في الذهن ، بعد الإتيان
كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا
الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ
عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ
____________________________________
بأمر معجب أنفذ من الإلقاء في الذهن الخالي غير المتحرك ، ألا ترى إن
الإنسان إذا رق قلبه لأمر كان أسرع إلى العمل من أجله؟ وهذا (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يا رسول الله (مُبارَكٌ) ذو بركة وزيادة ونماء كثير نفعه وخيره ، لأنه يهدي
ويرسم الخطط الموجبة ، للزيادة والخير (لِيَدَّبَّرُوا
آياتِهِ) أي يتفكروا فيها ويتعظوا بها (وَلِيَتَذَكَّرَ) مما أودع فيهم من الحقائق بالفطرة (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن اللبّ بمعنى العقل ، أما غيرهم
فإنهم لا يتذكرون ولا يتدبرون.
[٣١] وإذ تمت
قصة داود ، يأتي السياق لبيان قصة سليمان (وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ) ، ومعنى الهبة العطية المجانية ، والأولاد هبات للآباء
، ولذا قال سبحانه (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) إنه (نِعْمَ الْعَبْدُ) إذ كان كأبيه يعمل بأوامرنا (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي كثير الرجوع إلى الله سبحانه في جميع أموره ، وقد
سبق أن الإنسان إذا صرف إلى ضروريات حياته ، فكأنّه ابتعد عن الله سبحانه ، إذ لم
يكن بجميع سرائره مشغولا نحوه تعالى ، ولذا كان الالتفات إليه بعد ذلك أوبا
ورجوعا.
[٣٢] اذكر يا
رسول الله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) أي على سليمان (بِالْعَشِيِ) أي في آخر النهار (الصَّافِناتُ) جمع صافنة ، وهي الخيل الواقفة على
__________________
الْجِيادُ
(٣١) (فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢)
رُدُّوها
عَلَيَّ
____________________________________
ثلاث قوائم الواضعة السنبك الرابع على الأرض. يقال صفنت الخيل إذا وقفت
كذلك ، وهي من علامة الجودة (الْجِيادُ) جمع جيد وهي الفرس الأصيلة النجيبة ، ونجابة الفرس
بعرفانها صاحبها ، وسرعة سيرها ، والاهتمام بخلاص راكبها من المشكلة التي يقع
فيها.
[٣٣] فاشتغل
سليمان بتلك الأفراس ، حتى فاتت صلاة مندوبة ، كان يصليها في ذلك الوقت ، حتى غابت
الشمس ، ومضى وقت صلاته المندوبة ، وهناك تأثر سليمان من ذلك ، وأمر أصحابه بردّ
الأفراس إليه ، ليوقفها في سبيل الله ، كفارة لفوت صلاته المندوبة ، أو يذبحها
ليطعمها الناس كفارة ، وهذا المعنى ، قد استفدناه من بعض الأخبار ، مع التحفظ على
ظاهر الآية ، وما ثبت من عصمة الأنبياء عليهمالسلام ، وإن كان الواقع في القصة لا يعلمه إلا الله ،
والراسخون في العلم ، ولما نظر سليمان إلى غروب الشمس ، وذهاب وقت نافلته (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ) أي أحببت الخير حبا ، والخير هو الفرس ، وكل مال هو خير
، كما قال سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي آثرت الاشتغال بعرض الأفراس عن ذكر الله (حَتَّى تَوارَتْ) الشمس (بِالْحِجابِ) كأنها عروس تستر نفسها بالحجاب حين تغيب وتستتر تحت
الأفق ، فلم أصلّ نافلتي.
[٣٤] ثم قال
سليمان لأصحابه (رُدُّوها) أي ردوا الصافنات (عَلَيَ)
__________________
فَطَفِقَ
مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
____________________________________
فردوها إليه (فَطَفِقَ) أي شرع سليمان يمسح (مَسْحاً بِالسُّوقِ) أي سوق الأفراس جمع ساق (وَالْأَعْناقِ) أي ويمسح أعناقها ، و «اللام» عوض عن الضمير والمعنى
يمسح سوقها وأعناقها تسبيلا في سبيل الله ، ووقفا لها على جهات الخير ، أو ضربا
بالسيف ليطعمها الفقراء ، كل ذلك ، لتكون كفارة عن فوت نافلته ، بسبب اشتغاله بها.
[٣٥](وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي امتحناه ، وذلك بأنه ولد له مولود ، فخاف عليه من
إيذاء الشياطين ، وجعله في السحاب ، ليكبر هناك ـ وقد كان السحاب مسخرا له ـ ولكن
ذلك ، كان خلاف التوكل من مثله عليهالسلام ، ولذا مات الولد ، وألقي على كرسي حكمه ، فلما رآه عرف
أنه ترك الأولى في إيداع الولد السحاب (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ) أي سرير حكمه (جَسَداً) لولده الميت (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع عن تركه للأولى.
[٣٦](قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) اعتمادي على السحاب في إبقاء ولدي ، وعدم أذى الشياطين
له (وَهَبْ لِي مُلْكاً
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لعله أراد نوعا من الملك ، يكون ذو إعجاز لا يتمكن أحد
من الإتيان مثله ، كما إن عصا موسى ، وإحياء عيسى ، وقرآن الرسول ، كانت بحيث لا
ينبغي لأحد من بعدهم ، فلم يرد سليمان البخل ، وتخصيص رحمة الله بنفسه بل أراد
الإعجاز ، والذي يؤيد ذلك ، إن الملك الذي وهب له كان معجزة ، إذ هو تسخير الريح ،
وعبارة «لا ينبغي لأحد» يراد به الناس ، لا حتى الأنبياء عليهمالسلام ، فإن مثل هذا التعبير شائع ، قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ
____________________________________
«ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة ، أصدق من أبي ذر» ولم يرد صلىاللهعليهوآلهوسلم ترجيحه على الأئمة ، كما أن قوله سبحانه في القرآن
الحكيم (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أريد به ممن آمن وعصى ، لا من كل أحد ، وهكذا ، ومثله
تعبير عرفي شائع (إِنَّكَ) يا رب (أَنْتَ الْوَهَّابُ) الكثير الهبة ، فتفضل عليّ بذلك.
[٣٧](فَسَخَّرْنا) أي ذللنا بأمره (لَهُ) أي لسليمان (الرِّيحَ) التي كانت تحمل بساطه وتسير به إلى حيث شاء (تَجْرِي) الريح (بِأَمْرِهِ) أي أمر سليمان (رُخاءً) أي لينة بدون عنف (حَيْثُ أَصابَ) أي إلى كل مكان أراد الذهاب إليه ، والإصابة هي الوصول
إلى الشيء ، وكأن المعنى حيث أصاب نظره وإرادته.
[٣٨](وَ) سخرنا له (الشَّياطِينَ) أي الأجنة ، وقد سبق أن الشيطان قسم من الجن ، وإن كان
له نوعان ، نوع يسمى جنا ، ونوع يسمى شيطانا (كُلَّ بَنَّاءٍ) يبني له القصر والدار ، وما أشبه ، في المدن والصحاري (وَغَوَّاصٍ) في البحر يذهب في الماء ليأتي له بالجواهر واللئالي ، و
«كل» بدل من الشياطين ، بدل بعض من الكل.
[٣٩](وَ) سخرنا له شياطين (آخَرِينَ) غير البناء والغواص في حال
__________________
مُقَرَّنِينَ
فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ
لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)
____________________________________
كونهم (مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفادِ) جمع صفد ، وهو الغلّ ، فقد كان يجمع بين بعض الشياطين
مع بعض في السلسلة تعذيبا لهم على تمردهم ، أو لئلا يفر المتمرد منهم أو كان يغل
المتمرد يديه ورجليه ، وهذا كناية عن إعطاء زمامهم بيده ، حتى أنه يتمكن من
استخدامهم وعقاب المجرمين منهم.
[٤٠] وبعد هذا
الملك الوسيع الخارق ، قال الله سبحانه لسليمان ـ زيادة لا كرامة ـ (هذا) الملك (عَطاؤُنا) لك (فَامْنُنْ) على من شئت بإعطائه ما تشاء (أَوْ أَمْسِكْ) عمن شئت ، بأن لا تعطيه شيئا في حال كونك (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي أنك لا تحاسب عما تفعل ، أو أعط بغير حساب وتعداد من
شئت ، فهو متعلق ب «امنن».
[٤١](وَإِنَّ لَهُ) أي لسليمان (عِنْدَنا) لدينا (لَزُلْفى) قربا منّا فإنه ذو جاه ومنزلة عند الله سبحانه (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجعا حسنا في الآخرة.
[٤٢](وَاذْكُرْ) يا رسول الله (عَبْدَنا أَيُّوبَ) كيف صبر على البلاء ، فإنه عليهالسلام ذهب ماله وأهله وأولاده ، وتمرض في جسده ، بأشد أنواع
المرض ، ولم يزل يذكر الله ويشكره ، حتى إذا بلغ الأمر منتهاه ، وأراد الله سبحانه
له الشفاء ، بعد أن أحسن الصبر ونجح في الامتحان (إِذْ نادى رَبَّهُ) تعالى قائلا يا رب (أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ)
ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)
وَوَهَبْنا
لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي
الْأَلْبابِ (٤٣)
____________________________________
فإن الشيطان هو الذي صار سببا لبلاء أيوب ، وقد مكّنه الله سبحانه منه ،
بأن لم يصده عن إيذائه ، كما لم يصده عن الوسوسة لآدم عليهالسلام ، امتحانا لأيوب ، وليرتفع بذلك مقامه ، و «النصب» هو
البلاء ، و «العذاب» هو الألم ، ولعله أراد باللفظين الألم الجسمي والروحي ، أو
ألمه في أهله وماله وأولاده ، وألمه في نفسه.
[٤٣] وبعد أن
دعا أيوب ربه ، لينجيه من البلاء خوطب من قبله سبحانه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي ادفع برجلك الأرض ، فإن الركض ، هو الدفع بالرجل على
جهة الإسراع ، ومنه يسمى المشي السريع ركضا ، فركض عليهالسلام برجله الأرض ، فظهرت عين ماء ، فقيل له (هذا) الذي تراه (مُغْتَسَلٌ) أي موضع يغتسل فيه ، وقد أريد بذلك ، تنبيهه على
الاغتسال في ذلك الماء (بارِدٌ) الإتيان بهذا الوصف للترويح عن النفس المريضة الملتهبة
التي تطلب الماء البارد (وَشَرابٌ) يشرب منه ، وقد اغتسل أيوب في ذلك الماء ، وشرب منه ،
فصح جسمه كأن لم يكن به مرض أبدا.
[٤٤](وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) الذين ماتوا في البلاء ، بأن أحياهم الله سبحانه (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) إما بأن ولد له أولاد آخرين على عدد أولئك الأولاد ، حتى
صار له من الأولاد ضعف أولاده قبل البلاء ، وإما بأن المراد إعطاء أهله الذين
ماتوا قبل البلاء ، والذين ماتوا في البلاء ، وذلك لأنه استحق الذين ماتوا في
البلاء ، لا الذين ماتوا قبله بآجالهم الطبيعية ، وإنما فعلنا ذلك (رَحْمَةً مِنَّا) له وتفضلا عليه ، فليس أحد يستحق على الله شيئا (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ، وليتذكر أصحاب
وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
____________________________________
العقول ، بأن الله سبحانه ، إذا أخذ من أحد شيئا ، فلا يفعل ذلك اعتباطا
وعبثا ، وإنما ليعطيه ذلك الشيء مع الزيادة ـ إذا كان أخذه ، لم يصدر عن عقاب
وتأديب ـ وهذا هو شأنه سبحانه في جميع ما يأخذ ، كما قال في باب الإنفاق (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً) .
[٤٥](وَخُذْ) يا أيوب (بِيَدِكَ ضِغْثاً) وهو ملء الكف من الشماريخ للتمر (فَاضْرِبْ بِهِ) أي بذلك الضغث امرأتك (وَلا تَحْنَثْ) حلفك ، فقد رأى أيوب من زوجته قولا ، أو عملا ساءه ذلك
، فحلف أن يضربها عددا من السوط ، أو نحو ذلك ـ مما سكتت عنه الآية ، ولما أن عوفي
خفف الله سبحانه ذلك ، بأن يضربها بالشماريخ ضربة واحدة ، لا تؤذي كثيرا ، بأن
يجعل لكل مرة شمراخا ، وقد كان حلف أيوب على ضربها مشروعا ، إذ لعلها كانت عاصية
في قولها أو عملها الذي ساء أيوب وللزوج حق تأديب الزوجة ، ولذا وجب الوفاء بها ،
كما أن عدم الحنث بذلك تخفيف من الله سبحانه ، مع أنه عليهالسلام ، أتى بما يشبه المحلوف ، فلا يقال : كيف قال تعالى «لا
تحنث» والحال أن المحلوف غير هذا؟ (إِنَّا وَجَدْناهُ) أي وجدنا أيوب (صابِراً) على البلاء الذي ابتلي به (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي كثير الرجوع إلى الله سبحانه من آب بمعنى رجع ، وقد
ذكرنا معنى رجوع الأنبياء عليهمالسلام ، وأنه من اشتغالهم بالأمور الدنيوية.
__________________
وَاذْكُرْ
عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)
إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)
وَإِنَّهُمْ
عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ
إِسْماعِيلَ
____________________________________
[٤٦](وَاذْكُرْ) يا رسول الله (عِبادَنا إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ) ابن إبراهيم (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق (أُولِي الْأَيْدِي) أي أصحاب القوة والتمكن ، فقد كان هؤلاء الأنبياء عليهمالسلام أصحاب ثروة ونعمة وجاه (وَالْأَبْصارِ) يبصرون أمور دينهم ، فقد جمعوا بين الدنيا والآخرة ،
وإنما أمر الرسول بذكرهم ليقتدى بهم الناس في دينهم ودنياهم ، فلا يتركوا أحدهما
للآخر ، كما قال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) .
[٤٧](إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي جعلناهم لنا خالصين ، فلا يعملون شيئا إلا لأجلنا (بِخالِصَةٍ) أي بخلصة ، وصفة خالصة لا شوب فيها : هي (ذِكْرَى الدَّارِ) الآخرة ، فقد كانوا دائمي التذكر لها ، ومن المعلوم ،
أن الإنسان إذا كان دائم التذكر للآخرة ، لا تزل له قدم ، وقوله «ذكرى» بدل من «بخالصة».
[٤٨](وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) جمع مصطفى أي اصطفيناهم ، واخترناهم للنبوة ، ومعنى
عندنا ، في حسابنا ، وما كتبناه ، لهم ليجزون عليه (الْأَخْيارِ) جمع خير ، كأموات جمع ميت ، وهو الذي يفعل الأشياء
الكثيرة الحسنة.
[٤٩](وَاذْكُرْ) يا رسول الله (إِسْماعِيلَ) بن إبراهيم عليهالسلام ، وكأنه لذكره
__________________
وَالْيَسَعَ
وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ
(٤٩)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها
يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١)
____________________________________
هنا ، لم يذكر هناك مع أبيه وأخيه (وَالْيَسَعَ) قال بعضهم كان من أنبياء بني إسرائيل (وَذَا الْكِفْلِ) هو يوشع بن نون ، وصي موسى عليهالسلام ، على بعض الأقوال (وَكُلٌ) من هؤلاء (مِنَ الْأَخْيارِ) الخيّرين.
[٥٠](هذا) الذي سميناهم هنا في القرآن (ذِكْرٌ) لهم ، وشرف في الدنيا ، باق بقاء الأبد (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الذين أولئك الأنبياء من ساداتهم (لَحُسْنَ مَآبٍ) أي مآب حسن ، والمآب هو المرجع ، من آب بمعنى رجع.
[٥١] ثم بين
سبحانه المراد بذلك بقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ) يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه ، والجنة هي البستان ،
سمى بها لأن الأشجار تجن وتستر أرضها ، أي جنات إقامة لا زوال لأحد عنها ، في حال
كونها (مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ) والإتيان من باب التفعيل ، للدلالة على كثرة الأبواب
المفتحة لهم ، لأن من معاني باب التفعيل التكثير ، وفي ذلك إشارة إلى عظم رتبتهم ،
حيث إن كل الأبواب تفتح في وجوههم ، حتى يكون لهم أن يدخلوها من حيث شاءوا.
[٥٢] في حال
كونهم (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي مستندين أهل الجنة إلى المساند ، وذلك للدلالة على كمال
راحتهم الجسدية والروحية (يَدْعُونَ فِيها) أي يطلبون في تلك الجنات (بِفاكِهَةٍ) هي ثمرة الأشجار (كَثِيرَةٍ) حسب ما أرادوا (وَشَرابٍ) بقدر ما اشتهوا ،
وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
هذا
ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا
لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)
جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦)
____________________________________
من خمر ومن عسل ومن لبن وغيرها.
[٥٣](وَعِنْدَهُمْ) زوجات (قاصِراتُ الطَّرْفِ) قد قصرت عيونهن على أزواجهن ، فلسن كبعض نساء الدنيا
اللاتي ينظرن إلى غير أزواجهن ، من حيث إنهن يرون غيرهم أعلى جاها ، أو مالا ، أو
جمالا ، أو غير ذلك ، من أزواجهن (أَتْرابٌ) جمع ترب ، وهي التي بسن الزوج ، فليس أعمارهن أقل أو
أكثر من أزواجهن ، حتى يكونا مختلفي الجسم أو العقل.
[٥٤](هذا) الذي تقدم في وصف الجنان ونعيمها (ما تُوعَدُونَ) أيها الناس (لِيَوْمِ الْحِسابِ) فإذا أحسنتم استحقتم كل ذلك.
[٥٥] ثم إنه لا
انقطاع لنعيم الجنة ، بل يقال لأهل الجنة (إِنَّ هذا) الذي ترون من النعيم (لَرِزْقُنا) لكم أيها المؤمنون (ما لَهُ) أي ليس لهذا الرزق (مِنْ نَفادٍ) أي فناء وانقطاع بل باق إلى الأبد.
[٥٦](هذا) ما يقدم للمتقين ، فلننظر الكفار (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) الذين طغوا على الله سبحانه وتجاوزوا الحد بالكفر
والعصيان (لَشَرَّ مَآبٍ) أي مآب شرير في مقابل «حسن المآب» للمتقين.
[٥٧](جَهَنَّمَ) تفسير لشر مآب (يَصْلَوْنَها) من صلى الشيء إذا لازمه ، أي يدخلونها ملازمين لها (فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئست جهنم مسكنا لهم ، والمهاد هو المحل الذي يمهده
الإنسان ، ويهيئه لنفسه.
هذا
فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧)
وَآخَرُ
مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨)
هذا
فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ
أَنْتُمْ
____________________________________
[٥٨] أما
شرابهم (هذا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي هذا حميم وغساق ، فليذوقوا كل واحد منهما ، والحميم
هو الماء الحار ، وغساق ، ما يغسق أي يسيل من صديد أهل النار وتحميمهم.
[٥٩](وَآخَرُ) أي ولهم ضرب آخر من الطعام والشراب (مِنْ شَكْلِهِ) من شكل الحميم والغساق (أَزْواجٌ) ألوان وأنواع متشابهة في الشدة ، وصعوبة المذاق.
[٦٠] تلك دارهم
، وذاك طعامهم وشرابهم ، ولهم صنوف أخرى من العذاب ، من جملة تلك ضيق المكان ، حتى
أنهم في جهنم من الضيق ، كالوتد دقّ في الحائط ـ كما ورد ـ وذلك إن القادة يدخلون
النار أولا فيجدون ضيقا وإرهاقا ، ثم يؤتى بالأتباع ، وإذا يراهم القادة ، يقولون
: لا مكان هنا لهؤلاء ، فيقول مالك النار (هذا) الجمع الذي تشاهدونهم (فَوْجٌ) أي جماعة (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) من الاقتحام ، والدخول في الشيء بشدة ، وصعوبة ، أي
داخلون في ثناياكم وخلالكم (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا رحبت عليهم الأرض ، ولا اتسعت لهم أماكنهم ، وهذا
حكاية لقول القادة ، الذين هم في النار ، يقولون لأتباعهم ذلك ، وهو عكس التحية (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي يدخلونها ملازمين لها.
[٦١] وإذ يسمع
الأتباع هذا الترحيب المعكوس من قادتهم (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ)
لا
مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
قالُوا
رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ
(٦٢)
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا
____________________________________
أيها القادة (لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي لا اتسع بكم المكان ، ولا حييتم إلا بالسوء (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ) أي قدمتم هذا العذاب (لَنا) حيث حملتمونا على الكفر والعصيان (فَبِئْسَ الْقَرارُ) والمقر الذي نستقر عليه.
[٦٢] وكان
القادة يجيبون بأنّا لم نقدم لكم هذا العذاب ، وإنما أنتم كنتم منحرفين عن الجادة
، كما سبق شبه هذا الحوار بين السادة والأتباع في بعض السور السابقة ، ولذا يلتجئ
الأتباع إلى الله لينتقم لهم من القادة الذين غرّوهم ثم لا يقبلون حتى أن يسمعوا
ذلك الكلام من أتباعهم (قالُوا) أي قالت الأتباع يا (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ
لَنا هذا) العذاب وهيأه ، لأن ندخله (فَزِدْهُ عَذاباً
ضِعْفاً) عذابا لضلاله بنفسه وعذابا لإضلاله لنا (فِي النَّارِ) وإلى هنا ينتهي الحوار بين القادة والأتباع.
[٦٣] ثم إن
الكفار في النار يفتقدون المؤمنين ، الذين سخروا منهم في الدنيا ، وكذبوا كلامهم
حول الوعيد ، فيتساءل بعضهم عن بعض حولهم (وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً) مؤمنين (كُنَّا نَعُدُّهُمْ) في دار الدنيا (مِنَ الْأَشْرارِ)؟ جمع شر ، فقد كان الكفار في الدنيا يقولون ، إن
المؤمنين أشرار ، حيث يرونهم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويسبون
الأصنام.
[٦٤](أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) أي هل إن عدم رؤيتنا لهم في النار ، لأجل أن سخريتنا
بهم ـ في الدنيا ـ كان خطأ ، فذهبوا إلى النعيم ، ولذا
أَمْ
زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣)
إِنَّ
ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ (٦٧)
____________________________________
لا نراهم ، (أَمْ) أن سخريتنا كانت صحيحة ، فهم معنا في الجحيم ، ولكن (زاغَتْ) أي مالت وانحرفت (عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) أي أبصارنا ، فعدم رؤيتنا لهم ، لأن أبصارنا عدلت عنهم
، فلا تراهم ، وإن كانوا معنا في الجحيم؟
[٦٥](إِنَّ ذلِكَ) التخاصم بين القادة والأتباع المنجرّ إلى ذلك الكلام
حول المؤمنين (لَحَقٌ) كائن لا محالة (تَخاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ) بدل عن ذلك ، أي أن ذلك التخاصم بين أهل النار حق ثابت
لا شك فيه.
[٦٦](قُلْ) يا رسول الله (إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ) مخوف لكم ، إن بقيتم على الكفر والعصيان ، لتلاقون هذا
اليوم العصيب الذي سبق الحديث عنه (وَما مِنْ إِلهٍ) يحق له العبادة (إِلَّا اللهُ
الْواحِدُ) الذي لا شريك له (الْقَهَّارُ) لجميع خلقه يقهرهم على ما يريد بهم من الأمور التكوينية
، فلا يعز الإنسان ، ما يرى من إسلاس القياد له في دار الدنيا ، للاختبار
والامتحان.
[٦٧](رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُمَا) من الملك والإنس والجن وغيرها (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه ، فلا يمتنع منه شيء (الْغَفَّارُ) لذنوب عباده ، فمن ندم وتاب ، غفر ذنبه ، وقبل توبته.
[٦٨](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (هُوَ) أي ما أخبركم به عن المبدأ والمعاد ، وسائر الأمور (نَبَأٌ عَظِيمٌ) أي خبر ذو عظمة ، تكون سعادة
أَنْتُمْ
عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ
عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ
يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
____________________________________
الإنسان ، وشقوته تابعة لتصديقه ، أو تكذيبه.
[٦٩](أَنْتُمْ) أيها الكفار (عَنْهُ) أي عن هذا النبأ (مُعْرِضُونَ) لا تعيرونه اهتماما ، كأنه ليس بمهم.
[٧٠] إنه ليس
كهانة أو سحرا أو شعرا ، كما كانوا يذكرون ، وإنما هو وحي ، وإلا فمن أين أدري أنا
، ماذا جرت بين الله وبين الملائكة ، من محادثات حول أصل الخلقة ، فإنه (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى) يعني الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يقال لكل تخالف في الرأي اختصاما ، وقد كان في ابتداء
الخلقة أمر الله سبحانه طرفا ، وفكرة الملائكة طرفا آخر ، أو إن المراد اختصام
الشيطان مع الله في الملأ الأعلى.
[٧١](إِنْ يُوحى إِلَيَ) أي ما يوحى إليّ (إِلَّا) ل (أَنَّما أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) فلو لم أكن نبيا منذرا من أين كنت أعلم بماذا جرى في
الملأ الأعلى ، وإنما أعلم ذلك ، لأنه يوحى إليّ حيث أني نذير ظاهر ، ورسول من قبل
الله سبحانه ، فليس النبأ أمرا هينا ، كما تزعمون أنتم من أنه نزاع بين «محمد» و «الكفار»
فحسب ، وإنما أمر مهم جدا هو أمر الوحي من الله إلى الأرض ، لتقرير المنهج العام
للبشرية في هذه الحياة ، والحياة الآخرة.
[٧٢] ثم بين
السياق قصة اختصام الملأ الأعلى ، الذي كان إخبار الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، له دليلا على نبوته ، وأنه يوحى إليه ، وقد كان أمثال
هذه العلوم في ذلك الزمان خاصا برؤساء أهل الكتاب ، حتى أن أحدا لم يكن يعلم من
تلك شيئا ـ حتى بالمقدار الخرافي المحرّف الذي كان مدرجا في التوراة والإنجيل ـ فإذا
أخبر بذلك في صورة صحيحة ،
إِذْ
قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١)
فَإِذا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ
اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
____________________________________
رجل أمي ، كان دليلا على اتصاله بالوحي ، كما لو أخبر في هذا اليوم ، رجل
أمي عن أسرار الذرة ، وغوامض علم الفلك بصورة صحيحة ، لم يصل إليها بعد أعظم علماء
الفيزياء والفلك (إِذْ قالَ رَبُّكَ) يا رسول الله (لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي خالِقٌ) أي أريد أن أخلق ، فاسم الفاعل بمعنى المستقبل (بَشَراً مِنْ طِينٍ) يعني آدم عليهالسلام.
[٧٣](فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي سويت خلق هذا البشر وتمت أعضاؤه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي أحييته ، وجعلت فيه الروح المضاف إليّ تشريفا ،
ومعنى النفخ ، أن يخلق سبحانه روحا ، ثم يدخله في آدم على طريقة النفخ (فَقَعُوا) الفاء عاطفة ، و «قعوا» أمر من وقع يقع (لَهُ ساجِدِينَ) أي اسقطوا على الأرض ، للسجود لآدم.
[٧٤] ثم إن
الله سبحانه خلق آدم ، ونفخ فيه الروح (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) لآدم عليهالسلام حسب أمر الله سبحانه ، والإتيان بتأكيدين ، لرفع
استبعاد أن يكون الملايين من الملائكة المتفرقين في مختلف الفضاء الوسيع المدهش ،
قد سجدوا لآدم ولزيادة التقريع على إبليس حيث أبى السجود ، مع سجود الجميع.
[٧٥](إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي جعل نفسه أكبر وأعظم من أن يسجد لآدم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) «كان» لمجرد الربط ، أو بمعنى صار ، أو باعتبار
قالَ
يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
قالَ
فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧)
وَإِنَّ
عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
____________________________________
إنه في علم الله ، كان كافرا في ضميره ، فظهر ما كان كامنا.
[٧٦](قالَ) الله سبحانه لإبليس (يا إِبْلِيسُ ما
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ) أنا (بِيَدَيَ)؟ هذا سؤال للتوبيخ والتقريع ، أي ما هو سبب امتناعك من
السجود لمثل الإنسان الشريف ، الذي كرّمه الله سبحانه ، بأن خلقه بلا واسطة؟ وقوله
«بيدي» إضافة تشريفية ، كناية عن وساطة سببت في خلقه ، ثم قال له سبحانه (أَسْتَكْبَرْتَ) أي هل استكبرت عن السجود ، بلا حق (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) بأن كنت في الحقيقة والواقع ، أعلى رتبة من آدم ، ولذا
لم تسجد؟.
[٧٧](قالَ) إبليس في جواب الله سبحانه ، بل كنت أعلى رتبة من آدم ،
إذ (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أي أشرف من آدم ، وذلك لأنك يا رب (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) فإن أصلي النار (وَخَلَقْتَهُ) أي خلقت آدم (مِنْ طِينٍ) والنار أشرف من التراب.
[٧٨](قالَ) الله سبحانه للشيطان ، إذ رأى كبره وغروره وتمرده (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة ، فقد كان الجميع في الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود مبعّد ، يقال رجمه أي طرده.
[٧٩](وَإِنَّ عَلَيْكَ) يا شيطان (لَعْنَتِي) طردي وغضبي (إِلى يَوْمِ الدِّينِ)
قالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩)
قالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى
يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
قالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
____________________________________
أي يوم القيامة ، حيث تحاسب هناك وتلقى في النار.
[٨٠](قالَ) إبليس عند ذلك ، يا (رَبِ) أي ربي ، وحذف ياء المتكلم تخفيفا (فَأَنْظِرْنِي) أي امهلني ، بأن أبقى حيا (إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة الذي يبعث ويحشر ويحيى فيه الناس؟
[٨١](قالَ) الله تعالى في جوابه (فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ) أي من جملة الذين يبقون إلى النفخة الأولى.
[٨٢](إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الوقت المعلوم ، هو النفخة الأولى التي يموت فيه كل حيّ
، فلم يمهله الله سبحانه إلى يوم القيامة ، بل إلى النفخة الأولى ، وما ورد في بعض
الأحاديث ، من أنه عند ظهور الإمام عليهالسلام ، فهو ببعض الاعتبارات ، كما سبق.
[٨٣](قالَ) الشيطان ، إذ علم بالمهلة (فَبِعِزَّتِكَ) حلفي يا رب ، أي أقسم بقدرتك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) أي لأضلّن بني آدم (أَجْمَعِينَ).
[٨٤](إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لنفسك ، فلا أقدر على أولئك ، ومعنى
إغوائه لهم دعوته إلى الغواية.
[٨٥](قالَ) الله سبحانه (فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ) جملة معترضة ، أي قولي حق ، دائما ثابت لا كذب فيه.
لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
قُلْ
ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
____________________________________
[٨٦] و «الحق»
مبتدأ خبره قوله (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ) أي حقا إملاء النار (مِنْكَ) والمراد به هو وذريته (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) أي اتبع كلامك (مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) «منهم» بيان «من تبعك» والضمير يعود إلى بني آدم ، المفهوم من السياق ، و «أجمعين»
تأكيد لمن تبع ، أي كل متتابع ، بحيث لا أدع متابعا لك خارج جهنم.
[٨٧] وأخيرا (قُلْ) يا رسول الله للناس (ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ) أي تبليغ الوحي والقرآن (مِنْ أَجْرٍ) أي مال تعطونه لي في مقابل أتعابي (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) للقرآن من تلقاء نفسي ، فليس القرآن كذبا ، تكلفته أنا
، ولا وسيلة ، لأخذي مالا منكم.
[٨٨](إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعالَمِينَ) يذكرهم بما كمن في فطرتهم من التوحيد والمعاد والآداب ،
وما أشبه ، والمراد بالعالمين ، الأجيال ، لأن كل دور من أدوار الدنيا ، عالم
مستقل ، وإن اتصلت الحلقات بعضها ببعض.
[٨٩](وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أي خبر القرآن وصدقه (بَعْدَ حِينٍ) في الدنيا ، حيث ترون غلبته على الكفر والكفار ، وفي
الآخرة ، حيث ترون صدقه في ما أخبر به من الجنان وأهلها ، والنيران وأصحابها ، وقد
علم الكفار ، وسائر الناس ، صدق أنبائه بالنسبة إلى مستقبل الدنيا ، وسنرى صدق
أنبائه بالنسبة إلى الآخرة ، جعلنا الله من أهل الجنة.
(٣٩)
سورة الزمر
مكيّة / آياتها (٧٦)
سميت السورة
بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة «زمرا» وهي كسائر السور المكية باستثناء آيات
، قالوا إنها مدنية ، تعالج قضايا العقيدة في أصولها ، ولما ختمت سورة «ص» بذكر
القرآن ، فتحت هذه السورة بذلك.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله ، الذي لا يخيب من استعان به ، وهو
خير مستعان يستعين به الإنسان في مختلف حوائجه ، والتوصيف بالرحمن والرحيم ،
التماس للرحمة ، التي وسعت كل شيء ، كي ينال الإنسان المستعين من ذلك المعين الذي
لا ينضب فضلا ورحمة.
تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)
إِنَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
____________________________________
[٢](تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي نزول هذا الكتاب ، إنما هو (مِنَ اللهِ) فهذا خبر لتنزيل الكتاب (الْعَزِيزِ) الغالب في سلطانه (الْحَكِيمِ) الذي يحكم بما يريد وفق المصلحة ، ويفعل ما يشاء على
طبق الصلاح ، فبحكمته أحكم الكتاب ، وبعزته أنزله للهداية والإرشاد ، وليس سحرا أو
تقوّلا أو كهانة كما يقول المشركون.
[٣](إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) فليس إنزاله لأجل الباطل أو اللعب ، أو ما أشبه ، كما
لو كتب رئيس إلى نائبه ، أن اقتل الناس ، فإنه إرسال بالباطل ، والإتيان بمادة «نزل»
في الآيتين ، إما لعلو مقام المنزل ، فنزل العلو رتبة منزلة العلو حسا ، وإما
حقيقة باعتبار ، إن القرآن جاء من السماء إلى الأرض (فَاعْبُدِ اللهَ) وحده لا شريك له ، كما أمرنا في الكتاب (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي في حال كونك تخلص له الدين ـ وهو الطريقة ، في
العقيدة والعمل ـ ولا تجعل له ندا أو شريكا ، كما يفعل المشركون.
[٤](أَلا) فلينتبه السامع (لِلَّهِ الدِّينُ
الْخالِصُ) يعني إن الطريقة الناصعة الخالصة من الانحراف والالتواء
، وكل سوء هي لله سبحانه ، أما سائر الطرق ، فإنها ليست خالصة ، بل في كل منها
التواء وكذب وغش ، والمراد بالدين الخالص هو الإسلام (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (أَوْلِياءَ) أي أصناما يوالونهم ، يقولون : ـ في سبب الاتخاذ ـ
ما
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
____________________________________
(ما نَعْبُدُهُمْ) أي إنا لا نعبد الأصنام ـ والإتيان بضمير العاقل ،
باعتبار إن الكفار كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء ـ (إِلَّا
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) اسم مصدر زلف بمعنى قرب ، فهو مفعول مطلق ، ب «يقربونا»
أي يقربونا تقريبا ، فقد كانوا يعتقدون إن الأصنام توجب القرب من الله سبحانه ،
لكنهم كاذبون في هذا الزعم ، و (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ) يوم القيامة (فِي ما هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين ، فقد كان المشركون على اختلاف كبير بين
الطوائف والعقائد ، أو أن ضمير «بينهم» يعود إلى الناس عامة ، مؤمنهم وكافرهم ،
والمراد بالحكم القضاء ، وبيان أيهم مبطل ، وأيهم محق ، أو بيان أيهم مغرق في
الباطل ، وأيهم ليس بتلك المثابة ، وإن كان الكل على باطل ـ وهذا بناء على رجوع
ضمير بينهم إلى الكفار فقط ـ (إِنَّ اللهَ) بعد بيان الطريق ، وانحراف البعض (لا يَهْدِي) بالألطاف الخفية ، بالنسبة إلى من انحرف ، وهو الذي
عبّر عنه بقوله سبحانه (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) على الله وعلى رسوله (كَفَّارٌ) أي كثير الكفر ، فكلما رأى حقا كفر به ، بخلاف من آمن ،
فإن الله يهديه ، بأن يلطف به الألطاف الخفية الزائدة على أصل الهداية ، ليزداد
هدى ، كما قال تعالى : (زادَهُمْ هُدىً) و (وَزِدْناهُمْ هُدىً) .
__________________
لَوْ
أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ
سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ
(٤)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ
وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
____________________________________
[٥](لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً) كما يزعم هؤلاء الكفار من أن لله ولدا (لَاصْطَفى) أي لاختار هو بنفسه (مِمَّا يَخْلُقُ) من الإنسان والملك (ما يَشاءُ) فكان ينتخب الأليق به ، لا أن يترك الأمر إلى الكفار ،
حتى يضيفوا إليه من شاءوا من الأولاد ، كما أضاف اليهود عزيرا إليه ، والنصارى
المسيح ، والمشركون الملائكة ، فمثلا كان يختار موسى ابنا ، ومحمّد ابنا (سُبْحانَهُ) أي أسبحه سبحانه ، فهو منزّه عن الأولاد ، ولادة وتبنيا
، وهؤلاء كاذبون في إضافة الأبناء إليه ، فإنه (هُوَ اللهُ الْواحِدُ) الذي لا شريك له ، ولا صاحبة ولا ولد (الْقَهَّارُ) الذي يقهر الكون طبق إرادته ، ولو كان له ولد ، شاركه
في الألوهية ، فلم يكن واحدا ، ولا قادرا على قهره.
[٦](خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِ) فلا باطل في شأنه ، حتى يتخذ ولدا بالتبني ، ولا شريك
له حتى يكون له ولد صلبي ، إذ لو كان له ولد لشاركه في الخلق بمقتضى كونه إلها (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) تشبيه بمن يلف شيئا على شيء ، فإذا جاء الليل كان ،
كأنه لفّ على النهار حتى ستره (وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) فإذا جاء النهار ، كان كأنه لف أيضا على الظلمة حتى
سترها (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) بأن ذللهما وأجراهما حسب الصلاح والحكمة (كُلٌ) منهما
يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً
مِنْ
____________________________________
(يَجْرِي) في مداره (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى غاية محدودة ، يوم يقفان عن السير ، وهو يوم القيامة
، (أَلا) فلينتبه السامع (هُوَ) الله (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الْغَفَّارُ) فمن تاب من الكفار والعصاة ، غفر له ذنبه ، وإنما أتي
بهذا الوصف ، لإلقاء الرجاء في قلوب من لاذت قلوبهم نحو الحق ، فلا ييأسوا من سالف
أعمالهم ، أن تقبل توبتهم.
[٧](خَلَقَكُمْ) أيها البشر ، بعد خلق السماوات والأرض ، والشمس والقمر (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي نفس آدم عليهالسلام ، يعني أن أصل خلقتكم من شخص واحد ، كل الناس ينتهون
إليه (ثُمَ) هذا إنما هو للتراخي في الكلام ، لا التراخي في الخارج
، كقوله «إن من ساد ثم ساد أبوه ، ثم قد ساد بعد ذلك جده» فإن سيادة الأب قبل
الابن خارجا ، وإنما أتي ، ب «ثم» للتراخي في التكلم ، وبيان أن هذا الكلام بإثر
ذلك الكلام (جَعَلَ مِنْها) أي من تلك النفس (زَوْجَها) إما أن يراد كون حواء عليهاالسلام ، من فاضل طينة آدم ، أو أنها من نفس ذلك الجنس ، فليست
زوجة آدم من جنس الملائكة ، أو الجن ، وهذا فضل منه سبحانه ، لأن «كل جنس لجنسه
يلف» (وَأَنْزَلَ) أي بسبب ما أنزله من المطر أنشأ (لَكُمْ) أيها البشر (مِنَ الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والضأن والمعز (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) من كل زوجين ذكر وأنثى (يَخْلُقُكُمْ) أيها البشر (فِي بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ
بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
إِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
____________________________________
بَعْدِ
خَلْقٍ)
فنطفة فعلقة
فمضغة ، فعظام فإنسان سوي ، فحياة (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، فإن هذه
الأغلفة الثلاثة محيطة بالولد حال تكوينه (ذلِكُمُ) «ذا» إشارة ، و «كم» خطاب (اللهُ رَبُّكُمْ) أيها البشر ، فإنه هو الذي خلقكم من الابتداء إلى حال
الوجود ، بتلك الكيفية المدهشة (لَهُ الْمُلْكُ) كما أن له الخلق (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا شريك له من صنم أو وثن ، أو غيرهما (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق ، أي إلى أين يصرفكم الشيطان والكفار؟ حتى
تقولون بالشريك لله سبحانه.
[٨](إِنْ تَكْفُرُوا) أيها البشر ، فهو يضركم ، ولا يضر الله سبحانه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) غير محتاج إليكم ، حتى يضره كفركم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) فإنه لم يأمر بذلك ، وهذا لنقض قول الكفار ، حيث كانوا
يقولون : إن الله أمرنا بهذا (وَإِنْ تَشْكُرُوا) أيها البشر ورأس الشكر ، أن توحدوه (يَرْضَهُ) أي يرضى الشكر (لَكُمْ) ويجازيكم عليه جزاء حسنا وليعلم الكافر أن القادة لا
يحملون تبعة كفرهم ، كما يقولون في الدنيا ، حيث قالوا (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ
خَطاياكُمْ) (وَلا تَزِرُ) أي لا تحمل نفس (وازِرَةٌ) أي حاملة (وِزْرَ أُخْرى) أي ذنب الشخص
__________________
ثُمَّ
إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً
مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
____________________________________
الآخر ، بأن تخفف نفس ذنب شخص آخر ، نعم إن الضال يحمل وزرين ، وزر ضلاله ،
ووزر إضلاله (ثُمَ) بعد الدنيا ، أيها البشر (إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ) مصدر ميمي ، أي رجوعكم (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) يجازيكم على أعمالكم ، فإن الإخبار مقدمة الجزاء ، كما
يقول الحاكم للمجرم : سأخبرك بما عملت (إِنَّهُ) سبحانه (عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ) أي بالأشياء التي تدور فيها ، فعلمه شامل لكل شيء ، فلا
يظن البشر أنه يتمكن من الإخفاء منه.
[٩] وعجيب أمر
هذا الإنسان الذي يكفر بالله ، بعد أن يعتقد في باطنه به (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) من مرض ، أو فقر أو بلاء (دَعا رَبَّهُ) وتوجه إلى الله تعالى (مُنِيباً إِلَيْهِ) من أناب بمعنى رجع ، أي راجعا إلى الله وحده راجيا إيّاه
دون سواه (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أي أعطاه الله (نِعْمَةً مِنْهُ) أي من قبله (نَسِيَ ما كانَ
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى أن يكشفه من قبل
هذه النعمة ، ومعنى النسيان ترك التوحيد والشكر ، ويستعمل النسيان في الترك ، لأنه
من أسبابه ، بعلاقة السبب والمسبب ، كما قال (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) ، أو باعتبار أن الشرك غالبا يجر إلى النسيان (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) جمع ند وهو المثل والضد ،
__________________
لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ
النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ
ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
____________________________________
والمراد بها الأوثان (لِيُضِلَ) الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أو يضل نفسه عن سبيل الله ، واللام للعاقبة ، إذ جميع
الكفار لا يريدون بالشرك إضلال الناس ، أو ضلال أنفسهم ، وإنما عاقبة الشرك الضلال
والإضلال (قُلْ) يا رسول الله ، لمثل هذا الشخص (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) الأمر للتهديد ، أي تنعم بنعمة الدنيا ، التي جرها إليك
كفرك ، فكأنه تنعم بالكفر ، والباء سببية ، نحو تنعم بالعلم أو بالمال (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) الملازمين لها كملازمة الصاحب لصاحبه.
[١٠] فهل هذا
الإنسان الذي يكفر ويكون مصيره النار خير (أَمَّنْ) يؤمن ، ويعمل الصالحات ، حتى يصير إلى الجنة؟ ف (هُوَ قانِتٌ) من القنوت بمعنى الخضوع لله تعالى (آناءَ اللَّيْلِ) جمع «أنى» بمعنى ساعات الليل ، وإنما خص الليل بالذكر ،
لأن القيام في ساعاتها للعبادة ، أدل على قوة الإيمان من الطاعة في ساعات النهار ،
في حال كونه (ساجِداً) مرة (وَقائِماً) في الصلاة والتلاوة ، أخرى (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي يخاف من عذابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ) والجنة (قُلْ) يا رسول الله في صدد المقارنة بين الكافر والمؤمن (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)؟ ومن الواضح ، أنهما لا يستويان ، وإذا لا يستوي المؤمن
العالم بالله واليوم الآخر ، والكافر الذي لا يعلم بالمبدأ
إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ
(٩)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي
أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١)
____________________________________
والمعاد (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) بهذه المواعظ والإرشادات (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول الذين يعملون عقولهم ، لاستفادة الحق ،
أما غيرهم ، فهم في غفلة من هذا.
[١١](قُلْ) يا رسول الله (يا عِبادِ) وأصله يا عبادي (الَّذِينَ آمَنُوا) فعل ماضي (اتَّقُوا) أيها الناس (رَبَّكُمْ) أي خافوا عقابه ، فلا تخالفوا أوامره ، فإنه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) في العقيدة والعمل (فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ) المراد بها الجنس ، فإن اتباع مناهج الله سبحانه ، يوجب
الغنى ، والصحة ، والأمن ، والعلم ، والفضيلة ، وسائر الخيرات ، كما دلّ عليه
الدليل والتجارب (وَ) إذا رأيتم أنكم لا تتمكنون من الإتيان بالطاعة في مكان
فهاجروا ، ف (أَرْضُ اللهِ
واسِعَةٌ) إلى حيث تتمكنون من أن تحسنوا هناك ، وحيث إن الهجرة
توجب أتعابا جمّة ، قال سبحانه (إِنَّما يُوَفَّى) ويعطى وافيا (الصَّابِرُونَ) في الشدائد (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسابٍ) فإنه لكثرته ، لا يتمكن الإنسان من عدّه ، وإن كان بقدر
معلوم عند الله سبحانه.
[١٢](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) وحده (مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ) أي أخلص له في طريقتي ، فلا آخذ عقيدة أو عملا ، إلا من
طرفه وحده ، لا أعتقد بغيره ولا أعبد سواه.
وَأُمِرْتُ
لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)
قُلْ
إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
____________________________________
[١٣](وَأُمِرْتُ) من قبله سبحانه (لِأَنْ أَكُونَ
أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) الذين يسلمون لأوامره ، وإنما أكون أولهم ، لأدرك الفضل
في السبق إلى الطاعة ، فإن من سبق إلى خير جمع الفضل والأجر.
[١٤](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالكفر أو الإثم (عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) هو يوم القيامة ، الذي لا منجى ولا مفر منه ، وعذابه في
غاية الشدة ، والخوف يمكن أن يكون مع القطع بالضار كما يمكن أن يكون مع الشك والظن
والوهم.
[١٥](قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين (اللهَ أَعْبُدُ) لا غيره (مُخْلِصاً لَهُ
دِينِي) أي أخلص له طريقتي ، فلا أعبد أحدا معه ، وهذا تكرار
لما سبق للتأكيد وتفريغ ما يأتي عليه.
[١٦](فَاعْبُدُوا) أنتم أيها الكفار (ما شِئْتُمْ) من الأصنام والبشر (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله ، وهذا الأمر للتهديد ، أي افعلوا ما
شئتم فستلقون جزاءه ، ولذا قال تعالى (قُلْ) يا رسول الله لهم (إِنَّ الْخاسِرِينَ) الذين يحق أن يقال لهم خاسرون هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن ذهبت نفوسهم إلى النار ، وتفرقت عنهم أهاليهم إلى
الجنة أو إلى النار ، والخاسر هو الذي يذهب رأس ماله ، بخلاف الرابح الذي يبقى أصل
ماله ويزاد عليه ، فإن المؤمن بقيت نفسه في راحة وأهله معه ،
أَلا
ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
لَهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ
اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ
____________________________________
ثم ربح النعيم ، أما الكافر ، فإنه لم يحصل شيئا ، وبالإضافة إلى ذلك ،
أتلف نفسه وأهله (أَلا ذلِكَ) الذي ذكر من خسارة النفس والمال (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الواضح الذي لا خسارة فوقه.
[١٧](لَهُمْ) أي للخاسرين (مِنْ فَوْقِهِمْ
ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) «ضلل» جمع «ظلة» وهي السترة العالية ، يعني فوقهم أطباق النار (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي فرش ، وتسمية ما تحتهم «ظلل» إما باعتبار المشاكلة
اللفظية ، من قبيل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) وإما من جهة ، أن ما تحت كل طائفة سقف لمن في الدرك
والأسفل منه ، إذ النار دركات وأطباق بعضها فوق بعض (ذلِكَ) الذي تقدم من العذاب (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ
عِبادَهُ) حتى لا يعصوه فيلقون فيه (يا عِبادِ) حذف ياء المتكلم تخفيفا (فَاتَّقُونِ) أي اتقوني فلا تعصوني ، فقد ألزمت عليكم الحجة ،
وأرشدتكم إلى السبيل.
[١٨](وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) المراد به الشيطان ، أو كل قائد ضال شديد الطغيان ،
ويطلق على الأوثان تشبيها ، وإلا فليست الأوثان تطغى وتجاوز الحدّ (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال للطاغوت ، أي اجتنبوا عبادتها ، (وَأَنابُوا) أي رجعوا عن الكفر والعصيان (إِلَى اللهِ) بأن
__________________
لَهُمُ
الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧)
الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ
اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
____________________________________
آمنوا وأطاعوا ، والرجوع ، إنما هو بالنسبة إلى من كان كافرا عاصيا ، ويدخل
غيره في العموم بالملاك (لَهُمُ الْبُشْرى) أي البشارة بخير الدنيا وسعادة الآخرة (فَبَشِّرْ) يا رسول الله (عِبادِ) أصله عبادي حذف ياء المتكلم تخفيفا.
[١٩](الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) وصف للعباد ، أي إذا سمعوا من المجتمع قولا ، يتركون
منحرفه فلا يعملون به ، بل (فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ) أي أولاه بالاتباع ، فإن الإنسان يستمع في المجتمع
الكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان والفضيلة والرذيلة ، فالإنسان الخير يتبع
الأحسن مما يستمع ، والإنسان الشرير يتبع الأسوأ مما يستمع ، والأحسن منسلخ عن
معنى التفضيل ، أو يراد به الأحسن عرفا ، وإن لم يكن في طرف مقابله حسن حقيقة (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي أن من صفته اتباع الأحسن ، هو الذي تفضل الله عليه
بالهداية ، والمراد بها اللطف الخفي ، أما الهداية بمعناها العام ، فهي لكل بر
وفاجر (وَأُولئِكَ هُمْ
أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن اللب بمعنى العقل ، نقل في
المجمع عن بعض إنه قال : إن هاتين الآيتين ، نزلت في «زيد» و «أبي ذر» و «سلمان»
حيث كانوا يعترفون بالتوحيد في زمن الجاهلية .
[٢٠] ثم يسلي
الله رسوله في عدم إيمان جماعة من المعاندين ، فلا يهتم
__________________
أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ
____________________________________
لهم (أَفَمَنْ حَقَّ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي ثبتت كلمة العذاب في شأنه ، بأن علم الله سبحانه ،
أنه لا يؤمن إلى الأبد ، فأثبت في شأنه العذاب ، وقال فيه «إنه معذب» (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تُنْقِذُ مَنْ فِي
النَّارِ) بأن تهديه حتى لا يدخل النار ، وهذه الجملة عبارة عن «تتمكن
من إنقاذه» على سبيل الاستفهام الإنكاري ، أي أنك يا رسول الله ، لا تتمكن من
إنقاذ هذا القسم من الناس ، وإنما أتت هذه الجملة ، في قالب الاستفهام ، لزيادة
الإنكار ، وقوله «من في النار» باعتبار ، الأول ، نحو ، (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ) ، وكما نقول «السلطنة ساقطة» حيث نرى فيها آثار السقوط.
[٢١](لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بأن خافوا عقابه ، فأطاعوه (لَهُمْ غُرَفٌ) جمع غرفة ، وهي البيت فوق الدار ، وتلك أحسن من التحت
لقربها من الشمس ، ودخول الهواء فيها ، وإشرافها وغير ذلك (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) مبنية ، فهم في قصور ذات طبقات ، كما أن من في النار في
عذاب ذي أطباق ، من فوقهم ظلل ، ومن تحتهم ظلل (مَبْنِيَّةٌ) أي قد بنيت تلك الغرف ، والإتيان بهذا الوصف ، لامتداد
البشارة ، فإن الإنسان كما أطال وصف المطلوب ، امتدت في نفسه البشائر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت تلك الغرف (الْأَنْهارُ) فهم ينظرون إلى الأنهار والأشجار ، من فوق مما يزيد في
سرورهم ، فإن الإشراف على المحبوب من الأعلى يشع في النفس بهجة وحبورا (وَعْدَ اللهِ) أي
__________________
لا
يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ
____________________________________
وعدهم الله بذلك وعدا ، فهو مفعول مطلق لفعل مقدر ، و (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) الذي يعده ، لأن الخلف ناشئ ، إما من الجهل أو العجز أو
الخبث ، والله سبحانه منزه من ذلك كله.
[٢٢] وبعد أن
ذكر سبحانه قسما من التوحيد والمعاد والرسالة ، ذكر بعض أدلة التوحيد (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً) وهو المطر (فَسَلَكَهُ) أي أدخل ذلك الماء في (يَنابِيعَ فِي
الْأَرْضِ) جمع ينبوع ، وهو محل اختزان الماء ، وتجمعه كالعيون والقنوات
والأنهار ، وما أشبهها (ثُمَّ يُخْرِجُ) الله (بِهِ) أي بسبب ذلك الماء (زَرْعاً) أي نباتا (مُخْتَلِفاً
أَلْوانُهُ) من أخضر وأحمر وأزرق وأصفر وأبيض ، وغيرها ، أو المراد
بالألوان جميع الصفات من طعوم وروائح ، وحجوم ، وأشكال وغيرها ، فإن اللون له إطلاقان
: إطلاق بمعنى ما يدرك بالبصر فقط ، وإطلاق بمعنى ما يدرك بجميع الحواس ، بل أعم
من ذلك ، كالخواص والفوائد (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يجف الزرع وييبس ، من هاج أي ثار ، فكأن النبات يثور
عن حالته الأولى (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد ما كان ذا لون آخر (ثُمَّ يَجْعَلُهُ) الله (حُطاماً) رفاتا منكسرا متفتتا ، فإن الحطم هو الكسر للشيء اليابس
(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من إنزال الماء ، وإنبات النبات مع تلك
الأوصاف المذكورة
لَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
____________________________________
(لَذِكْرى) أي تذكير بما كمن في النفوس من التوحيد (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن لب كل شيء أحسنه ، ولب الإنسان
عقله.
[٢٣] وإذا كانت
الآيات الكونية تدل على ما يقوله الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان الذي أعرض قاسيا ، لا يدخل النور قلبه ، وكان الذي
يقبل ويسلم رحب الصدر قابلا لأنّ يدخل فيه الإسلام ، كالظرف الوسيع القابل لأخذ
الشيء (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) وإنما نسب الشرح إلى الله ، لأنه لطف به الألطاف الخفية
، بعد أن كان هو بصدد الإيمان ، مقابل الكافر الذي لا يشرح الله صدره ، بأن يعرض
الله عنه ، إذا رآه بصدد التعامي عن الحق ، وإنما نسب الشرح إلى الصدر ، لأنه مركز
القلب الذي هو مصدر قبول الإيمان ، أو رفضه ، فهو من باب سبك مجاز من مجاز ، أو
باعتبار أن المعرض تشتد فيه حرارة القلب ، فتنتفخ الرئة كثيرا لتجذب الهواء الكثير
لتبريد القلب ، فتكون آخذة موضعا وسيعا من الصدر ، ولذا يحس الإنسان بضيق صدره ،
لضيق مجاري الدم وما أشبه ، بسبب ضغط الرئة ، وبالعكس من ذلك الذي يهدأ ويسرّ
بالإسلام ، فإن حرارته تخف ، فلا تحتاج الرئة إلّا إلى حركة يسيرة ، حتى يبقى أكثر
مواضع الصدر فارغا ، فلا ضغط من الرئة على الأوردة والشرايين ، وبذلك يحس الإنسان
بسعة صدره (فَهُوَ عَلى نُورٍ) كأنه في طرق الحياة ، على قطعة نور ، يبصر به طريقه
جيدا ، فلا يقع في مشاكل الحياة (مِنْ رَبِّهِ) «من» نشوية أي نور ناشئ من قبل الله
فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
اللهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ
____________________________________
تعالى ، وقد حذف عدل الاستفهام ، أي أفمن شرح الله صدره ، كمن ليس كذلك؟
وحذفه لنكتة هي ، إن من ليس كذلك غير قابل حتى للذكر ، وكأنه لا شيء ، (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الهلاك والسوء ، للذي قسى قلبه ، حتى لم يجد الإيمان
محلا له فيه (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي قساوة من هذا النوع ، وإن كان رقيق القلب من جهات
أخرى (أُولئِكَ) القاسية قلوبهم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح بيّن.
[٢٤] وإذ تقدم
الحديث عن الإسلام ، يأتي السياق ليصف القرآن الحكيم ، الذي هو مصدر أحكام الإسلام
وإرشاداته (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) المراد بالحديث الجنس ، أي أحسن نوع من هذا الجنس ،
والحديث هو الخبر ، سمي حديثا ، لأنّه يحدث ويتجدد بعد أن لم يكن ، فإن المخبر
يجدّده ويذكره ، وإنما سمى القرآن حديثا ، لأنه كلام الله وإخباراته وإن كان فيه
بعض الإنشاء ، فإنه بصورة عامة ، حديث من باب التغليب (كِتاباً) بدل من أحسن الحديث ، أو حال أي في حال كونه مكتوبا لا
ملفوظا فقط (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا ، فلا تفاوت في ألفاظه فصاحة وإعجازا ،
ولا في معانيه وأحكامه ، إحكاما وإرشادا ، فلا اختلاف فيه ، ولا تناقض (مَثانِيَ) جمع مثنى ، أي أن قصص هذا الكتاب ، وإخباراته ، وأحكامه
، تذكر مثنى مثنى ، في قوالب مختلفة للتركيز في الأذهان ، ويكون أبلغ في التحدي
والإعجاز ، ووصف الكتاب بالمثاني ـ جمعا ـ باعتبار سوره وآياته
تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
____________________________________
وفصوله (تَقْشَعِرُّ) أي ترتجف (مِنْهُ) من هذا الكتاب (جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فتأخذهم قشعريرة خوفا من وعيده ورهبة وجلالا (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ) بعد الانكماش بالقشعريرة (وَقُلُوبُهُمْ إِلى
ذِكْرِ اللهِ) فإنّ وعوده سبحانه توجب الهدوء والطمأنينة ، كما قال
تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ومن عادة الإنسان ، أنه إذ ذكر الوعيد تفكر ، فيذكر
الوعد ، وهناك الاطمئنان للقلب الوجيف ، والجلد المقشعر (ذلِكَ) أي القرآن (هُدَى اللهِ) الذي هدى بسببه الناس إلى طريق الحق والرشاد (يَهْدِي بِهِ) أي بالقرآن (مَنْ يَشاءُ) وليست مشيئته سبحانه اعتباطية ، بل لمن سلك الطريق الحق
وكان في صدد الهدى ، والمراد بالهداية هنا ، الألطاف الخاصة ، وإلّا فالهداية عامة
لكل مؤمن وكافر (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ) بأن يتركه حتى ينحرف بعد أن لم يقبل الهدى (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إذ اللطف منه سبحانه ، فإذا أعرض الإنسان عن السلوك في
الطريق ، لم يكن له من يلطف به ، حتى يهتدي.
[٢٥](أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذابِ) بأن يكون وجهه في مقابل لفح النار ولهبها (يَوْمَ الْقِيامَةِ) خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ، لا يرى النار
__________________
وَقِيلَ
لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)
كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٢٦)
____________________________________
أبدا؟ وواضح أن الجواب من يأتي آمنا خير ، وإنما قال «الوجه» لأنه أشرف
الأعضاء ، فيكون عذابه أكثر إيلاما من عذاب سائر الأعضاء (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) في الدنيا بناء على تجسيم الأعمال ، أو المراد ذوقوا
جزاء ما كنتم تكسبون ، بعلاقة السبب والمسبب ، فإن الكسب علة الجزاء ، وإنما حذف.
[٢٦] ويعتبر
هؤلاء الكفار بمن سبقهم حيث إنهم لما كذبوا عوقبوا وأهلكوا (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل هؤلاء الكفار من الأمم الماضية (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) أي جاءهم عذاب الله في الدنيا (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يعرفون ، فقد كانوا آمنين في بلادهم ، وإذا بهم
يرون عذاب الاستئصال من صيحة أو خسف أو قذف ، أو ما أشبه يعمهم.
[٢٧](فَأَذاقَهُمُ اللهُ) أي أذاق أولئك الأمم المكذبة (الْخِزْيَ) والهوان (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) بأن عذبهم وأهلكهم (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ) الذي أعدّ لهم لتكذيبهم وكفرهم (أَكْبَرُ) من عذاب الدنيا (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) أي لو علموا بالعذاب المهيئ لهم ، لعلموا أن ذلك أكبر
من عذاب الدنيا.
وَلَقَدْ
ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ
____________________________________
[٢٨](وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يفيدهم ويهديهم إلى الطريق ، كما مثلنا هنا لهم بأحوال المكذبين
السابقين (لَعَلَّهُمْ) أي لكي (يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع فيهم من الفطرة الدالة على أن من أساء ، فإنه
يرى السوء ، وإن من أحسن يرى الحسنى.
[٢٩] لقد بينا
الأمثلة في هذا القرآن في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) يفهمون معناه ، فهو بلغتهم (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي ليس صاحب اعوجاج ، وميل عن الحق ، فهو لفظا بلغتهم ،
ومعنى لا انحراف في أحكامه (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) أي لكي يتقوا الكفر والعصيان ، فلا يأتيهم العذاب.
[٣٠] ثم بين
سبحانه ، مثلا للموحد والمشرك ، فالموحد كالعبد الذي هو لإنسان واحد ، والمشرك
كالعبد الذي هو لعدة سادة يتنازعون ما بينهم ، في الأمور ، فيجر كل واحد العبد إلى
جانبه ، أيها خير؟ ومن الطبيعي إن العبد الذي لسيد واحد خير ، من ذلك العبد
المشترك بين سادة كثيرين (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للموحد والمشرك ، فللمشرك (رَجُلاً فِيهِ
شُرَكاءُ) أي جماعة سادة مشتركون (مُتَشاكِسُونَ) من شكس بمعنى خاصم ، فالمتشاكسون بمعنى المتنازعون
المتخاصمون فيما بينهم ، فهل هذا العبد أحسن حالا؟ أم العبد الذي هو لسيد واحد (وَرَجُلاً) وهو مثال الموحد (سَلَماً لِرَجُلٍ) أي خالصا لسيد واحد
هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)
إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
(٣١)
____________________________________
يطيع أوامره ، وينتهي عن زواجره (هَلْ يَسْتَوِيانِ) أي العبدان (مَثَلاً) أي من حيث المثل ، وإذ كان الجواب العدم ، فاللازم أن
يعرف المشرك ، أن له أسوأ المثل ، فليقلع عن غيه (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فلا شريك له يستحق الحمد ، بل جميع المحامد راجعة إليه
، ولذا يستحق كل حمد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) إن الإله واحد ، ولذا يعبدون آلهة متعددة ، وكما إن
العبد لسيد واحد ، ينعم براحة البال ، كذلك الموحد ينعم بالراحة والاطمئنان ، وكما
إن العبد لعدة شركاء موزع القلب لا يدري ماذا يصنع ، قلق الضمير ، كذلك المشرك قلق
لا يدري ، هل يرضي الله أم الشركاء ، فهو مكلوم الفؤاد.
[٣١] إن الدنيا
تنقضي ، وإن الرسول والمشركين ، سيموتون ، وهناك تشكّل محكمة كبري ، أمام الله
سبحانه ، ويظهر من المحق ومن المبطل؟ وهذا تهديد لهم بأنكم إن بقيتم على غيكم ،
ستلاقون يوما عسيرا ، حين يخاصمكم الرسول يوم القيامة (إِنَّكَ) يا رسول الله (مَيِّتٌ) بعد مدة (وَإِنَّهُمْ) أعداؤك وخصماؤك المشركون (مَيِّتُونَ) جمع ميت.
[٣٢](ثُمَّ إِنَّكُمْ) بعد انقضاء مدة البرزخ بين الدنيا والآخرة (يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي المحل الذي أعده للحساب ، وإلا فليس لله سبحانه ،
مكان (تَخْتَصِمُونَ) فيظهر من المحق ومن المبطل.
تقريب القران إلى الأذهان
الجزء الرّابع والعشرون
من آية (٣٣) سورة الزمر
إلى آية (٤٧) سورة فصّلت
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته
الطاهرين
فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤)
____________________________________
[٣٣] ثم بين
سبحانه حال الفريقين الموحدين والمشركين (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بأن ادعى أن له ولدا أو شريكا (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) ، وهو الرسول والقرآن (إِذْ جاءَهُ)؟ والمعنى لا أظلم من مثل هذا الشخص ، وقد سبق ، أن هذا
الاستفهام ، وكون من ذكر أظلم الناس ، إنما هو إضافي لا حقيقي ، ثم بين سبحانه
مصير هؤلاء بقوله (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي منزلا ، من ثوى بمعنى اتخذ المنزل ، ومحل السكنى (لِلْكافِرِينَ)؟ والمعنى أن مثوى هؤلاء هو جهنم.
[٣٤](وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) أي بالأمر الذي هو صدق ، كالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي جاء بالقرآن صدقا ، وجاء بشريعة هي صادقة (وَ) الذي (صَدَّقَ بِهِ) أي صدق بمن جاء بالصدق ، كالمؤمنين الذين صدقوا بالرسول
(أُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ) الذين اتقوا عذاب الله ونكاله ، بأن أطاعوه فيما أمر ونهى.
[٣٥](لَهُمْ) أي لهؤلاء الرسول والمؤمنين (ما يَشاؤُنَ) من أنواع النعيم والملذات الجسمية والروحية (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في الجنة ، وقد سبق ، أن كونه عند الله ، من باب
تشبيه المعقول بالمحسوس ، فهناك موضع اختاره الله سبحانه ، فقريب من رضاه وفضله (ذلِكَ) الذي أن يكون لهم ما يشاءون (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا في العقيدة والعمل.
لِيُكَفِّرَ
اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
أَلَيْسَ
اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ
____________________________________
[٣٦] وإنما «لهم
ما يشاءون» لأن الله سبحانه يريد أن يحقق لهم فضلا وكرامة (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) أي عن هؤلاء المحسنين (أَسْوَأَ الَّذِي
عَمِلُوا) المراد كل سيئة ، فإنها أسوأ من حسناتهم ، إما بتجريده
من معنى التفضيل ، أو بالمقايسة العرفية ، يقال ، الزنى أسوأ من النكاح ، يراد أحد
الأمرين ، إما بمعنى أن الزنى يسيء دون النكاح ، أو بمعنى أن العرف يرى ، أن الزنى
، أسوأ من النكاح ـ فيما يرى كليهما شيئا ـ ، ومعنى «التكفير» الحبط والمحو (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ) أي بمقابل أحسن (الَّذِي كانُوا
يَعْمَلُونَ) والمراد ب «الذي» الجنس ، أي أحسن الأعمال التي كانوا
يعملونها ، وهذا كالسابق أيضا ، فالمراد جزاؤهم بكل حسنة ، وفي الأحسنية ،
الاحتمالان ، فالله سبحانه يجزي المحسنين ، بما يشاءون لتحقيق تكفير خطاياهم
وجزاؤهم بحسناتهم.
[٣٧] وقد كان
المشركون يخوفون الرسول ، بأنه إن استمر في دعوته أصابه منهم ومن آلهتهم المكروه ،
فرد الله عليهم بقوله (أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ) استفهام للإنكار ، أي أن الله يكفي عبده ، كل ما أهمه ،
فلا يمكن الأعداء من الوصول إليه (وَيُخَوِّفُونَكَ) يا رسول الله (بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ) أي بالأصنام ، وعبدتها الذين هم دون الله ، فقد كانوا
يقولون للرسول ، إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا لأنك تعيبها (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بأن يترك لطفه الخاص عنه ، بعد أن أراه الطريق ، فانحرف
فَما
لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
____________________________________
(فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه سبل الرشاد ، إذ الهداية خاصة به سبحانه ، وهي
هدايتان ظاهرة ، وقد أعرضوا عنها ، وخفية ، والله منعهم إياها ، حيث رأى إعراضهم
عن الهداية العامة.
[٣٨](وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) بأن لطف به ألطافه الخاصة ، بعد أن جاء في الطريق بمجرد
الهداية العامة (فَما لَهُ مِنْ
مُضِلٍ) أي لا أحد يتمكن من إضلاله ، لأن لطف الله يرعاه (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) يعز من سلك طريقه فلا يقوى أحد على إضلاله بعد أخذ الله
بيده (ذِي انْتِقامٍ) ممّن انحرف عن الجادة ، وانتقامه منه أن يتركه في
الدنيا ضالّا لا يعتني به ، وفي الآخرة يذيقه من النار ، والاستفهام للإنكار ،
يعني أن الله عزيز منتقم.
[٣٩] ثم يأتي
السياق لعدة مباحثات مع المشركين حول شركهم (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ) أي سألت يا رسول الله هؤلاء المشركين (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) هل الله أم شركاؤكم؟ (لَيَقُولُنَ) في الجواب (اللهُ) خلقهما ، لأنهم ، لا يتجرءون أن يقولوا أن الأصنام
خلقتهما (قُلْ) يا رسول الله لهم ، بعد أن اعترفوا بأن الله خلق
السماوات والأرض (أَفَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني هل إن الله إذا أضرّ أو نفع ، الأصنام تقدر
على خلاف ذلك؟ وطبيعي أن الجواب : لا ، إذا فما شأن الأصنام في الكون ، أو في نفس
الإنسان ، حتى يتخذها الإنسان آلهة؟ (ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ) أي الأصنام التي
إِنْ
أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ
هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩)
____________________________________
تدعونها ، سوى الله (إِنْ أَرادَنِيَ
اللهُ بِضُرٍّ) أي قصد الله إضراري ، بمرض أو فقر أو بلاء (هَلْ هُنَ) أي الأصنام ، والإتيان بضمير العاقل ، لتوحيد السياق
بين كلام الكفار الذين اعتقدوا ، أن الأصنام عقلاء ، وبين كلام القرآن في المناقشة
معهم (كاشِفاتُ ضُرِّهِ) أي دافعات للضر الذي جاء من قبل الله تعالى؟ (أَوْ أَرادَنِي) الله (بِرَحْمَةٍ) من غنى أو صحة ، أو أمن ، أو جاه ، أو نحوها (هَلْ هُنَ) أي الأصنام (مُمْسِكاتُ
رَحْمَتِهِ) بأن تقدر على أن تمانع الله حتى لا يتمكن سبحانه من
الرحمة والفضل؟ وإذا أجاب الكفار بالنفي ، كان المجال لأن يقال لهم ، إذا فما
فائدة الأصنام حتى يعبدها الإنسان؟ (قُلْ) يا رسول الله ، إذن ، (حَسْبِيَ اللهُ) أي يكفيني الله عن غيره من الآلهة ، فلا أعبد إلا إياه (عَلَيْهِ) أي على الله (يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ) أي أن اللازم ، أن يتوكل عليه من يريد التوكل ، ويفوض
أمره إليه دون سواه.
[٤٠](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء القوم (يا قَوْمِ) إذا لم تقبلوا عظتي ، ف (اعْمَلُوا) أنتم (عَلى مَكانَتِكُمْ) أي حالكم الذي أنتم عليه ، وهذا تهديد ، كما تقول
للمجرم ، اعمل ما شئت ، والمراد سترى جزاؤك السيئ (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الدنيا أو الآخرة.
مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
اللهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها
____________________________________
[٤١](مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي يذله ويهينه؟ هل هو أنا أم أنتم؟ (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) في الآخرة ، ولعل المراد ، ب «عذاب يخزيه» عذاب الدنيا.
[٤٢] إن إيمان
المؤمن يعود نفعه على نفسه ، وضلال الكافر يعود ضرره على نفسه ، فلا يهمك يا رسول
الله ، من ضل بعد إتمام الحجة (إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (لِلنَّاسِ) أي لهداية الناس (بِالْحَقِ) أي إنزالا بالحق ، فلم يكن إنزالا بالباطل ، أو لأجل
الباطل ، (فَمَنِ اهْتَدى) بالقرآن (فَلِنَفْسِهِ) أي تعود فائدة هدايته إلى شخصه (وَمَنْ ضَلَ) وانحرف عن الطريق (فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها) أي على ضرر نفسه ، إذ تعود عقوبة الضلال على نفسه (وَما أَنْتَ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) أي على الناس ، أو على من ضل (بِوَكِيلٍ) حتى تكون مسئولا ، عمن لم يقبل الهداية ، وإنما أنت
مبلغ ومنذر.
[٤٣] إن الخلق
بيد الله ، وإيصال الضرر والنفع منه ـ كما مرّ ـ والإماتة بإذنه ، فما يكون بعد
ذلك شأن الأصنام ، التي يعبدونها هؤلاء؟ (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ) أي يميتها ، و «توفى» متعد ، ولذا ، فالمتوفي بصيغة
الفاعل هو الله ، والمتوفي بصيغة المفعول هو الإنسان (حِينَ مَوْتِها) أي حين الموت المقدر لها ، وانقضاء أجلها ، والمراد
بالأنفس ، هي
وَالَّتِي
لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ
____________________________________
الإنسان ، لا نفس الإنسان ـ بمعنى روحه ـ حتى يقال ، إن الروح لا تموت (وَالَّتِي) أي النفس (لَمْ تَمُتْ فِي
مَنامِها) بأن كان الإنسان نائما ، ولم يخرج روحه الذي به الحياة
بعد ، فإنه في قبضة الله ، فإذا شاء أماته ، بأن لا يرسل روحه الذي أخذه ، وإن شاء
أرسله حتى يستيقظ ، ومن المعلوم ، أن الروح الذي أخذه سبحانه عند المنام ، هو ما
به من الحس والعقل ، فإذا شاء موته ، أخذ بقية الروح أيضا ، وإن شاء عدم موته ،
أرسل المقدار الذي أخذه (فَيُمْسِكُ الَّتِي) أي النفس التي (قَضى) الله وحكم (عَلَيْهَا الْمَوْتَ) فلا يعيدها إلى البدن (وَيُرْسِلُ) الله النفس (الْأُخْرى) التي لم يقض عليها الموت لأن تبقى في البدن (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة محدودة ، قد سميت في اللوح المحفوظ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من الإماتة للإنسان اليقظ ، والإماتة للإنسان
النائم ، وإرجاع الروح إلى بعض النائمين ليبقى حيا إلى مدة محدودة مقدرة (لَآياتٍ) دلالات على وجود الله (لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) وإلا فمن أمات الإنسان في اليقظة؟ ومن أمات بعض
النائمين؟ ومن أعاد الروح لبعض النائمين حتى يقوم؟ وقوله «والتي لم تمت» عطف على «الأنفس»
من باب عطف الخاص على العام ، وإنما جاء بهذا العطف تمهيدا للتفضيل الذي ذكره بعد.
[٤٤] فالأصنام
، إذن لا شأن لها في الكون ، بقي للمشركين أن يقولوا ، أنهم يعبدونها ، لأجل أنها
تشفع لهم يوم القيامة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ
شُفَعاءَ
قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
____________________________________
شُفَعاءَ)؟ أي قالوا بأنها شفعاؤهم ، ومعنى من دون الله ، أن
الشفاعة لله مسلمة ، فهم إنما اتخذوا غيره شفيعا (قُلْ) يا رسول الله ، في رد هذه الحجة (أَوَلَوْ كانُوا) أي الأصنام (لا يَمْلِكُونَ
شَيْئاً) من أمر الشفاعة (وَلا يَعْقِلُونَ)؟ يعني حتى في هذه الصورة تعتبرون الأصنام شفعاء؟
والإتيان بضمير العاقل للأصنام ، لتوحيد السياق ، مع كلام المشركين.
[٤٥](قُلْ) يا رسول الله (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ
جَمِيعاً) فأمرها بيده ، ليس لأحد ، فإذا شاء أن يشفع لأحد أمر
نبيا أو إماما أو صالحا أن يشفع (لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومن جملة أملاكه ملكه للشفاعة ، فلا يغتر القوم ، بأن
يعبدوا الأصنام بزعم الشفاعة (ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أيها البشر ، فهو المبدئ ، وهو المعيد ، وهو بيده
الشفاعة وحده ، حتى إن الأنبياء ، ومن إليهم (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) .
[٤٦](وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) بأن لم يأت الذاكر بذكر غيره ، من الأصنام (اشْمَأَزَّتْ) الاشمئزاز الانقباض والنفور عن الشيء ، أي نفرت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ) ممن كفروا بالله ، وجعلوا له
__________________
وَإِذا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ
بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
____________________________________
شركاء ، وإنما أتى بهذا الوصف للتلازم بين عدم الإيمان بالتوحيد وعدم
الإيمان بالآخرة (وَإِذا ذُكِرَ) الأصنام (الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ) أي من دون الله (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يفرحون ، فإذا قال قائل «الله» نفروا ، وإذا قال «اللات»
فرحوا ، وهذا عجيب إذ إنهم ، كانوا يعبدون الله والشركاء ـ في زعمهم ـ فما الذي
أوجب اشمئزازهم من «الله» ولم يوجب إلا فرحهم من «اللات» مثلا؟.
[٤٧](قُلِ) يا رسول الله (اللهُمَ) أي يا الله ، والميم عوض عن ياء النداء ، يا (فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي يا خالقهما ومبدعهما ، من فطر بمعنى خلق ، يا (عالِمَ الْغَيْبِ) الذي غاب عن الحواس ، سواء كان موجودا غير محسوس ، أو
مما سيوجد (وَالشَّهادَةِ) أي الشيء المشهود الحاضر ، الذي يحس بالحواس (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) المؤمنين والمشركين (فِي ما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والشرك ، وسائر الأمور ، فبيدك الخلق
والمعاد ، وأنت العالم بكل شيء ، وفي هذا تعريض بالآلهة الباطلة ، التي لا خلق لها
ولا علم ، ولا تملك من الإعادة شيئا.
[٤٨] وهناك في
القيامة لا ينفع الكفار شيء ، فليتأهبوا لذلك اليوم من ها هنا قبل أن يبلسوا (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والعصيان
ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)
وَبَدا
لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
فَإِذا
مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا
____________________________________
(ما فِي الْأَرْضِ) من الأموال والمعادن والثروات (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وهذا من باب المثال ، وإلا فعشرة أضعافه أيضا بذلك
الحكم (لَافْتَدَوْا بِهِ) أي جعلوا مالهم بدلا عن أنفسهم (مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) ليفكوا أنفسهم من النار ، ويخلصوها من العقاب ، ولكن لو
فرض ذلك؟ هل كان ينفعهم؟ كلا (وَبَدا لَهُمْ) أي ظهر لهم هناك (مِنْ) طرف (اللهِ) سبحانه (ما لَمْ يَكُونُوا
يَحْتَسِبُونَ) أي صنوفا من العذاب لم يكونوا يظنون أن الله أعدها لهم
، من كثرتها ، وشدة ألمها ووقعها.
[٤٩](وَبَدا لَهُمْ) أي ظهر لهم هناك (سَيِّئاتُ ما
كَسَبُوا) أي جزاء أعمالهم التي كسبوها ، فكأنّ الجزاء سيئة لما
عمل الإنسان (وَحاقَ بِهِمْ) أي حل وأحاط بهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) فقد كانوا يستهزءون بالعذاب ، ويوم القيامة ينزل بهم
العذاب ، الذي استهزءوا به وضحكوا منه.
[٥٠] ومن عجيب
أمر هؤلاء المشركين أنهم يتذكرون الله عند الشدة ، فإذا تفضل عليهم بالرخاء نسوه ،
ونسبوا الفضل إلى ذكائهم الشخصي وعلمهم (فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ) من مرض ، أو فقر ، أو بلاء ، أو عدو ، أو ما أشبه (دَعانا) استغاث بنا لكشفه وإنقاذه منه (ثُمَّ إِذا)
خَوَّلْناهُ
نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا
____________________________________
استجبنا دعاءه و (خَوَّلْناهُ) أي أعطيناه (نِعْمَةً مِنَّا) أي من طرفنا بأن بدلنا مرضه صحة ، وفقره غنى ، وهكذا (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي أعطيت هذا الشيء المخول إلي ، والمراد به النعمة (عَلى عِلْمٍ) مني ، ولا يرتبط بالتقدير ، وإعطاء الله سبحانه ، فقد
أدت فطنتي وعملي إلى الحصول على هذا (بَلْ هِيَ) أي هذه النعمة (فِتْنَةٌ) امتحان واختبار ، ليعرف بذلك قدر شكره ، فليس حصوله
بعلمه ، وإنما أعطاه الله سبحانه ليمتحنه ، هل يبقى على عهده الذي دعا الله فيه أم
لا؟ فيجازيه حسب عمله (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَعْلَمُونَ) أن النعم من الله ـ لا من فطنتهم ـ وأنها للاختبار ، لا
مجرد نعمة فحسب.
[٥١](قَدْ قالَهَا) أي قال مثل هذه الكلمة ، وهي (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) كما سبق من كلام قارون (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) أي من قبل هؤلاء ، فكل ضعيف الإيمان ، إذا رأى النعمة
ظنها من فطنته (فَما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أن كسبهم لم يغن عنهم ، ولم يفدهم في دفع عذاب الله
تعالى.
[٥٢] وإذ بطروا
عند النعمة ، ولم يؤدّوا حقها وشكرها (فَأَصابَهُمْ) أي أولئك الذين من قبلهم (سَيِّئاتُ ما
كَسَبُوا) أي وصل إليهم عقاب أعمالهم السيئة ، فإضافة «سيئات» إلى
«ما» من باب إضافة الصفة إلى
وَالَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
____________________________________
الموصوف ، أو أن المراد من «السيئات» العقاب ، سمي سيئة ، لمشاكلته للسيئة
، مثل (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْ هؤُلاءِ) القوم المعاصرين للرسول (سَيُصِيبُهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب أولئك الأقوام (وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ) أي أنهم لا يتمكنون من إعجاز الله سبحانه ، حتى لا
يتمكن من أخذهم وعقابهم ، لفرارهم من ملكه ، أو امتناعهم من نفوذ إرادته فيهم.
[٥٣] إن هؤلاء
يظنون أن النعمة ، إنما أتتهم من علمهم وفطنتهم (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي يوسعه عليه (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق على من يشاء ، فليس لعلمهم مدخل في توسعة
الرزق ، ولذا نرى أناسا كثيرين لهم فوق فطنة أولئك ، وذكائهم ، ومع ذلك رزقهم ضيق
لا وسعة فيه ، كما نرى أناسا دون فطنتهم وعلمهم ، ورزقهم أوسع من هؤلاء (إِنَّ فِي ذلِكَ) البسط والضيق (لَآياتٍ) أي دلالات دالة على وجوده سبحانه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وإنما خصهم لأنهم المنتفعون بالآيات.
[٥٤] وإذ تبين
خطأ هؤلاء ، فإن الباب أمامهم مفتوح إذا أرادوا الدخول ، وليس العاصي آيسا من رحمة
الله ، فإنه يقبل التائب مهما كان
__________________
قُلْ
يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
____________________________________
عصيانه (قُلْ) يا رسول الله للعصاة ، تحكي لهم كلامي الذي وجهته إليهم
(يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بارتكاب الكفر والآثام ، والإسراف هو التعدي عن الحدود
، فإن الكافر والعاصي يتعديان عن حدود العبودية ، أمام الله سبحانه (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أي لا تيأسوا من غفرانه وفضله ، ف (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً) لمن جاءه نادما تائبا (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ الْغَفُورُ) لذنوب عباده (الرَّحِيمُ) بهم يتفضل عليهم بالرحمة فوق غفران ذنبهم.
[٥٥](وَأَنِيبُوا) الإنابة ، هي الرجوع عن الذنب ، أي أيها العصاة ، توبوا
(إِلى) الله (رَبِّكُمْ) وارجعوا إليه (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي انقادوا إليه بالطاعة ، فيما يأمركم وينهاكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ) في الدنيا بالهلاك ، أو في الآخرة في القبر ، أو يوم
القيامة (ثُمَ) إذا جاء العذاب (لا تُنْصَرُونَ) أي لا ينصركم أحد من الأصنام ، أو أصدقائكم العصاة.
[٥٦](وَاتَّبِعُوا) أيها الناس (أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) فمثلا أنزل الله إباحة المنام ، واستحباب العبادة في
الليل ، فاتباع الأحسن ، هو العبادة ـ في المثال ـ وهذا على سبيل الترغيب ، لا
الإلزام (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ
____________________________________
يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً) أي فجأة بدون إنذار سابق (وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ) به وبوقته ، فإذا ترون أنفسكم فيه حيث لا مناص ولا خلاص
، وعدم اتباع الأحسن لا يوجب ذلك ، وإنما الموجب العصيان ، فهذا مربوط بالآية
السابقة ، وإنما كرر «العذاب» لترتيب أمرين عليه ، الأول أنهم لا يضرون ، والثاني
إتيانه بغتة حين لا يشعرون.
[٥٧] أنيبوا
إلى الله وأسلموا قبل إتيان العذاب ، حتى لا تتحسروا ـ إن بقيتم على الكفر
والعصيان ـ ل (أَنْ) لا (تَقُولَ نَفْسٌ) أي شخص ، أو كراهة ، أن تقول نفس (يا حَسْرَتى) أي يا قوم لي الحسرة ، أو يا حسرتي احضري ، فهذا وقتك ،
والتحسر ، هو التأسف على ما فات ، والالف بدل من ياء المتكلم ، قال ابن مالك :
واجعل منادي
صح ، أن يضف ليا
|
|
كعبد عبدي عبد
عبدا عبديا
|
(عَلى
ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي على تفريطي وتقصيري في إطاعة أمر الله سبحانه ،
والحال قد كنت عند الله سبحانه ، وهذا كما يقول أحدنا : كنت إلى جنب العالم ، ولم
أتعلم منه ، والله سبحانه منزه عن الجنب ، ولكن قرب أحكام الدين والمرشدين إلى
الإنسان ، نزلّ منزلة القرب من الله تعالى تشبيها للمعقول بالمحسوس ، لتقريب الذهن
، وهذا هو المراد مما ورد عن الباقر عليهالسلام ، أنه قال : «نحن جنب الله» .
__________________
وَإِن
كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ
(٥٦) أَوْ
تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
(٥٧) أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(٥٨) بَلَى
قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ
بِهَا
وَاسْتَكْبَرْتَ
____________________________________
(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، أي يا حسرتي عليّ ، إني كنت من المستهزئين بالرسول
، وبأحكام الله.
[٥٨](أَوْ تَقُولَ) نفس (لَوْ أَنَّ اللهَ
هَدانِي) في الدنيا وأرشدني (لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) فقد أراكم الله الطريق ، حتى لا يكون لكم هذا العذر
هناك.
[٥٩](أَوْ تَقُولَ) نفس (حِينَ تَرَى
الْعَذابَ) الذي يحيط بها (لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً) أي ليت لي رجوعا إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) حتى إذا مت ثانية ، لا أرى العذاب ، فإنّا ننصحكم ، بأن
تنيبوا وتسلموا قبل أن تقولوا هذا القول ، حيث لا ينفعكم ، ويقال لكم (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) .
[٦٠] وحينذاك
يقال لهذا المتحسر والمتمني (بَلى) أي ليس كما قلت ، فإن «بلى» تأتي غالبا لنفي ما تقدم ،
نحو (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) فإنك ، لا ترجع بعد أن ظهرت سيئاتك ، حين ما أتاك
الدليل والحجة فلم تقبل (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) على لسان الأنبياء والأئمة ، فقد أوضحوا لك الحجج
والأدلة (فَكَذَّبْتَ بِها) ولم تقبلها (وَاسْتَكْبَرْتَ) بأن استعليت
__________________
وَكُنتَ
مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى
لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ
الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
(٦٢)
____________________________________
على أن تقبلها (وَكُنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ) بالله وبما أنزل.
[٦١](وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) فزعموا أن له شريكا أو ولدا ، أو أنه ليس بعادل ، أو لم
يرسل رسولا ، أو ما أشبه (وُجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ) شديدة السواد ، فقد تكبروا هنا ـ ومظهر الكبر هو الوجه ـ
وهناك يعاقب الوجه بهذا العقاب الظاهر ، لكل رأس يذل صاحبه ويهينه (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي محل ثوي ، وهو المنزل ، من ثوى ، إذ اتخذ المنزل
والمسكن (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) استفهام يريد به الإنكار ، أي أن جهنم مثواهم.
[٦٢](وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي خافوا ، فلم يكفروا ، ولم يعصوا (بِمَفازَتِهِمْ) المفازة مصدر ميمي ، أي بسبب فوزهم ، حيث أنهم قد فازوا
في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح ، ويكون لهم في الآخرة النجاة والفلاح من النار
والعذاب (لا يَمَسُّهُمُ
السُّوءُ) أي العذاب والشدة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) على ما يراد بهم ، إذ لا حزن لهم.
[٦٣](اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا شريك له في خلق أو تكوين (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حفيظ حارس ، فكما أن الوكيل يعمل للموكل ،
لَهُ
مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ
هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
____________________________________
ويحفظ ما يتعلق به ، كذلك الله سبحانه يربي كل شيء ويكلؤه ، بحراسته وحفظه
، فليس للأصنام خلق ولا حفظ.
[٦٤](لَهُ مَقالِيدُ) جمع مقلاد ، وهو المفتاح (السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فمفتاح كل شيء بيده ، مثلا : مفتاح المطر الريح ،
ومفتاح النبات المطر ، ومفتاح المرض السموم ، وهكذا ، فإن كل شيء بيده مفتاحه ،
وهذا كناية عن أن الأمور الكونية ، كلها بيده ، وليس للأصنام شيء (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) دلائله وحججه ، بأن أنكروه ، أو جعلوا له شريكا (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين يخسرون دنياهم وآخرتهم ، أما الدنيا ، فإن لهم
فيها معيشة ضنكا ، وأما الآخرة ، فإن لهم فيها النار.
[٦٥](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يعيبون عليك توحيدك لله سبحانه
(أَفَغَيْرَ اللهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) أصله «تأمرونني» ثم أدغمت نون الوقاية في نون الجمع (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) فأنتم تريدون ، أن أشرك بالله ، كما أشركتم ، وهذا جهل
بالحقيقة ، فإن الله لا شريك له ، والأصنام جهل بالحقيقة ، فإن الله لا شريك له ،
والأصنام ليست بشيء ؛ فإن مستواها أنزل من مستوى نبتة صغيرة ، فكيف تجعلونها شريكة
الله.
[٦٦] ثم أكد
الله سبحانه شأن التوحيد ، حتى أن كل أحد أشرك حبط عمله ، ولو كان نبيا ، وقد تقرر
في الأدب والمنطق ، أن صدق الشرطية بصدق التلازم ، وإن استحال خارجية أحد الطرفين
، كما لو قلت : لو جمع
وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
____________________________________
النقيضان تغير وجه العالم ، فإن كلا من جمع النقيضين ، وتغير وجه العالم ،
هكذا ، مستحيل ، إلا أن القضية صادقة للتلازم ، ومن هذا الباب قوله سبحانه (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) يا رسول الله (وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء والرسل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) بالله ، ودعوت معه غيره (لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) وحبط العمل بطلانه ، بأن لا يكون له ثواب ، أي لم يكن
لك أجر على أعمالك الحسنة (وَلَتَكُونَنَ) حين أشركت (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، دنياهم وآخرتهم ، وتوجه
الخطاب إلى الرسول ، وسائر الرسل ، لتنبيه الناس ، بأن الأمر هكذا ، حتى بالنسبة
إلى أعظم الناس.
[٦٧](بَلِ اللهَ) وحده (فَاعْبُدْ) يا رسول الله (وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) لنعمائه.
[٦٨](وَما قَدَرُوا اللهَ) أي الكفار (حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق عظمته ، حيث جعلوا له شريكا ، وأنكروا
قدرته على البعث ، والحال أنه قادر على كل شيء (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً) بجميعها ، وجميع ما فيها (قَبْضَتُهُ) والقبضة هي ما قبضت عليه بجميع كفك (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أن يوم القيامة تكون الأرض تحت قدرته سبحانه ،
كالشيء الذي في قبضة الإنسان (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي ملفوفات بعضها حول
سُبْحانَهُ
وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ
____________________________________
بعض ، وكلها في يده اليمنى ، وإنما قال «بيمينه» لأن اليمين أقدر على القبض
، وهذا من باب التشبيه ، يعني أن الكون كله تحت قدرته القوية ، حتى أن السماوات
بالنسبة إليه ، كالثوب المطوي ، في يد أحد أفراد الإنسان ، وأن الأرض بالنسبة إليه
، كالشيء المقبوض في الكف ، وهذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس للتقريب إلى الذهن
، كما يقال : أن المملكة خاتم في إصبع فلان ، يراد قدرته الزائدة على إدارتها ،
كقدرة الشخص على إدارة خاتمه ، وإنما قال «يوم القيامة» مع أن السماوات والأرض ،
هكذا ، بالنسبة إليه ، قبل ذلك؟ لأن الكلام حول قدرة الله سبحانه ، على إعادة
الأرواح إلى الأجساد ، في ذلك اليوم ، فالآية بصدد أن قدرته تعالى في ذلك اليوم ،
بهذا القدر الهائل ، فكيف لا يقدر على بعث الناس ، وقد فهم ـ بالتلازم ـ بطلان
الشركاء ، إذ الكون كله تحت قدرته وحده بلا شريك ولا ظهير (سُبْحانَهُ) أي أسبحه سبحانا ، وأنزهه تنزيها (وَتَعالى) أي أنه رفيع ، فإن الفعل منسلخ عن معنى الماضي ، كما في
سائر صفات الذات (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الأصنام ، التي يشركونه بها.
[٦٩](وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) قد تقرر في البلاغة ، أن المضارع المتحقق وقوعه ، يؤتى
بصيغة الماضي ، لإفادة أنه لمعلومية وقوعه ، كأنه قد وقع وانقضى ، والصور بوق ينفخ
فيه إسرافيل مرتين ، مرة علامة لانقضاء العالم ، ورحيل الجميع منه إلى الآخرة ،
وبذلك يموت الناس كلهم ، ومرة علامة ، لابتداء عالم الآخرة ، وبذلك يحيى الناس
كلهم ، وهذا كالذي يصنعه أمير القافلة ، حين إرادة الرحيل ، وإرادة النزول ، من
النفخ في البوق ، والمراد بهذا النفخ هنا هو الأول
فَصَعِقَ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ
فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ
____________________________________
(فَصَعِقَ) أي مات (مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة وغيرهم (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من أفراد البشر وغيرهم (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) كالأملاك الأربعة ، جبرئيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ،
وعزرائيل ، وغيرهم ، والتفصيل في كتاب «البحار» (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) أي في الصور نفخة (أُخْرى) حين إرادة ابتداء القيامة ، والشروع في العالم الآخر (فَإِذا هُمْ) أي البشر والملائكة ، وغيرهم (قِيامٌ) أي قائمون من قبورهم ، وهو جمع «قائم» (يَنْظُرُونَ) إلى المحشر ، منتظرين ماذا يفعل بهم؟ وقوله «فإذا هم»
للدلالة على سرعة قيامهم عقيب النفخة ، فإن الإحياء فجائي.
[٧٠](وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي بعدله سبحانه ، كما يقال : أشرق البلد بنور فلان إذا
أخذ بالزمام ، حيث أنه يعدل ويحسن في مقابل سالف الأيام ، التي كانت الأرض مظلمة ،
بظلم الظالمين (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي وضعوا الكتاب في الوسط ، وهو كتاب أعمال العباد ،
وكأنه كان قبل ذلك في زاوية بعيدة ، ثم أتى به للمحاسبة ، وهذا كما يقال للمحاسب :
ضع الدفتر حتى نحاسب ، والكتاب اسم جنس يشمل كتب الخلائق كلهم (وَجِيءَ) في ساحة المحاكمة (بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ) جاء بهم الله سبحانه ، ليحاكموا الأمم ، ويشهدوا عليهم
،
وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩)
وَوُفِّيَتْ
كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
وَسِيقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ
____________________________________
فالمراد بالشهداء الذين يشهدون على العباد بما عملوا ، وهم صالحوا كل أمة ،
إذ كانوا في وسط الأمة ناظرين إلى أعمالهم ، فيشهد الصالح الفلاني ، بأن القوم ،
كانوا يضلون ، والصالح الفلاني ، بأن القوم كانوا يشربون الخمر ، وهكذا (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم الله ، ومن جعله حاكما هناك «بينهم» أي بين
الناس (بِالْحَقِ) والعدل بإعطاء كل ذي حق حقه ، بلا حيف ولا جور (وَهُمْ) أي الخلق (لا يُظْلَمُونَ) في الحكم بأن ينقص من حق ، أو يزاد اعتباطا.
[٧١](وَوُفِّيَتْ) أي أعطيت وافيا (كُلُّ نَفْسٍ ما
عَمِلَتْ) أي يعطى كل إنسان حسب أعماله وافيا ، فالمحسن يوفّى
بالإحسان ، والمسيئ بالنكال (وَهُوَ) سبحانه (أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ) في الدنيا ، فيجازيهم حسب ما علم ، بلا تغيير أو خطأ ،
أو زيادة ونقيصة.
[٧٢](وَ) بعد تمام الحساب (سِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) ساقهم الملائكة بالجبر والعنف (إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) جمع زمرة ، وهي الفوج ، أي يساقون زمرة فزمرة ، وفوجا
ففوجا ، كل فوج مشتمل على متشابهي الأعمال ، كالزناة والمقامرين ، وهكذا (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي وصلوا إلى جهنم (فُتِحَتْ أَبْوابُها) لهم ، وهي سبعة أبواب ، حتى يدخل كل فوج من الباب ،
المناسب بحالهم والمقرر لهم (وَقالَ لَهُمْ) أي لأولئك الكفار
خَزَنَتُها
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١)
قِيلَ
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
(٧٢)
____________________________________
(خَزَنَتُها) جمع خازن ، وهو الموكل بالشيء ، أي الموكلون بجهنم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها المجرمون (رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ) أي يقرءون على مسامعكم (آياتِ رَبِّكُمْ) أدلته وحججه (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ
هذا) أي من مشاهدة هذا اليوم وعذابه ، وهذا الاستفهام منهم ،
إنما هو على وجه التقريع والتبكيت ، وإلا فالخزنة يعلمون ذلك (قالُوا) أي قال الكفار في جواب الخزنة (بَلى) قد جاءتنا رسل ربنا ، وخوفونا من هذا اليوم (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ
عَلَى الْكافِرِينَ) فإنا قد كفرنا ، فثبت في حقنا ما قاله سبحانه ، بأن من
كفر يعاقب بالنار ، وهذا ، كما يقول أحدنا «هكذا مصيري» في يأس وانقطاع ، وإنما لم
يقولوا «علينا» مكان «على الكافرين» لإفادة ، أن سبب عذابهم ، هو كفرهم ، فهو حكم
مع ذكر العلة.
[٧٣] وحينذاك (قِيلَ) والقائل الخزنة (ادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ) أي ادخلوها من أبوابها (خالِدِينَ فِيها) أي في حال كونهم باقين فيها أبد الآبدين (فَبِئْسَ) ، هذا المحل ـ في جهنم ـ (مَثْوَى) أي محل إقامة (الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين تكبروا في الدنيا عن الحق ، حتى صاروا إلى هذا
المكان.
وَسِيقَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ
____________________________________
[٧٤](وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) أي خافوا في الدنيا عذابه ، فأطاعوه ، فيما أمر ونهى ،
وإنما يساقون بإكرام وإعظام (إِلَى الْجَنَّةِ
زُمَراً) زمرة فزمرة ، كل فوج في أشكالهم ، فالمصلون صلاة الليل
زمرة ، والتالون للقرآن زمرة ، وهكذا (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي وصلوا إليها (وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها) ليدخل كل فوج من الباب المناسب لعمله المعدّ له ،
وللجنة ثمانية أبواب والإتيان بالواو في «وفتحت» دون «فتحت» في الآية السابقة
للتفنن الذي هو نوع من البلاغة (وَقالَ لَهُمْ) أي لأهل الجنة (خَزَنَتُها) جمع خازن ، وهو الموكل بالشيء (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إما بقصد التحية ، وإما بمعنى ، أن السلامة من الآفات
والبليات عليكم ، تظللكم دائما ، ولذا لم يقل «لكم» فإن «على» تفيد معنى الإحاطة
والشمول (طِبْتُمْ) أي صرتم طيبين هنا بسبب أعمالكم الطيبة في دار الدنيا (فَادْخُلُوها) أي ادخلوا الجنة ، من أبوابها (خالِدِينَ) أي في حال كونكم ، دائمين فيها أبد الآبدين ، لا خروج
لكم عنها ، وكان الإتيان بواو العطف في الجملتين ، لإيجاد فراغ في الذهن ، حتى
يبقى منتظرا لأصناف الكرامة ، وألوان اللذة ، فليس الأمر ينتهي بقول الخزنة ،
وإنما ، لـ «حتى» جواب طويل عريض باق مدى الأبد.
[٧٥](وَقالُوا) أهل الجنة بعد دخولها (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي
وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
____________________________________
صدق في وعده لنا بأنا إن عملنا صالحا أدخلنا الجنة (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنة ، نقلها إلينا ، كالميراث الذي ينقل إلى
الوارث ، ولعل التعبير بلفظ الأرض ، لبيان أنهم جازوا أرض الجنة ، وغرفها ، حيث قالوا
بعد ذلك (نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي نأخذ المنزل من قصورها ، أيّ محل شئنا فما هو مقدر
لنا ـ وفي ذلك إشارة إلى سعة قصورهم ، وأرض الجنة لكل إنسان ـ و «نتبوأ» من «تبوّأ»
بمعنى اتخذ المنزل ، أصله «باء» إذا رجع ، إذ المنزل مرجع الإنسان ، كلما خرج عاد
إليه (فَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ) بالخيرات ، الجنة.
[٧٦](وَتَرَى) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ
الْعَرْشِ) قد أحاطوا بعرش الله سبحانه ، والعرش هو موضع جعله الله
سبحانه محلا تشريفيا ، أحاطه بعنايته ولطفه ، وجعله مصدر أمره ونهيه ، كما أن
البيت الحرام في الدنيا محل تشريفي له سبحانه ، ذاك بالنسبة إلى الملائكة ، وهذا
بالنسبة إلى البشر ، ويلتذ المؤمنين بهذه الرؤية ، كمن يلتذ إذا نظر إلى قصر الملك
المحاط بالجيش ، ورجال التشريفات ، فإن الإنسان يتقوى روحيا إذا نظر إلى محل القوة
والعزة ، وهم (يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزهونه عما لا يليق به بسبب الحمد ، فإذا قال
الإنسان «سبحان الله» كان تنزيها فقط ، أما إذا قال «الحمد لله» كان تحميدا
وتنزيها ، فإن وصف الممدوح بالجميل ، حمد وتنزيه له عن القبيح ، بخلاف التنزيه عن
القبيح ، فإنه ليس حمدا ـ
وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(٧٥)
____________________________________
كما مر ـ (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الناس (بِالْحَقِ) وهذا كموجز لما تقدم للتركيز عليه (وَقِيلَ) والقائل كل من هنالك (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا هو منتهى أهل التقوى في الدنيا ، وأكرم به من
عاقبة جميلة.
(٤٠)
سورة غافر
مكية / آياتها (٨٦)
وتسمى أيضا
بسورة «المؤمن» لاشتمالها على لفظي «غافر» و «مؤمن» ، وهي كسائر السور المكية ،
تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث ، الألوهية ، والرسالة ، والمعاد ، ولما
ختمت سورة «الزمر» بالحمد لله رب العالمين ، ابتدأت هذه السورة بذكر صفاته سبحانه
، التي بها استحق الحمد.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله ، المستجمع لجميع صفات الكمال ،
شعارا للمؤمن في مقابل شعار الكفار الذين كانوا يبتدئون «باسم اللات» ونحوه ،
وشعار النصارى الذين يبتدئون باسم «الأب والابن وروح القدس» وهكذا سائر الكفار
والمنحرفين ، وقد اعتادوا في زماننا أن يقولوا «باسم الشعب» في الحكومات
الديمقراطية .. (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) ، وصفان من مادة واحدة ، إفادة لقوة الرحمة ، في ذاته
سبحانه ، كما قال (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) .
__________________
حم
(١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ
وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
____________________________________
[٢](حم) «حاء» و «ميم» وجنسهما من سائر حروف الهجاء ، هي مادة هذا القرآن الذي يعجز
البشر عن الإتيان بمثله ، أو هو رمز بين الله ورسوله ، أو أن معناه ، الحميد
المجيد ، فهو ابتداء بعد البسملة ، باسمين من أسمائه سبحانه ، على طريق الرمز ، أو
غير ذلك.
[٣](تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي هذا هو إنزال القرآن (مِنَ) قبل (اللهِ الْعَزِيزِ) الغالب سلطانه (الْعَلِيمِ) الذي يعلم كل شيء ، فيعلم الصالح من غيره ، أو أن «تنزيل
الكتاب» مبتدأ «من الله» خبره.
[٤](غافِرِ الذَّنْبِ) صفته ، ل «الله» أي أنه سبحانه يغفر ذنوب عباده ، وهذا
على نحو القضية الطبيعية ، لا أن معناه أنه سبحانه ، يغفر كل ذنب (وَقابِلِ التَّوْبِ) جمع توبة ، كدوم جمع دومة ، أو مصدر من تاب يتوب توبا ،
والمعنى إن من تاب ورجع إليه سبحانه ، قبل توبته ، ولم يرده عن بابه خائبا (شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن كفر وعصى (ذِي الطَّوْلِ) الطول هو الإنعام الذي تطول مدته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع في المعاد ، فهو إله واحد له الفضل ، يغفر
لمن استغفره ، ويعاقب من عصاه ، وبيده العاقبة.
[٥] وإذ كان
الإله واضحا وجوده وصفاته ، من الآيات الكونية ، فإنه (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) الدالة على وجوده وصفاته (إِلَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا)
فَلا
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)
كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
____________________________________
فإنهم يخاصمون حول أصل وجود الإله ، أو صفاته ، وإلا فالمصنف لا بد وأن
يستدل من الآيات الكونية على وجوده سبحانه (فَلا يَغْرُرْكَ) يا رسول الله (تَقَلُّبُهُمْ) أي تقلب الكفار وتصرفهم (فِي الْبِلادِ) بالعزة والتجارة ، بأن يوجب هذا التصرف للمشاهد شكا في
أنه لو كان هناك إله لأخذهم أخذ مقتدر ، وضيّق عليهم المسالك ، فهو يغتر ، ويخدع ـ
عن الحقيقة ـ بهذا التقلب والتصرف ، فالخطاب ، وإن كان حسب الظاهر متوجها إلى الرسول
، إلا أنه في الحقيقة لإيقاظ الناس عامة ، أو أن المخاطب هو العام ، أي «لا يغررك
أيها الناظر إلى الكفار».
[٦] فإنهم إنما
يتقلبون بمهلة الله لهم حتى يستنفدوا كل أمرهم ، وتظهر ضمائرهم ، وهناك الأخذ
الشديد ، كما كان يفعل سبحانه بالأمم السابقة ، فقد (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار مكة (قَوْمُ نُوحٍ) رسولهم نوحا عليهالسلام (وَ) كذبت (الْأَحْزابُ) أي الأمم الذين تحزبوا على الرسل ، رسلهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد قوم نوح ، كعاد وثمود وقوم لوط وقوم إبراهيم
، وغيرهم (وَهَمَّتْ) أي قصدت (كُلُّ أُمَّةٍ) من تلك الأمم المكذبة (بِرَسُولِهِمْ) قصد سوء (لِيَأْخُذُوهُ) أي يأخذوا الرسول ، للحبس أو القتل أو النفي (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) أي خاصموا رسلهم بمجادلات ومحاورات باطلة ، حول
الألوهية والرسالة والمعاد (لِيُدْحِضُوا) أي يبطلوا (بِهِ) أي بسبب الجدال الباطل (الْحَقَ)
فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ
____________________________________
الذي أتى به الأنبياء (فَأَخَذْتُهُمْ) أي أخذت تلك الأمم بالعقاب ، بعد أن لم يبق رجاء في
هدايتهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي عقابي لهم؟ وحذف ضمير المتكلم تخفيفا ، وهذا تهديد
لكفار مكة ، بأنهم ، إن تمادوا في غيهم ، كان مصيرهم ، كمصير أولئك الأقوام ،
والاستفهام تقريري للإيقاظ والإلفات.
[٧](وَ) كما ثبتت كلمة العذاب على أولئك الأمم الذين كذبوا
الرسل (كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي ثبتت كلمة ربك بالعذاب ، بأن قال «سأعذبهم» وستنطبق
هذه الكلمة عليهم (عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا) من أهل مكة ، يا رسول الله (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) إما بمعنى ، لأنهم أصحاب النار ، فلذا ثبت في حقهم عذاب
الدنيا ، أو «أنهم» تأكيد «حقت» فيكون التشبيه في «كذلك» من حيث أصل العذاب ، وإن
كان المراد بالعذاب في الأمم السابقة عذاب الدنيا والآخرة ، وفي هذه الأمة في
الآخرة فقط.
[٨] إن أقرب الملائكة
إلى الله سبحانه منزلة هم مؤمنون بالله ، فكيف لا يؤمن هؤلاء؟ وأنهم يستغفرون
للمؤمنين ، فمن آمن فاز باستغفارهم ، فليستبشر المؤمنون (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وهم جماعة من الملائكة ، خلقهم الله سبحانه ، واضعين
العرش على أكتافهم ، زيادة في الهيبة والجلال ، كما لو شاهد الإنسان سرير ملك
محمولا على جماعة من الأشراف ، ومن الواضح أن الملائكة
وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧)
____________________________________
لا يتأذون بذلك ، كما أن العرش إنما هو محل شرّفه الله سبحانه ، لا أنه
محله ؛ فإنه منزه عن المكان (وَمَنْ حَوْلَهُ) أي حول العرش من الملائكة (يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزهون الله سبحانه ، تنزيها بالمدح ، فإن من قال
زيد ـ مثلا ـ شجاع كان حامدا له ومنزها له عن الجبن ، بخلاف من قال أنه ليس بجبان
، فإنه تنزيه فقط (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بربهم معترفين بوحدانيته ، وسائر صفاته ، ولعل تأخير
الإيمان ، عن التسبيح لأجل أن فيهم أظهر ، فإذا رآهم أحد ، سمع منهم التسبيح ، أما
الإيمان فإنه يعلم بالملازمة (وَيَسْتَغْفِرُونَ) أي يطلبون من الله الغفران (لِلَّذِينَ آمَنُوا) من أهل الأرض ، بأن يغفر الله لهم زلاتهم ، وما أسلفوا
من الكفر والعصيان ، ويقولون ، إذ يريدون الاستغفار للمؤمنين ، يا (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) أي وسعت رحمتك كل شيء ، فارحم المؤمنين واغفر لهم (وَعِلْماً) فإنك تعلم أنهم مطيعون ، وإنما يزلهم الشيطان ، أو
المراد ، نطلب منك الغفران على علمك بزلاتهم ، كما يقال «على علمك فاعف» يعني مع
أنك عالم نطلب العفو ، في مقابل طلب العفو من الذي لا يعلم ، فإنه أسرع عفوا ، إذ
لا يعلم بالتفاصيل (فَاغْفِرْ) يا الله (لِلَّذِينَ تابُوا) عن الكفر والعصيان (وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ) أي طريقك الذي هو الإسلام (وَقِهِمْ) أي واحفظهم ، من «وقى» «يقي» والأمر «ق» فالواو عاطفة (عَذابَ الْجَحِيمِ) حتى لا يعذبوا بها.
رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
____________________________________
[٩] يا (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ) أي أدخل المؤمنين (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة ، من «عدن» إذا أقام (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) على ألسنة الأنبياء ، ولعل هذا الدعاء بمعنى أثبتهم على
الإيمان حتى يدخلوا الجنان ، وإلا فالله سبحانه ، يفي بوعده حتما ، فلا حاجة إلى
الطلب ، أو أنه على طريق الضراعة والانقطاع (وَ) أدخل الجنات (مَنْ صَلَحَ مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي نسلهم ، ليكمل أنسهم بذلك ، فإن الإنسان ، عند
أحبائه آنس ، ومعنى من صلح ، من آمن وعمل صالحا (إِنَّكَ) يا رب (أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر على ما تشاء (الْحَكِيمُ) في أفعالك تفعلها ، حسب الصلاح والحكمة ، ولقد كان من
الصلاح ، أن وعدتهم بالجنة ، فأكمل ذلك لهم ، بإدخالهم فيها.
[١٠](وَقِهِمُ) أي احفظهم ، يا رب من (السَّيِّئاتِ) حتى لا يعملوا في الدنيا ما يوجب سخطك ، وعلى هذا فجملة
(وَمَنْ تَقِ) مستأنفة للمشابهة ، أو المراد قهم جزاء السيئات ، أو
أنواع العذاب التي هي سيئات ، وعلى هذا فجملة «ومن تق» تتمة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) أي تحفظه من جزاء المعاصي (يَوْمَئِذٍ) أي في الآخرة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) رحمة عظيمة (وَذلِكَ) أي حفظهم من العذاب هناك (هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) الذي لا فوز مثله.
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
____________________________________
[١١] وإذ يرون
الكفار النار ، وجزاء أعمالهم في الآخرة ، يغضبون على أنفسهم ، لم فعلوا ما
يستحقون به هذه النار والنكال؟ فيناديهم الملائكة أنّ غضب الله عليكم بسبب أعمالكم
أشد من غضبكم على أنفسكم! وهذا لتأليمهم روحيا ، فإن الإنسان إذا علم غضب الملك
العظيم عليه يتألم كثيرا (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنادَوْنَ) من قبل الملائكة يوم القيامة (لَمَقْتُ اللهِ) أي غضب الله عليكم (أَكْبَرُ) أي أشد وأكثر (مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ) أي من غضبكم على أنفسكم ، وذلك المقت (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ
فَتَكْفُرُونَ) أي إن هذين المقتين ، إنما كانا من وقت دعيتم إلى
الإيمان فكفرتم.
[١٢](قالُوا) وهم معترفون أذلاء ، قد رفع عن أعينهم الغشاء ، يا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) موتا حين كنا ترابا ، وموتا بعد الحياة الدنيوية ، أي
جعلنا ميتا مرتين ، والإماتة بالنسبة إلى الموت الترابي ، وإن كان خلاف المنصرف ،
إلا أنه غير بعيد ، بالنسبة إلى ما ورد في أحوال الإنسان ، حيث لا موت جديد ، بعد
الموت الدنيوي ، وما ورد أنه بالنسبة إلى الرجعة ، فالظاهر أنه من باب المصداق ،
وإلا فالكفار كلهم لا يحبون الرجعة ، وظاهر الآية أنه بالنسبة إلى الكلي (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي حياتين ، حياة بالتولد في الدنيا ، وحياة بعد الموت
في القيامة ، وإنما يقول الكفار ذلك خضوعا وتخشعا ، كالمجرم الذي يعترف بذنبه
تخشعا ، ويريدون بذلك اعترافهم ، بأن أزمّة الأمور بأيدي الله سبحانه
فَاعْتَرَفْنا
بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)
ذلِكُمْ
بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ
____________________________________
(فَاعْتَرَفْنا
بِذُنُوبِنا) ، حيث كفرنا بك وعصينا (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) من حالة القيامة والنار ، إلى الدنيا لنعمل صالحا (مِنْ سَبِيلٍ)؟ وهذا طلب بتأدب خوفا ووجلا من الطلب الصريح.
[١٣] لكن لا
مجال لهم في الخروج ، ويقال : (كَلَّا إِنَّها
كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) ثم يقال لهم (ذلِكُمْ) العذاب الذي حل بكم ، و «كم» خطاب (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) وإنه لا إله إلّا هو ، كما كان يدعوه المؤمنون (كَفَرْتُمْ) وأنكرتم أن يكون واحدا (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) أي بالله (تُؤْمِنُوا) بالآلهة المتعددة كما كان يفعل المشركون (فَالْحُكْمُ) أي فصل هذه القضية ، والحكم عليكم في الآخرة بالنار
والعذاب (لِلَّهِ الْعَلِيِ) الرفيع الذي لا شريك له ، فهو أرفع من كل شيء (الْكَبِيرِ) الذي لا أكبر منه ، في ذاته وصفاته.
[١٤] ثم يأتي
السياق ليبين بعض آياته سبحانه الدالة على وجوده ، وسائر صفاته (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي أدلته الكونية ، الدالة على ذاته وصفاته ، ومعنى
الإرائة إيجادها ، كالليل والنهار والمطر ، أو إلفاتكم إليها ، وإن كانت مستقرة
ثابتة (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ) أيها البشر (مِنَ السَّماءِ
__________________
رِزْقاً
وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
فَادْعُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
رَفِيعُ
الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ
____________________________________
رِزْقاً)
وهو المطر
الموجب لكل رزق ، أو المراد أنه سبحانه يقدر في السماء أرزاقكم ، فينزل الأمر به
من هناك (وَما يَتَذَكَّرُ) أي يلتفت (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي يتوب ، فإن التذكر المفيد ، إنما هو تذكر التائب دون
غيره.
[١٥](فَادْعُوا) أيها البشر (اللهَ) وحده (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي في حال كونكم توجهون عبادتكم إليه ، وتجعلون دينكم
له دون غيره (وَلَوْ كَرِهَ) إخلاصكم وتوحيدكم لله (الْكافِرُونَ) فلا تبالوا بهم.
[١٦] إنه
سبحانه (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي يرفع درجات الناس في الجنة ، فبيده الملك والملكوت ،
ومثله يحق أن يعبد دون سواه ، أو إن المعنى أنه سبحانه صاحب درجات رفيعة ، والمراد
بالدرجات الصفات ، فهو ذو العلم الرفيع والإحسان الرفيع ، والحلم الرفيع ، وهكذا ،
فلا يبلغ شأنه شيء من الأصنام ، أو غيرها ، حتى يجعل شريكا له ، وهذا من باب تشبيه
المعقول بالمحسوس (ذُو الْعَرْشِ) فله عرش السلطة ، وحده بلا شريك ومنازع (يُلْقِي الرُّوحَ) أي الحياة للبشرية ، التي هي الوحي ، فقد شبه الوحي
بالروح ، تشبيها بالروح الذي به حياة الإنسان ، وفي الوحي حياته الواقعية من العمى
والضلالة ، أو المراد الروح لنبوة الشخص (مِنْ أَمْرِهِ) أي أن الإلقاء صار من أمره لا جبر له فيه ، إذ قد يلقى
الإنسان شيئا مجبورا من أمر غيره (عَلى مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء عليهمالسلام ، ومشيئته سبحانه باعتبار صلاحية النبي لذلك ،
لِيُنْذِرَ
يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ
(١٧)
____________________________________
لمؤهلاته النفسية (لِيُنْذِرَ) الله بسبب الإلقاء ، أو ينذر الرسول (يَوْمَ التَّلاقِ) أصله «التلاقي» حذف الياء تخفيفا ، حيث يلتقي فيه أهل
السماء بأهل الأرض ، كما عن الصادق عليهالسلام .
[١٧](يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي ظاهرون من قبورهم (لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ) أي من الناس (شَيْءٌ) فكل شيء منهم من الأجساد ، والأعمال ، والنوايا ،
منكشفة لديه سبحانه ، ويقول الله سبحانه ، حينذاك (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ تقريعا للذين اغتصبوا الملك في الدنيا ، ولمن أشركوا
بالله بزعم أن لله شريكا في الملك ، ويأتي الجواب من قبله أو قبل صلحاء الناس
والملائكة (لِلَّهِ الْواحِدِ) الذي لا شريك له (الْقَهَّارِ) الذي يقهر الكون حسب ما يشاء.
[١٨](الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ) فالمحسن يجزى بالإحسان ، والمسيء بالإساءة (لا ظُلْمَ) على أحد (الْيَوْمَ) فلا ينقص من ثواب المحسن ولا يزاد على عقاب المجرم (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يعني إن الآخرة قريبة ، أو إن حساب الخلائق في ذلك
اليوم ، يكون سريعا ، فلا مجال للّف والدوران ، كما في الدنيا ، حتى يحتمل المجرم
التملص.
__________________
وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
____________________________________
[١٩](وَأَنْذِرْهُمْ) يا رسول الله ، أي خوّفهم من العذاب (يَوْمَ الْآزِفَةِ) من أزف بمعنى دنى ، ويسمى يوم القيامة ، بالآزفة لدنوها
، والآزفة ليست رفعة لليوم ـ في المقام ـ وإنما مضاف إليها ، نحو يوم القيامة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) فإن الإنسان إذا خاف كثيرا حدثت فيه الحرارة الزائدة ،
ولذا تنتفخ الرئة ، وتكبر لجلب الهواء الكثير لتبريد القلب ، فتضغط على القلب ،
وترفعه عن موضعه ، فيأتي قريب الحنجرة (كاظِمِينَ) أي في حال كونهم امتلأوا غما وغيضا ، لكنهم كظموه
وأخفوه ، فلم ينطقوا بشيء خوفا ورعبا ، يقال : كظم فلان غيظه إذا أخفاه (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان من صديق
هناك ، إذ أصدقاؤهم في الدنيا يفرون منهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فإن هناك لا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ، والإتيان ب «يطاع»
لبيان النتيجة ، أي لا خلاص لهم ، وإلا فهناك لا شفيع لهم إطلاقا.
[٢٠] وقد علم
سبحانه جميع أعمالهم ونياتهم ، فيجازيهم حسب الأعمال (يَعْلَمُ) تعالى (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي خيانة العين ، بأن تنظر إلى ما حرمه الله تعالى ،
وإنما سمي خيانة ، لأنها تنظر بسرقة وخيانة ، لئلا يعرف الناس أنه نظر إلى الشيء
الفلاني (وَ) يعلم (ما تُخْفِي
الصُّدُورُ) وتنويه فهو مطلع على النيات ، وإنما نسب الاختفاء إلى
الصدور ، لأن القلب في الصدر.
وَاللهُ
يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ
إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ
فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ
____________________________________
[٢١](وَاللهُ يَقْضِي) ويحكم في يوم القيامة (بِالْحَقِ) فهو القاضي الوحيد هناك (وَ) الأصنام (الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي يدعونهم المشركون آلهة (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (لا يَقْضُونَ
بِشَيْءٍ) إذ لا حكم لهم هناك ، لا بحق ، ولا بباطل ، والإتيان ،
للأصنام بضمير العقلاء ، لتوحيد السياق بين كلام أصحابها ، وكلام الله والمؤمنين (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ) الذي يسمع كل شيء (الْبَصِيرُ) الذي يرى كل مرئي ، أما الأصنام فهي جمادات ، لا تسمع
ولا تبصر ، فكيف تتمكن أن تحكم؟
[٢٢](أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي يذهبوا ويسافروا ، هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ) هنا وهناك (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة ، الذين كذبوا أنبياءهم ، كقوم هود
وصالح ولوط وغيرهم ، مما بقيت آثارهم الخربة في البلاد والصحاري (كانُوا هُمْ) أي أولئك الأقوام (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار (قُوَّةً) في أبدانهم (وَ) أكثر (آثاراً فِي الْأَرْضِ) أي عمارة وبناء وزراعة وصناعة ، جمع أثر وهو الذي يبقى
بعد الإنسان أثرا له ، وعلامة منه فلما كفروا ، لم تفدهم قوتهم وآثارهم ، بل (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي عاقبهم ، وأنزل عليهم العذاب بسبب ذنوبهم كفرهم
وعصيانهم (وَما كانَ لَهُمْ) أي
مِنَ
اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ
تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣)
إِلى
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ
____________________________________
لأولئك الأقوام (مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) «الواق» أصله «واقي» من وقى ، بمعنى حفظ ، أي لم يكن لهم حافظ يحفظهم من
بأس الله وعذابه ، وهؤلاء إن تمادوا في كفرهم وعصيانهم كان مصيرهم مصير أولئك.
[٢٣](ذلِكَ) العذاب الذي نزل بهم ، إنما كان لأجل كفرهم وتماديهم في
العصيان بسبب أنهم (كانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ) بالآيات البينات أي الواضحات ، والمعاجز الظاهرات
الباهرات (فَكَفَرُوا) ولم يؤمنوا بعد إتمام الحجة (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) بذنوبهم ، بأن عذبهم وأهلكهم (إِنَّهُ) سبحانه (قَوِيٌ) يقوى على ما يريد (شَدِيدُ الْعِقابِ) فإذا عاقب أحدا تمكن من ذلك ، وعقابه شديدا أليما.
[٢٤] ثم مثل
سبحانه لبعض أولئك الأمم الذين أهلكهم سبحانه ، بنقل قصة موسى وفرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي مع آياتنا وأدلتنا ، كالعصا ، واليد البيضاء ،
وغيرهما (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي دليل واضح ، فقد كان موسى عليهالسلام مزودا بحجة قوية يحتج ويستدل للألوهية ، كما هو شأن
الأنبياء عليهمالسلام ، فلهم معاجز ، ولهم أدلة منطقية على إرشاداتهم.
[٢٥](إِلى فِرْعَوْنَ) الملك (وَهامانَ) وزيره (وَقارُونَ) الطاغي الذي كان مؤمنا ، ثم انحرف ، وإنما خص هؤلاء
بالذكر ، لأنهم كانوا رؤساء
فَقالُوا
ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)
وَقالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى
____________________________________
الكفار والمنافقين (فَقالُوا) عوض الإيمان (ساحِرٌ كَذَّابٌ) إنه يسحر في خوارقه ، كذاب كثير الكذب ، في ادعاءاته
بوجود الإله ، وأنه رسوله ، وأن هناك دارا آخرة.
[٢٦](فَلَمَّا جاءَهُمْ) موسى عليهالسلام (بِالْحَقِ) أي مع الحق الذي هو التوحيد والمعاد والشريعة (مِنْ عِنْدِنا) أي كان من طرفنا ، فإن الآتي بالحق ، قد يكون غير مرسل
، كالصلحاء والعلماء الذين يرشدون الناس (قالُوا) أي فرعون وهامان ، وأشراف القبط (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ) وهم بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) فقد أمر فرعون ، قبل ولادة موسى بقتل أبناء بني إسرائيل
، حيث أخبره منجم ، بأنه يولد في بني إسرائيل ولد يكون على يده ذهاب ملكه ، وأمر
بعد نبوة موسى بذلك ، حيث أراد عدم كثرتهم ليقوى الصف المخالف ، كما كان يبقي
النساء أحياء لاستخدامهن وإذلالهن ، لكن الله سبحانه منع عن ذلك بإرسال الضفادع
والجراد والقمل والدّم ـ كما سبق ـ (وَما كَيْدُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي أن ما يكيدون يضل ويضيع فلا يظهر له أثر مقصود.
[٢٧](وَقالَ فِرْعَوْنُ) لمن حوله من الأشراف (ذَرُونِي) أي اتركوني ، ولا تشيروا علي بالخلاف (أَقْتُلْ مُوسى) لأستريح منه ، وقد قال ذلك
وَلْيَدْعُ
رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ
____________________________________
إظهارا لسطوته ، وإلا فقد أراد غير مرة ، قتل موسى ، فلم يتمكن (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) بما شاء ، فقد كان يخاف من دعوة موسى لله سبحانه ،
بإنزال العذاب عليهم ، كما شاهد من قبل ، وهذا كما يقول أحدنا ، أفعل ذلك ، كائنا
ما كان ، وقوله «ليدع» أمر يراد به الخبر ، أي وإن دعا ربه عليّ ، وإنما أريد قتل
موسى ل (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) بأن يمنعكم عن عبادتي ، وعبادة الأصنام ، إلى عبادة
الله (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ
فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) بأن يجهز الجيوش للحرب والقتال ، فقتله يريحنا من
إفساده في ديننا أو دنيانا.
[٢٨](وَقالَ مُوسى) عليهالسلام ـ وكأنه قال ذلك لما سمع بإرادة فرعون قتله ـ (إِنِّي عُذْتُ) من عاذ ، بمعنى لجأ (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) يا بني إسرائيل ، أو أيها القبط ، إن كان خطابه لهم (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ
بِيَوْمِ الْحِسابِ) كفرعون الذي تكبر ولا يخاف المعاد.
[٢٩](وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ) بالله وبموسى (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي من ذويه ، وقد كان ابن عمه ، كما في بعض الأحاديث ،
وكان اسمه حزقيل (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) عن فرعون وقومه (أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)
وَقَدْ
جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ
وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)
____________________________________
أي كيف تقتلون موسى ، وهو يقول أمرا لا يضركم؟ (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة الواضحة ، وهذا الكلام لا ينافي كتمان
إيمانه ، فإن الخصوم دائما يظهرون فيما بينهم حقائق خصومهم ، ويعترفون بمزاياهم
وفضائلهم (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من طرف إلهكم وخالقكم ، وقد كان حتى فرعون يعترف
بالإله في خلواته ، ولذا تضرع إليه سبحانه وقت انقطاع النيل (وَإِنْ يَكُ) موسى (كاذِباً) في دعواه النبوة (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي أن ضرر كذبه يعود إليه ، لا إليكم ، فإن الكاذب
يتضرر من كذبه (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) فيما يقول (يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ) فإن موسى كان يعدهم بالهلاك والعذاب إن بقوا في كفرهم
وطغيانهم ، وإنما قال «بعض» تلطفا في الخطاب ، وتوسعا في الكلام ، وكأنه قال ، أقل
ما في الأمر ، أنه يصيبكم بعض ما يقوله موسى من نكال الدنيا وعذاب الآخرة ، ومعنى «يصيبكم»
يصل إليكم (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي) بالألطاف الخفية الموجبة للسعادة الأبدية (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي متجاوز في العصيان حدّ المتعارف ، أو متجاوز حدود
الشريعة كثير الكذب ، وقد أراد بهذا ، إما فرعون وقومه بمعنى أنكم إذا قتلتم موسى
، كنتم من المسرفين الكذابين ، الكثيري التكذيب لما يقوله موسى من الأمور المربوطة
بالمبدأ والمعاد والشريعة ، وإما موسى عليهالسلام ، بأنه إن كان موسى مسرفا كذابا ، لم يهده ربه ، وقد
قال ذلك تأكيدا لقوله (وَإِنْ يَكُ كاذِباً
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ).
يا
قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا
مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما
أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي
آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠)
____________________________________
[٣٠](يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ) والسلطة في هذا (الْيَوْمَ) في حال كونكم (ظاهِرِينَ فِي
الْأَرْضِ) أي غالبين عليها ، فإن الإنسان صاحب السلطة يكون ظاهرا
للناس يعرفوه ، ولا يخفى عليهم (فَمَنْ يَنْصُرُنا
مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا)؟ من يمنعنا من عذاب الله ، إن جاءنا عند قتل موسى ، فإن
هذا الملك يذهب ، ويحلّ محله العذاب ، وإنما قال «لكم الملك» إما تذكيرا بالنعيم ،
في مقابل التخويف بالعذاب ، وإما لبيان ، أن أصحاب السلطة دائما أقرب إلى سخط الله
ونكاله ، حيث أنهم يعصون كثيرا ، فإذا تجمعت حل بهم العذاب ، بخلاف غير أصحاب
السلطة ، الذين هم بمعزل عن العصيان ، فيكون احتمال عقابهم أبعد ، وبعد هذا النصح
كله (قالَ فِرْعَوْنُ) القاسي المظلم القلب (ما أُرِيكُمْ إِلَّا
ما أَرى) أي ما أشير عليكم إلا ما أراه صوابا في رأيي وفكري ،
فقتل موسى صواب في نظري (وَما أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي ما أرشدكم إلّا الطريق الذي هو صحيح ، وفيه الرشد
والهداية.
[٣١](وَقالَ الَّذِي آمَنَ) من قوم فرعون وهو حزقيل (يا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ) أيها القوم إن تقدمتم إلى قتل موسى عليهالسلام أن يصيبكم (مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزابِ) أي الأحزاب التي عارضت الرسل وكفرت ، ولكل حزب يوم ،
وإنما جمعهم المؤمن ، لبيان أن كل حزب ، خالف
مِثْلَ
دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ
يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١)
وَيا
قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
____________________________________
الرسل ، حقت عليه كلمة العذاب ، ثم فصل ذلك بقوله.
[٣٢](مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) الدأب العادة ، ومعنى ذلك ، أخاف عليكم ، مثل سنة الله
في قوم نوح ، حيث أغرقهم سبحانه (وَعادٍ) قوم هود النبي عليهالسلام (وَثَمُودَ) قوم صالح عليهالسلام (وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) من الأمم التي كذبت الأنبياء عليهمالسلام (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا تفعلوا ما تستحقون الظلم بأنفسكم.
[٣٣](وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
يَوْمَ التَّنادِ) أصله «التنادي» مصدر باب التفاعل ، وإنما حذف الياء
تخفيفا ، والمراد به ، إما يوم نزول العذاب ، فإن فيه ينادي كل إنسان ، صاحبه
بالفرار والحذر ، وإما يوم القيامة ، حيث ينادي أهل النار أهل الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا) وينادي أهل الجنة أهل النار(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ؟
[٣٤](يَوْمَ تُوَلُّونَ) عن العذاب ، فأين منه (مُدْبِرِينَ) بزعم أن الفرار ينجي من عذاب الله (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي لا يحفظكم من بأس الله أحد ، فإذا جاء العذاب ، لا
يتمكن أن يمنع عنه مانع (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ) بأن تركه في الظلمات ، حتى يفعل ما يشاء ، وقطع عنه
الألطاف
__________________
فَما
لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ
حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ
____________________________________
الخفية ، بعد أن أرشده إلى الطريق ، فلم يقبل (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ليس له أحد يهديه ، بأن يفيض عليه من ألطافه الخاصة
، فاحذروا أن تكونوا من أولئك الزمرة.
[٣٥](وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) بن يعقوب بن إبراهيم عليهمالسلام (مِنْ قَبْلُ) أي قبل موسى عليهالسلام (بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة الواضحة ، فقد كان يوسف رسولا إلى أهل مصر ،
بالإضافة إلى كونه ملكا ، وبعد يوسف ، امتدت السلطات الخيرة ، ثم المتوسطة ، ثم
الشريرة ، حتى وصلت النوبة إلى فرعون ، حيث قال (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى)
(فَما زِلْتُمْ) والمراد ، لم يزل آباؤهم (فِي شَكٍّ مِمَّا
جاءَكُمْ بِهِ) من التوحيد ، فقد كان أهل مصر يعبدون الأصنام ، في ذلك
الزمان ، ولذا قال يوسف ، لأهل السجن : (يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ) ؟ (حَتَّى إِذا هَلَكَ) أي مات يوسف ، وهلك يستعمل في مطلق الموت ، كما قال
سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) وإن كان يتبادر منه ـ أحيانا ـ موت السيء (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولاً) كأنكم استرحتم من موت يوسف ، كما يستريح المجرم من موت
السلطان ، إذ يتمكن من إبداء إجرامه ، فأنتم ـ أيها القوم ـ مسرفون في الكفر
والضلال ، قديما وحديثا ، فلم هذا الكفر ، ولم هذا الضلال؟ (كَذلِكَ) أي كما ترك
__________________
يُضِلُّ
اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤)
الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
____________________________________
الله سبحانه أسلافكم ضلّالا غير معتن بشأنهم ، لمّا لم يؤثر فيهم إرسال
الرسول ، وإقامة الحجة (يُضِلُّ اللهُ) بترك لطفه عن (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) في الكفر والضلال (مُرْتابٌ) أي شاك في الله والمعاد والشريعة ، من ارتاب ، بمعنى
شك.
[٣٦] ثم بين
لهم كيف يقطع الله لطفه عن بعض الناس ، حتى يتيهون في الضلال والانحراف (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أي يعاندون (فِي) البحث ، حول (آياتِ اللهِ) أي أدلته الدالة على وجوده وسائر صفاته (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي حجة (أَتاهُمْ) ذلك السلطان ، من عقل أو نقل ، فجادلهم عن الهوى ، لا
عن الدليل والبرهان (كَبُرَ) ذلك الجدال (مَقْتاً) أي من حيث المقت ، فإن الغضب على ذلك المجادل كبير (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ
آمَنُوا) فالله يلعن المجادل ، والمؤمنون يبغضونه (كَذلِكَ) أي بهذا النحو من الطبع ، وهو ختم القلب على الكفر بعد
أن جاء الهدى ، فجادل بدون الدليل (يَطْبَعُ اللهُ عَلى
كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فكبره عن الحق وتجبّره في الأرض ، أورث ، أن ختم الله
على قلبه ، وقد سبق أن القلب قابل لكل شيء ، فإذا أعرض الإنسان عن الحق إلى الباطل
، يستمر إيحاء الباطل على قلبه في كل مناسبة ، حتى يكون الباطل ملكة له ، فلا يقبل
الهدى أبدا ، لا بالاضطرار ، وإنما بالاختيار والنفرة عن الحق عنادا.
وَقالَ
فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦)
أَسْبابَ
السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ
زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ
____________________________________
[٣٧](وَقالَ فِرْعَوْنُ) بعد أن سمع مواعظ حزقيل ، وكأنّ هناك كان مجلس حوار بين
حزقيل ، وبين القوم (يا هامانُ) وهو وزير فرعون (ابْنِ لِي صَرْحاً) أي قصرا مشيدا عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبابَ) بأن أصعد عليه ، وأنظر هناك في ملكوت السماوات.
[٣٨] ثم فسر «الأسباب»
بقوله (أَسْبابَ السَّماواتِ) أي أسباب الاطلاع على السماوات ، وما فيها! فكما أن
أسباب العز «السيارة» وأمثالها ، كذلك أسباب الاطلاع على السماوات «المرتقى العالي»
و «المجهر» وما أشبه ، فإذا بني بعضه كان الرجاء أن يبلغ (فَأَطَّلِعَ) بالنصب لأنه جواب بالفاء ، أي إذا بلغت اطلعت (إِلى إِلهِ مُوسى) وقد قصد بهذا التمويه على الناس العوام ، بأنه إن كان
موسى صادقا ، في أن له إلها خلق السماوات ، فإني قادر على الاطلاع عليه ومحاربته (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي أظن موسى (كاذِباً) وقد أراد بهذا الخداع للناس ، في أنه منصف مع موسى ،
حتى يتورع أن يقال أنه علم كذبه ، بل يريد الاستطلاع هل صدق موسى أم كذب؟ وإن كان
ظنه أنه كاذب.
ثم قال سبحانه (وَكَذلِكَ) أي كما زيّن لهؤلاء الكفار أعمالهم السيئة ، أو كما ذكر
من حكاية أعمال فرعون وأقواله (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) والمزين هو نفسه ، أو الشيطان (سُوءُ عَمَلِهِ) أي رأى عمله السيء حسنا (وَصُدَّ عَنِ
السَّبِيلِ) أي منع عن طريق الهداية والمانع له هو
وَما
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ
(٣٧) وَقالَ
الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما
هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ
سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها
____________________________________
الشيطان ، أو نفسه الأمارة بالسوء (وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ) ومكره الذي عمله لإطفاء نور موسى (إِلَّا فِي تَبابٍ) أي هلاك وخسارة واضمحلال ، من «تبّ» بمعنى هلك وخسر ،
فلم ينفع كيده ، لإطفاء نور موسى عليهالسلام.
[٣٩] ولما رأى
حزقيل إصرار القوم على ضلالهم ، ألقى عليهم نصيحته الأخيرة (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) من قوم فرعون ، وكان يكتم إيمانه (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) حذف ياء المتكلم تخفيفا ، وبقيت الكسرة ، دليلا عليه (أَهْدِكُمْ) جزم الفعل ، لأنه في جواب الأمر ، أي إن تتبعوني أهدكم (سَبِيلَ الرَّشادِ) ، أي طريق الرشد ، والمراد اتبعوا كلامي ، فإن فيه
الهداية والرشد.
[٤٠](يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا) أي الحياة القريبة ، و «دنيا» مؤنث «أدنى» (مَتاعٌ) أي مورد انتفاع قليل ، ثم يزول عن قريب (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) التي يستقر فيها الإنسان ، أبد الآبدين ، فلا تبيعوا
آخرتكم بدنياكم ، لتزول الدنيا عن أيديكم بعد قليل ، وتخسروا الآخرة.
[٤١](مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها) أي مثل تلك السيئة ، بلا زيادة
وَمَنْ
عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
(٤١)
____________________________________
عليها (وَمَنْ عَمِلَ
صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مصدق بالله ورسله ، واليوم الآخر ، بأن صحت عقيدته
وعمله (فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) جزاء لإيمانهم وتصديقهم ، وعملهم الصالح (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) فلا يعدّ ما يعطون من الأجر والثواب ، وإن كان كل شيء
عنده بحساب وعدّ ، لا يغيب عن علمه شيء ، فآمنوا واعملوا الصالحات ، أيها القوم ،
حتى تنالوا ذلك الثواب العظيم ، ولا تكفروا حتى تدخلوا في النار ـ وقوله ، فلا
يجزى إلا مثلها ، لبيان لطفه سبحانه ، وللمقابلة ، وإلا فلم تكن هذه الخصوصية في
معرض الكلام ـ.
[٤٢](وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
النَّجاةِ)؟ «ما لي» كان في الأصل استفهاما عن النفع العائد إلى
الشخص ، ثم استعمل في كل استفهام ، بعلاقة ، الجزئي والكلي ، كما يقال : ما لي
أراك حزينا؟ أي لماذا تحزن ، والمعنى ، أخبروني كيف صرتم هكذا حتى إني أدعوكم إلى
ما فيه نجاتكم من عذاب الدنيا والآخرة (وَ) أنتم (تَدْعُونَنِي إِلَى
النَّارِ) بأن أشرك بالله ، وأعصي حتى أستحق النار ، وكأن المؤمن
خرج هنا من كتم الإيمان ، وجعل يحاورهم بصفته مؤمنا ، ولذا قال سبحانه «فوقاه الله»
كأنهم أرادوا قتله لما علموا إيمانه.
تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ
وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣)
____________________________________
[٤٣] ثم بين
دعوتهم له بقوله (تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللهِ) بأن لا أعتقد بوحدانيته (وَأُشْرِكَ بِهِ ما
لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي أجعل الصنم ـ الذي لا علم لي بكونه إلها ـ شريكا لله
تعالى ، وقوله (ما لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ) من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فإن من علم أن شيئا
ليس بإله ، فإنه لا يعلم ألوهيته ، ولعل الإتيان بهذا التعبير ، لعدم جرح عواطفهم
، حتى يتألبون عليه (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ
إِلَى الْعَزِيزِ) الغالب في سلطانه ، لا كالصنم الذي لا حول له ولا قوة (الْغَفَّارِ) فإنكم إذا آمنتم به غفر ذنوبكم.
[٤٤](لا جَرَمَ) «جرم» بمعنى قطع ، ويستعمل مع «لا» بمعنى حقا ، لأن الحق لا قطع فيه عن
الواقع ، كالكذب الذي فيه قطع عن الواقع إلى الخيال والوهم (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من الأصنام (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ
فِي الدُّنْيا) فإنها لا تدعو أحدا لا في الدنيا (وَلا فِي الْآخِرَةِ) بل الله هو الداعي إلى عبادته وطاعته ، أو المراد أنه
لا يستجيب دعوة الداعي ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، فأي نفع في عبادته (وَأَنَّ مَرَدَّنا) أي رجوعنا ، مصدر ميمي ، من «ردّ» بمعنى رجع (إِلَى اللهِ) فكيف نترك طاعته ورجوعنا إليه؟ (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا في الكفر والعصيان ، وتجاوزوا الحدّ (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها.
[٤٥] ثم هددهم
، بأنهم إن لم يقبلوا كلامه يأتيهم يوم يذكرون فيه مقالته
فَسَتَذْكُرُونَ
ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ
سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ
(٤٥)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
____________________________________
حيث لا ينفعهم التذكر (فَسَتَذْكُرُونَ) أيها القوم (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصائح يوم يأخذكم العذاب ، أو يوم القيامة (وَ) أما أنا ، ف (أُفَوِّضُ أَمْرِي
إِلَى اللهِ) أي أكل أموري إليه حتى لا يمسني السوء منكم (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فهو يبصرني ويتمكن على نجاتي.
[٤٦] وقد أراد
القوم به سوء ، إذ همّ فرعون بقتله ، لكن الرجل ، فرّ من بين أيديهم إلى جبل (فَوَقاهُ اللهُ) أي حفظه الله من (سَيِّئاتِ ما
مَكَرُوا) فإن مكرهم ، كان يشتمل على نتائج سيئة من قتله وما
يلازم القتل من الإيذاء والإهانة وما أشبه (وَحاقَ) أي أحاط وحل (بِآلِ فِرْعَوْنَ) والمراد هو وآله ، فقد ذكرنا سابقا ، أنه قد يقال «آل ـ
فلان» ويراد هو وآله (سُوءُ الْعَذابِ) بالغرق في البحر في الدنيا.
[٤٧] وما في
البرزخ ، ف (النَّارُ يُعْرَضُونَ) أي آل فرعون (عَلَيْها) على النار (غُدُوًّا) صباحا (وَعَشِيًّا) عصرا ، بأن يعذبون كل يوم مرتين ، مقابل المؤمنين ،
الذين لهم رزقهم بكرة وعشيا ، وهذا عذاب برزخهم (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ) أي إذا قامت القيامة ، يقال للملائكة الموكلين بهم (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) أي هو وآله (أَشَدَّ) أنواع (الْعَذابِ) لكفرهم وطغيانهم ، فقد نتج تمردهم تعذيبهم في العوالم
الثلاثة.
وَإِذْ
يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨)
وَقالَ
الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ
____________________________________
[٤٨] وبمناسبة
الحديث ، عن عمل فرعون واتباع قومه له ، بدون تبصر واهتداء ، يأتي السياق لنقل
جملة من حوار أهل النار (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ يَتَحاجُّونَ) أي يتخاصم الرؤساء والأتباع (فِي النَّارِ) في الآخرة (فَيَقُولُ
الضُّعَفاءُ) عقيدة وإمكانية ، وهم الأتباع (لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) من القادة والرؤساء ، أي تكبروا عن قبول الحق (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ) معاشر الرؤساء (تَبَعاً) جمع تابع ، كخدم جمع خادم ، أو مصدر من قبيل «زيد عدل»
، فقد كنا نسمع أوامركم ، ضد الدين والشريعة (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا) أي دافعون عنا (نَصِيباً) وقسما (مِنَ النَّارِ) التي أحاطت بنا؟
[٤٩](قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في جواب الضعفاء (إِنَّا كُلٌ) أي كل واحد منا ومنكم (فِيها) أي في النار ، فلسنا خالين من العذاب ، حتى نتحمل بعض
عذابكم (إِنَّ اللهَ قَدْ
حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بأن يتحمل كل جزاء ما عمله من شرك وعصيان.
[٥٠] ثم إنهم
يتوجهون إلى الملائكة الذين هم موكلون بالنار (وَقالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ) بصورة عامة ، من الأتباع والمتبوعين (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) جمع
ادْعُوا
رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩)
قالُوا
أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا
فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
____________________________________
خازن ، وهو الحافظ ، والمراد بهم الملائكة ، الذين يتولون أمور أهل جهنم (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا
يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) حتى نستريح ، ولو قليلا ، وإنما يقولون ذلك لأنهم لا
يطمعون في انقطاع العذاب.
[٥١](قالُوا) أي قال الخزنة في جوابهم (أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ)؟ أي بالحجج القاطعة الواضحة ، ثم عاندتم ولم تقبلوا (قالُوا) أهل النار في الجواب (بَلى) جاءونا ، فلم نقبل (قالُوا) أي قالت الخزنة لهم بعد هذا الاعتراف (فَادْعُوا) أنتم ، حتى يخفف الله عنكم ، فإنّا لا ندعو وذلك لعلم
الخزنة ، بأن الدعاء لا يفيد (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي ضياع وبطلان ، فلا تفيد دعوتهم شيئا.
[٥٢] ثم يرجع
السياق إلى قصة الرسل ، ومن يعاندهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كما نصر سبحانه ، حيث نرى ، أنّ الدين واضح ظاهر ،
بينما معاندوا الأديان ، ليس لهم إلا الخسران ، وقد نصر سبحانه ، عيسى ، وموسى ،
ومحمدا ، وإبراهيم ، وغيرهم ، من الرسل عليهمالسلام بالأتباع الكثيرين ، وعلوّ الاسم والاحترام ، ففي دنيا
اليوم ، ونفوسها «ثلاثة آلاف مليون وخمسة عشر مليونا» أكثر من
__________________
وَيَوْمَ
يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣)
____________________________________
ثلثي العالم متدينون ، وهل النصرة فوق هذا؟ وهل كان مقصد الرسل والمؤمنين
بهم أكثر من هذا؟ ، أما من يتصور أن النصرة معناها ، أن لا يقتل الرسول ـ أو
المؤمنون به في ساحة حرب ، وأن لا يهان ، فقد اشتبه ، ألا ترى أنه يقال : انتصرت
الدولة الفلانية على الدولة الفلانية ، وإن ذهب شبابها ضحايا ، وأموالها نهبا ،
حين لم تسقط ، ولم يستول عليها الأجنبي ، ولم تمح عن الخارطة؟ (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) جمع شاهد ، كأصحاب وصاحب ، والمراد يوم القيامة ، وهم
الذين يشهدون على الناس ، بالإيمان والكفر والإطاعة والعصيان.
[٥٣] ثم بين
وصفا لذلك اليوم ، يناسب حال الكفار ـ الذين كان الكلام حولهم ـ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ) أي أن اعتذارهم من الكفر والعصيان ، لا يفيدهم في دفع
العذاب عنهم ، وليس كالدنيا حيث ينفع المعتذر عذره (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي البعد والطرد عن رحمة الله وفضله (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي الدار السيئة ، من إضافة الصفة إلى الموصوف.
[٥٤](وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْهُدى) أي الهداية ، التي بها يهدي الناس إلى الحق ـ وهذا رجوع
إلى قصة موسى عليهالسلام ، التي سبقت ، وتسلية للمؤمنين بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ (وَأَوْرَثْنا بَنِي
إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي أعطينا التوراة إرثا لهم ، باعتبار الكتب السابقة ،
فكأن كتاب الله الذي فيه شريعته شيء واحد ، يتوارثه المؤمنون جيلا بعد جيل ، وإن
كان ذا قوالب متعددة ، كالتوراة والإنجيل والقرآن.
هُدىً
وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤)
فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
____________________________________
[٥٥](هُدىً) أي لأجل هدايتهم إلى الحق وإرشادهم طريق السعادة (وَذِكْرى) أي ولأن يكون مذكرا بالله وبرسله وبالمعاد ـ مما يكمن
في فطرة كل إنسان ، بصورة إجمالية ـ (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، أي أصحاب العقول جمع لب ، وهو العقل.
[٥٦](فَاصْبِرْ) يا رسول الله على أذى قومك ، فإن مصيرك ومصير المؤمنين
، كمصير موسى ، الذي غلب على فرعون ، ومصير بني إسرائيل ، الذين علا كعبهم على
أعدائهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك ، وإهلاك الكفار (حَقٌ) مطابق للواقع ، لا كذب فيه ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فإن الأنبياء كانوا يعدّون اشتغالهم بالأمور الدنيوية
الضرورية ذنبا ، ألا ترى ، أن من أصابه وجع الرجل ، حتى لا يتمكن من جمعها ، إذا
اضطر إلى أن يبسطها في مجلس أمام أناس محترمين ، اعتذر منهم ، وطلب عفوهم؟ مع أن
عمله ذاك ضروري ليس باختياره ، وهكذا أشغال الأنبياء الدنيوية ، أمام الله سبحانه
، وإن كانوا مضطرين إليها كل اضطرار تقويما للبدن ، فإنه بنظرهم ذنب ، أمام الله
الذي ينبغي أن لا يشغل عنه الإنسان ، ولو طرفة عين ، وهناك قول ، بأن الآية على
طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة» (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) أي نزهه بالحمد ، فإن الإنسان إذا أثنى على الله بالعلم
مثلا ، كان حمدا وتنزيها عن الجهل ، في آن واحد (بِالْعَشِيِ) وهو من زوال الشمس إلى الليل (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والمراد الاستمرار
إِنَّ
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ
____________________________________
على الاستغفار والتسبيح.
[٥٧](إِنَ) الكفار (الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي يخاصمون الرسول والمؤمنين في إبطال آيات الله وأدلته
الكونية ، وخوارق الأنبياء (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي بغير دليل (أَتاهُمْ) من عقل ، أو شرع ، وإنما يجادلون عبثا واعتباطا بعد ما
تم عليهم الحجة (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ) أي ليس احتجاجهم ، وخصامهم ، إلا لأجل أن في صدورهم ،
تكبرا عن قبول الحق ، ولكن (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي لا يبلغون ما يريدون من العظمة التي تمنعهم عن قبول
الحق ، فإن الله سبحانه يذلّهم ، حتى لا يبلغوا كبرياءهم ، ومن غريب الأمر ، أن
الإنسان يرى كل متكبر عن الحق هكذا أنه يظن إن هو قبل الحق يهان ، ويجرح كبرياءه ،
فلا يقبل ، بل يتكبر ، زعما بأنه ، إن فعل ذلك يصل إلى عظمة ، وارتفاع في المجتمع
، والأمر دائما خلاف ذلك ، فالحق يعلو ، والمتكبر يذل (فَاسْتَعِذْ) يا رسول الله (بِاللهِ) من شر هؤلاء الكفار المتكبرين ، أو من الابتلاء ، بمثل
هذا النحو من الكبر الصادف عن الحق (إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لقولك واستعاذتك (الْبَصِيرُ) بما يجول في خاطرك ، وما أنت عليه من الخضوع للحق ،
والقبول له.
[٥٨] وكيف
يتكبر هؤلاء الكفار ، وهم يرون حولهم السماوات والأرض ، وخلقهما ، أكبر من خلقهم؟
والإنسان العاقل ، إذ رأى نفسه وسط هذا الكون الفسيح ، لا بد وأن يتضاءل ، ويعترف
بصغر نفسه (لَخَلْقُ
السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا
الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها
____________________________________
السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) بما فيهما من عجيب الصنع ، وصفوف الخلق (أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ولعل التعبير بأكبر ، لأن خلق الإنسان أدق ، ولذا لما
خلق الله الإنسان ، قال : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لأنهم لا يتفكرون ، والإنسان إذا لم يتفكر في الكون
يغتر بنفسه ويتكبر.
[٥٩] إن الكفار
كالأعمى ، حيث أغلقوا بصائرهم عن الإدراك ، والتفكر ، والمؤمنين كالبصير ، لأنهم
فتحوا منافذ عقولهم ، فأدركوا الحقائق (وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) كما هو واضح لكل ذي عقل (وَ) لا يستوي (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله واليوم الآخر ، وما يلزم الإيمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة (وَلَا الْمُسِيءُ) الذي أساء بالكفر والعصيان (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) «ما» مصدرية ، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة ، وهي عدم استواء الكافر
والمؤمن ، والمحسن والمسيء ، أو أن «ما» مصدرية ، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة ،
وهي عدم استواء الكافر والمؤمن ، والمحسن والمسيء ، أو أن «ما» تأكيدية.
[٦٠](إِنَّ السَّاعَةَ) أي القيامة (لَآتِيَةٌ) تأتي قطعا (لا رَيْبَ فِيها) أي
__________________
وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
____________________________________
ليست محل ارتياب ، وإن ارتاب فيها المبطلون ، وهذا كما نقول «لا شك أن هذه
شمس» وإن شك فيها السوفسطائيون (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بإتيان الساعة لكفرهم ، أو عدم رسوخ الإيمان في
أعماقهم.
[٦١] وإذ جرى
حديث الإيمان والمتكبرين عن قبوله ، يأتي السياق لتوجيه الناس إلى الله سبحانه
بالدعاء والضراعة إليه ، وأن من تكبر عنه ، فجزاؤه النار ، فالإيمان والدعاء ،
كلاهما توجه إلى الله ، والاستكبار عن الإيمان وعن الدعاء كلاهما ابتعاد عنه ،
وهنا مناسبة أخرى ، أن لا ييأس الكافر والعاصي ، فإن أبواب الدعاء بطلب التوبة
ونحوه مفتوحة (وَقالَ رَبُّكُمُ) أيها الناس (ادْعُونِي) اطلبوا حوائجكم ، صغيرها وكبيرها (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) «استجب» مجزوم جوابا للأمر ، أي إن تدعوني ، أستجب لكم (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِي) ومن جملتهم من يستكبر عن الدعاء ، إذ الدعاء قسم من
العبادة ، فإن العبادة اعتراف الإنسان بسيادة الله ، والعمل طبقه ، والدعاء قسم
منه (سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ) في الآخرة ، ولذا جيء ، ب «السين» (داخِرِينَ) من دخر ، بمعنى ذل وصغر ، وهم صاغرون ، في مقابل تكبرهم
، في الدنيا عن الدعاء ، ولا يقال : كيف قال سبحانه (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) وإنّا نرى أن كثيرا من الأدعية لا تستجاب؟ فإن الجواب ،
أن القضية طبيعية ، أي أن من طبيعة الدعاء أن يستجاب ، كسائر القضايا ، فلو
اللهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
____________________________________
قلنا : الشمس مشرقة أو النار محرقة ، أو العقار الفلاني مقوي ، أو ما أشبه
، لم يناف مع عدم إشراق الشمس وقت الكسوف ، أو عدم إحراق النار إذا لم يشأ الله ،
كنار إبراهيم ، أو عدم تقوية العقار في بدن بلغ من الضعف إلى حيث لا يتمكن من هضم
العقار ، وهكذا في سائر القضايا ، فإن الملحوظ ، في أمثالها الطبيعة ، لا كل فرد ،
والطبيعة قد يمنع عنها مانع ، أو عدم تمامية المقتضى ، وقد قال سبحانه (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ) ، فمن لم يف بعهده سبحانه ، بأن ارتكب الكفر والعصيان ،
لم يكن عليه سبحانه ، أن يفي بما عهد ، وكذا قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) فمن لم يتق ، لم يكن لدعائه ، قبول واستجابة .. ولا
يقال : إنا لا نرى الفرق البين بين الداعي وغيره ، فلكل منهما مشاكل ولكل منهما
سعادة؟ إذ الجواب أنه منقوض بمن يقول : إنا لا نرى فرقا بين من يراجع الطبيب ،
وبين من لا يراجع ، فإن لكليهما صحة حينا ومرض حينا آخر ، والحلّ : إنا نرى الفرق
شاسعا ، فالداعون ، أسعد هناء عيشا ، وأقل مشكلة من غيرهم ، وهذا يعلم ، عند
المقايسة الدقيقة ، كما هو الجواب عن مثال مراجع الطبيب وغيره.
[٦٢] ثم بين
سبحانه جملة من الآيات الكونية ، الملفتة إلى وجوده تعالى ، وسائر صفاته (اللهُ) وحده ، هو (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ) معاشر البشر (اللَّيْلَ) من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، أو إلى طلوع الشمس (لِتَسْكُنُوا) وتستريحوا ، من الأتعاب (فِيهِ) بالنوم والراحة
__________________
وَالنَّهارَ
مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
كَذلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)
____________________________________
(وَ) جعل لكم (النَّهارَ مُبْصِراً) أي موجبا ، لأن تبصرون فيه حوائجكم وسبلكم ، فتشتغلوا
وتسيروا إلى مآربكم (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يتفضل عليهم بأنواع النعم ، بدون استحقاق منهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ) نعمه وفضله ، بل يجحدون بها ويكفرون به.
[٦٣](ذلِكُمُ) ذا إشارة إلى الله سبحانه ، جاعل تلك الآيات المذكورة ،
و «كم» خطاب للسامعين (اللهُ رَبُّكُمْ) أيها البشر (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فهو بالإضافة إلى جعله تلك الأمور ، وكونه ربا لكم ،
خالق لكل شيء موجود في الكون (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له من صنم ، أو بشر أو ملك أو غيرها ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي إلى أين تصرفون أيها المشركون حيث تتخذون مع الله
شريكا له؟ من أفك بمعنى انصرف وقلّب الأمر ، ولذا يسمى الكذب إفكا.
[٦٤](كَذلِكَ) أي كما أفك هؤلاء بالشرك بالله ، بعد رؤية الآيات (يُؤْفَكُ) ويصرف عن الحق (الَّذِينَ كانُوا
بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) من الأمم السابقة ، فكل جاحد للآيات الكونية ، لا بد
وأن يصرف عن التوحيد إلى الشرك ، والذي يأفك هؤلاء نفوسهم الأمارة ، ورؤساؤهم
الكافرون.
اللهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ
فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤)
____________________________________
[٦٥](اللهُ) وحده ، هو (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي تستقرون عليها (وَ) جعل (السَّماءَ بِناءً) أي بناها بناء ، والمراد بالسماء الأفلاك والهواء ،
التي قد أحكمت إحكاما دقيقا ، وإن لم يكن جسما ملموسا ، حتى إن هذا الإحكام لو
أزيل ، لاختلت الحياة ، واضطربت الأرض والكون (وَصَوَّرَكُمْ) أي أعطاكم الله الصور أيها البشر (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي أجملها وزينها ، والمراد بالصورة هنا أعم من الشكل
واللون والحجم ، فإن الصورة تطلق على ذلك ، كما تطلق على اللون فقط ، أو الشكل فقط
، أو الحجم والكيفية فقط (وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) التي خلقها من ماء عذب ، وأثمار شهية وألبان وعسل وسائر
المطاعم ، بل والمشارب والمساكن والمناكح والعلوم وغيرها ، فإن الجميع داخلة في
الرزق ، والمراد بهاتين القضيتين ، كغالب القضايا الطبيعية ، فلا ينافي ذلك عدم
حسن صورة بعض الأفراد ، أو عدم رزقهم الطيب طيلة عمرهم (ذلِكُمُ) «ذا» إشارة إليه سبحانه الذي فعل ما تقدم و «كم» خطاب للبشر (اللهُ رَبُّكُمْ) أيها البشر ، ولا شريك له في ذلك (فَتَبارَكَ اللهُ) أي جلّ سبحانه ، فإنه الدائم الذي ينمي الأشياء ، ويجعل
فيها الخير والبركة ـ وقد تقدم معنى تبارك ـ (رَبُّ الْعالَمِينَ) عالم الإنسان والملائكة والحيوان والجن وغيرهم.
هُوَ
الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦)
____________________________________
[٦٦] إن الذي
أنعم عليكم بهذه النعم (هُوَ الْحَيُ) المطلق الذي لا موت له (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له ولا ظهير (فَادْعُوهُ) أيها البشر (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي دعوة بإخلاص في دينكم وطريقتكم (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فإن له الحمد وحده ، حيث أن كل شيء محمود منه ، لا
يشركه فيها أحد ، واللام في الحمد للجنس ، أي أن جنس الحمد له ، أما من جعل اللام
للاستغراق ، فقد ابتعد عن سياق الكلام.
[٦٧](قُلْ) يا رسول الله ، لهؤلاء الكفار (إِنِّي نُهِيتُ) نهاني الله سبحانه (أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام التي تدعونها آلهة وهي سوى الله سبحانه (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحات على التوحيد ، أي حين أتاني الحجج
والبراهين (مِنْ رَبِّي) أي من قبله سبحانه ، وذلك الحين قبل خلق آدم ، كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فلا تدل هذه الآية على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قبل نزول القرآن ، غير عارف ببعض المعارف (وَأُمِرْتُ) من قبله تعالى (أَنْ أُسْلِمَ) في جميع أعمالي وعقائدي (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الذي يملك العوالم كلها ، وهو المدبر والمربي الوحيد
لها ، والإسلام هو
__________________
هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي
يُحْيِي
____________________________________
الاستسلام والانقياد.
[٦٨](هُوَ) الله تعالى وحده (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أيها البشر (مِنْ تُرابٍ) فإن الإنسان تراب ، ثم يكون نباتا ، والنبات يأكله
الحيوان ، فيكون لحما وقسما من اللحم وقسما من التراب يأكله معا الإنسان ، فيكون
دما في جسمه (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فإن الدم ينقلب منيا ، وهو النطفة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهو المنى المتحول إلى علقة من الدم (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً) والمراد ، كل واحد منكم طفلا ، فلا تنافي بين الإتيان ،
ب «كم» جمعا ، وب «طفلا» مفردا (ثُمَ) يبقيكم (لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) وهو حال استكمال القوة والشباب (ثُمَ) يبقيكم (لِتَكُونُوا شُيُوخاً) جمع شيخ ، وهو الكبير السن ، البالغ عمر الشيخوخة
والضعف (وَمِنْكُمْ) أيها البشر (مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ
قَبْلُ) أن يبلغ سن الشباب أو الشيوخ ويموت بعضكم قبل ذلك ، (وَ) يفعل الله ذلك بكم (لِتَبْلُغُوا أَجَلاً
مُسَمًّى) أي المدة التي سميت في اللوح المحفوظ ، فإن الله سبحانه
، قدر لكل إنسان أجلا محدودا لا يتجاوزه (وَلَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) أي ولكي تتفكروا وتعقلوا أمر دينكم ، فإن خلق الإنسان ،
وإبلاغه الأجل المسمّى إنما هو للتعقل والتفكر.
[٦٩] و (هُوَ) الله (الَّذِي يُحْيِي) الناس من التراب ، ثم يحييهم بعد موتهم
وَيُمِيتُ
فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩)
الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ
فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١)
____________________________________
ليوم القيامة (وَيُمِيتُ) الإنسان بعد حياته (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي أراد شيئا (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ) لفظا ، أو إرادة (فَيَكُونُ) ويوجد في الخارج ، وهذا لدفع استبعاد الحياة بعد الموت
، فإن الله الذي تمكن من خلق الإنسان ، يتمكن من إعادته بعد الموت.
[٧٠](أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ
اللهِ) أي المشركين الذين يريدون إبطال الآيات والحجج الدالة
على وجود الله وصفاته ، ويوم القيامة (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي إلى أين من الضلال ، يصرفهم الشيطان وأنفسهم
الكافرة.
[٧١](الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بأن لم يؤمنوا بالقرآن ، ونسبوه إلى الكذب (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من الشرائع والأحكام ، بأن لم يقبلوا ما جاء به
الأنبياء من الأصول والأحكام (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في القيامة ، عاقبة تكذيبهم بالكتاب ، وبالشريعة.
[٧٢](إِذِ) ظرف ل «يعلمون» أي يعلمون سوء أعمالهم حين تكون (الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) كما يغل المجرم في الدنيا ، والغل في العنق ، إما
للإهانة والألم ، وإما للربط (وَالسَّلاسِلُ) في أعناقهم (يُسْحَبُونَ)
فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ
قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً
____________________________________
أي يجرّون ، والأغلال جمع غل ، وهو طوق يدخل في العنق ، والسلاسل جمع سلسلة
، وهي حلق حديدية متشابكة يربط بها المجرم.
[٧٣](فِي الْحَمِيمِ) متعلق ب «يسحبون» أي يجرون في المحل الحار المنتهي حرارته
غايتها (ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ) من سجّر التنور ، إذا أوقده ، ولعل المعنى يكونون وقودا
في النار ، حتى تشعل النار بهم ، كما قال : (وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) .
[٧٤](ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) تقول لهم الملائكة الموكلة بالنار ، على وجه الإهانة
والإذلال (أَيْنَ) ذهبت (ما كُنْتُمْ) أي الأصنام التي كنتم (تُشْرِكُونَ) أي تجعلونها شريكة لله سبحانه؟
[٧٥](مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق ب «تشركون» فإنهم لما كانوا يعبدون الله ،
ويعبدون الأصنام ، استثنى «الله» سبحانه (قالُوا) أي المشركون في الجواب (ضَلُّوا عَنَّا) أي ضاعوا عنا ، ولا نجدهم (بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (شَيْئاً) ، وهذا إما يقولونه إنكارا ، لعلهم يتخلصون بهذا
الإنكار ، من تبعة عبادة الأصنام ، كما في آية أخرى يقولون (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وإما أن مرادهم ، أن ما كنا ندعوا
__________________
كَذلِكَ
يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤)
ذلِكُمْ
بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى
____________________________________
في الدنيا ، لم يكن شيئا يستحق العبادة ، وينفع أو يضر ، نحو «يا أشباه
الرجال ولا رجال» فقد نفوا الذات مريدين نفي الصفة (كَذلِكَ) أي كما أبطل الله سبحانه عبادة هؤلاء للأصنام (يُضِلُّ اللهُ) سائر (الْكافِرِينَ) فلا يهديهم طريق الجنة ، ويبطل عبادتهم وأعمالهم ، أو
المعنى يضلهم في الدنيا ، بأن يتركهم وشأنهم ، حين رآهم لم يقبلوا الهدى ، فلا
يلطف بهم الألطاف الخفية ، حتى يعملوا ما ينتفعون به في الآخرة.
[٧٦](ذلِكُمْ) «ذا» إشارة إلى العذاب الذي يحيط بهم ، و «كم» خطاب بسبب ما (كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِ) بأن كنتم تبطرون وتتكبرون بالأعمال الإجرامية (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) من مرح ، وهو الفرح بالباطل بتوسع فهو أخص من الفرح ،
وهكذا يكون المجرمون دائما ، إن فرحهم بالباطل ، وهم يوسعون في الفرح ، بخلاف
المؤمنين الذين فرحهم بالحق ، وهم يفرحون بقدر ، حيث يعلمون أن وراءهم يوما مهولا
، كما قال الله (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) .
[٧٧](ادْخُلُوا) أيها الكفار (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي من أبوابها السبعة ، كل فوج ، حسب بابه وأعماله في
حال كونكم (خالِدِينَ فِيها) إلى الأبد ، لا انقطاع لعذابها ، ولا خلاص لكم منها (فَبِئْسَ مَثْوَى) من «ثوى»
__________________
الْمُتَكَبِّرِينَ
(٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا
يُرْجَعُونَ (٧٧)
____________________________________
بمعنى اتخذ المحل ، أي المنزل (الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين تكبروا عن قبول الحق ، والظاهر أن هذا الكلام
تأكيد للكلام السابق ، وهو «يسحبون في الحميم ، ثم في النار يسجرون» لا إنّ ذلك ،
كان قبل دخولهم جهنم ، وإن كان محتملا ، بأن يكون هناك أنهر من المياه الحارة ،
والأودية النارية ، فيسحبون أولا ، في تلك المياه ، ويعذبون بتلك النار ، ثم
يدخلون في النار.
[٧٨] ثم يرجع
السياق إلى الرسول ليصبّره عما يلاقي من الأذى في سبيل البلاغ (فَاصْبِرْ) يا رسول الله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) لك بالنصر والأجر ولأولئك بالعذاب والإذلال والانهزام (حَقٌ) لا خلف فيه (فَإِمَّا) أصله «إن» الشرطية ، و «ما» الزائدة (نُرِيَنَّكَ) يا رسول الله (بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) فإن الله وعدهم عذاب الدنيا والآخرة ، والمراد بالبعض
عذاب الدنيا (أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ) بأن نقبض روحك قبل تعذيبهم (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) في الآخرة ، لنعذبهم العذاب الشديد ، وليس من المهم
عذابهم هنا ، حتى يحتم أن تراه ، وإنما المهم أنهم لا يفوتوننا ، ومعنى «إلينا»
إلى حكمنا وعقابنا.
[٧٩] وقد كان
الكفار يطلبون من الرسول ، أن يأتيهم بالخوارق ، كعصا موسى ، وإحياء عيسى ، فيأتي
السياق ، لردّ هذا الطلب ، فقد أتى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالقرآن الذي هو أعظم الخوارق حجة ودليلا ، فمن كفر بعد
ذلك ، فهو معاند ، أما الإتيان ، بسائر الآيات ، فذلك حسب إرادة الله ، إن شاء جاء
بها وإن لم يشأ لم يأت ـ بعد أن تمت الحجة ـ أما
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
____________________________________
الخوارق لإثبات وجود الله سبحانه ، فهي الآيات الكونية المثبوتة ، في كل
جهة من جهات الكون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنا عَلَيْكَ) أحوالهم ، كإبراهيم ، ونوح ، وموسى ، وعيسى ، ولوط ،
ويونس ، وغيرهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أحوالهم ، كسائر الأنبياء عليهمالسلام ، بل الأكثر منهم ، لم تقص أحوالهم في القرآن ـ وليس
المهم القصة ـ (وَ) إنما المهم أنه (ما كانَ لِرَسُولٍ) أي لم يكن حسب مقدوره (أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ) أي بمعجزة خارقة (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) بأن يأذن الله للرسول حتى يتمكن أن يؤتي بها (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بهلاك القوم ، بعد أن أتاهم الرسول بالخارقة ، ولم
يؤمنوا (قُضِيَ) عليهم بالهلاك والدمار (بِالْحَقِ) بسبب أنهم عاندوا فاستحقوا العقاب (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) خسروا دينهم ودنياهم ، وفي هذا تلميح ، بأنه إنما لا
يؤذن للرسول بالخارقة ، لأنه إن جاءهم بالخارقة ولم يقبلوا استحقوا العقاب ، والله
سبحانه لا يشاء عقاب هؤلاء بهذه العجالة.
[٨٠] ثم يأتي
السياق ، ليذكر جملة من الآيات الكونية ، الدالة على وجوده تعالى وصفاته ، والتي
هي أحسن من الخارقة الموقتة ، ألا ترى أنه لو صنع إنسان صنعا ، هل يحتاج بعد ذلك
أن يأتي بدليل على وجوده ،
اللهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩)
وَلَكُمْ
فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
____________________________________
أو علمه ، بمجيء خارق؟ (اللهُ) وحده هو (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ) أي خلقها لكم ، والمراد بالأنعام ، الإبل والبقر والغنم
(لِتَرْكَبُوا مِنْها) أي بعضها وهي الإبل (وَمِنْها) أي من جميعها (تَأْكُلُونَ) لبنا ولحما.
[٨١](وَلَكُمْ) أيها الناس (فِيها مَنافِعُ) من جهة الصوف والشعر والوبر ، وحمل الأثقال ، وغير ذلك (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي
صُدُورِكُمْ) بأن تركبوها لمقاصد بعيدة ، والوصول إليها حاجة في
صدوركم ، وهذا أخص من الركوب ، الذي سبق في الآية المتقدمة ، فإن الركوب أعم من
ذلك ، وأهمية هذا القسم من الركوب ، هي التي أوجبت تخصيصها بالذكر ، وقوله «لتبلغوا»
عطف على «لتركبوا» (وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) الأنعام للبر ، والفلك ، وهي «السفينة» للبحر ، وتكرار «عليها»
تمهيد ل «على الفلك» فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ وهل يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى خارقة
للبرهنة على وجود الله ، أو صفاته؟
[٨٢](وَيُرِيكُمْ) الله سائر (آياتِهِ) وأدلته الدالة على وجوده ، وسائر صفاته ، من الآيات
الآفاقية والأنفسية ، إما بخلق جديد ، أو بإلفاتكم إلى المخلوق السابق (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)؟ أيها البشر ، تنكرون وجودها ، أو دلالتها على الله
المتصف بالعلم والقدرة ، وسائر الصفات؟
أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
فَلَمَّا
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣)
____________________________________
[٨٣] وبعد
الاحتجاج على الكفار بصنوف الاستدلال لتهديدهم ، إن تمادوا في الغي والضلال ، وإنه
يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة ، لما تمادوا في الكفر والطغيان (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي يسافروا هؤلاء الكافرين (فِي الْأَرْضِ) إلى الشام وإلى اليمن (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة ، والنظر إنما هو بالنظر إلى أراضيهم
وطلالهم ، والسؤال عن أحوالهم ، من الساكنين هناك (كانُوا) أولئك الأمم (أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) بدنية وعلمية وغيرهما (وَ) أكثر (آثاراً فِي الْأَرْضِ) بالزراعة والعمارة والصناعة ، ونحوها (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) أي ما أفادهم في دفع العذاب عنهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ما كسبوه من البنيان والعمارة والأموال والقوى ،
وغيرها.
[٨٤](فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة البينة الواضحة ، الدالة على وجود الله ،
وسائر صفاته (فَرِحُوا بِما
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي فرح الكفار بعلمهم الوراثي التقليدي حول الأصول ،
واستحقروا علم الرسل (وَ) استهزءوا بما أتت به الرسل ، ف (حاقَ) أي حل وأحاط (بِهِمْ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب ، فقد كان الكفار يستهزءون بما يعدهم الرسل
من العذاب ، وأخيرا وقعوا فيه.
فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
____________________________________
[٨٥](فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا النازل بهم (قالُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَحْدَهُ) لا شريك ، كما قال الرسل (وَكَفَرْنا بِما
كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي بالأصنام التي كنا نشركها بالله.
[٨٦](فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ
لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وعذابنا ، كما قال سبحانه (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (سُنَّتَ اللهِ) أي سنّ الله عدم قبول إيمان من نزل به العذاب سنّة (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) وسبقت واستمرت (فِي عِبادِهِ) الكفار ، وذلك لأن العذاب لا ينزل إلا بعد أن يظهر عناد
الكفار ، بحيث يعلم أنهم لا يؤمنون باختيارهم أبدا ، وهذا وإن كان معلوما لله
سبحانه من الأزل إلا أن مظهره ذلك (وَخَسِرَ هُنالِكَ) عند نزول العذاب (الْكافِرُونَ) بأن ذهبت دنياهم وآخرتهم ، فلم يفوزوا بما أعدّ الله
للصالحين من الثواب والجنان.
__________________
(٤١)
سورة فصلت
مكيّة / آياتها (٥٥)
سميت هذه
السورة ، ب «فصلت» لاشتمالها على هذه الكلمة ، وسميت ب «حم السجدة» لابتدائها ، ب «حم»
ووجود السجدة الواجبة فيها ، فأضيف «حم» إلى السجدة ، لتميزها عن غيرها من «الحواميم»
وهي كسائر السور المكية ، تحوم حول العقيدة بأصولها الثلاث ، ولما ختم سبحانه سورة
المؤمن «غافر» بذكر الذين يتكبرون عن آيات الله سبحانه ، والإيمان به ، ابتدأ في
أوائل هذه السورة ، بذكرهم ، وما كانوا يقولون حول الإيمان.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله المستجمع لجميع صفات الكمال ، ذي
الرحمة الموكّدة التي وسعت كل شيء ، وذكر الله بصفة خاصة ، يستمطر من تلك الصفة
على الذاكر ، فمن أكثر ذكر ، الغني ، يغني ، ومن أكثر ذكر ، العظيم ، يعظم ، ومن
أكثر ذكر المؤمن يقوى إيمانه ، فالإكثار من ذكر «الرحمن الرحيم» يوجب اتصاف الذاكر
بالرحم ، هذا بالإضافة إلى إيجابه أن يرحمهالله سبحانه.
حم
(١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢)
كِتابٌ
فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)
____________________________________
[٢](حم) أي هذا حم ، أو «حاء» و «ميم» «تنزيل» وقد تقدم في
فواتح السور بعض التي منها أنها رموز بين الله والرسول ، ومنها أنها للإشارة ، إلى
أن القرآن المعجز من جنس هذه الحروف التي تتلفظون بها ليل نهار ، وقال بعض : أن
الكفار تبانوا أن يصفقوا ويلفظوا عند قراءة الرسول ، استهزاء ومنعا للناس عن
الاستماع ، فكان كلما وجد مثل هذا المجال ، افتتحت السورة بالمقطعات ، لأنهم كانوا
ينصتون لها لما قد دهشهم ، فيلقى الوحي الموقظ.
[٣](تَنْزِيلٌ) أي أن القرآن تنزيل (مِنَ) الله (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ذي الرحمة المكررة ، فإنه يرحم العباد في الدنيا
والآخرة ، ويرحمهم بالحياة ، وسائر اللوازم ، إلى غيرهما من الأقوال في وجه
التكرار ـ وقد تقدم بعضها ـ.
[٤] هو (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بيّنت آياته تبيانا تاما ، بحيث ، لم تجمل ولم تدمج
، بل أوضحت ، كما يقال ، فصلت الأمر لزيد ، حيث أوضحه له وذلك ، لأن التفصيل
والتوضيح متلازمان غالبا ، وهذا لا ينافي إجمال بعض الآيات لحكمته ، لأن القضية
طبيعية ، أي أن طبيعة القرآن ، تفصيل آياته وتوضيحه في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بهذه اللغة التي يفهمها أهل الجزيرة والقرآن ، من قرأ ،
بمعنى جمع بعضه إلى بعض ، وأنه يقرأ ، كما أنه يسمى كتابا لأنه يكتب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي أنزل هذا القرآن ، لأهل العلم ، وإنما خصوا بذلك ـ مع
أنه عام ـ لأنهم هم المستفيدون منه.
بَشِيراً
وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
____________________________________
[٥] في حال كون
هذا القرآن (بَشِيراً) للمؤمن والمحسن ، بالجنة والثواب (وَنَذِيراً) للكافر والعاصي ، بالنار والعقاب ، وذلك بما اشتمل عليه
من آيات الوعد والوعيد (فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر المخاطبين به ـ إلى حين نزول هذه السورة ـ والمراد
بهم أهل مكة (فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ) القرآن ، استماع تفكر وتعقل وفائدة.
[٦](وَقالُوا) أي الكفار المعرضون (قُلُوبُنا فِي
أَكِنَّةٍ) أي في أغطية ، فإن «أكنة» جمع «كن» وهو الغطاء (مِمَّا تَدْعُونا) يا محمد (إِلَيْهِ) من التوحيد والمعاد ، وسائر الأصول والفروع ، فلا نفقه
ما تقول ، كالشيء الذي عليه غطاء ، حيث لا ينفذ فيه البصر والسمع لحيلولة الغطاء
بينه وبين الإبصار والاستماع ، وكانوا يقولون هذا القول استهزاء بالرسول والقرآن (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي حمل ثقيل ، فلا نسمع ما تلفظ منه ، من آي القرآن (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ) يا محمد (حِجابٌ) لا نراك ولا ترانا فقلبنا وسمعنا وبصرنا ، غير مستعدة
لك ولكلماتك ، وكما كان قوم نوح يفعلون ذلك (وَاسْتَغْشَوْا
ثِيابَهُمْ) فقوم الرسول ، كانوا يقولونه قولا (فَاعْمَلْ) يا محمد على طبق وحيك (إِنَّنا عامِلُونَ) على طبق تقاليدنا ، وهذا يشبه الاستهزاء أو التهديد ،
قريب من قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) .
__________________
قُلْ
إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)
____________________________________
[٧](قُلْ) يا رسول الله في جواب هؤلاء الأشخاص ، إنني لست شخصا
عجيبا ، حتى أستحق ، كل هذه الأقوال الفارغة بل أنا بشر يوحي الله إليّ لإرشادكم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي من هذا الجنس ، فلا أدعي لنفسي مقاما فوق هذا ،
منتهى الأمر ، أنه (يُوحى إِلَيَ) من قبل الله سبحانه (أَنَّما إِلهُكُمْ) أيها الكفار (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ، كما تزعمون (فَاسْتَقِيمُوا) في عقيدتكم وأعمالكم (إِلَيْهِ) استقامة منتهية إليه سبحانه دون انحراف إلى اليمين أو
الشمال (وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي اطلبوا غفرانه فيما سلف من معاصيكم (وَوَيْلٌ) أي الهلاك والنكال ، فإن «ويل» كلمة تطلق للأمر السيئ
أيّا ما كان (لِلْمُشْرِكِينَ) الذين يشركون بالله سبحانه.
[٨] ثم بين سبحانه
أظهر صفات المشركين بقوله (الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي لا يعطونها ، والظاهر أن المراد بالزكاة مطلق
الإنفاق ، لا الزكاة المفروضة ، لأنها لم تكن وجبت في مكة ، والسورة كما عرفت مكية
، وهذا لأجل أن المشرك لا يعتقد بالله واليوم الآخر ، حتى ينفق ، فالذم راجع إلى
عدم الاعتقاد ، لا إلى عدم الإعطاء ، حتى يقال ، لو كانت الزكاة مندوبة ، لم يكن
وجه للويل؟ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ كافِرُونَ) إنما كرر «هم» تأكيدا ، وبيانا للتلازم بين الكفر وبين
عدم الإيمان بالآخرة.
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ
____________________________________
[٩](إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الملازم لعدم عمل السيئات (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) أي جزاء على أعمالهم غير مقطوع ، فإن «ممنون» من «منّ»
بمعنى «قطع» أو من «المنّ» بمعنى الأذى الذي يكدّر الإحسان ، أي غير مكدّر بالمن.
[١٠](قُلْ) يا رسول الله منكرا على الكفار (أَإِنَّكُمْ) أيّها الكافرون (لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي كيف تكفرون بهذا الإله العظيم ، الذي خلق أرضكم
الوسيعة ـ هذه ـ في مدة يومين فقط؟ (وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً) أي أضدادا ، أو أمثالا ، من الأصنام ، تعبدونها معه ، (ذلِكَ) الذي خلق الأرض (رَبُّ الْعالَمِينَ) فليس دونه إله ولا شريك له.
[١١](وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جمع راسية ، أي الجبال الثابتات ، من «رسى» بمعنى ثبت (مِنْ فَوْقِها) أي من فوق الأرض ، حتى أنتم تشاهدونها (وَبارَكَ فِيها) أي جعل في الأرض البركة والنمو ، فليس ما في الأرض
جامدا لا ينمو ، إنما فيها الثمار والحيوان وغيرهما من أنواع الخيرات (وَقَدَّرَ فِيها) أي في الأرض (أَقْواتَها) جمع قوت ، وهو الرزق ، بأن قدّر لكل إنسان وحيوان رزقه
ومأكله (فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ) أي في تتمة أربعة أيام ، فيومان للخلق ، ويومان للتقدير
، وهذا كما يقال :
سَواءً
لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ
____________________________________
خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما
يراد في خمسة ، حتى تمت السفرة في خمسة عشر (سَواءً) أي أربعة أيام مستوية ، كاملة من غير زيادة ونقصان (لِلسَّائِلِينَ) عن مدة خلق الأرض ، وتقدير الأقوات فيها ، وقد أوصل بعض
انهزاميتهم الغربية على أن يتصرف في الآية ويطبقها على العلم الحديث ، فيقول بأن «يومين»
يعني «ألفي مليون سنة» إلى آخر أمثال هذه الثرثرة الفارغة ، ومن غريب الأمر أن نرى
أناسا يهتبلون كل كلمة غربية وإن قالها رجل في كتاب ، ويتركون ظواهر الكتاب والسنة
، ولم؟ لإرضاء الغرب والمتغربين ، كأنهم لم يسمعوا قوله (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ورفع اليد عن الظاهر ، لا يكون إلا بدليل قاطع من عقل
أو نقل ، وإلّا ، حصل التزلزل في جميع أصول الإسلام وفروعه ، ثم ما المانع في أن
يكون الخلق في مقدار يومين من أيامنا ، كما هو الظاهر؟
[١٢](ثُمَّ اسْتَوى) الله سبحانه (إِلَى السَّماءِ) أي قصد نحو خلقها ، يقال : استوى إلى مكان كذا ، بمعنى
توجّه إليه توجها ، لا يلفته شيء ، والإتيان ب «ثم» للتفاوت بين الخلقين ، لا
للتراخي بين الزمانين (وَهِيَ دُخانٌ) أما المراد هو الدخان المتعارف ، بأن خلق سبحانه أولا
دخانا ، ثم جعله سماء ، أو المراد الهواء المتخلخل بالماء ، الذي صعد من ضرب الماء
بعضه ببعض ، وسمي دخانا لشباهته به ، فإن الدخان هواء متخلخل بالرماد ، وكلاهما
يرى في النظر على نحو واحد ، وهل هناك
__________________
فَقالَ
لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
فَقَضاهُنَّ
سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها
____________________________________
في المدارات ، ما أصله الدخان ، مما يشبه هوائنا المجاور للأرض ، أو المراد
من خلق السماء خلق الكواكب من الدخان؟ أو غير ذلك؟ احتمالات (فَقالَ) الله سبحانه (لَها) أي للسماء ـ فإنها مؤنثة سماعية ـ (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) وأقبلا السير على وفق حكمتنا (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) وهذا كناية عن تطلب الحركة منهما ، كما يتطلب الإنسان
من العاقل شيئا (قالَتا أَتَيْنا) وانقدنا للأوامر (طائِعِينَ) جمع طائع ، وهذا كناية عن خضوعها التكويني ، لما أجرى
الله فيهما من السنة ، كما يقال : قلت لداري لا تهدمي ، فامتثلت ، يراد أنها لم
يحن بعد وقت انهدامها ، ويحتمل بعيدا أن يكون هناك خطاب حقيقي ، وجواب حقيقي ، فإن
ظاهر (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) إن للأشياء مرتبة من الإدراك والتجارب ، وإنما قال «طائعين»
لأن الجمع قد يستعمل بمعنى الجنس ، أو باعتبار تغليب العقلاء الذين فيهما.
[١٣](فَقَضاهُنَ) أي صنع السماوات ، وأحكم خلقهن (سَبْعَ سَماواتٍ) مدارات للكواكب السيارة ـ كما قالوا ـ أو هناك طبقات
تسمى كل طبقة سماء ، ولا حجة في قول علماء الفلك على النفي ، إذ الفضاء وسيع مدهش
، ولم يدرك الإنسان حسب اعترافهم إلّا شيئا ضئيلا في الفلك ، نسبة إلى ما لم يدرك
كنسبة الذرة إلى الصحراء الوسيعة (فِي يَوْمَيْنِ) أي مقدارهما ـ كما هو الظاهر ـ (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) بأن دبّر
__________________
وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣)
إِذْ
جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ
____________________________________
أمرها ، فإن الوحي يطلق على التيسير حسب الصلاح والحكمة ، نحو (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أو المراد أوحى إلى الملائكة الذين فيها ، بأمور السماء
وتنظيم شؤونها (وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا) أي السماء القريبة من الأرض (بِمَصابِيحَ) أي النجوم ، فإن جعل الفضاء الملاصق للأرض ، بحيث يخرقه
النور ، حتى يراه الإنسان قد تزيّن له ، وإنما سمى الكواكب مصابيح ، لأنها
كالمصابيح تضيء (وَحِفْظاً) أي لأجل الحفظ ، فإن الكواكب مراكز لرجم الشياطين ،
الذين يريدون اختلاس الكلمات ، التي تدار هناك حول الأرض ، فإنهم يرجمون من الكواكب
بالشهب (ذلِكَ) الذي ذكر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في سلطانه الغالب على كل شيء (الْعَلِيمِ) بالمصالح.
[١٤](فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي أعرض هؤلاء الكفار عن الإيمان (فَقُلْ) يا رسول الله لهم (أَنْذَرْتُكُمْ) أي أخوّفكم (صاعِقَةً) أي عذابا ، وإنما سمي العذاب صاعقة ، لأنه يصعق الإنسان
ويهلكه ، والتأنيث ، باعتبار أنها وصف للنار النازلة من السماء ، في العذاب غالبا (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي كعذاب قوم هود وصالح ، حيث لم يؤمنوا فأهلكوا.
[١٥](إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) أي نزل بهم العذاب حين أتتهم رسل الله (مِنْ
__________________
بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ
رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤)
فَأَمَّا
عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ
مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُمْ قُوَّةً
____________________________________
بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي من كل طرف من أطرافهم قبلهم وبعدهم ، حتى يحيطوا بهم
لعلهم يؤمنوا ـ وهذا كناية عن إصرار الرسل عليهم بالإيمان ، أو المراد أنذروهم من
جهة دنياهم وآخرتهم ، إن لم يؤمنوا ، قائلين لهم (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ) فلا تشركوا به عبادة الأصنام ، لكن هؤلاء الأقوام لم
ينفعهم الإنذار ، بل (قالُوا لَوْ شاءَ
رَبُّنا) أن نؤمن به وحده ، ولا نشرك به شيئا ، ولا نفعل المعاصي
ـ كما تقولون ـ (لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً) لدعوتنا إلى هذه الأمور (فَإِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) إذ لا نعتقد بأنكم رسل من الله تعالى.
[١٦](فَأَمَّا عادٌ) قوم هود عليهالسلام (فَاسْتَكْبَرُوا) وتجبّروا (فِي الْأَرْضِ) حين وصفوا أنفسهم فوق حقيقتهم ، بل رأوها أعظم من
الإيمان بالله واتباع رسله (بِغَيْرِ الْحَقِ) فلم يكن ترفيعهم نفوسهم بالحق لعلم أو إيمان ، أو ما
أشبه ، بل لمجرد الظلم والطغيان (وَقالُوا) مغترين بقواهم البدنية والمالية ، وما أشبه (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) حتى يتمكن من تعذيبنا ، فقد هددهم نبيّهم بالعذاب ، إن
تمادوا في الطغيان ، فقالوا نحن نقدر دفعه ، إذ لا أقوى منا ، حتى يتمكن من
تعذيبنا ، وقد ردهم الله سبحانه بقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فلو شاء أهلكهم ، ولم يتمكنوا من دفع عذابه بقواهم ،
التي هي من قبل
وَكانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ
الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
____________________________________
الله أيضا (وَكانُوا بِآياتِنا) أي أدلتنا الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا (يَجْحَدُونَ) أي ينكرون ولا يعترفون.
[١٧](فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) الريح الصرصر ، هي الريح الباردة من الصرّ بمعنى البرد
، أو هي الريح العاصفة ، ذات الصوت الشديد ، والصيحة المزعجة ، ونحسات ، جمع نحس ،
وهي الأيام المشؤومة المنحوسة ، وإنما كانت الأيام نحسات ، لما يحدث فيها من
العذاب ، والنكال ، وإنما أرسلنا هذه الريح عليهم (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ) أي العذاب الذي يخزيهم ويذلهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي في هذه الحياة القريبة قبل حياة الآخرة (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعدّ لهم (أَخْزى) أكثر إذلالا لهم (وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ) أي لا ينصرهم أحد من بأس الله تعالى.
[١٨](وَأَمَّا ثَمُودُ) قوم صالح عليهالسلام (فَهَدَيْناهُمْ) أي بيّنا لهم طريق الخير والشر والإيمان والكفر (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي اختاروا التعامي عن الحق على الهداية ، وسلوك طريق
الدين ، ومعنى استحب طلب حب الشيء (فَأَخَذَتْهُمْ
صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي العذاب ذو الذلّ والهوان ، صعقهم وأهلكهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من تكذيب
وَنَجَّيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩)
حَتَّى
إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)
____________________________________
صالح وعقر الناقة ـ كما مرت قصتهم سابقا ـ.
[١٩](وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) في هاتين القصتين (وَكانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي ، فلم يصيبهم العذاب.
[٢٠](وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُحْشَرُ) أي يجمع (أَعْداءُ اللهِ) وهم الكفار والعصاة (إِلَى النَّارِ) أي منتهين إلى النار (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم ليلحق بهم آخرهم ، من وزع ، بمعنى حبس ،
ومنع والمعنى إذا حشروا حبسوا هناك على حافة النار قبيل دخولها ، وفيه زيادة إهانة
وإرهاب.
[٢١](حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي وصلوا إلى النار ، و «ما» زائدة جيء بها ، لتأكيد
اتصال الشهادة بالحضور ـ كما في الصافي ـ (شَهِدَ عَلَيْهِمْ
سَمْعُهُمْ) بالاستماع إلى المحارم (وَأَبْصارُهُمْ) بالنظر إلى المحرمات (وَجُلُودُهُمْ) بلمس الحرام ، من أخذ ، ومشي عليه ، وزنا ، وما أشبه (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من أنواع المعاصي ، كما قال سبحانه (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ
وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فإن الله سبحانه ، يجعل فيها حاسة النطق والتكلم ، كما
جعل في اللسان.
__________________
وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
وَما
كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ
____________________________________
[٢٢](وَقالُوا) أي قال أعداء الله (لِجُلُودِهِمْ) والظاهر أن المراد تغليب الجلود ، لا أن خطابهم خاص بها
(لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنا)؟ حتى نبتلي بالعقاب ، وتتم الحجة علينا ، يقولون ذلك
معاتبين (قالُوا) أي قالت الجلود في جوابهم ، وإنما جيء بلفظ العاقل ،
لأنهم حيث أخذوا في التكلم ، صاروا كأنهم عقلاء (أَنْطَقَنَا اللهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء الناطقة ، وإنما جيء ب «كل شيء» لأن الجلود
من الأشياء ، وليست من الأشخاص ، فقد ردفت ردف «اللسان» في الإنسان ، والطيور
الناطقة ونحوهما (وَهُوَ خَلَقَكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) الظاهر أنه جملة مستأنفة خطاب من الله للكفار في الدنيا
، أي كيف تنكرونه ، وهو خالقكم؟ (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) في الآخرة ، والرجوع إنما هو إلى حكمه وحسابه وجزائه ،
ويحتمل أن يكون هذا من تتمة كلام الجلود ـ ولكن بتأوّل ـ.
[٢٣] ثم رجع
السياق إلى كلام الجلود مع الكفار يوم القيامة ، إذ تقول لهم «ما سترتم المعاصي
خوف شهادتنا عليكم ، بل كان ستركم لها ظنكم بعدم علم الله إن سترتم» وتريد الأعضاء
أن تثبت بهذا الكلام ، رذيلة أخرى على الكفار ـ فوق ارتكابهم العصيان ـ وهي أنهم
كانوا يظنون عدم علم الله تعالى بأحوالهم واطلاعه على عصيانهم ، وهذا كما لو قال
الشاهد للمجرم : إنك لم تخف مني ، ولذا لم يكن سترك من خوفي ، وإنما كان سترك
للجريمة ، لأنك لا تعتقد بعقاب الحاكم لك (وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ) المعاصي بإتيانها في السرّ مخافة (أَنْ يَشْهَدَ
عَلَيْكُمْ
سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا
يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)
وَذلِكُمْ
ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ
(٢٣) فَإِنْ
يَصْبِرُوا
____________________________________
عَلَيْكُمْ
سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) فإنكم لم تكونوا تخافون منها ، حتى يكون ستركم للعصيان
خوفا من هذه الجوارح (وَلكِنْ) كان ستركم حيث (ظَنَنْتُمْ أَنَّ
اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) فكنتم ترون أن الله لا يعلم السرائر ، وإنما يعلم
العلانية فقط ، فأسررتم المعاصي ، حتى لا يعلم بها الله سبحانه.
[٢٤](وَذلِكُمْ) «ذا» إشارة و «كم» خطاب (ظَنُّكُمُ الَّذِي
ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) أي أهلككم ، والمعنى أن ظنكم بأن الله لا يعلم سركم ،
هو الذي أوجب هلاككم ، إذ نزّلتم الله سبحانه ، دون منزلته ، وأنكرتم علمه الشامل
، حتى هانت لديكم المعاصي ، فأدى إلى الكفر ، وفي الإعراب «ذلكم» مبتدأ ، و «ظنكم»
بدل منه ، و «أرداكم» خبر (فَأَصْبَحْتُمْ) أيها الكفار (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا دنياهم وأخراهم ، روى عن الإمام الصادق عليهالسلام أنه قال : ينبغي للمؤمن ، أن يخاف الله خوفا ، كأنه
يشرف على النار ، ويرجوه رجاء ، كأنه من أهل الجنة ، إن الله تعالى يقول (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ
بِرَبِّكُمْ) ... الآية» ثم قال ، إن الله عند ظن عبده ، إن خيرا
فخير ، وإن شرا فشر .
[٢٥] وبعد هذا
كله ، فحق هؤلاء الكفار النار (فَإِنْ يَصْبِرُوا) على ما يلاقون
__________________
فَالنَّارُ
مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
وَقَيَّضْنا
لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ
____________________________________
من النيران والهوان (فَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ) أي منزل لهم من «ثوى» بمعنى اتخذ المنزل ، والمعنى أن
صبرهم لا ينفعهم ، كما كان ينفع في الدنيا (وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا) أي ليطلبوا العتبى ، وهي بمعنى «الرضا» أي يطلبوا رضاه
سبحانه عنهم حتى ينجيهم مما فيه (فَما هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ) ـ بصفة اسم المفعول ـ أي ممن يرضى عنه ، فإن المعتب هو الذي يقبل عتابه ،
ويجاب إلى ما سأل.
[٢٦] وقد جرت
عادة الله في الكون ، أن الإنسان ، إذا عاشر الأخيار ، يقودونه إلى الخير ، وإن
عاشر الأشرار ، يقودونه إلى الشر ، وإذا انحرف الإنسان لما رأى الهدى ، لا بد وأن
يلتحق بقافلة الأشرار ، وهذا معنى تهيئة الله لرفقاء السوء ، فإنه حيث جرت سنته
الكونية على ذلك نسبت التهيئة ، لقرين السوء إليه (وَقَيَّضْنا) أي هيئنا (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (قُرَناءَ) جمع قرين ، وهو الصديق المقارن للإنسان (فَزَيَّنُوا) أولئك القرناء (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمور الدنيا الحاضرة ، بأن زينوا لهم الكفر والعصيان
(وَما خَلْفَهُمْ) من أمور الدنيا الآتية ، كتأسيس أسباب الفسق والعصيان ،
كالبدع الباقية ، وبناء محلات الفساد ، وما أشبه ذلك ، ولعل العموم شامل للشياطين
أيضا ، كما قال سبحانه (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)
__________________
وَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ (٢٦)
____________________________________
(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ) أي ثبت في حقهم العذاب ، فقد صاروا في قطيع الكافرين ،
وأهل النار ، فهم داخلون (فِي أُمَمٍ) كافرة كانت (قَدْ خَلَتْ) ومضت (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل هؤلاء الكفار (مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ) فهؤلاء داخلون في زمرة أولئك (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) حيث خسروا سعادة الدنيا والآخرة.
[٢٧] ثم يأتي
السياق لبيان حال الكفار ، أمام القرآن وصنيعهم لإبطاله ، وعدم وصوله إلى الناس (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة ، بعضهم لبعض (لا تَسْمَعُوا لِهذَا
الْقُرْآنِ) الذي يقرأه الرسول ، لئلا تتأثروا به ، ويجذبكم إلى
الإيمان (وَالْغَوْا فِيهِ) أي عارضوه باللغو الباطل (لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ) الرسول ، فقد كان بعض الكفار ، إذا قرأ الرسول القرآن ،
جاءوا ، ورفعوا أصواتهم بالكلام الهدر ، ليخلطوا على الرسول ، فلا يتمكن من القرآن
، ولئلا يسمع الناس الذين يستمعون إلى كلام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى يؤثر فيهم القرآن ، وفوق ذلك ، إن بعض الكفار ، كان
يقف على باب المسجد الحرام ، فإذا أراد أحد الدخول ، في المسجد للطواف ـ والرسول
جالس قرب الكعبة يتلو ـ ملأ أذنه قطنا ، ويحذره من سماع القرآن ، قائلا أن فيه
سحرا يؤثر ، كما فعلوا ذلك بالوفد الذي أتى من المدينة ، للإصلاح بين الأوس
والخزرج.
فَلَنُذِيقَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ
أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا
____________________________________
[٢٨](فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَذاباً شَدِيداً) في الدنيا بالقتل والأسر والضنك ، وغيرها ، وفي الآخرة
بالنار والهوان (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي نجازيهم بأقبح أعمالهم ، أما أعمالهم الحسنة ، فإنها
تحبط ، أو نجازيهم بأقبح جزاء في مقابل العصاة المعادين الذين لا يجازون إلا
بالقبيح.
[٢٩](ذلِكَ) الذي تقدم من (أَسْوَأَ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ)(جَزاءُ أَعْداءِ
اللهِ) «ذلك» مبتدأ ، و «جزاء» خبره ، و (النَّارُ) بدل من «جزاء» أي ذلك الذي ذكرنا هو النار (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) فهم مخلدون في النار أبد الآبدين (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ) أي ينكرون الآيات الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا ،
من الآيات التكوينية والتشريعية ، كالقرآن الحكيم.
[٣٠](وَ) إذ دخل الكفار النار ، أرادوا الانتقام من الذين أضلوهم
في الدنيا ، و (قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) والمراد بالجن الشيطان ، والمراد الطائفتين لا الشخصين
، فهم يريدون الانتقام من الشياطين الموسوسين لهم ، والبشر المضلين إياهم ، لكي (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) في النار ، لنسحقهم ، أو ليكونوا أشد عذابا ،
لِيَكُونا
مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ
أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
____________________________________
إذ طبقات النار كلما سفلت ازدادت حرارة ونكالا (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي من جملتهم ، حتى يكون عذابهم أكثر من عذابنا ، وهنا
لا يأتي الجواب ، وقد مرّ في آية أخرى ، أنه سبحانه يقول (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) .
[٣١] في مقابل
أهل النار أهل الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي اعتقدوا ذلك ، لا مجرد لقلقة لسان (ثُمَّ اسْتَقامُوا) في العمل والسلوك بالإيمان ، بما يلزم الإيمان به
والعمل الصالح (تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) إما دائم الأوقات ، فإن الملائكة تنزل على الأخيار ،
وإن لم يروها أو عند الموت ـ كما روي عن الصادق عليهالسلام
ويؤيده ظاهر الآية ـ قائلين لهم (أَلَّا تَخافُوا) من أهوال الآخرة (وَلا تَحْزَنُوا) وهو بعد الخوف ، فإن الإنسان ، إذا علم بالمكروه ، أو
وصل إليه حزن (وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدنيا.
[٣٢] ثم يقولون
لهم على وجه التبشير (نَحْنُ) معاشر الملائكة (أَوْلِياؤُكُمْ) أحبائكم ونلي أموركم (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) فإنا معكم لا
__________________
وَفِي
الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما
تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ
غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (٣٣)
____________________________________
يصيبكم مكروه ما دمتم في الحياة ـ وهذا لا ينافي كون التنزل عند الموت ، إذ
يراد به حينئذ هذه الساعات القلائل التي بقيت من أعمارهم في الدنيا ـ (وَفِي الْآخِرَةِ) حيث نهديكم الطريق إلى أن تصلوا إلى الجنة ، فإن
الإنسان من أحوج ما يكون إلى المرشد والصديق في محلات الأهوال والأحزان (وَلَكُمْ فِيها) أي في الآخرة (ما تَشْتَهِي
أَنْفُسُكُمْ) من أنواع الملذات والكرامات (وَلَكُمْ فِيها) أي في الآخرة (ما تَدَّعُونَ) أنه لكم ، من «ادّعى» «يدعي».
[٣٣] ثم يرونهم
، بأنها من إحسان الله إليهم ، حتى تبهج نفوسهم بالكرامة ، كما بهجت بالملذة (نُزُلاً) أي في حال كون هذا الإنعام ، بما تشتهي الأنفس إنزالا (مِنْ غَفُورٍ) لذنوبكم (رَحِيمٍ) بكم ، والإنزال إنما هو باعتبار علو مرتبة المعطي ، لا
الرفعة المكانية.
[٣٤] ثم يأتي
السياق توجيه الناس إلى دعوة الرسول ، وأنها ليست إلا إلى الخير ، وللخير ، فلما
ذا يفر منها الكفار والعصاة؟ (وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً) استفهام يراد به النفي ، أي لا أحد أحسن قولا (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) الذي هو خالق البشر ومالك كل شيء (وَعَمِلَ صالِحاً) الملازم لعدم السّيئ (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا لله تعالى ، في كل أمر ونهي ، وممن أرشد
ودعا ، فهو مسلم ، عامل للصالحات ، داع إلى الله
وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)
وَما
يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو
____________________________________
تعالى ، وهل هناك أحسن منه؟
[٣٥] وإذ جرى
حديث الدعوة ، لا بد وأن يسير السياق إلى واجب الداعي أمام الأتعاب والمصاعب التي
يواجهها الدعاة إلى الله (وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) فإن الحسنة المأمور بها الداعي في مقابل الجهال ، خير
من السيئة ، التي هي مقتضى تقابل السيئة بمثلها ، وهذه الجملة كمقدمة لقوله (ادْفَعْ) يا رسول الله ، أو أيها الذي تواجه بالسيئة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع أذى الكفار وكيدهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق
في دفع الأذى والكيد ، وقد جمع الإمام السجاد عليهالسلام ، ذلك في قطعة من «دعاء مكارم الأخلاق» هي «سدّدني لأن
أعارض من غشني بالنصح وأجزي من هجرني بالبر ، وأثيب من حرمني بالبذل ، وأكافئ من
قطعني بالصلة ، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة ، وأغضي عن
السيئة» (فَإِذَا) فعلت ذلك كان (الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) وغضاضة (كَأَنَّهُ وَلِيٌ) أي موال لك (حَمِيمٌ) كثير المودة والمحبة.
[٣٦](وَما يُلَقَّاها) أي ما يلقّى هذه الفضيلة والصفة التي هي الدفع بالتي هي
أحسن (إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا) في مقابلة الجهال ، بأن لم تثر أقوال الأعداء وحركاتهم (وَما يُلَقَّاها) أي هذه الخصلة المذكورة (إِلَّا ذُو
__________________
حَظٍّ
عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ
____________________________________
حَظٍّ
عَظِيمٍ) (٣٥)
أي نصيب وافر
من العقل ، والرأي ، والحكمة ، فإن الإنسان يقابل السيء بالأسوإ ، ثم بالمثل وآخر
طاقته أن يسكت في مقابل السيئة ، أما أن يفعل الحسن ، بل الأحسن ، فإنه بحاجة إلى
حظ عظيم وعظيم جدا.
[٣٧](وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) يا رسول الله ، أو أيها المخاطب ، بأن تدفع بالتي هي
أحسن (مِنَ الشَّيْطانِ) أي من طرفه (نَزْغٌ) النزغ هو النخس بما يدعو إلى الفساد ، فإن الشيطان ينخس
الإنسان ، ويهيجه للباطل خصوصا عند الخصام ، وفي المعركة ـ وهذا من تتمة الأمر
بالدفع بالتي هي أحسن ـ (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي اطلب العوذ والإجارة والحفظ من الله سبحانه ، «من
الشيطان الرجيم» الطريد ، المرجوم باللعن والشهب كما قال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا
مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) وهذا بخلاف غير المتقي الذي يستمر في خصامه ولجاجه ،
قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : «الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم فإن لم يندم
فجنونه مستحكم» ف (إِنَّهُ) أي الله (هُوَ السَّمِيعُ) يسمع ما تقولون وهو (الْعَلِيمُ) يعلم ما تعملون.
[٣٨] ثم رجع
السياق ليحاج المشركين بإتيان الأدلة على الله الواحد الأحد الذي لا شريك له (وَمِنْ آياتِهِ) أي آيات الله الدالة على وجوده وسائر
__________________
اللَّيْلُ
وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧)
فَإِنِ
اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ
____________________________________
صفاته (اللَّيْلُ
وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فمن يا ترى أبدعها وخلقها ، هل هي الأصنام الجاهلة
العاجزة الجامدة؟ أم الله العلي العظيم؟ (لا تَسْجُدُوا) أيها الناس (لِلشَّمْسِ وَلا
لِلْقَمَرِ) فإنهما من آيات الله سبحانه ، وليسا بإله يسجد له (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أي خلق الشمس والليل والنهار ، والإتيان بجمع العاقل ،
لتوحيد السياق مع قول المشركين ، فإنهم كانوا يعتبرون هذه المخلوقات من العقلاء ،
حيث اتخذوها آلهة (إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي إن كنتم تريدون عبادة الله فاعبدوه وحده ولا تشركوا
به ، وهذا كما يقول «إن كنت تريدني فاسمع كلامي ، ولا تسمع كلام غيري» تريد أن
سماع كلامك ، وكلام غيرك عندك ، بمنزلة عدم سماع كلامك أصلا.
[٣٩](فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي تكبر هؤلاء الكفار عن قبول كلامك واتباعك في التوحيد
، بل عبدوا الشركاء مع الله ، فليس بمهم ، إذ هناك من هو أعلى منهم ، وأرفع رتبة ،
يخضع لله ويسجد له وحده ، وهذا كما تقول لمن عصاك «إن تعصي ، فإن عندي من هو أحسن
منك يطيعني» تريد الاستهانة بشأنه ، وأنك لا يهمك عصيانه ، (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي الملائكة ، والمراد عنده رتبة ومنزلة ، لا مكانا ،
فهو سبحانه منزه عن المكان والمكانيات (يُسَبِّحُونَ لَهُ) أي ينزهونه عن الشركاء والنقائص
بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨)
وَمِنْ
آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا
____________________________________
(بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) في دائم الأوقات (وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ) من سأم بمعنى تعب ، أي لا يتعبون من التسبيح والعبادة.
[٤٠](وَمِنْ آياتِهِ) الكونية الدالة على وحدته ، وسائر صفاته وعلى المعاد (أَنَّكَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) وخشوعها اغبرارها ، وعدم وجود النباتات المتحركة فيها ،
بواسطة الجدب ، فحالها حال الإنسان الخاشع ، الذي لا حراك له ، وهو مغبر غير نضر (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) من المطر (اهْتَزَّتْ) أي تحركت ، فإن الماء ينشط الأرض ويحركها بالانتفاخ
وتعلية الأملاح (وَرَبَتْ) أي ارتفعت لدخول الماء والهواء خلالها (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي أحيا الأرض بعد الموت والخشوع (لَمُحْيِ الْمَوْتى) فكما يقدر على هذا يقدر على ذلك (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكيف ينكر الكافر قدرته على إعادة الأموات ، وهو يرى
هذه القدرة الباهرة كل يوم؟
[٤١](إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
آياتِنا) أي يميلون عن الإيمان بآياتنا ، من «ألحد» ، بمعنى ،
مال ، فينكرون قدرتنا ، وسائر صفاتنا ، فإنهم حيث انحرفوا عن الإيمان ، كانوا
بمنزلة من انحرف عن الدليل الدال عليه (لا يَخْفَوْنَ
عَلَيْنا) فإنهم تحت سمعنا وبصرنا ، نرى أعمالهم ونسمع أقوالهم ،
حتى نجازيهم على ما اقترفوا من الميل والانحراف ، ويكون
أَفَمَنْ
يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١)
لا
يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
____________________________________
مصيرهم النار ، بخلاف مصير المؤمنين الذي هو الجنة (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) وهم الملحدون (أَمْ مَنْ يَأْتِي
آمِناً) من عذاب الله (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ومصيره إلى الجنة؟ ثم يتوجه الخطاب إلى الناس مبينا لهم
، أن كل عمل يعملونه من خير أو شر سيجازون عليه (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية (إِنَّهُ) تعالى (بِما تَعْمَلُونَ) من الخير والشر (بَصِيرٌ) عالم لا يخفى عليه شيء ، فستحاسبون عليه وتعطون جزاءه ،
فاختاروا لأنفسكم ما شئتم.
[٤٢] ثم هدد
سبحانه الكافرين بالقرآن ، بعد أن هدد الكافرين به ، أو بالمعاد ، بقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) وهو القرآن ، بأن جحدوه ، وقالوا أنه ليس من عند الله (لَمَّا جاءَهُمْ) من عند الله تعالى (وَ) الحال (إِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ) ذو عزة ورفعة ، لا يتمكن البشر أن يأتيه لفصاحته
وبلاغته واشتماله على الأنظمة البديعة والخوارق ، وقد حذف خبر إنّ لأجل التهويل ،
فالتقدير مثلا ليلاقوا جزاءهم الأليم على هذا التكذيب والكفر ، وقد تقرر في علم
البلاغة ، أن حذف الخبر ، وما أشبه في مثل هذا المقام يفيد التهويل ، كما تقول
للمجرم : إن اقترفت هذه الجريمة ، تريد تهويله من الجزاء الذي يحل به.
[٤٣] ثم وصفه
سبحانه بقوله (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) بأن يأتي في
وَلا
مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
(٤٢) ما
يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
____________________________________
زمن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يماثله في فصاحته أو نظامه ، أو أخباره ، كأن يأتي
أفصح منه ، أو أجمل نظاما ، أو ما يدل على أن أخباره عن الأمم السابقة أو اللاحقة
، أو حول الأصول باطلة (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) بأن يأتي بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، من يبدي بطلانه في إحدى تلك الأمور ، وروى في المجمع
عن الباقر والصادق عليهالسلام ، أن معناه ليس في أخباره عما مضى باطل ولا في أخباره
عما يكون في المستقبل باطل ، بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها ، أقول : وكان هذا بيان لمصداق من مصاديق الكلى الذي
ذكرناه ، وهو الظاهر من عموم الآية (تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ) في أفعاله ، فإنه سبحانه ، أنزل القرآن حسب الحكمة
والصلاح ، ولذا لا يتطرق إليه الباطل (حَمِيدٍ) محمود في كل شيء ، ولذا لا يأتي بما لا يحمد مما هو
قابل للبطلان.
[٤٤] ثم ربط
سبحانه بين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسائر الرسل ، وبين القرآن ، وسائر الكتب السابقة
بقوله (ما يُقالُ لَكَ) يا رسول الله ، أي لا يوحي إليك (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ
قَبْلِكَ) بأن أوحى إليهم (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ) أي غفران للمذنبين إذا تابوا (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) مؤلم لهم إذا بقوا في كفرهم وعصيانهم ، فليختاروا ما
شاءوا من المغفرة التابعة للإيمان ، أو العقاب التابع للعصيان.
__________________
وَلَوْ
جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ
أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
____________________________________
[٤٥] ثم عطف
السياق نحو القرآن بقوله (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي جعلنا هذا القرآن (قُرْآناً
أَعْجَمِيًّا) بغير لغة العرب (لَقالُوا) أي لقالت العرب (لَوْ لا) أي هلّا (فُصِّلَتْ) وبينت بلغتنا (آياتُهُ)؟ حتى نفهمه ، فنؤمن به ، وقالوا تبريرا لعدم إيمانهم (أَعْجَمِيٌ) القرآن (وَعَرَبِيٌ) من خوطب به : كيف يكون هذا؟ وجعلوا ذلك وسيلة لعدم
الإيمان ، أمّا والقرآن عربي ، والرسول منهم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) فما عذرهم؟ (قُلْ) يا رسول الله (هُوَ) القرآن أنزله الله عربيا ، حتى يقطع عذركم ، فهو (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) من الضلالة (وَشِفاءٌ) من أمراض القلب كالحسد والغل والقلق ، وسائر الأوجاع
النفسية ، أو الأعم منها ، ومن الأوجاع البدنية (وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ) بالقرآن ليس من جهة نقص في القرآن ، بل من جهة أنهم (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي حمل ثقيل مانع عن استماعه ، وهذا كناية عن إعراضهم
عن الحق ، فهم كالأصمّ الذي في أذنه ثقل لا يسمع ، فلا يسمع حتى يعلم ـ بعلاقة
المشابهة ـ (وَهُوَ) أي القرآن (عَلَيْهِمْ) أي على الذين لا يؤمنون (عَمًى) إذ أن القرآن يوجب أن ينصرفوا عن الحق ، انصراف الأعمى
عن الطريق ، فكأنه يولد فيهم العمى ، والإنسان يرى بعض الناس ، يقرون بالحق نوعا
ما ، فإذا جاءهم الحق واضحا ، تعاموا حتى عما
__________________
أُولئِكَ
يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ
(٤٤)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)
____________________________________
كانوا يعترفون به ، عنادا وحسدا ، أو المراد أنهم كالأصم والأعمى ، لا
يبصرون الحق ، ولا يسمعون الصدق (أُولئِكَ) الكفار كالذين (يُنادَوْنَ مِنْ
مَكانٍ بَعِيدٍ) حيث لا يسمعون ولا يفهمون ، كمن إذا نودي من البعد ، لا
يسمع ولا يفهم ، فهذا من باب تشبيه حالهم في الإعراض ، بمن ينادى من بعيد.
[٤٦] ولا غرر
في ذلك ، فإن الأمم قد اعتادت تكذيب الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا ل (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) اختلف فيه الناس ، فبعضهم آمنوا به ، وبعضهم لم يؤمنوا
، كما اختلفوا في القرآن ، وهذا تسلية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله ، بتأخير العذاب عن قومك ، لأنك فيما
بينهم (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لحكم الله بين المؤمن والكافر ، بإبقاء المؤمن
وإهلاك الكافر ، بإنزال العذاب عليهم ، كما أهلك القبط بالغرق ، حين كفروا بموسى (وَإِنَّهُمْ) أي قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن (مُرِيبٍ) أي موجب للريب والاضطراب ، فإن الشك إذا لم يظهر أثره
لا يسمى مريبا ، وهذا كفذلكة للكلام ، أو المراد ، أنهم في شك من قولنا «لو لا
كلمة .. إلى آخره» أي لا يصدّقون ، بأن الكلمة أخّرت عذابهم إلى يوم القيامة ، بل
يظنون أنك
__________________
مَنْ
عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ
لِلْعَبِيدِ (٤٦)
____________________________________
تكذب ، ولذا لا أثر لكلامك وتهديدك.
[٤٧] وأخيرا (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) بالإيمان بالله والإتيان بأوامره (فَلِنَفْسِهِ) عمل إذ هو يرى جزاءه الحسن ، وثوابه العاجل والآجل (وَمَنْ أَساءَ) عقيدة أو عملا (فَعَلَيْها) أي كان ضرره على نفسه (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ) أي بذي ظلم ، فإن «فعّال» من صيغ النسبة ، كما قال ابن
مالك :
ومع فاعل
وفعال فعل
|
|
في نسب أغنى
عن اليا فقبل
|
أو يراد به
المبالغة ، وذلك لأن كل صنعة جازت في الله ، بلغت إلى أقصى حد ، فإن جاز فيه الخلق
كان خلاقا ، أو الرزق كان رزاقا ، وهكذا ، فنفي المبالغة ، موجب لنفي الصفة (لِلْعَبِيدِ) جمع عبد ، فما يرى الإنسان من السوء في الدنيا أو
الآخرة ، فإنما هو جزاؤه العادل بما عمل من الكفر والعصيان.
الفهرس
سورة الشعراء................................................................... ٣٤
سورة النمل.................................................................... ٨٧
سورة القصص................................................................ ١٣٢
سورة العنكبوت............................................................... ١٨٦
سورة الروم................................................................... ٢٢٦
سورة لقمان.................................................................. ٢٦٠
سورة السجدة................................................................ ٢٨٥
سورة الأحزاب................................................................ ٣٠١
سورة سبأ.................................................................... ٣٦٧
سورة فاطر................................................................... ٤٠١
سورة يس.................................................................... ٤٣٠
سورة الصافات............................................................... ٤٦٦
سورة ص.................................................................... ٥٠٩
سورة الزمر................................................................... ٥٤٣
سورة غَافر................................................................... ٥٨٩
سورة فصلت................................................................. ٦٣٤
|