تقريب القرآن إلى الأذهان

الجزء الثالث عشر

من آیة (٥٤) سورة يوسف

إلى آیة (٥٣) سورة إبراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)

____________________________________

[٥٤] (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) إن كان هذا من كلام يوسف عليه‌السلام ، كان المراد منه التواضع ، أي اني لا أنزه نفسي فإن ما صدر مني من العصمة انما كان بحفظ الله سبحانه ، فلا أريد تزكية نفسي ، والعجب من عملي وطهارتي ، كما يقول أحدنا ـ إذا قيل له أنت فعلت كذا ـ : أنا لم أفعل وإنما وفقني الله سبحانه ، قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١) وإن كان من كلام زليخا ـ تتمة لقولها : لم أخنه ـ كان المراد اني وإن اعترفت حالا ، وقلت «لم أخنه» لكن لا أنزه نفسي عن الخيانة ، فقد خنت يوسف في إلصاق التهمة به ، وإلقائه في السجن (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الأمر بالسوء والذنب ، فإن «أمارة» صيغة مبالغة (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) «ما» إما موصولة ، أي إلا النفس التي رحمها الله ، أو وقتية ، أي إلا الوقت الذي رحم الله ، فعصم النفس عن الذنب (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) لسالف الذنوب (رَحِيمٌ) يرحم الإنسان فيأخذ يده عن الزلّة والسقوط.

[٥٥] (وَ) إذ تمت البراءة وظهر أمر يوسف عليه‌السلام طهارة وعلما (قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي جيئوا إليّ بيوسف (أَسْتَخْلِصْهُ) ، أجعله خالصا (لِنَفْسِي) فيكون وزيري ومشاوري ، فإن الاستخلاص طلب خلوص الشيء من شائب الاشتراك (فَلَمَّا) جاء الرسول وأخرج يوسف من السجن ولما مثل بين يدي الملك (كَلَّمَهُ) فعرف عقله وفضله وأدبه حتى صار السماع عيانا (قالَ) الملك له (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) ،

__________________

(١) الأنفال : ١٨.

قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)

____________________________________

إنك عندنا ذو مكانة نافذ القول ، مؤتمن.

[٥٦] (قالَ) يوسف عليه‌السلام للملك لما رأى مكانته عنده ومنزلته لديه (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي اجعلني واليا على خزائنك المالية والطعامية وغيرها لأدير شؤونها (إِنِّي حَفِيظٌ) أي حافظ ما تستودعني عليه (عَلِيمٌ) بكيفية تدبيرها وإدارتها ، قال الملك فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟ فقال يوسف أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة وتبني الأهواء والخزائن وتجمع الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفا للدواب وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ويأتيك الخلق من النواحي ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك ، فقال الملك ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفي الشغل فيه؟ فعند ذلك قال يوسف اجعلني على خزائن الأرض. ولما سلّم الملك الأمر إلى يوسف أقبل عليه‌السلام على العمل. قال الإمام الرضا عليه‌السلام : وأقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة فوضعه في الخزائن ، فلما مضت تلك السنون وأقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينارا ولا درهما إلا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الثانية بالحليّ والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حليّ ولا جوهرا إلا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها عبدا ولا أمة إلا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الرابعة بالدور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها إلا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الخامسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما

____________________________________

حولها نهرا ولا مزرعة حتى صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة السادسة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبدا ولا حرا إلّا صار عبد يوسف فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم ، وقال الناس ما رأينا وما سمعنا بملك أعطاه الله ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا ، ثم قال يوسف للملك : أيها الملك ما ترى فيما خوّلني ربي من ملك مصر وأهلها أشر علينا برأيك؟ فاني لم أصلحهم لأفسدهم ولم أنجهم من البلاء لأكون وبالا عليهم ، ولكن الله سبحانه نجاهم على يدي ، قال له الملك : الرأي رأيك ، قال يوسف : أني أشهد الله وأشهدك أيها الملك أني قد أعتقت أهل مصر كلهم ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ورددت عليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي ولا تحكم إلا بحكمي ، قال له الملك : إن ذلك لشرفي وفخري ألّا أسير إلّا بسيرتك ولا أحكم إلا بحكمك ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ، ولقد جعلت سلطاني عزيزا كما يرام وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين ، ومن ظريف ما ينقل ما نقله علي بن إبراهيم ، بما ملخصه أن عزيز زوج زليخا مات في تلك السنين المجدبة وافتقرت امرأة العزيز واحتاجت حتى سألت الناس فقالوا لها ما يضرك لو قعدت للعزيز؟ وكان يوسف يسمى العزيز وكل ملك كان لهم سموه بهذا الاسم ، فقالت أستحي منه ، فلم يزالوا بها حتى قعدت له ، فأقبل يوسف في موكبه ، فقامت إليه زليخا وقالت سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا والعبيد بالطاعة ملوكا ، فقال لها يوسف أأنت تيك؟ قالت : نعم ، ثم أن يوسف عليه‌السلام تزوجها وجعلها في جملة أهله (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٥١.

وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)

____________________________________

[٥٧] (وَكَذلِكَ) أي كما أنعمنا على يوسف عليه‌السلام بالنبوة وسائر المزايا ، كذلك (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها) يتصرف فيها ويأخذ المحل منها (حَيْثُ يَشاءُ) فقد جمعنا له النبوة والملك وهكذا كل من أطاع الله سبحانه وخرج من الامتحان ناجحا (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) ولكن بعد الاختبار والامتحان ، فإن الله لا يفعل لغوا ، ولا يمنح اعتباطا وعبثا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في العقيدة والعمل.

[٥٨] (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) ثواب الله سبحانه في الدار الآخرة (خَيْرٌ) من ثواب الدنيا لأنه باق لا منتهى له ، وليس مشوبا بالأكدار والآلام (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) بأن جمعوا بين العقيدة الصحيحة والعمل الصالح.

في بعض التفاسير أن يوسف عليه‌السلام كان لا يمتلي شبعا من الطعام في تلك الأيام المجدبة ، فقيل له تجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع (١).

[٥٩] ولما تمكن يوسف عليه‌السلام بأرض مصر ، وجاء الجدب فأصاب الناس القحط نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس فجمع يعقوب بنيه وقال لهم : بلغني أنه يباع الطعام بمصر وأن صاحبه رجل صالح فاذهبوا إليه فإنه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد : ج ١١ ص ٢٣٦.

وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)

____________________________________

سيحسن إليكم إن شاء الله ، فتجهزوا وأخذوا بعض البضائع يعطوها في مقابل القمح وسار منهم عشرة ، ولم يخرج معهم بنيامين أخو يوسف حتى وردوا مصرا (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) «أخوة» جمع أخو (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) على يوسف ، وفي بعض التفاسير أن يوسف عليه‌السلام كان يتولى البيع بنفسه (١) ، ولذا دخلوا عليه (فَعَرَفَهُمْ) أي عرف يوسف إخوته (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ، ينكرون يوسف ولا يعرفونه لما مرّ من الزمان وتغيّرت ملامح يوسف عليه‌السلام من الصباوة إلى الشباب ، فقد مرّ على فراقهم له ما يقرب من خمسة عشر سنة أو أكثر ، بل عن ابن عباس : الفاصلة كانت أربعين سنة (٢).

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أن يوسف قال للأخوة قد بلغني أن لكم أخوين من أبيكم فما فعلا؟ قالوا أما الكبير منهما فإن الذئب أكله وأما الصغير فخلفناه عند أبيه وهو به ضنين وعليه شفيق قال فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم تمتارون (٣) ، وقال القمي رحمه‌الله : أحسن يوسف لهم في الكيل وقال لهم من أنتم؟ قالوا : نحن بنوا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله الذي ألقاه نمرود في النار فلم يحترق فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، قال : فما فعل أبوكم؟ قالوا شيخ ضعيف ، قال : فلكم أخ غيركم؟ قالوا : لنا أخ من أبينا لا من أمنّا قال فإذا رجعتم فأتوني به (٤).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٣٤٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٥ ص ٤٢٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٨٧.

(٤) تفسير القمي : ج ١ ص ٣٤٦.

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ

____________________________________

[٦٠] (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) جهاز البيت متاعه وجهزت فلانا أي هيأت أمتعة سفره ، ومنه جهاز المرأة ، والمعنى أنه حمل لكل واحد منهم طعاما (قالَ) يوسف لهم (ائْتُونِي) أي جيئوا إلي (بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) بنيامين ، فإنه لم يكن من أمهم ، وإنما أمه أم يوسف (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي لا أبخس الناس شيئا فإذا جاء أحد للطعام أعطيته ، فإذا جئتم كان طعامكم أكثر (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) بصيغة اسم الفاعل ، أي خير المضيفين ، فإني حسن الضيافة لكل وارد ، حسن التجهيز لكل ممتار ، ثم هددهم بأنهم إن لم يأتوا به في المرة الثانية فإنه لا يعطيهم القمح ولا يضيفهم.

[٦١] (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) بأخيكم بنيامين (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) لا أكيل لكم الطعام (وَلا تَقْرَبُونِ) بلادي ، فإنه لا حظوة لكم عندي.

[٦٢] (قالُوا) قالت الأخوة في جواب يوسف (سَنُراوِدُ عَنْهُ) أي عن بنيامين (أَباهُ) يعقوب عليه‌السلام ، أي سنجتهد في طلبه من أبيه (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي نفعل ما أمرتنا به من الإتيان بالأخ.

[٦٣] (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام (لِفِتْيانِهِ) جمع فتى وهو العبد ، والمراد هنا الذين كانوا يكيلون الطعام لهم والأعوان الذين يقومون بشؤونه وأوامره (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) أي اجعلوا الثمن الذي جاءوا به لأجل

لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ

____________________________________

شراء الطعام ـ وكان مقلّا ونحوه ـ في متاعهم وأثاثهم وأوعيتهم (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) يعرفون البضاعة المردودة إليهم ، وإنما قال «لعل» لأن المعرفة غير لازمة في مثل هذه الأمور في البيوت الكبار فإن الحمل إذا جاء ودخل البيت لم يكن المكلف بفتحه الرجال الذين كانوا يعرفون الأشياء بل الخدم والنساء ، وكثيرا ما لا يدرون هم ما ذهب به ، مما جيء به ، فيشتبه الأمر عليهم ، (إِذَا انْقَلَبُوا) رجعوا (إِلى أَهْلِهِمْ) أبيهم وأقربائهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) حيث رأوا الإكرام والاحترام وإن بضاعتهم ردت إليهم ، يرجعون مرة ثانية إلى مصر لشراء الطعام ، وربما قيل أن احتمال رجوعهم كان لأجل أن يردوا الثمن بظن اشتباه حاشية الملك ، وأن يوسف علم أنه ليس لهم غير ذلك فإذا أخذه لم يكن لهم ثمن يرجعون به لشراء طعام جديد.

[٦٤] (فَلَمَّا رَجَعُوا) الأخوة (إِلى أَبِيهِمْ) ومعهم الطعام (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) إن لم نذهب ومعنا أخينا بنيامين فقد قال الملك : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) فالمراد تقرر منعه عنا ـ ومنع بالفعل الماضي لإفادة أنه قرر أن يؤتي به في المستقبل ـ كما يقول القائل : هل تفعل كذا؟ فيجيب المسؤول : صار ، أي تقرر ، وذلك لأن المضارع المتحقق الوقوع ينزل بمنزلة الماضي ، ومن المحتمل أن يراد أن الملك منع منا إعطاء الكيل لأخينا بنيامين حيث لم يكن معنا ، ولعل ذلك لأجل أن يوسف أعطاهم بعددهم وعدد من تخلف من أبيه وأهله كيلا ، دون بنيامين ، حرصا لأن

فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا

____________________________________

يأتوا به (فَأَرْسِلْ) أيها الأب (مَعَنا أَخانا) في هذه المرة (نَكْتَلْ) أي نأخذ الطعام بالكيل للجميع ، يقال كلت فلانا ، أي أعطيته الشيء كيلا ، واكتلت عليه أخذت منه الكيل ، من باب الافتعال ، وأصله نكتال حذف الألف ، لأن الفعل وقع في جواب الأمر ، فجزم ، فالتقى الساكنان «الألف واللام» فحذفت الألف (وَإِنَّا لَهُ) أي للأخ بنيامين (لَحافِظُونَ) أن يصيبه الأذى فقد كان يعقوب شديد القلق به لا يتمكن من مفارقته ، وبعد فقد يوسف صارت محافظته له أشد حيث كان أخاه من الأبوين ، وقد تقدم قول الأخوة «ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا» [٦٥] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام في جواب الأخوة (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) استفهام إنكاري أي لا آمنكم عليه فلستم أنتم موضع الأمن والثقة (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف عليه‌السلام (مِنْ قَبْلُ) وقد قلتم في يوسف إنا له لحافظون ثم لم تفوا بضمانكم ، والمعنى ليس آمن على بنيامين إلا كأمني على يوسف ـ من قبل ـ (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) من حفظكم فإذا سلمته إليكم توكلت عليه في الحفظ لا عليكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يرحم ضعفي وشيخوختي فلا ينالني مكروه من جهة فقد بنيامين بسبب رحمته وفضله.

[٦٦] وقد كان هذا الحوار بين الأخوة وبين يعقوب قبل أن يفتحوا المتاع (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) أوعية الطعام التي ملؤوها في مصر (وَجَدُوا

بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ

____________________________________

بِضاعَتَهُمْ) التي ذهبوا بها ثمنا للطعام (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) لما تقدم من أن يوسف قال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ، (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) ماذا نطلب أكثر من هذا أكرمنا وأعطانا الطعام ولم يأخذ منا الثمن (هذِهِ بِضاعَتُنا) التي ذهبنا بها (رُدَّتْ إِلَيْنا) ردها الملك فلم يأخذها ، فأرسل معنا أخانا إلى الملك لنأخذ منه الطعام (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب إليهم الميرة ، وهي الطعام الذي يجلب من بلد إلى بلد ، يقال مارهم إذا جلب إليهم الطعام (وَنَحْفَظُ أَخانا) بنيامين في السفر لئلا يصيبه أذى (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) نأخذ من الملك كيل بعير زائدا ، لحصة أخينا ، فقد كان يكال لكل رجل حمل بعير (ذلِكَ) الكيل الزائد (كَيْلٌ يَسِيرٌ) عند الملك لمن ذهب إليه.

[٦٧] وقد أثر كلام الأخوة ، وما رأى من إكرام الملك بردّ البضاعة ، واستسلم لإرسال بنيامين ، لكنه اشترط عليهم (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ) أي قال يعقوب : لن أرسل بنيامين (مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ) تعطوني (مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) ما يوثق به من عهد أو يمين من طرف الله سبحانه ، بذكره عن اسمه في العهد ـ كأن يقولوا نعاهد الله ـ فيكونوا في حرج من جهته سبحانه ، كما أنهم في حرج من جهة عهدهم (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي تردون إليّ الابن ، ولا تغدروا به (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلا أن تغلبوا

فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ

____________________________________

فلا يكون الأمر تحت اختياركم ، كأن يحيط البلاء بهم فلا يتمكنوا من الفرار منه ولا مسلك لهم لإنقاذ بنيامين ، يقال أحاط به البلاء فهو محاط به ، (فَلَمَّا آتَوْهُ) أعطى الأخوة ، لأبيهم (مَوْثِقَهُمْ) عهدهم المؤكد (قالَ) يعقوب تأكيدا (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي شاهد حافظ إن أخلفتم وخنتم انتصف لي منكم.

[٦٨] ولكن الأب الرؤوف خاف على أولاده من العين فقد كانوا جماعة أبطالا حسني المنظر والجمال ، وجميعا أولاد رجل واحد فإذا رآهم الرائي ملؤوا قلبه وعينه ، ولذا وصاهم بالتفرق عند دخول المدينة (وَقالَ يا بَنِيَ) أصله بنوني وهو جمع ابن مضافا إلى ياء المتكلم ، لكن نون الجمع حذف بالإضافة ـ على القاعدة ـ والواو أدغم في ياء المتكلم. كما نقلت ضمة النون إلى الباء (لا تَدْخُلُوا) مصر (مِنْ بابٍ واحِدٍ) حتى تصيبكم العين (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) فقد كانت المدن ـ سابقا ـ ذات أسوار وأبواب ، (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما أدفع من قضاء الله من شيء إن كان قد قضى عليكم الإصابة بالعين ، يقال : أغنى عنه ، إذا دفع عنه ، وأصله الكفاية ، كأن الشخص يكفيه عن أمر يدهمه ، وقد قال ذلك يعقوب على وجه التسليم له سبحانه منبها أن أمري إنما كان لأجل الطوارئ ، أما إذا كان شيء حتما فلا دافع له (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ليس الحكم في الأمور ـ التي منها إصابتكم بالعين أو عدم إصابتكم ـ إلا لله سبحانه (عَلَيْهِ

تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)

____________________________________

تَوَكَّلْتُ) في أن يرد عنكم عين الحساد ويرجعكم إليّ سالمين. (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي المريدون للتوكل على أحد ، عليهم أن يتوكلوا عليه ، ويفوضوا أمورهم إلى الله سبحانه لا إلى غيره وهذا لا ينافي الأخذ بالحزم حسب الموازين التي قررها سبحانه في الكون.

[٦٩] وقد أجاز الأب استصحاب بنيامين لهم ، فشدوا أمتعتهم وخرجوا جميعا من المدينة قاصدين مصر لمرة ثانية (وَلَمَّا دَخَلُوا) مصر (مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من أبواب متفرقة كما وصاهم يعقوب (ما كانَ) دخلوهم متفرقين والمعنى أن أمر الأب لم يفد شيئا وإنما كان مطلبا يختلج في نفس يعقوب. (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) قضاه وقدره ، أي لم ينفعهم ذلك بعد أن أراد الله سبحانه أن يبقى أحدهم ـ وهو بنيامين ـ في مصر ، فلا يتمكنون أن يرجعوه إلى أبيهم (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي قضى تلك الحاجة بأمرهم الدخول متفرقين فأظهره ، أما التقدير فقد عمل عمله ، إذ نسبوا إلى السرقة ، وأخذ الملك بنيامين (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) أي إن يعقوب ذو يقين ومعرفة بالله (لِما عَلَّمْناهُ) أي لأجل تعليمنا إياه ولذلك قال : وما أغنى عنكم من الله من شيء (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن القدر هو الحاكم وأنه لا يغني الحذر إذا قدر شيء فيظنون أن الأمور كلها بيد الإنسان

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ

____________________________________

وإنه مهما فعل والحال أن الأمر ليس كذلك فإن الله سبحانه خلق الإنسان وخلق أسبابا كونية ، وجعل بعضها تحت قدرة الإنسان ، وربما اقتضت مصلحته أن لا يمكّن الإنسان ـ من تلك الأسباب ـ إما بتعجيز الإنسان ، وإما بجعل موانع في تلك الأسباب ، فللإنسان قدرة واحدة ، وللقدر منفذان لصدّ هذه القدرة ، فمثلا إن الله سبحانه جعل زرع الأرض تحت قدرة الإنسان ، لكنه ربما لا يشاء ذلك فيعجز الإنسان عن الزرع بمرض أو فقر أو نحوهما ، أو يخلق ريحا سامة ، أو مطرا مؤذيا ، أو سوسا آكلا ، فلا يتمكن الإنسان من تنفيذ قدرته ، ولذا يجب التوكل في كل الأمور عليه سبحانه ، فمن رأى كل الأمور من الله سبحانه حتى عمل العبد ، فهو جبري فاسد العقيدة ، ومن رأى كل الأمور مفوضة إلى الإنسان فهو مفوض منحرف الإعتقاد ، بل لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين أمرين ... أما أكثر الناس فإنهم ولو لم يكونوا بمفوضة لكنهم يظنون أن الأمور تحت إرادتهم واختيارهم ، وينصرفون عن التوكل ، ولذا يتعجبون فيما إذا حال دون إرادتهم حائل ، ومن الضروري أن يتوكل الإنسان في أموره إليه سبحانه ، حتى يتفضل الله بعدم إيجاد الحائل ، وإقدار العبد على ما أراده.

[٧٠] (وَلَمَّا دَخَلُوا) أي دخل أولاد يعقوب (عَلى يُوسُفَ) في محله المعد لهم وكان يوسف حينذاك حاضرا (آوى) يوسف عليه‌السلام ، من أوى ، يقال أوى إلى منزله إذا صار إليه ، ومنه الإيواء بمعنى إعطاء المكان (إِلَيْهِ) أي إلى نفسه (أَخاهُ) بنيامين فأنزله معه وضمه إلى نفسه ، ثم (قالَ) يوسف لبنيامين (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي ألقوه الأخوة في الجب قبل

فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ

____________________________________

سنوات وقالوا أنه أكله الذئب (فَلا تَبْتَئِسْ) من الابتئاس بمعنى اجتلاب الغم والحزن والبؤس ، أي لا تحزن (بِما كانُوا) أي كانت الأخوة (يَعْمَلُونَ) سابقا من الازدراء بك وبأخيك ، ومن الحسد عليكما.

روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : كان يوسف قد هيأ لهم طعاما فلما دخلوا عليه قال : ليجلس كل ابن أم على مائدة واحدة ، فجلسوا وبقي بنيامين قائما ، فقال له يوسف : مالك لا تجلس؟ قال له : إنك قلت ليجلس كل ابن أم على مائدة وليس لي فيهم ابن أم ، فقال : أما كان لك ابن أم؟ قال بنيامين : بلى قال : يوسف فما فعل؟ قال : زعم هؤلاء أن الذئب أكله قال : فما بلغ من حزنك عليه قال : ولد لي أحد عشر ابنا كلهم اشتققت له اسما من اسمه فقال له يوسف : أراك قد عانقت النساء وشممت الولد من بعده قال بنيامين : إن لي أبا صالحا وإنه قال : تزوج لعلّ الله أن يخرج منك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح ، فقال له : تعال فاجلس معي على مائدتي ، فقال أخوة يوسف : لقد فضل الله يوسف وأخاه حتى أن الملك قد أجلسه معه على مائدته ، وورد أن يوسف بعد ما عرّف نفسه لأخيه قال له : أنا أحب أن تكون عندي فقال : لا يدعونني إخوتي فإن أبي قد أخذ عليهم عهدا لله وميثاقه أن يردوني إليه فقال يوسف : أرى طريقة لبقائك ، فلا تنكر إذا رأيت شيئا ، فقال بنيامين : لا (١).

[٧١] (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ) أي جهّز يوسف عليه‌السلام الأخوة (بِجَهازِهِمْ) بأن ملأ

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ١٨٣.

جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠)

____________________________________

أوعيتهم بالطعام ، وجعل لكل واحد منهم حمل بعير ، أمر بعض غلمانه حتى (جَعَلَ السِّقايَةَ) أي الصاع الذي كان يكال به ، وأصل السقاية اسم للإناء الذي يسقي به (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي في متاع بنيامين ، وإنما أضاف سبحانه «جعل السقاية» إليه ، لأنه كان هو الآمر بذلك (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) الآذان هو الاعلام ، أي أعلم قائلا (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي القافلة (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) قد سرقتم سقاية الملك ، أقول ليس في الآية دلالة على أن يوسف هو الذي أمر بهذا النداء ، فإنه عليه السّلام أمر بدس الصاع في رحل بنيامين وكان أمره هذا خفية حتى لا يظهر أحد عليه ، ومن الطبيعي أن يتفحص الحاشية عن المفقود ويتهموا بعض الناس بالسرقة ، ولم يكن الاتهام منكرا يعلم الفاعل بكونه منكرا ، حتى يجب النهي عنه ، فيقال : كيف لم ينه يوسف عليه‌السلام عن المنكر؟ لما تقرر من أن النهي عن المنكر إنما هو مع علم الفاعل بكونه منكرا ، أما إذا لم يعلم فليس ذلك بواجب ، نعم يجب في الأحكام من باب إرشاد الجاهل ، وليس الاتهام حكما وإنما هو موضوع ، وهناك سؤال أنه كيف يجوز للإنسان أن يعمل عملا يدخل الغم والحزن على جماعة؟ والجواب أن الإيذاء لا يجوز أما إذا صنع الإنسان صنعا مباحا يتأذى به الغير فإن ذلك جائز ، ألا ترى أن من يبني دارا وسيعة ، أو يؤلف مؤلفا جيدا ، أو يتولى منصبا مرموقا ، يكثر حساده ويدخل عليهم الغم حتى أن بعضهم لا ينام الليالي ولا يستقر الأيام ومع ذلك فهو جائز بل قد يستحب أو يجب ، وقد كان حفظ يوسف لبنيامين لديه جائزا ، وربما يقال : فما كانت المصلحة في أن

قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)

____________________________________

لا يبدي يوسف نفسه لهم حتى لا يحتاج إلى تدبير هذه العملية؟ والجواب أنه لعلّ الله سبحانه أراد بذلك تخفيف ذنب الأخوة ، بالهول والخجل الذي دخل عليهم ، أما الأب فقد كان حزنه رفع درجته ـ إن لم نقل أنه بسبب ترك الأولى الذي صدر منه في قصة عدم إطعام الفقير ، كما في التفاسير.

[٧٢] (قالُوا) أي قال أصحاب العير ، وهم أخوة يوسف ، ولم يعلم أنه كان معهم غيرهم أم لا (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) أي على أصحاب يوسف ، وكان «أقبل» عدي ب «على» لإشرابه معنى التوجه والإقبال ، كأنه قال : أقبلوا عليهم سامعين كلامهم قائلين (ما ذا تَفْقِدُونَ)؟ أي ما الذي فقدتموه من متاعكم يا حاشية الملك.

وقد كان أخوة يوسف عليه‌السلام واثقين من أنفسهم أنهم لم يسرقوا شيئا فلما ذا يخافون؟ ولذا قالوا بكل جرأة : «ماذا تفقدون»؟ واستعدوا لإعطاء الجزاء ـ كما يأتي ـ إن كانوا هم السارقين.

[٧٣] (قالُوا) أي قال أصحاب يوسف (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) فقد متعد ، ولذا يقال : مفقود ، والصواع اسم مفرد بمعنى الكيل ، أي نفقد كيل الملك الذي به يكال الطعام ، ثم أن بعض أصحاب الملك وعد الذي يأتي به جائزة قائلا (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) أي بالصواع (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي أنا كفيل ضامن بالوفاء وليس ذلك خداعا نريد به أن يظهر الصاع فيعاقب الآتي به عوض أن نجيزه ـ كما جرت عادة الملوك الطغاة ـ.

قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)

____________________________________

[٧٤] (قالُوا) أي أخوة يوسف (تَاللهِ) نحلف (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) أيها القوم ، وهذه جملة معترضة ، وإنما متعلق الحلف قوله (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أي للأعمال السيئة (وَما كُنَّا سارِقِينَ) في يوم من الأيام ، خصصوا السرقة بعد تعميم نفي الفساد لأنه كان موضع التوهم ، وقوله : «لقد علمتم» أي أنه ، ظهر لكم من حسن سيرتنا وكوننا أصحاب حسب ونسب إن مثل هذا العمل لا يصدر منّا.

[٧٥] (قالُوا) أي قال غلمان يوسف وحاشيته (فَما جَزاؤُهُ) أي جزاء السرقة ، أو جزاء السارق (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) بأن ظهر الصواع في حملكم؟ وإنما سألوا عنهم ، لأن شريعة يعقوب كانت تحكم بأخذ السارق واسترقاقه ، أو حبسه ، عند المسروق منه ، وذلك بخلاف دين ملك مصر ، فقد كانت للسرقة عنده جزاء خاصا ، فأراد يوسف عليه‌السلام أنهم يحكمون حسب الشريعة ليتسنى له إبقاء الأخ عنده ، أما لو جوزي حسب دين الملك ، فقد كان يعطي الجزاء وينصرف إلى أبيه.

[٧٦] (قالُوا) أي قالت أخوة يوسف (جَزاؤُهُ) أي جزاء السارق (مَنْ وُجِدَ) المسروق (فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي أن السارق بنفسه جزاء السرقة ، يبقى محبوسا ، أو مسترقا ، عند المسروق منه (كَذلِكَ) الذي ذكرنا (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) بالسرقة ، لأن السرقة نوع من الظلم ، ولما

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ

____________________________________

تبانى الطرفان على أنه إن وجد الصواع في رحل أحد منهم يبقى عند الملك ، أمر يوسف عليه‌السلام بتفتيش الرحال.

[٧٧] (فَبَدَأَ) أي ابتدأ يوسف ، أو بعض حاشيته (بِأَوْعِيَتِهِمْ) أوعية الأخوة التي كانت مليئة من الطعام (قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين ، وإنما فعل لإزالة التهمة ، ولئلا يقولوا ، أن الأمر كان مدبّرا (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين ، في المجمع : فأقبلوا على بنيامين وقالوا له : فضحتنا وسوّدت وجوهنا متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : وضع هذا الصاع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم ـ يريد ، في المرة الأولى حيث وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ـ (كَذلِكَ) أي كذلك الذي ذكرنا (كِدْنا لِيُوسُفَ) الكيد هو التدبير الدقيق الخفي على الناس ، كما قال سبحانه : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١) ، ومعنى كيد الله ليوسف ، إلهامه سبحانه إياه بهذا التدبير الذي يسبب إبقاء أخيه عنده ، وقد تقدم أن ذلك لعلّه كان لأجل تخفيف ذنب الأخوة ، بالهول والفزع الذي لحقهم من هذا العار ، ثم بين سبحانه وجه التدبير بقوله (ما كانَ) ليوسف لأن يأخذ (أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي في دين ملك مصر ، فإن طريقتهم كانت على مجازاة السارق لا أخذه بنفسه جزاء سرقته ، فقد دبر له سبحانه أن يقول للأخوة «ما جزاؤه إن كنتم

__________________

(١) الأعراف : ١٨٤.

إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ

____________________________________

كاذبين» ليقولوا هم جزاؤه المسبّب لبقائه عند الملك (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء منقطع ، فيدبر هذا التدبير لأخذه ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة ، إن الاستثناء إنما يؤتى به كثيرا في الكلام ، لغرض المتكلم أن صلب الموضوع هو الأصل ، وإنما القيد السابق على الاستثناء كلام خارجي ، فكان الكلام في المقام هكذا : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ) (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) «فإن دين الملك لم يكن يسمح بذلك» (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) كما رفعنا درجة يوسف بالنبوة والعلم والتدبير (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فلم يكن يوسف عليه‌السلام أعلم الموجودات ، بل كل عالم فوقه أعلم منه ، حتى يصل الأمر إلى العالم لجميع الأمور وهو سبحانه وكأنه لئلا يتوهم أن قوله «نرفع» أنه عليه‌السلام بلغ آخر مرتبة العلم ، حتى أنه حوى كل شيء.

[٧٨] ولما رأى الأخوة أن الصواع خرج من رحل بنيامين ، أرادوا أن يبرءوا ساحة أنفسهم ، مبينين أن السرقة إنما اقترفها هذا الأخ ، لعرق لحقه من أمه ، وإلا فيعقوب أجل من أن يسرق ابنه ، واستشهدوا لذلك بأن أخا لبنيامين ـ يقصدون يوسف ـ قد سرق سابقا أيضا ، فهذان الأخوان اللذان من أم واحدة تعاطيا هذه السيئة (قالُوا) أي قالت الأخوة ، ليوسف (إِنْ يَسْرِقْ) الآن ، بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) من أمه (مِنْ قَبْلُ) يعنون اتهام يوسف بالسرقة.

روي عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنه قال : كانت لإسحاق النبي عليه‌السلام

فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً

____________________________________

منطقة يتوارثها الأنبياء والأكابر وكانت عند عمة يوسف ، وكان يوسف عندها ، وكانت تحبه ، فبعث إليها أبوه أن ابعثيه إليّ وأردّه إليك ، فبعثت إليه : أن دعه عندي الليلة أشمه ثم أرسله إليك غدوة ، فلما أصبحت أخذت ـ أي العمة ـ المنطقة فربطتها في حقوه (١) وألبسته قميصا وبعثت به إليه ، وقالت (٢) : سرقت المنطقة فوجدت عليه ، وكان إذا سرق أحد في ذلك الزمان ، دفع به إلى صاحب السرقة ، فأخذته ، فكان عندها.

أقول : فإنهم أشاروا إلى هذه السرقة ، ولم يكن يوسف عليه‌السلام سرق شيئا وإنما بهت بها ، كما أن بنيامين لم يكن سرق شيئا ، وإنما ألصقت به ، ولما قالت الأخوة (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) (٣) (فَأَسَرَّها) أي أخفى تلك القصة (يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي لم يظهرها لهم ، فقد عرف أنهم إنما أخذوا الأمر على ظاهره ، ويحتمل أن يكون ضمير «أسرها» للشأن ، أي أسر قوله الذي يأتي وهو (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (قالَ) إما بلفظه أو في نفسه ـ وظاهر السياق يعطي الأول ، والمناسب لأدب يوسف عليه‌السلام الثاني ، وكثيرا ما يستعمل قال في النية وشبهها ـ (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي من حيث المكانة والمنزلة ، فإن السارق له منزلة ومكانة سيئة ، وإنما كانوا شرا مكانا ، لأنهم حسدوه وألقوه في الجب ، أما سرقة الأخ وبنيامين فقد كانت

__________________

(١) الحقوة موضع شد الإزار ، وهي الخاصرة.

(٢) الظاهر أن قولها بعد أن ذهب يوسف إلى دار أبيه.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٤٩.

وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ

____________________________________

ظاهرية لا واقع لها ، «شر» هنا مجرد عن معنى التفضيل ، فلم يكن يوسف وأخوه صاحبي شر ، كما قال سبحانه (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) (١) مع أنه لا خير في أصحاب النار (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) به يوسف من السرقة ، فإنه عالم أنه لم يسرق.

[٧٩] ولما رأى الأخوة أن يوسف عليه‌السلام مصمم على إبقاء بنيامين عنده وقد أعطوا أباهم موثقا أن يرجعوه ، جاءوا إليه من باب الرجاء والالتماس (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) وقد كان الملك ، أو كبير الوزراء ، يسمى عزيزا في عرف أهل مصر (إِنَّ لَهُ) أي لهذا الأخ (أَباً شَيْخاً كَبِيراً) يستحق العطف ، ولعل المراد بالشيخ العظيم المنزلة ، حتى يكون «كبيرا» تأسيسا لا تأكيدا ، فإن الشيخ يستعمل في كثير المال ، وكثير العمر ، وكثير السن ، وكثير المنزلة ، وكثير الأولاد ـ على ما قالوا ـ (فَخُذْ) أيها العزيز (أَحَدَنا) أي أحد العشرة (مَكانَهُ) أي عوض بنيامين ، فقد أخذ علينا أبونا العهود والمواثيق على أن نرجعه إليه ، فلا يمكننا أن نذهب بدونه (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلى الناس وإلينا ، ونحن نأمل هذا منك لإحسانك ، فإن المحسن مأمول.

[٨٠] (قالَ) يوسف عليه‌السلام في جوابهم (مَعاذَ اللهِ) «معاذ» مصدر ميمي من عاذ يعوذ ، أي استجار والتجأ ، وهو منصوب بالمصدر ، أي أعوذ بالله

__________________

(١) الفرقان : ٢٥.

أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ

____________________________________

إعاذة ، وهذه كلمة يقولها من يريد بيان أنه لا يفعل شيئا قبيحا ، كأنه يستجير بالله أن يحفظه من ذلك العمل ـ وإن كان معناها أعم لغة ـ (أَنْ نَأْخُذَ) أحدا منكم (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا) أي الصواع (عِنْدَهُ) وهو بنيامين ، وكيف نأخذ إنسانا بريئا ، ومن المعلوم أن بنيامين كان راضيا ببقائه ، حيث يعرف الحقيقة ، أما أخ آخر فلم يكن راضيا فكان إبقائه جبرا ـ ولو كان راضيا حسب الظاهر ـ غير جائز وقد قالوا : أن المناط يدور على الواقع لا على العلم ، فلو أعطى عمرو زيدا شيئا بظن أنه خالد ، ولم يك راضيا إعطائه زيدا ، وعرف زيد ذلك لم يجز له أخذه (إِنَّا إِذاً) أي وقت أخذنا غير بنيامين (لَظالِمُونَ) إذ ظلمنا شخصا بدون رضاه الواقعي.

[٨١] (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) استيأس بمعنى يئس ، أي يئس أخوة يوسف من الملك أن يجيبهم إلى ما سألوه من أخذ أحدهم مكان بنيامين (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي تنحوا عن الناس في معزل لئلا يسمع الناس بمشورتهم ، وأخذ بعضهم يتناجى مع الآخر في وجوه الرأي كيف يصنعون ، والنجي مما يتساوى فيه المفرد والجمع ، قال سبحانه (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (١) وذلك لأنه مصدر ، فهو نحو جنب ، تقول زيد جنب ، والقوم جنب ، والمناجاة : المسارة والاختفاء في الكلام ، وقد تقدم حديث يدل على أن هذه الجملة من الفصاحة والبلاغة بمكان (قالَ كَبِيرُهُمْ) أي كبير الأخوة وهو يهودا كما عن الإمام الصادق

__________________

(١) مريم : ٥٣.

أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)

____________________________________

(أَلَمْ تَعْلَمُوا) أيها الأخوة (أَنَّ أَباكُمْ) يعقوب (قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي أخذ منكم عهدا تحلفون بالله سبحانه أن لا ترجعوا إلا مع بنيامين ، فكيف ترجعون بدونه؟ حيث قال لن أرسله معكم حتى تأتون موثقا من الله لتأتنني به (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) لعله عطف على «أباكم» أي ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق ، وتفريطكم في يوسف من قبل ، ف «ما» مصدرية ، والمحل نصب ... فهما سببان يحدو إن على أن لا نرجع بدون بنيامين (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الرجوع إليه ، والبراح من هذه الأرض (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بالخروج بما يكون عذرا لي ، أو أموت ، أو أخلص أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يحكم إلا بالعدل والحق ، وبقي الأخ الأكبر هناك في مصر.

[٨٢] وقال الأخ الأكبر لباقي الأخوة (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ) وإلى بلادكم (فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ) بنيامين (سَرَقَ) صواع الملك (وَما شَهِدْنا) عندك بهذه الشهادة ظنا أو تخمينا (إِلَّا بِما عَلِمْنا) حيث رأينا أن الصواع خرج من رحله (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي إنا لم نعلم الغيب حيث قلنا ابعث بنيامين معنا ، فلم ندر أنه يسرق ويحفظه

وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢)

____________________________________

الملك ، أولا ندري أنه سرق أو دس الصاع في رحله ، فذلك كان غائبا عن حواسنا.

[٨٣] ثم أرادوا إثبات أن الابن سرق ، وأنهم لم يقصروا في حفظهم ، حتى لا يظن الأب بهم سوءا فقالوا لأبيهم (وَسْئَلِ) أيها الأب (الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية ، وذلك من المجاز حيث نسب ما للحال إلى المحل ، فاعلا كان نحو «جرى النهر» ، وقد جرى ماء النهر ، أم مفعولا ، نحو (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية أم غيرهما (الَّتِي كُنَّا فِيها) أي أرسل إلى مصر التي كنا فيها ، واسأل أهلها عن الحادثة ، والعرب تسمي المدينة قرية ، ولذا تسمى مكة أم القرى ، وقال سبحانه (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى) (١) إلى غير ذلك ، ولعل المراد اسأل أهل القرية ـ لا أن يرسل إلى مصر ـ وقد كان في القافلة بعض أهل مصر (وَ) اسأل أهل (الْعِيرَ) أي القافلة (الَّتِي أَقْبَلْنا) إلى بلدنا (فِيها) أي في تلك العير ، فإن كان المراد من «القرية» المعنى الثاني ، كان المراد من العير غيرهم ، أي اسأل أهل مصر الذين في القافلة وأهل غير مصر من سائر من في القافلة (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به.

[٨٤] رجع الأولاد إلى أبيهم ، وقد خلفوا وراءهم عند الملك أكبرهم وبنيامين ، وقصوا عليه القصة بطولها ، لكن يعقوب عليه‌السلام أساء بهم الظن ، وحق له أن يسيء ، لما سبق من عملهم مع يوسف ، ولما علم

__________________

(١) هود : ١١٨.

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ

____________________________________

من أنهم يكرهون بنيامين ، ألم يقولوا قبل أيام (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)؟ أما الشواهد فلم تكن كافية ، إذ من المحتمل أنهم هم الذين دسّوا الصاع في رحل بنيامين ليسببوا له هذه المشكلة ، وقد قرروا هم أن من وجد الصاع في رحله فهو جزاؤه ، أما بقاء أكبر الأخوة ، فذلك ليس بأعظم من عملهم قبل مدة إذ (جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) فقد قدروا بقاء الأخ هناك لرفع هذه المكيدة عنهم ، وأهل المدينة والعير قد رأوا إبقاء الملك لبنيامين ، لكن لعلم علموا أن ذلك لم يكن بكيد منهم ، ولذا شك يعقوب بهم وأساء الظن في قصتهم ف (قالَ) عليه‌السلام (بَلْ سَوَّلَتْ) أي زينت وسهلت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فلنسلم أنه سرق ، ولكن من علم الملك ، باتخاذ إجراء عقوبة السارق في مدينتنا ، على السارق في مدينتهم ، مع أن حكمهم يختلف عن حكمنا ، وليس ذلك إلا الجزاء ، لا البقاء ألستم أنتم قلتم له ذلك؟ وقد كان يعقوب عليه‌السلام صادقا في ذلك إذ هم الذين قرروا هذا الجزاء أما أن يعقوب عليه‌السلام كيف لم يعرف صدقهم؟ فالجواب أن الأنبياء لا يعلمون إلا ما يريده الله سبحانه من الغيب ، كما قال (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١) فأمري في هذه القصة ـ أيضا ـ كقصة يوسف من قبل (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) لا شكوى فيه ، ولا جزع بأن أقول ما يغضب الله سبحانه (عَسَى) لعل (اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ) بيوسف وبنيامين ويهودا أكبر الأخوة الذي بقي هناك

__________________

(١) الجن : ٢٧ و ٢٨.

جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ

____________________________________

(جَمِيعاً) فقد علم يعقوب أن يوسف لم يأكله الذئب وإنه حي مرزوق من طريق الوحي (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بعباده ، وما يعملون (الْحَكِيمُ) في تدبيره ، فهو إنما فعل ذلك بي لحكمته ومصلحته.

[٨٥] (وَ) حينذاك (تَوَلَّى) أي أعرض يعقوب (عَنْهُمْ) فإن الإنسان إذا علم أن من حوله لا يشاركونه المصاب يتنحى عنهم ناحية ليعيش منفردا بحزنه ولوعته (وَقالَ) يعقوب (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) الأسف هو الحزن أي يا طول حزني على يوسف و «يا» حرف نداء حذف مناداه ، أي «يا قوم» أو المراد «يا أسف احضر فهذا وقتك» كما قالوا في «يا عجبا» ونحوه ، وألف أسفي بدل من ياء المتكلم ، ويجوز ذلك في المنادي المضاف إلى ياء المتكلم ، كما قال ابن مالك :

واجعل منادى صحّ إن يضف ليا

كعبد عبدي عبدا عبديا

وإنما ذكر «يوسف» لأنه هو الذي غاب عنه خبره ، أما الولدان الآخران فقد علم بمكانهما ، والإنسان لا يأسف لمن غاب وعلم بمكانه ، كما يأسف لمن لا يدري محله ، وأين هو ، وكيف يعيش (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) أي وقد كان عليه‌السلام «ابيض» سواد عينيه (مِنَ الْحُزْنِ) والبكاء على يوسف ، نسب الابيضاض إلى الحزن ، مع أنه من البكاء ، من باب نسبة الشيء إلى سببه ، قالوا وقد ثبت في الطب الحديث ، أن نفس بعض الطبقات في العين تبيض ، لا أن ماء ينزل ، كما ظن بعض الأطباء القدامى ، فإن كان الأمر كما ذكروا ، فذاك من خوارق القرآن

فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً

____________________________________

الحكيم ، وما أكثرها ثم أنه لم يثبت أن يعقوب عليه‌السلام عمى من جهة ابنه وبكائه ، وليس في قوله سبحانه «ارتد بصيرا» شاهد لذلك فإن هذا التعبير كثيرا ما يؤتى به لإفادة جلاء البصر وذهاب الحزن ـ فلا منافاة لذلك ، مع قاعدة وجوب كون الأنبياء تامي الخلقة ، والكلام في المقام طويل نكتفي منه بهذا القدر ، روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف ، قال : حزن سبعين ثكلى بأولادها (١) (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مليء بالغيظ على الأولاد والحزن على ولده ، ولكنه كان لا يظهر غيظه ، ولا يشكو حزنه لأحد.

[٨٦] وأين للأخوة قلب يعقوب حتى يدركوا ما يدركه من الهم والحزن ، بل انهم رأوا أنفسهم في سعة حيث تخلصوا من يوسف ولذا كان يزعجهم بكاء الأب ، وإذا رأوا منه ذلك من جديد (قالُوا) لأبيهم يعقوب (تَاللهِ) لا (تَفْتَؤُا) أي لا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي ما هذا الذكر الدائم له؟ فهو استفهام استنكاري ، وإنما حذف حرف النفي ، وهو «لا» من «تفتؤ» لعدم الالتباس بالإثبات ، فإن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات ، كان على النفي ، كما أنه إذا كان مع النفي كان للإثبات ، قال سبحانه : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (٢) و (لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٣) إلى غير ذلك ، ولكن إنما ذلك حيث الأمن من اللبس ، (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا من الهم مشرفا على الهلاك ، يقال رجل حرض وحارض ، أي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٤٢.

(٢) البلد : ٢.

(٣) القيامة : ٣.

أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا

____________________________________

مشرف على الهلاك ، وهو مصدر يأتي للمفرد ، والجمع بلفظ واحد (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) فتموت وتنفى وتذهب عن الحياة.

[٨٧] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام في جوابهم ما يستفاد منه أنني لست أشكوا إليكم ولا أمل منكم حتى يوذيكم شكواي أو يرهقكم أملي ، بل (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) أي همي ومصيبتي ، فإن البث هو الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه ، فيضطر إلى نشره وإفشائه (وَحُزْنِي) وكان الحزن هنا ما يقابل البث وهو الكامن في النفس ، فالمعنى أشكوا الحزن الظاهر والخفي (إِلَى اللهِ) ومعنى الشكاية إظهار الألم وطلب رفعه (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) أي أعلم أشياء غائبة عن الحواس ، من حفظ يوسف ورده إلي سالما ، وجزيل الأجر في الصبر ـ وما أشبه ـ (ما لا تَعْلَمُونَ) أيها الأبناء.

روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أن الله أوحى إلى يعقوب : لو أمتهما ـ أي يوسف وبنيامين ـ لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما ، وروي عن الباقر عليه‌السلام أن يعقوب دعا الله سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت ، فأجابه فقال : ما حاجتك؟ قال : أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح ، فقال : لا ، فعلم أنه حيّ (١).

[٨٨] ثم توجه يعقوب إلى أولاده قائلا (يا بَنِيَ) جمع ابن مضافا إلى ياء المتكلم ـ كما تقدم ـ (اذْهَبُوا) إلى أرض مصر ، أو المراد اضربوا في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٧ ص ١١٦.

فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)

____________________________________

الأرض هنا وهناك (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) بنيامين ، والتحسس هو طلب الشيء بالحواس ، مقابل التنبؤ الذي هو طلب الشيء بالظن والخبر ، وإنما لم يذكر «يهودا» لأنه كان في مصر بإرادة نفسه ، فلم يكن غيابه مهما ، أما يوسف فقد احتاج أمره إلى التحسس ، لأن يجده الأولاد ، وبنيامين كان أمره محتاجا إلى التحسس ليرى هل يمكن إطلاق سراحه عند الملك أم لا؟.

روى عن الإمام الصادق عليه‌السلام أن أعرابيا اشترى من يوسف طعاما ، فقال له : إذا مررت بوادي كذا ، فناد يا يعقوب ، فإنه يخرج إليك شيخ ، فقل له : إني رأيت رجلا بمصر يقرؤك السّلام ، ويقول : إن وديعتك عند الله محفوظة ، لن تضيع ، فلما بلّغه الأعرابي ، خرّ يعقوب مغشيا عليه ، إلى آخر الحديث ، فقد علم يعقوب من الشواهد والأدلة ، أن يوسف حي مرزوق ، ولذا أمر أولاده بطلبه ، وفي المجمع ، قيل أنهم لما أخبروه بسيرة الملك ، قال لعله يوسف ، فلذلك قال يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، أي استخبروا من شأنهما ، واطلبوا خبرهما ، وانظروا أن ملك مصر ما اسمه وعلى أي دين هو؟ فإنه ألقي في روعي ، أن الذي حبس بنيامين هو يوسف (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من رحمته ، ولعل الإتيان بلفظ الروح ، لأجل أن المهموم المكظوم المحتبس النفس ، يحتاج إلى روح ونسيم ليروح عنه ويخفف وطي الأنفاس المحترقة الموجبة لخنقه ، واحتباس نفسه (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) ورحمته (إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بالله ، وبفضله ، أما المؤمن فإنه يرجو من الله الفرج من الشدة والخلاص من الكربة.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)

____________________________________

[٨٩] ولمرة ثالثة تجهز الأخوة للرحيل إلى ملك مصر لتحصيل الطعام ، وفي هذه المرة كانوا في شدة ، فقد أضرت بهم المجاعة ، وبضاعتهم التي جاءوا بها ثمنا للطعام رديئة ، وقد أخذ منهم كلام الأب الشيخ الكسير «تحسسوا من يوسف وأخيه» مأخذا عظيما ، وساروا حتى وصلوا أرض مصر (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على الملك (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي أصابنا ومن يختص بنا الجوع والحاجة والضرر من شدة القحط والمجاعة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) وقد كانت بضاعتهم مقلا رديئا ـ كما هو العادة في أيام القحط أن النباتات تردأ لقلة المطر ـ وقد كانت أراضيهم تنبت المقل وهو قسم من صمغ الشجر و «مزجاة» اسم مفعول للمؤنث ، من باب الأفعال على وزن «مكرمة» من أزجى يزجي ، والإزجاء في اللغة السوق والدفع قليلا قليلا ، فالمعنى بضاعة دفعت إلينا قليلة قليلة ، فإن الشجر يعطي هذا الصمغ في أيام الخصب كثيرا وافرا ، وفي أيام الجدب قليلا يسيرا ، أو المراد أن البضاعة دفعت إلينا ، وحصلناها قليلة قليلة ، فلا نتمكن إلا منها ، ولم تدفع البضاعة إلينا كثيرة وافية ، حتى نتمكن من الوافي الكافي ، لنعطيها ثمنا للطعام (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي أعطنا الكيل وافيا ـ تفضلا ـ لا أن تعطينا بمقدار بضاعتنا ، قليلا منقوصا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) من الصدقة ، أي اجعل ما تعطيه صدقة ، لا في مقابل بضاعتنا ، فإنها لا تفي بالكيل الوافي ، أو المراد تصدق علينا ، وتفضل برد أخينا بنيامين (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩)

____________________________________

أي يثبتهم على صدقاتهم.

[٩٠] وإذ بلغ الأمر بالأخوة هذا المبلغ يسترحمون وهم في انكسار وضيق ، لم يبق مجال لبقاء يوسف ـ في صورة العزيز الملك ـ وقد شاء الله سبحانه أن ينهي الامتحان ويرفع الشدة ، ولذا (قالَ) يوسف عليه‌السلام لهم (هَلْ عَلِمْتُمْ) أيها الأخوة (ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) من إلقائه في البئر بعد ما أردتم قتله ، ثم بيعه بدراهم معدودة (وَ) ب (أَخِيهِ) بنيامين ، فقد كنتم تذلونه وتنظرون إليه بالازدراء والإهانة ، كما هو العادة في أولاد الضرة ، وخصوصا إذا كان ولد الضرة قريبا إلى قلب الأب (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)؟ ولعل هذه الكلمة كانت معذرة من قبلهم يعني إنما فعلتم ذلك في زمان لم يكمل رشدكم ، وقد كان هذا مصداقا لقوله سبحانه ـ كما سبق ـ (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) ، وعن الصادق عليه‌السلام ، أن كل ذنب عمله العبد ، وإن كان عالما ، فهو جاهل حين خاطر بنفسه معصية ربه (١) ، أقول : وقد كان ذلك تلقينا لهم بأن يعتذروا به ، وأن ذلك حقيقة وليس بمجاز لأن للجهل مراتب فقد يجهل الإنسان أصل الموضوع ، وقد يجهل مزاياه ومراتبه ، فهل ترى أن من الممكن أن ينام إنسان وعده ملك بإعطاء قصر له ، إذا هو قام في ليلة واحدة؟ أو من المعقول أن يقترف عملا ، إذا أوعده بأنه إن عمله ضربه ألف سوط؟ كلا؟ لكنه ينام ويقترف مع أن وعد الله وإيعاده حق ، لا ريب له ، وكلاهما أرفع منزلة من وعد الملك وإيعاده.

[٩١] وتبين الأخوة في نبرات الملك صوت يوسف ، فإن الإنسان مهما طال

__________________

(١) القصص للجزائري : ص ١٦٨.

قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ

____________________________________

الزمان ، وتغير مظاهر الاخوان ، ونسي أشياء يبقى في خاطره بعض المزايا ، إنهم لم يكونوا ليعرفوا بعد سنوات ، حيث كان في زي الملك ولم يدر في خلدهم أن ذلك الغلام الصغير المهين يصبح ملكا بهذا الشكل الراقي ، ولذا (قالُوا) في استفهام وتعجب (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) هل أنت أيها الملك ذلك الأخ الذي تركناه في أيدي القافلة عبدا بعد سنوات (قالَ) الملك (أَنَا يُوسُفُ) أخوكم (وَهذا) بنيامين (أَخِي) من أبي وأمي ، وإنما قال ذلك مع إنهم كانوا يعرفونه ، تعريفا لنفسه وتأكيدا لنفسه ، أنه هو هو ، كما إذا سألك سائل ، هل أنت ذهبت إلى مكة ، تقول أنا ذهبت وأنت ذهبت في السنة التي ذهبت ، أو لعله ، إنما ذكره ليفخم من شأنه ، وإنه أصبح أخا للملك بعد ما كان مهينا لديكم (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالسلامة والكرامة (إِنَّهُ) الضمير للشأن (مَنْ يَتَّقِ) الله فيمتثل أوامره ويجتنب عن نواهيه (وَيَصْبِرْ) على البلية والطاعة ، بأن لا يظهر الجزع من المصيبة ولا يتكاسل عن الطاعة (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل يتفضل عليهم بالأجر ، وقد صبرت واتقيت فجزاني الله ذلك.

[٩٢] وهنا تملأ نفوس الإخوة مكانة يوسف ، التي لم يكونوا يقصدونها ، كما تتجلى في نفوسهم الخطيئة التي اقترفوها بالنسبة إليه ، فيتقدموا إليه ، مهنئين معتذرين (قالُوا تَاللهِ) التاء للقسم ، ولها لطف ليس للواو ، وكثيرا ما تأتي في مقام الاستغراب ، أو فيما كان هناك نكتة أو

لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)

____________________________________

مزية (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي اختارك علينا ، أولا بحسب الأب ، وثانيا بالملك ـ مع مالك من حسن الصورة ولطف السيرة ، ونقاء السريرة ـ (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، أي إنا كنا خاطئين مذنبين في ما فعلنا بك من الحسد والإلقاء في البئر ، وقد روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنهم قالوا له : فلا تفضحنا ولا تعاقبنا اليوم ، واغفر لنا. (١)

[٩٣] (قالَ) يوسف عليه‌السلام في جوابهم (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لا عيب ولا تأنيب ولا تقريع (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) دعا لهم بالغفران ، أنه عليه‌السلام أولا عفى عنهم بالنسبة إلى حق نفسه ، وثانيا دعا لهم بأن يعفر الله لهم. بالنسبة إلى حقه سبحانه (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإذا رحمت أنا بكم ، كان هو أولى بالرحمة والغفران ، ثم لا بأس بنقل كتاب يعقوب إلى الملك ، بعد أن أخذ بنيامين ، ليستعطفه ، فقد روي عن الصادق عليه‌السلام أن يعقوب كتب إلى يوسف : «بسم الله الرحمن الرحيم إلى عزيز مصر ومظهر العدل وموفي الكيل من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صاحب نمرود الذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأنجاه منها ، أخبرك أيها العزيز ، إنا أهل بيت لم يزل البلاء إلينا سريعا من الله ليبلونا عند السراء والضراء ، وإن

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ١٩٠.

____________________________________

المصائب تتابعت عليّ منذ عشرين سنة ، أولها إنه كان لي ابن سميته يوسف ، وكان سروري من بين ولدي وقرة عيني وثمرة فؤادي ، وإن اخوته من غير أمه سألوني أن أبعثه معهم يرتع ويلعب ، فبعثته معهم بكرة ، فجاءوني عشيا يبكون ، وجاءوا على قميصه بدم كذب ، وزعموا أن الذئب أكله ، فاشتد لفقده حزني ، وكثّر عليّ فراقه بكائي حتى ابيضت عيناي من الحزن ، وإنه كان له أخ وكنت به معجبا ، وكان لي أنيسا ، وكنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري ، وإن إخوته ذكروا إنك سألتهم ، وأمرتهم أن يأتوك به وإن لم يأتوك به منعتهم الميرة ، فبعثته معهم ليتماروا لنا قمحا ، فرجعوا إليّ وليس معهم ، وذكروا أنه سرق مكيال الملك ، ونحن أهل بيت لا نسرق ، وقد حبسته عني وفجعتني به وقد اشتد لفراقه حزني حتى تقوس لذلك ظهري ، وعظمت فيه مصيبتي مع مصائب تتابعت عليّ ، فمن عليّ بتخلية سبيله وإطلاقه من حبسك وطيّب لنا القمح ، واسمح لنا في السعر وأوف لنا الكيل ، وعجل سراح آل إبراهيم» قال : فمضوا بكتابه حتى دخلوا على يوسف في دار الملك ، وقالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر إلى آخر الآيات وتصدق علينا بأخينا بنيامين وهذا كتاب أبينا يعقوب أرسله إليك في أمره يسألك تخلية سبيله ، فمنّ به علينا ، فأخذ يوسف كتاب يعقوب وقبله ووضعه على عينيه وبكى وانتحب «والانتحاب أشد البكاء» حتى بلت دموعه القميص الذي عليه ثم أقبل عليهم ، وقال : علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه من قبل؟. (١)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٣١٢.

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤)

____________________________________

[٩٤] ثم أعطى يوسف عليه‌السلام قميصه ـ وهو قميص إبراهيم عليه‌السلام الذي جاء به جبرئيل من الجنة ليلبسه فيقيه حر النار وحين أراد نمرود أن يلقيه فيها ، وقد كان تميمة في عضد يوسف عليه‌السلام ـ إلى إخوته ، وقال لهم (اذْهَبُوا) أيها الإخوة (بِقَمِيصِي هذا) إلى بلدنا (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) وقد عرف من الغيب أنه إذا ألقي على وجهه (يَأْتِ بَصِيراً) ترتد عينه كما كانت ، بأن يتبدل بياضها بالسواد ، وتجلوا كما كانت ، ولعل التعبير ب «يأت» لأجل إفادة الأمرين «الارتداد بصيرا» و «الإتيان إلى يوسف» (وَأْتُونِي) أي تعالوا إليّ أيها الإخوة (بِأَهْلِكُمْ) أي مع أهلكم (أَجْمَعِينَ) فلا يبقى أحد منكم في تلك المدينة ، وقد أراد يوسف عليه‌السلام أن يجعل لأبيه الفرح ، والفرج والبشارة قبل أن يتلاقى معه ، وفي بعض التفاسير إن يوسف قال لهم إنما يذهب بقميصي من ذهب به أولا ، فقال يهودا : أنا ذهبت به وهو ملطخ بالدم ، فأخبرته أنه أكله الذئب ، قال : فاذهب به أنت أيضا فأفرحه كما أحزنته.

[٩٥] (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي لما خرجت القافلة من مصر ، وانفصلت من المدينة نحو الشام محل يعقوب (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب لمن كان عنده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) وقد شاء الله ذلك ، وكانت المسافة ثمانين فرسخا ـ كما ورد ـ وهل المراد بالريح العطر ، أو المراد استشعار ذلك ـ فإن اللفظ يطلق عليهما ـ احتمالان (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) الفند ضعف الرأي والعقل على إن لم تنسبوني إلى الفند ، وجواب لو لا

قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦)

____________________________________

محذوف ، أي لصدقتموني.

[٩٦] لكنهم لم ينفع معهم كلام يعقوب ، ورجائه أن لا يفندوا لرأيه ، بل (قالُوا) أي من حضر ممن كان في طرف خطابه عليه‌السلام (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ) أي اشتباهك وانحرافك عن الصواب في أمر يوسف (الْقَدِيمِ) فقد كنت من السابق تظن أنه لم يمت ، والحال أنه قد مات ، وذهب وأكله الذئب ، فلم يقل يعقوب شيئا حتى جاء يهودا ، ولده الأكبر الذي كان معه القميص.

[٩٧] (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) المبشر بيوسف (أَلْقاهُ) أي ألقى قميص يوسف عليه‌السلام (عَلى وَجْهِهِ) وجه يعقوب (فَارْتَدَّ) أي رجع كما كان (بَصِيراً) تقدم أنه من المحتمل إرادة ارتداد قوة نور البصر إليه ، بعد أن ضعف لكثرة البكاء ، فإن الإنسان إذا بكى كثيرا غشاه غبار يحول بينه وبين حدة الإبصار ف (قالَ) يعقوب عليه‌السلام لمن فند قوله ((إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أيها المفندون (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ) أي من طرفه سبحانه وبإلهامه إليّ (ما لا تَعْلَمُونَ) إذ قد وعدني بإرجاع يوسف إليّ.

[٩٨] وجاءوا إلى أبيهم يعقوب ليغفر لهم ذنبهم الذي اقترفوه وسببوا له تلك الأحزان واللواعج ، لكنهم لا يريدون أن يغفر لهم هو وحده ، بل يطلبون فوق ذلك أن يطلب من الله غفران ذنبهم ، فإن ذنبهم كان مزدوجا أمام الله ، وأمام أبيهم ـ بعد ما كان ذنبا بالنسبة إلى أخيهم

قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ

____________________________________

يوسف بالذات ـ (قالُوا) قالت الأخوة (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي كلفوه بالاستغفار لهم ، لأنهم كانوا يعلمون باستجابة دعائه فإن دعاء الوالدين في حق الولد مستجاب ، خصوصا مثل يعقوب النبي الجريح الفؤاد (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) في ما ارتكبناه من العمل.

[٩٩] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام في جوابهم (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) طلب غفرانه لكم ، ورد في الأحاديث أنه إنما أخر الاستغفار بغية أن يستغفر لهم وقت السحر ، لأنه أقرب إلى الإجابة ، (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ الْغَفُورُ) الذي يغفر الذنب ويمحيه (الرَّحِيمُ) الذي يرحم عباده ويتفصل عليهم ، روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن أولاد يعقوب قال : ما كان أولاد يعقوب أنبياء ، ولكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ، ولم يكونوا يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا (١).

[١٠٠] ولما أن بشّر يعقوب وأهله بأن ولدهم يوسف أصبح ملك مصر ، بيده الأمر والنهي ، وإنه أرسل إليهم ، تجهزوا للرحيل بكل سرعة ، وجاءت القافلة وملؤها الفرح يحدوها السرور والرغبة حتى وصلت أرض مصر (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى) أي ضمّ ، من الإيواء بمعنى إعطاء المحل والمكان (إِلَيْهِ) أي إلى نفسه (أَبَوَيْهِ) يعقوب وراحيل ، وقد كان لقائهم خارج المدينة ، فقد استقبلهم يوسف عليه‌السلام ،

__________________

(١) راجع القصص للراوندي : ص ١٢٩.

وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً

____________________________________

وهناك تلاقى معهم ورحب بهم ، وضم الأبوين إلى نفسه ـ ولعله بالمعانقة والتقبيل وما أشبه ـ كما هو المعتاد عند لقاء الأحبة ، وبالأخص العائلة (وَقالَ) لهم يوسف (ادْخُلُوا) مدينة (مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ) بمشيئته وإرادته (آمِنِينَ) في حال كونكم في أمن وأمان.

[١٠١] (وَرَفَعَ) يوسف (أَبَوَيْهِ) يعقوب وراحيل (عَلَى الْعَرْشِ) أي سرير المملكة إعظاما لهما ، وقد كان لا يجلس على السرير إلا الملك (وَخَرُّوا) أهل يوسف (لَهُ) ليوسف (سُجَّداً) جمع ساجد ، كما أن ركّع ، جمع راكع ، احتمل بعض العلماء أن السجود لغير الله سبحانه ـ بإذنه تعالى ـ كان جائزا في الأمم السابقة ، كما سجدت الملائكة لآدم ، وسجد أهل يوسف ليوسف ، حسب ما يظهر من القرآن الكريم ، وكم من حكم كان في الأمم السابقة جائزا ولم يجز في هذه الأمة ـ وذلك ليس خلافا للعقل ، فإنه كما يجوّز العقل التعظيم دون الركوع والسجود ، يجوز التعظيم إلى حدهما ، أقول : لكن في المقام نص خاص دل على السجود لم يكن لآدم وليوسف ، وإنما لله سبحانه ، وكأنهما عليه‌السلام كانا محل التوجه كما نسجد نحو الكعبة لله سبحانه ، وفي ذلك تعظيم ضمني لمن يسجد نحوه ، فقد سئل يحيى ابن أكتم موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضهما على أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام ، فكان إحداها أن قال : أخبرني أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن عليه‌السلام : أما سجود يعقوب وولده فإنه لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية ليوسف ، كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه‌السلام ، كان منهم

وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ

____________________________________

طاعة لله وتحية لآدم ، فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله تعالى (١) ، لاجتماع شملهم ، ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت : رب قد آتيتني من الملك (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام (يا أَبَتِ) التاء عوض ياء المتكلم ، قال ابن مالك :

وفي الندا أبت عرض

قبل النداء ومن اليا التا عوض

(هذا) الذي تراه من سجودكم لي (تَأْوِيلُ رُءْيايَ) التي رأيتها وأنا عندكم ، وإن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا سجدوا لي (مِنْ قَبْلُ) في زمان صغري (قَدْ جَعَلَها) أي جعل الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) أي صدقا مطابقا للواقع ، وآلت رؤياي إلى هذه النتيجة حيث صرت ملكا ، وسجد لي أبواي وإخواني الأحد عشر ، (وَقَدْ أَحْسَنَ) ربي (بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) الذي ابتليت به سبع سنوات (وَ) إذ (جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي من البادية «ليجمع شملنا» فقد كانوا يسكنون البادية ، ويرعون أغنامهم فيها ، وفي سنة القحط قد هلكت أغنامهم ، وأحوجهم العوز إلى السفر إلى مصر ، حتى تم هذا اللقاء ، ولعله لم يذكر نعمة الله عليه في إخراجه من الجب ، لئلا يذكّر الأب بصنيع الأخوة به ، كرما منه وإحسانا ، فإن من الأخلاق أن ينسى الإنسان إساءة الغير إليه ،

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٣٥٦.

مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً

____________________________________

وإحسانه إلى الغير (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) أي أفسد (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ، وكان الإفساد بإلقاء الحسد على قلب الأخوة ، حتى صنعوا ما صنعوا (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ) في تدبير عباده (لِما يَشاءُ) من الأمور ومعنى اللطيف أنه يفعل الأشياء الدقيقة النافعة ، مما لا يتمكن الإنسان عليها (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ الْعَلِيمُ) بالمصالح (الْحَكِيمُ) فيما يفعل ، والحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.

روي أن يعقوب سأل يوسف عن ماذا صنع الأخوة به؟ فقال يوسف : يا أبة لا تسألني عن صنيع إخوتي بي ، وسل عن صنع الله بي.

[١٠٢] ثم يتوجه يوسف إلى الله سبحانه ، يشكره ما أنعم عليه ، ويعدد لطفه به ، ويسأله حسن الخاتمة ، قائلا يا (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي بعض ملك الدنيا وسلطانها (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تفسير المنامات ، بما تؤول إليه ، أنت ربي (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقها ومبدعها ، فلك الخلق ومنك الأمر والفضل (أَنْتَ) دون سواك (وَلِيِّي) الذي يتولى كل شؤوني ، كما تولى خلق السماوات والأرض (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) تتولى في الدنيا إصلاح حالي ، وفي الآخرة سعادتي ونجاتي (تَوَفَّنِي) يا رب ، أي خذ روحي ـ وقت موتي ـ (مُسْلِماً) لك في جميع

وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)

____________________________________

الأمور (وَأَلْحِقْنِي) إذا توفيتني (بِالصَّالِحِينَ) الذين هم الأنبياء والأئمة والشهداء ، ومن في زمرتهم ، وهنا تنتهي قصة يوسف عليه‌السلام ، وقد كان فيها من العبر والعظات الشيء الكثير ، وهي من أبلغ الدروس لمن أراد أن يسلك سبل الحياة بكل طهارة ونظافة ، ففيها التنبيه على الطهارة وعاقبتها ، واللوث وعاقبته ، وفي الأحاديث ، أن يعقوب عليه‌السلام مات ـ بعد لقاء طويل ، وربما بلغت السنوات ـ ودفنه يوسف عليه‌السلام في بيت المقدس ، ثم مات بعد زمان يوسف عليه‌السلام ، ودفن في شاطئ النيل في صندوق مرمر ، حتى حمله موسى عليه‌السلام ، وجاء به إلى الشام (١).

[١٠٣] ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة ، ليذكر ما ابتدأ به ، حيث قال سبحانه في أول السورة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(ذلِكَ) الذي قصصنا عليك من تفاصيل قصة يوسف (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي الأخبار الغائبة عن الحواس (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا رسول الله ، فإن نشأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن بحيث يتطلع على هذه القصة بهذه التفاصيل حسب البيئة والاجتماع ، لو لا إخبار الله سبحانه له (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (لَدَيْهِمْ) أي حاضرا عند أولئك الذين كانوا أطراف القصة من أولاد يعقوب وزليخا والنسوة (إِذْ أَجْمَعُوا) إخوة يوسف (أَمْرَهُمْ) أي عزموا على أن يكيدوا يوسف ، (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) يمكر بعضهم لإلقائه في الجب ،

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٤٥٩.

وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها

____________________________________

وبيعه في العير ، وبعضهم لسوقه نحو الخطيئة ، وإلقائه في السجن ، إن كل ذلك أنا أخبرته بالوحي ، وإلا فكيف يمكن التحصيل عليها بدون أن يكون المخبر حاضرا ، وبدون أن يكون مجتمعة هو الذي أخبره به؟ ولكن الكفار يمعنون في التكذيب ، فلا تنفع معهم هذه القصص الغيبية لإثبات الرسالة ، وصدقك يا رسول الله.

[١٠٤] فإنه (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على هدايتهم (بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين لك في دعائهم إلى الإيمان ، ولو أقمت لهم الأدلة والشواهد.

[١٠٥] (وَ) الحال إنك (ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أي الإيمان والاهتداء بك (مِنْ أَجْرٍ) ولو قليل ، فلما ذا لا يؤمنون ، هل لأنه كذب؟ فقد دلّت الأدلّة والحجج عليه ، أم لأنهم يفرون من إعطاء الأجر ، فإنك لا تسألهم أجرا (إِنْ هُوَ) أي ما هذا القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) جاء لتذكير الناس بالله والمعاد ، وسائر المعارف ، ووعظهم.

[١٠٦] وليس هذا فقط ذكرا ، بل هناك من الآيات الكونية كثرة هائلة ، لكنهم ذاهلون عنها غافلون عن دلالتها على المبدأ والمعاد ـ (وَكَأَيِّنْ) أي كم ـ وهي للتكثير هنا ـ (مِنْ آيَةٍ) دالة على الصانع (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الشمس والقمر والنجوم والسحاب ، وما إليها ، والإنسان والحيوان والنبات ، وسائر الموجودات (يَمُرُّونَ عَلَيْها) يشاهدونها

وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)

____________________________________

ويبصرونها (وَهُمْ عَنْها) أي عن تلك الآيات (مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيها ، ولا يعيرونها الاهتمام ، حتى تدلهم على خالقها ومبدعها.

[١٠٧] حتى أن المؤمنين لا يتخلصون عن الشرك كثيرا ما (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر المؤمنين منهم ـ وذلك يعرف من السياق ـ (بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فإن كثيرا من المؤمنين يجعلون غير الله مؤثرا في الأشياء ، وهنا هو الشرك ، إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه ، وما سواه أسباب جعلها تعالى ، وقد وقع الناس ـ كثيرا ـ بين الإفراط والتفريط ، فمن مفرط ظن أن الاستعانة بالطبيب والمهندس والقاضي وما أشبه شرك ، حتى أنهم منعوا أن يقول الناس «يا محمد» «يا علي» ومن مفرّط ظن أن الطبيب هو الشافي الحقيقي والمعطي له ما ليس هو الرزاق الحقيقي ، وكلاهما باطل ، فإن الإنسان إذا قال «يا محمد» وعلم أن محمدا ، إنما يفعل بأمر الله سبحانه ، كان ذلك من محض الإيمان ، كما أنه إذا ظن أن مثل هذه الاستعانة غير جائزة فهو جبري فاسد العقيدة ، أو ظن أن محمدا هو المستقل بالأمر ، بدون أن يكون لله مدخل أصلا فهو مفوّض منحرف الإيمان ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية ـ كما روي عنه ـ : هل الرجل يقول لو لا فلان لهلكت ، ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولو لا فلان لضاع عيالي ، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكا في ملكه ، يرزقه ويدفع عنه؟ قيل ، فيقول : لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت؟ قال : نعم لا بأس بهذا (١) ، أقول : وإنما

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٠٠.

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)

____________________________________

ذكر الإمام ذلك من باب المثال ، وإلا فهذا الاعتقاد كاف لمن يقول «لو لا فلان لهلكت» وقد روي أن بعض الأئمة عليهم‌السلام بعد ما تناول الطعام ، قال : اللهم هذا منك ومن رسولك فقال رجل منحرف ـ معترضا على الإمام ـ لقد أشركت ، فقرأ له الإمام هذه الآية (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وهذه الآية (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) (٢) فقال الرجل : كأني لم أمرّ بهذه الآية.

[١٠٨] ثم هدّد سبحانه المشركين بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة ، (أَفَأَمِنُوا) أي هل أمن هؤلاء الكفار (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ) عقوبة تغشاهم وتحيط بهم (مِنْ عَذابِ اللهِ) كالفقر والمرض والفوضى أو الآفات السماوية كالصاعقة أو الأرضية كالهدّة والخسف والزلزلة (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي يوم القيامة أو الموت ، لأنه إذا مات ابن آدم ، فقد قامت قيامته ، والقبر إما حفرة من حفر النيران ، أو روضة من رياض الجنة (بَغْتَةً) بدون سابق إنذار ليأخذوا حذرهم من التوبة والإنابة والإيمان الصادق الذي لا يشوبه شرك ولو الخفي منه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيء العذاب أو الساعة.

[١٠٩] وإذ انحرف أكثر الناس كفرا ، وكثرة من المؤمنين شركا خفيا ، فالرسول لا يهمه كل ذلك ، بل هو جاد في طريقه ، يسير نحو هدفه ،

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

(٢) التوبة : ٥٩.

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى

____________________________________

بلا كلل ولا ملل (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (هذِهِ) الطريقة التي ترونها في أقوالي ، وأفعالي (سَبِيلِي) طريقي في الحياة لا أحيد عنها (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) من أمري فلست مقلدا ولا مغفلا ولا غافلا (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أدعوكم أنا ، ويدعوكم من آمن بي (وَسُبْحانَ اللهِ) أي تنزيها له عن النقائص ، فليس كالالهة الحجرية والخشبية والمعدنية جاهلة لا تملك شيئا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يشركون بالله شركا خفيا أو جليا ، فمن شاء فليتبع طريقي ومن لم يشأ ، فهو وما اختار ،

[١١٠] ثم يلفت الله الكفار إلى حقيقة الرسالة وأحوال الغابرين ، الذين تركوا اتباع الرسل ، ليهزهم نحو الاتباع ، ويعظهم بما قد علموه من أحوال الماضين ، لعلهم يرتدعون عن غيهم (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (إِلَّا رِجالاً) من المرسلين كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) نلقي إليهم أوامرنا وإرشاداتنا (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فلم يكونوا ملائكة ولا جنّة ولا نساء ، وإنما رجال من أهل البلاد ، لا من أهل البادية ، ليكونوا ألطف معاشرة ، وأكرم أخلاقا ، وأحسن عشرة لغلبة الجفاء والخشونة على أهل البادية ، أو لأنه لو بعث في البادية من أهلها ، كان أهل المدن أبعد من الإيمان ، أو لأن البدوي لقلة علومه يتمكن أن يدعي النبوة له كل من كان منه أدق فطنة ، بخلاف أهل المدن ، فإنهم مستوعبون للعلوم ، فلا يتمكن أن

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

____________________________________

يغشّهم فطن خال عن الاتصال بالسماء (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ) ليطلعوا على أحوال الماضين ، كيف أهلكوا لما خالفوا الرسل ، فإن العلم بأحوال الأمم المختلفة ماضيهم ، وحاضرهم لا يحصل غالبا إلا بالسفر والسير (فَيَنْظُرُوا) أي يعلموا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبين لرسلهم ، فإنهم قد أهلكوا بأنواع العذاب في الدنيا ، وأما الآخرة فإن لهم جهنم لا يموتون فيها ، ولا يحيون (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) معاصي الله سبحانه ، فهم في الدنيا نعموا ، والاخرة خير لهم ، روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : لشبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها (١) ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تعملون عقولكم ، لتعرفوا مصير كلّ من الكافر والمؤمن ، في دنياه وآخرته؟

[١١١] إن الكفار دائما يغترون بما يرون من ظواهر اتباع الأنبياء في بدء الدعوة ، أنهم قلة لا حول لهم ولا طول ، ولكن لا يغر ذلك كفار قريش ، مما يرون بالرسول من الضعف في الاتباع والقلة في الأشياع ، فقد جرت عادة الله سبحانه أن يبدأ الإيمان بمثل ذلك ، حتى يكون أقوى أساسا وأشد مراسا ، وإلا فالنصر آت لا محالة وهكذا تستمر الحالة ، فالرسل في ضعف من الأتباع ، والكفار في قوة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ) أي يئس (الرُّسُلُ) من تلبية الناس واستجابتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٨ ص ١٤٨.

قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ

____________________________________

قَدْ كُذِبُوا) بصورة عامة ، فلا مصدق لهم ، فإن كذب ـ مخففا ـ يأتي بمعنى كذّب ـ مشددا ـ كما قال سبحانه (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) وإنما جيء ب «ظنوا» لأن الرسل رجحوا ذلك ، ولم يتيقنوا ، وإنما رجّحوا لأنهم رأوا عدم التلبية من الناس مع طول المدة ، وتمام الحجج البينات (جاءَهُمْ) أي جاء إلى الرسل (نَصْرُنا) بإرسال العذاب على الكفار ، وتقوية أمر الرسل (فَنُجِّيَ) أي نخلص من العذاب (مَنْ نَشاءُ) وهم المؤمنون الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بهم (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بانحراف العقيدة وارتكاب الآثام ، وهكذا أنت يا رسول الله مع هؤلاء القوم ، وهكذا كل داع إلى الصلاح ، قائم بواجب الإرشاد ، أما قتل الأنبياء عليهم‌السلام ـ قبل ذلك ـ كما كان ، فإنه لا ينافي ذلك ، فإن المراد بالنصر نصر المبادئ التي دعوا إليها ، وهو النصر حقيقة ، لا العزة والشوكة في الدنيا ، وعلى هذا فقوله سبحانه «وظنوا» لا يراد به الظن الظاهري ، الذي هو صفة قائمة بالنفس ، بل ذلك حكاية عن ظاهر الحال ، يعني أن المورد يكون مورد ظنّ بأن الرسل قد كذبهم الناس ، فلا مؤمن ولا مصدق.

[١١٢] وتأتي الخاتمة ، كما ابتدأت به السورة ، فهناك (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وهنا (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي قصص

__________________

(١) التوبة : ٩٠.

عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)

____________________________________

الأنبياء عليهم‌السلام مع الأمم ، وقصة يوسف ـ بصورة خاصة ـ (عِبْرَةٌ) أي اعتبار لمن اعتبر ، وبصيرة عن الجهل (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن اللب هو العقل (ما كانَ) الذي جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قصصهم (حَدِيثاً يُفْتَرى) قصة مختلقة مكذوبة (وَلكِنْ) كان ما جاء به (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي تصديقا للكتب ، والوقائع التي سبقت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَ) كان (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) ما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم ، وليس المراد بالتفصيل بيان الجزئيات ، بل تفصيل الخطوط العامة حول العقيدة والأحكام والآداب (وَهُدىً) أي هداية وإرشادا للناس (وَرَحْمَةً) تسبب رحم الناس ونجاتهم من كوارث الدنيا وعذاب الآخرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وإنما خصهم لأنهم هم الذين ينتفعون به ، وإلا فقد جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما جاء به للبشر عامة.

(١٣)

سورة الرعد

مكيّة / آياتها (٤٤)

سميت السورة ب «الرعد» لاشتمالها على هذه الكلمة ، وهي كسائر السور المكية على ما قال بعض المفسرون ـ تعالج شؤون التوحيد والبعث وما إليهما.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء بذكر اسم الله عزوجل ، للدلالة على تمام السورة السابقة ، والشروع في سورة جديدة ، وأيّ شيء أفضل من اسم الله حتى يبتدأ به؟ وذكر «الاسم» لأن الله لا يبتدأ به ، وإنما يبدأ باسمه ، أنه الله الرحمن الرحيم ، الذي أظهر صفاته الرحم والتفضل ، لا الانتقام والعقاب ، والقوة والعذاب.

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ

____________________________________

[٢] (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) من جنس «الف ، لام ، ميم ، راء» آيات القرآن الحكيم ، فإن الآيات مركبة من هذه الحروف التي يتلفظ بها كل الناس ، ولكنهم هيهات أن يتمكن أفراد البشر أن يأتوا بحيوان واحد يركبونه من الأجزاء المذكورة فيصير حيوانا ، وعلى هذا ف «المر» مبتدأ ، وتلك آيات الكتاب ، خبره ، واسم الإشارة «تلك» إشارة إلى هذه الحروف وما أشبهها ، أو أن «المر» رمز بين الله وبين الرسول ، أو غير ذلك من الأقوال البالغة أربعة عشر قولا ، في فواتح السور ، وعلى هذا ف «تلك» مبتدأ ، خبره «آيات الكتاب» أي أن هذه التي بين يديك ، أيها القارئ هي آيات الكتاب ، وإنما جيء بلفظ البعيد ، إشارة إلى بعد الآيات مقاما ، وعلوها شأنا ، عن قرب الناس ، كما تقول : ذلك الفقيه يقول ، وليس بينك وبينه فاصل ، وإنما تأتي «بذلك» إشارة إلى رفعة الفقيه منزلة ، حتى كأنه بعيد عنك ، لا تناله أنت ـ كما ذكروا في علم البلاغة ـ (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي القرآن الذي أنزل (مِنْ رَبِّكَ) هو إليك (الْحَقُ) «خبر» لقوله و «الذي» فإنه مطابق للواقع لا انحراف فيه ولا زيغ (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون ، مع أنهم يرون أن القرآن حق.

[٣] ثم يبدأ سبحانه بإله الكون ، وأنه هو الذي جعل الكون بما فيها من الآيات المدهشة ، ثم يأتي دور التعجب من الذين ينكرون البعث (اللهُ) هو (الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) أي جعلها رفيعة ، وأيّا كانت السماوات ، سواء هي المدارات ، أم أجسام ضخام ، أم المراد جهة

بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي

____________________________________

العلو وطبقات الجو ، فهي شيء رفيع يعرفه كل أحد ، فمن رفعها وجعلها ، أليس الله سبحانه؟ (بِغَيْرِ عَمَدٍ) جمع عماد ، وهي الدعائم ، وهذا أغرب ، فقد نرى أن كل شيء رفيع لا بد له من عماد يستند إليه ، فكيف رفعت السماوات بغير عماد ، (تَرَوْنَها) ظاهرة لكم ، فإن كل ناظر يرى السماوات ـ بأي معنى كان ـ ، ثم أن هناك قولين : الأول أن «ترونها» جملة منفصلة. وعلى هذا يكون المعنى لا عمد للسماوات ، الثاني أن «ترونها» صفة ل «عمد» أي لا عمد مرئية لها ، والمفهوم منه أن لها عمد غير مرئية ، وعلى هذا فالمعنى أن للسماوات عمد ، ولا تنافي بين القولين ، فإن السماوات لا عماد لها خارجا ، ولها عماد ـ من قدرة الله سبحانه ـ لا يرى ذلك العماد (ثُمَ) بعد رفع السماوات بغير عمد (اسْتَوى) الله سبحانه ، أي استولى وسيطر (عَلَى الْعَرْشِ) أي على كرسي الملك ، وذلك شيء مهول لا يرى ، كما أن السماوات شيء عظيم يرى ، يعني أنه سبحانه بعد ما خلق السماوات ، استولى على أزمة الأمور ، يقال : استوى الملك على عرش المملكة ، يراد أنه أخذ بيده أزمة الحكم وسيطر وتسلط عليه لا يزحزحه مزحزح لا أنه جلس على كرسي خارجي ـ فهو معنى كنائي ـ وعلى هذا فالإتيان ب «ثم» مع أنه سبحانه لم يزل كذلك ، من باب أنه سبحانه بعد إيجاد الكون سيطر عليه ، أما قبله ، فلا سيطرة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ وهذا الذي ذكرناه في تفسير (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أحد المعاني المحتملة في الآية ـ (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذلّلهما لمنافع خلقه ، وجعلهما يطيعانه ، كما يريد (كُلٌ) من الشمس والقمر (يَجْرِي) ويسير في

لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ

____________________________________

دؤوب واستمرار (لِأَجَلٍ) أي وقت (مُسَمًّى) سمي عنده سبحانه ، فوقت وقوفها عن الحركة ، وانتهاء أمر سيرهما ، معلوم عنده سبحانه مسمّى في لوحه المحفوظ ، وإنما أتى باللام ، ولم يقل «إلى أجل» لإفادة أن السير إنما هو لإدراك تلك الغاية ، فكأنهما يسيران ليأتيا بيوم القيامة ، حيث الشمس تكور ، والنجوم تنكدر والقمر ينخسف .. أنه سبحانه خلق هذه الأشياء وهو (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فيها وفي غيرها على وجه الصلاح والحكمة ، فمنه الخلق ومنه الأمر ، مقابل السلاطين الذين لهم الأمر فقط ـ في الجملة ـ فهو تعالى هو الخالق المطلق ، والآمر المطلق وهو سبحانه (يُفَصِّلُ الْآياتِ) بينهما تفصيلا آية فآية ، لأجل الإرشاد ، فهو الخالق الآمر المرشد ، وإنما يفصل الآيات (لَعَلَّكُمْ) أيها البشر (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ) عند الجزاء والحساب ، والمراد لقاء موعده ، لا لقاء ذاته فإنه منزه من أن يرى (تُوقِنُونَ) فلا تنكرون البعث والنشور والكتاب والحساب.

[٤] وإذ صورت الآية السابقة خلق السماوات ، فلننظر إلى خلق الأرض (وَهُوَ) سبحانه (الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي بسطها طولا وعرضا ، لتصلح مكانا للإنسان والحيوان ، ومحلا للنبات والأشجار ، ولفظة «مدّ» أكثر دلالة على القدرة من لفظ «خلق» لأن «مدّ» يشمل الخلق وأكثر (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جمع راسية ، وهي الجبل ، لأنها ترسو في الأرض ، كما ترسو السفينة في الماء ، وحكمة خلق الجبال أنها تمسك الأرض عن التفتت والاضطراب ، كما أن المسامير تمسك المصنوعات

وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ

____________________________________

الخشبية عن التفتت والتفرق (وَ) شق فيها (أَنْهاراً) لتجري فيها المياه ، ولولاها لضاعت المياه ، ولم يمكن الاستفادة الصحيحة منها (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها) أي في الأرض (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى ، فإن «زوج» يطلق على كل فرد من فردي «الزوجين» ولذا جيء له التأكيد ب «اثنين» حتى لا يتوهم أنه تثنية «زوج» الذي يراد به «اثنان» وقد ثبت في العلم ، أن كل صنف من أصناف النباتات يشتمل على ذكر وأنثى ـ وهذه إحدى معاجز القرآن الكثيرة ـ ، وفي الأرض (يُغْشِي) أي يستر (اللَّيْلَ النَّهارَ) بقدرته ، والليل والنهار مفعولان ل «يغشي» ، وفاعله الضمير العائد إليه تعالى ، أي يأتي سبحانه بالليل ليستر النهار ، فكأنه ساتر له عن الأبصار ، وهذا من باب التشبيه ، وإلا فالنهار يذهب إذا جاء الليل ، وإنما لم يعكس ، كأن يقول «يذهب الليل بالنهار» لأن الليل فيه الراحة والهدوء ، ولأنه الأصل ، إذ الظلمة سابقة على الضياء ـ فقد قالوا أن بينهما تقابل العدم والملكة ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من السماء والأرض ، والشمس والقمر ، والجبال والأنهار ، والزوج والزوج من النبات ، والليل والنهار ـ من الأمور البديعة المتقابلة ـ (لَآياتٍ) دلالات واضحات ، وحجج ظاهرة على وجود الله سبحانه وعلمه وقدرته ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في هذه الموجودات ، فيدركون ، أن لها صانعا قديرا عليما.

[٥] ثم ننظر إلى تفاصيل أدق من تلك الخطوط العريضة في الأرض ، لنرى آثار القدرة في الجزئيات ، كما رأيناها في الكليات (وَفِي الْأَرْضِ

قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ

____________________________________

قِطَعٌ) جمع قطع (مُتَجاوِراتٌ) فهي مختلفة مع أنها متجاورة بعضها في جوار بعض ، فمن فصّلها مع جوار بعضها البعض؟ جبل ووهدة صلبة ورخوة ، طيبة وسبخة ، رفيعة ومنخفضة ، إلى غير ذلك (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين ، جمع جنة ، وإنما سمي البستان بها ، لأن الأشجار تجني الأرض وتسترها (مِنْ أَعْنابٍ) تتسلق على الجدران والأخشاب ، وما أشبههما (وَزَرْعٌ) من بقول وأزهار يرتفع قليلا (وَنَخِيلٌ) يرتفع في الجو ، بلا استناد على شيء ، ولا تخرج النباتات عن هذه الأمثال الثلاثة ، أما رفيعة ـ كالنخل ـ أو لا ـ كالزرع ـ وإما مستقلة ، أو غير مستقلة ـ كالعنب ـ (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) جمع صنو وهو المثل ، أي بعض هذه الأشياء متشابهة ، فنخل يشبه نخلا ، وزرع يشبه زرعا ، وعنب يماثل عنبا ، وبعضها غير متشابهة ، فنخل يعطي البربن ، وآخر يعطي الزهدي ، وعنب أبيض وعنب أسود ، وزهر عطر وآخر قليل الرائحة ، وهكذا ، والمدهش حقا أن كل ذلك (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) وينبت في أرض واحدة ، والضياء والتربية ، وكل ذلك غير مختلف ، ومع ذلك لكل لون ، ورائحة وطعم ، وخاصية ، وشكل ، وحجم ، ووزن ، إلى غيرها ، فشكل هذا مدور ، وذاك مربع ، وحجم هذا كبير وذاك صغير ـ ولو كان كلاهما مدورا مثلا ـ ووزن هذا أوقية ، وذاك أوقيتان ـ وإن كان كلاهما في شكل وحجم واحد ـ (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي نفضل نحن ـ والمراد بالفاعل هو الله

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ

____________________________________

سبحانه ـ بعض تلك الثمار على بعضها الآخر في الطعم ، فهذا حلو قليل الحلاوة ، وذلك حلو كثير الحلاوة ، كما أن الثالث مرّ ، والرابع مالح وإن لم تختلف الأشكال ، كما نرى في اللوز الحلو والمر ، وما أشبه و «الأكل» هو الثمر الذي يؤكل ، أي أنها مختلفة في الثمار ، مع أن الماء واحد .. إلى آخره ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي عرضناه من الأرضين المختلفة ، والثمار المتفاصلة (لَآياتٍ) حجج وبراهين دالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتبعون عقولهم ، بعد أن يعملوها لإدراك الحقائق والتوصل من الأثر إلى المؤثر.

[٦] إن كل ذلك لا يكفي هؤلاء للإذعان بالله سبحانه وبما أخبر به من الحساب والجزاء ـ وحيث كان ما تقدم تكلمنا حول المبدأ ، يأتي دور التكلم حول المعاد ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا رسول الله من شيء (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي فالحقيق بالعجب قول المنكرين للبعث ، أو المراد ، وإن تعجب من إنكارهم البعث فحقيق عجبك ، إذ هو في محله ، وما هو قولهم الحقيق بالتعجب؟ (أَإِذا) متنا و (كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟! نخلق من جديد بشرا سويا لنحاسب ونجازى ، إن ذلك لا يكون ، وهل هذا القول ، إلا من أغرب الأمور ، فإن الله الذي خلق السماوات والأرض ، وتلك الأشياء الهائلة ، التي سبق ذكرها ، بدون سابق كونها ، بل أخرجها من كتم العدم ، ليس قادرا على إعادة هؤلاء إلى الحياة ، (أُولئِكَ) المنكرون للبعث هم (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وإن

وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ

____________________________________

اعترفوا به ، إذ من لا يؤمن أنه تعالى قادر على الإعادة ، أو يعترف بالقدرة ، ولكنه لا يذعن بالإعادة ، فهو كافر بالله ، بما له من الصفات ، أو كافر بأقواله وأخباره ، (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) في الآخرة جزاء لإنكارهم في الدنيا ، أو المراد أغلال التقاليد والخرافة في أعناقهم ـ هنا ـ فلا يتبعون الحق ، كالمغلول الذي ليس له حرية التصرف ، حتى يتصرف كما يشاء ، أو المراد أغلال المعاصي والسيئات ، يعني أنهم لا يتمكنون من الفرار عن معاصيهم بإنكارهم البعث ، كما قال سبحانه : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (١) (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها الخالدون فيها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ليس لهم عنها تحول وانتقال.

[٧] إن هؤلاء المنكرين للبعث ، يطلبون من النبي أن يعجّل لهم بالعذاب ـ استهزاء ـ ويقولون «متى هو؟» فقد سفهت عقولهم ، فعوض أن يطلبوا الهداية والخير والسعادة ، يطلبون سرعة العذاب ، كأنهم لم يعتبروا بما أصاب الأمم الخالية ، حيث خالفوا الرسل ، وكذبوا بالمعاد ، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا رسول الله (بِالسَّيِّئَةِ) أي بالعذاب ، أي يطلبون منك أن تعجل عليهم بالعذاب ، بأن تدعوا الله ليعذبهم (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قبل الرحمة والسعادة والهداية ، والمراد أنهم يطلبون ذاك ، دون هذا ، لا أنهم يطلبون العذاب ، ثم يطلبون السعادة ـ وهذا تعبير مجازي ـ

__________________

(١) الإسراء : ١٤.

وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

____________________________________

(وَقَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي العقوبات التي يقع بها الإعتبار ، وهو ما حلّ بالأمم السابقة ، من المسخ والغرق والهلاك بالعواصف والصيحة ، وقلب الأرض عليهم وغيرها ، ومثلات ، جمع مثلة ، بفتح الميم وضم الثاء ، وهي العقوبة ، سميت بها لأنها تمثل ، وأنها تسير بها الأمثال ، (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) أي يغفر ذنوبهم (عَلى ظُلْمِهِمْ) مع أنهم ظالمون ، فإنه سبحانه لو أخذ الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها دابة ، وإنما جيء بلفظ «على» لبيان علو المغفرة على الظلم ، كأن المغفرة تتجلل الظلم حتى تستره وتخفيه (وَ) لكن لا يعني غفران الظالمين ، حتى يتمادوا في غيهم ف (إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) فإن عقابه لا يشبه عقاب الناس بعضهم لبعض ، روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا نصر الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولو لا وعيد الله وعقابه لا تكل كل أحد.

[٨] إن الذين كفروا ، يكفرون بالله (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وينكرون المعاد (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وينكرون الرسالة (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ليس محمد مرسلا ، ولو كان من عند الله لأنزل الله عليه الآيات كاليد والعصا ، وإحياء الأموات ، وما أشبهها ف (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقد قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، إلى غيرها ، لكن هذا الكلام منهم فارغ ، فإنهم إن

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ

____________________________________

يريدوا الإيمان والإذعان بالخوارق ، فقد زوّد النبي بالقرآن الذي هو من أكبر المعجزات ، وإن يريدوا الجدل ، فلا يؤمنون ، وإن يروا كل آية (إِنَّما أَنْتَ) يا رسول الله (مُنْذِرٌ) مرسل للإنذار كغيرك من الأنبياء المرسلين ، وما عليك إلا الإتيان ، بما يصح به أنك رسول مخوّف منذر ، والآيات كلها متساوية في حصول الغرض ، فطلبهم لآية جديدة ليس إلا تعنتا وجدلا (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فلست بدعا جديدا ، حتى تأتي بالاقتراحات ، وإنما كان لكلامه هاد ، يهيديهم إلى الحق ، وإلى صراط مستقيم ، أما إنزال الآيات ، فهو مرتبط بخالق الكون ، إن شاء أنزل ، وإن شاء لم ينزل ، وإنما اللازم أن يفعل بقدر إتمام الحجة ، وقد فعل ، وما ورد من أن المراد ، أن عليا عليه‌السلام ، هو الهادي ، فإنه من باب المصداق في هذه الآية ـ كما لا يخفى ـ.

[٩] ثم يأتي السياق ليبين جملة أخرى من الآيات الدالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وتدل بالملازمة إلى إمكان البعث والنشور (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) ذكر أو أنثى تام أو ناقص حسن أو قبيح ، سعيد أو شقي في الإنسان ، وفي غير الإنسان ، ولو لم يعلمه لم يتمكن أن يخلقه ويصوره ، ويتقن صنعه (وَ) يعلم (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) يقال غاض الماء ـ أو غيره من المائعات ـ يغيض بمعنى قلّ في الأرض ، أي يعلم ما تنقصه الأرحام من المدة ، أو الحمل بأن تخرج الأرحام الولد دون تسعة أشهر ، أو دون كمال جسمه ، بأن كان ناقصا ، فالمفعول لتغيض محذوف «أي تغيضه الأرحام» ونسبة الغيض إلى الرحم مجاز ، (وَما تَزْدادُ) الأرحام له من المدة والخلقة ، بأن تخرج الولد بعد تسعة

وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)

____________________________________

أشهر ـ كعشرة أشهر أو أكثر ـ أو تزيد في الخلقة ، كأن تصنعه ذا رأسين أو ستة أصابع أو نحوها ، والحاصل أن الله يعلم المحل ، ويعلم وقت الولادة ، زيادة أو نقيصة من المدة المقررة للولادة ، ويعلم أن الولد ناقص أو زائد ، روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : (ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) الذكر والأنثى (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ما كان دون التسعة ، وهو غيض (وَما تَزْدادُ) ما رأت الدم في حال حملها ازداد به على التسعة أشهر (١) (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ) تعالى (بِمِقْدارٍ) فليس زيادة المدة والخلقة ، أو نقصانهما ، كالزيادة والنقصان من مصنوعات الناس ، حيث يخرج الأمر من أيديهم ، بل إنه سبحانه ، يفعل كل ذلك بتقدير وحكمة ، فالزيادة والنقصان بقدر وتقدير.

[١٠] إنه سبحانه (عالِمُ الْغَيْبِ) أي ما غاب عن الحواس ظاهرها وباطنها ، سواء كان موجودا ، أو معدوما ، فإنه يعلم أن المعدوم لو كان كيف كان (وَالشَّهادَةِ) أي تدركه الحواس ، من شهد بمعنى حضر ، كأنه يحضر عند الحواس (الْكَبِيرُ) الشأن الذي كل شيء لديه حقير وضيع (الْمُتَعالِ) اسم فاعل من «تعالى يتعالى» بمعنى المتعالي على كل شيء بعظمته ، فهو أقدر من كل قادر ، وأعلم من كل عالم ، وأعظم من كل عظيم ، كما أشير إلى ذلك كله في هذه الآيات ـ والفرق بين الكبير والمتعال ، أن الأول صفة ذات ، والثاني صفة فعل ، فإن الممكن أن يكون الكبير غير متعال ، أو أن المتعال غير كبير.

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٢ ص ٢٣.

سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ

____________________________________

[١١] إنه بعمله يعلم كل شيء (سَواءٌ مِنْكُمْ) أي متساو في عمله ، أيّ شخص منكم (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) أي أخفاه ، فإنه يعلمه (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي أبداه وأظهره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) من هو مستتر متواري بالليل ، وكان الإتيان بباب الاستفعال ، لإفادة أنه كان طالب الخفاء بالليل ، فليل واستخفاء ، ومع ذلك يعلمه سبحانه (وَسارِبٌ) أي بارز ، من «سرب سروبا» إذا برز ، أي ظهر (بِالنَّهارِ) فله ظهور في ذاته ، وظهور لكونه في النهار ، قال الإمام الباقر عليه‌السلام : يعني أن السر والعلانية عنده سواء (١)

[١٢] (لَهُ) لله سبحانه على البشر (مُعَقِّباتٌ) ملائكة يعقبون الإنسان (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي إلهام الإنسان (وَمِنْ خَلْفِهِ) يعقب بعضهم بعضا في حفظه (يَحْفَظُونَهُ) حفظا ناشئا (مِنْ أَمْرِ اللهِ) ولا يخفى أن التعقيب ، وإن كان في الأصل المجيء عقب شيء أو شخص ، إلا أنه يستعمل بمعنى الحافظ المرتقب لأعمال الإنسان ، وإن كان فوقه أو أمامه ، روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به إلى المقادير فيخلون بينه وبين المقادير (٢) وعن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال في تفسير الآية : هما ملكان يحفظانه بالليل ، وملكان بالنهار (٣) ، فهو سبحانه مع علمه الشامل وقدرته

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٨٢.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ٥٦ ص ١٥١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥٦ ص ١٧٩.

إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)

____________________________________

الكاملة ، يرسل ملائكة لحفظ الإنسان ، فلا يخرج الإنسان من تحت قدرته واطلاعه بواسطة أولئك الملائكة ، كما أنه ليس بخارج بالذات ، وكان أمثال هذه الأمور ، من باب أن الله جعل لكل شيء سببا ، وإلّا لم يحتج تعالى إلى أي من ذلك ، ثم أنه سبحانه يتعقبهم بالحفظة ، لمراقبة أمورهم ، وما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم ، ليرتب عليه تغييرا لهم ف (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) أي الحالة التي هي نازلة بقوم ، من عز أو ذل ، نعمة أو نقمة ، رفعة أو انحطاط ، صحة أو مرض ، إلى غيرها (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي يغيروا الحالة التي هي بأنفسهم ، فإذا جدّوا واجتهدوا في العمل ، أورثهم العز والسيادة ، وإذا كسلوا أورثهم الانحطاط والذلة ، وإذا تناولوا المحرمات أورثهم الأمراض ، وإذا اتقوا أورثهم الصحة ، وهكذا ، فإن كل حالة فردية أو اجتماعية ، فإنما هي وليدة عمل الفرد والجماعة ، (وَإِذا) عمل القوم بالمعاصي والمنهيات ف (أَرادَ اللهُ) بذلك القوم (سُوْءاً) من عذاب ، أو ذلة أو مرض ، أو فقر ، أو ما أشبه (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا دافع له ، فلا يظن الناس أنهم يعملون بأسباب البلاء ، ثم يقف المال أو السلطة ، أو ما أشبههما حسدا دونه (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) من دون الله (مِنْ والٍ) يلي أمورهم ، وذلك واضح ، فإن الله سبحانه جعل للحياة السعيدة خطوطا عريضة ، فمن انحراف عنها شقي ، ومن سار عليها سعد ، والانحراف موجب للشقاء ، وإن توسل الإنسان بألف وسيلة ووسيلة لسعادته ، والاستقامة موجبة للسعادة ، وإن كاد له كل شيء.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ

____________________________________

[١٣] ثم شرع في آيات كونية جديدة ، تدل على ذاته وصفاته و (هُوَ) الله (الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) وهو النور الذي يرى عند وجود السحاب (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي تخويفا من الصاعقة المهلكة ، وتطميعا في الغيث المحيي للأرض ، وهما حالان ، أي في حالة التخويف والتطميع ، فأقيم قيام المصدر ، قال ابن مالك.

ومصدر منكر حالا يقع

بكثرة ، كبغتة زيد طلع

(وَيُنْشِئُ) أي يوجد (السَّحابَ الثِّقالَ) بالمطر ، وإنما وصف السحاب ، وهو مفرد ، بالثقال ، وهو جمع ثقيل ، لأن اللام في السحاب للجنس ، فهو في المعنى الجمع ، كما قالوا في «أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض».

[١٤] (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) وهو الصوت الظاهر من السحاب عند البرق (بِحَمْدِهِ) إن الرعد من صنعه سبحانه ، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي جعلت هذا المصنوع ، كما أن كل مصنوع جميل يسبح ويحمد لصاحبه ، فإن التسبيح هو التنزيه عن الجهل والعجز ، والآثار تدل على عدمهما ، والحمد هو الثناء لجميل الطرف ، والرعد يدل على جميل فعل الله سبحانه وإنما خص الرعد بذلك ، لأن صوته يناسب ذلك ، إذ المسبح الحامد يظهر من نفسه صوتا وإلا فكل شيء يسبح ويحمد الله سبحانه ، ومن المحتمل أن يراد الحمد والتسبيح حقيقة ، بلسان لا نفقهه ، كما قال سبحانه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ

وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)

____________________________________

لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) بل مقتضى «لا تفقهون» إنها تسبح وتحمد حقيقة ، إذ لو كان المراد بالتسبيح الدلالة ـ كما ذكر في المعنى الأول ـ لكان ذلك مفهوما لنا ـ والله أعلم ـ ومعنى «يسبح بحمده» أن التنزيه إنما هو بذكر الجميل ، فإن النزاهة والجمال ، لا تتلازمان خارجا ، فربّ نزيه غير جميل ، كما أنه رب جميل ليس بنزيه ، والنزيه الجميل ، قد ينزهه الإنسان ، فيقول إن فلانا «غير قبيح» وقد ينزهه بذكر جماله ، فيقول فلان «جميل» فإن «جميل» تنزيه له عن القبح بالثناء ـ الذي هو الحمد ـ وتسبيح الرعد بالحمد ، فإن الرعد يدل على العلم والقدرة ، وذلك تنزيه عن الجهل والعجز (وَ) يسبح (الْمَلائِكَةُ) أي ينزهونه سبحانه عن النقائص (مِنْ خِيفَتِهِ) من خوفه سبحانه ، فإن التسبيح قد يكون لمجرد ذكر الجميل ، وقد يكون رغبة ، وقد يكون رهبة ، وإنما جاء بذلك ـ هنا ـ للتناسق مع الرعد المقرقع المخوّف ، والبرق الخالب المخيف ، والصاعقة (وَيُرْسِلُ) الله سبحانه (الصَّواعِقَ) والصاعقة هي جسم معدني ، محمي حتى الاحمرار تقذف من أعالي الجو عند السحاب والبرق والرعد ـ غالبا ـ وعلّل في العلم الحديث ، بأنها من كراة أخر ، تحميها الحركة السريعة (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) من الناس في هذا الجوّ الرهيب ، نرى البشر العاتي ، (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي) وجود (اللهِ) وصفاته مع ضعفهم وعجزهم ، وقد رأوا تلك المشاهد الكونية الرهيبة التي تدل على إله واحد عالم قدير (وَهُوَ) سبحانه (شَدِيدُ الْمِحالِ) أي

__________________

(١) الإسراء : ٤٥.

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ

____________________________________

شديد الأخذ بالعقاب ، فإن المحال مصدر باب المفاعلة ، يقال ما حله مماحلة ومحالا ، وعلى وزنه ضاربه ، يضاربه ، ضرابا ، بمعنى قاواه ، حتى يتبين أيها أشد.

[١٥] إنهم يدعون مع الله شركاء ، ويجادلون فيه ، والحال أن دعوته ـ وحدها ـ هي الحق ، فمن دعاه كان محقا ، ومن دعا غيره كان مبطلا ، (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) فالدعوة له هي حق ، لأنها دعوة مطابقة للواقع ، ومعنى «له» الاختصاص ، أي دعا الإله ـ إذا أريد أن يكون حقا ـ فهو له لا لغيره (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي الأصنام التي تدعى من دون الله ، فمصداق «الذين» هي الأصنام ، وإنما جيء بلفظ الجمع العاقل ، تماشيا مع زعم المشركين : أنها تعقل ـ كما مرّ في مواضع متعددة مثل ذلك ـ والعائد في «يدعون» محذوف أي «يدعونهم» (لا يَسْتَجِيبُونَ) أي تلك الأصنام المدعوة (لَهُمْ) أي للداعين المشركين (بِشَيْءٍ) لا قليل ، ولا كثير ، لا من شؤون الدنيا ، ولا من أمور الآخرة ، (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) هذا مثل لمن دعا الأصنام ، ليقضوا حاجته ، فالداعي لها كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء ، ليتناوله ، ويسكن به غلته ، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما (وَما هُوَ) أي الماء (بِبالِغِهِ) فالماء كالصنم كلاهما لا يعقل ولا يستجيب ، فالداعي للصنم ، كالطالب للماء ، وبسط الكف للدعاء كبسط الكف نحو الماء ، وبعد الماء كبعد الصنم ، في عدم الاستجابة ، فكما أن الطالب للماء بهذه الكيفية لا يتحصل على الماء الذي يروي عطشه ،

وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (١٥) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ

____________________________________

كذلك الداعي للصنم لا يتحصل على الإجابة التي تقضي حاجته ، قال بعض المفسرين : ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم : ملهوف ظمآن ، يمد ذراعيه ، ويبسط كفيه ، وفمه مفتوح يلهب بالدعاء ، يطلب الماء ليبلغ فاه ، فلا يبلغه ، وما هو ببالغه ، بعد الجهد واللهفة والعناء ، وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) لأصنامهم (إِلَّا فِي ضَلالٍ) يضل ويتيه ولا يصل إلى المقصود ، وكان الإتيان بهذا المثال ، ليناسب السياق مع السحاب والرعد والبرق الموحية بجو الماء والمطر.

[١٦] إن الكفار يأبون من السجود لله سبحانه ، وإنما يسجدون لأصنامهم ، كما يدعون أصنامهم ، ولا يدعون الله الواحد (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة ، وغيرها ، حتى نفس السماء (وَ) من في (الْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي سواء كانوا طائعين أو مكرهين للسجود ، كالكفار الذين يكرهون السجود ، لكن شخوصهم تسجد وتخضع لله خضوعا تكوينيا ، وإن لم يخضعوا خضوعا إراديا ، والمراد بمن في الأرض أعم من العاقل وغيره ، حتى نفس الأرض ، حتى غلّب العقلاء ، وإن أريد الأعم ، كما غلب المظروف ، وإن أريد الأعم منه ومن الظرف ، وإنما استفدنا ذلك من قوله سبحانه (وَظِلالُهُمْ) أي حتى أظلتهم ، فكل ما في الكون من الأشخاص والأضلة يسجد لله ، ولعلّ الإتيان بلفظ السجود ، لأنه رمز لغاية الخضوع أي إنها جميعا خاضعة غاية الخضوع لله سبحانه ، وذلك واضح فإن الأشياء كلها

بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ

____________________________________

منقادة لإرادة الله تعالى لا يحيد عنها قدر شعرة ، وذكر (بِالْغُدُوِّ) أي الصباح (وَالْآصالِ) جمع أصيل وهو العصر ، كأنه لتعميم الظل ، حتى لا يتوهم أنه خاص بالظلّ قبل الظهر مقابل الفيء الذي هو ظل بعد الظهر؟ من فاء يفيء إذا رجع ، وكان الإتيان ب «بالآصال» جمعا مع الإتيان بالغدو مفردا للتناسب مع «في ضلال» في الآية السابقة ، ولا يخفى أن الكافر والملحد أيضا يسجد لله ، ويسجد ظله ، لكن بالسجود التكويني الذي يسجد بنحوه جميع الأشياء ، فجسد الكافر ، خاضع لناموس الكون الذي قرره الله سبحانه غاية الخضوع ، لا يتمكن أن يحيد عنه قدر شعرة ، وإنما يأبى السجود التشريعي له سبحانه ، فلا يضع جبهته على الأرض ، ولا يخضع لله غاية الخضوع ، جهلا.

[١٧] وفي هذا الجو المدهش ، يتوجه إليهم بالأسئلة ، ليجيبوا عنها ، كما شاهدوا من ذي قبل ، فإنك إذا أردت أن تلجأ إنسانا إلى السير معك في فكرك ونظرك ، جئت إليه بالواقع الذي لا يتمكن أن يحيد عنه ثم تسأل منه ، كما أنك لو أردت اعترافه بأن سيارتك أجمل من سيارته ، جئت إليه بها ، ثم تقول له أيهما أجمل ، وقد أتى السياق هنا جملة من الآيات الكونية ، وألفت الأنظار إليها ، ثم يسأل (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ هل هو الله أم أصنامكم؟ إنهم لا يحرون جوابا ، لأن الجواب الحقيقي لا يريدونه ، والجواب الذي لا يناسب عبادتهم لا يرون له مجالا ، فكيف يقولون إن رب تلك الآيات الكثيرة المدهشة المتقدمة هي الأصنام التي لا تعقل؟ ف (قُلْ) أنت يا رسول الله في الجواب : إن رب السماوات والأرض هو (اللهُ) وحده ، ثم (قُلْ) يا رسول الله لهم

أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ

____________________________________

(أَفَاتَّخَذْتُمْ) هل عبدتم (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (أَوْلِياءَ) أصناما تتولونها وتعبدونها وتمحضون لها الولاية والمحبة؟ إنه عمل قبيح ، أن يترك الإنسان خالق السماوات والأرض ، ويتخذ إلها غيره لا يسمع ولا يعقل ، والحال أن هذه الأصنام (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فلا يقدر الصنم أن يجلب لنفسه نفعا ، ولا أن يدفع عن نفسه ضرا فكيف يكون إلها ما لا يقدر حتى على نفع نفسه ، ودفع الضر عنه؟ وقد تقدم ، أن الإتيان بالجمع العاقل نحو «لا يملكون» تماشيا مع زعم المشركين ، ومن المعلوم أن المشركين يسكتون هنا أيضا ، إذ يرون الحق في جانب الرسول ، ولكنهم لا يقدرون على الجواب ف (قُلْ) لهم يا رسول الله (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ)؟ والجواب ـ طبعا ـ لا يستويان ، فكيف اتخذوا الصنم الأعمى ـ الذي لا يبصر ـ إلها ، وتركوا الخالق البصير بكل شيء؟ ثم قل لهم (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)؟ والجواب ـ طبعا ـ لا يستويان ، فكيف اتخذوا الصنم الذي هو ظلمة ـ لا ظاهر بنفسه ولا مظهر لغيره ـ إلها ـ ، وتركوا الخالق الذي هو نور السماوات والأرض ، ظاهر بذاته مظهر لغيره؟ (أَمْ) كيف (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ)؟ بعد تمام الحجة ووضوح الدليل ، فهل (خَلَقُوا) أي خلقت هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله ، أشياء (كَخَلْقِهِ) أي مثل ما خلق سبحانه أشياء (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي فاشتبهت مخلوقات الله بمخلوقات

قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)

____________________________________

الأصنام ، فعبدوا الأصنام ، كما عبدوا الله سبحانه ، حتى يكونوا معذورين في الشرك ، وإنما جيء بقوله «فتشابه» مع إنه ليس من مصب الكلام ، ومورد النفي والإثبات ، لبيان أنه لو كانت الأصنام خلقت شيئا ، كان لهم الحق ، في أن يقولوا : إنا قد تشابه الأمر علينا ، إذ رأينا أن الأصنام تخلق كما خلق الله ، فقلنا إنها آلهة ، كما إن الله إله ، أما والأصنام ، لم تخلق شيئا ، فلا يحق لهم عبادتها ، إذ ليس لها من مقومات الالوهية شيء ، ... وأخيرا (قُلْ) يا رسول الله لهم (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا خالق سواه ، فإن قيل : فما معنى «أحسن الخالقين» مما يدل على أن غيره أيضا خالق؟ قلنا أن ذلك على ضرب من المجاز والتشبيه ، لا الحقيقة ـ كما هو واضح ـ (وَهُوَ الْواحِدُ) لا شريك له (الْقَهَّارُ) الغالب على كل شيء ، فلا شيء في عداده ، إذ لو كان شيء مثله ، لم يعمه قهر الله سبحانه وغلبته ، فإذا كان تعالى غالبا على كل شيء ، دل على إنه ليس شيء في عداده ، خارج عن قهره وغلبته.

[١٨] ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا للحق الباقي ، والباطل الذاهب ، بما يلائم سياق الآيات السابقة ، فقد كان الكلام سابقا حول البرق ، والرعد ، والسحاب المثقل بالأمطار ، وباسط كفيه إلى الماء ، ويأتي المثل ليمثل للحق بالماء الهادئ الساكن النافع الباقي ، وللباطل بالزبد الذي يطفو فوق الماء ، حتى يراه الإنسان أعلى من الماء ، لكن هذا الباطل الرابي ، لا يمر زمان حتى يذهب ويبطل ، وذلك الماء يبقى ليحيي وينتفع به ، وكذلك من هذا القبيل ما يذاب من المعادن ، فإن الزبد يطفو فوقه ، والخالص يبقى تحته ، فيبطل الزبد ، ويبقى الخالص ، ليتجمل به

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً

____________________________________

الإنسان وينتفع منه ، فالحياة والجمال هما من الباقي الذي هو مثل للحق ، والباطل لا يمثل إلا دور الزبد الذي يعلو ـ في النظر ـ أولا ، ثم لا يلبث أن يذهب ويضمحل ، فلا يبقى منه شيء ، ولم ينفع شيئا ، الزبد مثال للباطل الذي يتخذه هؤلاء المشركين ، كالأصنام ، التي لا تنفع ، وإن ظهرت أول الأمر غالبة على الحق ، والماء والحلية مثال للحق ، الذي يتخذه المؤمنون للحياة والتجمل ، وإن علاه الباطل ـ كالزبد الرابي على الماء ، والحلية ـ ابتداء ، (أَنْزَلَ) سبحانه (مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر ، والمراد من السماء ، جهة العلو (فَسالَتْ) أي جرت (أَوْدِيَةٌ) جمع وادي ، وهو النهر (بِقَدَرِها) أي كلّ بقدره ، فالنهر الصغير أخذ من ذلك الماء قدرا قليلا ، والنهر الكبير ، أخذ من ذلك الماء قدرا كثيرا ـ وكان بيان إنزال الماء من السماء لتشبيه الحق المنزل به ، فإن الحق ينزل من الماء ، ثم يختلط به الباطل ، إذ الباطل إنما يروج نفسه باسم الحق ، وبعد ذلك ، يذهب الباطل ، ويبقى الحق ، وهكذا الماء ، فإنه ينزل من السماء صافيا ، ثم يعلوه الزبد في الأرض ، وكان وجه ذكر (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) بيان أن الحق هكذا في مجاري الأمم ، فرب أمة أخذت من الحق كثيرا حسب طيب نفوسها ، وحسن الدعوة فيها ، ورب أمة أخذت من الحق قليلا ، حسب خبث نفوسها وبعد الدعوة عنها ، (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) أي أخذ السيل ، الذي يمر في الأودية ، من سال الماء ، إذا جرى (زَبَداً رابِياً) أي طافيا على الماء ، من ربي بمعنى علا ، فإن الماء لا يلبث أن يظهر ، والزبد لا يلبث

وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ

____________________________________

أن يذهب ، وهكذا الحق يبقى ـ ليحيا ـ والباطل يفنى ويذهب (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ) يقال أوقد النار ، بمعنى أشعلها ، وضمير «عليه» يرجع إلى «ما» الموصولة في «مما» الذي مصداقه «الفلزات» كالفضة والذهب والحديد ، وسائر المعادن ، وإنما قال «عليه» لأن الإيقاد ، يكون «على الفلز» كأنه يضرّ به ، إذ يخضعه للذوبان ، كالذي يتسلط على غيره (فِي النَّارِ) حال تقديره ثابتا في النار ، أي في حال كون ما يوقد عليه ، ثابتا في النار ، فإن الفلز يجعل على النار حتى يذوب (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) حال عن الضمير في «يوقدون» أي الذين يوقدون الفلز في النار ، في حال كونهم يبتغون ويطلبون بذلك الزينة ـ كما لو أذابوا الذهب والفضة ، للسوار والقلادة ونحوهما ـ أو يطلبون بذلك «المتاع» أي ما يمتع به ، ويستعمل في الحوائج ـ كما لو أذابوا الزنك ، والحديد والنحاس ، لصنع الأواني والمحراث ، والإبريق ونحوها ـ فهنا حالان ، «في النار» حال عن الضمير في «عليه» و «ابتغاء» حال عن الضمير في «يوقدون» و (زَبَدٌ مِثْلُهُ) مبتدأ و «مثله» صفته ، خبره «مما يوقدون» المتقدم ، وإنما تقدم الخبر ، لأن المبتدأ ، إذا كان نكرة ، قدم خبره الذي هو ظرف ، أو جار ومجرور عليه ، قال ابن مالك.

ولا يجوز الابتداء بالنكرة

ما لم تغد كعند زيد نمرة

والمعنى أن بعض الفلزات الذي يشعل الناس النار «عليه» أي على ضرر ذلك الفلز لأجل إخضاعه وإذابته ، في حال كون ذلك الفلز في النار ، وفي حال كون الناس يبتغون بالإذابة ، صنع الزينة ، أو صنع الأمتعة ، زبد خبيث ، مثل زبد الماء ، فيطفوا على البوتقة ، حتى يغطي

كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى

____________________________________

الفلز المذاب الصالح (كَذلِكَ) الذي مثلنا من الماء وزبده والفلز وزبده (يَضْرِبُ اللهُ) مثلا ل (الْحَقَّ وَالْباطِلَ) فالحق يحيي ، ويسبب الجمال ، كالماء الذي يحيي ، والفلز الذي يسبب الجمال ورفع الحاجة ، والباطل يفنى ويذهب كالزبد الذي يطفو على الماء وعلى البوتقة ، ولعل التعبير ـ ب «الضرب» في المثل ، لأجل اصطدام الذهن به ، فإن الذهن يتأثر بالمثل أكثر مما يتأثر بأصل المطلب ، ولذا أن من فنون البلاغة أن يكثر الإنسان المثل ، فإنه يوجب توضيح المطلب وترسيخه (فَأَمَّا الزَّبَدُ) الطافي ، (فَيَذْهَبُ جُفاءً) أي باطلا متفرقا ، بحيث لا ينتفع به ، من جفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها ، (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء الجاري في الأودية ، والفلز الصافي (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) يبقى ليسقي الزرع والحيوان والإنسان ، أو يمتع به في حوائجه (كَذلِكَ) الذي تقدم من المثل (يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) للناس واضحة جلية ، ليرسخ الحق في أدمغتهم ، ويتركز في نفوسهم.

[١٩] وإذا تقرر أن الله سبحانه أنزل من السماء «الحق» لاستفادة الناس ـ كما أنزل من السماء ماء ـ فمن استجاب لله ، وقبل الحق ، له خير الدنيا وسعادة الآخرة ، ومن لم يستجب له ، فإن له سوء العاقبة وعذاب الآخرة ف (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) «الحسنى» مبتدأ و «الذين» خبره ، ولعل الإتيان ب «استجاب» دون «أجاب» مع أن كلا منهما بمعنى الآخر ، لبيان أن إجابة الله سبحانه ، تحتاج إلى التهيؤ

وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ

____________________________________

والاستعداد ، كما يشعر بذلك كونه من باب الاستفعال ، الذي كان الأصل فيه الطلب ، يقال : استخرج بمعنى طلب الخروج و «الحسنى» صفة لمحذوف ، أي الحالة الحسنة ، في الدنيا والآخرة ، فإن مناهج الله سبحانه ودساتيره في الحياة ، توجب الراحة والرفاه والسعادة في النشأتين ، فالذين قبلوا أوامر الله سبحانه ، فلهم الحالة الحسنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) أي لله تعالى ، فلم يؤمنوا به ، ولم يمتثلوا بأوامره ، فلهم أسوأ الحالات ، أما في الدنيا (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) وأما في الآخرة ـ وهي العمدة ـ فإنهم في شقاء وعذاب ، حتى (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من الثروة (جَمِيعاً) ، لا يشاركهم فيها أحد ، فلهم كل المناصب ، وكل الأموال ، وكل الأراضي والأنهار ، وكل الخدم والحشم (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) حتى كأنّ هناك أرضين ، ولهم اثنتان ـ وهذا من باب المثل ، وإلا فالمراد ، أن كل الأشياء لا تنفعهم ، وإن كانت آلاف الأراضي ، كما تقدم شبه ذلك في قوله سبحانه ، (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) ـ (لَافْتَدَوْا بِهِ) أي جعلوا ذلك كله فدية لأنفسهم من العذاب ، والفدية هي التي تعطى لإنقاذ النفس ، كالفداء ، ولكن لا تنفعهم الفدية ، (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) والمراد بسوء الحساب العدل فيه ، وإنما سمى سوءا ، لأنه يسيء إلى المحاسب المذنب ، وهذا بخلاف المؤمن المطيع ، فإنه يحاسب حسابا يسيرا ، ويتفضل عليه بغفران ذنبه ، وعدم المناقشة معه في حسابه ، ولذا ورد : ربنا عاملنا بفضلك ، ولا تعاملنا بعدلك (وَمَأْواهُمْ) أي مصيرهم من أوى يأوي ، بمعنى اتخذ المأوى ،

جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ

____________________________________

والمحل والمكان (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) المهاد الفراش ، سمي بذلك ، لأن الإنسان يمهده لنفسه ، ويهيئه لراحته ، أي بئس ما مهدوا لأنفسهم من النار.

[٢٠] وهنا يأتي الفرق بين المؤمن والكافر ، بعد ما بين الفرق بين الإيمان والكفر ـ وإن الأول كالماء ، والفلز ، والثاني كالزبد ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما) «ما» موصولة ، أي أن القرآن الذي (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا رسول الله (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فيؤمن ، ويخضع ويطيع ، فهو بصير بالحق يراه ، ويعمل به (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) لا يرى الحق ولا يبصره ، والاستفهام إنكاري ، أي ليس هذان متساويين (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإنهم هم الذين يعملون أفكارهم ، ليتذكروا الحقائق ، ويستدلون من الأثر إلى المؤثر ، ومن الكون إلى إله الكون.

[٢١] ثم وصف المؤمن المشار إليه بقوله «أفمن يعلم» وقال في حقهم أنهم أولوا الألباب ، فإنهم هم (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) المودع في فطرتهم ، ولو لا عهده معهم ، لم تكن فطرتهم ترشدهم إلى ذلك ، إذ لا يمكن للإنسان أن يترشح منه إلا ما هو فيه ، وإلا فكيف يعرف الإنسان أن للكون إلها ، وهكذا كيف يعرف أن العدل حسن ، لو لم يودع فيه ما يترشح منه ذلك؟ هذا بالإضافة إلى أخذ الأنبياء العهد من أممهم ، والعهد المأخوذ ، وإن كان من الآباء ، لكن الأبناء ، حيث أدخلوا

وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ

____________________________________

أنفسهم في اطار الآباء ، كان العهد مستقرا عليهم ، وهذا هو السر في أخذ الأمم بما يفعله الآباء أو الكبراء ، فإن الالتزام بالإطار ، التزام بما يكون فيه ، ويدور في حلقته (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ، أي العهد الأكيد ، الذي أخذه سبحانه منهم بالإيمان بالله ورسله ، والميثاق مشتق من «وثق» كأنه يوجب ثقة كل جانب بالآخر ، إذا أبرم العهد.

[٢٢] (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فكل ما أمر الله بصلته ، والاتصال به من الأنبياء عليهم‌السلام والمرسلين ، وعبادة الصالحين ، والأعمال الحسنة ، والعبادات وغيرها ، أنهم يصلون به ، ويتصلون إليه ، اتصالا قلبيا ، أو لسانيا ، أو عمليا ، وذلك موجب للانقطاع عما أمر الله به أن يقطع بالتلازم (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فلا يخالفونه بالعصيان ، ولعل المراد بالأول الإطاعة ، وبهذا العصيان (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ليس المراد الظلم ، فإن الله سبحانه لا يظلم ، وإنما المراد العدل ، فإن الحساب لو كان عادلا ـ ولم يجر على مقتضى الفضل ـ أساء إلى الذي يحاسب ، ولذا سمي سوءا.

[٢٣] (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) هذا ، وإن كان داخلا في «يصلون» إلا أنه ذكر خاصا لأهميته ، وهكذا الفقر التالية ، فقد جمعت الآيتان السابقتان المبدأ والمعاد والشؤون المتوسطة بينهما ، فالمبدأ ذكر ب «الذين يوفون» والمعاد ب «ويخافون» وما بينهما ب «الذين يصلون» ثم أن الصبر على ثلاثة أقسام : صبر على الطاعة بأن يصبر الإنسان على أن

وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ

____________________________________

يطيع ، وصبر على المعصية ، بأن يأخذ الشخص زمام شهوته عند المعصية ، وصبر على المصيبة ، بأن لا يجزع الإنسان عند نزول كارثة به من فقر أو مرض ، أو ما أشبه ، ثم اللازم ، أن يكون الصبر لأجله سبحانه ، لا لانتهاز أمور دنيوية ، وإلا فلا قيمة له ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) داوموا عليها باستمرار ، (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من كل شيء رزقوا ، وإنفاق كل شيء بحسبه ، فإنفاق العلم بذله ، وإنفاق الجاه قضاء الحوائج ، وإنفاق المال إعطائه ، وإنفاق الساسة ، إدارة الأمور ، وهكذا (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي في جميع الأوقات والأحوال ، فإن مثل هذا الإنسان ، هو الذي ينفق في سبيل الله تعالى ، ويكون الإنفاق مقصده ، لا الرياء والسمعة ، وما أشبه (وَيَدْرَؤُنَ) أي يدفعون بسبب الحسنة (السَّيِّئَةَ) إما بمعنى أنهم إذا ساءوا ، وفعلوا شيئا من المعاصي ، فعلوا بعد ذلك بعض الحسنات ، فإن الحسنة تمحي السيئة ، قال سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١) وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمعاذ بن جبل إذا عملت سيئة ، فاعمل بجنبها حسنة تمحها (٢). وإما المراد أنهم إذا أساء إليهم أحد لم يسيئوا إليه ، بل يحسنون إليه ، وهذا غاية الفضيلة ، كما في دعاء مكارم الأخلاق ، للإمام السجاد عليه‌السلام «اللهم صل على محمد وآل محمد ، وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح ، وأجزي من هجرني بالبر ، وأثيب من

__________________

(١) هود : ١١٥.

(٢) راجع وسائل الشيعة : ج ١٦ ص ١٠٤.

أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ

____________________________________

حرمني بالبذل ، وأكافي من قطعني بالصلة ، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر» (١) (أُولئِكَ) المتصفون بهذه الصفات (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي عاقبة الجنة ، فإنهم يدخلونها خالدين فيها.

[٢٤] ثم فسر سبحانه «الدار» بقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة من عدن بالمكان بمعنى أقام فيه إقامة طويلة ، وفي الأحاديث أنها جنات خاصة ، فإن كلا من فردوس ، وعدن ، وما أشبههما ، اسم لجنة خاصة من الجنان الكثيرة (يَدْخُلُونَها) أي يدخلها هؤلاء المتصفون بتلك الصفات (وَ) يدخلها (مَنْ صَلَحَ) أي من كان صالحا قولا وعملا وعقيدة (مِنْ آبائِهِمْ) الأبوين والأجداد (وَأَزْواجِهِمْ) زوج المرأة ، وزوج الرجل ، أو الأعم من ذلك ، ومن سائر الأقران ، فإن الزوج يطلق على المثل ، كما قال سبحانه ، (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) (٢) (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أولادهم مهما نزل ـ وهذه نعمة كبيرة ، أن يتنعم الإنسان بهؤلاء في الجنة ـ (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب الجنة قائلين.

[٢٥] (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يحيونهم بالسلام تكريما لهم ، ومعنى السلام ، أن تكونوا سالمين من الآفات ، والجنة وإن كانت محل النعيم والراحة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية : دعاء رقم ٢٠ المسمى بدعاء مكارم الأخلاق.

(٢) ص : ٥٩.

بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ

____________________________________

لا تحمل الآفات والعاهات ، إلا أن التسليم هناك ، نوع من التكريم (بِما صَبَرْتُمْ) أي أن تكريمنا لكم بسبب صبركم على مكاره الدنيا ، وأن سلامتكم هذه في الجنة بسبب صبركم في الدنيا (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي نعم عاقبة للدار ما أنتم فيه من النعيم والكرامة.

[٢٦] هذا كان عاقبة المؤمنين العاملين ، فلننظر إلى حال الكفار (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) إليهم بالإيمان ، بما أودع فيهم من الفطرة ، وأخذ عليهم بلسان الأنبياء (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد توثيقه وابرامه (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فلا يصلون الأنبياء عليهم‌السلام والأئمة الصالحين ، ولا يصلون الأرحام والفقراء والمساكين (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالدعاء إلى الضلال ، والظلم والفتنة ، وما أشبه (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) الطرد عن رحمة الله سبحانه ، والإبعاد عن الجنة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي نار الدار الآخرة وعذابها.

[٢٧] إن هؤلاء الذين نقضوا عهد الله ، أخذوا يوسعون في أمور دنياهم تاركين الآخرة ، كأنها ليست بشيء ، وكان الدنيا هي التي يجب العمل لها وحدها ، مع أنه ليس كذلك ف (اللهُ) وحده بيده أزمة الدنيا والآخرة ، فهو (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) يوسعه عليه (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق لمن يشاء ، من قدر ، بمعنى ضيق ، كما

وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)

____________________________________

قال سبحانه : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (١) وقال : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (٢) وإذا كان الله سبحانه هو الذي تكفل بالدنيا ، فما هذا الاهتمام ـ من نقض عهد الله ـ للأمور الدنيوية؟ (وَفَرِحُوا) أي فرح هؤلاء الناقضون (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ، وبطروا بها ناسين الآخرة مخصصين فرحهم كله للدنيا (وَ) الحال أنه (مَا الْحَياةُ الدُّنْيا) من أولها إلى آخرها (فِي الْآخِرَةِ) «في» بمعنى النسبة ، والاضافة ، أي بالنسبة إلى الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) قليل ، يتمتع به الإنسان ، وأما الآخرة فهي الدار الباقية ، التي فيها أنواع النعم والكرامة ، ثم أن كون الله سبحانه ، هو الباسط للرزق ، والمضيق له ، بمعنى أنه يقدر هذا لهذا ، وذاك لغيره ، ولذا نرى رب فطن كاد ليس له إلا القليل ، ورب بليد كسول ، تأتيه الدنيا صاغرة ، قال الشاعر :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي أوجب الإيمان في «أحد»

يدبر الأمر توسيعا وتضييقا (٣)

نعم للعمل حظ بقدر ما جعله سبحانه سببا ، فإن العمل ـ بقدر ـ والغيب كلاهما دخيلان في أمر من الأمور الإدارية.

[٢٨] وإذ تقدم الكلام حول الذين ينقضون عهد الله بعدم الإيمان به ، فإنهم هم الذين لا يؤمنون بالرسول ، لأعذار واهية

__________________

(١) الطلاق : ٨.

(٢) الأنبياء : ٨٨.

(٣) البيت الثاني للمؤلف.

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ

____________________________________

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (لَوْ لا) أي هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آيَةٌ) معجزة خارقة (مِنْ رَبِّهِ) مما نقترحها من المعجزات والخوارق ، ولم يكن لهم حق الإجابة ، فإن الآية نزلت ، وهي القرآن الحكيم ، لكنهم كانوا معاندين يريدون التعنت (قُلْ) يا رسول الله لهم ، إن الأمر ليس مخفيا حتى يحتاج إلى الآية ، وإنما سبب ظلالكم ، أنكم تتركون الإرشادات العقلية ، فيترككم الله ، ولا يلطف بكم حتى تؤمنوا ، بعكس المؤمنين الذين عملوا عقولهم فآمنوا ، ولذا لطف سبحانه بهم ف (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بترك لطفه به ، بعد ما أراه الطريق فلم يسلكه ، كما تقول : أن الحكومة ضيعت فلانا ، تريد انها لم تعتن به حتى ضل وضاع ، بعد أن أرته الحكومة الطريق ، فلم يسلكه (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) أي إلى نفسه وطريقه (مَنْ أَنابَ) أي رجع عن غيه ، فمن رجع عن الغي ، وأراد الهدى ، لطف به سبحانه ألطافه الخاصة ، حتى يهتدي حقيقة ، ويكون من الأعلين حظا ورشدا.

[٢٩] ومن ذاك الذي يهديه الله سبحانه؟ إنهم هم (الَّذِينَ آمَنُوا) بأن اتبعوا الحق ، فإنهم يهديهم الله ـ أي يلطف بهم ألطافه الخفية ـ كالولد الذي يسمع كلام أبيه ، فيلطف به بالتوسعة ، في أموره ، ومعاضدته في حوائجه ومهامه (وَ) هؤلاء المؤمنون (تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) القرآن الحكيم ، فلا يطلبون خوارق وآيات ، تعندا واعتباطا ، أو المراد الأعم من ذلك ، فإن كل مؤمن مطمئن القلب ، غير قلق ، إذ الاعتماد

أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)

____________________________________

على الله يهوّن المصائب ، كما تحفظ القلوب عن البطر ، فإن الإيمان كالزمام الذي يعدل سير الحيوان ، لا يبطر عند النعمة ، لما يرى من رقابة عليه ، ولا يجزع عند البلية ، لما يعلم ما أعد الله للمؤمنين الصابرين من الأجر (أَلا) فلينتبه الإنسان (بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) التي دخلها ذكر الله ، فإنك إذا عرفت أن عليك سيدا ، إذا أنعم أراد الشكر ، وإذا أبلى جزاك بالأجر اطمئن قلبك ، ولم يكن كالقلب القلق الذي تخرجه النعمة إلى الإفراط ، والبلية إلى التفريط ، ولذا كان يقول الإمام الحسين عليه‌السلام في يوم عاشوراء : «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله» (١).

[٣٠] ثم ابتدأ بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله ، واليوم الآخر ، وما يجب الإيمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة ، مما أمر الله به ، ويدخل فيه ـ بالتلازم ـ والاجتناب عن الأعمال القبيحة (طُوبى لَهُمْ) مؤنث طيب ، أي أن لهم الخلة والمقامة الطيبة الحسنة في الدنيا ، أو الأعم ، (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي المرجع الحسن في الآخرة ، أما في الدنيا ، فإنهم آمنون مطمئنون تهديهم مناهج الله سبحانه إلى السعادة والرفاه ، وأما في الآخرة ، فإن لهم جنات النعيم ، ومن المعلوم أن «شجرة طوبى» التي هي شجرة خيرة في الجنة ، إنما هي مصداق من مصاديق ما يناله المؤمن من المنزلة الطيبة فما في بعض الأحاديث من تفسيرها بتلك ، فإنما هو إشارة إلى أحد المصاديق.

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف : ص ١١٥.

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)

____________________________________

[٣١] إن هؤلاء الذين يطلبون الخوارق حالهم كحال من سلف من الأمم ، وقد أرسلنا في تلك الأمم رسلا ، لكنهم أبوا إلا الكفر ، كما أن ذلك لم يضر الرسل ، فلتمضي يا رسول الله على نهجك (كَذلِكَ) أي كما أرسلنا في الأمم السابقة رسلا (أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (فِي أُمَّةٍ) من الناس ، وهم المعاصرون لك (قَدْ خَلَتْ) أي مضت من خلا بمعنى مضى (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أرسلت إليهم الرسل ، وإنما أرسلناك (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن ، وسائر الأحكام المنزلة (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الذي يرحمهم ، ويتفضل عليهم ، أنه في غاية العجب أن يتفضل الله بالرحمة ، ويتلو رسوله عليهم الآيات ، ثم هم يعرضون عن الرسول ، ويكفرون بالله ، فإن أعرضوا (قُلْ) يا رسول الله (هُوَ رَبِّي) وامض في طريقك في الإعلان والإرشاد (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فما عداه من الأصنام والمعبودات باطلة ، لا تستحق العبادة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فوضت أمري ، مستمسكا بطاعته (وَإِلَيْهِ مَتابِ) من تاب بمعنى رجع ، أي إليه مرجعي ، فإنه مصدر ميمي يقال تاب يتوب ومتابا.

[٣٢] إن الكفار يطلبون الخوارق ، ولا يطمئنون إلى ذكر الله القرآن الحكيم ، وإنا قد أرسلناك ، لتتلو عليهم القرآن ، وما أعظمه من كتاب ، فإنه من العظمة والتأثير ، حتى لتكاد تسير به الجبال ، وتتقطع به الأرض ، ويكلم به الموتى ، لما فيه من قوة وطاقة وتأثير ، ولكن هؤلاء قست

وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى

____________________________________

قلوبهم ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، فلا يؤمنون به ، ويطلبون آية غيره ، إنا أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) أي مقروءا ، أي لو كان هناك قرآن (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) بأن يقرأ على جبل فيسير من شدة تأثيره وطاقته المسيرة للجماد (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) بأن يقرأ على الأرض ، فتنشق من طاقته الهائلة ، التي تنشق الأرض من هيبته (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بأن يقرأ على الميت ، فيتكلم الأحياء بسببه ، أو المراد يحيي الميت ـ فالتكلم كناية عن الحياة ـ أي لو أن قرآنا كان كذلك ، لكان هو هذا القرآن ، ولكن الكفار مع ذلك يطلبون غيره ، ولا يكتفون به ، فجواب «لو» محذوف وهذا كما يقال : فلان يبكي حتى يتأثر به الحجر يراد أن في بكائه من الحرارة واللوعة ، ما يكفي لأن يؤثر في الحجر ، وفلان منطيق ، يؤثر كلامه في الأموات ، يراد أن في نطقه من التأثير ما يجعله صالحا لأن يؤثر في الأموات ثم أن هذا القرآن يؤثر ـ بالفعل ـ هذه التأثيرات ، ولكن بشرط أن يتلوه الإنسان الصالح ، فهو كالسيف الذي يصلح أن يجز الرقاب ، ولكن إذا كان بيد الشجاع ، وقد روي عن الإمام الكاظم عليه‌السلام أنه قال : قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال ، وتقطع به البلدان ، وتحيي به الموتى (١). والمراد بإرثه بذلك المعنى ، لا إرث ألفاظه وأوراقه ، فإنهما عامان لكل المسلمين ، كما أنه ربما أطلق الإرث وأريد به إرث المعاني مما خفي على كثير من الناس ، ولذا انحرفوا فصاروا مجسمة ومجبرة ، وما أشبه

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٢٢٦.

بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ

____________________________________

(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) إنهم يطلبون الآيات الخارقة ، لكن النبي ليس مكلفا بذلك ، وإنما مكلف بالإنذار ، وأن يكون معه ما يصدقه أنه نبي مرسل ، وقد فعل الأمرين ، فجاء بالقرآن شاهدا ، ثم أنذر وبشر ، أما سائر الآيات ، التي يقترحونها ، فإنها بيد الله ، كما قال سبحانه : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) (١) فهو ينزلها حسب المصلحة والحكمة ـ كما سبق تفصيل ذلك ـ وإذا أتى هؤلاء الكفار ، هذا القرآن العظيم الذي من شأنه تلك التأثيرات الهائلة ، ثم لم يؤمنوا به ، فلييأس المؤمنون من هدايتهم ، ولينتظروا عذاب الله وعقابه ، جزاء إعراضهم (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن هؤلاء؟ وألم يعلموا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) بالإجبار ، فإذ رأوا أنه لا يهدي أحدا بالإجبار ، فاللازم أن ييأسوا ، فإن هناك إما الإيمان بالاختيار ، وإما الإيمان بالجبر ، وإما اليأس عنهم ، فإذا علم المؤمنون أن الله لا يجبر أحدا بالإيمان ، ورأوا عناد هؤلاء عن الإيمان الاختياري ، فاللازم أن ييأسوا عنهم ، ويتركوهم في ضلالهم يعمهون ، وقد ظهر بما ذكرنا : أن «أفلم ييأس» أشرب معنى «أفلم يعلم» ولذا عمل في «أن لو يشاء» (وَ) إذ لا يريد الله إجبار الكفار ، ولا أنهم يؤمنون بالاختيار ، فليعلم المؤمنون أنه (لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) ما تقرعهم وتضربهم ، فإنه سبحانه لم يشاء إهلاك هذه الأمة دفعة كبعض الأمم

__________________

(١) الأنعام : ١١٠.

أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ

____________________________________

السالفة ، لكنه تعالى يعذبهم مرة ، فمرة بقوارع من الضيق والفقر والضر ، وتسلط الأعداء عليهم ، ونحو ذلك (أَوْ تَحُلُ) القارعة (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) فتروعهم وتخيفهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) الذي وعده باستئصال المجرمين ونصر المؤمنين عليهم (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ووعده آت لا محالة.

[٣٣] إن الله سبحانه لا بد وأن يصيب الكفار بالقوارع ، كما فعل بمن غبر من الأمم ممن كذبوا الرسل (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله ، كما استهزئ بك ، فإن من عادة الجهال أن يستهزءوا ، إذا لم تكن لهم حجة في قبال المرشد الناصح (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الإملاء ، هو أن يقرأ الإنسان شيئا ليكتبه غيره ، وهذا كناية عن إمهال الكفار أي شرعت أعدّد ما يفعلون من الآثام والاجرام ، لتملأ القائمة المقدرة لهم (ثُمَ) حين استوفوا الأجل المقدر (أَخَذْتُهُمْ) أهلكتهم ، وأنزلت عذابي عليهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فكيف حل بهم عقابي ، وهو استفهام للتفخيم ، إشارة لعظمة عذابه سبحانه الذي عذبهم به.

[٣٤] وإذا تمت الحجة مع الكفار الذين استهزءوا بالرسل ، وأنكروا المبدأ والمعاد ، فليعطف الكلام مع المشركين الذين يجعلون مع الله شركاء (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) فهو ناظر إلى أعماله مطلع

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ

____________________________________

على نيّاته ، كمن ليس كذلك من الشركاء الذين يشركونهم مع الله سبحانه؟ إنهما ليسا متساويين طبعا ، ولدي كل عاقل ، فكيف يساوي هؤلاء المشركون الله سبحانه بأولئك الشركاء (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) في العبادة والإطاعة (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين (سَمُّوهُمْ) من هم أولئك الذين هم شركاء مع الله ، إنها نكرات مجهولة لا شأن لها ، حتى أن المشركين هم بأنفسهم يخجلون من تسميتها على الملأ ، فكيف يتخذونهم شركاء ، (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) أي تخبرون الله سبحانه (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) فتخبرون الله بآلهة لا يعلمها الله وأنتم تعلمونها ، إنه كلام للاستهزاء كما إنهم كانوا يستهزئون بالرسول ، ويا للسخرية أن يقولوا هؤلاء الكفار القائم على كل نفس بالأصنام ، أو يجعلون لله شركاء ، سافلة إلى حد لا يقدرون على مجرد تسميتها ، أو يخبرون الله ، بما لا يعلم هو ، وهم يعلمون ، فيكونون أعلم من الله سبحانه؟؟ ثم إن من المعلوم ، إن الشركاء لا وجود حقيقي لهم ، وإنما هي موجودة في أدمغة المشركين ، فعدم علمه سبحانه بالشركاء سالبة بانتفاء الموضوع ، وهناك احتمال آخر ، وهو أن يكون ضمير «لا يعلم» عائدا إلى الصنم ، أي أتخبرون الله بصنم لا يعلم في الأرض فكيف بالسماء ، وهل يقاس ما لا علم له بشؤون الأرض ، وحدها ، بالله الذي يعلم كل شيء ، (أَمْ) إن جعلهم الشركاء ليس على نحو الحقيقة ، وإنما (بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بكلام سطحي ، فلا اعتقاد لهم بالشركاء وإنما يتلفظون بها ، مجرد لفظ فكلامهم حول الشركاء ، ككلامهم حول القصص الخيالية التي يعلمون بها أنها سطحية لا نصيب

بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ

____________________________________

لها من الواقع والحقيقة (بَلْ) الواقع أن جعل هؤلاء لله شركاء من جهة أنه (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) فإن الإنسان إذا أعرض عن الحق يمكر ، أي يدبر خفية أمرا ، ليجعله في قبال الحق ، وهذا في بادئ الأمر يكون مجرد عمل ضد الحق ، ومكر لإطفاء الهدى ، ثم لا يلبث أن يتزين في نفسه ، لأن مرور الزمان يوجد العلاقة بينه وبين المكر ، كما قال سبحانه (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (١) وثم يتعلق به تعلقا شديدا ، حتى يكون عقيدة راسخة (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) الواضح سبيل الله تعالى ، وإنما صدهم استمرارهم في مكافحة الحق ، حتى صارت وقفتهم ضد الحق حالة لهم ، ولذا تركهم الله سبحانه وشأنهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يتركه وشأنه حتى يستحكم ضلاله ، بعد أن أرشده ، فلم يقبل (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إذ الهادي هو الله وحده وقد أعرض عن هداه.

[٣٥] (لَهُمْ) أي لهؤلاء الذين أشركوا بالله (عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن الانحراف عن نهج الله سبحانه ، حيث يصادم نواميس الكون ، لا بد وأن يسبب للمنحرفين العذاب الجسمي والروحي بالأمراض والعداء والقلق ، وما أشبه ، هذا بالإضافة إلى تعذيبهم بالقتل والأسر والسبي بأيدي المسلمين (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعد لهم (أَشَقُ) أكثر مشقة ،

__________________

(١) فاطر : ٩.

وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها

____________________________________

وأغلظ (وَما لَهُمْ مِنَ) قبل (اللهِ مِنْ واقٍ) اسم فاعل من «وقي» أي من حافظ يحفظهم من ذلك العذاب وإذ لا حافظ إليهم من الله ، فلا حافظ لهم إطلاقا.

[٣٦] إن في الآخرة للمشركين عذابا شديدا ، أما المؤمنون فلهم الجنة ، إنهم وقوا أنفسهم عن المعاصي واتقوا ، فوقاهم الله عن العذاب ، بل هيئ لهم الجنة (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) دخولها والتنعم فيها ، ولعل الإتيان بالمثل لإفادة أن حقيقة الجنة لا تتصور ، وإنما يتصور الإنسان شبهها ، كما إنك إذا أردت أن تفهم طفلا حقيقة الكهرباء سالبه وإيجابه ، لا يتصورها ، فتقول أن مثله أن تأخذ حبلا فتجره مرة إلى اليمين ، وأخرى إلى الشمال ، ولذا ورد أن هناك يرى الإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (١) «ولا يخفى ما في هذه الكلمة الأخيرة من معنى مدهش» أن مثلها جنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) ولعل الإتيان بكلمة تحت ، لإفادة أنها ليست كبعض الأراضي في الدنيا ، التي هناك نهر ، بلا شجر وبناء ، وإنما الأنهار ـ في الجنة ـ تجري تحت القصور والأشجار ، حيث تشابكت الأشجار ، وتراصفت القصور (أُكُلُها) الأكل ، هو الثمرة (دائِمٌ) أي أن ثمارها دائمة ليست كثمار الدنيا ، تظهر في فصل دون فصل (وَظِلُّها) دائم لا يكون مرة شمسا ومرة ظلا ، بل دائم الظلال ، لا تلفح الإنسان ، شمس ، أو حر ، أو برد

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ١٧.

تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

____________________________________

(تِلْكَ) الجنة (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) عاقبتهم (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ) عاقبتهم (النَّارُ) فمن أراد اتقى ليصل إلى تلك ومن شاء كفر ليعاقب بهذه.

[٣٧] وإذ يفرغ القرآن الحكيم من الكفار والمشركين ، ويبين أحوال المؤمنين والمتقين يعطف نحو أهل الكتاب وموقفهم من الرسول والقرآن (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي أعطيناهم الكتاب السماوي ، كالتوراة والإنجيل ، (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا رسول الله ، فإن أهل الكتاب المستقيمين الذين لم يعصب عينهم الحقد والحسد ، والتقليد الأعمى ، لا بد وأن يفرحوا بهذا الكتاب الذي يجدونه يصدقهم ، ويأخذ بأيديهم في مقابل الكفار والمشركين ، فإن الإنسان يفرح بناصره ومعاضده ، ومن المعلوم أن نسبة الأشياء الحسنة إلى قوم ، إنما يراد بها النسبة إلى عقلائهم ومفكريهم ومستقيمي الرأي منهم ، فإنك إذا قلت أن المسلمين صادقون في أقوالهم موفون لعهودهم ، لا تريد أن جميع أفرادهم كذلك ، وإنما تريد المستقيمين منهم في الإسلام ، وكذلك أمثال هذه النسبة ، وقد كان في أصحاب النبي زمرة من خيرة اليهود والنصارى ، الذين اتبعوه ، لما رأوا فيه الحق والصدق ، لكن من تحزّب ضد الرسول من أهل الكتاب ، لا بد وأن يخالفوا الكتاب ، فإنهم بطبيعتهم الحزبية ، لا بد وأن يتلقوا الأوامر من كبرائهم الحاسدين وقد كان شأن الأحزاب هكذا قديما وحديثا فإنهم حيث يدخلون أنفسهم في إطار طاعة الحزب لا بد لهم أن يتمثلوا ما يقوله الحزب حقا أم باطلا ،

وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا

____________________________________

ويحاربوا من يخالف الحزب حقا كان أم باطلا ، فالمعيار الحق عندهم ينقلب إلى معيار الحزب ، ولذا نرى أن الله سبحانه لم يسلم أزمة الأمور إلا بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، ثم بيد الفقيه العادل ، حيث علم سبحانه ، بأن الناس يتبعون من ألقى الزمام بيده ، ولو أمر بالباطل ، فتحفظا عن اتباع الناس للباطل ، لم يجعل أزمتهم إلا بيد من لا يعمل إلا بالحق لما فيه من الملكة الراسخة ، والصفة النفسية المعدلة لسلوكه ، طبق أوامر الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا فيما سهى أو نسي ، مما لا استثناء له ، إلا بالنسبة إلى المعصوم عليه‌السلام ـ (وَمِنَ الْأَحْزابِ) الذين تحزّبوا ضد الإسلام ، من أهل الكتاب (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي بعض القرآن ، مما لا يطابق كتبهم المنحرفة أو ينافي سيادتهم ورشوتهم ، أما ما طابق الكتابين ، فلا مجال لهم بإنكاره (قُلْ) يا رسول الله ، لمن ينكر بعض ما أنزل إليك (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) وحده (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) غيره ، فإنكاركم لذلك ، كما تزعمون أن عيسى أو عزير ابني الله ، أو أن الآلهة ثلاثة ، لا يضرّني في توحيدي وتنزيهي (إِلَيْهِ) أي إلى الله وحده (أَدْعُوا) فهو مبدئي (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي مرجعي ، من آب بمعنى رجع.

[٣٨] (وَكَذلِكَ) أي كما أنزلنا إلى من تقدم من النبيين ، كتابا بلغتهم ليفهموه ، ويفهمه أممهم (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا القرآن ـ المستفاد من قوله ، وما أنزل إليك ـ (حُكْماً عَرَبِيًّا) أي أنزلنا هذا الحكم في حال

وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)

____________________________________

كونه بلغة العرب ، التي هي لغتك ، ولغة قومك لتفهمه تماما ، ويفهمه القوم تماما ، فالرسول على يقين منه ، ولقائل أن يقول : وما هو الاختصاص بهذه اللغة؟ الجواب : الأمر دائر بين اللغة ، وبين سائر اللغات ، وإذا نزل بلغة أخرى فللقائل أيضا أن يقول : ما هو الاختصاص بتلك اللغة؟ بالإضافة إلى أن هذه اللغة كانت أرجح من حيث أنها اللغة الملتفة ببيت الله الحرام الذي هو ملتقى الشعوب والقبائل قديما وحديثا ، لوجوب الحج في جميع الأديان ، فقد حج عليه‌السلام ، فمن بعده ، والشرق الأوسط أوسط من حيث المعمورة ، تقريبا ، فنسبته إلى العالم سواء وإطلاق الحكم على كل القرآن للتغليب ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) يا رسول الله (أَهْواءَهُمْ) أي عقائد الكفار وأهل الكتاب ، وسميت أهواء لأن المخترع لها هو الهوى ، إذ لم يدل عقل أو نقل على الكفر والتثليث ، وما أشبه (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) «من» بيان «ما» (ما لَكَ) أي ليس لك (مِنَ) طرف (اللهِ) سبحانه (مِنْ وَلِيٍ) يلي أمرك وينصرك (وَلا واقٍ) أي حافظ يحفظك من عذابه ، فلا ولاية ، بل عداوة ، إذ عدم الولاية لا يلازم العداوة ، ولذا صرح بقوله «ولا واق» من وقي يقي إذا حفظ ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان لا يتبع أهواءهم ـ بالاضافة إلى أن «إن» الشرطيّة لا يربط إلا المقدم باتساع ـ إلا كأنه ، لوحظ كون التهديد موجّها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون أبلغ من تقرير العقاب القطعي بالنسبة إلى متبع الأهواء ، كما إنك إذ أردت تهديدا جديّا إلى صديقك مع إنك تعلم أنه لا يقترف الإثم.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨)

____________________________________

[٣٩] قد كان الكفار يناقشون في كل من المبدأ والمعاد والرسول وكتابه ، وقد كانت مناقشتهم حول الرسول أنه كيف يمكن أن يكون الرسول بشرا يأكل وينكح ويمشي ، ويكون له أولاد ، ويأتي الجواب بصدد هذه المناقشة ، أن الرسل سابقا أيضا ، كانوا كذلك ، فكيف تؤمنون بأولئك الرسل وتناقشون هذا الرسول؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً) نساء (وَذُرِّيَّةً) أولادا ، فما ذا يستنكر هؤلاء منك أن يكون لك أزواج أو ذرية؟ (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن الخارقة إنما يأتيها الرسول بإذن من الله سبحانه ، وليست بيده حتى أن كل اقتراح يجيبه ، وكل ما طلبوا منه يأتي به ، فإن كان اعتراض هؤلاء عليك ، أن لك أزواجا وذرية؟ فهم معترفون بأنه كان لسائر الأنبياء أزواج وذرية ، وإن كان اعتراضهم أنك لم تأتي بما اقترحوا عليك؟ فالآيات بيد الله سبحانه ، وقد جئت لهم بقدر ما يتم الحجة ، فإن كان اعتراضهم بأنه كيف اختلف هذا الكتاب ، مع كتاب موسى وعيسى ، فإن كان ذلك الكتاب حقا ، فكيف أتيت بخلافه؟ فإن (لِكُلِّ أَجَلٍ) أي مدة ، وزمان (كِتابٌ) خاص به ، فإذا انقضى ذلك الزمان جاء كتاب آخر يلائم البشرية في أدوارها.

[٤٠] وقد كان لموسى عليه‌السلام كتاب ، ثم جاء عيسى عليه‌السلام وأتى بما يختلف مع كتاب موسى عليه‌السلام ، كما قال : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ

يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)

____________________________________

عَلَيْكُمْ) (١) فإنه (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) يرفع حكمه لانتهاء الصلاح بالنسبة إليه (وَيُثْبِتُ) مكانه ما يشاء ، لأنه مثله في ملائمة هذا العصر ، أو أفضل منه ، كما قال : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (٢) (وَعِنْدَهُ) سبحانه ، في علمه واطلاعه (أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب الذي فيه ما يمحى وما يثبت ، وإلى أي قدر يبقى ما يمحى هذا حسب ما يتعلق بالسياق ، وإلا فالظاهر أنّ الآية أعم من الأحكام ، فالتقديرات منها قابلة للتغيير ، ومنها غير قابلة ، وقد وردت أحاديث في باب المحو والإثبات ، وأم الكتاب ، ولعل خلاصة القول في تلك كلها ، أن هناك علما خاصا بالله سبحانه يعلم الأشياء التي تقع إلى الأبد ، ولا تغيير في ذلك ، ولا تحرير ، وهناك لوح يثبت فيه أشياء ثم ربما تقتضي المصلحة ، فيمحي ذلك المثبت ليكتب مكانه شيء آخر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن المرء ليصل رحمه ، وما بقي من عمره إلا ثلاث سنين ، فيمدها الله إلى ثلاث وثلاثين سنة ، وإن المرء ليقطع رحمه ، وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة فينقصه الله إلى ثلاث سنين ، أو أدنى. قال الراوي : أن الصادق عليه‌السلام لما حدث بهذا الحديث قرأ هذه الآية ، أي «يمحو الله ما يشاء» (٣) وهنا سؤالان ، الأول هل أن الله يعلم أن الشخص الفلاني يموت في أم الكتاب أم لا؟ فإن علم أنه يموت فما فائدة الصدقة والدعاء وإن علم بأنه لا يموت ، فالصدقة والدعاء اعتباط؟ والجواب أن الله يعلم ، أنه يتصدق ، فلا يموت ، كما أنه سبحانه يعلم أن زيدا يقرأ العلم ، فيصبح عالما ، فلا

__________________

(١) آل عمران : ٥١.

(٢) البقرة : ١٠٧.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢١ ص ٥٣٧.

وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ

____________________________________

يصح أن يقول الجاهل ، إن كان في علم الله ، أنا أصبح عالما ، فما فائدة تعبي لما يأتني بلا تعب؟ وإن كان في علم الله ، أنا لا أصبح عالما ، كان تعبي في تحصيل العلم هباء ، فإن رده واضح أنه في علم الله أنك تتعب حتى تكون عالما ، الثاني ـ ما فائدة لوح المحو والإثبات ، بينما لا يصير في الخارج ، إلا على طبق أم الكتاب؟ والجواب أن ذلك ليتعلم الملائكة والأنبياء ، ومن إليهم ، فإنه كان يكتب في اللوح ، أن عمر زيد ثلاث سنوات ، ثم إذ رأى الملائكة ومن له اتصال بذلك اللوح أن «الثلاث» محيت وكتب مكانها «ثلاث وثلاثون» عرفوا السبب ، وصار ذلك محفزا للفضائل ، وزاجرا عن الرذائل بالنسبة إلى من علم ، كما لو رأى أحد موظفي الدولة أن في الدفتر غير مقدار راتب أحد الموظفين إلى أرفع أو أنقص لخدمة أو كسالة ، حفزه ذلك ، إلى اجتناب المنقصة ، والعمل بالمنقبة ، وتمام الكلام في علم الكلام.

[٤١] قد سبق إنذار الكفار بقوله سبحانه «ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم» والآن يأتي السياق لبيان أنه سواء أخذ الله الكفار بالعذاب في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو توفاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذلك ، فإن ذلك لا يغيّر من طبيعة الرسالة ، فإن الرسول يأمر بالبلاغ ، سواء انتصر على الكفار ، ووصلت بهم القوارع ، أم لا (وَإِنْ ما) أصله «إن» الشرطيّة و «ما» الزائدة ، جيئت زينة للكلام (نُرِيَنَّكَ) يا رسول الله (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي بعض العقوبات التي وعدناها الكفار ، وإنما قال بعض لأن كل العقوبات لا تقع في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنها تدريجية طيلة بقاء الكفر والكافرين (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) ونقبض روحك إلينا

فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ

____________________________________

(فَإِنَّما عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْبَلاغُ) أن تبلغ القوم وتنذرهم (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) بأن نحاسبهم ونجازيهم وننتقم من كفارهم ، إما عاجلا أو آجلا.

[٤٢] لقد أنذر الكفار بالعقاب ، والقارعة تصيبهم ، ألا فلينظروا إلى الأمم السابقة كيف عاقبهم الله سبحانه ، فقد ضيّق سبحانه ملكهم وسعتهم ، بعد أن كانوا كبارا أقوياء (أَوَلَمْ يَرَوْا) استفهام إنكاري ، أي لقد رأى هؤلاء الكفار (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي نقصدها ، ونتوجه نحوها (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي ننقص أراضي الكفار من هنا وهناك ، بأن تصبح أرضهم يبابا بعد أن كانت عامرة ، ومدنهم صغيرة ، بعد أن كانت كبيرة ، وحدودهم ضيقة ، بعد أن كانت وسيعة ، كل ذلك لانهيارهم وضعفهم ، فلا يقدروا على الزراعة والعمارة ، وفقد شبابهم وقواهم ، فلا يتمكنوا من حفظ حدودهم من الدول المعتدية ، وقوله سبحانه «الأرض» لا دلالة فيها على مجموع أرض الكرة ، فإن مثل هذا التعبير كثير في مثل المقامات التي ذكرنا يقال : الرئيس الفلاني ، أفسد الأرض ، والرئيس الفلاني عمرها ، أو وسّع فيها ، أو ضيقها مما هو كثير متداول في ألسنة الناس ، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : يعني بذلك ما يهلك من القرون ، فسماه إتيانا. أما ما ورد من تفسير الآية بموت العالم ، فإن ذلك من أسباب نقص الأرض ، إذ العالم قوة تحفظ سعة الأرض ، وعمارتها ونشاطها (وَ) قد يظن بعض الناس ، أو بعض الدول إنما أنهم يوسعون ويعمرون ، فلا قدرة فوقهم لكنه سراب خادع ، فإن (اللهُ يَحْكُمُ) بكل شيء ومنها السعة والضيق

لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)

____________________________________

والعمارة والخراب (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) فلا أحد يعقب الحكم الصادر منه تعالى بالتغيير والتبديل (وَهُوَ) سبحانه (سَرِيعُ الْحِسابِ) فلا يظن القوي ، أنه يبقى ، وإن طغى ، بل يأخذه الله سبحانه بسرعة مذهلة ، حتى كأنه لم يغني بالأمس ، ومن نظر إلى سرعة انهيار الكفار والظالمين ، ليأخذه العجب.

[٤٣] إن هؤلاء الكفار ليسوا بأشد مكرا ـ لإطفاء الدين ـ من قبلهم ، فقد كان أولئك يمكرون ، ويأخذون التدابير الخفية ، لمحو هدى الأنبياء عليهم‌السلام ، ولكن تدبير الله كان أقوى منهم فقد نصر أوليائه في الدنيا ، وسينصرهم في الآخرة ، بإعطاء الثواب الجزيل ، وإخلاد الكفار النار (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فقد مكر الكفار في الأمم السابقة ، للرسل المؤمنين باتخاذ تدابير خفية لاستئصالهم فأبطل الله مكرهم ، إذ (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) فإنه سبحانه عالم بجميع التدابير ، فيرد على الكفار تدابيرهم ويتخذ هو سبحانه تدابير خفية لنصرة الأنبياء (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من التدابير الخفية والجلية ، فيضع لتدابير الكفار معوّقا ومبطلا ، هذا في الدنيا (وَسَيَعْلَمُ) في الآخرة (الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ـ فإنها طبعا ـ للمؤمنين دونهم.

[٤٤] ابتدأت السورة بقوله (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فقد كان الابتداء لإثبات الرسالة ، ويأتي الختام ليفهم ما ابتدأت به من إثبات

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)

____________________________________

الرسالة ، مع الإلماع إلى خلاصة ما يقوله الكفار في الرسول الذي سبق أنهم أنكروا رسالته ، لأنه لا يأتي بآية ، ولأن له أزواجا وذرية ، وما أشبه ذلك (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ) يا رسول الله (مُرْسَلاً) من قبل الله (قُلْ) لهم (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أنه يشهد برسالتي وشهادته إعطاء هذه المعجزة الخالدة ـ القرآن ـ لي ، فإنه إمضاء عملي (وَ) كفى شهيدا (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وهم اليهود والنصارى الذين وجدوا في كتبهم وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهره المنصفون منهم وما ورد من أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مراد بهذا فإنه مصداق ظاهر ممن عنده علم الكتاب ، يعلم الكتب السابقة ، والقرآن الحكيم جميعا ، وأنه عليه‌السلام ليشهد للرسول ، ويأتي بالدلالة لرسالته التي منها إخراج وصفهم من كتب الأنبياء السابقين (١) ، وقد أخرج حفيده الإمام الرضا عليه‌السلام ـ في مجلس المأمون ـ ما أبان ذلك ، وإنهم أهل بيت عندهم علم لكل الكتب (٢).

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ٤٣٢.

(٢) راجع وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٧٢.

(١٤)

سورة إبراهيم

مكية / آياتها (٥٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على اسم «إبراهيم عليه‌السلام» وقصته ، والسياق العام في هذه السورة ، كالسور المكية ـ غالبا ـ حول أصول العقيدة من توحيد ورسالة ومعاد ، فقد كانت مكة تلائم مثل هذه الأمور ، لعدم تأسيس دولة تحتاج إلى النظم والتشريعات ـ بعد ـ قال بعض المفسرين أن مصب جو السورة إلى أمرين مهمين ، أولا وحدة دعوة الرسل ، والثاني نعمة الله على البشر ، ومقابلة أكثرهم لها بالكفر.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله في حوائجنا ، ونجعله في ابتداء أمورنا وهل هناك أرفع شأنا منه حتى يبتدأ باسمه ، فإنه الله الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم لكل الأشياء ، أليس هو الرحمن المطلق فقد وسعت رحمته كل شيء.

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ

____________________________________

[٢] ولما ختم الله سبحانه سورة الرعد بإثبات الرسالة وإنزال الكتاب افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة والكتاب فقال (الر) الف ، ولام ، وراء ، أي من هذا الجنس (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) وهو القرآن الكريم ، والإنزال إن كان من السماء ـ كما هو الظاهر من الآيات والروايات ـ كان اللفظ حقيقة ، وإن كان بالإلقاء في القلب وما أشبه كان الإنزال مجازا ، تشبيها بالعلو الحقيقي للمنزل ، بالعلو الخارجي ، يقال : تلقيت الأمر من الأعلى ، ويراد أعلى درجة ورتبة لا أعلى مكانا ، (لِتُخْرِجَ) يا رسول الله (النَّاسَ) جميع الخلق ، وعدم خروج بعضهم لعدم بلوغه الدعوة أو عناده لا ينافي كون الغرض من الإنزال ذلك (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فإن الإنسان المنحرف العقيدة والمنهج في ظلمة ، فكما أن من في الظلمة الخارجية لا يبصر مكان قدمه ولا يبصر ما حوله من الحقائق الخارجية ، كذلك من في الظلمة العقيدية والمنهجية ، لا يرى الحق بالنسبة إلى العقائد ، فأي فرق بين من لا يبصر بعينه الكتاب الموضوع في الرف ، وبين من لا يرى بقلبه للكون خالقا ، أو لا يرى كيف يعامل بربا أو بدون ربا ، بل الظلمة الظاهرية أهون ، فإن الأعمى أكثر ما يخشى عليه التردي ، والذي في ظلمة الكفر ، في تعاسة الحياة كلها ، وسوء المنقلب ـ قطعا ـ (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) فإن الله سبحانه أذن إخراج الناس من الظلمة إلى النور ، لمّا أوحى إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ ، والتعبير ب «الإذن» دون «الأمر» لعله للمقابلة مع ما كان ينسبه الكفار إلى الله من الخرافات في العقيدة

إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢)

____________________________________

والعمل ، فتلك لم يأذن بها الله ، كما قال : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١)؟ وهذا أذن به الله ، ويحتمل أن يكون المراد أن الرسول لا يقدر إلا على البلاغ ، أما إخراج الناس إخراجا خارجيا ، بأن يطاوعه الناس في الخروج من الظلمات ، إلى النور فإن ذلك ليس في مقدور الرسول وإنما هو بإذن الله ، وفق سنته التي سنها في الكون ، التي هي أن من أعطى القلب وهو شهيد مريد للحق ، دخل في قلبه هذا النور ، ومن ألقى السمع ، وليس بشهيد لا يدخل في قلبه هذا النور (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) هذا بدل من قوله «إلى النور» فالنور هو صراط الله سبحانه «العزيز» مالك العزة والقوة والقدرة والإرادة «الحميدة» الذي يحمل العارفون لما له من الإنعام والإفضال ، فهم إنما يخرجون من صراط الذلة والجدب إلى صراط العزة والحمد ، فمن كفر فليعلم أن الله عزيز قاهر ، ومن شكر فليعلم أن الله متفضل حميد.

[٣] ثم فسر سبحانه «العزيز الحميد» بقوله (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو خالقها ومبدعها ومسيّر أمرها ، والمراد بالمظروف أعم من الظرف ، كما سبق في مثل هذه الآية الكريمة ، أن مصير المؤمنين بهذا الإله واضح لا مرية فيه ، فهو خير الدنيا وسعادة الآخرة ، وأما الكافرون به ، (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) والويل

__________________

(١) يونس : ٦٠.

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً

____________________________________

كلمة تقال لسوء الحال ـ غالبا ـ والعذاب الشديد في الدنيا بالشقاء ، وفي الآخرة بالنار.

[٤] ثم وصف سبحانه الكافرين بصفة تحمل العلة في كفر الكافرين ، فالكافرون هم (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ولعل الإتيان بباب الاستفعال «يستحبون» دون «يحبون» لإفادة أن من طبيعتهم لم يكن الحب الزائد لها ، وإنما طلبوا حبها ، حتى صار ملكة لهم ، فإن الاستفعال فيه معنى الطلب (عَلَى الْآخِرَةِ) أي استحباب الآخرة ، وكأنه عدّي بعلى لإشراب الفعل معنى الترجيح ، أي يستحبون الحياة مرجحين لها على الآخرة ، فإن حب الدنيا كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رأس كل خطيئة ، فتصطدم دنياهم بآخرتهم ، فيقدمون الدنيا على الآخرة ، حيث نشب بقلبهم حبها ، فمثلا الآخرة تنهي عن الربا ، والدنيا تطلبه ، وعن الزنى وعن القمار ، وعن النظر إلى أموال الناس ، وأعراضهم ، والتطلب للجاه ، ولو بألف حرام ، وهكذا ، (وَيَصُدُّونَ) أي يمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي طريقته في العقيدة ، والنظام ، فمن أراد الإيمان أو الإطاعة منعوه عن ذلك (وَيَبْغُونَها) أي يطلبون السبيل ـ ولفظة السبيل يجوز فيها التذكير والتأنيث ـ (عِوَجاً) أي منحرفا ، فلا يسيرون على الطريق المستقيم صراط الله سبحانه ، وإنما يسيرون على الطريق المعوج ، وإنما كان طريقهم معوجا ، لأنه لا يصل إلى المطلوب ، فمثلا المطلوب في الدنيا الصحة ، والزنى يوجب الأمراض الزهرية ، وهكذا ، ويحتمل أن يراد ب «يبغونها عوجا» أنهم يريدون

أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ

____________________________________

جعل طريق الله أعوج في نظر الناس ، حتى لا يتبعوه ، فيزينون لهم أشياء ملصقة بطريقه سبحانه ، ليبعدوا الناس عنه (أُولئِكَ) الكفار الذين هذه صفاتهم (فِي ضَلالٍ) وانحراف من الحق (بَعِيدٍ) كأنهم ابتعدوا عن المنهج السوي كثيرا ، في قبال الكافر الذي لا يصد عن سبيل الله ، فإنه أقرب من الأول ، والفاسق الذي يعتقد صحيحا ، ويعمل فاسدا ، فإنه في ضلال أقرب إلى الطريق من الفئتين السابقتين.

[٥] إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل إلى قومه بلغة العرب ، كما أن سائر المرسلين أرسلوا بلغة أقوامهم ، وإن كانت رسالة بعضهم عامة كموسى وعيسى عليه‌السلام ، (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) امتنانا من الله سبحانه عليهم حتى لا يصعب عليهم الفهم ، وإن كانت الحجة تتم بدون ذلك ، ثم أنه ليس المراد من القوم عشيرته ، بل القوم يطلق على من جمعهم لسان واحد ، كما أنه يطلق على من جمعتهم عشيرة واحدة ، أو ما أشبه ذلك (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) علة إرسال الرسول بلسان القوم فجاء الرسول ، وبيّن وفهّم ، ثم يأتي دور اللطف الخفي والخذلان ، فمن آمن لطف به سبحانه لطفه الخفي ، ومن أعرض خذله تعالى وتركه ، وهذا معنى قوله (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) أي يتركهم في ضلالهم ، وليست مشيئة اعتباطية ، وإنما يشاء بالنسبة إلى من أعرض ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فيلطف به الألطاف الخفية ، بعد أن أذعن واعترف ، وجاء في حظيرة المؤمنين ، فإن الهداية والضلال لهما مراتب

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ (٥)

____________________________________

ثلاث ، البيان والترك ، واللطف الخفي والخذلان ، والإيصال إلى المطلوب وهي الجنة وعدم الإيصال ـ كما بين ذلك في علم الكلام ـ (وَهُوَ) سبحانه (الْعَزِيزُ) الغالب القاهر ذو العزة والعفة ، فهو قادر على الهداية والإضلال (الْحَكِيمُ) يفعل كل ذلك حسب الحكمة والصلاح ، فمن أبى الهداية تركه في ظلمات الضلال ، ومن رغب فيها أخذ بيده درجة فدرجة ، كالمعلم الذي يترك تلميذه الذي لا يحفظ ، ويأخذ بيد تلميذه الذي يحفظ حتى يرتقي ـ بعد أن يلقي الدرس عليهما على حد سواء ـ.

[٦] ثم ذكر سبحانه مثالا لإرسال الرسل بلسان قومهم بقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي مع المعجزات والدلالات المصدقة له (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) هذه كانت رسالة موسى عليه‌السلام ، أي أرسلنا موسى قائلين له أن أخرج ، وجملة «بآياتنا» معترضة ، وقد كانت صيغة رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) كصيغة رسالة موسى «أن أخرج» وقد تقدم معنى كون الناس في ظلمة ، وأن الرسول يخرجهم منها إلى النور (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) وهي الأيام التي وقعت فيها أمور خارقة من النعم أو النقم ، والتذكير بها يفيد العاقل لزوم إطاعة الله حتى ينال من تلك النعم ، ولزوم ترك المعصية ، حتى لا يقع في مثل تلك النقم ، كالتذكير بما فضل الله به نوحا والمؤمنين من النجاة في السفينة ، وبما نقم الله سبحانه على الكافرين

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ

____________________________________

بالغرق والهلاك (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ) دلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) كثير الصبر على بلاء الله سبحانه (شَكُورٍ) كثير الشكر على نعمائه ، ويعني أن من له نفس واعية تصبر في البلاء وتشكر في الرخاء ، لا بد وأن يعتبر بأيام الله السابقة التي مضت على الأمم ، ولا بد أن يعلم وجوب الصبر في البلاء ، ووجوب الشكر على الرخاء.

[٧] (وَ) أخذ موسى عليه‌السلام حسب أمر الله سبحانه يؤدي رسالته ، ويذكر بني إسرائيل بأيام الله (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) «إذ» متعلق بمحذوف ، أي اذكر يا رسول الله وقت قول موسى لقومه (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وكان النعمة تغمر الإنسان ، ولذا تعدى ب «على» (إِذْ أَنْجاكُمْ) أي في الوقت الذي أنجاكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي فرعون وذويه ، فإنه كثيرا ما يغلب أن يقال «آل فلان» ويراد هو وآله (يَسُومُونَكُمْ) من سامه إذا أذاقه الهوان (سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيء ، باتخاذهم عمّالا في الأبنية مع إذلالهم وإهانتهم وسجنهم ، وبقر بطون نسائهم (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) خوفا من ظهور موسى عليه‌السلام ، فقد أمر فرعون أن يذبح كل ولد يولد لبني إسرائيل ، والإتيان بباب التفعيل «يذبحّون» لأنه يدل على التكثير ، كما قالوا في «غلقت الأبواب» «وقطع الجبال» (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يبقون البنات أحياء للخدمة والاستمتاع ، والإتيان بباب الاستفعال ، لافادته معنى

وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)

____________________________________

الطلب ، فليس الأمر تركهن أحياء وإنما طلب حياتهن ، لفوائدهم ، وهل ذلة أكثر من هذا؟ (وَفِي ذلِكُمْ) «ذا» إشارة إلى ما كان يعمله آل فرعون و «كم» خطاب (بَلاءٌ) أي امتحان (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) حتى يميز الباقي من بني إسرائيل على مبدأ آبائه وأجداده ، من التارك منهم واتخاذه طريقة فرعون ، فقد كان في مصر نسل يعقوب عليه‌السلام ، وهم بنو إسرائيل ، عبادا لله سبحانه ، متخذين طريقة إبراهيم ، وإسحاق ويعقوب أجدادهم كما كان فيه القبط الذين يعتقدون بألوهية فرعون ـ ملكهم المجرم ـ وكان الملك وقبيلته يطاردون بني إسرائيل ، بأنواع العذاب ليتركوا طريقتهم ، ويدخلوا في طبقة القبط ، ثم أنه كان من أيام الله ، تلك النعمة بالإنجاء ، كما أنه كان من أيّام الله تلك البلية بفرعون وزمرته.

[٨] ثم قال لهم موسى عليه‌السلام (وَإِذْ تَأَذَّنَ) أي اعلم ، هو باب التفعّل من الأذان ، بمعنى الاعلام ، ولعل الإتيان من هذا الباب ، لإفادته التكثير ، أي اعلم مرات ومرات (رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) النعم بصرفها في ما أمر الله سبحانه بصرف العقل في التفكر في آيات الله تعالى ، وصرف الجوارح في إطاعته سبحانه ، فإن شكر النعمة ، صرفها في المصرف اللائق بها (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة على نعمة ، ولطفا على لطف ، وسببه واضح ، فإن استقامة النفس ، توجب الأعمال الصالحة ، التي تؤدي إلى الخير والرفاه والزيادة ، (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) بأن صرفتم النعم في غير وجهها (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) يعني أعذبكم عذابا شديدا ،

وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ

____________________________________

فإن النفس غير المستقيمة ، لا بد وأن تسبب هدما لمناهج الحياة ، وذلك يسبب الشقاء والتعاسة في الدنيا والآخرة ، ثم أن الشكر باللسان ، أضعف أقسام الشكر وإن كان مطلوبا أيضا ، فإنه شكر بالقلب ، وشكر باللسان ، وشكر بالجوارح ، كما قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (١) أي ائتوا بالشكر العملي ، روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال في تفسير هذه الآية ، أيما عبد أنعمت عليه نعمة ، فأقر بها بقلبه ، وحمد الله عليها بلسانه ، لم ينفذ كلامه حتى يأمر الله له بالزيادة (٢).

[٩] (وَقالَ مُوسى) لبني إسرائيل ـ بمناسبة قوله السابق : ولئن كفرتم ـ (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) يا بني إسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بلا استثناء (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن الجميع لا يضره كفركم شيئا (حَمِيدٌ) بذاته لا يحتاج إلى حمد الناس وشكرهم ، وإنما الشكر والإيمان تعود فائدتهما إلى نفس الناس ، باستقامة حياتهم ، وطهارة نفوسهم.

[١٠] وقال لهم موسى عليه‌السلام (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا قوم (نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي ألم يصل إليكم أخبار الأمم الماضية الذين عصوا الله سبحانه ، فأخذهم بعذابه الشديد ، أخذ عزيز مقتدر؟ (قَوْمِ نُوحٍ) بدل من (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حيث أهلكوا بالغرق (وَعادٍ) قوم هود عليه‌السلام (وَثَمُودَ)

__________________

(١) سبأ : ١٤.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٢٢.

وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)

____________________________________

قوم صالح عليه‌السلام (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من قوم الأنبياء الذين جاءوا إليهم بالصدق والحق ، فلجئوا إلى الباطل ، ولم يسمعوا كلام الأنبياء (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) فإن تلك الأقوام ، حيث كانوا قريبين من محل موسى عليه‌السلام بين مصر وسوريا ، كانت أخبارهم وصلت إلى بني إسرائيل ، أما سائر الأقوام الكثيرة ، التي قال الله سبحانه عنها (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) فلم يكن يعلمهم إلا الله ، ولا داعي إلى ذكرهم ، فالأنموذج كاف للتذكير والإرشاد ، (جاءَتْهُمْ) أي جاءت تلك الأقوام (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحة ، والبراهين الصريحة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي رد القوم أيديهم في أفواه الأنبياء عليهم‌السلام ، بأن منعوهم من التكلم ، فقد جرت العادة أن من يريد إسكات متكلم أن يضع يده على فم ذلك المتكلم ، وذلك تشبيه ، كما لا يخفى ، ويحتمل أن يعود الضميران إلى القوم ، يعني أن القوم وضعوا أيديهم ، في أفواه أنفسهم مشيرين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا (وَقالُوا) أي قالت الأقوام (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي برسالاتكم حول العقيدة والنظام (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من وحدة الله والمعاد ، وسائر الأفعال (مُرِيبٍ) أي موجب للريب والتردد ، فإن الشاك قد يكون له اطمئنان نفسي لا يريبه شكه ، بل يمضي حسب اطمئنانه ، وقد يقوى شكه ، حتى يوجب ريبه وتردده.

__________________

(١) فاطر : ٢٥.

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا

____________________________________

[١١] (قالَتْ رُسُلُهُمْ) في جواب قولهم (إِنَّا لَفِي شَكٍّ) (أَفِي اللهِ شَكٌ) أي هل يمكن الشك في الله بعد الآيات الكونية الكثيرة ، التي تنطق كلها ، في وضوح وجلاء ، بأن لها خالقا عليها قديرا ، (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومبدعهما ، وقد كان هذا الوصف بمنزلة البرهان والدليل (يَدْعُوكُمْ) الله أيتها الأقوام (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم ، وإنما أتى ب «من» التبعيضية ، لأنه سبحانه لا يغفر كل الذنوب كالشرك ، قال سبحانه (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) كذا قال بعض المفسرين وإلا وفق القواعد ، أن تكون «من» للجنس ، فإنهم إن لبوا الدعوة ، كانوا محلا لغفران جميع الذنوب ، إذ لا يبقى شرك حينئذ ، وإن لم يلبّوها لم يكن غفران ، فالمراد ليغفر لكم من هذا الجنس الذي هو الذنب ، (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فلا يعجل عليكم بالعذاب ، بل إنما يؤخر آجالكم إلى المدة المقررة لكم ، فإن من سلك منهاج الله لم يعذب عاجلا ، لا بعذاب الاستئصال ، ولا بعذاب من خالف المنهاج ، فوقع في مشاكل الحياة (قالُوا) أي قال القوم في جواب الرسل (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها الرسل (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) على خلقتنا ، ومن آياتنا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) أي تمنعونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا)

__________________

(١) النساء : ٤٩.

فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ

____________________________________

من الأصنام والأوثان (فَأْتُونا) أي جيئوا إلينا على صحة دعواكم (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة ، فإن السلطان من سلط بمعنى غلب وقهر ، كأن الحجة تغلب وتقهر ، وقد كانت الأقوام ـ غالبا ـ تتقيد بتقاليدها ، وترى المعجزات بأنها سحر ، وتستغرب أن يكون النبي بالمزايا البشرية ، من أكل ومشي ، ونكاح وأولاد ، ولذا نرى هذه الاحتجاجات كثيرة في كلام الأقوام ضد الرسول.

[١٢] (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) صحيح ما تقولون إننا بشر مثلكم في مزايا البشرية ، فإنه (إِنْ نَحْنُ) أي ما نحن (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الصورة ، وسائر الخصوصيات (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ويتفضل عليه بالنبوة والوحي ، وقد تفضل علينا سبحانه بهذه الفضيلة ، والدليل على ذلك الخوارق التي تشاهدونها ، مما أجراها سبحانه على أيدينا ، فإنه (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) أي حجة وبرهان (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وإرادته ، فما أتيناكم به من المعجزات كان بإذنه ، مما يدل على صحة دعوانا وصدقنا ، ومن المحتمل أن هذا الكلام من الأنبياء ، رد لما طلبته الأقوام من خوارق مقترحة ، وجواب الرسل ، أن الخوارق إنما هي بيد الله سبحانه ، إن شاء أتى بها ، وإن شاء لم يأت ، وأما المقدار الكافي لصحة دعوانا ، فقد زودنا به ، وجئناكم به (وَعَلَى اللهِ

فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)

____________________________________

فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وهذه كتسلية للرسل يسلون بها أنفسهم ، يريدون إنا نتوكل عليه سبحانه في تكذيبكم ونصبكم العداء لنا ـ كما يقول موظف الدولة ، بعد أن رأى عدم فائدة الحجاج مع من يريد تطبيق القانون عليه «اعتمادي على الدولة» يريد التهديد والاستغناء ، بهذه الجملة.

[١٣] ثم نرسم للرسل منهاجهم في الحياة بصورة سؤال واستفهام عن الأقوام تلطيفا للجو ، فإن في السؤال إظهارا لقوة الخصم ، مما يسبب له اللين والعطف ، حيث اتبع حس كبريائه (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) ، أي أيّ شيء لنا ، إذا لم نتوكل على الله ، ولم نفوض أمورنا إليه ، بمعنى أنه لو تركنا التوكل عليه ، لم يبق لنا شيء ، إذ لا اعتماد لنا ، لا من البشر ، حيث نصبوا لنا العداء ، ولا من الله حيث لم نلجأ إليه (وَقَدْ هَدانا) الله سبحانه (سُبُلَنا) طرقنا في الحياة السعيدة ، والآخرة المرفهة ، والمعنى إنا إذا كنا مهتدين ، فلا ينبغي لنا أن لا نتوكل على الله ف «الواو» في «وقد هدانا» للحال ، ثم أخذت الأنبياء في اجتلاب عطف الأقوام ، بقولهم (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) نصبر ـ على إيذائكم ، ولا نقابلكم بالمثل ، وهذا بالإضافة إلى كونه حقيقة ، فقد كانت الأنبياء تصبر في مقابل أذى الأقوام ، ليعطفوا قلوب الناس إليهم ، لأن الناس مع المظلومين (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) من أراد التوكل والتفويض إلى أحد في أموره ، فاللازم أن يتوكل على الله ، لأنه ينصره ، ويسعفه بحاجته ، وقد تقرر في علم البلاغة ، أن «الفعل»

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ

____________________________________

و «الإرادة» يستعمل كل منهما في معنى الآخر ، فمثلا «إذا أقمتم الصلاة» معناه ، إذا أردتم القيام إليها ، و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) معناه ، أنه يسر عليكم ، وعليه فالمراد ب «المتوكلون» من أراد التوكل.

[١٤] وإذ تمت الحجة على الأقوام ، وأظهروا القوة ، كما هو شأن كل جاهل حين تتم الحجة عليه ، ولا يريد الإذعان (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) أي ننفيكم من بلادنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي إلا أن ترجعون إلى أدياننا وطريقنا ، وتسمية ذلك رجوعا باعتبار أن الكفار كانوا يظنون أن الرسل ـ قبل ادعائهم الرسالة ـ كانوا على طريقتهم ، ذاهلين أنهم كانوا على مبدأ التوحيد ، ولكنهم لم يكونوا مأمورين بإظهاره ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي إلى الرسل (رَبُّهُمْ) بعد إتمام الحجة ، ووصول الأمر إلى هذا الحد (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) بكل تأكيد ، ولا يحضرني الآن تاريخ يدل على أن رسولا نفي بعد مثل هذا الاحتجاج ، وإنما خرج بعض الرسل بأنفسهم هربا ـ كموسى عليه‌السلام بالإضافة إلى أنه لم يكن بعد مثل هذا الاحتجاج ،

[١٥] (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ) أيها الرسل (الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي نجعل لكم فيها مسكنا ومستقرا ، وإنما نخرج المكذبين بالهلاك والفناء ، وقد ورد في الحديث «من أذى جاره حرم جواره» (١) وليس إخراج الكفار من

__________________

(١) راجع روضة الواعظين : ج ٢ ص ٣٨٧.

ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)

____________________________________

الأرض وإسكان الأنبياء فيها ، وكذلك إسكان التابعين لهم ، جزافا واعتباطا ، وإنما (ذلِكَ) الإسكان ، وإخراج الأعداء بالهلاك (لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي خافني ، وإنما أضيف الخوف إلى المقام مجازا ، بعلاقة الحال والمحل ، أو المراد الخوف من نفس المقام والمنزلة ، فإن الشخص إنما يخاف من منزلة الحاكم ـ مثلا ـ لا من نفس الحاكم ، ولذا نرى أنه لو جرد عن تلك المنزلة ، لم يكن محل خوف ، والمراد بالخوف هنا عدم ارتكاب المعاصي (وَخافَ وَعِيدِ) أي خاف وعيدي بالهلاك في الدنيا والنكال في الآخرة ، فلم يعصني.

[١٦] (وَاسْتَفْتَحُوا) أي طلب الرسل الفتح والنصرة على أعدائهم ، وإنما سمي النصر بالفتح ، لأنه يفتح الطريق أمام المنتصر لقضاء حوائجه ، بعد ما كان العدو صدا يمنع عن ذلك (وَخابَ) أي خسر (كُلُّ جَبَّارٍ) يجبر الناس على ما يريد (عَنِيدٍ) معاند للحق ، والجبار يطلق عليه سبحانه ، لكنه هناك بحق ، لأنه يجبر ما هو ملكه وخلقه ، وليس كسائر الجبارين ، والذين يجبرون ما ليس لهم ، فإن الإنسان مسلط على ماله ونفسه ، وقد يقال الجبار له سبحانه ، باعتبار أنه يجبر الكسر من كل شيء ، كما في الدعاء يا جابر العظم الكسير.

[١٧] وخيبة الجبابرة ، كما هي في الدنيا كذلك في الآخرة ، أما في الدنيا فإنهم لا يهنؤون بالعيش ، حيث يرون الناس كلهم أعداء لهم ، وإذا كان للإنسان عدوا واحدا لا يهنأ له عيش ، فكيف إذا كان له أعداء؟ والغالب أن الجبابرة يذلون أخيرا ويقتلون ، ويبقى التاريخ ليلعنهم مدى

مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ

____________________________________

الأجيال ، هذا مع الغض عن أن لطف الله بعباده يحفر للجبار ألف حفيرة ، كما قال :

تنام عيناك والمظلوم منتبه

يدعو عليك وعين الله لم تنم

وأما في الآخرة ف (مِنْ وَرائِهِ) أي من خلفه ، كأن الزمان الماضي مقابل الإنسان والزمان المستقبل خلف الإنسان ، يأتيه فيلحقه (جَهَنَّمُ) فإنه إذا مات ، كان قبره حفرة من حفر النيران (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) الصديد القيح يسيل من الجرح ، وإنما سمي صديدا لأنه يصد حتى لا يسيل ، إن المكان الحار يتطلب الماء البارد ، لكن الجبار إذا طلب ذلك أتي بالقيح ، روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : يسقى مما يسيل من الدم والقيح من فروج الزواني ، في النار (١).

[١٨] (يَتَجَرَّعُهُ) أي يتكلف جرعه وشربه جرعة جرعة (وَلا يَكادُ) أي لا يقارب ـ بطبعه أن (يُسِيغُهُ) والإساغة إجراء الشراب في الحلق بسهولة ، أي لا يتمكن أن يشرب هذا الصديد ، لكن العطش المفرط يضطره إلى الشرب ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقرب إليه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عزوجل : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٢) ، ويقول : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ص ٢٤٣.

(٢) محمد : ١٦.

وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ

____________________________________

يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) (١) (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) حتى أنه لو كان ، بالإمكان أن يموت بمكان واحد منه ، إذ كيف حال من جوانبه الستة ، ممتلئة بالنار والعذاب وداخله هكذا صديد؟ (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) إذ لا موت حتى يستريح هناك ، فإنهم في جهنم خالدون (وَمِنْ وَرائِهِ) وراء هذا العذاب (عَذابٌ غَلِيظٌ) أشد منه وأغلظ.

[١٩] أما أعمالهم التي عملوها في الدنيا ـ ولو كانت حسنات في نفسها ـ فإنها لا تنفعهم يوم القيامة ، فليأخذوا الأجر ممن عملوا له ، فإن كل عمل لا يبنى على أساس الإيمان بالله وأمره ، لا يستحق العامل جزائه على الله (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) في الآخرة (أَعْمالُهُمْ) التي أتوا بها في الدنيا (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) أي توجهت ريح شديدة إليه ، فذرته في الهواء ، مما لا يبقي منه أثر (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) شديد الريح ، فكما أن أحدا لا يقدر على جمع ذلك الرماد في مثل هذا اليوم ، كذلك أعمال الكفار تنتشر وتذهب هباء لا يقدر أحد على جمعها حتى ينتفع بها (لا يَقْدِرُونَ) أي أولئك الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) أي من أعمالهم التي كسبوها (عَلى شَيْءٍ) لا قليل ، ولا كثير ، كما قال سبحانه في آية أخرى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ

__________________

(١) الكهف : ٣٠.

ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩)

____________________________________

هَباءً مَنْثُوراً) (١) (ذلِكَ) العمل الذي عملوه (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي الذهاب أبعد عن النفع ، فكأن العمل نفس الضلال ـ مجازا ـ بعلاقة الصفة والموصوف ، كقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (٢) أو المراد ، أن ضلال هؤلاء الكفار ـ المستفاد من المثل ـ هو الضلال البعيد ، مقابل الضلال القريب ، وهو ضلال العصاة ، من أهل التوحيد ، فإن الكافر أبعد عن الجادة المستقيمة ، من المؤمن العاصي.

[٢٠] إن عمل هؤلاء الكفار ، كالرماد المتطاير ، أما هم بأنفسهم ، فإنهم تحت سيطرة إله قدير ، يتمكن أن يذهبهم جميعا ، كما أذهب أعمالهم كالرماد ، فكفرهم وطغيانهم لا يخرجهم عن قدرته سبحانه وكيف يخرجون عن قدرة إله خلق السماوات والأرض ، إنها قدرة مدهشة ، لا يتمكن أحد أن يتحداها (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي ، والمراد بالرؤية العلم ، والاستفهام تنبيهي ، أي تفكر لكي تعلم (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فلم يكن خلقها عبثا واعتباطا ، وإنما لغاية وحكمة ومصلحة ، كالذي يبني المدرسة ، لمصلحة الناجحين من التلاميذ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يفنيكم ويميتكم أيها البشر ، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا لتأكيد القدرة ، حتى أن إفناء البشر كلهم ، والإتيان بمثلهم شيء هينّ معلق بإرادة واحدة.

__________________

(١) الفرقان : ٢٤.

(٢) هود : ٤٧.

وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ

____________________________________

[٢١] (وَما ذلِكَ) الإفناء والتجديد (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بممتنع أو متعسر ، فذلك له سهل يسير ، أليس خلق السماوات والأرض شاهدا على يسر ذلك عليه سبحانه؟

[٢٢] ثم ينتقل السياق ، بعد أعمال الكفار المتطايرة ، إلى مشهد آخر من مشاهد الآخرة ، يقع فيه النزاع والتخاصم بين الرؤساء ، والمرؤوسين والشيطان ، فقد أعزى بعضهم بعضا ، وهناك تنازع وتخاصم هذه الفئة تلك : لماذا أوصلتها إلى هذا المصير المرّ الأليم؟ (وَبَرَزُوا) أي ظهر الكفار يوم القيامة (لِلَّهِ) في ساحة عدله ـ تشبيها بظهور الخصماء أمام الحاكم في ساحات المحكمة في الدنيا ـ (جَمِيعاً) فليس أحد منهم غائبا ، حتى لا يتم الخصام ويؤجل إلى غد وبعد غد ، وحيث أن ذلك مستقبل متحقق الوقوع ، جاء بلفظ الماضي «برزوا» (فَقالَ الضُّعَفاءُ) التابعون لرؤساء الكفار (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحق ، وهم الرؤساء الذين رأوا في قبول الإيمان ذهابا لكيانهم ، وتنقيصا لرئاستهم فبقوا على الكفر ، وجروا إليهم الضعفاء ، (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ) أيها المستكبرون (تَبَعاً) أتباعا في الدنيا ، وتبع جمع تابع ، كغيب جمع غائب ، (فَهَلْ أَنْتُمْ) أيها الرؤساء (مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)؟ أي هل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب الله الذي قد نزل بنا ، فإن لم تقدروا على دفع الكل فادفعوا البعض ، جزاء لنا حيث اتبعناكم في الدنيا ، فإن التابع إنما يتبع ، لأن يدفع المتبوع عنه ضرا ، أو يجلب

قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ

____________________________________

إليه نفعا (قالُوا) أي قال الرؤساء المتبوعون في جواب استفهام التابعين (لَوْ هَدانَا اللهُ) في الدنيا (لَهَدَيْناكُمْ) لكنا ضللنا فأضللناكم ، فلا تبعة علينا ، إنما التبعة على من عنده ولا يعطي ، أما من ليس عنده فلا لوم عليه أن لا يعطي ، وهذا جواب فراري ، يريدون بذلك التخلص من أيدي الضعفاء الذين ضعفت نفوسهم ، فجعلوا أنفسهم عبيدا مقلدين لأولئك الرؤساء المستكبرين ، وإلا ، فالله سبحانه هداهم ، لكنهم أعرضوا ، كما قال سبحانه (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (١) أو المراد أنهم يقولون : لو هدانا الله هنا إلى طريق الوصول والخلاص من العقاب لأريناكم ذلك الطريق لتنجوا أنتم أيضا ، ولكن لا نعرف الطريق حتى نهديكم إليه ، ثم يعلن المتكبرون أن الأمر قد قضي وأنهم لا محالة في العذاب ، من غير فرق بين أن يصبروا أو يجزعوا ، فليس هناك كالدنيا يفيد الجزع حينا ، والصبر حينا (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) والجزع ضد الصبر (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي ليس لنا محيص ومهرب عن عذاب الله ، من حاص يحيص ، بمعنى حاد يحيد وفر عن المكروه.

[٢٣] وهنا يأتي الشيطان ليلوم أتباعه ، في أتّباعه ويتبرّأ منهم ، ويقطع بذلك آخر أمل لهم في النجاة ، فقد اتبعوا الشيطان في الدنيا ، فلعله يخلصهم بمكر أو حيلة ، مما يشاهدونه (وَقالَ الشَّيْطانُ) لأتباعه الذين اتبعوه في الدنيا فكفروا أو عصوا ، مما أوردهم النار في عاقبة الأمر (لَمَّا قُضِيَ

__________________

(١) فصلت : ١٨.

الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ

____________________________________

الْأَمْرُ) وفرغ الحاكم من الحكم على أتباعه بالنار والعذاب ، ولعل الإتيان بهذه الجملة ، بيان أنه لا يفيد شيء أصلا ، فقد انتهى الموضوع تماما ، (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ) أيها البشر العاصون ، إنكم إذا آمنتم وعملتم الصالح جزاكم بالجنة والنعيم (وَعْدَ الْحَقِ) لم يكن فيه باطل وكذب وخداع (وَوَعَدْتُكُمْ) أن لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا عقاب ، فافعلوا ما شئتم (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي كذبتكم ، ونسبة الخلف إلى نفسه ، للتشبيه بالذي وعده فيخلف ، للتقابل مع وعد الله سبحانه الذي يوفي ، وإلا فالخلف ليس من الشيطان ، وإنما اللازم أن يقول فكذبتكم في الوعد ـ أو على الأدق في الأخبار بأنه لا شيء هناك (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ) أيها العصاة (مِنْ سُلْطانٍ) تسلط وقهر ، فلم يكن امتثالكم أمري جبرا منّي لكم ، (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) إلى نقض أوامر الله ومخالفته (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وقد كانت دعوتي بالوسوسة والخفاء ، فلم تكن كدعوة الله سبحانه ببعث الرسل ونصب الحجج ، وإقامة الأدلة والبراهين وبيان المصالح في الأوامر والمفاسد في الزواجر ، والاستثناء منقطع إذ الدعوة لا تكون سلطانا وقد ذكرنا سابقا أن الاستثناء المنقطع إنما يؤتى به لفرض الكلام سابقا مطلقا ، ففي المقام ، كأنه قال «فلم يكن مني بالنسبة إليكم «إلا الدعوة» «أما السلطة فلا» (فَلا تَلُومُونِي) من الملامة ، أي لا تلقوا تبعة عقابكم عليّ (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فأنتم خالفتم الحجة بمجرد الوسوسة والإغراء حيث كنتم تعلمون أنه خادع زائف ، أما الحال

ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

____________________________________

فاعلموا أنه (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) من صرخ ، والإصراخ الإغاثة بإجابة الصارخ ، يقال : استصرخني فلان فأصرخته ، أي استغاث بي فأغثته ، والمعنى أنا لا أتمكن من إغاثتكم وخلاصكم من العذاب (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) وأنتم لا تتمكنون من إغاثتي من عذاب الله الذي يحل بي ، فإن للشيطان النصيب الأوفر من العذاب ، ولا مصرخ له ـ كلما يستغيث ـ فإن أتباعه يتبرءون منه ، كما تبرأ منهم ، ولا يتمكنون هم علاجا لأنفسهم فكيف يتمكنون من علاج للشيطان؟ أما الله وأنبيائه ، وسائر عباده الصالحين ، فهم أعداء الشيطان ، كما هو عدوهم ، فهل ينقذونه من العذاب ، (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أيها الأتباع ، أي إني جحدت ، الآن أن أكون شريكا لله تعالى ، فيما أشركتموني فيه ، فقد كان المشركون يشركون الشيطان عمليا مع الله سبحانه ، فيعملون قسما من أعمالهم حسب أمر الله ، وقسما أكبر حسب أمر الشيطان ، وهذا هو الشرك ، ثم قال لهم كلمته الأخيرة (إِنَّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم من الناس (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع ، فلا مناص ولا خلاص.

[٢٤] وإذ رأينا عاقبة الكفار ، وأنها التخاصم والنار ، فلننظر إلى عاقبة المؤمنين (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وبما أمر به من اتباع الرسول ، والإيمان بالمعاد وما أشبه ، من سائر الأصول الاعتقادية (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة ، بإتيان الواجبات ، وترك

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً

____________________________________

المحرمات ، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) فليس لهم عنها زوال (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) فإنه سبحانه يأذنهم بذلك ، حيث يريدون البقاء بعد الدخول (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) فيسلم بعضهم لبعض مقابل أهل النار الذين يخاصم بعضهم بعضا كما مرّ.

[٢٥] وإذا تم الكلام حول الفرق الخبيثة العاصية التي مصيرها النار ، والفرق الطيبة المطيعة التي مصيرها الجنة ، يأتي مثال للكلام الطيب والخبيث ليدل على أن مصائر الطيبات إلى ازدهار ونمو وتملك للحياة ومصائر الخبائث إلى الانهيار والمحو من الوجود وهكذا أجرت سنة الله ، وهذا المثال بدوره يقوي من عزائم الطيبين وإن رأوا بادي ذي بدء أن الخبيث كثير وأنه قد أخذ عرض الحياة وطولها (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله أو أيها الرائي ، والاستفهام تنبيهي يراد به الإلفات والتذكير ، والمراد بالرؤية العلم ، أي ألم تعلم ، وإنما يؤتى بلفظ الرؤية للدلالة على أن هذا العلم قريب من الرؤية فليس من الأمور الغامضة ، وإنما رؤية وحس (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي بين الله مثالا لكل خبيث وطيب ، وإنما تستعمل كلمة ضرب لأن المثل يصطدم مع الذهن فيوجد فيه تأثيرا وتمويجا لا يحصل ببيان أصل المطلب بدون المثل.

ثم بين سبحانه ذلك المثل المضروب بقوله (كَلِمَةً طَيِّبَةً) الكلمة تطلق على كل ما في الوجود لفظا كان ـ كما هو المتبادر منها ـ أم غير

كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)

____________________________________

لفظ حتى الإنسان يسمى كلمة ، كما قال سبحانه : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) (١) و (لِكَلِماتِ اللهِ) (٢) وفي الزيارة في وصف الأئمة «كلمة التقوى وأعلام الهدى» فإن الشيء الطيب إنسانا كان ، أو عملا أو لفظا ، (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي كالشجرة الزاكية النامية الراسخة أصولها في الأرض ، والسامقة فروعها في السماء ، فكما أن الشجرة الطيبة هكذا ، كذلك الكلمة الطيبة (أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) سامق عال فنرى الإنسان الطيب قوي الجذور في المجتمع كثير البقاء ، منتشر في النفوس ـ وإن كان الباطل منتفخا في المنظر ـ مضيقا عليه دروب الحياة في أيام وهكذا كل شيء طيب.

[٢٦] (تُؤْتِي أُكُلَها) الأكل الثمرة ، أي تعطي ثمرتها (كُلَّ حِينٍ) أي في جميع الأوقات (بِإِذْنِ رَبِّها) فإن الله سبحانه أذن وأجاز ذلك ، فإنه لو لا إجازته سبحانه لم تكن ولم تؤت ثمرا ، ولذا جاء بلفظ «الإذن» دون «الأمر» فإن الحياة لا تكون إلا بإذنه (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع فيهم من الفطرة السليمة ، وكم هذا المثل بالذات من القيمة ، فإن غالب الناس ـ في كثير من الأحيان ـ ينظرون إلى ما للباطل من جولة فيظنون أن الحق قد ذهب واضمحل ، ولكن

__________________

(١) النساء : ١٧٢.

(٢) الأنعام : ٣٥.

____________________________________

الأمر ليس كذلك بل الحق راسخ الأقدام عالي البنيان لا تزعزعه الأعاصير ولا العواصف وإنما يبقى ليثمر ويعطي الناس فوائده الطيبة.

والسر أن الحق يدخل القلوب بما أودع الله فيها من حب ذاتي للحق ، وكره ذاتي للباطل والباطل إنما يأخذ السطوح ، وما يبقى في القلب في أمن من الخطر والغير ، أما ما في السطوح فإنه يزول بأقل حركة ، ولذا قال الفرزدق للإمام الحسين عليه‌السلام : قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أميّة (١) وقد رأينا كيف زالت بنوا أمية لما وقعت من أيديهم السيوف ، وكيف بقي الحسين عليه‌السلام وفي الآية الكريمة : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (٢) وفي الزيارة «وفي قلب من يهواه قبره» أي قبر الإمام عليه‌السلام ، ولهذا السر بقيت أنبياء الله تعالى في الحياة بينما لم يبق من الجبارين أقل شيء ومن بقي ليلعن ويكون مسبة ومثلا للرذيلة ليتجنبها الناس.

وقد ذكرت الأحاديث تفسير الآية الكريمة بالرسول والصديقة والأئمة عليه‌السلام والشيعة لهم ، وذلك من باب أظهر المصاديق ـ كما بينا ذلك مكررا ـ فقد سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن الشجرة في هذه الآية؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلها وأمير المؤمنين عليه‌السلام فرعها ، والأئمة من ذريتهما أغصانها وعلم الأئمة ثمرتها وشيعتهم المؤمنون ورقها ، قال : والله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها (٣). أما العمل الطيب والكلمة الطيبة فإنهما يؤثران في الحياة السعيدة ويورقان ويزهران ويثمران كالحبة الصغيرة التي تصبح شجرة

__________________

(١) دلالة الإمامة : ص ٧٤.

(٢) إبراهيم : ٣٨.

(٣) الكافي : ج ١ ص ٤٢٨.

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)

____________________________________

كبيرة مورقة ، ولذا نرى العمل الطيب يبقى مثالا محفزا للخير ، والحكمة الجارية على لسان الصالحين تبقى لترشد وتسعد .. هذا بالاضافة إلى ما تعقبه الكلمة الطيبة ـ أيما كانت ـ من الذكر الجميل في الدنيا ، والسعادة الأبدية في الآخرة.

[٢٧] (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) قولا كانت أم عملا أم إنسانا (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) غير زاكية ولا نامية ، ولا راسخة الجذور ولا عالية الفروع ، وإنما هي كالشيء المفروش على سطح الأرض ، بلا أصول ولا فروع فلا مجال لها في أعماق الحياة ولا بقاء لها في مستقبل الأجيال ، وكأنها (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) أي اقتلعت جثتها من الأرض ، وإنما وصفت بهذا الوصف لبيان أنها لا بقاء لها ، حتى لا تستحق أن يقال عنها إنها ثابتة ـ ولو حين كانت ثابتة ـ أفلا تصير بعد أيام مجتثة؟ وهي اجتثت «من فوق» فلا جذور لها في الأعماق حتى تستحق أن يقال «من الأرض» (ما لَها) أي ليس لتلك الشجرة (مِنْ قَرارٍ) ثبات واستقرار ، فأقل ريح تنسفها ، وأصغر حركة تقلعها وما ورد من أن ذلك مثال لبني أمية ، فإنه من باب المصداق ، وقد صدق المثل فقد رأيناهم ، اجتثوا من فوق الأرض ، وذهبت دولتهم المنتفخة الخلابة ، حتى أنهم لا يذكرون إلا باللعن ، ولا يسجلون إلا لبيان مخازيهم.

[٢٨] وكما للشجرة الطيبة ثبات واستقرار كذلك للمؤمن الطيب أنه يثبته الله سبحانه ، ويجعله دعامة للحياة ، كما يؤول أمره إلى الخير والسعادة في الآخرة ، وكما ليس للشجرة الخبيثة ثبات واستقرار كذلك للظالم العاتي

يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)

____________________________________

أنه يضله الله سبحانه ، كالإنسان الذي لا ينتفع بشيء فإنه يلقيه مع النفايات ليذهب وينقطع أثره ، ولماذا يبقى؟ أنه لا ينتفع به حتى يتعاهده الإنسان (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يبقيهم أعمدة للحياة وأمثلة للمكرمات ، وإنما يبقيهم بسبب القول (الثَّابِتِ) الذي تمسكوا به من الإيمان بالله والعقائد الصحيحة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهم هاهنا ثابتون راسخون يعرفهم الناس ويقتدون بهم كأمثلة للمعاني الخيرة (وَفِي الْآخِرَةِ) فهم الشفعاء الحكام أصحاب الجاه الكبير في الجنة.

وفي الآية احتمال آخر ـ وإن كان الأول أنسب إلى السياق ـ وهو أن الله سبحانه يثبت المؤمنين على إيمانهم ، فلا تزحزحهم الفتن والانحراف بسبب القول الثابت الذي هو الإيمان وكلمة الشهادة فلا يمكن إضلالهم «في الحياة الدنيا» ولا يتلعثمون إذا حوسبوا «في الآخرة» لما انطووا عليه من الإيمان والإذعان (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بترك الإيمان ، فإنه سبحانه ينفيهم ويبعدهم ، ويتركهم حتى يغمروا في الجهالة والضلالة ، كما يترك الشجرة الخبيثة حتى تنقلع بسبب الرياح (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) مما أجرى سننه عليه من نصرة المؤمنين ، وإبقائهم ، وخذلان الظالمين وإضلالهم ـ وقد سبق مكررا أن المراد بالإضلال إذا نسب إليه سبحانه : ترك الشخص الذي لم يقبل الأمر حتى يضل ويفسد ـ وما ورد في جملة من الأحاديث من إثبات المؤمن عند الاحتضار أو في القبر على الشهادة

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨)

____________________________________

الحقة ، فإن ذلك من باب أحد المصاديق للآية الكريمة. فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث سؤال القبر فيقولان «منكر ونكير» له : من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول : الله ربي ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فيقولان : ثبّتك الله فيما يحبّ ويرضى ، وهو قول الله يثبت الله الذين آمنوا ، الآية (١).

[٢٩] وبمناسبة الحديث عن المؤمنين والظالمين يأتي السياق لبيان أنهم كيف ظلموا أنفسهم حتى ضلوا سواء السبيل (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي ، والمراد بالرؤية العلم ، والاستفهام تذكيري ـ كما تقدم ـ (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً)؟ أخذوا بدل النعمة الكفر ، فلقد كان مقتضى العقل أن يأخذوا النعمة بشكرها ، فأخذوا الكفر ، فكأن النعمة شيء قابل للأخذ ، فلم يأخذوها ، وإنما أخذوا مكانها الكفر ، وهذا عام يشمل كل من يترك النعمة ليأخذ مكانها الكفر ، فمن يترك الرسول ليتخذ مكانه الكفر ، ومن يترك الولاية لأهل البيت ليأخذ مكانهم الكفر بهم ، ومن يترك شكر النعمة ليأخذ مكانه الكفران بها ، وغيرهم من أمثالهم كل أولئك بدلوا نعمة الله كفرا وما ورد من تفسيرها بكفّار قريش فإنه من باب المصداق الظاهر.

والحقيقة أن النعمة لا تبدّل بالكفر ، وإنما الشكر للنعمة يبدل بكفرانها ، وإنما جيء بهذا المجاز ـ بعلاقة السبب والمسبب ـ تهويلا (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) فهم ـ الرؤساء ـ قد قادوا قومهم وأتباعهم

__________________

(١) تأويل الآيات : ص ٢٤٧.

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ

____________________________________

إلى دار الهلاك ، فإن البوار بمعنى الهلاك.

[٣٠] (جَهَنَّمَ) بدل من دار البوار (يَصْلَوْنَها) أي يصلاها الذين بدلوا مع أقوامهم ، واللفظة حال عن الفاعل والمفعول في «أحلوا قومهم» (وَبِئْسَ الْقَرارُ) جهنم ، فإنها مقر سيّئ.

[٣١] لقد استبدل هؤلاء الكفار بنعمة الرسول ودعوته إلى التوحيد كفرا فتركوا الدعوة والوحدة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) جمع ند ، وهو المثل ، أي أمثالا في العبادة ، فعبدوها كما عبدوا الله تعالى (لِيُضِلُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أي سبل الآلهة الباطلة ، واللام للغاية ، وإن لم يقصد الإضلال المضل ، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) والظاهر بقرينة ـ وأحلوا قومهم ـ أن المراد بمن «جعل» القادة الكبراء.

(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكافرين الجاعلين لله أندادا (تَمَتَّعُوا) قليلا في هذه الحياة بالتنعم من متعها ، والمراد به التهديد ، وإن كان في صورة الأمر (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) فإنكم ـ بكفركم ـ إليها تصيرون.

[٣٢] وانصرف يا رسول الله عن هؤلاء الكفار ، وولّ وجهك تلقاء المؤمنين و (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وما جئت به (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) استمروا على أدائها ، وجزم يقيموا ، لأنه وقع في جواب الأمر ، أي أن

__________________

(١) القصص : ٩.

وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ

____________________________________

تقل لهم يقيموا (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) مختلف الأرزاق ، رزق العلم ، ورزق الجاه ، ورزق الأولاد ، ورزق المال ، وغيرها (سِرًّا وَعَلانِيَةً) فإن الإنفاق كذلك دليل على رسوخ ملكة الإنفاق في النفس ، بخلاف من ينفق في وقت دون وقت (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) أي هو يوم القيامة ، أو يوم موت الإنسان (لا بَيْعٌ فِيهِ) فلا يمكن الإنسان أن يبيع شيئا ليشري نفسه من العذاب (وَلا خِلالٌ) أي لا الصداقة ، فإن الصديق لا ينفع هناك صديقه في نجاته من العذاب ، أو المراد ادخروا الأعمال الصالحة ليومكم ذاك فإن ذلك اليوم لا يكون فيه نماء بتجارة أو صداقة ، وإنما يستعمل الإنسان نتائج أعماله السابقة.

[٣٣] إن الكفار تركوا عبادة الله الواحد ، وأخذوا الأنداد ، مع أنه سبحانه هو المتفرد بالملك ، وليس معه من شريك (اللهُ) هو (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أنشأهما وأبدعهما وأوجدهما من كتم العدم (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي جهة المطر (ماءً) بإنزال المطر (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بسبب ذلك الماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أيها البشر ، وإنما قال من الثمرات ، لأن جميعها لا تكون أرزاقا للبشر ، فقسم منها يسقط ويتلف ، وقسم منها يصير رزقا للبهائم والحيوانات ، والمراد بالرزق أعم من المأكول والملبوس والمفروش وسائر ما ينتفع به الإنسان

وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ

____________________________________

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) أي السفن والمراكب ، حيث تحملكم على ظهر الماء من محل إلى محل ، بأن جعل الماء بحيث لا تغرق فيه السفينة (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) سبحانه لأنه المهيّئ لوسائل الجريان من رخاء الماء ، وجري الهواء ، أو دفع الحرارة ـ في السفن البخارية وشبهها ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ) أيها البشر (الْأَنْهارَ) المياه الجارية ، لتجري إليكم من كل مكان ، ولو كانت المياه راكدة ، لم ينتفع بها كثير من الناس إلّا بصعوبة.

[٣٤] (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما وسيرهما لمنافعكم ، فإن الإنسان ينتفع بالشمس في ضوئها وحرها ، للدفء ونضج الثمار وغير ذلك ، كما ينتفع بالقمر في ضوئه ـ ليلا ـ وتأثيره الطبيعي في بعض الأشياء ، كالجزر والمدّ ، وتقويمه الحساب للسنين والشهور والأيام ، إلى غيرها (دائِبَيْنِ) أي في حال كونها مستمرين في عملهما ، شروقا وغروبا ، مدى السنين والأزمان (وَسَخَّرَ لَكُمُ) لمنافعكم (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) تستريحون في الليل وتعملون في النهار مع ما لهما من المنافع للأبدان والأرواح ، بعدم الضجر والملل من استواء الحالة ، وغير ذلك.

[٣٥] (وَآتاكُمْ) أعطاكم سبحانه (مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) من مال وأولاد ،

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ

____________________________________

وأزواج وصحة وأمن وغيرها ، من الأسئلة التي لا تحصى كثرة يسألها الإنسان من الله تعالى فيعطيها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) التي أنعم بها عليكم ، من كل صغيرة وكبيرة (لا تُحْصُوها) أي لا تقدرون على إحصائها ، كيف والإنسان لا يتمكن من عدّ ما في بدنه فقط ـ من النعم ـ فقد ذكروا أن في بدن الإنسان اثنتي عشرة ألف قوة تشتغل ليل نهار ، أما علماء الغرب فقد ذكروا أن كل قطرة من الإنسان فإنها تحمل اثني عشر مليون من الحيوانات المجهرية الصغيرة ، ومن المعلوم أن كل واحدة منها نعمة ، وبهذا الشبه قالوا في كل ذرة من ذرأت الجسم ، والنعمة اسم أقيم مقام المصدر ، ولذا لا يجمع ، ثم أليست كل هذه النعم من الله سبحانه؟ فلما ذا يتخذ الإنسان إلها دون الله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) صيغة مبالغة أي كثير الظلم لنفسه ولغيره (كَفَّارٌ) أي كثير الكفر لنعم الله تعالى ، فإن الكفر بمعنى الستر وعدم الشكر للنعم.

[٣٦] وإذ سبق وجوب شكر النعمة وذم كفرانها ، وظهر مصير المؤمن والكافر ، فلننظر إلى نموذج من الإنسان المؤمن ، كيف آمن وشكر ، وكيف كان كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، في مثال قريب إلى أذهان البشرية جمعاء ، وإلى أذهان أهل مكة بصورة خاصة ، وقد جرى دأب البلغاء أن يعقبوا الحكم الكلي والقاعدة العامة بمثال واضح ليتركز الحكم في الذهن ، ويتشوق الذهن إلى الانطباع بمثله ، والاقتداء به ، (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) في دعائه مع الله سبحانه (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي مكة ، وذلك اليوم لم يكن

آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ

____________________________________

بلدا ، وإنما علم إبراهيم بأنه سيصبح بلدا (آمِناً) أي محل أمن ، لا يسودها الفوضى والاضطراب ، كما قال سبحانه ، وقد استجاب دعاء إبراهيم عليه‌السلام : (جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (١) فقد كانت مكة آمنة ، بينما كانت حواليها مضطربة بالسلب والنهب والقتل والسفك.

(وَاجْنُبْنِي) أي بعّدني ، من جنّبه بمعنى بعّده (وَبَنِيَ) أي بعّد بنيّ ـ أولادي ـ (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) معنى هذا الدعاء ألطف علينا بلطفك حتى لا نعبدها ، لا ابتداء ، ولا استمرارا ، فلا يقال أن إبراهيم لم يكن يعبد الأصنام ، فما معنى هذا الدعاء؟ والظاهر أن مراد إبراهيم عليه‌السلام من «بني» أولاده من صلبه ، أو الأنبياء والأوصياء منهم ومن في سلسلتهم ، فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي عليّ ، لم يسجد أحد منا لصنم قط فاتخذني الله نبيا وعليا وصيا (٢).

أقول : وقد وردت روايات وأطبقت عليه الشيعة على أن في سلسلة النبي والإمام لا يكون كافر إطلاقا ، وعلى ما تقدم فلم يكن دعاء إبراهيم عليه‌السلام عامّا لجميع ذريته ، وإلا فقد كان من نسله من عبد الأصنام ، كبني إسرائيل الذين عبدوا العجل ، وغيرهم كأبي لهب.

[٣٧] يا (رَبِّ إِنَّهُنَ) يعني الأصنام وإنما أتى بضمير العاقل تماشيا مع المعتقد السائد عند المشركين من زعمهم أن الأصنام لها عقول

__________________

(١) العنكبوت : ٦٨.

(٢) أمالي الطوسي : ص ٣٧٨ مجلس ١٣.

أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

____________________________________

(أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) من عباد الأصنام وإنما نسب الإضلال إليها لأنها السبب في ذلك ، فلو لا الأصنام لم يضل الذين عبدوها بهذا النوع من الضلال ، ويتبين من هذا أن عبادة الصنم في ذلك الدور كان شيئا كثيرا حتى أن إبراهيم عليه‌السلام تخوف على ولده من الانجراف والانحراف.

(فَمَنْ تَبِعَنِي) من الناس في إيماني وأعمالي ، بأن آمن وعمل صالحا (فَإِنَّهُ مِنِّي) لي ما له وعليّ ما عليه ، وهذا هو المراد من قولنا «فلان من فلان» يعني على لونه ومزاياه ، وإنه مشترك معه في الحكم حسنا أو قبيحا (وَمَنْ عَصانِي) فلم يتبع طريقتي وسبيلي (فَإِنَّكَ) يا رب (غَفُورٌ) ساتر لمعاصي العباد (رَحِيمٌ) بهم ترحمهم وتتفضل عليهم ، ولا يقال أنه كيف قال إبراهيم ذلك مع أن الكفار ليسوا بقابلين للغفران؟ إذ الجواب : أن من عصى أعم من الكافر ، فإنه يشمل المؤمن العاصي ، ولم يقل إبراهيم غفور له في الآخرة ، فإن في الدنيا يرحم الله الكفار ويستر كثيرا من سيئاتهم ، وكأنه عليه‌السلام أراد بذلك أن يستعطف الله سبحانه ، بأن يفعل بالعاصي ما يمكن أن يفعله من الغفران والرحمة.

[٣٨] ثم قال إبراهيم عليه‌السلام في دعائه (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي جعلت لبعض ذريتي السكن ومحل الاقامة (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي أرض غير مزروعة ، وقد أراد بذلك إسماعيل عليه‌السلام حيث أنه جعل

عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ

____________________________________

هناك إسماعيل وأمه هاجر ، دون إسحاق وأمه سارة ، فقد كانا عنده قرب فلسطين ، حيث مخيمه ومضيفه وماشيته ، وقد أمر الله سبحانه إبراهيم بهذا الإسكان ، عند البيت لينتشر البلاغ والدعوة من هناك ، وقد كان إبراهيم يتراوح بين مكة وفلسطين ، وقد صار ما قدره الله سبحانه من انتشار الدعوة من هناك ، ولعلّ جعل إسماعيل الصغير وأمه هاجر ، في تلك الصحراء القفر الموحش حكمة جلب أنظار المارة ، ومن حولهم ـ بعيدا ـ في الأخبية من البدو النزل ، إلى هذا البيت ، فيكون ذلك سببا للهداية فإن الفطرة البشرية تعطف على المظلوم والغريب والكسير ومن إليهم ، مما يهيئ الجو المستعد للبلاغ والإرشاد.

(عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وإنما قال عليه‌السلام عند بيتك ولم يبين بعد ، لأن البيت كان سابقا على إبراهيم ولذا ورد أن آدم عليه‌السلام حج البيت ، وإنما خرّب بعد ذلك حتى ذهب أثره ، إما بفعل الطبيعة ، أو بعض الأشخاص كما قال بعض المفسرين أنه خربه «طسم» و «جديس» وإضافة البيت إليه سبحانه تشريفي ، ووصف البيت بالمحرم لأنه لا يجوز الوصول إليه إلا بالإحرام ، أو بمعنى العظيم الحرمة ، أو لأنه يحرم فيه بعض الأشياء كالصيد وما أشبه.

(رَبَّنا) إني قد أسكنتهم هناك (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) ولعلّ المراد إقامتها بإرشاد الناس إليها ودعوتهم إلى الصلاة ، لا أنهم يصلونها ، فإن ذلك كان ممكنا حتى عند غير البيت ، أو المراد أن كونهم في البيت هو الذي يحفزهم على إقامة الصلاة ، فإن الإنسان إذا كان في مراكز القدس ، يمثل نفسه إلى الابتهال والاتصال بالله سبحانه ، بخلاف

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)

____________________________________

الإنسان الذي هو بعيد فإن المحيط يوحي بما يحمل معه من المعاني الخيرة أو الشريرة (فَاجْعَلْ) يا رب (أَفْئِدَةً) جمع فؤاد ، وهو القلب (مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي تميل إليهم وتهواهم ، وذلك سبب لتعمير البيت أولا ، وإقبال الناس على الحق ثانيا ، وسيادة الذرية ثالثا ، ومن المعلوم أن من المرغوب فيه أن يكون أبناء الإنسان سادة ، سواء للدين أو الدنيا ، كما قال سبحانه حكاية عن المؤمنين (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (١) هذا بالإضافة إلى إصلاح أمور معايشهم إذا هوتهم الأفئدة فاختلف الناس إليهم.

(وَارْزُقْهُمْ) يا رب (مِنَ الثَّمَراتِ) ولعل هذا الدعاء كان لأجل أن مكة لجدب أرضها لا تنبت ثمرا ، إلا أن يشاء الله أن يؤتي إليها بالثمار ، وقد استجاب الله كل دعاء إبراهيم عليه‌السلام التي منها هذا الدعاء ، فإن مكة إلى هذا اليوم يجبي إليها ثمرات كل شيء ، فالحاج يرى هناك من أنواع الثمار المجبية من أطراف الأرض ما يدهشه (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي لكي يشكروا نعمك ويعرفوا فضلك فيفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة ، و «لعلّ» ، علة لما تقدّمه من أدعية إبراهيم عليه‌السلام أي افعل بهم كذا وكذا لكي يشكروا ، أو رجاء أن يشكروا فإن الإنسان جبل على شكر المنعم.

[٣٩] ثم يظهر إبراهيم عليه‌السلام أن دعائه بتلك الدعوات ليس لمظاهر ريائية ، وإنما الأدعية انقطاع إليه سبحانه ، وتضرع وطلب من الله ، وكيف

__________________

(١) الفرقان : ٧٥.

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ(٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)

____________________________________

يمكن لإبراهيم عليه‌السلام أن يريد المظهر في دعائه أو يجد الرياء إلى عمله سبيلا ـ كبعض الداعين ـ وهو العالم بأن الله سبحانه يعلم ما خفي وما علن؟ (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي) في نفوسنا ، أو نخفيه عن الناس (وَما نُعْلِنُ) بإظهاره أمام الملأ ، فلا نفعل شيئا إلا لك ومن أجلك ، في حال نراك رقيبا علينا تعلم خفايانا (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فهو المطلع على كل شيء ، ولعل ذكر هذه الأدعية هنا ، للتعريض بكفار قريش حيث استجاب الله فيهم دعاء إبراهيم ، فالحرم آمن ، والثمرات تجبى ، والقلوب تهوى محلهم ، مع ذلك هم يكفرون بالله ، ولا يقيمون الصلاة ، وأعمالهم رياء ومكاء وتصدية.

[٤٠] ثم أخذ إبراهيم عليه‌السلام في الشكر ، فإن الشكر مفتاح إجابة الأدعية ، إذ الشاكر يزاد والكفور يزاد ، كما قال سبحانه (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (١) فقال عليه‌السلام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي كبر سنّي (إِسْماعِيلَ) ابن هاجر (وَإِسْحاقَ) ابن سارة (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي يسمع دعاء من دعاه ، وليس كسائر العظماء لا يسمعون إلا دعاء بعض الناس لهم ، أو المراد بسميع الدعاء ، أنه يستجيب ، لأنه ربما يكون كناية عنه.

__________________

(١) إبراهيم : ٨.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ

____________________________________

[٤١] يا (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) بأمر الناس لها والإرشاد إليها ، أو المراد أدم توفيقك لأكون في المستقبل مقيما كما كنت في الماضي كذلك ، مثل (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) اجعلهم مقيمين للصلاة ، ودخول «من» هنا وفي قوله عليه‌السلام «من الناس» إما للنشوء والجنس أي أفئدة من هذا الجنس ، واجعل من جنس ذريتي فيكون الدعاء عاما ، ولا منافاة بين دعاء الخير للعموم وإن علم الإنسان أنه لا يستجاب إلا لبعض ، كما في الدعاء : «اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات» وإما للتبعيض وإنما دعاه للبعض ، لأنه علم عدم الاستجابة بالنسبة إلى الكل (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي دعائي ، وحذف ياء المتكلم تخفيفا ، لدلالة الكسرة عليه.

[٤٢] (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) والمراد بالغفران الستر ، وذلك لا ينافي عدم العصيان فإن للمعصومين عليهم‌السلام حالات مباحة ، بل راجحة هي دون شأنهم لا يحبون أن تظهر للملأ ، كما أن كل أحد فهو قاصر أو مقصّر بالنسبة إلى مقامه سبحانه ، وإن صرف كل وقته في طاعته ، كما نجد هذا بالوجدان فيما لو استضاف الإنسان ملكا وهيّأ له كل إمكاناته ، مما كانت قاصرة عن شأن الملك ، فإنه يعتذر ويطلب غفرانه ، وعلى هذا يحمل (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ) (١) وأمثال ذلك ـ على وجه ـ والتفصيل في علم الكلام (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) يدخل فيهم المؤمنات ، وإنما أتى بالمذكر تغليبا (يَوْمَ يَقُومُ

__________________

(١) الفتح : ٣.

الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ

____________________________________

الْحِسابُ) أي يقوم الخلق للحساب ، فالإسناد مجاز عقلي.

[٤٣] وإذ يفرغ الكلام حول المثال بالنبي العظيم إبراهيم عليه‌السلام ، للعبد الصالح لله سبحانه يرجع السياق نحو (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) فلا يظن أولئك أنهم عملوا ما شاؤوا بلا رقيب ولا حساب ، بل أنهم يؤخّرون حتى يأتي دورهم يوم القيامة (وَلا تَحْسَبَنَ) أي لا تظنن يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه التفكر في أمثال هذه الشؤون (اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) بأنفسهم ، أو بغيرهم ، فإن الله سبحانه عالم بكل حركة وسكون منهم ، وأن كل أعمالهم تكتب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وإنما لا يعجّل بالأخذ والانتقام لمصلحة مقررة ، وأن يثيب المظلوم ، ويظهر ما في نفس الظالم ، لئلا يكون له حجة (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) أي الظالمين يؤخر عقابهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) شخوص البصر ذهولها وعدم غمضها ، فإن يوم القيامة لا يدع المجرم أن يغمض بصره ، بل هو كالإنسان المسافر الذي لا يهدأ ، شاخص نحو الأهوال الجارية في القباحة ليرى ماذا يصنع به؟.

[٤٤] في حال كون الظالمين (مُهْطِعِينَ) الإهطاع الإسراع ، أي يسرعون إلى هنا وهناك لعلهم يجدون شفيعا أو مخلصا (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) الإقناع رفع الرأس ، أي رافعين رؤوسهم إلى السماء ليروا ماذا ينزل من طرفها حيث يرون الآيات الهائلة المتتالية التي تنزل من طرف العلو ،

لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا

____________________________________

أو المراد ناكسي رؤوسهم ـ قيل وهو لغة قريش ـ كما قال سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (١) ولا تنافي فإن مواقف القيامة كثيرة ، ففي موقع يكونون هكذا ، وفي موقع هكذا (لا يَرْتَدُّ) أي لا يرجع (إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي عينهم فإنهم لا يطبقونها ولا يغمضونها ، إذ هي مفتوحة مذهولة مبهوتة (وَأَفْئِدَتُهُمْ) أي قلوبهم (هَواءٌ) أي مجوّفة لا تعي شيئا للخوف والفزع ، شبهت بهواء الجو ، وذلك لأن الإنسان الخائف لا تحضر نفسه لفهم شيء حيث توجهت جميع حواسه إلى ذلك الخوف الهائل.

[٤٥] (وَأَنْذِرِ) يا رسول الله (النَّاسَ) عن (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) هو يوم القيامة ، أو يوم الموت ، فإن العذاب يشرع من هناك ، أو المراد عذاب الدنيا حين الاحتضار ونحوه (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر أو العصيان (رَبَّنا أَخِّرْنا) أي أرجعنا إلى الدنيا ، أو مدّ في أعمارنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي مدة قصيرة (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) «نجب» مجزوم بكونه جواب الأمر ، أي إن تؤخرنا نجب دعوتك وأوامرك (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما قالوا وأمروا ولكن هيهات أن يردّوا أو يؤخروا ، لأنهم استوفوا مدتهم ، ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وهنا يتوجه الخطاب إليهم بالتقريع (أَوَلَمْ تَكُونُوا) أيها الظالمون

__________________

(١) السجدة : ١٣.

أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ

____________________________________

(أَقْسَمْتُمْ) حلفتم (مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) وانتقال عن دار الدنيا إلى دار الآخرة ، ومن نعيم الدنيا إلى جحيم العذاب؟ فهل كان ذلك صحيحا؟

[٤٦] (وَسَكَنْتُمْ) أيها الظالمون (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قبلكم فلم تعتبروا بأحوالهم ، فكيف تطلبون الآن أن نؤخركم إلى أجل قريب حتى تتوبوا؟ فإن كانت نفوسكم مستعدة للتوبة ، لتبتم قبل هذا اليوم حيت رأيتم مساكن الظالمين ، وسكنتم فيها (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من الإهلاك والاستئصال (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) على لسان الأنبياء والصالحين ، فقد بينوا لكم أخبار الماضين من قبلكم كيف عتوا عن أوامر الله سبحانه ، وكيف أن الله سبحانه عاقبهم وأخذهم ، فلم ينفع فيكم ذلك ، أو المراد ضرب المثل عملا بإهلاك الطغاة وإبادتهم عن الوجود.

[٤٧] ثم يأتي السياق لبيان ما يفعله الكفار فعلا من المؤامرات ضد الإسلام والرسول والمؤمنين (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي اتخذوا تدابيرهم الخفية ، ما أمكنهم ذلك ، فلم يدعوا بابا من أبواب المكر إلا طرقوه ، والعموم يستفاد من قوله «مكرهم» الظاهر في أنهم أتوا بغاية ما تمكنوا من المكر ، ويحتمل أن يكون المراد : أن الكفار مكروا بالأنبياء عليهم‌السلام

وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)

____________________________________

قبلك يا رسول الله ، كما مكروا بك ، فعصمهم الله من مكر الكفار ، فيكون تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما يفعله هؤلاء به.

(وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أنه محفوظ لديه سبحانه ، غير خاف عليه ، فلا يمكن أولئك أن ينفذوا مكرا دون أن يعلمه الله سبحانه ، وهذا كقولك لمن خاصمك : عندي ما تفعله ، تعني إنك مطلع عليه ، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان مطلعا على طرق مكر الخصم ، لا يتمكن الخصم من إغفاله ، وإنفاذ مكره به (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) في غاية العظم والدقة بحيث لو أنفذوها على اقتلاع الجبال الراسيات (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) لكنه لا ينفذ بالنسبة إلى أنبياء الله عليهم‌السلام ومن في زمرتهم لأن الله مطلع يحبطه فلا يتمكنون من إضرار الأنبياء بذلك المكر ، ولا يقال : إذا كان كذلك فكيف تمكن بعض الأمم من إنفاذ مكرهم على الأنبياء حتى قتلوهم أو شردوهم؟ فالجواب : إن الذي أراده الأنبياء إنما هو تنفيذ منهاج السماء في الناس وقد تمكنوا من ذلك ، أما أشخاصهم فلم يكن للأنبياء همّ في بقاء حياتهم ، بل بالعكس من ذلك إن غاية آمال الأنبياء والأئمة لقاء الله سبحانه قتلا ونحوه ، كما قال الإمام عليه‌السلام :

وإن كانت الأبدان للموت أنشأت

فقتل امرء بالسيف في الله أفضل (١)

__________________

(١) ديوان الإمام علي عليه‌السلام : ص ٣١٥.

فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)

____________________________________

وقال علي عليه‌السلام : «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بمحالب أمه» (١) وقال عليه‌السلام : «لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ» (٢) وفي القرآن الحكيم : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٣) وقال سبحانه : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) (٤) إلى غير ذلك.

[٤٨] أنه ليس لمكر هؤلاء أثر فإن الله سبحانه يحبطه وينصر رسله (فَلا تَحْسَبَنَ) أي لا تظنن يا رسول الله أو أيها المتدبر في الأمور ، من كل من يمكن أن يتأتى منه هذا الظن ، وإن كان الخطاب للرسول فليس النهي لأن الرسول كان يظن ذلك بل للتنبيه على أن هذا المكر لا ينفذ ، على طريق المجاز ، أو طريق الكفاية ، نحو إياك أعني (اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) الوعد الذي وعده إياهم بقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٥) ، وأيّ نصر أعظم من أنهم باقون في القلوب مورد احترام البشرية ، يذكرونهم بكل تجلّة ، ويزورونهم ومن يمتّ إليهم ، بينما ذهبت الفراعنة والجبابرة حتى لم يبق لهم اسم ، ومن بقي فهو للعن والبراءة وليكون مثلا للظلم والطغيان ، ليجتنب سبيله الناس.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب قاهر ، (ذُو انتِقامٍ) ينتقم من كل ظالم جبار في الدنيا قبل الآخرة كما نرى التاريخ الغابر والحاضر مليء بالشواهد والأمثلة ، فإنه سبحانه لا يدع الظالم بلا جزاء ، ولا يذر

__________________

(١) الاحتجاج : ج ١ ص ٩٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٢٣٣.

(٣) التوبة : ١١١.

(٤) الجمعة : ٧.

(٥) غافر : ٥٢.

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩)

____________________________________

الماكر بلا عقاب.

[٤٩] إن عدم الخلف ، أو الانتقام ، إنما هو (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) أو أن العامل فيه محذوف تقديره ، اذكر يا رسول الله ، ولعل هذا أقرب إلى المعنى ، وإن كان الأول أقرب إلى اللفظ (غَيْرَ الْأَرْضِ) وتبدل (وَالسَّماواتُ) غير السماوات ، بمعنى أنهما يصبحان في غير شكلهما المألوف الحالي ، فإن الجبال تدك ، والأرض تسوى حتى لا ترى عوجا ولا أمتا ، والبحار تسجر ، والشمس تنكسف ، والقمر ينخسف ، والنجوم تكدر ، إلى غيرها من آيات القيامة.

(وَبَرَزُوا) أي ظهر الجميع ، أو الظالمون ـ حيث أن الكلام في الآيات السابقة حولهم ـ (لِلَّهِ) أي أمام حكمه وعدله كما يظهر المتخاصمان أمام الحاكم ، عند المحاكمة (الْواحِدِ) فلا شريك مزعوم هناك ، ولا أحد يحكم إلا هو (الْقَهَّارِ) الذي يقهر الظالمين ، فلا مجال للتملص والتخلص.

[٥٠] (وَتَرَى) يا رسول الله أو أيها الرائي (الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا وعملوا السّيئات (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي مجمعين في الأغلال قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم ، أو مصفدين بعضهم مع بعض ، من التقرين وهو جمع الشيء إلى نظيره ، والأصفاد جمع صفد وهو الغلّ الذي يقرن به اليد مع

سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ

____________________________________

العنق ، أو مطلق السلسلة.

[٥١] (سَرابِيلُهُمْ) جمع سربال وهو القميص ، أي ألبستهم (مِنْ قَطِرانٍ) وهو شيء أسود لزج منتن يقبل الاحتراق سريعا ، يطلى به الجمل الأجرب ، أي أن ألبستهم من هذا الجنس حتى تكون النار فيهم أسرع لكونها أسرع في الاشتعال وأبلغ في شدة العذاب (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تحيط النار بوجوههم حتى تكون على الوجه كالغشاء ، وبيان ذلك بالخصوص لما يعلمه كل إنسان من أن الوجه يتأذّى بأقل شيء من الألم فكيف بالنار المحيطة بها كالغشاء.

[٥٢] وإنما يفعل سبحانه بالمجرمين هذا العذاب المدهش (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فقد كسبت أنفس الظالمين في الدنيا الظلم والمكر فليذوقوا جزاء أعمالهم ، ولا يظن ظان أن عذاب الآخرة بعيد ف (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فقد قال الإمام عليه‌السلام : كل آت قريب والموت أقرب ، وها نحن ننظر أين أولئك الذين عارضوا الرسول؟ أو عارضوا الوصي والصديقة والزكي والشهيد وغيرهم ممن تقدم من الأنبياء عليهم‌السلام والصالحين أو تأخر من الأئمة عليهم‌السلام والمتقين؟ أليس الكل قد ماتوا ونالوا نصيبهم من العذاب ـ ومن مات قامت قيامته ـ.

[٥٣] (هذا) القرآن (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي تبليغ لهم ، حتى يأخذوا حذرهم ، وإلا فعن قريب يلاقون هذا المصير المهول (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) فهو بلاغ

وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)

____________________________________

لكل وعد ووعيد وحكم وعظة ، بصورة عامة ، كما أنه جيء به لينذر الناس ، فيأخذوا حذرهم ـ وإنما أتى بهذا الخاص بعد ذلك العام لأنه مورد الكلام في الآية السابقة ـ (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ، مما قد كان مصب كلام السورة ، وإنما يعلموا بالقرآن لأنه يبين لهم الحجج والأدلة فلا يقال أن الإذعان بالقرآن متوقف على الإذعان بالإله فكيف يمكن أن يكون الإذعان بالإله متوقفا على الإذعان بالقرآن؟ (وَلِيَذَّكَّرَ) من تذكّر «باب التفعّل» ثم أدغمت التاء في الذال ، وجيء بهمزة الوصل لاستحالة الابتداء بالساكن (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي يتعظ أصحاب العقول ، فإن ألباب جمع لب ، وهو العقل ، وإنما خصص بهم تنبيها على أن غير المتعظ إنما هو مجنون ، حيث ترك الآخرة العظيمة لشهوات زائلة ، والله العالم وهو العاصم.

تقريب القران إلى الأذهان

الجزء الرّابع عشر

من آية (١) سورة الحجر

إلى آية (١٢٩) سورة النحل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

(١٥)

سورة الحجر

مكيّة / آياتها (١٠٠)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحجر» وهو اسم البلد الذي كانت فيه قبيلة «ثمود» قوم صالح عليه‌السلام وهذه السورة تدور حول العقيدة ، وعاقبة المكذبين بما أرسل به المرسلون ، كغالب السور المكية. ولما ختم سبحانه سورة «إبراهيم» بكون القرآن بلاغا ، ابتدأت هذه السورة بذكر «القرآن» مع التناسب الكلي بين السورتين في استعراض العقيدة وعاقبة الكاذبين بها.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين بالله الرحمن الرحيم في أمورنا ونجعله بدء أعمالنا ، ليكون عونا لنا ، في ختم العمل ، وأن يطبع بطابعه ، فإن ما لمسته رحمة الله العظيم ، لا يكون إلا صالحا باقيا ، موجبا للسعادة ولنستمطر شآبيب رحمته ، فيرحمنا بلطفه وإحسانه.

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)

____________________________________

[٢] (الر) ألف ، ولام ، وراء (تِلْكَ) ومن هذا الجنس من الحروف تتركب (آياتُ الْكِتابِ وَ) آيات (قُرْآنٍ مُبِينٍ) واضح لا لبس فيه ولا غموض ولا التواء ، وقد ذكرنا غير مرة أن «فواتح السور المقطعة» فيها احتمالات : أحدهما ما ذكرنا ، والآخر أنها رموز بين الله سبحانه والرسول ، وهناك احتمالات أخر ، يمكن الجمع بين كثير منها ، وعلى الاحتمال الأول ف «الر» مبتدأ و «تلك» خبره ، وتأنيث الإشارة باعتبار أن المقصود «حروف ، الر».

وقد تكرر «الر» في فواتح السور ، بينما كان بالإمكان أن «ج م د» مثلا ، أو غيره ، ولعل لسرّ أن الرمز الحاوي له «الر» كان مهما يحتاج إلى التأكيد ، كتكرار بعض الآيات : نحو (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) ، أو لعله كان ذلك تعبيرا عن حروف الهجاء ، كما أن «الضاد» تعبير عن لغة العرب ، فيقال لغة الضاد ...... وإنما قال : «آيات الكتاب وقرآن» بعطف القرآن على الكتاب مع أنهما واحد ، لإفادة أنه يكتب ويؤلف ، فإن القرآن من قرأ وهو بمعنى الجمع والتأليف ، وكأنه أكثر تأكيدا في مقام التعجيز ، أو من جنس «أ ، ل ، ر» كتبت وألفت هذه السور والآيات فكيف لا تقدرون على الإتيان بمثله ، إذا لم يكن من جانب الله؟ وهكذا كما يقول المهندس متحديا سائر زملائه : إني من «الآجر ، والحديد ، والجص» صنعت هذا البناء وألفت هذا القصر فاصنعوا مثله؟ ـ والله أعلم بمراده ـ.

[٣] وإذ كذب بهذا الكتاب والقرآن المبين بعض الناس ، بعد أن عجزوا عن

__________________

(١) الرحمن : ١٤.

رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ

____________________________________

الإتيان بمثله فسيأتي يوم يندمون على كفرهم وتكذيبهم ، ويتمنون أن كانوا مسلمين في الدنيا غير مكذبين ، حتى لا ينالهم العذاب الشديد (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) «ربّ» مشدّدة ، وتخفف كثيرا إذا دخلت على «ما» الكافّة ، وهي لفظة تأتي عقب رب ليصلح دخولهما على الفعل والا فإن «رب» تدخل على الاسم ، فإنها من حروف الجر ، أي ربما يتمنى الكفار الإسلام في الآخرة حيث رأوا عذاب الكافرين ونعيم المسلمين.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : ينادي المنادي يوم القيامة يسمع الخلائق أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم فثم يودّ سائر الخلائق أنهم كانوا مسلمين (١) ، ثم أن الظاهر كون رب للتكثير أي كثيرا ما يودون ذلك ، فإن الإنسان المعذب يتمنى كثيرا إن كان عمل عملا لا يؤديه إلى هذا العذاب الذي هو فيه ، ولكن لا ينفع التمني والندم هناك.

[٤] إن ذلك تهديد للكفار ، بأن ورائهم هذا اليوم ، ويأتي تهديد آخر ، في صورة الأمر استهزاء (ذَرْهُمْ) أي دع يا رسول الله هؤلاء الكفار ، واتركهم وشأنهم (يَأْكُلُوا) ما شاءوا من الحرام والحلال (وَيَتَمَتَّعُوا) باللذائذ والشهوات ، كما يشتهون من غير ارتقاب العاقبة وعدم النظر إلى متعتهم هل هي جائزة أو محظورة (وَ) ذرهم (يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) من «ألهاه» بمعنى أشغله ، و «الأمل» توقع سعادة الدنيا في المستقبل ، أي تشغلهم آمالهم الدنيوية الزائلة عن التفكر في مصيرهم في الآخرة ،

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٣٩.

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)

____________________________________

والتجهّز له بالأعمال الصالحة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وبال ذلك في ما بعد ، حين ما عاينوا جزاء أعمالهم ، إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلما دعاهم ولم يقبلوا ، فليدعهم حتى يلاقوا مصيرهم السيئ.

[٥] فلا يغرنّ هؤلاء الكفار تأخير العذاب عنهم ، وأنهم عاجلا لا يرون جزاء تكذيبهم ، فقد جرت سنة الله سبحانه ، أن لا يهلك أمة إلا في الوقت المقدّر المحدّد (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي من بلد ، والمراد بها أهلها ، بعلاقة الحال والمحل (إِلَّا وَلَها كِتابٌ) أي وقت وسمي الوقت كتابا لأنه يكتب أجلهم هناك ، فهو مجاز بعلاقة الظرف والمظروف ، إذ المدة مكتوبة في الكتاب (مَعْلُومٌ) لدى الله سبحانه ، فلا يأخذ القرية قبل انتهاء مدتهم ، ومن المحتمل أن يراد أن هذا قبل قرب وقت تعذيبهم ، لأنه جاءهم الكتاب السماوي ، وبين لهم الأحكام ، وقد جرت سنه الله أن يأخذ الظالمين بعد البيان ، كما قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).

[٦] (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) أي لم تكن أمة تسبق (أَجَلَها) فتهلك قبل الوقت المحدّد لموتها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا تتأخر أمة عن أجلها المقدر لها ، بأن تهلك بعد الأجل ، فلو كان أجل أمة في يوم الجمعة لا تسبقه بأن تموت الخميس ولا تتأخر عنه بأن تموت يوم السبت ، وكأنه جاء بلفظ «الاستفعال» لإفادة أن الأمة لا تطلب التأخير ، لأنها تعلم بأن الأجل لا يتأخر ، وهذا لبيان حتمية الأجل حتى أنه لا موقع لطلب التأخير.

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)

____________________________________

وما ورد من أن الأدعية والصدقات وما أشبههما تؤخر الأجل (١) ، فالمراد أنها تؤخر الأجل المعلق ، لا الأجل المحتوم ، ومعنى الأجل المعلق ، أنه لو لا هذه الصدقة لكان يموت في الخميس ، لكن الله يعلم أنه يصّدّق فيموت يوم الجمعة.

[٧] لقد جاء لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب والقرآن المبين وبصّرهم وأقام عليهم الحجة ، لكن الكفار لم يذعنوا لذلك كله بل أخذوا في الفساد واللجاج راكبين رؤوسهم مستهزئين بالرسول (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) قالوا ذلك استهزاء وإلا فقد كانوا ينكرون نزول الذكر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) حيث تزعم مزاعم المجانين ، بأنك أوحي إليك ، وإننا سوف نكون لك تبعا ، وهكذا يلجأ المبطلون إلى رمي المصلحين بالجنون وما أشبه ، إذ لم يتمكنوا من رد حججهم الصحيحة ، ولم يحروا جوابا لما يرشدون إليه من الإصلاح.

[٨] (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) أي لماذا لا تأتينا بملائكة يشهدون بصدق دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك إنك نبي مأمور من عند الله سبحانه ، فإن النبي يقدر على كل شيء.

لكن حجتهم هذه كانت تافهة إلى أبعد الحدود ، فإن النبي إنما يثبت نبوته بالخارقة وقد أثبت النبي بإتيان القرآن ، اما أن يأتي بكل خارقة تتخيلها أدمغة المعاندين ، فإن ذلك عبث لا طائل تحته ، إن

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٤ ص ٢٢٢.

ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)

____________________________________

المطالبين بإنزال الملائكة وما أشبه إن كانوا منصفين كفاهم الدليل ، وإن كانوا معاندين لم يكفهم ألف دليل ، فلما ذا يأتي النبي بالملائكة ، وها نراهم يقولون للنبي في آية أخرى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١).

[٩] لكن القرآن يردهم بأسلوب آخر ، هو أن الملائكة لا ينزلون إلا للعذاب والهلاك ، فهكذا اقتضت مشيئة الله سبحانه ، حتى في بدر نزلت الملائكة لعذاب الكفار ، فإذا أنزلنا الملائكة عذبوهم وأهلكوهم فلا يستفيدون من إنزال الملائكة شيئا ، وقد جرت سنة الله كذلك في القرون الماضية والأمم الخالية (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) لا للعبث واللغو ، كما يطلبه هؤلاء فإن إجابة المعاند بعد إثبات الحجة عليه لغو وعبث (وَما كانُوا إِذاً) حين نزول الملائكة (مُنْظَرِينَ) أي مؤخرين ممهلين ، بل الملائكة إذا نزلت فإنما تنزل للعذاب والهلاك فهل يريدون هلاك أنفسهم بهذا الطلب؟ ثم ألم نر الكفار يوم بدر رأوا الملائكة بعيونهم ، ولكنهم لم يؤمنوا وقالوا أنه سحر؟

[١٠] إنهم إن كانوا صادقين في طلبهم الحجة ، فأية حجة أقوى من القرآن الحكيم ، الذي مع كبره وسعته وإنه بلغتهم عاجزون عن إتيان سورة من مثله ف (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) وسمي القرآن ذكرا لأنه يذكّر الإنسان بالعقيدة والنظام مما فطر في جبلة الإنسان لكنه ذهل عنه (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من التغيير والتحريف والزيادة والنقصان ، والذي أعتقده

__________________

(١) الأعراف : ١٣٣.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ

____________________________________

وفاقا لغير واحد من علمائنا الأخيار أن هذا القرآن الذي هو بأيدينا اليوم بين الدفتين هو عين ما أنزل بلا أيّ تغيير أو تبديل وإن السور والآيات إنما رتبت كما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان النزول مختلفا ، والرسول لم يفعل هذا الترتيب إلا بأمر الله سبحانه ، كما قال سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) وهكذا كان اعتقاد والدي قدس‌سره ، كما ذكره في نشرة «أجوبة المسائل الدينية» الكربلائية ، وذكرت طرفا من الكلام في أوائل نشرة «الأخلاق والآداب» الكربلائية ، في تفسيري لسورة الحمد وبعض سورة البقرة.

وربما يتعجب الإنسان من هذه التأكيدات الواردة في هذه الآية ، وهي اثنتي عشرة أو أكثر «إن» و «نا» بضمير الجمع و «نحن» تكريرا وجمعا و «نزل» بالتفعيل و «نا» جمعا و «إن» و «نا» و «له» باللام و «لام» لحافظون و «إتيانه جمعا» وكون الجملتين اسميتين.

[١١] ثم يسلي سبحانه الرسول أن لا يضيق باستهزاء المستهزئين ، فقد كانت عادة الأمم أن يستهزءوا بالرسل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله رسلا (فِي شِيَعِ) جمع شيعة وهم الطائفة من الناس الذين يتبعون طريقة معينة ، من المشايعة بمعنى المتابعة ، فكان كل جماعة يتبعون مسلكا ورئيسا لذلك المسلك ومخترعه (الْأَوَّلِينَ) أي الأمم السابقة ، فقد أرسل في كل فرقة من السابقين رسول.

[١٢] (وَ) قد كان دأبهم أنه (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) «من» زائدة تدخل في

__________________

(١) النجم : ٤ و ٥.

إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)

____________________________________

المنفي لإفادة التعميم ، حتى لا يظن أن عموم النفي مجاز (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والاستهزاء دائما حيلة العاجز عن الحجة حيث يريد تحطيم خصمه ، وهذا كالتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لا يهتم باستهزائهم فإن ذلك عادة الأمم كافة بالنسبة إلى رسل الله سبحانه.

[١٣] ولكن إنما لا نأبه باستهزاء هؤلاء الكفار بالقرآن ، فاللازم في الحكمة أن نتم عليهم الحجة ، وإن استهزءوا به وعلمنا أنهم لا يؤمنون (كَذلِكَ) الذي ذكر (نَسْلُكُهُ) أي القرآن (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) يقال سلكه وأسلكه إذا أدخله ، يعني إنا في هذه الحالة الاستهزائية ، ومع هذا الواقع السيء لدى المكذبين ، ندخل القرآن في قلوبهم ، حتى تتم الحجة عليهم.

كما إذا قيل لك أنك كيف تفعل كذا والحال أن جماعة ينتقدون عليك؟ تقول : هكذا نعمل ، تريد أنك تعمل وإن جلب العمل الانتقاد.

[١٤] إنهم (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) هذا كالبدل لقوله «كذلك» أي إنهم مع عدم إيمانهم بالقرآن واستهزائهم لك نلقي عليهم الحجة (وَقَدْ خَلَتْ) أي مضت (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) طريقة الأمم السابقة ، في أنهم لم يكونوا يؤمنون بالأنبياء عليهم‌السلام ويستهزئون بهم ومع ذلك كنا نلقي عليهم الحجة ، فالطغاة المكذبون من عنصر واحد ، وهم أشباه في كل زمان ومكان ، وليس تكذيبهم واستهزائهم سببا لكفّنا عن الإرشاد والبلاغ ، سواء في ذلك السابقون أو من في زمانك يا رسول الله.

وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً

____________________________________

[١٥] إن هؤلاء الكفار لا يريدون الإيمان ، ولو أقيم لهم ألف دليل ، أما ما طلبوا من إنزال الملائكة ، فإنه حجة للعناد لا للتفهم فإنهم معاندون لا يؤمنون (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المشركين (باباً مِنَ السَّماءِ) بأن رأوا أن موضعا من السماء كالباب يمكن المرور منه.

(فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي أخذوا طوال نهارهم يصعدون إلى السماء من ذلك الباب ، لم يفدهم هذا الإعجاز الذي لمسوه في أن يؤمنوا.

[١٦] بل (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي سدت وغطيت كالإنسان المسحور الذي يرى غير الواقع واقعا لما عمل فيه من السحر والشعوذة (بَلْ) ليس لهذا الشيء من واقع وإنما (نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرتنا فظننا أن للسماء بابا وإننا أخذنا نصعد فيه ، إذن فهل يكفي إنزال الملائكة لإيمان هؤلاء؟.

[١٧] أخذ سبحانه يعدّد الأدلة على وجوده سبحانه ، وذلك بتعدد الآيات الكونية ، التي تشهد كل واحدة منها ، على وجود إله قدير حكيم عالم (وَلَقَدْ جَعَلْنا) أي خلقنا وأبدعنا (فِي السَّماءِ بُرُوجاً) جمع برج ، وأصله الظهور ، ومنه يسمى شرفة الحصن برجا ، لأنه ظاهر منه من بعيد ، وسمى بروج السماء بروجا ، لظهورها قال الصادق عليه‌السلام : اثنى عشر برجا (١).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ١١٥.

وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧)

____________________________________

أقول : لقد قسموا السماء إلى اثني عشر قسما يسمى كل قسم برجا ويميز بين البرج والبرج بالكواكب الموجودة في كل واحد منها.

والبروج هي : «حمل» و «ثور» و «جوزاء» و «سرطان» و «أسد» و «سنبلة» و «ميزان» و «عقرب» و «قوس» و «جدي» و «دلو» و «حوت» ففي كل برج عدة كواكب لو ربطت بينها بخيوط لصارت بصورة هذه الأشياء (وَزَيَّنَّاها) أي السماء (لِلنَّاظِرِينَ) الذين ينظرون إليها ، ولو لم تكن فيها الكواكب لم تكن ذات زينة وجمال.

[١٨] (وَحَفِظْناها) أي حفظنا السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي مرجوم مرمي ، ويوصف الشيطان بهذا الوصف لأنه يرمى باللعن ، أو لأنه إذا حاول دخول السماء رجم بالشهب كما يرمى المجرم بالحجارة ، فالسماء مع جمالها الظاهري بالكواكب جميلة معنى بطهارتها عن دنس الشيطان ولوثه ، فلا منفذ للأبالسة في السماء ، وإنما محلها الأرض ، ومن أين تبدأ هذه السماء التي ليست محلا للأبالسة لم نعرفها بعد.

نعم دلّ العلم الحديث ـ كما يظهر من الأحاديث أيضا ـ أن محل الشياطين إنما هو الطبقة فوق الأرض بعد بضعة أذرع ، ولذا كره تعلية البنيان (١).

ثم أن الظاهر أن في السماوات ملائكة مطهرون ، لا يقترب منهم الشيطان بالوسوسة ، فعدم دخول الشيطان في السماء ، لأجل عدم

__________________

(١) أنظر كتاب على حافة الأثيري.

إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها

____________________________________

اقترابه من أولئك الملائكة المنزهين عن المعاصي الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

[١٩] (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) من الشياطين ، والسرقة عبارة عن أخذ الشيء خفية ، وكما أن من يسرق المال يأتي إليه خفية لئلا تراه العيون ، كذلك الشيطان الذي يريد استراق المسموع ـ وهو المراد بالسمع ـ أي الكلمة التي تسمع وتدار في عالم الملكوت ، والاستثناء من «حفظناها» أي أن السماء محفوظة إلا من الشيطان السارق وكان هناك تدبّر أمور الأرض ـ كالبلاط الذي يدبّر فيه أمور المملكة ـ والشياطين يريدون الاطلاع على ما يدبّر هناك ، فيذهب بعضهم للعلم من الكلمات التي تدار بين الملائكة ، لكن ذهابهم خفية ، حتى يسرقوا بعض الكلمات ، ولو سمع واسترق (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أي لحقته شعلة نار ظاهرة لأهل الأرض ، كما نرى من الشهب ، لأجل طرده ، الشهاب كما يراه الإنسان شعلة من نار تتحرك مسافة ثم تنطفئ وما يقوله علماء الفلك من أن هذه الشهب أحجار ترمى من أعالي الجو ، وتشتعل بالحركة ، لا ينافي ما ذكر فإن سبب رميها ـ لو صح ما قالوا ـ إنما هو طرد الشياطين ، وفي بعض الأحاديث أن الشياطين كانت تخترق السماوات حتى ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمنع عن ذلك.

[٢٠] تلك هي السماء ونجومها وحفظها ، والشياطين الصاعدة إليها ، والشهب المنقضة منها ، فلنعطف إلى الأرض (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها وجعلناها طويلة عريضة لتقبل السكن وسائر لوازم الإنسان

وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ

____________________________________

(وَأَلْقَيْنا) أي جعلنا (فِيها رَواسِيَ) جمع راسية وهي الجبل ، وإنما قال «رواسي» لأنها السبب في اضطرابها في الماء وعدم تفتتها كما ترسو السفينة في الماء وتستقر (وَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) في دقة وإحكام وتقدير ، فالنبات ليس اعتباطا حجمه وشكله ولونه وسائر مزاياه ، بل كل ذلك بالوزن والتقدير ، وليس المراد بالوزن ـ معناه الخارجي ـ بل تشبيه بالموزون الذي ليس فيه زيادة ونقصان ، يقال فلان شخص موزون ، أي دقيق الصفات متساوي الجهات ، لا زيادة في حركاته وسكناته ولا نقصان.

[٢١] (وَجَعَلْنا لَكُمْ) أيها البشر (فِيها) أي في الأرض (مَعايِشَ) جمع معيشة ، وهي آلة العيش ، والبقاء من مأكل ومشرب ومسكن وملبس وغيرها (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على لكم ، أي جعلنا لكم الرزق كما جعلنا للعبيد والبهائم الرزق ، وإنهم ممن نرزقهم ، لا أنتم ترزقونهم ، فإن الإنسان يظن أنه يرزق من تحت يده ، وهو خطأ بل الإنسان أضعف الأسباب بين ألوف الأسباب التي هي المؤدّية للرزق إلى الحيّ ، أو المراد أن من ليس تحت يدكم من الطيور المحلقة في الهواء ، والأسماك السابحة في الماء والحيوانات السارحة في الغبراء ، كلها نرزقها نحن.

[٢٢] وبمناسبة الحديث عن الرزق ، فليعلم البشر أنه ليس برزاق ، ولا من عنده أسباب البقاء بل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) أي ما من شيء من الرزق وغير

إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ

____________________________________

الرزق (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) فهي تخرج من خزائن الله سبحانه ، وذلك تشبيه بالخزينة التي يدخر فيها الملوك النقود والمجوهرات يعني أن مصدره منا وإنا نحن نعطيه (وَما نُنَزِّلُهُ) أي ننزّل ذلك الشيء ، والتنزيل هنا بمعنى الإتيان من جانب إله رفيع ، فإنه قد يستعمل في الرفعة الحسية ، نحو نزلت من السطح ، وقد يستعمل في الرفعة الحقيقية ، نحو نزلت من عند الملك ـ كما تقدم سابقا ـ.

(إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) حسب المصلحة ، فليس ما يشاهده الإنسان من النبات الكثير في الصحراء الكبيرة والمياه الزاخرة في الأنهار التي تصب في البحار ، والحشرات الكثيرة في الأرض ـ إلى غيرها ـ بلا قدر وتعداد وميزان ، بل كلها بقدر معلوم لدى الباري سبحانه ، وقد خلق الله سبحانه هذا الكون وهو الذي يديره ، فالشمس والماء وأملاح الأرض والهواء تولد النبات ، وليس النبات إلّا مركبا من هذه الأشياء ، وإنما يجمع بينها ويعطي صورة النبات ، ثم يهيج ويفنى برجوع كل جزء إلى أصله ، وهكذا دواليك تجمع وتفرّق ، فالشمس من الخزائن ، والماء من الخزائن ، وهكذا .. وقد حصر القدماء هذه الخزائن الأولوية في أربعة «الماء» و «النار» و «التراب» و «الهواء» فسبحانه من إله عليم قدير.

[٢٣] ومن تلك الخزائن : الرياح والماء ، وإن شئت قلت من تلك الأشياء لا ينزلها الله سبحانه إلا بقدر معلوم (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وهذا كبيان لكيفية إنزال الأشياء وصنعها ليكون معيشة للبشر ، والرياح إنما

فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)

____________________________________

تتولد ـ بقدرة الله سبحانه ـ من الهواء المخلوق حيث يمده الحر ويقلصه البرد ، فيأتي من هنا إلى هناك ليملأ الفراغ ، فهي من إرادة الهواء ، كما أن من إرادة الماء أن يصعد ماء البحر إلى الهواء ثم ينزل مطرا ثم يسيل عيونا وأنهارا حتى ينتهي إلى البحر ليصب فيه ، وهكذا ، لواقح جمع لاقحة ، أي تلقح السحاب بالمطر ، فإن من المعلوم أن الرياح تأتي بالأمطار ، ولذا فرع عليه سبحانه (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر ، ويحتمل أن يراد تلقيح الهواء للأشجار ، ثم إنزال الماء ، ليأتي النبات بالثمر.

(فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) «الهاء» يعود إلى الماء ـ والظاهر من هذا التفريع كون الاحتمال الأول هو المقصود ـ أي أسقيناكم ذلك الماء المنزل من السماء ، والمراد من السماء جهة العلو (وَما أَنْتُمْ لَهُ) أي للماء (بِخازِنِينَ) فلستم أنتم أحرزتموه في البحر أولا ، ثم في أعماق الأرض ثانيا ، ثم في العيون والأنهار ثالثا ، حتى توصلتم إليه واستعملتموه في حوائجكم ، بل كل ذلك بفعله سبحانه وقدرته العظيمة ، كما قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١) وقد يزعم بعض الناس أنه ما فائدة هذه الإدارة في الماء مع ما نرى أن الأنهار تصب في البحار كما كانت سابقا؟ وهذا جهل محض فهل أن الماء خلق للشرب أو سقي الحيوان والنبات فقط؟ إن من فوائد الأنهار تلطيف الأجواء وتجميل الأرض للناظرين ، وهما

__________________

(١) الحجر : ٢٢.

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ

____________________________________

حاصلان ، وإن لم يشرب أحد قطرة ولم ينتفع بالماء حيوان أو نبات.

[٢٤] وإذ تبين أن الأمور الكونية بيد الله سبحانه ، فلنعطف ، إلى لون آخر من الأمور ، وهي الأحياء ، فإن خزائن الحياة والموت أيضا له سبحانه (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) وإنا لا نعلم من الحياة والموت إلا المظاهر أما المهية فلا يعلمها إلا الله سبحانه ، والأشياء كلها وإن كانت مجهولة الهوية حتى الماء والهواء ، لكن الحياة أغمض مهية ، وأبعد عن الفهم حقيقة ، ومن زعم أن الطاقة أيضا تحت قدرة الإنسان فقد أخطأ ، إذ الإنسان لا يأتي إلا لسبب واحد من عشرات الأسباب المتسلسلة لإيجاد هذا المسبب ـ أي الموت ـ وكون ما يأتي به الإنسان سببا ـ أيضا ـ بجعله سبحانه (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) الذين نرث الأرض وما عليها بعد فناء الجميع

[٢٥] وإذ كانت الحياة بيد الله سبحانه ، فلا ينفع أن يستقدم أحد الموت أو يستأخره ، لأنه (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (١) (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) الذين يطلبون تقديم موتهم وتعجيل أجلهم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) الذين يطلبون تأخير موتهم عن موعده المقرر ، فالموت والحياة بيدنا ، ونعلم من يريد تقديم أجله أو تأخيره ، وأن الحشر إلينا.

[٢٦] (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (هُوَ يَحْشُرُهُمْ) الحشر هو الجمع ، أي

__________________

(١) الحجر : ٦.

إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)

____________________________________

يجمعهم ليوم القيامة (إِنَّهُ حَكِيمٌ) في أفعاله يفعلها حسب المصلحة (عَلِيمٌ) بكيفية الإدارة وما يصدر من كل إنسان ، فكل شيء بقدرته وعمله ، وكل شيء يجريه حسب المصلحة.

[٢٧] ثم بعد تلك المقدمات العامة حول الكون وخلق السماء والأرض وأن بيد الله كل شيء من حياة وموت وحشر ، يأتي السياق ليبين قصة البشر الذي من أجله خلق الكون والذي هو المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب وبعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي البشر ، والمراد آدم عليه‌السلام وحواء عليه‌السلام (مِنْ صَلْصالٍ) أي طين يابس يسمع له عند النقر صلصلة أي صوت من صلّ إذا صوّت (مِنْ حَمَإٍ) هو جمع حمأة وهو الطين المتغير إلى السواد (مَسْنُونٍ) من سننت الماء بمعنى صببته ، أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة ، فإن طين آدم صب على شكله حتى صار صلصالا ، فالصلصال من الحمأ المصبوب.

[٢٨] (وَالْجَانَ) اسم لأبي الشياطين ، على وزن «فاعل» اسم فاعل من «جن» بمعنى استتر وإنما يسمى الشيطان جانّا ، لأنه يجن ويستر عن الأبصار ، والمراد بالشياطين غير المراد بالجان ، فهما قسمان من خلق الله سبحانه يطلق على كل واحد منهما الجان لاستتارهما عن الأبصار (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) السموم هي الريح الحارة التي تدخل المسام للطفها وحرارتها ، أي أن الجان خلق قبل آدم ، من نار بهذا القسم ، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة

وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨)

____________________________________

لفائدة التنويع فإن السموم نار وريح ، والتي خلق منها إبليس هي هذا القسم من النار ، لا النار الغليظة الخليطة ، روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : الآباء ثلاثة آدم ولّد مؤمنا والجان ولّد مؤمنا وكافرا وإبليس ولّد كافرا وليس فيهم نتاج إنما يبيض ويفرخ وولده ذكور وليس فيهم إناث (١) ، وكان المراد كون طبيعة الإنسان الإيمان لما أودع فيه من فطرة التوحيد.

[٢٩] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ) أي سأخلق ، فإن اسم الفاعل يأتي بمعنى المستقبل (بَشَراً) أي هذا الجنس ، قيل وسمي الإنسان بشرا ، لظهور بشرته ـ أي جلده ـ بخلاف سائر الحيوانات (مِنْ صَلْصالٍ) طين يابس (مِنْ حَمَإٍ) أصل ذلك الصلصال من طين مائل إلى السواد (مَسْنُونٍ) أي مصبوب ذلك الصلصال ، قال بعض المفسرين : إن هذه القصة كررت في سورة البقرة أولا ، ثم سورة الأعراف ثانيا ، ثم هنا ثالثا ، ونقطة التركيز مختلفة في هذه المواضع كما أن الأسلوب والسوق مختلف ، ففي سورة البقرة كانت نقطة التركيز استخلاف آدم في الأرض ، وفي الأعراف رحلة الإنسان الطويلة من الجنة وإليها وإبراز عداوة إبليس ، وهنا سر التكوين في آدم وسر الهدى والضلال. أقول : ولعلّ السرّ في لزوم التركيز على مبدأ الإنسان لئلا ينحرف الناس نحو آراء «دارون» ومن إليه.

__________________

(١) الخصال : ج ١ ص ١٥٢.

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)

____________________________________

[٣٠] (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي صنعت هذا البشر ، بأن أتممت صورته وقالبه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الإضافة تشريفية ، أي من الروح التي هي من قبلي ، والأشياء كلها من قبل الله ، ولكن ربما يضاف شيء إليه لبيان شرافته ، كما أن البيوت كلها له ، لكن يضاف البيت الحرام إليه تشريفا ، كما أن الاضافة في (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) (١) كذلك ، وإن كانت الأشياء كلها كلمات الله ، والنفخ هو إجراء الريح في الشيء باعتماد ، ولو كان النفخ بآلة أو ضغط الهواء ، كما أنه هو المراد هنا ، (فَقَعُوا) الفاء عاطفة ، و «قعوا» أمر من وقع يقع ، نحو «قفوا» (لَهُ) أي لآدم (ساجِدِينَ) أي وقوعا بهيئة السجود.

[٣١] وضع الله آدم ، ونفخ فيه من روحه ، حتى جاء دور السجود من الملائكة (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وإنما جيء بهذا التأكيد بعد التأكيد لأمرين :

الأول : التأكيد على استيعاب الملائكة ، فإن الذهن الأولي يستبعد أن الملائكة على كثرتها الخارجة من الفكر ، واختلاف أعمالها ، وتفرق جهاتها ، تجتمع كلها للسجود فيظن أن العموم مجازي ، وذلك لا يرفعه حتى تأكيد واحد ، ألا ترى إنك لو قلت استقبل الفقيه من في المدينة كلهم ، لا يكاد يظن الإنسان إلا أن المراد ب «كل» الأغلب ، لاستبعاد أن يستقبله كل من في المدينة من رجل وامرأة ومسلم وذمي ،

__________________

(١) النساء : ١٧٢.

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)

____________________________________

إلى غير ذلك.

الثاني : التلميح إلى قبح عمل الشيطان ، إذ لو لم يكن بعض الملائكة سجد ، كان مخالفة الشيطان هيّنا ، أما وقد وقع سجود الجميع ، وبقي هو وحده مخالفا فالأمر من البشاعة بمكان.

[٣٢] (إِلَّا إِبْلِيسَ) مع شمول الأمر له ، وإن لم يكن من الملائكة ، فإنه (أَبى) وامتنع (أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) لآدم عليه‌السلام.

[٣٣] (قالَ) الله سبحانه لإبليس (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي أيّ شيء لك في عدم كونك مع الساجدين؟ وعلى هذا فالجار هو «في» محذوف من «ألا» وهو شائع مطرد ، قال ابن مالك :

والحذف في أنّ وإن يطرد

مع امن لبس ، كعجبت أن يدو

ثم أن سؤاله سبحانه لم يكن إلا لإظهار كبر إبليس وتمرده ، وإلا فهو عالم بجهة عدم سجوده.

[٣٤] (قالَ) إبليس في جوابه سبحانه (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) أي ليس من شأني السجود (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ) طين جاف ، كان صنع (مِنْ حَمَإٍ) طين مائل إلى الغبرة (مَسْنُونٍ) مصبوب ، وذلك لأني من النار والنار أشرف من التراب فكيف يخضع الأشرف للأخسّ؟

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧)

____________________________________

[٣٥] (قالَ) الله سبحانه لإبليس ، وإذ تكبرت وخالفت الأمر (١) (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (فَإِنَّكَ) يا إبليس (رَجِيمٌ) مطرود ملعون ترجم باللعن.

[٣٦] (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) يقال لعنه بمعنى طرده وعذبه أي إنك معذّب مطرود من الخير (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي إلى يوم القيامة ، فإن «الدين» بمعنى الجزاء ، وكون الشيطان طريدا بمعنى أنه يمنع عن السماء ، ويمنع عن اقتراب أماكن مقدسة وأشخاص ذاكرين كما ورد أن الإنسان إذا بسمل طردت الملائكة الشياطين عنه إلى غير ذلك ، ولفظة «عليك» لإفادة معنى الضرر ، وتقديمه على «اللعنة» لأنّ الكلام حول الشيطان ، وقد تقرر في البلاغة البدء بما سيق الكلام له ، فإذا أردت تعداد الشعراء ـ مثلا ـ تقول : الشاعر زيد وخالد ، وإذا أردت تعداد فضائل زيد تقول : زيد شاعر وكاتب.

[٣٧] (قالَ) الشيطان لما رأى ما ناله من الخزي يا (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي أمهلني في الدنيا ، ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؟ أي يوم القيامة الذي فيه يبعث ويحيى الخلائق ، لعله أراد بذلك أن لا يذوق الموت أصلا حيث أن يوم القيامة لا موت بعده.

[٣٨] (قالَ) الله سبحانه في جوابه (فَإِنَّكَ) يا إبليس (مِنَ الْمُنْظَرِينَ)

__________________

(١) لا أريد بمثل هذا التفسير إلا تفسير الحالة والمستفاد من اللفظ ، لا العبارة والدقة ، حتى تكون النسبة وما أشبهها كذبا.

إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ

____________________________________

لا يلازم هذا أن يكون هناك عدة أشخاص منظرين يكون إبليس أحدهم ، وذلك لأن الإتيان بالجمع من أبواب البلاغة ، كأن المراد أن هذا من ذلك الجنس وإن لم يكن في الخارج منه إلا واحد ، ولذا جرت العادة أن يقول الإنسان : قال المفسرون ، أو كذا يقول الحكماء ، أو وجدت في كتاب الفقهاء ، وهو يريد أن هذا الكلام صادر من ذلك الجنس ، إلا أن جماعة منهم قالوا : أو يقال أن الملائكة منظرون فإبليس منظر كأحدهم.

[٣٩] (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الوقت المعلوم هو بين النفختين ـ كما ورد عن الصادق عليه‌السلام (١) ـ فالمعنى إنك تبقى إلى ذلك اليوم.

[٤٠] ولما عرف إبليس بأنه منظر إلى ذلك الوقت (قالَ) يا (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بسبب إغوائك لي والإغواء هو الدعاء إلى الغي والضلال ، يقال له الإغواء إذا أثر وصار المدعو ضالا منحرفا ، وقد كان إبليس كاذبا في مقاله ، فإن الله سبحانه لم يغوه ، وإنما هو تكبّر وحسد مما سبب طرده ، بينما أراد الله سبحانه كرامته بأمره بالسجود ، إلا أن يريد بالإغواء تهيئة الأسباب التي تؤدي إلى ذلك ، مجازا ، نحو ومن يضلل الله ، أو عدم اللطف القاهر به حتى لا ينحرف (لَأُزَيِّنَنَ) المعاصي (لَهُمْ) أي لأبناء آدم ـ المعلوم من السياق ـ وذكر فوائدها ، وإغفالهم عن مضارها حتى يرتكبوها ، وأكون قد أخذت انتقامي بذلك من آدم الذي صار سببا لطردي (فِي الْأَرْضِ) أي يقع التزيين مني في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١٣٢.

وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)

____________________________________

الأرض (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أضلهم وأحرفهم عن طريق الصواب ، وكان هذا من إبليس غلطا آخر إذ لو فرض أن آدم هو السبب فما ذنب ذريته؟

[٤١] (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ) أي من أولاد آدم (الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام اسم مفعول أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم عن الآثام ، فإنهم لا يعمل كيدي فيهم.

[٤٢] (قالَ) الله سبحانه في جواب إبليس (هذا صِراطٌ عَلَيَ) أي أن صراط الحق عليّ أن أراعيه ، فإن إبليس لما قال أنه يغوي الناس إلا المخلصين ، فهم منه أن هناك صراط من تعداه كان غاويا ، فقال سبحانه عليّ أن أراعي هذا الصراط وهو (مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف فيه ، أما من انحرف فلا أبالي به ، وهذا كما لو قال أحد لمدير مدرسة : إنّي أغوي تلاميذك عن تحضير الدرس ، فيقول : «هذه المدرسة عليّ ، أما من أغوى فليس عليّ شيء منه ، والطلاب الأذكياء يتبعون المنهاج» والفقرة الأخيرة مثل قوله سبحانه.

[٤٣] (إِنَّ عِبادِي) الحقيقيين (لَيْسَ لَكَ) يا إبليس (عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي سلطة وقدرة حتى تحرفهم وتغويهم (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) الاستثناء منقطع ، وكأنّ الأصل «إن الناس لا تتسلط عليهم» «إلا من غوى» «أما العباد فلا تقدر عليهم».

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦)

____________________________________

[٤٤] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) أي محل وعد إبليس وأتباعه الغاوين ، فإن «موعد» اسم مكان من وعد (أَجْمَعِينَ) هناك يجتمعون جميعا جزاء لأعمالهم السيئة.

[٤٥] (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي أن لجهنم أبواب سبعة (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ) أي قسم من الغاوين (مَقْسُومٌ) وكان الغاوين اعتبروا وحدة واحدة ، فلكل باب جزء يدخل منه إليها ، ولعل اختلافهم بسبب اختلاف أعمالهم ، كما أنه ورد في أبواب الجنة الثمانية ذلك.

[٤٦] وبمناسبة الحديث عن أهل النيران يعطف السياق إلى أهل الجنان (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا معاصي الله سبحانه ، ولم يكن للشيطان عليهم سلطان (فِي جَنَّاتٍ) جمع جنة بمعنى البستان (وَعُيُونٍ) أي بين العيون ، أو المراد إنهم يسبحون فيها فالظرف حقيقي.

[٤٧] وكان المشهد حاضر ، إذ نرى المتقين في ساحة المحشر يقال لهم (ادْخُلُوها) أي الجنات (بِسَلامٍ) أي ادخلوها مع سلامة من الآفات وبرائة من المضرات (آمِنِينَ) في حال كونهم آمنون على أنفسكم وجميع ما يتعلق بكم تبقون في الجنان أبدا في سعادة ورفاه ، ولعلّ تقديم «في جنات» على «ادخلوها» لقصد سرعة المقابلة بين (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) ثم ذكر التفصيل هناك بقوله : «لكل باب» وهنا بقوله : «ادخلوها».

وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)

____________________________________

[٤٨] وأهل الجنة بالاضافة إلى النعم التي تحيط بهم ، فهم في نعمة نفسية ، فليس هنالك حسد وغل وحقد يقلق راحتهم وينغص عيشهم (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ) وإنما قال صدورهم ، لأن القلب في الصدر (مِنْ غِلٍ) أي الحقد والحسد والتنافس والتباغض في حال كونهم (إِخْواناً) متجاورين فيصفوا عيشهم ولا يكدر سعادتهم منغص خارجي أو غل داخلي كائنين (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير ، وهو الكرسي ويسمى سريرا لأنه محل السرور والفرح (مُتَقابِلِينَ) بعضهم لبعض ، وهذا من النعم فإن الإنسان يأنس بأخيه الإنسان.

[٤٩] (لا يَمَسُّهُمْ) وإنما جاء بلفظ المسّ لإفادة أن أقل أذى يحصل بالمس ، لا يكون هناك (فِيها) أي في الجنة (نَصَبٌ) أي عناد وتعب ، فهناك دار راحة واستراحة ، (وَما هُمْ مِنْها) أي من الجنة (بِمُخْرَجِينَ) لا يخرجهم أحد بل باقون أبد الآبدين ، وهذا من أعظم النعم.

[٥٠] وبمناسبة ذكر مصير المتقين ومصير الغاوين يأتي السياق ليذكّر الناس برحمة الله وعذابه حتى ينقلع عن المعاصي من اشتاقت نفسه لتلك النعم الدائمة ، وتتم الحجة على من تمادى في غيّه بعد هذا الإعلان (نَبِّئْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي أخبر ، فعل أمر من النبأ بمعنى الخبر (عِبادِي) عام يشمل كل إنسان (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أغفر

وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً

____________________________________

للعاصين ذنوبهم إذا تابوا وأرحم بالتفضل على من سلك السبيل ، وذلك زيادة على الغفران.

[٥١] (وَأَنَّ عَذابِي) للعاصين (هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) المؤلم الموجع فليجتنبوها حتى لا يمسهم.

[٥٢] ثم يأتي السياق ليبين نماذج من الرحمة والغفران ، ونماذج من العذاب والعقاب ، مع مناسبة لما تقدم في أول السورة حيث طلب الكفار من الرسول إنزال الملائكة ، فأجابهم بأن الملائكة لو نزلت ما كان الكفار منظرين ، كما أنه لما جاءت الملائكة لوطا عليه‌السلام لم ينظر القوم بعد بل أهلكوا.

وتكرار هذه القصة كتكرار سائر القصص فيها فائدة التكرير الموجب لتركيز الأمر في النفس ، وإن في كل مرة يظهر جانب خاص من القصة ، ومزايا زائدة مختلفة عن السابق ، بالاضافة إلى تأكيد أمر الإعجاز ، فإن قصة واحدة تصب في قوالب مختلفة ومع ذلك لا يتمكن أن يأتي بمثلها الكفار ـ وقد تقدم الإلماع إلى ذلك ـ (وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبر الكفار ـ أو أخبر الناس ـ (عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) والضيف لفظ يستعمل للمفرد والتثنية والجمع بلفظ واحد ، والمراد بهم الملائكة الذين نزلوا عند إبراهيم عليه‌السلام ليبشروه بإسحاق ، في طريقهم لإهلاك قوم لوط عليه‌السلام.

[٥٣] (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي وقت دخل الضيوف على إبراهيم في محله (فَقالُوا) له (سَلاماً) إمّا جاءوا بهذا اللفظ مجردا ، وإما هو كناية عن

قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)

____________________________________

إنهم سلموا عليه سلاما كاملا كأن قالوا «سلام عليكم» وأجاب إبراهيم جوابهم وجاء إليهم بالطعام فلم يأكلوا ، فخاف منهم ف (قالَ) لهم (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون ، وذلك لأنه رآهم لا يأكلون الطعام ، فظن أنهم أرادوا به شرا ، إذ العادة جرت إن من لا يأكل الطعام يريد الشر.

[٥٤] (قالُوا) أي قالت الملائكة لإبراهيم عليه‌السلام (لا تَوْجَلْ) أي لا تخف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) بولد يرزقك الله من سارة (عَلِيمٍ) عالم ليس من الجهلاء ، وقد كان المراد إسحاق النبي عليه‌السلام.

[٥٥] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام (أَبَشَّرْتُمُونِي) بالمولود (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي وأنا على حال الكبر ، والاستفهام إنكاري أي كيف تبشروني بالولد والحال أنا كبير السن ، ومقتضى العادة أن الرجل الكبير لا يولد له لضعف المني فيه أن يكون منشأ ولد؟ (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي بماذا تبشرون؟ هل تبشرون بما لا يكون؟ وأصل «بم» «بما» ومن القاعدة أن تحذف الألف من «ما» إذا دخله حرف الجر ، نحو «عم» و «فيم» وغيرها.

[٥٦] (قالُوا) أي قالت الملائكة لإبراهيم عليه‌السلام (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) فبشارتنا مطابقة للواقع حتى لا بطلان فيها (فَلا تَكُنْ) يا إبراهيم (مِنَ الْقانِطِينَ)

قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩)

____________________________________

الذين يقنطون من رحمة الله ، والقنوط هو اليأس.

[٥٧] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام ، كلا لا أقنط من رحمة الله (وَمَنْ) ذا الذي (يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) استفهام إنكاري أي هل يقنط من رحمة ربه إلا الذي ضل عن الطريق السوي؟ لكني لم أك قانطا ، بل رأيت أن المجرى الطبيعي عدم الولد في زمن الكبر ، مع إذعاني بقدرة الله سبحانه على أن يفعل ما يشاء.

[٥٨] وقد صرحت الملائكة لإبراهيم في أثناء كلامهم أنهم رسل من قبل الله سبحانه ، وطالت القصة في أمر البشارة بالولد ، ولكن حيث كان مصب القصة هنا عذاب قوم لوط أسدل القرآن الستار على أمر إبراهيم عليه‌السلام ليأتي بقصة قوم لوط (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام للملائكة (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)؟ الخطب هو الأمر الجليل العظيم ، فقد سأل إبراهيم عن مأمورية الملائكة ، وإنها ما هي؟ فقد أرسل الله تلك الملائكة لأمر مهم.

[٥٩] (قالُوا) أي قالت الملائكة (إِنَّا أُرْسِلْنا) أرسلنا الله سبحانه (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) الاجرام هو الذنب ، ومعنى الإرسال إليهم هو إهلاكهم.

[٦٠] (إِلَّا آلَ لُوطٍ) من يخصه من أهله ، فإنهم ناجون فلا يشملهم العذاب ، وقد سبق أنه كثيرا ما يقال «آل فلان» ويراد : هو وآله (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) فلا يهلك منهم أحد.

إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣)

____________________________________

[٦١] (إِلَّا امْرَأَتَهُ) أي امرأة لوط لأنها كانت مجرمة كسائر قومه (قَدَّرْنا) أي هكذا جرى تقدير الله سبحانه (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في البلدة لتهلك فيمن يهلك.

[٦٢] وطال الحوار بين إبراهيم عليه‌السلام وبين الملائكة في شأن هلاك قوم لوط ، ثم أن الملائكة خرجوا من عند إبراهيم وجاءوا إلى لوط ليبشروه بهلاك القوم (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) أي الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه ، وإنما قال «آل لوط» لأنهم وردوا في محله ، ولتناسب السياق مع الجملة السابقة ، حيث عبرت بآل لوط.

[٦٣] لم يعرفهم لوط عليه‌السلام ابتداء وانما رأى جماعة من الشباب الجميلي الوجه (قالَ) لوط عليه‌السلام لهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي لا أعرفكم فعرفوني أنفسكم ، أو أنه أراد الإنكار عليهم في دخولهم هذه المدينة ، فان ذلك مما يسبب لهم وله الأتعاب حيث ظن أنه لو علم القوم بهم لأتوهم للفاحشة ، ولم يعرف أنهم ملائكة الله سبحانه.

[٦٤] (قالُوا) لا تنكرنا ، فإنا ملائكة الله سبحانه (بَلْ جِئْناكَ) كأن الإضراب كان لتوهم لوط أنهم ضيوف ، أي لسنا ضيوفا آدميين ، بل رسل مهلكين جئناك (بِما) أي بالعذاب الذي (كانُوا) كان القوم (فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي كانوا يشكون ، فإنهم كلما كان لوط يخوفهم بالعذاب شكّوا في صدق مقاله في أنفسهم وأظهروا الإنكار عليه.

وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ

____________________________________

[٦٥] (وَأَتَيْناكَ) أي جئنا إليك يا لوط (بِالْحَقِ) أي أن الإتيان بالحق ، مقابل الإتيان بالباطل كالسارق الذي يكون مجيئه باطلا ، أو أن المراد جئنا الحق إليك وهو العذاب ، مقابل الذي يأتي الباطل كالكاذب الذي يأتي بباطل الكلام (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في مقالنا أن الله قدر العذاب لهؤلاء.

[٦٦] (فَأَسْرِ) من سر بمعنى سار ليلا ، قال الشاعر :

أبيت أسري وتبيتي تدلكي

وجهك بالعنبر والمسك الزكي

(بِأَهْلِكَ) أي مع أهلك ، فإن الباء تأتي بمعنى مع (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي بهذا الوقت ، وهو حين ما يمضي معظم الليل ، وكأنه جمع قطعة ، مثل تمرة وتمر (وَاتَّبِعْ) يا لوط (أَدْبارَهُمْ) أي من وراء أهلك فهم يسيرون أمامك ، لئلا يبقى أحد منهم ، كما هو العادة في الناظر على القوم (وَلا يَلْتَفِتْ) أي لا ينظر خلفه في حال السير والفرار (مِنْكُمْ أَحَدٌ) لئلا يروا العذاب فيفزعوا ، أو هو كما يقول القائل «امض في طريقك ولا تلتفت إلى شيء» يريد المضي بلا اعتناء بشيء (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي في وقت أمرنا بذهابكم ، أو إلى المكان الذي أمرتم بالذهاب إليه.

[٦٧] (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) أي أعلمنا لوطا ، وأنهينا علم قضائنا في القوم إلى

ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩)

____________________________________

لوط ، وما كان القضاء؟ (ذلِكَ الْأَمْرَ) وهو أنه (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) القوم ، والدابر بمعنى الأصل ، أي أصل القوم (مَقْطُوعٌ) في حال كونهم (مُصْبِحِينَ) أي داخلين وقت الصباح ، فإن الفجر كان موعد عذابهم.

[٦٨] وقد كان الملائكة في مرأى من قوم لوط ، ولذا قصدوا بهم الفاحشة (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) إلى دار لوط (يَسْتَبْشِرُونَ) يبشر بعضهم بعضا بالأضياف المرد وقد كان هذا قبل أن يعرف لوط أنهم ملائكة ـ وإنما قدّم قصة إخبارهم عن عذاب القوم على هذه الآيات ، حيث أن نقطة التركيز في القصة كسائر قصص هذه السورة عذاب المجرمين كما ذكرنا سابقا.

[٦٩] (قالَ) لوط عليه‌السلام لهم مستعطفا (إِنَّ هؤُلاءِ) الشباب (ضَيْفِي) الضيف يقع بلفظ واحد على المفرد والتثنية والجمع (فَلا تَفْضَحُونِ) أي لا تفضحوني في أمرهم ، والفضيحة هي العار ، أي لا تلزموني عارا بالعمل السّيئ معهم حتى يقولوا ويقول الناس في المستقبل أن لوطا ، يفعل القوم بضيوفه.

[٧٠] (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه فلا تفعلوا ما نهاكم عنه (وَلا تُخْزُونِ) أي لا تجعلوني مخزيا ، فإن الخزي بمعنى الإذلال والإهانة ، فإن الإنسان إذا أهين ضيفه فقد أذلّ وأهين.

قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ

____________________________________

[٧١] (قالُوا) أي قال القوم في جواب لوط (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ)؟ استفهام إنكاري ، أي إنا قد نهيناك أن تحول بيننا وبين الناس ، أو المراد النهي عن ضيافة الناس وإنزالهم ، فقد كانوا نهوه سابقا عن ذلك ، لئلا يولّد لهم مشكلة الحيلولة بينهم وبين ما يشتهون بالنسبة إلى المارّة.

[٧٢] (قالَ) لوط عليه‌السلام متوسلا إليهم ، مشيرا إلى بناته (هؤُلاءِ بَناتِي) خذوهن عوض هؤلاء الأضياف واعتدوا عليهن ، لقضاء شهوتكم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي تريدون الفعل ، فقد سبق أن الفعل يأتي بمعنى الإرادة ، كقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي أردتم القيام إليها.

[٧٣] ثم أن الملائكة عرّفوا للوط أنفسهم ، وأشاروا إلى القوم المتجمهرين على باب دار لوط فعميت أعين القوم ، وألقي الرعب في قلوبهم ، فرجعوا خائبين ، وقد حسّوا بنزول العذاب (لَعَمْرُكَ) أي قسما بحياتك يا رسول الله ، أو أيها السامع ، وإنما كان «عمر» بمعنى الحياة ، لأنه من «عمر يعمر» بمعنى مدة البقاء والعيش ، ومنه العمارة ، كأنّ الإنسان معمور ما دام حيّا فإذا مات فقد خرب وانهدم (إِنَّهُمْ) أي القوم (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي الغفلة التي سكرت وغطت عقولهم ، ومنه السكر (يَعْمَهُونَ) من العمه وهو أشد العمى ، أي قد كانوا في أشد أقسام العمى الموجب لترديهم في عذاب الله دنيا وآخرة.

[٧٤] وقد فرّ لوط عليه‌السلام بأهله مخلفا امرأته في المدينة (فَأَخَذَتْهُمُ) أي القوم

الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦)

____________________________________

(الصَّيْحَةُ) الصوت الهائل (مُشْرِقِينَ) وقت إشراق الشمس فقد قلع جبرئيل ـ وهو أحد أضياف لوط ـ مدنهم ودفع بها إلى السماء ثم صاح بهم صيحة عظيمة خبلت ألبابهم وأنزل الله عليهم الحصباء فرجمهم بالحجارة ، وقلب جبرئيل مدنهم حتى جعل أعلى الأرض أسفله وظهرها بطنها.

[٧٥] (فَجَعَلْنا عالِيَها) أي عالي المدينة (سافِلَها) بأن قلبناها ظهرا لبطن (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً) أي جنس الحجارة ، وهي الحصباء (مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر ، وقد كانت من حصباء جهنم.

[٧٦] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك (لَآياتٍ) ودلالات بالنسبة إلينا وإلى رسلنا وإلى عذاب الدنيا لمن كفر وطغى ، فإن الإهلاك يدل على ذلك ، ولذا قال سبحانه «لآيات» (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي المتفرسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته وعلامته ، من توسم بمعنى رأى السمة والعلامة في الطرف المقابل ، أيّة سمة كانت ، فإن من تفكر في أحوال قوم لوط ثبت لديه وجوده سبحانه وصدق رسله ، وإن العاصي يعذب.

[٧٧] (وَإِنَّها) أي تلك المدن التي قلبت (لَبِسَبِيلٍ) أي بطريق (مُقِيمٍ) أي ثابت ذلك السبيل يسلكه الناس ، فقد صارت تلك المدن في الطريق بين المدينة والشام ، وقوله مقيم من باب التشبيه ، فكما أن الشخص

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ

____________________________________

المقيم في محل باق ظاهر ، كذلك الطريق المقيم باق لم يندثر ظاهر لمن مرّ به.

[٧٨] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الطريق الباقي المعلوم الذي يراه كل من مرّ عليه (لَآيَةً) دلالة على وجوده سبحانه وصدق رسله وعذاب العصاة (لِلْمُؤْمِنِينَ) وإنما خصّهم لأنهم هم الذين ينتفعون أما غيرهم فلا يمرّ عليها إلا وهو معرض غير منتفع بها.

[٧٩] وإذ يقع الفراغ من قصة قوم لوط ، فلننظر إلى سائر الأمم الذين كذبوا الرسل منهم أصحاب الأيكة قوم شعيب النبي عليه‌السلام (وَإِنْ كانَ) أي أنه كان ، فإن مخففة من المثقلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الشجرة المتكاثفة ، وجمعها «أيك» مثل شجرة وشجر ، فقد كانت هناك شجرة ملتفة عند «مدين» مدينة قوم شعيب ، نسب القوم إليها ، أو الأيكة هي الغيضة فقد كان القوم أصحاب غياض (لَظالِمِينَ) كما مرت قصتهم سابقا.

[٨٠] (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي من أولئك الأشخاص ، والمراد بالانتقام إحلال العذاب بهم جزاء أعمالهم السيئة قال في المجمع : إنه كان أصحاب الأيكة لظالمين في تكذيب رسولهم وكانوا أصحاب غياض فعاقبهم الله تعالى بالحرّ سبعة أيام ثم أنشأ سبحانه غمامة فاستظلوا بها يلتمسون الروح فيها فلما اجتمعوا تحتها أرسل منها صاعقة فأحرقتهم جميعا (١)

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ١٢٧.

وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١)

____________________________________

(وَإِنَّهُما) أي مدينة لوط ومدينة شعيب (لَبِإِمامٍ) أي واقع في الطريق ، ويسمى الطريق إماما لأنه يؤمّ ويقصد ، والمعنى أن المدينتين بطريق يؤمّ ويتبع ويسلك بين الحجاز والشام (مُبِينٍ) واضح لم يندثر بعد ، وكون الآثار في الطريق أدعى إلى الإعتبار.

[٨١] (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ) «الحجر» اسم مدينة قوم صالح عليه‌السلام ، وهم ثمود ، كما قال سبحانه (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) (١) (الْمُرْسَلِينَ) الأنبياء الذين أرسلوا من قبل الله سبحانه ، وإنما أتى بلفظ الجمع ، إما لأن في تكذيب صالح تكذيبا للأنبياء لأنهم سلسلة واحدة فمن كذب بعضهم فقد كذب جميعهم ، أو لأنه قد أرسل إليهم عدة أنبياء عليهم‌السلام فكذبوا الجميع ، وإنما ذكر سبحانه صالحا فقط في قصصهم لأنه آخر الأنبياء عليهم‌السلام إليهم ، أو الإتيان بلفظ الجمع ـ لما تقدم سابقا ـ من أن المراد به الجنس ، كما يقول أحدنا ، هكذا رأى الأطباء في هذا المريض ، يريد الجنس لا الجمع ، أي أن هذا الفصيل هكذا ، وهو كثير الاستعمال عرفا.

[٨٢] (وَآتَيْناهُمْ) أي أعطينا أصحاب الحجر (آياتِنا) أي الأدلة الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد ، وهي المعجزات التي كان منها الناقة ومنها فصيلها (فَكانُوا عَنْها) أي عن الآيات (مُعْرِضِينَ) أعرضوا عن التفكر فيها والاستدلال بها على المبدأ والمعاد ، فلم يعملوا بما تقتضيه تلك الآيات من الإطاعة والإيمان.

__________________

(١) الأعراف : ٧٤.

وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ

____________________________________

[٨٣] (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) فقد كان بلدهم بين الجبال ، فيصنعون لأنفسهم بيوتا جبلية ، بما أعطيناهم من القوة والقدرة (آمِنِينَ) في حياتهم لا يزعجهم مزعج ، والأشخاص الذين في الجبال غالبا يكونون أكثر قوة وأمنا للحواجز الطبيعية بينهم وبين من قصد بهم سوءا ، ولعل الإتيان بهذه الصفة ، دلالة على أنهم مع قوتهم ومنعتهم أخذهم عذاب الله حيث طغوا ولم يؤمنوا.

[٨٤] (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبرئيل صيحة هائلة خبلت ألبابهم (مُصْبِحِينَ) في حال كونهم داخلين في الصباح ، في وقت هدوء واستراحة وجمال الأفق وهم أمناء في بيوتهم الحصينة.

[٨٥] (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) أي ما أفادهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الأموال والمناصب والأولاد وسائر الملاذ الدنيوية ، إنها لم تدفع العذاب عنهم ، وهكذا قتلت الأمة الأمة في الكفر وتكذيب الأنبياء ، وهكذا أخذ الله الجميع وأهلكهم بأنواع العذاب.

[٨٦] إنّ بالحق خلق هذا الوجود بسمائه وأرضه ، والحق هو مصير الجميع ، فمن حاد عن الحق في هذه الحياة لا يكون نصيبه إلا العذاب والخسران كما رأينا في الأمم السابقة الذين كذبوا وحادوا عن الطريق (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أنواع الموجودات (إِلَّا بِالْحَقِ) فلم يكن هناك لغو عبث بل غرض وغاية وصلاح

وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ

____________________________________

وحكمة (وَإِنَّ السَّاعَةَ) التي يجازى فيها الإنسان إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر (لَآتِيَةٌ) ليحكم فيها بالحق ، فما بال الإنسان يحيد عن الحق ويكفر بالمبدأ والمعاد؟ (فَاصْفَحِ) يا رسول الله (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي أعرض عن الكفار إعراضا جميلا ، والإعراض الجميل هو أن يكون الإعراض حسب ما تقتضيه الحكمة إن اقتضت الإعراض بخشونة في بعض فليفعل كذلك وإن اقتضت الإعراض بلطف ولين فليفعل كذلك كقوله سبحانه : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (١) وحيث أن الحق هو المبدأ والمعاد ، فلا عليك كفر الكافرين ، إن عليك أن تبلغ ، فإذا أعرضوا فلا عليك إلا أن تتركهم تركا جميلا ، لا تحمل لهم حقدا أو غلّا ، فإن الحق يقرر مصيرهم ، وسيلاقون جزائهم ممن خلقهم وعلم بهم وبأعمالهم.

[٨٧] (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (هُوَ الْخَلَّاقُ) للسماوات والأرض وما بينهما ولهؤلاء (الْعَلِيمُ) بكل شيء وبكل عمل يعمله هؤلاء ، فدعهم واصفح عنهم حتى يجازيهم خالقهم العالم بأعمالهم ، وهذا كما يقول مدير المدرسة للمعلم : أنت درّس ولا عليك بمن لم يحفظ ، فإن باني المدرسة عالم ، وهو الذي هيّئ أثاث المدرسة وبيده امتحان الطلاب.

[٨٨] إنك رسولنا الذي أرسلنا وآتيناك القرآن فمن كذبك فاصفح عنه فإن جزاءه عند الخلاق العليم (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) أي أعطيناك يا رسول الله

__________________

(١) الفرقان : ٧٣.

سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)

____________________________________

وأنزلنا عليك (سَبْعاً) أي سبع آيات (مِنَ الْمَثانِي) وهو سورة الحمد تسمى «المثاني» لأنها تثنى في كل صلاة أي إنا أعطيناك سبع آيات من السورة التي تثنى في الصلوات كلها (وَ) آتيناك سائر (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وتخصيص «المثاني» بالذكر لأهميتها ، وقد ورد بما ذكرنا من معنى الآية الكريمة وتفسير السبع المثاني بالحمد ، روايات متعددة.

[٨٩] وإذ كنت يا رسول الله متصلا بالوحي مرتبطا بخالق الأرض والسماء ، ومن بيده الجزاء ، الذي أنزل إليك هذا القرآن العظيم ف (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) باستجمال أو ثمن أو استحسان (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي إلى متع الحياة ولذائذها التي أعطيناها أصنافا من هؤلاء الكفار ، فلا تلقي إلى متع الحياة الدنيا نظرة اهتمام بأن تهتم بها ، أو نظرة تمنّ بأن تتمنى مثلها لنفسك ، والزوج هو الصنف ، ويقال له زوج لأن بعض الصنف يشبه بعضا ، والمراد أن ما أعطيناك من النبوة ، وما وعدناك من الآخرة أعظم من ذلك كله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار إن لم يؤمنوا ، فإنما أنت أديت ما عليك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) كما يخفض الطائر جناحه لولده أو قرينه تواضعا وتلطفا والمراد ألن جانبك لهم واحلم عنهم إذا أخطئوا ، وتواضع الرئيس يوجب كثرة الأتباع ـ دائما ـ.

[٩٠] (وَقُلْ) يا رسول الله للناس (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي المنذر الواضح ، أنذركم من عذاب الله وعقابه ، فلا تخالفوا أمره ونهيه كي

كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)

____________________________________

لا يصيبكم ما أصاب الأمم السابقة.

[٩١] لقد أتيناك القرآن العظيم ، (كَما أَنْزَلْنا) الكتاب (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) وهم اليهود والنصارى ـ من قبل ـ وإنما سموا مقتسمين لأنهم قسموا الكتاب فما وافق آراءهم وشهواتهم قبلوها وما خالفها تركوها ، ولذا فسرهم سبحانه بأنهم هم :

[٩٢] (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) جمع «عضة» بمعنى الجزء ، من عضى الشاة أي فصل بين أجزائها ، أي فرقوا القرآن وجعلوه عضوا عضوا ، فآمنوا بما وافق أهواءهم وكفروا بما خالفها ، كما قال سبحانه في آية أخرى (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (١) والحاصل إنا أنزلنا الكتاب كما أنزلنا الكتب السابقة على هؤلاء الذين ينكرون كتابك الذين اقتسموا الكتاب وجعلوه أقساما فقبلوا قسما وردّوا قسما.

[٩٣] وإنا لنأخذهم كما أخذنا المكذبين السابقين من الأمم الخالية (فَوَ رَبِّكَ) يا رسول الله ، والفاء للتعقيب أي عقيب تكذيبهم (لَنَسْئَلَنَّهُمْ) أي نسأل من المقتسمين (أَجْمَعِينَ) بلا استثناء.

[٩٤] (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي حتى نجازيهم ، والسؤال منهم إنما هو للإقرار على أنفسهم ، وإلا فالله سبحانه عالم بما عملوه.

[٩٥] أما أنت يا رسول الله فإنك مكلف بالبلاغ سواء قبلوا أم لم يقبلوا

__________________

(١) النساء : ١٥١.

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)

____________________________________

(فَاصْدَعْ) يا رسول الله والصدع هو الإظهار والإعلان ، وأصل الصدع هو كسر الزجاجة بصوت وكان الرسول يجهر بتفريق الناس الذين على لون واحد فمنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن ، كما أن الزجاجة إذا كسرت تصير قطعتين (بِما تُؤْمَرُ) من الإنذار والتبليغ (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فلا تهتم لهم ولا تبال بشأنهم ، فإن الإنسان إذا اهتم بشأن المناوئين والحاسدين لا يتمكن من تقديم مشروعه إلى الأمام.

[٩٦] (إِنَّا كَفَيْناكَ) يا رسول الله (الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين يستهزئون بك ، ورد أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومروا ذات يوم به مهددين قائلين : يا محمد إنا ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله مغموما فنزل جبرئيل وبشره بأن الله قد كفاه شرهم ، وكفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرهم في ذلك اليوم ، وقد كان أولئك وليد وعاص وأسود بن عبد يغوت وأسود بن المطلب والحرث. أما الوليد فمرّ بنبل فأصابه شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه فمات وهو يقول : قتلني رب محمد ، وأما العاص فقد خرج في حاجة له إلى موضع فهدّ تحته الحجر فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول : قتلني رب محمد ، وأما ابن عبد يغوث فنطح رأسه بشجرة فمات من أثر الصدمة وهو يقول : قتلني رب محمد ، وأما ابن المطلب فخرج عن مكة وإذا به لا يبصر شيئا قد أعمى بصره وأثكله الله بولده وبقي أعمى ثاكلا حتى مات ، وأما الحرث فضربته السموم حتى غيرت

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧)

____________________________________

وجهه وسمته ولما رجع إلى أهله صار بينهم وبينه كلاما أدى إلى أن قاموا فقتلوه وهو يقول قتلني رب محمد ، ولما أن بشر جبرئيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الله قد كفاهم خرج الرسول مناديا : يا معشر العرب أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله آمركم بخلع الأنداد والأصنام فأجيبوني تملكوا به العرب ويدين لكم العجم وتكونوا ملوكا في الجنة فأخذ القوم يضحكون منه قائلين جن محمد ، لكنهم لم يجسروا عليه لموضع أبي طالب عليه‌السلام (١).

[٩٧] ثم وصف سبحانه المستهزئين بقوله (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبدونه ، أن هؤلاء السخفاء هم الذين يستهزءون بالرسول ، وكان الإتيان بهذا الوصف للإشارة إلى مقدار عقولهم فمثلهم كمجنون يضحك من عاقل (فَسَوْفَ) إذا ماتوا ، أو قامت القيامة (يَعْلَمُونَ) جزائهم السيّئ حيث لا مناص.

[٩٨] ثم سلا سبحانه نبيه لما يرد عليه من الآلام والكوارث (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) يا رسول الله (أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) بما يقوله الكفار فيك وفي دينك من الطعن والاستهزاء ، وهذا تسلية للرسول فإن الإنسان إذا علم أن ما يصنع به إنما هو في محضر حاكم عادل يخفف له علمه بذلك وطأ الحادثة ، ولذا قال الإمام الحسين عليه‌السلام : «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله».

وضيق الصدر إنما هو بسبب أن الإنسان المهموم تتولد فيه حرارة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٠ ص ٣٥.

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)

____________________________________

زائدة تحتاج الرئة لدفعها وإبراد القلب إلى جذب هواء أكثر من المعتاد ، وذلك سبب لكبرها عند التنفس ، وحيث أن مكان الرئة الصدر ، فالصدر يضيق بكبرها ـ لدى اجتذاب الهواء ـ عند الهمّ.

[٩٩] (فَسَبِّحْ) يا رسول الله (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزّه الله سبحانه بالحمد ، فإن التنزيه قد يكون بالسلب ـ كأن يقال : فلان لا يؤذي الناس ـ وقد يكون بالإيجاب ـ كأن يقال : فلان يرحم الناس ويعطف عليهم ـ وهذا أبلغ من التعظيم والتجليل ، أي اجعل تسبيحك بهذه الكيفية الإيجابية (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) الذين يسجدون ويخضعون لعظمة الله سبحانه ، وذلك مما يخفف وقع التكذيب والاستهزاء ، لأن بذكر الله تطمئن القلوب ، كما قال سبحانه : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١) فهو موجب للانصراف أولا ، ولتذكر نعمائه وآلائه وإنه المجزي لما يصيبه ثانيا.

[١٠٠] (وَاعْبُدْ) يا رسول الله (رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت ، وإنما سمي الموت يقينا لأنه موقن به ، بعلاقة تسمية المضاف باسم المضاف إليه كما يقال لابن زيد ؛ زيد ، ويقال لعشيرة هاشم «هاشم» وهكذا ، ويحتمل أن يكون وجه التسمية أن الموت ـ في أغلب الناس ـ يسبب اليقين الكامل بالمعاد فسمي الموت يقينا ، حتى بالنسبة إلى من لا يريد يقينه كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) الرعد : ٢٩.

(١٦)

سورة النحل

مكية / آياتها (١٢٩)

سميت السورة باسم «النحل» لاشتمالها على هذه الكلمة ، وهو الحيوان الذي يفرغ العسل والشمع. وهي كغالب السور المكية تعالج شؤون العقيدة وما إليها ، أما أنظمة الدولة وما يتبعها فإن الغالب كونها في السورة المدنية حيث ترسخت دولة الإسلام ، وأرست دعائمها. وحيث ختم سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفار ، افتتح هذه السورة بذلك أيضا ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) افتتاح باسم الله خالق كل شيء الجامع لجميع الصفات الكمالية خلافا للكفار ومن إليهم حيث لا يفتتحون كتبهم بشيء من غير لونه ، أو يفتتحونه بأسامي الأصنام وقد جرت عادة بهرتهم المدنية الحديثة ، أن يقتدوا أثر أولئك فلا يفتتحون الكتاب إلا بالمقدمة أو الإهداء أو الفصل ـ بدون ذكر لاسم الله سبحانه إطلاقا ـ ومن هو هذا الإله الذي نبتدئ باسمه؟ إنه الذي يرحمنا ويرحم جميع البشر ، فلنستعن به ونستقي رحمته.

أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ

____________________________________

[٢] لقد طلب الكفار أن ينزل الله عليهم عذابا ، إن كان الرسول صادقا فيما يقول ـ استهزاء ـ كما كانوا يقولون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) فقال الله سبحانه في جواب طلبهم العذاب : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي قرب إتيانه ، ويقال للشيء الذي قرب أنه أتى ، لمجاز المشارفة ، أو أنه من باب إنزال الفعل المتحقق الوقوع منزلة الماضي كقوله سبحانه (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٢) (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي لا تطلبوا تعجيله (سُبْحانَهُ) مصدر منصوب بفعل محذوف أي أنزهه تنزيها (وَتَعالى) أي أنه أعلى وأرفع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الأصنام التي يشركونها معه تعالى ، فقد قرب وقت إتيان أمر الله المنزه عن الشريك واستعجال هؤلاء لا يغير من مقتضى حكمته في جعل المواقيت والآجال ، وها نحن الآن نرى أنه قد وقع على الكفار المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العذاب وقضي كل شيء.

[٣] أنه سبحانه لا يدع المشركين في ضلالهم وشركهم بل لا بد وأن يتم الحجة عليهم فإنه (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) إلى الرسل (بِالرُّوحِ) أي بما هو روح وحياة للكون فإن الإنسان لا روح له ما دام ليس متشرعا بشريعة الله سبحانه وإنما هو جماد في صورة متحرك (مِنْ أَمْرِهِ) أي الروح المتصف بأنه كائن من أمره تعالى ، وتأثر عن إرادته (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

__________________

(١) الأنفال : ٣٣.

(٢) الكهف : ١٠٠.

عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)

____________________________________

عِبادِهِ) من الصفوة المختارة من البشر وهم الأنبياء (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) فهذا هو الروح الذي ينزله إله الكون بواسطة أطهر النفوس وهم الملائكة إلى أخير الناس ، فيوحي إليهم أن أنذروا الناس الذين يشركون بأن عاقبة هذا الشرك وخيمة ، فإنه لا إله إلا الله (فَاتَّقُونِ) أي خافوا عقابه ونكاله في اتخاذكم الشركاء.

[٤] أنه تعالى هو خالق كل شيء فكيف تتخذون غيره شريكا له؟ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) لا لغوا وعبثا حتى يترك كل إنسان وما اختاره من التوحيد أو الشرك وإنما يجب أن يعمل كل إنسان بالحق ويعتقد كل إنسان ما هو حق وواقع من مسألة الألوهية (تَعالى) أي إنه : أعلى وأرفع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) والفعل وهو «تعالى» قد انسلخ من معنى الماضوية ، كما أنه كذلك بالنسبة إلى جميع صفات الذات ، فليس المراد من «علم الله» و «قدر الله» و «استغنى الله» أنه حدثت فيه هذه الصفات في الزمان الماضي.

[٥] (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) النطفة هي الماء القليل ، أي أن بدء هذا الإنسان الكبير إنما هي قطرة من ماء قليل مهين (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي مخاصم لأنبياء الله وللهادين ، مجادل في أوامر الله الذي خلقه ، مبين واضح الخصومة.

[٦] وفي هذا المجال يستعرض السياق جملة من الآيات الكونية ، حتى يرى

وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ

____________________________________

المشركون أنها ليست من خلق شركائهم وإنما هو من خلق الله وحده ، لعلهم يرجعوا عن غيّهم (وَالْأَنْعامَ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم سميت بها لنعومة مشيها أو لأنها نعمة في جميع منافعها (خَلَقَها) أي الأنعام (لَكُمْ) أيها البشر (فِيها) في الأنعام ، والظرف مجازي (دِفْءٌ) ما يدفأ به من أصوافها وأشعارها في اللباس والفرش والخباء وغيرها ، قال بعض العلماء : إن الشعر لا يدفأ بذاته وإنما لا ينفذ الدفء الحاصل من البدن ونحوه منه ولذا يحس الإنسان بالدفء فيه بخلاف سائر الألبسة (وَ) لكم فيها (مَنافِعُ) من ركوب وحمل وحراثة الأرض للزرع وغيرها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) لحمها ولبنها وشحمها.

[٧] (وَلَكُمْ) أيها البشر (فِيها) أي في الأنعام (جَمالٌ) أي منظر حسن وزينة (حِينَ تُرِيحُونَ) للأنعام ، من أراح بمعنى ردها إلى المراح وهو محل استراحة الحيوانات (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي ترسلونها صباحا إلى محل السرح والرعي ، فإن في هذه الحيوانات حين تذهب صباحا وترجع عصرا منظر جميل ، يزيد في جمال أصحابها ، فيقال : هذه قطيع فلان وهكذا وربما يقال أنه جمال فلان ، فيطلق الجمال على تلك الأنعام غادية رائحة.

[٨] (وَتَحْمِلُ) بعض هذه الأنعام وهي الإبل (أَثْقالَكُمْ) أي أمتعتكم

إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)

____________________________________

الثقيلة ، فإنه جمع ثقل وهو المتاع الذي يثقل حمله (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) أي لا تقدرون أنتم وحدكم بلوغ ذلك البلد البعيد (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) فكيف تبلغونه مع الأحمال؟ وشق الأنفس معناه مشقة النفس ، فإن شق مصدر شق يشق أي صعب والأنفس جمع نفس (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ) ومن رأفته أن خلق لكم هذه الأنعام لتحمل أثقالكم وتنتفعون بها في سائر حوائجكم (رَحِيمٌ) يرحم بكم ويتفضل عليكم بالإحسان والإنعام ، ولعل الفرق بين الرأفة والرحمة ، أن الرأفة صفة القلب ، وإن لم تتعد ، والرحمة لا تكون إلا فيما يظهر من الأفضال والرحم.

[٩] (وَ) خلق (الْخَيْلَ) وهي الفرس (وَالْبِغالَ) جمع بغل وهو ما يولد بين الحمار والفرس (وَالْحَمِيرَ) جمع حمار (لِتَرْكَبُوها) في حوائجكم ، ولم يذكر هنا الحمل ، وفي الآية السابقة لم يذكر الركوب للتفنن في الكلام وهو من أساليب البلاغة ، والإبل أنسب بحمل الأثقال إلى البلاد البعيدة ، كما أن الثلاثة أنسب للركوب (وَزِينَةً) أي خلقها زينة وجمالا لكم ، حيث أن الإنسان إذا ركبها كان له جمال وجلال ، كما أنها حين تربط أو تنقل من هنا إلى هناك تظهر للمالك جمالا وزينة (وَيَخْلُقُ) الله سبحانه (ما لا تَعْلَمُونَ) من سائر وسائل الحمل والزينة ، فقد قال سبحانه ذلك ليجد الذهن متسعا في الآفاق فلا يجمد ، ونسبة الخلق إليه بالنسبة إلى الآلات البخارية وما أشبهها

وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)

____________________________________

صحيح ، فإن صانعها ليس إلا جزءا صغيرا في سلسلة العلل المهيئة لها من معدن ، ونار ، وهواء وغيرها.

[١٠] وفي سياق السفر إلى البلاد البعيدة والسير بواسطة المركوبات المحسوسة ، يأتي بيان السير نحو المقصد الحقيقي للإنسان الذي هو السعادة الأبدية ، وينتقل السياق من سير جسماني إلى سير روحاني (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي السبيل القاصد ، وهو السبيل المستقيم الذي إذا سلكه الإنسان أوصله إلى السعادة في الدنيا والآخرة ، كأن السبيل قاصد إلى هدف ولذا لا ينحرف ولا يلتوي ، كالإنسان القاصد ذي الغاية الذي يسير مستقيما نحو هدفه ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، نحو وضح النهار ، أي النهار الواضح ، ومعنى على الله ، أن عليه سبحانه أن يبيّنه ويرشد الناس إليه (وَمِنْها) أي من السبل (جائِرٌ) منحرف كأن الطريق قد جار فلم يستقم كالإنسان الظالم الذي يجور وينحرف وقد كان من الانهزامية الغربية ، القول بأن «الجائر» مأخوذ من «جأر» بمعنى صوّت ، والمراد به «الطائرة» ونحوها من الآلات البخارية الحديثة التي تحدث الصوت عند حركتها ، وقد مني المسلمون بأناس منهزمين يريدون تطبيق الإسلام على الغرب ويظنون أن ذلك كسب لهم ، وللإسلام ، غافلين أن ذلك انتصار للغرب ، فإنهم أخذوه ، وما خالف الإسلام له ، أوّلوا الإسلام له ليوافقوا بينهما بهزيمة الإسلام.

(وَلَوْ شاءَ) الله سبحانه (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بأن أجبركم على

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ

____________________________________

الهدى ، لكنه تعالى خلق الدنيا للامتحان وذلك لا يكون إلا بالاختيار ، فهو سبحانه لا يشاء إلا أن يكون كل أحد مختارا فيما يأخذ ويدع.

[١١] ثم انتقل السياق من المركوبات وما إليها مما خلقها لنفع الإنسان ، إلى قسم آخر من الآيات الكونية التي جعلها لنفع البشر (هُوَ) الله سبحانه وحده (الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي من جهة العلو (ماءً) هو المطر (لَكُمْ) أيها البشر (مِنْهُ) أي من ذلك الماء (شَرابٌ) تشربونه وتستعملونه في سائر حوائجكم (وَمِنْهُ شَجَرٌ) أي ينبت من ذلك الماء الشجر والمراد به كل نبات فإنه يطلق على ما ينبت من الأرض قام على ساق أولم يقم (فِيهِ) أي في ذلك الشجر (تُسِيمُونَ) يقال أسام ماشيته إذا رعاها ، أي ترعون أنعامكم ، ولو لا ماء المطر بم كانت تتقوت الأنعام؟

[١٢] و (يُنْبِتُ) الله سبحانه (لَكُمْ) أيها البشر (بِهِ) أي بماء السماء (الزَّرْعَ) مما يزرع ويأكله الإنسان ، أو يتجمل به ، أو يتنزه بمنظره ، أو الأعم من ذلك ومما ترعاه الماشية من باب ذكر العام بعد الخاص (وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ) جمع نخل وهو ما يثمر التمر (وَالْأَعْنابَ) جمع عنب أي أشجار الأعناب (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ينبت لكم بالماء كل الثمار ، والمراد بها الأشجار المثمرة ، فلو لا ماء السماء «المطر» لم ينبت شيء ، والعيون والأنهار إنما هي من ماء السماء

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)

____________________________________

أيضا ، فلا يقال كان يكفينا العيون والأنهار (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنزال للماء من السماء لإنبات هذه الأشياء والانتفاع به في سائر حوائج البشر (لَآيَةً) دلالة واضحة على وجود إله عليم قدير غير هذه الشركاء التي لا تعقل شيئا (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في الأمور فيعرفون أن هذه النعم من الله سبحانه لا من غيره ، وخص المتفكرين لأنهم الذين ينتفعون بهذه الآية وغيرها.

[١٣] ومن ثم ينتقل السياق إلى آية أخرى ، ومنفعة جليلة لا حياة للإنسان بدونها ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أجراهما وخلقهما بحيث تنتفعون بهما في حياتكم وحوائجكم (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ولعل ذكر الشمس بعد ذكر الليل والنهار لما يترتب عليها من فوائد ، فهو تعميم بعد تخصيص ، أما القمر فلا يتوقف عليه ليل ولا نهار ولذا كان ذكره تأسيسا (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) سبحانه فهو الذي خلقها وهو الذي يسيرها حسب ما تقتضيه الحكمة (إِنَّ فِي ذلِكَ) التسخير لهذه الأشياء (لَآياتٍ) دلالات على توحيد الله وعلمه وقدرته وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يعملون عقولهم ليدركوا الحقائق ويعرفوا الأشياء وإلا فهل يتمكن عاقل أن يقول إنها خلقت من أنفسها؟ أو خلقها صنم عاجز جاهل؟ إن الإنسان الذي هو أقوى الأشياء ـ حسب الظاهر ـ لا يتمكن من خلق أو تسيير أتفه الأشياء من نفسه بأن يكون جميع اللوازم والأسباب منه فكيف بغير الإنسان؟

وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً

____________________________________

[١٤] (وَ) سخر لكم (ما ذَرَأَ) أي خلق (لَكُمْ) إما بمعنى سخر لكم ما خلق في الأرض ، فيكون المعنى أن كل شيء في الأرض فهو مسخّر لكم ، وإما بمعنى أن ما خلق لكم في الأرض هو مسخّر لكم ، فيكون المعنى إن الذي خلق لكم مما في الأرض مسخر لكم وهذا أخص من المعنى السابق ، والظاهر من السياق الثاني (فِي الْأَرْضِ) من أنواع المأكل والملابس والمشارب والمراكب والمساكن والمناكح وغيرها ، في حال كون ما ذرأ (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) لا يشبه بعضها بعضا ، وذلك مما يزيد الخلق جمالا والإنسان نشاطا وانشراحا (إِنَّ فِي ذلِكَ) التسخير لما ذرأ (لَآيَةً) دلالة واضحة على وجود الله وعلمه وقدرته (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أصله يتذكر قلب التاء ذالا ودخلت همزة الوصل عليه لتعذر الابتداء بالساكن فصار «اذّكر» والتخصيص بهم لأن من سواهم لا ينتفع بهذه الآيات ، ولعلّ الإتيان بلفظ «آية» هنا و «آيات» في الآية السابقة للتفنن في الكلام الذي هو نوع من أنواع البلاغة.

[١٥] (وَهُوَ) الله سبحانه (الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) صنعه وجعله بحيث تنتفعون به في حوائجكم (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) وهو السمك فإن الإنسان يصطاد السمك الطري منه ، في حال أن كثيرا من اللحوم التي يصنع منها القديد يابس ليس له ذلك الطعم والمذاق (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) أي لئالئ ونحوها مما يستعمل في الزينة ، ولعل

تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ

____________________________________

الإتيان بباب الاستفعال لما في الغوص من الطلب والصعوبة (تَلْبَسُونَها) تلبسون تلك الحلية المستخرجة من البحر ، فمن جعل البحر بحيث يعطي هذه الأشياء؟ ومن ذلّله لكم حتى تتمكنون من الاقتراب منه والغوص فيه والاصطياد لأسماكه؟ (وَتَرَى) أيها الإنسان (الْفُلْكَ) وهي السفن فإن فلك على وزن قفل مفرد ، والفلك على وزن أسد «جمع أسد» جمع ، والثاني هو المراد هنا بدليل وصفها بقوله سبحانه (مَواخِرَ) جمع «ماخرة» على وزن «طالبة» و «طوالب» من المخر ، يقال مخرت السفينة الماء أي شقته عن يمين وشمال ، واسم الفاعل «ماخرة» (فِيهِ) أي في البحر ، فمن جعل الماء بحيث لا تغرق فيه السفينة الثقيلة ، بل تتمكن من شقه والوصول إلى المحلات البعيدة بواسطته؟

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) إما عطف على قوله «لتأكلوا» أي سخر لكم البحر «لتأكلوا» ولتبتغوا ، وإما عطف على مقدر أي «وترى الفلك مواخر فيه لتركبوا ولتبتغوا» والمعنى أنه جعل البحر كذلك بحيث يحمل السفن الماخرة لتطلبوا من فضله سبحانه بالتجارة والاكتساب لصاحب السفينة بالإيجار والراكبين بالاتجار ، وتسمى النعمة فضلا ، لأنها زيادة على سائر الأنعام ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا الله سبحانه ، فإن غاية خلق الأشياء للإنسان أن يشكروا فيستحقوا بذلك الثواب.

[١٦] (وَ) هو الله سبحانه الذي (أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جمع راسية

أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ

____________________________________

وهي الجبل ، أي جعل جبالا عالية ثابتة ، والتعبير بالإلقاء تعطي صورة طريفة عن ثقلها وشدة وطأتها ، ل (أَنْ) لا (تَمِيدَ) من ماد بمعنى مال يمينا وشمالا (بِكُمْ) أي معكم ، يعني أنه سبحانه جعل في الأرض الجبال لئلا تتحرك الأرض بكم يمينا وشمالا فلا يكون لكم قرار واستقرار فإن الجبال تحفظ توازن الأرض ، فهي كالمسامير في الألواح المتصلة بعضها ببعض ، لولاها لتفككت الأرض ـ من جهة ـ ولمالت إلى هنا وهناك بفعل الجاذبيات ـ من جهة أخرى ـ.

(وَ) جعل فيها (أَنْهاراً) فمن يا ترى خلق الأنهار التي ينتفع بها الإنسان في بقائه وعمارته وزراعته وسائر لوازمه؟ (وَ) جعل فيها (سُبُلاً) أي طرقا للسير من هنا إلى هناك (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تروا تلك الآيات فتهتدوا إلى وجود خالقها وجاعلها.

[١٧] (وَ) جعل لكم فيها (عَلاماتٍ) معالم يهتدى بها للطرق من جبال وترع ومرتفعات ومنخفضات فإن الإنسان يهتدي بها إلى مقاصده أو المراد أنه سبحانه جعل العلامات بصورة عامة كعلامات الصحة والمرض والجيد والرّديء والعلامات الفارقة لجنس من جنس وهكذا (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) فجعل علامات في الأرض وعلامات في السماء يهتدي بها السالكون ، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟

[١٨] وإذ ينتهي السياق من ذكر جملة من الآيات الكونية ، يلتفت إلى البشر ليوقظه من رقدته وينبّهه على خطأه في اتخاذ الشركاء مع الله سبحانه (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) وهو الله سبحانه الخالق لكل تلك الأشياء التي تقدمت

كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)

____________________________________

ولغيرها (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) شيئا ، كالأصنام والأوثان؟ ومن الطبيعي الجواب : بأنهما ليسا بمتساويين (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هذه الحقيقة؟ فكيف تجعلون من لا يخلق شريكا مع من يخلق ، وتعبدوهما على حد سواء؟

[١٩] إن ما تقدم ذكره من النعم إنما هي جملة من الأمور التي خلقها الله سبحانه لمنافعكم ، أما جميع نعمه فهي خارجة عن قدرتكم على إحصائها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) أي تريدون تعدادها وإحصاءها (لا تُحْصُوها) لا تقدرون على العدّ والإحصاء لكثرتها الخارجة عن طرق عدّكم كيف وقد ذكر العلم أن ملايين الأعصاب موجودة في جسم الإنسان ومن المعلوم أن كل عصب نعمة وهكذا وهلم جرا إلى ما لا يحصى من النعم ، ولعلّ الإتيان ب «نعمة» مفردة لمراعاة نكتة لفظية هي أن العدّ لنعمة نعمة متعذر وأما عد «النعم» جملة جملة فلا تتعذر (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) لكم في عدم شكر النعم ، فإن الإنسان مهما شكر فهو مقصر في الشكر كما قال الإمام عليه‌السلام : «ولا يؤدي حقه المجتهدون» (١) (رَحِيمٌ) يرحمكم بالأنعام عليكم وإن لم تؤدوا شكرها.

[٢٠] وهنا تأتي بعض المقارنات بين الله سبحانه ، وبين ما زعموه من الآلهة ، بمناسبة السياق مع قوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) أي ما تفعلونه في السّر (وَما تُعْلِنُونَ) أي ما تفعلونه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٢٤٧.

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ

____________________________________

في العلانية فهل الأصنام كذلك؟ إنها ـ كما يأتي ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) فكيف تعلم شيئا؟ وإذ يعلم سبحانه كل سر وجهر فإنه يجازي بكل ما يصدر من الإنسان في خفاء أو ملأ.

[٢١] (وَ) الأصنام (الَّذِينَ) إنما جيء بلفظ العاقل لزعم القوم أنها تعقل (يَدْعُونَ) أي يدعونها المشركون (مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والأوثان (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) فهل هم كمن خلق كل الأشياء؟ (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فإن الأصنام مخلوقة لله سبحانه ، أولا ، ثم منحوتة للناس ثانيا!

[٢٢] إنها (أَمْواتٌ) لا حياة لها ، فإن الموت يطلق لما من شأنه الحياة ، ولما ليس من شأنه الحياة ـ إذا قوبل مع الحيّ ـ (غَيْرُ أَحْياءٍ) لعل الإتيان بذلك لإفادة أنها لا حياة لها إطلاقا ، فليست حتى كالإنسان الميت الذي له حياة برزخية (وَما يَشْعُرُونَ) أي ما تشعر تلك الأصنام (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي في أيّ وقت يكون بعثها ونشورها ، وهذا للمقابلة وإلا فليس للأصنام بعث بالمعنى الواقعي ، والحاصل أن ما هو ميت لا يقدر على حس وحركة ، ومن هو لا يعلم حتى يبعث كيف يكون إلها ، والحال أن الإله يجب أن يكون حيّا حتى يكون خالقا مدبرا ، ويجب أن يعلم متى يبعث المخلوقين للجزاء والحساب؟

[٢٣] وإذ تقرر أن هذه الأصنام لا تكون آلهة ف (إِلهُكُمْ) أيها البشر (إِلهٌ واحِدٌ)

فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ

____________________________________

لا شريك له (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم طبعا من لا يؤمن بالإله الواحد ، وإلا فلو كان مؤمنا كان معتقدا بالمعاد ، ومن هذه الجهة دخلت الفاء في «فالذين» فهو كقولك زيد عالم ، فمن يناوئه يكون كذا ، للتلازم بين العلم ولزوم الاحترام. (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) جاحدة للحق ، فليس مرضهم مرضا سطحيا قابلا للعلاج ، وإنما الداء كامن في قلوبهم (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) الاستكبار طلب الترفع ـ لمن ليس رفيعا ـ فهم يترفعون أنفسهم عن الإذعان بلا حق أو حجة أو برهان وإنما مانعهم عن الإيمان الكبر والطغيان.

[٢٤] (لا جَرَمَ) أي حقا ، من جرم «باب ضرب» بمعنى قطع ، يقال جرم الشيء أي قطعه ومنه «الجرم» كأنه قطع لروابط الاجتماع ، ف «لا جرم» يعني لا قطع ، وإنما الأمر كذلك ، ولذا يستعمل بمعنى لا بد ولا محالة ، وكثيرا ما يتحول إلى معنى القسم ، يقال «لا جرم لأفعلنّ» (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) يفعلونه سرا (وَما يُعْلِنُونَ) أي يفعلونه علنا ، فهو عالم بجميع أعمالهم فيجازيهم على ما ارتكبوا من الآثام (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) الذين يتكبرون ويأنفون اتباع الأنبياء ، وعدم محبة الله يلازم كرهه وغضبه.

[٢٥] إنهم لا يؤمنون بالله ، ولا بالمعاد ، أما بالنسبة للرسالة فمن الطبيعي أن ينكرونها بعد إنكارهم لذينك الأمرين (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للمشركين عبدة الأصنام (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ)؟ يريد السائل أن يستخبر اعتقادهم حول القرآن

قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ

____________________________________

وهل أنهم يعتقدون به أم لا؟ (قالُوا) في الجواب (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) جمع أسطورة ، أي قصصهم الخيالية الوهمية فقد كانوا يقولون عن القرآن إنه خرافات القدماء لا حصة له من الحقيقة والواقع ، وليس المراد لهم أنه منزل من عنده سبحانه لأنهم ينكرون الإله ، وينكرون ما أنزل ، وإنما يريدون رمي القرآن بالخرافة والأسطورة ، وقد كان أحدهم يقول : إن محمدا يأتيكم بأخبار أنبياء الروم ـ يريدون الأنبياء المبعوثين حول الشام ، فقد كان الشام يومئذ من ممتلكات الروم ـ وإنما أتيتكم بأخبار ملوك الفرس ، ثم يقص عليهم قصصا وهمية من الأكاسرة ومن إليهم.

[٢٦] وإنما كان هؤلاء المشركون يكفرون بالله والمعاد والرسالة (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) اللام للعاقبة ، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) فإن قصد أولئك ليس حمل الأوزار ، وإنما عاقبة تكذيبهم أن يحملوا ذنوبهم ـ فإن الوزر بمعنى الذنب ـ كاملة بلا نقص في يوم القيامة فإن من لا إيمان له يحمل ذنبه كاملا بخلاف من له الإيمان فإنه ينقص من ذنبه ويعفى عنه لمكان إيمانه (وَ) يحملون هؤلاء الكفار ـ الرؤساء ـ في يوم القيامة ، بالإضافة إلى أوزار أنفسهم (مِنْ أَوْزارِ) أي بعض ذنوب (الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) من أتباعهم ، فإن الرؤساء سبب إضلال الأتباع ، وإنما يحملون بعض ذنوب أولئك مما صار الرؤساء السبب أما غيرها من سائر ذنوبهم ، كما لو قتلوا إنسانا أو شربوا خمرا ، أو ما أشبه مما لا يرتبط بهؤلاء الرؤساء فهم المسؤولون عنها دون الرؤساء (بِغَيْرِ عِلْمٍ)

__________________

(١) القصص : ٩.

أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ

____________________________________

أي أن إضلالهم كان بغير علم إذ إن الرؤساء لم يعلموا بصحة عبادة الأصنام ومع ذلك دعوا الناس إليها ، وهذا لزيادة تقريعهم ، إذ كيف يجوز لهم أن يدعو الناس إلى شيء هم لا يعلمون صحته؟ (أَلا) فلينتبه السامع (ساءَ ما يَزِرُونَ) أي بئس الحمل حملهم لأوزار أنفسهم وبعض أوزار أتباعهم ، فإن ذلك موجب للعذاب والعقاب.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا (١).

[٢٧] وإذ سبق أن المشركين يقولون عن القرآن أنه أساطير الأولين ، وبطبيعة الحال إنهم يمكرون ويحتالون لإخماد صوت الأنبياء ، فليعلموا ، ويعلم معهم غيرهم أن لا محصّل لمكرهم ولا نجاح لخططهم ف (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكفار ودبّروا المؤامرات لإبطال الدين ، وإخماد صوت المرسلين (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) أي توجه سبحانه نحو بنائهم ، والمراد بالبنيان ، ما بنوه من المكر والحيلة ، تشبيها بالأبنية الخارجية (مِنَ الْقَواعِدِ) أي من أسسه ، كالذي يهدم بناء بهدم أساسه وأصله فقد أبطل سبحانه أصل حيلتهم ومكرهم.

(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ) أي سقط على الكفار (السَّقْفُ) أي سقف بنيانهم

__________________

(١) المستدرك : ج ١٢ ص ٢٣٠.

مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ

____________________________________

(مِنْ فَوْقِهِمْ) فلم يسقط من جوانبهم ، فإن السقف قد يسقط لكن على جانب الإنسان فلا يتأذى منه كثيرا ، أما إذا سقط من فوقه ، طبّقه ، مما يوجب هلاكه (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ) أي عذاب الهلاك تحت السقف (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) إذ كانوا يزعمون أن بنيانهم قوي محكم ، فكان احتمالهم للهلاك من ناحية خارجية غير جهة بنائهم ، فإذا بالبناء الذي بنوه ليكون لهم ملجأ ومحتمي صار قبرا لهم ، إن الإنسان ليبني البناء ثم يحبس فيه ليستريح ، لكن شخصا يأتي ويهدم البناء من أساسه حتى يقع السقف على الباني ، إن هذا مثل الكفار الذين يقاتلون الأنبياء عليهم‌السلام فهم يمكرون لإخماد صوت الحق ، حتى إذا ظنوا أن مكرهم قد استحكم وأنهم يستريحون تحت ظله ، فلا يلفحهم الدين ، دبّر سبحانه ما يهدم مكرهم من أصله ، فإذا بهم ينكشفون للمجتمع بصورتهم البشعة ، وقد تعالت كلمة الله سبحانه ، وعلا صوت الحق ، حيث ذهب الكفار ومكائدهم أدراج الخسران والهلاك ، وكثيرا ما يأخذهم عذاب الله في الدنيا ، حيث إنهم غافلون غير شاعرين.

[٢٨] هذا حال من مكر بالأنبياء عليهم‌السلام في الدنيا ، أما حالهم في الآخرة (ثُمَ) بعد الدنيا (يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) الله سبحانه ويذلهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد (وَيَقُولُ) لهم على سبيل التقريع والتوبيخ (أَيْنَ شُرَكائِيَ) الموهومون الذين كنتم تشركونهم معي وتزعمون أنهم شركائي في الخلق والعبادة وسائر شؤون الألوهية

الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ

____________________________________

(الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ) تعادون المؤمنين (فِيهِمْ) أي بسببهم فإن الكافرين كانوا يعادون المؤمنين لأنهم لا يتخذون الأصنام آلهة ، فهم لأجل الجمادات الصم البكم كانوا يعادون إخوانهم المؤمنين؟ فلا يجد الكفّار جوابا فقد تكشف لديهم الأمور وضلّ عنهم ما كانوا يفترون.

وهنا يتعرض بعض المؤمنين للجواب ، (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من الأنبياء والأئمة والملائكة والصالحين (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) الفضيحة والعذاب ، في هذا اليوم (عَلَى الْكافِرِينَ) وإنما يقول ذلك لزيادة التقريع والتوبيخ ، فإن الشماتة تؤثر في النفس ما لا يؤثر العذاب في الجسم.

[٢٩] وإذ رأينا أحوال الكافرين في دنياهم حيث «أتاهم العذاب» وفي آخرتهم حيث لهم الخزي والسوء ، فلننظر إلى أحوالهم حال النزع وعند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة ، فها هم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) أي تقبض أرواحهم (الْمَلائِكَةُ) الذين أرسلهم الله سبحانه لهذه المهمة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حال كون أولئك الكفّار ظلموا أنفسهم ، بأن عصوا فاستحقّوا العذاب والهوان ، والنون من «ظالمي» محذوف لإضافته إلى أنفسهم.

(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي أظهروا أولئك الكفار المسالمة ، وهو تشبيه بمن يلقي شيئا ، لكن الإلقاء هنا معقول كما يقال «فلان يلقي الخطابة» في مقابل الإلقاء المحسوس نحو «ألقى عصاه» ثم ... ماذا هو السلم

ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ

____________________________________

الذي يلقونه؟ إنه قولهم (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) فقد أنكروا عند الملائكة كفرهم وعصيانهم في دار الدنيا وظنوا أن الملائكة كالحكام في الدنيا يتمكن المراوغ إنكار ما سبق من جرمه عندهم ، وإن إنكارهم يفيدهم وقد تستمر هذه المراوغة بهم حتى في الآخرة يأتون حالفين لله قائلين (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) إذ يأتي الجواب (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٢) وهنا عند قبض الروح يأتي الجواب (بَلى) إنكم كنتم تعملون السوء (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من المنكرات والمعاصي والكفر والشرك ، ولا ينفعكم الإنكار.

[٣٠] (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) كل صنف من بابه الخاص به (خالِدِينَ فِيها) أي في حال أنكم تخلدون فيها وتبقون هناك أبد الآبدين (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي بئس منزلهم ، فإن مثوى ، محل من «ثوى» بمعنى اتخذ محلا ومكانا ، وقد كان هؤلاء الكفار متكبرين يستكبرون ويترفعون عن الإذعان لله ورسوله والأحكام.

[٣١] وإذ رأينا الحوار بين السائلين وبين الكفار وما صاروا إليه أخيرا من الخلود في النار ، فلننظر إلى المحاورة بين السائلين وبين المؤمنين (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي للمؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه ، والقائل لهم الأنبياء أو الملائكة أو الأئمة أو نحوهم (ما ذا أَنْزَلَ

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

(٢) الأنعام : ٢٥.

رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)

____________________________________

رَبُّكُمْ)؟ هل أنه صدق أو كذب خير أم شر؟ (قالُوا) في الجواب أنزل (خَيْراً) فإن القرآن خير وسعادة للدنيا والآخرة ، ثم يفصلون أنه كيف يكون خيرا ، قائلين (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الإيمان والأعمال (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لهم مكافأة حسنة ، فإن الإيمان موجب لاطمئنان القلب وسعادة الحياة ، لأنه بما يقرره من المناهج يضمن خير الإنسان وسعادته.

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ) لمن آمن واتقى (خَيْرٌ) من الدنيا ، لأن نعيمها لا يشوبه الكدر ، وليس له زوال واضمحلال بخلاف دار الدنيا (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) أي والآخرة نعم دار المتقين الذين اتقوا الكفر والمعاصي ، وهذا تأكيد لقوله «خير».

[٣٢] (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل عن «دار» والجنة هي البستان ، وعدن بمعنى الخلود ، من عدن بالمكان أي أقام فيه ومنه «المعدن» لأنه المقيم في الأرض (يَدْخُلُونَها) أي يدخل المتقون تلك الجنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من تحت قصورها وأشجارها (لَهُمْ) أي للمتقين (فِيها) أي في تلك الجنّات (ما يَشاؤُنَ) من الملذات كائنة ما كانت ، اما ما يستحيل فإنهم لا يشتهونه (كَذلِكَ) الذي تقدم من الخلود في الجنات ولهم ما يشتهون (يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ

____________________________________

الكفر والمعاصي.

[٣٣] هذه آخرة المتقين ، وتلك دنياهم ، فلننظر وقت انتقالهم من الدنيا إلى الآخرة ، كما نظرنا إلى حال الكفّار حال الانتقال (الَّذِينَ) صفة «المتقين» (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي تقبض أرواحهم ملائكة الرحمة بأمر الله سبحانه (طَيِّبِينَ) أي حال كونهم طيبي القلوب والأعمال ، لم يظلموا أنفسهم ولا أحدا غيرهم (يَقُولُونَ) أي تقول الملائكة لهم عند الوفاة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فأنتم في سلام من كل سوء ومكروه (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فقد ورد أن من مات قامت قيامته ، وأن القبر للمؤمن روضة من روضات الجنان (١) ، ولذا يصح أن يقال لهم حال الفزع ادخلوا الجنة.

[٣٤] وإذا تم السياق في المقابلة بين حال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا وعند الفزع وفي الآخرة ، رجع إلى الحوار مع المشركين والاحتجاج عليهم وبيان عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الكفار (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم ، إنه استفهام إنكاري ، أي ما ينتظر هؤلاء الكفار شيئا إلا الموت ، فقد تمت عليهم الحجة ، وبانت لديهم المحجة ، فإنهم معاندون لا يستعدون للإيمان ، وإنما ينتظرون أن تأتيهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٨ ص ٧.

رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ

____________________________________

رَبِّكَ) بإهلاكهم بعذاب الاستئصال (كَذلِكَ) أي كفعل هؤلاء الذين لا يؤمنون حتى يموتوا أو يعذبوا (فَعَلَ) الكفار (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنهم لم يؤمنوا بالرسل ، حتى جاء أمر الله بإهلاكهم وتدميرهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) حيث أهلكهم وأرسل عليهم العذاب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والعصيان وكان العذاب جزاء أعمالهم ، كالقطع الذي يصيب السارق فإنه جزاء سرقته لا أن القاضي ظلمه.

[٣٥] (فَأَصابَهُمْ) أي وصل إلى أولئك الذين من قبلهم من الكفار (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي عقاب أعمالهم وسمي العقاب سيئة لأنه يسيئ إلى الشخص ، وللتجانس اللفظي كقوله سبحانه (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) (وَحاقَ بِهِمْ) أحاط بهم ووصل إليهم (ما كانُوا) أي العذاب الذي كانوا (بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أو المراد نتيجة استهزاءهم وعاقبة سخريتهم.

[٣٦] ثم يأتي السياق ليبين مقولة جديدة من مقالات المشركين ، إنهم في هذه المرة يتفلسفون ناسبين كفرهم وأعمالهم السيئة إلى إرادته سبحانه (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) بأن جعلوا مع الله شريكا (لَوْ شاءَ اللهُ) أن نعبده وحده ولا نتخذ معه شريكا (ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من

__________________

(١) الشورى : ٤١.

نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)

____________________________________

الأصنام والأوثان ، فإنا حين نرى أنا عبدناها علمنا أن الله أراد عبادتنا لها ، إذ لو لم يرد عبادتنا لها لمنعنا عن ذلك بالجبر.

(نَحْنُ وَلا آباؤُنا) بدل عن الضمير في «عبدنا» أي لم نكن نعبد نحن وآبائنا ، الأصنام لو لم يرد الله (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لو شاء الله عدم تحريمنا للسائبة والبحيرة وغيرهما لمنعنا عن ذلك ، فلم نكن لنحرم شيئا من دون إرادته ورضاه ، فقد اعتقدوا الخرافة وعملوا المعاصي ، ونسبوها إلى الله سبحانه حين قيل لهم أنهم على باطل وأن أعمالهم توجب السخط والعقاب (كَذلِكَ) أي كفعل هؤلاء في الكفر والعصيان ونسبة أعمالهم إليه تعالى (فَعَلَ) الكفار (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وإنما قال «فعل» مع أن الاعتقاد ليس فعلا؟ للتغليب ، أو لأن الكلام كان في العبادة ، وهي فعل ، ولقد كان كلامهم من السخافة بحيث لا يستحق الجواب ، فهل سبحانه يجبر أحدا على عمل؟ إنه خلاف العقل والوجدان ، وإلّا لارتفعت جميع القوانين ولكان المجرم كالمحسن ، وبطلت الحكومات والأقضية (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) استفهام إنكاري ، أي ليس على الرسل إلا أن يبلّغوا أوامر الله سبحانه بكل جلاء ووضوح ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ، وإن هذا هو اللازم في اللطف أن يبعث الله رسولا مبينا ، أما أن يمنع العاصي بالجبر والإكراه فإنه خلاف العقل والبرهان ، وإلا كان الإنسان كآلة صماء لا فرق بينه وبين الحديد المسيّر في جهاز متحرك.

وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ

____________________________________

[٣٧] وكيف يشاء سبحانه الكفر والمعاصي ، والحال أنه قد بعث الأنبياء والرسل لإرشاد الناس وهدايتهم (وَلَقَدْ بَعَثْنا) أي أرسلنا (فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) كما بعثناك يا رسول الله إلى هؤلاء ، ليقول لهم الرسول (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي لا تطيعوه ، والمراد بالطاغوت ، الشيء الكثير الطغيان من شيطان أو إنسان آمر بالقبيح ، ويستعمل الطاغوت في الآلهة الحجرية مجازا بالمشابهة ، لأنها تعبد كما يعبد الرؤساء والشياطين كما قال سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) (١) (فَمِنْهُمْ) أي بعض تلك الأمم (مَنْ هَدَى اللهُ) أي هداه سبحانه إلى الإيمان بأن لطف به الألطاف الخفية حتى استقام على الطريق بعد أصل الإيمان وقد كان ذلك بمعنى الهداية المتوسطة بين الهداية التي هي إرائة الطريق ، والهداية التي هي الإيصال إلى المطلوب ، فإن الإنسان إذا أراه الله سبحانه الطريق فسار عليه ، لطف به ألطافا خفية ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢).

(وَمِنْهُمْ) أي بعض تلك الأمم (مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي ثبتت عليه وألزمته ، لأنه أعرض عن الرشاد فانحرف حتى صارت الضلالة من ملازماته (فَسِيرُوا) أيها الناس (فِي الْأَرْضِ) إلى هنا

__________________

(١) التوبة : ٣١.

(٢) العنكبوت : ٧٠.

فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)

____________________________________

وهناك لتعتبروا بآثار الأمم السابقة (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الذين كذبوا الرسل ، فإنكم ترون بلادهم خالية وآثارهم دارسة ، وقد جرت الرياح على محل ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد كما قال سبحانه : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (١) ومن غريب الأمر أنا نرى ذلك في غالب البلاد والأصقاع فعندنا خرائب «بابل» و «سامراء» وأطراف «الطاق» ببغداد.

[٣٨] وإذ قد جرت سنة الله سبحانه أن يترك الضال في غوايته لا يلطف به الألطاف الخفية ، كما كان سابقا حال الأمم الخالية كذلك فهذه الأمة أيضا كتلك إن من ضل وحاد عن الطريق لا ينفعه اهتمام الرسول بإيمانه ف (إِنْ تَحْرِصْ) يا رسول الله وتتعب نفسك (عَلى هُداهُمْ) أي على أن يهتدوا ويؤمنوا (فَإِنَ) حرصك لا ينفع إذ إن (اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي لا يلطف بمن تركه ليضل ـ كما شاء هو ـ بعد أن أراه الطريق فلم يقبل ، كالأب الذي لا يعتني بولده إذا رآه لا يطيع أوامره ، فنقول لمن حاول الإصلاح بينهما : لا تفعل فإن الأب لا يلطف بهذا الذي تركه ولم يعتن له (وَما لَهُمْ) أي لأولئك الضالين (مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم ويخلصونهم من عذاب الله وانتقامه.

__________________

(١) الدخان : ٢٦ ـ ٢٨.

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ

____________________________________

[٣٩] ولقد كان الكفار ينكرون البعث ويجادلون لنفيه ، وحيث يعجزون عن الإتيان بالحجة يلتجئون إلى الحلف ، كشأن العاجزين في مقام الاحتجاج والدليل (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) أي حلف هؤلاء الكفّار بالله سبحانه (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مجتهدين في أيمانهم قد بلغوا في اليمين مبلغ التأكيد بما قدروا عليه ، فإن «جهد» مصدر وضع موضع الحال ، والتقدير «يجتهدون اجتهادا في أيمانهم» مثلا قالوا «واللات وعزى ومناة وكل مقدساتنا ..» (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) أي لا يحييه للحساب والكتاب والجزاء ، وقد كذّبهم سبحانه بقوله (بَلى) ليس الأمر كما تقولون بل يبعثهم الله جميعا ، وقد وعد الله ذلك (وَعْداً) يكون ذلك الوعد (عَلَيْهِ) أي على الله (حَقًّا) ليس له خلف ، فإن المخلف لا يكون إلا جاهلا أو عاجزا أو خبيثا والله سبحانه منزه عن ذلك كله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) البعث ، لكفرهم بالله ، وعدم إيمانهم بالأنبياء المخبرين.

[٤٠] وإنما يبعث الله الخلائق ، ويحشرهم للجزاء وإلّا لكان ظلم الظالم الذي لم ينتقم منه في الدنيا خلاف عدله سبحانه ، فإنه كيف أمكن الظالم من الظلم وهو قادر على دفعه ، بلا جزاء شيء للظالم ، ولا جزاء حسن للمظلوم ، وفي يوم الجزاء يبين الله (لَهُمُ) أي للناس (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من العقائد والأعمال ، فيقول عمل فلان كان حقّا ، وعمل فلان كان باطلا ، وهكذا ، والبيان ، كناية عن الجزاء ،

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ

____________________________________

لأنه إنما يقع بعد البيان ، كما تقول للمجرم : سأعلمك غدا ، تريد إنك تجزيه بإجرامه (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في كفرهم بالله ، وإنكارهم للبعث ، وجحدهم الأنبياء ، يعلمون كذبهم فيجازون عليه.

[٤١] ولقد كان أكبر حجج المنكرين للبعث أنه غير ممكن ، فكيف يمكن أن تعود العظام الرميم إنسانا سويا؟ (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (١)؟ ولذا ردهم سبحانه بقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإنا نخلق الأشياء بمجرد الإرادة التي تجلو في كلمة «كن» وبمجرد هذا القول يكون ذلك الشيء المراد ، فكيف لا نقدر على إحياء الأموات ، وقد كان خلق الإنسان ابتداء أصعب ـ في نظر الناس ـ من إعادته ، فهل نقدر على ذلك الأصعب ولا نقدر على الأسهل؟

[٤٢] أولئك الكفّار تلك معتقداتهم وأعمالهم وجزائنا لهم (وَ) أما المؤمنون ف (الَّذِينَ هاجَرُوا) ديارهم وبلادهم (فِي اللهِ) أي في سبيل الله ولأجل أمره وابتغاء مرضاته فرارا بدينهم (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ظلمهم الكفار ، كما كان أهل مكة يظلمون المسلمين ويؤذونهم ، فهاجر قسم منهم إلى الحبشة وقسم إلى المدينة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي نعطيهم مبوّء ومنزلا ، نحو (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ

__________________

(١) يس : ٧٩.

فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)

____________________________________

الْبَيْتِ) (١) (فِي الدُّنْيا) دارا (حَسَنَةً) يسكنون فيها بكل هدوء واطمئنان.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) لهم جزاء أن ظلموا أو شردوا (أَكْبَرُ) من حسنة الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لأوصل عملهم إلى ما أعدّ الله لهم في الآخرة ، لعرفوا أن ذلك الأجر خير من أجر الدنيا ، وإنما جيء بهذه الجملة لبيان أنهم مع إيمانهم بالبعث لا يعلمون ما أعد الله لهم من الأجر والثواب ، وإنما يعتقدون بذلك إجمالا ، ورد أن هذه الآية نزلت في المعذبين بمكة ، مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكنهم الله بالمدينة وقد ذكر أن صهيبا قال لأهل مكة : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي ودعوني فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٤٣] ثم وصف سبحانه الذين هاجروا بقوله (الَّذِينَ صَبَرُوا) على الإيمان ، وعلى أذى المشركين لهم (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوّضون أمورهم إليه ، ويكلون شؤونهم إلى جنابه سبحانه ، ولعل الإتيان بفعل المستقبل لإفادة استمرارهم في التوكل ، وإن انقضى صبرهم الذي صبروه على أذى الكفار قبل الهجرة.

[٤٤] وإذ قابل السياق بين الكفار والمؤمنين ، رجع إلى الاحتجاج مع الكفار ، فقد كانوا ينكرون أن يكون الرسول بشرا فقال سبحانه

__________________

(١) الحج : ٢٧.

وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ

____________________________________

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله ، إلى الأمم الماضية (إِلَّا رِجالاً) من البشر ، لا ملائكة ولا جنّا (نُوحِي إِلَيْهِمْ) فهم بشر كسائر البشر في الخلقة والطبيعة إلا أنهم ، يمتازون بالوحي ، وهذا لا ينافي كونهم أعلى درجة من سائر الناس بفطرتهم ، فإن الكلام في مقابل الملائكة والجن (فَسْئَلُوا) أيها المنكرون لبشرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل الكتاب عن أنبياءهم هل كانوا بشرا أم غير بشر؟.

(إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إنهم كانوا بشرا أم لا ، وما ورد في الأحاديث من أهل الذكر هم آل محمد عليهم‌السلام فالمراد أنهم من المصاديق الظاهرة لأهل الذكر الذين يجب الرجوع إليهم ، حيث يستفاد من الآية قاعدة كلية عقلائية مقررة في الشريعة ، هي سؤال أهل العلم عما لا يعلمه الإنسان ، وبطبيعة الحال يجيب أهل الذكر أن من أرسل سابقا كانوا بشرا ، حتى المسيحيون المألّهون لعيسى عليه‌السلام لا ينكرون بشرية سائر الأنبياء كآدم وموسى وإبراهيم عليهم‌السلام وغيرهم.

[٤٥] (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) متعلق ب «نوحي إليهم» أي كنا نوحي إلى الأنبياء عليهم‌السلام السابقين بالأدلة البينة الواضحة ، والزبر «الكتب المتفرقة» من زبر بمعنى كتب ، أو متعلق بأرسلنا ، أي «ما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا» (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (الذِّكْرَ) أي القرآن كما أنزلنا إلى الأنبياء من قبلك ، وإنما سمي القرآن بالذكر لأنه مذكر بالله

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦)

____________________________________

سبحانه ، بعد ما نسيه الإنسان ، والذكر يشير إلى ما أودع في فطرة الإنسان من معرفته سبحانه (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) من الأدلة على المعارف ، وما فرضه سبحانه عليهم من الأحكام (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي لكي يتفكروا في الآيات الكونية ، فإن الإنسان إذا ألفت إلى شيء أخذ يتفكر حوله ، والحاصل إن الإنزال لسببين تبيينك للناس ، وتفكرهم.

[٤٦] ثم يعد سبحانه المشركين والعاصين بالعذاب إن تمادوا في كفرهم وغيّهم (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي عملوها ، والمراد دبّروا المكائد لإخماد صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهدم الإسلام (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون والاستفهام تهويلي جيء لبيان أنه يلزم عليهم أن يحتملوا ذلك (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بإنزال صاعقة عليهم ، أو غلبة النبي عليهم في حرب فجائية ، فيقتلون ويؤسرون.

[٤٧] (أَوْ يَأْخُذَهُمْ) الله (فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في حالة من حالات تحوّلهم من هنا إلى هناك ، أو من عمل إلى عمل ، في ليل أو نهار ، بأن يميتهم موت فجأة (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) لا يتمكنون من تعجيز الله حتى لا يقدر عليهم ، فإنه سبحانه لا يمتنع عليه شيء.

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ

____________________________________

[٤٨] (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) منهم أي في حال يقظة وحذر ، فإن الترصد والحذر لا ينفع في الفرار من عذاب الله سبحانه (فَإِنَّ رَبَّكُمْ) أيها البشر (لَرَؤُفٌ) بكم (رَحِيمٌ) حتى بالعاصين أنه مع قدرته لا يفعل بكم ذلك لكي تتوبوا وتعودوا ، فإن قطعتم الصلة تماما ، وما بقي فيكم رجاء عود ، فإن هناك يحل العقاب ولا يفيد كونكم من حضر ، أو سفر ، في غفلة أو تخوف ، ومن غريب أمر الإنسان أنه مع ما يرى من أحوال الأمم السابقة وما يحلّ بمن حواليه من العذاب والنكال ، يسدر في غيّه ولا يرعوي عن ضلاله وإثمه!

[٤٩] إن كل ما في الكون يوحي بالإيمان فكيف لا يؤمن هذا الإنسان؟ وكل ما في الكون يوحي بقدرة الله وإرادته الشاملة ، فكيف لا يخاف الإنسان قدرته وبطشه ويسدر في غيّه؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أليس قد رأى هؤلاء الكفار (إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) من حجر أو شجر أو إنسان أو حيوان أو غيرها (يَتَفَيَّؤُا) من الفيء ، وهو الظل الراجع بعد ما فنى بالشمس ، فالظل بعد الظهر يسمى فيئا ، وقبل الظهر لا يسمى ذلك (ظِلالُهُ) أي ظل ما خلق الله من شيء ، يعني يتراجع ظل كل شيء (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) أي عن الطرفين ، فهذا ظل يمتد ويتطاول نحو اليمين فيما إذا طلعت الشمس ، وذلك ظل يمتد ويتطاول نحو اليسار فيما إذا مالت الشمس عن دائرة نصف النهار ، ومشهد الظلال مشهد مثير يوحي بمعنى الحياة المتحركة ، فالظل يمتد ويتقلص وينعدم دلالة

سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)

____________________________________

على حركة الكون دائبا سريعا ، فمن يا ترى سخر هذا المتحرك ليسير من هنا وهناك؟ أو ليس هناك إله له؟ أو ليس أن الإله الذي يحرك هذا الفلك العظيم وسيع القدرة ويقدر على كل شيء؟

ولعل ذكر «اليمين» مفردا و «الشمائل» جمع «شمال» جمعا ، لنكتة معنوية هي أن الخير من جنس واحد ، فهو كالواحد ، دون غيره فهو كأجناس ، فاليمين لأنه أشبه بالخير جاء مفردا ، والشمال لأنه أشبه بمقابله جاء جمعا ، كما قال سبحانه : (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (١) و (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٢) وكما نشاهد من أن الراحة شيء ، والأتعاب أشياء ، والصحة شيء والأمراض أقسام ، أو لأن الفيء دائما يفيء نحو الشمال ، فإن الشمس إذا طلعت وقع لكل شاخص ظل طويل نحو المغرب ، فيأخذ في النقصان قليلا قليلا ، إلى أن يبلغ ناحية المشرق وهكذا يرجع حتى تغرب الشمس فكل هذا حركة للظل نحو الشمال ، فالحركة نحو اليمين مرة واحدة ونحو الشمال طول اليوم (سُجَّداً) جمع ساجد ، أي أن تلك الأشياء كلها بظلالها خاضعة (لِلَّهِ) ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣) والخضوع هو السجود ففي الإنسان بشكل وفي غيره بشكل آخر (وَهُمْ داخِرُونَ) أي خاضعون كمال الخضوع من دخر ، بمعنى صغر وخضع.

فإن السجود قد يكون مع كمال الصغار ، وقد يكون بدونه ، وإنما

__________________

(١) المائدة : ١٧.

(٢) البقرة : ٢٥٨.

(٣) الرعد : ١٦.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ

____________________________________

جيء بجمع العاقل لوجود العقلاء فيهم فالتغليب أورث ذلك ، لأنه حيث وصفهم بالسجود الذي هو فعل العقلاء ناسب الإتيان بجمع العاقل ، أو لأن الأشياء تعقل وإن لم يكن لها كعقول البشر ، كما قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١).

[٥٠] وإذ ذكر سبحانه إن الأشياء بظلالها تسجد لله تعالى ، بيّن سجود الأحياء بصورة خاصة ، تخصيصا بعد التعميم لأهميتها ، وربما يقال أن «سجدا» في الآية السابقة ترجع إلى الظلال ، فيما في هذه الآية ليس تأكيدا بل تأسيسا (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) أي يخضع غاية الخضوع (ما فِي السَّماواتِ) من الطيور ونحوها (وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) تدب في الأرض أو في البحر ، فإن «دب» بمعنى مشى ، والسباحة نوع من المشي (وَالْمَلائِكَةُ) يسجدون لله ، فما بال الإنسان لا يسجد لله سبحانه في هذا الجو الذي يسجد له كل جماد ونبات وحيوان وملك؟ (وَهُمْ) أي أن الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ) في سجودهم لله.

[٥١] (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) والإتيان بهذا البيان زيادة في الخوف ، فإن خوف الشخص بما يصيبه من فوقه أكثر ، فهم يخافون عقاب الله أن يشملهم من فوقهم ، وأما لبيان أن الخوف من الله الذي هو فوقهم ـ فوقا منزليا لا مكانيا ـ ومن المعلوم أن الخوف من ذي الرتبة العالية

__________________

(١) الإسراء : ٤٥.

وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً

____________________________________

أكثر من المساوي ونحوه (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فليس امتثالهم خاصا بالسجود ، بل إنهم يفعلون كل ما يأمرهم به سبحانه ، وعلى هذا فخوفهم من عظمته سبحانه ، فإن الشخص يخاف العظيم ويهابه ، وإن عرف أنه لا يعذبه ولا يؤذيه ، أو أن خوفهم من أن يعصون فيعاقبهم ، كما عوقب «فطرس».

[٥٢] وإذ تحقق خضوع الكون لله الواحد ، فما بال هؤلاء الكفار المشركين يتخذون آلهة متعددة (وَقالَ اللهُ) بلسان أنبيائه عليهم‌السلام وأصفيائه ، للبشر (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) هذا نهي عن أقل التعدد ، والمراد به المثال ، فالأكثر لا يصح بطريق أولى ، ولأن من أخذ الأكثر فقد أخذ الإثنين ، ولا مفهوم للعدد هنا من حيث الزيادة ، بل من حيث النقيصة ، وجيء باثنين للاتساق مع قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) الرهبة هو الخوف ، أي خافوا مني وحدي ، وتقديم «إياي» لإفادة الحصر.

[٥٣] وكيف تتخذون آلهة متعددة (وَ) الحال أن (لَهُ) وحده (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالكل ملكه ومن خلقه ظرفا ومظروفا ، وقد تقدم أنه قد يطلق الظرف ويراد به الأعم ، كما قد يطلق المظروف ويراد به الأعم (وَلَهُ) وحده (الدِّينُ) أي الطريقة التي يتبعها الإنسان لسعادته (واصِباً) من وصب ، بمعنى دام ووصل ، أي واصلا من السابق إلى هذا الوقت ، فلا دين صحيح إلا دينه ، أو المراد بالدين «الجزاء» أي أن

أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا

____________________________________

الجزاء بيده نحو (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) دائما ، فليس الجزاء بيد غيره ، فهو إله واحد ، ومالك واحد ، والدين له وحده فكيف تتخذون إلها غيره وتجعلون له شريكا؟ وبعد هذا كله (أَفَغَيْرَ اللهِ) من الأصنام وشبهها (تَتَّقُونَ) وتخشون أيها المشركون ، وهو استفهام استنكاري للتوبيخ والتقريع.

[٥٤] ثم بعد مقام الألوهية والملكية والدين (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي أن جميع ما يرتبط بكم من النعم إنما هو من الله سبحانه وحده ، فله النعم وحده ـ أيضا ـ (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ) ونزل بكم (الضُّرُّ) من خوف أو مرض أو فقر أو شدة (فَإِلَيْهِ) سبحانه ـ وحده ـ (تَجْئَرُونَ) أي تتضرعون لكشفه وإزالته ، فهو وحده كاشف ضركم ، أيضا ، فأين تذهبون باتخاذ غيره إلها؟

[٥٥] وبعد ذلك كله إن الإنسان لمشرك كفور (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) أي دفع الضرر الذي وصل إليكم ، وحيث أن الضرّ كأنه شيء يحيط بالإنسان ، عبّر عن دفعه بالكشف ، فكأن الإنسان مستور تحته ثم يظهر ، إذا رفع عنه (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) فجأة ومن غير ترقب ، جماعة منكم أيها البشر (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) يجعلون له شريكا.

[٥٦] إنهم يشركون لمقابلة نعمتنا بالكفران ، من باب «اتق شر من أحسنت إليه» و «يجزي كما يجزي سنمار» إنهم يشركون (لِيَكْفُرُوا) اللام

بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)

____________________________________

للمقابلة أي أن شركهم لقصدهم الكفر (بِما آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم من النعم ، كأنهم لا غرض لهم إلا مقابلة النعم بالكفران (فَتَمَتَّعُوا) أيها الكفار ، تلذذوا بمتاع الحياة وهو أمر قصد به التهديد والوعيد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أعمالهم ، في القبر أو القيامة ، أو في الدنيا ، فإن الانحراف عن مناهج الله سبحانه يوجب الدمار والانهيار.

[٥٧] إن الانحراف في عقيدة هؤلاء المشركين أوجب الانحراف في عباداتهم وسلوكهم الاجتماعي ، فهم يجعلون لغير الله بعض ما رزقهم الله سبحانه ، فينذرون للأصنام ، كما يئدون البنات خوف العار فهم يعبدون غير الله ، وينذرون لغير الله ، ويخرقون منهاج الله (وَيَجْعَلُونَ) أي يجعل هؤلاء المشركون (لِما لا يَعْلَمُونَ) أي لما لا يعلم المشركون بواقعه وحقيقته ـ الأصنام ـ فضمير الجميع للمشركين ، وعائد «ما» محذوف ، أو المراد «للأصنام التي لا تعلم هي» وجيء بلفظ العاقل لها ، تماشيا مع زعم المشركين أنها تعقل ، وقد تكرر مثل ذلك في القرآن الحكيم (نَصِيباً) وقسما (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الأنعام والحرث فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا وعجيب أن يجعل رزق الله لغير الله ، فقد كانوا يتقربون إلى الأصنام بالذبائح والنذورات (تَاللهِ) أي والله و «التاء» تأتي لقسم يستغرب فيها (لَتُسْئَلُنَ) أيها المشركون في الآخرة (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) فإنهم

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)

____________________________________

كانوا ينسبون أعمالهم إلى الله سبحانه كما قال سبحانه في آية أخرى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١)؟

[٥٨] (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) فكان المشركون يقولون إن لله البنات (سُبْحانَهُ) إنه منزّه عن ذلك ، منصوب بفعل مقدر أي أسبحه سبحانه (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الأولاد البنين دون البنات ، فهم يرون أن من نصيبهم الذكور ، ومن نصيب الله البنات ، وهذا تجرؤ مزدوج : جعل الأولاد لله وكونهم بناتا ، بينما أن الذكور من حصتهم وحدهم ـ في زعمهم ـ

[٥٩] (وَ) إلى أي حدّ أنهم يكرهون البنات ـ التي جعلوها لله سبحانه ـ إلى حد أنه (إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) بأن أتت امرأته الحامل بمولود مؤنث ، وهي بشارة حقيقية ، فإن الأولاد بنين وبنات نعم من عند الله سبحانه (ظَلَ) أي استمر من ذلك الوقت إلى الليل ، فإن ظل بمعنى بقي إلى الليل (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي مائلا إلى السواد ، من كثرة الكراهية والغضب ، فإن الإنسان إذا غضب غضبا شديدا توجه الدم الكثير نحو خارج بدنه ، يحمل معه الروح ، لدفع ذلك المكروه ، وحيث أن جلد الوجه رقيق تظهر آثار الدم المتراكم عليه ، ولون الدم لدى التراكم مائل إلى السواد (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلئ غيظا وغضبا ، لكنه يكظم غيضه ، لما لا يجد له منفذا.

__________________

(١) يونس : ٦٠.

يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ

____________________________________

[٦٠] (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أي يستتر من أهله وعشيرته حياء وخجلا (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) من ولادة البنت له ، ويأخذ يتفكر في أمر البنت (أَيُمْسِكُهُ) أي هل يبقي المولود ـ البنت ـ (عَلى هُونٍ) أي ذل وهوان ، لنفسه ، أو للبنت (أَمْ يَدُسُّهُ) أي يدفن المولود ـ البنت ـ حيا (فِي التُّرابِ) فقد كانوا يدفنون البنات ويقولون نعم الصهر القبر ، ولهم في ذلك قضايا ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (١) (أَلا) فلينتبه السامع (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الحكم حكم هؤلاء بأن لله البنات ـ التي يكرهونها هذه الكراهية الشديدة ـ ولهم البنين ـ وحدهم لا يشركهم فيهم الله سبحانه ـ كيف اختاروا له الشيء القبيح ـ في نظرهم ـ ولهم الأفضل؟

[٦١] لقد كان الكفار يجعلون الله سبحانه مثلا للشخص القبيح ـ في نظرهم ـ فهو أب البنات ، ويجعلون أنفسهم مثلا للشخص الحسن ، فهم آباء البنين ، ولكن الواقع بخلاف ذلك و (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم المشركون الذين لا يؤمنون بالتوحيد ـ للتلازم بينهما ـ وقد كان عدم إيمانهم بالجزاء على أعمالهم السيئة وأقوالهم القبيحة جرأتهم على ما يقولون وينسبون إليه سبحانه من اتخاذ البنات (مَثَلُ السَّوْءِ) فإن الإنسان السيء عقيدة وعملا يمثل له بالمثل السيئ فيقال عن اليهود ـ

__________________

(١) التكوير : ٩ و ١٠.

وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ

____________________________________

مثلا ـ : كمثل الحمار ، وعن بلعم : كمثل الكلب (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) كالنور ، في (اللهُ نُورُ السَّماواتِ) (١) فإن أعلى الأمثلة الخيّرة الجميلة له سبحانه ، لأنه المنزّه عن كل دنس (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القاهر الغالب الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمُ) في أفعاله ، فعدم أخذه لهؤلاء الكفار عاجلا ، إنما هو بمقتضى الحكمة ، لا لأنه عاجز لا يقدر.

[٦٢] إن الله سبحانه بحكمته يمهل العاصين لعلهم يرجعوا ، ومن علم أنه لا يرجع فإنه يمهله ليتم عليه الحجّة ويأتي الوقت المحدّد له حسب الحكمة البالغة (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ) بأنواع العقاب (النَّاسَ) العاصين بسبب ظلمهم بالكفر والعصيان (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض ـ المعلوم من السياق ـ (مِنْ دَابَّةٍ) تدب إما هلاك الإنسان فلأنه ظلم وإجرام ، وإما هلاك سائر الدواب فلأنها خلقت لأجل الإنسان «كما في الحديث القدسي : خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي» فإذا هلك الأصل هلك الفرع ، أو المراد بالدابة «الإنسان الظالم» والتعبير ب «ما» عنهم للإهانة ، والعموم المقصود هو الإنسان ـ على هذا ـ لأنه هو محور الكلام ، ومن القاعدة أن العموم ينصب على المحور ، فإذا قال الصياد : ليس في هذه الصحراء شيء ، أراد ما يصاد ـ لا الحطب ـ بخلاف ما لو قال الحطّاب : ليس فيها شيء ، فإنه يريد الحطب ـ لا الصيد ـ (وَلكِنْ) لا يؤاخذهم سبحانه بأعمالهم

__________________

(١) النور : ٣٦.

يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى

____________________________________

الظالمة بل (يُؤَخِّرُهُمْ) أي يؤخر إهلاكهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قد سمّي عنده ، أي يمهلهم إلى وقت سماه وأجل حدّه ، وهو الوقت المضروب لهلاكهم وموتهم.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي وقت هلاكهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) لا يطلبون التأخير ـ لعلمهم بأنه لا يفيد ـ والمراد بالساعة ، المدة من الزمان قليلة كانت أم كثيرة (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يطلبون تقديمه ، فإن كان وقت هلاكهم الساعة الرابعة فجاء أجلهم ليصل إليهم في ذلك الوقت ، لا يتقدم بأن يميتهم في الساعة الثالثة ، ولا يتأخّر بأن يميتهم في الساعة الخامسة ـ وقد مرّ تفسير هذه الآية سابقا.

[٦٣] (وَيَجْعَلُونَ) أي يجعل هؤلاء المشركين (لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) كالبنات والشركاء وأمثال ذلك مما يكرهونه هم بأنفسهم ، فقد كانوا يكرهون البنات ويكرهون الشركاء (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي تخبر ألسنتهم بالكذب ، في نسبة الحسن ـ أي البنين ـ إلى أنفسهم ، وإنما قال «وتصف ألسنتهم» للإشارة إلى أن وصفهم لفظي لا عمقي فهم لا يعتقدون بذلك عن صميم القلب وإنما ذلك لفظ يقولونه ـ تقليدا وبلا حجة ـ (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) هذا بدل عن «الكذب» أي أن قولهم لنا الصفة الحسنى ـ وذلك أن لنا البنين ـ كذب وصفته ألسنتهم. وكان تسمية ذلك وصفا باعتبار أنهم كانوا يقولون أن الله أب البنات ، ونحن آباء البنين ، فقد كانوا يصفونه سبحانه بما هو قبيح لديهم ، ويصفون

لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)

____________________________________

أنفسهم بصفة هي حسنة لديهم ، وإنما ذكر ذلك بعد ما سبق من قوله سبحانه (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) لأمرين :

الأول : إن هذا عام يشمل البنات وغيرها.

والثاني : لترتيب الحكم عليهم بالنار لمقالتهم هذه ـ هنا ـ (لا جَرَمَ) أي حقا ، ومن هذه الجهة ـ وقد تقدم تفصيل هذه الكلمة ـ (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) جزاء لقولهم ذلك ونسبتهم إليه سبحانه ما لا يليق به (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي معجّلون إلى النار ، يلاقونها سريعا ، من الفرط بمعنى ما يسبق ، ففي الدعاء على الطفل الميت : «اللهم اجعله لأبويه ولنا سلفا وفرطا وأجرا» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني فرطكم على الحوض» (١).

[٦٤] والقوم ليسوا بأول أمة كذّبت وعصت ، فقد كانت عادة الأمم السالفة أن تكفر وتأثم ـ وكان هذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما يلاقيه من تكذيبهم وأذاهم ـ (تَاللهِ) التاء للقسم ، وهي كثيرة الإتيان في الأمر المستغرب (لَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلنا (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله فخالفوا الرسل ولم يطيعوا وزين (لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فكان الكفر والانحراف في نظرهم أحسن من الإيمان والاستقامة ، فتركوا الرسل واتبعوا الشيطان (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) أي أن الشيطان متولي أمورهم وهم يتبعونه (الْيَوْمَ) في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ١٠٩.

وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ

____________________________________

الآخرة ، ويتبرأ كل من الشيطان وتلك الأمم بعضهم من بعضهم إذ يقول لهم (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) (١) وقوله «اليوم» وقد انقضى ذلك اليوم ـ إذ الكلام حول الأمم السالفة ـ من باب حكاية حال ماضية ، نحو (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (٢).

[٦٥] وهناك تلبيسات من الشيطان واتباع له ، منهم المشركون الذين جعلوا لله البنات ، ومنهم أهل الكتاب الذين ضلوا ، فإنزال هذا الكتاب للفصل بين قضاياهم وبين الحق من الاختلافات ، هل هو مع إحداها أو مخالف للجميع؟ (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) أي للناس ـ المفهوم من السياق ـ (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) فمثلا اختلفوا في التوحيد والشرك ، وكون الله أبا أم لا ، وإنه جسم أم ليس بجسم ، وإن الشيء الفلاني حرام أم حلال؟ وهكذا (وَهُدىً) أي أن القرآن يهديهم إلى الحق ، بالاضافة إلى بيان الحق من الاختلافات (وَرَحْمَةً) سببا للرحمة فإن من تمسك بالقرآن رحمه‌الله سبحانه وتفضل عليه بالغفران والنعمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم هم المستفيدون ، وإن كان فيه صلاحية الهداية والرحمة لكل البشر.

[٦٦] ثم يرجع السياق إلى تعداد نعم الله الدالة على وجوده وعلمه وقدرته ولطفه وسائر صفاته (وَاللهُ) وحده (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو

__________________

(١) إبراهيم : ٢٣.

(٢) الكهف : ١٩.

ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ

____________________________________

(ماءً) أي المطر (فَأَحْيا بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فإنّ موت الأرض جدبها وعدم النبات وحياتها الخصب والنبات ، وإنما سميت حياة لأن الأرض عند نزول المطر تشتغل وتعمل وهما من آثار الحياة بخلاف الأرض حين انقطاع المطر فهي جامدة راكدة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإحياء بعد الموت (لَآيَةً) حجة وبرهانا (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم وتعقل ، فإن السماع كثيرا ما يكون كناية عن ذلك ، بعلاقة السبب والمسبب.

[٦٧] (وَإِنَّ لَكُمْ) أيها البشر (فِي الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي عظة واعتبار كأن الإنسان يعبر من الجهل والضلالة ـ بسببها ـ إلى العلم والهدى ، كالذي يعبر من هذا الشاطئ إلى ذاك ، وإنما كانت عبرة لأنها تدل على قدرة الله وبديع صنعه (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أي بطن كل واحد منها ، فإنه يجوز إرجاع ضمير المفرد إلى الجمع ، باعتبار كل واحد ، كما قال سبحانه : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) (١) (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) هو المدفوع للحيوان (وَدَمٍ) فإن الغذاء إذا دخل الجسم تحول إلى سائل غليظ أو رقيق في المعدة ، ثم تشرب الكبد صفوه وتبقى في الكرش ثقله ، ثم إن الكبد تحوّل الصفو إلى الدم وهو يصعد إلى الجسم كله ليغذيه ويصير بدل ما يتحلّل من الأجزاء ـ بفعل

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨)

____________________________________

الحرارة الخارجية والداخلية ـ وإذا وصل الدم إلى غدد اللبن في الضرع تحوّل إلى اللبن (لَبَناً خالِصاً) عما سواه فليس مخلوطا بشيء من فرث أو دم فقد تخلص اللبن من الفرث أولا ، ومن الدم ثانيا ، فهو خارج من بينهما (سائِغاً) يسوغه الإنسان ، فلا يؤذي الحلق والحنجرة (لِلشَّارِبِينَ) فهل هناك غيره سبحانه يعمل هذا؟

[٦٨] (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) أي من كل واحد من تلك الثمرات ـ على ما تقدم في الآية السابقة ـ (سَكَراً) أي خلا ـ كما في بعض التفاسير ـ (وَرِزْقاً حَسَناً) فمن جعل الثمرة؟ ومن جعلها بحيث تتقبل أي تحوّل خلّا ، أو طعاما حسنا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دلالة على وجوده سبحانه وصفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يعملون عقولهم ليدركوا الحقائق وينتقلوا من الأثر إلى المؤثر.

[٦٩] ومن آياته سبحانه ، العسل بتلك الكيفية العجيبة التي ينتجه النحل (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي ألهمها إلهاما خفيا ، فإن الله سبحانه هو الذي جعل الحيوانات تشعر بما عندها من الشعور والإدراك (أَنِ اتَّخِذِي) وإنما أنث لأنه للجنس (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) فإن بعضها تتخذ بيتها في الجبل (وَمِنَ الشَّجَرِ) وبعضها تتخذ بيتها من الشجر (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يجعلونه عريشا كالكروم والسقوف ، وذلك لأن النحل

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)

____________________________________

تتخذ في الأعالي بيتها ليسهل لها المراودة إليها ، ويكون أبعد عن تناول العابثين.

[٧٠] (ثُمَّ كُلِي) يا أيتها النحل ، أصله «أكل» حذفت الهمزة تخفيفا ، وكذا «مر» من «أمر» (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) النقية ، من أي نوع منها شئت (فَاسْلُكِي) في ذهابك إلى الثمار ورجوعك إلى بيتك (سُبُلَ رَبِّكِ) الطرق التي جعلها الله سبحانه في الهواء وهذا للإشارة إلى المنظر الجميل الذي يولده ذهاب النحل وإيابها ، فيراها الإنسان ذاهبة عائدة لتصنع العسل فيعطف قلبه وتتأثر بالحنان أعصابه (ذُلُلاً) جمع ذليل ، أي مذللة موطئة هيّنة ، وهي حال عن السبل ، أي الطرق في حال كونها مذللة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) أي بطون النحل (شَرابٌ) طيب ، هو العسل (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) فمنه شديد البياض ، ومنه أصفر ، ومنه مائل إلى الحمرة (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) فإن العسل ينفع من الأمراض الباردة ، فليس المراد أنه شفاء لجميع الأمراض ، وإنما هو من قبيل القضايا الطبيعية ، كقولك الشيء الفلاني مليّن لا تريد أنه في كل مزاج وطبع وحالة ، بل تريد أن طبيعته كذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الشأن المتعلق بالنحل ، من صنع بيوتها بتلك الهندسة المسدسة ، وذهابها وإيابها وشربها رحيق الأزهار ، وإعطائها العسل الملوّن الشافي (لَآيَةً) دلالة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في الآثار ويستدلون بها على وجود المؤثر وعلمه وقدرته وسائر صفاته ، وقد

وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)

____________________________________

أردف سبحانه في هذه الآيات نعما جميلة متشابهة في كونها عصيرة الأشياء فالمطر عصير السحاب ، واللبن عصير الفرث والدم ، والسكر والرزق الحسن عصير الثمار والأشجار ، والعسل عصير النحل ، وقد هيأ الله سبحانه هذه الأرزاق الطيبة النظيفة للإنسان ، من السماء والأرض ، والجبال والأشجار ، والطيور والبهائم ، ليشكر الإنسان ويعرف باريه.

[٧١] وقد جعل الله لكم حياة ورزقا ، وأزواجا ، بعد تلك النعم السابقة ، فهل تؤمنون بعد ذلك بالباطل (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) (١)؟ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أيها البشر (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) يميتكم ، فحياتكم وموتكم منه (وَمِنْكُمْ) أيها البشر (مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أخسه وأحقره وهو الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان العقل والقوة ، فينحرف ، ولعل تسميته «ردّا» لأنه ارتداد إلى حالة الصغر فيعود كما كان (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) اللام للعاقبة ، أي عاقبة الردة عدم علمه بشيء لأنه خرف وذهب عقله ، بعد أن كان عالما ، يعلم الأشياء ، ويعرف الأمور (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمصالح عباده ولذا يفعل بهم هذه الأحوال (قَدِيرٌ) على ما يشاء من تدبير أمورهم وإماتتهم بعد إحيائهم ، ولعل الإتيان بهذه الصفة «ومنكم ...» لكسر كبرياء الإنسان وأن يتذكر ما يصيبه بعد القوة والعلم ، من الضعف والجهل ، لعلّه يتوب ويئوب ... كما إن نفس تلك الحالة مما تقرب الإنسان إلى الطاعة فقد تحطمت فيه الشهوات ،

__________________

(١) العنكبوت : ٦٨.

وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ

____________________________________

ولم يبق منه إلا قلب خافق ضعيف يتأثر سريعا ، ويئوب بعد ما عمل المعاصي والآثام.

[٧٢] (وَاللهُ) سبحانه (فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) إن الحي ـ الذي أشير إليه في الآية السابقة يحتاج إلى الرزق ـ ونرى أن الأرزاق مختلفة ، فمن جعل هذا التفاضل؟ إنه الله سبحانه ، ولماذا جعل؟ ذلك لإدارة شؤون الكون فلو لا هذا التفاضل من كان يقوم بالأعمال الخدمية من تنظيف وتصنيع وهكذا؟ ولو لا الأغنياء من كان يزرع الأراضي الشاسعة لتخزين الحنطة والشعير وسائر المآكل ومن كان يجلب الأجناس من البلاد النائية؟ وقد افتكر الجهّال أن يهدموا نظام الله سبحانه في التفاضل ، فأولدوا ـ الشيوعية ـ لكنهم باءوا بالفشل أوّلا ـ حيث إن المجتمع عاد إلى طبقتين أيضا : الأغنياء والفقراء ، فالأغنياء هم الحزب ، والفقراء هم سائر الناس ، وقد أضيف إلى التجار قوة الدولة ليستنزفوا حتى الحبة الأخيرة من كيس الفقير ، ولذا يعيش الناس في بلاد الشيوعيين في أتعس حالة ، وذلك ليس من جهة عدم تطبيق النظام ، بل من جهة غلطية النظام ، وتردّوا إلى الحضيض ثانيا ـ فلم يكن الإنسان يسمح بأن يعمل ليأكل ثمر عمله غيره ، ولذا لجأ التجار الجدد إلى الظلم والجبر ـ الديكتاتورية ـ فاضطهد الشعب ، ولم ينتج ذلك عن عمله بكل قواه فتأخر الاقتصاد.

وأقل نظرة إلى البلاد المختلفة في النظام الشيوعي وغير الشيوعي ـ مع حفظ نسبة كبر الدولة ، عند المقارنة ـ كاف لإدراك هذه الحقيقة المرة ، والإسلام كما لا يرتضي الشيوعية لكونها خطأ ، لا يرتضي الرأسمالية لكونها خطأ أيضا ، وإنما له نظام خاص لا كهذه

فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١)

____________________________________

ولا كتلك ، والمقصود هنا الإشارة إلى أن التفاضل موجود لا محالة حتى عند من يزعم الشيوع والاشتراك ، وإن العمل لأجل إزالته خطأ يعود بأفظع الجرائم وبلا فائدة .. والمراد بالرزق جميع أنواع الاحتياج من مأكل وملبس ومسكن وغيرها (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) فضلهم الله سبحانه (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي لا يرد المثري رزقه على عبيده حتى يكون هو وإياهم سواء ، فهل وجدت أحدا فعل ذلك؟ وإذ لا يرد المثري رزقه على عبيده حتى يتساوون فكيف تجعلون مخلوقات الله سبحانه ـ وهي الأصنام ـ متساوية له في العبادة والطاعة؟ إن من لا يستعد أن يكون هو وعبيده متساويين في الرزق ، كيف يجوز أن يكون الخالق والمخلوق متساويين في الألوهية؟ قال ابن عباس : يقول : إذا لم ترضوا أن تجعلوا عبيدكم شركاءكم فكيف جعلتهم عيسى إلها معه وهو عبده؟ ونزلت في نصارى نجران ... و «رادّي» من ردّ ، اسم فاعل حذف علامة الجمع وهو «النون» للإضافة ، وعلى متعلق ب «رادّي» أي لا يردون على ما ملكت أيمانهم ـ وهم العبيد ـ حتى ينتج ذلك أن يكونوا سواء ، ولذا جيء ب «فاء» العطف (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ)؟ استفهام إنكاري أي هل يجحد هؤلاء نعمة الله على البشر حتى يجعلوا عبيده أمثاله؟ أم لا يجحدون النعمة فكيف يجعلون المنعم والمنعم عليه سواء في الألوهية ، وهم لا يرضون التساوي في المال بين السادة والعبيد؟.

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً

____________________________________

[٧٣] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنس أنفسكم (أَزْواجاً) فليست النساء من جنس آخر ، وهذا فضلان ، الأول جعل الأزواج ، والثاني كونهن من نفس الجنس ، لأن الإنسان بجنسه آلف ، ولنوعه أميل ، قال الشاعر «كل جنس لجنسه يألف» (وَجَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ) تأنسون بهم ، ويكونون عونا لكم ، وسببا لامتدادكم في الحياة (وَحَفَدَةً) جمع حفيد ، وهم أبناء البنات وأبناء البنين ، أو الخدم ومن يشبهه ، أو الأعم منهما ، لأن معنى الحافد المسرع إلى الخدمة ، فإن كان المراد الأول كان عطفا على البنين ، وإن كان غيره كان عطفا في المعنى ، أي جعل لكم حفدة (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الأشياء الطيبة من اللذائذ (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) استفهام إنكاري أي كيف يؤمن الكفار بالباطل وهو الأصنام (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) فإن كفران النعمة أن يعبد الإنسان غير رازقه ، والمتفضل عليه ، كأن يأخذ الأجر من زيد ويعمل لخالد.

[٧٤] ثم بين سبحانه ، كيف أنهم يؤمنون بالباطل (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي سواه سبحانه (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) فإن الأصنام لا تملك ولا تقدر أن ترزق أحدا (مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) متعلق به «رزقا» أي لا تملك رزقا من السماء ، كالمطر ، ولا من الأرض

وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ

____________________________________

كالثمر ، وشيئا بيان لرزقا ، أي لا يملك أيّ شيء من رزق السماء والأرض (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن يملكوه ، لأن الملك بيده سبحانه.

[٧٥] (فَلا تَضْرِبُوا) أيها الناس (لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي الأشباه ، وهي الأصنام ، فقد كانوا يجعلونها أشباها لله في الألوهية ، ويضربون لله المثل بها ، فإنك إذا جعلت خالدا قرين زيد ، ضربت المثل لزيد بخالد ، فقلت ، إن شخصا كزيد ، وهو خالد يفعل كذا ، أو لا يفعل كذا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) أن لا مثل له ، ولا إله سواه ، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) بعدم المثل له ، لأنهم ما كانوا يتفكرون ، وإلا فلو تفكروا لعلموا ذلك.

[٧٦] وإذ تقدم المثال بالعبيد والسادة في قوله (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) يأتي السياق ليبين هذا المثل ، بوجه آخر فيقول سبحانه (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للمشركين في اتخاذهم الأصنام شركاء لله سبحانه وإنما بيّن هذا المثل ، ليقيسوا عليه أمر الألوهية ، فيدركوا خطأ جعلهم الشركاء ، فإن الإنسان ، ليعرف بالمثل ما لا يعرفه بالبراهين والأدلة (عَبْداً مَمْلُوكاً) عطف بيان على المثل (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) مما يقدر عليه السادة من الأخذ والعطاء ، وسائر التصرفات ، وهنا تنبيه لا بد من الإشارة إليه ، وهو أنه إذا وقعت حرب بين المسلمين وغيرهم ـ والحرب لا تكون طبعا من جانب المسلمين تعديا ـ كما قرر في محله ، قرر الإسلام أخذ الأسرى ، ثم التفدية والاسترقاق ، فالاسترقاق ، إنما ينشأ من المتعدين في الحروب ، وهذا يبقى رقّا هو وعقبه ما لم يتحرر ـ والتحرر له

____________________________________

أسباب كثيرة ، اضطرارية أو اختيارية ، مما لا يبقى العقب رقا غالبا ـ وقد جعل الإسلام هذا النظام مراعاة لمصالح شتى ، منها أن لا يرهق كاهل الدولة بالمساجين ، ومنها أن يكون الأسراء موزعين حتى يذوب الكفر والباطل شيئا فشيئا ، ويتعلموا معالم الإسلام ، بطبيعة كونهم في بيوت المسلمين وتحت رقابتهم ومعاشرتهم ، ومنها أن لا يتجرأ الكفار على المحاربة والاعتداء لأن الناس مستعدون للسجن ، ولا يستعدون للاسترقاق ، ومنها توسعة البلاد ، واختلاط الأمم في بوتقة واحدة ، وتقدم الحياة ومنها غير ذلك ، .. وهذا النظام أفضل بكثير من نظام الدول في أسرى الحرب إيجابيا وسلبيا ، ثم الرق محترم معال ، من قبل مولاه ، وإذا صار في شدة أعتقه الإسلام من بيت المال ، كما قال سبحانه (وَفِي الرِّقابِ) (١) ومثل هذا النظام من أصح الأنظمة ، إلا أن الرقيق لما كان في الغرب كان بغير هذا الشكل ، بل بشكل مزري فظيع ـ في جميع موارده ومصادره ـ جاء «لنكولن» ليحرر العبيد وأخذ بعض المسلمين المنهزمين ـ امام التيار الغربي ـ هذا التحرر شيئا بديعا ، فجعلوا يرددونه من غير وعي وإدراك ، حتى أن جماعة من المتنورين ، قالوا إن الإسلام أراد تحرير العبيد تدريجيا ولكن الظروف لم تسمح له ، تمشيا مع خطة «إذابة الإسلام في بوتقة الغرب» كما صنعوا بأحكام كثيرة هذا العمل المشين ، ولذا كان من اللازم أن نقول : إن النظام الإسلامي في الرقيق ، وفي غيره ، باق على حاله ، ولم يتبدل من الإسلام شيء أبدا ومن يريد التبدل ، فهو بين جاهل بالأنظمة الإسلامية وفلسفتها وجمال أحكامها أو معاند ، ومن يفعل ذلك ، فقد أخذ معول

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ

____________________________________

الهدم لجميع أحكام الإسلام ، إذ لو فتح هذا الباب في حكمه ، لكان منفتحا في كل حكم ، فما الفارق؟ (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) وهم السادة الذين رزقهم الله رزقا حسنا ، بلا وساطة سيد فإن الرزق كلما كان أقل واسطة كان أهنأ (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) لأنه مالك لا يخشى أحدا ، وليس عليه رقيب فيما يعطيه (هَلْ يَسْتَوُونَ) أولئك العبيد ، وهؤلاء السادة؟ وإنما أتى بصيغة الجمع لأن المراد ب «عبدا» و «من» الجنس؟ وإذا كان الجواب ، أنهما لا يتساويان قيل لهم : فكيف تساوون بين الله المالك ، وبين الأصنام المملوكة؟ فتعبدون كليهما على حد سواء ، وتجعلون للأصنام ، ما للإله من الألوهية والربوبية؟ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وحده لا شريك له ، وليس حمد لغيره فإنه الإله الواحد المستحق للحمد ، دون سواه ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) وهم المشركون (لا يَعْلَمُونَ) هذه الحقيقة ، وهي أن الحمد له وحده ولا يستحق ما سواه الحمد.

[٧٧] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) آخر لبيان عدم استواء الله سبحانه بالأصنام ، ليعرف المشركون من المثل خطأ طريقتهم الاشتراكية (رَجُلَيْنِ) بدل مثلا (أَحَدُهُما أَبْكَمُ) لا ينطق (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من التفهيم ، والتفهم ، لأنه عاجز عن الكلام ـ والغالب أن الأبكم أصم ـ (وَهُوَ)

كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

أي هذا الرجل الأبكم (كَلٌ) أي ثقل ووبال ، يقال كلّ عن الأمر ، إذا ثقل عليه (عَلى مَوْلاهُ) وليه المتولي لأموره (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) مولاه (لا يَأْتِ) الأبكم (بِخَيْرٍ) فلا منفعة لمولاه فيه ، فإنه أينما يبعثه لقضاء حاجة من حوائجه ، لا يقدر على قضائها إذ لا يتمكن على التفهيم ، والتفهم وهما عماد قضاء الحوائج (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) أي هذا الأبكم الذي صفته ذلك (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فهو ذو كلام واضح وبالإضافة إلى ذلك يأمر بالحق والعدل فهو كامل في ذاته ، مكمل لغيره ، مقابل الأبكم الذي لم يكن كاملا لذاته ولا قادرا على قضاء الحوائج ليكمل نواقص غيره (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق سوّي لا ينحرف كما ينحرف الأبكم لعدم تفهمه عن الناس ، ليمشي مستقيما ، بل يمشي حسب جهله فيضل وينحرف؟؟ وبالطبع يكون الجواب : كلا ، إنهما لا يتساويان ، وهنا يأتي التقريع فكيف تساوون مع الله الأصنام ، والنسبة بينهما أبعد من النسبة بين الأبكم والناطق؟

[٧٨] (وَ) إذ قد تحقق أنه لا شركة في الألوهية ، وإنه لا إله إلا إله واحد ، فلنعلم أن (لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فما غاب عن الحواس ، لعدم وجوده أو لوجوده ، ولكن الإنسان لا يدركه لضعف حواسه ، إن جميع ذلك لله ، فإنه القادر على إيجادها ، كما أنه هو القادر على الموجود فيها بالتصرف في شؤونها ، وهي تحت سلطة الله سبحانه ، ويعلم جميع مزاياها ، فهو إله واحد مالك عالم ، وأمر الآخرة بيده

وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ

____________________________________

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أي ساعة الحشر ووقت القيامة ، أمره وإيجاده ، وإنفاذه (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) فهو في مثل هذا الوقت القليل يأتي به إن شاء ، واللمح هو الطرف (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) من ذلك ، والترديد للإيضاح في التشبيه ، فإذا قلت : زيد كالأسد احتمل في القوة ، أو في القتل ، أو في الشجاعة ، فاذا قلت : أو هو أشجع أفاد إنك قصدت الشجاعة ، ثم أن لمح البصر لا بد له من زمان ، والأقرب منه أن يكون زمانه نصف ذلك الزمان ، ونحوه (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته يأتي بالساعة في أي وقت شاء ، سريعا بدون حاجة إلى تعب وتهيئة مقدمات ، فليخضع الإنسان لهذا الإله المالك ، العالم ، الذي بيده الجزاء والحساب ولا يجعل له شريكا.

[٧٩] ثم يرجع السياق ، ليعدد جملة أخرى من النعم ، وكان الفصل بين كل جملة وجملة بأمور مرتبطة خارجة عن صميم النعم ، للايقاظ والتفنن ، كما هو أسلوب البلغاء في الكلام ، فإن الكلام ذا الوقع الواحد ، يوجب الكلل والملل (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ) أيها البشر (مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) فمن يا ترى ، يقدر على هذا الإخراج بالأجهزة واللوازم التي جعلها في داخل الرحم إلى فم المخرج؟ (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) فإن الإنسان جاهل محض عند الولادة (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) السمع يراد به الجنس ، والاختلاف بين الألفاظ بالجمع والمفرد للتفنن ، والأفئدة جمع فؤاد وهو القلب ، أي أنه تفضل عليكم

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً

____________________________________

بالحواس لتستقوا بها المعلومات ، وبالقلب لتعوا الأشياء (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا نعمه سبحانه.

[٨٠] (أَلَمْ يَرَوْا) ألم ينظروا ويتدبروا (إِلَى الطَّيْرِ) المراد به الجنس ولذا جيء له بالحال جمعا ، (مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) إنه تشبيه بالشيء المسخر الذي يجيء ويذهب لمصلحة الذي سخره فإن الإنسان يرى الطير يجيء ويذهب ويعلوا ويسف في وسط السماء ، والمراد بها جهة العلو (ما يُمْسِكُهُنَ) أي ما يحفظهن من السقوط على الأرض (إِلَّا اللهُ) سبحانه ، بما جعل في الكون من نواميس ، ففي داخل الطير ناموس ، وفي الهواء ناموس ، يتعاونان على تحليق الطائر ، فمن جعل هذه النواميس غيره سبحانه؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإمساك لئلا يسقط (لَآياتٍ) دلالات على عظيم القدرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله ، أما غير المؤمن فإنه لا يتفكر حتى تنفعه الآيات فتخصيص المؤمنين ، لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[٨١] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) محلا للسكنى والاطمئنان ، فجعل الأرض بحيث تقبل السكنى ، وتهيئة المجتمع بحيث يكون الإنسان في محله مطمئنا ، نعمتان عظيمتان ، والذين عندهم علم الجيولوجيا يقولون : إن الإنسان لا يتمكن من الاستقرار هناك ـ لعدم الجاذبية ـ والمشردون الذين لا مأوى لهم ، يطمئنون فيه ، يعلمون قدر هذه النعمة العظيمة ، وقد تبادر إلى الذهن من هذه البيوت ، الأبنية

وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً

____________________________________

(وَ) هناك قسم آخر من البيوت ، فإنه سبحانه قد (جَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) إما المراد الجلد بالذات ، أو الأعم منه ومن الشعر ، فإن الشعر أيضا «من جلد» (بُيُوتاً) هي الخباء (تَسْتَخِفُّونَها) تطلبون خفتها (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي وقت ارتحالكم من مكان إلى مكان من ضعن بمعنى ارتحل (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) في مكان ، فإنها سهلة النصب والتقويض فإن أهل الصحراء يطلبون الماء والمرعى فينزلون هنا وهناك ، وهذه الأخبية سهلة لهم في النصب والطي والحمل (وَ) جعل لكم (مِنْ أَصْوافِها) أي صوف الأنعام وهي للضأن (وَأَوْبارِها) جمع وبر ، وهو للإبل (وَأَشْعارِها) جمع شعر ، وهو للماعز (أَثاثاً) وهو كل ما يفرش ويلبس ، ويستعمل في مثل هذه الشؤون (وَمَتاعاً) آلة للتمتع بالبيع والشراء وسائر الشؤون التي لا تسمى «أثاثا» (إِلى حِينٍ) إلى مدة من الزمان ، فإن هذه تبقى مدة وليست تفنى سريعا.

[٨٢] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) أي أشياء تستظلون بها في الحر والبرد ، فمن جعل الأبنية والأشجار بحيث يمنع الشمس عن النفوذ فيها ، فلو كانت جميعها كالزجاج ، كان الإنسان يتأثر ويتأذى من حر الشمس (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) جمع «كن» أي مواضع تسكنون بها من كهوف وبيوت تنحتون من الجبال للمسكن

وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ

____________________________________

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) جمع سربال ، وهو اللباس ، كالقميص ونحوه (تَقِيكُمُ) من وقي يقي بمعنى حفظ ، أي تحفظكم تلك الألبسة من (الْحَرَّ) كما تقيكم من البرد ، وذكر «الحر» من باب المثال ، كما تقول اقرأ «قل هو الله» أو قل «بسم الله» تريد جمع السورة والآية ، ولعل تخصيص الحر بالذكر دون البرد ، لأن الحر هو الشائع عند أهل الحجاز ، فبلادهم بلاد حارة (وَ) جعل لكم (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ) أي تحفظكم من (بَأْسَكُمْ) أي الحروب ، كالدروع ونحوها ، فمن يا ترى خلق القطن والكتان والحرير والصوف ، ليستعملها الإنسان في سرباله؟ ومن يا ترى خلق الحديد وجعله خاضعا للنار ، حتى تصنع منه الدروع ، ونحوها؟ إنه هو الله وحده لا شريك له (كَذلِكَ) أي كما جعل لكم هذه الأشياء (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بأن يتفضل عليكم في سائر حوائجكم التي هي لا تدخل تحت الإحصاء ـ في مختلف دروب الحياة المعقدة ـ (لَعَلَّكُمْ) لكي (تُسْلِمُونَ) لله سبحانه ، وتخضعون لإرادته.

[٨٣] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن التسليم لله سبحانه فلا يضرك يا رسول الله ذلك ، إذ إنما (عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواضح ، وقد فعلت ذلك.

[٨٤] إن الكفار لا ينكرون ما ينكرون لجهلهم وعدم معرفتهم وإنما يجحدون الله وآياته ، تعنتا وعنادا إنهم (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) الدالة على وجوده ،

ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)

____________________________________

وسائر صفاته (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي ينكرون كونها من الله سبحانه ، ويتخذون الكفر والشرك طريقة لأنفسهم (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) وإنما جعل الكفر لأكثرهم ، لأن منهم من لم تتم عليه الحجة ، فقوله «يعرفون» بهذه القرينة صفة لمن قامت لديه الحجة لا لجميعهم.

[٨٥] ثم يرجع السياق إلى موقف الكفار يوم القيامة (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ نَبْعَثُ) أي نحضر للشهادة (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يشهد على الكفار بأنهم كفروا وأشركوا وعصوا ، ولعل المراد بالشهداء ـ هنا ـ النبيون بقرينة أنه لكل أمة شهيد وما سيأتي من إشهاد الرسول على الكفار في زمانه ، وهناك الشهيد يتكلم بما علم من أعمال القوم ومعتقداتهم ، ويظن الكفار أنهم كالدنيا يتمكنون من المغالطة والتهريج ، ليبرءوا ساحتهم ولكن ليس هناك كذلك (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الكلام والدفاع ، في هذا الموقف ، فإن للقيامة مواقف ، لكل موقف شأن ، ولفظة «ثم» للترتيب في الكلام ، لا في الخارج ـ كما قرر في الأدب ـ (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يقال استعتب زيد ، أي أرضي من العتبى بمعنى الرضا ، أي لا يسترضون ولا يستصلحون ، كما كان يفعل بهم في الدنيا فليس هناك أحد يقول لهم : أرضوا ربكم بإطاعة أوامره ، إذ ليست الآخرة دار تكليف.

[٨٦] وفي ساحة القيامة يرى الكفار العذاب ، وقد جرت العادة في الدنيا أن

وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ

____________________________________

أهل السجن لما يرون السجن يستنقذون بالناس ، وكثيرا ما يوجد من ينقذهم ، ولكن الآخرة ليست كذلك (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم ، أو غيرهم بالكفر والمعاصي (الْعَذابَ) المهيئ لهم فاستنقذوا لم يفدهم ذلك ، فإنه لا (يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) العذاب تخفيفا في الكم والزمان ، أو الكيف والمقدار (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون ، كما كان المجرم في الدنيا يمهل ويؤجل أمره بالوسائط ونحوها ، حتى يجد مخرجا.

[٨٧] وهناك في ساحة المحشر ، يرى المشركون بعض الآلهة التي كانوا يعبدونها ويشركون بالله بسببها ، كالمسيح عليه‌السلام ، والملائكة ، وعلي عليه‌السلام (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله (شُرَكاءَهُمْ) أي الشركاء الذين زعموا أنهم شركاء لله ، وهنا يضاف الشركاء إليهم ، لا إلى الله سبحانه (قالُوا) أي المشركون مشيرين ، إلى الشركاء يا (رَبَّنا هؤُلاءِ) الذين في ساحة المحشر (شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا) في الدنيا (نَدْعُوا) هم (مِنْ دُونِكَ)! وكأنهم يريدون بذلك تخفيف الأمر على أنفسهم ، ليأتوا بعنصر جديد في معرض المحاكمة ، فإن المجرم المراوغ دائما يأتي بعنصر جديد في المحاكمة ، ليصرف وجوه الناس إليه ، وليتحمّل معه شيئا من ثقل المحكمة ، وعند ذاك يفزع الشركاء من هذه المفاجئة المدهشة (فَأَلْقَوْا) أي الشركاء (إِلَيْهِمُ) إلى المشركين (الْقَوْلَ)

إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)

____________________________________

يلقون إليهم هذا الكلام قائلين : (إِنَّكُمْ) أيها المشركون (لَكاذِبُونَ) فلم يكن لله شريك ولا يرتبط الأمر بنا.

[٨٨] (وَأَلْقَوْا) المشركون (إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (السَّلَمَ) أي الاستسلام والخضوع ، فقد كانوا في الدنيا يتكبرون على الله ، وينفرون من أوامره ، ويحاربونه ، أما في ذلك اليوم ، فإنهم مستسلمون ، لم يجدوا نصيرا ولا ظهيرا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فقد ذهبت افتراءاتهم أدراج الرياح ، ولم يجدوا في آلهتهم المزعومة من يشفع لهم.

[٨٩] وهنا يأتي دور العذاب بعد أن تمت الحجة ، وقد هيء لهولاء عذاب مع عذاب (الَّذِينَ كَفَرُوا) فلم يؤمنوا (وَصَدُّوا) أي منعوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بأن صرفوهم عن الإيمان به سبحانه (زِدْناهُمْ عَذاباً) ثانيا لإضلالهم (فَوْقَ الْعَذابِ) الأول المتهيئ لهم لضلالهم بسبب ما (كانُوا يُفْسِدُونَ) في الأرض ، بالصد عن سبيل الله.

[٩٠] تقدم أن على كل أمة شهيد ، وهنا يأتي الكلام ليبين أن الشهداء من أنفس الناس ، بالإضافة إلى الملائكة الشهود وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشهد على أمته ، تخصيصا ، لبيان موقفه مع الكافرين الذين أعرضوا عن الإيمان به ، وفيه تسلية له ، وتهديد لهم أن خصمكم غدا يكون صاحب الفضل

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ

____________________________________

فيكم فاحذروه (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يشهد (عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فإن الصالحين من كل أمة ، يشهدون على الطالحين بالكفر والشرك والفسق والعصيان (وَجِئْنا بِكَ) يا رسول الله (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) القوم المعاصرون لك ، (وَ) هناك لا حجة لقومك ، فقد (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (تِبْياناً) بيانا (لِكُلِّ شَيْءٍ) فلا مجال لهم ، لأن يقولوا ما عرفنا ، وما علمنا ، والمراد ب «كل شيء» الأمور العامة التي يحتاج إليها الإنسان في أمر دينه ودنياه ، فقد اشتمل القرآن الحكيم على الخطوط العامة للمبدأ والمعاد والنظام العام للدنيا السعيدة (وَهُدىً) أي هداية عن الضلال (وَرَحْمَةً) أي سبب تفضل وترحم فإن من اتبع القرآن رحمه‌الله سبحانه ، وتفضل عليه (وَبُشْرى) بشارة لسعادة الدنيا والآخرة (لِلْمُسْلِمِينَ) الذين آمنوا بك وأسلموا لله سبحانه ولأوامره.

[٩١] ثم يأتي السياق ، لبيان بعض ما في الكتب من الهدى والرحمة والبشرى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بأن يعدل الناس في سلوكهم ، فلا يجوروا ولا يظلموا ، من غير فرق بين أفراد الإنسان فإن كل إنسان لا بد له من عمل لنفسه ولغيره ، وهو إما عادل في عمله ، أو منحرف (وَالْإِحْسانِ) وهو فوق العدل ، فإهدائك إلى من أهدى إليك عدل ،

وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها

____________________________________

وإلى من لم يهد إليك إحسان ، وهكذا (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي إعطاء الأقرباء حقوقهم ، وهذا عام بالنسبة إلى كل أحد ، وخاص بالنسبة إلى أقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فإنه سبحانه أمر بمودتهم وصلتهم وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما ، لن تضلوا من بعدي أبدا» (١) (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) أي الخلة الفاحشة ، وهي ما كان متفاحش القبح مجاوزة كالزنا ونحوه (وَالْمُنْكَرِ) وهو كل معصية ، وإن لم تكن فاحشة ، كترك جواب المسلم ، وإنما ذكر الفحشاء مع دخوله في المنكر ، لأهميته (وَالْبَغْيِ) أي الظلم وذكره لأهميته أيضا (يَعِظُكُمْ) الله أيها البشر ، فإن أوامره ونواهيه لخيركم وصلاحكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتفكروا ، فتذكروا ما أودع في فطرتكم من حسن تلك الأشياء ، وقبح هذه الأشياء.

[٩٢] (وَأَوْفُوا) أيها الناس (بِعَهْدِ اللهِ) فإن المعاهدة مع أيّ شخص كان ، عهد لله حيث أمر الله بوفائه (إِذا عاهَدْتُمْ) أو المراد إذا قال الإنسان عليه عهد لله أن يفعل كذا ، لزم عليه أن يفعل (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) جمع يمين وهي الحلف ، أي لا تتركوا متعلقها (بَعْدَ تَوْكِيدِها) بعد ما

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ١٥٠.

وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً

____________________________________

أكدتم لها بذكر الله ، فإن الإنسان ، قد يحلف بدون ذكر اسم الله ، كأن يقول «أحلف أن أفعل كذا» وقد يؤكدها بقوله «أحلف بالله أن أفعل كذا» وهذا يحرم نقضه (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ) في عهودكم وأيمانكم (كَفِيلاً) إذ تسمية الله معناها أنه سبحانه كفيل بإنجاز هذا الوعد والإتيان بمتعلق القسم ، فلا تخالفوا بعد ذلك ف (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من نقض العهد واليمين ، فيجازيكم على فعلكم السيئ.

[٩٣] إن الوفاء بالعهد من أكثر الأمور تأكيدا لدى الإسلام ، سواء كان العهد مع الله أو مع رسوله ، أو مع الأئمة ، أو مع سائر الناس ، ولذا لا يترك هذا الحكم سبحانه إلا ويؤكده بضرب المثل ، ليكون أوقع في النفس ، ويتعاون العقل والعاطفة في إنفاذه (وَلا تَكُونُوا) أيها الناس في نقض الأيمان والعهود كالمرأة التي (نَقَضَتْ غَزْلَها) وفلّته (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) بأن غزلت ثم نقضت بعد تكرار وفشل وشدة ، قالوا : فقد كانت امرأة تسمى ريطة من تميم ، وكانت حمقاء ، فإذا أصبحت أخذت هي وجيرانها تغزل إلى انتصاف النهار ، ثم هي تنقض غزلها وتأمرهن أن ينقضن ما غزلن ولا يزال هذا دأبها ، فإن الرجل الذي ينقض العهد واليمين ، يكون كتلك المرأة ، في أنه بعد إبرام العهد ، ينقضه (أَنْكاثاً) جمع «نكث» وهو الغزل من الصوف والشعر ببرم ثم ينكث وينقض ليغزل ثانية ، ولقد كان بعض المعاهدين مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقضون عهدهم معهم ، بحجة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه قلة ضعيفة ، وأن

تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ

____________________________________

قريش ، وسائر الكفار كثرة قوية ، ولكن هذا المبرر من عموم لا وجه له ، وإلا فما فائدة العهود والأيمان؟ (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) أي لا تكونوا بحيث تتخذون عهودكم وحلفكم (دَخَلاً) أي خدعة ومكرا ، فإن أصل الدخل ما أدخل في الشيء على وجه الفساد (بَيْنَكُمْ) فإن اليمين دخلت بين الطائفتين على وجه الفساد ، لأنها تسبب أن يتنازل جانب ـ وهم المسلمون ـ عن بعض منافعهم مراعاة لليمين والعهد بينهم وبين الكافرين ، بينما أن الجانب الثاني ـ وهم الكفار ـ لا يتنازلون على شيء من شؤونهم ، فهم ما داموا يرون ضعف أنفسهم عن مقاومة المسلمين يحتمون باليمين ، فإذا رأوا أنفسهم أقوياء نقضوها ، ليكونوا على المسلمين وهذا بخلاف العهد من الإنسان الوفي ، فإنه دخل بين الطرفين على وجه الصلاح ، وإذ يعطي الطرفين الأمن والطمأنينة وإنما كان الكفار ينقضون العهد حيث (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) «أربى» أفعل من الربا ، وهو الزيادة ، ومنه الربا في المعاملة ، أي لا تتخذوا الأيمان دخلا بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة ، والحاصل ، لا تنكثوا أيمانكم ، في حال كونكم اتخذتموها خديعة تريدون بالنكث الوصول مع أمة أخرى هي أكثر عددا من الأمة الأولى التي كانت طرف عهدكم (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ) أي يفعل بكم فعل المختبر (بِهِ) أي تكون أمة أربى من أمة ، ليظهر مدى وفائكم بالعهد ، فإن الوفاء بالعهود لا تظهر قيمته فيما كان الأمر على قدم المساواة مع طرف المعاهدة وغيرهم ، وإنما تظهر القيمة فيما كان الميزان غير معتدل ، وتكون الأمة غير المعاهد معها ، أقوى من المعاهد معها ، هذه

وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)

____________________________________

وظيفتكم أيها المعاهدون ، أما الجانبان المتخالفان الذين عاهدتم مع أحدهما ، فإن الفصل بينهم سيكون في يوم القيامة ، بعد أن لم يرضخ أحدهما للحق الذي يراه في جانب خصمه ، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيانا يعقبه الجزاء (ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أو أن المراد لزوم وفاء المعاهد بعهده ، وإن رأى أنه على خلاف مع من عاهد معه ، فإن وظيفته الوفاء ، أما التخالف بينهما ، فإنه سيفصل يوم القيامة ، وهذا أظهر باعتبار الخطاب في «لكم».

[٩٤] إن الخلاف لا بد وأن يفصل في الآخرة ، أما في الدنيا ، فإن الطبيعة البشرية ركبت بحيث لا تتفق ، فبعض يختار الضلال ، وبعض يختار الهدى (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يجبركم جميعا على الهداية (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ذات دين واحد ، وطريقة واحدة ، ولكنه لا يشاء ذلك ، لأنه يبطل الثواب والعقاب والمدح والذم وإنما أراد سبحانه أن تكونوا مختارين (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي يتركه حتى يضل بعد أن أراه الطريق ، فلم يسلكه ، كالملك الذي يترك المدينة العاصية ، حتى تفعل ما تشاء من الاجرام والقتل والسفك ، بعد أن بيّن لهم القوانين فلم يتبعوها (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالألطاف الخفية ، بعد أن أراهم الطريق فسلكوها (وَلَتُسْئَلُنَ) أيها البشر ضالكم ومهديكم (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الخير والشر والهدى والضلال.

[٩٥] ثم يمضي السياق يؤكد على الوفاء بالأيمان ـ واليمين والعهد يطلق كل

وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)

____________________________________

واحد منهما على الآخر ـ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) غشا وخدعة تريدون بذلك انتهاز المنافع واهتبال الفرص ، فتعاهدون هذا لتأمنوا جانبه ، فإذا رأيتم عدم أمنكم من جهة أخرى ، نقضتم هذا العهد ، لتعاهدوا ذلك الجانب الثاني ، فقد صارت الأيمان داخلة بينكم للإفساد ، لأن الجانب المقابل يركن إليها ، فلا يستعد ، وذلك موجب لاضمحلاله وانهياره (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) فإن العهد قد أثبت القدم إذا صار كل جانب مطمئن الخاطر مرتاح البال ، لا يهمه من جانب صاحبه شيء أما إذا نقض العهد كان النقض زلّة للقدم ، فلا اطمئنان ، وذلك يوجب زعزعة الحياة السعيدة ، وارتفاع الثقة بين الناس في معاملاتهم ومعاهداتهم (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) وبال نقض أيمانكم في الدنيا والآخرة (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي بسبب صدكم عن طريقه سبحانه ، فإن الوفاء بالعهد طريقه الذي جعله للسعادة والطمأنينة فالنقص صاد عن هذا الطريق ، لأنه يجرّئ الناس على مثل عمله ، ولا يكون حينئذ اطمئنان من أحد على أحد (وَلَكُمْ) بالإضافة إلى ذلك (عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة ، وما ورد من كون الآيات في علي عليه‌السلام بالنسبة إلى قصة الغدير ، فإن ذلك بيان لمصداق ظاهر من مصاديق الآية ، وإلا فالحكم عام ، والعلة مستوعبة ، ولا يظن الناقض ، أنه ربح ، حيث اختار الربح على الوفاء ، فإنه إذا راج النقيض سيأتي يوم ينقض عليه ، وهو خسران ، فأضاع بذلك شرف المعاهدة ولحقه الخسر

وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)

____________________________________

الذي فر منه ، وهكذا جميع أحكامه سبحانه ، فإن من تخلف عنها للذة أو منفعة ، كيل له الصاع صاعين.

[٩٦] (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) بأن تنقضوا عهدكم مع غيركم ، لثمن قليل ، ومنفعة ضئيلة ، فإن عهدا بينكم هو عند الله ، ومن خالفه لأجل مصلحة ، فإنه إنما باع عهد الله واشترى تلك المصلحة التي مهما عظمت فإنها قليلة بالنسبة إلى الأجر والمصلحة المترتبين على الوفاء بالعهد ـ عهد الله ـ (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) مما أعده لمن وفي بالعهد (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من ذلك الثمن القليل ، وتلك المصلحة التي تترتب على نقض العهد فيما بينكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كان لكم علم.

[٩٧] (ما عِنْدَكُمْ) أيها البشر (يَنْفَدُ) يتم ويخلص ، ولنفرض أنكم حصلتم من وراء نقضكم للعهد على ملك الدنيا ، فإنه فإن زائل (وَما عِنْدَ اللهِ) من الأجر والثواب المترتب على الوفاء بالعهد (باقٍ) أبد الآبدين (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) فيما أمرناهم به ، وبالأخص بقواعد عهودهم ، وإن أوجب ذلك ذهاب مصالح كثيرة من أيديهم (أَجْرَهُمْ) وثواب بقائهم (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فلا نعطيهم جزاء أعمالهم السيئة ، وإنما جزاء أعمالهم الحسنة ، التي هي أحسن أعمالهم ، ليس ذلك في الآخرة ، فحسب ، بل في الدنيا أيضا ، وإنا لنرى الإمام

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً

____________________________________

المرتضى عليه‌السلام حين قيل له في الشورى : نبايعك على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين ، رفض الأخير من الفقرات الثلاث ، ولم ينل الإمبراطورية الإسلامية ، لأجل هذا الرفض ، وقبل عثمان الثلاث ، لكنه خالف ، فقد حمد الإمام في الدنيا لصبره ، بما نرى إلى اليوم ، أما عثمان ، فكان جزاؤه في نقضه للعهد ، ما رأينا إلى هذا اليوم ، وثم قيل للإمام إن إبقاء معاوية لأيام قلائل ، يمهد له الإمبراطورية الهادئة ، لكن الإمام رفض ، ومعاوية عثر واهتبل ، فما مصيره في الدنيا ، إلا اللعن والعار ، بينما مصير الإمام الصابر ما نراه ، وفي الإسلام أمثلة كثيرة ترشد إلى مصير الوفي الصابر ، وإن رفّت ألوية الغادر المستعجل أياما ، قال الشاعر :

للمتقين من الدنيا عواقبها

وإن تعجّل فيها الظالم الآثم

[٩٨] وليس الجزاء الأحسن خاصا بمن وفي بعهده وصبر ، بل كل من عمل صالحا ، فإن له نفس ذلك الجزاء الأحسن (مَنْ عَمِلَ) عملا (صالِحاً) لا يشوبه فساد وباطل (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) تأكيد حتى يشمل الحكم ، لكلا الصنفين ، ولا يتوهم أنه خاص بالذكور (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن الإيمان شرط قبول الأعمال (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) فإن الحياة الطيبة ، إنما تهيئ باتباع منهاج الله سبحانه ، فإذا عمل الجميع بذلك المنهاج ، صارت الحياة كلها بردا وسلاما ، أما إذا عمل البعض ، فهو يستفيد من طيب الحياة بقدر عمله ، ولنأخذ أن الحياة الطيبة ترتكز على الفضيلة والأمن والغنى ، فإذا عمل صار من نصيب كل واحد تلك

وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)

____________________________________

الحياة ، أما إذا عمل البعض ، كانت له فضيلة الاطمئنان القلبي ، وفضيلة القناعة ، وفضيلة الأخلاق الطيبة وما إليها ، وإن تكدرت حياته ، بما يتوجه إليه من غيره ، من الاضراب والفقر الذين أحدثهما غيره ، ممن لا يسير على منهاج الله سبحانه ، نعم لو لم يعمل صالحا ، فقد ـ مع فقد الأمن والغنى ـ الفضيلة أيضا ، فلا اطمئنان له وهو ضجر من الحياة ، سيئ الخلق ، وهكذا (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي نعطيهم (أَجْرَهُمْ) في الدنيا والآخرة (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما مرّ ، فإن الدنيا كالآخرة تظهر فيها نتائج الأعمال ، فمن أهان الناس أهين ، ومن احترمهم احترم ، وعلى هذا المنوال من أكل كثيرا أتخم ، ومن أكل قليلا سلم ، ومن اقتصد لم يفتقر ، ومن أسرف تمسكن.

ورد أن رجلا من حضر موت ، يقال له عبدان الأشرع ، قال : يا رسول الله ، إن امرئ القيس الكندي ، جاورني في أرض ، فاقتطع من أرضي ، فذهب بها مني ، والقوم يعلمون إني لصادق ، ولكنه أكرم عليهم مني ، فسأل رسول الله امرء القيس عنه؟ فقال : لا أدري ما يقول ، فأمره أن يحلف ، فقال عبدان : إنه فاجر لا يبالي أن يحلف ، فقال : إن لم يكن لك شهود ، فخذ بيمينه ، فلما قام ليحلف أنظره ، فانصرفا ، فنزل قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) (١) الآيتان ، فلما قرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال امرئ القيس : أما ما عندي فينفد ، وهو صادق فيما يقول ، لقد اقتطعت أرضه ، ولم أدر كم هي ، فليأخذ من أرضي ما شاء ، ومثلها معها ، بما أكلت من ثمرها ، فنزل فيه ، ومن عمل صالحا الآية.

__________________

(١) النحل : ٩٦.

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)

____________________________________

[٩٩] وإذ تقدم الكلام حول الهدى والضلال ، والرسول والمرسل إليه يتكلم السياق حول الكتاب الذي نزل على الرسول ليبين شيئا من آدابه ، وعن أقوال المشركين حوله ، وقد مرّ أن هذه السورة تعالج جوانب العقيدة والمبدأ والمعاد (فَإِذا قَرَأْتَ) يا رسول الله أو أيها القارئ (الْقُرْآنَ) ، والمراد إذا أردت قراءة القرآن ، وقد تقدم أن كلا من الفعل والإرادة يستعمل في معنى الآخر (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي الجأ إليه (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي المطرود ، الذي يرمى إليه باللعن ، كما يرجم الزاني بالحجارة ، وإنما استحبت الاستعاذة ، ليسلم الإنسان في التلاوة من الغلط ، الذي يلقيه الشيطان في فم التالي.

[١٠٠] (إِنَّهُ) يعني الشيطان (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أي تسلط وقدرة (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أمورهم ، فإن الشيطان يطرد من عند المؤمن ، وفي الأحاديث ، إن الملائكة تطرده ، فمن استعاذ بالله حفظه سبحانه من شره.

[١٠١] (إِنَّما سُلْطانُهُ) أي تسلط الشيطان (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي يطيعونه ، ويقبلون أوامره ، فإنه مسلط عليهم ، موجه لهم سبل الغي والضلال (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) أي بسبب الشيطان (مُشْرِكُونَ) فالمنحرف في العقيدة بالشرك ، والمنحرف بالعمل بإتيان المعاصي ، يتسلط

وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ

____________________________________

عليهما الشيطان ، ويستدرجهم في المعصية والكفر ، حتى يأتيهم الموت ، وهم بتلك الحالة ، ومن أظهر مصاديق «من به مشرك» الطائفة التي تعبد الشيطان وتتخذه إلها.

[١٠٢] (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) بأن نسخنا حكما ، كان في الشريعة السابقة ، وأتينا بحكم آخر مكانه ، لأنه أصلح لهذه الأمة من ذلك الحكم المنسوخ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) لأنه يعلم المصالح الكامنة في الأحكام ، وإن لكل حكم ظرفا خاصا ، ولذا يبدل حكما إلى حكم ، كما قال سبحانه (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١) (قالُوا) أي قال الكفار (إِنَّما أَنْتَ) يا محمد (مُفْتَرٍ) تفتري على الله ، فكيف أنه نسخ الحكم السابق ، وقد حاجّ بعضهم الرسول قائلا : إن كان الحكم الأول صالحا ، كان الحكم الثاني فاسدا ، فكيف يأمر الله بالفساد؟ وإذا كان الحكم الثاني صالحا ، فكيف أمر الله سبحانه بالحكم الأول؟ والجواب واضح ، فإن الأحكام كالأدوية ، فكما لا يصلح أن يقال للطبيب ، لماذا بدلت الدواء؟ كذلك لا يصلح أن يقال للرسول ذلك ، إن البشرية ترقّت في زمن الرسول ، واستعدت لإعطاء النسخة الأخيرة من الأحكام ، كالطالب الذي يدرس في الثانوية ، ما لا يدرس في الابتدائية ، ثم أن قولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) كان مطلقا ، وتخصيصه بهذه الحالة ـ أي حالة تبديل الآية ـ لأنهم كانوا يهرجون عند ذلك أكثر ، ويستدلون به على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفتر على

__________________

(١) البقرة : ١٠٧.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)

____________________________________

الله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولا يدركون المصالح والمفاسد ، أي لست مفتريا ، وإنما هذا القول ناشئ عن جهل أكثرهم ، وتخصيص الأكثر لأن جماعة منهم كانوا يعلمون ـ كما قال سبحانه : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (١) ـ ، وإنما يخفون عنادا وحسدا.

[١٠٣] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يقولون أنت مفتر (نَزَّلَهُ) أي نزل الناسخ ، أو نزل القرآن (رُوحُ الْقُدُسِ) والمراد به جبرئيل عليه‌السلام لأنه بمنزلة الروح للنزاهة ، كأن النزاهة والقداسة جسم ، وجبرئيل عليه‌السلام روحها (مِنْ رَبِّكَ) إنزالا (بِالْحَقِ) فلم يكن الإنزال من الشياطين ـ كما كان يزعم بعضهم ـ ولا بالباطل ، فإن الكلام قد يكون حقا مطابقا للواقع ، ولكن قوله وإنزاله باطل ، كما كان يقول الخوارج «لا حكم إلا لله» فإنها كلمة حق ، لكن قولهم لها في مورد التحكيم كان باطلا ، والقرآن هو حق بذاته ، وإنزاله أيضا بالحق (لِيُثَبِّتَ) بالقرآن (الَّذِينَ آمَنُوا) به على إيمانهم (وَهُدىً) أي أن القرآن هداية للناس نحو السبيل الصحيح (وَبُشْرى) أي بشارة بما يسعدهم في الدنيا والآخرة (لِلْمُسْلِمِينَ) أما غيرهم ، فإن القرآن ينذرهم بالنار والجحيم لا بالجنة والنعيم.

[١٠٤] لقد كان المشركون يرمون القرآن بكل ما يأتي في مخيلتهم ، قاصدين

__________________

(١) البقرة : ١٤٧.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ

____________________________________

الانتقاص منه ، وإنزال مرتبته لدى الجهّال ، فكانوا يقولون أنه كلام الرسول ، أساطير الأولين ، سحر ، كهانة ، شعر ، كلام الشياطين ، إلى غيرها ، ومن جملة ما يقولون ما حكى سبحانه هنا (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) قد للتحقيق ، وإن كان دخل على المستقبل ، كما يأتي كثيرا لذلك ، ويحتمل أن يكون بمعنى التقليل ، وهذا يكون شبه التهديد ، حتى لا يستريح المجرم ، كما تقول لولدك يمكن أن أفهم ما تعمله في الخفاء (أَنَّهُمْ) أي الكفار (يَقُولُونَ) على القرآن (إِنَّما يُعَلِّمُهُ) أي يعلم الرسول بالقرآن ، (بَشَرٌ) هو أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي ، كان أعجمي اللسان ، وكان قد اتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمن به ، وكان من أهل الكتاب ، فقالت قريش هذا والله يعلم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رد سبحانه مقالة هؤلاء الكفار بقوله (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) من ألحد ، بمعنى أمال ، ومنه «اللحد» لميله ، و «الملحد» لأنه مائل عن الحق ، أي أن لسان الرجل الذي ينسبون القرآن إليه (أَعْجَمِيٌ) لا يفصح ، والفرق بين الأعجمي والعجمي ، إن الأول لمن لا يفصح ، ولو كان عربيا ، والثاني ، لمن ليس بعربي ، وإن كان فصيحا (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) واضح ، وإذا كانت فصحاء قريش ، عاجزين عن الإتيان بمثله فصاحة وجمالا ، فهل يقدر إنسان أعجمي عن الإتيان بمثله؟ لكن المعاند لا يسمع الحجة ، وإنما يريد الطعن.

[١٠٥] ثم يسلى سبحانه نبيه ، عن هذا الوحي الظالم ، بقوله (إِنَّ الَّذِينَ

لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ

____________________________________

لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) بعد ما أتم الله الحجة عليهم ، بإراءتهم الطريق (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) لا يلطف بهم الألطاف التي يلطف بها على المؤمنين ، فهو يجازيهم بجزاء أعمالهم ، بقطع اللطف عنهم ، بينما يسبغه على سائر المؤمنين (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مولم موجع ، أما في الآخرة فظاهر ، وأما في الدنيا ، فهم يحترقون بنيران الحسد والحقد ، وعيشهم ضنك ، ولا اطمئنان لقلوبهم.

[١٠٦] إنهم كانوا ينسبون الرسول إلى الافتراء ، بينما الافتراء من شأنهم ، فغير المؤمن بالله الذي لا يرى تبعة لأعماله هو الذي يفتري ، أما المؤمن ، فإنه نزيه عن الافتراء ، فكيف بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) الافتراء أصله من باب «فرى» بمعنى قطع ، فكأن المفتري قطع شيئا من الباطل ليريه بصورة الحق ، ولذا يصح إسناده إلى الكذب ، أي يقطع الكذب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) والمعاد ، ولا يخافون الجزاء والحساب ، (وَأُولئِكَ) الذين لا يؤمنون (هُمُ الْكاذِبُونَ) فالكذب منحصر فيهم ، لا إنك كاذب ـ كما يقولون ـ.

[١٠٧] وفي سياق الحديث عن الكفار ، يذكر سبحانه ما أعدّ لهم من غضب الله ، والعذاب العظيم (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) بعد أن ذاق حلاوة الإيمان ، وعرف الحق من الباطل ، وهذا مبتدأ خبره «فعليهم»

إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا

____________________________________

وقد استثنى من هذه الجملة استثناء ، كما أوضح الكافر من بعد الإيمان بتوضيح ، فالأول قوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) بأن أكرهه الكفار على أن يتكلم بالكفر ، فأظهر الكفر تقية ، كما قال سبحانه (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (١) (وَ) الحال أن (قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلم يرتد ، وإن أظهر اللفظ فقط ، وإنما جيء بهذا الحال ، لأن بعض الناس ، يدخلون في أمر إكراها ، لكنهم بعد ذلك يذعنون له إذعانا ، فليس المستثنى من «كفر بعد إيمانه» مثل هذا ، وإنما من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، والثاني قوله (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي أن المراد ب «من كفر» من اتسع قلبه للكفر مقابل من ضاق صدره ـ وقد مرّ سابقا أنه كيف يضيق الصدر ـ أما شرحه واتساعه ، فإن الإنسان إذا ارتاح إلى شيء ، فإنه يهدأ جسمه ويخف دمه ، فيكون انتشار رئته أقل ، ولذا يحس بنوع من التوسع في صدره (فَعَلَيْهِمْ) خبر «من» وجاء «الفاء» في الخبر ، لأن المبتدأ في معنى الشرط (غَضَبٌ مِنَ اللهِ) يعامل معهم معاملة الغضبان ، وهي تركهم ، وعدم الاهتمام بشأنهم (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار ، التي لا زوال لها ، ولا اضمحلال.

[١٠٨] وإنما عليهم الغضب ولهم العذاب (ذلِكَ) بسبب أنهم (اسْتَحَبُّوا) أي آثروا وقدموا ، وطلبوا حب (الْحَياةَ الدُّنْيا) والتلذذ

__________________

(١) آل عمران : ٢٩.

عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ

____________________________________

بنعيمها الفاني الزائل المكدّر (عَلَى الْآخِرَةِ) الباقية الصافية (وَ) ب (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فإنه سبحانه لما رأى إعراضهم ، لم يهدهم بألطافه الخفية ، فصاروا من الأشقياء باستمرارهم في الكفر والفساد حتى استحقوا الغضب والعذاب.

وقد ورد أن سبب نزول «إلا من أكره» هو عمار بن ياسر «رضي الله عنه» وقصته على ما ذكروا أن قريشا أكرهوه ، كما أكرهوا أباه ياسر ، وأمه سمية على الارتداد ، فأبى أبواه ، فقتلوهما شر قتلة ـ وهما أول شهيدين في الإسلام ـ وأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه ما أرادوا ـ مكرها ـ فجاء البعض إلى الرسول قائلين. إن عمارا قد كفر فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ، قائلا : مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت (١) ، وورد أيضا أن قوله «ولكن من شرح» نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، من بني عامر بن لؤي (٢).

[١٠٩] (أُولئِكَ) الذين شرحوا بالكفر صدرا من الذين كفروا بعد إيمانهم ، هم (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلا يفقهون (وَ) على (سَمْعِهِمْ) فلا يحلو كلام الحق في آذانهم (وَ) على (أَبْصارِهِمْ) فلا ينظرون

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٢٠٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا

____________________________________

إلى الحق بنظر كونه حقا ، وإنما بنظر الإهانة والاحتقار ، فإنهم لما أعرضوا عن الهدى الذي أراهم الله سبحانه إياه تركهم ، حتى يكون طابعهم الكفر في حواسهم الباطنة والظاهرة ، وهكذا يهوي الإنسان إلى الدركات ، كما يترقى إلى الدرجات ، وبلوغ الأمرين ، اتباع هذا السبيل ، أو ذاك السبيل (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) إنهم نزلوا منزلة الغافلين ، وإنهم لم يكونوا بغافلين عن المبدأ والمعاد ، ولوازمهما لأن التارك للأثر ينزل منزلة الجاهل والغافل ، فإذا رأى زيد الأسد المقبل ، فلم يفر ، يقال عنه ، أنه جاهل ، أو غافل عن وجود الأسد ، وإلا لماذا لم يفر؟

[١١٠] (لا جَرَمَ) أي حقا ـ وقد تقدم تفسيره ـ (أَنَّهُمْ) أي هؤلاء الذين كفروا بالله ، شارحين بالكفر صدرا (فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم ، وكل شيء يتعلق بهم ، بينما ربح المؤمنون أنفسهم والجنة.

[١١١] أما من أكره ، وقلبه مطمئن بالإيمان (ثُمَ) للتراخي في اللفظ ، أو المراد التراخي في الزمان (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ هاجَرُوا) معك إلى المدينة (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) عن دينهم وأكرهوا ، حتى نالوا بلسانهم ما أراد الكفار (ثُمَّ جاهَدُوا) بعد ما هاجروا مع الرسول (وَصَبَرُوا) على تعب الجهاد ، وعلى مكاره الأيام الواردة على

إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ

____________________________________

المسلمين (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (مِنْ بَعْدِها) أي بعد تلك الفتنة (لَغَفُورٌ) يغفر ذنبهم (رَحِيمٌ) يرحمهم ويتفضل عليهم ، إن عملهم ذلك ، لم يكن موجبا للعصيان ، لكن حيث أن كون الفتنة تؤدي ببعض الناس حتى يرتدوا حقيقة ، كان ظهور الغفران والرحمة ، إنما هو بعد الهجرة والجهاد والصبر ، وكثيرا ما يطلق الفعل على ظهوره ، يقال : كفر فلان ، أي أظهر كفره وإن كان كافرا قلبا قبل ذلك ، وفي بعض التفاسير ، إن هذه الآية نزلت بالنسبة إلى من فتنوا من ضعفاء الإيمان ، الذين فتنوا حقيقة ، وكفروا قلبا ولفظا ، ثم رجعوا إلى الإسلام وحسن إيمانهم ، فإن قبول توبتهم كان مشروطا بالهجرة والجهاد والصبر ، وقد أكد «من بعد» لتقرير ذلك.

[١١٢] وإذ ذكر عقاب الكافرين ، وثواب المؤمنين ، جاء السياق ليبين وقت الجزاء ، فاذكر يا رسول الله (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) صالحا كان أم طالحا ، وهو يوم القيامة (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي تخاصم الحكام والشهود وتباحث معهم حول شخصها ، فيقول الكفار (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) ويقول الاتباع (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) (٢) ويقولون (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) (٣) إلى غير ذلك (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ)

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

(٢) الأعراف : ٣٩.

(٣) الأحزاب : ٦٨.

وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ

____________________________________

أي تعطى جزاء أعمالها وافيا غير منقوص ، خيرا كان عملها أم شرا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في الجزاء ، بأن يعاقب البريء ، أو يزاد على عقاب المجرم ، أو ينقص من أجر المحسن.

[١١٣] إن الكفار في الآخرة ، يجزون جزاء كفرهم ، فهل الدنيا تمر عليهم بسلام؟ كلا! فإن الله سبحانه ، جعل الكون ، وقرر فيه مناهج ، ثم أرشد إلى تلك المناهج على لسان الأنبياء ، فمن أطاع سعد ، إذ هو يمشي على المنهاج الكوني فلا يصطدم ، ومن عصى اصطدم بالمنهاج وصارت عاقبته الدمار ، كمن يخالف أمر الطبيب فإنه يشتد به المرض حتى يهلك ، وقد سبق أن ضرب الله سبحانه مثلين للشركاء ، وهنا مثل ثالث للبلدة التي تطغى وتخالف أمر ربها (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ، فكفروا بها ، فأنزل الله بهم نقمته (قَرْيَةً) أي مدينة ، فإن القرية تطلق على المدينة ، كما قال : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ) (١) (مِنْ قَرْيَتِكَ) (٢) (كانَتْ) تلك القرية (آمِنَةً) يعيش أهلها في أمن (مُطْمَئِنَّةً) من جهة معيشتها ، فهي ساكنة هادئة لا يحتاج أهلها إلى التحول والانتقال (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) أي واسعا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) فإن القرية ، إذا سكنت وهدأت حسن زرعها وتجارتها ، فالأرزاق تأتيها من أطرافها القريبة والبعيدة ، (فَكَفَرَتْ) أي تلك

__________________

(١) الكهف : ٦٠.

(٢) محمد : ١٤.

بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ

____________________________________

القرية ، والمراد أهلها بعلاقة الحال والمحل (بِأَنْعُمِ اللهِ) فلم يؤدوا شكرها ، فإن شكر النعم الإطاعة والإيمان ، فإذا كفروا وعصوا كان كفرانا للنعمة (فَأَذاقَهَا اللهُ) أي أذاق سبحانه تلك القرية (لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) أي أخذهم بالجوع ، فذهب رزقهم ، وبالخوف فذهب أمنهم (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي بسبب صنيعهم الكفر والطغيان ، وقد كان التعبير باللباس بليغا جدا حيث دل على أن الخوف والجوع شمل جميع البدن ، لا البطن والقلب فقط ، للدلالة على كثرة الأمرين ، فإن الإنسان إذا جاع كثيرا ظهر الهزال في جميع جسده ، وإذا خاف كثيرا ظهر أثر الخوف الذي هو الانكماش للجلد ، والاصفرار على جميع البدن ، وقد قال سبحانه «أذاقها» فليس مجرد إمساس ، بل ذوق ، فإنه أعمق تأثيرا عن الإمساس ، ولقد كان هذا المثل منطبقا على مكة تماما ، حيث كفر أهلها بعد ذلك الأمن والرفاه.

[١١٤] (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي جاء أهل مكة ، وقد كان من أنفسهم (فَكَذَّبُوهُ) ولم يؤمنوا به وبرسالته (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) بالجوع والخوف (وَهُمْ ظالِمُونَ) فلم يكن تعذيبهم ظلما منه سبحانه ، بل ذلك جزاء أعمالهم وظلمهم أنفسهم وغيرهم.

[١١٥] وحيث عرفتم أيها الناس جزاء الكفران ، فلا تتركوا الشكر والإيمان ، إن أردتم دوام النعم (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الأطعمة المحللة

حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ

____________________________________

(حَلالاً) شرعا (طَيِّباً) طبا ومذاقا ، فإن كل حلال طيب ، وكل طيب حلال ، و «كلوا» أمر بمعنى الإباحة (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) بالإيمان والإطاعة ، فإنك إذا أنعم عليك زيد ثم أنكرت وجوده أو خالفت أوامره كنت معرضا نفسك لسخطه إذ كفرت بنعمته (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ) أي الله سبحانه (تَعْبُدُونَ) أما من لا يعبد الإله فالأمر بإقامته على الإيمان ، وأن يشكر إحسانه تعالى ، عبث ، إذ من لا يقبل الأصل لا يقبل الفرع ، فليس مفهوم الآية ، لا تشكروا إن لم تعبدوه ، فإنه سالبة بانتفاء الموضوع حينئذ.

[١١٦] وحيث أباح سبحانه المحللات الطيبات ، ذكر سبحانه المحرمات ، ليتميز بعضها من بعض ، وهذا في قبال ما كانوا يحرصون ، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، لأن الحصر حقيقي ، حتى يقال ما بال بعض الأشياء لم تذكر هنا وقد تقرر في البلاغة ، أن الحصر إضافي إذا كان في قبال شيء ، فإذا قيل لك : أن في الدار ملكين ، تقول ليس فيها إلا ملك واحد ، تريد أنه ليس فيها ملك ثان ، لا أنه ليس فيها أحد غير الملك فإن هذا الحصر لا ينافي وجود العشرات من الناس فيها (إِنَّما حَرَّمَ) الله (عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) التي ماتت حتف أنفها (وَالدَّمَ) غير المتخلف في الأجزاء المحللة (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) وسائر أشيائه ، كالشحم واللبن ونحوهما ، وهذه الثلاثة حرمت لما يوجب من الضرر البالغ على الجسم (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي سمي غير اسم الله عند

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ

____________________________________

ذبحه ، فإن الكفار كانوا يسمون الأصنام لدى ذبحهم للذبائح ـ وقد تقدم تفصيل ذلك ـ وهنا إنما حرّم ، لأنه يوذي العقيدة ، وكذا نرى في الإسلام أن الأحكام تشرّع لصيانة العقيدة ، كما تشرع لصيانه الجسم ، فالبول نجس لضرره ، والكافر نجس لأنه يضر العقيدة ، وهكذا (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي تناول هذه المحرمات (غَيْرَ باغٍ) أي لم يكن طالبا له ، حتى أوقع نفسه فيه ، بل اضطراره صار صدفة (وَلا عادٍ) أي غير متعد لحد الاضطرار ، كأن يكون مضطرا إلى نصف رطل ، فيأكل رطلا ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر هذا العمل القبيح في نفسه ـ وإن لم تكن معصية ـ (رَحِيمٌ) يرحم المتناول ، ويتفضل عليه من إحسانه ، وغالبا يأتي وصف «رحيم» بعد «غفور» للدلالة على أنه سبحانه ليس كالبشر منتهى عطفهم ولطفهم أن يغمضوا عن المجرم ، فإنه بالإضافة إلى العفو عنه يتفضل عليه.

[١١٧] وإذ تبين الحلال من الحرام ، فما بال بعض الناس يتصرفون في هذه الأحكام حسب أهوائهم بلا حجة أو برهان؟ (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ) أيها الناس (الْكَذِبَ) مفعول تصف مصداق ل «ما» أي لا تقول للكذب الذي تصفه ألسنتكم (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) فإن الواقع يوصف بالصدق والكذب ، فإذا قلت : زيد قائم ، وصفت الخارج بأنه قيام زيد ، فإن كان مطابقا للخارج كان صدقا ، وإلا كان كذبا ، والحاصل لا تقولوا لما حللتموه بأنفسكم مثل الميتة هذا حلال

لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ

____________________________________

ولما حرمتموه مثل السائبة ، هذا حرام (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي لتكذبوا على الله في إضافة التحريم إليه ، اللام للعاقبة أي نتيجة تحليلكم وتحريمكم ، وعاقبة الافتراء على الله ، بمعنى أن هذا العمل ، لا يكون إلا افتراء (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) لا يفوزون بالجنان ، إذ مصيرهم إلى النار.

[١١٨] إنما الدنيا التي يكذبون لأجلها (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي هي شيء ينتفعون به ، ويتمتعون منه في أيام قلائل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع يوم القيامة ، وأي عاقل يشتري العذاب الأليم ، لمتاع قليل؟

[١١٩] وهنا يتساءل الإنسان ، كيف أن بعض الأشياء محرمة على اليهود ، وهي طيبات ، وقد سبق أن الطيبات محللة؟ والجواب ، أن التحريم عليهم كان لحكمة خارجية ، وهي أنهم ظلموا ، وإذا حرّم سبحانه بعض الطيبات كما تحرم ابنك عن بعض الأمتعة ـ المباحة لسائر أبنائك تأديبا ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي صاروا يهودا ، والصيرورة باعتبار أن اختيار الدين ، إنما هو بعد البلوغ (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (مِنْ قَبْلُ) إما متعلق ب «عليك» أو ب «حرمنا» كما قال سبحانه في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (١)

__________________

(١) الأنعام : ١٤٧.

وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً

____________________________________

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريمهم هذه الأشياء عليهم وحرمناهم منها (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وكان جزاء ظلمهم تأديبهم بتحريمهم بعض الطيبات عليهم.

[١٢٠] ولا يظن اليهود وغير اليهود ، أن من عصى فأدّبه سبحانه ، أو أوعده النار فإن الأمر قد تحتم ولا مرجع بعد ذلك ، فإن الله سبحانه يغفر لمن تاب (ثُمَ) بعد الوعيد والتحريم (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي الشيء القبيح السيء (بِجَهالَةٍ) وكل عاصي ، فهو جاهل في عصيانه ، وإن علم بأنه معصية ، لأنه لا يعلم مدى تأثيرها ، ولو علم لا نقلع (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) السوء (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم ، فيما بعد ، بأن لم يعصوا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي بعد التوبة (لَغَفُورٌ) يغفر ذنبهم (رَحِيمٌ) يتفضل عليهم بالإنعام والإحسان.

[١٢١] وقد كان كل من اليهود والمشركين ـ الذين تقدمت أحوالهم ـ ينسب آراءه وأعماله إلى إبراهيم عليه‌السلام ، حيث يدعي كل طائفة من الطائفتين إن إبراهيم أباه ، وإنه هو الذي اتبع تعاليمه ، فاليهود من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وكفار مكة ـ غالبا ـ من أولاد إسماعيل بن إبراهيم ، ولذا يأتي السياق ليفند مزاعم الجانبين ، وإن إبراهيم لم يكن كما يزعمون (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) وإنما كان بقية أهل العالم أمة ،

قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)

____________________________________

وإبراهيم أمة ، لأنه كان مسلما ، والباقون كفارا (قانِتاً لِلَّهِ) أي مطيعا لله من القنوت بمعنى الخضوع والانقطاع إليه سبحانه (حَنِيفاً) مائلا عن طريق الكفار ، فإنه من حنف ، بمعنى مال أو بمعنى مستقيما ، قال الباقر عليه‌السلام في تفسير الآية : إنه كان على دين لم يكن أحد غيره ، فكأنه أمة واحدة وأما قانتا فالمطيع ، وأما الحنيف فالمسلم (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما تزعمون أنتم أيها المشركون.

[١٢٢] (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) أنعم جمع نعمة ، أي أنه كان شاكرا لنعم الله سبحانه ، فلم يك يكفر بها كما هو دأبكم أيها الكفار الذين تنسبون أنفسكم إليه عليه‌السلام (اجْتَباهُ) أي اختاره سبحانه للرسالة (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو صراط التوحيد والإسلام ، ولم يكن ذا صراط منحرف كطرقكم الملتوية ، فكيف تنسبون أنفسكم إليه؟

[١٢٣] (وَآتَيْناهُ) أي أعطينا إبراهيم (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي نعمة ، والمراد بها الحسنة الكاملة ، التي يدخل فيها كل شيء من النبوة والعلم والمال والأولاد وغيرها ، كما قال سبحانه : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) (١) وليس الإفراد فيها لقصد الفرد ، كما لا يخفى (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فله جزاؤهم من الجنان والنعيم.

[١٢٤] وإذ تبين حال إبراهيم ، فأنت يا رسول الله المتبع له ، لا اليهود

__________________

(١) البقرة : ٢٠٢.

ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا

____________________________________

والمشركون (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله ـ بعد فترة طويلة بينك وبين إبراهيم ـ (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي طريقته وسنته في التوحيد ، وسائر المعارف ، مقابل اتباع طريقة الكفار أو طريقة اليهود (حَنِيفاً) في حال كونك حنيفا عن الباطل ، أو في حال كون إبراهيم حنيفا (وَما كانَ) إبراهيم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما يزعم هؤلاء ، وهذا للتأكيد ، بأنه لم يكن كما زعموا ، وإن كان قد سبق أنه عليه‌السلام لم يك مشركا.

[١٢٥] وحيث ندّد سبحانه بالمشركين بقوله (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على اليهود بالتشديد بهم فكيف أنهم يدعون اتباع إبراهيم ، فهم غافلون لأحكام الله سبحانه من أول الأمر ، والشاهد لذلك يوم السبت الذي حرّم الله فيه الصيد لهم ، فاستحلوه ، وصادوا فيه ، فلعنهم الله ومسخهم قردة وخنازير (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) أي قرر تحريم الاصطياد فيه (عَلَى) اليهود (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في إبراهيم عليه‌السلام ، فتبع بعض سبيله ، بأن اتبعوا موسى عليه‌السلام ، وخالف بعض ، بأن انحرفوا عن الدين ، أو أن الضمير يرجع إلى «السبت» أي جعل السبت على أولئك الذين اختلفوا في السبت ، فحرموه جماعة منهم بكفهم عن الاصطياد ، وأحلوه جماعة بالاصطياد فيه ، وليس السبت ـ كناية عن الدين الذي لهم السبت ـ مرتبطا بالمسلمين وبمناهجك يا رسول الله ، كما نقول «السبت لأصحابه» تريد أن اليهودية لليهود لا ترتبط بنا (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي بين المختلفين (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا

فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)

____________________________________

فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور دينهم فيميز المحق من المبطل ويجازي كلّا حسب عمله ، أما أنت فلا ترتبط بهم ، وإنما ترتبط بإبراهيم عليه‌السلام ، كما نقول لمن يقف متفرجا على تخاصم ، اذهب أنت في طريقك ، أما هؤلاء ، فإن المحكمة تفصل بينهم.

[١٢٦] وإذ كنت يا رسول الله متبعا طريق إبراهيم عليه‌السلام ، غير مرتبط باليهود والمشركين فعليك أن تدعو الناس إلى هذه الطريقة (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) أي ادع الناس إلى طريقه سبحانه (بِالْحِكْمَةِ) وهي وضع الشيء موضعه ، بأن تكون الدعوة حكيمة في الأسلوب والزمان والمكان (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) بأن تكون الدعوة وعظا حسنا ، لا يسبب تشريد الناس ، بل إقبالهم ، فقد يقول الإنسان للفاسق : يا فاسق ويبصق في وجهه ـ فإنه يزيده عنادا ـ وقد يقول له : أيها الأخ إنك شاب لطيف ، فلما ذا لا تسلك سبيل ربك الذي نهاك عن العمل الكذائي ، وهكذا (وَجادِلْهُمْ) أي حاجج وناظر من كفر وعصى (بِالَّتِي) أي بالطريقة التي (هِيَ أَحْسَنُ) الطرق ، حيث لا تثير عنادهم ، ولا تجرح كبريائهم (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وأعرف بطباعهم ونفسياتهم ، فأمره إياك بالدعوة هكذا ليس إلا لأنه أعلم بما يصلحهم (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الذين اهتدوا فجزاؤهم عليه ، وليس عليك إلا الدعوة بهذه الكيفية.

[١٢٧] ولقد كانت الدعوة معرضة لأصناف الأخطار ، والداعي ومن تبعه

وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)

____________________________________

لصنوف الإهانة والأذى ، ولذا كان من اللازم تشريع قانون المجازاة ، إلى جنب الأمر بالدعوة فما ذا يصنع النبي ومن تبعه بالكفار الذين يؤذونهم في سبيل الدعوة؟ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) أي أردتم معاقبة من آذاكم وأهانكم (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي بقدر ما تعدوا عليكم ، بلا زيادة ، فإن المظلوم قد يخرج عن الاعتدال ، فينتقم أكثر مما أهين ، أرأيت من يكثر السباب لمن سبّه مرة ، أو من أشبهه (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) فلم تعاقبوا أصلا وتركتم القصاص والمجازاة (لَهُوَ) أي الصبر (خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) لأنه يعود عليهم بخير الدنيا وسعادة الآخرة ، وفي صيرورة الإنسان مظلوما انتصار له ، بينما أن المقتضى لا يأخذ محلا من القلوب ، ومن مصاديق هذا الحكم ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في تفسير الآية ـ أنه قال يوم أحد : من له علم بعمي حمزة؟ فقال الحارث بن الصمت : أنا أعرف موضعه ، فجاء حتى وقف على حمزة ، فكره أن يرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخبره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام : اطلب يا علي عمك ، فجاء علي عليه‌السلام فوقف على حمزة ، فكره أن يرجع إليه ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حتى وقف عليه ، فلما رأى ما فعل به بكى ، ثم قال : ما وقفت موقفا قط أغيظ عليّ من هذا المكان ، لإن أمكنني الله من قريش ، لأمثلنّ سبعين رجلا منهم ، فنزل عليه جبرئيل ، فقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل أصبر (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٦٢.

وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)

____________________________________

أقول : فإن قيل كيف قال الرسول لأمثلنّ ، مع أن كلام الرسول ليس إلا وحيا؟ والجواب أنه ما المانع في كونه وحيا ، أن ينزل لإظهار سوء فعلهم ، وأنهم استحقوا مثل ذلك الجزاء ، وكان وحيا ما نزل من القرآن؟ وخلف الوعيد ليس قبيحا.

[١٢٨] (وَاصْبِرْ) يا رسول الله فيما تلاقيه من المكاره في سبيل الدعوة ، ولا تنافي بين الأمرين ، فإن التخيير عام لكل واحد ، وهذا خاص بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) إلا بتوفيقه وأمره وتحت نظره (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) فإن من يدعو إلى الرشاد ، لا بد وأن يحزن إذا رأى الإعراض ، لكن الله سبحانه ينهى نبيه عن الحزن ـ نهي إشفاق وإرشاد ـ كي لا يضيع حزنه عبثا (وَلا تَكُ) يا رسول الله (فِي ضَيْقٍ) أي لا يضيق صدرك (مِمَّا يَمْكُرُونَ) يدبرون من الحيل والمكايد ، لإطفاء الإسلام ، وإخماد صوت الحق ، فإنهم لا يقدرون على ذلك.

[١٢٩] والزم جانب التقوى في الدعوة ، وفي سائر الأمور ف (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصي ، معهم بالمعونة والنصر والنجاة والحفظ (وَ) مع (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) يحسنون في أعمالهم ، وهو فوق التقوى ، فإن التقوى ـ مثلا ـ أن لا تكذب ، والإحسان ، أن تسبح الله بلسانك.

تقريب القران إلى الأذهان

الجزء الخامس عشر

من آية (١) سورة الإسراء

إلى آية (٧٥) سورة الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

(١٧)

سورة الإسراء

مكية ـ مدنية / آياتها (١١٢)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من «الإسراء» في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وتسمى أيضا سورة «بني إسرائيل» لاشتمالها على لفظة «بني إسرائيل» ، وهي مكية ، إلا آيات ، ولذا نرى الجو العام فيها ، كالجو في غالب السور المكية ، يعالج قضايا العقيدة ، وتشتمل هذه السورة على إحدى معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثار ، وهي ذهابه ليلا من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، حينما عرج به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء ، ليرى آيات الله سبحانه في الملكوت عيانا. وحيث أن سورة النحل اختتمت بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تفتح هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الرحمن الرحيم ، فهو إله كل شيء ، مستحق لجميع أنواع الإعظام والإكرام ، أليس هو الله ـ وإنه اسم للذات المستحق لجميع أصناف المحامد ـ؟ وأليس هو رحمانا رحيما ، متفضلا على العباد ـ حتى العاصين ـ بأنواع الإحسان والامتنان ، فمن أحق منه بذكر اسمه في أول الأشياء ، وابتداء الأعمال والأمور؟

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ

____________________________________

[٢] (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) «سبحان» منصوب بفعل مقدر ، أي أسبح سبحان الإله الذي سار بالنبي ليلا ، فإن الإسراء هو السير ليلا ، والمراد بالعبد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه من أفضل صفاته أن يكون عبدا ـ كامل العبودية ـ لله ، قالوا : ولذا قدم على الرسالة في التشهد «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» (لَيْلاً) للتوضيح والتأكيد (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في مكة ، والكثيرون على أن ذلك كان من دار «أم هاني» بنت «أبي طالب» وإنما أطلق المسجد الحرام عليه ، بعلاقة الكل والجزء ، فإن الجزء قد يطلق على الكل ، للملابسة بينهما ، فمكة يطلق عليها المسجد الحرام (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي الأبعد ، فقد كان أهل مكة يسمون بيت المقدس بالمسجد الأقصى ، لبعده عن محلهم ، مقابل المسجد الأدنى الذي هو المسجد الحرام ـ عندهم ـ ثم أن هذا السير من مكة إلى المسجد الأقصى ، يسمى في عرفنا ب «الإسراء» لأنه سير من هنا إلى هناك ، ثم صعود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الأقصى إلى السماء يسمى «معراجا» لعروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هناك إلى السماوات ، وقد كان الإسراء والمعراج في ليلة واحدة ، في اليقظة ببدنه الشريف ، حسب ما انعقد عليه إجماع علمائنا ، ودلّ عليه ظاهر القرآن الحكيم ، والروايات المتواترة ، (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) فإن حول المسجد الأقصى ، كان مبعث الأنبياء ، وخصوصا العظام منهم ، كموسى وعيسى وإبراهيم وصالح وشعيب ويعقوب وإسحاق وإسماعيل وغيرهم عليهم‌السلام ، ولعل هذا الإسراء كان لأجل التلميح إلى ربط الديانات الكبرى العالمية واليهودية والمسيحية والإسلام بعضها ببعض ، في

لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)

____________________________________

أصل جوهرها قبل التحريف في الدينين السابقين ، وعلى أيّ فقد كان حول المسجد الأقصى مباركا ببعث الأنبياء ، ونشر تعاليم السماء ، وكأنه سبحانه اختار هذه المناطق ، لأنها الوسط بين الشرق والغرب ، فزحف الدين منها إلى العالم هين يسير بخلاف ما لو كان الدين من أقصى الشرق والغرب ، وإنما أسرينا بالرسول (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي لبعض الآيات الكونية في الأرض والسماء (إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لكل الأصوات فيسمع قول المكذب والمصدق (الْبَصِيرُ) بما يرى ، فيرى المؤمن والكافر والحركات والسكنات ، ثم أن قصة المعراج ليست عجيبة على الله سبحانه ، ومن يؤمن بأصل القرآن ، وإمكان الوحي والرسالة لا بد وأن يؤمن بهذه القصة ، والا فأي فرق بينه وبينها؟ نعم يستغرب هذه القصة الطبيعيون ، ومن إليهم ممن ضيقوا دائرة معارفهم في المحسوسات ، ولم يؤمنوا بما وراء الطبيعة (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) (١) ولا بأس بالإشارة إلى مجمل من القصة ، وتفصيلها في الكتب المفصلة : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني جبرئيل وأنا بمكة ، فقال : قم يا محمد ، فقمت معه ، وخرجت إلى الباب ، فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل وإسرافيل ، فأتى جبرئيل بالبراق ، وكان فوق الحمار دون البغل ، خدّه كخد الإنسان وذنبه كذنب البقر ، وعرفه كعرف الفرس ، وقوائمه كقوائم الإبل ، عليه رحل من الجنة ، وله جناحان من فخذيه ، فقال لي جبرئيل : اركب ، فركبت ومضيت ، حتى انتهيت إلى بيت المقدس ، فلما انتهيت إلى بيت المقدس ، إذا بملائكة

__________________

(١) الجاثية : ٢٥.

____________________________________

من السماء نزلت بالبشارة والكرامة من عند رب العزة ، وصليت في بيت المقدس ، وبشرني إبراهيم في رهط من الأنبياء ، ثم وصف موسى وعيسى ثم أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة ، فأقعدني عليها ، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا ، فصعدت إلى السماء الدنيا ، ورأيت عجائبها ، وملائكتها يسلمون عليّ ، ثم صعد بي جبرئيل إلى الثانية فرأيت عيسى ابن مريم ويحيى ابن زكريا ، ثم صعد بي إلى الثالثة ، فرأيت فيها يوسف ، ثم إلى الرابعة ، فرأيت فيها إدريس ، ثم إلى الخامسة ، فرأيت فيها هارون ، ثم صعد بي إلى السادسة ، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض ، وفيها الكروبين ، ثم إلى السماء السابعة ، فرأيت فيها إبراهيم ، قال ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين ووصف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إلى أن قال : ثم كلمني ربي وكلمته ، ورأيت الجنة والنار والعرش والسدرة ، ثم رجعت إلى مكة ، فلما أصبحت حدثت به الناس ، فكذبني أبو جهل والمشركون ، وقال مطعم بن عدى : أتزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنك كاذب ، ثم قالت قريش : أخبرنا عما رأيت ، فقلت : مررت بعير بني فلان ، وقد ضلوا بعيرا لهم ، وهم في طلبه ، وفي رحلهم قعب مملوء من ماء ، فشربت الماء ، ثم غطيته كما كان ، فاسألوهم ، هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا هذه آية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مررت بعير بني فلان ، فنفر بكرة فلان ، فانكسرت يدها ، فاسألوهم عن ذلك؟ فقالوا هذه آية أخرى ، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية ، وهم يقولون : لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بيّنا ، وجلسوا ينتظرون حتى تطلع الشمس ، فيكذبوه ، فقال قائل : والله إن الشمس قد طلعت ، وقال آخر : والله هذه الإبل قد

وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)

____________________________________

طلعت يقدمها أورق ، ولما جاءت العير وسألوهم عن ما ذكره الرسول؟ تبين صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنهم أبوا إلا الكفر والفساد ، ولم يؤمنوا (١).

[٣] وبمناسبة الحديث عن المسجد الأقصى ، يأتي السياق لبيان أحوال موسى عليه‌السلام ، وبني إسرائيل الذين كانوا هناك ، وما جرى عليهم حين أفسدوا وعملوا بالمعاصي (وَآتَيْنا) أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) هو التوراة ، كما أعطيناك يا رسول الله القران (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب الذي هو التوراة (هُدىً) هداية وإرشادا إلى الحق (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وهم اليهود ، سموا بذلك ، لأنهم من أبناء يعقوب ، وكان يسمى «إسرائيل» ومعناه «عبد الله» ، وكان أول الهدى الذي أنزل لأجله التوراة (أَلَّا تَتَّخِذُوا) أيها اليهود (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) ربّا تتوكلون عليه في أموركم ، بل هو الله الواحد الذي لا شريك له.

[٤] يا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) فأنتم أيها اليهود من أولاد أولئك الآباء الطاهرين المؤمنين الذين أنعمنا عليهم بإنجائهم من الغرق ، حيث آمنوا بالله ورسله فلا تنحرفوا ، بعد ما رأيتم نعمتي عليكم وعلى آبائكم من قبل ، وفيه تلميح إلى ذكر نوح ، بعد ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموسى عليه‌السلام (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فهو عبد كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أسرى بعبده» شكور يقابل نعم الله سبحانه بالشكر لا بالكفر. وهو تعريض باليهود الذين كفروا.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٢١٦.

وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)

____________________________________

[٥] (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أعلمنا بني إسرائيل (فِي الْكِتابِ) الذي أنزلناه على موسى ، وهو التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي تفسدون في الأرض التي تسكنونها وهي بيت المقدس مرتين ، بالكفر وإظهار المعاصي ، قال ابن عباس : كان فسادهم الأول قتل زكريا ، والثاني قتل يحيى بن زكريا ، ثم سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس في قتل زكريا ، وسلط عليهم في قتل يحيى بخت نصر ، وهو رجل من بابل ، أقول : من عجيب أمر اليهود ، أنهم يعملون ويعملون حتى يكون لهم سلطان وقوة ، ثم يتخذون ذلك وسيلة للفساد ، فيسلط الله عليهم من يبيدهم ويكثر القتل فيهم ، ـ كما هي السنة الجارية أن من تكبر وفسد يبتلى بمن ينتقم منه ـ وإذا ذهب سلطانهم أخذوا في العمل من جديد ، وهكذا دواليك ، وفي التاريخ القريب ، لما قويت شوكتهم ، أخذوا في الفساد ، حتى سلط عليهم «هتلر» فقتلهم وشردهم ، ثم نراهم من جديد ـ بعد تلك الاضطهادات ، وبعد أن صارت لهم قوة ـ أخذوا يعيثون في فلسطين الفساد ، فمن يا ترى يسلط عليهم هذه المرة؟ (وَلَتَعْلُنَ) أي ترتفعن بعد ذلك (عُلُوًّا كَبِيراً) إما المراد قوتهم وشوكتهم بعد المرتين أو المراد استكبارهم وظلمهم وتعديهم ، كما حدث في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث استكبروا وطغوا بالكفر بالرسول وأذى المؤمنين ، وما ورد في بعض الروايات من تطبيق الآية على هذه الأمة في ظلمهم الأئمة عليهم‌السلام ، فإن ذلك من باب القاعدة الكلية التي تنص على أن مثل القرآن مثل الشمس التي تطلع كل يوم على جميع الناس ، فالقرآن ينطبق في كل زمان على

فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥)

____________________________________

الناس ، مدائحه على الأخيار وتنقيصاته على الأشرار.

[٦] (فَإِذا جاءَ) وقت (وَعْدُ) نا بالانتقام عن (أُولاهُما) والمراد بالوعد الموعود ، والمراد بأولاهما أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) أيها اليهود (عِباداً لَنا) أي سلطنا عليكم بعض الملوك (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي أصحاب شوكة وقوة ونجدة ، ومعنى بعثه سبحانه أنه يخلي بينهم وبين اليهود حتى يفعلوا بهم ما يشاءون ، وهكذا كقوله سبحانه : (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) (١) فإن الملك إذا قوى طائفة وخلّى بينهم وبين سائر الناس حتى يفسدوا فيهم ، يقال أن الملك أرسلهم ، (فَجاسُوا) أي العباد المنتقمون (خِلالَ الدِّيارِ) أي طافوا وسط ديار اليهود ، وتفحصوا وتحسبوا هل بقي منهم أحد حتى يقتلوه ويأسروه (وَكانَ) ما وعدناهم من إرسال العباد للانتقام منهم (وَعْداً) منا (مَفْعُولاً) كائنا لا محالة لا خلف فيه ، قد كان ذلك كما ذكره التاريخ ، ومن لطيف المقارنة أن يرى الإنسان أن الله الرؤوف الرحيم بعباده حتى أن من لطفه يبعث الرسول على الكفار ليهديهم (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٢) يرسل على أهل الكتاب عبادا ليبطشوا بهم ويكثروا فيهم القتل والهتك والسبي ، حيث يخالفون الأوامر ، ويفسدون ويعملون بالمعاصي.

__________________

(١) مريم : ٨٤.

(٢) آل عمران : ١٦٥.

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا

____________________________________

[٧] (ثُمَ) بعد التدمير والفناء جزاء لأعمالكم السيئة (رَدَدْنا لَكُمُ) أيها اليهود (الْكَرَّةَ) أي الرجوع إلى الملك والسلطان والقوة والشوكة (عَلَيْهِمْ) أي على أولئك الأعداء ـ وهم عباد لنا ـ ، فيرجع إليكم ما فقدتموه ـ بعد تمام العقاب ، لما ارتكبتموه ـ (وَأَمْدَدْناكُمْ) أي أعطيناكم مددا وكثرة (بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) فأكثرنا أموالكم ونفوسكم (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي عددا وأنصارا من عدوكم ، ونفير جمع «نفر» كعبد جمع عبيد ، والنفر هو الشخص من الإنسان ، وقبل أن يبين سبحانه قصة فسادهم الثاني ، والانتقام منهم ، يبين أن الأمر بأيديكم ، فإن شئتم أحسنتم حتى لا يصيبكم المكروه ، وإن شئتم أسأتم أن يصيبكم ، فإن ما يراه الإنسان ، إنما هو نتيجة عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

[٨] لكن بنى إسرائيل لا يعتبرون ، وإن رأوا ألف مرة جزاء أعمالهم السيئة ، وقال لهم سبحانه (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) عملتم بالأعمال الحسنة (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) فإنكم بأنفسكم ترون جزاء تلك الأعمال حسنا مرضيا (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) عملتم الأعمال السيئة (فَلَها) أي فلأنفسكم عملتم ، وترون جزاءها سيئا وقبيحا ، وإنما لم يقل فعليها ـ بلفظة على ـ حتى يقابل «لأنفسكم» في اللفظ فيفسدون مرة ثانية (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) الانتقام لفساد المرة (الْآخِرَةِ) أي الفساد الثاني ليسلط عليكم الأعداء مرة ثانية حتى (لِيَسُوؤُا) بالقتل والنهب والهتك

وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

____________________________________

والأسر (وُجُوهَكُمْ) فيظهر آثار المساءة على وجوهكم ، فإن الإنسان إذا مليء قلبه بالإساءة والإذلال ، ظهر أثارها على وجهه ، فهو كناية عن شدة المساءة (وَلِيَدْخُلُوا) أولئك الأعداء (الْمَسْجِدَ) الأقصى ، أقدس محلاتكم بالإذلال والاستخفاف (كَما دَخَلُوهُ) الأعداء (أَوَّلَ مَرَّةٍ) عند الانتقام الأول (وَلِيُتَبِّرُوا) أي الأعداء من تبّر بمعنى أهلك ودمّر (ما عَلَوْا) أي كل شيء تمكنوا من التسلط عليه ، وغلبوا عليه من بلادكم وأموالكم ونسائكم وغيرها (تَتْبِيراً) أي تدميرا كاملا شاملا ، بحيث لا يخلو منه مكان ، ولا فرد منكم.

[٩] (عَسى) أي لعل (رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد ذلك ، إن أطعتم ، بعد هذا الانتقام الثاني ، وتصفية الحساب (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الفساد والإفساد (عُدْنا) إلى الانتقام والعقاب ، وهل انقلعوا!؟ كلا إنهم لا يجدون فرصة إلا ويفسدون (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محل حصر وحبس ، فاليهود الذين أفسدوا لم يكن الانتقام منهم في الدنيا فقط ، بل من ورائهم جهنم فهم فيها في ذلّ وسجن ، لا خلاص لهم عنها.

[١٠] وبمناسبة ذكر كتاب موسى يأتي الحديث عن كتاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) البشر للطريقة التي (هِيَ أَقْوَمُ) الطرق

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)

____________________________________

وأحسنها وأشد استقامة من جميعها ، فإن الطرق السابقة ، وإن كانت مستقيمة ، لكنها مستقيمة في ظروف خاصة ، أما القرآن ، فإنه يرشد إلى الطريقة المستقيمة أبدا ، ولذا فهو لا ينسخ (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أي إنهم مع إيمانهم يعملون الأعمال الصالحة ب (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) في الآخرة ، وثوابا عظيما.

[١١] (وَ) يبين هذا القرآن إلى جنب ذلك (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بأن فسدت عقيدتهم ، وذكر هذا للتلازم بينه وبين عدم الإيمان بالإله أو بالرسالة (أَعْتَدْنا) أي هيأنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما موجعا في الآخرة.

[١٢] إن القرآن يبشر المؤمن العامل بالصالحات ، الثواب ، وغير المؤمن بالعقاب ، فهل الإنسان يترك ما يضره ، ويفعل ما ينفعه؟ كلا ، إن الإنسان يطلب ما هو شر له في الدنيا ، فكيف يعمل الصالح ، لدفع ما هو شر في الآخرة؟ (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) أي يطلب ما هو شر له ، فالربا والزنا والقمار والخمر وسائر الأشياء التي يعود شرها إلى الإنسان ، نراه يطلبه للذة عاجلة من غير نظر إلى عواقب الأمور ، ولو كانت قريبة في الدنيا (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي كما يطلب ما هو خير له من الطيبات والمباحات (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يتعجل باللذائذ ، وإن كان

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ

____________________________________

لها عاقبة وخيمة ومستقبل سيئ.

[١٣] ثم ينتقل السياق من قضايا الرسل والأمم إلى الآيات الكونية ، وموقف الإنسان في هذه الحياة ، وما سيلاقي من ثواب أو عقاب جزاء أعماله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) من آيات الله سبحانه ، ففي خلقهما وتنظيم المعاش والاستراحة للبشر بها ، دلالة على وجود إله عليم قدير حكيم (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) إضافة الآية إلى الليل بيانية ، أي جعلنا الليل ـ الذي هو آية ـ ممحيا ، فكما أن الخط إذا محي يبقى بعض آثاره ، والبناء إذا أزيل يبقى بعض أطلاله ، كذلك الأشياء تظهر في الليل ، كالشيء الذي محي ، فيرى بعضها ولا يرى بعضها ، فنسبة المحو إلى الليل وهو للأجسام التي فيه ـ مجاز ـ بعلاقة الحال والمحل ، وهذا من بدائع البلاغة (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) أي النهار الذي هو آية (مُبْصِرَةً) فقد نسب الإبصار الذي هو للإنسان والحيوان إلى النهار ، مجازا بعلاقة الحال والمحل ، أو السبب والمسبب أو النهار سبب الإبصار ، وإنما جعلنا كذلك (لِتَبْتَغُوا) أي تطلبوا بسبب هاتين الآيتين (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في النهار المال والمعاش ، وفي الليل الراحة والأولاد ، فإن كل ذلك فضل منه سبحانه ، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ) فإن السنة تتولد من الأيام ، كما يتولد منها الأسبوع والشهر (وَالْحِسابَ) آجال العقود والمفاوضات والديون والأسفار وغيرها مما يعدّ ، فيؤتي به أول موعده (وَكُلَّ شَيْءٍ) من كليات ما يحتاج إليه

فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ

____________________________________

البشر في دنياه وآخرته (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) فأصول العقيدة والاجتماع وغيرهما كلها مفصلة في الكتاب ، أو المراد أن جميع الأمور الكونية ، قد روعيت فيها الدقة والتفصيل ـ أى التمييز فليس هناك شيء خلق صدفة أو جزافا ، أو بلا رعاية جهاتها وخصوصياتها ، ويشهد لذلك هذا النظام الواضح في الدورة الفلكية المولّدة لليل والنهار بكل دقّة وإتقان.

[١٤] وإذا كان للكون إله مدبّر ، وإذ كان كل ما في الكون تحت نظام ودقة ، فإن الإنسان لا يخرج عن هذا النظام والدقة ، إن كل عمل يعمله ، إنما هو تحت حساب إله قدير عالم ، وإذا قام الجزاء انكشف له وللناس كل ما عمله من خير أو شر ، صلاح أو فساد (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) اى عمله ، وسمي طائرا ، لأنه يسنح كالطائر الذي يطير عن يمين الإنسان أو شماله ، ومعنى الإلزام أنه معه لا يفارقه ، فلا يتمكن الإنسان الخلاص من تبعة عمله ، إلا إذا أعدم العمل بالتوبة (فِي عُنُقِهِ) فإن العنق موضع القلادة التي تزين ، أو الجامعة التي تشين (وَنُخْرِجُ لَهُ) أي للإنسان (يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) مكتوب فيه جميع أعماله ، وفي الأحاديث ، أنه مكتوب فيه حتى النفخ في النار (يَلْقاهُ) يلقى كتابه (مَنْشُوراً) مفتوحا ، ليطلع عليه هو وغيره.

[١٥] ويقال له عندئذ (اقْرَأْ كِتابَكَ) الذي أمليته وكتبه الحافظان ، وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : يذكر العبد جميع أعماله ، وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا يا ويلتنا ، ما لهذا الكتاب

كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)

____________________________________

لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (١) (كَفى بِنَفْسِكَ) أيها الإنسان في هذا (الْيَوْمَ) يوم القيامة (عَلَيْكَ) أي على نفسك (حَسِيباً) محاسبا ، لأنه يرى أعماله ، وجزاء كل عمل ، فلا يحتاج إلى غيره حتى يحاسبه ، وهذا غاية في الدقة والإنصاف ، حيث أن العامل هو المحاسب ، وإنما كانت الدقة ، لأنه لا يزيد على السيئات شيئا ، ولا ينقص من الحسنات شيئا.

[١٦] وإذ تبين أن هناك حساب على الأعمال ، وأن خيره وشره ، لا بد وأن يلاقيه الإنسان يوم الجزاء ف (مَنِ اهْتَدى) إلى الإيمان والإطاعة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) فإن نفع هداه يعود إليه (وَمَنْ ضَلَ) عن الطريق بالكفر أو العصيان (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي يعود ضرر ضلاله على نفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) لا تحمل نفس حاملة للذنوب (وِزْرَ أُخْرى) أي ذنوب نفس أخرى ، فلكل إنسان ذنبه ، أما من ضل غيره ، فإنه يحمل ذنب نفسه وذنب إضلاله ، فهو أيضا حامل لذنب نفسه ، كما قال سبحانه (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٢) وعلى هذا ، فلا يظن إنسان ، أن من يأمره بالكفر أو العصيان يحمل تبعته يوم القيامة (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) أي إنما لا نعذب أحدا من الكفار والعصاة (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبين أن على الكفر

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٨٤.

(٢) النحل : ٢٦.

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ

____________________________________

والعصيان العقاب ، وللإيمان والإطاعة الثواب ، ثم إذا خالفوا عذبناهم ، بعد إتمام الحجة ، وقيام الأدلة والبراهين ، فالأوامر العقلية قبل إتمام الحجة الخارجية ، لا توجب عقابا لمن خالفها.

[١٧] إن الله لا يعذب حتى يبعث رسولا وحجة ليدل الناس على مواقع المحظور ـ كما سبق ـ فإذا عتت قرية عن الطريق المستقيم ، لا يعذبها الله سبحانه بمجرد ذلك ، وإنما يبعث الرسول بالأوامر والنواهي ، وهناك يخالف المترفون والسادة الأعلون ـ ويتبعهم الجمهور طبعا ـ فيستحقوا العقاب بعد تمام الحجة (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) لأنها أسرفت في الكفر والفساد ، لم نهلكها بدون إتمام الحجة ، بل (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بأوامرنا ، وإنما خص المترفين ، مع أن الأمر عام لكل الناس ، لأنهم هم الذين إن أطاعوا أطاع الناس ، وإن عصوا عصى الناس ، ولذا كان الأنبياء ، يذهبون إلى الملوك ، ويعارضون السلطان بادئ ذي بدء ، فإن الناس على دين ملوكها وكبرائها (فَفَسَقُوا فِيها) أي خرجوا عن الطاعة في تلك القرية ، تقول : أمرته فعصاني ، أي أمرته بأوامري فعصاني ، ولم يمتثل ، وهناك حيث خالفوا أوامر الرسل ، وتمت عليهم الحجة (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي ثبت على تلك القرية ، قولنا بالهلاك والدمار (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي أهلكناها إهلاكا.

[١٨] وقد جرت هذه السنة في الأمم السابقة (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) جمع قرن وهو الأمة يقال لها قرن ، لتقارن سن أفرادها تقريبا ، كما يقال للزمان قرن ، باعتبار تقارن أعمار من فيه (مِنْ بَعْدِ

نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ

____________________________________

نُوحٍ) وإنما خص بما بعد نوح ، لأن المعروف عند المخاطبين كان هذا الزمان ، أما قبل نوح ، فالتاريخ لديهم مجهول ، ومن البلاغة ، أن يتكلم الإنسان مع الناس على قدر مداركهم ، فإنه أقل مؤونة ، وأقرب إلى القبول (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي يكفيه مطلعا ، فليخف الإنسان من الإله العالم بالذنوب ، فلا يفعل ما يوجب سخطه وعذابه (بَصِيراً) يبصر الذنوب ، فليخجل الإنسان أن يعصي أمامه.

[١٩] وإذ تبين عاقبة العاصي ، وعاقبة المطيع ، فليتقدم كل إنسان بما يختاره من الأمرين ، فإن الطريق أمامه مفتوح (مَنْ كانَ يُرِيدُ) الدنيا (الْعاجِلَةَ) فقط بدون تفكّر لما يأتي ، وإرادة للدار الآجلة (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) أي في العاجلة (ما نَشاءُ) من الثروة والفقر ، والصحة والمرض ، والأمن والخوف ، وغيرها (لِمَنْ نُرِيدُ) فليس كل من يريد العاجلة يعطاها ، كما أن من يعطى العاجلة لا يعطاها كما يشاء ، وإنما كما يشاء سبحانه حسب حكمته البالغة ، وتقديره الحكيم (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (يَصْلاها) أي يصل بصلاها ، ويحترق بنارها في حال كونه (مَذْمُوماً) ملوما (مَدْحُوراً) مطرودا عن الخير والسعادة.

[٢٠] (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) في ضمن إرادته للدنيا ، كما قال سبحانه في آية أخرى (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (١) فعمل للآخرة ،

__________________

(١) البقرة : ٢٠٢.

وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ

____________________________________

كما يعمل للدنيا ، ولم يأت بما ينافي الآخرة (وَسَعى لَها) أي للآخرة (سَعْيَها) السعي المناسب لها ، واللائق بشأنها ، بأن عمل الأعمال الصالحة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن العمل الصالح بدون الإيمان لا يفيد (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) يشكره الله سبحانه ، بأن يعطي جزاؤهم ، فإن الشكر لشيء إعطاء جزائه ، وإكرام العامل له.

[٢١] ثم ذكر سبحانه أنه في الدنيا لا يمنع لطفه عن الشخصين ، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الفاسق ، لكن الفرق في السعادة هنا ، فإن الفاسق لا يهنأ بالسعادة ، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن (كُلًّا) من المؤمن والكافر (نُمِدُّ) أي نعطيهم من الدنيا (هؤُلاءِ) الذين يريدون الآخرة (وَهَؤُلاءِ) الذين يريدون العاجلة (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) يا رسول الله ، أي نعمته وفضله (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي ممنوعا ، فإنه يشمل البرّ والفاجر.

[٢٢] وإذ يريد أهل الدنيا الدرجات الرفيعة هنا ، فليرد أهل الآخرة إياها هناك (انْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بعض الناس على البعض الآخر في الدنيا ، فبعضهم أغنياء إلى منتهى الحد ، وبعضهم متوسطون ، وبعضهم فقراء ، وبعضهم أصحاب مناصب ، وبعضهم عاديون وهكذا (وَلَلْآخِرَةُ) اللام للتأكيد (أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) أي

وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً

____________________________________

درجاتها أكبر من درجات الدنيا (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فمدى المفاضلة هناك أوسع ، وفي بعض الأحاديث ، أن أقل المؤمنين ثوابا من يعطي من الجنان بقدر الدنيا سبع مرات (١).

[٢٣] وبمناسبة الحديث عن الآخرة ، وعطاء الله سبحانه ، ومن يريد العاجلة والآجلة ، يأتي الحديث حول طائفة من الأحكام التي توجب السعادة ، أو الشقاء ، مبتدئا بتصحيح العقيدة (لا تَجْعَلْ) أيها الإنسان (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فلا إله إلا هو (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) يعني إن فعلت ذلك ، بأن اعتقدت بأكثر من إله واحد ، تبقى بقية عمرك ـ فإن قعد يطلق على البقاء والاستمرار ـ مذموما ، يذمك العقلاء ، وأهل الدين ، مخذولا يخذلك الله سبحانه ، بمعنى أنه يقطع لطفه الخاص عنك ، حتى تبقى بغير عنايته ونصرته.

[٢٤] وكما نهى سبحانه عن الشرك في العقيدة نهى عن الشرك في العبادة (وَقَضى رَبُّكَ) أي أمر أمر إلزام وفرض (أَلَّا تَعْبُدُوا) أيها البشر أصله «أن لا» أدغمت النون في اللام ، لقاعدة «يرملون» (إِلَّا إِيَّاهُ) فالعبادة خاصة ، وهي مشتقة من «عبد» أي الإتيان برسوم العبودية ، وكون الإنسان عبدا له سيّد (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي قضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين ، وهما الأب ـ يسمى والدا لأنه يلد بإخراج المني ـ

__________________

(١) قريبا منه في بحار الأنوار : ج ٨ ص ٢٠٠.

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣)

____________________________________

والأم ، والإحسان فوق العدل كما تقدم ، ثم بين سبحانه لزوم الإحسان في حال كبرهما ، لأن الإنسان ، إذا كبر يسيء خلقه ، ويكثر طلبه ، ومن طرف ثان ، أن الولد ـ كما هو عادة كل إنسان ـ إذا كبر ورشد ، رأى نفسه في غنى عنهما ، فكان مقتضى عدم الإحسان إليهما موجودا عنده من جهتين ، ولذا يخص سبحانه هذا الحال بالذكر ، وقد قال بعض العارفين : إن أباك وأمك أحسنا إليك ، وهما يريدان بقاءك ، ويهفو قلبهما إليك ، وأنت تحسن إليهما ـ إن تحسن ـ وأنت ترى استغناك عنهما ، فلا يبلغ إحسانك إحسانهما ـ مهما أحسنت ـ وليعلم الولد أن الدار دار مكافات ، فمن أحسن إلى أبويه أحسن أولاده إليه ، ومن أساء إليهما أساءوا إليه ، (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ) أيها الولد و «إما» أصله «إن ما» دخلت ما الزائدة ، على إن الشرطية للتزيين (الْكِبَرَ) الشيخوخة ، والكثرة في السن (أَحَدُهُما) أي أحد الأبوين ، وهو فاعل «يبلغن» والكبر مفعوله ، أي إن عاش أحدهما (أَوْ كِلاهُما) عندك حتى كبرا ، وبلغا مبلغا كبيرا من العمر (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) وهي كلمة تستعمل عند الضجر ، في قول مثل هذه اللفظة البسيطة ، منهي عنه في الشريعة ، وقد قال الصادق عليه‌السلام : لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها (١) (وَلا تَنْهَرْهُما) النهر هو الزجر بإغلاظ وصياح ، أي لا تزجرهما ، وإن أرادا منك شيئا لا تطردهما ، كما قال سبحانه (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (٢) (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧١ ص ٤٢.

(٢) الضحى : ١١.

وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ

____________________________________

خاطبهما ، وتكلم معهما بكلام لطيف حسن جميل.

[٢٥] (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) فكما أن فرخ الطائر يخفض جناحه لأبويه ، تذللا وخضوعا ، فافعل أنت ذلك بأبويك (مِنَ الرَّحْمَةِ) أي اعمل هذا العمل من جهة الرحمة ، والعطف بهما ، لا كالطائر الذي يفعل ذلك من جهة طلب الغذاء ، فإن الإنسان قد يتواضع رحمة ، وقد يتواضع طمعا أو طلبا ، أو ما أشبه (وَقُلْ) داعيا لهما (رَبِّ ارْحَمْهُما) تفضل عليهما باللطف والكرامة (كَما رَبَّيانِي) أي جزاء تربيتهما لي في حال كوني (صَغِيراً) فإنك يا رب أجزهما على أتعابهما ، فإني لا أقدر على جزائهما ، وفي الآثار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام كثرة مدهشة من التأكيدات العجيبة حول الوالدين ، وخصوصا الأم (١).

[٢٦] أيها الأولاد إن الله سبحانه يعلم أعمالكم وأقوالكم ونواياكم حول الوالدين فاحذروا مخالفته ، كما يعلم كل شيء ، ظاهر وخفي من كل أحد (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من غيره ، فإنه يعلم وساوس الصدور ، وبلبلة النفوس ، فاحذروا النوايا السيئة ، فكيف بالأعمال السيئة تجاه الأبوين (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) في أعمالكم وأقوالكم ونواياكم (فَإِنَّهُ) تعالى (كانَ لِلْأَوَّابِينَ) الذين كلما أذنبوا آبوا ـ أي

__________________

(١) عدة الداعي : ص ٨٥.

غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ

____________________________________

رجعوا واستغفروا ـ (غَفُوراً) يغفر لهم ، فإذا صدرت منكم زلّة تجاه الوالدين ، أو نويتم نية سوء ، وقد كان علم سبحانه أنكم صالحون ، فتبتم تاب عليكم ، وإذ تكثر الإساءة تجاههما ، جاء بلفظ «الأوّاب» فإن غير الصالحين يتمادون في إساءاتهم ، أما الصالح ، فإنه كلما مرّ به خاطر ، أو يعمل عملا منافيا ، فإنه يئوب ويرجع ، ويتوب إلى الله سبحانه ، وهو يغفر له إذ يعلم صلاحه.

[٢٧] وإذ ذكر السياق المنعم الأول ـ وهو الله ـ ولزوم إطاعته وشكره وعبادته ، والمنعم الثاني ، وهما الأبوان ، ولزوم برّهما جاء إلى سائر ذوي الحقوق ، فقال سبحانه (وَآتِ) أي أعط (ذَا الْقُرْبى) ذا ـ بمعنى صاحب ـ والقربى مؤنث الأقرب ، وهي صفة لمحذوف هو «صلة» أي صاحب الصلة ، والنسبة القريبة إليك من الإخوان والأجداد ، والأعمام والأخوال والأولاد (حَقَّهُ) الذي قرره الله سبحانه له من النفقة والإكرام ، والمزاورة وغيرها ، وما ورد في الأحاديث ، أن المراد بذلك أقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خصوص الصديقة الطاهرة صلوات الله عليها (١) ، فإنما ذلك من باب المصداق ، فقد روى الشيعة والسنة ، أنه لما نزلت هذه الآية ، سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل : من ذا القربى؟ وما حقه؟ فقال جبرئيل : ذا القربى فاطمة ، وحقها فدك ، وقال : أمرك ربك أن تعطي فدكا لفاطمة عليها‌السلام ، فأعطاها إياها (٢) ، وكانت في يدها ، حتى غصبوها منها بعد وفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالْمِسْكِينَ) أي

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٩ ص ١٠٥.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ٢٩ ص ١١٧.

وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ

____________________________________

أعط المسكين ـ وهو الفقير ـ حقه من الحق الواجب ، كالزكاة والخمس ، أو المستحب ، كالصدقة (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المنقطع في سفره ، ينسب إلى الطريق لعدم معرفة أبيه ، وإعطاء حقه من الزكاة والخمس ، أو الصلة والخير (وَلا تُبَذِّرْ) في الإعطاء ، بأن تفرق أموالك على نحو الإسراف حتى تبقى بغير زاد (تَبْذِيراً) مصدر تأكيدي ، وهذا كما قال سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (١) فكل من البخل والإسراف منهي عنه ، والأوسط السخاء.

[٢٨] (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ) الذين يسرفون أموالهم ، والإسراف هو أن يعطي الإنسان المال في غير حق ، سواء أعطى قليلا لمن لا يستحق ، أو جاوز في الكثرة حد الوسط ، فإن كلا الطرفين باطل لا يجوز (كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) يقال فلان أخو فلان ، أي قرينه وشبهه ، أي إن المبذر قرين الشيطان ، وشبيه له في المعصية والانحراف (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) كثير الكفر ، يكفر مرة ثم أخرى ، لأن كل عمل يمكن أن يؤتى به بإيمان أو كفر ، وكان تخصيص هذه الصفة بالذكر ـ هنا ـ لأن المبذر يكون بكل مرة من تبذيره كافرا بالنعمة ، إذ لم يشكرها بجعلها في موضعها ، كما أمر الله سبحانه.

[٢٩] (وَإِمَّا) أي «إن ما» فإن للشرط وما زائدة للزينة ، أي إن (تُعْرِضَنَّ

__________________

(١) الإسراء : ٣٠.

عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)

____________________________________

عَنْهُمُ) عن ذي القربى والمسكين ، وابن السبيل ، بأن ليس لك مال تنفق عليهم ، فتضطر للإعراض عنهم حياء واستتارا (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) بأن لم يك إعراضك عنهم عن خسة نفس ، وإنما تبتغي بذلك أن يتفضل الله عليك فتعطيهم ، وفي هذا أدب النفس ، بأن يكون المعدم ينوي الإنفاق إن وجد (فَقُلْ لَهُمْ) أي المسؤول عنه (قَوْلاً مَيْسُوراً) أي قولا بلطف ولين يتيسر عليك ، فإن القول اللين ميسور ، ممكن أن يقال ، بخلاف القول الغليظ البذيء ، الذي هو معسور يصعب أن يقال.

[٣٠] وإذ أمر سبحانه بالإنفاق ، ونهى عن الإسراف شبّه جانبي الرذيلة وهما البخل والإسراف بمن يده مغلولة إلى عنقه لا يمكن أن يحركها ، وبمن بسط يده حتى لا يبقى فيها شيء ، إذ لا قبض فيها ليبقى فيها مال ، والآية وإن كانت بهذا الصدد ، لكنها عامة لكل إفراط وتفريط في الجهات الحيوية (وَلا تَجْعَلْ) أيها الإنسان (يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) بأن لا تعطي شيئا فتكون كالإنسان الذي يده مغلولة ، لا يتمكن على القبض والبسط ، وجاء بالعنق لأن الغل ، كذلك مانع عن كل تحريك ، بخلاف غل اليد وحدها (وَلا تَبْسُطْها) أي لا تبسط يدك (كُلَّ الْبَسْطِ) بأن تعطي جميع ما عندك ، حتى لا يبقى لك شيء ، فتكون كالذي بسط يده لا يستقر فيها أي شيء (فَتَقْعُدَ) أي تبقى (مَلُوماً) يلومك العقل والشرع (مَحْسُوراً) من حسر إذا انكشف ، يقال حسر

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)

____________________________________

عن ذراعه ، والمحسور هو العريان ، كما قال الصادق عليه‌السلام : فهو كناية عن الإنسان الذي لا مال له ، كأنه عريان من الثياب (١) ، وما دل على إن الإمام الحسن عليه‌السلام بذل جميع ماله لا ينافي ذلك ، لأنه كان علم أنه لا يقعد محسورا ، وإنما يأتيه المال من الحقوق ، وغيرها.

[٣١] إنك ببخلك لا تقدر أن تضيق على الناس ، أو تبقي لنفسك ، ولا بسرفك تقدر أن توسع عليهم ، بل الله سبحانه هو المقدر للأرزاق يبسطها أو يقبضها ، فلا تفعل ما يضرك ولا ينفع غيرك (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَقْدِرُ) أي يضيق فلا بخلك ينجيك من الضيق إن قدّر لك ، ولا إنفاقك يسبب لك ضيقا ، إن وسع الله عليك.

قال الشاعر :

إذا أقبل الدنيا عليك فجد بها

على الناس طرا قبل أن تتفلّت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت

ولا البخل يبقيها إذا هي ولّت

(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فهو عن خبرة وبصيرة يضيّق ويوسع ، وعن خبرة وبصيرة يأمر بالتوسط بين البخل والإسراف.

[٣٢] ولقد تفشت في المجتمع الجاهلي سيئات عجيبة ، فقد كانوا يئدون البنات خوف العار ، ويقتلون الأولاد خوف الفقر ويكرهون فتياتهم

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٩٣ ص ١٦٣.

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)

____________________________________

على الزنى لاكتساب الأموال ، ويتعاطون الخمر والمسير افتخارا ، حتى جاء القرآن الحكيم ونهى عن كل ذلك (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بنين وبنات (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) الإملاق الفقر ، يقال أملق الرجل إذا افتقر ، و «خشية» مفعول له ، أي لا تقتلوهم لخوف الفقر والعجز عن النفقة عليهم (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) فإن الرزق منه سبحانه ، فلا كلّ عليكم منهم ، والأسباب الظاهرية في ذلك واضحة فإن الأرض والشمس والماء والهواء مصدر الأرزاق ، ويحصلها الإنسان من الطبيعة بالعمل ، فبحسب كل فرد الرزق مخزون ، وبعمله يخرج ذلك الرزق ، وهذه الآية تناسب مجتمعنا الحاضر الذي يمنع من النسل خوف الفقر ، فإن أهل الخبرة ، ذكروا أن الكون يتحمل أضعاف هذا البشر الموجود الآن (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً) أي إثما (كَبِيراً) فإنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعا ـ ومن قتل الأولاد ـ إسقاط الجنين ـ فإنه محرم أكيد وموجب للدية ، كما قرر في الفقه.

[٣٣] (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) وهو إتيان المرأة ، بغير حلية ، والنهي عن الاقتراب مبالغة في النهي عن الشيء ، فإن من اقترب إلى شيء كاد أن يقع فيه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي معصية عظيمة متعدية عن حدود العصيان العادي ، فإن فحش بمعنى تعدى الحدود ، ومنه الدم الفاحش أي الأكثر من الدرهم ـ المعفو عنه في الصلاة ـ (وَساءَ سَبِيلاً) أي أن سبيل الزنى سبيل سيئ ، لأنه يوجب الأمراض وإسراف المياه واختلاط

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

____________________________________

الأنساب ، وهدم نظام العائلة ، إلى غيرها من المفاسد.

[٣٤] (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها مقابل الكافر الحربي المهدور دمه ، والذي يقتل لحدّ أو قصاص (إِلَّا بِالْحَقِ) وهو ما كان لحد ـ كالمرتد ـ أو قصاص ـ كما لو قتل إنسانا عمدا ـ أو لأنه كافر حربي أو ما أشبه ذلك (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) قتله شخص ظالما في قتله إياه (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) أي ولي المقتول ، وهو الأولى به ، حسب مراتب الإرث (سُلْطاناً) أي تسلطا على قتل القاتل قصاصا (فَلا يُسْرِفْ) الولي (فِي الْقَتْلِ) والقصاص ، بأن يقتل غير القاتل ـ كالثأر ـ أو يمثل بالقاتل (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي إن الله سبحانه ينصر ولي المقتول ، ونصرته أن سمح له بقتل القاتل ، وأمر الحكّام بتنفيذ ذلك ، وقد كانت عادة الجاهليين السائدة إلى هذا اليوم عند بعض جهلاء المسلمين أنهم يقتلون من عشيرة القاتل البريء ، لأنه صدر القتل من أحد أفراد عشيرته ، وهذا هو الحرام والإسراف في القتل.

[٣٥] (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) مبالغة ، في النهي عن التصرف في ماله بغير حق ، ولأن من رعى حول الحمى ، أوشك أن يقع فيه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالصفة التي هي أحسن الصفات ، وبالقربة التي هي خير أنواع الاقتراب ، وذلك بأن يصرفه على اليتيم حسب المصلحة والاقتصاد ، أو يتاجر له فيه تجارة مأمونة من الضرر ، ربحها لليتيم

حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)

____________________________________

(حَتَّى يَبْلُغَ) اليتيم (أَشُدَّهُ) أي قواه الكامنة فيه التي تظهر لدى البلوغ والرشد ـ كما مر في سورة الأنعام ـ (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) مع الله ومع الناس ، ولا تنقضوا العهد ، بأن تخالفوا مقتضاه (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) عنه ، يسأل الله المعاهد ، هل وفيت بعهدك؟ فإن وفي ، فله الجزاء الحسن ، وإن لم يف ، فله الخزي والعقاب.

[٣٦] (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) بأن لا تعطوا ناقصا ، ولا تأخذوا زائدا بل الوفاء هو الأخذ والعطاء حسب الوزن والكيل المقرر (وَزِنُوا) من «وزن» «يزن» (بِالْقِسْطاسِ) هو الميزان (الْمُسْتَقِيمِ) الذي لا ينحرف ، أي إذا أردتم التعامل ، فليكن بينكم الوزن بالموازين الصحيحة المعتدلة ، التي لا تنحرف قلة أو كثرة (ذلِكَ) الوفاء في الكيل والوزن (خَيْرٌ) لكم إذ المجتمع إذا صار باخسا ، يتضرر الإنسان عند الشراء ، بقدر ما يسرق عند البيع ، ويوجب رفع الثقة ، وذهاب البركة ؛ وتفشي المخاصمة (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي أن أوله ومرجعه ومصيره أحسن من مصير التطفيف والتلاعب بالمكايل والموازين ، ومن آل يؤول بمعنى رجع وصار إليه ، أما في الآخرة ، فالعذاب والنكال لمن بخس الناس حقوقهم ، وتلاعب بالكيل والوزن (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١).

__________________

(١) المطففين : ٢.

وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً

____________________________________

[٣٧] (وَلا تَقْفُ) القفو اتباع الأثر ، ومنه القيافة ، فإن القائف يتبع الآثار ، ليلحق بهذا أو ذاك أي لا تتبع (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ومعنى الاتباع أن يظهر ما جهله على نحو يرى أنه علمه ، بأن يقول ما لا يعلم ، أو يكتب ما هو مجهول لديه ونحوهما ، فإذا قال «زيد في الدار» وهو لا يعلم ذلك ، فقد تبع مجهولا ، فإن كونه في الدار مجهول له ومع ذلك ، فقد قاله ـ كأنه تابع له ـ (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) أي القلب (كُلُّ أُولئِكَ) الثلاثة (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فيما صدر منه ، فالسمع مسئول لم سمع ما سمع؟ والبصر مسئول لما نظر إلى ما نظر؟ والقلب مسئول لم عزم ، ووعى ما عزم عليه ووعاه؟ فإذا عمل كل واحد من هذه الثلاثة ، ما لا يعلمه استحق العقاب ، وهذا من باب المثال ، وإلا فجميع الجوارح مسئولة عما اقترفتها خيرا كان أم شرا ، فيلزم التثبت في كل شيء ، حتى يعلم الإنسان وجهه ، ثم يعمل به أو يدعه ، أما أن يتحرك وراء المجهول ، فيسمع ما لا يعلم حليته ، أو ينظر إلى ما لم يعلم جواز نظره إليه ، أو يظن ـ بقلبه ـ سوءا فيما لا يدري ، ونحوه أن يعقد قلبه على اعتقاد لا يدري صحته ، وهكذا أعمال اليد والرجل والفرج واللسان وغيرها ، فإن ذلك موجب للحظر.

[٣٨] (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) المرح الخيلاء والتكبر ، وإنما قال «في الأرض» لأن المشي كثيرا ما يستعمل في غير معنى الذهاب ، كما قال سبحانه (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) (١) وكثيرا ما يأخذ الإنسان

__________________

(١) ص : ٧.

إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ

____________________________________

الكبر ، فيظن أنه عظيم ، حيث رأى لنفسه مالا أو جمالا ، أو منصبا أو ما أشبه ، لكنه غافل عن أنه صغير عاجز ، فهذه الأرض تحت رجله ، وهذه الجبال مطلة عليه ، أيهما أعظم ، أهو ، أم هما ، وهل يتمكن الإنسان ، أن يشق الأرض شقا ، فيجعلها نصفين؟ أو هل يمكن أن يطول نفسه حتى يبلغ طول الجبال؟ كلا ، فما هذا الضرب على الأرض بغرور ، وما هذا الكبر والاستعلاء ، فالأرض التي يضربها برجله ، لا يتمكن من التصرف فيها ، والجبال التي تعلوه لا يتمكن من الوصول في طوله إليها (إِنَّكَ) أيها المرح (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تقدر على شق الأرض (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) وارتفاعا.

[٣٩] (كُلُّ ذلِكَ) الذي تقدم من المحرمات التي نهى الله عنها (كانَ سَيِّئُهُ) إنما قال «سيئه» للدلالة على أنها سيئات ، وإلا فمقتضى القاعدة أن يقال «كان» فقط (عِنْدَ رَبِّكَ) يا رسول الله (مَكْرُوهاً) فإنه سبحانه يكره هذه الخصال الخمس والعشرين التي ذكرت من قوله سبحانه (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (١) إلى هنا.

[٤٠] (ذلِكَ) الذي تقدم من النواهي عن الكفر والقبائح (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) يا رسول الله (مِنَ الْحِكْمَةِ) وهي العلم بوضع الأشياء مواضعها اللائقة بها ، فإن ترك المعاصي من الحكمة ، ثم يرتد السياق إلى ما

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)

____________________________________

ابتدأ به النواهي من قوله (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بأن تعبد إلهين اثنين أو أكثر ، والخطاب عام ، وإن كان في الصورة موجها إلى النبي على طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة» (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ) تطرح فيها جزاء للشرك (مَلُوماً) تلومك نفسك ، والناس والملائكة (مَدْحُوراً) مطرودا عن رحمة الله وفضله ، من دحر بمعنى طرد.

[٤١] وإذ جرى الكلام حول الشرك المرتبط بالعقيدة نحو المبدأ ، جاء السياق ليعطف بعض خرافات الكفار إلى ذلك ، فقد زعموا أن الله أخذ زوجة جنية ، كما قال (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (١) فأولدت له بنات هي الملائكة ، أما البنون ، فقد جعلها سبحانه لهم فقط ، فلم يتخذ ابنا ، فقال في معرض الإنكار والرد عليهم ، (أَفَأَصْفاكُمْ) أي هل خصكم (رَبُّكُمْ) أيها المشركون القائلون ، بأن الملائكة بنات الله (بِالْبَنِينَ) فجعل لكم الأولاد الذكور (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) «من» ، إما لبيان الجنس ، أي اتخذ جنس الملائكة بناتا ، أو للتبعيض ، أي جعل بعض الملائكة إناثا (إِنَّكُمْ) أيها الكفار (لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) بجعلكم الأولاد لله ثم بتفضلكم عليه ، بجعل البنين لأنفسكم ، والبنات لله سبحانه.

__________________

(١) الصافات : ١٥٩.

وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢)

____________________________________

[٤٢] (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) الحق (فِي هذَا الْقُرْآنِ) فجئنا بأساليب شتى ، وطرق متنوعة ، لبيان التوحيد وقضية المبدأ ، والتصريف التحويل من حالة إلى حالة ، ومن صورة إلى صورة (لِيَذَّكَّرُوا) أي يتذكروا خالقهم ، ويعرفوا الحق (وَ) لكن عكسوا الأمر في (ما يَزِيدُهُمْ) بيان الحق ، والقرآن (إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الحق ، ونفرة من الواقع والحقيقة.

[٤٣] ثم عطف سبحانه إلى المشركين ، ليستدل عليهم ، بأنه لا يمكن تعدد الآلهة (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين (لَوْ كانَ مَعَهُ) أي مع الله (آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) والاستدلال عام ، حتى لن يقول بإلهين اثنين ، وإنما ذكر «الآلهة» حسب اعتقاد الكفار ، ليطالب الاحتجاج كلامهم (إِذاً) في حين التعدد (لَابْتَغَوْا) تلك الآلهة (إِلى ذِي الْعَرْشِ) صاحب العرش ، وهو الله سبحانه (سَبِيلاً) أي طلبوا طريقا يقربهم إلى مالك العرش ، أو طلبوا سبيلا إلى مغالبة مالك العرش والترفع عليه ، ليكونوا هم الآلهة العليا ، لا مالك العرش ، فإذا قيل : أي تلازم بين التعدد وبين تقرب تلك الآلهة إلى ذي العرش؟ وما الدليل على إنهم لا يبتغون ، حتى يبطل المقدم ـ وهو التعدد ـ «على المعنى الأول» وأي تلازم بين التعدد والتغالب بين تلك الآلهة ، وبين إله العرش؟ وما الدليل على أنهم لا يتغالبون؟ «على المعنى الثاني» قلنا : إن الآلهة الصغرى ، لا بد وأن تكون ناقصة ومدركة نقصها قابلة للاكتمال ـ ولو نوعا ما ـ فإدراكها يدفعها إلى التقرب ، لتكميل النقص ـ فالتلازم مبني

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ

____________________________________

على مقدمات أربع : نقصها وإدراكها وقابليتها للكمال ، وحفزها نحو الكمال ، وكلها مسلمة ، لأنها من لوازم الإله ، وأما الدليل على أنهم لا يبتغون ، لأنهم لو ابتغوا لعلمنا ذلك ، فيخبرنا الأنبياء الصادقون ، فعدم إخبارهم لذلك ، دليل على العدم «هذا كله على المعنى الأول» وأما التلازم ، ونهي التالي على المعنى الثاني ، فنقول لو كان هناك آلهة متعددة ، لكانت متساوية ، والتساوي نقص في الإله ، لأنه يوجب عدم استقلاله في الكون ، وهذا النقص لا ينعدم ، إلا بإعدام الإله الآخر ، وذلك مقتضى للخصومة بين الآلهة ، ولا يقال إن كل إله يعلم أنه لا يقوى على إعدام الآخر ، فلا يخاصمه؟ لأنا نقول : إن قدر هذا الإله على إعدام ذلك خاصمه ، وإن لم يقدر على إعدامه لم يكن إلها ، إذ الإله هو القادر على كل شيء ، وأما الدليل على عدم المخاصمة ، ما نرى من سير الكون باعتدال ، فلو وقعت الخصومة ، لاضطربت الأكوان تبعا للخصام والمشاجرة (١).

[٤٤] (سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها (وَتَعالى) أي ترفع ، بمعنى أنه أرفع وأسمى (عَمَّا يَقُولُونَ) أي يقول هؤلاء الكفار من التعدد ، واتخاذ الأولاد (عُلُوًّا كَبِيراً) فلا نسبة بينه وبين الشركاء والأولاد ، كما تقول ، إن الفقيه أعلى من الحمال علوا كثيرا ، فلا نسبة بينهما ـ في العلم ـ.

[٤٥] (تُسَبِّحُ لَهُ) أي تنزهه عن الصاحبة والولد والشريك ، وكل نقص (السَّماواتُ السَّبْعُ) فإنها أدلة على وجوده ونزاهته ، إذ غير المنزه عن

__________________

(١) إن الدليل مفصل مذكور في الفلسفة والكلام ، نكتفي منه بهذا القدر.

وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ

____________________________________

النقائص المتصف بالمحامد ، لا يمكن أن يكون إلها لها ، والمراد بالسماوات ، إما أجرام ، يعلمها الله سبحانه ، في الفضاء المهول ، وإما المدارات السبع السيارة ـ كما قالوا ـ (وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أي في السماوات والأرض ، وإنما جيء بضمير العاقل ، للتلازم بين التسبيح وبين العقل ، ولعل لهذه الأشياء إدراك لا نعرف كيف هو (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) «إن» نافية ، أي ما من شيء (إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ينزهه بالثناء الجميل ، فإذا أثنى الإنسان بالجميل على أحد ـ كأن قال فلان عالم ـ كان تنزيها عن الجهل ، وتحميدا بالعلم ، وقد مرّ أن التسبيح ، قد يكون بالحمد ، وقد يكون بغير الحمد ، فقد يقال فلان غير زان فهو تنزيه فقط وقد يقال فلان عفيف فهو تنزيه بالحمد ، (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ) أيها البشر (تَسْبِيحَهُمْ) إن كان المراد تسبيحهم تنزيهم لله سبحانه بلسان الحال ، من باب أن المصنوع المتقن ، يدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحياته وحكمته ، فعدم فقهنا لتسبيحهم بمعنى عدم إدراك ذلك بالحواس أصلا ، إذ ليس صوت فيسمع أو طعم فيذاق أو منظر فيرى ، وهكذا ، وإن كان المراد تنزيههم له بكيفية خاصة ، فعدم فقهنا لتسبيحهم لقصور مداركنا عن الدرك ، كما تقصر حواسنا عن إدراك الملائكة (إِنَّهُ) سبحانه (كانَ حَلِيماً) ومن حلمه أنه لا يعجل بالعقاب على من ينسب إليه هذه النسب (غَفُوراً) يغفر لمن تاب فلا يأس من رحمته سبحانه لمن تمادى في غيّه ، ثم أقلع وأناب.

[٤٦] إن الكفار قد عرفنا مقالاتهم التافهة السخيفة حول التوحيد والألوهية ، فلننظر إلى عملهم مع الرسول والقرآن ، (وَإِذا قَرَأْتَ

الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

____________________________________

الْقُرْآنَ) يا رسول الله (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم الذين لا يؤمنون بالإله ، وإنما يعبر عن ذلك ، بعدم الإيمان بالآخرة ، للتلازم بينهما ، وبيان أن المؤمن بالتوحيد ، لا بد وإن يؤمن بالآخرة (حِجاباً مَسْتُوراً) عن الأعين ، فإن ذلك الحجاب لا يراه الناس ، وإنما جعله سبحانه على الكفار ليرهبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يؤذوه ، فقد ورد أن الكفار كانوا يؤذون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالليل إذا تلى القرآن ، وصلى عند الكعبة ، وكانوا يرمونه بالحجارة ، ويمنعونه من دعاء الناس إلى الدين ، فحال الله سبحانه بينه وبينهم ، حتى لا يؤذوه (١) ، وقد يقال عن هذا الحجاب أنه طبيعي لكل إنسان يدعو إلى الحق في سلام ، فإن الحق ، إذا أثار أهل الباطل ، كان السّلام المحتف به يولد فيهم هيبة لا يتمكنون من الاقتراب إلى الداعي.

[٤٧] ومن المعلوم أن المبطل إذا ركب رأسه ، مصمما على الإعراض ، تولدت فيه ملكة تغلف قلبه عن الانصياع ، كما أن سمعه يخرج عن النطاق العادي للإسماع ، إذ لا يستعد لاستماع الحق ، والله سبحانه ، حيث يريهم أنهم أعرضوا عن الحق بادئ ذي بدء تركهم وشأنهم ، فلا يلطف بهم الألطاف الخفية التي يلطفها على المؤمنين الذين رأوا الحق فاتبعوه ، وبمناسبة بيان الحجاب الفاصل بين الرسول وبين الكفار ، يأتي الكلام حول سائر الأشياء الحائلة ، بينهم وبين الرسول عن أذاهم وحجاب يمنعهم عن الاستفادة من الحق (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٢٥٦.

أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى

____________________________________

أي أغطية وأغلفة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يفهموا القرآن ، أولئك يفقهوه (وَ) جعلنا (فِي آذانِهِمْ) جمع أذن (وَقْراً) وهو الثقل ، أي إنما تركناهم متى أصبحت قلوبهم كأنها في غطاء ، حيث الإنكار ملكة لهم ، وحتى أصبحت آذانهم كأن فيها الثقل ، وإنما نسب سبحانه الجعل إلى نفسه لأنه تركهم حتى وصلت حالتهم إلى ذلك (وَإِذا ذَكَرْتَ) يا رسول الله (رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) بأن قلت أنه إله واحد ، وقرأت القرآن الدال على التوحيد ، وبطلان التعدد والشرك (وَلَّوْا) أي أعرضوا هؤلاء الكفار (عَلى أَدْبارِهِمْ) إفادة لتأكيد الإعراض ، فإن الإنسان قد يعرض وهو جالس أو واقف ، وقد يعرض ويذهب مدبرا دلالة على زيادة الإنكار (نُفُوراً) مصدر تأكيدي ، لما دل عليه ، ولّوا أي نفروا نفورا.

[٤٨] إنهم قد يحضرون مجالسك للاستماع ، لكن لا للتفهم ، بل ليروا ذلك فيحيكون المؤامرة ضد القرآن ، وضد الرسول (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) أي بالنحو الذي يستمعون به ـ فما ، موصولة ـ فإن الاستماع على أنحاء قد يكون للتفهم ، وقد يكون للاستهزاء ، وقد يكون للرد ، إلى غير ذلك ، فإنا نعلم غرضهم في الاستماع ، وسنجازيهم عليه (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي زمان استماعهم لقراءتك (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أي والزمان الذي يناجي بعضهم بعضا ، ماذا يقولون عن القرآن ، وعن الرسول ، فيقول بعضهم إنه سحر ، وآخر إنه كهانة ،

إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)

____________________________________

وآخر إنه شعر ، إلى غير ذلك وقوله «هم نجوى» من باب «زيد عدل» مبالغة ، أو التقدير «ذوو نجوى» (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون ، والمراد بالخطاب المؤمنون ، وإلا فهم ما كانوا تابعين (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي قد سحروه ، فاختلط عقله ، فإنه كثيرا ما يختلط عقل المسحور.

[٤٩] (انْظُرْ) يا رسول الله ، إلى هؤلاء المعاندين (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) فقالوا شاعر ، وكاهن ، ومجنون ، وساحر ، ومسحور ، وغير ذلك (فَضَلُّوا) ضلالا شديدا ، فإن الإنسان إذا ضل ابتداء ، فلم يتماد فيه رجع عن غيّه ، أما إذا تمادى وجعل يجمع اللقطات حول ضلاله يستحكم ضلاله ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لتكذيبك ، والوقيعة فيك (سَبِيلاً) صحيحا ، أو لا يستطيعون طريقا للرجوع ، لأنهم ، قد تمادوا ، فصارت الضلالة ملكة لهم ، والإنسان إذا صار كذلك صعب رجوعه ، فالمراد بعدم الاستطاعة العرفي لا الحقيقي.

[٥٠] وإذ رأينا مقالاتهم السخيفة حول المبدأ ، وحول الرسول والقرآن ، فلنسمع كلامهم حول المعاد (وَقالُوا) أي قال هؤلاء الكفار (أَإِذا كُنَّا عِظاماً) استفهام إنكاري استهزائي يعني متنا ، وذهب لحومنا ، وبقي من أجسامنا العظام المجردة ، (وَرُفاتاً) هو ما يتكسر ، ويبلى من العظام وغيرها ، واللفظ مفرد ، من رفت ، بمعنى بلى وتحطم (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) نحيى للحساب (خَلْقاً جَدِيداً) بعد الفناء والبلى؟

قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)

____________________________________

هذا لا يكون أبدا.

[٥١] (قُلْ) يا رسول الله لهم مستهزئا بهم ـ كما يستهزئون هم ـ (كُونُوا حِجارَةً) بعد الموت (أَوْ حَدِيداً) مما هو أبعد في نظركم ، من الرفاة من جهة قبول الحياة.

[٥٢] (أَوْ خَلْقاً) آخر غيرهما وغير الرفاة ، كأن ليصبحوا خزفا أو مدرا (مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) من حيث بعده عن الحياة ، تصوروا ما شئتم ، فإنكم ستبعثون ، والله القادر على الابتداء ، قادر على الإعادة (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) (فَسَيَقُولُونَ) إذا صرنا كذلك ف ـ (مَنْ يُعِيدُنا) إلى الحياة ، بعد أن صرنا حجرا ، أو حديدا ، أو ما أشبه؟ (قُلِ) يا رسول الله لهم (الَّذِي فَطَرَكُمْ) وخلقكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهو الله سبحانه ، بل الخلق أول مرة أبعد في نظر الإنسان من الإعادة ، وإن كان الأمران عند الله سيّان (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي يحركون نحوك رؤوسهم تحريك استهزاء وتعجب وتكذيب ، يقال أنغض رأسه إذا حركه بارتفاع وانخفاض (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) أي في أي وقت يكون البعث؟ (قُلِ) يا رسول الله في جوابهم (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) لعله قريب ، فإن كل آت قريب ، وقد كتب الإمام

__________________

(١) يس : ٨٠.

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ

____________________________________

الحسين عليه‌السلام إلى محمد بن علي «بسم الله الرحمن الرحيم ، كأن الدنيا لم تكن ، وكأن الآخرة لم تزل ، والسّلام» (١).

[٥٣] إن البعث إنما يكون (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) الله من قبوركم (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي يكون جوابا مقارنا لحمده خوفا منه ، فإن الإنسان الخائف يمدح المخوف منه ، ليستعطفه ويستجلب رضاه (وَتَظُنُّونَ) في ذلك اليوم (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي ما لبثتم وبقيتم في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) فقد استقلوا مدة بقائهم في الدنيا ، حتى أنه حين يقال لهم : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (٢) ، وفي آية أخرى (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ..) (٣) ونحن نرى ماضي أعمارنا ، كأنه لم يكن إلا مدة يسيرة.

[٥٤] وإذا رأينا عاقبة المكذبين القائلين سيئا ، فليتوجه المؤمنون إلى مقالهم ، فلا يكون إلا حسنا ، سواء كان مرتبطا بالاعتقاد ، أو بغيره (وَقُلْ) يا رسول الله (لِعِبادِي) الذين يسمعون منك (يَقُولُوا) جزم الفعل ، لأنه في جواب الأمر ، المقالة والكلمة (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من سائر المقالات والكلمات ، وهي في الاعتقادات كلمة الشهادتين ، وفي الاجتماعيات كلمة الإصلاح ، وهكذا ، فإن الكلمة توجب الفتن والاضطراب (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد ويغري بعضهم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٥ ص ٨٧.

(٢) المؤمنون : ١١٣ و ١١٤.

(٣) يونس : ٤٦.

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

ببعض ، إذا صدرت منهم الكلمة السيئة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ) في جميع الأوقات (لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) أي ظاهر العداوة ، وأيّة عداوة أكثر من إفساد الدنيا والآخرة.

[٥٥] ولا بد بعد هذه التوصية ، وغيرها ، أن تخرج من الإنسان الكلمة السيئة ، فليكن الإنسان عند ذلك بين الخوف والرجاء ، ولا يكن يزك نفسه ، فالله أعلم به من غيره ، وحتى من نفسه ، إذ كثيرا ما لا يعلم الإنسان مقدار الجرم الذي اقترفه ، بينما الله عالم بذلك ، (رَبُّكُمْ) أيها البشر (أَعْلَمُ بِكُمْ) وبما أجرمتم من الآثام (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) وليست إرادته اعتباطية ، بل تابعة لموازين عادلة (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بما عملتم من المعاصي ، وقلتم من الكلمات السيئة (وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) على البشر (وَكِيلاً) حتى تكون أنت المسؤول عن جرائمهم ، بل أنت داع وهاد ، فعليك أن تقول كما أمرنا «قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» وعليهم العمل ، فإن لم يعملوا ، كان حسابهم على ربهم ، إن شاء رحم وعفى ، وإن شاء عذب وأهان.

[٥٦] إن علم الله ليس خاصا بهؤلاء (وَرَبُّكَ) يا رسول الله (أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل تحت علمه الشامل ملائكة كانوا ، أم بشرا أم جنا ، وبمقتضى علمه الشامل بالبواطن ، فضل بعض النبيين على بعض ، ومنه يعرف وجه تفضيل النبيين على سائر الناس ، وإنما جيء بهذا الأمر هنا ، لأن سوق الآيات حول العقيدة مبدءها ورسالتها

وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ

____________________________________

ومعادها (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) حيث إن نفسياتهم كانت مختلفة ، بعضها أرقى من بعض (وَآتَيْنا داوُدَ) النبي عليه‌السلام (زَبُوراً) كما أتيناك القرآن ، فلا مجال للكفار ، أن يقولوا : إن الأنبياء عليهم‌السلام جاءوا بخوارق كونية ، فما معنى مجيئك ، بهذا الكتاب؟ وهلا كان كعصى موسى أو إبراء الأكمه والأبرص كعيسى؟

[٥٧] ولقد كان المشركون يعبدون من دون الله المسيح وعزير والملائكة ، فيأتي السياق للاحتجاج عليهم ، حيث أن الجو العام حول العقيدة (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين الذين يعبدون هؤلاء (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) بأنهم آلهة (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله ، ادعوهم ليكشفوا ضركم ، وما يصيبكم من البلاء والمحنة (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) بأن يرفعوا البلاء رأسا (وَلا تَحْوِيلاً) بأن يحولوه من مكان إلى مكان ، إنهم إنما يفعلون ما يفعلون بإذن الله وأمره وإرادته ، أما أن يستقلوا بلا دخل الله سبحانه إطلاقا ، فإنه لا يكون.

[٥٨] (أُولئِكَ) الآلهة (الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي يدعونهم هؤلاء المشركون آلهة (يَبْتَغُونَ) ويطلبون (إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) يتوسلون إليه سبحانه للتقرب منه ، (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) الأقرب من هؤلاء الآلهة ـ كعيسى ـ عليه‌السلام يطلب القرب إلى الله فكيف يكون إلها من حاله كذلك؟ (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ

وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ

____________________________________

وَيَخافُونَ عَذابَهُ) إن الأقرب من آلهتهم يطلب القرب إلى الله بالطاعة ، وهو خائف منه ، راج لطفه ، فهل يمكن أن يكون إلها في عرض إله السماء ، كما يزعم المشركون؟ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ) يا رسول الله (كانَ مَحْذُوراً) أي يحذر منه ويتقى ، حتى أن أكبر آلهة هؤلاء يخافه ، فكيف لا يخافون هؤلاء ، ويتمادون في الشرك والضلالة والعصيان؟

[٥٩] فليخف هؤلاء الكفار عذاب الله سبحانه ، وليحذروا أن يحل بهم العذاب المقرر لبعض القرى حين يتمادون في الغي (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي ما من بلدة ، والقرية هي البلدة (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) بالإماتة ، فإن يوم القيامة لا يأتي إلا بعد موت الجميع (أَوْ مُعَذِّبُوها) أي معذبوا أهلها ، بعلاقة الحال والمحل ـ كما سبق ـ (عَذاباً شَدِيداً) فلا يتمادى هؤلاء في غيهم ، فإن مصيرهم الموت والعذاب هناك ، إن لم يعذبوا هنا (كانَ ذلِكَ) الإهلاك إماتة ، والعذاب (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي قد سطر وكتب ، فلا مفر لأحد ، ولا منجى لبشر.

[٦٠] وليترك هؤلاء الكفار غيهم وطلباتهم السخيفة التي طلبوها ، بأن تأتي يا رسول الله بالخوارق ، فقد كفاهم القرآن حجة وبرهانا (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ) الرسل (بِالْآياتِ) الخارقة التي يطلبها الناس (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ

بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ

____________________________________

بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي الأمم السابقة ، فقد كانت الخوارق المقترحة تصاحب الرسالات ، لتصديق الكفار ، ولتخويفهم من عاقبة التكذيب ، لكن حين لم تكن الخارقة تنفع ، فإن المنصف يؤمن بدونها ، والجاحد لا يؤمن حتى بها ـ كما حدث في قصة صالح ، حيث طلبوا الناقة ، ثم لم يؤمنوا ـ جاءت الرسالة الأخيرة ، بدون تلبية لمثل هذا الطلب ، وهنا سؤال : إن الخارقة لو كانت تنفع ، فلما ذا تجردت منها الرسالة الأخيرة؟ وإن كانت لا تنفع ، فلما ذا صاحبتها الرسالات السابقة؟ والجواب إنها لا تنفع ، ولكن جيء بها حتى تكون حجة لتلك الأمة ولسائر الأمم بأن الخارقة لا تفيد في إيمان المعاند ، وقد رأيتم ذلك وجربتموه ، وإن كان الله سبحانه يعلم ذلك من الأزل (وَآتَيْنا ثَمُودَ) أي قبيلة ثمود ، قوم صالح النبي عليه‌السلام (النَّاقَةَ) العجيبة ، آية (مُبْصِرَةً) لهم ، تبصرهم صدق صالح ، وأنه نبي من عند الله (فَظَلَمُوا) أنفسهم بسببها إذ كفروا ، فأخذهم العذاب (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) التي نرسلها مع الرسل (إِلَّا تَخْوِيفاً) وإذ لم ينفع هذا النوع من التخويف ـ كما جربتم ـ فلا علينا إلا أن نتم الحجة ، أما إعطاء الخوارق الأنبياء ، فلا يلزم في الحكمة.

[٦١] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) فهو يعلم ضمائرهم ونفسياتهم ، كالمحيط الذي يشتمل على المحاط ، فلا يخرج منه شيء ، إن الله سبحانه محيط بالناس مطلع على جميع

____________________________________

خصوصياتهم ، أي فهل تحتاج إلى أكثر من قصة ناقة صالح ، شاهدا لما ذكرناه ، من أن الناس لا يؤمنون بالخارق؟ وهذا كما إذا قلت لزيد : إن عمروا رجل بخيل ، ثم ذكرت له شاهدا على بخله ، بأنه نهر الفقير الفلاني ، تقول : وإذ قلت لك أن عمروا بخيل. وهنا يأتي سؤال أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لو كان لا يأتي بالخارق ، فكيف أخبر بأنه يدخل مكة ، كما قال سبحانه (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) (١) أليس الإخبار بما يأتي خارقا؟ وكيف أخبر بأنه رأى عند المعراج شجرة الزقوم في الجحيم ، أليس الإخبار عن الغيب خارقا؟ والجواب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخبر بذينيك الأمرين ، دليلا على نبوته «كما جاء صالح بالناقة دليلا على نبوته» وإنما أخبر بذلك فتنة وامتحانا للناس ، ليظهر المؤمن إيمانا راسخا من غيره ، كما ظهر شك البعض في قصة الحديبية ، وكما يكون الإخبار عن الزقوم في النار ، محلا لشك بعض ضعفاء الإيمان ، كيف تنبت في النار الشجرة؟ وهنا أمور ، الأول ، أن ما ذكرنا من كون «الرؤيا» قصة دخول مكة ، لا ينافي عدم كون هذه السورة مدنية ، لأنه ذكر جمع من المفسرين ، أن جملة من آيات هذه السورة مدنية ، الثاني إنا لا نعلم مراده تعالى من هذه الآية الكريمة ، وإنما ذكرنا ذلك التفسير اتباعا لجماعة من المفسرين ، وحيث رأيناه أقرب إلى ارتباط الآية ، بما قبلها ، وارتباط بعض أجزائها ببعض ، أما مراده سبحانه ، فهو خاف علينا ، ولم يرد شيء مفصل من المعصوم ، نقطع ، بأنه عليه‌السلام فسّر الآية تفسيرا ، لا تأويلا ، ومن باب المصداق ، وما أشبه ، حتى نتبعه ، الثالث ، ورد في جملة من

__________________

(١) الفتح : ٢٨.

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ

____________________________________

الروايات ، أن المراد بالرؤية ، ما أري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه ، من أن نبي أميّة ينزون على منبره كنزو القرد ، وأنهم المراد بالشجرة الملعونة ، فقد روي أن الإمام سئل عن هذه الآية ، فقال : إن رسول الله نام ، فرأى أن بني أميّة يصعدون منبره ، يصدون الناس ، كلما صعد منهم رجل ، رأى رسول الله الذلة والمسكنة «أي لأمته» فاستيقظ جزوعا من ذلك ، فكان الذين رآهم اثني عشر من بني أمية ، فأتاه جبرئيل بهذه الآية (١) ، إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة ، والذي احتمل أن هذا من باب التأويل ، وذكر المصداق للآيات في كل زمان ، كما ذكرنا مكررا ، وإن كان من المحتمل أن «الرؤيا» يراد بها هذه ، فيكون الارتباط في أجزاء الآية ، إن إخبارك يا رسول الله بهذه الرؤيا ، وأنه سيكون ذلك مستقبلا ليس من الخوارق التي ذكرنا في شأنها «وما منعنا» وإنما هي للفتنة والاختبار ، وسنجري في تفسير الآية ، على ما ذكرنا أولا ـ والله العالم ـ (وَما جَعَلْنَا) يا رسول الله (الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) حيث رأيت أنك تدخل المسجد الحرام آمنا ، وأخبرت بذلك قومك ، عن الغيب (إِلَّا فِتْنَةً) واختبارا (لِلنَّاسِ) ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره ، ولم تكن خارقة تزيد إثبات نبوتك بها ـ من قبيل ناقة صالح ـ (وَ) ما جعلنا (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) التي رأيتها في معراجك في الجحيم ، وهي شجرة الزقوم ، ومعنى كونها ملعونة أنها مبعدة عن الخير ، لا تأتي بخير ، وإنما تأتي بشرّ ، وعذاب للكفار ، إلا فتنة للناس ليتميز المصدّق بها من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٣ ص ٢٠٩.

فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا (٦٠) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (٦١) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ

____________________________________

المكذّب ، فقوله «والشجرة» عطف على «الرؤيا» وقوله (فِي الْقُرْآنِ) بمعنى أنها ذكرت في القرآن ، فالظرف متعلق ب «الشجرة» (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي نخوف هؤلاء الكفار ، بما نأتي لهم من الأدلة على هلاك المكذبين ، وسوء مصير الكافرين (فَما يَزِيدُهُمْ) التخويف (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) فإن المعاند ، كلما رأى قوة حجة الطرف ، زاد عنادا وإصرارا ، ليقاوم بعناده وإصراره الحجة أكثر فأكثر.

[٦٢] (وَ) اذكر يا رسول الله لهؤلاء ـ لعلهم يعتبرون ، ويعرفون أن الشيطان قد خدعهم ، حسب سابق وعده بإهلاك الناس ـ (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وقد كانت السجدة لله سبحانه ، والتعظيم لآدم ، حيث جعل قبلة ، كما أن سجدتنا لله ، وفيها تعظيم الكعبة ، حيث أنها إليها (فَسَجَدُوا) جميعا (إِلَّا إِبْلِيسَ) لم يسجد كبرا وحسدا (قالَ) مبرّرا لفعله ذلك (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ) يا رب في حال كونه (طِيناً)؟ وأنا أشرف منه ، فكيف يسجد الأشرف للأدنى؟.

[٦٣] وحين رأى الشيطان ، أنه طرد عن ساحة القرب ، على كبره ، في عدم سجوده لآدم (قالَ) لله سبحانه (أَرَأَيْتَكَ) أي أخبرني (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) استفهام استنكاري ، هذا آدم هو الذي كرمته عليّ ، وفضلته وشرفته على مثلي؟ ثم قال (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) ولم تمتني ، يا رب

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ

____________________________________

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) حسب ما وعده سبحانه (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١) (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) الاحتناك الاقتطاع من الأصل ، أي لأقطعنهم عن الطريق ، إلى سبيل الغواية (إِلَّا قَلِيلاً) منهم من حفظته يا رب عن الكفر والمعاصي ، كما قال سبحانه (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٢).

[٦٤] (قالَ) الله سبحانه في جواب إبليس ، وتهديده بإغواء ذرية آدم (اذْهَبْ) يا إبليس (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من ذرية آدم ، بأن كفر أو عصى (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) أنت على كبرك واغوائك ، وهم على غوايتهم وضلالتهم (جَزاءً مَوْفُوراً) كاملا غير ناقص ، من الوفر بمعنى الكمال.

[٦٥] (وَاسْتَفْزِزْ) يا إبليس من استفز ، بمعنى استنهض ، كأن الشيطان يطلب نهوضهم للكفر والمعصية (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) أي من ذرية آدم ، والمراد بالأمر التهديد (بِصَوْتِكَ) تشبيه له بالداعي الذي يصيح بالناس حتى يتبعوه (وَأَجْلِبْ) يا إبليس ، يقال أجلب الرجل على صاحبه ، إذا توعده بالشر ، وجمع عليه الجيش ، لأنه جلب وأحضر على ضرر صاحبه (عَلَيْهِمْ) على ذرية آدم (بِخَيْلِكَ) بفرسانك

__________________

(١) الحجر : ٣٨ و ٣٩.

(٢) الحجر : ٤٣.

وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (٦٤) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَّبُّكُمُ الَّذِي

____________________________________

الراكبين (وَرَجِلِكَ) أي راجليك ، وهو كناية عن إعمال جميع قواه ، كما أن من يريد هزيمة عدوه يجمع له كل فارس وراجل له (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بأن تعطيهم بعض الحرام ، وتأخذ منهم في سبيل الحرام (وَالْأَوْلادِ) بأن تأتي إليهم بأولاد الحرام ، وتجعلهم يضعون أولادهم في المحرمات ، ويضلونهم ، كأن المال والولد الحلال ، ما هو من الله وإلى الله ، أما الحرام منهما ، فما هو من الشيطان وإلى الشيطان ـ بجميع صور ذلك ـ (وَعِدْهُمْ) أي منّهم بالأماني الكاذبة المسببة لضلالهم وعصيانهم ، ثم ذكر سبحانه ملتفتا إلى المخاطبين ، الذين سيقت هذه الآيات لإرشادهم ، وأنهم إنما يتبعون الشيطان (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) فإنه يزين لهم الخطأ كأنه صواب ، والباطل كأنه حق ، فيغرهم بذلك ويغشهم.

[٦٦] ثم ذكر سبحانه أن الشيطان لا يقدر على كل ذرية آدم عليه‌السلام (إِنَّ عِبادِي) الذين أطاعوني (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) سلطة وقدرة ، لأنهم الأصفياء الذين لا يرضخون لإغوائك ، ولا يتبعون خطواتك (وَكَفى بِرَبِّكَ) يا رسول الله على العباد (وَكِيلاً) حافظ للعباد الصالحين من مكائد إبليس.

[٦٧] ثم عطف السياق نحو الآيات الكونية الدالة على وجوده ، محذرا إياهم عقابه ، بعد ما أراهم أنهم وقعوا في حبائل الشيطان ، فمن الجدير بهم أن يخلصوا أنفسهم (رَبُّكُمُ) أيها البشر هو (الَّذِي

يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٦٦) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ

____________________________________

يُزْجِي) الإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال (لَكُمُ الْفُلْكَ) أي يسوقها ويجريها باستمرار على الماء (فِي الْبَحْرِ) فمن يفعل ذلك بكم غيره سبحانه؟ (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا من فضله سبحانه الأموال بالتجارة ، ونحوها (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) فقد تفضّل عليكم بهذه النعمة ، فجعل الماء بحيث يجري ، والسفينة بحيث لا تغرق.

[٦٨] (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) أي المصيبة والشدة (فِي الْبَحْرِ) حيث انقطعتم عن العلاج ، فإن في البحر يكون الإنسان مضطرا إذا أصابه مكروه ، لأنه لا يجد عونا ومهربا ، وخصوصا إذا سكنت الرياح أو اضطربت الأمواج (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي ذهب عنكم ذكر كل معبود إلا الله سبحانه ، فلا ترجون هناك النجاة إلا من عنده (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من البحر (إِلَى الْبَرِّ) فأمنتم الأخطار (أَعْرَضْتُمْ) عن الإيمان به وعن طاعته (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) كثير الكفر ، فإن له في كل لحظة كفرا جديدا ، أو المراد كثير الكفران ، إذ كل نعمة تحتاج شكرا.

[٦٩] (أَفَأَمِنْتُمْ) أيها البشر ـ بعد ما أنجاكم إلى البر ـ (أَنْ يَخْسِفَ) الله (بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) بأن تهلكون بالبر ، حيث تخسف الأرض بكم ، فإنكم لم تخرجوا من سلطان الله سواء كنتم في بحر أو بر ، وإنه قادر أن يهلككم ، أينما كنتم ، فكيف تعرضون ، إذا وصلتم إلى البر؟ وإنما

أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ

____________________________________

قال «جانب البر» لأن المراد طرفه الذي يسكنون فيه ، أو المراد ساحل البحر ، بمجرد خروجهم ، فإن الساحل جانب البر ، وقد أريد أنهم في وقت يظنون أنهم خلصوا من الهلاك ، ويرتاحون غاية الارتياح ، معرضون للأخطار (أَوْ يُرْسِلَ) الله (عَلَيْكُمْ) من السماء (حاصِباً) أي حجارة تحصبون بها ، والحصب بمعنى الرمي ، فهل أمنتم ذلك؟ (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) أي حافظا يحفظكم من بأس الله سبحانه.

[٧٠] (أَمْ أَمِنْتُمْ) أيها البشر الذين نجوتم من الغرق والهلاك في البحر (أَنْ يُعِيدَكُمْ) الله (فِيهِ) أي في البحر (تارَةً أُخْرى) مرة ثانية ، بأن يلقي في ذهنكم السفر ، فتركبون البحر (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) القصف الكسر بشدة أي إذا ركبتم السفينة مرة ثانية ، يرسل الله عليكم ريحا شديدة ، كاسرة تكسر السفينة (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أي بسبب كفركم الحاصل منكم حين وصلتم إلى البر ، كما قال (أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ) أي بذلك الغرق (تَبِيعاً) أي تابعا يتبع أو أهلا لكم للمطالبة بدمائكم؟

[٧١] وكيف يكفر البشر بالإله الذي كرّمه وفضله؟ (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) تكريما ذاتيا بالعقل ، وحسن الخلقة ، وتهيئة أسباب الراحة له ، وتسخير كل شيء لأجل منافعه ، إلى غير ذلك من أنواع التكريم (وَحَمَلْناهُمْ)

فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (٧٠)

____________________________________

أي هيأنا لهم وسائل الركوب (فِي الْبَرِّ) بالخيل والبغال والحمير ، ومنه هذه الآلات الحديثة ، فإنها تحمل الإنسان بفضل الله سبحانه ، وإلا فمن خلق الحديد ، ومن جعل للنار قوة السير ، ومن هيّأ وسائل الآلة؟ (وَالْبَحْرِ) بالسفن (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أكلا وشربا ولبسا ، ونكاحا ، وغيرها ، فإن كل ذلك رزق خصهم الله سبحانه به ، وإن اشتركت بعض الحيوانات في بعضها ، ولكن ليس بهذا العموم ، والشمول ، والكيفية المرفهة (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) إما المراد أنهم مفضلون على الكثير دون الكل ، بأن يكون الملائكة أفضل من الإنسان جنسا ، وإما المراد أن التفضيل على كثير ـ فليس المراد المفهوم ، بل المراد الخلق الكثير الذي ملأ ما بين السماء والأرض ، أن الناس مفضل عليه ، ف «من» بيانية ، لا تبعيضية ـ ولعل هذا هو الأقرب ، إلى ما دل على أن الإنسان أفضل ما خلقه الله سبحانه ، وإن كان الأول أقرب إلى اللفظ ، ولا يخفى أن تفضيل الطبيعة ، بما هي طبيعة وتكريمها ، لا ينافي وجود السيئ ، كما لا ينافي وجود بعض المفضلين في سائر الأجناس ، فإذا قلت الرجل خير من المرأة ، تريد أن هذا الجنس أفضل ، وإن كان في جنس الرجال قابيل ، الذي هو أسوأ من كل امرأة ، وفي جنس النساء فاطمة الزهراء عليه‌السلام المفضلة على من دون الرسول والوصي من الرجال.

[٧٢] ومن تفضيل الله سبحانه البشر على سائر الخلق ، أن جعل لهم أئمة يهدونهم الطريق ، ويكونون واسطة بينهم وبين الله سبحانه ، في أخذ

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)

____________________________________

الأحكام وإعطائها الأنام ، وقد اتبع بعضهم هذا المنهاج ، فاهتدوا ، وتخلف بعضهم ، فاتبع أئمة ضلالة ، فضلوا وغووا ، فليتذكر الإنسان (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ) كل جماعة وفئة من الناس (بِإِمامِهِمْ) الذي ائتموا به ، نبيا كان أو وصيا ، أو شقيا ، وهناك تظهر الفئات المختلفة ، كل فئة لها إمام خاص ، ولون خاص ولواء خاص (فَمَنْ أُوتِيَ) أي أعطى (كِتابَهُ) المدروج فيه أعماله (بِيَمِينِهِ) دل ذلك على أنه من أهل السعادة والخير (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) فرحين مسرورين ليزدادوا سرورا وفرحا بما يرون فيه من الطاعات والعبادات ، والأعمال الحسنة المرضية (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي مقدار الفتيل ، وهو الخيط الرفيع في شق النوات ، كأنه مفتول.

[٧٣] ومن أوتي كتابه بيساره ، أو من وراء ظهره فهو محزون ، ويحشر هناك أعمى ، فلا يتمكن من قراءة كتابه (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) الدنيا (أَعْمى) عن طريق الهدى والرشاد (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) لا يبصر شيئا في ذلك المزدحم الهائل ، والموقف الرهيب (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) إذ الضلال في الدنيا لا يظهر على الإنسان ، بما يميزه عن بقية الأفراد المهتدين ، أما هناك فإنه يظهر في عمى العين ، واسوداد الوجه ، وسائر العلائم ، ويقول (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ

وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ

____________________________________

آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (١) ، وكأنهم في بعض المواقف عميان ، وفي بعض المواقف مبصرون.

[٧٤] ثم يأتي السياق ليبين موقف القوم من الرسول والقرآن ، وتهديدهم بمصير آل فرعون ، حيث عارضوا موسى ، فأهلكهم الله سبحانه (وَإِنْ كادُوا) «إن» مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، أي أن المشركين الذين تقدم ذكرهم ، هم قاربوا (لَيَفْتِنُونَكَ) أي يزلونك ويصرفونك يا رسول الله (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي عن القرآن الذي أوحيناه إليك ، والأحكام التي ألقيناها إليك ، فقد حاولوا هذه المحاولة ، في صور متعددة ، تطميعا وتخويفا واستهزاء ، بحيث أنه لو لا الرسول المعصوم ، لزل وانصرف ، فإنهم «كادوا» و «قاربوا» لكن الرسول كان أصلد من الجبل ، فقد أرادوا زحزحته (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا وافقهم في أهوائهم ، كان مفتريا على الله بغير القرآن ، فإن القرآن على منهاج ، وهم على منهاج آخر (وَإِذاً) أي افتروك وافتريت (لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي جعلوك صديقهم ، وأظهروا خلتك.

[٧٥] (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أي حفظناك بالعصمة التي جعلناها فيك ، والعصمة حالة في الإنسان ، تبعث على أن يرى المعصية قبيحة للغاية ، والطاعة جميلة للغاية ، حتى أنه لا يترك الطاعة ، ولا يفعل المعصية (لَقَدْ كِدْتَ

__________________

(١) طه : ١٢٦ و ١٢٧.

تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥)

____________________________________

تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) أي لقد قاربت أن تميل إلى الكفار (شَيْئاً قَلِيلاً) ركونا قليلا ، واعتمادا يسيرا ، فتعطيهم بعض ما سألوك ، ولا تقوم بمهمة التبليغ كما ينبغي ، وهذا حقيقة واضحة ، فإن الإنسان مهما يكن صلبا ، لا يتمكن أن يقاطع الجميع في جميع الخطوط ، ولا أقل أن يلاحظ بعض المصالح ، أما المعصوم ، فلا يتطرق إليه ذلك أبدا ، فإن الانحراف اليسير ، أول الطريق ينتهي إلى أعظم الانحراف في آخره ، وهيهات أن يساوم الرسول الأشراف والكفار ، على دين أو عقيدة أو سلوك مهما كان طفيفا.

[٧٦] (إِذاً) لو فعلت ذلك الركون (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ) عذاب (الْحَياةِ) الذي نعذب به المشرك في الدنيا ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) وإنما يضاعف له العذاب ، لأن القائد يتحمل عقاب نفسه ، وعقاب أتباعه ـ لو انحرف ـ بخلاف الإنسان العادي ، الذي لا يتحمل إلّا عقاب نفسه (وَضِعْفَ) عذاب (الْمَماتِ) في الآخرة (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) أي لا ينصرك أحد على ضررنا ، بأن ينقذك من عذابنا ، ومن المعلوم ، أن المقصود بأمثال هذه الآية الكريمة تنبيه الأمة ، وإلقاء اليأس في قلوب المشركين عن أن يتبعهم الرسول ، وقد قال هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في جواب الكفار ، الذين طلبوا منه أن يترك أمره : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر

__________________

(١) طه : ١٢٥.

وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)

____________________________________

في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ، لما فعلت» (١).

[٧٧] (وَإِنْ كادُوا) إن مخففة من الثقيلة ، أي إنهم كادوا ـ بمعنى قربوا ، أو مكروا ـ (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أي يزعجونك ، ويشردونك (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مكة حتى (لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) ليصفو لهم الجو (وَإِذاً) لو أخرجوك (لا يَلْبَثُونَ) أي لا يبقون (خِلافَكَ) من بعد إخراجك (إِلَّا قَلِيلاً) مدة يسيرة ، فقد جرت سنة الله سبحانه ، أن يهلك الكفار إذا شردوا رسلهم ، وأخرجوهم من بلادهم.

[٧٨] (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) فقد جرت سنتنا وطريقتنا في باب الرسل السابقين ، أن الكفار ، لو أخرجوهم من بلادهم ، عذبنا الأمة بعد قليل ، حتى لا يلبثون بعدهم إلا قليلا من الزمان ، و «سنة» منصوبة بفعل مقدر ، أي سننّا ذلك سنّة ، (وَلا تَجِدُ) يا رسول الله (لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي تبديلا ، فإنها جارية مستمرة ، فلا يتمكن أحد أن يقلب السنة عن وجهها ، أما هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن الكفار هموا بقتله ، وإنه هو الذي فرّ من بين أيديهم ، بالإضافة إلى أنهم لم يلبثوا خلافه إلا قليلا ، حيث قتلوا يوم بدر ، بعد سنة من الهجرة تقريبا ، وهكذا توالت عليهم النكبات ، وقد ورد في شأن نزول هذه الآية ، قولان ، الأول ، أنه في شأن أهل مكة ، حيث هموا بإخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٤ ص ٥٤.

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ

____________________________________

من مكة ، والثاني ، أنها نزلت في اليهود بالمدينة ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قدم المدينة ، أتاه جماعة من اليهود ، فقالوا : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء الشام ، فأت الشام (١) كما أنه ورد في باب نزول قوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أقوال نختار منها ، أنها نزلت في «وفد ثقيف» جاءوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال لا ننحني بفنون الصلاة ، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وتمتعنا باللات سنة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود فأما كسر أصنامكم بأيديكم ، فذاك لكم «ثم أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كسرها» وأما الطاعة للات ، فإني غير ممتعكم بها (٢).

[٧٩] (أَقِمِ) يا رسول الله (الصَّلاةَ) فإنها توجب تثبيت العقيدة ، ودوام الصلة بالله سبحانه ، ولعل الإتيان بها هنا ، لما تقدم من قوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) بالإضافة إلى أن الجو العام ، هو جو العقيدة التي لا تترسخ ، ولا تكون ثابتة ذات تأثير إلا بالصلاة ، وما أشبهها من الذكر الدائم ، فإن الروح كالجسد يحتاج إلى التغذية المستمرة للنماء والبقاء (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) من دلك ، بمعنى إمرار الشيء على شيء بشدة ، ومنه يقال للحلاق «دلّاك» والمراد بدلوك وقت الظهر ، فإن الشمس تدلك نصف النهار ، سواء اعتبرنا الدائرة الوهمية المنصفة للأفق ، إلى قسمي الشرق والغرب ، أم لا (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي شدة ظلام الليل ، وذلك منتصف الليل ، وهذه إشارة إلى أربع صلوات : الظهرين والمغربين ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٢٧٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٦ ص ٢٧٧.

وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)

____________________________________

فإن وقت الأولين من الزوال إلى الغروب ، ووقت الأخيرين من الغروب إلى نصف الليل (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي ائت بما يقرأ وقت الفجر ـ وهو الصبح ـ والمراد به صلاة الصبح ، فقد أشارت الآية إلى الصلوات الخمس اليومية (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاته التي تقرأ ، ويؤتى بها (كانَ مَشْهُوداً) تشهدها ملائكة الليل قبل رجوعهم إلى السماء ، وملائكة النهار أول ما ينزلون ، فقد وردت أحاديث بذلك.

[٨٠] (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي بعض الليل (فَتَهَجَّدْ) الهجود النوم ، وتهجد بمعنى تحرج النوم نحو «تأثم» بمعنى تحرج الإثم واجتنبه (بِهِ) أي الليل (نافِلَةً) صلاة ليست بفريضة ، وإنما هي زائدة على الفرائض ، وهي صلاة الليل الإحدى عشرة ركعة (لَكَ) فإنها لنفعك ، وليست كسائر الصلوات اليومية فريضة ملقاة على عاتق الإنسان (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) أي لعل الإتيان بهذه الصلاة ، أو بهذه الصلوات كلها توجب أن يعطيك الله سبحانه (مَقاماً مَحْمُوداً) يحمده الناس والملائكة لرفعته وسموه ، إن الآية الكريمة ، ولو كانت خطابا للرسول ـ بحسب الظاهر ـ إلا أنها عامة لكل أحد ، فما دل على أن نافلة الليل ، كانت واجبة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة ، أو ما أشبه ، فإنما ذلك بدليل خارجي ، وهو من باب المصداق ـ كما ذكرنا مكررا ـ وكان ذكر نافلة الليل دون سائر النوافل لأهميتها الأكيدة في الشريعة.

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)

____________________________________

[٨١] (وَقُلْ) يا رسول الله يا (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي إدخال صدق (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي إخراج صدق ، فإنهما مصدران بصيغة المفعول ، وهذا دعاء لكون دخول الأمور وخروجها يتسم بالصدق والاستقامة ، لا الكذب والانحراف ، فإن الإنسان قد يدخل في الأمور ـ أيّ أمر كان من أمور الدنيا أو الآخرة ـ بالصدق والاستقامة ، وقد يدخل بالانحراف والكذب والالتواء ، وهكذا الخروج من الأمور ، وقد ورد أنها نزلت يوم فتح مكة ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد دخولها أنزل الله هذه الآية (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (سُلْطاناً) سلطة وعزا (نَصِيراً) أنتصر به على أعدائك حجة وقوة ، ورعبا في قلوبهم ، ولقد ناسبت الآية ، ما أراد المشركون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الانحراف ، كما قال (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ).

[٨٢] (وَقُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الطامعين فيك ، الراجين بقاء كيانهم (جاءَ الْحَقُ) وهو الدين والإسلام والقرآن (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي ذهب وانفضح وظهر بطلانه ، وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما ورد مكة فاتحا ، رأى حول الكعبة ، ثلاثمئة وستين صنما فأخذ يقرأ هذه الآية ، ويشير إليها بعصاه ، فتنكس واقعة على الأرض (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي مضمحلا ، فإن طبيعة الباطل لا استقرار له ، ولا بقاء.

[٨٣] إن الحق المتمثل في القرآن ، لقد جاء ، وإنه يشفي المؤمنين شفاء

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣)

____________________________________

روحيا وجسميا ، كما أنه يزيد الظالمين خسارا ، فإنهم يعارضوه ، ويقابلوه بما يوجب زيادة وزرهم (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) «من» بيان المنزل المستفاد من «ننزل» (ما هُوَ شِفاءٌ) شفاء لأرواحهم المريضة بالأخلاق السيئة والرذيلة ، وشفاء لأجسامهم ، فإن الإنسان إذا تعدلت مناهج حياته صح جسمه (وَرَحْمَةٌ) أسباب ترحم ولطف من الله (لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنهم إذ يطيعونه ، يكونون مورد لطفه ورحمته (وَلا يَزِيدُ) القرآن (الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف والسلوك المعوج (إِلَّا خَساراً) أي خسارة على خسارتهم ، لكفرهم به وانحرافهم عن سبيله وضلالهم ومقاومتهم له.

[٨٤] وإذا ترك الإنسان الشفاء والرحمة ، وأخذ يسلك سبيل الغي ، فإنه يتقلب في أوضار الكفر والضلالة كيفما كان حاله (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بالصحة والرفاه والأمن والسلام وغيرها (أَعْرَضَ) عن طاعة الله وعبادته (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي ابتعد بطرفه عنا ، كأنه لوى جنبه ـ كناية عن إعراضه ، وعدم العمل بما يلزم أن يعمل به ، من شكر النعمة ، والطاعة للمنعم ـ فيتكبر ويتجبر ويطغى ، حين رأى نفسه مستغنيا (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) الفقر والمرض والخوف ، وما أشبهها ، لم يصبر ، ولم يدع الله لرفعها بل (كانَ يَؤُساً) كثير اليأس قانطا ، فلا هو في الرخاء يشكر ، ولا في البلاء يصبر.

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)

____________________________________

[٨٥] هذا حال الإنسان الظالم الذي لا يزيده القرآن إلا خسارا ، أما المؤمن فهو بعكس ذلك ، لا يزيده الرخاء والبلاء ، إلا ثوابا وانقطاعا إليه سبحانه وشكرا وطاعة ، فكل من الطائفتين ، تعمل على الشكل الذي اختاره من الكفر والإيمان (قُلْ) يا رسول الله (كُلٌ) من المؤمن والكافر (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الشاكلة الطريقة ، لمشاكلة بعض الطرق لبعض ، وفي هذا تهديد لمن يسلك الطريق المنحرف ، كأنه يقال اعملوا فسترون جزاء عملكم (فَرَبُّكُمْ) أيها الناس (أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) هل المؤمن سبيله أحسن أم الكافر؟

[٨٦] (وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الرُّوحِ) ما هو؟ وحيث أن مثل هذه الأسئلة توجب تبديد الطاقة العقلية فيما لا يعني ، لم يجب القرآن الحكيم على هذا السؤال إشارة إلى لزوم أن يصرف الإنسان طاقته فيما يهمه من أمر دنياه وآخرته ، لا فيما لا يهمه (قُلِ) يا رسول الله في جوابهم (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فهو من الأمور التي تكونت بأمر الله سبحانه ، ولا يعلم ما هو إلا الله سبحانه ، ومن أعلمه إياه (وَما أُوتِيتُمْ) أيها البشر (مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فإن الأسرار الكونية فوق حد الإحصاء ، وما يعلمه البشر ليس إلا جزءا ضئيلا من الأسرار ، فمن الأفضل أن يصرف الإنسان وقته الغالي القصير فيما ينفعه ، لا فيما لا ينفعه ، أقول : لا يبعد أنهم أرادوا بالروح الروح الذي يأتي بالقرآن ، أو القرآن ذاته ، كما قال سبحانه (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا

وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ

____________________________________

إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١) وهذا أقرب إلى السياق ، حيث إن الكلام حول العقيدة ، والرسالة ، والقرآن ، وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مع الأئمة عليهم‌السلام وهو من الملكوت (٢).

[٨٧] إن الإنسان لم يؤت إلا قليلا من العلم ، وإن القرآن الذي يرشد الإنسان إلى مناهج الحياة بعد إرشاده إلى العقيدة الصحيحة ، أنه من أمر الله سبحانه وفضله على البشر ، حدوثا وبقاء ، ولو شاء لمحاه من بين الناس حتى يرجعوا جهالا ، وهذا كما تقول لتلميذك : أنت لا تعرف شيئا ، وما تعرفه فإنه مني ، ولو شئت لأخذت كتب علمك ، حتى تبقى جاهلا ، كما كنت (وَلَئِنْ شِئْنا) وأردنا (لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن بأن نمحي صورته من ذهنك ، ونرفع نسخه من بين الناس (ثُمَ) لو فعلنا ذلك (لا تَجِدُ لَكَ بِهِ) أي بالذي أوحينا إليك (عَلَيْنا وَكِيلاً) فلا أحد يقدر على استرداده منا ، أي لا تجد موكلا بالقرآن لك ، على ضررنا ، وخلاف إرادتنا ، يستوفيه منا ليسلمه إليك.

[٨٨] (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) إن الذي وهبك هذا القرآن ، وأبقاه عندك ، هو تفضل الله سبحانه عليك ـ والاستثناء منقطع ـ (إِنَّ فَضْلَهُ) تعالى

__________________

(١) الشورى : ٥٣.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٢٧٣.

كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ

____________________________________

(كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) حيث أنعم عليك بالنبوة ، وبإعطاء القرآن ، وبإبقائه عندك ، وهذا لتنبيه الناس حتى يشكروا هذه النعمة العظيمة ، فإن القرآن أعظم نعم الله سبحانه ، حيث يقرر الحياة السعيدة ، مما لا تصل إليها البشرية بعقليتها ، ولو صقلت ألف عام.

[٨٩] فإن القرآن ليس كلاما عاديا ، يتمكن كل أحد من الإتيان بمثله (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) متعاونين بعضهم مع بعض (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في جميع خصوصياته البلاغية والمنهجية والعلمية ، وسائر وجوه الإعجاز المقررة في كتب الكلام ، (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لأنه خارج عن طوقهم وقدرتهم (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) معينا وظهرا يساعد بعضهم بعضا ، وقد مضى على القرآن ألف وأربعمائة عام ، ولم يأت من يأتي بمثل القرآن ، نعم جاء مسيلمة بالمضحكات ، وجاء الباب بالمبكيات ، أما من كان أبلغ الناس ، ففكر وقدر ، ثم قال إن هذا إلّا سحر يؤثر ، وكما أنه لم يأت بعصى موسى عليه‌السلام وإحياء عيسى عليه‌السلام ، وغرق نوح عليه‌السلام أحد كذلك لم يأت بقرآن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد.

[٩٠] (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) بيّنا للناس ، وجئنا بالأمثلة المختلفة في ألبسة شتى ، كالإتيان بقصة موسى في سبعين

فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا

____________________________________

لباس ، وهكذا ، وهذا معنى التصريف ، فإنه أن يقلب الشيء الواحد في صور شتى (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا للحق مع إتمام الحجة عليهم.

[٩١] إن الله أعطى القرآن إلى البشر معجزة للرسول ومنهاجا للحياة السعيدة وكلمة باقية يستنير بها الأقوام ، ويهتدون سبيلا ، لكن الكفار الذين أبوا إلا الجحود والتوغل في العناد ، أغمضوا النظر عنه ، وأخذوا يتطلبون خوارق مادية لا تنفعهم في الحياة ولا تبقى مع الأجيال وإنما طلبوها لمجرد العناد بعد وضوح الحجة ، (وَقالُوا) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) بأنك رسول الله ، وإن ما جئت به هو من عند الله (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي حتى تشقق الأرض ، وتخرج منها عين ماء نستفيد منها ، فإن أرض مكة قليلة الماء تحتاج إلى العيون والأنهار.

[٩٢] (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) بأن تدعو ربك فيحدث لك جنة في طرفة عين (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) من الماء (خِلالَها) أي وسطها (تَفْجِيراً) تشقيقا ، حتى يجري الماء في تلك الأنهر.

[٩٣] (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا) فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يهددهم بالعذاب من السماء ، وقد ذكر سبحانه (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ

كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً

____________________________________

ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (١) فهنا يقولون أسقط علينا ـ حسب زعمك : إنك تقدر على كل شيء ، وإنك رسول الله ـ السماء. (كِسَفاً) وهي جمع كسفة ، بمعنى القطعة ، وزن السدرة ، وسدر وكسفا حال من السماء ، ولا يخفى أنه بناء على كون السماء هي المدار ، يكون كلامهم هذا حسب زعمهم ، بأن السماء جسم ، أما قوله (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) فلعل المراد ، الكسف التي منشأها السماء ، فإن القطع المعدنية تقذف من جانب العلو ، كما ذكره أهل الفلك (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أي في حال كونهم قبيلة قبيلة ، وصنفا صنفا حتى نشاهدهم فنصدق بك ، ولعلهم أخذوا ذلك من قوله سبحانه (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢) ولم يعرفوا أن المراد «جاء أمر ربك» وأن الملائكة يوم تأتي (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) (٣).

[٩٤] (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي بيت مملوء من ذهب ، وأصله من الزخرفة ، وهي الزينة ، فكأن إطلاقه على الذهب مجازا من باب الأولى ، لأن الذهب يزين به (أَوْ تَرْقى) وتصعد (فِي السَّماءِ) بأن نراك قد صعدت (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) وصعودك ، لأنا نحتمل ، أن ذلك من باب السحر ، وأنك قد تصرفت في أبصارنا (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) من

__________________

(١) الطور : ٤٥.

(٢) الفجر : ٢٣.

(٣) الفرقان : ٢٣.

نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)

____________________________________

جانب الله (نَقْرَؤُهُ) مكتوب فيه نبوتك وصدقك في دعاويك ، وقد كانوا من الجهل والغباوة بحيث يفرقون بين الصعود ، وبين الإنزال بالكتاب ، فإن من يتمكن من السحر في الصعود ، يتمكن من السحر في إنزال الكتاب أيضا (قُلْ) يا رسول الله في جواب هذه الاقتراحات (سُبْحانَ رَبِّي) أي أنزه ربي عن المثل والذمائم وهذه جملة تستعمل للتعجب ، وكان الأصل في ذلك ، أن المعنى كون الله منزها ، أما ما جرى بيننا ، فليس منزها (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أي لست أنا إلا رسول ، فالواجب علىّ أن آتى بمنهاج السماء ، ومعي من الأدلة ما تثبت أني رسول ، أما أن آتى بكل ما يقترح الناس من الخوارق ، فإن هذا ليس من شأن الرسول ، فإن كان الشخص من أهل الإنصاف ، كفاه ما جئت به من القرآن الحكيم دليلا ، وإن كان الشخص معاندا فلا يؤمن ولو جئت له بألف دليل ، وقد كانت الأمم تسأل أنبياءها بالمقترحات ، ثم لم تؤمن ، كما حدث في قصة صالح النبي عليه‌السلام ، وقد ورد في شأن نزول هذه الآيات : أن جماعة من قريش وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سيفان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج والنضر بن الحارث ، وأبو البختري ابن هشام ، اجتمعوا عند الكعبة وقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلموه وخاصموه ، فبعثوا إليه ، أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ، فبادر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، وكان حريصا على رشدهم ، فجلس إليهم ، فقالوا يا محمد إنا دعوناك لنعذر إليك ، فلا نعلم أحد أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، شتمت الآلهة ، وعبت الدين ، وسفهت الأحلام ، وفرقت

____________________________________

الجماعة ، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك ، وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا ، وإن كانت علة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس شيء من ذلك ، بل بعثني الله إليكم رسولا ، وأنزل كتابا ، فإن قبلتم ما جئت به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيننا؟ قالوا فما أحد ليس أضيق بلدا منا ، فاسأل ربك أن يسيّر هذه الجبال ، ويجري لنا أنهارا كأنها الشام والعراق ، وأن يبعث لنا من مضى ، وليكن فيهم قصي ، فإنه شيخ صدوق ، لنسألهم عما تقول ، أحق أم باطل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بهذا بعثت ، قالوا : فإن لم تفعل ذلك ، فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك ، ويجعل لنا جنات وكنوزا وقصورا من ذهب؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بهذا بعثت ، وقد جئتكم بما بعثني الله به ، فإن قبلتم ، وإلا فهو يحكم بيني وبينكم ، قالوا : فأسقط علينا السماء ، كما زعمت إن ربك ، إن شاء فعل ذلك؟ قال ذاك إلى الله إن شاء فعل ، وقال قائل منهم لا نؤمن ، حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقام معه عبد الله ابن أبي أمية المخزومي ابن عمة عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل ، ثم سألوك أن تجعل ما تخوفهم به؟ فلم تفعل ، فو الله لن أومن بك أبدا ، حتى تتخذ سلّما إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك وكتاب يشهد لك ، فأنزل الله سبحانه الآيات (١).

[٩٥] ثم ذكر سبحانه ، أن سبب امتناع هؤلاء عن الإيمان بالرسول ، إنكارهم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ١٢٠.

وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً

____________________________________

لأن يكون البشر رسولا ، إما لأنهم يظنون أن منصب الرسالة فوق أن يناله بشر ـ أو للحسد ـ أو نحو ذلك (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) أي لم يصرف المشركين عن الإيمان بالرسول وتصديقه (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي حين أتتهم الهداية والرشاد ، (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء عن «شيء» المحذوف الذي هو فاعل «منع» فالاستثناء مفرغ (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) أي كيف يمكن أن يرسل الله بشرا للرسالة وأداء الوحي؟ والمراد ب «قولهم» شبهتهم التي تظهر بالقول.

[٩٦] (قُلْ) يا رسول الله لهم : إن الملائكة لا تصلح لأن ترسل إلى البشر الجمهور ، لأنه ليس من جنسهم ، ولا تصلح الأرض محلّا لهم ، فإن الله سبحانه قادر على كل شيء ، لكن الله تعالى جعل للأرض قوانين عامة ، وأجرى سننه وفق تلك القوانين ، ومن تلك القوانين ، كون الرسول من جنس البشر ، وإن الملك لا ينسجم ، كما أن الحيوان لا ينسجم مع البشر بأن يكون رسولا إليه ، فإذا طلب طالب أن يكون الطير رسولا ، كيف يكون مضحكا ـ وإن كانت قدرة الله فوق ذلك ـ كذلك من يطلب أن يكون الملك رسولا؟ (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ) ولم يكن بشر فيها (يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي ساكنين قاطنين ، فإن المشي والاطمئنان كناية عن ذلك ، إذ غير الساكن لا يكون ماشيا مطمئنا ، بل يمشي مضطربا قلبه ، يهفو نحو وطنه ومحله (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ) أي من جانب العلو (مَلَكاً

رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ

____________________________________

رَسُولاً) أي رسولا من جنس الملك ، لأنه حينئذ ينسجم مع المرسل إليهم ، أما وفي الأرض بشر ، فالرسول لا بد وأن يكون من جنسهم ، ثم لماذا الملائكة؟ أللتعنت والاقتراح؟ فلا يفيد الملائكة أيضا ، أم للحجة والبرهان؟ فالرسول معه ما يدل حجة وبرهانا ، ولا يقاس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر الناس ، فإنه صالح لأن يعاشر الملائكة بخلاف غيرهم فلا يستشكل بأنه ما الفرق بين الرسول وغيره؟

[٩٧] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون أن يكون الرسول إليهم ملكا ولا يقتنعون بك (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فالله شاهد على رسالتي ، حيث أجرى على لساني القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بمثله ، فلو كنت كاذبا في دعواي لزم ـ في الحكمة ـ أن لا أتمكن على شيء يعجز البشر عنه ، فإجراء الله المعجزة على يدي دليل على صدق دعواي ، كما أن إمضاء الرئيس إذا كان مع المستخدم كفاه دليلا على كونه من قبل الرئيس (إِنَّهُ) سبحانه (كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً) مطلعا على أحوالهم (بَصِيراً) يبصر حركاتهم وسكناتهم فلو افترى عليه أحد ، لزم عليه ـ في الحكمة ـ أن يفضحه ، لا أن يجري بعض النواميس الخارقة على يده.

[٩٨] إن هؤلاء الكفار تركوا عقولهم ، وركبوا أهواءهم ، ولذا تركهم سبحانه في ضلالهم يعمهون ، وإلا فما حجة من تمت عليهم الحجة ، ووضحت لهم المحجة؟ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) بأن يلطف عليه الألطاف الخفية ، حين رأى منه الإيمان والإذعان (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حقيقة الذي

وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ

____________________________________

رأى السبيل ، وآمن وأخذ الله بيده إلى النجاح والسعادة ـ والياء من المهتد محذوف تخفيفا ـ (وَمَنْ يُضْلِلْ) الله ، بأن منع منه الألطاف الخفية ، بعد أن أراه السبيل فأعرض ولم يؤمن ، كالسيد الذي يعرض عن عبده ، حيث يراه يعمل باطلا ، فيتركه حتى يضل ، فإنه يقال في العرف : إن السيد أفسد عبده ، حيث لم يضرب على يده (فَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لَهُمْ) أي للضال (أَوْلِياءَ) يتولون شؤونه وينصرونه (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله ، ومن يتولاه في الظاهر ، فليست ولايته كولاية الله التي تهيئ خير الدنيا والآخرة ، فالمراد بالنفي ، نفي الأنبياء حقيقة ، لا نفي الأولياء صورة ، فهو كقوله عليه‌السلام : يا أشباه الرجال ولا رجال (١) إن حال الضالين في الدنيا ، أنه لن تجد لهم أولياء ، أما حالهم في الآخرة (وَنَحْشُرُهُمْ) ، أي نجمعهم للحساب ، فإن الحشر بمعنى الجمع (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) فإنهم يسحبون على وجوههم إلى النار ، كما يفعل في الدنيا ، بمن يراد كمال إهانته ، في حال كونهم (عُمْياً) جمع أعمى ، وهو الذي لا بصر له (وَبُكْماً) جمع أبكم ، وهو الذي لا يتمكن من الكلام ، (وَصُمًّا) جمع أصم ، وهو الذي لا يسمع ، فهم بهذه الحالة المزرية المخزية يحشرون هناك فقد عموا عن الحق في الدنيا ، ولم ينطقوا بالشهادة والخير ، ولم يعيروا أسماعهم للدعوة ، فليكونوا هناك كذلك جزاء لما اقترفوه هنا ، (مَأْواهُمْ) أي محلهم ومصيرهم ومنزلهم ، من أوى يأوى ، بمعنى

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ٢٧ ص ٩٢.

جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ

____________________________________

اتخذ المأوى (جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ) أي سكن لهيبها ، والمراد أنه كلما أشرفت على الخمود ، وإلّا فنار جهنم لا تنقض أبدا (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي اشتعالا والتهابا وتوقدا.

[٩٩] (ذلِكَ) العذاب في المحشر وفي النار (جَزاؤُهُمْ) الذي استحقوه بسبب أنهم (كَفَرُوا بِآياتِنا) ولم يؤمنوا بها (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً) بأن تبددت لحومنا بعد الموت ، حتى لم تبق إلا العظام (وَرُفاتاً) مما تهشم بالفت ، كالأعواد اليابسة البالية (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) محيون بعد الموت (خَلْقاً جَدِيداً) كما كنا سابقا؟ قالوا ذلك على وجه الإنكار.

[١٠٠] (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء المنكرون للبعث (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أوجدهما من العدم (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فإن الإنسان بعد الحشر مثل الإنسان قبل الموت ـ باعتبار ـ كما أنه هو باعتبار آخر ، فإن الإعادة ليست أصعب من الابتداء ، كما قال سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) (وَجَعَلَ) الله (لَهُمْ) أي لهؤلاء في الإعادة (أَجَلاً) أي وقتا (لا رَيْبَ فِيهِ) فإنه من الوضوح

__________________

(١) يس : ٨٠.

فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)

____________________________________

بحيث لا ينبغي الارتياب والشك فيه ، فهو نفي الريب الصحيح بلسان نفي الحقيقة ، نحو «ولا رجال» (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) الذي ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، فإن الإنسان إذا لم يرضخ لأوامر الله تعالى ، فقد ظلم نفسه ، حيث عرضها للعقاب الدائم (إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا للسماء.

[١٠١] إن من يأمر غيره بالكرم ، لا بد وأن يكون كريما ، وإلا قيل : «لا تبغ منقبة وتأتي ضدها» فهؤلاء الكفار الذين كفروا بالله ورسوله والمعاد ، والذين اقترحوا البيت من الذهب ، وتفجير العين ، والبساتين ، وغيرها ، أن ملكوا كل شيء ، لم يكونوا يبذلون شيئا ، فهم أشحاء في الإعطاء ، أسخياء في الطلب (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) وخزائن رحمة الله ، هي الماء ، والتراب ، والشمس ، والهواء ، التي تتولد منها الأشياء والإرادة الأزلية التي تهب الحياة والفضيلة ، وغيرهما ، فكما أن الخزينة مركز الجواهر والنقود ، كذلك هذه الأشياء مصدر ما في الكون من الوجود والنفائس (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) ولم تبذلوا (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) أي لأجل خشية أن تفتقروا إذا بذلتم ـ مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا ـ فمن هذا النحو من الشح والبخل شأنه ، كيف يقترح هذه الاقتراحات المادية الدسمة؟ (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي بخيلا ، من «قتر» بمعنى ضيق في النفقة ، والقتور صيغة مبالغة ، وهذا شبه الاستهزاء بالمقترحين ، والسخرية

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ

____________________________________

باقتراحهم ، كما قال سبحانه (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١).

[١٠٢] إن الأمة المعاندة ، لا تفيدها الخوارق ، فهؤلاء ، وإن طلبوها ، وعلقوا إيمانهم بها ، إلا أنها إذا جاءت لا يؤمنون ، حالهم حال الأمة السابقة ، أليس جاء موسى بأعظم من هذه الخوارق ، ولم تنفع كلها في إيمان قوم فرعون؟ وهل الأمم إلا أمثالا؟ (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي خوارق واضحات ، وهي «اليد» و «العصا» و «الحجر» و «البحر» و «الطوفان» و «والجراد» و «القمل» و «الضفادع» و «الدم» كما ورد بذلك الآيات والروايات ـ وقد مر تفسيرها ـ (فَسْئَلْ) يا رسول الله (بَنِي إِسْرائِيلَ) اليهود المعاصرين لك ، وإنما أمر بالسؤال ، ليكون كلام اليهود أبلغ في الحجة ، فإن كفار مكة المقترحين ، كانوا أسمع من اليهود ، فهم يذعنون لليهود بما لا يذعنون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذْ جاءَهُمْ) ومع كل هذه الآيات (فَقالَ لَهُ) أي لموسى عليه‌السلام (فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) قد سحروك وذهب عقلك ، ولذا تدعي النبوة ، أو أن المراد «ساحرا» فوضع المفعول موضع الفاعل ـ كما ذكر أهل الأدب ـ أن كلّا من الفاعل والمفعول ينوب مناب الآخر.

[١٠٣] (قالَ) موسى عليه‌السلام في جواب فرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون

__________________

(١) البقرة : ١٦.

ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا

____________________________________

(ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآيات ، ولعل الإتيان ب «هؤلاء» التي هي للعاقل ، كون الآيات تعمل عمل العاقل ، فالعصا تصير ثعبانا تأكل ، والجراد تهاجم مهاجمة العاقل ، وهكذا (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليست سحرا ، ولست أنا مسحورا (بَصائِرَ) أي أنزلها لأجل أن تكون حججا وبراهين ، فبصائر جمع بصيرة ، بمعنى مبصرة ، أو المراد ذات بصائر ، أو أطلق البصيرة على سبب البصيرة مبالغة ، أو مجازا لعلاقة السبب والمسبب (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) من ثبره الله بمعنى أهلكه ، والثبور بمعنى الهلاك ، والمراد به الهلاك على الكفر ، وإنما قال «أظن» لعدم علمه بذلك ، وإنما ظن حسب الظاهر من عناده ، مع احتماله إيمانه ، أو للتشابه اللفظي ، وإن كان عالما بذلك ، فإن الظن يستعمل بمعنى العلم.

[١٠٤] (فَأَرادَ) فرعون بعد إتمام الحجة عليه ، حيث لم يجد مخلصا من موسى وحججه القوية (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) أي يزعج بني إسرائيل ويطردهم (مِنَ الْأَرْضِ) أي أرض مصر ، مقر سلطته (فَأَغْرَقْناهُ) أي أغرقنا فرعون (وَمَنْ مَعَهُ) من جنوده وأشراف قومه (جَمِيعاً) لم ينج منهم أحد ، وهكذا مصير الكفار أعداء الله ورسوله.

[١٠٥] (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد هلاك فرعون وقومه (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا

الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ

____________________________________

الْأَرْضَ) أي كونوا فيها ، مقابل إرادة فرعون تبعيدكم ، والمراد إما أرض مصر ، فقد سكنها بنوا إسرائيل فيما بعد ، أو الأعم مقابل إرادة فرعون إخراجهم من أرض مصر والشام وفلسطين ـ كما ذكر بعض أهل التفسير ـ أو مطلق الأرض ، أي بقوا هؤلاء ، وذهب أعداءهم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وهي القيامة (جِئْنا بِكُمْ) يا بني إسرائيل (لَفِيفاً) قد لف بعضكم في بعض ، فلكم إرث الأرض هنا ، ولكم الآخرة هناك ، أو المراد لفيفا أنتم في آل فرعون ، ليجازى أولئك هناك ، كما جوزوا هنا.

[١٠٦] وإذ قد تقرر ، أن الاقتراحات لا معنى لها ، وأن القران هو وحده كاف دلالة للنبوة ، وحجة على القوم ، يرتد السياق إلى هذا الكتاب الحكيم ليبين ما هو (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا القرآن بالحق ، فإنا لم ننزل القران ، إلا للإيمان به ، واتباع سبيله ، مقابل إنزال الشياطين الكذب على الكهان (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي وقد كان القرآن مصاحبا للحق ، فما فيه هدى ونور ومطابق للواقع ، مقابل ما نزل بالحق ، ولكنه لا يصحب الحق ، كما لو أعطى الولي عبده كتابا ، ليعمل فيه ، وقد كتب فيه اشتباها شيء باطل ، فإن إعطاء المولى بالحق ، لأنه له السلطة على العبد ، وقصده الحق ، لكن الكتاب المعطى ، كان مصاحبا للباطل ، والحاصل أن هذا القرآن حق فاعلا وفعلا ، أو المراد أن الإنزال كان بالحق ، والوصول إلى الرسول كان بالحق ، فلم يطرئه تحريف في البين ، وإن شئت قلت إن الملحوظ إما جهتا الفاعل

وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا

____________________________________

والفعل ، أو الفاعل والقابل (وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (إِلَّا مُبَشِّراً) لمن آمن ، وأطاع بالثواب (وَنَذِيراً) لمن كفر ، أو عصى بالعقاب.

[١٠٧] (وَ) أنزلناه (قُرْآناً فَرَقْناهُ) في نيف وعشرين سنة ، فلم ننزله جملة واحدة ، وإنما تدريجا منجما ، من فرق بمعنى التفريق ، والإرسال جزءا فجزءا (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي على تؤدة ، وفي أزمنة مختلفة ، من مكث بمعنى لبث ، فقد جاء القرآن ليربي الأمة تربية إسلامية ، وذلك يحتاج إلى التدريج ، وأن ينزل بكل مناسبة جزء منه ، ليكون تحريكا ، وليس كالكتب المدونة ، كتابا يقرأه الإنسان ليعلم ما فيه ـ فحسب ـ أو فكرة يستعرضها الشخص ، وقد أدّى القرآن مفعوله ، بهذه الحكمة المفرقة له أزمانا ومناسبات ، حتى ربي الجيل واندفع ، وباندفاع أولئك يندفع المسلمون إلى الأبد (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) على حسب الحاجة ، ووقوع الحوادث ، لا جملة ومجموعا ، وكان لفظ «التنزيل» حيث أنه من باب التفعيل دال على التكثير في النزول الملازم للتدريج.

[١٠٨] وإذ تبين حقيقة القرآن ، وكونه منزلا من عند الله بالحق ، وفيه الحق ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، فقد ثبتت الحجة من جانب الله تعالى ، ولم يبق إلا الإطاعة أو العصيان (قُلْ) يا رسول الله للكفار (آمِنُوا بِهِ) أي بالقرآن (أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فإنّا قد تم من جانبنا الأمر ، وبقي في جانبكم ، فمن أراد الخير فليؤمن ، ومن أراد الشر فلا يؤمن ،

إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)

____________________________________

أما العلماء فإنهم يؤمنون ـ طبعا ـ لما يرون فيه من الحق (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أعطاهم الله علم الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء عليهم‌السلام (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول هذا القرآن ، كعبد الله بن سلام وغيره ، من اليهود والنصارى (إِذا يُتْلى) أي يقرأ (عَلَيْهِمْ) القران (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) أي يسقطون على وجوههم ، وأذقان جمع ذقن ، وهو منتهى الوجه ، وإنما خص الذقن لأن من سجد كان أقرب شيء منه إلى الأرض ذقنه (سُجَّداً) جمع ساجد ، وذلك لأن الإنسان الذي يخر على الأرض للسجود ، إذا لم يتمالك نفسه ، وقع ذقنه أولا على الأرض ، فليس المراد أنهم يجعلون أذقانهم فقط.

[١٠٩] (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) تنزيها له عن الباطل ، فما أرسله من القرآن حق ، لا يشوبه شيء (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) «إن» مخففة من الثقيلة ، أي أنه كان وعد الله سبحانه في الكتب السابقة بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنزال الكتاب لمفعولا ـ يفعل ـ فلا خلف فيه ، وها نحن نرى الوعد قد أنجز فآمنا وصدقنا.

[١١٠] إنهم يغلبهم التأثر ، حتى أنهم يبكون من شدة التأثر الحاصل لهم من استماع القرآن (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) فهم يسقطون على الأذقان ، ويسجدون ويبكون من شدة ما خالج نفوسهم من التأثر بالقرآن وبعظمة الله سبحانه (وَيَزِيدُهُمْ) ما في القرآن من المواعظ والعبر (خُشُوعاً)

قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها

____________________________________

على خشوعهم بأصل تلاوته.

[١١١] وإذ قد تمت الحجة عليهم ، فلم يبق عند المشركين ، إلا أن يقولوا «وما الرحمن»؟ فقد كانوا يكرهون هذا الاسم ، بلا حجة ، أو بتعليل أنهم يناقشون في أصل الإله ، وفي وحدته ، وفي أن يسمى رحمانا؟ ولذا يؤمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحاجهم في هذا أيضا ، فإن الله هو الرحمن ، فهما لفظان على معنى واحد ، فما هذا اللجاج والسخافة؟ (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) فقولوا يا الله ، أو قولوا يا رحمن (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فكلاهما تعبير عن الذات الواحد المستجمع لجميع صفات الكمال ، والقادر والخالق والرازق والحي والقيوم ، وغيرها من سائر أسمائه وهي علاماته التي تشير إليه لذلك الذات ، سواء أشرتم إليه بيا الله ، أو بيا رحمن ، وذكر بعض في شأن نزول هذه الآية أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ساجدا ذات ليلة بمكة يدعوا «يا رحمن يا رحيم» فقال المشركون هذا يزعم أن له إلها واحدا ، وهو يدعو مثنى مثنى ، فنزلت هذه الآية ، وقد كان المشركون يؤذون الرسول إذا قام للصلاة ، وبهذه المناسبة جاء الأمر بالتوسط في الصلاة ، فقد روي عن الصادق عليه‌السلام ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان إذا صلى فجهر في صلاته ، سمع المشركون ، فشتموه وآذوه ، فأمر سبحانه بترك الجهر ، وكان ذلك بمكة في أول الأمر (١) (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) فإن الإخفات أبعد عن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٨ ص ٦٨.

وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)

____________________________________

الخشوع ، إذ أن الصوت المتوسط ، يدخل السمع ، فيكون تلقي القلب له أكثر ويكون للخشوع أقرب (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) الجهر والإخفات ، و «ذلك» إشارة إلى كل واحد منهما (سَبِيلاً) ، وعن الصادق عليه‌السلام المخافتة ما دون سمعك ، والجهر أن ترفع صوتك شديدا (١).

[١١٢] وأخيرا تلخص العقيدة في هذه الجمل (وَقُلِ) يا رسول الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا يستحق أحد الحمد سواه ، إذ هو الإله المتفرد الواحد (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما يقول اليهود عزير ابن الله ، والنصارى المسيح ابن الله ، والمشركون الملائكة بنات الله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما يجعل المشركون لله شركاء في ملكه وسلطانه ، ولعل الإتيان بقوله «في الملك» للإشارة إلى رد دعوى المشركين ، فإن كان له شريك ، فما ذا صنع شريكه في السماوات والأرض؟ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ) يلي شؤونه وينصره سواء كان إلها ، أو محالفا ، وقوله (مِنَ الذُّلِ) لأن الشخص قد يتخذ وليا من ذلة وعجز في نفسه يريد أن يتقوى بذلك الولي ، أنه سبحانه ليس له ولي من هذا القبيل ، وإنما له أولياء من المتقين تفضل عليهم بولايتهم جودا وكرما (وَكَبِّرْهُ) يا رسول الله (تَكْبِيراً) لائقا بشأنه فهو أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم ، وهكذا تختم السورة بالتكبير ، كما بدأت بالتسبيح.

__________________

(١) الكافي : ج ٣ ص ٣١٥.

(١٨)

سورة الكهف

مكيّة / آياتها (١١١)

سميت السورة بهذا الاسم ، لأن فيها لفظة «الكهف» وقصة أصحاب الكهف ، والكهف هو مغارة الجبل ، ضيق فمها ، واسع داخلها ، وهذه السورة كسائر السور المكية ، تعالج قضية العقيدة ، في أسلوب قصصي رائع ، وليست القصص القرآنية من نسج الخيال ، وإنما قصص حقيقية ، اقتبست منها محل الحاجة ، لتبني الكيان البشري ، بما يوفر له السعادة والخير ، وإذ ختمت سورة بني إسرائيل بتحميد الله سبحانه ، ابتدأت هذه السورة بتحميده أيضا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسمك يا الله ، فإن اسم الله إذا وضع على شيء أمن كل الأخطار ، كيف لا ، وقد ارتبط بخالق الأرض والسماء ، والحافظ القائم على كل شيء ، وهو الرحمن الرحيم ، الذي يتفضل بالرحم على كل شيء ، كما قال سبحانه ، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢)

____________________________________

كُلَّ شَيْءٍ) (١) وليس الرحم في الله سبحانه ، بمعناه في البشر ، إذ لا تأثر له سبحانه ، وإنما بمعنى التفضل ، كما قالوا : «خذ الغايات واترك المبادي».

[٢] (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي أن جنس الحمد له سبحانه ، إذ جميع المحامد راجعة إليه ، حتى أن الغير لو تفضل على الإنسان بشيء ، فإن فضله ذلك في طول أفضال الله سبحانه (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الْكِتابَ) أي القرآن (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) أي للكتاب (عِوَجاً) أي اعوجاجا ، بأن يكون بعض مناهجه معوجة ، أو بعض ما أخبر به من أصول المبدأ والمعاد والقصص مخالفة للواقع.

[٣] في حال كون الكتاب (قَيِّماً) معتدلا مستقيما ، وإنما أنزل الكتاب (لِيُنْذِرَ) الرسول الناس (بَأْساً شَدِيداً) أي عذابا شديدا ونكالا (مِنْ لَدُنْهُ) من عنده ، إن لم يؤمنوا ، وركبوا رؤوسهم سادرين في غيّهم ، (وَيُبَشِّرَ) الرسول (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ) صحّت عقيدتهم (يَعْمَلُونَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) وهي الأعمال التي أمر الله بها ، وقد ذكرنا أن ذلك يلازم عدم الإتيان بالمعاصي ، فإنه لا يقال لمن اختلط بين الأمرين ، أنه يعمل الصالحات (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) في الدنيا بالرفاه والسلام والصحة وما أشبه ، وفي الآخرة بالثواب والجنة.

ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ

____________________________________

[٤] في حال كون المؤمنين العاملين بالصالحات (ماكِثِينَ) أي لابثين باقين (فِيهِ) في ذلك الأجر (أَبَداً) فإنه لا انقطاع للجنة ، ولا زوال لنعيمها.

[٥] (وَيُنْذِرَ) الرسول ـ بصورة خاصة ، بعد ذلك الإنذار العام لكل من خالف ـ (الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وهم اليهود والنصارى ، فإنهم ما دام هذا الاعتقاد عندهم ، منذرين ، مهددين في الدنيا بالخزي ، وفي الآخرة بالعذاب ، فإن الاختلافات الشديدة بين اليهود والنصارى من جانب ، وبين طوائف كل دين منهما مدهش جدا ، حتى أن الاختلاف بين المسلمين وبينهما ، أو بين طوائف المسلمين ، ليس عشر معشار ذلك ، ولذلك تاريخ وتفصيل نكتفي منه بهذه الجملة ، وهو أن «سلامة موسى» يذكر في كتاب «حرية الفكر» أن خصاما وقع بين طائفتين مسيحيتين في «ألمانيا» زهقت ـ من جرائه ـ أربعة عشر مليون من مجموع السكان الذين هم ثمانية عشر مليونا!!

[٦] (ما لَهُمْ) أي لهؤلاء الذين قالوا اتخذ الله ولدا (بِهِ) قولهم هذا (مِنْ عِلْمٍ) وإنما يقولون ذلك تقليدا (وَلا لِآبائِهِمْ) علم بذلك ، وإنما قالوه اعتباطا (كَبُرَتْ كَلِمَةً) أي عظمت الكلمة كلمة (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي أفواه هؤلاء الكفار ، فقد قالوها وأظهروها مع ما فيها من الإساءة والقبح ، وأفواه جمع «فوه» بمعنى الفم ، والكلمة حيث تطلق على

إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها

____________________________________

المكتوب والملفوظ ، وما أشبههما ، أتى بقيد «من أفواههم» (إِنْ يَقُولُونَ) أي ما يقول هؤلاء (إِلَّا كَذِباً) وافتراء على الله سبحانه ، فهو سبحانه منزه عن الولد.

[٧] ولقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغتم غما شديدا حيث يرى هؤلاء منحرفين بهذه المثابة ، فسلّاه سبحانه أن لا يغتم لهم ، فإن انحرافهم لا يضر إلا أنفسهم ، أما الرسول فقد أعذر في الهداية والإرشاد (فَلَعَلَّكَ) يا رسول الله (باخِعٌ) أي مهلك (نَفْسَكَ) غمّا وحزنا (عَلى آثارِهِمْ) أي ما يظهر منهم من الأثر ، فإن الكافر يظهر منه آثار الكفر ، كما أن المؤمن يظهر منه آثار الإيمان (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي بالقرآن ، فإنه حديث الله سبحانه لهداية البشر (أَسَفاً) تمييز لباخع نفسك.

[٨] إن بدء الأمر من الله وأن إليه المصير ، وقد جعل سبحانه أمور الدنيا ليختبر الصالح من الطالح ، فليس على الداعي أن يهتم هذا الاهتمام المؤدي إلى الهلاك ، إذا رأى إعراض الناس ، فإن الناس لا بد فيهم من تغره الحياة ، فما إعراضهم بعجيب ، وهذا كما تقول : لا تغتم أيها المدير ، فقد جعلت المدرسة للاختبار فإذا رأيت سقوط بعض الطلاب ، فإنه أمر طبيعي (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) من أنواع المخلوقات المختلفة ، من جماد وحيوان وإنسان (زِينَةً لَها) أي

لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩)

____________________________________

للأرض ، وبذلك يمكن اختبار الناس ، إذ لو لا المغريات ، لم يكن الاختبار ، (لِنَبْلُوَهُمْ) أي نمتحنهم ـ لا لأن نعلم ، بل لأن يظهر باطن كل أحد ، إذ هو سبحانه عالم بهم ، منذ الأزل ـ (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) من الآخر ، وأيهم أسوء عملا.

[٩] منا المبدأ وإلينا المصير (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ) أي سوف نجعل (ما عَلَيْها) أي ما على الأرض من الزينة (صَعِيداً) الصعيد ظهر الأرض (جُرُزاً) وهي الأرض التي لا نبات لها ، يقال جرزت الأرض إذا جدبت ويبست ، أي أن ما على الأرض يهشم ويفنى ، حتى تبقى أرضا جرزا لا شيء عليها ، فكأن التقدير «لجاعلون ما على الأرض معدوما ، حتى تصبح صعيدا جرزا».

[١٠] وإذا كانت الأرض محلا لاختبار الناس ، فمن الأفضل أن يؤمن الإنسان حتى يسعد ، كما سعد أصحاب الكهف حتى أطاعوا ، وخرجوا عن الامتحان ، فائزين ناجحين (أَمْ حَسِبْتَ) يا رسول الله ، أي هل ظننت (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ) وهم جماعة فروا من ملكهم الكافر ، ليعبدوا الله وحده ، ثم خافوا ، فالتجئوا إلى كهف ـ أي مغارة في الجبل ـ وناموا وشاء الله أن يطيل نومهم مئات السنين ، ثم أيقظهم ، حتى يري للناس ولأنفسهم كون الله قادر على كل شيء ، وأن قصة البعث حق (وَالرَّقِيمِ) وهو اللوح الذي رقم فيه أحوال هؤلاء (كانُوا مِنْ آياتِنا) الدالة على قدرتنا (عَجَباً)؟ كلا ليس ذلك بعجب من قدرة

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ

____________________________________

الله سبحانه ، فخلق السماوات والأرض وما فيهما أعجب ، وكان الإتيان بالاستفهام الاستنكاري ، لبيان أن لله سبحانه كثير أمثال هذه الآية ، فليست قصتهم عجيبة متفردة ، وقد ورد في سبب نزول هذه السورة ، أن جماعة من كفار مكة ، أرسلوا رسولين إلى اليهود ، ليسألان منهم عن أحوال الرسول ، هل هو صادق أم لا فلما جاءا إلى اليهود واستفسروهم أمره ، قال لهما أحبار اليهود : اسألوه عن ثلاث مسائل ، فإن أخبركم باثنتين ، ولم يخبر بالثالثة فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فهو رجل مشغول اسألوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب واسألوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان أمره؟ واسألوه عن الروح ما هو؟ وجاء الرجلان أهل مكة وأخبراهم بالخبر ، وجاء إلى الرسول الكفار ليسألونه فنزلت هذه السورة تخبرهم عن أصحاب أهل الكهف ، وذي القرنين ، أما بالنسبة إلى الروح ، فنزلت قوله سبحانه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

[١١] اذكر يا رسول الله (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) «أوى» أي التجأ واتخذ المأوى و «الفتية» جمع فتى ، أي الشبّان و «الكهف» المغارة في الجبل إذا كانت وسيعة ، وإلا فهو «غار» وإنما أووا إلى الكهف هربا من الملك «دقيانوس» بدينهم ، لئلّا يقتلهم (فَقالُوا) حين أووا (رَبَّنا آتِنا) أي أعطنا (مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (رَحْمَةً) نعمة وفضلا ننجوا بها من قومنا (وَهَيِّئْ

__________________

(١) الإسراء : ٨٦.

لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)

____________________________________

لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي اجعل لنا في أمرنا ما نصيب الرشد.

[١٢] ولما التجأوا إلى الكهف أخذهم النوم فناموا (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي أنمناهم ، فإن الضرب على الأذن كناية عن ذلك ، لأن الإنسان إذا نام لا يسمع شيئا ، فكأنه ضرب على أذنه بحائل يمنع عن السماع ، أما نوم العين ، فليس مناطا ، إذ كثيرا ما تنام العين ولا تنام الأذن لوعي القلب (فِي الْكَهْفِ) أي حال كونهم في الكهف (سِنِينَ عَدَداً) سنين تعد عدا ، إذ كانت ذات عدد ، وهذا لإفادة الكثرة ؛ إذ القلة لا تحتاج إلى العدّ.

[١٣] (ثُمَ) بعد النوم الطويل (بَعَثْناهُمْ) من رقدتهم ، وأيقضناهم من نومهم (لِنَعْلَمَ) أي ليظهر معلومنا في الخارج ، فإن العلم ذو إضافة بين الصفة وبين المعلوم ، فإذا لم تكن صفة ، لم يكن علم ، وإذا لم يكن معلوم خارجي لم يكن علمه بالمعلوم الخارجي (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أيّ الفئتين ، فئة المؤمنين ، وفئة الكافرين ـ كما ذكر بعض ـ.

(أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي أحسن إحصاء لمدة لبث أولئك في الكهف ، «ما» في «لما لبثوا» مصدرية زمانية أي لمدة لبثهم ، ثم أنه لو كان المراد بالحزبين ، المؤمنين ، والكافرين ، تبين أن هناك كان نزاع وخصام في مدة لبثهم بين الطائفتين ، ولماذا كان ذلك؟ ومن كان الطرفان؟ ذلك غير معلوم لنا ، وإن كان المراد بالحزبين الفئتين من

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا

____________________________________

نفس أصحاب الكهف ، كما أشار إليه سبحانه في آية أخرى ، (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) كان المقصود أن يعلموا هم بأنفسهم مدة لبثهم ، وهذا أقرب إلى النظر ، فقد كان هناك بعث لهم عن النوم وكان اطلاع الناس عليهم ، فكان بعثهم من النوم ، ليكون علمهم بقدرة الله سبحانه عيانا ، واطلاع الناس عليهم ليعلم الناس ذلك ، فمآل الآية «بعثناهم ليعلموا مدة نومهم» فإن كون بعضهم أحصى من بعض ، فرع العلم ، ولذا جعل كناية عنه وهذا كما يقول المعلم : أعطيناكم ـ أيها التلاميذ ـ هذا الكتاب لنعرف أيكم أكثر ذكاء ، فإن المعلم يعلم ذلك ، وإنما يريد أن يظهره لأنفسهم.

[١٤] وبعد الإشارة الإجمالية إلى القصة يأتي البيان بشيء من التفصيل (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا رسول الله ، وكان التصدير بلفظ «نحن» لإفادة صدق القصة ومطابقتها للواقع في المزايا والخصوصيات ، فإن القصص كثيرا ما يزاد فيها وينقص (نَبَأَهُمْ) أي خبرهم (بِالْحَقِ) بالصدق والصحة ، بلا خلاف الواقع (إِنَّهُمْ) أي إن أصحاب الكهف (فِتْيَةٌ) شبان (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي بصيرة في الدين ، فإن الهداية والضلالة ، إذا ابتدأ بها الإنسان زادت تدريجا ، لما يجمع الذهن لها من الشواهد والمقومات.

[١٥] (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي شددنا عليها كأن القلب إذا لم يربط عليه يكون مضطربا متفككا ، كالأشياء الرخوة ، فإذا شد عليه برباط الإيمان ، صار صلدا قويا (إِذْ قامُوا) أي استقاموا ، فهو كناية عن

فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ

____________________________________

ذلك ، لأن القائم يستعد للحركة ، وكذلك من قوي عزمه واستقام (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو إلهنا ، وخالقنا ، لا الأصنام التي يعبدها الملك «دقيانوس» وأهل المملكة (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي لن نعترف بإله غيره ، ولا نعبد إلها سواه (لَقَدْ قُلْنا إِذاً) إذا دعونا غير إله السماء والأرض (شَطَطاً) أي كذبا وباطلا.

[١٦] ثم تذاكروا فيما بينهم أحوال أهل المملكة وأنهم كيف ضلوا السبيل بدون حجة قائلين (هؤُلاءِ قَوْمُنَا) جماعتنا من أهل المملكة (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (آلِهَةً) من الأصنام يعبدونها (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) أي على فعل أنفسهم ، أو على تلك الآلهة ، وقد أجريت مجرى العقلاء ، تماشيا مع منطق القوم ، و «لو لا» بمعنى «هلّا» للزجر ، ـ أي إن كانوا صادقين ، فلما ذا لا يأتون لصحة هؤلاء الآلهة (بِسُلْطانٍ) أي دليل (بَيِّنٍ) واضح ، فما الدليل على كون هذه الأصنام آلهة؟ وإذ لا دليل لهم (فَمَنْ أَظْلَمُ) أكثر ظلما وتعديا (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) نسب إليه ما ليس منه ، فإن غالب عبّاد الأصنام ينسبون تعدد الآلهة إليه سبحانه.

[١٧] ثم قال بعض أصحاب الكهف لبعض (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) أي اعتزلتم القوم ، وتجنبتم فعلتهم ، وعبادتهم للأصنام (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا

اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ

____________________________________

اللهُ) بمعنى تركتم معبوداتهم التي يعبدونها إلا الله الذي تعبدونه أنتم ، كما يعبده أولئك (فَأْوُوا) أي صيروا (إِلَى الْكَهْفِ) وهي مغارة الجبل «أفسوس» قرب «دمشق الشام» (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي يبسط لكم ربكم بعض رحمته التي يرحمكم بها ، وينجيكم من قومكم بسببها (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) الرفق هو اليسر واللطف ، أي يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ، بأن يهيئ لكم يسرا ولطفا ورفقا.

[١٨] وقد ذهب الجميع إلى الكهف ، وكان معهم راعي مع كلبه ، وقد تعبوا من المشي ، فناموا لكي يستريحوا ، وكان باب الغار نحو القطب الشمالي ، حتى أن الشمس لا تؤذيهم بحرّها ، وإن دخلت عليهم أشعتها (وَتَرَى الشَّمْسَ) أي لو كنت هناك لرأيت الشمس (إِذا طَلَعَتْ) من المشرق (تَزاوَرُ) أي تميل (عَنْ) باب (كَهْفِهِمْ) المتجه نحو الشمال (ذاتَ الْيَمِينِ) أي إلى جهة يمين الكهف ـ لمن أراد الخروج منه ـ فإن الإنسان إذا وقف على باب الكهف متجها نحو الشمال يكون يمينه طرف المشرق ، وشماله طرف المغرب ـ عكس الواقف تجاه القبلة ـ (وَإِذا غَرَبَتْ) أي أرادت الغروب (تَقْرِضُهُمْ) من القرض بمعنى القطع ، يقال قرضت الموضع إذا قطعته وجاوزته ، أي تجاوز الشمس كهفهم (ذاتَ الشِّمالِ) أي جهة الشمال فهي تدور

وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ

____________________________________

من خلفهم ، إذ الشمس تدور في جانب الجنوب من «الشام» (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ) أي فضاء متسع (مِنْهُ) أي من الكهف ، فقد كانت له ساحة وسيعة ، ناموا هناك ، فلم يكن تصيبهم الشمس ليتأذوا بحرّها وتبليهم أشعتها (ذلِكَ) الوضع لهم في الكهف لا تؤذيهم الشمس ، وهم نيام مستريحون مدى السنين الطوال (مِنْ آياتِ اللهِ) حججه وبراهينه ، فإن ذلك يدل على وجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته (مَنْ يَهْدِ اللهُ) إلى الحق ، بأن لطف به الألطاف الخفية ـ بعد أن سلك السبيل الذي أراه سبحانه ، لكل مؤمن وكافر ـ (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الذي رشد ، وأصاب الخير والسعادة (وَمَنْ يُضْلِلْ) بترك الألطاف الخفية بالنسبة إليه ، بعد أن أعرض عن الهداية (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ) يا رسول الله (وَلِيًّا مُرْشِداً) من يتولى شؤونه ، ويرشده إلى الحق ، إذ لا مرشد إلا الله سبحانه.

[١٩] (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) لو رأيتهم هناك في الكهف ، وهم نيام لظننتهم يقظين منتبهين ، قيل : لأن عيونهم كانت مفتوحة (وَهُمْ رُقُودٌ) والحال أنهم كانوا نائمين ، فإن الإنسان كثيرا ما تبقى عينه مفتوحة عند النوم ، إذا أخذه المنام قبل أن يغمض عينه ـ لشدة تعب أو ما أشبه ـ (وَنُقَلِّبُهُمْ) في نومهم (ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي إلى جهة اليمين وجهة الشمال ، حتى لا تأكل الأرض أبدانهم ، فإن الشيء إذا بقي مدة طويلة على الأرض ، انقلب ترابا ، وقد طال نوم هؤلاء مئات

وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ

____________________________________

السنين ، فلو لم يكن يقلبهم الله سبحانه ، لما سلمت جنوبهم وظهورهم الملصقة بالأرض (وَكَلْبُهُمْ) فإن راعيا تبعهم ومعه كلبه ، ولما ذهب القوم إلى الكهف ، بقي الكلب ببابه يحرسهم (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) هو أن يلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع يديه (بِالْوَصِيدِ) أي بفناء الكهف ، في منظر الحارس ، فإن الحيوانات تخاف الكلب ، فلا تتقدم إليهم بسوء ، وكان لهم من الهيبة ، بحيث ، (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أيها السامع (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أي لأعرضت عنهم موليا فارا (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي امتلأ قلبك من رعبهم ، والخوف الذي يدخل قلبك من منظرهم ، فإن الإنسان ، إذا رأى جماعة نائمين في كهف خارج المدينة ، حيث لا أحد ولا صوت ، وكلب في باب الكهف ، دخلت قلبه الهواجس ، وأخذ بالفرار لئلا يصيبه أذى من جانبهم ، فيحتمل أنهم لصوص ، فيقومون ليؤذوه أو أموات فيراه أحد عندهم ، ويخبر السلطة ، فيسأل عن شأنهم ويبتلى بهم أو سحرة اجتمعوا هنا بهذه الكيفية ، فيسحروه ، أو غير ذلك؟

[٢٠] إنهم ناموا ما شاء الله أن يناموا ثلاثمائة سنين ، أو أكثر ـ بقدرة الله تعالى وإرادته ـ ثم شاءت إرادته أن يوقظهم من رقدتهم الطويلة ، وقد مات الملك «دقيانوس» وتبدلت الأقوام والبلاد (وَكَذلِكَ) أي كما فعلنا لهم تلك الخوارق (بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ليسأل بعضهم بعضا ، والمراد وصولهم إلى نتيجة التساؤل ، وهو

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ

____________________________________

علمهم بمدة نومهم ، من باب ذكر السبب ، وإرادة المسبب ، فإن القائل ينتهي إلى معرفة المدة مما يزيدهم علما على علم ، وإيمانا على إيمان (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أحد الفتية ، يسأل أصدقائه (كَمْ لَبِثْتُمْ) في نومكم (قالُوا) في الجواب (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قالوا وقد ناموا غدوة ، واستيقظوا في آخر النهار ، ولذا لما نظروا إلى الشمس وهي في وقت العصر ، قالوا «يوما» باعتبار طول النهار «أو بعض يوم» باعتبار استثناء الباقي من النهار ، ثم تركوا هذا الموضوع الذي لا يهمهم ، وإن أحسوا بنوم طويل ، وجوع شديد ، وأرجعوا علم ذلك إلى الله (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي بمدة لبثكم ، ومن هذا يظهر أنه احتمل بعضهم أنهم ناموا يومين أو أكثر (فَابْعَثُوا) أي أرسلوا (أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) الورق اسم جنس للدرهم ، ولذا وصفت ب «هذه» مؤنثا ، باعتبار التعدد من الدرهم (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي البلدة التي خرجوا منها (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي أيّ الحوانيت والمحلات (أَزْكى) أطهر وأنظف وأطيب (طَعاماً) ليشتري منها ، (فَلْيَأْتِكُمْ) أي ذلك المبعوث (بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي من ذلك الأزكى و (لْيَتَلَطَّفْ) قالوا إن التاء في هذه الكلمة ، نصف القران الحكيم بحسب الحروف ، وإن كان نصفه بحسب الأجزاء ، ما يأتي من قوله (قالَ أَلَمْ

وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)

____________________________________

أَقُلْ لَكَ) (١) والمعنى أن يعامل البائع بلطف ودقة ، ولا يماكس في الشراء ، حتى لا ينجر الأمر إلى معرفته ، ثم يؤخذ إلى الملك ، ونقع في المحذور الذي فررنا منه (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ) أي لا يخبرن هذا الذاهب لاشتراء الطعام عنكم ـ أيها الرفقة ـ (أَحَداً) من أهل المدينة ، فإنهم إن علموا بمكانكم ، وشاع خبركم ، وقعتم في المحذور.

[٢١] (إِنَّهُمْ) أي الملك ومن حوله (إِنْ يَظْهَرُوا) أي يشرفوا ويطلعوا (عَلَيْكُمْ) ويعرفوا مكانكم (يَرْجُمُوكُمْ) بالحجارة جزاء لما فعلتم من ترك آلهتهم ، واختياركم الإيمان بالله (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي يردوكم إلى دينكم السابق ، وهو عبادة الأصنام (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً) أي إذا فعلتم ذلك الرجوع إلى دينهم (أَبَداً) فإن الإنسان إذا كفر ، وبقي على كفره ، حتى مات ، خلد في النار ، وهذا ما جرت العادة بأن الإنسان إذا دخل في دين ، فإنه يدخل فيه قلبا وقالبا ، فلا يقال : أنه كان بإمكانهم التقية؟

[٢٢] لكن الله سبحانه شاء أن يطلع عليهم الملك وحاشيته فقد جاء أحد ليخبر الملك «دقيانوس» بأنهم هربوا ، فأمر أن يسد عليهم باب الكهف ، ويدعوهم كما هم في الكهف ، ليكون قبرا لهم ، وقد كتب

__________________

(١) الكهف : ٧٦.

وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ

____________________________________

بعض العاملين في بناء الباب لوحا فيه أسماءهم ، وسائر خصوصياتهم ، ومضى زمان حتى أراد الله سبحانه ، إعلام أمرهم ، إذ هدم الحائط ، وتيقضوا ، وجاء أحدهم يشتري الطعام ، وإذا به يرى مدينة جديدة ، ولما أراد الاشتراء ، تخالف هو والبائع ، مما يوجب رفع أمرهما إلى الملك (وَكَذلِكَ) أي كما أنمناهم ، وأيقظناهم من نومهم ـ بتلك الكيفية العجيبة ـ (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) يقال : أعثر زيد على عمر الناس ، أي سبب اطلاعهم عليه ، يعني أعلمنا الناس بهم وبمكانهم ـ فقد كان الملك مؤمنا ـ فلما أخبر بالخبر جاء إلى الكهف ليحقق عن القضية (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والنشور (حَقٌ) فإنه لو لا بعث الله إياهم ، لم يكن من الطبيعي هذا النوم الطويل يتلوه البعث واليقظة (وَأَنَّ السَّاعَةَ) أي يوم القيامة الذي تبعث فيه الأموات (لا رَيْبَ فِيها) أي ليست مجالا للريب والشك ، لأن حالهم في نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يحيى ، ولما أن جاء الملك المؤمن وحاشيته ، ليعرفوا خبرهم ، تقدم ذلك الذي ذهب لاشتراء الطعام ، وأخبر إخوانه بخبر المدينة ، وأنهم قد ناموا سنين طوالا ، فلم يحب أصدقائه اطلاع الناس عليهم ، وأن يكونوا مشهورين في المدينة ، ولذا ناموا وطلبوا من الله سبحانه أن يميتهم ، وقبض الله أرواحهم في الساعة ـ استجابة لدعائهم ـ وهناك اختلف من في حاشية الملك حول كيفية البنيان (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي كان العثور حال التنازع ، كما هو المعتاد أن يقع التنازع والاختلاف حول القضايا الخارقة ، فقال بعضهم : ابنوا عليهم بنيانا ، كما تبنى المقابر. وقال آخرون : بل ابنوا عليهم مسجدا

فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ

____________________________________

(فَقالُوا) أي قال جماعة من حضر (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أي ابنوا على فم الكهف بنيانا يسترهم عن الأنظار ، كما تبنى القبور (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) ولعل الاشتباه حول دينهم ، وأنهم هل يستحقون بناء المسجد حولهم ، أم لا؟ هو الذي أوجب أن يقول بعضهم ابنوا عليهم بنيانا فإن قوله «ربهم أعلم بهم» كاشف عن ذلك (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) أي غلبوا على الآخرين ، في أمر البناء عليهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) محلا للعبادة والسجود ، وقد بنوا المسجد ، ولا زال المسجد إلى هذا اليوم موجودا في جبل مطل على دمشق ، يزوره القاصدون ، ويصلون فيه ، وهكذا يبقي الله سبحانه كل ما يرتبط به مثالا وعبرة بينما يذهب الطغاة مع الزمن ، فلا ترى لهم من باقية.

[٢٣] وقد اختلف الناس حول عدد أصحاب الكهف ، لكن ليس مهمة القرآن بيان ذلك ، وإنما المهم أخذ العبرة في القصة ، فهم بأيّ عدد كانوا ، كان ذلك دليلا على وجود الله وقدرته ، وأنه يعيد الأموات أحياء وإن مرت قرون ، وطالت أزمان (سَيَقُولُونَ) أي يقول قوم (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) التقدير هم ثلاثة ، وإنما جاء «السين» لاحتمال أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أخبر بالخبر ، اختلف الأقوام الذين كانوا في عصره ، ويحتمل أن يكون ذلك حكاية حال ماضية ، فإذا لوحظ حال الاطلاع عليهم ، والبنيان حولهم ، كان مستقبل ذلك الحين ، تختلف الأقوال في عددهم ـ كما هو العادة الجارية في أمثال هذه القضايا ـ (وَيَقُولُونَ)

خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ

____________________________________

أي جماعة آخرون هم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) وكأنه لم يكن قائل بأنهم أربعة خامسهم كلبهم (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي قذفا للقول في محل غيب عن الحواس تشبيه بمن يقذف الحجارة ، في محل مجهول مظلم ، يريد الهدف (وَيَقُولُونَ) أي جماعة آخرون (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وإنما دخلت الواو هنا للتفنن الذي هو نوع من أنواع البلاغة ـ لا واو الثمانية ـ قال في مجمع البيان : قيل بأن هذا إخبار من الله تعالى ، بأنه سيقع نزاع في عددهم ، ثم وقع ذلك ، لما وفد نصارى نجران إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقالت اليعقوبية منهم ، كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقالت النسطورية كانوا خمسة سادسهم كلبهم ، وقال المسلمون ، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم (١) (قُلْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) وأنهم كم كانوا ، وليس القرآن بحاجة إلى ذكرهم عددا ، حتى يوقع نفسه ، في خلاف لا فائدة فيه و (ما يَعْلَمُهُمْ) أي لا يعلم عددهم أحد (إِلَّا قَلِيلٌ) من الناس كالنبي وأوصياؤه (فَلا تُمارِ) أي لا تجادل يا رسول الله (فِيهِمْ) أي في عددهم ، وإنهم كم كانوا (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) سطحيا ، أي بدون تعميق وتدقيق ، وإنما تذكر لهم القصة ، كما أوحيت إليك ، إذ لا فائدة في الجدال ، في هذه الأمور (وَلا تَسْتَفْتِ) يا رسول الله ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٢٨.

فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ

____________________________________

أي لا تستخبر (فِيهِمْ) في أهل الكهف ، ومقدار عددهم (مِنْهُمْ) من أهل الكتاب (أَحَداً) فإنك تعلم أكثر منهم ثم لا شأن في هذه الخصوصيات ، مع منهج الإسلام ، حتى يطول الجدال حولها ، ويصير موضع السؤال والاستفتاء؟

[٢٤] وبمناسبة النهي عن الجدال في الماضي الغائب عن الحواس ، يأتي النهي عن التكلم حول المستقبل المجهول ، إلا أن يكل الإنسان أمره ، إلى إرادة الله سبحانه ، فإن المستقبل أكثر عناصره بيد الله ، وإنما أقله بيد الإنسان ، فليكف الإنسان عن التكلم فيه ، وليس معنى هذا ، أنه لا يعمل ولا يفكر للمستقبل وإنما معناه أن لا يرى المستقبل كله بيده ، ولا يحسب لله سبحانه الحساب ـ كما هو شأن الماديين ـ (وَلا تَقُولَنَ) يا رسول الله (لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) أو بعد غد ، وانّما «غدا» من باب المثال.

[٢٥] (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا أن تقول «إن شاء الله» وهذا تعليم من الله سبحانه للعباد ، إذا أرادوا أن يقولوا شيئا عن المستقبل يعلقوه بالمشيئة ، إثباتا ، أو استثناء كأن يقول : أذهب إن شاء الله ، أو أذهب إلا أن يشاء الله ، والمعنى على الثاني ، إلا أن يشاء الله غيره ـ بأن لا اذهب ـ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الاستثناء ، فإنك إذا ذكرت شيئا عن المستقبل بدون قولة «إن شاء الله» فإذا تذكرت ذلك ، فقل وقت التذكر هذه الكلمة (وَقُلْ) بعد ما تذكرت إنك نسيت قولة «إن شاء الله» (عَسى) أي لعل (أَنْ يَهْدِيَنِي

رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥)

____________________________________

رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا) الشيء الذي نسيت الكلمة معه (رَشَداً) أي أدنى إلى الصواب ، كأنه حيث لم يذكر المشيئة ، صار ذلك المستقبل المنوي فعله ، غير لائق بالإتيان ، فيرجو منه سبحانه لأحسن منه وأقرب إلى الرشد ، فإذا قال «سأفعل لإعطاء زيد» ولم يستثن ، ثم تذكر فليقل ، «إن شاء الله ، ولعله يوفقني لشيء أحسن من إعطاء زيد» ـ وهذا المعنى على ما ذكره بعض أهل التفسير ، وليس بعيدا من السياق ـ.

[٢٦] ثم يرجع السياق إلى قصة أصحاب الكهف (وَلَبِثُوا) أي مكث الفتية ، وهم نيام (فِي كَهْفِهِمْ) والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) هذه المدة الطويلة بقوا هناك أحياء ، نيام ، بدون أن يصيبهم شيء (وَازْدَادُوا) أي زاد بعض الناس على هذه المدة (تِسْعاً) أي تسع سنين ، فقال : إن مدة لبثهم ثلاثمائة وتسع سنوات ، روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال في تفسير الآية ، عند أهل الكتاب : أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية ، والله تعالى ذكر السنة القمرية ، والتفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين ، فيكون العدد ثلاثمائة وتسع سنين (١) ، أقول : وذلك لأن السنة القمرية في الغالب «ثلاثمائة وخمس وخمسون» يوما ، والسنة الشمسية «ثلاثمائة وخمس وستون» يوما ، فكل مائة سنة قمرية ، تنقص عن مائة سنة شمسية ألف يوم ، وألف يوم يقرب من ثلاث سنوات ، وعلى هذا فليس المراد من وازدادوا كون الزيادة ، صادرة من أهل الكتاب ، بل المراد أنه زيد هذا

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٣٤.

قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ

____________________________________

المقدار ، فإن الإنسان ، إذا أراد أن يقول شيئا بدون أن ينسب القول إلى نفسه ، يقول «يقولون كذا» والفعل يلاحظ ـ في يقولون ـ مجردا عن الفاعل.

[٢٧] (قُلِ) يا رسول الله (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي بمقدار لبثهم. في المجمع معناه : إن حاجّك «يا محمد» أهل الكتاب في ذلك ، فقل الله أعلم بما لبثوا ، وذلك أن أهل نجران ، قالوا : أما الثلاثمائة ، فقد عرفناها ، وأما التسع ، فلا علم لنا بها .. وروي أن يهوديا ، سأل علي ابن أبي طالب عليه‌السلام عن مدة لبثهم ، فأخبر عليه‌السلام بما في القرآن ، فقال إنما نجد في كتابنا ثلاثمائة ، فقال : بسني الشمس ، وهذا بسني القمر (١) (لَهُ) لله (غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب عن الحواس في السماوات وفي الأرض سواء كان من الأمور الماضية أو الأمور المستقبلية ، ومعنى كونه لله أنه مربوط بالله ، وجودا وعلما وغيرهما ، وكأنه إعراض عن تحديد المدة ، لأن هذه الخصوصية ليست بمهمة ، وإنما المهم اللبث مثل هذه المدة الطويلة ، مما يدل على قدرة الله سبحانه على إحياء الأموات (أَبْصِرْ بِهِ) أي بالله سبحانه (وَأَسْمِعْ) هذان للتعجب ، والمعنى التعجب من أنه تعالى يرى كل متبصر ، ويسمع كل مسموع ، أي ما أبصره وما أسمعه ، ومن المعلوم ، أن القالب ، هو التعجب ، والمغزى بيان علمه الواسع ، بحيث يرى كل شيء ويسمع كل صوت ، وإنما جيء بهذا التعجب هنا تعقيبا على قوله

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٣٤.

ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ

____________________________________

(لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن العلم بكل غائب سابقا ومستقبلا ، يستلزم السمع والبصر العام لكل شيء (ما لَهُمْ) أي ليس لأهل السماوات والأرض ، وجيء بضمير العاقل ، مع أن المراد ليس لأي شيء في السماوات والأرض ـ ظرفا ومظروفا عاقلا وغير عاقل ـ تغليبا (مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) فلا يتول شؤون الكون سواه ، فهو المالك ، السميع البصير ، المتولي للإرادة (وَلا يُشْرِكُ) الله تعالى مع نفسه (فِي حُكْمِهِ) أوامره ونواهيه (أَحَداً) فهو الحاكم وحده في كل الأشياء حكما تكوينيا أو تشريعيا ، فإن له الخلق والأمر.

[٢٨] (وَاتْلُ) يا رسول الله ، أي اقرأ (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) فهو الميزان للأمور ، لا ما يقوله الناس ، ولا ما عندهم من المعلومات (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) فما قاله هو الحق الذي لا يقبل أيّ تغيير أو تبديل ، فليس مثل كلمات الناس تتبدل حسب الظروف والمصالح والشفاعة والتوسط وما أشبهها ، (وَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (مِنْ دُونِهِ) تعالى (مُلْتَحَداً) من التحد بمعنى مال ، أي لا تجد ملجأ سواه تلجأ إليه وتلتحد نحوه ، فلا تستفت أحدا في شأن من الشؤون ، ولا تنظر إلى ما يقوله هذا أو ذاك ، بل اتبع الحق النازل عليك.

[٢٩] وإذ ليس هناك ملجأ يلجأ إليه الإنسان ، ليقيه من مكاره الدهر ، ويسعده في الآخرة ، فما أجدر بالرسول ، أن يتلو كتاب الله عاملا به ، ويصبر مع المؤمنين ، وإن أصابه الكفار بأذى (وَاصْبِرْ) يا رسول الله

نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا

____________________________________

(نَفْسَكَ) أي احبس نفسك (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ) أي الصباح (وَالْعَشِيِ) أي المساء ، لا شغل لهم سوى الله سبحانه (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي رضاه ، أما بمعنى يريدون الوجه الذي أمر به ، فتكون الإضافة للتشريف ، أو تشبيه بمن له وجه ، ويعمل الإنسان عملا لوجهه ، فتكون الإضافة مجازا ، وحيث إن الإنسان ، إذا عمل عملا لأحد ، لاحظ أنه يواجه المعمول له ، وتقع عينه في وجهه ، فيخجل منه ، إن لم يعمل حسب رضاه ، قيل «يعمل فلان لوجه فلان» (وَلا تَعْدُ) من عدى يعدو ـ على وزن «غزي يغزو» ـ بمعنى تجاوز ، أي لا تتجاوز (عَيْناكَ) يا رسول الله (عَنْهُمْ) أي عن أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ، و «عيناك» فاعل «تعد» فهو صيغة تأنيث ، لا صيغة خطاب ، والمعنى لا تتجاوز عينك عن هؤلاء المؤمنين إلى أبناء الدنيا (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي في حال كونك مريدا زينة هذه الحياة ، ولم يكن يريد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وإنما جاء النهي إرشادا للأمة ، وتقريعا للعظماء والأشراف ، الذين أرادوا من الرسول أن يطرد الفقراء ـ في منطقتهم ـ كبلال ، وعمار ، وخباب ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأضرابهم ، ليدنوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأشراف قالوا : إنه لا يمكن أن نجتمع نحن بهؤلاء ، فإذا أردت اقترابنا فاطرد هؤلاء من عندك ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حريصا على إيمان الأشراف ، واستقائهم من المعرفة ، لعلهم يهتدوا ، لكن إن طرد هؤلاء وتقريب أولئك في منطق الإسلام ، طرد للمؤمنين ، وتقريب لزينة الحياة ، ومن طريف الأمر ، أن الأمر بقي هكذا إلى اليوم ، فالغالب أن المؤمنين ـ لقلة علاقتهم بزينة الحياة ـ

وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ

____________________________________

لا يجمعون مالا ، ولا يأبهون بالمظاهر ، ويجتمعون حول كبراء أهل الدين. والأشراف والأغنياء ، قلوبهم غامرة من الإيمان ، وظواهرهم عامرة بالزخارف ، ثم يريدون أن يضيفوا إلى أنفسهم شرف قرب الكبير الديني ـ لمجرد الظاهر أيضا ـ فيقولون : اطرد أولئك حتى نقترب منك ، وماذا يصنع الكبير هل يطردهم؟ وهم الذين يعطون الحقوق ، ولهم الكلمة في حلّ كثير من المشاكل ، أم يطرد الفقراء؟ وكيف يطرد قلبا عامرا ، لقلب غامر؟ لكن الواجب أن لا يطرد المؤمن مهما كلف الأمر ، اتباعا لقوله سبحانه «ولا تعد عيناك عنهم» والله الذي بيده الملك يعطيه ما ينتظر من الأشراف ، بدون وساطتهم ، وهو على كل شيء قدير (وَلا تُطِعْ) يا رسول الله في طرد المؤمنين (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) وإنما أغفلناه ، لأنه سار مع هواه ، فتركناه حتى يتردى في الغفلة والحرمان ، لا يذكر الله سبحانه إلا قليلا (وَاتَّبَعَ هَواهُ) فالهوى يقوده ـ لا الهدى ـ (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي سرفا وإفراطا ، لا ينتظم بنظام واحد ، فإن أهل اليمين يجمع جميع أمورهم نطاق الدين ، أما أهل الهوى ، فكل يوم مع مهوى ، كالعنب الفرط الذي انسلخ من عنقوده ، فلم يجمعها جامع.

[٣٠] (وَقُلِ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يريدون أن تطرد الفقراء ، ليقتربوا منك (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) والرب رب الجميع ، يستوي عنده الفقير والغني ، فليس لي أن أطرد بعضا لبعض ، وإنما أنا مبلغ (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) حتى ينال السعادة (وَمَنْ شاءَ

فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)

____________________________________

فَلْيَكْفُرْ) فإن كفره لا يضر الله شيئا ، وإنما جاز التهديد بلفظ الأمر ، لأن المهدد ، كالمأمور بإهانة نفسه ، أو من باب حمل الضد على الضد (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي هيأنا (لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ، أو ظلموا غيرهم بالتعدي والإيذاء (ناراً أَحاطَ بِهِمْ) واشتمل عليهم بحيث لا منفذ لهم منها (سُرادِقُها) السرادق الفسطاط وما أشبه ، شبه به لهب النار ، لأنه مخروطي كالسرادق ، ولعل هو المراد بقوله : (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) (١) أي ثلاثة أضلاع بشكل مخروطي ، فقد كانوا في الحياة بين ثلاث ، المؤمنون والكافرون والمنافقون ، فليكونوا هناك كذلك بين ثلاث شعب من النار التي تظللهم وتحيط بهم (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) أي طلبوا الغوث ، والعون مما بهم من العطش والحر (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) هو ما أذيب من النحاس والرصاص ، وشبههما ، أو كدردي الزيت المغليّ ، فيقدم إليهم هذا الماء الذي إذا قربه من فيه ، سقط لحم وجهه من شدة الحرّ (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي ينضجها عند دنوه منها ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (٢) (بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك المهل (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً)

__________________

(١) المرسلات : ٣١.

(٢) المؤمنون : ١٠٥.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً

____________________________________

أي مسكنا لهم ، مأخوذ من المرافقة ، وهي الترافق ، كأنها محل ارتفاق وأخذ الرفقة.

[٣١] ذلك لمن ظلم وكفر ، أما من آمن ، فلننظر ماذا جزاءه؟ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صحيحا ، بالمعتقدات الحقة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحات التي تصلح ، مقابل الأعمال الفاسدة التي لا تصلح (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) فلا تذهب أعمالهم ضياعا ، وهدرا ، إنما يلاقون جزاءهم هنالك ، وهذا كالتسلية فإن كثيرا ممن عمل صالحا هنا لا يلاقي تسبيحا وتحسينا من المجتمع ، فلا يضيق بذلك أنه موعود هناك بالجزاء الكافي.

[٣٢] (أُولئِكَ) المؤمنون العاملون بالصالحات (لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي بساتين الخلود ، من عدن بالمكان إذا أقام فيه ، فإن كل مؤمن يعطى جنانا ، لا جنة واحدة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي من تحت قصورهم ، وهذا أكثر لذة ، من أن يكون النهر فوقهم ، كما في بعض الأراضي المنخفضة المجاورة للأنهر المرتفعة (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) أساور جمع سوار ، وهو ما يحلّى به اليد في عظم الذراع ، وهناك يكون السوار تحلية اليد للرجل كالمرأة ، وقد كانت الملوك سابقا يلبسون السوار ، ولذا أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض المسلمين ، بأنه يلبس سوار كسرى ، وكان كما ذكر (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) جمع

مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ

____________________________________

أخضر (مِنْ سُنْدُسٍ) هو الديباج الغليظ (وَإِسْتَبْرَقٍ) هو الديباج الرقيق ، والخشن أكثر هيبة ، كما أن اللين أكثر راحة للبدن (مُتَّكِئِينَ) أي في حالة هم متكئون (فِيها) في تلك الجنات (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السرير ، أو الذي في حجلة العروس خاصة (نِعْمَ الثَّوابُ) والجزاء ، ثوابهم وجزاؤهم (وَحَسُنَتْ) الأرائك (مُرْتَفَقاً) أي محل ارتفاق ومنزل مرافقة ، مقابل حال الظالمين ، الذي مرّ قبل أسطر.

[٣٣] وهنا يضرب سبحانه لحال المؤمن ، وحال الكافر مثلا ، فإن الكافر الذي يبطره النعيم ، وينسى الشكر ، ويظن أن الإكرام الذي أكرم به هنا باق له أبدا ، وإنه إذا انتقل إلى الدار الآخرة يكون له كل شيء مهيئ ، لكن نعمته ـ هنا ـ لا تدوم ، وهناك يؤخذ بما عمل هنا من السيئات ، حيث لا ينفع فيه وعظ المؤمن وإرشاده ، بل يركب رأسه ويسير في غلوّه (وَاضْرِبْ) يا رسول الله (لَهُمْ) أي لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان (مَثَلاً رَجُلَيْنِ) مؤمن وكافر (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) وإنما أتى بالتثنية دلالة للزيادة ، وقد ذكره علي بن إبراهيم قال : إنه يريد رجلا كان له بستانان كبيران كثيرا الثمار ، وكان له جار فقير ، فافتخر الغني على الفقير ، فقال له : أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (١) ، أقول :

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٤٢.

مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ

____________________________________

وإنما سميت الجنة جنة ، لأن الأشجار تجنها وتسترها (مِنْ أَعْنابٍ) مما يزيد جمال البستان بالعروش (وَحَفَفْناهُما) أي أطفنا بهما (بِنَخْلٍ) بأن كانت النخيل دائرة مدار الجنتين ، وفي وسطهما الكروم والأعناب (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) بين البساتين (زَرْعاً) فزرع متوسط ، ونخيل محيطة ، وأعناب محاطة ، هكذا كان منظر جنتي ذلك الرجل الظالم لنفسه ، بهذه الزينة والجمال.

[٣٤] (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) كانت في وقت الازدهار والثمار (آتَتْ) أي أعطت وأظهرت (أُكُلَها) أي ثمرتها وغلتها والأكل هو ما يؤكل من الثمار (وَلَمْ تَظْلِمْ) إحداهما (مِنْهُ) أي من الأكل (شَيْئاً) أي لم تنقص الثمرة ، وإنما أتت كاملة ، والإتيان بلفظ الظلم ، للمقابلة مع قوله سبحانه «وهو ظالم» فإن الجنة لم تظلم ، لكن الإنسان ظلم (وَفَجَّرْنا) أي شققنا (خِلالَهُما) وسط الجنتين (نَهَراً) يسقيهما ، فيكون الماء في وسط الجنة ، لسهولة السقي ، وهذا يوجب كون الجنة أجمل منظرا وأحسن ثمرا لسقاية الثمر بالماء الدائم.

[٣٥] (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) هذا كنتيجة ما تقدم ، فإن الإنسان إذا عدد أموال أحد ، يجمل القول ويقول «إن له مالا» يريد مالا عظيما (فَقالَ) هذا الرجل المالك للجنتين (لِصاحِبِهِ) أي صديقه المؤمن (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) يخاطبه في الكلام ، ويراجعه في القول (أَنَا أَكْثَرُ

مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)

____________________________________

مِنْكَ مالاً) فها أنا صاحب جنتين ، وأنت فقير (وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أقوى عشيرة ورهطا ، وإنما سميت العشيرة نفرا لأنهم ينفرون معه في حوائجه ، وكان هذا الكلام من الرجل الكافر ، كان تفنيدا لما يقوله المؤمن ، من أن المؤمن أكرم على الله ، فهو يريد أنه أكرم ، ولذا أعطاه الله هذا الملك والعشيرة ، بينما الرجل المؤمن لا مال له ولا رهط.

[٣٦] (وَدَخَلَ) الرجل الثري صاحب الجنتين (جَنَّتَهُ) بستانه (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفران والعصيان ، فقال كما يقول كل مغرور غافل (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) أي تهلك وتفنى ، من «باد» بمعنى هلك (هذِهِ) الجنة (أَبَداً) وهذا كلام الإنسان المغرور الكافر ، الذي لا يحسب لله سبحانه ولتقديره حسابا.

[٣٧] (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ) أي القيامة (قائِمَةً) فلا بعث هناك ولا حساب ، وما تقوله أنت أيها الصاحب المؤمن ، ليس إلا وهما وخرافة (وَلَئِنْ) صدق زعمك ، وكان هناك بعث وحساب و (رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) أي ردوني إليه بعد موتي (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) أي من هذه الجنة ، أو من هذه الحياة (مُنْقَلَباً) أي انقلابا ورجوعا ، فهو مصدر ميمي ، وهكذا يقول الكفار المغرورون بل يزعمون أنهم في الآخرة كرماء ، كما في

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨)

____________________________________

الدنيا ، أليس الله أعطاهم هذه النعمة لكرمهم عليه؟ فيعطيهم في الآخرة خيرا من ذلك ، لكن هناك يقال لهم (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)!! (١).

[٣٨] ولما أتم الكافر كلامه ، وأبدى غروره ودخيلة نفسه الجاهلة الغبية (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) أي صديقه المؤمن ، والصاحب كل من صحب الإنسان (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يخاطبه ويجيبه عما قال (أَكَفَرْتَ) أي هل كفرت أيها الصاحب الثري ، وهو استفهام إنكاري ، أي كيف تكفر (بِالَّذِي) أي الله الذي (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أولا (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ثانيا (ثُمَّ سَوَّاكَ) أي جعلك وعدلك (رَجُلاً) فإن التراب ينقلب نباتا ، ثم لحما في الحيوان ، أو فواكه ، فإذا أكله الإنسان ، انقلب منيّا ونطفة ينشأ منها الإنسان ، وبعد ذلك يشتد ويستوي حتى يكون رجلا ، وإنّما كفّره ، لأنه أنكر المعاد وشك فيه ، حيث قال (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي).

[٣٩] (لكِنَّا) أصله «لكن» «أنا» حذفت الهمزة تخفيفا ، وأدغمت النون في النون (هُوَ اللهُ رَبِّي) فإني أعتز بتوحيده ، واتباع سبيله ، إن اعتززت أنت بجنتك (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) أي لا أجعل أحدا شريكا معه في الألوهية والعبادة ، ولعله إنّما ذكر تلك تعريضا بالكافر الذي أشرك

__________________

(١) الدخان : ٥٠.

وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ

____________________________________

حيث رأى بعض الحول والقوة من غيره سبحانه ، إذ زعم أن جنته دائمة ، لا مدخلية للتقدير فيها.

[٤٠] ثم ندّد المؤمن بصاحبه الكافر وكفرانه للنعمة ، قائلا (وَلَوْ لا) هي كلمة ردع وتقريع ، أي هلّا (إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) بأن تكل الأمر إلى مشيئته ، وترى أن الجنة ، إنّما هي صارت بإرادته وتقديره (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فالإنسان مهما كان قويا ، ومدبّرا في أموره ، فإن ذلك كله من الله سبحانه ، إذن فالجنة منه سبحانه ، وإن توسط هناك تدبيرك وتقديرك للأمور وقوتك البدنية والفكرية (إِنْ تَرَنِ) أيها الصاحب الكافر (أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) أي إن كنت تراني اليوم ، فقيرا لا مال لي ، ولا أولاد ، كما قلت (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً).

[٤١] فليس ذلك دليلا على أن الله لم يرد بي خيرا ، فلعله ادخر لي ذلك في الآخرة ، أو يعطيني في المستقبل أكثر منك ، كما تقتضي مصلحته ، وتفضي إرادته (فَعَسى) أي لعل (رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ) أي يعطيني (خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) جنانا وأموالا (وَيُرْسِلَ) ربي (عَلَيْها) أي على جنتك (حُسْباناً) أي عذابا وإنما سمي العذاب به ، لأنه بالحساب والمقابلة لما عمل الإنسان من باب علاقة السبب والمسبب ، فإن الحساب للأعمال السيئة سبب للعذاب (مِنَ السَّماءِ) والمراد به الصاعقة ، أو الأمطار الغزيرة السائلة أو البرد القارس المفني (فَتُصْبِحَ) جنتك

صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً

____________________________________

(صَعِيداً) أي أرضا مستوية ، قد بادت أشجارها ، وانطمست أنهارها (زَلَقاً) يزلق عليها القدم ، وهذا مقابل قول الكافر (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً).

[٤٢] (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها) الجاري في أنهارها (غَوْراً) أي غائرا ذاهبا في الأعماق (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ) أي للماء (طَلَباً) فتموت الأشجار والزرع ، وتذهب طراوة الجنة والنهر ، وهنا انتهى الكلام بين الطرفين ، ولم يفد الكافر الإنذار والإرشاد ، فلننظر ماذا حدث بعد ذلك؟.

[٤٣] (وَأُحِيطَ) العذاب (بِثَمَرِهِ) فقد أرسل الله سبحانه نارا فاحترقت الأشجار ، وغارت الأنهار ، ومعنى أحيط ، أن العذاب أخذه من كل جانب ، كالمحيط بالشيء الذي يحيط من جوانبه الستة (فَأَصْبَحَ) الرجل الكافر (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) تحسرا وحزنا (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) أي في البستان ، من الأموال والأتعاب ، ومعنى تقليب الكف ، جعل ظهرها مكان بطنها ، وهو ما يفعله السائل ، والمتندم ، المحزون ، وكأنه إشارة إلى عدم الحيلة والمهرب ، كأن الأمر ظاهر لا يمكن الفرار منه ـ كبطن الكف ـ لا ملجأ والتواء ، حتى يخفي الإنسان نفسه هناك ليخلص من التبعة (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ، أي أن الجنة ساقطة على عروشها ، أي عروش الكروم ، فالعروش ساقطة ، والأشجار والنخيل ، فوق العروش ساقطة ، وذلك لأن السقف ينهدم أولا ، ثم ينهدم الحائط عليه (وَيَقُولُ) الكافر إذ رأى ذلك (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) فلم

(٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً

____________________________________

أكن أجعل من قوتي ومالي شريكا لله سبحانه فأظن أن القوة هي التي أشركت مع الله في إيجاد هذا البستان ، حتى أراني أنه الله سبحانه هو الوحيد في التأثير ، وأن القوة لا أثر لها إطلاقا ، كما قال صاحبي المؤمن «قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله».

[٤٤] وقد زعم الكافر أنه «أعز نفرا» فأين أنفاره في إنقاذه من هذا العذاب؟ (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ) أي للكافر (فِئَةٌ) أي جماعة ، وتسمى عشيرة الإنسان فئة ، لأنه يفيء إليهم ، ويرجع في أموره إلى رأيهم (يَنْصُرُونَهُ) حتى يحولوا بينه وبين العذاب الذي أحيط بثمره (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير الله سبحانه ، فالله سبحانه هو الناصر الوحيد ، ومن ليس مع الله لا ناصر له ، وإنما ينتصر بعض الكفار ، حيث أنه سبحانه يخلي بينه وبين النصرة المؤقتة (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ممتنعا بالنصرة عن العذاب ، فلا هو قدر على دفع العذاب ، ولا كان له فئة يتمكنون من ذلك.

[٤٥] (هُنالِكَ) أي في مثل ذلك المقام والحال ، حال إتيان العذاب ، لا يفيد الفئة والامتناع ، وإنما (الْوَلايَةُ) والتوالي للأمور ، والتصرف في الشؤون (لِلَّهِ الْحَقِ) فهو حق ، وما عداه باطل ، وإنما قال «هنالك» لأن الولاية في الظروف العادية ، التي أرسل الله الزمام فيها ، ولا يريد إنفاذ أمر للناس بعضهم لبعض ، أما إذا شاء شيئا ، فلو اجتمع أهل السماوات والأرض لا يقدرون على خلافه (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) من أموال الدنيا ، ألم يقل الكافر للمؤمن «لأجدن خيرا»؟ و «أنا أكثر منك مالا وأعز

وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)

____________________________________

نفرا»؟ كلا! إن ثواب الله خير ، وهو معدّ للمؤمن (وَخَيْرٌ عُقْباً) أي عاقبة ، فطاعته والإيمان به ، توجب خير العقبى ، لا الكفر والكفران.

[٤٦] لما أتم سبحانه هذا المثل ، جاء بمثل ثان منتزع عن المثل الأول ، فإذا بالحياة الدنيا كلها كتلك الجنة ، فإنها أمور مؤقتة لا بقاء لها ولا دوام ، فلا يطمئن الإنسان إليها ، وإنما يرجو ثواب الله ، ويعمل للآخرة الباقية (وَاضْرِبْ لَهُمْ) يا رسول الله (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كلها من أولها إلى آخرها ، فإنما مثلها كمثل ماء يعني المطر (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو (فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي بذلك الماء (نَباتُ الْأَرْضِ) إما المراد سقط على النبات ، وكان الاختلاط بهذا القدر مبالغة في بيان العادوية للحياة إلى هذا الحد ، فإن الماء الساقط على النبات سرعان ما يزول ، وإما المراد بيان السرعة في مجيء الحياة وذهابها ، كما أن الماء يسرع في تسبيبه لإنبات النبات ، حتى كأنه اختلاط لا إنبات بوقته الطويل (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي كسيرا مفتتا حين اليبس ، وكان لحظة لم تمر ، وإذا بالحياة تذهب وتذبل ، وإذا بالحي يتهشم ويتحطم ويتكسر (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) فتنقله من موضع إلى موضع ، وتفرقه ، حتى يكون مبدّدا ، كأن لم يكن (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) لا يمتنع عليه شيء ، فهو المنشئ المفني ، ولا يخرج شيء عن طوق قدرته ، فلا يظن أحد بما أوتي من طول وقوة ، أنه قادر على أن يخرج من سلطان الله.

الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ

____________________________________

[٤٧] وإذا رأينا الحياة الدنيا وعرفنا قدرها ومدتها وقيمتها ، فليعرف الإنسان ما هو مربوط بهذه الحياة ، وما هو مربوط بتلك الحياة ، حتى يعرف ما ينبغي أن يهتم به مما ينبغي أن لا يهتم به (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) فهما مما يتزين الإنسان بهما في هذه الحياة (وَ) الأعمال (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) وهي الحسنات التي أريد بها وجه الله سبحانه ، فإنها هي التي تبقى وتصلح للإسعاد ، وكان الإتيان ب «الباقيات» ، لأن المقام مقام ما يفنى وما يبقى (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) إن ما يرجع على الإنسان من تلك الباقيات ـ وهو الثواب ، لأنه من تاب إذا رجع ـ خير مما يرجع إلى الإنسان من المال والبنون ، فإن ما يرجع من المال والبنون ، إنما هو خاص بهذه الحياة ، أما ما يرجع منها ، فإنه عند ربك ، ولديه ، وما عند الله خير وأبقى (وَخَيْرٌ أَمَلاً) فإن أمل الإنسان في الباقي ، خير من أمل الإنسان في الفاني ، ولا يخفى أن المال والبنين إذا أريد بهما وجه الله سبحانه ، دخلا في الباقيات الصالحات ، وكانا مصداقا للزينة ، والبقاء معا ، كما قال سبحانه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (١) وكما أن ما في بعض الروايات ، من مصاديق الباقيات الصالحات.

[٤٨] (وَ) إذ ذكر الباقيات الصالحات ، فلنعرف وقت ذلك ، فاذكر يا رسول الله (يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي نجعلها تسير ، فإن من أهوال القيامة ، أن الجبال تنقلع وتأخذ في السير ، وتكون كالهباء المنثور (وَتَرَى الْأَرْضَ) كلها

__________________

(١) البقرة : ٢٠٢.

بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)

____________________________________

(بارِزَةً) ظاهرة لا يكنها جبل ، أو بناء ، أو شجر ، فلا ترى فيها عوجا ، ولا أمتا (وَحَشَرْناهُمْ) أي جمعنا البشر كلهم ، بأن نحييهم ونجمعهم في موقف واحد (فَلَمْ نُغادِرْ) أي لم نترك (مِنْهُمْ أَحَداً) والمغادرة الترك ، ومنه الغدر لأنه ترك الوفاء ، والغدير لأنه يترك فيه الماء.

[٤٩] (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) أي أن البشر جميعهم يعرضون على الله سبحانه يوم القيامة ، وهذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، إذ الإنسان دائما عند الله سبحانه ، وفي علمه وتحت سمعه وبصره ، لكن هناك يتمثل الإنسان كالذي يعرض أمام الحاكم ليحكم عليه (صَفًّا) أي في حال كونهم مصطفين صفا ، صف الأخيار وصف الفجار ، وهكذا كل جنس مع جنسه ، وكل مذهب مع رئيسه ، كما قال سبحانه (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (١) ويقال لهم من قبله سبحانه (لَقَدْ جِئْتُمُونا) أيها البشر (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) عراة حفاة عزلا ضعفاء عاجزين منفردين ليس معكم شيء من أموال الدنيا ومناصبها ، وسائر زهرتها ، ولم تكونوا تزعمون ذلك (بَلْ زَعَمْتُمْ) وظننتم في دار الدنيا (أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) في القيامة للحساب والجزاء ، وهذا إنما يقال بالنسبة إلى الكفار ، فإن الكلام حولهم الآن ـ عند تبليغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم الأحكام ـ.

__________________

(١) الإسراء : ٧٢.

وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)

____________________________________

[٥٠] (وَ) هنالك (وُضِعَ الْكِتابُ) أي يوضع كتاب أعمالهم ، فإن المستقبل المحقق الوقوع ، ينزل منزلة الماضي ، والكتاب اسم جنس ، أي جنس الكتاب المكتوب فيه أعمال العباد ، ووضعه إنما هو للمحاسبة وإعلام كل أحد بما عمل وما يجزى (فَتَرَى) يا رسول الله ، أو كل من يأتي منه الرؤية (الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا ، واقترفوا الكفر والعصيان (مُشْفِقِينَ) أي خائفين ، من الإشفاق بمعنى الخوف ، ويقال للصديق «مشفق» لأنه يخاف على صديقه من العطب (مِمَّا فِيهِ) أي مما في الكتاب من بيان أعمالهم السيئة (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) أي يا قوم ويلنا ، أو يا ويلنا احضر فهذا وقتك ، وهذه لفظة قد يدخلها الثأر ، يقولها الإنسان ، إذا وقع في شدة ، وكان الأصل فيها ، أن يدعو الإنسان على نفسه بالهلاك ، ليستريح من هذه الشدة (ما لِهذَا الْكِتابِ) أي أيّ شيء لكتاب عملنا (لا يُغادِرُ) أي لا يدع ولا يترك سيئة (صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) وعدّها وأدرجها ، وأصل «ما لهذا» استفهام عن النفع العائد إلى الشخص العامل عملا ، تقول «ما لزيد يتكلم بهذا»؟ إي أيّ نفع له ، ثم استعمل في كل استفهام استنكاري ، تقول ما لهذا الحائط مائل؟ وما لهذا الحيوان مريض؟ وهكذا (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أمامهم ، لا مهرب لهم عنها ، مقابل الإنسان الذي يعمل عملا ، ثم ينساه ، وينسى المجتمع له ، فكأنه غائب (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) وإنما يعطيهم جزاء أعمالهم ، فلا يثبت

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)

____________________________________

لهم سيئة لم يقترفوها ، ولا يزيد في جزاء سيئة اقترفوها ، وإن كان الأنسب بالسياق الأول ، وبالعموم اللفظي الثاني ، بل هو أعم ، فيشمل حتى المؤمنين ، فإنه سبحانه لا يظلمهم بعدم جزاء حسناتهم ، أو التنقيص من أجورهم.

[٥١] إن المجرمين الذين لهم ذلك المصير المخزي ، ليعلموا أنهم يتركون عبادة الله ، إلى عبادة شيطان فاسق هو لهم عدو ، فليرأبوا بأنفسهم عن إطاعة مثله (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) في بدء خلقة البشر (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) وهو الشيطان (كانَ مِنَ الْجِنِ) الساكنين في الأرض ، ثم ارتفع مقامه بالعبادة حتى صار في زمرة الملائكة ، وشمله أمر السجود (فَفَسَقَ) أي خرج (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) إذ لم يسجد لآدم كبرا وحسدا ، والفسق ، بمعنى الخروج ، ويسمى الفاسق فاسقا ، لأنه خارج عن طاعة الله ، وإذ عرفتم أيها المجرمون أصل الشيطان ، ومصيره الذي آل إليه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) تتبعونهم وتطيعونهم ، وقد ورد أن للشيطان نسلا ، ولكن بدون ازدواج (مِنْ دُونِي) أي من دون الله سبحانه (وَ) الحال أن (هُمْ) أي الشيطان وذريته (لَكُمْ) أيها المجرمون (عَدُوٌّ) وهذا استفهام استنكاري ، فكيف يترك الإنسان من يحبه ليتولى من يعاديه؟ (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) أي إن الشيطان بئس البدل الذي اختاروه على الله سبحانه.

ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ

____________________________________

[٥٢] وكيف تتولون الشيطان وذريته ، مع إن الله هو الخالق والعالم ، وأنه هو المتفرد الوحيد في الكون ، فليس الأبالسة لهم حضور وقت خلق السماوات والأرض ، حتى يكون لهم علم ومعرفة بالأمور ، ولا أنهم أعضاء الله في الخلق وتسيير الكون حتى يكون لهم قوة ودخالة في الشؤون ، والإنسان لا يتملق إلا للعالم القوي المشارك؟ (ما أَشْهَدْتُهُمْ) أي ما أحضرت إبليس وذريته ، وما اتخذتهم شهودا على (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حتى يعرفوا الأسرار والكون ، ويكون لهم هذا الشرف ، حتى يقول أحد من حضر خلق الكون ، لا بد وأن يكون له منزلة ، ومقام يستحق به التولي والإطاعة (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) فلا كان بعضهم حاضرا وشاهدا عند خلقي لبعضهم الآخرين ، أو المراد أن أرواحهم لم تحضر خلق أجسادهم ، فإن الأرواح ـ في البشر ـ كانت مخلوقة قبل خلق الأجساد (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) أي الشياطين الذين يضلون البشر ويغوونهم (عَضُداً) أي عونا في تسيير الكون ، والإتيان ب «المضلين» عوض الضمير ، ك «هم» كبيان علة لعدم الاتخاذ ، وتقريع لمن يتخذهم أولياء ، فالله العالم الحكيم لم يتخذ الشيطان عونا ، فكيف يتخذه الإنسان وليا؟ ثم أنه سبحانه لا يتخذ أي أحد عضدا ، وإنما جيء هنا بهذا مجاراة في الكلام.

[٥٣] قد علمنا مبدأ الشيطان ، وعلمنا أنه لم يشهد شيئا ، ولا أشرك في شيء ، فلنرى مصيره ومصير المجرمين الذين اتخذوه وليا من دون الله ، وأطاعوه (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يَقُولُ) الله سبحانه ،

نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)

____________________________________

وهو يوم القيامة ، فإنه سبحانه يخاطب المشركين قائلا (نادُوا) أيها المجرمون (شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم شركاء معي في الألوهية ، كذبا وافتراء ، نادوهم ليدفعوا عنكم العذاب وينصرونكم في هذا الموقع العصيب (فَدَعَوْهُمْ) أي دعا المشركون الشركاء ، واستنجدوا بهم (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) مجرد إجابة ، فكيف بالانتصار والتخليص (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي بين المشركين وبين آلهتهم (مَوْبِقاً) أي محل هلاك ، وهو اسم مكان من وبق بمعنى هلك ، ولعل المراد أن العلاقة الكائنة بين الكفار وآلهتهم ، إنما هي علاقة هلاك وخزي ، مقابل علاقة المؤمنين بالله سبحانه ، فإنها علاقة نجاة وفوز.

[٥٤] (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) التي أوقدت لهم (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) وإنما جيء بالظن إشعارا لحالة المجرم ، فإنه يحتمل أن ينجو بشفاعة أو نحوها ، وهكذا نفسية كل إنسان يرى العقاب المحقق ، فإن نفسه تبقى في حال تردد وإن كان أغلب ظنه الهلاك ، وحلول العقاب به ، والمواقعة هي ملابسة الشيء بشدة ، ومنه وقائع الحرب ، وكأنه جيء من باب المفاعلة ، للدلالة على أن الشيئين وقع كل واحد منهما على الآخر بشدة ، حتى أن الواقع دخل في ذلك ، وذلك دخل في الواقع ، فالمجرمون يقعون في النار ، والنار تدخل أجوافهم (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها) أي عن النار (مَصْرِفاً) أي موضعا ينصرفون إليه منها.

وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥)

____________________________________

[٥٥] لقد كان لهم مصرف عن النار ، لو أنهم صرفوا قلوبهم إلى ما جاء في القرآن من المثل ، فاهتدوا بهداه ، وانتهجوا منهاجه ، لكنهم لم يؤمنوا ، فصار أمرهم إلى الخسار والنار (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ينتفعون به ، لو أنهم وعوا وأرادوا الرشد ، ومعنى التصريف ، ترديد الأمثال في قوالب شتى وألبسة مختلفة ، فصرفنا الأمثال ، ليجدوا في الآخرة المصرف عن النار (وَ) لكن لم ينتفعوا فقد (كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ) أنه شيء خلقه الله ، كما خلق سائر الأشياء ، لكن تلك الأشياء تخضع لأوامره طائعة ، أو سائلة ـ كما رأينا في الملائكة عند خلق آدم ـ أما الإنسان فإنه أكثر شيء (جَدَلاً) فإنه يجادل في الحق ، وإن رآه ، وأخيرا يغلب هواه على الحق ، ـ إلا من عصمه سبحانه ـ.

[٥٦] (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) استفهام إنكاري ، أي أيّ شيء يمنع الإنسان عن الإيمان بعد أن رأى الهداية ، ودل على الطريق (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) لما فات منهم من الذنوب والآثام (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي عادتنا الجارية في الأمم السابقة ، الذين كانوا يكذبون الرسل حتى تأتيهم العقوبة الصارمة فتهلكهم (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) أي مقابلا لهم ، ومواجها إياهم ، من غير أن يأخذهم ،

وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها

____________________________________

فيؤمنوا خوفا وجبرا ، والمعنى أنهم بامتناعهم عن الإيمان ـ بعد مجيء الهدى ـ بمنزلة من يطلب الهلاك ، أو يطلب أن يرى العذاب ، فيؤمن خوفا من حلوله به ، إن لم يؤمن ، وهذا كقولك لابنك : إنك لا تقبل قولي ، إلا أن تضرب ، أو ترى العصا مرفوعة لضربك.

[٥٧] وهل الإتيان بالعذاب لإهلاكهم ، أو لجبرهم على الإيمان ، من شأن المرسلين؟ كلا إن شأنهم هو البلاغ ، أما العذاب ، فإنه بيد الله ، لا يرسله إلا لمصلحة وحكمة (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) لمن آمن وأطاع بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) لمن كفر أو عصى بالعقاب (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) فيناظرون مع الرسول والمؤمنين ، بما هو باطل ، وغير حقيقة (لِيُدْحِضُوا) أي ليزيلوا (بِهِ الْحَقَ) ويبطلوه انتصارا لدينهم ، وطريقتهم المنحرفة (وَاتَّخَذُوا) أي الكفار (آياتِي) يعني القرآن (وَما أُنْذِرُوا) به البعث والنار (هُزُواً) أي مهزوّا به ، فإنهم يسخرون من هذه الآيات والإنذارات ، وسيصلون إلى جزاء أعمالهم.

[٥٨] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي ليس أحد أكثر ظلما من مثل هذا الشخص ، الذي يذكّر بآيات الله ، بأن يذكره النبي بالأدلة على وجود الله وعلمه وقدرته (فَأَعْرَضَ عَنْها) ولم ينتفع بها ، و «من أظلم» إضافي لا حقيقي ، ككثير من أمثاله المستعملة في القرآن الحكيم ، فإن البلاغة تقتضي ملاحظة الظروف المحيطة والملابسات ، في النفي

وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

____________________________________

والإثبات والحصر وما أشبه ، فإذا سأل أحد الطلاب ، هل في المدينة أحد؟ أراد من الطلاب ، وإذا سأل التاجر من زميله ، هل هناك شيء؟ أراد التجارة ، وإذا قال الإنسان لا دولة أقوى من الدولة الفلانية ، أراد من الدول المعاصرة ، وهكذا إذا قال أحد لا أشقى من هذا الرجل «في قصة قتل وقعت ، مثلا» أراد في هذه القصة ، وهكذا مثله كثير في القرآن مثل (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (٢) (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٣) إلى غير ذلك (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي نسي المعاصي التي صدرت منه ، وكأنه قدمها لآخرته ، وإنما نسبت إلى اليد ، لأن اليد هي العضو العامل في البدن كثيرا ، وإلا فالمعاصي تصدر من جميع الأعضاء ، فذلك بعلاقة الجزء والكل ، كاستعمال الرقبة ، وإرادة الإنسان ، والتذكير باعتبار أن في فطرة الإنسان دلالات على الصانع ، فالأنبياء يذكرون الإنسان ، كما أن النسيان يراد به عدم المبالاة وإن كان ذاكرا لها ، والإنسان إذا استمرأ المعاصي ، تكون ملكة له ، حتى إن قلبه لا يستعد لقبول الحق ، كأنه في غشاء ، وحتى إن أذنه لا تستعد لاستماع الحق ، كأن فيها وقرا ، وهذا ينسب إليه سبحانه ، لأنه خلق الإنسان هكذا ، بحيث أنه إذا تمادى في شيء صار ملكة له ، ولأنه تعالى يترك الإنسان ، حتى يتردى ، فلا يجبره على الإطاعة والإيمان ، (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قلوب هؤلاء الكفار (أَكِنَّةً) وهي جمع كنان بمعنى

__________________

(١) البقرة : ٤٨.

(٢) البقرة : ١١٥.

(٣) آل عمران : ٤٣.

أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)

____________________________________

الغشاء (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يفهموا القرآن ، بعد ما أعرضوا عن الحق (وَفِي آذانِهِمْ) جعلنا (وَقْراً) أي ثقلا ، تشبيه بالذي في أذنه صمم ، حيث لا يسمع أصلا (وَإِنْ تَدْعُهُمْ) يا رسول الله (إِلَى الْهُدى) لأن يهتدوا ويسلكوا السبيل الصحيح (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً) أي حين تمادوا في الغي حتى جعل على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا (أَبَداً) وعدم اهتدائهم ليس بالجبر ، وإنما بالاختيار ، أي إنهم ما داموا كذلك لا يهتدون.

[٥٩] (وَرَبُّكَ) يا رسول الله (الْغَفُورُ) الذي يستر على عباده كثيرا ، وإن استحقوا الفضيحة (ذُو الرَّحْمَةِ) يرحمهم ويتفضل عليهم ، وإن أثموا وحادوا ، ولذا لا يعجّل لهؤلاء بالعذاب ، وإن علم أنهم لن يهتدوا أبدا (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) الله (بِما كَسَبُوا) من الكفر والآثام ، أي لو أراد أخذهم ـ فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة ـ (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في الدنيا ، وأهلكهم كما أهلك القرون السابقة ، لما انقطع عنهم الرجاء (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) لأخذهم ، والانتقام منهم (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ) أي دون ذلك الموعد (مَوْئِلاً) أي محل التجاء وفرار ، فهو الموعد الذي لا بد أن يصلوا إليه ، ولا يكون دونه محل آخر يفرون من الموعد إلى ذلك المحل ، وهذا من باب التشبيه ، ومجمل المعنى ، أن الله من

وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى

____________________________________

رحمته وفضله ، لا يأخذ هؤلاء فورا ، بل أنه تفضل عليهم بامتداد أجلهم إلى موعده ، وذلك منتهى الرجاء العادي في إيمانهم ، أما إذا لم يؤمنوا وجاء الموعد ، فلا مناص ، ولا خلاص.

[٦٠] ولا يغرنّ هؤلاء طول بقائهم في الدنيا ألا يعتبرون بالقرى التي أهلكناها حين ظلموا وعتوا؟ (وَتِلْكَ الْقُرى) أي قرى عاد وثمود ، وقوم لوط ونوح ، وغيرها (أَهْلَكْناهُمْ) أي أهل القرية (لَمَّا ظَلَمُوا) بتكذيب الأنبياء ، والعصيان عن أوامر السماء (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) أي هلاكهم ، فالمهلك مصدر ميمي (مَوْعِداً) خاصا ، فلم نأخذهم حتى وصلوا إلى ذلك الموعد ، وحينذاك حل بهم العقاب.

[٦١] وإذ أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بقصة أصحاب الكهف ، سألوه عن قصة العالم الذي أمر الله موسى أن يتبعه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، وهذه القصة تشترك مع القصة السابقة ، في اشتمالها على بعض آيات الله سبحانه «كإحياء السمكة» كما أنها تشترك مع تلك في سير موسى كأصحاب الكهف ، سيرا إلى الله سبحانه ولمرضاته (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ مُوسى) بن عمران نبي بني إسرائيل ، صاحب الدعوة المشهورة التي اعتنقتها اليهود (لِفَتاهُ) أي شابه الذي كان يلازمه ويخدمه ، وهو يوشع بن نون ، وقد كان وصيا لموسى ، إن الله قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين ، وأتعلم منه فتزود يوشع حوتا مملوحا وخرجا (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال أسير إلى المقصد الذي أمرني الله (حَتَّى

أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢)

____________________________________

أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) فيه أقوال وقد رجح بعض أهل الاطلاع ، أنه محل التقاء البحر الأحمر والبحر الأبيض ، أو مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر ، وقد كان الموعد هناك (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي زمانا طويلا ، وهذا كما يقول القائل أسير وراء مطلبي إلى النجف ، أو إلى ما شاء الله ، فيما كان أكثر الاحتمال وجود المطلب في النجف ، والحقب الدهر ، أو ثمانين سنة ، والمراد : السير حتى الوصول إلى المطلب.

[٦٢] (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي محل اجتماع البحرين (نَسِيا حُوتَهُما) فقد ورد أنهما هناك رأيا إنسانا ، وذهب يوشع لغسل السمكة ، فحييت بإذن الله سبحانه ، وفلتت من يد يوشع في البحر ونسي يوشع القصة ، كما نسي موسى عليه‌السلام أن يسأله ، ثم أخذا يسيران (فَاتَّخَذَ) الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) أي السبيل الذي اختاره (سَرَباً) أي مسلكا يذهب فيه.

[٦٣] (فَلَمَّا جاوَزا) أي موسى عليه‌السلام ويوشع ، ذلك المكان ، وأخذا يسيران ، أحس موسى عليه‌السلام بالجوع (قالَ) موسى (لِفَتاهُ) يوشع (آتِنا) أي جئ إلينا (غَداءَنا) أي طعامنا للغداء (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي تعبا وشدة ، فلنأكل الحوت لنتقوى ، ويذهب التعب عنا.

قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ

____________________________________

[٦٤] (قالَ) يوشع في جواب موسى (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا) أي هل تذكر زمان نزلنا (إِلَى الصَّخْرَةِ) التي كانت هناك عند مجمع البحرين ، أو المراد أرأيت ما دهاني ، على نحو الاستفهام الاعتذاري (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) الذي كان معنا ، ولعله عليه‌السلام كان نسي الحوت عند غسله ، أو المراد أنه نسيه بعد ما وضعه على الصخرة ، كما في بعض التفاسير ، ثم اعتذر من موسى عليه‌السلام أنه لم يخبره بقصة الحوت قائلا (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) بضم الهاء في «أنسانيه» لأنه يجوز فيه أربعة أوجه «بالضم» و «الكسر» وفي كل واحد منهما بالإشباع ، وبدونه ، هذا حسب الأصل ، لكن في القرآن بالضم (أَنْ أَذْكُرَهُ) في موضع نصب بدل من الهاء في أنسانيه ، أي ما أنساني أن أذكره إلا الشيطان ، وذلك لأنه لو ذكر لموسى عليه‌السلام قصة الحوت عند الصخرة ، لما جاوزها موسى (وَاتَّخَذَ) الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) فإنه قد حيي وفلت من يدي ، وعجبا منصوب مصدرا نوعيا ، أي اتخاذا عجبا ، أو سبيلا عجبا ، فقد ذكر بعض المفسرين أن الماء انجاب عن الحوت ، وبقي كالكوّة في البحر (١).

[٦٥] ولما سمع موسى عليه‌السلام بقصة الحوت (قالَ ذلِكَ) الذي تقوله ، من أن الحوت قد حيي (ما كُنَّا نَبْغِ) أي نبغي ونطلب ، وحذف «يا» يبغ ، تخفيفا ، فقد كانت حياة الحوت آية ذلك الرجل الذي أطلبه ، ولعل الله

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٦٤.

فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦)

____________________________________

سبحانه كان أخبر موسى عليه‌السلام ، بأن آية ذلك الرجل ظهور خارقة منه ، لا كما قيل أن الآية كانت إحياء السمكة الميتة ، حتى يقال : كيف يجوز ـ على هذا ـ أن يقصد موسى أكل السمكة ، حين قال لفتاه آتنا غداءنا؟ (فَارْتَدَّا) أي رجع موسى عليه‌السلام وفتاه (عَلى آثارِهِما) أي الآثار التي تعديا منها يريدان نفس الطريق الذي سارا فيه (قَصَصاً) من قصّ ، بمعنى اتبع الأثر ، فهو مفعول مطلق لقوله «ارتدا» أي ارتدا ارتدادا ورجعا رجوعا.

[٦٦] ولما وصلا إلى محل الحوت (فَوَجَدا) موسى وفتاه (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) هو خضر عليه‌السلام ، وقد ورد أنه كان نبيا مرسلا ، بعثه الله إلى قومه ، فدعاهم إلى توحيده ، والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه ، وكانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة ، ولا أرض بيضاء ، إلا اهتزت خضراء ، وإنما سمى خضرا لذلك ، وكان اسمه «بليابن» (آتَيْناهُ) أي أعطيناه (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي فضلا من طرفنا ، وكل رحمة من عنده سبحانه ، وإنما الإتيان هنا بذلك للإشارة إلى فضله سبحانه عليه ، وقد كان من فضله سبحانه عليه النبوة ، وطول العمر ، وغيرهما (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) فكان علمه غير محتاج إلى التحصيل.

[٦٧] (قالَ لَهُ مُوسى) بعد التعارف والتسليم (هَلْ أَتَّبِعُكَ) يا خضر ـ ومن هنا يسدل الستار على أمر فتى موسى عليه‌السلام وكأنه رجع من هناك ، فلم يكن معهما بعد التلاقي ـ (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي هل

قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)

____________________________________

تجوّز لي ، أن أكون معك ، لتعلمني من بعض علومك التي علمك الله إياها ، أي علما ذا رشد ، وهو علم الغيب ، ويظهر من الحوار والنتائج في تصرفات الخضر ، أن موسى أراد أن يرى كيفية علم الغيب ، لا أن يتعلم هو ذلك ، فالمراد من أن تعلمني أن تريني بعض علم الغيب ، كيف تعمل بما تظهر نتائجه بعدا ومستقبلا؟.

[٦٨] (قالَ) خضر لموسى عليه‌السلام (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي يثقل عليك الصبر ، بحيث لا تطيقه ، ولقد كان موسى عليه‌السلام مأمورا بالظاهر ، فلا يعمل عملا ، إلا إذا أتمت موازينه ومقاييسه الشرعية ، أما خضر عليه‌السلام ، فقد كان يعلم بالغيب ويعمل بحسبه ، ولا مانع من أن يرسل الله نبيا بهذا ، ونبيا بذلك ، وقد استدل بعض بذلك ، على أن للشريعة ظاهرا وباطنا ، لكن فيه أنه لم يدل دليل على مثل ذلك في شريعة الإسلام.

[٦٩] ثم قال خضر لموسى عليه‌السلام (وَكَيْفَ تَصْبِرُ) يا موسى (عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) بما ترى ظاهره منكرا ، ولا تعلم باطنه؟

[٧٠] (قالَ) موسى عليه‌السلام (سَتَجِدُنِي) يا خضر (إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) لما أراه منك مما لا أعلم وجهه (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) فلا أخالفك فيما تأمرني به من الصبر ، حتى ينكشف وجه الحكمة ، لكن الله سبحانه لم يشأ ذلك ، إذ لم يقوّ في موسى عزيمة الصبر ، ولذا سأل ، ولم يصبر ، ولم يكن ذلك خلفا لوعده ، حتى يقال كيف خلف النبي الوعد؟.

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي

____________________________________

[٧١] (قالَ) خضر عليه‌السلام (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) وكنت معي تشاهد بعض الأشياء ، التي لا تستقيم مع ظواهر الشريعة (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) تراه (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) فإني أنا أفسره لك فيما بعد ، وعلى هذا القرار تبع موسى خضرا عليه‌السلام.

[٧٢] (فَانْطَلَقا) معا يمشيان على شاطئ البحر (حَتَّى) وصلا إلى سفينة و (إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) خضر ، بأن قطع بعض ألواحها ، حتى دخلها الماء (قالَ) موسى مستنكرا هذا العمل (أَخَرَقْتَها) يا خضر (لِتُغْرِقَ أَهْلَها)؟ فما هذا العمل العجيب منك؟! ـ (لَقَدْ جِئْتَ) يا خضر (شَيْئاً إِمْراً) أي منكرا عظيما ، فإن إمر في اللغة ، بمعنى الداهية العظيمة ، وهو مشتق من الأمر ، لأنه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه.

[٧٣] (قالَ) خضر (أَلَمْ أَقُلْ) لك (إِنَّكَ) يا موسى (لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فقد شرطت على اتباعك لي أن تصبر ، فكيف اعترضت عليّ هذا الاعتراض ، ولم تصبر حتى أحدثك بالنتيجة؟

[٧٤] (قالَ) موسى عليه‌السلام بعد أن تذكر الشرط (لا تُؤاخِذْنِي) يا خضر (بِما نَسِيتُ) من الشرط حين سألتك واعترضت عليك (وَلا تُرْهِقْنِي

مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)

____________________________________

مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تكلفني مشقة ، بل عاملني باليسر ، يقال أرهقه عسرا إذا كلفه أمرا يثقل عليه ، وقد قال جماعة إن النسيان هنا ، وفي قوله «نسيا حوتهما» وقوله في قصة آدم «فنسي» وما أشبه يراد به الترك ، لا النسيان الذي هو ضد الذكر ، وإنما يطلق على الترك النسيان ، لأنه من أسبابه ، وشبيه به في النتيجة ، كما قال سبحانه (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) مع أن الله سبحانه لا ينسى ، وقوله (نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (٢) وإنما قالوا ذلك ، لما دل على أن الأنبياء عليهم‌السلام معصومين من السهو والنسيان والخطأ ، وما أشبه.

[٧٥] وقبل خضر من موسى عذره وأو صلتهما السفينة إلى المحل المقصود ونزلا منها (فَانْطَلَقا) يمشيان (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) أي ولدا وقد كان غلاما يلعب مع الصبيان ـ كما في بعض التفاسير (٣) ـ (فَقَتَلَهُ) أخذ خضر سكينا ، وقتل الغلام بلا سوء ، ولا جهة ظاهرة (قالَ) موسى عليه‌السلام مستوحشا من هذا العمل العجيب ، بلا مبرر ظاهر (أَقَتَلْتَ) يا خضر (نَفْساً زَكِيَّةً) أي طاهرة من الذنوب (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير إن كان قتل نفسا ، حتى يستحق القصاص؟ فما هذا العمل منك يا خضر (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي منكرا فظيعا.

__________________

(١) التوبة : ٦٧.

(٢) الجائية : ٣٥.

(٣) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٦٩.

تقريب القران الى الأذهان

الجزء السّادس عشر

من آية (٧٦) سورة الكهف

إلى آية (١٣٦) سورة طه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ

____________________________________

[٧٦] (قالَ) خضر لموسى عليه‌السلام (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لما تبعتني مشترطا بأنك لا تعارضني في أعمالي ، حتى أبين لك وجهها فيما بعد؟

[٧٧] (قالَ) موسى عليه‌السلام معتذرا (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه المدة (فَلا تُصاحِبْنِي) ، لا تتركني أصحبك (قَدْ بَلَغْتَ) يا خضر (مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) ، قد أعذرت فيما بيني وبينك و «عذرا» مفعول بلغت ، أي قد بلغت إلى حال يعذرك الناس بالنسبة إلي لو نحيتني عن نفسك ، فلقد خولف الشرط ـ حينذاك ـ ثلاث مرات.

[٧٨] (فَانْطَلَقا) يمشيان (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) وهي قرية ناصرة ، التي سميت النصارى بهذا الاسم لانتسابهم إلى هذا المحل (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي سألاهم الطعام (فَأَبَوْا) ، أهل القرية (أَنْ يُضَيِّفُوهُما) ، أن يقبلوهما ضيفين ، يقال ضيف زيد عمروا ، أي قبله ضيفا عنده (فَوَجَدا) خضر وموسى (فِيها) ، في تلك القرية (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) وصف الجدار بالإرادة مجاز ، لأنه شبيه بالمريد ، في أنه انحنى مائلا للانهدام ، والانقضاض بمعنى السقوط بسرعة (فَأَقامَهُ) ، سواه وعدله (قالَ) موسى كيف تصلح شؤون هؤلاء ، وهم قد بخلوا

لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)

____________________________________

عليك بالضيافة (لَوْ شِئْتَ) هذا العمل (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لكي نسد بذلك الأجر جوعنا؟

[٧٩] ولما اعترض موسى عليه‌السلام على خضر هذا الاعتراض الثالث (قالَ) خضر (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي هذا وقت الفراغ ، أو هذا الإنكار علي هو المفرق بيننا ، لأنك قلت (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) (سَأُنَبِّئُكَ) يا موسى أي أخبرك ، ولعل دخول السين لأجل إن بين هذه القضية وبين الإخبار ، كان فصل زمان قليل (بِتَأْوِيلِ) بتفسير ، وإنما سمي تأويلا ، لأن تلك الأعمال إنما صدرت لأجل ذلك الأول والأخير ، الذي ترجع إليه (ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فبادرت بالاعتراض ، والسؤال عنها.

[٨٠] (أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقتها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) ملكا لهم ، والمراد بالمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة ، فلا يقدرون على حركة يقدر عليها الأغنياء (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) يتعيشون بهذه السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، أحدث فيها عيبا ، يسبب عدم الرغبة فيها (وَكانَ وَراءَهُمْ) أي في عقب هؤلاء المساكين أصحاب السفينة (مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صالحة (غَصْباً) أما إذا كانت السفينة معيبة ، فإن الملك لم يكن يأخذها ، ويعيرها أهمية ، فأردت إبقاء هذه السفينة بيد أصحابها

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ

____________________________________

المساكين ، وإنقاذها من يد الغاصب.

[٨١] (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتله (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) وكان هو كافرا ـ كما يظهر من القرينة ـ (فَخَشِينا) إن بقي في الحياة (أَنْ يُرْهِقَهُما) الإرهاق ، إدراك الشيء بما يغشاه وغلام مراهق إذا قرب أن يغشها حال البلوغ ، أن يغشي الغلام أبويه ، ويتسلط عليهما (طُغْياناً وَكُفْراً) فيطغيان ويكفران ، ثم إن الخشية كانت علما ، فإنها تستعمل مع العلم والشك ، والظن والوهم.

[٨٢] (فَأَرَدْنا) بقتل الغلام (أَنْ يُبْدِلَهُما) الأبوين (رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) ، من هذا الغلام (زَكاةً) ، طهارة ، وإنما قال ذلك مقابل قول موسى عليه‌السلام ـ نفسا زكية ـ (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي أرحم بالأبوين ، فإن رحم بمعنى رحمة ، والمراد «الخير» عرفا ، لا حقيقة ، إذ لا خير في الكافر ، حتى يرجح المؤمن عليه بصيغة التفضيل ، وقد ورد أن الله سبحانه عرض لهما بجارية كانت أم جماعة من الأنبياء.

[٨٣] (وَأَمَّا الْجِدارُ) الذي أقمته ، ولم أتخذ أجرا عليه فإنما أقمته لأنه كان (لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) أي في المدينة التي استطعمنا أهلها ، فلم يضيفونا (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) ورد أنه كان لوحا من ذهب ، فيه كلمات من الإيمان فكان كنزا مالا ، وكنزا علما (وَكانَ

أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)

____________________________________

أَبُوهُما صالِحاً) قد دفن هذا الكنز للغلامين ، وجعل الجدار علامة له ـ ولعله كان قد أوصى بعض خواصه ، أن الغلامين إذا كبرا ، فليذهبا إلى محل الجدار ليجدا فيه إرثا لهما مني ـ وحيث إن الجدار إذا سقط ذهب الأثر ، ولم يصل الإرث إلى الغلامين ، وأراد سبحانه انتفاعهما به لصلاح أبيهما ، أمرني بإقامة الجدار (فَأَرادَ رَبُّكَ) يا موسى (أَنْ يَبْلُغا) أي يبلغ الغلامان (أَشُدَّهُما) يكبرا ويعقلا ويبلغا قوتهما (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) لينتفعا به علما ومالا (رَحْمَةً) وفضلا (مِنْ رَبِّكَ) عليهما (وَما فَعَلْتُهُ) أي ما فعلت شيئا من الأمور الثلاثة ، التي استغربتها (عَنْ أَمْرِي) ومن قبل نفسي ، وإنما فعلت ما فعلت بأمر الله وإذنه وإجازته (ذلِكَ) الذي قلته لك في وجه الأمور الثلاثة (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) وثقل عليك ، حيث لم تكن تعرف وجهه.

وهنا أسئلة هي : أولا ، إنه كيف يجوز تخريب شيء؟ ألا يوجب ذلك الضمان؟ وثانيا كيف يجوز القصاص قبل الجناية؟ وثالثا كيف أخلف موسى الوعد حيث شرط أن لا يسأل ، وقد سأل؟ ورابعا كيف يكون موسى ، وهو أفضل تابعا لخضر ، وهل يجوز أمر الأفضل باتباع المفضول؟ وخامسا كيف نسي موسى ، والأنبياء منزهون عن النسيان؟ والجواب عن الأولين ، أن ذلك كان جائزا في شريعة الخضر ، وما المانع عن ذلك؟ وعن الثالث ، أن موسى علق عدم السؤال بالمشيئة ، فلم يكن خلف. وعن الرابع ، أن الأفضل ، يجوز أن يتعلم من غير

وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥)

____________________________________

الأفضل كما أن الرسول كان يتعلم من جبرائيل. وعن الخامس ، قالوا أن المراد بالنسيان نتيجة النسيان ـ كما سبق تقريره ـ فلا ينافي ذلك القاعدة العامة في عصمة الأنبياء.

[٨٤] وإذ أتم السياق قصة موسى والخضر عليه‌السلام ، عطف على السؤال الآخر الذي وجه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول ذي القرنين ، فقال سبحانه (وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) أي عن خبره ، وقصته ، وقد ورد في الأحاديث أنه لم يكن نبيا ولا ملكا ، وإنما كان عبدا أحب الله وأحبه الله ، وجاء إلى قومه ، يدعوهم فضربوا على قرنه ـ أي طرف رأسه ـ فذهب عنهم ، ثم أتى إليهم مرة أخرى ، ودعاهم ، فلم يجيبوا له ، بل ضربوه على قرنه الآخر ، فذهب عنهم ، ثم جاء في الثالثة وملك البلاد ، (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (سَأَتْلُوا) أي أقرأ (عَلَيْكُمْ مِنْهُ) من ذي القرنين (ذِكْراً) خبرا وقصة.

[٨٥] (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) بأن سلطناه عليها ، وبسطنا ملكه فيها (وَآتَيْناهُ) أعطيناه (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أي علما يتسبب به إلى ما يريد ، وطريقا يتوصل به إلى ما يحب ، فقد أعطي أسباب الحكم ، وأسباب العمران ، وأسباب السلطة.

[٨٦] (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي اقتضى أحد تلك الأسباب موجها وجهه نحو المغرب ، وسالكا طريقه إلى هنالك ، فإن الإنسان بدون السبب ـ من

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦)

____________________________________

مال ، ولوازم السفر التي هي أسبابه ـ لا يتمكن الوصول إلى مقصده.

[٨٧] (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) ناحية المغرب من المعمورة في ذلك الوقت ، فهو كما نقول اليوم «موسكو» مشرق الأرض و «لندن» مغرب الأرض (وَجَدَها) أي وجد ذو القرنين الشمس (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) فالإنسان ، إذا كان في طرف مغربه جبل رأى الشمس تغرب خلف الجبل ، وإذا كان صحراء رآها تغرب في الصحراء ، وإذا كان بحر وجدها تغرب في البحر ، وكأن ذو القرنين وصل إلى محل من شاطئ المحيط الأطلسي ـ وكان يسمى بحر الظلمات ـ فوجد الشمس تغرب في البحر ، فإن البحر يسمى في اللغة «عينا» كما أن «حمئة» بمعنى كدرة ، أي في بحر ذي كدرة ، في لون مائه ، أو المراد أنه رآها قد غربت ، في عين كبيرة ذات حمئة ، ولا يخفى أن الآية تقول «وجدها» فهي حكاية عما جاء في نظر ذي القرنين ، لا عن الواقع (وَوَجَدَ عِنْدَها) أي عند تلك العين (قَوْماً) يسكنون هناك (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) كان المراد بالقول إلهام إليه ، بالإلقاء في قلبه ، إن الأمر بيده ، فإن شاء عذبهم ، وإن شاء اتخذ فيهم سيرة حسنة ، فقد جرت البلاغة ، أن يؤتى بلفظ القول ، ويراد به التمكين من الشيء ، فيقول الملك : قلت للوزير ، اعمل ما شئت من الخير والشر ، وسترى جزاءك ، يريد أنه مكنه ليعمل ما يشاء (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) هؤلاء ، كما هي عادة الملوك ، إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) بأن تسير

قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩)

____________________________________

فيهم بسيرة حسنة ، وتعمل معهم العدل ، فإن كلا الأمرين بيدك ، وأنت قادر على الأمرين.

[٨٨] لكن ذا القرنين بيّن سياسته في هؤلاء ، وفي سائر المدن التي يفتحها ، ليس بيانا عمليا ، وإنما أنه قال ذلك قولا بلسانه ، لبيان منهجه بصورة عامة (قالَ) ذو القرنين (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بالكفر أو سائر أنواع العصيان (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) حسب ما يستحق من النكال والعقاب (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) بعد هذه الحياة الدنيا ، ومعنى الرد إلى الله سبحانه ، أنه يرد إلى حكمه ، وموقع جزائه الذي قرره (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) منكرا غير معهود ، من الشدة والغلظة.

[٨٩] (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) وهذا مقابل من ظلم (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) «الحسنى» خبر «فله» وهي صفة لمحذوف ، أي الخلة الحسنة ، وجزاء مصدر وقع موقع الحال ، أي فله الحسنى في حال كونها جزاء له (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي قولا جميلا ، بغير أن نشق عليه ، والمراد بالقول المعاملة معه معاملة حسنة ، في مقابل من ظلم والذي سوف نعذبه ، وكان الإتيان هناك ب «سوف» وهنا ب «السين» لإفادة تأخير العقاب هناك لعله يتوب ، وتقديم الثواب هنا بفترة يسيرة ريثما يحقق أمره.

[٩٠] (ثُمَّ أَتْبَعَ) ذو القرنين (سَبَباً) فأنهى رحلته الأولى نحو المغرب ،

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)

____________________________________

ليبدأ رحلته الثانية نحو المشرق ، فسلك طريقا ، هو سبب الوصول إلى المشرق.

[٩١] (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي أول العمارة من الجانب الشرقي من الأرض (وَجَدَها) وجد الشمس (تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) فكانوا عراة لا يجدون ما يسترون به أنفسهم من لفح الشمس الحارة ، أو المراد أن القوم في أرض مستوية ، لا جبال فيها ، ولا أشجار تسترهم عن حر الشمس ، كبعض صحارى إفريقيا.

[٩٢] (كَذلِكَ) الذي ذكرنا كانت رحلة ذي القرنين (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي كنا عالمين ، بما عند ذي القرنين من الآلات والجيوش والعدة ، والنوايا التي في صدره ، فقد كان مكشوفا لدينا ، كما كان القوم مكشوفين للشمس.

[٩٣] (ثُمَّ أَتْبَعَ) ذو القرنين (سَبَباً) وسلك سبيلا ثالثا في رحلته الثالثة ، يتسبب به للوصول إلى مكان آخر ، وهناك وصل إلى محل كان فيه أقوام مختلفة ، لا تفهم لغتهم ، وقد كان هذا المكان بقرب جبلين ، بينهما ممر ، وكان وراء الجبلين قبيلتان تسميان «يأجوج» و «مأجوج» وكانت القبيلتان تنزلان من هذا الممر على القوم ، فتعيثان فيهم الفساد ، وهناك عند ما رأى القوم ذا القرنين الملك المظفر القوي ، طلبوا منه أن يسد عليهم هذا الممر ، ليأمنوا شر يأجوج ومأجوج ففعل ذو القرنين ما

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ

____________________________________

طلبوا منه ، ثم شكر الله على أن وفقه لهذا العمل ، وأخبر القوم ، أن هذا السد يبقى حتى يوم القيامة ، إذ تسوى الأرض ، فيكون السد دكا ، كسائر الارتفاعات.

[٩٤] (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي الحاجزين ، وهما جبلان أو السدان اللذان كان بينهما ممر (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) من ورائهما وبالقرب منهما (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) لا يعرفون كلام أحد ، لأن لهم لغة خاصة ، فغرابة لغتهم ، وقلة فطنتهم ، أورثت الصعوبة في التفاهم معهم.

[٩٥] (قالُوا) قال أولئك القوم (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وإنما قال «مفسدون» لأنهما قبيلتان ، فباعتبار أفرادهما جيء بالفعل جمعا ، والمراد بالأرض أرضهم ، لا كل الأرض كما هو واضح (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ) يا ذا القرنين (خَرْجاً) أي بعضا من أموالنا ، وإنما سمي الخرج بذلك لخروجه من مال الإنسان ، كما سمي الدمل خراجا لخروجه من البدن (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ) بين يأجوج ومأجوج (سَدًّا) حائطا بين هذين الجبلين ليسد الممر الذي ينزلان منه إلينا وقد كان طلبهم في صورة الاستفهام من باب التأدب.

[٩٦] (قالَ) ذو القرنين (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما أعطاني الله من

فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ

____________________________________

المال والمكنة خير من خرجكم ، فلا أحتاج إلى أموالكم لتكون أجرة لي في بناء السد (فَأَعِينُونِي) أيها القوم (بِقُوَّةٍ) من رجال ، وأدوات السد لأبني لكم السد (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ) أيها القوم (وَبَيْنَهُمْ) بين يأجوج ومأجوج (رَدْماً) سدا قويا ، والردم أقوى من السد.

[٩٧] (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي جيئوا بقطع الحديد ، مفرده زبرة ، وهي الجملة المجتمعة ، فامتثلوا أوامره وجاءوا بقطع الحديد (حَتَّى إِذا ساوى) الحديد (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي امتلأ الممر بين الجبلين ، ويسمى الجبل صدفا ، لأنه يصدف ، ويمنع عما وراءه ، كأنه سد وحاجز (قالَ) ذو القرنين لهم (انْفُخُوا) في النار بالمنافخ ، موجها النفخ نحو الحديد المتراكم بين الجبلين ، فنفخوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أي جعل الحديد المتراكم كالنار في وهجها ولهيبها ، ولزم بعض الزبر بعضها الآخر (قالَ) ذو القرنين (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي جيئوا بالقطر ، وهو النحاس المذاب ، حتى أفرغ على الحديد الذي صار كالنار ، حتى يصير السد أقوى ، ويأخذ القطر بالفرج والخلايا.

[٩٨] ففعلوا ما قال لهم ذو القرنين ، وإذا بسد محكم ، لا يتمكن أحد أن يخربه أو يحدث فيه خللا ، ولما جاء موعد مجيء يأجوج ومأجوج ، وجاءوا لم يقدروا من المرور (فَمَا اسْطاعُوا) أصله استطاع حذف التاء تخفيفا ، أي لم يستطع يأجوج ومأجوج (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يعلوه

وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠)

____________________________________

ويصعدوه ، يقال ظهر السطح أي علاه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) أن ينقبوا السد من أسفله ، ويحدثوا فيه فجوة ، وسربا ونفقا ، ليأتوا إلى أولئك ، وبذلك استراح القوم من شرهم.

[٩٩] ولما أتم ذ والقرنين السد لم يأخذه البطر والكبر ، كما هو عادة الملوك بل (قالَ) متواضعا مذكرا أنه من فضل الله سبحانه عليه وعليهم (هذا) السد (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) حيث أمكنني من ذلك ، وأراحكم من شر المفسدين (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) بقيام القيامة (جَعَلَهُ) سبحانه (دَكَّاءَ) أي مدكوكا متساويا مع الأرض (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي) بإتيان القيامة (حَقًّا) لا خلف فيه.

[١٠٠] وحيث ينتهي السياق من قصة الملك العادل ذي القرنين ، وكيف سار وكيف عمر وعدل ، وبمناسبة «وعد ربي» يأتي السياق ليبين أحوال القيامة (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) مختلطين كحال المياه المائجة باضطراب ، والضمير ، إما يعود إلى يأجوج ومأجوج ، وإما يعود إلى الناس ، المفهوم من الكلام (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) لأجل إحياء البشر بعد موتهم (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي جمعنا الخلائق كلهم في صعيد واحد مجتمعين للحساب.

[١٠١] (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم (لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)

الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ

____________________________________

فأظهرناها لهم حتى شاهدوها ، ورأوا ألوان عذابها.

[١٠٢] ومن هم الكافرون؟ (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) لا ينظرون إلى ما أذكرهم به من الآيات الكونية ، كالذي عينه لا ترى شيئا ، إن أولئك يرون اليوم العذاب المهيأ لهم ، جزاء أن أغمضوا أعينهم عن الحق (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي لا يتمكنون ـ من كفرهم وعنادهم ـ أن يسمعوا إنذاري ومواعظي ، وهكذا كما يقال فلان لا يستطيع النظر إليك ، أي يثقل عليه ذلك ، ومن المعلوم ، أن سمع الكفار يشترك مع بصرهم في سماع أصوات العذاب ، كما كان يشترك في الإعراض عن ذكر الله.

[١٠٣] (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هل زعموا وظنوا (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) ينصرونهم لدى الحاجة ، كما هو شأن الولي؟ إن هذا الزعم باطل ، فإن الأصنام ، والملائكة والمسيح وغيرهم ، ممن اتخذهم الكفار آلهة وأولياء لا ينصرونهم ، ولا يدفعون العذاب عنهم ، فليس الزعم في اتخاذ الآلهة ، وإنما الزعم في اتخاذ الآلهة أولياء للنصرة والدفاع (إِنَّا أَعْتَدْنا) وهيئنا (جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي منزلا مهيأ لهم ، يردونها بمجرد ورودهم ، بلا حاجة إلى تعب منا فإن الأمر مهيأ للنزلاء.

[١٠٤] (قُلْ) يا رسول الله ، لهؤلاء الكفار ، أو لكل من يسمع مؤمنا كان أم

هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥)

____________________________________

كافرا (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) نخبركم (بِالْأَخْسَرِينَ) أي بأخسر الناس (أَعْمالاً) الذين تكون خسائرهم أكثر من خسائر غيرهم؟

[١٠٥] (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما سعوا وعملوا في هذه الحياة ضل وضاع عنهم (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) يظنون أنهم يعملون حسنا ، والذين ضل ، من تتمة الاستفهام ، بدل من «الأخسرين».

[١٠٦] (أُولئِكَ) وهذا جواب عن الاستفهام ، هم (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) أي جحدوا آيات الله ، فلم يستدلوا بها على الله سبحانه وصفاته ، وسائر شؤونه ، وجحدوا المعاد الذي فيه لقاء الله سبحانه ، بمعنى لقاء جزائه وحسابه (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بطلت وضاعت أعمالهم الحسنة ، إنهم كانوا مؤمنين ، كانت أعمالهم مصونة محفوظة ، أما وقد كفروا ، فقد حبطت أعمالهم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي لا مرتبة لهم ، ولا نعير لهم أهمية ، ولا قيمة لهم عندنا ، فإن الشيء الخفيف الذي لا يوزن ، لا قيمة له ، ولذا جعل عدم الوزن كفاية عن عدم القيمة ، وإنما كان هؤلاء أخسرين أعمالا ، لأن هناك أعمالا للدنيا يرى العامل جزاؤها في الدنيا ، وأعمالا للآخرة يرى العامل جزاؤها في الآخرة ، أما أعمال هؤلاء فهي بزعمهم للآخرة ، ولا يرون لها جزاء

ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)

____________________________________

أصلا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، والتفصيل غير مراد هنا ـ كغالب هذه المواضع من أشباهه ـ

[١٠٧] (ذلِكَ) كما ذكرنا (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) ولماذا؟ (بِما كَفَرُوا) أي بسبب كفرهم (وَاتَّخَذُوا آياتِي) الكونية والشرعية (وَرُسُلِي هُزُواً) أي مهزوا به ، فقد كانوا يستهزئون بالآيات الكونية ، والقرآن والرسول ، فقد حبطت أعمالهم الصالحة ، وجوزوا النار بكفرهم واستهزائهم.

[١٠٨] لقد كان ذلك حال الكافر ، فما هو حال المؤمن؟ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صحيحا بالأصول (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي تصلح للسعادة (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) الفردوس هي الجنة التي يجتمع فيها الملاذ ، من أشجار وأنهار وأزهار وأطيار (نُزُلاً) منزلا مهيئا لهم.

[١٠٩] في حال كونهم (خالِدِينَ) دائمين (فِيها) أبدا (لا يَبْغُونَ) لا يطلبون (عَنْها) عن تلك الجنات (حِوَلاً) تحولا إلى موضع آخر لطيبها وملاذها.

[١١٠] ثم يأتي السياق ليندد بالكفار الذين ينكرون كل شيء استنادا إلى علمهم المحدود ، وكأنهم يعلمون كل شيء ، ألا فليعلم البشر أن علمه لا شيء ، في مقابل مخلوقات الله التي لا حد لها ، ويصور هذا الخلق الذي لا يتناهى في مثال «إن البحر لو كان مدادا ، وكتب به كلمات الله بقيت الكلمات ، ونفد البحر» فكيف يمكن للإنسان أن ينكر الجنة

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)

____________________________________

أو النار ، أو سائر ما يخبر به الأنبياء مما وراء الغيب ، (قُلْ) يا رسول الله (لَوْ كانَ الْبَحْرُ) أي جنس البحر ليشمل جميع البحار (مِداداً) لكتابة (كَلِماتُ رَبِّي) ما أظهره وألقاه من الموجودات ، فإنها كلمات الله سبحانه ، تشبيها بالكلام الذي يلقيه الإنسان ويظهره في الخارج (لَنَفِدَ) ماء (الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) في الكتابة ، فإنها تبقى غير مكتوبة كلها ، وقد خلص وتم ماء البحر (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ) أي بمثل البحر (مَدَداً) له وعونا ، فإن كلمات الله أكثر من أن تنفدها بحار العالم ، وبحار أخر تمدها.

[١١١] وأخيرا يوجز القول حول التوحيد والرسالة والمعاد ، مما كان مرمى السورة من أولها إلى آخرها (قُلْ) يا رسول الله (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الأكل والشرب والملامسة وغيرها من الشؤون البشرية ، فلست ملكا أو غيره ، وإنما الفرق بيني وبينكم أنه (يُوحى إِلَيَ) فلوجهة ربط بالله سبحانه جعلني مستعدا لتلقي الوحي وخصني الله بذلك من بينكم ، وأهم ما يوحى إلي هو (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ولا شبيه (فَمَنْ كانَ) منكم (يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي يطمع في ثوابه وحسن جزائه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) يسعد به في الآخرة (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) فلا يجعل له شريكا في العبادة ، كما لا يجعل له

____________________________________

شريكا في الألوهية ، والإسلام كله يتلخص في هذه الأمور الأربعة ، التوحيد وشؤونه التي منها العدل والرسالة ، وشؤونها التي منها الإمامة ، والمعاد .. ، وثم العمل الصالح ، بلا شرك عبادي ، فالعبادة له وحده ، كما أن الألوهية له وحده ، وقد ورد ، أن من الشرك الرياء (١).

__________________

(١) ثواب الأعمال : ص ٢٥٥.

(١٩)

سورة مريم

مكية / آياتها (٩٩)

سميت بهذا الاسم لاشتمالها على اسم مريم أم عيسى وقصتها ، وهي مكية ، ولذا تراها تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ، وحيث ختمت سورة الكهف بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) افتتحت هذه السورة ، بذكر بعض الأنبياء السابقين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين في بدء أمورنا باسم الإله الرحمن الرحيم ، ليتفضل علينا بالرحمة في الدنيا وفي الآخرة ، فإن ذكر صفة من صفات الكريم تدل ـ تلميحا ـ إلى تطلب الذاكر من تلك الصفة ، إذ الإنسان لا يخصص صفة بالذكر ، إلا وهو مريد للنيل منها ، فإذا قال المجرم أيها الغافر ، أراد الغفران ، وإذا قال الفقير أيها الغني ، أراد الثروة ، وهكذا.

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي

____________________________________

[٢] (كهيعص) أي أن «كاف» «هاء» «ياء» «عين» «صاد» هي التي يركب منها هذا القرآن ، فإن القرآن مركب من هذه الحروف وأمثالها ، وهنا حذف الخبر ، بخلاف مثل (الم ، ذلِكَ الْكِتابُ) وقد عرفت أن في فواتح السور أقوالا وما ذكرناه أحدها ، وهناك قول آخر أنها رموز ولا تنافي بين القولين ولا بين سائر الأقوال ، وقد ورد أن «كاف» اسم كربلاء و «هاء» هلاك العترة و «ياء» يزيد و «عين» عطش الآل عليهم‌السلام و «صاد» صبرهم (١) ، فهي كالرموز اللاسلكية التي تختار لمعرفة الطرفين دون سواهم لحكمة.

[٣] هذا الذي نريد بيانه (ذِكْرُ) وخبر (رَحْمَتِ رَبِّكَ) ل (عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) النبي عليه‌السلام والمراد برحمة الله له استجابته دعاء زكريا حين سأله الولد ، فقد تفضل عليه سبحانه بيحيى عليه‌السلام.

[٤] وقد كانت الرحمة (إِذْ نادى) حين دعا زكريا (رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) دعاء في خفية لم يجهر به ، ولعل سر الإخفاء ، أن الناس لو علموا بأنه يطلب الولد سخروا منه؟ ، كيف يسأل الولد وهو شيخ فان؟ ، أم كيف بقي في نفسه بقايا من طلب الملذات ..؟

[٥] (قالَ) زكريا في دعائه يا (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف عظمي ، وإسناد الضعف إلى العظم ، أبلغ في الدلالة على الضعف ، إذ العظم الذي هو أصلب شيء في الجسم ، إذا ضعف ضعفت سائر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٨ ص ٩.

وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ

____________________________________

الأشياء (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) فإن الشيب والبياض ، إذا ظهر في الرأس وغمرها ، كانت الرأس كالمشتعل في التلألؤ والبريق ، وهذا أبلغ ، من «اشتعل الشيب في الرأس» (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ) بدعوتي إياك فيما مضى ، يا (رَبِّ شَقِيًّا) مخيبا محروما ، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى ، يا (رَبِّ شَقِيًّا) مخيبا محروما ، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى ، وأنا في سن الشباب والقوة ، فلا بد أنك لا تحرمني هذا الدعاء وأنا في حال المشيب والضعف.

[٦] وإذ ذكر عليه‌السلام حاله المستحق للترحم ورجائه الذي عوده باريه باستجابة دعائه بين ما يخشاه وما يطلبه (وَإِنِّي) يا رب (خِفْتُ الْمَوالِيَ) جمع مولى ، وهو الأولى بالتصرف في الأموال بعد الإنسان بالإرث ، (مِنْ وَرائِي) أي من خلفي الذين يرثونني ، أخشاهم أن لا يعملوا ، بما يبقى لهم مني على وجه الصلاح (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد ، فليس لي منها أولاد حتى يقوموا بواجب تراثي من بعدي من الصلاح والإصلاح (فَهَبْ لِي) يا رب (مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (وَلِيًّا) ولدا يلي أموري من بعدي ، ويكون هو الأولى بميراثي.

[٧] (يَرِثُنِي) ذلك الولي (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) لعل ذلك باعتبار أم الولد ، أي زوجة زكريا ، فقد كانت خالة «مريم» من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم‌السلام. ولذا كان عيسى عليه‌السلام ، من نسل

وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)

____________________________________

إبراهيم ، وقال «آل يعقوب» لاحترامهم بكون الأنبياء فيهم (وَاجْعَلْهُ) أي اجعل ذلك الولد يا (رَبِّ رَضِيًّا) مرضيا عندك ، ممثلا لأمرك ، فلا يكن فاسدا ، لا يصلح لإرثي ، والرضى صفة لنفس الولد ، لكنها تلازم كونه مرضيا.

[٨] وقد استجاب الله دعاءه فناداه (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) ولد (اسْمُهُ يَحْيى) ولعله سماه سبحانه بهذا الاسم ، كناية عن أنه يحيى حياة صالحة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) فلم يسمي أحد ولده بهذا الاسم ، وإنما ابتكر هذا الاسم لولدك تكريما لك ، فإن لكل جديد لذة ولكل تخصيص كرامة.

[٩] ولقد فوجئ زكريا بهذه الاستجابة المسرة ، كيف يكون له ولد ، وهو شيخ ، وامرأته عاقر لم تلد في شبابها ، فكيف وأنها شاخت وهرمت؟ ولذا أراد السؤال عن الكيفية (قالَ) زكريا يا (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي كيف يكون لي غلام ، ولعل سؤاله كان حول رجوعه شابا ، أو عن امرأة جديدة ، أو بهذه الحالة عن هذه المرأة العاقر؟ (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) لا تلد (وَقَدْ بَلَغْتُ) أنا (مِنَ الْكِبَرِ) في العمر (عِتِيًّا) العتي هو الذي بلغ به طول العمر إلى حالة اليبس والجفاف ، كأنه ليس فيه مادة صالحة لنشأة الولد؟

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠)

____________________________________

[١٠] (قالَ) سبحانه في جوابه (كَذلِكَ) أي بهذه الحالة نعطيكما الولد (قالَ رَبُّكَ هُوَ) أي إعطاء الولد في هذه الحال ـ حال كبرك ، وكون زوجك عاقرا ـ (عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي سهل يسير ، والقائل هو الله سبحانه ، وقد جرت العادة أن يذكر الشخص اسمه ، فيقول محمد لأولاده مثلا : يقول لكم محمد ، أن لا تجالسوا الأشرار ، يريد نفسه (وَقَدْ خَلَقْتُكَ) يا زكريا (مِنْ قَبْلُ) أي سابقا (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أصلا فإعطاء الولد من كبيرين أهون من خلق الإنسان من العدم ، فإن من قدر على ذلك الأصعب ـ في نظرك ـ يقدر على هذا الأسهل.

[١١] (قالَ) زكريا عليه‌السلام يا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة دالة على وقت صيرورة الولد الذي بشرتني به (قالَ) الله تعالى (آيَتُكَ) علامتك التي تدلك على وقت صيرورة الولد (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي لا تتمكن من الكلام مع الناس (ثَلاثَ لَيالٍ) وفي سورة آل عمران ثلاثة أيام ، ومن ذلك يظهر أن عدم تمكنه عليه‌السلام من التكلم مع الناس ، كان ثلاثة أيام بلياليها (سَوِيًّا) في حال كونك سوي الخلق ليس بك خرس أو آفة ، فإذا أردت التسبيح والذكر تمكنت من ذلك ، وإذا أردت التكلم مع الناس ، لم تتمكن ، وقد كان هذا يناسب حال زكريا المقتضي للانقطاع إلى الله سبحانه يذكره ، ويشكره ، على أن أنعم عليه بهذه النعمة.

[١٢] وكأن زكريا عليه‌السلام كانت له غرفة خاصة في بيت المقدس ، وكان قد

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً

____________________________________

بشر العباد بما بشر به ، وذكر لهم العلامة ، فلما اعتقل لسانه ، أراد أن يفهمهم الأمر ليشاركوا معه في الذكر والتسبيح ، فإن الإنسان يذكر الله عند ما يرى من العجائب (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ) غرفته المسماة ب (الْمِحْرابِ) ، ويسمى محل الصلاة محرابا ، لأنه محل محاربة الإنسان مع الشيطان ، يريد الشيطان أن يصده عن الصلاة ، وهو يحاربه حتى يصلي (فَأَوْحى) أي أشار زكريا عليه‌السلام (إِلَيْهِمْ) بدون أن يتكلم ، لأنه لم يكن يقدر على الكلام مع الناس (أَنْ سَبِّحُوا) الله سبحانه (بُكْرَةً) أي صباحا (وَعَشِيًّا) أي مساء.

[١٣] فولد يحيى وكبر حتى صار صبيا ، وإذا به يسمع النداء من قبل الله سبحانه (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة (بِقُوَّةٍ) بأن تعمل بها بكل استقامة ، والمراد بالقوة ، القوة النفسية ، التي لا يقف دونها شيء لمن عزم وصمم (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) النبوة ، لأنها توجب أن يحكم الشخص بين الناس ، فيأمرهم ، وينهاهم ، ويفصل قضاياهم (صَبِيًّا) في حال كونه صبيا ، فإن الله كما قدر على أن يمنحه لوالديه بعد الهرم ، قدر على أن يتفضل عليه بمؤهلات النبوة.

[١٤] (وَ) آتيناه (حَناناً) وعطفا وشفقة على الناس ، كما هو من لوازم النبوة ، حتى يتمكن من إرشاد الناس ، فإن أول مؤهلات المرشد ، أن يكون ذا حنان وعطف (مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا ، والإضافة إليه سبحانه ـ وإن كان كل حنان من عنده ـ للتشريف (وَ) آتيناه (زَكاةً)

وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ

____________________________________

أي طهارة وعفة ونموا (وَكانَ تَقِيًّا) يتقي المحارم والآثام.

[١٥] (وَ) آتيناه (بَرًّا) وإحسانا (بِوالِدَيْهِ) فكان بارا بهما محسنا إليهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي متكبرا متطاولا على الناس يجبرهم على حسب شهواته ، وهذه الصفة «الجبار» ليست حسنة ، إلا من الله سبحانه ، ومعناها فيه ، إنه يأمر الخلق وينهاهم حسب المصلحة ، وهو القاهر فوقهم يميتهم ويحييهم حسب الحكمة ، كما تطلق عليه سبحانه بمعنى جبر الكسر ، ومن هذا قال العباس بن علي عليه‌السلام ، لما قطعوا يساره :

يا نفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبار (١)

جبر الكسر ، مع قطع اليد وكسرها (عَصِيًّا) أي عاصيا لربه ، فإن فعيل قد يأتي للفاعل ، وقد يأتي للمفعول نحو جريح بمعنى المجروح.

[١٦] (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي على يحيى ، والمراد بالسلام السلامة ، في هذه الأيام الثلاثة ، التي نقرر كل يوم منها مصيرا طويلا (يَوْمَ وُلِدَ) فإن يوم الولادة يقرر مصير الحياة ، فإذا ولد الإنسان سالما من العيوب ، كان سالما ما دام العمر ، ـ إلا أن يحدث حدث عليه ـ وإن ولد معيوبا كأن كان أعمى أو أعرج أو ما أشبه ، تكبد طول حياته ذلك (وَيَوْمَ يَمُوتُ) فإن الإنسان إذا سلم هذا اليوم من عذاب الله سبحانه ، كان سالما في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٥ ص ٤٠.

وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧)

____________________________________

البرزخ الطويل الأمد (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي يحيى للحساب والجزاء ، فإذا سلم في ذلك اليوم ، كان سالما من العذاب والشقاء أبد الدهر ، وهذا هو معنى السلام على الميت ، يعني لتكن سالما من العذاب هناك في قبرك وآخرتك.

[١٧] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (مَرْيَمَ) أي قصة مريم الطاهرة ، وولادتها لعيسى عليه‌السلام من غير أب (إِذِ) حين (انْتَبَذَتْ) النبذ أصله الطرح ، والانتباذ منه ، إلا أنه يستعمل بمعنى التنحي يقال : انتبذ فلان ناحية أي تنحى ناحية ، كأنه طرح فيها ، والمراد أن مريم انفردت وتنحت (مِنْ أَهْلِها) أبويها ، وسائر قراباتها (مَكاناً شَرْقِيًّا) طرف مشرق الأهل ، بحيث كان أهلها في طرف الغرب ، وهي في وجهة شرقهم ، ولعلها أرادت الاغتسال ، ولذا اختارت هذا الطرف ، حتى لا تتأذى بالبرد ، بل تشرق الشمس عليها ـ وهذا هو المستفاد من كلام بعض المفسرين ـ.

[١٨] (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ) دون الأهل (حِجاباً) سترا ضربته ليحجبها عن أهلها ، وهذا يؤيد الاحتمال السابق (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) أي روحا من طرفنا ـ والإضافة للتشرف ـ وكان ذلك الروح جبرائيل عليه‌السلام ، وقد كان استحاش مريم شديدا حين رأت الروح (فَتَمَثَّلَ) الروح (لَها) لمريم عليه‌السلام (بَشَراً سَوِيًّا) أي شابا مكتملا غير ناقص الخلق.

[١٩] واضطربت مريم عليها‌السلام لهذا الحادث المدهش ، فاستعاذت بالله من شر

قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ

____________________________________

الرجل ، لأنها لم تعرفه ، وقد جرت العادة ، أن مثل هذا الرجل يقصد السوء (قالَتْ) مريم عليها‌السلام (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) أيها الرجل (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) فإن التقي إذا خوف خاف بخلاف الشقي الذي لا يرعوي ، ولو بألف تخويف وإنذار ، كما تقول إن كنت مؤمنا لا تفعل كذا.

[٢٠] (قالَ) جبرائيل عليه‌السلام في جوابها يعرفها بنفسه ، لست أنا إنسانا تخافين منه (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) مرسل من طرفه إليك يا مريم (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ولدا طاهرا طيبا.

[٢١] فازداد تحير مريم عليها‌السلام ، فسألت (قالَتْ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ) ولد (وَ) الحال أنه (لَمْ يَمْسَسْنِي) على وجه الزوجية (بَشَرٌ) وهل الغلام ، إلا من الزوجين بعد الملامسة (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي زانية ، فإن الولد في العادة يكون بأحد هذين الطريقين ، ولم يك أحدهما.

[٢٢] (قالَ) جبرائيل عليه‌السلام في جواب سؤال مريم عليها‌السلام (كَذلِكِ) أي كذا الذي ذكرت لك ف «الكاف» حرف جر للتشبيه و «ذا» للإشارة و «لك» للخطاب (قالَ رَبُّكِ هُوَ) أي إعطاء الولد من غير أب (عَلَيَّ هَيِّنٌ) سهل لا يحتاج إلى الكلفة (وَلِنَجْعَلَهُ) نجعل هذا الولد (آيَةً لِلنَّاسِ) حجة من عندنا على الناس ، فإن عيسى عليه‌السلام كان حجة الله على البشر

وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)

____________________________________

(وَرَحْمَةً مِنَّا) على البشر نرحمهم به ونهديهم إلى الطريق بسببه (وَكانَ) إعطاؤك الولد (أَمْراً مَقْضِيًّا) أي كائنا مفروغا منه محتوما ، فلا ينفع التكلّم لدفع هذا القضاء.

[٢٣] فنفخ جبرائيل في جيب مريم عليها‌السلام ، فاكتمل عيسى في بطنها في الساعة بقدرة الله تعالى (فَحَمَلَتْهُ) أي حملت مريم بعيسى عليه‌السلام (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) تنحت مريم بالولد ـ أي معه ـ (مَكاناً قَصِيًّا) أي محلا بعيدا عن أهلها ، لئلّا يروها على حالة الحمل ، ولقد كانت مدة حملها تسع ساعات ، وفي بعض الروايات ، أنها جاءت إلى كربلاء من بيت المقدس ، بقدرة الله تعالى ، وهو المراد بالمكان القصي (١).

[٢٤] (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) أي ألجأها الطلق ، وهو وجع الولادة (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتستند إليها ، والجذع ساق النخلة ، وحيث فكرت في حالتها أخذت الدهشة منها كل مأخذ ، ولذا (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) الحادث قالت ذلك حياء وخجلا وتحيرا ، و «مت» بكسر الميم من «مات يميت» على وزن «تعب» ومن أخذه من «مات يموت» احتاج إلى التكلف (وَكُنْتُ نَسْياً) أي ما من شأنه أن ينسى (مَنْسِيًّا) ذكري عند الناس لا يذكرني أحد ، وهناك جاءت بعيسى عليه‌السلام وليدا كاملا جميلا.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٤ ص ٥١٧.

فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي

____________________________________

[٢٥] (فَناداها) عيسى عليه‌السلام ، أو جبرائيل ، (مِنْ تَحْتِها) أي أسفل منها ، فإنها كانت على أكمة ، ولعل هذا يرجح كون المراد بالمنادي عيسى عليه‌السلام ـ كما اختاره سعيد بن جبير ـ (أَلَّا تَحْزَنِي) من هذه الحادثة ، والحزن هو الغم الكامن في النفس (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ) يا مريم (تَحْتَكِ) أي الأسفل منك (سَرِيًّا) أي جدولا ساريا ، وقد قال الإمام الباقر عليه‌السلام إن عيسى عليه‌السلام ضرب برجله الأرض ، فسار الماء (١).

[٢٦] (وَهُزِّي) يا مريم (إِلَيْكِ) أي اجذبي نحو نفسك (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ليقع فيها الهز (تُساقِطْ) النخلة (عَلَيْكِ رُطَباً) جديدا (جَنِيًّا) طريا ، قد جني الساعة ، والحلو خصوصا الرطب من أفضل ما تتغذى به المرأة التي ولدت.

[٢٧] (فَكُلِي) من الرطب (وَاشْرَبِي) من ماء الجدول (وَقَرِّي عَيْناً) طيبي نفسا بهذا الولد ، وذلك ، لأن الإنسان المذهول تطير عينه هنا وهناك ، أما مطمئن النفس فإنه تقر وتستقر عينه ، حسب الموازين العقلانية (فَإِمَّا) أصلها «إن» الشرطية و «ما» الزائدة للتجميل ، ثم أدغمت النون في الميم (تَرَيِنَ) مضارع ، من رأى مؤكد بالنون الثقيلة (مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فسألك عن الولد ، من أين أتيت به ، وأنت غير متزوجة؟ (فَقُولِي) الظاهر ، أن المراد الإشارة بهذا المعنى ، لا لفظ القول ، فإن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢٦.

إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ

____________________________________

القول يستعمل للعمل والإشارة ، كما يستعمل اللفظ (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) وقد كان الصوم بمعنى الكف عن الكلام ، كما كان كفا عن الطعام ، وأمره سبحانه ب «قولي» يفيد لزوم أن تنذر هذا الصوم ، ولذا نذرت ذلك (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) منسوب إلى الإنس ، لإفادة الوحدة ، ولعل ذلك ، لأجل أن لا تقع في المجادلة مع الناس ، والاكتفاء بكلام عيسى الرضيع.

[٢٨] وهنا وقد رأت مريم عليها‌السلام ، المعجزات الباهرات ، وها هو وليدها الذي يتكلم على خلاف العادة ، معها حجة قاطعة على براءتها (فَأَتَتْ) مريم عليها‌السلام (بِهِ) أي بعيسى عليه‌السلام (قَوْمَها) أي إلى قومها (تَحْمِلُهُ) على يديها ، ولما رآها القوم ، استنكروا طفلها ف (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي أمرا عظيما عجيبا ، من فرى بمعنى قطع ، كأن من يأتي بشيء عجيب ، قد قطع مدهشا ، لا يلائم سائر الأشياء ، ومنه الافتراء.

[٢٩] (يا أُخْتَ هارُونَ) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن هارون كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح (١) ، وعلى هذا كان المعنى يا شبيهة هارون في الصلاح ، كيف أتيت بهذا الولد ، من غير زواج ولا نكاح (ما كانَ أَبُوكِ) عمران (امْرَأَ سَوْءٍ) يعمل القبيح

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ٢٢٦.

وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)

____________________________________

(وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي زانية ، فأنت من أبوين صالحين ، فكيف جئت بهذا الولد من غير أب؟

[٣٠] فلم تجب مريم عليها‌السلام لكلامهم وإنما (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي إلى عيسى عليه‌السلام ، وأومأت بأن كلموه ، واسألوا منه ما شئتم ، فتعجبوا من إشارتها ، و (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وقولهم في المهد ، يراد الشأنية ، لا الفعلية ، وهل طفل شأنه أن يوضع في المهد يتكلم؟

[٣١] وهنا أنطق الله عيسى ليدافع عن أمه ، ويبرئ ساحتها ، ويقطع الجدال ف (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) وقد كان أول ما تكلم هذا ، ليفند مزاعم الذين يأتون ويقولون إنه الله (آتانِيَ الْكِتابَ) أي أعطاني الإنجيل (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ظاهر اللفظ أنه قد أوتي الكتاب والنبوة ، وهو في ذلك السن ، وهذا غير غريب ، فقد وردت أحاديث ، إن الأنبياء ، كانوا أنوارا ، قبل أن يأتوا إلى هذه الدنيا.

[٣٢] (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) ذا بركة وخير (أَيْنَ ما كُنْتُ) فليس كالثري ، أو ذي الجاه الذي لا خير له ، إذا لم يكن عند ثروته ، وفي محل منصبه ، بل يعلم الخير ويشفي المرضى ، أينما كان (وَأَوْصانِي) الله سبحانه (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) بأن أصلي وأنفق (ما دُمْتُ حَيًّا) ما بقيت مكلفا.

وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)

____________________________________

[٣٣] (وَ) جعلني (بَرًّا) أي بارا (بِوالِدَتِي) مريم الطاهرة (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) متجبرا طاغيا (شَقِيًّا) من الأشقياء ، فإني بلطفه وكرمه كنت هكذا ، وليس معنى ذلك أن الله يجعل الجبابرة الأشقياء كذلك ، بل إن الله سبحانه يتركهم ، إذا رأى منهم الانحراف ، حتى يضلهم الشيطان ، وترديهم النفس الأمارة بالسوء.

[٣٤] (وَالسَّلامُ) أي السلامة من العاهات الجسمية والروحية (عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ، وَيَوْمَ أَمُوتُ) بعد ما ما أنزل من السماء (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) في القيامة ، وقد مر وجه ذلك في قصة يحيى عليه‌السلام.

[٣٥] وإذ أتم السياق قصة عيسى عليه‌السلام ، فيما هو محل الحاجة ، عطف على النصارى الذين يقولون إنه الله ، أو ابن الله أو شريك الله ، واليهود الذين يقولون فيه السوء ، فقال سبحانه (ذلِكَ) الذي تقدم أحواله (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) الذي جاء إلى الدنيا ، وكان صاحب شريعة ، ثم رفع إلى السماء (قَوْلَ الْحَقِ) أي أقول قول الحق ، أو خذه قول الحق (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكّون ، فزعمت اليهود أنه لغير رشده ، وكان ساحرا كذابا ، وزعمت النصارى أنه ابن الله ، وأمه ثالث الأقانيم ، فإن كلا القولين باطل ، لا يدل عليهما دليل ، بل العقل دل على خلاف هذين القولين الزائفين ، وقوله «يمترون» من المرية ، وهو الشك وإنما سمي شكا مع أنهم بحسب الظاهر يوقنون بذلك ، لأن ما خالف الواقع كان بالشك أشبه.

ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

[٣٦] (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) فإن اتخاذ الولد حقيقة محال ، والولد تشريفا ، بأن يتبنى ، خلاف شأنه سبحانه ، و «من» لإفادة النفي مطلقا ، واحدا كان الولد أم متعددا (سُبْحانَهُ) أي أنزهه عن اتخاذ الولد تنزيها ، وليس أمر عجيب ولادة عيسى عليه‌السلام من غير أب ، فإنه تعالى (إِذا قَضى أَمْراً) وأراد شيئا (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ) للشيء الذي أراده (كُنْ) إما لفظا ، أو ذلك حكاية عن إرادته تعالى (فَيَكُونُ) ذلك الشيء.

[٣٧] ثم أتم الكلام سبحانه حول قصة عيسى عليه‌السلام بقوله (وَ) أوصاني (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أيها البشر ، فلست أنا إلها ، وهل يبقى بعد شهادة عيسى كلام؟ (فَاعْبُدُوهُ) وحده (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا عوج فيه ، ولا انحراف ، ومن الظريف أن كتاب «العهدين» مشتمل على تصريح عيسى ، بأن الله ربه ، بل لقد زاد النصارى ، أن لمريم أم عيسى زوجا يسمى «يوسف» ومع ذلك ، قالوا بأنه الله ، أو أنه ابن الله.

[٣٨] ومع هذه الحجج عقليها ، وشرعيها ، لم يقنع النصارى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الأحزاب جمع حزب ، وهو الفئة من الناس ، ذات لون واحد في العقيدة ، أو العمل ، أي من بين أهل الكتاب ، فقالت اليعقوبية منهم ، هو الله ، وقالت النسطورية منهم هو ابن الله ، وقالت الإسرائيلية منهم ثالث ثلاثة (فَوَيْلٌ) أي شدة العذاب ، فإن ويل كلمة وعيد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، واتخذوا عيسى ربا ،

مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ

____________________________________

أو شريكا ، أو ابنا له (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، أي من محضر ، أو هو مصدر ميمي ، أي من حضورهم في يوم عظيم هو يوم القيامة ، فإنهم يفضحون ويعاقبون على رؤوس الأشهاد.

[٣٩] إن الكافرين في يوم القيامة ، حيث لا ينفعهم السمع والبصر ، يكونون أقوى الناس سماعا وإبصارا ، أما في الدنيا ، وحيث أن السمع والبصر وسيلة الهداية والسعادة ، فإنهم لا يسمعون ، ولا يبصرون (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) بهم ، أي ما أسمعهم وأبصرهم ، وذلك صيغة التعجب على معنى ما أسمعهم وأبصرهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) أي في القيامة (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) في الدنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا يسمعون الهدى ، ولا يبصرون الطريق.

[٤٠] (وَأَنْذِرْهُمْ) أي أنذر يا رسول الله الناس ، (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم يتحسر الإنسان ، ويندم على ما فات منه من السعادة (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) حين فرغ من الأمور ، وانقطعت الآمال ، فالمؤمن يتحسر على أنه لم لم يعمل أكثر؟ والكافر والعاصي يتحسران ، على أنه لم كفر وعصى ، حتى يلقى العذاب والهوان (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) الآن في الدنيا عن ذلك (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حتى لا يتحسروا هناك حسرة الكافر على ما قدمت يداه.

[٤١] إنه لا بد وأن يأتي ذلك اليوم حين (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ

الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ

____________________________________

الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) فكل ما في الأرض ما ليس ملكا لإنسان ، وكل ما فيها مما هو ملك البشر ، يبقى هنا بدون مالك ، ولفظة «نحن» للتأكيد ، كما إن إرث الأرض كناية عن عدم وجود إنسان فيها ، حتى تكون الأرض محتملة لحيازته (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) بأعمالهم ، حيث لا يملك الأمر والنهي غيرنا ، فنجازيهم عليها.

[٤٢] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي في القرآن (إِبْراهِيمَ) وليس الذكر إنشاء الإنسان الكلام ، حتى يقال إن الله هو الذاكر لا الرسول ، بل الذكر هو أن يذكر شيئا سواء كان منشئا له أم ناقلا ، وقد جاءت قصة إبراهيم لتفنيد مزاعم العرب الذين عبدوا الشركاء ، وتذكيرهم ، بأن إبراهيم جدهم هو الذي حارب الشرك ، كما جاءت قصة عيسى عليه‌السلام من قبل لتفنيد مزاعم النصارى ، حيث يجعلون لله ولدا ، وبيان أن عيسى المسيح عليه‌السلام لم يكن ابنا لله ، وإنما كان عبدا رسولا (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) كثير التصديق لله سبحانه في جميع الأمور أو كثير الصدق (نَبِيًّا) مرسلا من قبل الله سبحانه ، وهو من النبوة بمعنى الرفعة ، أو من النبأ بمعنى الخبر ، لأن النبي رفيع الشأن مخبر عن الله سبحانه.

[٤٣] اذكره (إِذْ قالَ) حين قوله (لِأَبِيهِ) أي لعمه آزر ، فإن العادة أن يسمى العم أبا ، كما تسمى الخالة أما (يا أَبَتِ) أي يا أبي والتاء عوض عن الياء ، كما قال ابن مالك :

وفي النداء أبت ، أمت عرض

واكسر أو افتح ومن اليا التاء عوض

لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ

____________________________________

(لِمَ تَعْبُدُ) أي لماذا تعبد (ما لا يَسْمَعُ) أي الصنم الذي لا يسمع الكلام (وَلا يُبْصِرُ) شيئا (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي لا يكفيك حاجة من حوائجك يقال أغنى عنه ، إذا جلب إليه نفعا ، أو دفع عنه ضررا؟

[٤٤] (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) بالله سبحانه ، وبالأمور الكونية (ما لَمْ يَأْتِكَ) فلست أنت تعلم حول المبدأ ، والمعاد والكون ما أعلمه أنا (فَاتَّبِعْنِي) فيما أدعوك إليه (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي مستقيما لا عوج فيه ولا انحراف وهو صراط الحقيقة في باب المبدأ ، وسائر الشؤون لا الضلال ، كما عليه عبدة الأصنام.

[٤٥] (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لا تطعه ، فإن من يطيع أحدا يكون كالعابد له ، إذ العابد يطيع المعبود ، فهو مجاز من باب التشبيه ، ومثله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أي عاصيا ، فكيف تطيع من يعصي إلهك وخالقك؟ ومن المحتمل أن يكون آزر معترفا بالإله ، وإنما يعبد الأصنام تقربا إليه ، ولذا نفّره إبراهيم عن عبادة الشيطان بأنه عاص لله.

[٤٦] (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ) أي يلامسك (عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) الرحمن الذي هو مصدر الرحمة والتفضل ، يعذبك ، بما تخالفه ،

فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)

____________________________________

وتطيع الشيطان ، وتعبد الأصنام (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) بأن يكلك الله إلى الشيطان ، حتى تكون وليا وتابعا له ، لا وليا لله وتابعا إياه ، والشيطان لا يغني عن وليه شيئا ، فتخسر الدنيا والآخرة.

[٤٧] (قالَ) آزر ، مجيبا لإبراهيم في دعوته (أَراغِبٌ) أي هل تنفر (أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) معرض عنها (يا إِبْراهِيمُ) فإن رغب ، إذا عدي ب «عن» كان بمعنى النفرة ، وإذا عدي ب «في» كان بمعنى الطلب ، والاستفهام إنكاري (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن دعوتك ، وإعراضك عن الأصنام (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة ، فابتعد عني (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي فارقني وتنح عني دهرا طويلا ، فإن الملي بمعنى الدهر الطويل ، من ملو ، يقال كنت عنده ملوا أي زمانا طويلا.

[٤٨] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام في جواب آزر (سَلامٌ عَلَيْكَ) أي كن سالما ، وهذه كلمة يقولها الإنسان الحليم عند ملاقاة الجاهل ، كما قال سبحانه (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (١) وذلك من باب ترقيق الجو ، ولتلطيف نفس الجاهل العاتية ، حتى لا تزيده الدعوة والكلام بغضا وعنادا فوق ما كان (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي أطلب منه الغفران لك ، وذلك بأن يهديك حتى تستحق الغفران (إِنَّهُ) سبحانه (كانَ بِي حَفِيًّا) لطيفا بارا ، فلعله يقبل استغفاري ويهديك الصراط.

__________________

(١) الفرقان : ٦٤.

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا

____________________________________

[٤٩] (وَأَعْتَزِلُكُمْ) أتنحى عنكم ـ أنت والقوم ـ وقد سبق أن دعا إبراهيم القوم ، فلم ينفع فيهم الدعاء ، ولذا قرر أن يعتزلهم إلى مكان آخر يدعو فيه ، لعلهم يجيبون الدعوة ، فقد طاف إبراهيم عليه‌السلام ـ لتركيز دعوة التوحيد ـ العراق والشام ومصر والحجاز (وَ) أعتزل (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أتنحى عن أصنامكم ، إذ المبتعد عن بلد ، يبتعد عن كل شيء فيه (وَأَدْعُوا رَبِّي) لكم بالهداية (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي) لهدايتكم (شَقِيًّا) فيستجب دعائي في هدايتكم ، أي لعله سبحانه يقبل الدعاء ، ويردكم عن الضلال إلى الهدى ، وليس هذا تكرارا ، فإن ما سبق ، كان خاصا بآزر ، وهذا عام لكل القوم.

[٥٠] (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) إبراهيم (وَ) اعتزل (ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بأن فارقهم ، وهاجر إلى الأرض المقدسة ، لم نتركه وحده يقاسي الوحدة ، والغربة ، بل تفضلنا عليه بما يؤنس وحشته ، ويجمع شمله (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ولدا صلبيا (وَيَعْقُوبَ) ولد الولد (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) يهدي الناس إلى الحق ، فقد كثرنا إبراهيم عددا ، كما كثرنا الدعوة التي دعا بها إلى الله سبحانه ، فشددنا أزره بالأنبياء عليهم‌السلام ، الذين ينتهجون نهجه في الدعوة.

[٥١] (وَوَهَبْنا لَهُمْ) لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام (مِنْ رَحْمَتِنا)

وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ

____________________________________

وتفضلنا عليه (وَجَعَلْنا لَهُمْ) لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام (لِسانَ صِدْقٍ) فقد كانوا صادقين في دعوتهم يصدقهم الناس ، جزاء لاستقامتهم في الدعوة ، في قبال ذلك التكذيب الذي واجه القوم به إبراهيم ، قبل الاعتزال (عَلِيًّا) أي في حال كون ذلك اللسان عليا رفيعا ، ينظر إليه الناس برفعة ، حتى إذا قال شيئا أطاعوه ، وسمعوا منه.

[٥٢] ثم يأتي السياق ، ليبين دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ، وتفضل الله عليهم ، إجمالا بدون تفصيل ، إذ المقصود بيان الدعاة والدعوة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي اذكر يا رسول الله في القرآن (مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) قد أخلصه الله سبحانه لنفسه ، كما قال سبحانه (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (١) ف «مخلص» اسم مفعول من أخلص (وَكانَ رَسُولاً) إلى فرعون وملأه ، وإلى سائر البشر (نَبِيًّا) يأتيه الوحي من قبل الله سبحانه.

[٥٣] (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) الطور اسم جبل كان يناجي عليه موسى عليه‌السلام ربه ، أي ناديناه من طرف ذلك الجبل ، طرفه الأيمن لا الأيسر ، وذلك حين أقبل من «مدين» ورأى النار في الشجرة ، ولما دنا منها سمع الصوت (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢)

__________________

(١) طه : ٤٢.

(٢) القصص : ٣١.

وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤)

____________________________________

(وَقَرَّبْناهُ) إلينا في حال كونه (نَجِيًّا) نناجيه بكلام خفي لا يسمعه غيره ، فقد كان القرب إلى هذا الحد حد المناجاة والإسرار في الأذن ، لكن المراد ليس القرب المكاني ـ فإنه سبحانه منزه عن المكان ـ وإنما القرب المعنوي الذي هو عبارة عن جعل نفس موسى عليه‌السلام بحيث يتمكن من تلقي كلام الله سبحانه ، ثم إن من المعلوم ، إن الله لا يكلم باللسان ـ لأنه منزه عن الجسم وعوارضه ـ وإنما يخلق الصوت ، فيسمعه من كملت نفسه ، وأراد سبحانه إسماعه.

[٥٤] (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لموسى (مِنْ رَحْمَتِنا) وتفضلنا عليه (أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) فأنعمنا على موسى بجعل هارون نبيا ، يشد أزره ويساعده في الدعوة ، إجابة لدعائه ، حيث قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (١).

[٥٥] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (إِسْماعِيلَ) بن حزقيل ، كما ورد في الأحاديث ، لا إسماعيل بن إبراهيم الخليل (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) إذا وعد وفي ، ولو طالت المدة ، فقد ورد عن الصادق عليه‌السلام إنه إنما سمي صادق الوعد ، لأنه وعد رجلا في مكان ، فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسماه الله عزوجل صادق الوعد ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك ، فقال له إسماعيل ما زلت منتظرا لك (٢).

أقول : ليس معنى ذلك إن إسماعيل لم يعمل عملا في تلك

__________________

(١) طه : ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) الكافي : ج ٢ ص ١٠٥.

وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ

____________________________________

المدة ، فلعله كان مشتغلا بأمره ـ التبليغ ـ أو العمل أو نحوهما ، فلا يقال : كيف يترك الإنسان عمله سنة لوعد ، أليس عدم مجيء الصاحب دليل على خلفه ، حتى يكون إسماعيل في حل منه؟ (وَكانَ رَسُولاً) إلى قومه (نَبِيًّا) يوحى إليه ، من قبل الله سبحانه ، وقد ورد أن الله عزوجل بعثه إلى قومه ، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه فأتاه ملك ، فقال : إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال لي أسوة بما يصنع بالأنبياء (١).

[٥٦] (وَكانَ) إسماعيل (يَأْمُرُ أَهْلَهُ) أي عائلته ، أو عشيرته ، أو قومه ـ فإن الأهل يطلق على كل واحد من هؤلاء ـ وإن كان الأنسب بمقام النبوة إرادة المعنى الثالث (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) المراد بهذين اللفظين الخضوع لله سبحانه ، وإعطائه الفقراء وإن كان بغير صورة الصلاة والزكاة في هذه الشريعة فإن الصلاة بمعنى العطف ، والزكاة بمعنى النمو ، وفي الصلاة عطف نحوه سبحانه ، وفي الزكاة نمو للمال (وَكانَ) إسماعيل (عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) رضي سبحانه عن أعماله وأخلاقه وسيرته.

[٥٧] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (إِدْرِيسَ) سمي بذلك لكثرة دراسته للكتب ، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وهو أول من خط بالقلم وخاط ، ونظر في الحساب ، وقد كان الناس قبله

__________________

(١) راجع القصص للجزائري : ص ٣١٦.

إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)

____________________________________

يلبسون الجلود ـ كما روي ـ (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) كثير الصدق ، أو كثير التصديق لله سبحانه (نَبِيًّا) يوحى إليه من قبله سبحانه.

[٥٨] (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) أي إلى مكان عليّ رفيع ، إما رتبة بأن كانت رتبته ، ومنزلته عند الله رفيعة ، وإما محلا ، فقد ورد أنه رفع إلى السماء ، وهناك قبض روحه ملك الموت.

[٥٩] (أُولئِكَ) الذين تقدم أسماءهم (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالنبوة ، والمنزلة الرفيعة (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أبو البشر عليه‌السلام. (وَ) من ذرية (مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) في السفينة (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) يعني يعقوب عليه‌السلام ، وإنما ذكر سبحانه هذا التفصيل مع إن الجميع من ذرية آدم ، لبيان ذكر مراتبهم في شرف الانتساب ، أو شرف التفضل ، فمن كان منسوبا إلى إبراهم أشرف نسبا ممن لا ينتسب إليه ، وإنما ينتسب إلى آدم عليه‌السلام فقط ، كما أن من حمل أبوه في السفينة كان التفضل عليه أكثر ممن لم يحمل ، بأن كان قبل الطوفان (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي أنعمنا عليهم ، في جملة من هديناهم إلى الحق ، واخترناهم للنبوة والإرشاد ، إن أولئك كلهم (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) وتقرأ عندهم (آياتُ الرَّحْمنِ) الدالة على وجوده وصفاته (خَرُّوا سُجَّداً) جمع ساجد ، أي ساجدين لله سبحانه ، تعظيما له ولكلامه وآياته (وَبُكِيًّا) باكين ، فإن «بكى» على

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ

____________________________________

«فعول» جمع «باك» ونصب سجدا وبكي على الحال عن ضمير «خروا».

[٦٠] فأولئك الأنبياء المختارون ، الذين يسجدون لتلاوة آيات الله ، وتفيض أعينهم من الدمع عند قراءة كتابه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) جماعة من نسلهم وذريتهم (أَضاعُوا الصَّلاةَ) كاليهود خلف إسرائيل ، والمشركين من خلف إبراهيم عليه‌السلام ، وهكذا (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) الملذات الزائلة ، إذا رأوها ذهبوا وراءها ، ليتبعوها ، أولئك الأخيار جاء من بعدهم هؤلاء الأشرار (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ) أي يلقى هذا الخلف (غَيًّا) ضلالا ، وضياعا في الدنيا بالعيش الضنك ، وفي الآخرة بالعذاب والنار ، أو المراد يلقون جزاء غيهم ، يقال فلان يرى عمله ، أي يرى جزاء عمله.

[٦١] (إِلَّا مَنْ تابَ) عما سلف منه من المعاصي (وَآمَنَ) إيمانا صحيحا صادقا (وَعَمِلَ صالِحاً) في مقابل العمل السيئ ، الذي كان يعمله (فَأُولئِكَ) التائبون (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) لا يبخسون من جزاء أعمالهم الحسنة ، وإنما يعطى جزاؤهم كاملا غير منقوص.

[٦٢] ثم وصف سبحانه الجنة بقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ) والمراد بالجنة هناك الجنس ، ولذا صح وصفها بالجمع والعدن بمعنى الإقامة ، من عدن بالمكان ، إذا أقام فيه (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) المتفضل الراحم (عِبادَهُ)

بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ

____________________________________

المطيعين (بِالْغَيْبِ) أي وعدهم ، بما هو غائب عن حواسهم ، ولعل ذكر هذا الوصف ، لمدح المؤمنين بالجنة حيث أن العامل للغيب أكثر تحسينا من العامل لما يراه حاضر عنده ، أو لوصف الجنة ، كأنه يقال ، إن ما وعدتم به غائب لا تدرون ما هو؟ (إِنَّهُ) تعالى (كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) يأتي بالتأكيد ، ولا خلف فيه ، والمراد ب «وعده» أي ما وعد به ، أقيم المصدر مقام المفعول ، أو المراد وقت وعده.

[٦٣] (لا يَسْمَعُونَ) أي لا يسمع المؤمنون (فِيها) في تلك الجنات (لَغْواً) كلاما بلا ثمر ، سواء كان من قبيل السب والاستهزاء ، أم من قبيل الكلمات التي لا فائدة فيها (إِلَّا سَلاماً) حيث يسلم الملائكة عليهم ، ويسلم بعضهم على بعض ، وهذا الاستثناء منقطع ، كأنه قال «لا يسمعون فيها شيئا إلا سلاما ولا يسمعون اللغو» والاستثناء من باب المثال ، وإلا فهناك يتكلم بعضهم مع بعض ، أو المراد بالسلام كل كلام فيه سلامة من الباطل واللغو والإيذاء وما أشبه ، فالمراد «السلام» وصفا ، لا لفظا (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) في تلك الجنات (بُكْرَةً) صباحا (وَعَشِيًّا) مساء ، فإن ذينك الوقتين ، يتعارف فيهما الأكل لهم ، وإلا فلهم ما يشتهون في كل وقت (أُكُلُها دائِمٌ) (١) ثم إنه لا عشاء هناك ، إذ لا ليل ، وإنما ذلك من باب التشبيه.

[٦٤] (تِلْكَ) التي ذكرت أوصافها ، بالخلود ، والتعدد ، والسلام ، ووفرة

__________________

(١) الرعد : ٣٦.

الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ

____________________________________

الأرزاق ، هي (الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا) أي نعطيه إرثا بعض عبادنا من (مَنْ كانَ تَقِيًّا) يتقي الكفر والآثام ، التي قلنا عنها (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) وإنما سمي إرثا ، لأنه يأتي الإنسان بعقب أعماله في الدنيا ، كما أن الإرث يأتي الإنسان بعقب موت قريب له ، أما النسب فلا يجدي إرثه في دخول الجنة فقد ورث أولئك الأنبياء خلف أضاعوا الصلاة فلم ينفعهم النسب في إرث الجنة.

[٦٥] (وَما نَتَنَزَّلُ) نحن أهل الجنة محلا من الجنان (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فالمواضع هناك معينة ، لأصحابها ، لا يتمكن أحد من التخلف عن موضعه ، وهذا من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم ـ حيث إن الكلام كان حول أهل الجنة ، وإن المتقين هم الوارثون لها ـ وما ذكرناه من أن الآية من كلام أهل الجنة هو الأنسب بالسياق ، وهناك قول آخر ، إن الآية حكاية عن كلام جبرائيل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال له : ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) أي أمامنا (وَما خَلْفَنا) أي ورائنا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي المحل الذي نحن فيه ، فإنه المالك المطلق للجنة ، ولا ينزل أحد في موضع منها ، إلا بإذنه وأمره (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ينسى لأحد مقامه ، وما يستحقه ، بل يعطي كل واحد من الجنة المكان الذي هو بقدر عمله.

[٦٦] إنه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) كما كان رب أمام الجنة وخلفها ، وما بينهما فهو المالك المطلق للكونين (فَاعْبُدْهُ) أيها

وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)

____________________________________

الإنسان ، أو أيها الرسول (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) على تحمل المشاق ، ولا تكن كمن أضاع الصلاة ، واتبع الشهوات ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي من يسمى بكونه إلها ـ عن استحقاق ـ بمعنى أنه لا مثل له ، حتى يعلم ذلك ويعبد معه شريكا له.

[٦٧] إنه هو الله الواحد الذي لا شريك له ، له الأرض والسماء والجنة ، لكن الإنسان العاتي ، لا يعترف بالمعاد ، ويتعجب من أنه كيف يمكن إعادة الإنسان بعد الممات! (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) والمراد به هذا النوع ، لأكل فرد منه (أَإِذا ما مِتُ) «ما» زائدة ، لتزيين الكلام (لَسَوْفَ أُخْرَجُ) من قبري (حَيًّا) على نحو الاستفهام الإنكاري.

[٦٨] فرد عليه سبحانه بقوله (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) المنكر للمعاد (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي سابقا ـ قبل أن يكون هذا الكلام ـ (وَ) الحال أنه (لَمْ يَكُ شَيْئاً) فإن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة.

[٦٩] (فَوَ رَبِّكَ) يا رسول الله (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) نجمعهم للحساب يوم القيامة (وَالشَّياطِينَ) نحشر الشياطين معهم ، لنجمع بين القادة والأتباع ، بين من كان يوسوس في صدورهم بعدم البعث ، والذين اتبعوهم في الإنكار (ثُمَ) بعد الحشر (لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ) في أطرافها ، في حال كونهم (جِثِيًّا) جمع جاثي ، وهو الذي برك على ركبتيه ، فإنهم

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها

____________________________________

هناك في صور مزرية مهانة مقترنين مع الشياطين ، جاثين على الركب ، تلفحهم نار الجحيم ، كالمجرم الذي يجثو مع سائر المجرمين حول السجن ، يرى الذل والصفاد ، وقد كان هذا جزائهم ، حيث تكبروا في الدنيا ، ولم يطيعوا الأوامر ، وأنكروا المعاد.

[٧٠] (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ) لنستخرجن (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) من كل جماعة ، شايعوا طريقة خاصة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) «العتي» مصدر «كالعتو» وهو التمرد والعصيان ، أي نبدأ بالأعتى ، فالأعتى ، لنقلهم في جهنم أولا فأولا.

[٧١] (ثُمَ) هذا للتراخي في الكلام ، لا في الزمان ، وكأنه يأتى به للسياق والتناسب (لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها) أي بالنار (صِلِيًّا) الصلي مصدر صلى يصلي ، يقال صلى اللحم يصليه صليا شواه وألقاه في النار للطبخ والإحراق ، ومثله أصلاه وصلّاه ، والمعنى أنه لا يجار على أحد هناك ، بل إنما يصلى الكافر والعاصي حسب عملهما.

[٧٢] (وَإِنْ مِنْكُمْ) أي ما منكم أحد أيها البشر (إِلَّا وارِدُها) أي مشرف عليها ، كما قال سبحانه : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) (١) ، أي أشرف ، قال الصادق عليه‌السلام : أما تسمع الرجل يقول ، وردنا ماء بني فلان ، فهو الورود ولم يدخل (٢) ، أقول : ولعل ذلك باعتبار العبور من جهنم على

__________________

(١) القصص : ٢٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٨ ص ٢٩١.

كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)

____________________________________

الصراط ، فإن العابر يقال له الوارد ، فمن عبر المدينة على مركوب له ، يقال : ورد بلدة فلان (كانَ عَلى رَبِّكَ) ورود الجميع (حَتْماً) لازما (مَقْضِيًّا) قد قضاه وقدره.

[٧٣] (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ، أو ظلموا غيرهم (فِيها) أي في النار (جِثِيًّا) باركين على ركبهم ، يريدون النهوض ، فلا يتمكنون ، كما لا يقدرون على الاستراحة ، فهم دائمو العذاب ، والمراد ب «نذر» نلقيهم فيها ، حتى يبقون في جهنم.

[٧٤] إن الظالمين هناك مصيرهم النار ، كما عرفنا ، فما كان عملهم ، حتى استحقوا هذه النار؟ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي الأدلة المنزلة في القرآن ، أو مطلقا (بَيِّناتٍ) في حال كونها واضحات الدلالة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله والرسول ، وما جاء به (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) من المؤمنين والكافرين (خَيْرٌ مَقاماً) فهل مقامنا ، ومالنا من الدنيا خير أم مقامكم ومالكم في الدنيا؟ (وَ) أينا (أَحْسَنُ نَدِيًّا) أي مجلسا ، فإن الكفار يتفاخرون على المسلمين ، بأنهم أحسن منهم حالا ، فما حصل المؤمنون من إيمانهم؟ فلو كان الإيمان يقود الإنسان إلى السعادة فلما ذا نرى أن المؤمنين في ضنك وضيق والكفار في سعة

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ

____________________________________

ورفاه؟ لكن هذه مغالطة ، فالمؤمنون إنما هم في ضيق لمدة يسيرة ومن جراء عدم تكالبهم على الدنيا ، مع إن من المؤمنين منعمين في الدنيا ، كما يرينا التاريخ ، وسيجزون هنالك بأحسن وأفضل من دنيا الكافرين ـ بالنسبة إلى هذه الفترة الضيقة أيضا ـ.

[٧٥] إن عاقبة الكفر لا بد وأن تكون الهلاك والدمار ، وأن تمشي في أيام قليلة على زخارف الدنيا وبهرجها (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول (مِنْ قَرْنٍ) من الأجيال البشرية (هُمْ أَحْسَنُ) من هؤلاء المتبجحون القائلون (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (أَثاثاً) أي متاعا وزينة (وَرِءْياً) أي منظرا وهيئة ، فإن الله الذي أهلك الأمم ، التي كانت أكثر جمالا ومالا ، قادر على هلاك هؤلاء ، فليحدوا من كفرهم وكبرهم ، وإلا كان مصيرهم مصير أولئك.

[٧٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المتبجحين (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) والكفر (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي فدعه لأن يسعفه الله سبحانه بالمال والعمر وسائر الأمور المرتبطة بالدنيا ، وهذا تهديد في صورة الأمر ، كما نقول «دع الله يمهل الظالم» نريد أنه وإن أمهل لمصلحة ، فإن عاقبته لا بد وأن تكون إلى الخسار والفناء ، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) أي أمهلهم سبحانه ، حتى جاء الوقت المقدر لأخذهم (إِمَّا الْعَذابَ) الذي يجعل لهم في الدنيا (وَإِمَّا السَّاعَةَ) بأن ماتوا فقامت

فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)

____________________________________

قيامتهم ، وعذبوا في الآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ) حين أخذ الله لهم ، إما بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) هل مكان المؤمنين الناجين شرا أم مكانهم في العذاب (وَ) من هو (أَضْعَفُ جُنْداً) هل جند المؤمنين أضعف أم الكافرين؟ إنهم هنالك يعرفون أيهما كان خير مقاما وأحسن نديا ، وهذا كما تقول للطالب الكسول ـ الذي يضحك من جدك في الدرس ـ ستعرف لدى الامتحان أينا أحسن؟

[٧٧] إن للمؤمنين العاقبة الحسنى ، إما في الدنيا ، أو في الآخرة ، وللكافرين العاقبة السيئة ، إما في الدنيا أو في الآخرة ، وبالإضافة إلى العاقبة الحسنى ، فالمؤمن يزداد هدى في هذه النشأة ، وله الباقيات في تلك النشأة ، فله ثلاث أقسام من الخير ، بينما ليس للكافر إلا الدنيا المنغصة لذاتها فقط ، (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا) إلى الإيمان والإسلام (هُدىً) ورشادا ، فإن الإنسان في الدنيا يحتاج في كل خطوة هداية ورشادا ، وهكذا يأخذ الله بيد المهتدي في كل خطوة خطوة ، ليزيده هداية (وَالْباقِياتُ) أي الأعمال التي تبقى (الصَّالِحاتُ) مما قدمها الإنسان إلى آخرته (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) مما يصرفه الكفار في هذه الحياة من الملذات (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي عاقبة ومنفعة ، من رد بمعنى رجع ، فإن ثواب ذلك أحسن من لذة الكفار ، وإن ما يرجع الإنسان المؤمن إليه في الآخرة من عمله خير مما يرجع الكافر ، والحاصل أن الكافر إذا أنفق درهما في الخمر التذ هنا ، وجوزي بالنار هناك ، وإن

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ

____________________________________

المؤمن إذا أنفق درهما في الصدقة ، كان ثواب درهم أكثر لذة من لذة الخمر للكافر ، وجوزي هناك بالنعيم.

[٧٨] ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أن العاص بن وائل ، كان يطلبه خباب ابن الأرت دينا ، فأتاه يتقاضاه ، فقال له العاص : ألستم تزعمون أن في الجنة الذهب والفضة والحرير؟ قال : بلى ، قال : فالموعد ما بيني وبينك الجنة ، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا (١) ، فنزلت هذه الآيات (أَفَرَأَيْتَ) يا رسول الله ، وهذه الجملة تستعمل للتعجب ، أي هل رأيت كذا حتى تتعجب (الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) وهو العاص (وَقالَ لَأُوتَيَنَ) في الجنة (مالاً وَوَلَداً) فقد كان الكفار يزعمون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، فإن كانت هناك جنة فلهم النصيب الأوفر فيها.

[٧٩] (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أي هل اطلع هذا القائل على الغيب ، فعرف أنه هناك ، يعطى الأموال والأولاد؟ والأصل «أأطلع» فلما دخلت همزة الاستفهام على الفعل الماضي من باب «الافتعال» ـ إذ الأصل «أتطلع» فأدغمت التاء في الطاء ـ سقطت همزة الوصل تخفيفا (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) بأن صارت بينه وبين الله معاهدة ، بأن له المال والولد هناك؟ وإذا لم يكن أحد الأمرين ، فمن أين يقول : «لأوتين مالا وولدا»؟

[٨٠] (كَلَّا) ليس الأمر على ما زعم ، فإنه لا يعطى هناك مالا وولدا ،

__________________

(١) المناقب : ج ١ ص ٥٣.

سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ

____________________________________

و (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) لنجازيه به في القيامة ، والمراد أمر الحفظة بكتابة مقاله (وَنَمُدُّ لَهُ) في الآخرة (مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) فلا ينقطع عذابه ، وإنما يمتد أبد الدهر.

[٨١] إنه هنالك لا يظفر بالمال والولد ، وماله وولده هنا أيضا ، يترك لنا ، فلا ينتفع بهما (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي ما يتلفظ به من المال والولد ، إذ هو قال : «لأوتين مالا وولدا» (وَيَأْتِينا فَرْداً) هو وحده ، بلا شيء يفيده مما جمعه واتخذه هنا من أموال وأولاد ، إن العاص مثال الإنسان العاتي ، فكم له من أمثال من الكفار والمردة في هذه الحياة ، أرأيتهم حتى تأخذ العبرة منهم ، وتقف على عقولهم المتحجرة وأدمغتهم البليدة؟

[٨٢] ومن نقل كلامهم السخيف يعطف السياق نحو عقائدهم السخيفة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله وسواه (آلِهَةً) المراد بذلك الجنس ، أي اتخذوا هذا الجنس ، حتى يشمل الفرد أيضا ، فإن كلا من الجنس والجمع ، ينوب مقام الآخر ـ كما سبق ـ (لِيَكُونُوا) أي تلك الآلهة ، وإنما جاء بلفظ العاقل ، جريا على مزاعم القوم ، فإنهم كانوا يطلقون عليها لفظ العاقل (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (عِزًّا) فقد كانوا يعتزون بالآلهة في الدنيا ، ويظنون أنهم شفعاء لهم في الآخرة.

[٨٣] (كَلَّا) ليس الأمر كما ظنوا ، فليست الأصنام ، إلا سبب ذلهم

سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)

____________________________________

وانحطاطهم في الدنيا ، وفي الآخرة ، أما في الدنيا فقد كشفت عن سخافة عقولهم ، وأما في الآخرة ف (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) لهذه الآلهة ، فإنهم هناك يحلفون (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) (وَيَكُونُونَ) هؤلاء المشركون (عَلَيْهِمْ) أي على تلك الآلهة (ضِدًّا) ومعارضا ، أو المراد أن الآلهة تكون جاحدة للمشركين ، حيث يقولون : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٢) وأنهم يكونون ضدا للمشركين ، كما قال سبحانه : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) (٣).

[٨٤] (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي خلينا بينهم وبين الكفار ليسيئوا إليهم ما يشاءون ، يقال لمن خلى بين كلبه وبين عدوه ليؤذيه : أرسل كلبه عليه ، حيث كان بإمكانه أن يمنعه ، فلم يمنعه (تَؤُزُّهُمْ) أي تزعجهم (أَزًّا) إزعاجا وتغريهم بالشر والعصيان ، فكما قد فعلنا هذا بالكفار ـ جزاء إعراضهم عن الحق ـ كذلك نفعل بهم في الآخرة ، ونمدهم من العذاب مدا.

[٨٥] (فَلا تَعْجَلْ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) بأن تطلب لهم من الله العذاب ، فإنهم مأخوذون لا محالة ، وإنما التأخير ليزدادوا إثما (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ) أي نحسب أعمالهم (عَدًّا) تأكيد في العد ، حتى نعطيهم جزاء عملهم في الآخرة.

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

(٢) القصص : ٦٤.

(٣) البقرة : ١٦٧.

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨)

____________________________________

[٨٦] وسيرون جزاؤهم في يوم القيامة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) أي نجمع المتقين الذين اتقوا الكفر والآثام (إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) ومعنى إلى الرحمن إلى دار كرامته وفضله ، والوفد جمع وافد ، بمعنى المشرف ، ويستعمل في الجماعة التي تذهب من مكان إلى مكان.

[٨٧] (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) كالدواب التي تساق من خلفها ، والمراد بالمجرم الذي أتى بالجريمة (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) حال من المجرمين ، والورد هي الجماعة التي ترد الماء ، أي أنهم يردون جهنم ، كالإبل العطاش التي ترد الماء.

[٨٨] (لا يَمْلِكُونَ) أي لا يملك المجرمون (الشَّفاعَةَ) فلا يتمكنون أن يشفعون لغيرهم ، ولا يتمكن أحد أن يشفع لهم (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) يعني إلا الذين كانت بينهم وبين الله سبحانه ، معاهدة ، بأن يطيعه ويعطيه الجزاء الحسن ، فإنه هو الذي يملك أن يشفع إذا كان صالحا ، أو يشفع له إذا صدرت منه زلات ، والاستثناء منقطع ، والتقدير لا يملك أحد الشفاعة إلا هؤلاء ، أما المجرمون فلا يملكونها.

[٨٩] وكيف يملك الشفاعة من جاهر الله بالكفر والعصيان (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) بأن جعل المسيح ، أو العزير ، أو الملائكة ولدا له ، كما تقول النصارى واليهود والمشركون.

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)

____________________________________

[٩٠] (لَقَدْ جِئْتُمْ) أيها القائلون بهذه المقالات (شَيْئاً إِدًّا) الإد الأمر العظيم ، أي لقد قلتم بمقالة عظيمة القبح منكرة ، فكيف يتخذ الله ولدا؟

[٩١] (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتشققن (مِنْهُ) من هذا الكلام ، والمعنى لو كانت السماوات تنشق ، وتخرق من قول منكر لكانت تنشق من هذا الكلام (وَ) كادت (تَنْشَقُّ الْأَرْضُ) تفطر وتتشقق (وَ) كادت (تَخِرُّ الْجِبالُ) أي تسقط على الأرض (هَدًّا) أي كسرا شديدا ، فإن الهد الهدم بصوت شديد.

[٩٢] كاد كل ذلك ل (أَنْ دَعَوْا) هؤلاء الكفار (لِلرَّحْمنِ وَلَداً) ومعنى دعوا ، أي سموا وجعلوا.

[٩٣] (وَ) الحال أنه (ما يَنْبَغِي) أي لا يمكن (لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) فإن الولد الحقيقي غير معقول ، والولد بالتبني لا يصلح لأنه عبث لغو ، والحكيم منزه عن ذلك.

[٩٤] (إِنْ) ، ما (كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأنس والجن والملائكة (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) فكيف يمكن للعبد أن يكون ولدا؟ و «آتي» هنا مثل قوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١) أي أنهم عبيد لله سبحانه

__________________

(١) فصلت : ١٢.

لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)

____________________________________

تكوينا وخلقة ، فليس له منهم أولاد.

[٩٥] إن الجميع يأتون الله عبيدا ف (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) الله سبحانه (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فلا أحد منهم يتمكن أن لا يأتيه ، ولعل الفرق بين الإحصاء والعد ، إن الأول الحساب والإحاطة بهم في الجملة ، فإن الإحصاء بمعنى الضبط ، وذلك لا يلازم التعداد الدقيق.

[٩٦] (وَكُلُّهُمْ) أي كل من في السماوات والأرض (آتِيهِ) يأتيه (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) غير متصل بعشيرته ، وخدمه وأصدقائه ، ممن كان كذلك ، كيف يمكن أن يكون ابنا لله سبحانه ، وهل الابن ، إلا مكرم محترم ، لا يعد في جملة العبيد ، ولا يساق مساقهم؟

[٩٧] إن الهول ليأخذ بنواد الإنسان حين يسمع هذا العد والإتيان ، فهل المؤمنون أيضا يقاسون هذا الهول والوحشة؟ كلا! ف (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صحيحا بالأصول العقائدية (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة ، وقد ذكرنا سابقا أن ذلك يلازم ـ عرفا ـ عدم الإتيان بالسيئات (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) أي سيحيطهم بالمودة والحب ، ففي الدنيا يحبهم الناس ، وفي الآخرة يحاطون بود الله سبحانه لهم ، وود الملائكة إياهم ، وود الشفعاء والأنبياء والأئمة لهم ، وهل يستوحش من يحاط بمثل هذا الود؟ وما ورد من تفسير الآية من (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، هو الإمام المرتضى ، فهو من باب بيان المصداق

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)

____________________________________

البارز ، وإلا فالرسول ، وسائر الأئمة ، والصديقة ، والمؤمنون كلهم داخلون في هذا العموم.

[٩٨] إن هذه البشرى للمؤمنين ، وذلك الإنذار للكافرين والقرآن ميسر بلسان العرب ، ليعرفه من حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولا ، ثم يحملوه إلى سائر الناس ثانيا (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي سهلنا القرآن لك حيث إنه (بِلِسانِكَ) وعلى لغتك ، حتى تتمكن من التفهيم له بالنسبة إلى العرب المحيطين بك (لِتُبَشِّرَ بِهِ) بهذا القرآن (الْمُتَّقِينَ) تبشرهم بالجنة والثواب (وَتُنْذِرَ بِهِ) بسبب القرآن (قَوْماً لُدًّا) اللد جمع ألد ، وهو المخاصم الشديد الخصومة ، والقرآن مبشر لكل مؤمن ، وإن لم يكن متقيا ، ومنذر لكل كافر ، وإن لم يكن لدا ، إلا أن البشارة الكاملة ، والإنذار الشديد للطائفتين.

[٩٩] (وَ) أخيرا فليتذكر هؤلاء (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) قبل هؤلاء القوم المكذبين (مِنْ قَرْنٍ) من أمم كذبوا الرسل (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي هل يقع أحد منهم تحت حاسة من حواسك ، فتراهم ، أو تلمسهم (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا ، يعني أنهم ذهبوا وانقطعوا ، حتى لا يرى لهم شخص ، ولا يسمع لهم صوت ، ويكون مصير هؤلاء كأولئك ، عما قليل ، فليبادروا إلى التوبة ، لينالوا غفران الله تعالى.

(٢٠)

سورة طه

مكية / آياتها (١٣٦)

سميت السورة بهذا الاسم «طه» لافتتاحها بهذه اللفظة. وهي كسائر السور المكية تبين أصول الاعتقاد ، في جو قصصي جذاب. وحيث ختمت سورة «مريم» بإنزال القرآن (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) افتتحت هذه السورة بذلك (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله ، شعارا للمسلم ، وتبركا بهذا الاسم الكريم ، الذي هو المتفضل بالرحمة لعباده المؤمنين وغير المؤمنين ، كما قال سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١) والتكرار في الصفة للتأكيد على أنه سبحانه متصف بها ، مقابل الذين زعموا أن الإله قاس غليظ ، وهكذا عرّفوه للناس.

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)

____________________________________

[٢] (طه) فيه أقوال : منها أنه رمز بين الله والرسول ، ومنها أن المراد : أن القرآن المعجز مؤلف من «طاء» و «هاء» وسائر حروف الهجاء ، التي هي من جنسهما ، ومنها أنه اسم للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الصادق عليه‌السلام : «وأما طه : فاسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعناه : يا طالب الحق الهادي إليه» (١).

[٣] (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْقُرْآنَ لِتَشْقى) الشقاء استمرار ما يشق على النفس ، والسعادة عكسه ، أي لم يكن نزول القرآن عليك لأجل شقائك وإنما لأجل سعادتك وراحتك. فقد روي عن الإمام الكاظم عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام أنه قال : لقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه ، يقوم الليل أجمع ، فقال الله عزوجل : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) بل لتسعد به (٢).

[٤] (إِلَّا تَذْكِرَةً) أي إنما هو تذكرة وذكرى (لِمَنْ يَخْشى) الله سبحانه ، والتذكرة والتذكير مصدران لباب التفعيل ، وإنما كان تذكرة لأن الأصول والفروع بصورتها الإجمالية كامنة في نفس كل إنسان.

[٥] وقد نزل (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) وإنما كان تنزيلا لأن الله سبحانه أعلى مرتبة عن البشر فما يأتي منه تنزيل وإن لم يكن علو خارجي ، أو باعتبار إتيان جبرائيل به من السماء (وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي الرفيعة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٦ ص ٨٦.

(٢) المستدرك : ج ٤ ص ١١٨.

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧)

____________________________________

العالية ، وهو جمع العلياء ، كالدنى جمع الدنيا ، مؤنث الأعلى والأدنى ، فالذي خلق الكون هو الذي أرسل هذا المنهاج ، فما أجدر به أن يتبع منهاج المالك العالم.

[٦] وهو (الرَّحْمنُ) الذي يترحم ويتفضل فله الخلق والرحم (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أي استولى وهو كناية عن المالكية المطلقة ، يقال جلس الملك على العرش أي استولى وسيطر على المملكة.

[٧] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) ظرفا ومظروفا ، وقد تقدم أنه قد يطلق أحدهما ويراد به الأمران (وَما فِي الْأَرْضِ) مما قرب منهما كالإنسان والحيوان والنبات والأنهار وغيرهما (وَما بَيْنَهُما) من الفضاء ، والهواء ، وسائر الأشياء المتوسطة بينهما (وَما تَحْتَ الثَّرى) وهو التراب ، وما تحته كالمعادن والكنوز وهذا لتأكيد كونه مالكا مطلقا لكل شيء.

[٨] وهو بالإضافة إلى كونه خالقا مالكا راحما مستوليا ، عالما بكل شيء (وَإِنْ تَجْهَرْ) يا رسول الله أو كل من يأتي منه الجهر (بِالْقَوْلِ) بأن ترفع صوتك بما تقول ، وقد أطلق «تجهر» وأريد منه «إرادة الجهر» أي لا حاجة إلى الجهر في الدعاء (فَإِنَّهُ) سبحانه (يَعْلَمُ السِّرَّ) الذي يناجي به أحدنا غيره (وَأَخْفى) من السر كالذي في الصدور من الأفكار والوساوس ، فقد خلق هو سبحانه جهر الكون وسره «وهو ما تحت الثرى» ويعلم جهر الصوت وسره والأخفى من السر ، وقد روي

اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا

____________________________________

عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام : إن السر ما أخفيته من نفسك وأخفى منه ما خطر ببالك ثم نسيته (١).

[٩] إن هذه كلها صفات ل (اللهُ) الذي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الأسماء الحسنة كالخالق والرازق ، والمنعم وما أشبه ، مقابل أسماء السوء كالظالم والفاسق والجائر ونحوها ، و «حسنى» مؤنث أحسن ، جيء مؤنثا باعتبار الجمع.

[١٠] ثم يأتي السياق لعرض جانب من جوانب قصة موسى ، فإن هذه القصة توافق المسلمين من بدء ولادة الإسلام إلى يوم الرجعة ، فما أحوجهم بالتملي منها ، والاعتبار بها ، وقد تكررت هذه القصة في القرآن بأساليب مختلفة وصور متنوعة ، والغالب الإشارة في كل قصة منها إلى جانب من الجوانب وبمناسبة من المناسبات (وَهَلْ أَتاكَ) يا رسول الله (حَدِيثُ مُوسى)؟ وهذا استفهام تقريري ، نحو قول أحدنا لغيره هل سمعت بخبر فلان؟

[١١] (إِذْ رَأى ناراً) فإن موسى عليه‌السلام لما فر من فرعون جاء إلى مدين وتزوج هناك بابنة شعيب ، ثم استأذن شعيب في الخروج إلى أمه فخرج بأهله فلما وافى وادي طور وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وقد أضل الطريق وتفرقت ماشيته فرأى من جانب الطور ما يشبه النار حتى ظنها نارا (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي الزموا مكانكم

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٤ ص ٧٩.

إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ

____________________________________

قليلا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت نارا هناك ، فإن الإيناس وجدان الشيء الذي يؤنس به (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها) من تلك النار (بِقَبَسٍ) شعلة أقتبسها وآخذها لندفأ ونصطلي (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي أجد على النار هاديا يدلني على الطريق ، فإن النار غالبا لا تخلو من أهل عند ما أشعلوها.

[١٢] (فَلَمَّا أَتاها) أي جاء موسى إلى النار وجدها تتقد في شجرة (نُودِيَ) من طرف الشجرة (يا مُوسى).

[١٣] (إِنِّي) المتكلم معك (أَنَا رَبُّكَ) وقد علم موسى صدق الكلام لخوارق ظهرت عند ذلك مما دلت على أن النداء ليس إلا من جانبه سبحانه (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي انزعهما ، فإن الإنسان إذا أراد أن يمشي في محل مقدس كان من الاحترام أن يمشي حافيا (إِنَّكَ) يا موسى (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي المنزه عن الأنجاس (طُوىً) اسم الوادي ، أو لأنه طوي بالقدس مرتين ، مرة بتقديس الأرواح واصطفاء الملائكة ، ومرة باصطفاء موسى ، وتكليم الله معه ، فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه سئل عن الوادي المقدس؟ فقال : لأنه قدست فيه الأرواح واصطفيت فيه الملائكة ، وكلّم الله عزوجل موسى تكليما (١).

[١٤] (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي اصطفيتك للرسالة (فَاسْتَمِعْ) يا موسى

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ٦٦.

لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥)

____________________________________

(لِما يُوحى) إليك من كلامه ، فاصغه واعمل به.

[١٥] ولما استعد موسى عليه‌السلام للاستماع أوحى إليه الله قائلا : (إِنَّنِي) المتكلم معك (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) فلا شريك لي ولا مثيل (فَاعْبُدْنِي) أي ائت برسوم العبودية لأجلي خالصا (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) ائت بها كاملة بآدابها وشروطها (لِذِكْرِي) لأن تذكرني بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والتمجيد ، فإن الصلاة إنما شرعت لكونها ذكر الله سبحانه.

[١٦] هذا حول المبدأ ، أما المعاد (إِنَّ السَّاعَةَ) يوم القيامة الذي يحشر فيه الخلائق (آتِيَةٌ) لا محالة (أَكادُ أُخْفِيها) قد يعبر بهذا التعبير لبيان أن الشيء ظاهر ولكن المتكلم يريد إخفاءه ، يقول أكاد أخفي قلمي ـ فيما إذا كان ظاهرا ـ وقد يعبر لبيان أن الشيء ظاهر قريب بإخفاء ، فهو كالشيء الذي يراد إخفاءه ، ليس ظاهرا كل الظهور ، ولا مخفيا كل الإخفاء ، والظاهر أن هذا المعنى هو المراد هنا ، إذ الساعة بين الظهور والخفاء ، فأصلها ظاهر ، ووقتها مخفي ، وإنما يراد إخفاءها بهذا المقدار (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) فإن الساعة لو كانت ظاهرة لكل أحد لم يكن سعي الناس في الطاعة إلا خوفا من العاقبة الحتمية المعلومة لديهم ، أما إذا كانت مخفية ـ ولو في الجملة ـ كان الجزاء حسب السعي الطبيعي ، لا السعي الجبري ، وقد كان من حكم إخفاء الساعة إن الإنسان لا يدري متى تأتي فهو بين خوف ورجاء ، ألا ترى

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨)

____________________________________

أن الموت لو كان معلوم الوقت ، كان هذا العالم بغير هذا الشكل الذي نراه إذ وقف من قرب أجله عن العمل ، وغلا من بعد في الإسراف والتبذير ، وهكذا ، ومعنى بما تسعى : ما تعمل من خير أو شر.

[١٧] (فَلا يَصُدَّنَّكَ) لا يمنعنك يا موسى (عَنْها) عن الساعة ، والمراد عن الاستعداد والتهيؤ لها (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) بأن يوسوس إليك لتترك التهيؤ والعمل لأجلها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) بأن عمل حسب ما يشتهيه لا حسب ما ينقذه عند الساعة (فَتَرْدى) أي تهلك كما هلك الذي لا يؤمن.

[١٨] ثم خاطبه سبحانه بقوله : (وَما تِلْكَ) ما هذا الشيء الذي (بِيَمِينِكَ) في يدك اليمنى (يا مُوسى)؟ وقد علم الله ما في يده ، ولذا قال (ما تِلْكَ) بالإشارة إلى المؤنث رعاية لكون العصا مؤنثة ، وإنما أراد توجيه موسى عليه‌السلام إليها ، ليوقع المعجز بها.

[١٩] (قالَ) موسى عليه‌السلام في الجواب (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أعتمد عليها في مشيي ، فإن التوكؤ بمعنى التحامل على العصا في المشي ، والتوكؤ والاتكاء بمعنى واحد ، كالتوقي والاتقاء (وَأَهُشُّ بِها) والهش ضرب ورق الشجر ليتساقط ، أي أسقط بها ورق الشجر (عَلى غَنَمِي) أي لغنمي ، وحيث إن الورق يقع من فوق على الغنم جيء ب «على» (وَلِيَ فِيها) في العصا (مَآرِبُ) جمع مأرب وهي الحاجة (أُخْرى)

قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢)

____________________________________

وإنما جاء المفرد صفة الجمع ، باعتبار الجماعة ، كصرد السباع ، ومحاربة اللصوص ، وتركيزها لإلقاء شيء عليها وقاية من الشمس وغيرها.

[٢٠] (قالَ) الله سبحانه (أَلْقِها) أي اطرح العصا (يا مُوسى).

[٢١] (فَأَلْقاها) موسى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي فإذا بها انقلبت حية وأخذت تمشي سريعا.

[٢٢] ولما رأى موسى عليه‌السلام إنها انقلبت حية خاف منها خوفا شديدا ف (قالَ) الله سبحانه (خُذْها) أي الحية (وَلا تَخَفْ) منها أن تلدغك (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) سنرجعها إلى حالتها المتقدمة ، فتقلب عصا كما كانت ، والسيرة : الطريقة ، واستعمالها بمعنى الحالة مجاز من باب التشبيه. فإن الحالة للشيء كالطريقة المستمرة له.

[٢٣] (وَاضْمُمْ يَدَكَ) يا موسى (إِلى جَناحِكَ) الجناح هو اليد ، سميت به تشبيها بجناح الطائر ، أي ضع يدك تحت إبطك ، ثم أخرجها فإنها (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) تشرق (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير عاهة ومرض فليس بياضها من قبيل بياض البرص ، ففعل موسى عليه‌السلام ذلك ، وإذا بيده كالشمس الطالعة تضيء لها الدنيا ، وكان إذا أراد إرجاعها كالسابق ، أدخلها تحت إبطه ثانيا فإذا أخرجها كانت كالحالة السابقة (آيَةً أُخْرى)

لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)

____________________________________

أي علامة ثانية على صدق دعواك النبوة ونصب «آية» على تقدير : نزيدك بها ، أو تقدير تخرج بها.

[٢٤] و (لِنُرِيَكَ) يا موسى في المستقبل ، أي نجري يديك (مِنْ آياتِنَا) حججنا وبراهيننا (الْكُبْرى) أي الآية الكبرى.

[٢٥] وإذ زودناك بهذه الآيات ف (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) فادعه إلي (إِنَّهُ طَغى) تجبر وتجاوز الحد ، من الطغيان.

[٢٦] (قالَ) موسى عليه‌السلام عند ذلك يا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) وشرح الصدر توسعته ، وهو كناية عن عدم الضجر بالتكذيب ، وذلك لأن المتضجر تشتد فيه الحرارة ، فتنتفخ رئته أكثر من المعتاد لتجذب الهواء المبرد للقلب أكثر ، وبانتفاخها يضيق الصدر ، لأنها فيه.

[٢٧] (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي سهل لي أمر التبليغ ، حتى لا يكون عسيرا لدي.

[٢٨] (وَاحْلُلْ) أي فك (عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) فقد كان موسى عليه‌السلام يعقد لسانه في الكلام ، فدعا الله سبحانه أن يحل هذه العقدة من لسانه لئلا يقع في معرض الاستهزاء.

[٢٩] ول (يَفْقَهُوا) أي يفهم فرعون وحاشيته (قَوْلِي) كلامي. وقد روي عن الباقر عليه‌السلام أن فرعون كان يقتل أولاد بني إسرائيل كلما يلدون ويربي موسى عليه‌السلام ويكرمه ولا يعلم أن هلاكه على يديه ، ولما درج

وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)

____________________________________

موسى كان يوما عند فرعون فعطس ، فقال : الحمد لله رب العالمين فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه ، وقال : ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته وكان طويل اللحية فهبلها ، أي قلعها فآلمه ألما شديدا ، فهمّ فرعون لقتله ، فقالت له امرأته : هذا غلام حدث لا يدري ما يقول فقال فرعون : بلى يدري ، فقالت له : ضع بين يديك تمرا وجمرا فإن ميز بين التمر والجمر فهو الذي تقول ، فوضع بين يديه تمرا وجمرا وقال له : كل فمد يده إلى التمر فجاء جبرائيل فصرفها إلى الجمر فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه وصاح وبكى ، فقالت آسية لفرعون : ألم أقل لك إنه لم يعقل؟ فعفا عنه. أقول : ومن هنا كان في لسان موسى شبه العقدة ، فلا يتمكن أن يتكلم إلا ويعقد لسانه ، حتى دعا الله ، فرفع عنه.

[٣٠] (وَاجْعَلْ لِي) يا رب (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) يعاضدني ويساعدني في الدعوة ، وليكن من أهلي ، لأن الأهل أعطف على الإنسان من الأجنبي وأقرب إلى الانسجام والألفة.

[٣١] (هارُونَ) أي ليكن ذلك الوزير هارون (أَخِي) وكان أخاه لأبيه وأمه ، وكان بمصر.

[٣٢] (اشْدُدْ بِهِ) أي قوّ بسبب هارون (أَزْرِي) أي ظهري ، ومنه المئزر لما يشد على الظهر.

[٣٣] (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي اجمع بيني وبينه في النبوة ليكون هو نبيا أيضا ، وهذا غير كونه وزيرا له ، وإنما طلبه لأن النبي له أقوى داع إلى

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨)

____________________________________

الهداية بخلاف مجرد الوزير.

[٣٤] إن الدعوة تحتاج إلى عبادة كثيرة توجب قوة الصلة بالله سبحانه حتى يتمكن الإنسان بتلك الصلة القوية أن يحمل المشاق ، وكثرة العبادة تتأتى لمن له معاون وشريك ، لأن النفس تنشط عند الاجتماع في العمل بما لا تنشط عند الانفراد ، فمهمة الدعوة تحتاج إلى شريك يقوم بمساعدة الإنسان لتهيئة النفس وتربية الروح ، ولذا قال عليه‌السلام : (كَيْ نُسَبِّحَكَ) يا رب (كَثِيراً) فننزهك عما لا يليق بك.

[٣٥] (وَ) كي (نَذْكُرَكَ كَثِيراً) حتى تشتد الصلة ويكون الله هو المتجلي الوحيد في النفس.

[٣٦] (إِنَّكَ) يا رب (كُنْتَ بِنا بَصِيراً) فتعلم احتياجنا إلى هذه الأشياء ، مما لا تتأتى إلا بالوزير الظهير.

[٣٧] (قالَ) الله سبحانه ، في جواب طلبات موسى عليه‌السلام (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) أي سؤالك وطلبك (يا مُوسى) فقد حلت عقدة لسانك ، وجعلنا هارون نبيا ووزيرا لك.

[٣٨] (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) يا موسى (مَرَّةً أُخْرى) غير هذه المرة التي مننا عليك فيها بالنبوة وإجابة الدعاء.

[٣٩] وتلك المنة والنعمة عليك كانت في حال صغرك (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) ألهمناها (ما يُوحى) أي المطلب الذي كان من شأنه أن يلهم

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩)

____________________________________

إليها لنجاتك.

[٤٠] وكان الإلهام (أَنِ اقْذِفِيهِ) أي اطرحي أيتها الأم ولدك موسى (فِي التَّابُوتِ) وهو صندوق من خشب ، ثم سدي رأس التابوت حتى لا يدخل فيه الماء (فَاقْذِفِيهِ) اطرحي التابوت (فِي الْيَمِ) أي البحر ، وهو البحر الأحمر الموجود في مصر ، ثم يحمل التابوت الماء ، حتى يصل قرب الساحل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) وهو شاطئ البحر ، ثم ماذا؟ (يَأْخُذْهُ) أي يأخذ التابوت (عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) وهو فرعون فقد كان عدوا لله سبحانه وعدوا لموسى بالذات ، حيث إنه قرأ وعلم إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون على يده ذهاب ملكه ، فأمر أن يقتل الأولاد الذين يولدون في بني إسرائيل ، ومن خوف القتل ، صنعت أم موسى تابوتا ، وجعلته فيه ، وقذفته في البحر ، لئلا ترى قتل ولدها ، وليصنع معه ما شاء (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ) يا موسى (مَحَبَّةً مِنِّي) أي من جانبي ، حتى أن كل من يراك أحبك حتى أن فرعون بمجرد ما رآه أحبه ، ولم يقتله (وَلِتُصْنَعَ) اللام جارة ، لا لام الأمر ، وإن مقدّرة ، ولذا نصب الفعل ، أي ولعة أن تصنع وتربى (عَلى عَيْنِي) تحت رقابتي وبمرأى مني ، ألقيت عليك محبة ، فإن المحبة موجبة للرعاية التي كنى عنها ب (لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) إذ بين العناية والرعاية وبين النظر تلازم السبب والمسبب ، إذ رؤية الإنسان لأحد وكونه تحت نظره ، موجب لرعايته ، وكلمة «على عيني» تشمل على الاحترام ،

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ

____________________________________

والحفظ في أعز الأماكن ، فإن الاحترام مستفاد من لفظة «على» وبناء على ما ذكر فجواب «لتصنع» محذوف لدلالة الجملة السابقة عليه.

[٤١] (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) الظرف متعلق بتصنع ، أي كان ذلك في زمان مشي أختك ، أو لأجل أن تصنع على عيني قدرنا مشي أختك (فَتَقُولُ) أختك لآل فرعون ، حيث أرادوا لك مرضعة (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) يقوم بشؤونه؟ (فَرَجَعْناكَ) يا موسى (إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) برؤيتك وحياطتك ، وقرار العين كناية عن السرور ، مقابل الواله الذي تطير عينه هنا وهناك (وَلا تَحْزَنَ) لا يحزن قلبها ، فيضفي رجوعك عليها الهدوء والسكينة في ظاهرها وباطنها.

ورد أن موسى لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعه ، وكان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط تحفظهن ، وذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل قولهم : أنه يولد فينا رجل يقال له موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يديه ، فقال فرعون عند ذلك : لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون ، وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس ، فلما وضعت أم موسى بموسى ، نظرت إليه وحزنت واغتمت وبكت ، وقالت : يذبح الساعة فعطف الله بقلب الموكلة بها عليه ، فقالت لأم موسى : ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت : أخاف أن يذبح ولدي ، فقالت : لا تخافي ، وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه وهو قوله «وألقيت عليك محبة مني» فأحبته القبطية الموكلة به ، وأنزل الله على أم موسى التابوت ، ونوديت : ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليم ، وهو البحر ولا تخافي

____________________________________

ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فوضعته في التابوت وأطبقت عليه وألقته في النيل ، وكان لفرعون قصور على شط النيل منزهات ، فنظر من قصره ومعه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج ، والرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصره ، فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت ورفع إليه ، فلما فتحه وجد فيه صبيا ، فقال : هذا إسرائيلي ، فألقى الله في قلب فرعون لموسى محبة شديدة وكذلك في قلب آسية ، وأراد فرعون أن يقتله فقالت آسية : لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون أنه موسى ، ولم يكن لفرعون ولد فقال : ادنوا له ظئرا لتربيته ، فجاءوا بعدة نساء قد قتل أولادهن فلم يشرب لبن أحد من النساء وهو قول الله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) (١) وبلغ أمه أن فرعون قد أخذه فحزنت وبكت كما قال الله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) ، قال : كادت أن تخبر بخبره أو تموت ثم حفظت نفسها فكانت كما قال الله : لو لا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ، ثم قالت لأخته : قصيه ، أي اتبعيه ، فجاءت أخت موسى إلى قصر فرعون ، فبصرت به عن جنب أي عن بعد وهم لا يشعرون ، فلما لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء اغتم فرعون غما شديدا ، فقالت أخت موسى : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟ فقالوا : نعم.

فجاءت بأمه فلما أخذته بحجرها ، وألقمته ثدييها التقمه وشرب ، ففرح فرعون وأهله وأكرموا أمه ، فقال لها : ربيه لنا فإنا نجزيك خيرا ، وقد كان الفصل بين إلقاء الأم لموسى في البحر ورده إليها

__________________

(١) القصص : ١٣.

وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)

____________________________________

ثلاثة أيام (١) (وَقَتَلْتَ) يا موسى (نَفْساً) من القبط ، فقد كان في مصر طائفتان ، القبط وهم قوم فرعون ، والإسرائيليون وهم أحفاد يعقوب ، وكان القبط كفارا والإسرائيليون مسلمون حيث ورثوا الدين والإسلام عن آبائهم ، فقد قال لهم يعقوب حين موته : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢) فمر موسى ذات يوم على رجلين أحدهما قبطي والآخر إسرائيلي يتشاجران فاستغاث بموسى الإسرائيلي ، وهناك تقدم موسى وضرب القبطي ضربة مات منها (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) حيث أمرناك وألهمنا إليك أن تفر من مصر لئلا يقتلك فرعون ، فقد جاءه آت ليقول له : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) (٣) (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي اختبرناك اختبارا ، وابتليناك ابتلاء من الخوف في مصر ، ثم قتل القبطي ، ثم الفرار من الوطن واجلا خائفا ثم غير ذلك من أنواع المصائب ، التي تؤهل الإنسان للقيام بالمهام فبعد ذلك كله (فَلَبِثْتَ) وبقيت (سِنِينَ) عشرة (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) عند شعيب النبي عليه‌السلام حيث تزوج موسى بابنته ، ومدين على ثمان مراحل من مصر ـ كما في الصافي ـ (ثُمَ) بعد تلك الامتحانات والمشاق (جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) بتقدير من الله ، لإنجاز المهمة وأداء الرسالة (يا مُوسى) فلتتذكر النعم ، ولتستعد للرسالة.

[٤٢] (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) فأنت مصنوع لأجل العمل لله وحده ، فلا شيء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ٢٥.

(٢) البقرة : ١٣٣.

(٣) القصص : ٢١.

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥)

____________________________________

منك للدنيا أو لأهلك. وإنما خالص محض للرسالة والتبليغ.

[٤٣] (اذْهَبْ) يا موسى (أَنْتَ وَأَخُوكَ) أي وليذهب أخوك هارون ، مثل «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض» أي نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض (بِآياتِي) أي مصاحبين للأدلة والبراهين الدالة على صدقكما في دعوى النبوة (وَلا تَنِيا) من ونى يني ، بمعنى الضعف والفتور (فِي ذِكْرِي) أي لا تضعفا في أداء رسالتي ، بل بلغا بكل جد واهتمام.

[٤٤] (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) كرر الأمر بالذهاب ، توطئة لذكر المتعلق ـ وهو فرعون ـ (إِنَّهُ طَغى) تجاوز الحد في الظلم والاعتداء.

[٤٥] (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي أرفقا به في الدعوة ولا تغلظا له في البلاغ والإرشاد (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) نعم الله عليه التي قد نساها (أَوْ يَخْشى) عذاب الله ، فيؤمن شكرا ، أو حذرا ، والرفق واللين يؤثران بما لا يؤثر الغلظة والخشونة.

[٤٦] (قالا) أي قال موسى وهارون عليه‌السلام يا (رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي يتقدم فينا بعذاب ويعجل علينا ، من فرط بمعنى تقدم ، ومنه يسمى الإسراف إفراطا لأنه تقدم على الحق (أَوْ أَنْ يَطْغى) بأن تصير دعوتنا له سببا لطغيانه بأن يكثر من الاجرام ، كما هو عادة المتجبرين

قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ

____________________________________

إذا ذكّروا بالحق ازدادوا تجبرا وعتوا.

[٤٧] (قالَ) الله عزوجل لهما (لا تَخافا) من فرطه أو طغيانه (إِنَّنِي مَعَكُما) بالعلم والاطلاع أسندكما وأحفظكما (أَسْمَعُ) حواركما وإياه (وَأَرى) مجلسكما ومجلسه ، فألهمكما مما لا يسبب طغيانه وغلوائه ، وأمنعه من أن يطغى.

[٤٨] (فَأْتِياهُ) أي اذهبا إليه (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أرسلنا إليك خالقك وإلهك (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي بلغاه هذه الرسالة من طرفي ، وهي أن يطلق سراح بني إسرائيل ، ويجعلهم أحرارا كما يشاءون حتى ب تحت لواء موسى وهارون (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالاستعمال في الأعمال الشاقة ، فقد كانت بنو إسرائيل تحت تعذيب فرعون وأسره ، فكان منهم الأسراء في السجون ، ومنهم المسخر في أعمال البناء ، ومنهم المسخر في سائر الشؤون الشاقة المتعبة (قَدْ جِئْناكَ) أي أتينا إليك يا فرعون (بِآيَةٍ) حجة وبرهان (مِنْ رَبِّكَ) تدل على صدقنا وصحة دعوانا النبوة ، والمراد بالآية الجنس لتشمل العصا واليد وغيرهما (وَالسَّلامُ) أي السلامة من عذاب الله (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) ولم يتبع الهوى ، فإن اهتديت سلمت من بأس الله وإلا كنت معرضا للخطر.

[٤٩] (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) من قبل الله سبحانه (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ)

وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١)

____________________________________

بآيات الله (وَتَوَلَّى) أي أعرض عن الهداية ، فإن كذبت وتوليت كان لك العذاب والنكال ، وإلا آمنت وسلمت.

[٥٠] (قالَ) فرعون لهما (فَمَنْ رَبُّكُما) ولم يقل ربي لأنه لم يكن يعترف به (يا مُوسى)؟ وجعل الخطاب لموسى لأنه هو المتكلم ، وقد أراد فرعون السؤال عن جنس الله هل هو بشر أو غيره؟ لكن موسى أجاب ببيان صفات الله سبحانه ، لأن الله لا يعرف كنهه.

[٥١] (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فخلق هذه الأشياء كلها منه ، والمراد بالخلق الوجود ، لأنه سبب للوجود (ثُمَّ هَدى) أي هداه طريقه في الحياة كيف يبقى ويعيش ، فقد هدى الله الأشياء إلى طرقها الفطرية الطبيعية إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا أم جمادا ، وإن كانت الهداية في النبات والجماد على ضرب من التوسع.

[٥٢] (قالَ) فرعون ، موجها لموسى عليه‌السلام سؤالا ثانيا (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) أي ما شأن الأمم الماضية ، فأين ذهبت؟ وماذا مصيرها؟ ومن كان ربها فقد هلكت ، ولا تعرف لها ربا؟ ولعله أراد بذلك أن يقول أن هذا القرن كتلك القرون ، فهي كما عاشت لا تعترف بالرب كذلك هذا القرن ، فما هذا الذي جئتم به؟

[٥٣] لكن موسى عليه‌السلام لم يكن ليشغل نفسه بالبحث حول أولئك ، فإنه أمر لا يرتبط بالدعوة فعلا ، وقال أرباب المناظرة ، أن من عدم الفطنة أن

قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)

____________________________________

يشغل الإنسان نفسه بما لا يرتبط بمبحثه في الصميم ، ولذا (قالَ) عليه‌السلام (عِلْمُها) أي علم تلك القرون (عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي) لذلك الكتاب ، أو لا يخطئ في أمر تلك القرون (وَلا يَنْسى) ما فيه ، يعني أن الله سبحانه هو العالم بشؤون تلك الأمم وقد أثبت شؤونها في كتاب خاص لا يتطرق إليه الضلال ، ولا الغلط.

[٥٤] ثم رجع موسى عليه‌السلام إلى صميم الموضوع وهو التعريف بإله الكون بذكر صفاته وآثاره ، فإن ربي هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) كالمهد للطفل الذي يستقر فيه ويكون سببا لراحته وصحته (وَسَلَكَ لَكُمْ) السلك هو إدخال الشيء في الشيء أي أدخل لأجلكم (فِيها) أي في الأرض (سُبُلاً) جمع سبيل ، أي طرقا لسيركم من محلكم إلى مقصدكم.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) لشربكم والتمتع به في سائر حوائجكم ، ثم التفت السياق من الغيبة إلى التكلم ، بإتيان جملة خارجة عن كلام موسى ، لينتقل بالناس من محيط القصة إلى المشافهة والمشاهدة ، وذلك أبلغ تأثيرا في نفس السامع ، كما وقع مثله في سورة الحمد (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بذلك الماء (أَزْواجاً) أصنافا (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) جمع شتيت ، كمرضى جمع مريض ، والمراد بالنبات الجنس ولذا وصف بالجمع ، نحو «الدرهم البيض» والنباتات مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح والخواص والأوزان وغير ذلك ، فمن يا

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)

____________________________________

ترى جعل كل ذلك؟ أم من يقدر على أن يخرج هذا المختلف العجيب الاختلاف من أرض واحدة وماء واحد.

[٥٥] (كُلُوا) أيها البشر من هذا النبات المختلف (وَارْعَوْا) فيها (أَنْعامَكُمْ) أي أسيموهم حيواناتكم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من آيات الله سبحانه (لَآياتٍ) دلالات على وجود الله وعلمه وقدرته (لِأُولِي النُّهى) جمع نهية وهي العقل ، وإنما قيل له نهية ، لأنه ينهى الإنسان عن الفساد ، أي أن أصحاب العقول يعتبرون بهذه الآيات ويستدلون بها على وجود الله سبحانه.

[٥٦] (مِنْها) من الأرض المتقدمة في قوله (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) (خَلَقْناكُمْ) فإن كل إنسان أوله تراب ثم ينقلب نباتا يأكله الإنسان ـ أو الحيوان الذي يأكله الإنسان أيضا ـ فيصير منيا ثم إنسانا (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) إعادة ، إذ الإنسان بعد ما يبلى ينقلب ترابا (وَمِنْها) من الأرض (نُخْرِجُكُمْ تارَةً) أي مرة (أُخْرى) للحساب والجزاء وذلك يوم القيامة.

[٥٧] (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) أرينا فرعون (آياتِنا) الدالة على صدق موسى وهي المعجزات التسع (كُلَّها) كل الآيات التي زود بها موسى دلالة لصدقه (فَكَذَّبَ) فرعون بجميعها (وَأَبى) أي امتنع أن يؤمن ويصدق.

[٥٨] ولما أفحم فرعون لم يجد بدا من أن يتوسل بالكذب والافتراء

قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ

____________________________________

والجدال بالباطل ، كما هو عادة كل مبطل (قالَ) مخاطبا لموسى (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) هل تريد أن تخرجنا من أرض مصر؟ ولم يرد موسى ذلك وإنما أراد أن يبهته فرعون ليجلب أهواء الناس إلى نفسه ، مبينا أن موسى لو سيطر أخرجنا من بلادنا ليعطي أزمتها بيد قومه بني إسرائيل.

[٥٩] (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي مثل سحرك ليعرف الناس إنك كاذب ، وإنما تريد أن تتوصل بواسطة السحر إلى الملك والرئاسة (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) وقتا خاصا ومكانا خاصا ليأتي كل فريق بسحره حتى يظهر لمن الغلبة في ذلك (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) أي لا يقع من أحد منا خلف في حضور ذلك المكان (مَكاناً سُوىً) أي منتصفا بيننا وبينك فلا يكون أقرب إليك ولا إلينا ، وكأنه كان لموسى مكانا خاصا في مصر يقاس المحل بالنسبة إليه كما يقاس بالنسبة إلى قصر فرعون ، و «مكانا» إما عطف بتقدير الواو ، لو أريد من الموعد الزمان ، وإما بدل بعض عن كل لو أريد من الموعد الأعم.

[٦٠] (قالَ) موسى عليه‌السلام (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) فقد كان لهم يوم يسمى يوم الزينة ، لأن الناس يتزينون فيه ويزينون الأسواق (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) أي يجمع الناس ليشاهدوا أينا أصدق ، قالوا وقد جرت عادتهم

ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)

____________________________________

أن يجمع الناس في يوم الزينة في محل خاص ، ولذا لم يتعرض للمكان لمعلومية المحل من حشر الناس (ضُحًى) أي وقت ارتفاع الشمس في ذلك اليوم لئلا يلتبس عليهم الأمر بواسطة الظلمة ، وقد جعل يوم الزينة ، لأن الناس فيه مستعدون ولا يشتبه من لا يعرف الحساب وقته.

[٦١] (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) انصرف عن المجلس على هذا الموعد (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي كل ما قدر عليه من المكر ، وذلك بجمع السحرة من أطراف مملكته (ثُمَّ أَتى) إلى الموعد ، في يوم الزينة.

[٦٢] ولما اصطف الجانبان ، فرعون والسحرة وملأه ، وموسى وهارون ومن معهما (قالَ لَهُمْ) أي لأولئك الذين جاءوا لمبارزته (مُوسى وَيْلَكُمْ) هي كلمة وعيد وتهديد أي ألزمكم الله العذاب والنكال بسبب ما قصدتم من إبطال آيات الله ، وما جئتم به من السحر (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تجعلوا له شريكا ، أو تنسبوا معجزاته إلى السحر ، فإنه افتراء على الله الذي زودني بهذه المعجزات.

(فَيُسْحِتَكُمْ) أي يهلككم ، فإن سحت وأسحت بمعنى أهلك (بِعَذابٍ) من عنده يأخذكم ويفنيكم (وَقَدْ خابَ) أي خسر (مَنِ افْتَرى) على الله الكذب ونسب إليه باطلا ، وإنما يخسر دنياه وآخرته.

[٦٣] وقد ألقى موسى عليه‌السلام هذا الكلام مقدمة للشروع في المباراة ، لعلهم

فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا

____________________________________

يتعظون ولا يعرضون أنفسهم للخطر والهلاك ، وقد أحدث هذا الكلام بين صفوف القوم شقا وتنازعا فصار بعضهم مع موسى وبعضهم مع فرعون ، وأخذوا يتناجون بينهم هل يصدق موسى عليه‌السلام أم لا؟ وهكذا تأخذ البليغة مكانتها في النفوس ، وإن لم تؤثر في الإتباع حالا (فَتَنازَعُوا) أي تنازع أصحاب فرعون ، في (أَمْرَهُمْ) وأخذ كل قسم منهم طرفا من طرفي موسى وفرعون (بَيْنَهُمْ) جيء بهذه اللفظة ، لئلا يسبق إلى الذهن كون التنازع كان بين الجانبين (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أي أخذ بعضهم يناجي الآخر سرا حول موسى وأنه هو صادق أم لا؟

[٦٤] وأخيرا أخذ أصحاب فرعون يؤيدون كلام فرعون ويحركون الناس من جهة العاطفة ليقووا به قلوب المترددين (قالُوا إِنْ) أي نعم ـ كما قال فرعون : أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ـ (هذانِ) موسى وهارون (لَساحِرانِ) فما العصي واليد إلا سحرا (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ) أيها الأقباط (مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) فإنهم لو غلبوا أخرجوا كل مخالف لهم عن البلاد المصرية (وَ) يريدان أن (يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي طريقة دينكم ، لتكونوا متدينين مثلهما وتتركوا طريقة آبائكم و «المثلى» مؤنث الأمثل ، أي الأفضل والأحسن.

[٦٥] ثم قالوا للمترددين منهم (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) فلا تدعوا شيئا منه إلا جئتم به (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) واحدا ، بلا تفرق ، وليس المراد الإتيان في

وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦)

____________________________________

المستقبل وإنما المراد أن يكونوا صفا واحدا وقت المباراة ، فإن التفرقة تضر الحركة بقدر ما تنفع الطرف المقاتل (وَقَدْ أَفْلَحَ) وفاز (الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي من قد غلب وعلا من جانبنا أو جانب موسى عليه‌السلام فلا تفوتنكم الفرصة.

[٦٦] وبعد توحيد الصفوف ، وتقوية قلوب المترددين بهذه الكلمات وأمثالها ، توجهت السحرة نحو موسى عليه‌السلام (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ) نحن (أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) سحره ثم تلقي أنت؟

[٦٧] (قالَ) موسى عليه‌السلام (بَلْ أَلْقُوا) أنتم ما معكم ولعل أمره بابتدائهم لإشعار المجتمع بعدم الاكتراث بهم ، فإن الإنسان الذي يطمئن من نفسه ، لا يهمه تقدم غيره عليه ، وامتثل السحرة وألقوا ما معهم (فَإِذا حِبالُهُمْ) جمع حبل (وَعِصِيُّهُمْ) جمع عصي (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي إلى موسى (مِنْ سِحْرِهِمْ) أي من أهل سحر السحرة (أَنَّها تَسْعى) فكان سعيها خيالا لا حقيقة ، وفي آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١) وكان الإتيان ب «يخيل إليه» نسبة إلى موسى عليه‌السلام بيان عظمة السحر ، حتى أنه أثر في موسى النبي عليه‌السلام ، وخيل إليه كما تريد ذلك الآية التالية أيضا.

__________________

(١) الأعراف : ١١٧.

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً

____________________________________

[٦٨] (فَأَوْجَسَ) فأحس (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) خوفا من تلك الحبال والعصي (مُوسى) فاعل أوجس ، وروي عن الإمام المرتضى عليه‌السلام : لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال (١).

[٦٩] (قُلْنا) لموسى حين خاف (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) عليهم فإن عصاك تبطل سحرهم وتظهر زيفهم.

[٧٠] (وَأَلْقِ) أي اطرح إلى الأرض (ما فِي يَمِينِكَ) أي العصا (تَلْقَفْ) تبتلع (ما صَنَعُوا) من الحبال والعصي (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) خبر «ما» أي إن الذي صنعوه هو كيد الساحر ومكره وتدبيره الخفي ، وليس له حقيقة يخشى منها (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي لا يفوز الساحر ببغيته ومطلبه ، ومن عجيب الأمر أن السحرة دائما مهانون ، لا يتمكنون من إدارة أمورهم مع ما يصنعون من الأمور المدهشة الجالبة (حَيْثُ أَتى) أي أنى وجد ، أو حيث أتى بسحره.

[٧١] فألقى موسى عليه‌السلام عصاه ، وإذا بها ثعبان مبين تبتلع عصي السحرة وحبالهم ، وفر الناس ذعرا من خوفها (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أي أنهم ألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين خاضعين لله الذي يدعو إليه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ١٤١.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ

____________________________________

موسى عليه‌السلام وكان الإتيان بالمجهول «ألقى» لإفادة أن عملهم هذا كان باندفاع وانهيار ، لا كسجدة الإنسان الهادئ (قالُوا) للملأ حوله (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ولعل تقدم هارون لكونه الأخ الأكبر ـ كما في بعض التفاسير أنه كان أكبر الأخوين ـ أو للقافية.

[٧٢] وقد أحدث إيمان السحرة اضطرابا عجيبا في صف فرعون حتى خاف فرعون أن يتبعه الناس ولم ير عاجلا إلا اللجوء إلى القوة فتوجه إلى السحرة مهددا (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ) أي كيف آمنتم بموسى ، وإنما عدي باللام لاشتماله على معنى التصديق (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)؟ فكيف خالفتم طريقتي بدون الإذن وتحصيل الرخصة؟ ثم أراد أن يعمي على الناس قصة كون العصا إعجازا ، فأتى بالكذب والمغالطة ، تبريرا لموقفه من موسى عليه‌السلام ومن السحرة الذين اتبعوه لكي لا يلام بأنه لما ظهر الحق أعرض عنه (إِنَّهُ) أي موسى عليه‌السلام (لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فإنه أستاذكم في علم السحر ، وقد تواطأتم على أن يأتي هو بأعظم أقسام السحر ، وتأتون أنتم ببعض أقسامه الأدنى ، لتروا للناس غلبته ثم تؤمنون به ليؤمن الناس ـ خدعة منكم للجماهير ـ تريدون السيطرة على البلاد ، ثم أخذ يهددهم كما هو دأب الطغاة حيث يعجزون عن القلوب يلجئون إلى تعذيب الأبدان (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، أو بالعكس ، ليختل توازن البدن ، ويكون عذابه أكثر ما دام الإنسان حيا (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ) الصلب هو

فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ

____________________________________

الشنق ، وله أقسام منها أن يدق يدا المصلوب بجذع أفقي نصب على جذع عمودي ، فيبقى المصلوب في أذية يوما أو أياما حتى يموت (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) وإنما عدي بعلى لإشراب الصلب معنى الرفع ، أي أرفعنكم للصلب على أصول نخل التمر. (وَلَتَعْلَمُنَ) أيها السحرة (أَيُّنا) أيّ منا ومن موسى فيما يدعي ويقول (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ)(أَشَدُّ عَذاباً) من الآخر (وَأَبْقى) أي أدوم عذابا؟ وقد كان ظن أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله سبحانه.

[٧٣] (قالُوا) أي قالت السحرة في جواب تهديد فرعون (لَنْ نُؤْثِرَكَ) أي لن نفضلك ونختارك يا فرعون (عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي الأدلة الواضحة ، فإن البقاء في طريقتك معناه إنا رجحناك على الأدلة التي دلتنا على صحة طريقة موسى عليه‌السلام (وَ) على (الَّذِي فَطَرَنا) أي لن نختارك ربا ـ بعد هذا ـ على الله الذي فطرنا وخلقنا (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فاصنع ما أنت صانعه بنا من التعذيب (إِنَّما تَقْضِي) أي تحكم علينا في (هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) وهي دار زائلة لا يهمنا ما يصنع بنا فيها.

[٧٤] (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي معاصينا التي سلفت منا من الكفر والآثام (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) فإن السحر خصوصا

وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ

____________________________________

إذا كان لإبطال نبوة من أعظم الآثام ، ولا يرتفع إثمه بالإكراه إذا كان في مقابلة النبي ، وقد كان فرعون أكرههم على السحر في مقابل موسى ، فقد روي أن السحرة قالوا لفرعون أرنا موسى إذا نام فأراهم إياه فإذا هو نائم وعصاه تحرسه فقالوا ليس هذا بسحر إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعملوا فذلك إكراههم للسحر (١) (وَاللهُ خَيْرٌ) لنا منك (وَ) هو (أَبْقى) أي أكثر بقاء ، فإذا آمنا به كان أحسن لنا من بقائنا في طريقتك ، وإن خيرك ليسير وبقائك لقليل.

[٧٥] (إِنَّهُ) الضمير للشأن (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) كافرا أو عاصيا (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح من العذاب (وَلا يَحْيى) حياة فيها راحة ، أي لا يبقى حيا في راحة ، وإنما هو حي في أنواع الشدائد والآلام.

[٧٦] (وَمَنْ يَأْتِهِ) أي يذهب إلى الله سبحانه حينما يموت (مُؤْمِناً) مصدقا بالله ورسله وما جاءوا به و (قَدْ عَمِلَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) فكان صحيح العقيدة والعمل (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) جمع عليا ، تأنيث أعلى ، أي له درجات رفيعة في الجنة.

[٧٧] ثم بين الدرجات بأنها في (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة وبقاء ، من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ٩٦.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧)

____________________________________

عدن بالمكان إذا أقام (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) إلى الأبد (وَذلِكَ) الثواب (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي تطهر بالإيمان والطاعة.

[٧٨] ولما أتمت الحجة على فرعون وملأه ، ولم يؤمنوا ، صار القرار من الله سبحانه أن يهلكه مع حاشيته إنجازا لما وعد به موسى ، وقال موسى عليه‌السلام لقومه (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) (١) (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) بني إسرائيل والذين آمنوا بك ، ليلا وإنما أمروا بالسير ليلا لئلا يراهم فرعون فيمنعهم من المسير مع موسى عليه‌السلام (فَاضْرِبْ لَهُمْ) أي لمن معك (طَرِيقاً) أي اضرب بعصاك (فِي الْبَحْرِ) يوجد لسيرهم في وسط البحر طريق (يَبَساً) أي يابسا (لا تَخافُ) نهي في صيغة الخبر ، تأكيد لعدم الخوف (دَرَكاً) أي إدراك فرعون لك (وَلا تَخْشى) من الغرق ، ففعل موسى ما أمره الله سبحانه ، فإنهم لما وصلوا إلى البحر الأحمر متجهين نحو الشام ، ضرب بعصاه على البحر ، فانفلق الماء ، وانفتحت لهم اثنتي عشرة طريقا ، ليسير كل قبيلة من القبائل الإسرائيلية من طريق خاص بهم ، ولما عرف فرعون بفرار بني إسرائيل بقيادة موسى جهز الجيش ليتبعهم ويردهم.

__________________

(١) الأعراف : ١٣٠.

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ

____________________________________

[٧٩] (فَأَتْبَعَهُمْ) أي اتبع موسى عليه‌السلام وبني إسرائيل (فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) مع جنوده ، أي ذهبوا خلفهم ، حتى وصلوا إلى البحر ورأوا أنهم قد دخلوا البحر يريدون العبور ، وهنا توقف فرعون أولا ، وخاف من الغرق إن دخل سكك البحر التي انشق الماء عنها بقدرة الله عزوجل ، لكنه أخيرا دخل مع جيشه ، فلما توسطوه ، وخرج أصحاب موسى من البحر انطبق الماء على آل فرعون (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي جاءهم الماء حتى غطاهم وأحاط بهم ، وقوله «ما غشيهم» للتهويل كي يبقى من النفس منه هول وخوف.

[٨٠] (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) في هذه الحياة بسوقهم إلى البحر الذي لم يكن طريقا ، حتى سبب هلاكهم ، وفي الحياة الآخرة بأن أراهم طريقة منحرفة لا تصل إلا إلى النار (وَما هَدى) إلى طريق الحق ، فقد بقي في الإضلال إلى آخر عمره ، وكان الإتيان بجملة «ما هدى» لإفادة أنه لم يرجع عن إضلاله ، فإن «أضل» إنما يدل على الابتداء في الإضلال ، أما البقاء فيه فإنه لا يفيده.

[٨١] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون ، وقد رأيتم كيف أنجيناكم ، بعبوركم من البحر بالإعجاز ، وإهلاك فرعون وجنوده هناك (وَواعَدْناكُمْ) أي واعدنا الكليم موسى عليه‌السلام أن يأتي (جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي الطرف الأيمن من الجبل المسمى بالطور ، لإعطاء التوراة ، وحيث إن الوعد لرئيس القوم وعد لكل القوم قال سبحانه :

وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)

____________________________________

«وواعدناكم» والإتيان من باب المفاعلة كأنه لا بد كون الوعد من الطرفين الإعطاء والأخذ بخلاف مثل وعدته أي المتكلم له مع الأمر فإنه وعد ، لا مواعدة (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) وهو نوع من الصمغ الحلو (وَالسَّلْوى) وهو طير لذيذ يسمى السماني ، وذلك حين كنتم في التيه ـ كما مر تفصيله في سورة البقرة ـ.

[٨٢] وقلنا لكم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) المراد بالأمر الإباحة ، أي أبحنا لكم أكل الطيبات (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) فيما رزقناكم ، بأن تستعملوه في الحرام ، كالربا والاحتكار والغش وأشباهها ، فإنها طغيان وتعد عن الحد في الرزق الحلال (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) لو طغيتم في رزقي والفعل مجزوم ـ بالفتحة ـ لكونه في جواب النهي (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي) بأنه عمل بالمعاصي فاستحق العقاب (فَقَدْ هَوى) أي هلك ، كالذي يهوي من السطح إلى الأسفل.

[٨٣] ثم بينا لكم أن من هوى لا ينقطع عن الله إلى الأبد ، بل باب التوبة مفتوح أمامه (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) مبالغة من الغفران (لِمَنْ تابَ) عن معاصيه السابقة التي أظهرها الشرك (وَآمَنَ) بالله ورسوله وما أنزل (وَعَمِلَ صالِحاً) بأن صحت عقيدته وعمله (ثُمَّ اهْتَدى) أي بقي على الهداية إلى أن يموت ، أو المراد بيان أن الاهتداء ليس عقيدة في

وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)

____________________________________

القلب ، وعملا بالجوارح ، وإنما يحتاج إلى رسوخ الإيمان والتحلي بنور الهداية ، وإنما العقيدة والعمل مقدمتان له ومهيئان الجو لإشراقه.

[٨٤] ثم إن الله سبحانه إنجازا لما وعد به موسى عليه‌السلام ، من إعطائه الكتاب الذي فيه أحكامه ، فقد انقطع القوم عن أحكام فرعون وأنظمته ، واحتاجوا إلى أنظمة لحياتهم ، ودستور لعملهم ، أمر موسى عليه‌السلام أن يأتي إلى الطور مع جماعة من قومه ، وصام موسى أربعين يوما مقدمة لذلك ، حتى تصفو نفسه ، وتستعد لهذا اللقاء ، ولما أتم الصيام تعجل للذهاب إلى الجبل ، في حين كان القوم بعد في سفح الجبل ، فقال له سبحانه (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) أيّ شيء صار سببا لأن تتقدم على القوم وتصعد قبلهم؟ وحيث أن عجل أشرب معنى التجاوز عدي ب «عن».

[٨٥] (قالَ) موسى عليه‌السلام في الجواب (هُمْ) القوم (أُولاءِ) جمع الذي ، أي هم الذين (عَلى أَثَرِي) من ورائي يدركونني عن قريب (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ) يا (رَبِّ لِتَرْضى) أي لتزداد رضا عني أو لتعجل الرضى عني.

[٨٦] (قالَ) الله تعالى (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) أي امتحناهم ليظهر قدرهم ، فإن الإنسان إذا ألف عادة أشكل عليه الإقلاع عنها (مِنْ بَعْدِكَ) أي من بعد مجيئك إلى الطور ، وقد كان غياب موسى عليه‌السلام عن قومه أربعين ليلة (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) فقد كانت نفوس القوم تألف الوثن ، ولذا لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، قالوا : يا موسى

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)

____________________________________

اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ولما غاب موسى انتهز السامري الفرصة ، فأمرهم بجمع حليهم وصنع منها عجلا جسدا وقال هذا إلهكم وإله موسى ، وعبده بنو إسرائيل ، وهذا كان إضلال السامري ، كما أنه كان امتحان الله لهم ، وقد خلي بين السامري وبين ما يفعل ليظهر دفائن قلوبهم.

[٨٧] فلما أخذ موسى عليه‌السلام الكتاب من الله سبحانه (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) في حالة غضب على ما اقترفوا من الإثم ، وأسف أي حزن وتحسر عليهم ، كيف أنهم ضلوا بعد تلك المصاعب والأتعاب ، ولما وصل إلى القوم (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) بإعطائكم الكتاب وجعلكم ورثة الأرض وإدخالكم الجنة؟ فلم انصرفتم عن وعد الله سبحانه إلى عبادة العجل الذي لا يعقل ولا ينفعكم أبدا؟ (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) الذي عهدتكم بإتيان التوراة حتى تعتذرون بأنك أخلفت العهد ، ولذا عدلنا عنك وعن إلهك إلى هذا العجل؟ (أَمْ) لم يطل العهد وإنما (أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ)؟ فإن فعلكم هذا فعل من يريد إحلال العقاب به ، وإلا فما هو السبب لذلك؟ (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) الذي وعدتموني بأن تكونوا على عهدكم باقين حتى آتيكم بالكتاب ، فقد أمرهم موسى عليه‌السلام أن يعملوا تحت إمرة هارون أخيه ، حتى يرجع إليهم ، ولكنهم خرجوا عن

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ

____________________________________

طاعته ، فأخلفوا موعد موسى عليه‌السلام.

[٨٨] (قالُوا) أي قال بنو إسرائيل في جواب اعتراضه وتوبيخه (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي ونحن نملك من أمرنا شيئا ، فإن الملك مثلث الميم بمعنى ما يملك الإنسان ، يعني لم يكن ملكنا وباختيارنا الوفاء والخلف حتى نفي ، وإنما أجبرنا على خلف الوعد (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) أي حملنا ـ من مصر ـ أثقالا من الذهب من حلي آل فرعون ، فقد كانت لديهم حلي من القبط قد استعاروها منهم وما ألقاه البحر على الساحل بعد غرقهم ، والأوزار جمع وزر ، بمعنى الثقل ، وسمي الحلي وزرا لثقله جسما أو رتبة (فَقَذَفْناها) أي تلك الأوزار ألقيناها في البوتقة في النار (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) ما معه في النار ، ليسبك الجميع عجلا ، أو المراد قذفوها ليتخلصوا منها حيث كانت محرمة وكذلك قذف ما معه السامري ثم جمعها وجعلها عجلا.

[٨٩] (فَأَخْرَجَ) السامري ، وهو رجل منهم يلقب بهذا اللقب ـ ولعل اللفظ معرب وإلا فأصله في التوراة يلفظ بشكل آخر ـ (لَهُمْ عِجْلاً) وهو ولد البقر (جَسَداً) لا روح فيه ، ويقال الجسد لما لا روح فيه ـ غالبا ـ (لَهُ خُوارٌ) كخوار العجل قال بعض المفسرين إنه جعل من العجل منافذ إذا هب الريح فيها خرج من العجل صوت يشبه صوت العجل (فَقالُوا) السامري وأعوانه (هذا) العجل (إِلهُكُمْ) يا بني إسرائيل

وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠)

____________________________________

(وَإِلهُ مُوسى) فقد نسي موسى عليه‌السلام أن إلهه هنا ، فذهب إلى الطور يطلبه.

[٩٠] (أَفَلا يَرَوْنَ) ألا يرى بنو إسرائيل (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) «أن» مخففة من الثقيلة ، واسمه ضمير محذوف ، أي أن العجل «لا يرجع» فاعله محذوف يرجع إلى العجل و (قَوْلاً) تميز ، أي لا يرجع إليهم رجوعا قوليا ، كما تقول «لا يأتي قولا» أي لا يقول القول ، فكأن من يقول ، يرجع هو إلى الطرف ، وهو من باب علاقة العلة والمعلول ، فقد عبر عن إرجاع القول برجوع النفس ، والمعنى أفلا يرى بنو إسرائيل أن العجل الذي عبدوه لا يرد عليهم جوابا (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) وكيف يتمكن أن يضرهم أو ينفعهم ذهب مصوغ؟

[٩١] (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ) أي لبني إسرائيل (هارُونُ) أخو موسى عليه‌السلام المخلف عندهم (مِنْ قَبْلُ) عود موسى إليهم حينما اتخذوا العجل (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي امتحنتم بهذا العجل ، ليعلم أيكم يعبده وأيكم يتركه ، بل يبقى على عبادة ربه ، فلا تعبدوا العجل (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) الذي رحمكم بنجاتكم من آل فرعون وتفضل عليكم بكل شيء (فَاتَّبِعُونِي) فيما أدعوكم إليه (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في عبادة الله سبحانه.

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)

____________________________________

[٩٢] (قالُوا) أي الذين عبدوا العجل (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) لا نزال مقيمين على عبادته ، فإن برح بمعنى زال ، وعكف بمعنى أقام (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فننظر هل يعبده كما عبدناه ، وكما أخبرنا السامري قائلا : هذا إلهكم وإله موسى ، أم لا يعبده؟

[٩٣] ولما رجع موسى عليه‌السلام ورأى أنهم عبدوا العجل كما أخبره سبحانه من الطور ، توجه إلى هارون و (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) بعبادة العجل ، عن اتباعي ، وقوله :

[٩٤] (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي في الغضب الشديد لله ومقاتلة عبّاد العجل أو الخروج من بينهم ، متعلق بمحذوف أي ما هو السبب في أن لا تتبعن ، كما أن متعلق «ما منعك» محذوف ، وكثيرا ما يستعمل البلغاء مثل هذا تأكيدا للنفي ، فإن حذف المتعلق في «ما منعك» يحدث في الذهن فجوة وسيعة وهولا ، كما أن حذف الفعل في «ألا تتبعن» يوهم ابتداء الإنكار ، ومثله شائع كما قال سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (١) وقوله : «ما يمنع القوم أن لا يعملوا حسنا» وقوله : «وقد رأى المنع في أن لا يجاريهم» ولذا كان «ألا تتبعن» أول الآية.

(أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) هل عصيت أمري الذي أمرتك؟ كما قال سبحانه : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ

__________________

(١) الأعراف : ١٣.

قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ

____________________________________

سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١) فكيف لم تصلح؟ ثم أخذ موسى بلحية أخيه ورأسه يجره إليه ، وألقى الألواح من يده تضجرا ، ولم يك هذا العمل من موسى لأنه شديد الغضب ، كما يقول البعض ، كما أنه لم يك ذلك لأنه ظن بهارون سوءا وإنما جرت عادة العقلاء على أن يبدوا استنكارهم الشديد لغير المجرم ، في أقوال وأعمال ، ليعرف المجرم وقع الجرم ، ولا يكون هو المعتب الأول ، لئلا يثأر نفسه ، فإنك إذا أردت أن تفهم جارك سوء عمله من إلقاء القمامة على باب البيت ، تقول لولدك : «لماذا يصب القذارة على باب دارنا؟ هل أنت أعمى حتى لا تمنع الصاب؟ ولو رأيت القمامة بعد هذا لضربتك» وإنما الولد بريء مثلك وأنت تعلم ذلك ، وإنما تريد إفهام الجار ، على طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة» وهذا من فنون الأدب والبلاغة.

[٩٥] (قالَ) هارون مخاطبا لموسى (يَا بْنَ أُمَ) وإنما خص الأم بالذكر ، استعطافا وترقيقا ليسكن الغضب المشتعل في موسى على عبّاد العجل (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ولم يقل هارون ذلك ، إلا لكي يعرف بنو إسرائيل أنه لم يكن المذنب في القصة ، لا لأنه رأى موسى غضبان عليه (إِنِّي خَشِيتُ) لو فارقتهم وخرجت من بينهم (أَنْ تَقُولَ) أنت (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إذ خروج الزعيم من بين القوم يؤدي إلى تفرقهم ، كما أن محاربته لهم تؤدي إلى التفرقة ، وقد كان عذر هارون عليه‌السلام صحيحا ، فإن الناس لا يتبعون الخلف كما يتبعون

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)

____________________________________

الرئيس ، وبأدنى شيء يتفرقون عليه (وَ) تقول (لَمْ تَرْقُبْ) يا هارون (قَوْلِي) أي لم تحفظ وصيتي في ما أوصيتك به أن أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، فتقول لي إنك لم تصلح حين سببت التفرقة بين القوم ، بغضبك الشديد عليهم ، أو مقاتلتك لهم ، أو خروجك من بينهم.

[٩٦] ولما أظهر موسى عليه‌السلام براءة ساحة أخيه ، وأبدى لومه الشديد وغضبه على عبّاد العجل في هذه الصورة ، وبهذا القالب توجه إلى السامري رأس الفتنة (قالَ) موسى عليه‌السلام (فَما خَطْبُكَ) أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى ما صنعت (يا سامِرِيُ) حيث أضللت الناس؟

[٩٧] (قالَ) السامري (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي رأيت ما لم يروه أو فطنت بما لم يفطنوا به ، فقد رأيت جبرائيل على فرس ـ في صورته البشرية ـ (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ) تراب (أَثَرِ الرَّسُولِ) تحت قوائم فرسه (فَنَبَذْتُها) طرحت تلك النبذة في العجل الذي صنعته من الذهب فكان له هذا الخوار من أثر ذلك التراب (وَكَذلِكَ) الذي حدثتك يا موسى (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي زينته لي حتى أوجه بني إسرائيل إلى نفسي ، وقد احتمل بعض المفسرين أن هذا الكلام كان كذبا من السامري أراد به أن يبرر ساحته ويظهر فضله في أنه فطن بما لم يفطن به بنو إسرائيل ، ولو ورد بما ذكره أثر صحيح لم يك مخالفا للمقاييس إذ رؤية الإنسان للملك ممكن ، كما إن الخوار لأجل الأثر ممكن ،

قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)

____________________________________

ولا يوجب عذر من يعبد العجل ، إذ لا عذر بعد تمام الحجة ، أرأيت لو جاء أحد الآن وقال : إن هذه الفأرة إلهكم ، وعلى يده فأرة مصنوعة من النحاس لكنها تتحرك ، هل يكون المعترف بكونها إلها معذورا؟

[٩٨] ثم أعلن موسى عليه‌السلام طرد السامري عن جماعة بني إسرائيل إلى الأبد (قالَ) للسامري (فَاذْهَبْ) من بيننا (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) فقد كان إذا مسه أحد أخذته الحمى عقوبة لما اقترف من صنع العجل ، كما أن الماس كانت تأخذه الحمى بمسه السامري ، فمعنى لا مساس : لا أمس أحدا ولا يمسني أحد. وقد ورد في الحديث أن السامري كان سخيا ولذا لم يقتله موسى عليه‌السلام (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) لعذابك الشديد في يوم القيامة (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي لن تخلف ذلك الوعد ، بل يأتيك بالقطع واليقين (وَانْظُرْ) يا سامري (إِلى إِلهِكَ) أي العجل الذي كنت تسميه إلها (الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) أي مقيما تعبده وترشد الناس إلى عبادته (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالنار حتى يذوب (ثُمَ) لنبردنه بالمبرد حتى يصير كالتراب ثم (لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِ) أي البحر (نَسْفاً) أي لنذريه ، وقد أراد عليه‌السلام بذلك بيان أن الشيء الذي يحرق بالنار ، ويبرد ، وينسف في البحر لا يكون إلها ، فإن بني إسرائيل قد علقت نفوسهم بما تنظر إليه عيونهم ، فكان هذا العمل أدعى لردعهم عن عبادة العجل ـ وهذا العمل ، من قبيل ما ذكرنا أن البليغ قد يظهر ما ينويه في العمل لتقريع المجرم ، فإن العجل لم يكن مذنبا ، أو يفهم

إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ

____________________________________

هذا العمل ، وإنما أريد بذلك تقريع غيره ـ.

[٩٩] (إِنَّما إِلهُكُمُ) يا بني إسرائيل (اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو المستحق للعبادة ، لا العجل المصنوع من الذهب (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أن علمه وسع كل شيء ، فهو عالم بكل شيء ، وإنما جيء بهذه الصفة لبيان أن أعمالكم كلها معلومة لديه ، فلا يعمل الإنسان ما ينافي أمره ورضاه ، كما أنه تعريض بالعجل الذي لا يعلم شيئا ، كيف يكون إلها؟

[١٠٠] (كَذلِكَ) الذي قصصنا عليك يا رسول الله نبأ موسى (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من أخبار الأنبياء عليهم‌السلام السابقين وأممهم وما فيه عبرة وعظة (وَقَدْ آتَيْناكَ) أي أعطيناك يا رسول الله (مِنْ لَدُنَّا) من عندنا ، فنحن المصدر ، لا إنا واسطة (ذِكْراً) أي القرآن الذي يذكر الناس بالمبدأ والمعاد ، وسائر المعارف ، مما هي مفطورة في خلقتهم ، وإنما القرآن يذكرهم بها.

[١٠١] (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن هذا الذكر (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) حملا ثقيلا من الآثام والمعاصي.

[١٠٢] في حال كونهم (خالِدِينَ فِيهِ) في ثقل ذلك الحمل ، والمراد الخلود في جزائه ، وهو النار ـ بعلاقة السبب والمسبب ـ (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ

الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)

____________________________________

الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي بئس الحمل حملهم ، في ذلك اليوم المهول ، فإنه حمل يوجب إدخالهم النار.

[١٠٣] ثم بين يوم القيامة بأنه (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) والصور هو : البوق الذي ينفخ ويصيح فيه إسرافيل مخاطبا الأرواح لتلتحق بأجسادها ، قائلا للناس : أحيوا بأمر الله سبحانه ، وهي النفخة الثانية (وَنَحْشُرُ) نجمع (الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بالكفر والعصيان (يَوْمَئِذٍ) أي من يوم النفخ (زُرْقاً) جمع أزرق ، فإن الإنسان المكدر المهموم تعلو وجهه زرقة.

[١٠٤] (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يتكلمون بإخفات وسر ، فإن الإنسان إذا أخذته الدهشة أو الجلال لا يتكلم إلا خفية ونجوى ، يقول بعضهم لبعض : (إِنْ لَبِثْتُمْ) ما بقيتم ومكثتم في الدنيا (إِلَّا عَشْراً) عشرة ليالي ، فإنهم يقللون مدة لبثهم في الدنيا ، وهكذا الإنسان يقلل ما مضى من عمره ، كأنه شيء يسير.

[١٠٥] (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) لا يغيب عنا شيء ، والمراد أن سرهم لا يخفى علينا (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أرشدهم في الحساب ، وأصوبهم في الرأي (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي ما بقيتم في الدنيا إلا يوما واحدا ، وإنما كان أرشدهم لأن من كان أرشد يرى عمر الدنيا

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا

____________________________________

أقل ، لما يرى من زوالها بسرعة.

[١٠٦] (وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْجِبالِ) ما حالها يوم القيامة (فَقُلْ) يا رسول الله (يَنْسِفُها) أي يقلعها ويدكها (رَبِّي نَسْفاً) ودكا ، فقد جاء رجل من ثقيف سائلا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمتها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها (١).

[١٠٧] (فَيَذَرُها) أي يذر الجبال ويجعلها (قاعاً) أي أرضا ملساء منكشفة (صَفْصَفاً) أي مستوية لا علو فيها ولا نتوء ، والصفصف هو : المستوي من الأرض.

[١٠٨] (لا تَرى فِيها) في تلك القاع المصفصف المكون من الجبال ، حيث انتثرت على الأرض (عِوَجاً) اعوجاجا بالعلو والانخفاض (وَلا أَمْتاً) أي أكمة ، قالوا : العوج الانخفاض ، والأمت الارتفاع.

[١٠٩] (يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (يَتَّبِعُونَ) يتبع الناس (الدَّاعِيَ) الذي يدعوهم للحياة وللجمع في المحشر (لا عِوَجَ لَهُ) أي لا اعوجاج للداعي بحيث يدعو بعضا ويذر بعضا ، وإنما دعوة عامة شاملة للجميع (وَخَشَعَتِ) خضعت (الْأَصْواتُ) فلا ترتفع (لِلرَّحْمنِ) الذي يتفضل عليهم هناك كما تفضل عليهم هنا (فَلا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٧٤.

تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١)

____________________________________

تَسْمَعُ) من الناس ، أيها السامع (إِلَّا هَمْساً) صوتا خفيا.

[١١٠] (يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) لأحد من المجرمين (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) بأن يشفع له ، أو يشفع ، فهناك كل من الشافع والمشفوع له يلزم أن يكون بتعيين الله سبحانه (وَرَضِيَ) الرحمن (لَهُ) لذلك الشافع أو المشفوع له (قَوْلاً) أي من كان مرضي القول ، بأن كان مؤمنا له مقام الشفاعة بالنسبة إلى الشافع ـ ومؤمنا غير مستحق للعقاب القطعي ـ بالنسبة إلى المشفوع له.

[١١١] وليس هناك الأمر اعتباطا ، كالدنيا التي لا يعلم الحاكم فيها ، ما يستحق المحكوم له ، إن هناك في معرض الإله العالم بكل شيء فإنه سبحانه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما عمل الإنسان وقدمه إلى الآخرة ـ في حياته ـ (وَما خَلْفَهُمْ) أي ما خلفوه في الدنيا من الآثار الصالحة أو الفاسدة (وَلا يُحِيطُونَ) أولئك (بِهِ) أي بالله (عِلْماً) فهو يعلمهم ، وهم لا يعلمون منه إلا بقدر ما شاء.

[١١٢] (وَ) هناك (عَنَتِ) أي خضعت وذلت (الْوُجُوهُ) وإنما نسب الخضوع إلى الوجوه لأنها يظهر فيها أثر الخضوع (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) فليس ميتا لا يعلم ، ولا غائبا لا يدرك ، وإنما هو حي قائم على كل الأمور مطلع عليها (وَقَدْ خابَ) خسر (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي نوع من

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ

____________________________________

الظلم كان شركا ، أو عصيانا ، فإنه يخسر ثواب الله سبحانه ، ويخسر نفسه فيما لو أدخل النار.

[١١٣] (وَ) أما (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) مقابل من عمل ظلما (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) في العقيدة بما يلزم الإيمان به (فَلا يَخافُ) من الآخرة (ظُلْماً) إذ لا ظلم هناك على أحد ، بل عدل وفضل (وَلا هَضْماً) بأن يهضم من حقوقه وينقص من ثوابه ، والظلم أن يعاقب بلا سبب ، والهضم أن ينقص من حسناته.

[١١٤] (وَكَذلِكَ) الذي أخبرناك من القصص وأخبار القيامة (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا هذا الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليعرفه قومك ، فإنه بلسانهم ولغتهم ، لئلا يقولوا لم نكن نعلم (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) أي كررنا فيه من جنس الوعيد ، والتصريف هو تحويل المعنى الواحد في قوالب متعددة للفائدة ، والوعيد هو الإيعاد بالنار والعقاب (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يتقي هؤلاء المعاصي والآثام (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) بأن يذكرهم القرآن بمصائر الأمم المكذبة فيتذكرون وينقطعون عن الكفر والآثام ، والفرق بين الأمرين إن إحداث الذكر ، مقدمة للتقوى ، فإن الإنسان إذا تذكر كان معرضا لأن يتقي حيث يجيش في نفسه الخوف وينتهي بالآخرة إلى التقوى.

[١١٥] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) الذي عنت له الوجوه ، ويعاقب

وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ

____________________________________

المجرمين ، ويثبت المطيعين ، الذي أنزل القرآن ليكون درسا وتذكرة (وَ) قد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية ، فأنزل سبحانه (لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) قراءة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي يتم الوحي ، بل أصبر حتى يتم جبرائيل ما جاء به ثم اقرأ ما جاء ، وقضى بمعنى تم ، كما قال سبحانه : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) (١) (وَقُلْ) يا رسول الله ، يا (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فإن العلم هو الاطلاع على الكون ما سبق وما حضر وما يأتي ، وذلك من أوسع الأمور ، فالإحاطة به غير ميسور لغير الله سبحانه ، وهو الذي هيأ الأسباب للبشر لتعلم بعضها ، ولذا يأمر الله الرسول ، بأن يدعو للزيادة في العلم ، فإنه كلما زاد علم الإنسان ، زادت قيمته وأجره وقربه من الله سبحانه ـ فيما لو عمل بما علم ـ

[١١٦] وبمناسبة مبادرة الرسول في تلاوة القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه خوف النسيان ، كما في سورة أخرى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٢) يأتي الكلام حول نسيان آدم عليه‌السلام ما عهد الله معه ، (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) بأن لا يأكل من الشجرة إن أحب البقاء في الجنة ، وقلنا له : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (٣) (مِنْ قَبْلُ) أي سابقا (فَنَسِيَ) العهد ، إما حقيقة ، أو المراد أنه ترك العهد ، فكان كالناسي ، من قبيل (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٤) وهذا أقرب إلى الاعتقاد بأن

__________________

(١) النساء : ١٠٤.

(٢) الأعلى : ٧.

(٣) طه : ١١٩ و ١٢٠.

(٤) التوبة : ٦٧.

وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧)

____________________________________

الأنبياء معصومون عن كل الخطأ والنسيان (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي تصميم رأي وثبات أمر ، أو المراد أنه لم يكن من الأنبياء أولي العزم ، وهم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم‌السلام.

[١١٧] وإذ جاء ذكر من آدم عليه‌السلام ناسب السياق بيان قصته ، كما قال سبحانه : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) (١) ولأنه بدء الخلقة ، وبعد ذلك يأتي الختام ، ليناسب الجو العام للسورة ، التي هي حول العقيدة.

(وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) قولا لفظيا ، بخلق صوت سمعوه ، أو إلهاما ونقرا في القلب ، والملائكة مشتقة من «ألك» بمعنى الرسالة ، وسموا بذلك لأنهم رسل الله سبحانه في أوامره وتبليغاته (اسْجُدُوا لِآدَمَ) إذا سويته ونفخت فيه من روحي (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه (أَبى) وامتنع من السجود كبرا وطغيانا.

[١١٨] (فَقُلْنا يا آدَمُ) أي قلنا لآدم بعد كبر الشيطان عن سجدته (إِنَّ هذا) الشيطان (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حواء ، يريد بكما الشر والخديعة فلا تغترا به واحفظا أنفسكما عن كيده ومكره (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) أي لا يكون سبب خروجكما من الجنة بأن تطيعاه فيما نهى الله سبحانه ـ نهي تنزيه ـ ليكون مصيركما الخروج (فَتَشْقى) أي فتقع في

__________________

(١) طه : ١٠٠.

إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠)

____________________________________

تعب العمل وكد الاكتساب وزحمات الدنيا ، فإن الشقاء التعب ، كما تقدم في قوله : (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (١) وإنما جاء بالمفرد لأن المخاطب آدم ، ورعاية لرؤوس الآي ، وإلا فالمراد شقاء كليهما.

[١١٩] ثم بين سبحانه محاسن البقاء في الجنة التي تزول بالخروج منها ، وقد كان الأمر للإرشاد كأوامر الطبيب الذي يقول إن عملت بهذه الوصفة ، لم تمرض ، فإن أمره إرشادي ليس بواجب وإنما تعود الفائدة إلى المريض بذاته (إِنَّ لَكَ) يا آدم (أَلَّا تَجُوعَ فِيها) أي في الجنة لسعة طعامها وعدم التعب في تناوله (وَلا تَعْرى) لكثرة ثياب الجنة ، فلا يبقى الإنسان فيها عاريا ، وبحاجة إلى الكد والعمل لتحصيل الثياب.

[١٢٠] (وَأَنَّكَ) يا آدم (لا تَظْمَؤُا فِيها) أي لا تعطش في الجنة لوفرة مياهها (وَلا تَضْحى) يقال ضحى الرجل إذا برز للشمس ، أي لا يصيبك حر الشمس.

[١٢١] (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ) أي ألقى في نفس آدم (الشَّيْطانُ) إلقاء خفية (قالَ يا آدَمُ) إنك لا تبقى في الجنة أبدا إلا أن تعمل بوصيتي وتأخذ بإرشادي ف (هَلْ أَدُلُّكَ) وأعرفك (عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) الشجرة التي من أكل منها خلد في الجنة ولم يخرج منها أبدا (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) لا

__________________

(١) طه : ٢ و ٣.

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١)

____________________________________

يفنى ولا يزول؟

[١٢٢] وقد مال آدم إلى كلامه ، إذ أقسم له أنه ناصح مشفق ، ولم يكن آدم سمع أحدا يحلف بالله كاذبا وحيث أمرهما بالأكل من الشجرة المنهية ، تذكر آدم نهي الله سبحانه بقوله لهما : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (١) لكن الشيطان تدارك الأمر وقال (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢) يعني أن النهي إنما هو لأجل أن تبقيان على حالتكما الإنسانية ، فإذا أكلتما أصبحتما ملكين ، وبالنتيجة نفذت المكيدة فيهما (فَأَكَلا) آدم وحواء (مِنْها) من تلك الشجرة (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهرت لهما عورتهما ، حيث أن بمجرد الأكل ، سقطت ملابسهما عن أبدانهما ، كما قال سبحانه : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) (٣) والسوءة هي العورة (وَطَفِقا) أي شرع آدم وحواء (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما) يلصقان على أنفسهما ـ ليخرجا من العري وظهور السوءة ـ (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) من أوراق أشجارها.

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) خالف أمره الإرشادي ، فإن الأمر على ثلاثة أقسام : الوجوبي ، والندبي ، والإرشادي ، وفي مخالفة كل منها يستعمل لفظ العصيان ، يقول الطبيب لمريضه المخالف لإرشاده : لم عصيتني حتى يدوم مرضك؟ (فَغَوى) أي ضل الطريق المسعد له.

__________________

(١) البقرة : ٣٦.

(٢) الأعراف : ٢١.

(٣) الأعراف : ٢٨.

ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ

____________________________________

فإن الغواية ضلال الطريق ، وهو كما يصح في مخالفة الوجوب ، يصح في مخالفة الإرشاد ، فإن الأكل من الشجرة سبب أن يخرج من الجنة ، وأي ضلال عن السعادة أكبر من هذا؟

[١٢٣] فندم آدم مما فعله وعرف أن الشيطان غره وحلف بالله كاذبا ، فأخذ يتوب ويبكي (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه واختاره لأن يكون نبيا وغفر ذنبه في مخالفته للأمر الإرشادي (فَتابَ عَلَيْهِ) التوبة هي الرجوع ، فإن الإنسان العاصي يبتعد عن الله ، والله سبحانه يعرض عنه ، فإذا ندم الإنسان واستغفر ، وتاب إلى الله ، تاب الله عليه ورجع إليه (وَهَدى) أي هداه لمصالحه ، وأراه الطريق الموجب لعودته إلى الجنة ، بعد ما غوى وضل الطريق.

[١٢٤] (قالَ) الله سبحانه (اهْبِطا) أيها الفريقان فريق آدم وحواء ، وفريق الشيطان (مِنْها) أي اخرجا من الجنة (جَمِيعاً) كلكم ، والهبوط إما باعتبار علو الجنة حسا عن الأرض ، وإما باعتبار علوها رتبة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فإن الشيطان عدو لآدم وحواء ، وهما عدوان له ، وباعتبار آخر ، أن الرجل والمرأة أيضا عدو بعضهم لبعض (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) «إن» للشرط و «ما» زائدة لتجميل الكلام ، أي إن أتاكم من طرفي أسباب الهداية ، بأن أمرتكم بأوامر تهديكم إلى طريق الحق في الدنيا ، والسعادة في الآخرة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) وأخذ

فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ

____________________________________

بأوامري وإرشاداتي (فَلا يَضِلُ) طريق السعادة ، كما غوى آدم (وَلا يَشْقى) لا يبقى في تعب ونصب كما شقي آدم أي وقع في النصب والتعب ـ وهذا خطاب عام لكل البشر ، وإن كان طرف الخطاب هم الثلاثة ـ.

[١٢٥] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) بأن لم يتبع أوامري ، التي ذكرته بها ، وسميت الأوامر ذكرا ، لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها (فَإِنَّ لَهُ) في الدنيا (مَعِيشَةً ضَنْكاً) ضيقة ، وذلك لأن أوامر الله سبحانه أكثر ملائمة للحياة ، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش ماديا أو روحيا ولذا نرى أن الكفار حتى في أوج ماديتهم الظاهرية في أضنك الحالات الروحية وأضيق المجالات النفسية (وَنَحْشُرُهُ) نحشر المعرض ، ومعنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه في (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) العين ، لا يرى شيئا ،

[١٢٦] وكم يتأذى الإنسان في ساحة مهولة مدتها خمسون ألف سنة ، وفيها من الأهوال ما تذهل البصير فكيف بالأعمى ، ولذا يسأل الكافر (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) أي لماذا أحضرتني في هذا الموقف أعمى البصر (وَ) الحال أني في الدنيا (قَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أرى الأشياء؟

[١٢٧] (قالَ) الله في جوابه (كَذلِكَ) العمى الذي أصابك هنا. كما كنت في الدنيا ، فقد كنت في الدنيا أعمى البصيرة ، ولذا ابتليت هنا بعمي

أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ

____________________________________

البصر فقد (أَتَتْكَ) وجاءتك (آياتُنا) الدالة على وجودنا وسائر صفاتنا (فَنَسِيتَها) تركتها فعل الناسي بالمنسي ، وأعرضت عنها وأغفلت بصيرتك دونها (وَكَذلِكَ) أي كنسيانك عن الآيات (الْيَوْمَ) في القيامة (تُنْسى) تهمل ولا يعتنى بشأنك ، بل تبقى في تعب العمى ونصب الأهوال المتراكمة التي تلقفك من هنا وهناك.

[١٢٨] (وَكَذلِكَ) أي كما جزينا من نسي الآيات بالضنك والعمى والنسيان له (نَجْزِي) كل (مَنْ أَسْرَفَ) جاوز الحد بالكفر والعصيان (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) بيان لقوله «من أسرف» أو لأن عدم الإيمان تسبقه حالة نفسية تجاوز به عن الحد (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) للمسرف (أَشَدُّ) من الضنك في الدنيا (وَأَبْقى) أكثر بقاء ، فإن الضنك في الدنيا هين زائل ، أما عذاب الآخرة فهو شديد باق.

[١٢٩] ثم بين سبحانه أن الكفار في ضلالة حيث لم يعتبروا بما مضى من عذاب الله للأمم السالفة (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) استفهام إنكاري توبيخي ، أي ألم يرشد هؤلاء (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) هذا فاعل يهد ، أي إهلاكنا للقرون السابقة ، لم يصر سببا لهداية هؤلاء إلى الحق ، وخوفهم من العقاب في الدنيا أن تمادوا في غيهم وكفرهم (يَمْشُونَ) هؤلاء الكفار المعاصرين لك يا رسول الله (فِي مَساكِنِهِمْ) فقد كان

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ

____________________________________

كفار مكة يمرون بمساكن عاد وثمود وقوم لوط عند ذهابهم إلى الشام ، ويرون آثارهم وعلاماتهم ، كما قال سبحانه : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ) (١) أفلا يخافون أن يصيبهم ما أصاب أولئك (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك لأولئك (لَآياتٍ) لعبر ودلالات (لِأُولِي النُّهى) النهى جمع نهية ، وهو العقل أي لأصحاب العقول ، يعتبروا بها ولا يعملوا مثل أعمال أولئك حتى يبتلوا بمثل مصيرهم.

[١٣٠] (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب عن الكفار في الدنيا ، فقد أراد الله سبحانه ، وإرادته كلمته ، أن لا يعذب هؤلاء في الدنيا بمثل عذاب الأمم السابقة ، ولعل ذلك لأجل أن هذه الأمة تأتي بأولاد وذراري صالحين ، كما صار من أبي عامر «حنظلة» ومن أبي سفيان «أم حبيبة» وهكذا ، والله سبحانه لا يعذب إلا إذا لم يكن صالح في ذرية الكافر كما قال سبحانه : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) (٢) وقال (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٣) (لَكانَ) العذاب (لِزاماً) لهم ، واللزام مصدر ، وصف به كقولك زيد عدل (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على «كلمة» أي لو لا الكلمة والأجل المسمى أي المدة التي سميت لهؤلاء الكفار لكان العذاب لازما لهم.

[١٣١] وإذ كان لهؤلاء الكفار مدة لا بد أن يقضوها حتى يأتيهم الموت ، وإن الله لم يشأ هلاكهم مثل إهلاكه للأمم السابقة (فَاصْبِرْ) يا رسول الله

__________________

(١) الصافات : ١٣٨ و ١٣٩.

(٢) الفتح : ٢٦.

(٣) نوح : ٢٨.

عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ

____________________________________

(عَلى ما يَقُولُونَ) في شأن التوحيد والرسالة وسائر أنواع أذاهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزه الله بالحمد ، فإن الحمد ثناء وتنزيه ـ كما تقدم ـ (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صباحا (وَقَبْلَ غُرُوبِها) أي عصرا (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) آناء الليل ساعاته ، وهو جمع «إنى» على وزن «إلى» ولعل الإتيان ب «من» دون «في» لإفادة الابتداء والشروع أي أشرع بالتسبيح من ساعات الليل (وَ) سبح (أَطْرافَ النَّهارِ) بالإضافة إلى قبل الغروب والطلوع ، كما بعد الطلوع ووقت الضحى ، وأول الظهر وعند وقت العصر (لَعَلَّكَ) يا رسول الله (تَرْضى) فإن الإنسان الدائم الاتصال بالله ، الذي يذكره صباحا ومساء وفي ساعات الليل وساعات النهار ، تطمئن نفسه بالله ، ويرضى لمقدراته وأحكامه وسنته لأن يكون عارفا بالله هادئا إلى ما قضى وقدر ، فالرضا من ثمار التسبيح ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (١) و (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢) ثم إن تكرار التسبيح لتعلق أحدهما بالصباح والمساء ، وأحدهما بآناء الليل وأطراف النهار.

[١٣٢] اتصل بالله سبحانه وقر نفسا بفضله ولطفه وذكره (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي لا تنظر نظر رغبة وميل ـ فإن الرؤية قسم من إمداد العين

__________________

(١) التغابن : ١٢.

(٢) الرعد : ٢٩.

إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١)

____________________________________

نحو الشيء لأن الإنسان يتصل بذلك الشيء بواسطة إلقاء شعاع عينه عليه ، وإن قلنا في مسألة الرؤية بالانطباع ـ (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) الضمير يعود إلى «ما» (أَزْواجاً) أصنافا (مِنْهُمْ) من البشر أو من الكفار ، والمعنى لا ترغب في الجاه والمال والبنين التي متع بها الناس ، فإنها أمور زائلة فانية ، ولا ينبغي للإنسان أن يرغب فيها ، فإنما هي (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الزهرة هي النور الذي يرون عند الرؤية ، ولذا يقال لكل شيء مستنير زاهر ، ونصبها على كونها حالا من «ما» أي أن ما متعنا القوم ، إنما هي بهجة الحياة العاجلة ونضارتها (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي نمتحنهم بسببه ، والضمير يعود إلى «ما» وجيء ب «في» لأن الإنسان يعيش في وسط تلك البهجة والنضارة.

وليس المعنى أن لا يرغب الإنسان في الحياة ، بل المعنى أن لا يجعل الحياة منتهى نظره ـ بل ينظر إليها نظرا عرضيا ، ولذا قال سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (١) (وَرِزْقُ رَبِّكَ) الذي وعدك في الآخرة (خَيْرٌ) من متعة الحياة الدنيا (وَأَبْقى) أي أكثر بقاء لأن الحياة الدنيا فانية ، وتلك الحياة باقية ، أو أن المراد ، أن متع الكفار من الحرام ، ورزق الله من الحلال خير لعدم العقاب فيه ، وأبقى لأنه ذو بركة وبقاء بخلاف الحرام الذي لا بركة فيه ، كما قال سبحانه : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (٢)

__________________

(١) البقرة : ٢٠٢.

(٢) البقرة : ٢٧٧.

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ

____________________________________

[١٣٣] وإذا توجهت أنت إلى الله سبحانه ولم تمد عينيك إلى زهرة الحياة ، فاللازم أن توجه عائلتك إلى الله سبحانه ، كما توجهت أنت (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) فإنها عمود الدين ، والصلة بين الله وبين العبد (وَاصْطَبِرْ) أي اصبر ، وكأن الاصطبار أقوى دلالة من الصبر. لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. (عَلَيْها) على الصلاة فإن فيها صعوبة التكرار كل يوم خمس مرات ، مما لا يتأتى إلا بصبر طويل ، ولعل تخصيص الأهل ، لكونهم الأسوة ، ولفرض تعليم المسلمين فإن الواجب على المسلم أن يبدأ بأهله ، ثم بين سبحانه أن هذا التكليف ليس مستلزما للمشقة كطلب سائر الموالي من عبيدهم أن يكتسبوا لهم ويأتوا لهم بالرزق (لا نَسْئَلُكَ) يا رسول الله (رِزْقاً) بل عبادة وطاعة (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) فإن من يرزق لا يطلب الرزق (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) فرزقك في الحياة علينا ، وعاقبتك في الآخرة على التقوى ، وفي الأحاديث ما حاصله أن الله وكل أمر الدنيا إلى نفسه ، وأمر الآخرة إلى الناس ، فاللازم أن يعمل الإنسان حتى ينال سعادة الآخرة.

[١٣٤] وفي ختام السورة يأتي الحديث عن المتكبرين والكفار الذين لا يؤمنون ويأتون بحجج واهية ، حيث أن الجو العام للسورة كان حول العقيدة ، والمؤمنين والمكذبين (وَقالُوا) يعني الكفار (لَوْ لا) أي لماذا لا (يَأْتِينا) الرسول (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي بخارقة نقترحها عليه؟ فقد كانوا يقترحون خوارق تعنتا لا حقيقة واستظهارا (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ)

بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ

____________________________________

ألم تصل إليهم (بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)؟ بيان ما في الكتب الأولى من أخبار الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فما ذا يؤمنهم أن يكون حالهم كحال أولئك الأمم ، إذا جئناهم بآية كفروا ، فتحل عليهم العقوبة؟ أو المراد إنا جئناهم بآية ، وهي القرآن الذي هو مشتمل على الحجج التي كانت في الصحف السابقة ، وهل من بينة وحجة بعد القرآن؟ و «بينة» صفة «آية» المقدرة ، أي الآية البينة ـ بمعنى الواضحة ـ.

[١٣٥] لقد تمت على هؤلاء الحجة بنزول القرآن ، فإن يهلكوا بعد ذلك ، ويدخلوا النار ، فليس إلا من أنفسهم ولسوء تلقيهم للآيات (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ) أي أهلكنا هؤلاء الكفار (بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن أو من قبل الرسول ـ أهلكناهم بأعمالهم السيئة ، وبكفرهم ـ (لَقالُوا) واحتجوا على الله سبحانه يا (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي لماذا لم ترسل إلينا من يبين لنا أوامرك (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) ونعمل بما فيها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) بالعذاب (وَنَخْزى) من النار؟ وقد كان حينذاك الحق معهم ، فكيف يعذب من لم يتم عليه الحجة؟ أما وقد أرسلنا الرسول وعصوا ، فإنهم قد استحقوا العذاب ولو عذبناهم لا مجال لهم للاحتجاج.

[١٣٦] وإذ قد تمت الحجة عليهم ، ولم يؤمنوا ، فلينتظروا العذاب (قُلْ)

كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)

____________________________________

يا رسول الله لهم (كُلٌ) أيّ واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) منتظر ليرى المصير ، وينظر لمن الغلب ، وأينا يعذب وأينا ينعم؟ (فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا أيها الكفار ـ وهذا أمر للتهديد ـ (فَسَتَعْلَمُونَ) إذا متّم (مَنْ) منا ومنكم (أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي الطريق المستقيم ، والدين الصحيح (وَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق ، هل نحن أم أنتم؟

تقريب القران الى الأذهان

الجزء السّابع عشر

من آية (١) سورة الأنبياء

إلى آية (٧٩) سورة الحج

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

(٢١)

سورة الأنبياء

مكية / آياتها (١١٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر الأنبياء عليهم‌السلام وقصصهم ، وهذه السورة كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، الألوهية ، والرسالة ، والمعاد وحيث ختمت سورة «طه» بالوعيد ، فتحت هذه السورة بذكر القيامة التي هي محل الثواب والعذاب.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أستعين باسم الله ليكون الله معينا ، وإنما الإتيان بالاسم ، دون «بالله» لإفادة سمو المسمى حتى كأنه أرفع من أن يستعان به ، كما في الدعاء «لاذ الفقراء بجنابك» والجناب هو العتبة ، لإيهام أن الله سبحانه أسمى من أن يلوذ بذاته الفقراء ، وهو الرحمن الرحيم الذي يترحم على عباده بالفضل عليهم ، فهو يعين بفضله من استعان به.

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ

____________________________________

[٢] (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) الاقتراب : افتعال من القرب ، يعني قرب وقت حساب الناس ، والمراد به إما القبر ، وإما الموت فإن كليهما قريب وإن ظن الإنسان بعدهما ، ولذا قال الرسول : بعثت أنا والساعة كهاتين ـ وأشار بإصبعيه ـ (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عن الساعة لا يستعدون لها ولأهوالها بالأعمال الصالحة (مُعْرِضُونَ) عن التذكر والاستعداد.

[٣] (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي جديد ، كالآيات التي تنزل ، والأحكام التي توحى ، لأجل تذكيرهم وإرشادهم (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) مجرد سماع بآذانهم (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) مشغولون باللعب ، لا يبالون بالذكر ، فإن الدنيا لعب ولهو.

[٤] في حال كونهم (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي أن قلوبهم في لهو ، وهو مقابل الجد ، فآذانهم تسمع ، وقلوبهم لا تطيع (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، أخذ يناجي بعضهم بعضا في شأن القرآن والرسول يقولون (هَلْ هذا) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)؟ استفهام إنكاري ، أي ليس الرسول إلا أحد أفراد البشر فكيف يدعي النبوة؟ وكيف يؤمن به الناس ، والحال أنه ليس من الملائكة حتى يليق بهذا المنصب الذي يدعيه ، ثم أرادوا زيادة تنفير الناس عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول بعضهم لبعض (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) أي

وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ

____________________________________

كيف تقبلون السحر الذي أتى به محمد ، وتأتون بمعنى تذهبون إلى السحر (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) والحال أنتم ترون أنه سحر.

[٥] (قالَ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواب هؤلاء ، وكان الإتيان بالفعل الماضي لإشعارهم بعدم أهمية إشكالهم ، فإذا أشكل عليك إنسان تقول : قلت لك سابقا ، تريد أن هذا الإشكال ليس بالجديد ، وإنما قد أكل الدهر عليه وشرب (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) أي يعلم كل ما يقال حول القرآن والرسول ، في جملة سائر الأقوال التي يعلمها (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فأين ما كان القول يعلمه ولا يغيب عنه ، وهذا كالتهديد ، بأن أقوالهم محفوظة سيجازون عليها (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم التي يتناجون بها (الْعَلِيمُ) بأفعالهم وضمائرهم.

[٦] إنهم ما آمنوا بالرسول والقرآن (بَلْ قالُوا) حول القرآن إنه (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أضغاث جمع ضغث ، وهو : الخلط من الشيء ، والأحلام جمع حلم ، وهو : المنام ، يعني : إن الرسول يرى في المنام أحلاما مضطربة فيلفقها ويصنعها قرآنا (بَلْ) قال بعضهم (افْتَراهُ) فليس الله نزل شيئا وإنما هو يكذب على الله سبحانه في نسبة القرآن إليه (بَلْ) قال جماعة (هُوَ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (شاعِرٌ) وأن القرآن شعر ، فقد كان القرآن بهرهم لا يدرون ماذا يقولون حوله ، فمرة يقولون حلم ، وأخرى كذب عن عمد ، وثالثة شعر ورابعة سحر وهكذا (فَلْيَأْتِنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان صادقا (بِآيَةٍ) خارقة تدل على صدقه ، كما زود

كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)

____________________________________

موسى بالعصا ، وصالح بالناقة وهكذا (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) من الأنبياء عليهم‌السلام بمثل هذه الآيات.

[٧] وقد أجابهم الله سبحانه في طلبهم هذا بأنه (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية (أَهْلَكْناها) لتكذيبها الأنبياء عليهم‌السلام ، بعد ما أعطيناهم الآيات المقترحة ، كما أرادوها (أَفَهُمْ) أي فهل بعد أولئك هؤلاء المقترحون (يُؤْمِنُونَ)؟ كلا إنهم كالأمم السابقة ، لا يؤمنون وإن أرسلنا إليهم مثل تلك الآيات ، فإن الإنسان نوع واحد ، وما كان عليه السابقون هو الذي يكون عليه اللاحقون ، فإن أرادوا الحجة فقد تمت عليهم ، وإن أرادوا العناد ، فالمعاند لا يؤمن مهما كان.

[٨] أما ما ذكروا من أنك بشر وكيف يكون البشر رسولا؟ فإن الأنبياء عليهم‌السلام السابقين أيضا كانوا بشرا (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا رسول الله (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فهم بشر يمتازون عن سائر الناس بما أوحى إليهم (فَسْئَلُوا) أيها الكفار المجادلون (أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل الكتاب ، ويسمون بأهل الذكر ، لأن الكتاب يسمى ذكرا ، حيث إنه يذكر الناس بما أودع في فطرتهم من المبدأ والمعاد والمعارف (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإنهم يجيبون بأن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا بشرا ، وما روي من تفسير الآية بالأئمة عليهم‌السلام فإنه من باب المصداق الظاهر بالنسبة إلى هذه

وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)

____________________________________

الأمة ، فإن الأئمة عليهم‌السلام هم أهل الكتاب الذين يعلمونه ويعرفون حدوده وأحكامه ، كما أن العلماء ومن إليهم أيضا من أهل الذكر.

[٩] وقد كان الكفار يقولون (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) (١) ظانين أن الرسول يجب أن لا يأكل ولا يمشي ، فردهم الله سبحانه بأن الأنبياء عليهم‌السلام السابقين كانوا كذلك (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) أي أجسادا ، وإنما جيء بالمفرد باعتبار كل واحد (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) والجسد يطلق على الميت ، أو ما يشبهه ، كأنه أخذ فيه معنى الفراغ من الروح أو الطعام (وَما كانُوا) أولئك الأنبياء (خالِدِينَ) لا يموتون ، بل كانوا يعيشون حياة البشر ، ويموتون مماتهم ، وأنت يا رسول الله أحدهم فلا مجال لقولهم كيف يكون الرسول بشرا؟

[١٠] ولا يهمك يا رسول الله تكذيب هؤلاء فإن العاقبة المنتظرة لك ، كما إن الأنبياء السابقين كانت لهم العاقبة الحميدة (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) بأن وفينا بوعدنا لهم ، حيث وعدناهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) (٢) ونصرناهم في خاتمة المطاف (فَأَنْجَيْناهُمْ) من كيد الأعداء (وَ) أنجينا (مَنْ نَشاءُ) من المؤمنين بهم ، كما حدث في قصة نوح وموسى وإبراهيم ولوط وعيسى وغيرهم (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا في الكفر

__________________

(١) الفرقان : ٨.

(٢) غافر : ٥٢.

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢)

____________________________________

والمعاصي ، وهذا بشارة للنبي والمؤمنين ، وتهديد للكفار ، ونحن إذ نقرأ هذه الآية نرى أن الله سبحانه صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوعد فقد أنجاه والمؤمنين ونصره على الكفار ، وأهلك المسرفين ، كما وعده هنا ، وقد مرّ على القصة أربعة عشر قرنا ، إذ السورة مكية ـ كما سبق ـ

[١١] وما لهؤلاء الكفار لا يعقلون ،؟ إنهم إن عقلوا علموا أن هذا الكتاب الذي يحاربونه أشد محاربة كتاب فيه شرف لهم إن آمنوا به (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) أيها العرب (كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي شرفكم إن تمسكتم به فإنه يخلد ذكركم ومزاياكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) هذا الأمر الواضح؟ فتتبعون الكتاب وتتمسكون به.

[١٢] وإن أعرضتم ولم يعظكم التبشير والتخويف فانتظروا عاقبة المكذبين (وَكَمْ قَصَمْنا) أي أهلكنا ، وأصل القصم كسر الظهر الذي يكون مع الصوت (مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) أي ما أكثر ما أهلكنا وعذبنا أهل القرى الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي (وَأَنْشَأْنا) أوجدنا (بَعْدَها) أي بعد تلك القرية ، بمعنى بعد إهلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ) فنحن لسنا بحاجة إلى أحد ، ولا يصعب علينا تبديل أناس بأناس.

[١٣] وحيث أردنا إهلاك القرية فجاءهم آثار العذاب أخذوا يفرقون من العذاب (فَلَمَّا أَحَسُّوا) أي أدركوا بحواسهم (بَأْسَنا) عذابنا (إِذا هُمْ مِنْها) أي من العقوبة ، أو من القرية (يَرْكُضُونَ) هاربين من العذاب ،

لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)

____________________________________

كما جرت العادة بأن الإنسان إذا رأى العذاب قد جاء من ناحية يركض هاربا منه لئلا يشمله.

[١٤] لكن هل كان فرارهم وركضهم نافعا؟ كلا! فقد كان لسان الحال يقول لهم ـ حين ذاك ـ (لا تَرْكُضُوا) فإن الفرار لا ينفع (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) أي : أسباب ترفكم من زخارف الدنيا (وَمَساكِنِكُمْ) ارجعوا إلى بيوتكم ، فأين تفرون وتتركون هذه الأشياء النفيسة؟ وقد كان هذا القول لهم من باب التقريع والاستهزاء (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) فإن الإنسان المترف الذي في منزله يسأله الناس الحوائج ، فارجعوا إلى محلكم وجاهكم الذي كان يقف الناس لأجله على أبوابكم يسألون الحوائج.

[١٥] ولم يعد عند فرارهم جواب منهم على هذا الاستهزاء ، بل (قالُوا : يا وَيْلَنا) أي يا سوء حالنا ، أو يا قوم ويلنا ، والويل كلمة يقولها من يطلب الهلاك تضجرا من الحالة التي هو فيها ، فالمعنى يا ويل احضر فهذا وقتك أو يا قوم إن ويلنا حضر (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حيث لم نؤمن وكذبنا الأنبياء.

[١٦] (فَما زالَتْ تِلْكَ) الكلمة ، أي يا ويلنا (دَعْواهُمْ) أي دعاءهم وذكرهم (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي محصودا قد شملهم العذاب الذي فروا منه ، حتى كأنهم السنبل المحصود الذي يقطع فلا حياة فيه (خامِدِينَ) ساكني الحركات ، من خمد ضد اشتعل ، فكأنهم لم يكونوا.

وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ

____________________________________

[١٧] إن الكفار بلهوهم ولعبهم يزعمون أنهم خلقوا للهو واللعب بينما إن الكون كله خلق للجد ولغايات وحكم عالية ، فكيف يصرف هؤلاء عمرهم لهوا ، ويزعمون أن القرآن والرسالة لعب ، ما يأتيهم ذكر إلا وهم يلعبون لاهية قلوبهم ، كما قال قائلهم :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات والموجودات (لاعِبِينَ) في حال كوننا لاعبين في خلقتها ، بل إنما خلقت للجد وللغرض الصحيح ، بأن تكون نعمة ودلالة ومقدمة للثواب الدائم.

[١٨] (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) بأن أردنا أن نلعب ونلهو ـ على فرض المحال ـ (لَاتَّخَذْناهُ) أي جعلنا اللهو (مِنْ لَدُنَّا) فإن كل لاعب يكون لعبه ملائما لذات اللاعب ، فالرجل الكبير يلعب بالكرة ، لا بالدمية ، عكس الطفل الذي يلعب بالدمية ، والملك يلهو بالصيد ، لا بأخذ الذباب ، كما يلهو به الشحاذ ، وهكذا لو أراد الله سبحانه أن يتخذ اللهو لكان لهوه من جنس الروحانيات المرتبطة بعالم الله ، لا من الماديات الخارجة عن مقامه الرفيع (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) لاتخاذ اللهو ، تأكيد لعدم أخذه اللهو ، وبعضهم جعل «إن» نافية ، أي ما كنا فاعلين.

[١٩] (بَلْ) إنا نبطل اللهو والباطل ، فإن الإنسان لم يخلق لأجلها ،

نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ

____________________________________

ولا خلقنا سائر المخلوقات للهو حتى نترك اللهو بحاله ف (نَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي نرمي الحق ـ كالرامي الذي يرمي الهدف من بعيد ، وفيه دلالة على شدة الضرب ـ (عَلَى الْباطِلِ) أيّا ما كان لهوا أو غير لهو (فَيَدْمَغُهُ) يبطله ويفنيه ويمحقه (فَإِذا هُوَ) أي الباطل (زاهِقٌ) زائل مضمحل (وَلَكُمُ) أيها الكفار (الْوَيْلُ) والعذاب (مِمَّا تَصِفُونَ) الله به من أن يتخذ اللهو والباطل ، أو مما تصفون به القرآن من أنه سحر أو شعر أو أحلام أو ما أشبه.

[٢٠] وكيف يستكبر هؤلاء عن الخضوع لله سبحانه ، والحال أنه الملك المطلق ، وأن الذين هم أشرف منهم لا يستكبرون عن عبادته؟ (وَلَهُ) سبحانه (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء ، فكيف بغيرهم؟ أو غلب العقلاء على غيرهم ، فإن الإنسان في الأرض ، والملائكة في السماء له تعالى ، وكذلك سائر الأشياء (وَمَنْ عِنْدَهُ) أي الملائكة والمراد ب (عِنْدَهُ) القرب المعنوي تشبيها له بالقرب الحسي (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يأنفون ولا يترفعون أن يعبدوه ويطيعوا أوامره (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) الاستحسار الانقطاع من الإعياء ، يقال : استحسر فلان عن عمله ، يعني انقطع عنه إعياء ، أي إن الملائكة لا يعيون عن العبادة بل إنهم دائمو التعبد.

[٢١] ولذا قال (يُسَبِّحُونَ) الله تعالى ، أي ينزهونه عما لا يليق بشأنه

اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا

____________________________________

(اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي فيهما ، والإسناد مجازي ، نحو «يا سارق الليلة أهل الدار» (لا يَفْتُرُونَ) أي لا يأخذهم الفتور والضعف عن العبادة ، هذا حال الملائكة الذين هم أشرف من هؤلاء ، فكيف يستكبر هؤلاء؟

[٢٢] وحيث فرغ السياق من تقريع الكفار ، حول قولهم عن القرآن والرسول ، واستكبارهم عن عبادة الله سبحانه ، أخذ في تقريعهم حول فعلتهم الأخرى ، وهي جعل الشركاء لله سبحانه (أَمِ اتَّخَذُوا) هذا استفهام توبيخي ، أي كيف اتخذ هؤلاء الكفار (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) وهي : الأصنام المنحوتة منها ، فإن كل صنم من أصل أرضي ، وهل الإله يكون من جنس الأرض؟ فهل (هُمْ يُنْشِرُونَ)؟ أي يقدرون على نشر الأموات ، وإحيائهم ، كلا! إذن فليسوا هم آلهة ، لأن من أول صفات الإله أن يقدر على إحياء الميت ، وهذا من التهكم ، كما تقول : إن فلانا يقتدي بالعالم العامل زيد ، تريد التهكم بالمقتدي والمقتدى فتأتي بصفة العالم العامل لزيد ـ وهو خالي عنهما ـ تهكما.

[٢٣] ثم استدل سبحانه على استحالة تعدد الآلهة (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ) المراد إلهان ، فأكثر (إِلَّا اللهُ) أي متصفة بكونها غير الله ، والمراد انه لو كان من هذا الجنس أحد غير الله (لَفَسَدَتا) أي فسدت السماوات والأرض وما استقامتا ، والمراد بالظرف أعم من المظروف ـ كما تقدم ـ وحيث نرى أنهما باقيتان مستقيمتان نستدل بذلك ـ استدلالا آنيا ، أي استدلالا من المعلول إلى العلة ـ على أنه ليس في الوجود أكثر من إله واحد هو الله سبحانه ، وإنما يلازم تعدد الآلهة الفساد ، ثم إن

____________________________________

الاستدلال على عدم التعدد من وجهين : الأول من ناحية الذات ، والثاني من ناحية اللوازم.

أما الأول : وهو من ناحية الذات ، تقريره أنه لو كان إلهان لكان بينهما جامع ولكل منهما مائز ، والجامع غير المائز ، فيلزم تركب الإله ، وكل تركيب مستلزم لعدم الألوهية ، إذ المركب يحتاج إلى الأجزاء وإلى المركّب ، والمحتاج مسبوق بالغير ، والمسبوق بالغير ممكن لا واجب فليس بإله.

وأما الثاني وهو من ناحية اللوازم ، تقريره أنه لو كان إلهان هل يعقل تخالفهما في الإرادة ـ كأن يريد هذا إحياء زيد والآخر عدم حياته ـ أم لا يعقل؟ وكل من المعقولية وعدمها مستلزم لعدم التعدد ، أما لو كان تخالفهما في الإرادة معقولا فلا يخرج الحال عن ثلاثة أمور : إما أن يقع مرادها وهو محال لاستلزامه اجتماع النقيضين. وإما أن لا يقع مرادهما وهو محال لاستلزامه ارتفاع النقيضين. وإما أن يقع مراد أحدهما ، وذلك مستلزم لعدم كون الآخر إلها لأنه محدود القدرة مغلوب على أمره ، وأما لو كان تخالفهما في الإرادة غير معقول فليس ذلك لاستحالة ذاتية في مراد أحد الإلهين ـ كإحياء زيد ـ وإنما الاستحالة ناشئة من مخالفة الإله الآخر ، وذلك يستلزم العجز الملازم للإمكان ، فهذا الإله الذي لا يعقل أن يريد إحياء زيد عاجز ، والعاجز لا يكون إلها ، لما تقرر في علم الكلام من أن العاجز لا يعقل أن يكون إلها إذ بساطة الوجود في الإله ، وإمكان المهية في المقابل ، ووحدة نسبة الإله إلى جميع الممكنات ، مستلزم للقدرة المطلقة ، وبهذا التقرير تبين : أن الدليل لا يتوقف على تخالف الإرادة خارجا ، حتى يقال إنهما

فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ

____________________________________

حكيمان فلا يتخالفان في الإرادة.

فلو فرضنا ـ مستحيلا ـ أن هناك إلهين ، كان اللازم أن يستقل كل في مراده ، وذلك مستلزم للفساد إذ يريد هذا المطر ، وذاك عدمه مثلا ، فيتنازعان مما يؤدي إلى فساد العالم (فَسُبْحانَ) أي أنزه (اللهُ) تنزيها عما لا يليق به (رَبِّ الْعَرْشِ) أي مالك الكون ، فإن العرش كناية عن الملك ، وهناك عرش عظيم جدا ، هو الله مالكه ، وقد جعله موضع تشريفه للملائكة ، كما جعل البيت الحرام موضع تشريفه للبشر (عَمَّا يَصِفُونَ) الله به ـ هؤلاء الكفار ـ من الشريك ، فيقولون إن الله متصف بأن له شريك.

[٢٤] إنه تعالى لكون جميع أفعاله عن حكمة وصواب وصلاح (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أي ليس له شأنية أن يسأل ، إذ الحكيم لا يسأل عنه : لم تفعل؟ فهو من قبيل «لا ريب فيه» الذي كان معناه ليس بموضع ريب وإن ارتاب فيه المبطلون (وَهُمْ) أي البشر أو الكفار (يُسْئَلُونَ) عما فعلوا لأنهم عبيد مملوكون يخطئون كما يصيبون ، والمخطئ يسأل ويحاسب.

[٢٥] وبعد أن استدل القرآن على بطلان التعدد ، يأتي السياق ليسأل القائلين بذلك : ما دليلهم؟ فمن ادعى شيئا لا بد وأن يقيم له الدليل ، وهؤلاء المشركون لا دليل لهم على ذلك ، حتى الدليل الواهي (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي بل اتخذوا لله شركاء (قُلْ) يا رسول الله لهم (هاتُوا) أي ائتوا (بُرْهانَكُمْ) ودليلكم على تعدد الآلهة ، لكنهم لا يأتون

هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)

____________________________________

بالدليل ، إلا قولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (١) وهل فعل الآباء يكون دليلا وحجة؟

(هذا) القرآن (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) من المؤمنين وليس فيه دلالة على الشرك (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الأنبياء والمؤمنين وليس في ذلك ما يدل على الشرك ، فمن أين جئتم أيها المشركون بالشرك؟ إن الذكر الذي أنزله الله على أنبيائه ، الذي هو مجموع في القرآن ، لا يشير إلى الشركاء ، فالمدعي له يدعي الباطل ، فلا دليل عقلي له ـ قل هاتوا برهانكم ـ ولا دليل شرعي له ـ فهذا ذكر من معي وذكر من قبلي وليس فيه إلا التوحيد ـ فليس اتخاذهم للشركاء عن علم ودليل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر البشر (لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) الذي هو التوحيد (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحق مقبلون على الباطل.

[٢٦] ثم بين سبحانه كيف أنزل الله الكتب حول التوحيد ـ بيانا لقوله هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (مِنْ رَسُولٍ) «من» تفيد العموم في النفي ، وتسمى زائدة ، لصحة أن يقال «رسولا» (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) نحن ب (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وحدي لا شريك لي (فَاعْبُدُونِ) لي فقط دون غيري.

[٢٧] وحيث بين القرآن الحكيم بعض عقائدهم الفاسدة حول التوحيد ،

__________________

(١) الزخرف : ٢٣.

وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ

____________________________________

وزيف عقيدتهم تعرض إلى عقيدة أخرى زائفة كانوا يعتقدونها ، وهي أن لله سبحانه أولاداً(وَقالُوا) أي بعض الكفار (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي جنس الولد ومرادهم الملائكة (سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها عن ذلك ، فإن الولادة غير معقولة في حقه ، والتبني غير صادق بالنسبة إليه (بَلْ) الملائكة الذين جعلوهم أولاد الله (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أكرمهم الله سبحانه وفضلهم على كثير من خلقه.

[٢٨] (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يتكلمون إلا بما يأمرهم الله سبحانه ، فقولهم إثر قوله ، واتباع أمره (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فأقوالهم وأفعالهم كلها بأمر الله وإذنه ، ومن هذا شأنه لا يكون ولدا.

[٢٩] وهو سبحانه محيط بهم إحاطة علم وقدرة ف (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي أمامهم ، وما عملوه وقدموه (وَما خَلْفَهُمْ) أي ورائهم وما سيعملونه ـ وذلك كناية عن الإحاطة بهم ـ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) لا يتوسط الملائكة لإنجاء المجرم من عذاب الله ، إلا لمن أراد الله أن يشفعوا له ، فحتى شفاعتهم ليست ابتدائية ، وإنما تابعة لرضى الله سبحانه (وَهُمْ) أولئك الملائكة (مِنْ خَشْيَتِهِ) من خوف الله سبحانه (مُشْفِقُونَ) ووجلون ، من أشفق بمعنى وجل وخاف.

[٣٠] (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من أولئك الملائكة الأطهار (إِنِّي إِلهٌ مِنْ

دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)

____________________________________

دُونِهِ) من دون الله (فَذلِكَ) القائل (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) فهم على طهارتهم وقربهم لا فرق بينهم وبين سائر العبيد في أن المدعي منهم للألوهية نصيبه جهنم ، ولعل قسما من المشركين كانوا يعبدون الملائكة ، كما يظهر من قوله سبحانه (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) ولذا يأتي هذا الكلام الجازم بأنهم لا يدّعون الألوهية فكيف أنتم تقولون عنهم ذلك ، ولو ادعاها أحدهم لجوزي بالنار (كَذلِكَ) الذي نجزي مدعي الألوهية (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والعصيان.

[٣١] ثم يرجع السياق إلى بيان الآيات الكونية الدالة على قدرة الله وعمله وسائر صفاته فيقول سبحانه (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) استفهام تقريع وتوبيخ (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) أي كانت كل واحدة منهما متصلة لا تمطر السماء ولا تنبت الأرض النبات ، فحمل الرتق على السماوات والأرض من باب زيد عدل (فَفَتَقْناهُما) أي شققناهما بإنزال المطر من السماء ، فإن السماء ـ وهي جهة العلو ـ تشق بالمطر ، وإنبات النبات من الأرض (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) فإن أصل الحياة وبقائها بالماء ، وقد ناسبت هذه الجملة الجملة السابقة الدالة على فتق السماء بالمطر (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بعد ما يرون من هذه الآيات

__________________

(١) الزخرف : ٨٢.

وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً

____________________________________

العظيمة ، بالله سبحانه ، فمن فتق السماء بالمطر؟ ومن فتق الأرض بالنبات؟ ومن أوجد الأشياء الحية من النبات؟

[٣٢] (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جمع راسية ، وهي الجبال الثوابت التي تمنع الأرض عن الحركة والاضطراب ، كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تتحرك ، من ماد بمعنى تحرك ، وضمير بهم عائد إلى الناس (وَجَعَلْنا فِيها) في الأرض أو في الجبال (فِجاجاً سُبُلاً) الفجاج جمع فج ، وهو الطريق الواسع بين جبلين ، وسبلا بدل منه ، وكان تخصيص الفجاج بالذكر لأن الجبل الذي هو صلب لا يمكن قطعه إذا لم يكن فيها فجاج ، كان سببا لقطع الاتصال بين طرفيه ، فنعمته جعل الطريق فيها عظيمة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لكي يهتدي الناس إلى بلادهم ومصالحهم بسبب تلك الفجاج ، أو لكي يهتدوا إلى خالق السماء بالتذكر والاعتبار من هذه النعم والآيات.

[٣٣] (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) فإن طبقة الهواء التي تعلونا محفوظة عن الخلل ، وإنما جعلت بمقياس دقيق في جميع شؤونها ، وقال بعض علماء الفلك : أن الطبقة «النتروجينية» تحفظ الأرض من القذائف الجوية ، فتجعلها رمادا منثورا لئلا تصل إلى الأرض فتؤذي أهلها ، والسقف هو ما يعلو الإنسان أو المراد المحفوظ من الشياطين ، فإنهم لا يقدرون من الوصول إليها. واستراق السمع ، وقد حفظت بالشهب ، كما قال سبحانه (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ

وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)

____________________________________

شِهابٌ ثاقِبٌ) (١) (وَهُمْ) أي البشر (عَنْ آياتِها) الكائنة فيها (مُعْرِضُونَ) فلا يستدلون بها على المؤثر العالم القدير.

[٣٤] (وَهُوَ) الله (الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) فإن الظلمة شيء مخلوقة بنفسها أو بخلق ضدها ، وهي الضياء (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وخصصا بالذكر مع أن الشمس هي المولدة للنهار ، لعدم التلازم كما إذا سكنت الكرات فإن الشمس موجودة ولا نهار ولا ليل بهذه الكيفية الحالية (كُلٌ) من الشمس والقمر (فِي فَلَكٍ) أي مدار خاص به (يَسْبَحُونَ) تشبيه بالإنسان السابح في الماء ، وإنما جيء بلفظ العاقل حيث قال : يسبحون. لأنه نسب إليهم فعل العقلاء وهو السباحة ولعل لهما عقلا ، ولذا ورد في الدعاء خطابا للقمر «أيها الخلق المطيع» ـ إلى آخره ـ.

[٣٥] إن الذي خلق الكون هو الذي خلق الحياة والموت ، ولا منجي لبشر من الموت ، فليحسن البشر في حال الحياة ، حتى لا يأتيه الموت ، وقد أسرف مما يسبب له سوء العاقبة (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (الْخُلْدَ) أي الخلود والدوام في الدنيا ، والخضر وعيسى أيضا ليسا من الخالدين ، وإن امتدت بهما الحياة إلى مدة بعيدة (أَفَإِنْ مِتَ) يا رسول الله أنت (فَهُمُ الْخالِدُونَ)؟ استفهام إنكار ، يعني إن انتظار هؤلاء لموتك غير صحيح إذ أنهم يموتون فما فائدة موتك لهم ، حينما

__________________

(١) الصافات : ١١.

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ

____________________________________

قالوا (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (١).

[٣٦] (كُلُّ نَفْسٍ) أي حي (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي تذوق الموت ، وتخرج عن الحياة (وَنَبْلُوكُمْ) نمتحنكم أيها البشر ونختبر ـ وإن كان اختبار الله ليس لأن يعلم هو ، فإنه تعالى عالم بكل شيء ، وإنما لأن يعرف نفس الشخص من هو وما أعماله ليتم على الأشقياء الحجة ، وتتم للسعداء السعادة ـ (بِالشَّرِّ) كالمرض والفقر وموت الأقرباء وما أشبه (وَالْخَيْرِ) كالصحة والغنى والجاه وما أشبه (فِتْنَةً) أي لأجل الامتحان ، والمعنى نختبركم بالشدة والرخاء لأجل الامتحان لنرى من يصبر عند البلاء ومن يجزع ، ومن يشكر عند النعماء ومن يبطر (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) إلى ثوابنا وعقابنا ، وذلك حين الموت ، لأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ، أو حين البعث ، وهناك نجزي المحسن بالثواب ونعاقب المسيء بالعذاب.

[٣٧] وبعد الكلام حول الإله يأتي الكلام حول الرسالة والمعاد وبيان أنهم كيف يستقبلون هذين الأصلين من أصول الإيمان (وَإِذا رَآكَ) يا رسول الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد سبق منك أن عبت آلهتهم وسفهت أحلامهم ودعوتهم إلى التوحيد (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أي ما يتخذونك (إِلَّا هُزُواً) سخرية واستهزاء ، يقول بعضهم لبعض (أَهذَا) محمد (الَّذِي يَذْكُرُ

__________________

(١) الطور : ٣١.

آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ

____________________________________

آلِهَتَكُمْ)؟ على طريق الاستفهام الاستهزائي ، أي هل هو الشخص الذي يقول عن الآلهة إنها لا تنفع ولا تضر (وَهُمْ) بينما يعتقدون بالآلهة الصنمية (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) الذي خلق وتفضل بالرحم (هُمْ كافِرُونَ) جاحدون ، فأمرهم أدعى إلى العجب والاستهزاء حيث يؤمنون بالجماد ويكفرون بإله الكون ..؟!

[٣٨] وقد كان الكفار يقولون للرسول لو كنت صادقا في أن مصير الكفر والتكذيب العذاب والنكال ، فائتنا بذلك العذاب (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١)؟ ويريدون بذلك الاستهزاء كما تقول لمن يهددك ولا يقدر على شيء : افعل بما تهدد ، فأجابهم الله سبحانه عن استعجالهم العذاب بقوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) يعني أنه من فرط استعجاله وقلة صبره كأنه خلق من جنس هو العجل ، كما قال الشاعر في عكسه : «ولله مفطور من الصبر قلبه». وهذا من باب المبالغة وحمل المصدر على الذات ، لإفادة تلبس الذات بالمصدر دائما وتلازمه معه غالبا (سَأُرِيكُمْ آياتِي) والأدلة الدالة على صدق النبي في أن من لم يؤمن يؤخذ بالعذاب ، فإن العذاب آية من آيات الله (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) في طلب العذاب ، فإنه إذا نزل بكم لا مناص لكم عنه ولا خلاص.

[٣٩] (وَيَقُولُونَ) الكفار (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الوعد بالعذاب الذي يعدنا

__________________

(١) يونس : ٤٩.

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)

____________________________________

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو بقينا على كفرنا (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون (صادِقِينَ) في ادعائكم أن العذاب يأخذنا؟.

[٤٠] (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ) أي وقت العذاب ، لعلموا صدق الرسول والمؤمنين وأنهم كانوا في غفلة وغرور ، وقد حذف جواب «لو» تهويلا أن العذاب ليأخذهم من جميع جوانبهم ، في صورة فجائية ، فإذا بهم يخفون لدفع العذاب ، بلمس اليد على وجوههم وظهورهم ، كالإنسان الذي يحترق فيكرر إمرار يده على وجهه وجسمه ، ليحول دون الاحتراق ، ولكن هناك لا تفيد هذه الحركات ، فإنهم (لا يَكُفُّونَ) ولا يمنعون ، بإمرار اليد (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) المشتعلة فيها (وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) كما ينصر المحترق في الدنيا حيث يجتمع الناس عليه ويطفئون النار المشتعلة فيه.

[٤١] (بَلْ تَأْتِيهِمْ) النار (بَغْتَةً) أي فجأة ، كما كانوا يطلبون استعجال العذاب ، إنهم بمجرد الموت تحيط بهم النار (فَتَبْهَتُهُمْ) وتحيرهم كيف يصنعون (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي لا يقدرون على دفع النار التي أتتهم بغتة (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يؤخرون لوقت آخر ليحدثوا توبة ، أو يفكروا في خلاص.

[٤٢] وقد سبق أخذ العذاب أمما استهزءوا بأنبيائهم ، بغتة ، فليخف هؤلاء عن

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)

____________________________________

مثل ذلك المصير (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) يا رسول الله ، والمستهزئ هم الأمم (بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما يستهزئ هؤلاء بك ، قائلين (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) (١) (فَحاقَ) أي حل (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي من تلك الأمم ـ والضمير عائد إلى مقدر معلوم من السياق ، نحو «لأبويه» ـ (ما كانُوا) أي وبال ما كانوا (بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمراد أنه حل بهم جزاء سخريتهم.

[٤٣] إنهم قد اتخذوا الأصنام آلهة ، فهل الأصنام تحفظهم من عقاب الله إذا جاءهم؟ (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) من كلأ بمعنى حفظ ، أي من هو الذي يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي من عذاب الله ، إذا أراد أن يعذبكم ويأخذكم في ليل أو نهار ، وهذا استفهام إنكاري ، يعني لا حافظ من بأس الله ، وكأن الإتيان بلفظ «الرحمن» لإفادة أنهم قد أغرقوا في العتو حتى استحقوا العقاب من الرحمن الذي شأنه التفضل والترحم (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يذكرون الله سبحانه حتى يخافوا عقابه ويفكروا في أنه لا عاصم منه إن أراد بهم عذابا ونكالا.

[٤٤] إن هؤلاء يعتمدون في أمورهم على آلهتهم ، فهل الآلهة تتمكن من

__________________

(١) الأنبياء : ٣٧.

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ

____________________________________

الوقوف أمام العذاب لتصده عن هؤلاء؟ (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) أي أفهل لهم آلهة لها شأنية الوقوف ضدا أمامهم لتمنع عذابنا عنهم؟ كلا! إن الآلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فإنها إذا أراد بها أحد شرا لا تتمكن من الدفاع عن نفسها ، فكيف تدافع عن هؤلاء الذين يعبدونها ، وجيء بوصف العاقل للآلهة تمشيا مع اصطلاح القوم ، وإلا فالآلهة لا تعقل ولا تدرك (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي أن هذه الآلهة لا قوة لها من ذاتها ، ولا أنها تستمد القوة منا حتى تتمكن من صنع العذاب بتلك القوة ، فإنها ليست بصحبتنا حتى تستمد القوى منا ، فإن الصاحب يستمد القوة من صاحبه ، وهذا جدل تهكمي مع عباد الأصنام كما كانوا يستهزئون بالرسل ـ في عين أنه تقرير للحقيقة ـ.

[٤٥] إن سبب كفران هؤلاء ليس لأجل اعتمادهم على الآلهة (بَلْ) لأجل إنا أنعمنا عليهم فطغوا ، و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١) فقد (مَتَّعْنا هؤُلاءِ) الكفار بأنواع النعم (وَ) كذلك متعنا (آباءَهُمْ) من قبلهم ، وذلك أدعى للطغيان ، فإن الفقير البائس واعي القلب متفتح النفس ، أما من ربّي في النعيم من زمان أبيه إلى آخر عمره فإنه يطغى وينسى (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فغرهم طول العمر وأسباب الرفاه ، وقلبوا الشكر كفرا ، لكن هؤلاء يلزم أن يعتبروا بمن هو أقوى وأشد ، فهذه الدول من أطرافهم ، كل يوم تقلص بخراب أطراف بلادها ، وغزو

__________________

(١) العلق : ٧ ـ ٨.

أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ

____________________________________

الأعداء لها حتى تكون خرائب بعد العمران ، ومغلوبة بعد الغلبة والنصر ، أفهل من يقدر على ذلك لا يقدر على أن يسلب النعمة والحياة من هؤلاء؟ (أَفَلا يَرَوْنَ) أي ألا يرى هؤلاء الكفار الذين أفسدهم العمر الطويل في النعمة الموروثة (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي نتوجه إلى أرض الحكومات وبلادهم (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) فمن طرف خراب للعمران ، ومن طرف ذهاب بعدوان ، وهذا كما يقال إن الدولة الإسلامية تقلصت ، أو أن المسلمين نقصوا من أرض الكفار (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) استفهام إنكاري ، أي فهل بعد عدم قدرة الدول على أن تمنع مشيئتنا حول أراضيها ، هم يتمكنون من الامتناع عن قدرتنا ، فيغلبون علينا في إرادتنا.

[٤٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي بما يوحي إلي ، بأنكم إذا لم تؤمنوا يأخذكم العذاب ، ثم أضرب سبحانه بقوله (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) الصم جمع أصم ، فإن الأصم لا يسمع نداء المنادي له ، وهؤلاء كالأصم ، فإنهم لا يسمعون الإنذار ، ولا يعيرون له الاهتمام (إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي في حال إنذارهم وتخويفهم.

[٤٧] إن هؤلاء الكفار ـ اليوم ـ لا يعيرون الإنذار اهتماما ، أما إذا جاءهم شيء ضئيل من العذاب اعترفوا بأنهم كانوا في ضلالة (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ) مجرد مس ، وهو المرور على ظاهر الجسم (نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ)

لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)

____________________________________

النفحة الوقعة اليسيرة كنفح الطيب الذي هو شيء يسير من ريحه (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا) أي يا قوم ويلنا ، أو يا ويلنا أحضر فهذا وقتك ـ كما سبق ـ (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حين لم نسمع دعوة الرسول.

[٤٨] (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) فكأن الميزان قطعة من العدل ، من شدة أنها تعدل في الوزن و «القسط» صفة الموازين ، فإن المصدر يأتي وضعا للمفرد والتثنية والجمع ، بلفظ واحد ، والمراد من الوضع إحضار تلك الموازين ذوات القسط لوزن الأعمال ، وهل الموازين كموازين الدنيا ، أم المراد بالموازين هم الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ومن إليهم ، أم هو كناية عن جزاء الأعمال حسب المقاييس المقررة ـ كما نقول فلان لا ميزان لكلامه ـ احتمالات؟ هذه الموازين هي (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فحينئذ (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) بأن ينقص من ثوابه ، أو يزداد في عقابه (وَإِنْ كانَ) عمله ـ المفهوم من السياق ـ (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي بقدر ثقل حبة من الخردل ، وهو تشبيه في الصغر والخفة (أَتَيْنا بِها) أي أحضرنا تلك الحبة ، والمراد إدراجها في الحساب ، حسنة كانت أم سيئة (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) «بنا» فاعل «كفى» دخل فيه الباء ، لأنه في معنى متعلق الأمر ، تقول «اكتف بزيد» و «حاسبين» حال من الضمير ، أي إننا يكتفى بنا في الحساب لأعمال هؤلاء من جهة

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ

____________________________________

عدم نسيان أي جزء من جزئيات أعمالهم ، فلا حاجة إلى محاسب آخر ، وإنما نحسب لنجازي كل أحد قدر عمله.

[٤٩] وحيث بين السياق قصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع القوم ، ذكر بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإتماما للحجة على الكفار ، وتقريرا للأصول التي دعا إليها كل الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) أي الكتاب والبرهان الذي يفرق بين الحق والباطل (وَضِياءً) أي أعطيناهما ما يضيء درب الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة ، لئلا يقع الناس في الضلال من جراء الظلمة (وَذِكْراً) يذكر البشر بما أودع في فطرته من العقيدة والمعارف (لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك كله ، أما غير المتقي عن عذاب الله ، فإنه لا ينتفع.

[٥٠] ثم بين المتقين بأنهم هم (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي يخافون عذابه (بِالْغَيْبِ) فإن الإنسان لا يحس الله سبحانه بإحدى حواسه الخمسة ، ومع ذلك يخشاه ، فهو غائب عن الحواس ، ولكنه مرهوب للمتقين (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي القيامة (مُشْفِقُونَ) خائفون ووجلون ، لأنهم لا يدرون ماذا يصنع بهم.

[٥١] وكما آتينا موسى وهارون الكتاب ، كذلك آتينا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهذا) القرآن (ذِكْرٌ) مذكر للناس ما أودع في فطرتهم من الأصول والمعارف

مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ

____________________________________

(مُبارَكٌ) يوجب البركة والنمو ، لمن أخذ به (أَنْزَلْناهُ) على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليذكر الناس ويباركهم (أَفَأَنْتُمْ) أيها الكفار (لَهُ مُنْكِرُونَ)؟ تنكرون كونه من عند الله ، وهذا استفهام توبيخ وتقريع.

[٥٢] (وَلَقَدْ آتَيْنا) أعطينا (إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أي الحجج والأدلة التي توجب إرشاده إلى الحق (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى وهارون ، وقبل القرآن (وَكُنَّا بِهِ) بإبراهيم (عالِمِينَ) نعلم أنه صالح للنبوة والرسالة.

[٥٣] (إِذْ قالَ) إبراهيم عليه‌السلام ، والظرف متعلق ب «آتينا» (لِأَبِيهِ) أي عمه آزر ، فقد جرت العادة بتسمية العم أبا (وَقَوْمِهِ) حين رآهم يعبدون الأصنام (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) جمع تمثال ، وهو الشيء المصنوع الشبيه بشيء من خلق الله سبحانه ، سواء كان المشبه به إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو غيرها ، وقد يعم فيطلق على الشبيه بخلق الإنسان ، فصنع قصر صغير للعب الأطفال أو سيارة صغيرة كذلك يسمى تمثالا (الَّتِي أَنْتُمْ) أيها القوم (لَها عاكِفُونَ)؟ أي مستمرون دائمون على عبادتها والخضوع لها؟

[٥٤] (قالُوا) في جواب إبراهيم (وَجَدْنا آباءَنا لَها) أي لهذه التماثيل ـ والمراد جنسها ـ (عابِدِينَ) فإنا قد قلدناهم في عبادتهم لها.

[٥٥] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام لهم (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ) أيها القوم (وَآباؤُكُمْ)

فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ

____________________________________

الذين عبدوها قبلكم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) واضح إذ كيف تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنكم شيئا؟.

[٥٦] (قالُوا) أي القوم ، لما رأوا من إبراهيم الإصرار على نبذ عبادة الأصنام (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي هل أنت جاد في كلامك هذا محق عند نفسك تريد بيان الحق بزعمك (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) تمزح وتلعب في كلامك؟ فقد كانوا يستبعدون أن ينكر عليهم أحد عبادة الأصنام التي ألفوها منذ دهور.

[٥٧] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام في جوابهم ، ما يفيد أنه جاد محق ، ولكن غير مجرى الكلام ليكون جوابه مع الدليل والبرهان فلا يبقى محل للمناقشة (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليست هذه أربابا لكم ، وإنما هو الله (الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي خلق السماوات والأرض ، والإتيان بضمير العاقل ، إما باعتبار تغليب العقلاء الموجودين فيهما وإما باعتبار أن لهما مرتبة من الإدراك والشعور (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) «ذا» اشارة إلى المطلب المتقدم ، وهو أن الرب هو اله السماء والأرض و «كم» خطاب للقوم (مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي أشهد بذلك ، وهذا لتأكيد الأمر ، وإلا فكل مخبر شاهد لما يخبر عنه ، وكأن المراد أن إخباري ليس تقليدا وإنما عن حضور وشهادة.

[٥٨] (وَتَاللهِ) حلف بالله لتأكيد ما يقول ، والتاء للتعجب ، وإنما جيء بها لصعوبة الأمر الذي نواه حتى أن الآتي به يستحق التعجب منه (لَأَكِيدَنَّ

أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩)

____________________________________

أَصْنامَكُمْ) أي أدبّرن تدبيرا خفيا في باب الأصنام ، يسوؤكم ذلك ، يقال : كاده إذا دبّر تدبيرا خفيا يوجب مساءته (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي تعرضوا عن المدينة جاعلين ظهوركم عليها تريدون الاجتماع في يوم عيدكم ، فقد كان لهم في كل سنة عيد يخرجون إلى خارج المدينة لأجله فيجتمعون هناك ، ثم إذا رجعوا دخلوا بيت الأصنام يسجدون لها ، ولما أرادوا الخروج دعوا إبراهيم للخروج معهم فلم يخرج ، فلما خرجوا جاء إلى بيت الأصنام وقد خلا من الناس.

[٥٩] وأخذ فأسا بيده (فَجَعَلَهُمْ) أي الأصنام ـ وقد مر وجه الإتيان بضمير العاقل ـ (جُذاذاً) أي قطعة قطعة فهو فعال بمعنى مفعول كالحطام ، وأصله من الجذ بمعنى القطع (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي كبير الأصنام ، فإنه عليه‌السلام لم يكسره ، وإنما أبقاه على حاله ، والمراد أكبرهم جسما ، أو أكبرهم عظمة عند القوم ، وقد علق الفأس في عنق ذلك الكبير ، وإنما فعل ذلك (لَعَلَّهُمْ) أي القوم (إِلَيْهِ) أي إلى إبراهيم (يَرْجِعُونَ) فيسألون عن الفاعل للتحطيم ، فينبئهم على خطئهم في العبادة.

[٦٠] ولما رجعوا ورأوا أن الأصنام قد حطمت وكسرت (قالُوا) قال بعضهم لبعض (مَنْ فَعَلَ هذا) الكسر والتحطيم (بِآلِهَتِنا)؟ على نحو الاستفهام الاستنكاري ، أو أن من مبتدأ خبره (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الذي ظلم نفسه وقومه.

قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا

____________________________________

[٦١] (قالُوا) أي قال بعضهم في جواب السائلين (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي أن في المدينة شابا يذكر الأصنام بسوء لعله هو الذي صنع هذا الصنيع (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) لا شأن له ولا أهمية ، ومن هذا يظهر أن إبراهيم عليه‌السلام كان شابا حينما فعل ذلك.

[٦٢] (قالُوا) قال بعض القوم لآخرين (فَأْتُوا بِهِ) فجيئوا بإبراهيم عليه‌السلام (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) بحيث يراه الناس ويكون بمشهدهم والإتيان بلفظ «على» لعله لكون العين تستوعب الشخص فكأنه عليها (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بما قاله إبراهيم في شأن الأصنام ، فتكون شهادتهم حجة عليه لا يتمكن من الإنكار ، عند إرادة عقابه جزاء لما فعل.

[٦٣] فذهب بعض القوم ، وجاءوا بإبراهيم عند الجماهير الحاضرة ف (قالُوا) لإبراهيم عليه‌السلام (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) الفعل الشنيع : الكسر والتحطيم (بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)؟ على نحو الاستفهام التقريري.

[٦٤] لكن إبراهيم تهكم منهم ، وصاغ الجواب في قالب يلفتهم إلى خطأ اتخاذهم لها أربابا (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الذي بقي سالما وعلى عنقه الفأس ، والكلام صدق إذ المقصود من الكلام هو الذي يجعله صادقا أو كاذبا ، لا القالب المصنوع ، ألا ترى أنك لو قلت للبخيل «إنه كريم» لم يكن كذبا ، حيث تريد بذلك التهكم ، وكذا لو قلت لرجل

فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)

____________________________________

شجاع «أنه أسد» لو أردت المجاز ، ثم ألفت إبراهيم ، إلى موضع العبرة والحجة بقوله (فَسْئَلُوهُمْ) أيها القوم ، عمن فعل بهم هذا العمل (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فإنهم يخبرونكم عمن فعل بهم هذا ، وقد أراد عليه‌السلام بذلك إلفاتهم إلى أنهم كيف يتخذون الأصنام آلهة ، وهي لا تنطق ولا تعلم من فعل بهم الكسر والتحطيم ، وإلى ما ذكرنا في معنى الآية تشير الرواية الواردة في الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : إنما قال بل فعله كبيرهم ، إرادة الإصلاح ، ودلالة على أنهم لا يفعلون (١).

[٦٥] وهنا أخذت الموعظة مأخذها ، وعمل التنبيه مفعوله (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي إلى أن القوم قال بعضهم لبعض ، أو تفكروا في نفوسهم (فَقالُوا إِنَّكُمْ) أيها القوم (أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسكم حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على دفع العدو عن نفسها ، وحتى على النطق وإظهار من فعل الكسر بها.

[٦٦] (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) كما هو عادة الذي قد تمت عليه الحجة فلا جواب له ، والمراد نكسوا رؤوسهم ، لكن فاعل النكس لم يظهر ، والإتيان ب «على» لإفادة أن هناك دافعا دفع الرؤوس من فوقها حتى نكست ، وأخذوا يجمجمون ـ مخاطبين إبراهيم ، أو أنفسهم ـ (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا إبراهيم (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف نسأل منهم ، كما قلت «فاسألوهم»؟

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ص ٣٤١.

قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)

____________________________________

[٦٧] ولما رأى إبراهيم عليه‌السلام أنهم وصلوا إلى واقع الأمر ، وأن عظته قد أثرت ، أخذ يبث فيهم دعوته بنبذ الأصنام واتخاذ الإله معبودا دونها (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام لهم (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) أي كيف تعبدون الأصنام التي هي لا تنفع ولا تضر ، ولو كانت قدرت على النفع والضرر لدفعت المكروه عن نفسها؟ والاستفهام توبيخي تقريعي.

[٦٨] (أُفٍّ لَكُمْ) «أف» كلمة تضجر ، أي تبا لأعمالكم وأفعالكم ، (وَ) أف (لِما تَعْبُدُونَ) أي للأصنام التي تعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) أي التي هي غير الله سبحانه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تتفكرون بعقولكم إنها ليست آلهة تستحق العبادة والتعظيم.

[٦٩] وقد التجأ القوم ـ بعد تمام الحجة عليهم ـ إلى ما يلتجئ إليه كل جاهل معاند ، من التخلص عن الحق بالقوة والعقاب ف (قالُوا) بعضهم لبعض (حَرِّقُوهُ) حرقوا إبراهيم بالنار جزاء لما فعل بالأصنام (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بالتخلص من أعدائها ، وإنزال العقاب الصارم بمن أهانها (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) للنصرة لها ، فأحرقوا إبراهيم عدوها.

[٧٠] فأمر نمرود الملك الطاغي بجمع الحطب ، وقد كان يكفي الحطب القليل لهذا الأمر ، لكن الحقد أوجب أن جمعوا من الحطب قدرا مدهشا ـ بقدر حقدهم لا بقدر حرق إبراهيم ـ وصنعوا منجنيقا ، تقذف ، لأنهم لم يكونوا

قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١)

____________________________________

يتمكنون من اقتراب تلك النار الكثيرة المهولة ، ثم وضعوا إبراهيم في فوهة المنجنيق ، بمشهد من الملك والجماهير ، وقذفوه في النار (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) وقد كان أمرا تكوينيا ، نحو (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) والسلام أعم من البرد ، فإن البرد إذا زاد لم يسلم الإنسان فيه (عَلى إِبْراهِيمَ) والمراد بالقول إما خلق الصوت ، أو الإرادة.

[٧١] (وَأَرادُوا) أي القوم (بِهِ) بإبراهيم عليه‌السلام (كَيْداً) أي شرا وتدبيرا في هلاكه بالنار (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) إذ خسروا كيدهم ، بل فوق ذلك أن ظهرت عظمة إبراهيم عليه‌السلام ، مما سبب لنشر دعوته أكثر من ذي قبل فكأنهم جمعوا إلى خسارتهم بالنسبة إلى عقيدتهم الكافرة ، خسارة المغلوبية ، فهم الأخسرون.

[٧٢] وقد بقي إبراهيم عليه‌السلام في بابل العراق مدة يدعو فلم تنفع القوم الدعوة ، بل أرادوا حرقة فلم ينجحوا ، وسلط الله عليهم البعوض حتى أخذت لحومهم وشربت دماءهم وأهلكت واحدة منها نمرود الملك الطاغي ، ومن ثم هاجر إبراهيم عليه‌السلام إلى الشام ، لعل القوم هناك يقبلون الدعوة (وَنَجَّيْناهُ) أي إبراهيم عليه‌السلام (وَلُوطاً) وهو من أرحام إبراهيم عليه‌السلام ، وفي بعض التفاسير أنه ابن أخ إبراهيم (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) في تلك الأرض وهي الشام (لِلْعالَمِينَ) لجميع

__________________

(١) البقرة : ٦٦.

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)

____________________________________

الناس ، فقد تواترت الأنبياء هناك ، وقد كانت الشام تطلق سابقا على ما يشمل لبنان وسورية وفلسطين والأردن وحواليها.

[٧٣] (وَوَهَبْنا لَهُ) لإبراهيم (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) إسحاق بن إبراهيم من سارة وقد دعا عليه‌السلام أن يرزق ولدا فأعطاه الله إياه ، ويعقوب ولد إسحاق ، وقد وهبه الله سبحانه لإبراهيم ـ حيث إن الحفيد أيضا هبة للجد ـ ومعنى «نافلة» : «زائدة» إذ لم يكن يعقوب حسب دعاء إبراهيم ، وإنما كان لطفا محضا منه سبحانه عليه ، وتأنيث نافلة باعتبار النفس ، ولم يذكر إسماعيل عليه‌السلام لعله لكونه على مجرى الطبيعة ، إذ «سارة» كانت كبيرة وعقيمة ، أما «هاجر» فلم تكن كذلك ، وإنما هي شابة ولودة (وَكُلًّا) من إبراهيم وإسحاق ويعقوب (جَعَلْنا صالِحِينَ) للنبوة والرسالة والهداية والإرشاد وسائر الفضائل.

[٧٤] (وَجَعَلْناهُمْ) أي الثلاثة (أَئِمَّةً) جمع إمام ، وهو المقتدى ، أي يقتدى بهم في أمور الدين والدنيا (يَهْدُونَ) الناس إلى الحق (بِأَمْرِنا) وأرسلناهم إلى الناس ليرشدوهم (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي أوحينا إليهم أن افعلوا الأفعال الخيرة الموجبة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة (وَإِقامَ الصَّلاةِ) أي إقامتها ، فإن التاء في مصدر باب الأفعال جائز الحذف (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي إعطاءها ، وتخصيصهما بالذكر بعد دخولهما في عموم الخيرات ، لأهميتهما (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)

وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ

____________________________________

يعبدوننا ، قبال سائر الناس الذين كانوا يعبدون الأصنام.

[٧٥] (وَلُوطاً) الذي سبق ذكره ، وقد كان نجي من «بابل» مع إبراهيم ، إلى الأرض المباركة (آتَيْناهُ) أعطيناه (حُكْماً) أي قضاء بين الناس وحكومة ، فإن منصب الحكم إنما هو لله سبحانه ، ثم لأنبيائه والأئمة ، بإذنه (وَعِلْماً) والحكم غير العلم ، وإن استلزم مقدارا منه (وَنَجَّيْناهُ)؟ أنقذناه (مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) وهي «سدوم» التي كان أهلها يتعاطون اللواط والسحق والكفر وسائر المنكرات والخبائث جمع خبيث ، وهو الشيء أو العمل السيئ (إِنَّهُمْ) أي أهل تلك القرية (كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) إضافة القوم إلى عملهم (فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله سبحانه ، فقد أمر الله سبحانه لوطا أن يخرج من القرية ، ثم عذب أهلها بأنواع العذاب ـ كما مر تفصيله ـ.

[٧٦] (وَأَدْخَلْناهُ) لوطا عليه‌السلام (فِي رَحْمَتِنا) بذلك الخروج عن القرية ، فكأنه كان حينذاك في العذاب ، فلما خرج دخل الرحمة (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ولهذا استحق الدخول في الرحمة ، ولم يبق في المدينة ليشمله العذاب والهلاك.

[٧٧] (وَ) اذكر يا رسول الله (نُوحاً) أو هو عطف على «لوطا» أي آتينا نوحا حكما وعلما (إِذْ نادى) أي زمان دعا الله سبحانه (مِنْ قَبْلُ)

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ

____________________________________

من قبل إبراهيم ولوط ، فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، وإنما جيء به متأخرا مع أنه متقدم زمانا ، لأن أهل مكة كانوا أقرب إلى إبراهيم زمانا وعلما ونسبا ، فكان ذكره أجلى ، وفي مذاقهم أحلى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه بإهلاك الكفار (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) لعل المراد بهم المؤمنون به (مِنَ الْكَرْبِ) أي الحزن (الْعَظِيمِ) الذي لاقاه من الكفار طول تسعمائة وخمسين عاما ، فقد كانوا يضحكون منه ويؤذونه ويضربونه.

[٧٨] (وَنَصَرْناهُ) أي نصرنا نوحا ، بنجاته في السفينة وغرق الكفار بأجمعهم (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وإنما عدي «نصرنا» ب «من» دون «على» لإشراب الفعل معنى «المنع» وكأنه قال : النصر بالسير من وسطهم نحو سرت من البصرة (إِنَّهُمْ) أي المكذبين (كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) فكأنهم كانوا قطعة من سوء ، حيث إن عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم كانت كلها سيئة (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) بأن أنزلناه السماء مدرارا ، وفجرنا الأرض عيونا ، حتى غرق كل شيء في الماء ، فلم ينج إلا نوح ومن حمل معه في السفينة.

[٧٩] (وَ) اذكر يا رسول الله ، أو أعطينا الحكم والعلم (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) وهو ابن داود (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) أي الزرع (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)

وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨)

____________________________________

أي في الوقت الذي تفرقت فيه الغنم ليلا ، فإن نفش بمعنى تفرق الإبل أو الغنم ليلا ليرعى بدون راع (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) حاضرين ، نسمع ونرى كيف حكما ، والإتيان بالجمع «حكمهم» باعتبار الحاكمين وطرفي النزاع.

روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال كان في بني إسرائيل رجل وكان له كرم ونفشت فيه غنم لرجل بالليل وقضمته وأفسدته ، فجاء به صاحب الكرم إلى داود فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود عليه‌السلام : اذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما فذهبا إليه فقال سليمان : إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها ، وإن كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم ، وكان هذا حكم داود وإنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده ولم يختلفا في الحكم ولو اختلف حكمهما لقال «كنا لحكمهما شاهدين» (١).

أقول : وكأن الحكم في تلك الأمة كان كذلك أما في شريعتنا فإن الحكم ضمان صاحب الغنم ما أتلفته لصاحب الكرم ، دون أن يكون الأرش معينا في الغنم ، وقد روي هذا الحكم بشكل آخر ، وإن داود وسليمان اختلفا في القضاء وكان حكم سليمان أقرب ، وإن كان كلاهما صحيحا ، وذلك كما لو أتاك آت فقال : إن فلانا كسر إنائي ، فقلت له : يعطيك إناء مثله ، وقال قاض آخر : يعطيك ثمنه فكلاهما جائز بالتراضي ، وإن كان المثل أقرب من القيمة ، في المثلي ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ١٣١.

فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ

____________________________________

وبالعكس في القيمي.

[٨٠] (فَفَهَّمْناها) أي علمنا (سُلَيْمانَ) كيفية الحكومة بين الراعي والزارع (وَكُلًّا) من داود وسليمان (آتَيْنا) أي أعطيناه (حُكْماً) في الخصومات ، أو حكما على الناس (وَعِلْماً) وكان تخصيص سليمان بقوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) لأن المقصود كان إظهار فضل سليمان ليعرف بنو إسرائيل من وصي داود ، كما في الأحاديث (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) ومعنى التسخير السير معه في التسبيح ، فإنك إذا عودت طيرا أن يتكلم بما تكلمت به أنت ، يقال أنك سخرت ذلك الطير ، فكأنه صار طوع إرادتك يتكلم إذا تكلمت ويسكت إذا سكت (يُسَبِّحْنَ) الجبال معه ، والإتيان بضمير العاقل لأن التسبيح فعل العاقل (وَالطَّيْرَ) عطف على الجبال ، أي وسخرنا معه الطير ، فإنها كانت تسبح بتسبيحه. قال الصادق عليه‌السلام : إن داود خرج يقرأ الزبور وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلا جاوبه (وَكُنَّا فاعِلِينَ) لذلك ، وكان المراد بذلك أن هذا الأمر ليس عجيبا من قدرتنا ، وإن كان مستغربا عندكم.

[٨١] (وَعَلَّمْناهُ) أي علمنا داود (صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) اللبوس هو السلاح الذي يلبس كالدرع ، فإنه عليه‌السلام أول من صنع الدرع ، وقد كان الحديد لينا في يده كالعجين ، يسرد منه الدروع (لِتُحْصِنَكُمْ) أي تحفظكم (مِنْ بَأْسِكُمْ) من وقع السلاح فيكم ـ كالسيف والرمح ـ في الحرب

فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ

____________________________________

(فَهَلْ أَنْتُمْ) أيها الناس (شاكِرُونَ) لهذه النعمة التي تقيكم من الأعداء ، فإن الدرع أحسن وقاية للبدن مقابل الآلات الحربية.

[٨٢] (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ) بن داود (الرِّيحَ عاصِفَةً) أي شديدة الهبوب ، فإذا أراد أن تعصف الريح عصفت ، وإذا أراد أن ترخي أرخيت (تَجْرِي) الريح (بِأَمْرِهِ) أي أمر سليمان (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي الشام ، التي بارك الله فيها بكثرة الأنبياء عليهم‌السلام ، وكثرة الثمار ، وطيب الهواء ، وقد سبق أن المراد بالشام ما يشمل سورية وفلسطين ولبنان والأردن ، فقد كان لسليمان عليه‌السلام بساط يجلس عليه هو وحاشيته فتحمله الريح ويسير بهم من القدس إلى الشام ـ وقد كان السير بينهما يستغرق شهرا على الماشية ـ في نصف يوم ، وكذلك ترجع بهم هذه المسافة في نصف يوم ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (١) وحيث أن هذا كان مورد استغراب عقبه سبحانه بهذه الجملة فقال (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) فإنما أعطيناه ما أعطينا لعلمنا بالمصالح وطرف الأمور.

[٨٣] (وَ) سخرنا لسليمان (مِنَ الشَّياطِينِ) والمراد بالشيطان هنا الجن ، فإنهما مخلوقان أحدهما يضل البشر من نسل إبليس ، والآخر كالإنسان إلا أنه مختف ، والظاهر أنهما في الأصل كانا من جنس واحد ، ولذا

__________________

(١) سبأ : ١٣.

مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ

____________________________________

قال سبحانه في حق إبليس «كان من الجن» ويسمى كل واحد منهما باسم الآخر «الجن» لكونهما مستترين ، «والشيطان» لكونهما ذوي تدبير وحيلة ، والظرف في موضوع حال من سخرنا (مَنْ يَغُوصُونَ) في البحر ، والغوص هو أن ينزل في البحر لأجل إخراج اللؤلؤ وما أشبه (لَهُ) أي لسليمان (وَيَعْمَلُونَ) له (عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي سوى ذلك ، أو أدون من الغوص ـ من حيث الصعوبة ـ كبناء المحاريب والتماثيل وأشباههما (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي نحفظ الشياطين عن الإفساد والهروب ، وسائر ما ينبغي الحفظ منه.

[٨٤] (وَ) اذكر يا رسول الله (أَيُّوبَ) حين دعا ربه لما امتدت به المحنة والبلاء (إِذْ نادى رَبَّهُ) مستجيرا ليشفيه قائلا في دعائه رب (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي نالني الضر والمرض (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي أكثر رحما من رحم كل راحم ، وهذا تأدب في طلب إزالة البلاء ، فقد ابتلاه الله سبحانه بهلاك أولاده وذهاب أمواله والمرض في بدنه ، كما يأتي قصته في سورة «ص» إن شاء الله تعالى.

[٨٥] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي أجبنا دعاءه ونداءه ، وكان الإتيان من باب الاستفعال الظاهر في الطلب ، لأجل أمره سبحانه بأن يجاب دعاءه ، بما جعل من العلل الكونية والأسباب التي تترتب عليها مسبباتها ، فكأنه تعالى طلب أن يجاب أيوب (فَكَشَفْنا ما بِهِ) أي رفعنا وأزلنا الشيء

مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)

____________________________________

الذي كان بأيوب (مِنْ ضُرٍّ) في بدنه وماله وولده ، وكأن الضر ستر يشتمل على الإنسان ، فإذا أزيل ، انكشف ما تحته (وَآتَيْناهُ) أي أعطيناه ورددنا إليه (أَهْلَهُ) أولاده الذين ماتوا ابتلاء واختبارا (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال الإمام الصادق عليه‌السلام : إن الله سبحانه رد على أيوب أهله الذين هلكوا وأعطاه مثلهم معهم وكذلك رد الله عليه أمواله ومواشيه بأعيانها وأعطاه مثلها معها ، والله سبحانه قادر على إحياء الأموات ، كما هو قادر على أن يعطي الإنسان أولادا وأموالا (١).

(رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي إن كشف ضره وإعطاء ما فقده ، ومثله معه ، كان فضلا ولطفا من لدنا لأيوب ، وكل رحمة منه سبحانه ، إلا أن التخصيص هنا للتشريف (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي لأجل أن يكون ذلك موعظة وتذكيرا لمن عبدنا وأنه إذا أخذنا منه شيئا فإنا نرده إليه مع الزائد ، وإن الأخذ لمصلحة وحكمة.

[٨٦] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِسْماعِيلَ) بن إبراهيم عليه‌السلام وحيث لم يذكر هناك ، ذكره هنا مستقلا (وَإِدْرِيسَ) وهو أول من خاط اللباس بوحي الله سبحانه (وَذَا الْكِفْلِ) وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه يوشع بن نون (كُلٌ) أي كل هؤلاء الأنبياء (مِنَ الصَّابِرِينَ) أي من الأنبياء الذين صبروا على مشاق التكليف ، ولم

__________________

(١) الخرائج : ج ٢ ص ٩٣٣.

وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ

____________________________________

يزيغوا عن أوامره سبحانه.

[٨٧] (وَأَدْخَلْناهُمْ) أدخلنا هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام (فِي رَحْمَتِنا) بأن غمرناهم في الرحمة بعد أن كانوا في مشقة وأذى من قومهم ، ومن التكاليف المتوجهة إليهم (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) فقد كانوا صالحين في حياتهم ، ولذا جوزوا بتلك الرحمة التي غمرتهم ، وحيث أن المقصود في سرد صبر الأنبياء أولا ثم فضل الله عليهم جزاء صبرهم ثانيا ، ألمح السياق إلى هاتين الخصوصيتين ، بالنسبة إلى هؤلاء الأنبياء بدون ذكر قصصهم ، كما أن سائر القصص قد أتيت بإيجاز وإشارة.

[٨٨] (وَ) اذكر يا رسول الله (ذَا النُّونِ) «النون» هو الحوت ، أي صاحب الحوت ، وهو يونس عليه‌السلام ، الذي التقمه الحوت (إِذْ ذَهَبَ) أي حين فارق قومه ، وذهب عنهم (مُغاضِباً) من غاضب ، بمعنى غضب ، وكأنه أتى من باب المفاعلة للدلالة على كون الغضب من الطرفين أو المراد المغاضب المراغم ، يعني أنه خرج رغما على أنف قومه ، حيث أراد إهلاكهم (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نضيق عليه ، فقد ضاق هو بالدعوة وتكذيب القوم ، فخرج من بين القوم ظانا أن ذلك ليس بترك أولى حتى يجزيه سبحانه بضيق صدره ضيقا في مكانه ، يهون عند ضيق مكانه ضيق صدره بالمكذبين من قومه.

وقد يقال : أن خروجه هل كان طاعة لله ، أم عصيانا؟ فإن كان طاعة فلم ضيق الله عليه؟ وإن كان عصيانا كان ذلك خلاف ما هو مسلم من عصمة الأنبياء عليهم‌السلام؟ والجواب : أنه كان ترك أولى ، فقد كان

فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)

____________________________________

من الأولى أن لا يخرج ، ولم يكن عصيانا ، كأكل آدم من الشجرة الذي كان ترك أولى ، وعلى أي حال فقد أرسل الله سبحانه يونس إلى قوم كان عددهم مائة ألف أو يزيدون ولبث فيهم أكثر من ثلاثين سنة ـ كما ورد ـ فلم يؤمن من القوم إلا نفران «روبيل» و «تنوخا» فخرج من القوم داعيا عليهم بالعذاب ، وكان ذلك جائزا في نفسه ، وإن كان الأولى بمقام النبوة أن يستأذن الله سبحانه لذلك ، فوصل إلى شاطئ البحر وركب سفينة كانت تريد الأبحار ـ وفي بعض التفاسير أنه عليه‌السلام أراد أن يذهب إلى قوم آخرين يدعوهم ـ ولما توسطت السفينة البحر ، جاء حوت فاتحا فاه ، بحيث لم تتمكن السفينة من المضي إلا بإطعامه ، فأقرعوا فيما بينهم من يطرحوه للحوت وخرج السهم باسم يونس ، فألقوه في فم الحوت فابتلعه ، لكن الله سبحانه حفظه عن أن يموت وهو قادر على كل شيء (١) (فَنادى) يونس (فِي الظُّلُماتِ) ظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها عن القبيح ، وكأن الإتيان بالتسبيح في هذه المقامات دفعا لتوهم متوهم يظن أن العمل الصادر منه سبحانه ليس كما ينبغي (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) في خروجي من المدينة ودعائي على أهلها ، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، وذلك يلائم التحريم ، وترك الأولى ، كما قال موسى عليه‌السلام (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) (٢)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ١٢٦.

(٢) النمل : ٤٥.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا

____________________________________

وقوله سبحانه لآدم وحواء : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١).

[٨٩] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي أجبنا دعاءه ، فقد كان ذكره تعريضا بطلب خلاصه ، في أدب ولطف (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) الذي أخذ به ، بأن ألقاه الحوت إلى الشاطئ ، بعد أربعين يوما كان في بطنه (وَكَذلِكَ) أي كما أنجينا يونس (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الذين يدعوننا ويستغفرون لسالف ذنوبهم

[٩٠] (وَ) اذكر يا رسول الله (زَكَرِيَّا) النبي عليه‌السلام (إِذْ نادى رَبَّهُ) أي حين دعا الله سبحانه أن يعطيه الولد ، حيث لم يكن له ولد يخلفه ، فقال يا (رَبِّ لا تَذَرْنِي) أي لا تدعني (فَرْداً) وحيدا بلا أولاد ، وبدون عقب (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) وقد كان هذا تأدبا من زكريا عليه‌السلام فهو لا يطلب الولد لأنه غير معترف بأن وارثة الله خير وراثة ، كما يظن بعض الناس أنهم إذا ماتوا بلا عقب لا أحد في الكون يرعى شؤونهم الدنيوية أو الدينية وإنما يطلب بعد الاعتراف لما يعرف من جريان العادة الكونية على أن الولد والعقب هو السبب العادي الذي جعله الله سبحانه للخلافة والقيام مقام الآباء في إدارة شؤونهم.

[٩١] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ليخلفه من بعده (وَأَصْلَحْنا

__________________

(١) البقرة : ٣٦.

لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)

____________________________________

لَهُ زَوْجَهُ) إذ كانت عقيمة لا تلد وكان الإتيان ب «وهبنا» قبل «أصلحنا» مع أنه بعده خارجا ، لبيان المبادرة في استجابة دعائه عليه‌السلام ، كأنه لا فصل بين الدعاء والهبة (إِنَّهُمْ) أي زكريا وزوجه ويحيى ـ كما هو ظاهر السياق ـ (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) في الأعمال الخيرية ، مقابل الذين يتلكئون ويتباطئون في عمل الخير ، وهكذا دائما أهل الآخرة إنهم يبادرون في الطاعة ، بخلاف أهل الدنيا (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) راغبين في ثوابنا وخائفين من عقابنا ، وهكذا الإنسان الكامل ، إنه بين الخوف والرجاء (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) خاضعين متواضعين لا كأهل الدنيا الذين يطغون ويستعلون عن الأوامر والزواجر.

[٩٢] وبمناسبة ذكر «زكريا» ذكر السياق «مريم» الطاهرة القريبة له (وَ) اذكر يا رسول الله المرأة (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي حفظت نفسها عن الفساد ، وهذا لرد اليهود الذين قالوا فيهما شرا (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) النافخ كان جبرائيل لكنه حيث كان بأمر الله تعالى ، نسب النفخ إليه تعالى ، والروح أضيف إليه سبحانه تشريفا ، كإضافة البيت إليه ، وقد كان النفخ في جيب ثوبها ، وتكوّن من ذلك النفخ المسيح عليه‌السلام (وَجَعَلْناها) أي جعلنا مريم (وَابْنَها) المسيح (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي : دلالة على وجود الله وقدرته ، والمراد ب «آية» الجنس ،

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا

____________________________________

فلا يقال : أنهما آيتان؟

[٩٣] وبعد استعراض أحوال بعض الأنبياء عليهم‌السلام مع أممهم ـ إجمالا ـ يأتي السياق ليدل على وحدة العقيدة ، ووحدة الأمة ، ووحدة الإله ، ووحدة رسالة الأنبياء عليهم‌السلام (إِنَّ هذِهِ) البشر المتناثر في الأرض المتباعد في الزمان (أُمَّتُكُمْ) أيها الأنبياء (أُمَّةً واحِدَةً) فلا أمم تحت لواء الأنبياء وإنما أمة واحدة ، ومن خالف وآمن ببعض وكفر ببعض أو قبل حكما وأعرض عن حكم فليس من الأمة ، وليس خاضعا حتى لتنبيه الذي يزعم أنه متبع له (وَأَنَا رَبُّكُمْ) رب واحد (فَاعْبُدُونِ) أي أطيعوني واتخذوني إلها دون غيري.

[٩٤] لكن المنحرفون لم يكونوا من أنفسهم أمة واحدة ، بل خالفوا وتفرقوا (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي فرقوا دينهم فيما بينهم ، فإن قطّع وتقطع بمعنى واحد ، وهل انتهى الأمر عند ذلك فلا حساب ولا جزاء لما اقترفوه من تقطيع الأمة الواحدة إلى ألوان وأشكال وأمم؟ كلا! (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) فنجازيهم بما فعلوا من التقطيع والتفرقة ، ومعنى الرجوع إلى الله سبحانه الرجوع إلى حسابه وجزائه ، تشبيه بمن يرجع إلى المحكمة بعد الذهاب عنها.

[٩٥] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) أي من هذه الجنس ، دون جنس السيئات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) صحيح العقيدة (فَلا

كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)

____________________________________

كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) فلا يستر ما عمله ولا يبطل ، بل يشكر ويثاب عليه (وَإِنَّا لَهُ) أي لسعيه (كاتِبُونَ) والمعنى نأمر الملائكة أن يثبت سعيه لنجازيه عليه في الآخرة.

[٩٦] أما من كفر وعصى ، فأهلكناه في الدنيا بعذاب الاستئصال فلا يظن أحد أنه قد انتهى أمرهم ، وأنهم أهلكوا فلا حساب بعد ذلك (وَحَرامٌ) أي ممتنع ، في الحكمة (عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) بذنوبها (أَنَّهُمْ) إلينا (لا يَرْجِعُونَ) فإن عذابهم في الدنيا لم يكن نهاية أمرهم ، بل يرجعون إلينا في الآخرة لنحاسبهم هناك على أعمالهم ونجزيهم بالنار ، ف «حرام» مبتدأ ، خبره «أنهم» أي ممتنع عدم رجوعهم ، وقد عرفت أن تخصيصهم بالذكر دون سائر العاصين ، لدفع التوهم المذكور.

[٩٧] إن الأمر يبقى على هذا المنوال ، مؤمن وكافر ، وموت وهلاك (حَتَّى) يوم القيامة فينقطع التكليف وتقوم الساعة للحساب والجزاء ، وقد ذكر الله سبحانه علامة لذلك بقوله : (إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) أي القبيلتان ، وفتحت باعتبار كسر سدهما الذي بناه ذو القرنين ، كما تقدم (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) أي مرتفع من الأرض كالجبال والآكام (يَنْسِلُونَ) يسرعون في السير نحو الصحاري والبلاد للفساد والدمار.

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ

____________________________________

[٩٨] (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) أي الموعود الذي هو حق ، لا خلف ولا كذب فيه ، وهو يوم القيامة (فَإِذا هِيَ) الضمير للشأن والقصة ، يؤتى بها للتهيؤ ، وليستعد السامع لاستماع ما يأتي بعده (شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الشاخصة العين التي لا تطرف من شدة الهول ، ولا تسكن ، كالإنسان الشاخص الذي يسير بدون سكون وهدوء ، فإن الكفار في يوم القيامة تشخص أبصارهم من شدة الهول ، ينظرون هنا وهناك ليجدوا ملجأ أو شفيعا ينجيهم من الأهوال والكربات ، وقوله «فإذا» يتعلق ب «حتى» ومعنى «فإذا هي» أن القصة شخوص أبصار الكفار ، قائلين (يا وَيْلَنا) يا قوم ويلنا ، أي يا ويلنا أحضر فهذا وقتك ، والويل هو الهلاك والعذاب (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اليوم ، فقد كنا في الدنيا لا نأبه ولا نعتني بهذا اليوم وبما ينجي الإنسان من أهواله (بَلْ) لم تكن غفلة ، وإنما (كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حيث نعرض عن الإيمان والعمل الصالح.

[٩٩] وما مصيرهم هناك؟ (إِنَّكُمْ) أيها الكفار (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام التي تجعلونها آلهة تعبدونها (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي حطبها ووقودها ، والحصب كل حجر يرمى به ، ولذا قيل للأحجار الصغيرة حصباء ، و «ما» لما لا يعقل ، فلا يشمل من عبده الناس من الأنبياء

أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا

____________________________________

والأئمة والملائكة ، وإنما تكون الآلهة حصب جهنم مع أنها لا ذنب لها ، إهانة لعبادها وإذلالهم (أَنْتُمْ) أيها الكفار (لَها) أي لجهنم (وارِدُونَ) داخلون ، وذلك جزاؤكم.

[١٠٠] (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) الأصنام (آلِهَةً) كما تزعمون (ما وَرَدُوها) ما دخلوا النار ولامتنعوا منها (وَكُلٌ) من العابد والمعبود (فِيها) أي في جهنم (خالِدُونَ) باقون أبد الآبدين.

[١٠١] (لَهُمْ) أي للناس الذين خلدوا (فِيها) لكفرهم وعصيانهم (زَفِيرٌ) أي صوت كصوت الحمار وهو التنفس العالي المصاحب للألم والحزن (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) فهم صمّ ، مقابل ما كانوا في الدنيا يصمون عن الحق ، ويقولون للمرسلين : في آذاننا وقر.

[١٠٢] رأينا حال الكفار في النار ، فلننظر إلى المؤمنين في الجنة (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا) الكلمة (الْحُسْنى) بأن قلنا إن المؤمن لا يعاقب ، بل يثاب ، نفي لهم بما وعدناه (أُولئِكَ عَنْها) أي عن جهنم (مُبْعَدُونَ) يبعدهم الله سبحانه عنها ، حتى لا يرون منظر العذاب ، ولا يستمعون لزفيرها ، ولا يحسون بحرارتها.

[١٠٣] (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي صوتها الذي يحس به (وَهُمْ فِي مَا

اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ

____________________________________

اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) من الملذات والنعيم (خالِدُونَ) دائمون فلا زوال لهم عن الجنة ونعيمها ، في مقابل أهل النار الذين لا زوال لهم عن الجحيم والعذاب.

[١٠٤] (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي الخوف الأعظم ، وهو فزع يوم القيامة المتصل بالدخول في النار ، الباقي إلى الأبد (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي تستقبلهم بالتهنئة والبشر ، قائلين لهم (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا ، فأبشروا بالأمن والفوز وما أحوج الإنسان هناك أن يتلقاه شخص يهديه السبيل ويرشده الطريق ، في يوم الأهوال والأحزان ، في ساحة يجتمع فيها الخلق كلهم ، في مدة تطول خمسين ألف سنة ، ووراءها إما عذاب دائم أو نعيم مقيم!.

[١٠٥] (يَوْمَ) منصوب على الظرفية ، أي أن ذلك النعيم ، وتلك الأهوال ، إنما هي في يوم (نَطْوِي السَّماءَ) فيه ، ومعنى طي السماء ، محوها ، وتبديلها دخانا (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل ما يسجل فيه ، وهو قد يكون سجلا للكتاب وقد يكون سجلا في قصاص ورق ، والسجل الذي يطوى هو سجل الكتاب ، وفي بعض الروايات ، أن السجل اسم ملك يطوي صحف أعمال بني آدم ، فالتشبيه إنما هو به ، وفي ذلك اليوم (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي كما تمكنا على الابتداء نتمكن

وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)

____________________________________

على الإعادة أو في الشكل الذي خلقنا من كون الإنسان حاف عاري غير مختون كذلك تكون الإعادة ، فالمراد بأول خلق «الخلق أولا» على التقديرين ، لا أول الخلق ـ وهو آدم عليه‌السلام ـ كما هو ظاهر ، نعدكم ذلك (وَعْداً) مصدر تأكيدي (عَلَيْنا) إنجازه وإنفاذه (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) إنا فاعلون لهذا الوعد ، وكان لمجرد الربط ، لا بمعنى الماضي.

[١٠٦] وحيث رأينا إن العاقبة الحسنى في الآخرة لعباد الله الصالحين ، فلنرجع إلى الأرض لنرى إن الأرض لمن؟ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) إما المراد «زبور» داود والمراد بالذكر حينئذ «التوراة» لأنها كانت قبل الزبور ، وإما المراد بالزبور الصحف المنزلة على الأنبياء ، فإنها من زبر بمعنى كتب ، والمراد بالذكر ، التذكير بالمبدأ والمعاد والمعارف ، وعلى أي حال فالآية في صدد بيان أن سنة الله جرت على ذلك ، وقد كتبها في الكتب السابقة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) فإن الأرض في آخر المطاف للصالحين ، وإن سبق تملكها الفاسدون ، وقد وردت أحاديث متواترة في تفسير الآية بالإمام الحجة المهدي عليه‌السلام ، وذلك من باب أظهر المصاديق فإنه عليه‌السلام يرث الأرض كلها وإن كان الأنبياء والأئمة والصالحون ورثوا الأرض قبل ، إلى هذا الحين ، فكلما قام باطل ، قام حقه في عقبه ليرث الأرض منه والسر واضح فإن غير الصالح لا يملك إلا شقا واحدا ، والحياة لا تسير بشق واحد ، أما الصالح الذي يجمع بين المادة والمعنى ، والإيمان والنشاط

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)

____________________________________

فإنه أصلح من الفاسد ، ولذا تزحزح الحياة الفاسد ـ وإن طال أمده ـ لتخلف الصالح مكانه ، ليكون السير عدلا متوازنا.

[١٠٧] (إِنَّ فِي هذا) الذي أخبرتكم به من أن العاقبة في الدنيا والآخرة لعباد الله الصالحين (لَبَلاغاً) أي كفاية في البلوغ إلى القصد وهو الحق (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) لله مخلصين في عبادتهم ، وإنما خص هؤلاء ، لأنهم الذين ينتفعون بالبلاغ.

[١٠٨] وإنا لم نكن خصصنا أمة بالبلاغ وإنما البلاغ عام ، أما المنتفع به فهو من ألقى السمع وهو شهيد (وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) نعمة عليهم جميعا ، أما المؤمن فواضح كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة بالنسبة إليه ، وأما الكافر ، فلأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظم سبل الحياة وأرشد إليها فاقتبس منه الكفار وما نرى اليوم من الحضارة والتمدن في العالم فليس إلا من هدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما نرى فيه من الانحراف والزيغ فذلك من تحريف مناهج الرسول ، فإن حضارة الشرق الروسي مأخوذة من حضارة الغرب ، وحضارة الغرب وليدة الحضارة الإسلامية ، حيث دخل العلم بلاد الغرب من بلاد الإسلام.

[١٠٩] وقد بين سبحانه علة كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة ، أنه يبشر بوحدة الإله ، فإن الإذعان بذلك رأس الفضائل ، وسبب أنواع الرحمة (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء القوم (إِنَّما يُوحى إِلَيَ) من عالم الغيب (أَنَّما إِلهُكُمْ) أيها البشر (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)

____________________________________

استفهام تقريري ، أي مستسلمون منقادون لذلك ، فتتركوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له.

[١١٠] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بأن أعرضوا ولم يقبلوا الإسلام (فَقُلْ) يا رسول الله (آذَنْتُكُمْ) أعلمتكم بالتوحيد ـ وليس وظيفتي إلا الاعلام وقد فعلت ـ (عَلى سَواءٍ) بدون ترجيح ، فإن الإعلان عام للجميع ، وقد أديت ما علي ، وبقي ما عليكم ، فإن لم تؤمنوا كان مصيركم الهلاك ، أما وقت هلاككم ، فعلمه عند الله سبحانه (وَإِنْ أَدْرِي) أي ما أدري (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من العذاب والنكال؟ فإن علم ذلك خاص به سبحانه.

[١١١] ولا يظنن أحد أن الله لا يعلم ما يعمل حتى يفكر الكفار ، بأنهم ينكرون ـ غدا ـ ما صدر منهم (إِنَّهُ) تعالى (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) أي الكلام الظاهر (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي يعلم سركم ، كما يعلم جهركم ، وسوف يجازيكم على الجميع.

[١١٢] أما تأخير العذاب فلحكمة اقتضته (وَإِنْ أَدْرِي) ما أدري (لَعَلَّهُ) لعل تأخير العذاب (فِتْنَةٌ) وامتحان (لَكُمْ) حتى تظهر نوايا كل أحد جلية ، فإن الإنسان كلما بقي ظهرت نواياه أكثر فأكثر (وَمَتاعٌ) لأجل تمتعكم بمتاع الحياة (إِلى حِينٍ) أجلكم المقرر ، فليس الإنعام إكراما ،

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)

____________________________________

بل استدراجا.

[١١٣] وأخيرا ، بعد إبلاغ الرسول ، وبقاء بعض الكفار في غيهم (قالَ) رسول الله ، يا (رَبِّ احْكُمْ) بيني وبين الكفار (بِالْحَقِ) وهذا لإظهار إن حكم الله حق فالقيد للتوضيح والتنبيه ، لا للاحتراز (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) الذي يرحمنا ويتفضل علينا جزاء ما تعبنا وأبلغنا ، فلم يذهب البلاغ والأتعاب سدى (الْمُسْتَعانُ) نستعين به على كيدكم وتكذيبكم (عَلى ما تَصِفُونَ) الرسول به من أنه كاذب ومفتر وساحر وشاعر ومجنون وما إلى ذلك ، فإنه تعالى لا يترك الرسول ، ليكيدوا له ما شاءوا ، بل يأخذ بيده ويعينه على أمره.

(٢٢)

سورة الحج

مدنية / آياتها (٧٩)

سميت السورة بهذا الاسم ، لأن فيها أحكام «الحج» ولفظه وهذه السورة مدنية ، إلا آيات منها ، ولذا ذكر فيها التشريع الحكومي ، كما هو شأن غالب السور المدنية ، حيث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينظم دنيا المسلمين ، إلى جنب دينهم ، ويبين لهم الدساتير والمناهج وحيث اختتمت سورة الأنبياء بالتوحيد والرسالة ، ابتدأت هذه السورة بذكر المعاد ، الذي هو ثالث الأصول الثلاثة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله في جميع الشؤون ، فالله مصدر كل خير ، فالاستعانة به في كل أمر من أمور الدين والدنيا ، والمال والجاه ، والسعادة والرفاه ، والأمن والسلام ، وغيرها ، وكأنه لذلك اختير لفظ «الله» لإضافة «الاسم» إليه ، وحيث إن النعم كلها تفضل خصص «الرحمن الرحيم» بإتيانهما وصفا له سبحانه ، دون سائر الصفات والنعوت.

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢)

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا النَّاسُ) المراد العقلاء منهم القابلون للخطاب (اتَّقُوا) خافوا (رَبَّكُمْ) فلا تخالفوا أوامره وزواجره (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي زلزلة الأرض حين قيام الساعة وهي يوم القيامة (شَيْءٌ عَظِيمٌ) هائل ، فإن من أشراط الساعة زلزلة مهولة تعم الأرض.

[٣] (يَوْمَ تَرَوْنَها) أي ترون تلك الزلزلة ، أو تلك الساعة ، والعامل في يوم «تذهل» أي إن الذهول في يوم رؤيتكم للساعة (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي تغفل الأمهات عن أولادها الرضع ، مع شدة العلاقة للأم بالنسبة إلى ولدها الرضيع (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) فإن الحبلى إذا اشتد عليها الفزع طرحت جنينها ، وهذا إما حقيقة ، فإن الساعة تقوم على الناس ، وفيهم الأمهات والحبالى ، أو كناية عن شدة الهول ، نحو «فلان كثير الرماد» أو «مهزول الفصيل» مما يراد معناه الكنائي لا اللفظي (وَتَرَى) أيها الرائي (النَّاسَ سُكارى) أي كالسكارى في الدهشة والذهول من كثرة الخوف ، فكما أن السكران لا يشعر كشعور الصاحي كذلك الناس في ذلك اليوم (وَما هُمْ بِسُكارى) من الشراب لم يشربوا الخمر ، وإنما شربوا الفزع والخوف (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ) وأهوال القيامة التي يرونها (شَدِيدٌ) ومن شدتها يصيبهم ما يصيبهم.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ

____________________________________

[٤] يا أيها الناس اتقوا ولا تجادلوا ، فإن وراءكم هذا اليوم الشديد (وَ) لكن مع ذلك (مِنَ النَّاسِ) أي بعضهم (مَنْ يُجادِلُ) يخاصم ويناقش (فِي اللهِ) من وجوده ، في آياته ، في صفاته ، في سائر شؤونه (بِغَيْرِ) بدون (عِلْمٍ) ومعرفة (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي أنه مستعد للضلال ، فأي شيطان غاو مارد أخذ قياده بسلسلة له واتبعه ، ويا للسخف أن يترك الإنسان الإله ، ليتبع كل شيطان مريد؟.

[٥] (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي على الشيطان ، والمراد أن الشيطان هكذا (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) أي من اتبع الشيطان (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) أن الشيطان يضل ذلك المتبع (وَيَهْدِيهِ) يوصله ذلك الشيطان (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) السعير اسم جهنم سميت به لأنها تسعر نارها ، والمعنى أنه كيف يتبع هذا المجادل الشيطان الذي يضله في الدنيا ، عن الطريق وبالآخرة يورده النار في الآخرة؟

[٦] ثم استدل سبحانه على من ينكر البعث (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك (مِنَ الْبَعْثِ) يوم القيامة ، الذي يبعث ويحيى فيه الأموات ، لاستغرابك أن يعود الإنسان حيا بعد ما مات وفنى؟ فاعتبروا بحالكم عند ابتداء الخلقة ، إذ إنا (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلقنا كل فرد منكم من الأرض ، إذ الإنسان تراب ثم نبات يأكله

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ

____________________________________

الإنسان والحيوان ـ الذي يأكله الإنسان ـ فيصير دما ثم منيا ، ثم إنسانا ، أو المراد ب «خلقناكم» خلقنا جدكم «آدم» عليه‌السلام ، ومن قدر على صنع الإنسان من تراب يقدر على إعادته من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فإن الإنسان بعد أن يصبح منيا يكون نطفة ، وهي المني المستقر في الرحم (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهي القطعة من الدم المتجمد ، فإن النطفة تنقلب علقة بعد مدة من بقائها في الرحم (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وهي شبه قطعة ممضوغة من اللحم ، فإن معنى المضغة مقدار ما يمضغ بالأسنان.

(مُخَلَّقَةٍ) تلك المضغة (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي تام الخلقة وغير تام ، أو متخذة شكلا بتحولها إلى العظم واللحم والصورة ، أو تلفظها الرحم قبل ذلك فلا تتخذ خلقه الإنسان ، وبناء على هذا المعنى يكون معنى «خلقناكم» إن أصل الإنسان هكذا ، حتى يلائم «غير مخلقة» وإنما طورنا الإنسان في هذه المراحل (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) قدرتنا ، وندلكم على وجودنا وسائر صفاتنا ، فمن يا ترى يقدر على مرحلة واحدة من هذه المراحل؟ (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) من ولد وبنت ، تام وغير تام ، واحد ومتعدد ، حسن أو قبيح ، وهكذا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة محدودة قد سميت عندنا ، فمقدار بقاء الجنين في الرحم محدود معين عند الله سبحانه (ثُمَ) بعد تمام الأجل المقدر (نُخْرِجُكُمْ) أيها البشر (طِفْلاً) ، وإنما جاء في اللفظ مفردا ، باعتبار كل واحد واحد (ثُمَ) نسير بكم في مراحل الطفولة (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي وقت اشتداد القوى

وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ

____________________________________

العقلية والبدنية والغريزية فيكم ، وهو مرحلة الشباب.

(وَمِنْكُمْ) أي بعضكم (مَنْ يُتَوَفَّى) بصيغة المجهول ، والمتوفى ـ باسم الفاعل ـ هو الله سبحانه ، أي يكون موته قبل الكبر (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ) أي يرجع (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أسوء العمر ، وإنما قال «يرد» لأن حالة الشيخوخة كحالة الطفولة ، فهو رد إلى تلك ، وإنما كان حال الشيخوخة أسوأ العمر مع أنه كحالة الطفولة ، لأن حالة الطفولة أفضل منها حيث أن الطفل في حالة النمو والاكتمال ، بخلاف حالة الشيخوخة ، فإن الإنسان معها في التردي والهبوط ، وإنما يرد الإنسان إلى أرذل العمر (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي لكي يخرج عن ذلك العلم الذي أتاه ، فإن الإنسان ينسى معلوماته ويرتد جاهلا ـ أو شبه جاهل ـ واللام إما للعاقبة ، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) وإما فيه تلميح إلى أنه يسلب ما كان يتطاول به ويجادل في الله بسببه ، أو لام الغاية ، أي يرد إلى هذا الحال ، فتضعف روحه كما ضعف جسمه ، أي نرده إلى هذه الحالة ، لكي لا يعلم ، ويصير كيوم طفولته.

(وَ) كما جرت القدرة في خلق الإنسان بتلك الكيفية المتدرجة ، كذلك (تَرَى) أيها الرائي (الْأَرْضَ هامِدَةً) أي ساكنة يابسة ، لا حركة فيها ، ولا نبات ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا) أي على الأرض (الْماءَ) من

__________________

(١) القصص : ٩.

اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)

____________________________________

السماء بإنزال المطر ، أو نحوه (اهْتَزَّتْ) الأرض بالنبات ، والاهتزاز شدة الحركة في الجهات (وَرَبَتْ) أي انتفخت ونمت (وَأَنْبَتَتْ) الأرض (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف من أصناف النبات (بَهِيجٍ) مبهج مونق ذو لون جميل ، والمراد بالاهتزاز ، اهتزاز الأرض ، فإن الأرض تتحرك فعلا وانفعالا بالنبات ، ويحتمل أن يكون مجازا يراد به ، اهتزاز النبات بعلاقة الحال والمحل ، وإن كان هذا بعيدا من السياق.

[٧] (ذلِكَ) الذي سبق ذكره من خلق الإنسان من التراب ، ثم تطوره في مراحل الجنين والطفولة والشيخوخة ، وصنع النبات من الأرض الهامدة بسبب أن (اللهَ هُوَ الْحَقُ) والإله الحق يقدر على كل شيء ، لا كآلهتكم الباطلة ـ التي تجادلون في الله من أجلها ـ لا تقدر على أي شيء (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) فالميت من الأرض أحياها إنسانا أو نباتا ، لا كما أنكرتم البعث ، وكنتم في ريب منه (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا تتعجبوا ، كيف يمكن إعادة البشر ، وأية قدرة تتمكن من ذلك ، إن القادر على الابتداء ، قادر على الإعادة.

[٨] (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي ليست محل الريب ، وإن ارتاب فيها المبطلون والمراد بالساعة القيامة (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ) ويحيي (مَنْ فِي الْقُبُورِ) وقد جاء التأكيد للبعث ، أكثر من التأكيد حول المبدأ ، لأن

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩)

____________________________________

الناس يستغربون من المعاد ، أكثر مما يستغربون من المبدأ ، ولذا يتخذون الآلهة والأصنام ، فكأن المبدأ أمر مفروغ منه ، وإنما كلامهم حول تعيينه وتشخيصه ، أما المعاد فأصله محل ريبهم وإنكارهم.

[٩] (وَ) بعد هذه الدلائل الظاهرة على وجود الله سبحانه هناك (مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) فينكر وجوده وقدرته (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقطع ، وإنما هو شاك في نفسه (وَلا هُدىً) يهديه إلى ذلك ، ولو لم يكن علما (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ينير القلب والروح ، فلا علم له ، ولا دليل عقلي يؤيده ، ولا دليل سمعي يستند إليه.

[١٠] وحاله في الكبر عن قبوله الحق شبيه بالمتكبر الظاهر عليه الكبر في جسمه وأطواره (ثانِيَ عِطْفِهِ) العطف جانب الإنسان الذي يعطفه ويلويه عند الإعراض عن الشيء ، من تحت إبطه إلى حقوه ، والإنسان غير المعرض ، عطفه مستقيم ، فإذا أعرض لواه ، وبذلك يكون قد ثناه إذ بقي الجانب التحتي قرب الحقو في مكانه ومال الجانب الفوقي تحت الإبط نحو اتجاه الخلف ، وهذا كناية عن المتكبر المعرض ، والجملة حال (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فهو لا يحمل تبعة ضلال نفسه ، وإنما يضل غيره أيضا ، (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هوان وذل وفضيحة ، فإن الكفار دائما في هوان ، حتى إذا ساروا ظاهرا ، كما نرى من حال الغرب والشرق ـ اليوم ـ (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار التي تحرقهم ، ومعنى الإذاقة ، إحاطته بالنار ، حتى

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ

____________________________________

يذوق عطفه المثنى جزاء عمله.

[١١] ويقال له حين العذاب (ذلِكَ) العذاب ، وجيء بالإشارة البعيد ، لتوهم الترفع عن قرب العذاب للقائل (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) من الكفر والعصيان ، ونسب التقديم إلى اليد ، لأنها الغالبة في إعطاء الأشياء (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) «ظلام» صيغة نسبة ، لا مبالغة ، كما قال ابن مالك :

ومع فاعل وفعال فعل

في نسب أغنى عن اليا فقبل

وقد تقدم تفصيله (لِلْعَبِيدِ) في تعذيبه ، وإنما هم استحقوا ذلك بسوء صنيعهم.

[١٢] لقد رأينا بعض الناس ينكرون الله سبحانه ، فلا يؤمنون به ، وهناك نموذج آخر من الناس ، فلقد آمنوا ، ولكن إيمانا ، لا عن عمق واستقرار (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الحرف الطرف ، والجانب ، أي على جانب واحد من جوانب الحياة ، فهو يعبد حالة الرخاء ، أو حالة الأمن أو حالة الغنى ، وهكذا ، (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي بذلك الخير ، وركن إليه ، وعبد الله الذي أعطاه ذلك الخير ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) اختبار وابتلاء ، بفقر ، أو مرض ، أو خوف ، أو ما أشبه (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) بأن كفر بالله ، كالذي يقع

خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ

____________________________________

على الأرض على وجهه ، بحيث لا يرى ، ولا يتنفس براحة ، ولا يحس ، بل هو في تعب وحرمان ، شبّه بذلك الكافر ، لأنه مثل ذلك المنقلب في الحرمان (خَسِرَ الدُّنْيا) إذ فقد الإيمان الموجب للرضا والاطمئنان والهدوء (وَالْآخِرَةَ) لأنه كفر ، والكفر موجب للعذاب والنار (ذلِكَ) الخسران للدنيا والآخرة (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الظاهر الذي لا خسران فوقه ، ولا أسوأ حالا منه.

[١٣] والذي يعبد الله على حرف ، إذا أصابته فتنة (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) فإن الإنسان إذا قطع صلته بالله ، لا بد وأن يدعو سواه ، وسوى الله لا ينفع داعيه ، ولا يضر تارك دعوته ـ فإن النفع والضرر كليهما بيد الله سبحانه ـ (ذلِكَ) الدعاء لما لا يضر ولا ينفع (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) فهو خارج عن الجادة ، خروجا كثيرا ، بحيث لا أحد أبعد منه ، إذ ترك الله سبحانه ، واتخذ غيره ـ وقد مر معنى كون الضلال بعيدا ـ.

[١٤] (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) إن ما يتخذ الإنسان من دون الله سبحانه سندا ، سواء كان صنما أو إنسانا أو شيطانا ، من حيث ذاته لا يضر ولا ينفع ، ومن حيث ما يترتب عليه من الثمار ، ضره أقرب من نفعه ، فالضر هو انحراف منهاج الحياة المترتب عليه ، والعقاب الأخروي ، والنفع هو البقاء في حلقة آبائه وأقربائه ، الذين هم على شاكلته ، وما يعود لكهنة الأصنام من النذورات والقرابين ، وما أشبه

لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)

____________________________________

هذه المنافع ، ولكن الضر المترتب أقرب من النفع العائد ـ وهذا عبارة أخرى عن الضر الكثير ، والنفع القليل ، ولعل التعبير بأقرب ، لأجل أن الضر يتوجه إلى الإنسان بمجرد عبادة الصنم ، بخلاف النفع الذي هو متوقف على الإتيان بالنذر ، أو نحو ذلك (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي أن الصنم بئس السيد للعابد له ، إذ هو سيد يوجب ضره (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي الصاحب المعاشر المخالط ، فهو لا يصلح خليطا وعشيرا ، فكيف يصلح أن يكون سيدا؟

[١٥] مر بنا نموذجان من البشر ، فلنمر بالقسم الثالث ، وهو المؤمن ، ونرى عاقبته (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله ، واليوم الآخر ، وسائر الأمور الاعتقادية (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة (جَنَّاتٍ) أي بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من تحت قصورها وأشجارها وشوارعها ، حتى يكون الإنسان مطلا على النهر حين التنقّل (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فليس مثل الأصنام التي لا تتمكن من نفع عبادها.

[١٦] أما المؤمن اليائس من نصرة الله ، إذا وقع في الفتنة والبلاء ، ولا يرى للآخرة أثرا ، كما هو كثير في ضعاف الإيمان ـ فليفعل ما يشاء ، وليذهب إلى السماء إن تمكن ، فإن الله سبحانه ، يأبى ، إلا أن يجري الأمور بأسبابها ، وأن يمتحن الناس ، حتى يرى مقاديرهم ، ولا يغير

مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ

____________________________________

أمره شيء ، ولا راد لقضائه (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا) بالغلبة على الكفار ، وحل مشاكله ، ونجاته من الفتن التي وقع فيها (وَالْآخِرَةِ) فهو ضعيف الإيمان بالآخرة ، يقول إن لم ينصرني الله في الدنيا ، وهي أهون ، فكيف ينصرني في الآخرة؟ (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي فليوجد سببا موصلا إلى السماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) الطرق حتى يصل إلى السماء بذلك السبب ، وهذا عبارة عما هو شائع في الألسن ـ لدى بيان ، أن الأمر لا يتغير عما هو عليه ـ من قولهم : لو ذهبت إلى السماء لم ينفعك ، يريدون أن توسط السماء غير منتج لتغيير ما جرى قدر الله عليه (فَلْيَنْظُرْ) بعد ذلك ، والاستمداد بالسماء (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) أي تدبيره في الذهاب إلى السماء (ما يَغِيظُ) ما أوجب غيظه من المشكلة والفتنة التي وقع فيها؟ والاستفهام للنفي أي لا يذهب حتى هذه الحيلة التي هي أبعد الحيل عن متناول البشر ، للخروج عما قدره الله سبحانه ، إذن فما ذا ينفع في الخلاص من المشاكل؟ إنه نصر الله سبحانه ، إن عون الله ونصره هو الذي يحل المشكلة ، أما من يئس من عونه ، فلا شيء ينفعه إطلاقا ، حتى الذهاب إلى السماء.

[١٧] (وَكَذلِكَ) الذي تقدم من بيان حالات الناس في الهدى والظلال والتوسط ، وعواقب كل طائفة (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا هذا القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات ، لا لبس فيها ولا غموض ، لنرشد الناس ، إلى ما هم فيه من الهدى والضلال ، ونعرفهم مقاديرهم وعواقبهم (وَ) بيّنا (أَنَّ

اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)

____________________________________

اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي يوصله إلى الغاية المطلوبة بعد البيان للكل ، وإنما يريد الله هداية من اتبع الحق ، فالإرشاد للكل (أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب ل «من يريد» الله هدايته ، لأنه جاء في طريق الحق ، واسترشد بالآيات.

[١٨] أما لو اختلف الناس في قبول الحق وعدمه ، بعد أن كان الإرشاد للجميع ، فمصيرهم إلى الله وهو الحاكم بينهم يوم القيامة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بأن اتخذوا الإسلام دينا (وَالَّذِينَ هادُوا) الذين اتخذوا اليهودية مسلكا (وَالصَّابِئِينَ) وفيهم خلاف ، ولا يبعد أن يكون خليطا من الأديان ، ولهم باقية إلى اليوم ـ يسمون «صبّي» ـ (وَالنَّصارى) وهم تابعوا عيسى المسيح عليه‌السلام ، وإن انحرفوا عن تعاليمه (وَالْمَجُوسَ) وقد كان لهم نبي وكتاب ، فقتلوا نبيهم وأحرقوا كتابهم (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله سواء اتخذوا الله والشريك معا ، أو اتخذوا الشريك فقط ، ويدخل فيهم الدهرية (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يحكم بينهم ، بأن أيهم المحق ، وأيهم المبطل ، ويجازيهم حسب أعمالهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر علما وسمعا وبصرا ، فليس فصله إلا بالحق ، فإنه مطلع على جميع الخصوصيات.

[١٩] إن البشر لو استكبروا عن عبادة الله والخضوع لأمره ونهيه ، فالكون

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ

____________________________________

كله خاضع له مطيع لأمره (أَلَمْ تَرَ) أي ألا تنظر وتعلم (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من عقلاء الملائكة والجن ، فإن الإنسان يعلم ذلك إذا تدبر في الخلق ، والخالق ، وإن لم يره ببصره (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) من العلويات فإنها خاضعة لأمره ، سائرة حسب ما قرر لها من المنهاج (وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) من الأرضيات ، فإنها خاضعة لأمره ، مستقرة أو متحركة حسب إرادته (وَ) يسجد له سبحانه (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) وهم المؤمنون سجودا متعارفا ، وإن سجد الجميع له سجودا تكوينيا ، ثم ابتدأ قوله تعالى (وَكَثِيرٌ) ممن أبى السجود والإيمان ، واختار الكفر والعصيان ، (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي ثبت ولزم ، لأنه أبى واستعلى وتكبر (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) له بأن جعله ذليلا مهينا ، حين تكبر واستعلى ولم يسجد (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وما حوله من الحفاوة ، أياما قلائل ، فإنما هي سراب زائل (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) فالأمور بيده ، والإكرام والإهانة منه لا من غيره.

[٢٠] ولننظر إلى من يهنه الله ومن يكرمه (هذانِ) أي المؤمنون والكافرون ـ وهم الفرق الخمسة المذكورة ـ (خَصْمانِ) والخصم

اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١)

____________________________________

يطلق على المفرد والمثنى ، والمجموع بلفظ واحد (اخْتَصَمُوا) الإتيان بالجمع ، باعتبار الجميع (فِي رَبِّهِمْ) أي في دين الله سبحانه ، أو في وجوده ، وسائر شؤونه ، وقيل إنها نزلت في المؤمنين والكافرين ، الذين حاربوا يوم بدر ، فالمؤمنون هم علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحمزة ، وعبيدة ، والكافرون هم الوليد وعتبة وشيبة ، وهذا من باب المصداق ، كما أن ما ورد من أنها أهل البيت ، وبني أمية ، من باب المصداق أيضا (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي تفصل لهم الألبسة من عين النار ، أو من جسم توقد فيه النار ، كالحديد ونحوه (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) أي الماء الحار المغلي ، لتعذب رؤوسهم بالنار والحرارة كما تعذب سائر أعضائهم بالثياب.

[٢١] (يُصْهَرُ بِهِ) أي يذاب وينضج بذلك الماء الحميم (ما فِي بُطُونِهِمْ) من الأعضاء ، كالقلب ، والرئة ، والأمعاء ، وغيرها (وَالْجُلُودُ) فهو حميم يشمل الظاهر والباطن ، وله من الحرارة ، ما تذيب الأعضاء والجلد.

[٢٢] (وَلَهُمْ مَقامِعُ) جمع مقمعة ، وهي مدقة الرأس من قمع بمعنى دق ، وهي أعمدة (مِنْ حَدِيدٍ) يضرب بها المجرم على رأسه ، لشدة نكاله وعذابه.

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)

____________________________________

[٢٣] (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) من النار (مِنْ غَمٍ) كلما حاولوا الخروج من النار ، لأجل الغم والكرب ، الذي يصيبهم (أُعِيدُوا فِيها) أرجعوا إليها ، وكأنهم يسيرون قدرا للخلاص ، فيعادون إلى مكانهم (وَ) يقال لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي عذاب النار المحرقة ، فالحريق مضاف إليه ، لا وصف.

[٢٤] وقد رأينا حال الكافرين ، فلننظر إلى أحوال المؤمنين (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) بما يلزم الإيمان به من الوصول (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي تصلح للحياة السعيدة ، وذلك بإتيان الواجبات ، وترك المحرمات ، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من تحت قصورها وأشجارها (يُحَلَّوْنَ فِيها) يعطون الحليّ والزينة ، التي يلبسونها (مِنْ أَساوِرَ) من جنس الأساور ، وهي جمع سوار ، وهو لتحلية اليد (مِنْ ذَهَبٍ) وكأن الفضة والذهب هناك غيرهما هنا ، فليس الذهب أعلى قيمة من الفضة ، فلا يقال كيف قال سبحانه في «هل أتى» لأهل البيت عليهم‌السلام «من فضة» وهنا لسائر المؤمنين «من ذهب»؟ (وَ) يحلون فيها (لُؤْلُؤاً) في سائر مواضع أجسامهم (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (حَرِيرٌ) وهو الديباج المنتوج من دود القز ـ هنا ـ أما

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ

____________________________________

هناك ، فلا نعلم مما ينتج.

[٢٥] ذلك مقامهم ، وتلك ألبستهم وزينتهم ـ في مقابل مكان أهل النار ولباسهم ـ فلننظر إلى ما يقال لهم ، مقابل ما قيل لأهل النار (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (وَهُدُوا) أي أرشد أهل الجنة ـ والمرشد هو الله سبحانه الملهم لهم بذلك ـ (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) فيقول بعضهم لبعض «سلام عليكم» وبالتسليم تتلقاهم الملائكة (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي صراط الله المحمود ، وهو الصراط الذي يحمد صانعه الذي يسلكه ، في مقابل أهل النار الذين (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها).

[٢٦] وبمناسبة الكلام حول الكفار ، يأتي السياق لبيان حال قسم خاص منهم وهم الذين يمنعون عن الحج ، وعن الإيمان ، ثم يستطرد السياق حول بعض خصوصيات البيت الحرام (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله ، واليوم الآخر (وَيَصُدُّونَ) أي يمنعون الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن طريقه المؤدي إلى رضاه ، وهو الإيمان به ، والعمل الصالح حسب أمره (وَ) يصدون عن (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بأن يمنعون الناس عن الحج (الَّذِي جَعَلْناهُ) وأمر ببنائه (لِلنَّاسِ) عموما ، فما حق الكفار يمنعون الناس عن الحج؟ (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ) أي المقيم في «مكة» والضمير راجع إلى المسجد الحرام ، باعتبار ملابسته لمكة ، فهو

وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)

____________________________________

من باب علاقة الكل والجزء ، (وَالْبادِ) أي الذي يطرأ ويأتي إليه من الخارج وسمي المسافر به لأنه يظهر ويتبين ، بعد أن كان من الخارج ، والمعنى أنه ليس لأحد أن يمنع أحدا ، حتى أنه ليس لسكان مكة ، أن يغلقوا أبوابهم بوجه المسافرين ولم يكن لدور مكة أبواب ، حتى ابتدعها عثمان أو معاوية ، كما ورد بذلك التاريخ والروايات ، ورد أن هذه الآية نزلت في قريش حين صدوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مكة ، وقد كتب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عامله بمكة وهو قثم بن العباس ، وأمر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا ، فإن الله سبحانه يقول سواء العاكف فيه والباد (١) ، والعاكف المقيم به ، والباد الذي يحج إليه من غير أهله ثم أنه قد حذف خبر إن ، لتهويل الأمر ، حتى تبقى نفس السامع قلقة ، ما مصير هؤلاء المجرمين؟ وما يكون عقابهم وعذابهم؟ (وَمَنْ يُرِدْ) مضارع من الرد ، وحذف ياؤه بالجزم ب «من» أي الذي يريد (فِيهِ) أي في البيت الحرام ، تغييرا ، أو تبديلا ، وقد حذف مفعول يرد ليذهب الذهن كل مذهب (بِإِلْحادٍ) الإلحاد العدول عن القصد ، ومنه يسمى اللحد لحدا ، لأنه مائل عن استقامة القبر ، والملحد ، ملحد لعدوله عن الإيمان (بِظُلْمٍ) أي ظلما ، وهو متعلق بقوله «بإلحاد» أي من أراد في البيت الحرام شيئا غير جائز ، بسبب أنه عدل عن القصد ظلما (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم في الدنيا بإجراء الحد والتعزير عليه تشريعا ، وضربه بالبلايا والمحن تكوينا ، وفي

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٩ ص ٣٥٨.

وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ

____________________________________

الآخرة بإدخاله النار.

[٢٧] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ بَوَّأْنا) أي وطأنا ومهدنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) فإن إبراهيم هو الذي بنى البيت ، وقد عرفه الله سبحانه ، أين يبنيه ، ويأتي هذا الكلام عقب الكلام السابق ، ليدل على أن البيت ، إنما بني لأجل التوحيد والحج ، فما بال الناس يمنعون عن البيت ، وما بالهم يردون فيه بإلحاد بظلم؟ وقلنا له (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) أي لا تجعل معي شيئا في العبادة ، وإنما تبني البيت لتوحيدي ، وفيه تعريض بالكفار ، الذين نصبوا الأصنام حول البيت يعبدونها مع الله (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأدناس المعنوية والظاهرية (لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون ويدورون حول الكعبة ، والطواف قسم من الخضوع ، كأنه يريد أن يبين ، أني فداء لصاحب هذا البيت (وَالْقائِمِينَ) في عباداتهم تجاه الله سبحانه (وَالرُّكَّعِ) جمع راكع (السُّجُودِ) جمع ساجد ، أي الذين يركعون ويسجدون.

[٢٨] (وَأَذِّنْ) أي أعلم يا إبراهيم (فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) الحج أصله القصد ، ثم خصص بهذا القصد الخاص ، والمراد أن يعلن ، أن الناس يأتون إلى هذا البيت لعبادة ربهم ، وإتيان المناسك المخصوصة الدالة على خضوعهم لله سبحانه ، وقد ورد عن الصادق عليه‌السلام ، أن إبراهيم لما أتم البيت ، نادى هلم الحج هلم الحج ، فلبى الناس ، في أصلاب الرجال لبيك داعي الله ، لبيك داعي الله ، فمن لبى عشرا حج عشرا ، ومن لبى

يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ

____________________________________

خمسا حج خمسا ، ومن لبى أكثر فبعدد ذلك ، ومن لبى واحدة حج واحدة ، ومن لم يلب لم يحج (١) ، وقد وعد الله إبراهيم أن يلبيه الناس ، فقال (يَأْتُوكَ) أي يأتوا إليك يا إبراهيم ، لأجل الحج أناس (رِجالاً) جمع راجل ، وهو الماشي الذي لا مركوب له ، يسعون على أقدامهم (وَ) أناس يأتوك (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) من الضمر ، وهو الهزال ، قد جهده السير ، فضمر من الجهد والجوع والتعب ، وإنما خصص هذين ، دلالة لتلبية الناس له ، حتى الضعفاء منهم الذين لا مركوب لهم ، أو هم فقراء ، حتى أن مركوبهم ضامر ، ليس له ما ينفق عليه ، ولا يريحه ، حتى يسمن (يَأْتِينَ) تلك الحيوانات المركوبة الضامرة (مِنْ كُلِّ فَجٍ) أي طريق (عَمِيقٍ) بعيد ، وهكذا يتقاطر الحجاج على البيت الذي تبنيه يا إبراهيم.

[٢٩] وإنما أمروا بالحج (لِيَشْهَدُوا) أي يحضروا هناك (مَنافِعَ لَهُمْ) دنيوية ، وأخروية ، فالمنافع الدنيوية اقتصادية ، واجتماعية ونفسية ، وما أشبه ، والمنافع الأخروية ، الجنة والثواب (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) فيجددوا عهدهم به خالصا من كل شائبة (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) وهي أيام الحج ، كما يظهر من السياق ، وقد ورد عن علي عليه‌السلام ، أنه الأيام العشر ، وورد أيضا أنه الأيام الثلاث للتشريق ، والظاهر أنها من باب

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ص ٢٠٦.

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)

____________________________________

بيان بعض المصاديق (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) الأنعام ، هي الإبل والبقر والغنم ، والبهيمة هي التي لا تقدر أن تتكلم ، فإنها من الإبهام ، وذلك أنها لا تفصح عن مرادها ، كما يفصح الإنسان الناطق ، والمراد ب «على» إما ذكر الله على الحيوان حين يذبح أو ينحر ، أو المراد أنهم يشكرون الله على أن رزقهم اللحوم ، وعلى أي حال ، فهو مصداق للذكر (فَكُلُوا) أيها الحجاج (مِنْها) من تلك الأنعام ، والأمر للإباحة ، أو للوجوب ، فقد ذهب بعض علمائنا إلى وجوب أكل الحاج من ذبيحته (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) وهو الذي ظهر عليه أثر البؤس ـ أي الجوع والعري ـ (الْفَقِيرَ) وكأنه قيد احترازي ، لأن يجتنب عن البائس الذي يظهر ذلك ، وليس بفقير واقعا.

[٣٠] (ثُمَ) عطف لترتيب الكلام ، لا لترتيب ما يأتي على ما تقدم (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) يقال تفث ، يتفث «من باب علم يعلم» أي علاه التفث ، وهو الوسخ ، وتفثت الدماء مكانه أي لطخته ، ويقال : قضى تفثه ، أي أزال وسخه ، كأنه أتى بما عليه تجاه الوسخ ـ وهو الإزالة ـ والمراد هنا إزالة الأوساخ من حلق الشعر ، ونتف الإبط ، وتنوير العانة ، وقص الظفر ، مما حرمه الإحرام ، فإنها تحل في منى (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) التي نذروها من الذبح والنحر لله سبحانه ـ علاوة على الهدي ـ (وَلْيَطَّوَّفُوا) أصله «تطوف» من باب التفعل ، قلبت التاء طاء ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي البيت

ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)

____________________________________

القديم ، والظاهر شمول هذا لكل أقسام الطواف ، لما تقدم ، من أن «ثم» لترتيب الكلام ، لا لترتيب الأعمال.

[٣١] (ذلِكَ) هو الحج الذي أمر الناس أن يأتوه ، فأصله وأعماله ، وبناءه ، وبانيه ، كما ذكر (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) «حرمات» جمع حرمة ، وهي ما لا يحل انتهاكه ، أي الذي لم ينتهك حرمة البيت ، وحرمة سائر ما شرع من الأعمال المرتبطة به (فَهُوَ) أي هذا التعظيم (خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) إذ يجزيه بالثواب واللطف ، وحيث إن المشركين جعلوا من حرمات الله ، البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، يأتي السياق ليبين إنها ليست من حرمات الله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ) أيها الناس (الْأَنْعامُ) جميع أقسامها (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في سورة المائدة ، من المنخنقة والموقوذة وغيرهما ، فإن سورة المائدة نزلت متأخرة عن هذه السورة ، وبمناسبة حرمات الله ، يبين السياق ، أن لا حرمة للأصنام ـ كما بين ، أن لا حرمة للأنعام (فَاجْتَنِبُوا) أيها الناس ، ولعل إتيان الفاء ، لترتيب ذلك على الحالة النفسية التي تثار في هذه المشاعر ، من التطهر ، والاتجاه إلى الله سبحانه ، (الرِّجْسَ) ، وهو القذارة المعنوية الحاصلة للإنسان (مِنَ الْأَوْثانِ) الأصنام (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) أي الافك والبهت ، فإن عبادة الأصنام ، وجعلها شركاء لله سبحانه ، من أكبر

حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)

____________________________________

أقسام الافك ، فقد كان المشركون ينتهكون حرمة البيت ، ويحترمون الأصنام ، ويحرمون ما أحل الله من الأنعام ، وينسبون كل ذلك إلى الله سبحانه ، فجاء السياق ليشجب جميع هذه الأعمال ، وحيث أن مركزها كانت مكة ، حشر الجميع في سياق الحج.

[٣٢] في حال كونهم (حُنَفاءَ) جمع حنيف ، وهو المائل عن الشرك ، أي ميلوا عن الشرك نحو الطريق المستقيم ، وهو طريق الله تعالى ، (لِلَّهِ) تعالى (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) لا تشركوا بالله غيره (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) ويعبد الأصنام من دونه ، فهو مثل إنسان يسقط من السماء ، وقبل أن يصل إلى الأرض ، خطفته الطيور والجوارح ، ليمزقوه ، ويأكلوه لقمة سائغة لهم ، أو تأخذه الريح لتطرحه ، في مكان بعيد عن الأنظار ، حتى لا يبقى أثره ، حتى أن جسمه يضيع ، فلا قبر له ولا أثر ، وهكذا المشرك ، إنه خر من أوج الإيمان الرفيع ، فأخذه الرؤساء الكافرون ، ليجعلوا منه وسيلة لسيادتهم ودنياهم ، فيعيشون على لحمه وشخصه ، أو يبقى وحده ، بلا أن يستهويه أحد ، بل ضالا في الحياة ، لا يدري من هو ، وأين؟ حتى يأتيه الموت ، فيضل في بحر الفناء ، لا أثر له ولا خبر (فَكَأَنَّما خَرَّ) أي سقط (مِنَ السَّماءِ) إلى نحو الأرض (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) قبل أن يصل إليها (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي تميله ـ فلا يقع على الأرض ، ليراه الناس ويأبهوا به ـ (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي بعيد عن الأنظار.

ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)

____________________________________

[٣٣] (ذلِكَ) الأمر كما ذكرنا من لزوم الإيمان ، وترك الشرك (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) جمع شعيرة ، وهي الشيء الملاصق للبدن ، وسمي شعيرة ، بعلاقة الملابسة ، لأنه يصل بالشعر في البدن ، والمراد هنا الأمور المرتبطة بالله ، وهو عام يشمل كل ما ورد به دليل خاص ، كالمناسك في الحج ، أو دليل عام كالمدارس الدينية التي لم تكن في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام ، وإنما تشملها الأدلة العامة ، والإتيان بهذه الجملة هنا ، بمناسبة أن أعمال الحج من الشعائر (فَإِنَّها) أي أن تعظيم الشعائر (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) «الضمير» في «إنها» عائد إلى الشعائر ، والمراد به تعظيم الشعائر ، من باب الملابسة ـ مجازا ـ وإضافة التقوى إلى القلوب ، لأن حقيقة التقوى في القلب ، وإنما يظهر أثره على الجوارح والتعظيم حقيقة لا ينشأ إلا من تقوى القلب ، أما صورة التعظيم الذي ينشأ من التقليد ونحوه ، فإنه ليس تعظيما حقيقة ، وإنما صورة تعظيم مجردة.

[٣٤] (لَكُمْ) أيها الناس (فِيها) أي في الشعائر (مَنافِعُ) مادية ومعنوية (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة معينة ، قد سمي أجلها ، وذلك ، فإن مصاديق الشعائر الأنعام التي تهدى إلى البيت ، ويجوز للإنسان ركوبها ، وشرب ألبانها ، إلى وقت ذبحها (ثُمَّ مَحِلُّها) أي الموضع الذي تحل الشعائر فيها (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي مكة ، فإن الهدايا تساق إليها ، حتى تذبح بها ، ثم إن من البلاغة في القرآن ، أن يذكر

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً

____________________________________

الدليل ، والحكم ، كما يذكر العام ، ليشمل الخاص ، فلا غرابة في أن يراد بالشعائر العموم ، ويراد ب «(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ ..) إلى آخره ـ» خصوص الهدي ، كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (١) ف «إنا لا نضيع» عام ، ودليل ، في وقت واحد ، وهكذا من أمثاله ، وهو كثير.

[٣٥] وليس موضع عجب ، أن يكون ذبح الأنعام من الشعائر في هذه الأمة ، فقد كان ذبحها في كل الأمم من الشعائر ، والذين يثنون على ذبح الحيوان ، لم يدركوا طبيعة البشر ، التي لا تقوم ، إلا باللحوم ، ولم يدركوا أن لا فرق بين ذبح الحيوان وموته ، فإن الألم الذي يصل إليه من الموت أكثر من الألم الذي يصل إليه من الذبح ، والنقض بذبح الإنسان في غير مورده ، إذ الإنسان خلق لنفسه ، وله خلق الكون ـ كما يشهد بذلك نفس الكون ـ فهو غاية لا وسيلة ، بخلاف الحيوان الذي هو وسيلة ، ثم ماذا يقولون في ركوب الحيوان ، والحمل عليه؟ فهل يرون ذلك خلافا ، وأنه مثل ركوب الإنسان والحمل عليه؟ وماذا يقولون ، في استخدام الإنسان لجنسه في حوائجه الضرورية؟ وكون الألم هنا أقل فلا يبرر ، إذ لو كان الإيلام ظلما ، لم يكن فرق في أصل القبح بين الظلم القليل والظلم الكثير ، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) المنسك موضع العبادة ، من نسك بمعنى عبد ، والنسيكة الذبيحة ، لأنها تذبح قربة إلى الله تعالى ، والمراد بالمنسك إما البيت ، وإما الذبيحة ، لأنها موضع العبادة ، إذ يقرب بها إلى الله ، والأول أقرب

__________________

(١) الكهف : ٣١.

لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا

____________________________________

إلى ظاهر اللفظ ، والثاني أقرب إلى السياق (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي إن جعل العبادة ، أو الذبيحة ، إنما هو لذكر الله على ما رزقهم من اللحوم ، ولو كان المراد بالمنسك ، محل العبادة ، كان التعليل بمناسبة تلازم محل العبادة وذبح الحيوان قربانا ، كما نرى في الحج ، وقد كان في الأمم السابقة ، تشريع ذبح الحيوان لله ، في محل العبادة ، وإنما حرفها المشركون ، حيث كانوا يذبحونها للشركاء (فَإِلهُكُمْ) أيها البشر (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له فلا تذبحوا الذبائح لغيره كما كانت عادة أهل الجاهلية و «الفاء» تفريع على العلة في «ليذكروا» بمعنى أن تشريع الذبح ، لما كان لذكر اسم الله ، فلا تذكروا سواه (فَلَهُ) وحده (أَسْلِمُوا) أي انقادوا وأطيعوا (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الْمُخْبِتِينَ) الذين يتواضعون لله تعالى ، من أخبت خضع.

[٣٦] ثم فسر المخبتين بقوله (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت واضطربت ، فإن الإنسان ، إذا ذكر باسم عظيم يكون مآله إليه ، ولا يدري هل أنه ناجح أم ساقط ، يخشى ويخاف خوف الرسوب ، وهذا يدل على كمال الإيمان (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من المكاره والأتعاب والبلايا ، يصبرون لأجله سبحانه ، وإطاعة لأمره (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) أصله مقيمين ، حذف النون ، للإضافة (وَ) الذين (مِمَّا

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ

____________________________________

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يبذلون ، كما أمر الله سبحانه و «الصابرين» و «المقيمي» عطف على «الذين» و «مما رزقناهم» عطف على «إذا ذكر» أو بتقدير الذين ، حتى ينساق العطف في الجميع.

[٣٧] (وَالْبُدْنَ) جمع بدنة ، وهي الإبل (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) التي تنحر في الحج تعظيما لأمر الله سبحانه ، وخص البدن بالذكر ، مع أن البقر والغنم كذلك ، لأن البدن أعظمها مثوبة ، وأنفعها للناس ، ولعل تخصيص الهدي بالذكر من بين سائر الشعائر ، لأن فيها الدين والدنيا ، بخلاف سائر الشعائر ، كالطواف والسعي والرمي ، وما أشبه (لَكُمْ) أيها المسلمون (فِيها) أي في البدن (خَيْرٌ) تنتفعون بلحومها في دنياكم ، وبثوابها في آخرتكم فإذا أردتم نحرها للهدي اذكروا (اسْمَ اللهِ عَلَيْها) في حال كونها (صَوافَ) أي قائمات ، قد صففن أيديهن وأرجلهن ، جمع صافة ، وذلك حين إرادة نحرها (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) بأن سقطت على الأرض ، لموتها في أثر النحر ، وهي إذا وقعت تقع على جنبها وذلك كناية عن موتها (فَكُلُوا مِنْها) الأمر ، إما للإباحة ، لأن الأكل مباح ، أو للوجوب على ما ذهب إليه جماعة من العلماء ، من وجوب الأكل من الهدي (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) الذي يقنع بما أعطيته ، وهو يسألك الطعام (وَالْمُعْتَرَّ) من اعتر ، بمعنى اعترى ، وهو الفقير الذي يعتري رحلك من غير أن يسأل ، وكان الإتيان بهذين الوصفين ، لبيان العلة في الإعطاء ، والإلفات إلى خصوصيتها الموجبة

كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ

____________________________________

للعطف والرحمة (كَذلِكَ) الذي ذكرنا (سَخَّرْناها لَكُمْ) فإنها مع قوتها مسخرة لكم حتى تتمكنوا من أخذها ، وإيقافها صواف ونحوها ، بخلاف السباع الممتنعة التي هي لو كانت دونها لا تنقاد ولا تخضع (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا لطف الله وفضله.

[٣٨] إن الأمر بذبح الهدي ، ليس لانتفاع الله سبحانه ، فإنه تعالى لا ينتفع بشيء (لَنْ يَنالَ اللهَ) أي لن يصل إلى الله (لُحُومُها) ليأكل ، أو ينتفع (وَلا دِماؤُها) كما تنال الأصنام دماء قرابينها ، فإنهم كانوا يلطخون الصنم بدم القربان ، ليدل على أنهم عظموه بالقربان من أجله (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) فإن توجه القلوب إليه سبحانه ، هو المطلوب المهم الذي أمر به سبحانه ، وهو الشيء الذي يريده ، ولذا شبه بما ينال الإنسان ويصل إليه ، وإلا فالتقوى أيضا لا يناله سبحانه ، والمعنى أن المقصود بالهدي التقوى ، لا الهدي في صورته المجردة ، إذ لا انتفاع لله سبحانه بصورة الهدي ، وإنما الصورة تفيد من يريد الأكل أو الاستعلاء بلطخ الدم (كَذلِكَ) أي كالذي ذكر من كون لحومها ودمائها باختياركم ، (سَخَّرَها) أي سخر البدن (لَكُمْ) أيها البشر (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي تعظموه على هدايته إياكم ، فإن الإنعام ، يوجب الشكر على كل نعمة ، فالهداية والتسخير وإن كانا نعمتان ، لكن أحدهما توجب الشكر على الأخرى ، فلا يقال مقتضى القاعدة أن يقال : «على ما سخر» لا «على ما هدى» (وَبَشِّرِ) يا رسول

الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)

____________________________________

الله (الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في أعمالهم ، فلا يأتون بالسيئات.

[٣٩] وإذ بين سبحانه الشعائر والمشاعر بين جواز الدفاع عنها ، فإن العقيدة والشريعة ، تحتاجان إلى دفاع أصحابها عنهما من الاعتداء ، وبين سبحانه ، أولا أنه هو المدافع ، ثم أذن للمسلمين أن يدافعوا (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فإنه يمنع الكفار عنهم ، وينصرهم على أعدائهم والإتيان من باب المفاعلة ، للالفات إلى المدافعة التي تقع بين الكفار ، وبين الأمور التي جعلها الله سبحانه وسيلة للدفاع عن المؤمنين (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) قد خان عهد الله المودع في فطرته ، بالتوحيد والإيمان ، وإنما كان خوانا ، لأنه يخون في كل خطوة خطوة (كَفُورٍ) كثير الكفر ، فإن الإنسان في كل حركة وسكون ، إما يلابس الإيمان أو الكفر.

[٤٠] وإذ تمادى الكفار في غيهم ، وأخذوا في تضييق النطاق حول العقيدة والإيمان ، بصد الناس عن الإيمان ، وتعذيب المؤمنين بالقتل والإيذاء والتشريد (أُذِنَ) والآذن هو الله سبحانه ، ولم يذكر اسمه تعظيما (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) أي يقاتلهم الكفار ، وقد حذف متعلق الإذن ، والتقدير أذن لهم ، أن يقاتلوا ، وهذه أول آية نزلت في باب القتال بسبب (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي أن سبب الإذن ، كون الكفار ظلموهم (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فلم يكن النصر إلقاء لهم ، في التهلكة ، بل بسبب أن الله يريد نصرتهم ، والجملة كناية عن إرادة النصرة ،

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ

____________________________________

لا بيان قدرة الله على النصر ، فإن ذلك مثل أن يقال لك : اذهب إلى الحرب ، فإني قادر على دفع أعدائك.

[٤١] ثم بين سبحانه كيفية مظلوميتهم توضيحا لقوله «بأنهم ظلموا» (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) وهم المهاجرون الذين أخرجهم الكفار لكثرة أذاهم ، حتى اضطروهم إلى الخروج من ديارهم في مكة ، بدون أن يكونوا قد اقترفوا إثما أو ذنبا (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) فقد كان تمسكهم بالله سبحانه ، هو سبب إخراج الكفار لهم عن بلادهم ، والاستثناء منقطع ، وقد مر أن مثل هذا الاستثناء ، لكون الكلام في المستثنى منه مأخوذا على التجرد ، فالجملة تنحل إلى ثلاثة أشياء ، هكذا «لم يخرجوا من ديارهم» «إلا لقولهم ربنا الله» «وكان إخراجا بغير حق» لكن الاقتصاد في الكلام ، يوجب توصيف المستثنى منه بالجملة الثالثة ، ثم بين سبحانه ، أن الله يدفع غير المؤمنين بالمؤمنين ، حتى تبقى معالم الدين (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي أن الله سبحانه يدفع الكفار بسبب الأخيار وذلك الدفع بإيجابه سبحانه الجهاد والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإرشاد ـ في الظاهر ـ ونصره سبحانه لهم ـ في الباطن ـ (لَهُدِّمَتْ) جميع آثار الأديان (صَوامِعُ) جمع صومعة ، وأصلها من الانضمام ، ومنه الأصمع للألصق الأذنين ، وكل منضم فهو متصمع ، والصوامع هي محلات العبادة للنصارى ، ولعل وجه تسميتها بهذا الاسم ، لأنها تضم العباد والرهبان (وَبِيَعٌ) جمع بيعة ، وهي الكنائس لليهود ، ومحلات

وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ

____________________________________

عبادتهم ، ولعل وجه التسمية ، أن الإنسان الذي يراودها قد باع نفسه من الله سبحانه (وَصَلَواتٌ) أي محلات الصلاة ، بعلاقة الحال والمحل ، ولعله أريد به مواضع عبادة المجوس ، وفيها احتمالات أخر (وَمَساجِدُ) للمسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) الضمير إما عائد إلى المساجد ، أو إلى جميع ما تقدم ، والمراد أنها كانت تهدم كل في زمان النبي النافذ شرعه ، فكانت تهدم البيع في زمان موسى ، والكنائس في زمان عيسى عليه‌السلام ، وهكذا ، وأما أنها كانت تهدم في الوقت الحاضر ، فإن هذه المواضع للعبادة خير من عدمها بتسلط أهل الطبيعة ، والدهرية ، فإنها علائم من الدين ، وآثار من السماء ، وإن حرفها أهلها عن الأصل ، وكانت باطلة في زمان الإسلام ، غير المساجد ، فإنه سبحانه له علاقة بها ، في مقابل المعطلة والدهرية ، ومنه اغتنم المسلمون حين انتصر الفرس على الروم ، وكانوا يترقبون غلبة الروم ، لأنهم نصارى ، على الفرس عباد النار ، قال سبحانه (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) (١) (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) فإن من نصر شريعة الله ، كان الله ناصره ، وهذا من باب التشبيه ، وإلا فالله غني عن النصرة ، ثم إن الله ناصر لمن نصره طبيعي ـ كما هو غيبي مربوط بما وراء المادة ـ إذ المؤمن الذي يكمل قواه المادية ، ويبرز في الميدان ، يكون ضروريا بالقوتين المادية والروحية ، وللقوتين غلبة على القوة

__________________

(١) الروم : ٢ ـ ٥.

إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ

____________________________________

الواحدة في الطرف المقابل ، وهي القوة المادية المجردة ، أما من لا يكمل قواه المادية ، اعتمادا على قواه الروحية فقط ، فقد خرج عن أوامر الله سبحانه ، الذي قال (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (١) و (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٢) و (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (٣) و (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٤) و (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٥) وغيرها (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) يقوى على نصرة المؤمنين (عَزِيزٌ) قاهر لا يغلبه أحد.

[٤٢] ثم وصف سبحانه الذين أذن لهم في القتال ، وأخرجوا من ديارهم بقوله أنهم هم (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بأن كانت لهم المكنة والسلطة (أَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدوها بحقوقها وآدابها ، وشرائطها (وَآتَوُا الزَّكاةَ) أعطوها إلى من يستحق حسب موازينها (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) وهو كل شيء أمر به الشرع ، أو العقل إيجابا أو ندبا (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو كل شيء نهى عنه الشرع أو العقل تحريما ، أو تنزيها ، وليس معنى هذا ـ المفهوم ـ بأنهم إن لم يمكّنوا لم يقيموا الصلاة ـ إلى آخره ـ بل هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ غير المتمكن في الأرض لا يتمكن من أداء هذه الأشياء على وجهها ، أو

__________________

(١) الأنفال : ٦١.

(٢) الصف : ٥.

(٣) المائدة : ٥٢.

(٤) آل عمران : ١٠٤.

(٥) الفتح : ٣٠.

وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ

____________________________________

من قبيل إن رزقت ولدا فاختنه ، حيث لا محل للختان بدون رزق الولد (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن الله يرث الأشياء ، فالعاقبة ، والخاتمة له ، وهذا وعد للمؤمنين ، وإيجاد أمل فيهم ، بأن يكافحوا ويقاتلوا ، لأن الله هو الذي ينصرهم ، وتكون العواقب مطابقة لمناهج المسلمين.

[٤٣] ثم سلا سبحانه رسوله ، فيما يلاقيه من تكذيب القوم ، بأن له أسوة بالأنبياء السابقين (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا رسول الله (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) نوحا (وَعادٌ) كذبت هودا (وَثَمُودُ) كذبت صالحا.

[٤٤] (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ) نمرود وأتباعه ، كذبوا إبراهيم عليه‌السلام (وَقَوْمُ لُوطٍ) كذبت لوطا.

[٤٥] (وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) كذبت شعيبا (وَكُذِّبَ مُوسى) كذبه فرعون وقومه ، ولم يقل «وموسى» لأنه كان يوهم ، أن قوم موسى ـ وهم بنو إسرائيل ـ كذبوه (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي كتبت أعمالهم ، وأمهلتهم حتى استوفوا أعمارهم المقدرة لهم (ثُمَ) لما انقضى أمرهم (أَخَذْتُهُمْ) بأصناف العذاب (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) استفهام تقريري ، أي كيف كان إنكارهم عليهم ، ألم يكن في موقعه ، فإنهم لما كفروا ، أخذوا بجزاء أعمالهم.

[٤٦] (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي كم من قرى ، والمراد بها المدن ، و «كم»

أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها

____________________________________

خبرية للتكثير (أَهْلَكْناها) والمراد إهلاك أهلها ، بعلاقة الحال والمحل ، وذلك لأن الهلاك يعم نفس القرية ، كما يشمل أهلها ، فتخرب منازلها ودورها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلها بالكفر والعصيان (فَهِيَ) تلك القرية المأخوذة (خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أي سقوفها ، فإن السقف إذا وقع ، وقعت عليه الحيطان والجدران ، وهذا من أبشع أنواع الإهلاك ، إذ أهل الغرفة والمحل إذا سقط عليهم السقف وسقطت الحيطان على السقف تحطمت عظامهم وكثيرا ما لا يظفر لهم على بدن (وَ) كأين من (بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) تعطلت عن الرواد وذكر البئر ، لأن الماء كان من الآبار ، في أكثر المدن والقرى ، وتعطيلها كان علامة فناء أهلها ، حتى أن هذا العصب الحي للحياة ، قد تعطل عن العمل (وَ) كأين من (قَصْرٍ مَشِيدٍ) أي قد شيد وبني بالجص ، وزين بالزخرفة ، قد تعطل ، فلا ساكن له ، وإذ لا ساكن للقصر المشيد ، فكيف بالدور والدكاكين ، ونحوها ، مما لا قيمة لها في جنب القصر.

[٤٧] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء الكفار المكذبون بنبوتك (فِي الْأَرْضِ) اليمن والشام ، وسائر البلاد التي أهلك أهلها ، لما كذبوا الرسل ، حتى يعتبروا ، ويقلعوا عن غيهم؟ (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ما يرون من العبر ، وآثار الخرائب التي بقيت بعد إهلاك الأمم السابقة ، الذين كذبوا أنبياءهم (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أخبار الأمم السابقة ، فإن

فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)

____________________________________

الإنسان ، إذا سافر ، سمع من أهل بلد أخبار الماضين منهم ، وأنهم كيف كانوا ، وكيف ماتوا ، حتى يحكوا لهم ، أن أسلافهم أهلكوا حيث كذبوا الأنبياء وعملوا بالكفر والمعاصي ، (فَإِنَّها) الضمير للشأن والقصة ، ويأتي هذا الضمير للإلفات والتنبيه ، إلى أن ما بعده أمر مهم ، فإذا كان مذكر ، سمي ضمير الشأن ، وإن كان مؤنثا سمي ضمير القصة ، والجملة ما بعد الضمير مفسرة له (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) الناظرة إذ البصر ينظر ويرى (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ) وتنفلق عن الهدى (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) والإتيان بهذا الوصف للتعميم ، كقوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١).

[٤٨] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا رسول الله ، أي هؤلاء الكفار ، فقد كانوا يطلبون من الرسول ، أن يأتي به (بِالْعَذابِ) الذي وعدهم ، استهزاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الله سبحانه لا يأتي بالعذاب ، إلا في الوقت المحدد له حسب حكمته ومصلحته (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) فقد وعد بالعذاب ، فيأتيه ، كما وعد لهم مدة معينة ، فلا يأخذهم قبل انقضائها (وَإِنَّ يَوْماً) وهو يوم القيامة (عِنْدَ رَبِّكَ) في حسابه (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وهذا تهديد ، أي أن وراءهم يوما يعادل ألف سنة ، بحساب الإنسان ، وإن كان عند الله سبحانه ، يعد يوما واحدا ، وهذا كما تقول للمجرم ،

__________________

(١) الأنعام : ٣٩.

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

____________________________________

سيأتي وقتك ، وفي حساب الحكومة لك يوم هو عشرون سنة في حسابك ، تريد أن عليه الحبس تلك المدة.

[٤٩] إنهم كيف يستعجلون بالعذاب؟ ألم يعلموا ماذا صنع بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة؟ (وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) أي أمهلتها لتبلغ أجلها المقدر لها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) بالكفر والعصيان مستحقة ، لتعجيل العقاب (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب لما انقضى أجلها (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي أن الكل يصيرون إلى عقابي وثوابي وجزائي في القبر ، وفي القيامة ، فلا يغرنهم الأجل المضروب لهم «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» وسيأتي وقت هؤلاء القوم ، وإنا إذ ننظر إلى هذه الآيات ، نرى أن وقت القوم المكذبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد انقضى ، وأن الله قد أهلكهم ولم يبق اسمهم إلا للعنة ، كما أنهم هناك معذبون في أشد العذاب.

[٥٠] (قُلْ) يا رسول الله للناس (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ) أنذركم بالعذاب في الدنيا والآخرة (مُبِينٌ) واضح ظاهر ، أنذركم بكل صراحة ووضوح.

[٥١] (فَالَّذِينَ) قبلوا الإنذار ، بأن (آمَنُوا) إيمانا صحيحا بالأصول والمعارف (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) ولازم ذلك ترك السيئات ـ كما مر ـ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي غفران ، إذ هو مصدر ميمي

وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ

____________________________________

(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فيغفر الله ذنوبهم ، ويتفضل عليهم بالجنة ، التي فيها رزق كريم ، مع الكرامة والحفاوة.

[٥٢] (وَالَّذِينَ) لم يقبلوا الإنذار بل (سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي بذلوا الجهد في إبطال آياتنا وأدلتنا الدالة على التوحيد ، والرسالة ، والمعاد ، في حال كونهم مريدين أن يعجزونا ، ويسلبوا قدرتنا عن الهدى والإرشاد والإتيان من باب المفاعلة لأنهم يريدون تعجيز الأنبياء حتى لا يهدوا الناس والأنبياء يريدون تعجيزهم حتى لا يصدوا السبيل (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) وهذا من باب كون أولئك مورد الكلام ، وإلا فمن كفر كان محله النار ، وإن لم يسع معاجزا.

[٥٣] وبمناسبة الكلام حول من يسعون في آيات الله معاجزين ، ذكر سبحانه بعض كيفيات سعيهم في إبطال الآيات وذلك بأنهم يزيدون وينقصون في الآيات ، حتى يبطلوها ويحرفونها حسب أهوائهم ، وهكذا يفعل المغرضون دائما بالمصلحين إنهم ينقلون عنهم الكلام بزيادة ونقيصة ، يفسحون بذلك مجالا لافتراءاتهم وتخريباتهم ، لكن الكفار لا يتمكنون إبطال الآيات بهذه الكيفية الشائنة لأن الله سبحانه من وراءهم يبطل ما حرفوه ويقوي آياته في القلوب ، حتى تبقى كالفضة الخالصة لا غش فيها ولا دين (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (مِنْ رَسُولٍ) يرسله الله سبحانه (وَلا نَبِيٍ) ينبئه الله تعالى ، ولعل الاختلاف بينهما ـ هنا ـ حسب العموم والخصوص ، فالرسول أخص من النبي ،

إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ

____________________________________

وإن كان كلاهما مرسلا (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) التمني هو القراءة ، يقال تمنى الكتاب إذا قرأه ، قال الشاعر :

تمنى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

(أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في قراءته ومعنى الإلقاء التحريف بالزيادة والنقصان ، وإنما نسب الإلقاء إليه ، لأنه من وسوسته ، وإغرائه لعملائه الكفار أن يزيدوا ، وبهذا الإلقاء يريد الشيطان وأتباعه أن يعجزوا الرسول عن إتمام رسالته ـ كما سبق قوله : «والذين سعوا في آياتنا معاجزين» إذ إلقاء التشويش والاضطراب ، يوقف سيرة الدعوة ويكدر صفوها ، لكن الله سبحانه يحفظ دينه وقرآنه عن الاختلال (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) بأن يبطله ويزيله بسبب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرسول ، إذ يبين الرسول للناس أن هذا زائد وهذا ناقص ، وهذا أصيل وهذا دخيل (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) بأن يجعلها محكمة لا يتسرب إليها الدخيل فإن المؤمنين إذا علموا أن الكفار بصدد الزيادة والنقصان ، التزموا بالكتاب أشد الالتزام مما يوجب إحكامه ، فلا يتطرق إليه التغيير والتحريف وقد حاول الكفار ذلك بالنسبة إلى القرآن منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنهم لم ينجحوا وفي زماننا حاول «أتاتورك» أن يلخص القرآن ، وصنع منه مهزلة لم يدم إلا يسيرا ، حتى نسخه الله ، وأحكم آياته ، وثم حاول اليهود من «فلسطين» أن يغيروا القرآن ، وطبعوا منه نسخا محرفة ، ووزعوها في البلاد ، لكنها لم تنجح أيضا ، بل قيض

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)

____________________________________

الله المسلمين ، لينبهوا على تحريفهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يفعله الكفار بوسوسة من الشياطين (حَكِيمٌ) يعمل كل عمل عن حكمة وصلاح ، فلا يدع الكتاب الموحي إلى النبي عرضة التلاعب والزيادة والنقصان.

[٥٤] وإنما لا يعجز الله الشيطان عن هذا العمل ، بأن يسلب قدرته منه حتى لا يتمكن من هذه الزيادة والنقصان (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) في الكتاب (فِتْنَةً) وامتحانا (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فإن من مرض قلبه بالشك والريب ، إذا رأى الزيادة والنقصان والاضطراب رفع اليد عن الإيمان ، ودخل في صف الكفار أو المنافقين (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار الذين قست قلوبهم عن قبول الحق ، فإن التحريف في الكتاب ، على ما ألقاه الشيطان فتنة لهم ، لأنه يزيدهم كفرا وضلالا فإنه يعطيهم الدلالة ، حتى يتمكنوا من الهدم أكثر من ذي قبل (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والنفاق (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) كأنهم في شقة منحرفة عن الجادة المستقيمة والشقة التي فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيدة جدا عن الجادة ، فليسوا كالعصاة الذين هم في شقة قريبة ، إذ انحراف العاصي يسير بالنسبة إلى انحراف الكافر والمنافق ، والمعنى أن الكفار ، والذين في قلوبهم مرض ، الذين يتخذون التحريف ، وسيلة للريب والهدم إنهم بعيدون عن الجادة المستقيمة ، وإلا فما يمنعهم عن تصحيح القراءة بسبب الرسول والمؤمنين؟ إنهم يريدون الكفر والنفاق والشك والتهريج ، لا الحق ، ولا الواقع ، حتى

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)

____________________________________

يبحثوا الشيء عن أصله ومورده.

[٥٥] وكما أن التحريف يسبب ضلالا وكفرا للذين في قلوبهم مرض ، والقاسية قلوبهم ، كذلك يسبب هداية وإيمانا بالنسبة إلى المؤمنين إذ الإنسان الطالب للحقيقة ، إنما يقوي إيمانه ، إذا رأى الاستقامة في وسط الاضطراب ، ورأى الحق في جنب الباطل ، فإن الأشياء تعرف بأضدادها فإذا رأى الذين أوتوا العلم القرآن ، لم يتغير ولم يتبدل ، وقاسوه بما ألقي فيه من التحريف ليروا الفرق الظاهر بين كلام الله وكلام الشيطان ، ازدادوا إيمانا ويقينا (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أعطوا العلم فهم عالمون فاهمون (أَنَّهُ) أي القرآن الذي أريد فيه الزيادة أو النقصان (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ولذا بقي ناصعا مشرقا ، لم يؤثر فيه التشويش والتحريف (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بالنسبة إلى غير من آمن إلى هذا الوقت ويثبتوا على الإيمان بالنسبة إلى المؤمن ، فإن للإنسان في كل آن إيمان ، وفي كل لحظة هداية. فإن الإيمان فعل القلب الذي يصدر منه آنا فآنا (فَتُخْبِتَ) أي تخضع (لَهُ) أي للقرآن ، المستفاد من قوله : إذا تمنى (قُلُوبُهُمْ) وتكون أكثر إيمانا به والتزاما له (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يهديهم في كل خطوة من خطوات الحياة المظلمة ، فمن أسلس قيادة الله بالإيمان ، هداه حينا بعد حين (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا عوج فيه ولا انحراف.

[٥٦] أما الكفار ، فإنهم يبقون في غيهم إلى أن يموتوا ، وذلك ، لأنهم لم

وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا

____________________________________

يسلسوا القياد ، وأخذوا في الضلال والغواية (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك من القرآن هل هو منزل أم لا؟ (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي الموت ، أو القيامة (بَغْتَةً) فجأة ، فلا مجال لهم للإيمان ، حتى ينجوا من العذاب (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) بأن يأخذهم عذاب الاستئصال والحاصل أنهم في شك حتى يموتوا ، أو يعذبوا بإرسال الله العذاب عليهم ، كما كان يعذب الأمم السابقة ، وسمي اليوم عقيما ، لأنه لا مثل له ، فهو فرد كالإنسان العقيم الذي لا يلد ، فهو فرد لا شريك ولا شبيه له.

[٥٧] (الْمُلْكُ) والسيطرة المطلقة (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إتيان الساعة أو العذاب (لِلَّهِ) لا شريك له في الملك ، حتى ظاهرا بخلاف الدنيا ، فإن هناك ملوكا ظاهرين ، قد جعلوا الملك لهم (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي بين المؤمن والكافر فلا أحد هناك له سيطرة ، لنقض حكم الله ، وإبطال قضائه (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي لا فساد فيها (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ينعمون فيها ، والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي في نعيم الجنات.

[٥٨] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله والمعاد (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي الأدلة

فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)

____________________________________

التي نصبناها للإرشاد والهداية (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويذلهم ، جزاء لكبريائهم في الدنيا ، عن الحق والإذعان.

[٥٩] وحيث كان الكلام في الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، خصصوا بالذكر ، بعد أن شملهم عموم (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أوطانهم وأهليهم (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجله ، وبقصد امتثال أوامره ، فكأنهم أخذوا يسيرون في الطريق الموصل إليه تعالى (ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد ، حيث أذن لهم بالمقاتلة (أَوْ ماتُوا) في الغربة (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) وهو الرزق الذي لا يشوبه كدر ومنقصة ، أي في الجنة ، في قبال تركهم طيبات الدنيا وأرزاقها ، والرزق أعم من المأكل والمسكن والزوجة ونحوها (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فقد أطلق الرازق على كل من يتولى إعطاء الرزق لغيره ، من أب ، وزوج ، وسيد وغيرهم ، فالله سبحانه خيرهم ، إذ رزقه أهنأ وأطيب وبدون من.

[٦٠] (لَيُدْخِلَنَّهُمْ) الله سبحانه (مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) «مدخل» وزن المفعول ، وهو اسم مكان ، والمراد به الجنة ، فإنهم يرضون بها مقاما ومنزلا ، لما فيها من النعيم المقيم مما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بأحوالهم ، وما عملوا من الصالحات (حَلِيمٌ) وهذا تسلية

ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ

____________________________________

لهم ، بأن الله سبحانه إذا أمهل الكفار ، حتى فعلوا ما فعلوا فلم يكن ذلك إحباطا لأعمال المسلمين وعدم الاعتناء بهم ، وإنما هو بمقتضى حلمه ، وسيعاقبهم على ما اقترفوا ويجزي المسلمين ، بما أوذوا في سبيله.

[٦١] (ذلِكَ) أي أن الأمر ، كما قصصنا عليك (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي جازى الظالم ، بمثل ما صنع به من الظلم والتعدي ، بأن قاتل المشركين ، كما قاتلوه ، وأخرجهم كما أخرجوه ، وسمى العقاب عقابا ، لأنه يلحق الإنسان ويأتي بعقبه ، وكان الإتيان من باب المفاعلة ، لأجل أن كلّا من الشخصين ليعاقب الآخر ، فهذا يظلم ذاك وذاك يرد عليه ما عمل به ، وسمي كل من الأمرين معاقبة للتشابه المسمى ب «الازدواج» كقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي ظلمه الظالم مرة أخرى ، وإنما ذكر ذلك ، لأن المظلوم غالبا يبغى عليه مرة أخرى ، إن اقتص من الظالم لظلمه أولا ، فإن من يبتدئ بالعدوان ، لا يترك المظلوم أن يجازيه إلا ويعاقبه مرة أخرى (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) فلا ييأس المظلوم من هذا الحيث ، وليعلم أن الله بالمرصاد ، فليقدم على وضع حد للظالم برباطة جأش ، وقوة قلب ، ولعل هذا ليتعلم المسلمين أن لا يحجموا عن الفتك بمن ظلمهم خوف أن يعود الظالمون عليهم بالظلم والأذى (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) أما البشر فلا يلزمهم الله بالعفو ، لأنهم لا يقدرون

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

____________________________________

على ذلك (غَفُورٌ) يغفر الذنب ، وليس كذلك البشر ، وإذا أذن لهم في رد الاعتداء وقتال من آذاهم وأضربهم.

[٦٢] (ذلِكَ) النصر للمؤمنين المظلومين على الكافرين الظالمين ، إنما يكون بدليل أن (اللهَ) سبحانه قادر على كل شيء ، كما يقدر على التصرفات الكونية ، فمن يقدر على تحريك الكون العظيم ، يقدر على نصرة المظلوم ، أو المراد أن سنة الله الكونية قد جرت على التغيير والتبديل ، فكما لا يبقى ليل ولا نهار أبدا ، كذلك لا يكون الغلب للظالمين أبدا ، فهو ينصر المظلوم عليهم كما (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخله فيه ، في أيام الصيف والخريف ، فتنقص من ساعات النهار ، لتضاف على ساعات الليل ، وذلك من أول الانقلاب الصيفي إلى أول ليلة من الانقلاب الشتوي (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخله فيه في أيام الشتاء والربيع ، فتنتقص من ساعات الليل ، لتضاف على ساعات النهار ، وذلك من أول الانقلاب الشتوي إلى أول يوم من الانقلاب الصيفي (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يدعو المؤمنين ، فيجيب لهم (بَصِيرٌ) بأحوالهم ، فينتقم لهم من الظالمين.

[٦٣] (ذلِكَ) الذي ذكر من انتقام الله من الظالمين ، ونصرة المؤمنين ، وأنه هو المصرف للكون بسبب أن (اللهَ هُوَ الْحَقُ) فهو المصرف ، وهو المدافع عن المظلوم (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام

هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)

____________________________________

(هُوَ الْباطِلُ) فلا تقدر الآلهة الباطلة على تصريف للكون ، كما لا تقدر على نصرة عبادها (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) فهو أعلى من كل شيء يسمع ويرى كل شيء ويقدر على كل شيء (الْكَبِيرُ) الذي لا شيء أكبر منه ، حتى يتمكن من الوقوف أمامه ، ونقض إرادته.

[٦٤] ويشهد لكون التصرفات الكونية لله سبحانه ، وأنه العلي الكبير ، القادر على نصرة المظلومين ، ما يراه الإنسان من الأحالات الطارئة الحكيمة التي تنتاب الكون ، مما لا يمكن أن تنسب إلى صنم أو إنسان ، أو صدفة مجردة (أَلَمْ تَرَ) أيها الرائي (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي من جهة العلو ، المطر (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)؟ مزينة بالخضرة والنبات ، وفي لفظ «تصبح» نكتة بديعة ، حتى أنه أجلى أوقات الاخضرار (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) بعباده ، ومن لطفه بهم ، زين أرضهم ، بما ينتفعون به من الخضر (خَبِيرٌ) بأحوالهم وحوائجهم فما فعله حكمة وصلاح لهم.

[٦٥] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل تصرف في الكون إنما هو منه وحده لا شريك له فيه ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) المطلق الذي لا يحتاج إلى مشاور ومشارك فهو وحده يدير الشؤون الكونية (الْحَمِيدُ) المطلق ، الذي له كل الحمد إذ منه كل نعمة وفضل.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ

____________________________________

[٦٦] (أَلَمْ تَرَ) أيها الرائي ، استفهام إلفاتي للتنبيه (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) فمن هو الذي جعل المخلوقات الأرضية ، مسخرة لكم تسيطرون عليها بإرادتكم ، فسخر لكم الأنهار ، لتجري نحو حوائجكم ، وسخر المعادن لتنقاد لأموركم ، وسخر الأنعام لمنافعكم ، وهكذا (وَالْفُلْكَ) على وزن أسد جمع أسد (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) سبحانه ، لمنافعكم ومآربكم؟ فمن جعل الماء بحيث يحمل الفلك في قاعدة مطردة كشف عنها «أرخميدس» والمعنى سخر الفلك ، في حال جريها في الماء ، بإذن الله سبحانه ، وإنما قال «بأمره» دون «إذنه» لأن التكوين يحتاج إلى الأمر بأن يقال للشيء «كن» (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) يحفظها (أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) فلا يبطل النظام الكوني ، الذي جعله الله سبحانه حتى لا تقع الكواكب على الأرض ، وإنما تسير الكواكب في أفلاكها المقررة لها ، المعبرة عنها بالسماء ، لسموها وعلوها وارتفاعها (إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإذا أذن للسماء أن تقع ، ويبطل النظام كما في يوم القيامة ، حيث قال (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (١) لم يمنع منها شيء (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ولذلك سخر لهم ما في الكون وأمسك السماء من الوقوع عليهم.

[٦٧] (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم ترابا ميتا ، بأن أعطاكم الحياة

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧)

____________________________________

والروح (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) فهو سبحانه المميت ، أما من ظن أنه المميت بقتله إنسانا أو غيره ، فقد أخطأ ، فإنه إنما يوجد السبب الذي جعله الله وصلة لذلك المسبب ، فهو كمن يزعم أنه يحيي بإيجاده الماء العفن المولد للبعوض (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت للحشر والنشور (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) كثير الكفر ، حيث أنه يكفر بالإله ، ويكفر بالبعث ، ويكفر بالأدلة مع وضوحها وجلائها.

[٦٨] وإذ قد وضح الدليل ، وتمت الحجة ، فلا داعي للرسول لأن يشغل نفسه بمنازعة الكفار المنكرين للمبدأ والمعاد (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) مصدر ميمي أي منهجا (هُمْ ناسِكُوهُ) أي ينتهجونه ويتبعونه في حياتهم (فَلا يُنازِعُنَّكَ) يا رسول الله ، أي لا وجه لنزاع الكفار معك (فِي الْأَمْرِ) أي أمر الشريعة وأنها لم صارت هكذا؟ وهذا وإن كان في الصورة نهيا للكفار عن المنازعة ، لكنه في الحقيقة إرشاد للرسول ، بأن لا يشغل نفسه بكلامهم وخصامهم فإن المعاند لا يفيد معه الخصام والجدال (وَادْعُ) يا رسول الله (إِلى رَبِّكَ) غير مبال بهم ، ولا ملتفت إليهم (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) قد شبه الهدى بالطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى مقصده ، والرسول على ذلك الطريق ، فليس عليه أن يعارض وينازع أصحاب الطرق المنحرفة ، وإنما عليه الدعوة ، حتى إذا رآه الناس ، ورأوا طريقه اتبعوه تلقائيا.

وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ

____________________________________

[٦٩] (وَإِنْ جادَلُوكَ) الكفار في منهجك الاعتقادي والعملي ، فلا تشغل نفسك بالجدال معهم ، بل أجبهم بما يقطع كلامهم (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) وهذا كلام الإنسان الذي يريد إظهار خنجره وبرمه بما يأتي خصمه من الأعمال ، وإن أعماله باطلة ، وهو يعلم ذلك.

[٧٠] (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يفصل بينكم ليجازيكم على أعمالكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي تختلفون معي في العقيدة والعمل وكفى بالله عالما حاكما مجازيا ، وبهذا ينهي الرسول جدالهم ، ويقطع كلامهم ، إذ لا فائدة في محاجة المعاند ، الذي يرى الحق فينكره.

[٧١] (أَلَمْ تَعْلَمْ) أيها الإنسان المجادل أو أنه قطع للكلام السابق وتوجيه للخطاب نحو الرسول ، ليلفت الناس بذلك (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء كي يخفى عليه أعمال هؤلاء الكفار (إِنَّ ذلِكَ) الذي في السماوات والأرض (فِي كِتابٍ) أي مثبت في اللوح المحفوظ فلا خافية إلا والله سبحانه قد أثبتها في كتاب لديه (إِنَّ ذلِكَ) الثبت في الكتاب ، لكل ما في السماوات والأرض (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يأتي بمجرد الإرادة ، بلا حاجة إلى تعب كتابة كما يحتاج الإنسان إلى ذلك.

[٧٢] (وَ) بعد وضوح الأدلة ، وتمام الحجة (يَعْبُدُونَ) أي هؤلاء الكفار

مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا

____________________________________

(مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله ، ولعل في التعبير ب «من دون» نكتة هي أن ما يعبدونها دون الله في المرتبة ، فليست لها رتبة الألوهية ، ومقام الله سبحانه ، مع إهانة في التعبير للأصنام ، حيث عبر عنهم ب «دون» (ما لَمْ يُنَزِّلْ) الله (بِهِ) أي بذلك الشيء الذي يعبدوه (سُلْطاناً) أي حجة ودليلا (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) فلا دليل شرعي على تلك الآلهة أنزله الله ، ولا دليل عقلي لهم يعلمونه ، وإنما عبادتهم لمجرد تقليد وظن (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) فإن الأصنام التي يعبدونها ، ويقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١) لا تنصرهم ، يوم يأخذهم وبال عبادتهم لها.

[٧٣] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار (آياتُنا) الدالة على وجودنا ، وسائر شؤوننا ، في حال كون تلك الآيات (بَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات (تَعْرِفُ) يا رسول الله (فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الإنكار ، فإن «المنكر» هنا «مصدر ميمي» والمعنى أنه تظهر في وجوههم علامة الإنكار ، بتقطيب الوجه والإعراض ، ومن شدة حنقهم وغيظهم (يَكادُونَ يَسْطُونَ) من السطو ، وهو البطش ، للإخافة والإيذاء ، يقال : سطا يسطو ، إذا بطش (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) فيفتكون بهم ويضربونهم ، ويقولون فيهم الأقوال البذيئة ، من

__________________

(١) يونس : ١٩.

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ

____________________________________

شدة غضبهم (قُلْ) يا رسول الله ، لهؤلاء الكفار ، الذين يكرهون سماع الآيات بهذا النحو من الكراهة الشديدة (أَفَأُنَبِّئُكُمْ) أي هل تريدون أن أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) بما يسيئكم أكثر من القرآن ، والآيات التي تسمعونها؟ إنما هو (النَّارُ) التي تذوقونها جزاء أعمالكم ، فإن كراهتكم لها أكثر (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنها يلاقونها ويلقون فيها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمأوى الذي تصيرون إليه و «المصير» فاعل ، والمخصوص محذوف.

[٧٤] ثم ضرب سبحانه مثلا لبطلان ألوهية الأصنام التي يعبدها الكفار (يا أَيُّهَا النَّاسُ) والمراد بهم الكفار (ضُرِبَ مَثَلٌ) والضارب للمثل هو الله سبحانه ، لكن حيث كان المقصود الفعل دون الفاعل ، أتى الفعل مجهولا ، كما قرر في البلاغة وقد سبق أن «الضرب» إنما هو باعتبار أن المثل يصطدم بأدمغة الناس فيحدث فيها نقشا وانفعالا (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وهذا لتأكيد الإلفات نحو المثل ليتركز في الذهن أكثر (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إن الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله ، والإتيان «بالذين» الذي هو للعاقل ، باعتبار توهم عبادها عقلها (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) على صغر الذباب ، وقلة فائدته ، والمراد لا يتمكنون من خلقه (وَلَوِ اجْتَمَعُوا) هذه الأصنام المعبودة كلها (لَهُ) أي لخلق ذلك

وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)

____________________________________

الذباب (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) بأن يأكل الذباب بعض الأطعمة (لا يَسْتَنْقِذُوهُ) أي لا تقدر هذه الأصنام على إنقاذ الشيء المسلوب (مِنْهُ) أي من الذباب ، فإن هذا مثل لعدم قدرة الآلهة المعبودة ، إذ المثل هو بيان مصداق لكلي ، فإذا قال الفاعل مرفوع ، ثم طلب منه المثل ، قال : كزيد ، في «قام زيد» وهنا كذلك ، فإن القاعدة هي أن هذه الآلهة ، لا تقدر على شيء ومثله : أنها لا تقدر على خلق ذباب ، ولا على إنقاذ شيء سلبه الذباب ، قال ابن عباس : كان المشركون يطلون أصنامهم بالزعفران ، فيجف فيأتي الذباب فيختلسه ، وهناك رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفصيل القصة ، وإذا كانت الأصنام بهذه المكانة ، من الضعف ، وعدم القدرة فكيف تتخذونها آلهة؟ (ضَعُفَ الطَّالِبُ) وهو المشرك الذي يعبد الصنم ، ويطلبه (وَالْمَطْلُوبُ) الذي هو الصنم ، وهنا أقوال أخرى.

[٧٥] (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظمه سبحانه هؤلاء المشركون حق عظمته ، حيث جعلوا الأصنام المنحوتة التي لا تقدر ، ولا تشعر شركاء له (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) ليقوى على كل شيء ، فكيف يجعل الصنم الضعيف شريكا له؟ (عَزِيزٌ) غالب على ما يريد ، فكيف يجعل الصنم المغلوب الذي لا يملك من أمره شيئا شريكا له؟

[٧٦] وإذ تبين ، أن الأصنام ليسوا شركاء لله ، لأنها بهذا العجز والضعف ، فليعلم الذين يعبدون الملائكة والأنبياء ، إنما يعبدون هؤلاء عبادا لله

اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ

____________________________________

اصطفاهم الله وكيف يكون العبد المصطفى شريكا مع الإله المصطفي (اللهُ يَصْطَفِي) ويختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى الأنبياء عليهم‌السلام كجبرائيل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكالملائكة الثلاثة الذين جاءوا إلى إبراهيم ولوط ، وهكذا (وَ) يصطفي (مِنَ النَّاسِ) رسلا ، كالأنبياء عليهم‌السلام (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (بَصِيرٌ) بأعمالهم ، فلا يختار أحدا ، يدعي الألوهية وهم تحت سمع الله وبصره ، لا يقدرون على مخالفة أمره ، ودعوة الناس إلى الاعتقاد بألوهيتهم.

[٧٧] (يَعْلَمُ) سبحانه (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما يقدمه الأنبياء والملائكة إلى الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) مما يدعون عند الناس من الشريعة ، والأخلاق وغيرها ، فهو محيط بهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أن الأمور كلها ، مرجعها إلى الله ليحكم فيها ، ويجازي العاملين عليها ، فهو القوي العزيز ، المختار ، السميع ، البصير ، العالم ، الحكم والمرجع ، فهل مثل هذا الإله يقاس بما سواه من الأصنام والملائكة والنبيين؟

[٧٨] وإذ ظهر أن الله هو الإله الوحيد ، فتوجهوا أيها الناس بالعبادة إليه وحده (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا) خضوعا لله سبحانه (وَاسْجُدُوا) لعظمته ، والمراد بهما الإتيان بالصلاة وكني عنها بهما ، وأما الركوع والسجود لاستحبابهما في أنفسهما (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بسائر أنواع

وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا

____________________________________

العبادة (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وهو جميع أنواع البر ، فإن كل فعل يأتي من الإنسان ، إما خير وإما شر ، وإما لغو ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بالفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

[٧٩] (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي في سبيله سبحانه ، ومن أجله (حَقَّ جِهادِهِ) أي بالكيفية التي يستحق الجهاد في الله إياها ، وهي بأن يكون الجهاد خالصا بكل ما أوتي الإنسان من قوة مادية أو معنوية ، والمراد بالجهاد إما القتال وإما مجاهدة الإنسان في تطبيق ما أمر الله سبحانه ، الذي يكون القتال مصداقا من مصاديقه (هُوَ) سبحانه (اجْتَباكُمْ) أي اختاركم لدينه ، فمن اللازم أن تؤدوا الأمانة التي حملها عليكم ورآكم أهلا لها ، وفضلكم ـ دون غيركم ـ بها (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وضيق فإن الجهاد الذي أمركم به هو دون قدرتكم وطاقتكم رأفة بكم ورحمة عليكم ، ولذا نرى أن جميع التكاليف ، أقل من طاقة الإنسان وقدرته ، الزموا (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي طريقته ، وعليكم بها (هُوَ) أي أن إبراهيم عليه‌السلام أو المراد به «الله» سبحانه (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) من قبل أن تكونوا (وَفِي هذا) القرآن ، أو في هذا الوقت أيضا سميتم «مسلمين» فأسلموا وسلموا حسب اسمكم ، وإنما اجتباكم ، وجعل الرسول فيكم ، وسماكم المسلمين ، وجعلكم ورثة إبراهيم

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)

____________________________________

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) يشهد على هذه الأمة بما عملت حيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائم على أموركم والمبين لمنهجكم ، والعالم الموجه القائم ، يكون الشاهد لمن استقام وعلى من انحرف (وَتَكُونُوا) أنتم أيها المسلمون (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) إذ المسلمون يوجهون الناس ، ويحددون سلوكهم ويكونون الناظرين لأعمالهم من استقام ومن انحرف ، وما ورد من أن المراد بذلك الأئمة عليهم‌السلام فهو من باب المصداق الظاهر الجلي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى وفي هذه الآية الكريمة أنواع من التأكيد والتشجيع لقيام المسلمين على حفظ الإسلام ونشره ، والجهاد في سبيله ، فالدين دين جدهم والتسمية تسمية إلههم ، وهم المختارون لهذه المهمة ، وليس فيه ضيق ولا حرج ، والرسول شاهد عليهم ، وهم مفوضون في البلاغ ، قوامون على الناس قد جعلهم الإله شهداء على البشر ، فما يمنعهم بعد هذه المرتبة الرفيعة ، أن يقوموا بواجب الجهاد؟ وبعد هذا كله (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وهذا كما تقول : أحسنت إليك ، فأدّ حقي (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوها (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) تمسكوا به سبحانه ، في كل أفعالكم ، فلا تحيدوا عن أوامره قيد شعرة (هُوَ مَوْلاكُمْ) سيدكم ، وهل يعرض الإنسان عن مولى مثل الله سبحانه ، ليتخذ سيدا غيره؟ (فَنِعْمَ الْمَوْلى) للبشر أجمع (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) فإنه ينصر أولياءه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وهل هناك مولى مثله يعطي حتى من عصاه ، أو نصير يشبهه بيده أزمة الكون والحياة؟

تقريب القرآن إلى الأذهان

الجزء الثّامن عشر

من آية (١) سورة المؤمنون

إلى آية (٢١) سورة الفرقان

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

(٢٣)

سورة المؤمنون

مكية / آياتها (١١٩)

سميت هذه السورة ب «المؤمنون» لافتتاحها بهذا اللفظ ، وذكر أوصاف المؤمنين فيها ، «المؤمنون» علم للسورة ، ولذا يغير إعرابها إضافة «السورة» إليها ، وهي كسائر السور المكية ، تعالج العقيدة وشؤون التوحيد وما إليه ، ولما أن ختم الله سبحانه سورة «الحج» بأمر المؤمنين بأفعال الخير افتتح هذه السورة بصفات المؤمنين الكاملين في الإيمان ، فقال سبحانه :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) استعانة باسم الله ، وابتداء بذكره الكريم ، ليكون فاتحة خير وتعليما للمسلمين ، كيف يبتدئون في أعمالهم ، وقد وصف بالرحم مكررا ، لأن الإنسان مجموعة عجز وضعف وانهيار ، وكل نقص ، وضعف فيه يحتاج إلى الرحم ، ليسده ويلمه ويرأبه.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥)

____________________________________

[٢] (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فازوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة ، فقد شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الآخرة في آخرتهم ، والمؤمن هو المصدق ، وإطلاقه في الشريعة منصرف إلى المصدق بوحدانية الله ، وبالرسالة ، وبالمعاد ، وبلوازم الكل.

[٣] ثم وصف سبحانه المؤمنين الكاملين بهذه الصفات التالية (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي إذا صلوا خشعوا وخضعوا ، فإن الصلاة حيث كانت ذكرا وتسبيحا وتقديسا ، ومكالمة مع الله سبحانه ، تقتضي أن يكون الإنسان في حالة خضوع ، فإنه يتكلم مع مالك الكون ، كيف لا ، والإنسان يخضع لملك عاجز ، ليس له من السطوة إلا ضئيلا!

[٤] (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) اللغو ، كل فعل أو قول ، أو تفكير ، لا فائدة فيها ، ومن سمات المؤمن الكامل الإيمان ، أن يعرض عن ذلك كله ، وما ورد في الأحاديث من تفسير اللغو ، بالغناء ، أو ما أشبه ، فإنه تفسير لبعض المصاديق (١).

[٥] (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي مؤدون معطون ، والمراد بالزكاة ، إما الصدقة الواجبة ، وإما مطلق الصلة والصدقة ، وهذا أنسب بكون السورة مكية ، لأن الزكاة المفروضة شرعت في المدينة.

[٦] (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) فلا يزنون ، ولا يلوطون ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٦ ص ٤٣.

إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ

____________________________________

ولا يستمنون ، ولا يمكنون أحدا من أنفسهم ، فإن الفرج اسم للعورتين.

[٧] (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي نسائهم دائمة كانت ، أو محللة ، أو منقطعة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء ، ونسب الملك إلى الأيمان ، لأن اليمين هي العضو الفعالة في الاكتساب فكأنها هي المالكة ، من باب علاقة السبب والمسبب أو الكل والجزء ، والغرض بيان جنس المحللة ، فلا ينافي ذلك وجوب اجتنابهن في حال الحيض والصيام والإحرام وما أشبه ، كما أن العكس يستفاد من الآية ، فيجوز للزوجة والأمة ، بالنسبة إلى الرجال ما يجوز لهم بالنسبة إليها ، وبقي ملك المرأة للعبد خارجا عن المنطوق ، وعن اللازم (فَإِنَّهُمْ) أي الرجال بعدم حفظ فروجهم بالنسبة إلى الزوجة ، وملك اليمين (غَيْرُ مَلُومِينَ) أي لا يلامون ، وكان الإتيان بهذه العبارة للمقابلة ، فإن الذي لا يحفظ بالنسبة إلى غيرهما يلام ، ومن لا يحفظ بالنسبة إليهما لا يلام.

[٨] (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب ، وقد أطلق «الابتغاء» وأريد به «العمل» وقد تقدم ، أن كلا من «الإرادة» و «الفعل» يستعمل بمعنى الآخر (وَراءَ ذلِكَ) الذي ذكر من حلية الأزواج والمملوكات (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المتعدون لحدودهم المتجاوزون الشريعة.

[٩] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) أضيفت الأمانة إليهم ، لأنهم محل إيداعها ،

وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)

____________________________________

ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة (وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون موفون ، فإذا عاهدوا عهدا بالنسبة إلى الأمور الدينية ، كالمعاهدة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عاهدوا بالنسبة إلى سائر المعاملات ، كالعقود ، وفوا بها.

[١٠] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيقيمونها في أوقاتها بدون تضييع لها ، مع آدابها وشرائطها ، وقد كرر ذكر الصلاة لما لها من الأهمية ، ولبيان أمرين ، الأول الخشوع فيها ، والثاني المحافظة عليها.

[١١] (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) والوارث هو الذي ينتقل إليه شيء من آخر ، والمراد به هنا إما إطلاقا ، ويكون قوله «الذين يرثون» بيانا لمصداق من مصاديق إرثهم ، والمراد حينئذ ، إن الخيرات كلها لهم سواء في الدنيا ، أو في الآخرة ، وأما خصوص ما بيّن في قوله «الذين» فكأن المراد أن هؤلاء كانت لهم الدنيا غير قابلة ، حتى أنها لا تكون عوضا لأتعابهم وأعمالهم ، وإنما الجزاء الوافي هو الفردوس ، فهم.

[١٢] (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) يصيرون إليها ، بعد الأحوال المتقدمة في الحياة ، كما يصير الوارث إلى ما تركه أقرباؤه ـ بلطف في عكس التشبيه ـ والفردوس ، هي البستان الجميل ، والمراد بها هنا درجة من درجات الجنة (هُمْ) أي هؤلاء الذين وصفوا بتلك الأوصاف (فِيها) أي في الفردوس ، وهي مؤنث مجازي (خالِدُونَ) دائمون باقون أبد الآبدين.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ

____________________________________

[١٣] ثم يأتي السياق ليعد منن الله على البشر ، ولطفه بهم ، مما ينبغي أن يطيعوا أوامره ، ويكونوا كما وصفهم في الآيات المتقدمة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي كل فرد من أفراده (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) السلالة ، اسم لما يسل من الشيء ، فإن الإنسان في ابتداء خلقه يسل ويخرج من التراب النظيف ، إذ هو الذي يتبدل نباتا ، ولذا سمي طينا ، لأن التراب ما لم يخلط بالماء لا يكوّن نباتا.

[١٤] (ثُمَ) بعد جعل التراب نباتا ، صار حيوانا مأكولا ، أو أكله إنسان فصار دما في جسمه ، وبعد ذلك (جَعَلْناهُ) أي ذلك الإنسان ، الذي نريد تكوينه (نُطْفَةً) وهي المني إذا استقر في الرحم (فِي قَرارٍ) أي مستقر (مَكِينٍ) ذي تمكن على حفظها وتربيتها.

[١٥] (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) شبيه بالدم المنجمد (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) كقطعة لحم قد مضغت بالأسنان (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) وحيث إن العظام هي العنصر الأشد في الحياة ، خصصت بالذكر ، وإلا فالعلقة تكوّن الأعضاء الأصلية للإنسان ، لا العظام فقط (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) كاللباس الذي يلبس على الجلد (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) فقد نفخ فيه الروح الإنساني ، الذي هو من قسم آخر من الخلق ، ليس كالخلق المادي الحيواني ، والنباتي والجمادي (فَتَبارَكَ اللهُ) أي تعالى

أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)

____________________________________

ودام خيره (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) والخلق يطلق على الصنع ، فالنجار خالق الباب ، والبناء خالق القصر والله سبحانه أحسن الخالقين ، إذ لا يمكن لأحد من هذا النحو من الخلقة.

[١٦] (ثُمَّ إِنَّكُمْ) أيها البشر من (بَعْدَ ذلِكَ) الخلق التام (لَمَيِّتُونَ) تخرج أرواحكم ، لتبقى أجساد بلا أرواح حينما تنتهي آجالكم في الدنيا.

[١٧] (ثُمَّ إِنَّكُمْ) أيها البشر (يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) أي تقومون من قبوركم للحساب والجزاء.

[١٨] وبعد بيان المبدأ للإنسان ومعاده ، يأتي السياق ليبين مننه سبحانه عليه في هذه الحياة (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) أيها البشر (سَبْعَ طَرائِقَ) المراد بها السماوات السبع ـ ظاهرا ـ وقد تقدم إن علماء الفلك المسلمين يقولون : إن المراد بالسماوات ، مدارات الأفلاك ، مؤيدين نظريتهم بالرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، وبعض الشواهد الأخرى ، وكونها فوقنا ، باعتبار ما نحس ، وإن كانت الأرض في الحقيقة ، نجمة كسائر النجوم ، وطرائق جمع طريقة ، وإنما سمى السماء بها لتطارقها ، أي كون بعضها فوق بعض (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) ولعل الإتيان بهذه الجملة هنا ، لما يتبادر إلى الذهن البدائي ، من أن المربي الخالق لهذا الكون العظيم لا مجال له ـ عند ذلك ـ لمراقبة الناس وأعمالهم ، فهو يغفل عنهم كما يغفل الملك الكبير ملكه عن خصوصيات الناس وأعمالهم ، لكنه سبحانه ليس كذلك ، فيتساوى عنده كل معلوم صغيرا

وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ

____________________________________

كان أم كبيرا ، ولا يشغله شأن عن شأن.

[١٩] (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) جهة العلو ، وهذا مرتبط بخلق سبع طرائق (ماءً) وهو المطر (بِقَدَرٍ) ولا يخفى ما في هذا اللفظ من اللفظ ، فإن الإنسان البدائي الذهن ، حيث يرى كثرة المطر ـ يظن أنه ليس تحت حساب وتحديد ، ولذا جاء هذا اللفظ هنا لينبه على ذلك ، وإن المطر مهما كثر فهو بقدر وحد محدود معلوم لديه سبحانه (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا له مسكنا ، فإن ماء المطر هو الذي يتسرب إلى باطن الأرض ، ليجري من الثقوب الأرضية والجبلية عيونا وأنهارا (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) أي أن نذهب هذا الماء المسكون في الأرض (لَقادِرُونَ) بأن نسربه في الأغوار العميقة ، حتى لا ينتفع به الإنسان ، أو نبخره في الجو ، أو نعدمه إعداما مطلقا ، فإن من يقدر على إيجاد المعدوم ، قادر على إعدام الموجود.

[٢٠] لكنا لم نفعل ذلك حتى تهلكوا ، ويهلك الحيوان والنبات ، بل تفضلنا عليكم فوق ذلك (فَأَنْشَأْنا) أو جدنا واخترعنا (لَكُمْ) أيها البشر (بِهِ) أي بسبب هذا الماء (جَنَّاتٍ) بساتين ، وسمي البستان جنة ، لأن أشجارها تجن وتستر أرضها (مِنْ نَخِيلٍ) جمع نخل ، وهو شجر التمر (وَأَعْنابٍ) جمع عنب ، والمراد به الكروم بعلاقة الحال والمحل (لَكُمْ) أيها البشر (فِيها) أي في تلك الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) جمع فاكهة ، وهي الثمرة ، سميت بها لأن الإنسان يتفكه بها ، والمراد أنواع

وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ

____________________________________

الفواكه المختلفة ، وكان تخصيص النخل والعنب ، لكثرتهما في هذه البلاد وعموم الانتفاع بهما (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي من البساتين تأكلون مختلف أنواع الرزق مباشرة ، أو بواسطة بيع وإيجار وصرف الثمن والأجرة في سائر الأرزاق.

[٢١] وأنشأنا لكم بذلك المطر (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) والمراد بها شجرة الزيتون و «سيناء» اسم الموضع الذي به «جبل طور» قرب الشام ، ولعله إنما حضر هذا المحل مع عموم الزيتون في كثير من الأماكن لجودة زيتونها ، واشتهارها لدى المخاطبين بالقرآن الحكيم ، كما أن تخصيص الزيتون من بين الثمار بالذكر لنفعه العام في كثير من الحوائج (تَنْبُتُ) هذه الشجرة (بِالدُّهْنِ) أي مصاحبة للدهن ، فإن الزيتون قطعة من الدهن المنجمد ، ولذا يعصر منه الزيت (وَصِبْغٍ) عطف على «الدهن» (لِلْآكِلِينَ) والمعنى أن هذه الشجرة تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه أداما يصبغ فيه الخبز ، أي يغمس فيه للائتدام ، وسمي الإدام صبغا ، لأنه يصبغ الخبز بلونه.

[٢٢] (وَإِنَّ لَكُمْ) أيها البشر (فِي الْأَنْعامِ) جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي اعتبارا ودلالة دالة على وجود الله سبحانه وعلمه وقدرته (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) أي أجوافها من اللبن الطيب المذاق (وَلَكُمْ فِيها) أي في الأنعام (مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) فتركبون على الإبل ،

وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ

____________________________________

وتحرثون بالبقر ، وتضخون الماء بهما ، وتنتفعون بأشعارها وجلودها ولحومها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي من بعضها ، وهو اللحم والشحم وما أشبه ، أو المراد بالأكل الانتفاع والتكسب بهما.

[٢٣] (وَعَلَيْها) المراد به الإبل خاصة (وَعَلَى الْفُلْكِ) في البحر (تُحْمَلُونَ) فأحدهما للبر ، والأخر للبحر ، كما قال سبحانه ، (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (١) وقد خصص سبحانه هاتين المنفعتين بالذكر لعمومهما ، وكثرة الاحتياج إليهما.

[٢٤] ثم يأتي السياق ليبين الرسالة ، وبلاغ الرسل ، في عقب بيان الأدلة الكونية ، فقد كان شأن الرسل أن يلفتوا الناس إلى تلك الأدلة الكونية التي سبق بعضها ، ليؤمن الناس بالإله الخالق المنعم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) ليدعوهم إلى عبادة الله وإطاعة أوامره (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) آمنوا به وأطيعوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فهذه الأصنام التي تعبدونها ليست بآلهة ، وإنما الله إله واحد (أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهام إنكاري ، أي ألا تخافون عقاب الله في ترك الإيمان؟

[٢٥] (فَقالَ الْمَلَأُ) أي الأشراف ، وسموا ملأ لأنهم يملئون العيون أبهة ، والصدور هيبة (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) بعضهم لبعض

__________________

(١) الإسراء : ٧١.

ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا

____________________________________

ما هذا الذي يدعوكم ، وهو نوح (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فليس برسول ، فإنهم كانوا يزعمون أن الرسول لا يمكن أن يكون بشرا (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي إنما يدعي النبوة لتطيعوه ، فيترأس عليكم ، وتكونوا أنتم من أتباعه ، فيصير له كيان ورئاسة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) إرسال رسول إلى البشر (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) للإرشاد والإنذار ، لا أن يرسل بشرا (ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يدعو إليه نوح من وحدة الإله ، وإنه رسول الله (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي فيالأمم الماضية أن ينبري أحدهم ، فيدعي الرسالة ، ويدعو الناس إلى إله واحد.

[٢٦] (إِنْ هُوَ) ما هو (إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون ، وما هذه الدعوى التي يدعيها ، إلا من آثار ذلك الجنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) انتظروا بنوح (حَتَّى حِينٍ) يأتيه الموت فتستريحوا منه ، أو المعنى انتظروا به حتى يفيق ، ويذهب جنونه فيرجع عن دعواه.

[٢٧] ولما أن رأى نوح إصرار القوم على التكذيب وعدم الإيمان (قالَ) يا (رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم (بِما كَذَّبُونِ) بسبب تكذيبهم إياي ، كأنه العلة في نصرة الله ، إذ لو لا التكذيب لم يحتج إلى نصرة الله تعالى.

[٢٨] (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) هو مفرد على وزن قفل (بِأَعْيُنِنا) أي

وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا

____________________________________

إنك تحت نظرنا ومراقبتنا كالكبير الذي يقول لغيره : افعل كذا ، فأنت مدّ نظري لا يصل إليك أحد بسوء ، وأعين جمع عين ، ومن القاعدة أن يأتي بالجمع ما في الإنسان مثنى ، أو باعتبار أن الكبير يتكلم بنحو الجمع دلالة على اشتراكه لمن معه في الرأي (وَوَحْيِنا) فإنا نوحي إليك كيفية صنعها (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاك القوم ، غرقا في الماء (وَفارَ التَّنُّورُ) الذي كان علامة لابتداء العذاب وورد أنه تنور في مسجد الكوفة جعله سبحانه علامة لابتداء الغرق ، حتى إذا رأى نوح إنه يفور ماء يركب السفينة ، ويحمل المؤمنين والحيوانات فيها لينجوا جميعا من الغرق (فَاسْلُكْ فِيها) أي ادخل في السفينة من سلك بمعنى مشى في الطريق ، كأنهم يتخذون طريقهم في السفينة (مِنْ كُلٍ) أي من كل نوع من أنواع الحيوانات (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى ، وليس ذلك مستبعدا بالنسبة إلى قدرة الله سبحانه ، وإن استبعده بعض ، قالوا : كيف يمكن إدخال أهلك وعائلتك في السفينة (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بأنه يهلك في الهالكين (مِنْهُمْ) أي من أهلك ، وهو ولده كنعان الذي سبق من الله سبحانه أن قال يغرق لعمله الفاسد ، وحيث كان المقام أن يطلب نوح ـ حسب الرقة البشرية ـ نجاة الناس من الغرق ، نهاه سبحانه عن ذلك مقدما بقوله (وَلا تُخاطِبْنِي) أي لا تتكلم معي يا نوح (فِي) أمر (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والعصيان ، بأن

إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)

____________________________________

تتوسط في عدم إهلاكهم ف (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) لا محالة ورقة نوح عليه‌السلام في ذلك الحين ، لا ينافي دعائه بإهلاكهم قبلا ، فإن للإنسان في حال البلاء رقة عاطفية.

[٢٩] (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) أي ركبت ، وأخذت مكانك واستقرارك (أَنْتَ) يا نوح (وَ) استوى (مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي السفينة (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا) وخلصنا (مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان.

[٣٠] (وَقُلْ) يا (رَبِّ أَنْزِلْنِي) من السفينة بعد أن جف الماء على الأرض ، (مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي إنزالا مع بركة ويمن لكي نعمر الأرض من جديد ، و «منزل» مصدر ميمي (وَأَنْتَ) يا رب (خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) إذ أنت القادر على أن تبارك في الإنزال ، وتكفي الإنسان شر الآفات دون سواك ، ممن ينزل الإنسان منزلا.

[٣١] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من قصة نوح مع قومه (لَآياتٍ) دالّات على الشؤون المرتبطة بالإله والرسالة (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) «إن» مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن محذوف ، أي إنه كنا نحن مختبرين للعباد ، بإرسال الرسل ، حتى إذا لم يؤمنوا أهلكناهم ، وهذا شبه تهديد للكفار بأنهم إن لم يؤمنوا كان مصيرهم مصير أولئك في تعميمهم بعذاب الله.

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

____________________________________

[٣٢] (ثُمَ) بعد إهلاك أولئك (أَنْشَأْنا) أوجدنا وأحيينا (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي جماعة وأمة ، وإنما سمي قرنا ، لاقتران بعضهم ببعض في الزمان ، ولعل المراد قوم صالح ، لقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) (١) فإنها أخذت قوم صالح «كما سبق».

[٣٣] (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من أنفسهم ، فلم يكن ملكا ، ولا من غير قومهم ، وهو صالح ، فقال لهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ليس لكم إله غير الله ، فهذه الأصنام التي تعبدونها باطلة (أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهام إنكاري ، أي ألا تخافون عذاب الله؟

[٣٤] (وَقالَ الْمَلَأُ) جماعة الأشراف (مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قوم صالح (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي قالوا إنهم لا يلاقون الآخرة ، لاعتقادهم بعدم وجود الآخرة (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أنعمنا عليهم في هذه الحياة ، وكأن الإتيان بهذا الوصف للدلالة على سوء صنيعهم حيث بدلوا النعمة كفرا ما هذا الذي يدعي الرسالة ، وهو صالح (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فكيف يمكن أن يكون رسولا؟ بزعمهم إن الرسول

__________________

(١) الحجر : ٧٤.

يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا

____________________________________

يجب أن يكون ملكا (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ) من أنواع الطعام (مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) من الأشربة ، فما فضله عليكم حتى يكون رسولا؟.

[٣٥] (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ) أيها القوم (بَشَراً مِثْلَكُمْ) في جميع المزايا البشرية (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) قد خسرتم عقولكم باتباع بشر ، وإسلاس قيادكم إليه ، ولم يعرف أولئك إن الرسالة ، إنما تتبع المزايا النفسية ، التي هي متوفرة في صالح دونهم.

[٣٦] ثم أخذ القوم يستغربون من دعوته ، وإن هناك معادا يحيون فيه ليحاسبوا (أَيَعِدُكُمْ) أي كيف يعدكم صالح (أَنَّكُمْ) أيها القوم (إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) بأن تساقطت لحومكم ، حتى صارت ترابا ، وبقيت العظام المجردة (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من قبوركم ، أحياء للحساب والجزاء.

[٣٧] (هَيْهاتَ) اسم فعل يعد يؤتى به لاستبعاد الأمر (هَيْهاتَ) كرر تأكيدا (لِما تُوعَدُونَ) اللام للبيان ، أي بعيد في العقل ما يعدكم صالح من الإحياء بعد الموت ، لا يمكن أن يكون ذلك.

[٣٨] (إِنْ هِيَ) أي ليست الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي القريبة التي نحن

نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ

____________________________________

فيها (نَمُوتُ) في هذه الحياة (وَنَحْيا) في هذه الحياة ، فالحياة والموت مخصوصان بهذه الحياة ، فلا حياة بعد الموت ، وإنما قدم «نموت» لأن الموت أمامهم ، حيث جاءوا إلى الحياة (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد ذلك إلى عالم آخر.

[٣٩] (إِنْ هُوَ) أي ليس صالح رسولا ، وإنما هو (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الافتراء يلازم الكذب ، وإنما جاء «كذبا» لتأكيده ، ولأن أصل الافتراء من الفري ، بمعنى القطع ، كأن المفتري يقطع كلاما من الكلمات المكذوبة ، ثم ينسبه إلى المفترى عليه (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) مصدقين كلامه فيما يقول.

[٤٠] (قالَ) صالح عليه‌السلام يا (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) بتكذيبهم ، أي بسبب أنهم كذبوني فانصرني عليهم.

[٤١] (قالَ) الله سبحانه في جواب دعاء صالح (عَمَّا قَلِيلٍ) «ما» زائدة يؤتى بها لقصد القلة ، أي بعد زمان قليل (لَيُصْبِحُنَ) القوم (نادِمِينَ) يندمون على الكفر والعصيان ، حين يأخذهم العذاب.

[٤٢] فلما تمادوا في كفرهم وعصيانهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبرائيل عليه‌السلام ، فقد صاح بهم صيحة أخذت ألبابهم ، وأزهقت أرواحهم (بِالْحَقِ) أي كان باستحقاقهم ، إذ الكفر والعصيان يعقبهما

فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ

____________________________________

الهلاك والدمار (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) الغثاء ما يحمله السيل ، من يابس النبات ، وقصب وعيدان وما أشبه ، والمعنى جعلناهم أجسادا هامدة قد يبسوا كما يبس الغثاء ، ملقون بغير إكرام ولا احترام (فَبُعْداً) أي أبعدهم الله عن رحمته ، وطردهم عن كل خير (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان.

[٤٣] (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد هؤلاء (قُرُوناً آخَرِينَ) أمما ، وأهل أعصار ، وجماعات آخرين ، فكان القوم كلما عصوا وعتوا أخذناهم بالعذاب وأهلكناهم وجئنا بقوم آخرين مكانهم.

[٤٤] أما ما يطلب هؤلاء الكفار من تعجيل العذاب عليهم ، فقد كانوا يطلبون من الرسول ـ على وجه الاستهزاء ـ أن يعجل عليهم العذاب إن كان صادقا ، فإن العذاب لا يأتي إلا في وقته الذي حدده الله سبحانه له ، لا يتقدم ولا يتأخر (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) أي لا تسبق أية أمة من الأمم (أَجَلَها) بأن تهلك قبل إتيان الوقت المحدد لها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يطلبون تأخير الأجل ، بأن يتأخر عن الوقت المحدد له والمراد بعدم طلبهم للتأخير ، إن طلب التأخير لا ينفع ، فعبر عما لا ينفع فيه بالعدم ، كما يعبر عن الرجل الذي لا ينفع فيه بأنه ليس برجل.

[٤٥] (ثُمَ) من بعد صالح (أَرْسَلْنا) إلى الأمم (رُسُلَنا تَتْرا) من المواترة ، وهي أن يتبع البعض البعض بدون فصل ، فقد كانت الأنبياء يأتي بعضهم بعقب الآخر إتماما للحجة ، وتوضيحا للمحجة (كُلَّ ما جاءَ

أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا

____________________________________

أُمَّةً رَسُولُها) الرسول فاعل ، والأمة مفعول (كَذَّبُوهُ) ولم يقروا بنبوته (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أتبعنا هلاك بعض الأمم بإهلاك بعضهم السابقين ، فجيء الرسول ، وتكذب الأمة فتهلك ، ثم فيجيء رسول آخر ، فتكذبه الأمة التالية فتهلك ، وهكذا (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث الناس عنهم على طريق المثل في الشر ، قالوا : وهو جمع أحدوثة ، ولا يقال هذا في الخير ، والمعنى إنا أفنيناهم حتى لم يبق بين الناس إلا حديثهم ، بعد أن كانوا أمما لها الوجود والكيان (فَبُعْداً) عن رحمة الله وفضله (لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) إنهم طردوا عن الرحمة كما أهلكوا وطردوا عن الحياة.

[٤٦] (ثُمَ) من بعد أولئك الرسل (أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) أي بدلائلنا وحججنا (وَسُلْطانٍ) برهان (مُبِينٍ) واضح ظاهر ، ولعل المراد بالسلطان الحجة المنطقية ، وبالآيات المعجزات الخارقة.

[٤٧] (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي جماعته ، أو أشراف قومه ، وخصوا بالذكر لأنهم إن آمنوا تبعهم الناس ، فكان التوجه الأولي إليهم (فَاسْتَكْبَرُوا) تكبروا عن قبول الحق (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) فقد علوا واتخذوا الناس خولا لهم.

[٤٨] فمن كبرهم وعلوهم قالوا (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) أي كيف

وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ

____________________________________

نصدق إنسانين ـ هما موسى وهارون ـ في حال كونهما مثلنا خلقة؟ إذ كيف يمكن أن يكون البشر رسولا على بشر مثله؟ (وَقَوْمُهُما) أي والحال أن قوم هذين ـ وهم بنو إسرائيل ـ (لَنا عابِدُونَ) يعبدوننا ويطيعوننا ، إنهما وقومهما لنا تبع ، فكيف نؤمن بهما؟

[٤٩] (فَكَذَّبُوهُما) أي كذب فرعون وقومه موسى وهارون (فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) الذين أهلكوا بتكذيبهم للرسل ، حيث أغرقوا في البحر حتى لم يبق منهم أحد ، وقد كان الغرق خاصا بفرعون وجنوده الذين اتبعوا موسى ، أما سائر أهل مصر فقد كانوا فيها لم يهلكوا.

[٥٠] (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى) عليه‌السلام ، بعد إهلاك فرعون وخروجهم من أرض مصر (الْكِتابَ) التوراة (لَعَلَّهُمْ) أي لعل بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى (يَهْتَدُونَ) إلى الحق والصواب.

[٥١] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) أي المسيح عليه‌السلام (وَأُمَّهُ) مريم الطاهرة عليها‌السلام (آيَةً) خارقة في جميع شؤونها ، فقد حملت بعيسى من غير زوج ، ونطق عيسى بالكتاب وهو طفل في المهد ، إلى سائر الخوارق ، وحيث إن أحدهما كان متشابكا مع الآخر في المزايا ، عبر عنهما جميعا ب «آية» ولم يقل «آيتين» (وَآوَيْناهُما) أي المسيح ومريم ، والإيواء إعطاء المأوى وهو المنزل (إِلى رَبْوَةٍ) هي الموضع المرتفع من الأرض ، وفيه فضل طيب الهواء ، وعدم تسرب الأوساخ إليها ، وقربها من أشعة

ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ

____________________________________

الشمس إلى غير ذلك ، وقد اختلف في موضع الربوة ، وفي بعض الأحاديث أن المراد بها النجف ، ولعل ذلك بعد ولادتها له مباشرة (ذاتِ قَرارٍ) أي لم تكن الربوة موضعا صغيرا كالتل ، وإنما ربوة فسيحة يتمكن الإنسان من القرار فيها ، أو كونها ذات قرار باعتبار ما فيها الثمار والأشجار ، فيتمكن الإنسان من القرار فيها (وَمَعِينٍ) أي ذات ماء جار على وجه الأرض ظاهر طيب.

[٥٢] وبعد هذا يأتي الخطاب للرسل ، وكأنهم مجتمعون في مكان وزمان ليبين وظيفتهم العامة ، بعد بيان أنهم يلازمون الطبيعة البشرية في الأكل وسائر لوازمه (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) فأنتم بشر ، لا كما يزعمه الكفار ، بأن الرسل يجب أن يكونوا من غير جنس البشر ، فلا يأكلون الطعام ولا يمشون في الأسواق ، وإنما فرق الرسل من غيرهم ، إن الرسل لا يأكلون إلا الطيب ، أما غيرهم فيأكلون الخبيث والطيب ـ إن لم يهتدوا بهدى المرسلين ـ (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي العمل الصالح ، ولازمه عدم العمل الفاسد (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ) أيها الرسل (عَلِيمٌ) فلا يحق أكل غير الطيب ، والعمل غير الصالح ، فإنكم بعين الله سبحانه.

[٥٣] (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أيها الرسل ، وقد جعل مجموع الأمم ، كأمة واحدة للرسل جميعا ، لأن للرسل رسالة واحدة إلى مجموع البشر ، وإنما الاختلاف جاء من قبل الناس الذين كدروا صفو الأديان والمذاهب (أُمَّةً واحِدَةً) حال من «أمتكم» (وَأَنَا رَبُّكُمْ) فالرب واحد ، والرسالة

فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ

____________________________________

واحدة ، والأمة واحدة ، والمنهاج هو استعمال الطيب ، والعمل الصالح (فَاتَّقُونِ) أي اتقوني فلا تخالفوا أمري.

[٥٤] لقد كانت الرسل كتلة واحدة لهم رسالة واحدة ومنهج واحد ، ولهم أمة واحدة ، ولكن الناس لم يبقوا على تلك الوحدة (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي جعلوا دينهم الواحد قطعة قطعة ، كل جماعة أخذت بقطعة منه ، ولقد كان هذا التقطيع بينهم لا يرتبط بالرسل (زُبُراً) أي كتبا ، جمع زبور وهو الكتاب ، من زبره ، بمعنى كتبه ، أي أن كل أمة تمسكت بكتاب واحد ونبذت سائر الكتب ، كاليهود الذين نبذوا الإنجيل والقرآن والنصارى الذين نبذوا القرآن (كُلُّ حِزْبٍ) وأمة (بِما لَدَيْهِمْ) من الدين (فَرِحُونَ) راضون مع إنه سبحانه لم يشرع إلا حزبا واحدا وأمة واحدة.

[٥٥] (فَذَرْهُمْ) اتركهم يا رسول الله (فِي غَمْرَتِهِمْ) أي غفلتهم ، وإنما سميت الغفلة والضلالة غمرة ، لأنها تغمرهم كالماء الذي يغمر الإنسان ، فكأنهم مغمورون في الضلالة ، مغرقون فيها (حَتَّى حِينٍ) ينقضي أجلهم ويأتيهم الموت أو العذاب.

[٥٦] ثم ذكر سبحانه إن ما يرون هؤلاء الكفار من أصناف النعم في هذه الحياة ليست تكريما لهم ، وإنما هي فتنة واستدراج (أَيَحْسَبُونَ) هل يظن هؤلاء (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) «ما» موصولة ، أي أن الشيء الذي نزيده

مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)

____________________________________

ونعطيه لهم (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) يكون إكراما لهم.

[٥٧] ف (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) وإنها جزاء أعمالهم وثواب ما يأتون من الكفر والعصيان ، كلا ، ليس كذلك (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) إنها استدراج وفتنة ليزيد طغيانهم ويبلغوا أجلهم ، وقد تمت عليهم الحجة ، وليستحقوا العقاب الأبدي ، ولعل الإتيان من باب المسارعة لكون الأصل في أعمال الخير أن يتسارع الناس إليها ، ثم استعمل اللفظ في كل عمل خيري ، وإن لم يكن هناك طرف آخر ، كما قال سبحانه : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١).

[٥٨] وإذ بين سبحانه أحوال الكفار ، ألمح إلى أحوال الأخيار (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ) أي خوف وعقاب (رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ووجلون ، وكأن الخشية شيء مرتبط بالطرفين الخائف والمخوف منه ، ولذا صح «من خشية .. مشفقون» فلا يقال : إن الإشفاق ليس من الخشية ، وإنما من نفس المخوف منه؟ حتى يحتاج إلى أن يتكلف لتصحيحة ، بأن المراد الإشفاق من هذا القسم ، لا من سائر أقسامه كالخوف من المرض والعدو والفقر وما أشبه.

[٥٩] (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي بأدلته الكونية وحججه التي يأتي بها الأنبياء (يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون.

__________________

(١) آل عمران : ١٣٤.

وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)

____________________________________

[٦٠] (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) وإنما ذكر هذا عقب الإيمان بالله ، إذ من الممكن أن يؤمن أحد بالله ، ومع ذلك يؤمن بالأصنام أيضا ، كما كان المشركون كذلك إذ يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) ولعل الإتيان ب «هم» بعد «الذين» لتأكيد تصبيغهم بلون خاص ، ف «هم» لا يخالطون بمن سواهم ، فإن التركيز على هذه الخصوصية ، لا يأتي بمجرد «الذين».

[٦١] (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا من المال (وَ) الحال أن (قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي خائفة مضطربة ، أن لا تقبل نفقاتهم وصدقاتهم ، فلا يرون فوائدها حيث يعلمون (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) فإن الإنسان المؤمن بالحساب والجزاء خائف من أعماله بأنها لا تقبل ، بخلاف غير المؤمن إذ لا يهمه عدم قبولها «فإنهم» في موضع العلة ، أي أن علة الخوف كونهم يبعثون إلينا لنحاسبهم.

[٦٢] (أُولئِكَ) المتصفون بتلك الأوصاف (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى الطاعات ويسابقون إليها (وَهُمْ لَها) أي للخيرات (سابِقُونَ) إما المراد أنهم يسابقون إليها ، فيكون تأكيدا للجملة السابقة ، أو المراد أنهم سابقون لأخذ تلك الخيرات في الجنة ، فالخيرات لهم حيث عملوا بها ، لا للكفار الذين قلوبهم في غمرة ،

__________________

(١) الزمر : ٤.

وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)

____________________________________

ويظنون إنا (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ).

[٦٣] إن ما نطلبه من المؤمنين من الإيمان والعمل الصالح ، ليس فوق طاقاتهم ، حتى يكون للكافر عذر في عدم الإيمان (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي بالمقدار الذي تسع النفس له من التكاليف (وَ) ثم إن ما يعمله المؤمن ، لا يذهب أدراج الرياح بل (لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يكتب فيه كل عمل صالح عمله الإنسان ، ليجزي عليه بأفضل مما عمل ، واستعمال «النطق» في الكتاب مجاز أريد به الإبراز والإظهار ، لشبهه بالنطق الذي يكون به إبراز ما في ضمير الإنسان ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب «اللوح» وقد ورد أن اللوح و «القلم» ملكان ، فيكون المنطق حقيقة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بأن يثبت في الكتاب لهم سيئة لم يعملوها ، أو لا يثبت طاعة قد عملوها.

[٦٤] إن الكفار والعصاة لم ينحرفوا لصعوبة التكليف ، أو خوف أن ينقص من حسناتهم ويظلمون (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) وغفلة مطبقة تغمرهم (مِنْ هذا) الكتاب ، أو من هذا الذي أرسلنا به الرسول ، من مجموع الشريعة والعقيدة (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) رديئة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) الذي أنزلناه وأمرنا به (هُمْ لَها) أي لتلك الأعمال (عامِلُونَ) فهم في غفلة ، وأعمالهم على غير هذا النحو ، وهذا سبب إعراضهم عن الحق لا صعوبة التكليف ولا خوف أن يظلموا فلا يصلهم جزاء حسناتهم ـ إن عملوها ـ.

حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)

____________________________________

[٦٥] وقد تمادى هؤلاء الكفار في غيهم وضلالهم (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) وهم المتنعمون منهم (بِالْعَذابِ) والاختصاص بهم ، لأنهم ، هم مورد الكلام ، وسبب إضلال الناس ، وطبيعي ، أن يأخذ العذاب سائرهم ، فإن العذاب إذا جاء عم (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يضجون لشدة العذاب ويجزعون ، قال «جأر» إذا رفع صوته مستغيثا ، وقد ورد في مصداق من مصاديق هذا العذاب ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا على الكفار ، فقال : اللهم أشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فابتلاهم بالقحط ، حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقذر ، والأولاد (١).

[٦٦] فيقال لهم حينذاك (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) ولا تضجوا (إِنَّكُمْ مِنَّا) أي من جهتنا وطرفنا (لا تُنْصَرُونَ) فإن العذاب لا محالة نازل بكم حتى يلحقكم بالنار.

[٦٧] هل نسيتم أعمالكم السابقة؟ وكلما كان يقال لكم : أقلعوا وتوبوا ، كنتم سادرين في غيكم لا تعيرون الدعوة أي بال؟ فل (قَدْ كانَتْ آياتِي) الدالة على التوحيد ، وسائر الشؤون الدينية (تُتْلى عَلَيْكُمْ) تقرأ على مسامعكم (فَكُنْتُمْ) أيها الكفار الذين أخذكم العقاب (عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي تدبرون وترجعون القهقرى ، فإن الإنسان

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ١٢٨.

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)

____________________________________

الراجع نحو خلفه يضع عقب قدمه أولا على الأرض ، بخلاف الإنسان المقبل الذي يضع صدر قدمه أولا عليها ، والنكوص رجوع القهقرى ، وهو أقبح أقسام المشي ، فقد شبه الإنسان المعرض عن الحق بالذي يتقهقر إذا سمع الحق ، كأنه يريد الفرار ، مع أن يكون رائيا له ، حتى يغالي في الاستهزاء والاستنكار.

[٦٨] في حال كونهم (مُسْتَكْبِرِينَ) متكبرين عن قبول الحق (بِهِ) أي بسبب ما يتلى عليهم من الإيمان ، فإن المعاند إذا سمع الحق زاد كبرا وعتوا (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تقولون الهجر ـ وهو الكلام البذيء ـ حول الرسول والرسالة ، في لياليكم إذا تسمرون ، والسمر هو التحدث ليلا ، والإتيان ب «سامر» مفردا مع أنه وصف للجميع ، باعتبار كل واحد ، وفيه تفنن في الألفاظ مفردا وجمعا ، وهو نوع من البلاغة ، ويحتمل أن يكون «به» متعلقا ب «تهجرون» أي تهجرون بما يتلى عليكم ، وعلى كل فهذا إشارة إلى ما كان فيه كفار مكة ـ كما هو عادة كل كافر في كل زمان ـ أن يسامرون حلقا حلقا ، فكان من حديثهم الطعن والاستهزاء ، بالقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٦٩] (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) الذي أنزل إليهم ، حتى يعرفوا صدقه؟ (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)؟ فرأوه شيئا جديدا ، والناس لا يذعنون للشيء الجديد ، فلقد أرسل الله تعالى إلى البشر أنبياء قبل الرسول ، كموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام ، وإبراهيم عليه‌السلام ، وغيرهم ، فما يمنع هؤلاء عن الإيمان؟

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ

____________________________________

[٧٠] (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) بالصدق والأمانة والصفات الخيرة (فَهُمْ) لذا (لَهُ) أي للرسول (مُنْكِرُونَ) فإن الإنسان إذا رأى من أحد ادعاء كبيرا ، ولم يعرف مزايا ذلك الشخص لم يرضخ له ، واحتمل فيه الكذب والدجل ، لكن هؤلاء يعرفون الرسول حق معرفته.

[٧١] (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون ، والكلام الذي يقوله إنما هو كلام المجنون؟ فليس هذا صحيحا ، حتى عند أولئك الذين رموا به يريدون تنفير الناس عنه (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) الذي لا مرية فيه ولا شبهة (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) فإن هذا هو السبب الوحيد الذي يمنعهم عن الإيمان ، وإلا فليس لهم ما يبرر موقفهم العدائي ، ولو حجة ضئيلة واهية ، ولقد كان هذا عادة الناس ، فإن الحق لما يوجب زحزحة بعض مكانهم يكرهونه ، ويختلقون حوله ألف وصمة ومنقصة.

[٧٢] إنهم يريدون أن يكون الرسول وفق أهوائهم وشهواتهم ، حتى يصدقوه ، ويعترفوا به ، كما قال سبحانه : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (١) (وَ) الحق لا يمكن أن يتبع الأهواء ف (لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) وميولهم ، كأن يعترف بالأصنام وبسائر ما يأتون من المنكرات (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) ، فإن هوى هذا الإنسان أن يمطر في غير فصله ، وهوى ذاك أن يهلك أعداءه ، وهكذا ، أو المراد

__________________

(١) القلم : ١٠.

بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)

____________________________________

باتباع الحق أهواءهم أن يجعل الله لنفسه شريكا يعطي له التصرف في الملك كما يتصرف هو تعالى ، فإنه موجب لتغيير الأجرام وفساد الأوضاع ، إذ ليس لأحد من الحكمة كالله سبحانه ، وربما قيل أن فساد السماء عدم المطر ، وفساد الأرض عدم النبات ، وفساد الناس فيهما (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي أرسلنا إليهم ، ما يبقي ذكرهم لدى الأجيال بالخير لو آمنوا به ـ كما بقي ذكر من آمن بكل تجلة واحترام ـ (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) الذي فيه شرفهم وحسن سمعتهم (مُعْرِضُونَ) راضون بالخمول ، وأن يذهب حسن سمعتهم أدراج أهوائهم ، ولقد حاول القرآن الحكيم إقناعهم بكل الطرق حتى بهذا الطريق ، لكنهم أبوا إلا العناد واللجاج.

[٧٣] (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) يا رسول الله (خَرْجاً) أي أجرا على الرسالة ، فإنهم لا يقبلون رسالتك خوفا من المال والضريبة؟ (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أجر الله سبحانه لك على إرشادك ، وتعليمك (خَيْرٌ) مما ينتظر من البشر المحتاج المفتقر (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أفضل من جميعهم ، لأنه يعطي كثيرا ، ولا يطلب في المقابل شيئا ، ولا يمن على من يمنحه الرزق.

[٧٤] (وَإِنَّكَ) يا رسول الله (لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فلا التواء في العقيدة ولا انحراف في الشريعة ، وإنما سائر العقائد والطرق ملتوية منحرفة ، فهل يخافون إن قبلوا دعوتك أن تضلهم وتحرفهم عن الجادة؟

وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)

____________________________________

[٧٥] (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهذا كناية عن عدم إيمانهم بالدين ، إذ الإيمان بالدين كله يلازم الإيمان بالآخرة ، وجيء بهذا التعبير للدلالة على أنهم لا يعرفون مسئولية وجزاء حتى يعدلوا سلوكهم خوفا من العقاب (عَنِ الصِّراطِ) المستقيم (لَناكِبُونَ) أي عادلون مائلون ، فدينك مستقيم ودينهم منحرف.

[٧٦] ولقد صعب علاج هؤلاء فلا بالفضل يشكرون ، ولا عند الضراء يرجعون (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) بأن تفضلنا عليهم (وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) وقد سبق أن أهل مكة ابتلوا بالقحط الشديد على أثر دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي لتمادوا في ضلالهم ، و «اللج» التمادي والتمسك الشديد بالباطل ، و «عمه» عمى القلب ، أي إن تفضلنا عليهم بطرتهم النعمة.

[٧٧] وإن أبقيناهم في الضر وأخذناهم بالشدائد ، لم تنفعهم في الإقلاع عما يفعلون (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي بالصعوبات ، كالجدب وضيق الرزق ، وأمثالها (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) الاستكانة : التضرع والانقياد (وَما يَتَضَرَّعُونَ) إلى الله ، بأن يرجعوا إليه وينقادوا لأوامره ليدفع عنهم البلاء ، وهؤلاء عكس المؤمنين الذين هم إن أعطوا شكروا وإن منعوا استغفروا ، فهم كما قال سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)

____________________________________

مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (١).

[٧٨] وقد كان هذا دأب الكافرين ، وحالتهم المستمرة (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) بأن لا يكون بعده موضع رجوع وتوبة ، سواء كان بالموت أو بالإهلاك أو في الآخرة ، وفي رواية أنه في الرجعة ، وهو أيضا مصداق لذلك (إِذا هُمْ فِيهِ) أي في ذلك العذاب (مُبْلِسُونَ) من أبلس بمعنى تحير ويأس فإنهم سادرون في الكفر والغي ، حتى يصلوا إلى ذلك العذاب ، حيث لا مرجع ولا توبة ، بل يأس من الخلاص وإبلاس.

[٧٩] ثم أخذ السياق يوقظ وجدان هؤلاء بالنعم الكثيرة التي تدل على وجود منعهما وعلمه وقدرته وفضله (وَهُوَ) الله الواحد (الَّذِي أَنْشَأَ) وخلق (لَكُمُ) أيها البشر (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد ، وهو القلب ، والاختلاف في السمع بالإفراد ، وفي الأبصار والأفئدة بالجمع ، لتفنن بلاغي (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) «قليلا» منصوب ب «تشكرون» أي تشكرون الله سبحانه قليلا ، و «ما» زائدة للتقليل.

[٨٠] (وَهُوَ) الله الواحد (الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أي خلقكم وأوجدكم (فِي الْأَرْضِ) فمن غيره خلقكم أيها البشر؟ (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الحشر ، هو الجمع ، أي تجمعون بعد الموت للحساب والجزاء ، وكما قدر على

__________________

(١) المعارج : ٢٠ ـ ٢٢.

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)

____________________________________

الابتداء بأن «ذرأكم» يقدر على الإعادة.

[٨١] (وَهُوَ) الله الواحد (الَّذِي يُحْيِي) الأموات كما أحيى التراب فجعله إنسانا وحيوانا (وَيُمِيتُ) الأحياء كما نرى كل يوم ، ومن زعم انه قادر على الإماتة فقد أخطأ ، فإنه قادر على إيجاد بعض الأسباب أما الإماتة فإنها من الله سبحانه ، كما أن من زعم أنه قادر على الإحياء ـ بإلقاء الماء العفن في مكان حتى يولد البعوض ـ فقد أخطأ (وَلَهُ) أي بخلقه وتقديره (اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي مجيء أحدهما خلفة للآخر ، يقال اختلفا ، إذا جاء أحدهما خلف الآخر ، كما قال سبحانه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) (١) (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ أي تعملون عقولكم وتتفكرون في هذه النعم الباهرة ، إنها لا بد لها من إله قادر عالم متفضل حكيم.

[٨٢] إن الكفار أعرضوا عن كل هذه الآيات وجميع هذه النعم (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) المنكرون للمبدأ والمعاد.

[٨٣] وماذا قال الأولون واتبعهم هؤلاء في تلك المقالة؟ (قالُوا أَإِذا مِتْنا) بكسر الميم من «مات» «يميت» على وزن «باع يبيع» (وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أي كانت أبداننا ترابا ، وبقيت عظامنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) نحيى للحساب؟

__________________

(١) الفرقان : ٦٣.

لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)

____________________________________

[٨٤] (لَقَدْ وُعِدْنا) بهذا البعث ، وعدونا الأنبياء عليهم‌السلام (نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل وعدك لنا ، وعد الأنبياء عليهم‌السلام آباءنا (إِنْ هذا) أي ما هذا الوعد بالبعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الأسطورة هي القصة التي لا حقيقة لها ، يعني إن هذه الإخبارات حول المعاد ، ليست إلا أكاذيب لفقها الأولون ، واتخذتها أنت يا محمد.

[٨٥] (قُلْ) يا رسول الله في جواب هؤلاء الذين يستبعدون الحشر والحساب ، ويجعلون لله شركاء ، فلقد كانوا مضطربي العقيدة ، فقسم منهم يعترف بالله ومع ذلك يتخذ الأصنام ، ولذا أراد القرآن أن يستدرجهم ليعترفوا بما هو مسلم فيردهم بذلك عن غيهم ، ولذا أخذ يسألهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها)؟ فمن خلقها ومن مالكها ، وكذلك من خلق ما في الأرض ومن مالكها (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أجيبوني عن هذا السؤال.

[٨٦] (سَيَقُولُونَ) في الجواب ، إن الأرض ومن فيها (لِلَّهِ) وحده ، ولعل الإتيان ب «السين» إفادة لتفكرهم مقدارا قليلا حتى يقولوا هذا الجواب (قُلْ) يا رسول الله لهم حين اعترفوا بأنها لله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بعد ذلك أن ليس للأصنام نصيب في الخلق ، فلما ذا تتخذونها آلهة ، وإن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة ، فكيف لا تعترفون بالمعاد.

[٨٧] وإذ أجابوا حول الأرض القريبة منهم ، فليتوجه السؤال إلى السماء

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)

____________________________________

(قُلْ) يا رسول الله لهم (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ)؟ وكأنهم كانوا يعترفون بأن السماوات سبعة (وَ) من (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)؟ فقد كانوا يقولون أيضا بوجود العرش ، لما ترسخ في أذهانهم من آثار علم الأنبياء السابقين.

[٨٨] (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) كل ذلك (قُلْ) يا رسول الله لهم حينما أجابوا (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي ألا تخافون من هذا الإله الذي يملك كل شيء أن يعمكم بعذاب إن خالفتم أمره واتخذتم معه شركاء ، وأنكرتم البعث والحساب؟.

[٨٩] (قُلْ) يا رسول الله لهم (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) الملكوت مبالغة في الملك ، كالجبروت مبالغة في الجبر ، والمراد بملكوت كل شيء ملكه وجميع شؤونه ، فإن هذه الشؤون التي تتغير في هذا العالم لا بد وأن يكون لها مالك ومتصرف (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يغيث من يشاء ، ويحفظه من أن يصل إليه سوء ، يقال : أجاره ، إذا آمنه من المكروه المتوجه إليه (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي لا يحفظه أحد من السوء إذا أراد بشخص سوءا ، فلو أراد ـ مثلا ـ زيد بمحمد سوءا ، أجاره الله من زيد ، أما لو أراد الله برجل سوءا ، فلا شخص يحفظ ذلك الرجل من عقوبة الله سبحانه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك ، فأجيبوني؟

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ

____________________________________

[٩٠] (سَيَقُولُونَ) في الجواب (لِلَّهِ) أي أن ملكوت كل شيء والإجارة والبطش الشديد الذي لا يجار منه ، كلها لله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله لهم حين أجابوا بذلك (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي كيف يخيل إليكم الحق باطلا ، والصحيح فاسدا ، إنكم بعد هذه الاعترافات كيف تجعلون لله شركاء وتنكرون قدرته على البعث والإحياء ، مخدوعين بالتقاليد ، كالإنسان المسحور الذي يخيل إليه الباطل ويعرض عن الحق.

[٩١] (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) أي جئنا إليهم ما هو حق وواقع من التوحيد والبعث ، ولم نأتهم بالكذب (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في مقالهم ، وهذا مقابل قولهم : إن الرسول كاذب ، أو «أنهم» عطف على «بالحق» أي أتيناهم وبينا لهم «أنهم لكاذبون» لكنهم يصرون على كذبهم.

[٩٢] (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) كما يزعم النصارى إن المسيح ابن الله ، ويزعم اليهود إن عزير ابن الله ، ويزعم المشركون إن الملائكة بنات الله ، و «من» لتقوية تعميم النفي ، فلو كان المراد «التبني» كان المعنى إنه خلاف الواقع ، ولو كان المراد «للولادة» كان المعنى إنه مستحيل (وَما كانَ مَعَهُ) أي مع الله سبحانه (مِنْ إِلهٍ) شريكا له (إِذاً) أي إذا كان معه إله آخر (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي ميز كل إله ما خلقه عما خلق الإله الآخر حتى يستقل بهم ، ويمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليهم ، وهذا كما يقال «ذهب كل رئيس مع أتباعه» وذلك

وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ

____________________________________

تشبيه بالذهاب في الأرض الموجب لتمييز الفرق بعضها من بعض (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي طلب بعض الآلهة قهر بعض والغلبة عليه ، ليستقلّ هو بالملك ، كما يفعل الملوك في الدنيا ، لا يقال أن حكمتهم مانعة عن ذلك؟ لأنا نقول تعدد الإله موجب لإمكان الآلهة ، والإمكان يلازم صفات الممكن التي منها حب الاستعلاء والغلبة بتوابعه ، وقد سبقت الإشارة إلى دليل التمانع في بعض السور المتقدمة (سُبْحانَ اللهِ) أي أنزه الله تنزيها (عَمَّا يَصِفُونَ) الإله به ، من قولهم «له ولد» و «له شريك» فإن هذا توصيف لله تعالى بالولادة والتبني وبالشريك.

[٩٣] إنه سبحانه (عالِمِ الْغَيْبِ) أي ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) أي ما حضر لدى الحواس ، بأن كان مرئيا أو مسموعا ، أو ما أشبه ، فهو وحده عالم كل غيب وشهادة ، ولو كان معه إله آخر لعلم ذاك ، كما يعلم هذا (فَتَعالى) أي ارتفع ـ وليس في الفعل معنى الزمان ، كما هو كذلك في كل فعل يجري عليه فيما كان من صفات الذات ، نحو «علم» و «قدر» وما أشبههما ـ (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الشيء الذي يشركون الإله به ، أو تعالى عن شركهم ، فهو أعلى مما يزعم شريكا له.

[٩٤] وحيث لم ينفع في القوم الدليل ، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مرشدا له ، أن يدعو الله سبحانه أن لا يشمله العذاب الذي يأخذ القوم ـ إن قدر لهم عذاب ـ بسبب كفرهم وإصرارهم في العناد (قُلْ)

رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ

____________________________________

يا رسول الله يا (رَبِّ إِمَّا) أصله «إن» الشرطية و «ما» الزائدة التي جيء بها للتقليل (تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي إن أريتني ما يوعد هؤلاء الكفار من العذاب والنقمة.

[٩٥] يا (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بل أخرجني من بينهم عند ما تريد إحلال العذاب بهم ، لئلا يصيبني ما يصيبهم ، وهذا الدعاء في مورده ، إذ من الممكن أن تعم الكارثة الصالحين ، ليكون زيادة لأجرهم ورفعة لدرجتهم ، وفي الآية تعريض بالكفار بأنهم حيث أصروا على العصيان والطغيان ، صاروا معرضا لعقوبة الله وعذابه.

[٩٦] (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ) يا رسول الله (ما نَعِدُهُمْ) أي ما نعد الكفار من العذاب والنكال (لَقادِرُونَ) وإنما نمهلهم استدراجا (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١).

[٩٧] وإذا كان الكفار يصرون في العناد ، ويتصدون للنبي والمؤمنين بالإيذاء ، أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يداريهم ، فإن ذلك أكثر نجاحا للدعوة ، وخير لتخفيف الأذى ، فإن الظالم لا يجد عذرا في إدامة ظلمه لو رأى من الطرف اللين (ادْفَعْ) يا رسول الله بالطريقة التي (هِيَ أَحْسَنُ) الطرق (السَّيِّئَةَ) التي يواجهونك بها ، وذلك بالإغضاء والعفو ، وقد يقال : إن الأحسن هو أن يفعل ما يقتضي الحال من العفو

__________________

(١) الأنفال : ٣٤.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ

____________________________________

أو النكال ، فإن الأحسن بالنسبة إلى بعض العفو ، وبالنسبة إلى آخرين الأخذ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) الله والرسول والرسالة والقرآن والمعاد به فهم تحت علمنا وسنجازيهم على ما يصفون ، وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتهديد لهم ، فإن معنى قول الملك «أنا أعلم ما يفعله المجرم» إنه سيجازيهم بفعله السيئ.

[٩٨] إنهم إنما يصفون ما يصفون من إلقاءات الشياطين ووساوسهم ، فمن الجدير بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإن كان معصوما في ذاته ـ أن يستعيذ بالله من الشيطان كي لا يهمزه ، بل لا يحضر عنده مجرد حضور ، فإن حضور الشيطان مكروه لذاته ، فإنه يهمز الكفار ، ويلقي عليهم الكفر مستمرا ، حتى أن يأتيهم الموت (وَ) هناك يقولون (رَبِّ ارْجِعُونِ) بلا جدوى ف (قُلْ) يا رسول الله ، يا (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) أي أعتصم وألوذ (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) حتى لا يتمكن الشيطان من همزي ، والهمز شدة الدفع ، فإن الشيطان يدفع الإنسان دفعا قويا نحو الكفر والمعاصي ، ولذا يجد العاصي من نفسه اندفاعا شديدا نحو العصيان.

[٩٩] (وَأَعُوذُ بِكَ) يا (رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يحضرون عندي ، فإن حضور الشيطان مكروه ، لما له من الشقوة والبعد من الرحمة وإن لم يهمز ولم يوسوس.

[١٠٠] لكن الشيطان يحضر الكفار والعصاة ، ويدفعهم (حَتَّى إِذا جاءَ

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)

____________________________________

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) «الموت» فاعل «جاء» (قالَ) ذلك الكافر والعاصي ـ الذي عبر عنه ب «أحدهم» ـ وقوله هذا إنما يكون إذا أشرف على الموت ورأى آثاره ، يا (رَبِّ ارْجِعُونِ) والإتيان بالجمع على العادة في التأدب عند مخاطبة الكبراء.

[١٠١] (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي في تركتي بأن أودي حق الله أو في ما تركت من الدنيا ، بأن أعمل حسب أوامر الله ، ولفظة «ارجعون» و «تركت» باعتبار إشرافه على الآخرة ، وإلا فهو بعد في الدنيا ، وإنما يرى الملائكة ، وهو أخذ في مقدمات العز ، أو أن ذلك القول بعد قبض روحه ، ومعنى «جاء» أنه مات ، والجواب لهذا الطلب (كَلَّا) لا رجوع إلى الدنيا (إِنَّها) أي مسألة الرجعة (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) لا فائدة فيها ، ولا أثر يترتب عليها ، أو المراد أنه وعد كاذب ، إذ (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١) (وَمِنْ وَرائِهِمْ) وإنما جيء بهذا التعبير ، لأن وجهه إلى الدنيا ، فكأن ما يأتي خلفه ووراءه (بَرْزَخٌ) وهو العالم المتوسط بين هذا العالم وعالم الآخرة ، والبرزخ ـ لغة ـ بمعنى الحاجز بين شيئين (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فهم في العذاب والنكال هناك ، وكان الإتيان بهذا ، لئلا يظن ظان ، أنهم معدومون ، حتى يبعثوا ، فليس لهم تعب وعذاب في هذه القطعة ، فإن

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)

____________________________________

قبر الكافر حفرة من حفر النيران.

[١٠٢] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) «الصور» هو البوق الذي ينفخ فيه ميكائيل معلنا قيام الساعة (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم النفخ ، والأنساب جمع نسب ، وهو صلة الإنسان مع غيره بالأبوة والنبوة ، وما أشبههما ، والمراد أن الأنساب لا تنفع هناك للنجاة من العذاب ، فنفي الحقيقة باعتبار نفي الصفة نحو «يا أشباه الرجال ، ولا رجال» (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن شيء ، فقد ساد الموقف سكون الخوف ، وسكوت الخشية حتى لا يتجرأ أحد على الكلام ، وحيث إن مواقف القيامة كثيرة ، لم يكن تناف بين السكوت وعدم التساؤل في موقف ، وبين التكلم والتساؤل في موقف آخر.

[١٠٣] (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) «موازين» جمع «ميزان» والمراد ، ثقل الميزان بالطاعات ، ولعل الإتيان بالجمع ، لأن لكل عمل ميزانا ، فللصلاة ميزان ، وللزكاة ميزان ، وهكذا (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالدرجات الرفيعة.

[١٠٤] (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن ارتفعت كفة الصالحات ، وثقلت كفة السيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فكأنهم باعوا نفوسهم بالمعاصي ، فذهبت نفوسهم من أيديهم ، فهم في تعب ، و (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ)

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا

____________________________________

باقون أبد الآبدين ، في مقابل المؤمنين الذين أعطوا الطاعة ، وأخذوا النفوس ، فربحوا نفوسهم ، فهم في نعيم مقيم.

[١٠٥] (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ) أي وجوه الخاسرين (النَّارُ) فاعل تلفح ، واللفح ضرب السموم للوجه ، أي يصيب وجوههم لفح النار ولهيبها (وَهُمْ فِيها) أي في النار (كالِحُونَ) من كلح ، والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان ، حتى تبدو كالرأس المشوية.

[١٠٦] وهناك يشتمون ليزداد عذابهم الروحي على عذابهم الجسمي ، فيقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي) وأدلتي (تُتْلى عَلَيْكُمْ) وتقرأ عندكم ، والاستفهام تقريري توبيخي (فَكُنْتُمْ بِها) أي بالآيات (تُكَذِّبُونَ) فذوقوا جزاء تكذيبكم.

[١٠٧] (قالُوا) في الجواب ، يا (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) فقادتنا أنفسنا الأمارة إلى هذا الشقاء (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) عن الطريق ، يقولون هذا حيث لا مجال هناك إلا للاعتراف ، يريدون بذلك الاسترحام.

[١٠٨] يا (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) من النار (فَإِنْ عُدْنا) إلى الكفر والتكذيب والعصيان (فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا بعد ذلك ، ولا حجة لنا أبدا ، وهم يظنون بذلك أنهم يغرون الله سبحانه.

[١٠٩] (قالَ) الله سبحانه ، أو المالك للنار ، وهو الملك بها (اخْسَؤُا

فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا

____________________________________

فِيها) أي في النار ، أي ابعدوا بعد الكلب ، فإن هذه اللفظة لزجر الكلاب ، وإنما يقال لهم للإهانة والإذلال (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي لا تكلمونني ، فأنتم لا تستحقون الخطاب والمكالمة ، ألم تكونوا تستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؟ فهذا جزاءكم في الآخرة.

[١١٠] ألا تذكرون (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ) أي جماعة (مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ) في الدنيا يا (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي كانوا يدعون بهذا الدعاء ، بعد أن آمنوا بالله سبحانه ، وعملوا الصالحات ، والفريق هم الأنبياء والأئمة والمؤمنون.

[١١١] (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) أي كنتم تسخرون وتستهزئون منهم ، منسوب إلى السخرة ، وهو من يسخر به ، وكأن النسبة لزيادة الاستهزاء ، فإن السخرة يهزأ به ، فكيف بمن ينتسب إليه؟ (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) أولئك الفريق (ذِكْرِي) فإن الإنسان إذا اشتغل بالسخرة نسي الذكر وأعرض عنه ، وإنما نسب النسيان إليهم لأنهم السبب في التمسخر الموجب لنسيان الذكر (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ) أي من أولئك الفريق (تَضْحَكُونَ) ومعنى «منهم» من أعمالهم وأقوالهم.

[١١٢] (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ) أي أعطيت جزاء أولئك الفريق المؤمنين (الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم في الدنيا على التكاليف ، وعلى تحمل

أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)

____________________________________

سخريتكم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بما أرادوا ، فجزاؤكم النار ، وجزاؤهم الفوز والجنة.

[١١٣] ثم يتوجه إلى الكفار لزيادة تقريعهم وبيان أنهم إنما عصوا وألقوا أنفسهم في هذا العذاب ، لوقت قليل في عمر الدنيا (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) مكثتم وبقيتم أيها الكفار (فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) أي من جنس هذا العدد مقابل عدد الأيام وعدد الشهور.

[١١٤] (قالُوا) وقد نسوا مقدار بقاءهم في الدنيا فضؤل في أعينهم مدة البقاء (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قالوا ذلك على وجه الحقيقة لنسيانهم المقدار ، أو قالوه مجازا ، تقليلا لمدة المكث ، فإن الزمان إذا مضى يراه الإنسان قليلا (فَسْئَلِ) يا رب عن مدة مكثنا (الْعادِّينَ) أي الحسّاب الذين قد عدوا ، فإنا لا ندري أيوما بقينا ، أو بعض يوم؟ وقد ورد أن المراد سؤال الملائكة الموكلين بهم ، فإنهم عدوا أعمارهم وساعاتها؟

[١١٥] (قالَ) الله سبحانه ، مظهرا ، أن ليس المقصود مقدار المكث بالسنين والشهور ، وإنما المقصود بالسؤال أن بقاءكم في الدنيا كان قليلا فقد أذهبتم الآخرة لأجل شهوات زائلة في تلك المدة القليلة (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي ما كنتم وبقيتم في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) ولو كان سنوات (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وتحسنون التقدير ، لعلمتم أن بقاءكم في الدنيا

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ

____________________________________

قليل بالنسبة إلى الآخرة التي لا فناء لها ولا زوال.

[١١٦] (أَفَحَسِبْتُمْ) وظننتم أيها المنكرون للبعث (أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) باطلا ولغوا ، فلا حساب ولا ثواب ولا عقاب (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) والمراد إلى حكمنا وجزاءنا ، إن ظنكم ذلك باطل كذب ، وهذا إما كلام مستأنف خطاب للكفار في الدنيا ، أو عطف على السابق ، وأنه في جملة الكلام الذي يقال للكفار في الآخرة.

[١١٧] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) تعالى أن يكون له شريك أو ولد ـ وهذا رجوع إلى الكلام السابق حول نفي الولد والشريك ـ أنه هو الملك الحق ، وما سواه من دون الآلهة ملوك باطلة موهومة ، لا حصة لها من الملك والخلق (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده لا شريك له (رَبُّ الْعَرْشِ) أي الملك ، أو العرش الذي هو محل تشريفي له سبحانه خلقه ملاذا للملائكة ، كما خلق الكعبة ملاذا للناس (الْكَرِيمِ) فإن للعرش من الكرامة والعظمة قدرا كبيرا.

[١١٨] (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بأن يجعل لله شريكا (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي في حال كونه لا حجة ولا دليل للداعي بذلك الإله الثاني (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي أن مقدار جزاء سيعلقه في تلك الدعوة الباطلة عند الله ، وهذا تهديد للمشركين ، بأنه تعالى سوف يحاسبهم على ذلك

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)

____________________________________

حسابا عسيرا (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي لا يفوزون ، ولا يخلصون من العقاب.

[١١٩] (وَقُلْ) يا رسول الله ، يا (رَبِّ اغْفِرْ) الذنوب ، فأنت وحدك الغفار ، ولا شفعاء من دونك ، كما يزعم المشركون (وَارْحَمْ) أي تفضل بالرحم والخير ، فأنت وحدك الراحم المتفضل (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أفضل المنعمين وأكثرهم فضلا ، بل كل نعمة منك ، وإنما غيرك لا يملك إلا ما ملكته ، فأنت الإله الواحد ، وإن إليك المرجع ، وإنك الغافر الراحم.

(٢٤)

سورة النور

مدنية / آياتها (٦٥)

سميت السورة بالنور ، لاشتمالها على هذه اللفظة ، وهي كسائر السور المدنية تتعرض إلى النظام ، وتشريع القوانين ، ولما اختتمت سورة المؤمنين ، بأن الله سبحانه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ، ابتدأت هذه السورة بذكر الشرائع وفرض النظام الاجتماعي.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) استعانة باسم الإله ، الذي يعين الإنسان ، إذا استعان به ، وهو رحمن رحيم ، يرحم ويتفضل بما هو أهله.

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ

____________________________________

[٢] هذه (سُورَةٌ) السورة مأخوذة من سور البناء ، وهو ارتفاعه ، ومنه يسمى سور البلد سورا ، وإنما سميت سور القرآن بها ، لأنها مرفوعة في النفوس ، أو لأنها محيطة بجملة من العقيدة والآداب (أَنْزَلْناها) أي أنزلنا هذه السورة ، والإنزال ، إما باعتبار مجيئها من فوق ، إذ الملك يهبط عن السماء ، أو باعتبار أنها جاءت من طرف العلي الأعلى (وَفَرَضْناها) أي أوجبنا العمل بها ، ولعل هذا التأكيد لاشتمالها على الحد وما أشبه ، مما يحتاج إلى التأكيد البليغ ، فإن الفرائض الشديدة تحتاج إلى قوة في البيان ، حتى تحفز تلك القوة على تطبيقها (وَأَنْزَلْنا فِيها) في هذه السورة (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات ، والظرف باعتبار المجموع ، المظروف باعتبار كل قطعة قطعة ، وآية آية (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتذكروا ، ما هو كامن في فطرتكم من الأمور المرتبطة بالعقائد والآداب والأنظمة ، فإن الله سبحانه جعل في النفس فطرة المعارف ، كما جعل فيها فطرة الآداب ، وإن كانت مجملة تحتاج إلى الشرح والبيان وذكر المزايا التي لا تصل الفطرة إليها بمجردها.

[٣] وبعد تلك المقدمة الشديدة ، يأتي النظام الصارم لمن ينحرف عن العفاف (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ولعل تقديم «الزانية» لكون عملها أشنع ، ولأن العطف نحوها أكثر ، لرقة جنس المرأة (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وذلك بضربهما بالجلد ، الذي هو عود طويل على رأسه خيط طويل من الجلد ، يؤلم الجسم كثيرا ، يستعمله في هذا الزمان أهل الأفراس والعربيات ، ولا يخفى أن هذا الحكم إنما هو مقيد

وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً

____________________________________

ببعض القيود المستفاد من الشرع ـ كما هو مذكور في كتاب الحدود ـ (وَلا تَأْخُذْكُمْ) أيها الحكام المجرون للحد (بِهِما) أي بأي من الزاني والزانية (رَأْفَةٌ) أي شفقة ورحمة (فِي دِينِ اللهِ) أي في هذا الحد المرتبط بالدين ، الذي أنزله الله من السماء (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي تعتقدون بالله ، وتقرون بالبعث والنشور (وَلْيَشْهَدْ) أي اللازم أن يحضر (عَذابَهُما) أي في حال جلد الزانية والزاني (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي جماعة منهم ، ليكون أردع للزناة ، حيث يرون العذاب والفضيحة ، وينشر الخبر بسبب أولئك مما شاهدوه عيانا ، ومن الغريب أن بعض الغربيين ـ الذين أباح قانونهم التنكيل بالبشر ، بما لا يتحمل الإنسان على مجرد سماعه ، كاستعمال الكلابيب للجسم ، والحقنة بالبيضة والقنينة والماء الحار ، والحمامات الحارة والباردة ، التي تنقط على رؤوس مجرميهم ، وكي البدن بالمكاوي الكهربائية ، وأشباهها مما يتقزز منه الجسم ، ويستبشعه ، حتى من له أقل شعور يعيبون على الإسلام مثل هذا القانون المطهر للمجتمع عن كثير من أنواع الفساد والرذيلة ، نعم إنهم أرادوا أن يزنوا فأباحوا ذلك ، وعابوا مثل هذا القانون ولو أرادوا الطهارة لرأوا أن هذا القانون هو القانون العادل الذي لا يجد الإنسان مطهرا للمجتمع مثله.

[٤] ثم أراد سبحانه تفظيع الأمر عليهما ، فقال (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) أي لا يزني ، والنكاح في اللغة هو الوطء (إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) فإن

وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ

____________________________________

المؤمنة العفيفة لا تكون طرفا لزنى الرجل الزاني ، وهذا كقوله سبحانه (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (١) (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها) أي لا يطأها (إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) فإن المؤمن العفيف ، لا يكون طرفا لزنى المرأة الزانية ، وكأن هذا لدحض زعم بعض الناس الذين يتعاطون الزنى ، زاعمين أنهم أعفاء ، وإنما طرفهم فقط ، رجل سيئ ، أو امرأة سيئة ، وقد يرى الإنسان رجلا ، يدخل بيت الدعارة زاعما أنه يقضي حاجة ، وإنما المرأة هي الزانية ، أليس هو يقضي حاجة ، وهي شغلها الزنى؟ وكذا في صورة العكس ، وقد ذكروا في سبب نزول الآية ما روي عن الإمامين الباقر والصادق عليه‌السلام ، قالا هم رجال ونساء كانوا على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهورين بالزنى ، فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء (٢) ، وفي الآية احتمال آخر وما ذكرناه هو الظاهر منها بملاحظة بعض القرائن الداخلية والخارجية (وَحُرِّمَ ذلِكَ) النكاح للزاني أو الزانية (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فالمؤمن لا يكون طرف زانية ، والمؤمنة لا تكون طرف زان.

[٥] ثم انتقل السياق إلى حكم من يرمي المؤمنة بالزنى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي يقذفون النساء العفيفات بالزنى ، بنسبة الزنا إليهن ، و «المحصنة» هي المرأة العفيفة وتسمى محصنة ، لأنها أحصنت وحفظت نفسها بالعفاف ، ولا مفهوم للآية حتى يدل على أن رمي غير

__________________

(١) النور : ٢٧.

(٢) راجع مستدرك الوسائل : ج ١٤ ٣٩٠.

ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ

____________________________________

المحصنة لا حكم له ، وإنما سمي بالنسبة رميا ، لأنها رمي للقول كما أن قذف الحجارة ونحوها رمي للشيء (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) عدول يشهدون على طبق كلام الرامي ، بأنهم رأوا زناها عيانا (فَاجْلِدُوهُمْ) أي اجلدوا الرامين (ثَمانِينَ جَلْدَةً) ولا يقبل كلامهم بالنسبة إلى المقذوفة (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) لأولئك الرامين (شَهادَةً أَبَداً) إذا شهدوا على شيء ، ردت شهادتهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فلا يترتب عليهم ما يترتب على العدول ، من الائتمام به ، وتقليده ، وصحة الطلاق عنده ، إلى غير ذلك.

[٦] (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من هؤلاء القاذفين (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الرمي (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم ، لم يفسقوا من جهة أخرى (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ذنبهم (رَحِيمٌ) بهم يتفضل عليهم ، فإن هؤلاء تقبل شهادتهم ولا يحكم بفسقهم ، بل يجري عليهم ما يجري على سائر الناس من الأحكام.

[٧] (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي ينسبون زوجاتهم إلى الزنى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون لهم على صحة ما قالوا (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) استثناء منقطع أي أنهم يدعون ذلك ، ولا شاهد لهم ، فاللازم أن يجلدهم الحاكم الشرعي حد القذف ، إلا إذا تدارك ذلك بأن حلف خمسة

فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ(٨)

____________________________________

أيمان ، أربع مرات يحلف أنه صادق ، ومرة يحلف أن لعنة الله عليه ، إن كان كاذبا (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) لدرء الحد عنه (أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) أي يستشهد بالله لصدق مقاله في رمي الزوجة بالزنى فيحلف أربع مرات بالله (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله أنها زنت.

[٨] (وَ) الشهادة (الْخامِسَةُ) المتممة لتلك الشهادات الأربع الموجبة لرفع حد القذف عنه (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ) أي طرده عن الرحمة وعذابه (عَلَيْهِ) ويأتي بضمير المتكلم مكان الضمير الغائب (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رمى زوجته به ، فتكون هذه الأيمان الخمسة رافعة للحد الذي استحقه من جهة قذف زوجته بالزنا بدون شهود.

[٩] وإذا حلف الرجل تلك الأيمان الخمسة ثبت الحد على المرأة ، وقامت تلك الأيمان مقام الشهود الأربع ، ولكن إذا حلفت هي أيضا خمسة أيمان ، ارتفع عنها الحد وفرق بينهما ، فلا يحل الرجل لها ، ولا تحل هي له إلى الأبد (وَيَدْرَؤُا) أي يدفع ، وفاعله «أن تشهد» (عَنْهَا) أي عن المرأة (الْعَذابَ) أي حد الزنى الذي ثبت من حلف الرجل بتلك الأيمان (أَنْ تَشْهَدَ) المرأة (أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) كأن الله سبحانه أخذها شهيدا لها على براءتها ، حيث تحلف به (إِنَّهُ) أي الرجل (لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فلم تزن هي ، فتقول ـ أربع مرات ـ أشهد بالله ، إنه

وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)

____________________________________

لمن الكاذبين ، فيما قذفني به من الزنى.

[١٠] (وَ) تشهد الشهادة (الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) بأن تقول غضب الله علي (إِنْ كانَ) الرجل (مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما قذفني به من الزنى وهذا الحكم هو المسمى باللعان ، وقد ورد في سبب نزول هذه الآيات ، ما ذكره القمي ، أنه لما جاء رسول الله ، من غزوة تبوك ، جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني وكان من الأنصار ، وقال : يا رسول الله إن امرأتي زنى بها شريك بن سحماء ، وهي منه حامل ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعاد عليه القول ، فأعرض عنه ، حتى فعل ذلك أربع مرات ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله ، فنزل عليه آية اللعان ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلى بالناس العصر ، وقال لعويمر ائتني بأهلك ، فقد أنزل الله فيكما قرآنا فجاء إليها ، فقال لها : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوك وكانت في شرف من قومها ، فجاء معها جماعة ، فلما دخلت المسجد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعويمر : تقدم إلى المنبر ، فقال : كيف اصنع؟ قال : تقدم وقل أشهد بالله إني إذا لمن الصادقين فيما رميتها به ، فتقدم وقالها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعدها ، فأعادها ، ثم قال : أعدها ، فأعادها ، حتى فعل ذلك أربع مرات ، فقال له في الخامسة : عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رماها به ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا ثم قال له : تنح فتنحى ، ثم قال لزوجته : تشهدين كما شهد ، وإلا أقمت عليك حد الله ، فنظرت في وجوه قومها ، فقالت : لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية ، فتقدمت إلى المنبر ، وقالت : أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة

وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)

____________________________________

من الكاذبين ، فيما رماني به ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعيديها فأعادتها ، حتى أعادتها أربع مرات ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : العني نفسك في الخامسة ، إن كان من الصادقين فيما رماك به ، فقالت في الخامسة : إن غضب الله عليّ ، إن كان من الصادقين فيما رماني به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويلك إنها موجبة لك ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزوجها : اذهب فلا تحل لك أبدا ، قال : يا رسول الله ، فمالي الذي أعطيتها؟ قال : إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه ، وإن كنت صادقا ، فهو لها ، بما استحلك من فرجها ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن جاءت بالولد أحمش الساقين ، أنفس العينين ، جعد قطط ، فهو للأمر السيئ ، وإن جاءت به أشهل وأصهب ، فهو لأبيه ، فيقال إنها جاءت به على الأمر السيئ فهذه لا تحل لزوجها ، وإن جاءت بولد لا يرثه أبوه ، وميراثه لأمه ، وإن لم يكن له أم ، فلأخواله ، وإن قذفه أحد ، جلد حد القاذف (١) ، أقول : لقد روي في سبب نزول هذه الآيات ، روايات وانتسبت القصة إلى أناس آخرين ولا بعد في ذلك كله ، فكم من قضايا تتعدد ، وكم من آية نزلت لأمرين أو أكثر.

[١١] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بمنعكم عن الزنى والفواحش وجعل الحدود عليها (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) كثير الرجوع على من عصى وتاب ، (حَكِيمٌ) ذو حكمة في التشريعات ، لنالكم عنت وإرهاق في الدنيا ، وعذاب في الآخرة ففضله ورحمته في الدنيا يوجبان التيسير ، إذ لو لا الفضل لكان يحد القاذف أو المقذوفة ، ولو لا قبول التوبة لكان

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٠ ص ٧١.

____________________________________

يعاقب المذنب في الآخرة ، وقد حذف جواب لو لا ليترك في النفس فراغا يوجب قلقها ، حتى يعظم لديها الفضل ، وقبول التوبة.

[١٢] وبمناسبة ذكر الحد على القاذف يذكر القرآن الحكيم قصة «الإفك» الذي رمي به إحدى زوجتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «مارية» أو «عائشة» فقد نسب الخاصة القصة إلى «مارية». ونسب العامة القصة إلى «عائشة» والقصة هي : قال الإمام الباقر عليه‌السلام : لما هلك إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزنا شديدا ، فقالت له عائشة ، ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريح فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام وأمره بقتله ، فذهب علي عليه‌السلام إليه ، ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط ، فضرب علي باب البستان ، فأقبل إليه جريح ليفتح له الباب ، فلما رأى عليا ، عرف في وجهه الغضب ، فأدبر راجعا ، ولم يفتح باب البستان ، فوثب علي عليه‌السلام الحائط ونزل إلى البستان واتبعه ، وولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة ، وصعد علي عليه‌السلام في أثره ، فلما دنى منه رمى بنفسه من فوق النخلة ، فبدت عورته ، فإذا ليس له ما للرجال ولا للنساء فانصرف علي عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمي في الوبر ، أمضي على ذلك أم أثبت؟ فقال : لا تثبت ، قال عليه‌السلام : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء ، فقال : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت (١) ، وفي حديث آخر فأتى به رسول الله ، فقال له : ما شأنك يا جريح؟ فقال : يا رسول الله إن القبط يحبون حشمهم ، ومن يدخل إلى أهليهم والقبطيون لا يأنسون إلا بالقبطيين

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٥٥.

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

____________________________________

فبعثني أبوها لأدخل إليها وأخدمها وأؤنسها.

أقول : ولقد كان بعث الإمام ـ على هذا ـ ليتبين الأمر وإن كان بصورة إن يقتل جريح ، أما ما ذكره العامة ، فقد قال في الجوامع : إن سبب الإفك ، إن عائشة ضاع عقدها ، في غزوة بني المصطلق ، وكانت قد خرجت لقضاء حاجة فرجعت طالبة له ، وحمل هودجها على بعيرها ظنا منهم أنها فيها ، فلما عادت إلى الموضع ، وجدتهم قد رحلوا وكان صفوان من وراء الجيش ، فلما وصل إلى ذلك الموضع وعرفها أناخ بعيره حتى ركبته ، وهو يسوقه حتى أتى الجيش ، وقد نزلوا في قائم الظهيرة.

أقول : وهناك نسب المنافقون إلى عائشة وصفوان الإثم وأخذوا يبثونه ، وقد أطال العامة في الحديث ، لكن الغالب أن طرقه غير صحيحة ، ومن المحتمل وقوع الأمرين كما في كثير من الآيات القرآنية التي يتعدد سبب نزولها (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أي بالكذب العظيم الذي قلب وجه الحقيقة ، ويقال للكذب الإفك ، لأنه يقلب الحقيقة إلى غير واقعه ، وأصل الإفك القلب ، ولذا قيل لمدائن لوط «مؤتفكات» لأنها قلبت ظهر البطن (عُصْبَةٌ) أي جماعة (مِنْكُمْ) أيها المسلمون ، ولعل الإتيان بهذه الخصوصية ، لإفادة أن الإفك ، إنما كان وليد جماعة ذات هدف واحد ، فليس كلاما قاله مغرض وإنما حركة مقصودة ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليعرف المسلمون تلك العصبة وليطلعوا على نواياهم (لا تَحْسَبُوهُ) أيها المسلمون (شَرًّا لَكُمْ) يذهب بشرفكم ورفعة مقامكم وطهارتكم (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) إذ يوجب

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً

____________________________________

الأجر ، ومعرفة المنافقين وتمرين الأمة على الصعوبات كما قال الشاعر :

جزى الله النوائب كل خير

وإن جرعنني غصص بريقي

أهاجتني زمانا كي تريني

على ملأ عدوي من صديقي

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من تلك العصبة التي جاءت بالإفك (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) قدر ما خاض في الحديث حول المرأة البريئة «مارية» (وَالَّذِي تَوَلَّى) أي تحمل (كِبْرَهُ) أي القسط الأكبر (مِنْهُمْ) أي من العصبة (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي هو الذي أذاعه وأشاعه وأظهره للمجتمع.

[١٣] ثم عاتب الله سبحانه المسلمين الذين خاضوا في الحديث بدون دراية ومعرفة ، وإنما تفكها وحديثا (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) «لو لا» للردع ، أي هلّا حين سمعتم الإفك من القائلين المغرضين (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) فإن مارية وجريح كانا من نفس المؤمنين والمؤمنات بأنفسهم خيرا فإن مارية وجريح كانا من نفس المؤمنين والمؤمنات ، ولم يكونا خارجين عن دينهم ، والمراد ظنوا بها خيرا ، قال الشاعر :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ

____________________________________

(وَقالُوا) حين سمعوا الخبر (هذا إِفْكٌ) أي كذب (مُبِينٌ) ظاهر أي لماذا لم يقولوا هكذا؟

[١٤] (لَوْ لا جاؤُ) أي هلّا جاءت العصبة القاذفة (عَلَيْهِ) أي على الإفك الذي قذفوا مارية به (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) كما هو التشريع أن يأتي القاذف بأربعة شهود (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) أي حين لم يكن لهم شهيد يشهد بصدقهم (فَأُولئِكَ) الذين صنعوا هذا الإفك (عِنْدَ اللهِ) في حكمه (هُمُ الْكاذِبُونَ) لأن القاذف يرمى بالكذب حتى يقيم الشهود.

[١٥] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها المسلمون (وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بأن أمهلكم للتوبة ، ولم يعاجلكم بالعقوبة (لَمَسَّكُمْ) أي أصابكم (فِيما أَفَضْتُمْ) أي خضتم (فِيهِ) من الإفك ، والإفاضة في الشيء الدخول فيه (عَذابٌ عَظِيمٌ) مؤلم شديد ، إذ الإفك كان كبيرا حيث إنه وقيعة في بيت النبي وشرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما يوهن طهارة الرسالة في نظر الناس ، فيقول الكفار والمنافقون كيف يأمر النبي بالطهارة ، وزوجته على ما هي عليه؟

[١٦] (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أصله «تتلقونه» حذف إحدى التاءين على القاعدة ، فيما إذا اجتمع في أول المضارع تاءان ، والمراد تلقي بعضكم هذا الإفك عن بعض بالسؤال عنه وجاء «بألسنتكم» ليوضح ، إن التلقي

وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)

____________________________________

لم يكن بمعناه المتعارف ، وهو أخذ الشيء باليد ونحوها (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) جمع فم (ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) إذ لم تكونوا تعلمون ذلك ، ومع ذلك كنتم تتكلمون حوله (وَتَحْسَبُونَهُ) أي تظنون ذلك (هَيِّناً) سهلا (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الوزر ، لأنه كذب وافتراء وهتك عرض ، وإشاعة فاحشة.

[١٧] (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي هلّا ، إذ سمعتم هذا الإفك (قُلْتُمْ) لمن قاله (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) الحديث ، أي لا يحل لنا أن نخوض في هذا الأمر (سُبْحانَكَ) ربنا (هذا) الذي قالوه (بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي كذب وافتراء عظيم عقابه ، وقوله «سبحانك» لفظ يطلقه الإنسان لدى التعجب والاستغراب من أمر.

[١٨] (يَعِظُكُمُ اللهُ) أيها المسلمون (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) أي لئلا تعودوا لمثل هذا الإفك ، أو كراهة أن تعودوا (أَبَداً) أي إلى الأبد ، طيلة أعماركم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالله والرسول والمعاد والدين.

[١٩] (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ) أيها المسلمون (الْآياتِ) الدالة على أوامره ونواهيه (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يصدر منكم (حَكِيمٌ) فيما يأمركم

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)

____________________________________

وينهاكم ، فإنها طبق الصلاح والحكمة.

[٢٠] (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أي تنتشر وتظهر الصفة الفاحشة ، من فحش بمعنى تعدى وتسمى المعصية الكبيرة فاحشة ، لأنها تتجاوز الحد كثيرا وإن كان كل عصيان يتجاوز الحد المقرر ، وهل المراد ب «يحبون» مجرد الميل القلبي حتى يكون لهذا الميل إثم ، أو هو كناية عن القيام بالإشاعة لما سبق من أن كلا من الفعل والإرادة يستعمل في الآخر (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالنسبة إليهم ، بأن يقذفوهم بها ، أو يوسعون دائرة القذف ، صدقا كان أم كذبا (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع (فِي الدُّنْيا) بالجلد والتعزير (وَالْآخِرَةِ) بالنار والنكال (وَاللهُ يَعْلَمُ) مضار إشاعة الفاحشة ، وما فيها من العقاب والنكال (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فلا تفعلوا ما لا تعلمون إضراره وعقوباته.

[٢١] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أيها المسلمون حيث عفى عنكم ، عن هذه الجريمة ، ولم يعاجلكم بالعقاب وأمهلكم لتتوبوا (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) بكم ، لأخذكم العذاب في هذه النسبة التي نسبتموها إلى مارية زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد حذف جواب «لو لا» تهويلا ، كما تقدم.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ

____________________________________

[٢٢] وبعد أن أتم الكلام حول هذه الوقعة البشعة التي تبع عصبة من المسلمين الشيطان في تلقيها وإشاعتها ، خاطب الله سبحانه المؤمنين بصورة عامة ، أن لا يتبعوا الشيطان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) تشبيه بمن يتبع أقدام غيره في السير خلفه ، فكأن الشيطان يذهب في طريق العصيان ، والعصاة يتبعونه ويجعلون خطواتهم مكان خطواته (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فليعلم إنه أي الشيطان يسلك به في طريق الغواية والضلال ، إذ هو (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) مؤنث أفحش نحو «حمراء أحمر» أي الصفة التي هي أفحش الصفات الرديئة لأن تعديها عن الحق كثير (وَالْمُنْكَرِ) وهو مطلق الإثم ، وخصص «الفحشاء» بالذكر لأن الكلام كان حول «الفاحشة» (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ولعل الفرق بينهما «حيث يجتمعان» أن الرحمة يراد بها ستر الذنب ، والترحم بجبر المنقصة ، والفضل هو الإعطاء زائدا ، مثل من كان له مائة ، ثم خسر عشرا ، إن أعطيته خمسة عشر وكانت العشرة رحمة ، والخمسة فضلا (ما زَكى) أي ما طهر ، ولم ينم في الخير (مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) «من» زائدة لتعميم النفي (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) أي يطهر عن المعاصي والآثام ، ويسبب النمو والزيادة له في الخير (مَنْ يَشاءُ)

وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ

____________________________________

من المؤمنين ، من الذين ساروا في الطريق ، وامتثلوا الأوامر ، كما قال سبحانه (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم يجزيكم على حسبها (عَلِيمٌ) بضمائركم ونياتكم ، فارتقبوا الأقوال والنيات لكي تحظوا برضاه وفضله.

[٢٣] نقل في الجوامع عن بعض أن آية «ولا يأتل» نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشيء من الإفك ولا يواسوهم (وَلا يَأْتَلِ) من الألية ـ على وزن فعلية ، بمعنى اليمين والحلف أو من «الألو» بمعنى التقصير ، أي لا يحلف أو لا يقصر (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي الزيادة في أموالهم عن قدر حاجتهم (وَالسَّعَةِ) أي التوسعة في أرزاقهم (أَنْ يُؤْتُوا) من فضلهم وسعتهم (أُولِي الْقُرْبى) أي أقربائهم فلا يحلفوا على عدم إعطاء أقربائهم من فضلهم (وَالْمَساكِينَ) من غير أقربائهم (وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فإن القرابة والمسكنة والمهاجرة توجب الترحم ، وإعطاء الفضل ـ وإن كان أصحابها ، قد أفاضوا في الإفك ـ (وَلْيَعْفُوا) عنهم فيما اقترفوا من الذنب (وَلْيَصْفَحُوا) كأنهم يعطون صفح وجههم إلى أولئك فإن من يريد أن يري الطرف أنه لم ير ما صدر منه أمال وجهه عنه وجعل صفح وجهه إليه (أَلا تُحِبُّونَ) يا أصحاب الفضل والسعة (أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)

__________________

(١) العنكبوت : ٧٠.

وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)

____________________________________

فكما تحبون مغفرته ، اغفروا لمن أساء فمن غفر الناس غفر الله له؟ أو المراد أن الله يغفر لكم إذا غفرتم لهم (وَاللهُ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) بعباده ، فتخلقوا بأخلاقه ، وتأدبوا بأدبه ، واغفروا لمن أساء يغفر الله لكم.

[٢٤] (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ) أي يقذفون وينسبون الزنا إلى (الْمُحْصَناتِ) أي النساء العفائف (الْغافِلاتِ) عن الفواحش ، فهن في غفلة عن الإثم ، وإذا بهن يرين إلصاق التهمة البشعة بهن (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله ودينه واليوم الآخر (لُعِنُوا) أي طردوا عن رحمة الله سبحانه (فِي الدُّنْيا) بأمره سبحانه بجلدهم على قذفهم (وَالْآخِرَةِ) بالنكال والعذاب (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو النار التي تنضج الأكباد والكلى ، وسائر ما أعد في جهنم من ألوان العذاب.

[٢٥] (يَوْمَ) منصوب على الظرفية ، أي أن ذلك العذاب يكون في يوم (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) بإنطاق الله لها ، بدون أن يريدوا القول هم بأنفسهم ، وإنما يشهد لحم اللسان (وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) بالمعاصي التي ارتكب كل واحدة منها ، فتشهد اللسان ـ مثلا ـ بأنها كذبت وافترت ، وتشهد اليد بأنها تناولت الحرام ، والرجل بأنها مشت إلى السرقة (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما قال سبحانه في آية أخرى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ

____________________________________

عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) (١) وفي آية أخرى أنهم بعد أداء هذه الجوارح الشهادة يتوجهون إليها وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.

[٢٦] (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم وهو يوم القيامة (يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) أي يعطيهم الله جزاءهم العادل ، فإن الدين بمعنى الجزاء ، أو المراد جزاء دينهم ، فالمراد بالدين هو المعنى المتعارف ، (وَ) في ذلك اليوم (يَعْلَمُونَ) علما وجدانيا قطعيا (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ولا إله سواه ، وأنه حق يعطي بالحق ويعاقب بالحق (الْمُبِينُ) أي الظاهر الذي لا غموض فيه.

[٢٧] إن النفوس الخبيثة لا تألف إلا نفوس النساء الخبيثات ، والنفوس الطيبة لا تألف إلا نفوس النساء الطيبات ، فالزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والطاهر لا يباشر إلا طاهرة مؤمنة ، وهكذا العكس ، ولم يكن لمسلم أن يزني ، ولا لمسلمة أن تزني ، ولا يمكن للرسول الطاهر من كل دنس ، أن يتزوج بامرأة فاحشة زانية ، والآية ، وإن كانت عامة ، إلا أنها بمناسبة حديث الإفك (الْخَبِيثاتُ) من النساء ، والخبيث هو ضد الطيب ، وهو ما يكون في ذاته شيء مكروه ، أو عرض عليه ذلك عرض ، فمثلا الدم خبيث ، والماء الملاقي له خبيث أيضا (لِلْخَبِيثِينَ) من الرجال (وَالْخَبِيثُونَ) من الرجال (لِلْخَبِيثاتِ) من النساء

__________________

(١) يس : ٦٦.

وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا

____________________________________

(وَالطَّيِّباتُ) من النساء (لِلطَّيِّبِينَ) من الرجال (وَالطَّيِّبُونَ) من الرجال (لِلطَّيِّباتِ) من النساء (أُولئِكَ) الطيبات والطيبون (مُبَرَّؤُنَ) منزهون (مِمَّا يَقُولُونَ) فيهم من الافتراء والقذف (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي غفران من الله سبحانه ، وستر لهم عن الفضيحة (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فليس من رزقهم الخبيث ، وإنما رزقهم مكرم لهم ، والرزق يطلق على كل عطية ، ومنحة منه سبحانه ، ولو زوجا أو زوجة.

[٢٨] لقد كان في الجاهلية ، الرجل يدخل البيت ، بلا استئذان ، حتى إذا توسطه ، قال «دخلت» وذلك كان خلاف العقل والأدب ، إذ لعل الرجل مع أهله ، أو لعل المرأة عارية تغتسل ، أو لعلهم يكرهون أن تقع العين على شيء من أمورهم ، ولذا نهى الله سبحانه عن ذلك ، وأتى السياق ـ بمناسبة حكم الزوجين والقذف ـ إلى بيان حكم البيت الذي يريد الإنسان أن يدخله ، فقال سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) وأما بيت الإنسان نفسه ، فلا مانع أن يدخل فيه فجأة ، وإن كره في بعض الأحوال أيضا ، كأن يطرق الإنسان أهله ليلا (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) الاستيناس ، طلب الأنس بالعلم أو غيره ، يقال اذهب واستأنس ، هل ترى أحدا؟ والمعنى حتى تستعلموا وتستأذنوا ، وقد روي إن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : استأذن على أمي؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، قال : إنها ليس لها خادم غيري ، أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل : لا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاستأذن عليها (وَتُسَلِّمُوا

عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)

____________________________________

عَلى أَهْلِها) أي على أهل البيوت ، وهذا هو الترتيب الطبيعي ، بأن يستأذن الإنسان ، ثم يسلم (ذلِكُمْ) أي ذلك الدخول بالاستيذان ، ثم التسليم و «كم» خطاب (خَيْرٌ لَكُمْ) أيها المؤمنون ، أي ذلك حسن ، فليس المعنى على التفضيل ، أو أنه تفضيل بالنسبة إلى ما يرى الناس فيه خيرا من الدخول المجرد (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي نبين هذا الحكم لكي تتذكروا ما أودع في فطرتكم ، من كون ذلك الاستئذان من الأدب ، وأنه خير بخلاف الدخول فجأة.

[٢٩] (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها) أي في البيوت (أَحَداً) بأن لم تعلموا وجود أحد ، كما لو استأذنتم ، فلم يظهر أن أحدا في البيت (فَلا تَدْخُلُوها) لا تدخلوا تلك البيوت (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) بأن يأذن لكم أرباب الدار دخولها في أي وقت شئتم ، وإن لم يكونوا فيها (وَإِنْ) استأذنتم دارا ف (قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا) بهذا اللفظ ، أو بلفظ يفيد معناه (فَارْجِعُوا) انصرفوا ، ولا تلحوا في الدخول و (هُوَ) أي الانصراف ، إذا ظهرت أمارات كراهية دخولكم الدار (أَزْكى لَكُمْ) أطهر وأحسن ، ولعل الإتيان بلفظ «الزكاة» لما فيه من نمو النفس بالعفة ، ونمو علاقات الحب بين الأفراد (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الدخول قهرا ، أو الانصراف (عَلِيمٌ) فيجازيكم حسب أعمالكم.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ

____________________________________

[٣٠] (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي لا حرج ولا ضرر عليكم أيها المؤمنون (أَنْ تَدْخُلُوا) بدون الاستئذان (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) أي لم تعد للسكنى كالخانات والحمامات والأرصية (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي استمتاع لكم في تلك البيوت ، وهذا القيد عام يشمل حتى من يريد التفرج ، لأنه يستمتع بذلك ، أو المراد منه بيان أنه لا ينبغي للإنسان أن يدخل محلا لا متاع له فيه فإنه لغو (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي تظهرون من الأمور (وَما تَكْتُمُونَ) في أنفسكم وتخفونها ، فلا تفعلوا ما يخالف أوامره ، وهذه الخاتمة لإيقاظ الضمير ، حتى يكون الإنسان على نفسه رقيبا ، أليس هو بعين الله الذي يعلم كل ظاهر وخاف.

[٣١] ثم انتقل السياق من حكم البيوت إلى حكم النظر ، وهو مرتبط بقصة الحياة العائلية ، كما كان الحكمان السابقان من حكم الإفك والقذف ، وحكم الاستئذان لدخول البيوت مرتبطين بها نوع ارتباط (قُلْ) يا رسول الله (لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أصل الغض النقصان ، يقال : غض من صوته ومن بصره ، أي قلل منهما ونقص ، والمعنى غمض العين عما لا يحل النظر إليه ، وإنما جيء بالغض ، و «من» لأن الصرف عن الحرام لا يتوقف على الغمض ، بل على الغض لبعض البصر بأن لا يمد عينه نحو المحرم (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عن تعاطي اللواط والزنا ، وما أشبه (ذلِكَ) الغض من البصر ، والحفظ للفرج (أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر عن لوث المعصية ، وقد تقدم أن في

إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ

____________________________________

أمثال هذا المقام لا يراد التفضيل من نحو «أزكى» ومعنى الزكاة الطهارة والنمو ، فإن حفظ العين والفرج موجب لطهارة النفس ، ونمو الأخلاق الرفيعة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) أي عالم (بِما يَصْنَعُونَ) من النظر أو الغض ، وتعاطي الحرام بالفرج والحفظ.

[٣٢] (وَقُلْ) يا رسول الله (لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) بأن لا يمدنها إلى ما لا يحل النظر (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) بأن لا يتعاطين الزنا ، وما أشبه ، كالسحق وغيره (وَلا يُبْدِينَ) أي لا يظهرن عن عمد (زِينَتَهُنَ) المراد ، إما مواضع الزينة كالمعصم ، والأذن ، والرقبة ، والرجل ، أو الزينة نفسها ، وإذا صار اللفظ محتملا وجب الاجتناب عن الأمرين تحصيلا للبراءة عما علم إجمالا تحريمه (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي من الزينة ، والذي أراه ظاهرا من الآية ، أنه استثناء عن الإبداء ، يعني ، أن ما ظهر بغير اختيارهن ، ليس عليه بأس ، كما إذا هبت الريح فرفعت العباءة وأبدت الزينة (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَ) جمع خمار وهو ما تلف المرأة على رأسها خمارا ، لأنه يستر الرأس وما حولها ، فإن مادة «خمر» بمعنى الستر ، ومنه سمي «الخمر» خمرا ، لسترها العقل ، (عَلى جُيُوبِهِنَ) الجيب ، هو شق الثوب طرف الصدر ، وذلك لئلا يبدو الصدر من الشق ، أو المراد به ستر الوجه والصدر ، فإن سدل طرف الخمار إلى الصدر ، مستلزم لستر الوجه ، ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنه استقبل شاب

وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ

____________________________________

من الأنصار امرأة بالمدينة ، وكانت النساء يتقنعن خلف آذانهن ، فنظر إليها وهي مقبلة ، فلما جازت نظر إليها ، ودخل في زقاق قد سماه لبني فلان ، فجعل ينظر خلفها واعترض عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه ، فلما مضت المرأة ، نظر ، فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال : والله لآتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأخبرنه ، قال فأتاه ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال له ما هذا؟ فأخبره ، فهبط جبرائيل بهذه الآية (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي لا يظهرن الزينة (١) ، وقد كرر ذلك تأكيدا ، وفي الاستثناء دلالة على ما ذكرناه سابقا ، في معنى «إلا ما ظهر منها» إذ السياق الواحد (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أي أزواجهن (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ) أي أب الزوج (أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) ويدخل في الآباء الأجداد ، وفي الأبناء الأحفاد (أَوْ إِخْوانِهِنَ) سواء كان أخا للأب أو للأم ، أو للأبوين (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ) فهن عمات لهم (أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) فهن خالات لهم (أَوْ نِسائِهِنَ) أي النساء المؤمنات ، أما أن يظهرن زينتهن لنساء اليهود والمجوس والنصارى وسائر الكفار ، فقد أفتى جماعة بعدم حله ، قال الصادق عليه‌السلام : لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين اليهودية والنصرانية ، فإنهن يصفن لأزواجهن (٢) (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من النساء الكافرات ، فليس

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ص ٥٢١.

(٢) الكافي : ج ٥ ص ٥١٩.

أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ

____________________________________

بأس عليهن أن يظهرن زينتهن إلى تلك الإماء ، وإطلاق الآية بالنسبة إلى عبيد النساء مقيد بما ورد عن الصادق عليه‌السلام قال : لا يحل للمرأة أن ينظر عبدها إلى شيء من جسدها ، إلا إلى شعرها ، غير متعمد ذلك (١) ، أقول : يعني إذا وقعت عينه عليه ، والتخصيص بالشعر لأنه الذي يمكن أن يراه العبد غير متعمد ، أما سائر الجسد ففي الغالب كونه مستورا (أَوِ التَّابِعِينَ) أي المولّى عليهم من الحمقى والبله ومن أشبههما وقيل لهم تابعين ، لأنهم يتبعون غيرهم من الأولياء ، ثم بين ذلك بقوله (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) أي غير أصحاب الحاجة في النساء ، فإن «الإربة» بمعنى الحاجة (مِنَ الرِّجالِ) قال الباقر عليه‌السلام في تفسير الآية : هو الأحمق الذي لا يأتي النساء وقال الصادق عليه‌السلام : الأحمق المولّى عليه الذي لا يأتي النساء ، وإنما أبيح بالنسبة ، إليه ، لأنه لا يميز بين المرأة وغيرها ، فهو كالحيوان (٢) (أَوِ الطِّفْلِ) والمراد به الجنس ، ولذا جاء صفته بصيغة الجمع (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) أي لم يطلعوا من الظهور بمعنى الاطلاع (عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) لعدم تميزهم بين العورة وغيرها ، أما الطفل الذي قد ظهر فالمفهوم من الآية الحظر منه ، ولم يذكر في الآية الأعمام والأخوال للإنسان ، أو الأب أو الأم ، قيل لدخولهم في «الإخوان» فإنهم إخوان الأب والأم ، وقيل لفهم ذلك ـ عكسيا ـ من بني إخوانهن ، أو بني أخواتهن ، فإذا حل نظر الولد على عمته وخالته ، حل نظر العم

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ص ٥٣١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٠ ص ٢٠٤.

وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ

____________________________________

والخال إلى بنت الأخت وبنت الأخ (وَلا يَضْرِبْنَ) النساء (بِأَرْجُلِهِنَ) على الأرض ضربا شديدا ليصوت الخلخال فيعلم أي يعلم الرجل الأجنبي (ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) فإن ذلك يورث تهيجا في الرجال ، وهل هذا حرام أو مكروه؟ احتمالان (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) فيما تفرطون من مخالفة المحرمات ، وبالأخص محرمات النظر ، فإنه كثير الحدوث (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بسعادة الدارين ..

[٣٣] وبمناسبة حكم النظر وحفظ الفرج يأتي السياق ليبين بعض الأمور المرتبطة بالنكاح (وَأَنْكِحُوا) أيها المسلمون (الْأَيامى مِنْكُمْ) جمع «أيم» وهو الرجل الذي لا زوج له ، والمرأة التي لا زوج لها ، والمعنى زوجوا أيها المؤمنون رجالكم الذين لا زوجات لهم ، ونسائكم اللاتي لا أزواج لهن. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا ، تناسلوا ، تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب (٢).

(وَ) انكحوا (الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي الذين هم

__________________

(١) جامع الأخبار : ص ١٠١.

(٢) الفقيه : ج ٣ ص ٣٨٤.

إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

____________________________________

صالحون من العبيد والإماء ، وهل المراد بالصالحين البالغون الذين يصلحون للنكاح ، أو الصالحون من حيث الدين بأن يكونوا مسلمين ، أو أن تكون أعمالهم صالحة؟ احتمالات (إِنْ يَكُونُوا) أولئك الأيامى والعبيد والإماء ، (فُقَراءَ) وتخشون زيادة فقرهم بالنكاح ، فاعلموا أنه ليس كذلك بل (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهذا كذلك حسب التجربة ، وحسب الموازين الاجتماعية ، فإن المتزوج الذي يعلم أن وراءه النفقة يجدّ أكثر من العزب ، كما أن الناس يعطفون عليه أكثر من عطفهم على غيره ، هذا مع الغض عن أن يدين عاملتين تأتي بأكثر من ضعف إنتاج يد واحدة ، وإن الله سبحانه يوسع بالطرق الغيبية (وَاللهُ واسِعٌ) لطفه ، وهو مجاز من باب نسبة الشيء إلى سببه في اللطف والرزق ، وإنما نسب إلى الله تعالى ، لأنه السبب (عَلِيمٌ) بأحوال الناس ، فيعلم حال الفقير ويتفضل عليه.

[٣٤] (وَلْيَسْتَعْفِفِ) الاستعفاف هو التعفف بمنع النفس عن الشيء المرغوب فيه ، ولعل الإتيان بالفعل من باب الاستفعال للتنبيه على طلب العفة ، وإن كانت النفس تائقة شائقة (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي ما يتوصل به إلى النكاح من المهر والنفقة والزوجة المناسبة ، (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) بأن يوسع عليهم ما به يتمكنون من الزواج ، ولا يدخلون في الفاحشة فإن الصبر وإن كان مرا لكن عاقبته حميدة ، وهناك من العبيد من يتمكن من الزواج إن كان حرا لأنه يعمل ويكتسب ما يكفيه وعائلته ،

وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا

____________________________________

ولا يتمكن من الزواج وهو تحت رق المولى لأن مولاه فقير لا يملك إعالته وإعالة زوجته ، ولذا يحاول أن بفك نفسه بالمكاتبة حتى يتحرر فيتزوج ، والمكاتبة هي أن يكتب المولى والعبد كتابا على أن العبد إن دفع إلى مولاه المقدار الكذائي من المال صار حرا ، وله أقسام وأحكام ، وإذا طلب العبد ذلك ندب قبول طلبه ومكاتبته.

(وَ) العبيد (الَّذِينَ يَبْتَغُونَ) ويطلبون (الْكِتابَ) أي المكاتبة لتحريرهم (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) «مما» بيان ل «الذين» أي من العبيد والإماء (فَكاتِبُوهُمْ) وجيء من باب المفاعلة ، لأن كل واحد من المولى والعبد يمضي ورقة الكتابة والاشتراط (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي صلاحا ورشدا يقدرون بذلك على الوفاء بمال الكتابة (وَآتُوهُمْ) أي اعطوا أولئك العبيد المكاتبون (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) بأن يخفف المولى شيئا من المال المقرر ، فإن قرر ستة آلاف أخذ منه خمسة وعفى عن ألف ، أو إن الخطاب عام بأن يعين الناس المكاتبين ليخلصوا من الرق ، وقد قرر الله سبحانه إعطاء المكاتبين من الزكاة كما قال سبحانه : (وَفِي الرِّقابِ) (١).

(وَ) إذ كان الكلام حول العفاف والطهر والنكاح وتوابعه ، جاء النهي الأكيد بالنسبة إلى الذين يكرهون فتياتهم على الزنى ليأخذوا أجره و (لا تُكْرِهُوا) أيها الرجال

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ

____________________________________

(فَتَياتِكُمْ) أي الفتيات المرتبطة بكم ، وهي عامة لفظا تشمل كل فتاة مرتبطة بالإنسان سواء كانت أمة أم قريبة أم بعيدة ، ومن الجاهلية التي أعيدت في هذا العصر أجبر بعض الرجال الأسافل بعض نسائهم على البغاء لتحصيل منصب أو مال أو ما أشبه (عَلَى الْبِغاءِ) أي على الزنى ، في المجمع قيل : أن عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى ، فلما نزل تحريم الزنى أتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكون إليه فنزلت هذه الآية ، وروى القمي ـ كما في الصافي ـ عموم ذلك (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي تعففا وحصانة عن الزنى ، ولا مفهوم للآية ، بل المقصود أن الفتاة مع نقص عقلها وكثرة شهوتها إذا لم ترد البغاء فالمولى أحق بعدم الإرادة والامتناع ، فكيف يكره الرجل الفتاة وهي تكره ولا تريد؟ (لِتَبْتَغُوا) أي تحصلوا بذلك (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي المال الذي هو عرض زائل (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) لعل المعنى من كان يكرههن في زمان الجاهلية فلا ييأس من روح الله ، فإنه إذا آمن وتاب (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَ) على الزنى ـ مما قد سلف ـ (غَفُورٌ) يغفر سيئاته (رَحِيمٌ) يتفضل عليه ، أو المراد إن كرهت امرأة وزنت عن إكراه فإن الله غفور لها ، فقد رفع الإكراه في هذه الأمة ، كما ورد في حديث الرفع وغيره.

[٣٥] (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (آياتٍ) أي أدلة وبراهين للأحكام (مُبَيِّناتٍ) قد أوضحت إيضاحا لا لبس فيها ولا غموض

وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ

____________________________________

(وَ) أنزلنا إليكم (مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) حيث ظهر من ذلك المثل ـ والمراد به الجنس ـ أن الأمم السابقة لما تعدت وعصت أخذت بأنواع العذاب ، لتعتبروا بذلك المثل (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وإنما خص الموعظة بهم ، لأنهم الذين ينتفعون بالعظة.

[٣٦] وإذا ذكرت الآيات السابقة الأحكام الأخلاقية الاجتماعية المرتبطة بالطهارة والنزاهة للعين والفرج واللسان ، وسمت بالإنسان من الآفاق المظلمة إلى الآفاق المنيرة ، ناسب ذلك التحدث عن عالم النور ، عالم الإله الذي أنار كل شيء بنور وجهه فقال تعالى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والنور هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره ، وهكذا الله سبحانه ظاهر في نفسه مظهر لغيره ، بل أن النور الخارجي رشحة من نوره سبحانه الذي غمر الكون ، وأظهر كل شيء وأوجد كل موجود (مَثَلُ نُورِهِ) من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ليدركه الإنسان بقدر حسه (كَمِشْكاةٍ) لقد كان الناس في الماضي يخرجون كوة في الحائط ثم يجعلون على تلك الكوة لوحا من الزجاج ثم يجعلون المصباح ـ وهو محل الزيت والفتيلة ـ في زجاجة ـ تسمى بالفانوس ـ ثم يجعلون تلك الزجاجة في الكوة ، وإنما يجعلونها في الكوة ليشع من المصباح الضياء في الداخل والخارج ، ومن المعلوم أن نور المصباح إذا أشرق على الزجاج ، وكان منحصرا في كوة لا ينتشر كان ضياؤه قويا جدا ، وبالأخص إذا كان الزيت نقيا جيدا ، إن مثل هذا النور هو مثل نور الله سبحانه.

فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ

____________________________________

واختلف في لفظ المشكاة هل أنها عربية أو غير عربية؟ (فِيها) أي في تلك المشكاة (مِصْباحٌ) وهو السراج (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) وهي «الفانوس» المصنوع من ألواح الزجاج (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي الكوكب المضيء الذي يشبه الدر في ضيائه وصفائه (يُوقَدُ) ذلك المصباح (مِنْ) زيت (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أي كثيرة البركة وهي (زَيْتُونَةٍ) التاء للإفراد ، نحو شجر وشجرة ، وتمر وتمرة ، وخص ذلك لأن دهن الزيت أصفى من سائر الأدهان فيكون نور المصباح الذي أوقد به أحسن وأكثر إضاءة (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي أن منبتها في محل وسط فهي ضاحية للشمس تشرق عليها طول النهار ، فليست في طرف الشرق حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا في طرف الغرب حتى لا تصيبها الشمس إذا شرقت ، فإن الغالب أن الشيء إذا كان في طرف كان هناك مانع عن إشراق الشمس عليه إذا كانت في طرف مقابل له (يَكادُ زَيْتُها) أي زيت هذه الشجرة (يُضِيءُ) وينير (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) أي أن الحاصل من مثل هذا المصباح نور مضاعف ، بسبب تلك الأمور المذكورة (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) أي نور هذا المصباح (مَنْ يَشاءُ) من السائرين فإنهم إذا رأوا المصباح بهذه الكيفية المضيئة يهتدون إلى الطريق ، ولا يبقون حائرين

وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ

____________________________________

في الصحراء ، لا يعرفون طريقا ، ولا يهتدون سبيلا ، ومن المحتمل أن يكون ضميره «لنوره» عائدا إلى الله ، بأن يكون التمثيل إلى قوله «على نور» أي إن الله يهدي إلى نوره الذي ضرب له المثل من يشاء ممن اتبع الحق ولم يعاند (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) كما ضرب هذا المثل ، لبيان نور ذاته ، تشبيها للمعقول بالمحسوس تقريبا إلى الأذهان ، وإلا فلا مثل ينطبق تمام الانطباق عليه سبحانه ، ولذا قال (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) (١) (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم الأمثال المناسبة ، التي توجب علما وفقها للناس ، تقربهم إلى الحق وتبعدهم عن الباطل ، وقد ورد روايات لتطبيق الآية على أهل البيت عليهم‌السلام وهي من قبيل التأويل أو ذكر المصاديق والتطبيقات (٢).

[٣٧] إن ذلك المصباح المتصف بتلك الصفات إنما هو (فِي بُيُوتٍ) عامرة بالتقوى ليضاف النور المعنوي إلى النور الظاهري ، فإن مثل نور الله نور المصباح الموضوع في المسجد ، كيف أن الإنسان يبهره ذلك النور المتلألئ الساطع من أقدس الأماكن وأطهرها ، كذلك نور الله سبحانه (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) رفعا ظاهريا ببناء جدرانها رفيعة شامخة ، ورفعا معنويا بأن تحترم وتقدر وتطهر من الأرجاس ، وقد ورد في بعض الأحاديث أن بيوت الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام من تلك البيوت (٣) (وَيُذْكَرَ فِيهَا) أي في تلك البيوت (اسْمُهُ) الله تعالى في مقابل بيوت الكفار

__________________

(١) النحل : ٧٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٨.

(٣) راجع بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٣٢٧.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧)

____________________________________

التي لم يأذن الله أن ترفع إذ من المكروه بناء دار الكافر أعلى من دار المسلم ـ كما قالوا ـ وبيوت النيران والمراحيض التي كره ذكر الله فيها بالصلاة ونحوها ، وحيث إن الأرض لله ، والذكر مرتبط به سبحانه ، كان ترفيع البيت وذكر اسمه تعالى بحاجة إلى الإذن ، وتلك البيوت تتصف بأنها (يُسَبِّحُ لَهُ) أي لله (فِيهَا) أي في تلك البيوت (بِالْغُدُوِّ) أي الصباح (وَالْآصالِ) جمع أصيل ، وهو طرف العصر ، وإتيان «الغدو» مفردا جنسا ، والآصال جمعا من التفننات البلاغية.

[٣٨] (رِجالٌ) هم المؤمنون (لا تُلْهِيهِمْ) أي لا تشغلهم ، من التلهي ، بمعنى : الاشتغال ، ومنه يسمى اللهو لهوا (تِجارَةٌ) هو مطلق الاكتساب ولو بالرهن والمزارعة ونحوهما (وَلا بَيْعٌ) وكان تخصيصه لشيوعه بين أنواع التجارات (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) سبحانه (وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي عن إقامة الصلاة ، أصله «إقامة» والهاء عوض عن «الواو» في «أقوام» لأنه مصدر باب الأفعال ، فلما أضيف إلى الصلاة قام المضاف إليه مقام العوض ، ولذا حذف وإن جاز «إقامة الصلاة» أيضا (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) إعطائها أي إن أولئك الرجال بهذه الأوصاف حتى إن ذكر الله والعمل بمرضاته لديهم أهم من الاشتغال بمال الدنيا وأعراضها الزائلة ، خلافا لكثير من الناس الذين يشتغلون بالدنيا عن الآخرة (يَخافُونَ يَوْماً) هو يوم القيامة (تَتَقَلَّبُ فِيهِ) أي في ذلك (الْقُلُوبُ) أي يتوجه القلب تارة إلى هنا وأخرى إلى هناك (وَالْأَبْصارُ) فتنظر

لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ

____________________________________

العين هنا وهناك ، وهكذا عادة الخائف الوجل يفكر في مخلص ونجاة ويتوجه إلى هنا وهناك كي يرى ملاذا وشفيعا ومستندا.

[٣٩] وإنما يفعل أولئك الرجال تلك الأفعال (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) وهي الطاعات ، إنهم يترقبون جزاء طاعاتهم ، والطاعة هي أحسن ما عمله الإنسان من الطاعات والمباحات والمكروهات ، أو المراد يجزيهم بأحسن مما عملوا ، فقد عملوا ـ مثلا ـ ما يستحقون به دينارا ، فيترقبون إعطاءهم عشرة حسب وعده بقوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) (وَيَزِيدَهُمْ) على ذلك الجزاء (مِنْ فَضْلِهِ) وزيادته كما قال (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٢) (وَاللهُ يَرْزُقُ) أي يمنح ويعطي (مَنْ يَشاءُ) من أحسن (بِغَيْرِ حِسابٍ) كثيرا زائدا ، لا يدخل تحت حساب الإنسان ، أو المراد يتفضل على الإنسان ، فلا يكون فضله مجازاة على عمل وإنما مجانا وتفضلا.

[٤٠] وبمناسبة ذكر أحوال الرجال الصالحين وما يجزون من الثواب في الآخرة يأتي ذكر الكفار وما يلاقون من العذاب على كفرهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر (أَعْمالُهُمْ) التي يعملونها ويعتقدون أنها حسنات (كَسَرابٍ) هو الحادث في الصحاري وقت الظهر من انعكاس أشعة الشمس على الهواء حتى يظن الإنسان ـ من بعد ـ أنه ماء (بِقِيعَةٍ)

__________________

(١) الأنعام : ١٦١.

(٢) البقرة : ٢٦٢.

يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)

____________________________________

الباء حرف جر ، وقيعة جمع قاع وهو الواسع من الأرض المنبسطة ، ولعل الإتيان بالجمع ، لتعدد الصعد التي يعمل الإنسان الكافر أعماله فيها ، في صعيد العبادة للأصنام وفي صعيد الإنفاق ، وفي صعيد الإحسان إلى الأرحام ، وهكذا (يَحْسَبُهُ) أي يحسب ذلك السراب (الظَّمْآنُ) الذي عطش كثيرا (ماءً) وتخصيص الظمآن بالذكر ، مع أن السراب يتراءى لكل أحد ، من جهة أن الظمآن هو الذي يرجوه ، فإذا جاءه لم يجده ، ويخيب رجاءه في أحرج حالاته (حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي ذهب إلى ذلك السراب ليشرب منه ـ بظن أنه ماء ـ فيطفئ عطشه (لَمْ يَجِدْهُ) أي لم يجد ما زعمه ماء (شَيْئاً) إذ هو خيال الماء ، لا الماء ذاته ، وهكذا الكافر يحسب أن له أعمالا خيرة في الآخرة ينتفع بها في أحرج ساعاته ، فإذا ذهب إلى الآخرة لم يجد أثرا من أعماله (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي عند عمله المزعوم أنه باق له ، والمعنى أنه حيث كان يرجو الخير ، يرى الحساب والنكال (فَوَفَّاهُ) أي أعطاه الله وافيا (حِسابَهُ) الموجب لجزائه على أعماله السيئة في الدنيا (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، فلا تعطيل هناك في حساب الخلائق على كثرتهم ، وإنما يحاسب سبحانه الجميع في مقدار نصف ساعة ـ كما ورد ـ أو المراد سرعة زوال الدنيا ووصول الناس إلى جزاء أعمالهم.

[٤١] لقد كان المثال الأول للكافر بالنسبة إلى الشخص حال ظمأه يريد الارتواء ، ويأتي السياق بمثال ثان لحال الكافر بالنسبة إلى وقت ضلاله يريد الاهتداء والنور فلا يجد ، كالإنسان الذي ركب السفينة ، فجاء

أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها

____________________________________

سحاب وأظلم الآفاق ، وارتفعت الأمواج التي تغمر السفينة ، فلا يهتدي سبيلا لينقذه من هذه الهلكة (أَوْ كَظُلُماتٍ) أي أن أعمالهم كظلمات ، بينما أعمال المؤمنين كأنوار تهديهم الطريق ، كما قال سبحانه (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١) (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) فالوقت ليل مظلم ، والمكان بحر عظيم اللجة لا يرى ساحله ، من «لجة» البحر وهي معظمه (يَغْشاهُ) أي يعلو ذلك البحر اللجي (مَوْجٌ) وذلك حين تهب العواصف فتحمل الماء على متنها كالجبال وهو خليط من ماء وهواء (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي فوق ذلك الموج الأول موج آخر ، إذ العاصفة إذا هبت كونت موجا ويمشي هذا الموج بسرعة سير العاصفة ، فإذا جاءت عاصفة ثانية كونت موجا ثانيا ، وربما يركب الموج الثاني على الموج الأول إذا كانت العاصفة الثانية أشد وحملت موجا كبيرا ، أكبر من الموج الأول.

(مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) حتى لا يرى بصيص من ضياء القمر والنجوم ، حتى يكون الإنسان في وسط ذلك تغشاه (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ظلمة البحر المنعكسة في الهواء ، وظلمة الموج الأول ، وظلمة الموج الثاني ، وظلمة السحاب وظلمة الليل ، حتى أن الإنسان في تلك الظلمة (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) من تحت ثيابه (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي

__________________

(١) الحديد : ١٣.

وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ

____________________________________

لا يقرب رؤيتها لشدة الظلمات ، إن لهذا الإنسان كيف حاله في عدم اهتداء الطريق للخلاص والنجاة ، كذلك حال الكافر الذي وقع في وسط أعماله المظلمة المتراكمة عليه ، فإنه لا يهتدي إلى طريق الهدى ، ويكون مصيره الهلاك (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) يهتدي به إلى السعادة ، وإنما لم يجعل له نورا لأنه أعرض عن الهدى ، فحرم الضياء (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) لأن الله هو نور السماوات والأرض ، فإذا حرم إنسانا من نوره ، لم يكن هناك نور آخر يستنير به الكافر.

[٤٢] ومن عجيب أمر الكفار أنهم يغمضون عيونهم في هذا الجو الذي حواهم يأسا بآيات الله سبحانه (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو : أيها الرائي ، والمراد بالرؤية العلم ، أي ألم يصل علمك إلى (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ) تسبيحا تكوينيا (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإنا لنرى من في الأرض ينزه خلقهم الله سبحانه عن التعطيل والعجز والجهل وسائر الصفات السيئة.

ولا بد أن يكون من في السماوات كذلك بالفطرة والوجدان ، فهو مثل أن يقال : ألم تعلم أن النار في «الصين» تحرق ، فإن الإنسان يعلم ذلك بالقياس الفطري ، أو المراد وصول العلم إليهم بواسطة الأنبياء عليهم‌السلام الذين بينوا أن الملائكة يسبحون الله سبحانه ، ولعل المراد ب «من» الأعم من العقلاء ، وإنما جيء ب «من» تغليبا للعقلاء على من سواهم (وَ) يسبح (الطَّيْرُ) في حال كونها (صَافَّاتٍ) أي واقفات في الجو مصطفات الأجنحة في الهواء ، وتسبيحها تنزيهها ودلالتها

كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ

____________________________________

على وجود خالق قادر عليم حكيم ، وكان تخصيص الطير بالذكر إلفاتا إلى هذا المشهد المكرر المدهش إذا فكر الإنسان فيه ، فكيف أن الطير الثقيل لا يقع على الأرض ، وهو واقف في الجو ، بدون رفيف وحركة ، وحيث أن المراد بالطير الجنس جيء بضميرها مؤنثا (كُلٌ) من في السماوات والأرض والطير (قَدْ عَلِمَ) الله سبحانه (صَلاتَهُ) أي خضوعه لله (وَتَسْبِيحَهُ) تنزيهه له ، تكوينيا ، أو بألسنتها (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) من الأعمال ، فعلمه تعالى واسع شامل لكل شيء.

[٤٣] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المالك المطلق ، كما أنه العالم المطلق (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي إلى حسابه وجزائه مآل الكل ومرجع الجميع فهو المبدئ المعيد العالم المالك! وبعد هذا كيف يكفر الإنسان بهذا الإله العظيم؟ إنه لمدهش حقا.

[٤٤] (أَلَمْ تَرَ) أي رؤية بالبصر ، أو بالعلم ، والمخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كل من يأتي منه الرؤية (أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) الإزجاء الدفع والسوق ، أي يسوق من هنا وهناك (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بين أجزاء ذلك السحاب المتفرق الآتي من هنا وهناك (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما بعضه على بعض ، حتى يتكون منه سحاب كثيف ذو ارتفاع وكثافة (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) وثناياه.

وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ

____________________________________

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها) أي جبال السحاب التي في السماء ، والإنسان إذا ركب الطائرة يرى السحاب مثل الجبال في جميع مزاياها ، حتى لو لم يعلم الإنسان لظنها جبالا حقيقية ، كما شاهدنا ذلك حينما رجعنا من مكة المكرمة إلى دمشق (مِنْ بَرَدٍ) أي الثلج بأنواعه المختلفة و «من» بيانية للمنزل المفهوم من الكلام ، أي ينزل منزلا من جنس البرد (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بذلك الودق أو البرد (مَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) فلا ينزل المطر عليهم ولا يأتي إليهم البرد (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي يقرب برق السحاب من أن (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) فيعمي العين ويخطفها لشدة لمعانه ، فمن يا ترى جعل كل ذلك مما لا يقدر على جزء صغير منه البشر بكل قواه ووسائله؟.

[٤٥] (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يأتي بهذا وبذاك ، كالإنسان الذي يقلب الدرهم في كفه فتارة يظهر وجهه وأخرى يظهر ظهره (إِنَّ فِي ذلِكَ) التقليب (لَعِبْرَةً) أي اعتبار ودلالة على وجود الله سبحانه وسائر صفاته (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي أصحاب بصر القلب ، أما من لا يعتبر فهو أعمى لا بصر له.

[٤٦] (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) أي كل حيوان يدب على وجه الأرض ، والمراد

مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)

____________________________________

الأعم لأن ما لا تدب أيضا كذلك ، وقد جرت العادة بإتيان جملة دلالة على الكل (مِنْ ماءٍ) الظاهر أن المراد الماء مطلقا لا خصوص المني ـ ليشمل مثل الحيوانات التي تتولد من مجرد الماء ، كالعقرب التي تتولد من الأرض الندية ـ إذ صح أن الولادة من مجرد الماء ، بدون أن تكون هناك بذور ـ (فَمِنْهُمْ) أي من الدواب (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالدود والحية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطيور (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش ، وكان هذا من باب المثال ، وإلا فمنهما من لا تمشي أو تمشي على أكثر من أربع ، ولعل الإتيان بما للعاقل من ضمير «منهم» ولفظة «من» تغليبا للإنسان على غيره ، مع اقتضاء وحدة السياق لسوق الجميع بهيئة واحدة (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من أنواع الحيوانات (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهل هناك على عموم قدرته سبحانه من هذه المخلوقات المختلفة ، التي يعجز جميع البشر من خلق واحدذة منها؟.

[٤٧] (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ) أي أدلة دالة على وجودنا (مُبَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ممن قبل الهداية ابتداء (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فإنّ الإرشاد إذا جاء ، فقبل بعض الأفراد ، أوصلهم الله سبحانه الطريق المستقيم أما من لم يقبل الإرشاد فيتركه سبحانه في ضلاله.

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨)

____________________________________

[٤٨] وحيث تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين يأتي السياق لبيان ما ينبغي أن يتصف به المؤمنون من الإذعان لكل أوامر الله والرسول (وَيَقُولُونَ) أي بعض الناس (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) واعتقدنا بهما (وَأَطَعْنا) في أعمالنا لهما (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي يعرض بعض هؤلاء المدعين للإيمان ، عن الأوامر (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الإظهار للإيمان والإطاعة (وَما أُولئِكَ) الذين يتولون ويعرضون عن الطاعة (بِالْمُؤْمِنِينَ) إذ كيف يكون مؤمنا صحيح الإيمان من يعرض عن أحكام الإله؟ وقد ورد (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١).

[٤٩] (وَإِذا دُعُوا) أي دعاهم طرف النزاع معهم في قضايا المرافعات (إِلَى اللهِ) لينظروا ماذا في كتابه من الأحكام ليجعلوه حكما بينهم (وَرَسُولِهِ) ليفصل القضية حسب الشريعة (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الرسول (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء القائلين بأنهم مؤمنون (مُعْرِضُونَ) عن الخضوع للكتاب وللرسول ، وكأن الإتيان بلفظة «إذا» لإفادة المفاجآت ، كأن هذا كان مفاجأة أن يعرض عن الله والرسول من يدعي الإيمان والإطاعة.

__________________

(١) النساء : ٦٦.

وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)

____________________________________

[٥٠] (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي علموا بأن الرسول يعطي الحق لهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) إلى الرسول (مُذْعِنِينَ) منقادين لقضائه وحكمه ، إما حيث علموا أن الحق ليس لهم أعرضوا عن إتيان الرسول ، يريدون أن يذهبوا إلى من يعطي لهم الحق ـ وإن كان باطلا في نظر الواقع ـ.

[٥١] (أَفِي قُلُوبِهِمْ) استفهام توبيخي ، أي هل في قلوب هؤلاء المعرضين عن حكمك يا رسول الله (مَرَضٌ) أي نفاق وريب في نبوتك (أَمِ ارْتابُوا) بعد أن آمنوا ، بأن شكوا في عدلك وقولك بالحق (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ) أي يجور الله (عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكم ، بأن لم يشكوا في نبوتك ولم ينافقوا ، وإنما يخافون من جور الحكم ، كما هو شأن ضعاف الإيمان (بَلْ) لم يخافوا جور الحكم ، وإنما (أُولئِكَ) المعرضون (هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم حيث تولوا عن حكم الله والرسول ، وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في منازعة وقعت بين الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وعثمان بن عفان ، وذلك أنه كان بينهما منازعة في حديقة فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : نرضى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان : لا تحاكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه يحكم له عليك ولكن حاكمه إلى ابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه‌السلام : لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه‌السلام : لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال ابن شيبة لعثمان : تأتمنون رسول الله على وحي السماء وتتهمونه في الأحكام؟ فأنزل الله عزوجل على رسوله

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ

____________________________________

«وإذا دعوا» الآيات (١).

[٥٢] (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) الصحيحي العقيدة والإيمان (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إلى كتاب الله ، ورسوله ـ فيما كان في الحياة ـ أو سيرته بعد وفاته (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي يقضي بينهم في الخصومات (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا) قول الله والرسول (وَأَطَعْنا) أوامرهما (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدنيا وسعادة الآخرة.

[٥٣] (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي (وَيَخْشَ اللهَ) أي يخاف من عقابه إذا خالف (وَيَتَّقْهِ) أي يتقي الله ، والفرق بينهما أن الخشية أمر قلبي ، والاتقاء عمل خارجي ، والخشية تنجر إلى التقوى (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بسعادة النشأتين.

[٥٤] وبمناسبة الحديث عن المخالفين لأوامر الرسول يأتي الحديث عن بيان كذبهم في القول حتى فيما يحلفون على طبعه (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) أي حلفوا به (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أغلظ أيمانهم ، الذي كان على قدر جهدهم ومنتهى طاقتهم ، و «جهد» منصوب على المصدر أي يجهدون جهدا في إيمانهم (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج للقتال (لَيَخْرُجُنَ) ولكن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٢٢٧.

قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى

____________________________________

هل ذلك صحيح؟ كلا! إنهم لم يرضوا بالمحاكمة فكيف يرضون بإزهاق أنفسهم في القتال؟

(قُلْ) يا رسول الله لهم (لا تُقْسِمُوا) على إطاعتكم (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) إما أن يكون هذا تهكما ، أي أن طاعتكم معروفة ، كما تقول للذي يحلف كاذبا إنه عمل كذا من الخير : لا تحلف ، أعمالك الخيرية معروفة ، أو المراد لا تأت بالحلف ، وإنما أطع ، فإطاعتكم طاعة معروفة حسنة خير من حلفكم وقولكم ، كما تقول لمن يحلف أنه ينصرك : لا تحلف ، انصر ، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يعلم أنكم لا تطيعون وإنما تحلفون حلفا مجردة عن العمل.

[٥٥] (قُلْ) يا رسول الله لهم (أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم في القرآن الحكيم (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما يأمركم وينهاكم ، وهذا شامل لسنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن الطاعة ، أصله «تتولوا» وهو خطاب لهم ، حذفت إحدى تاءيه على ما هو القاعدة في ما إذا اجتمع تاءان في فعل المضارع (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي على الرسول (ما حُمِّلَ) وكلف من البلاغ وأداء الرسالة (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الطاعة والاتباع ، أي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مسئول عن إعراضكم فقد أدى ما عليه من الهداية والإرشاد ، وإنما الوزر عليكم حيث خالفتم (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) أيها المسلمون (تَهْتَدُوا) إلى الرشد والصلاح (وَما عَلَى

الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ

____________________________________

الرَّسُولِ) أي ليس الواجب عليه (إِلَّا الْبَلاغُ) أي تبليغكم الأحكام (الْمُبِينُ) أي بلاغا واضحا ظاهرا لا لبس فيه ولا غموض.

[٥٦] (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أيها المسلمون (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأن صحّت عقيدتهم وعملهم ولعل الإتيان بلفظ «منكم» للتشريف بأن الوعد لهم ، وإلا فالوعد عام يشمل كل مؤمن عامل بالصالحات (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يجعلهم خلفاء لمن سبقهم ، فيكونون سادة وملوكا عقب الكفار الذين ملكوا الأرض وسادوا البلاد (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما جعل الله المؤمنين من الأمم السابقة خلفاء الكفار في سيادة البلاد ، كما استخلف بني إسرائيل مكان الملوك الكافرة ، وكما استخلف النصارى مكان اليهود ، فصاروا سادة ، وكذلك المسلمون إذا آمنوا إيمانا صحيحا وعملوا الصالحات يستخلفهم الله سبحانه في مكان الكفار ليكونوا هم ملوك الأرض وسادتها عوض الكفار ، وقد أنجز الله هذا الوعد ـ كما يدل على ذلك التاريخ الإسلامي ـ بل لقد رأينا أن من بركة أولئك المؤمنين العاملين للصالحات ، وصل ملك الأرض إلى من كان في زي الإسلام ، وإن كان الإسلام منه بمعزل. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي يمكنهم من إقامة دينهم الذي هو الإسلام ، أو المراد يمكن دينهم بأن يجعل له مكنة وقوة ليظهر على جميع الأديان ، ويغلب عليها ، فتذهب الأديان وتضمحل ويأخذ هذا الدين مكانها ، وارتضى لهم أي اختاره

وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا

____________________________________

لهم دينا (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) فقد كانوا يخافون الكفار من إظهار دينهم وإعلام شعائره ، لكن الله سبحانه ـ إذا آمنوا صدقا ، وعملوا الصالحات ـ يجعلهم سادة حتى لا يخافون أحدا ، فيتبدل خوفهم بالأمن ، وهؤلاء (يَعْبُدُونَنِي) عبادة صادقة (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) فالخضوع له سبحانه ، لا للمال والمنصب والشهوات وما أشبهها ، إن من يمكنه الله في الأرض هو المتصف بهذا الوصف (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) الذي مكنه الله سبحانه في الأرض ، بل خرج عن طاعة الله سبحانه بعد أن هيأ له الجو ومهد له البلاد (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن الحدود ، فإن الفسق بمعنى الخروج ، لأنهم خرجوا عن الشرط ، وكأنه تهديد بالزوال ، إذ من خرج عن الشرط هدد ملكه بالزوال ، وقد رأينا ذلك في تاريخ الإسلام حين كفر الملوك بنعمة الله ، وخرجوا عن أمره وشرطه ، حيث انساقوا وراء الشهوات ، وإذا بهم يخرجون عن الأرض ، وتطوى سيادتهم وملكهم ، وقد وردت أحاديث كثيرة في أن الآية إنما هي في شأن الإمام المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه ، وفي شأن شيعة أهل البيت ، ومن المعلوم أن ذلك من أظهر مصاديق هذه الكلية المذكورة في الآية.

[٥٧] وإذ كان الشرط العمل الصالح يذكر السياق بعض أقسامه المهمة بقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بحدودها وآدابها (وَآتُوا) أي أعطوا (الزَّكاةَ) إما المراد الزكاة المفروضة أو مطلق الصدقة (وَأَطِيعُوا

الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ

____________________________________

الرَّسُولَ) في كل ما يأمركم به (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي يرحمكم الله سبحانه ويتفضل عليكم جزاء أعمالكم.

[٥٨] وإذ تقدم وعد الله لعباده الصالحين باستخلافهم الأرض ذكر أنه ليس الكفار أعجزوه سبحانه فلم يتمكن منهم ، وإنما ذلك امتحان لأيام قلائل حتى يصيروا إلى النار (لا تَحْسَبَنَ) أي لا تظنن يا رسول الله ، أو من يأتي منه الظن (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي قد أعجزونا عن أخذهم وإزالتهم والانتقام منهم (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي مستقرهم ومصيرهم من «أوى» بمعنى اتخذ المأوى (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المأوى النار المعدة للكفار.

[٥٩] ومن أدب العائلة أن يكون للزوجين أوقات خلوة ، لا يدخل عليهم من الخدم والأطفال أحد إلا بعد الاستئذان ، فقد تقدم لزوم الاستئذان لمن في خارج البيت إذا أراد الدخول ، وهنا يبين السياق لزوم الاستئذان لمن في داخل البيت إذا أراد الدخول في غرفة العائلة ، وذلك في ثلاثة أوقات ، هي قبل وقت صلاة الفجر ، وقبل وقت صلاة الظهر أو بعده ، وبعد وقت صلاة العشاء حيث أن في هذه الأوقات يستريح الإنسان ، وكثيرا ما تبدو العورات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) أي يلزم أن يطلبوا الإذن منكم إذا أرادوا الدخول في غرفتكم الخاصة ومحل استراحتكم (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وهم العبيد والإماء ، ونسبة الملك إلى اليمين لأن اليد ـ وبالأخص اليمين ـ هي العضو الكثير

وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ

____________________________________

العمل الذي يكتسب حتى ينفق الإنسان الثمن في شراء العبد (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأطفال المميزين ، أما سائر الناس كالأولاد الكبار والأقرباء الذين يجمعهم دار واحدة ، فقد سكتت عنهم الآية لوضوح أنهم مردوعون ذاتا عن اقتراف الدخول بلا استئذان ، كما سيفهم من الآية الآتية. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في كل يوم (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) حيث الإنسان في فراش النوم ، أو يبدل ثوبه للخروج (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) بعد الرجوع إلى الدار (مِنْ) بعد (الظَّهِيرَةِ) والمراد إما وقت القيلولة قبيل الظهر وإما وقت المنام بعد الظهر (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) حيث يخلع الإنسان ثيابه للمنام ، هذه (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) وإنما سمي الأوقات بالعورة ، لانكشاف العورة في هذه الأوقات غالبا ، من باب الإسناد إلى السبب ، فالأوقات مبدية للعورة ، لا أنها عورة ، أو من باب الإسناد إلى الظرف ، فالأوقات ظرف لظهور العورة ، ولا يخفى أن الملاك موجود في غير هذه الأوقات الثلاث فيما جرت العادة بالخلوة فيها (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) أي الخدم والغلمان (بَعْدَهُنَ) أي فيما بعد هذه الأوقات الثلاثة والمراد ببعدهن ، سائر الأوقات ، لا خصوص بعد المقابل لقبل ، نحو «من بعد الله» (طَوَّافُونَ) الطائف هو الذي يختلف إلى مكان ، ومنه سمي الطواف والسعي ، في الحج ، طوافا (عَلَيْكُمْ)

بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

____________________________________

أولئك الخدم والغلمان ، ويظهر من الآية ، أن الجناح في الأوقات الثلاثة ليس خاصا بالطائف ، بل جناح على الزوجين أيضا ، كما أن الظاهر من الآية عموم الحكم حتى بالنسبة إلى غير الزوجين ممن يخلو بنفسه في غرفته ، لإطلاق الآية ، ووجود العلة (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي طواف بعضكم وهم الخدم والغلمان على بعض وهم الزوجان ومن إليهما ، ولعل الإتيان بهذه الجملة للإشارة إلى أنه لا ينبغي التحشم في غير الأوقات الثلاثة ، ألستم جميعا بعض من كل؟ وهذا لبيان الأدب المتوسط بين الإفراط لمن يأذن حتى في هذه الأوقات ـ كما نرى عند بعض الجاهلين في هذا الزمان ـ وبين التفريط لمن لا يأذن حتى في غير هذه الأوقات ترفعا وأنفة ، أو المراد طوافكم عليهم لطلب الحاجة والتربية ، وطوافهم عليكم للخدمة ، وكما بين الله لكم هذا الحكم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الأحكام والآداب (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما هو صلاحكم (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى عنه.

[٦٠] (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ) أيها المؤمنون والتخصيص ب «منكم» لأن العبيد إذا بلغوا بقي حالهم كالسابق (الْحُلُمَ) أي وقت الاحتلام ، وهو البلوغ (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) أي يجب عليهم الاستئذان إذا أرادوا الدخول ، في أي وقت كان ، فإن الإنسان يتأدب أما الحر الكبير ربما لا يتأدب أمام الطفل والعبد (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ) ذكروا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأطفال والخدم ، في الأوقات الثلاث أو كما استأذن الذين بلغوا قبلهم من

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ

____________________________________

الأحرار ، وكما بين الله سبحانه هذا الحكم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) الدالة على الأخلاق والأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمصالح (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى ، فاللازم أن يتبع الإنسان أحكامه لأنها صادرة عن علم وحكمة.

[٦١] وإذ قد تقدم حرمة إبداء النساء زينتهن ولزوم الحجاب ، جاء السياق ليستثني عن ذلك النساء اللاتي تقدمن في السن ، حتى خلت أجسامهن عن الإثارة ، وعفت نفوسهن عن الشهوة ، فلا يثرن شهوة ، ولا يشتهين أمرا (وَالْقَواعِدُ) جمع قاعدة ، وهي التي قعدت عن الحيض وقابلية الزواج (مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي) جمع التي (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي لا يطمعن في النكاح و «يرجون» مشترك بين الجمع المذكر والمؤنث ، كما لا يخفى. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ) أي يتركن (ثِيابَهُنَ) المرتبطة بالنساء كالجلباب الذي تلبسه المرأة فوق الخمار والحجاب وما أشبه ذلك ، فقد جاز لهن أن يخرجن بملابسهن العادية ، بدون ستر البدن بجلباب كبير وبدون ستر الوجه واليدين والقدمين ، في حال كونهن (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) التبرج الظهور ، أي غير ظاهرات مع زينة مثيرة ، كالحلي ، والثياب الجميلة ، والزخارف الملونة ، فاللازم أن يكون قصدهن التخفيف لإظهار الزينة (وَ) مع ذلك (أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ)

خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ

____________________________________

بلبس الجلباب وعدم وضع ثيابهن (خَيْرٌ لَهُنَ) من وضعها ، بأن يلبس الجلباب كسائر النساء فإن ذلك ثوب حشمة ووقار (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم التي تقولونها حول النساء القواعد ، والتي تقولها النساء عن نفسهن (عَلِيمٌ) بما في قلوبكم ، وقلوبهن ، فإذا زاغت كلمة أو التوى قصد علمه الله سبحانه ، وحاسبكم عليه.

[٦٢] ثم يأتي السياق ليبين أحكام الأكل والمواكلة ، مما يرتبط بالعائلة ، والأصدقاء ، بعد ما بين حكم البيوت والخلوة والاستئذان في خارجها وداخلها قال الإمام الباقر عليه‌السلام : أن أهل المدينة ـ قبل أن يسلموا ـ كانوا يعتزلون الأعمى والأعرج والمريض وكانوا لا يأكلون معهم وكان الأنصار فيهم تيه وتكرم ، فقالوا : إن الأعمى لا يبصر الطعام والأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام والمريض لا يأكل كما يأكل الصحيح فعزلوا طعامهم على ناحية وكانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناح ، وكان الأعمى والأعرج والمريض يقولون : لعلنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم فاعتزلوا من مواكلتهم ، فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن ذلك : فأنزل الله عزوجل(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) (١) أي ليس عليه ضيق يوجب اعتزالهم (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) في أكله مع الناس (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) ومن المعلوم أن الآية لم تسق للإطلاق من جهة أقسام الأمراض المعدية وإنما سيقت لبيان أمر آخر ، فلا إطلاق فيها من هذه الجهة ، ثم بين سبحانه حكما آخر وهو جواز أن يتناول الإنسان من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ٥٣.

وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ

____________________________________

البيوت المذكورة بدون استئذان أربابها.

(وَلا) حرج (عَلى أَنْفُسِكُمْ) أيها المؤمنون (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت أزواجكم ، فلا محل لأن يتحرج عن الأكل من بيته باحتمال أن يكون المأكول خاصا بالزوجة أو الزوج أو لشخص غريب وضعه هناك أمانة أو نحو ذلك ، وربما احتمل أن يكون المراد بيت الأولاد ، فنسب بيت الأولاد إلى الإنسان نفسه (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) ويشمل الأجداد (أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) وتشمل الجدات (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) سواء كان الآكل أخا أو أختا (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) من الأبوين أو من واحد منهما (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ) والظاهر شموله لأعمام الأب والأم (أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ) وهي في الشمول لمطلق العمة كالسابق (أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ) أخ الأم (أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) أخت الأم ، وفي عمومها ما سبق (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) مفاتح جمع مفتح ، وهو المفتاح ، أي البيت الذي عندكم مفتاحه ، قال الصادق عليه‌السلام : الرجل له وكيل ، يقوم في ماله فيأكل في غير إذنه (أَوْ) بيت (صَدِيقِكُمْ) فقد ورد عنهم عليهم‌السلام إنهم قالوا : لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله قدر حاجتهم من غير

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ

____________________________________

إسراف (١). وقال الصادق عليه‌السلام : هؤلاء الذين سمى الله عزوجل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم وكذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه (٢). وقال عليه‌السلام في قوله «ليس عليكم جناح» : بإذن وبغير إذن (٣). (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) أيها المسلمون (جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) فليس على الإنسان بأس أن يأكل مع غيره أو منفردا ، وهذا بيان كيفية الأكل بعد ما بين سبحانه مكان الأكل ، فقد كان بعض الناس يتحرج أن يأكل الطعام وحده ، وأشتات جمع شتيت ، ومعناه المتفرق «و» إذ بين سبحانه كيفية الأكل ومكان الأكل جاء السياق لبيان بعض آداب البيوت عطفا على ما سبق من الآداب فقال (فَإِذا دَخَلْتُمْ) أيها المسلمون (بُيُوتاً) من تلك البيوت أو غيرها (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ليسلم بعضكم على بعض ، قال الصادق عليه‌السلام : هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم (٤) (تَحِيَّةً) منصوب على المصدر ، إذ هو بمعنى تسليما ، أي حيوا تحية وسلموا تسليما وأصل التحية أن الإنسان كان إذا رأى غيره قال «حياك الله» أو «لتحيى» والمعنى أن يبقى حيا ، حتى شرع الإسلام السلام ، وهو أفضل من التحية ـ بالمعنى المتقدم ـ إذ الحياة لا تلازم السلامة ، أما السلامة فهي تلازم الحياة مع الزائد ، ومن هناك سمي كل ترحيب يبدي به عند اللقاء ، بالتحية (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي أنها تحية جاءت من عنده

__________________

(١) فقه القرآن : ج ٢ ص ٣٣.

(٢) الكافي : ج ٦ ص ٢٧٧.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢٤ ص ٢٨٣.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٨١.

مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ

____________________________________

سبحانه ، بأمره لكم أن تبدؤوا بها.

في حال كونها (مُبارَكَةً) أي لها البركة ، فإن السلام يوجب الزيادة في العلاقات ، مع ما له من الآثار الغيبية (طَيِّبَةً) لما فيها من طيب العيش بالتواصل والأجر الكبير ، وقد ورد أن في السلام والجواب مائة حسنة تسع وتسعون منها للمسلم وواحدة للمجيب ، وكما بين الله لكم هذه الأحكام (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ) أيها المسلمون (الْآياتِ) الدالة على الأحكام والآداب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعملوا عقولكم فتسعدوا في الحياة.

[٦٣] وإذ بين سبحانه علاقة المسلمين بعضهم مع بعض في المأكل ، والاجتماع والتحية ، وسائر ما تقدم بيّن الأدب اللازم رعايته مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رئيس المسلمين الأعلى فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) بأن اعتقدوا بالله ، وصدقوا بالرسول ، عن حقيقة وقلب ، لا بمجرد اللفظ (وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي مع الرسول (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي أمر يقتضي الاجتماع كالمشورة ، والحرب ، وما أشبه (لَمْ يَذْهَبُوا) من عنده (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي يطلبوا الإذن من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الذهاب والانصراف (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يا رسول الله (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) إيمانا صادقا راسخا (بِاللهِ

وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ

____________________________________

وَرَسُولِهِ) إذ عدم الاستئذان دليل على عدم تمكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قلوبهم ، ونشوب الإيمان في أعماقهم (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) يا رسول الله (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ولعل الإتيان بهذه الجملة للتنبيه على أنه لا ينبغي لهم أن يستأذنوا اعتباطا للتخلص من التبعة ، وإنما الاستئذان لبعض الأمور المحتاج إليها (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) فإن إعطاء الإذن بيد الرسول ، إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) أي اطلب لهم من الله الغفران ، فلعل الاستئذان كان عبثا لمحاولة الفرار عن الأمر الجامع فهم في معرض سخط الله الذي لا يدفعه إلا الاستغفار (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر الذنب (رَحِيمٌ) يتفضل على المؤمنين باللطف والرحمة ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في حنظلة ، وذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد ، فاستأذن رسول الله أن يقم عند أهله فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، فأقام عند أهله ثم أصبح وهو جنب فحضر القتال واستشهد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض ، فسمي غسيل الملائكة (١).

[٦٤] ومن جملة الآداب التي يلزم مراعاتها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بينه سبحانه بقوله : (لا تَجْعَلُوا) أيها المسلمون (دُعاءَ الرَّسُولِ) نداءه عند

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٢٦.

بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً

____________________________________

المخاطبة فيما (بَيْنَكُمْ) ولعل الإتيان بهذه الكلمة ، لبيان أنه ينبغي احترامه وهو بينكم ، فإنه الرسول ، في قبال من يحترم غيره في الخارج دون الخلوة فيما بينهما (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) كما ينادي بعضكم بعضا بالاسم ، أو اللقب فلا تقولوا يا محمد ، ويا أبا القاسم ، بل قولوا يا رسول الله ، يا نبي الله ، قال الصادق عليه‌السلام : قالت فاطمة عليها‌السلام : لما نزلت هذه الآية هبت رسول الله أن أقول له يا أبت ، فكنت أقول يا رسول الله ، فأعرض عني مرة أو اثنين أو ثلاثا ثم أقبل علي وقال : يا فاطمة إنها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في نسلك أنت مني وأنا منك ، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبرياء ، قولي يا أبت فإنها أحيا للقلب وأرضى للرب (١).

أقول : لعل المراد بالنسل الأئمة عليهم‌السلام.

ثم رجع السياق إلى ما تقدم من لزوم الاستئذان لدى إرادة الانصراف (قَدْ يَعْلَمُ) قد للتحقيق ، أو جار مجرى التعريض ، فقد تقول لولدك ـ مهددا ـ قد أطلع إلى عملك ، بمعنى أن احتمال اطلاعي كاف في أن ترتدع (الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) التسلل الخروج في خفية وهدوء وحذر (مِنْكُمْ) أيها المسلمون (لِواذاً) وهو أن يتستر الإنسان بشيء مخافة أن يراه أحد ، من لاذ بمعنى : التجأ ، فقد كان بعض المسلمين يقومون في هدوء وحذر ويتسترون ببعض الأصحاب الجالسين أو

__________________

(١) المناقب : ج ٣ ص ٣٢٠.

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)

____________________________________

الواقفين ، لئلا يراهم الرسول حين يريدون الانصراف ، بدون الاستئذان ، وفي قوله «قد يعلم الله» تهديد لمن يفعل ذلك (فَلْيَحْذَرِ) أي يجب أن يحذر ويخاف (الَّذِينَ يُخالِفُونَ) أي يعرضون (عَنْ أَمْرِهِ) تعالى (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي بينة وعقوبة في الدنيا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

[٦٥] (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالكل ملكه والكل تحت تصرفه ، فكيف يمكن أن يخالفه أحد ولا يخشاه؟ (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الأعمال والكلام في «قد» ما تقدم ، وفي هذا تهديد لمن يخالف (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) وهو يوم الموت ، أو يوم القيامة ، والمراد الرجوع إلى حسابه وجزائه (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم ، إخبارا يتعقبه الجزاء ، وهذا كقولك لمن تريد وعده أو إيعاده «سأخبرك بما عملت» (بِما عَمِلُوا) من الطاعة والمعصية (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيجازي كلا حسب عمله وما صدر منه ، و «يوم» منصوب على الظرفية ، أي «ينبئهم في يوم يرجعون إليه» ، وإنما دخل «الفاء» لإفادة الترتيب بين الإخبار وبين والرجوع.

(٢٥)

سورة الفرقان

مكية / آياتها (٧٨)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الفرقان» وهي كسائر السور المكية تتعرض للعقيدة وما يتبعها وحيث ختمت سورة النور بأن لله ما في السماوات والأرض ، ابتدأت هذه السورة بأن لله التشريع ، لتلائم التشريع مع التكوين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله المستجمع لجميع صفات الكمال ، وقد اعتاد الإنسان أن يجعل شعاره أفضل شيء يشير إلى نفسيته ومنهاجه ، وهل هناك شيء أفضل من اسم الله سبحانه ليجعل شعارا؟ ، وهل بعد ذلك شيء أفضل من الرحمة التي تعم التكوين وإعطاء الخير والهداية ، ليعقب باسم الإله؟

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)

____________________________________

[٢] (تَبارَكَ) هو من باب التفاعل ، من البركة ، إما بمعنى تكاثر خيره ، أو من البروك ، بمعنى الاستقرار ، أي دام وثبت (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) أي القرآن ، وسمي فرقانا لأنه المفرق بين الحق والباطل (عَلى عَبْدِهِ) محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِيَكُونَ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِلْعالَمِينَ) أي جميع عوالم العقلاء من الإنس والجن في الأجيال المختلفة والأصقاع المختلفة (نَذِيراً) أي منذرا عن المعاصي والكفر والآثام ، وإنما ذكر هذا الوصف ، لأن التنقية عن الشرك والمعاصي مقدم على التحلية بالإيمان والطاعات.

[٣] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المالك ، وحق للمالك أن يشرع ، كما أن المالك أعرف بما يصلح مملوكه من غيره ، فهو أحسن نظاما وخير دينا من غيره (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما زعمت اليهود والنصارى والمشركون جعلوا عزيرا والمسيح والملائكة أولاد الله تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) تعالى (شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) يشاركه في الكون ، كما زعم المشركون ، حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله سبحانه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فله الخلق ، كما أن له الملك ، وصرح بذلك لعدم التلازم بينهما (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) حسب الحكمة والصلاح ، أي وضع لكل شيء حدا في الكيفية والكمية ومدة البقاء إلى غير ذلك من الأمور

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ

____________________________________

المكتنفة بكل مخلوق.

[٤] (وَاتَّخَذُوا) أي اتخذ الكفار (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (آلِهَةً) المراد بالجمع الجنس حتى يشمل الواحد ، كما يراد بالجنس الجمع في كثير من الموارد ، وتلك الآلهة (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) لا تقدر على خلق شيء (وَهُمْ) تلك الآلهة (يَخْلُقُونَ) مخلوقة لله سبحانه ، والإتيان بلفظ العاقل سيرا على مذهب القوم الذين كانوا يزعمون عقل الأصنام (وَلا يَمْلِكُونَ) تلك الآلهة (لِأَنْفُسِهِمْ) فكيف لغيرهم (ضَرًّا) بأن تدفعه عن نفسها (وَلا نَفْعاً) بأن يجلبونه لأنفسهم ، في مقابل الله الذي يخلق ولم يخلق ، ويتمكن على كل نفع وإضرار بالنسبة إلى جميع الناس (وَلا يَمْلِكُونَ) لأحد (مَوْتاً وَلا) لميت (حَياةً وَلا) لأحد (نُشُوراً) أي إحياء بعد الموت ، فكيف يترك الكفار عبادة الله القادر على كل شيء والخالق لكل شيء والمالك لكل مملوك ، ويعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على شيء ولم تخلق شيئا وليس لها شيء؟.

[٥] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حول القرآن الذي أنزله الله على رسوله (إِنْ هَذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) أي كذب (افْتَراهُ) الرسول ، على الله سبحانه ، بأن نسبه إليه تعالى بالكذب ، (وَأَعانَهُ) أعان الرسول (عَلَيْهِ) على هذا الإفك (قَوْمٌ آخَرُونَ) فقد كانوا يقولون إن

فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)

____________________________________

عداس مولى حويطب ويسار غلام العلاء وحبر مولى عامر ، هم الذين أعانوا الرسول على إنشاء هذا القرآن ، وقد كان أولئك من أهل الكتاب.

وعن الباقر عليه‌السلام : يعنون أبا فكيهة وحبرا وعداسا وعابسا مولى حويطب (١) (فَقَدْ جاؤُ) أي هؤلاء الكفار (ظُلْماً) إذ ظلموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه النسبة إليه (وَزُوراً) أي افتراء ، فكيف يمكن للعبد أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي لا يمكن أن يأتي به فصحاء قريش وعقلائهم؟ كما قال سبحانه : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٢)؟.

[٦] (وَقالُوا) أي قال جماعة آخرون من الكفار (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) جمع أسطورة ، وهي الحديث الخيالي الذي لا واقع له ، أي قالوا أن هذا القرآن أحاديث المتقدمين وما سطروه في كتبهم جمعها محمد وكتبها ليدعي بها النبوة (فَهِيَ) أي هذه الأساطير (تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه يقرؤها عليه بعض أصدقائه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي صباحا وعشيا ، ليحفظها ويقرأها على الناس ، وقد كانوا مناقضين في أقوالهم فمرة يقولون إفك افتراه ، ومرة إنها أساطير الأولين ، مع أن الرسول لم يكن كاتبا ، ثم ينسبون الإلقاء إلى أفراد لم يكن لهم علم ولسان ، ومع ذلك كله لم يقدروا على أن يأتوا بأقصر سورة مثله.

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ١١١.

(٢) النحل : ١٠٤.

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧)

____________________________________

[٧] (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (أَنْزَلَهُ) أي أنزل هذا القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي الخفي (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو بعلمه الشامل يعلم مقدار قدرة البشر ، ولذا ترى الذي أنزله فوق قدرتهم إذ لا يتمكنون أن يأتوا بمثله ، ولو كان افتراء من عند جاهل لا يعلم مقادير قدرة الناس لأمكنوا من معارضته والإتيان بمثله. (إِنَّهُ) سبحانه (كانَ غَفُوراً) حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، ليتوب من يتوب (رَحِيماً) يرحم العباد ويتفضل عليهم.

[٨] لقد كان هذا قولهم في القرآن أما قولهم حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) أصل هذه الجملة تستعمل بمعنى «أي شيء له» ولكن استعملت بعد ذلك في مجرد الاستفهام (يَأْكُلُ الطَّعامَ) أي كيف يكون رسولا وهو يأكل الطعام (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ)؟ فقد كانوا يظنون أن هذه الأمور تنافي شأن الرسالة (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) من السماء ، كي نراه (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي معينا له على الإنذار والتخويف و «لو لا» بمعنى «هلا» ولنسأل هؤلاء القائلين : لماذا يجب أن يكون الرسول لا يأكل الطعام ، ولا يمشي في الأسواق؟ ولماذا يلزم أن يكون معه ملك يرى؟ إن الكفار لم يكن لهم منطق في هذه الكلمات إلا السخافة والاقتراح المجرد والعناد.

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

[٩] (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ) من جانب السماء ، أو المراد يعطى (كَنْزٌ) من الذهب والفضة وسائر الجواهر ، حتى يكون ذا مال ، فقد كانوا يستغربون أن يكون الرسول لا مال له (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (يَأْكُلُ مِنْها) من تلك البستان حتى لا يحتاج إلى اشتراء الفواكه والخضر من السوق (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون أيها المؤمنون (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) قد سحروه ، وذهب عقله ، ومن ذهاب عقله ادعائه النبوة ، وكلامه بكلام المجانين.

[١٠] (انْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي الأشباه فتارة شبهوك بالمسحور ، وتارة بالمجنون ، وتارة بالشاعر ، وهكذا (فَضَلُّوا) عن الطريق ، وسبيل الهداية (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) حيث أبعدوا أنفسهم عنك (سَبِيلاً) يهديهم إلى الحق ، إنهم بعّدوا أنفسهم منك ، ولا طريق إلى الله سبحانه سواك ، فهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الهدى.

[١١] (تَبارَكَ) أي تقدس وتعالى ـ وقد تقدم معناه ـ (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الذي اقترحوه ، من الكنز والبستان ، ثم فسر سبحانه ما هو خير بقوله (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من

وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ

____________________________________

تحت أشجارها (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) في هذه الدنيا ، ولكن الإيمان حيث كان مرتبطا بالقلوب ، ولأجل الامتحان ، يلزم تجرد الأنبياء عن المال ـ بدء الدعوة ـ ليظهر صدق المؤمن ، وإلا فالناس كلهم تبع للمال ، يميلون حيث مال.

ولعل ذكر هذه المحاورات بين الرسول وبين القوم ، وبيان ما كانوا يقولون في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي القرآن ، لأجل تعليم الناس كيفية الاحتجاج ، وإرشاد الذين يريدون الإصلاح إلى الأتعاب التي يواجهونها في طريقهم ، ليأخذوا أهبتهم عند الحركة ، ويستعدون للدفاع والكفاح حسب اطلاعهم على مقدار قوى الخصم ، ولتظهر منزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومكانته السامية.

[١٢] هؤلاء لا يكذبونك لأنهم لم يجدوا دليلا على صدقك (بَلْ) إنما يكذبونك لأنهم لا يخافون المعاد فقد (كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي بالقيامة (وَأَعْتَدْنا) هيئنا (لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) نارا تسعر وتتلظى.

[١٣] (إِذا رَأَتْهُمْ) أي رأت النار هؤلاء الكفار (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وإنما نسب الرؤية إلى النار ، مع أن النار لا عين لها ، لزيادة التهويل حتى كأن النار تراهم وتنظر إليهم نظرة الغضبان الحانق ، والقلب من أنواع البلاغة كما قال الشاعر :

ولما أن جرى سمن عليها

كما طينت بالفدن السياعا

سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ

____________________________________

(سَمِعُوا لَها) أي للنار (تَغَيُّظاً) فإنها تتقطع عند اشتدادها ، كما يسمع الإنسان صوت الأعواد حين تنقطع في النار (وَزَفِيراً) وهو صوتها عند النفس والالتهاب.

[١٤] (وَإِذا أُلْقُوا) أي ألقي هؤلاء الكفار (مِنْها) من النار (مَكاناً ضَيِّقاً) أي في مكان ضيق من النار ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهم في النار كالوتد في الحائط (مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم إلى بعض ، أو قد قرن أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، أو قرنوا مع الشياطين (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الثبور : الهلاك أي طلبوا هلاكهم ، قائلين وا ثبورا ، أي يا هلاك احضر وأرحنا من هذه المشقات.

[١٥] فيقال لهم حينذاك (لا تَدْعُوا) أيها الكفار (الْيَوْمَ) في النار (ثُبُوراً واحِداً) وهلاكا واحدا (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) ولعله كناية عن أن قول الويل لا ينفعكم وإن كثر ، كما يقال لمن يبكي حزنا على فقد شيء ، ابكي كثيرا ، يراد أن البكاء لا ينفع ، وإن بكى الإنسان كثيرا.

[١٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يصرون على كفرهم وعصيانهم (أَذلِكَ) أي هل هذا المرجع وهذه العاقبة السيئة (خَيْرٌ) للإنسان (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) أي : البساتين التي يخلد فيها الإنسان ولا يخرج منها إلى الأبد (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) الذين يتقون الكفر

كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧)

____________________________________

والعصيان؟ (كانَتْ) تلك الجنة (لَهُمْ) أي للمتقين (جَزاءً) على أعمالهم (وَمَصِيراً) أي محلا يصيرون إليه.

[١٧] (لَهُمْ فِيها) أي في الجنة (ما يَشاؤُنَ) من أنواع النعيم واللذات (خالِدِينَ) باقين إلى الأبد (كانَ) إدخالهم في الجنة ـ المفهوم من الكلام ـ (عَلى رَبِّكَ وَعْداً) أي وعدهم ربك وعدا (مَسْؤُلاً) أي يسأل الله عن هذا الوعد ، والسائلون هم الأتقياء فإنهم يسألون الله أن يفي لهم بالوعد ، وهذا تأكيد للأمر ، يعني إن الوعد وعد قطعي حتى إنه يسأل عنه ، وليس من قبيل وعد بعض الناس الذي هو مجرد لقلقة لسان.

[١٨] (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي يجمع الله هؤلاء الكفار للحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة (وَ) يحشر (ما يَعْبُدُونَ) من الآلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) ولعل المراد هنا المسيح والملائكة وأمثالهم ، أو الأعم منهم ومن الأصنام ، وينطق الله الأصنام بقدرته ليتكلموا حتى يكون زيادة في تقريع الكفار.

(فَيَقُولُ) الله تعالى لهؤلاء المعبودين الذين جعلوا شركاء له (أَأَنْتُمْ) أيها المعبودون (أَضْلَلْتُمْ عِبادِي) المشركين (هؤُلاءِ) الذين تشاهدونهم إلى جنبكم (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) بطغيانهم ، بأن أشركوا

قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً

____________________________________

فتاهوا طريق الحق والرشاد؟.

[١٩] (قالُوا) أي قال أولئك المعبودون (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك ، وهو مصدر منصوب بفعل مقدر أي نسبحك سبحانك (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس لنا أن نوالي أعداءك ، فإنا لم نوال هؤلاء ، فكيف نأمرهم بعبادتنا واتخاذنا آلهة ، فمن ليس بينه وبين أحد مجرد الصداقة والولاية ، كيف يكون داعيا له إلى نفسه؟ (وَلكِنْ) إن هؤلاء هم ضلوا السبيل فقد (مَتَّعْتَهُمْ) أي تفضلت عليهم بالنعم ومتع الحياة الدنيا (وَ) متعت (آباءَهُمْ) حتى نشأوا في النعيم ، فبطروا واستكبروا (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) المنزل على الرسل ، فإن الإنسان إذا طال عمره في خير وأموال وأولاد ، طغى ، ولم يبال بالأوامر ، حتى كأنه نسيها (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي هلكى فاسدين ، فإن بور جمع بائر ، وهو الهالك الذي لا نفع فيه ، ومنه يقال للخراب بائر.

[٢٠] ثم يتوجه الخطاب إلى المشركين في دار الدنيا ، بعد أن يتم الكلام حول تلك الحكاية عن حالهم مع المعبودين في القيامة (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) أيها المشركون ـ أي كذبكم الشركاء ، إذ بينوا أنهم لم يأمروكم بعبادتهم ، خلاف ما كنتم تقولون من أن المسيح والملائكة ومن أشبههم أمروكم بعبادتهم (بِما تَقُولُونَ) من أمرهم لكم باتخاذهم شركاء (فَما تَسْتَطِيعُونَ) أيها المشركون ، في الآخرة (صَرْفاً)

وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)

____________________________________

للعذاب عن أنفسكم (وَلا نَصْراً) لأنفسكم على عذاب الله ، بأن تغلبون عليه حتى تخمدوه ـ مثلا ـ (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) نفسه بالشرك والعصيان (نُذِقْهُ) في الآخرة (عَذاباً كَبِيراً) أي عظيما شديدا.

[٢١] ثم ارتد السياق ليجيب عن بعض مجادلات الكفار مع الرسول في باب رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا رسول الله (مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ) لكانوا يأكلون (الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) وأنت مثلهم فكيف يقول هؤلاء متعجبين ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ (وَجَعَلْنا) نحن (بَعْضَكُمْ) أيها الرسول ويا أيها الكفار (لِبَعْضٍ فِتْنَةً) وامتحانا فالكفار يمتحنون بالرسول حتى يعلم من يؤمن ومن لا يؤمن ، والرسول يمتحن بالكفار حتى يظهر صبره وصموده وسائر مزاياه ، ويكون ذلك سببا لارتفاع درجته (أَتَصْبِرُونَ) أيها الناس على الامتحان ، حتى تخرجوا ناجحين ، أم يسرع الكفار إلى شهوات الدنيا ، فلا صبر لهم على الطاعة (وَكانَ رَبُّكَ) يا رسول الله (بَصِيراً) بمن صبر وبمن لم يصبر ، وبمن نجح في الامتحان وبمن لم ينجح ـ هذا هو الذي استظهره من الآية بمقتضى السياق ـ وقال بعض المفسرين معنى لا يلائم السياق ، والله العالم.

الفهرس

سورة الرّعد.................................................................... ٥٤

سورة إبراهيم.................................................................. ١٠٢

سورة الحِجر.................................................................. ١٥١

سورة النحل.................................................................. ١٩٢

سورة الإسراء................................................................. ٢٨٣

سورة الكهف................................................................. ٣٥٩

سورة مريم.................................................................... ٤٢٧

سورة طه..................................................................... ٤٦٦

سورة الأنبياء................................................................. ٥٢٥

سورة الحج................................................................... ٥٧٨

سورة المؤمنون................................................................. ٦٣٣

سورة النور................................................................... ٦٧٦

سورة الفرقان................................................................. ٧٣٢

تقريب القرآن إلى الأذهان - ٣

المؤلف: آية الله السيد محمد الشيرازي
الصفحات: 743
  • سورة الرّعد 54
  • سورة إبراهيم 102
  • سورة الحِجر 151
  • سورة النحل 192
  • سورة الإسراء 283
  • سورة الكهف 359
  • سورة مريم 427
  • سورة طه 466
  • سورة الأنبياء 525
  • سورة الحج 578
  • سورة المؤمنون 633
  • سورة النور 676
  • سورة الفرقان 732